الاقتضاب في شرح أدب الكتاب

ابن السِّيد البَطَلْيَوسي

الاقتضاب في شرح أدب الكتاب لأبي محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي (444 - 521 هـ) (طبعة مزيدة منقحة) تحقيق الأستاذ مصطفى السقا - الدكتور حامد عبد المجيد مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة 1996

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبيه الكريم محمد وعلى آله وسلم تسليماً. الحمد لله موزع الحمد وملهمه، ومبدع الخلق ومعدمه، وصلى الله على صفوته من بريته، ونقوته من خليقته، وسلم تسليماً. قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي: غرضي في كتابي هذا، تفسير خطبة الكتاب الموسوم ((بأدب الكتاب)) وذكر أصناف الكتبة ومراتبهم، وجل مما يحتاجون إليه في صناعتهم، ثم الكلام بعد ذلك على نكت من هذا الديوان يجب التنبيه عليها، وإرشاد

قارئه إليها، ثم الكلام على مشكل إعراب أبياته ومعانيها، وذكر ما يحضر لي من أسماء قائليها. وقد قسمته ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: في شرح الخطبة وما يتعلق بها من ذكر أصناف الكتاب وآلاتهم. والجزء الثاني: في التنبيه على ما غلط. فيه وضع الكتاب أو الناقلون عنه، وما منع منه وهو جائز. والجزء الثالث، في شرح أبياته. وأنا أسال الله عوناً على ما اعتقده وأنويه، وأستوهبه عصمة من الزلل فيما أورده وأحكيه، إنه ولي الفضل ومسديه، لا رب غيره. قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: (أما بعد حمد الله بجميع محامده): أما حرف إخبار، يدخل على الجمل المستأنفة، ويتضمن معنى حرف الشرط، والفعل المشروط له، ولذلك احتاج إلى الجواب بالفاء، كما يجاب الشرط. فإذا قيل لك: أما زيد فمنطلق، فمعناه: مهما يكن من شيء فزيد منطلق. فناب (أما) مناب حرف الشرط الذي هو (مهما)، ومناب الفعل المجزوم به، وما تضمنه من فاعله، فلذلك ظهر بعده الجواب، ولم يظهر الشرط، لقيامه مقامه. وجوابه هاهنا من مدخول الفاء التي في قوله: فإني رأيت.

وقوله: (بعد حمد الله): بعد: ظرف، يعرب إذا أضيف إلى ما يتصل به، فإذا انقطع عن الإضافة، بنى على الضم إن اعتقد فيه التعريف، وأعرب إن أعتقد فيه التنكير. ولا يضاف إلا إلى المفرد، أو ما هو في حكم المفرد. فالمفرد كقولك: جئتك بعد الظهر، وبعد خروج زيد. والذي في حكم المفرد كقولك: جئتك بعد ما خرج زيد، وبعد أن أذن الظهر. فهذا الكلام وإن كان جملة، فهو في تأويل المفرد. ألا ترى أن تأويله، جئتك بعد خروج زيد، وبعد آذان الظهر. وقوله: (أما بعد حمد الله): بعد: ينتصب هاهنا على وجهين: أحدهما أن يكون العامل فيه ما تضمنته (أما) من معنى الشرط، لأن التقدير والمعنى: مهما يكن من شيء بعد حمد الله. والثاني أن يكون العامل فيه (رأيت) على معنى التقديم والتأخير، كأنه قال: مهما يكن من شيء، فإني رأيت بعد حمد الله. فيكون بمنزلة قوله عز وجل: (فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر). فالعامل في اليتيم والسائل، الفعلان اللذان بعدهما، كأنه قال: مهما يكن من شيء، فلا تقهر اليتيم، ومهما يكن من شيء، فلا تنهر السائل. ولا يصح عندنا نصب اليتيم والسائل، بما تضمنته (أما) من معنى الشرط، كما صح في قوله: (أما بعد حمد الله) لأن المعاني تعمل في الظروف، ولا تعمل في المفعولات الصحاح. فأما إعمال

معنى الشرط في (بعد) فجائز باتفاق. وأما إعمال (رأيت) فيه، فرأى غير متفق عليه، فأبو عثمان المازني لا يجيزه، وحجته، أن خبر إن، لا يعمل فيما قبلها، لأن عامل غير متصرف. فلا يجوز أن يقال: زيداً إنك ضارب، على معنى إنك ضارب زيدا. وكذلك لا يجو عند المازني ومن وافقه، أما زيداً فإنك ضارب. وكان أبو العباس المبرد يجيز أن يعمل خبر (إن) فيما قبلها مع (أما). ولا يجيزه مع غير (أما). فكان يجيز، أما زيدا فإنك ضارب ولا يجيز، زيداً إنك ضارب. وكان يزعم أنه مذهب سيبويه. وحجته أن (أما) وضعت في كلام العرب على أن يقدم معها على الفاء، ما كان مؤخرا بعد الفاء، ألا ترى أنك تقول: مهما يكن من شيء فزيد منطلق، فتجد زيداً بعد الفاء، فإذا وضعت (أما) مكان (مهما)، فقلت: أما زيد فمنطلق، وجدت زيداً قد تقدم قبل الفاء. فلما كانت (أما) موضوعة على معنى التقديم والتأخير، جاز معها من التقديم والتأخير ما لم يجز مع غيرها. ومن الحجة له أيضاً، أنه لو استحال أن يعمل خبر إن فيما قبلها مع

(أما)، لما جاز أن يعمل (ما) بعد الفاء فيما قبلها في قوله {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}، لأن الفاء موضوعة للإتباع، فهي ترتب الثاني بعد الأول، ولا يجوز لما بعدها أن ينوى به التقديم على ما قبلها. فكما جاز لما بعد الفاء أن يعمل فيما قبلها مع (أما)، كذلك جاز في خبر (إن). والمازني يفرق بين الفاء وإن، لأن الفاء قد وجدنا ما بعدها يعمل فيما قبلها مع غير (أما) في قولك! زيداً فاضرب، وبعمر فامرر، على ضروب من التأويل. ولم نجد خبر (إن) يعمل فيما قبلها مع غير (أما)، فنقيس (أما) عليه. ومن النحويين من يجيز أما اليوم فإنك خارج، فيعمل خبر (إن) في اليوم، ولا يجيز أن يقال: أما زيداً فإنك ضارب. وحجته أن الظروف يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها. وأما سيبويه- رحمه الله- فإنه قال في كتابة قولاً مشكلا، يمكن أن يتأول على مذهب أبي العباس، وهو الأظهر فيه. ويمكن أن يتأول على مذهب المازني. فإن قال قائل: لأي علة لزم أن يقدم مع (أما) قبل الفاء ما كان مؤخراً بعدها مع (مهما)؟ لأنا نقول: مهما يكن من شيء فعبد الله خارج، ثم يقول: أما عبد الله فخارج، فنجد عبد الله الذي كان مؤخراً بعد الفاء (مع مهما)، لوجب أن يقال: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم. أو يقال:

مهما يكن من شيء فاليتيم لا تقهر. فلما وضعت (أما) موضع مهما، صار الكلام: فأما اليتيم فلا تقهر، فتقدم اليتيم الذي كان حكمه التأخير؟ فالجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أن (أما) كان القياس أن يظهر بعدها فعل الشرط. كما يظهر مع (مهما). فلما حذف للعلة التي قدمنا ذكرها. قدم بعض الكلام الواقع بعد الفاء ليكون كالعوض عن المحذوف. والثاني: أن الفاء إنما وضعت في كلام العرب للإتباع أي لتجعل ما بعدها تابعاً لما قبلها. ولم توضع لتكون مستأنفة، والإتباع فيها على ضربين: إما إتباع اسم مفرد، كقولك: قام زيد فعمرو. وإما إتباع جملة لجملة كقولك: قمت وضربت زيداً. فلو قلت: (أما فزيد منطلق)، لوقعت الفاء مستأنفة، ليس قبلها اسم ولا جملة يكون ما بعدهما تابعاً له، إنما قبلها حرف معنى لا يقوم بنفسه، ولا تنعقد به فائدة الاسم، فقالوا: أما زيد فمنطلق، ليكون ما بعدها تابعاً لما قبلها، على أصل موضوعها. واستيفاء الكلام في هذه المسألة يخرجنا عن غرضنا الذي قصدناه، وليس كتابنا هذا كتاب نحو، فنستوعب فيه هذا الشأن. فمن أراده فليلتمسه في مواضعه إن شاء الله. قوله (بجميع محامده): ذهب أكثر اللغويين والنحويين إلى أن المحامد جمع (حمد) على غير قياس، كما قالوا المفاقر، جمع فقر، والمذاكر جمع ذكر.

وقال قوم: المحامد: جمع محمدة وهذا هو الوجه عندي، لأن المحمدة قد نطقت بها العرب نثراً ونظماً. قال الأحنف بن قيس ألا أدلكم على المحمدة؟ .... الخلق السجيح والكف عن القبيح وقد قال النحويون: إن الأفعال التي يكون منها الماضي على (فعل) بكسر العين، فقياس (المفعل) منها أن يكون مفتوح العين في المصدر والزمان والمكان، كالمشرب والمعلم والمجهل إلا كلمتين شدتا، وهما المحمدة والمكبر فجاءتا بكسر العين. قال أعشي همدان: طلبت الصبا إذ علا المكبر ... وشاب القذال فما تقصر فإذا كانت المحمدة موجودة في كلامهم، مشهورة في استعمالهم، فما الذي يحوجنا إلى أن نجعل المحامد جمع حمد على غير قياس. قوله: (والثناء عليه بما هو أهله): الثناء ممدود، إذا قدمت الثاء على النون. فإذا قدمت النون على الثاء، قلت: نثا مقصوراً. والغالب على الثناء الممدود أن يستعمل في الخير دون الشر. فأما المقصور فيستعمل في الخير والشر.

وقد جاء الثناء الممدود في الشر إلا أنه قليل، ومحمول على ضرب من التأويل. أنشد أبو عمر المطرز عن ثعلب. أثنى على بما علمت فإنني ... أثنى عليك بمثل ريح الجورب وقد يجوز لقائل أن يقول إنما أراد أني أقيم لك الذم مقام الثناء، كما قال تعالى {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. والعذاب ليس ببشارة، إنما تأويله: أقم لهم الإنذار بالعذاب الأليم مقام البشارة. فإذا حمل على هذا التأويل، لم يكن في البيت حجة. وفعل الثناء الممدود رباعي. يقال: أثنيت إثناء. والاسم: الثناء، كقولك: أعطيت إعطاء، والاسم: العطاء. وفعل النثا المقصور ثلاتي يقال: نثوت الحديث نثوا: ذكرته ونشرته نثيا. وحكى سيبويه ينثو نثا، بالقصر، وثناء بالمد. قوله: (والصلاة على رسوله المصطفى): الصلاة منه تعالى: الرحمة. ومن الملائكة: الدعاء. ومن الناس: الدعاء والعمل جميعاً. قال الأعشى: تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضى ... نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا

فمرتحل، بفاء الحاء: جمل قد وضع عليه الرحل. وقال يصف الخمار والخمر. وقابلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم والمصطفى: المختار، وهو مفتعل من الصفوة، وهي خيار كل شيء، وأصله مصتفو أبدلوا التاء طاء لتوافق الصاد في الاستعلاء، وتجاوزت الكلمة ثلاثة أحرف، فانقلبت الواو ياء كانقلابها في أغزيت وأعطيت. ثم تحركت الياء وقبلها فتحة، فانقلبت ألفا. وقوله: (وآله): ذكر أبو جعفر بن النحاس أن (آلا) يضاف إلى الأسماء الظاهرة، ولا يجوز أن يضاف إلى الأسماء المضمرة. فلم يجز أن يقال صلى الله على محمد وآله. قال: وإنما الصواب: (وأهله). وذكر مثل ذلك أبو بكر الزبيدي في كتابه الموضوع في لحن العامة. وهذا مذهب الكسائي. وهو أول من قاله، فاتبعاه على رأيه، وليس بصحيح، لأنه لا قياس له يعضده ولا سماع يؤيده. وقد رواه أبو علي البغدادي عن أبي جعفر بن قتيبة عن أبيه هكذا، ولم ينكره. وروى أبو العباس المبرد في الكامل أن رجلاً من أهل الكتاب، ورد على معاوية، فقال له معاوية: أتجد نعتي في شيء من كتب الله؟ فقال: إي والله، حتى لو كنت في أمة لوضعت عليك يدي

من بينها. قال: فكيف تجدني؟ قال: أجدك أول من يحول الخلافة ملكا، والخشنة لينا. ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم. قال معاوية: فسرى عني ثم قال: لا تقبل هذا مني ولكن من نفسك، فاختبر هذا الخبر. قال: ثم يكون ماذا؟ قال: لا تقبل هذا مني ولكن من نفسك، فاختبر هذا الخبر. قال: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون منك رجل شراب للخمر، سفاك للدماء، يحتجن الأموال، ويصطنع الرجال، ويجند الجنود، ويبيح حرمة الرسول. قال: ثم ماذا؟ قال: ثم تكون فتنة تتشعب بأقوام حتى يفضى الأمر بها إلى رجل أعرف نعته، يبيع الآخرة الدائمة، بحظ من الدنيا مخسوس، فيجتمع عليه، من آلك، وليس منك، لا يزال لعدوه قاهراً، وعلى من ناوأه ظاهراً، ويكون له قرين مبين لعين. قال: أفتعرفه إن رأينه؟ قال: شد ما، فأراه من بالشام من بنى أمية، فقال ما أراه هاهنا. فوجه به إلى المدينة مع ثقات من رسله، فإذا بعبد الملك بن مروان يسعى مؤتزرا، في يده طائر. فقال للرسول: ها هو ذا. ثم صاح به! إلى أبو من قال: أبو الوليد. قال: يا أبا الوليد. إن بشرتك ببشارة تسرك،

ما تجعل لي؟ قال: وما مقدارها من السرور، حتى نعلم ما مقدارها من الجعل. قال: أن تملك الأرض. قال: مالي من مال. ولكن (أرأيتك) إن تكلفت لك جعلاً، أأنال ذلك قبل وقته. قال: لا. قال: فإن حرمتك، أتؤخره عن وقته؟ قال: لا. قال: فحسبك ما سمعت. هكذا روى أبو العباس وغيره في هذا الخبر (من آلك وليس منك) بإضافة (آل) إلى الكاف. وأبو العباس من أئمة اللغة بالحفظ. والضبط. وقال أبو علي الدنيوري في كتابه الذي وضعه في إصلاح المنطق. تقول: فلان من آل فلان، وآل أبي فلان. ولا تقل: من آل الكوفة ولكن من أهل الكوفة فإذا كنيت قلت: هو من أهله، ولا تقول: من آله إلا في قلة من الكلام فهذا نص بأنها لغة. وقد وجدنا مع ذلك (آلاً) في الشعر مضافاً إلى المضمر. قال عبد المطلب حين جاء أبرهة الأشرم لهدم الكعبة. لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك لا يعلبن صليبهم ... ومحالهم غدواً محالك وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك

يعني قريشاً، لأن العرب كانوا يسمونهم آل الله. لكونهم أهل البيت. وقال الكميت: فأبلغ بنى الهندين من آل وائل ... وآل مناة والأقارب آلها ألوكاً توافى ابني صفية وانتجع ... سواحل دعمي بها ورمالها وقال خفاف بن ندبة: أنا الفارس الحامي حقيقة والدي ... وآلي كما تحمي حقيقة آلكا واختلف الناس في قول الأعشى: كانت بقية أربع فاعتمتها ... لما رضيت من النجابة آلها فقال قوم: أراد بآلها: شخصها. وقال آخرون: أراد رهطها. وكذلك قول مقاس العائدي: إذا وضع الهزاهز آل قوم ... فزاد الله آلكم ارتفاعا ميل: أراد بالآل: الأشخاص. وقيل: أراد الأهل. وقد قال أبو الطيب المتنبي، وإن لم يكن حجة في اللغة: والله يسعد كل يوم جده ... ويزيد من أعدائه في آله

وأبو الطيب وإن كان ممن لا يحتج به في اللغة، فإن في بيته هذا حجة من جهة أخرى. وذلك أن الناس عنوا بانتقاد شعره. وكان في عصره جماعة من اللعويين والنحويين كابن خالويه وابن جنى وغيرهما. وما رأيت منهم أحداً أنكر عليه إضافة (آل) إلى المضمر. وكذلك جميع من تكلم في شعره من الكتاب والشعراء كالوحيد، وابن عباد والحاتمي وابن وكيع، لا أعلم لأحد منهم اعتراضاً في هذا البيت. فدل هذا على أن هذا لم يكن له أصل عندهم، فلذلك لم يتكلموا فيه. و (آل): أصله أهل. ثم أبدلوا من الهاء همزة، فقيل أأل، ثم أبدل من الهمزة ألف، كراهية لاجتماع همزتين. ودل على ذلك قولهم في تصغيره: أهيل، فردوه إلى أصله. وحكى الكسسائي في تصغيره أويل. وهذا يوجب أن تكون ألف آل بدلاً من واو، كالألف في باب ودار. قوله: (عن سبيل الأدب ناكبين): السبيل: الطريق، وهي تذكر وتؤنث. والناكب: العادل. يقال: نكب عن الطريق ينكب نكوبا. وقد قيل: نكب (بكسر الكاف) ينكب نكبا. قال ذو الرمة: وصوح البقل نأاج تجئ به ... هيف يمانيه في مرها نكب قوله: (ومن أسمائه متطيرين): يريد أنهم يتشاءمون بالأدب ويجعلونه

حرفة على صاحبه فإذا رأوا متأدباً محروباً، قالوا: أدركته حرفة الأدب. وكذلك قال الشاعر: ما ازددت من أدى حرفاً أسربه ... إلا تزيدت حرقاً تحته شوم كذاك من يدعى حذفاً بصنعته ... أنى توجه منها فهو محروم قوله: (أما الناشئ منهم فراغب عن التعلم): الناشئ: الصغير في أول انبعاثه، وجمعه: نشأة. كما يقال: كافر وكفرة. ويقال: ناشئ ونشأ. كما يقال: حارس وحرس. قال نصيب. ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشأ الصغار وراغب عن التعليم: تارك له. يقال: رغبت عن الشيء: إذا زهدت فيه، ورغبت عن الشيء: إذا حرصت عليه. قوله: (والشادي تارك للازدياد): الشادي: الذي نال من الأدب طرفا. يقال: شدا يشدوا. ويقال: لطرف كل شيء: شدا، قال الشاعر: فلو كل في ليلى شدا من خصومة ... للويت أعناق الخصوم الملاويا والازدياد: افتعال من الزيادة، وأصله: ازتياد، أبدل من التاء دال، لتوافق الزاي في الجهر، طلبا لتشاكل الألفاظ، وهرباً من تنافرها. قوله: (والمتأدب في عنفوان الشباب ناس أو متناس، ليدخل في

جملة المجدودين ويخرج عن جملة المحدودين). عنفوان الشباب: أوله، وكذلك عنفوان كل شيء والناسي: المطبوع على النسيان. والمتناسي: المتغافل مشتق من قولهم: حددته عن الشيء: إذا منعته من، وكل من منع من شيء فهو حداد. يقال لحاجب السلطان: حداد، لأنه يمنع من الوصول إليه. وكذلك البواب. وسمى الأعشى الخمار حداداً فقال. فقمنا ولما يصح ديكنا ... إلى جونة عند حدادها وأراد بالمجدودين: أهل الأموال والمراتب العالية في الدنيا. وبالمحدودين: أهل الأدب الذين حدوا عن الرزق: أي منعوا منه. واللام في قوله: ليدخل في جملة المجدودين تسمى لام العلة والسبب كالتي في قولك: جئت لأضرب زيداً. كأنه قيل له: لم جئت؟ أو توقع أن يطالب بالعلة الموجبة لمجيئه فقال: لأضرب زيداً. يريد أن المتأدب قد اعتد أن أهل الأدب محرومون محارفون عن الرزق، فهو يتناسى الأدب فراراً من أن يدخل في جملتهم فيلحقه من حرفة الأدب ما لحقهم. قوله: (فالعلماء مغمورون): كان أبو علي يرويه بالراء، وكان ابن القوطية يرويه بالزاي، ولكل واحدة من الروايتين معنى صحيح.

أما من رواه بالراء فهو من قولك: غمره الماء: إذا غطاه: ويقال: رجل مغمور: إذا كان خامل الذكر. يراد أن الخمول قد أخفاه، كما يغمر الماء الشيء فيغيبه. ومن رواه بالزاي فهو من قولك: غمزت الرجل: إذا عبته وطعنت عليه. يريد أن العلماء يبدعون ويكفرون، وينسب إليهم ما لعلهم براء منه وقد قال علي عليه السلام: الناس أعداء ما جهلوا. وقال الشاعر: والجاهلون لأهل العلم أعداء ويروى: أن بعض الجهال شهد على رجل بالزندقة عند بعض الولاة، فقال المشهود عليه: قرره- أصلحك الله على شهادته- فقرره على شهادته، فقال: نعم. أصلحك الله هو قدري مرجئ رافضي، يسب معاوية بن أبي طالب الذي قتل علي بن أبي سفيان. فضحك الوالي وقال: يا بن أخي والله ما أدري على أي شيء أحسدك، أعلى حذقك بالمقالات، أم على علمك بالأنساب، وأبطل شهادته، وأمر بتخلية المشهود عليه. وقوله: (وبكرة الجهل مقموعون): كرة الجهل: دولته، من قوله تعالى (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) أي الدولة. والكرة أيضاً: (فعلة) من كر عليه في الحرب يكر كراً: إذا حمل عليه. يريد أن الجهل كر على العلماء، فقمعهم وأذلهم، كما يكر الفارس على قرنه، فيصرعه. ويقال: قمعت الرجل إذا أذللته وصرفته عما يريد.

قوله: (حين خوى نجم الخير): أي سقط. وكانت العرب تنسب الأنواء إلى منازل القمر الثماني والعشرين. ومعنى النوء: سقوط نجم منها في المغرب مع الفجر وطلوع نجم آخر يقابله من ساعته في المشرق. وسمى نوءاً إذا سقط الغارب، ناء الطالع ينوء نوءا، وكل ناهض بثقل فقد ناء. وبعضهم يجعل النوء سقوط. النجم كأنه من الأضداد. وكانوا إذا سقط منها نجم وطلع آخر فحدث عند ذلك مطر أو ريح أو برد أو حر نسبوه إلى الساقط. على أن يسقط الذي بعده. وإذا سقط ولم يكن عند سقوطه مطر ولا ريح ولا برد ولا حر: قالوا: خوى نجم كذا، وأخوى. فضربه بان قتيبة مثلاً لذهاب الخير، كما ضرب كساد السوق مثلاً لزهادة الناس في البر، وإعراضهم عنه. والأشهر في السوق: التأنيث. وقد حكى فيها التذكير. أنشدنا الفراء:

بسوق كثير ريحة وأعاصيره وسميت سوقا، لأن الأرزاق تساق إليها. وقيل: سميت سوقاً: لقيام الناس فيها على سوقهم. والبر: الخير والعمل الصالح. وقوله (وبارت بضائع أهله): البوار: الهلاك. يقال: بار الشيء يبور بوراً وبواراً (بفتح الباء)، فإذا وصفت به، قلت: رجل بور، (بضم الباء) وبائر. قال ابن الزبعري. يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور والبضائع: الأموال التي يحملها التجار من بلد إلى بلد للتجارة، واحدتها بضاعة، وقد تكون البضاعة: المال على الإطلاق، واشتقاقها من البضع وهو القطع. يراد أنها قطعة من المال. فجعل العلم للعالم كالبضاعة للتاجر. يقول: هلكت بضائع العلماء التي استبضعوها من العلم حين لم يجدوا لها طالباً. وقوله: (وأموال الملوك وقفا على النفوس): كل شيء قصرته على شيء آخر، ولم تجعل له مشاركاً فيه، قيل: إنه وقف عليه. ومنه يقول القائل لصاحبه: مودتي وقف عليك. ومنه قيل لما جعل في سبيل الله تعالى: وقف. يريد

أن الملوك كانوا أجدر الناس في النظر في العلوم لسعة أحوالهم، وهم أزهد الناس فيها، قد جعلوا أموالهم وقفا على نفوسهم، لا يصرفونها إلا فيما يأكلون ويشربون ويركبون وينكحون، لا فضل فيها لغير ذلك. وقوله: (والجاه الذي هو زكاة الشرف يباع بيع الخلق): يريد أنه مبتذل يناله كل من يريده. والخلق للواحد والاثنين والجمع، والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، لأنه يجرى مجرى المصادر. وقد يثنى ويجمع، فيقال: ثياب أخلاق، لأنه يوصف به فيجرى مجرى الأسماء وقد قالوا: ثوب أخلاق، فوصفوا به الواحد. قال الكسائي: أرادوا أن نواحيه أخلاق، فلذلك جمع. قال الراجز جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منها التواق والتواق: ابنه. وقوله: (وآضت المروءات): أي رجعت. ومنه قيل: فعل ذلك أيضاً أي فعله عوداً. وقد اختلف الناس في حقيقة المروءة ما هي؟ وحقيقتها أنها الخصال الجميلة التي يكمل بها المرء، كما يقال: الإنسانية: يراد بها الخصال التي يكمل بها الإنسان. وإلى هذا ذهب أبو بكر ابن القوطية.

وزعم قوم أن المروءة من المرء كالرجولة من الرجل، يريدون أنه مصدر لا فعل له، وهذا غلط، لأنهم قد قالوا: مرء الرجل: إذا حسنت هيئته وعفافه عما لا يحل له. فالمروءة مصدر (مرؤ) بمنزلة السهولة، مصدر سهل والصعوبة مصدر صعب. واشتقاق المروءة من قولهم مرو الطعام ومرئ فهو مرئ: إذا انساغ لآكله، ولم يعد عليه منه ضرر. ومنه يقال: كله هنيئاً مرئيا. فمعنى المروءة: الخصال المحمودة، والأخلاق الجميلة، التي تحبب الإنسان إلى الناس حتى يصير حلواً في نفوسهم، خفيفاً عليهم .. وقوله: (في زخارف النجد وتشييد البنيان): زخارف: جمع زخرف، وأصله الذهب، ثم سمى كل مزين ومحسن زخرفا. والنجد: ما يزين به البيت من أنواع البسط. والثياب. يقال: نجدت البيت تنجيدا. قال ذو الرمة. حتى كأن رياض ألقف ألبسها ... من وشى عبقر تجليل وتنجيد ويقال للذي يفرش البيوت: النجاد والمنجد. ويقال لعصاه التي ينفض بها ثياب: المنجدة. وتشييد البينان: رفعه وإطالته. ويقال: بل هو تجصيصه. ويقال للجص: الشيد. قال الله تعالى: (ولو كنتم في بروج

مشيدة). وقال الشماخ: لا تحسبني وإن كنت امرأ غمراً ... كحبة الماء بين الصخر والشيد وقوله: (ولذات النفوس في اصطفاق المزاهر): لذات: مرفوعة بالعطف على المروءات. والمعنى: وآضت لذات النفوس. والاصطفاق: الضرب، وهو افنعال من الصفق، والطاء مبدلة من تاء الافتعال، أبدلت طاء لتوافق الصاد التي قبلها في الاستعمال ويتجانس الصوت ولا يتنافر. والمزهر: عود الغناء. وقوله: (ومعاطاة الندمان) المعاطاة: المناولة، وهو أن تأخذ منه، ويأخذ منك. والندمان والنديم: سواء، يقال: فلان ندماني وفلان- نديمي. فمن قال ندمان: جمعه على ندامي، مثل سكران وسكارى، ومن قال نديم: قال في الجمع ندماء، مثل ظريف وظرفاء. قال الشاعر: فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم وقوله: (ونبذت الصنائع، وجهل قدر المعروف، وماتت الخواطر) ونبذت: أي تركت واطرحت. والصنائع: جمع صنيعه، وهي ما اصطنعت إلى الرجل من خير. ويقال: فلان صنيعة لفلان، أي يؤثره ويقربه. ويقال:

قدر وقدر، بسكون الدال وفتحها. والمعروف: اسم واقع على كل فعل قد تعارفه الناس بينهم وألفوه. والخواطر: الأذهان، واحدها: خاطر. وحقيقة الخاطر: ما يخطر ببال الإنسان من خير أو شر. وقوله: (وزهد في لسان الصدق وعقد الملكوت): لسان الصدق: يستعمل على معنين: أحدهما: قول الحق. والثاني: الثناء الحسن. قال الله تعالى: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) وهو الذي أراده ابن قتيبة بقوله بعد هذا: ويسعده بلسان الصدق في الآخرين. فأما لسان الصدق المذكور في هذا الموضع، فيحتمل أن يريد به قول الحق، ويحتمل أن يريد أن الناس زهدوا فيما يبقى لهم من الثناء الجميل. وكان الأخفش علي بن سليمان يروى: وعقد الملكوت، بفتح العين، وسكون القاف، يجعله مصدر عقدت عقدا. وكان أبو القاسم الصائغ يرويه بصم العين، وفتح القاف، يجعله جمع عقدة، مثل غرفة وغرف. وهكذا رواه أبو علي البغدادي وأبو بكر بن القوطية. واسم العقدة في اللغة: الضيعة يشتريها الرجل، ويتخذها أصل مال. يقال: اعتقد الرجل إذا اتخذ أصل مال يتركه لعقبه. ويقال لها أيضاً: نشب، لأنها تمنع

الإنسان الرحيل والانتقال، فلا يبرح. وتسمى أعمال البر والخير عقداً، لأنها ذخائر يجدها الإنسان عند الله تعالى. ويعتقد بها الملك عنده: أي يستوجبه ويناله. والملكوت: الملك. أي زهد الناس في أعمال البر التي ينالونه بها المراتب عند الله تعالى. وقوله: (فأبعد غايات كاتبنا في كتابته: أن يكون حسن الخط، قويم الحروف). يريد أن الكاتب ينبغي أن تكون له مشاركة في جميع المعارف لأنه يشاهد مجالس الملوك، التي يحضرها خواص الناس وعلماؤهم، ويتحاورون فيها، في أنواع المحاورة، وأصناف المذاكرة. فلشدة زهادة الناس في العلم ورغبتهم عنه، قد صارت غاية الكاتب أن يحسن الخط، ويقيم حروف الكتابة فإذا صار في هذه المرتبة، زها بنفسه، وظن أنه فاق أبناء جنسه. وقوله: (وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتاً في مدح قينة أو وصف كأس). يريد: أن الأدب له غرضان: أحدهما: يقال له الغرض الأدني. والثاني: الغرض الأعلى. فالغرض الأدنى أن يحصل للمتأدب بالنظر في الأدب والتمهر فيه قوة يقدر بها على النظم والنثر. والغرض الأعلى: أن يحصل للمتأدب قوة على فهم كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته. ويعلم كيف تبنى الألفاظ الواردة

في القرآن والحديث بعضها على بعض، حتى تستنبط منها الأحكام، وتفرع الفروع، وتنتج النتائج، وتقرن القرائن، على ما تقتضيه مباني كلام العرب ومجازاتها، كما يفعل أصحاب الأصول. وفي الأدب لمن حصل في هذه المرتبة منه أعظم معونة على فهم علم الكلام، وكثير من العلوم النظرية. فقد زهد الناس في علم الأدب، وجهلوا قدر الفائدة الحاصلة منه، حتى ظن المتأدب أن أقصى غاياته أن يقول أبياتاً من الشعر. والشعر عند العلماء أدنى مراتب الأدب، لأنه باطل يجلى في معرض حق وكذب يصور بصورة صدق. وهذا الذم إنما يتعلق بمن ظن صناعة الشعر غاية الفضل، وأفضل حلى أهل النبل، فأما من كان الشعر بعض حلاه، وكانت له فضائل سواه، ولم يتخذه مكسباً وصناعة، ولم يرضه لنفسه حرفة وبضاعة، فإنه زائد في جلالة قدره، ونباهة ذكره. (وأبيات): تصغير أبيات. ويروى (أبياتاً) على التكسير. والتصغير هاهنا: أشبه بغرضه الذي قصده، من ذم المتأدبين. والقينة: المغنية. وقد قيل: إنه اسم يقع على كل أمة، مغنية كانت أو غير مغنية. واشتقاقها من قولهم: قنت الشيء وقينته: إذا زينته بأنواع الزينة. واقتانت الروضة: إذا ظهرت فيها أنواع الأزهار. والكأس: الإناء بما فيه من الخمر. ولا يقال للإناء وحده دون خمر كأس، كما لا يقال مائدة حتى لا يكون عليها طعام، وإلا فهي خوان. ولا يقال قلم حتى يكون مبرياً، وإلا فهو قصبة وأنبوب.

وقد حكى يعقوب أنه يقال للإناء وحده كأس. وقوله: (وأرفع درجات لطيفنا: أن يطالع شيئاً من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من الفضاء وحد المنطق). يريد باللطيف هاهنا: المتفلسف، سمى لطيفاً للطف نظره، وأنه يتكلم في الأمور الخفية التي تنبو عنها أفهام العامة وكثير من الخاصة. ويعني بالفضاء: الحكم بدلائل النجوم على ما يحدث من الأمور. وحد المنطق: كتاب يتخذه المتفلسف مقدمة للعلوم الفلسفية، كما يتخذ المتأدبون صناعة النحو مقدمة للعلوم الأدبية. وبينة وبين علم النحو مناسبة في بعض أغراضه ومقاصده. وقوله: (وفلان رقيق): الرقة: ضد الخشونة في كل شيء. هذا أصلها. ثم تستعار، فتستعمل على ثلاث معان: أحدها: الرحمة والإشفاق: ويقال: رقت له نفسي، يريدون بذلك ذهاب القسوة التي تضاهي الخشونة.

والثانية: حلاوة الشمائل واللياقة. يقال: رجل رقيق الحواشي. يريدون بذلك ذهاب الجفاء والتعجرف عنه. والثالث: الحسن والجمال. ولذلك قالوا لبائع الخدم: بائع الرقيق. وقد رواه قوم في أدب الكتاب .. وفلان رفيق (بالفاء)، وهو مثل اللطيف. ورأيت قوماً من علماء عصرنا يروونه: (وفلان دقيق)، يذهبون إلى الدقة وهذا خطأ فاحش، لأن العرب لا تقول رجل دقيق إلا للخسيس. وهو ضد قولهم: رجل جليل. ويقولون: فلان أدق من فلان: إذا كان أخس منه. قال الشاعر: خالي أبو أنس وخال سراتهم ... أوس، فأيهما أدق وألام فإذا أرادوا دقة الذهن، قالوا: دقيق الذهن فقيدوه بذكر الذهن، ولم يطلقوه. أو قالوا: دقيق النظر، ونحو ذلك مما يبين المراد بالدقة. وقوله: (فهو يدعوهم الرعاع، والغثاء، والغثر) الرعاع: سقاط الناس وسفلتهم. والرعاع من الطير: كل ما يصاد ولا يصيد. والغثاء: ما يحمله السيل من الزبد. والغثر: الجهال والأغبياء، واحدهم أغثر. ويقال كساء

أغثر وأكسية غثر: إذا كثر صوفها حتى تخش، وتخرج عن الاعتدال. ويقال لسلفة الناس: الغثراء والدهماء. وكل غبرة يخالطها كدر حتى تقارب السواد فهي عثرة. وقوله: (وهي به أليق): أي ألصق. يقال: هذا الأمر لا يليق بك: أي لا يلصق ولا يتعلق. ومنه اشتقت (ليقة الدواة) لالتصاقها. ومنه قيل: ما لاقني بلد كذا، ولا ألاقني: أي ما أمسكني. وقوله (الزاري على الإسلام برأيه): الزاري: الطاعن المتنقص. يقال: زريت عليه: إذا عبته وتنقصته. وأزريت به: إذا قصرت. وثلج اليقين: برده. ويقال: ثلجت نفسي بالشيء: إذا سرت به وسكتت إليه. وإنما سمي السرور بالشيء، والسكون إليه ثلجا، لأن المهتم بالشيء الحزين يجد لوعة في نفسه، وحدة في مزاجه. فإذا ورد عليه ما يسره، ذهبت تلك اللوعة عنه، فلذلك قيل: ثلجت نفسي بكذا، وهو ضد قولهم: احترقت نفسي من كذا والتاعت. وقوله: (فنصب لذلك): كذا الرواية (بفتح الصاد. وهو من قولهم: نصبت لفلان الشر أي أعددته ليقع فيه ونصبت له الحرب. وأصل ذلك أن الصياد ينصب حبائله للصيد ليقع فيها، فاستعير ذلك في كل من يكيد غيره ليغتره ويوقعه في المكروه. ومنه سميت الفرقة المبغضة لعلي رضي الله عنه ناصبة.

وتروق: تعجب، وتهول: تفزع. وقوله: (فإذا سمع العمر والحدث الغر قوله (الكون وسمع الكيان): الغمر: الذي لم يجرب الأمور. ويقال رجل غمر (بضم الغين وتسكين الميم) وغمر (بضمهما) وغمر (بفتحهما ومغمر بمعنى واحد. والحدث الغر: الصغير. والكون: خروج الشيء من العدم إلى الوجود. والفساد: خروجه من الوجود إلى العدم وسمع الكيان (بكسر السين): الرواية. ويروي سمع (بفتح السين). فالسمع بالفتح المصدر من سمعت. والسمع بالكسر: الذكر. يقال: ذهب سمعه في الناس ومن روى: (وسمع الكيان) بالكسر، وتوهمه فعلاً ماضياً، ونصب به الكيان فقد أخطأ. إنما هو كتاب له يعرفونه بهذا الاسم. فمن قال: سمع الكيان (بفتح السين): فمعناه: سماع ما يكون. ومن كسر السين فمعناه ذكر الكيان. والكمية والكيفية، الكمية: المقادير التي يستفهم عنها بكم. والكيفية: الهيئات والأحوال اللتان يستفهم عنها بكيف. وكان أبو إسحاق الزجاج يقول: الكمية بتشديد الميم، والقياس التخفيف. وكذلك روى عنه بالتخفيف. ومعنى راعه. أفزعه. ومعنى طالعها: قرأها وأشرف على معانيها. ومعنى (لم يحل بطائل): لم يظفر بمنفعة.

وحقيقة الطائل: أن كل شيء له فضل وشرف على غيره، يتنافس فيه من أجله يقال: رجل طائل وذو طول، قال الطرماح. لقد زادني حباً لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل وقوله: (إنما الجوهر يقوم بنفسه) إنما عند البصريين، لها معنيان. أحدهما: تحقير الشيء وتقليله. والثاني: الاقتصار عليه. فأما احتقار الشيء وتقليه، فكرجل سمعته يزعم أنه يهب الهبات ويواسي الناس بماله، فتقول: إنما وهبت ردهماً، تحتقر ما صنع، ولا تعتده شيئاً. وأما الاقتصار على الشيء، فنحو رجل سمعته يقول: زيد شجاع وكريم وعالم. فتقول: إنما هو شجاع. أي ليس له من هذه الصفات الثلاث غير الشجاعة. وتستعمل إنما أيضاً في رد الشيء إلى حقيقته، إذا وصف بصفات لا تليق به، كقوله تعالى: {إنَّما الله إِلهٌ واحِدٌ}. وقوله: {قٌلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}. وهذا راجع إلى معنى الاقتصار. وذكر الكوفيون أنها تستعمل بمعنى النفي واحتجوا بقول الفرزدق: أنا الضامن الراعي عليهم وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

قالوا معناه: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي. والذي أراده ابن قتيبة من هذه المعاني الثلاثة ههنا، معنى التحقير والتقليل لأن احتقر ما جاءوا به ولم يره شيئاً. ألا تراه قد قال مع هذين كثير، فجعله كله هذيان. وهذا ظريف جداً. لأنا لا نعلم خلافاً بين المتقدمين والمتأخرين من أصحاب الكلام، أن الجوهري يقوم بنفسه، والعرض لا يقوم بنفسه وكذلك رأس الخط النقط، والنقطة لا تنقسم، كلام صحيح لا مطعن فيه وهذا يدل على أنه كان غير بصير بهذه الصناعة، لأنه عابهم بما هو صحيح، وإن كان ينبغي أن يذكر مذاهبهم المخالفة للحق، المجانية للصدق، كما فعل المتكلمون من أهل ملتنا رحمهم الله. وقد روى أن الذي دعاه إلى الطعن عليهم في كتابه هذا، أنه كان متهماً بالميل إلى مذاهبهم واعتقادهم. فأراد- رحمه الله- أن ينفي الظنة عن نفسه XXX والطعن عليهم. والكلام في الجوهر على حقيقته وفي العرض فيه غموض. وأقرب ما يمثل به للمبتدئ بالنظر، أن يقال: الجوهر: هو الجسم، كالإنسان والفرس والحجر ونحو ذلك. وأعراضه: أحواله وصفاته المتعاقبة عليه كالألوان: من بياض وسواد وحمرة وصفرة، والحركات المختلفات من قيام وقعود واضطجاع وجميع ما عدا الجوهر، فاسم العرص واقع عليهم. وإنما مثلنا الجوهر بالجسم دون غيره مما يقع عليه اسم الجوهر، لأن الذين أثبتوا جواهر ليست بأجسام كالعقل والنفس والهيولي والصورة والأبعاد المتجرة من المادة. والنقطة

والجزء الذي لا يتجزأ، ليس يمتنع أحد منهم أن يسمى الجسم جوهراً، فصار الجسم هو الجوهر المتفق عليه، والأشخاص تسمى الجواهر الأول، وأنواعها وأجناسها: الجواهر الثواني. والعرض منه سريع الزوال، لا يوجد زمانين، ومنه ما هو بطئ الزوال عن حامله. ومنه ما لا يفارق حامله إلا بفساده. وقد ذهب قوم من المتكلمين المتأخرين إلى أن الأعراض كلها لا يجوز أن تبقى زمانين. والنظر في الصحيح من هذين القولين لا يليق ذكره بهذا الموضع. وقوله: (ورأس الخط النقطة، والنقطة لا تنقسم): النقطة عندهم: عبارة عن نهاية الخط ومنقطعة. ولا يصح أن تنقسم، لأن الانقسام إنما يكون فيما له بعده، والنقطة عارية من الأبعاد الثلاثة. ومنزلة النقطة في صناعة الهندسة منزلة (الوحدة) في صناعة العدد، فكما أن الوحدة ليست عدداً، إنما هي مبدأ للعدد وعلة لوجوده، كذلك النقطة، ليست بعداً ولا عظماً. إنما هي مبدأ للأبعاد والأعظام، وعلة لوجودها. وهذه النقطة يفرض بالوهم أنها أول مراتب وجود الأعظام، ثم لحقها بعد واحد، وهو الطول، فصارت خطأ. ثم لحق الحادث منها بعد آخر، وهو العرض، فصار سطحاً، ثم لحق ذلك بعد ثالث وهو العمق أو السمك، فصار جسماً. فصارت النقطة بهذا الاعتبار مبدأ الخط. والخط مبدأ السطح، والسطح مبدأ الجسم. ثم يكون الانحلال بعكس ما كان عليه التركيب، لأن الجسم ينحل إلى السطح، وينحل السطح إلى الخط، وينحل الخط إلى النقطة. ومن المتكلمين من يرى أن الجسم ينحل إلى أجزاء لا تتجزأ. ومنهم من

يرى أن الجزء يتجزأ أبداً فلا نهاية. ولهم في ذلك شغب يطول. وقوله: (والكلام أربعة): أمر، واستخبار، وخبر، ورغبة): لم يختلف أحد من المتقدمين والمتأخرين في أصول الكلام: أنها ثلاثة: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، ويسمى الفعل كلمة، ويسمى الحرف أداة ورابطاً فأما معاني الكلام الذي يتركب من هذه الأصول، فإن المتقدمين والمتأخرين، قد اختلفوا في أقسامها، كم هي؟ فزعم قوم أنها لا تكاد تنحصر، ولم يتعرضوا لحصرها، وهو رأي النحويين البصريين من أهل زماننا. وزعم قوم أن الكلام كله قسمان: خبر، وغير خبر. وهذا صحيح، ولكن يحتاج كل واحد من هذين القسمين إلى تقسيم آخر. وزعم آخرون أنها عشرة: نداء، ومسألة، وأمر، وتشفع، وتعجب وقسم، وشرط، وشك، واستفهام. وزعم آخرون أنها تسعة، وأسقطوا الاستفهام، لأنهم رأوه داخلاً في المسألة. وزم قوم أنها ثمانية، وأسقطوا التشفع، لأنهم رأوا داخلاً في المسألة كدخول الاستفهام.

وزعم قوم أنها سبعة وأسقطوا (الشك) لأنه من قسم الخبر. وزعم آخرون أنها ستة، وأسقطوا الشرط، لأنهم رأوه من قسم الخبر. وكان أبو الحسن الأخفش يرى أنها ستة، وهي عنده: الخبر، والاستخبار والأمر، والنهي، والنداء، والتمني. وقال قوم هي خمسة: قول جازم، وهو خبر، وأمر، وتضرع، وطلب، ونداء. وقال جماعة من النحويين: الكلام أربعة: خبر، واستخبار، وطلب، ونداء. فجعلوا الأمر والنهي داخلين تحت الطلب، والتمني داخلاً تحت الخبر. وقال آخرون، وهم الذين حكى قولهم ابن قتيبة: أقسام الكلام أربعة: أمر، واستخبار، وخبر، ورغبة. وقال قوم: هي ثلاثة: أمر، واستخبار، وخبر، وجعلوا الرغبة داخلة في الأمر. والكلام في تحقيق هذه الأقوال وتبين الصحيح منها، له موضع غير هذا.

وقوله: (والآن: حد الزمانين: يعنون بالزمانين الماضي والمستقبل ويعنون بالآن، الزمان الحاضر. وسموه حد الزمانين، لأنه يفصل بين الماضي والمستقبل، وهو يستعمل في صناعة الكلام على ضربين: أحدهما على الحقيقة والآخر على المجاز. فالآن الذي يقال على الحقيقة، لا يمكن أن يقع فيه فعل ولا حركة على التمام، لأنه ينقضي أولاً فأول، وليس بثابت. إ نما هو شبيه بالماء السيال الذي يذهب جزءاً بعد جزء. فإن الزمان الذي ينطلق فيه بالجيم من جعفر، لا يلبث حتى يجئ الزمان الذي ينطق فيه بالعين. والزمان الذي ينطق فيه بالعين، لا يلبث حتى يجئ الزمان الذي ينطق فيه بالفاء. بل يذهب كل زمان منه ويعقبه الآخر، فلا يرد الثاني، إلا وقد صار الأول ماضيها. ولهذا جعلوه كالنقطة التي لا بعد لها. وأنكر قوم وجوده، وقالوا: إ نما الوجود الماضي والمستقبل، وأما الزمان فلا وجود له. وهذا غلط أو مغالطة، لأنه قصر مدته، لا يخرجه عن أن يكون موجوداً، بل هو الموجود على الحقيقة، ولو لم يوجد (زمان حاضر) لما كان شيء موجوداً، لأن وجود الأشياء مرتبط بوجود الزمان. فلا يصح أن يوجد شيء من الأجرام في غير زمان. وإنما شرطنا الأجرام، لأن الأشياء

المعقولة، التي لا تقع تحت الحواس، وليست بأجرام لا توصف بالوقوع تحت الزمان، وإنما توصف بأنها واقعة تحت الدهر، وأما البارئ تعالى فليس بواقع تحت دهر ولا تحت زمان. فهذا هو (الآن) على الحقيقة. وأما (الآن) الذي يستعمل على المجاز، فهو الذي يستعمله الجمهور، وهو المستعمل في صناعة النحو. فإنهم يجعلون كل ما قرب من الآن الذي هو كالنقطة من الماضي والمستقبل آناً. فلذلك يقولون: هو خارج الآن. وأنا أقوم الآن. لأن الآن الذي بهذه الصفة، هو الذي يمكن أن تقع فيه الأفعال والحركات على الكمال. فهذان المعنيان هما المراد بالآن عند المتقدمين. فأما أهل صناعة النحو العربي، فلهم في اشتقاقه والسبب الموجب لبنائه على الفتح كلام طويل. فأما اشتقاقه ففيه قولان: أحدهما أن يكون مشتقاً من آن الشيء يئين: إذا حان، فالألف فيه على هذا منقلبه عن واو، كالألف التي في باب ودار، لأن آن يثين، الذي بمعنى حان، من ذوات الواو عندنا. وقد قيل: إنه من ذوات الياء. وسنتكلم عليه إذا انتهينا إلى موضعه إن شاء الله تعالى. والثاني: أن أصله (أوان). واختلفوا في تعليله، فقال بعضهم: حذفت الألف منه، وقلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال بعضهم: بل قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. فاجتمعت ألفان ساكنتان، فحذفت الثانية منهما لالتقاء الساكنين. وكانت أولى بالحذف لأنها زائدة.

وأما العلة الموجبة لبنائه، فاختلفوا فيها أيضا. فقال سيبويه وأصحابه: إنما بنى (الآن) وفيه الألف واللام، لأنه ضارع المبهم المشار إليه، وذلك أن سبيل الألف أن تدخلا لتعريف العهد، كقولك: جاءني الرجل أو لتعريف الجنس، كقولك: قد كثر الدرهم والدينار. فلست تقصد إلى درهم بعينه، ولا دينار بعينه، وإنما تريد الجنس كله. أو لتعريف الأسماء التي غلبت على شيء، فعرف بها، كالحارث والعباس والدبران والسماك فلو دخلت الألف واللام (الآن) على غير هذه السبيل- لأن الآن، إنما هو إشارة إلى الوقت الحاضر- خالف نظائره فبنى. وقال قوم: إنما بنى لأنه وقع من أهله معرفة بالألف واللام. وسبيل ما تدخل عليه الألف واللام. وسبيل ما تدخل عليه الألف واللام أن يكون نكرة، ثم يعرف بهما. فلما خرج عن نظائره بنى.

وكان الفارسي يقول: إنه معرفة بلام مقدرة فيه غير اللام الظاهرة، وأنه بنى لتضمنه معنى اللام، كما بنى أمس. وكان الفراء يزعم أنه في الأصل فعل ماض من قولك: آن الشيء يثين، أدخلت عليه الألف واللام، وترك على فتحه محكياً، كما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قيل وقال. فأدخل حرف الجر على الفعلين الماضيين وحكاهما. وقرأت في بعض ما يحكى عن الفارسي، ولم أقف على صحته، أنه قال: الصواب: (والآن حد الزمانين) بالرفع. واعتل لذلك بأن العلة التي أوجبت بناءه، إنما عرضت له وهو مشار به إلى الزمان الحاضر. فإذا قال: (والآن حد الزمانين) فليس يشير به إلى زمان، إنما يخبر عنه. فوجب أن يعرب، إذ قد فارق حاله التي استحق فيها البناء. وهذا وإن كان كما قال، فليس يمتنع أن يترك مفتوحاً، كما كان على وجه الحكاية. كما تقول: (من): حرف خفض. وقام: فعل ماض، فتتركهما مبنيين على حالهما، وإن كانا قد فارقا باب الحروف والأفعال وخرجا إلى باب الأسماء. وكذلك ذهب الأخفش في قوله تعالى {لَقْد تَقطَّع بيْنكُمْ} إلى أنه في موضع رفع بتقطع. ولكنه لما جرى منصوباً في الكلام تركه على حاله

وكذلك قوله: (ومِنَّا دُونَّ ذَلِك). وكذلك رواه أبو علي البغدادي عن أبي جعفر بن قتيبة عن أبيه، بفتح النون. وقوله (والخبر ينقسم على تسعة آلاف، وكذا وكذا مئةٍ من الوجوه) هذا الفصل قد جمع خطأ من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خفض مئة، وحكمها أن تنصب، لأن أسماء الإشارة لا تضاف، ولأن كذا وكذا، كناية عن الأعداد المعطوف بعضه على بعض، من إحدى وعشرين إلى تسعة وتسعين. والمميز بعد هذه الأعداد، حكمه أن ينصب. والوجه الثاني: أن قوله: كذا وكذا مئة، أقل ما يمكن أن يقع عليه أحد وعشرون، فكأنه قال: على تسعة آلاف وإحدى وعشرين مئة، وإحدى وعشرون مئة: ألفان ومئة. فكان ينبغي أن يقول: إن الخبر ينقسم إلى أحد عشر ألفاً ومائة. ولا يحتاج إلى تكلف هذا العي. والوجه الثالث من الخطأ: أنه نسب إلى القوم ما لم يقولوه. فإنا لا نعلم أحداً منهم قال: إن الخبر ينقسم على ما ذكره.

والذي دعا ابن قتيبة إلى الغلط في خفض المئة فيما أحسب، أنه رأى النحويين قد قالوا: إذا قال الرجل: له عندي كذا وكذا درهماً، بحرف العطف، فهي كناية عن الأعداد من أحد وعشرين إلى تسعة وتسعين. وإذا قال: له عندي كذا كذا درهماً، بغير واو، فهي كناية عن الأعداد من أحد عشر إلى تسعة عشر. وهذا اتفاق من البصريين والكوفيين. وقال الكوفيون خاصة: إذا قال له عندي (كذا أثواب)، فهي كناية عن الأعداد المضافة إلى الجمع، من ثلاثة إلى عشرة، وإذا قال: له عندي كذا درهم، بالإفراد، فهي كناية عن الأعداد المضافة إلى المفرد من مئة إلى تسع مئة. ولا يجيز البصريون إضافة (ذا) إلى ما بعده، لأن المبهم لا يضف. فرأى ابن قتيبة أن الكوفيين يجيزون الخفض، ولم يفرق بين ما أجازوا فيه الخفض وما لم يجيزوا، لأنه كان ضعيفاً في صناعة النحو. وفي كتابة هذا أشياء كثيرة تدل على ذلك. ألا تراه قد قال في كتابة. هذا باب ما يهمز أوسطه من الأفعال ولا يهمز وأدخل في الباب: (رقأت في الدرجة) و (ناوأت الرجل) و (روأت في الأمر)، وهذه الأفعال كلها مهموزة اللام. وأدخل في الباب أيضاً: (تأممتك XXX)، وهذا مهموز الفاء. وليس في الباب شيء مهموز العين، إلا (ذأى العود يذأي). وفي باب (فعل يقعل ويفعل)، بفتح العين في المستقبل وضمها: شم يشم ويشم. وشم الذي تفتح الشين من مضارعه، إنما هو (فعل) بكسر العين لا (فعل). وشم الذي يضم الشين في مضارعه فعل مفتوح العين. ولو كان

شم يشم المفتوح الشين (فعل يفعل) على ما توهم لكان شاذاً. وكان يجب أن يدخله في الأفعال التي جاءت على (فعل) بفتح العين في الماضي والمستقبل. وليس فيها حرف حلقي ولا عيناً ولا لاماً، نحو أبي يأبى، وركن يركن ولم يفعل ذلك. وقوله: (كانت وبالاً على لفظه وعياً في المحافل): الوبال: الثقل. والمحافل: المجالس والمواضع التي يجتمع فيها الناس، واحدها محفل بكسر الفاء. والكن: كل ما ستر الإنسان من بيت ونحوه، وجمعه: أكنان. وقوله: (فكان ابتداء تفكره آخر عمله، وآخر عمله بدء تفكره): كذا الرواية عنه، وهي عبارة فاسدة، لأنه لم يزد على أن عكس الكلام والثاني هو الأول بعينه. وإنما كان يجب أن يقول: فكان ابتداء تفكره آخر عمله، وآخر تفكره ابتداء عمله، ونحو هذا حتى يصبح الكلام. ومرادهم بهذا الكلام أن كل محاول لأمر من الأمور، فإنما يقدم أولاً في فكره. الغاية التي يريدها، ثم يفحص عن الأسباب التي توصله إلى تلك الغاية وذلك الغرض، فيقدمها في العمل أولاً فأولاً على مراتبها، حتى يصل في ما سبق إليه أول فكره. وقوله: (فصل الخطاب): أي بيانه. وأصل الفصل: الفرق بين الشيئين، حتى يمتاز كل واحد منهما من صاحبه. ويسمى كل قول فرق بين الحق والباطل: فصلاً. ومنه قيل للعضو الذي يمتاز من غيره: مفصل وفصل. وقول الخطيب في خطبته، والكاتب في رسالته: (أما بعد)، يسمى

فصل الخطاب، لأن من شأن الخطيب والكاتب أن يبدأ أولاً بحمد الله تعالى، والصلاة على رسوله، ثم يقول: (أما بعد)، ويبدأ باقتصاص ما قصد نحوه فيكون قوله: أما بعد فصلاً بين التحميد الذي صدر به، وبين الأمر الذي قصده وحاوله: وقوله: (فالحمد لله الذي أعاذ الوزير أبا الحسن أيده الله من هذه الرذيلة) يعني عبيد الله بن يحيي بن خاقان، وكان وزير المتوكل، فعمل له ابن قتيبة هذا الكتاب، وتوسل به إليه، فأحسن عبيد الله صلته، واصطنعه وعنى به عند المتوكل، حتى صرفه في بعض أعماله. والرذيلة: ضد الفضيلة. وحباه: خصه والخيم: الطبع. (والسنن): الطريق. ويقال: تنح عن سسن الطريق، بفتح السين والنون. وعن سنن الطريق، بضم السين وفتح النون وعن سنن الطريق بضم السين والنون، وعن سنة الطريق: يراد بذلك محجته. وقوله: معتلقة: محبة. وقوله: (وأيديهم فيه إلى الله مظان القبول ممتدة): يريد بالمظان: الأوقات التي يظنون أن الدعاء فيها متقبل، وهي جمع مظنة. قال النابغة: (فإن مظنة الجهل الشباب) يريد الوقت الذي يظن فيه الجهل. ومظان: منصوبة على الظرف. والعامل فيه قوله: ممتدة. تقدير الكلام: وأيديهم فيه إلى الله ممتدة مظان القبول. وقوله: (يهجع): ينام. وقوله: (ويلبسه لباس الضمير) أي يظهر عليه حسن معتقده. أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أسر سريرة ألبسه الله رداءها)).

وقوله: (يصور): يميل ويصرف. يقال: صاره يصوره ويصيره: إذا أماله. وقرئ (فصرهن إليك) وصرهن، أي يجمع القلوب المختلفة على محبته. وقوله: (ويسعده بلسان الصدق في الآخرين): يريد الثناء الحسن. قال الله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}: أي ذكراً جميلاً. وحقيقته: أن اللسان هو الخبر. والكلام سمى لسانا، لأنه باللسان يكون، على مذهبهم في تسمية الشيء باسم غيره، إذا كان منه بسبب. والمراد بإضافته إلى الصدق، أن يجعل له ثناء حسنا، تصدقه أفعاله، حتى يكون المثنى عليه غير كاذب فيما ينسبه إليه، لأن الإنسان لا يكون فاضلاً إذا أثنى عليه بالكذب. وقوله: (وأعفوا أنفسهم من كد النظر): أي أراحوها من ذلك. والعفو: ما جاء سهلا بلا كلفه ولا مشقة. والخزي: الفضيحة. يقال: خزي يخزى خزيا: إذا افتضح. وخزي يخزى خزاية: إذا استحيا. وقوله: (من موقف رجل من الكتاب) قال ابن القوطية: هذا الرجل هو محمد بن الفضل. وهذا غلط، لأن محمد بن الفضل، إنما وزر للمتوكل وكان شاعراً كاتباً حلو الشمائل، عالماً بالغناء، وولى الوزارة أيضاً في أيام المستعين. والخليفة المذكور هاهنا إنما هو المعتصم.

وقال أبو علي البغدادي: هذا الكتاب هو أحمد بن عمار. وكذا قال الصولي. وقد قيل: هو الفضل بن مروان. والمشهور أنه أحمد بن عمار، وكان وزير المعتصم. وكان الفضل بن مروان هو الذي عنى به، حتى استوزره المعتصم. وكان الفضل بن مروان وأحمد بن عمار، لا يحسنان شيئاً من الأدب. وكان عمار طحاناً من أهل المذار، ولذلك قال فيه بعض الشعراء: لا يعمر الرحمن ملك امرئ ... يقيمه رأي ابن عمار ما يفرق الطحان من جهله ... ما بين إيراد وإصدار وقال رجل من الشعراء يقال له أبو شبل عاصم بن وهب البرجمي يهجوه ويهجو الفضل بن مروان، لاصطناعه إياه، وسعايته له حتى صار وزيراً: ماذا احتملناه للفضل بن مروان ... أباده الله من ظلم وعدوان

حتى مضت ظلماً أيام دولته ... لم يتضح بدجاها ضوء إنسان أبقى دليلاً عليه في عماوته ... كما استدل على أصل بأغصان مثلان في العي لم ينهضها أدب ... مستحوذان على جهل شبيهان لولا الإمام أبو إسحاق إن له ... عناية بالقصي الدار والداني لأصبح الناس فوضى لا نظام لهم ... ولم يدل على حق ببرهان فيقال: إن المعتصم لما قرأ هذا الشعر ضحك، وعزل أحمد بن عمار. ويروى أن المعتصم، وهو محمد بن هارون الرشيد، ويكنى أبا إسحاق كان قليل البضاعة من الأدب. ويزعمون أن أباه كان عنى بتأديبه في أول أمره، فمرت به جنازة لبعض الخدم فقال: ليتني كنت هذه الجنازة، لأتخلص من هم المكتب، فأخبر بذلك أبوه، فقال: والله لاعذبته بشيء يختار الموت من أجله، وأقسم ألا يقرأ طول حياته. فلما صارت إليه الخلافة، واتخذ أحمد بن عمار وزيراً، ورد عليه كتاب عامل الجبل. يذكر فيه خصب السنة، وكثرة الغلات، وأنهم مطروا مطراً كثر عنه الكلأ. فقال لابن عمار: ما الكلأ؟ فتردد في الجواب، وتعثر لسانه، ثم قال: لا أدري. فقال المعتصم: (إن لله وإنا إليه راجعون)! أخليفة أمي، وكاتب أمي؟ ثم قال: أدخلوا على من يقرب منا من الكتاب

فعرف مكانة محمد بن عبد الملك الزيات، من الأدب، وكان يتولى قهرمة الدار، ويشرف على المطبخ، ويقف في الدار وعليه دراعة سوداء، فأمر بإدخاله عليه، وقال له: ما الكلأ؟ فقال: النبات كله رطبه ويابسة، والرطب منه خاصة، يقال له: خلا. واليابس منه: يقال له حشبش، ثم اندفع يصف له النبات من حين ابتدائه إلى حين اكتهاله إلى حين هيجه، فاستحسن المعتصم ما رأى منه، وقال: ليتقلد هذا الفتى العرض على، فكان ذلك سبب ترقيه إلى الوزارة. وكان لمحمد بن عبد الملك حظ. وافر من الأدب والنظم والنثر، وكان أبوه إذا رأى جده في القراءة، لأمه على ذلك، وقال له: ما الذي يجدى عليك الأدب؟ ولو تحرفت في بعض الصناعات، لكان أجدى عليك، إلى أن امتدح الحسن بن سهل، فأعطاه عشرة آلاف درهم، فقال له أبوه: والله لا ألومك أبداً. ولما وصله الحسن قال لم أمتدحك رجاء المال أطلبه ... لكن لتلبسني التحجيل والغررا ما كان ذلك إلا أنني رجل ... لا أقرب الورد حتى أعرف الصدرا

وقوله: (ومن مقام آخر في مثل حاله): هذا الكاتب الثاني: هو شجاع بن القاسم، كاتب أوتامش التركي، وكان يتولى عرض الكتب على المستعين: أحمد بن محمد المعتصم، وكان جاهلاً لا يحسن القراءة، إلا أنه كان ذكياً، تقرأ عليه عشرة كتب، فيحفظ معانيها، ويدخل إلى المستعين يسامره فيها، ولا يغلط في شيء منها. وكان يصور له الحرف فيكتب مثاله فقرأ على المستعين كتاباً كلفه قراءته، وكان فيه: (حاضر طي)، وطي قبيلة من قبائل اليمن، وحاضرهم من حضر منهم، فصحفه وقال: (جاء ضرطي) والضرط: لغة في الظرط فضحك المستعين. ويروى أنه دخل على المستعين وذيل قبائه قد تخرق، فقال له المستعين: ما هذا يا شجاع!! وكان يستظرف ما يأبى به. فقال: يا أمير المؤمنين، داس الكلب ذنبي فخرقته قباءه. يريد دست ذنب الكلب فخرق قبائى. ومدحه بعض الشعراء، فقال: في مدحه: أبو حسن يزيد الملك حسنا ... ويصدق في المواعد والفعال جبان عن مذلة ملية ... شجاع في العطية والسؤال فقال له: وما يدريك- ويلك- أني جبان. فقال: إنما قلت- أعزك الله- إنك جبان عن البخل، لا جبان عن الأعداء. وهذا من أحسن المدح، واستشهد

بملء حضر، فشهدوا له فقال، إنما تزينون ما أتى به، فأنا أعطيه لمكانكم ورعايتكم، لا لشعره، لأنه قد هجانى، وأمر له بصلة. ومدحه بعض الشطار بشعر يقول فيه: شجاع لجاع كاتب لاتب معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل خميص لميص مستمر مقدم ... كثير أثير ذو شمال مهذب فطين لطين آمر لك زاجر ... حصيف لطيف حين يخبر يعلم بليغ لبيغ كلما شئت قلته ... لديه وإن تسكت عن القول يسكت أديب لبيب فيه عقل وحكمة ... عليم بشعري حين أنشد يشهد كريم حليم قابض متباسط ... إذا جئته يوماً إلى البذل يسمح وأعطي هذا الشعر لرجل طالبي، فلقي به شجاعاً وهو على قارعة الطريق، ووله الناس فاستوقفه وأنشده إياه، فضحك وشكره، ودخل إلى المستعين فرغب غليه في أمره، فأعطاه عشرة آلاف درهم صلة، وأجرى له ألف دينار راتباً في الشهر. وقوله: (ومن قول آخر في وصف برذون أهداه، وقد بعثت إليك

أبيض الظهر والشفتين. فقيل له: لو قلت أرثم ألمظ). هذا الكاتب الثالث- لا أعلم من هو والأرثم من الخيل: الذي في شفته العليا بياض. والألمظ: الذي في شفته السفلى بياض. وإذا كان أبيض الظهر، قيل له: أرحل وأجلس. وقد ذكر ابن قتيبة في باب شيات الخيل الأرثم والألمظ. والأرحل، ولم يذكر الأحلس. وقوله: (ولقد حضرت جماعة من وجوه الكتاب) ... إلى آخر الفصل: الفئ: كل ما يعود إلى السلطان من جباية أو مغنم. والتحلب والحلب سواء، وهما ما ليس بوظيفة معلومة المقدار. ولكن إذا أراد السلطان شيئاً، كلف الرعية إحضاره. شبه بتحلب الناقة والشاة في كل وقت. والنخاس هاهنا: بائع الرقيق. وهو اسم يقع على بائع الحيوان خاصة. والشغا: تراكب الأسنان بعضها على بعض. يقال: امرأة شغواء، ورجل أشغى. وتسمى العقاب: شغواء، لزيادة منقارها الأعلى على منقارها الأسفل. والأسنان إذا كملت عدتها ولم ينقص منها شيء اثنتان وثلاثون سنا: أربع ثنايا، وأربع رباعيات وأربعة أنياب، وأربعة ضواحك، واثنتا عشرة رحى وأربعة نواجذ وهي أقصاها وآخرها نباتا. ومن الناس من لا يخرج له شيء من النواجذ فتكون

أسنانه ثمانياً وعشرين. ومنها من تخرج له اثنتان فتكون أسنانه ثلاثين فيزعمون أن من خرجت له النواجذ كلها، كان وافر اللحية عظيمها، ومن لم يخرج له شيء منها، كان كوسجا. ومما ينجو نحو هذه القصة، ما روي من أن عتبة بن أبي سفيان، استعمل رجلاً من آله على الطائف، فظلم رجلاً من أزدشنوءة، فأبي الأزدي عتبة، فمثل بين يديه وقال: أمرت من كان مظلوماً ليأتيكم ... فقد أتاكم غريب الدار مظلوم ثم ذكر ظلامته بعنجهية وحفاء، فقال له عتبة: إني أراك أعرابياً جافياً، وما أحسبك تدري كم ركعة تصلي بين يوم وليلة، فقال: أرأيتك إن أنبأتك بذلك أتجعل لي عليك مسألة؟ فقال عتبة: نعم. فقال الأعرابي: إن الصلاة أربعٌ وأربع، ثم ثلاث بعدهن أربع ... ثم صلاة الفجر لا تضيع فقال عتبة: صدقت. فما مسألتك؟ قال: كم فقار ظهرك؟ فقال: لا أدري. قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟ فقال عتبة: أخرجوه عني وردوا عليه غنيمته.

قال ابن الأعرابي في نوادره: للإنسان سبع عشرة فقرة. وأقل فقر البعير ثماني عشرة فقرة، وأكثرها إحدى وعشرون. وذكر جالينوس، أن جميع خرز الظهر من لدن منبت النخاع من الدماغ إلى عظم العجز أربع وعشرون خرزة، سبع منها في العنق، وسبع عشرة فيما عداها، منها اثنتا عشرة في الصلب وخمس في القطن، وهو القطن. والأضلاع: أربع ((وعشرون، اثنتا عشرة في كل جانب، وأن جملة العظام التي في جسم الإنسان: مائتان وثمانية وأربعون عظماً، حاشا العظم الذي في القلب والعظام الصغار التي حشي بها خلل المفاصل، وتسمى السمسمية، شبهت بالسمسم، وهو الجلجلان، لصغرها. وجميع الثقب التي في بدن الإنسان اثنتا عشرة، العينان، والأذنان، والمنخران، والفم، والثديان، والفرجان، والسرة، حاشا الثقب الصغار التي تسمى المسام، وهي التي يخرج منها العرق، وينبت منها الشعر. فإنها لا تكاد تنحصر. وقوله: (فما رأيت أحداً منهم يعرف فرق ما بين الوكع والكوع) ...

إلى آخر الفصل. الوكع في الرجل: أن تميل إبهامها على الأصابع، حتى يرى أصلها خارجاً. والكوع في الكف: أن تعوج من قبل الكوع. والكوع: رأس الزند، الذي يلي الإبهام. والكرسوغ: رأس الزند الذي يلي الخنصر. والحنف: أن تقبل كل واحدة من إبهامي الرجل على الأخرى. وقيل الحنف: أن يمشي الرجل على ظهر قدمه، وهو قول ابن الأعرابي. والفدع في الكف زيغ بينها وبين عظم الساعد، وفي القدم: زيغ بينها وبين عظم الساق. واللمي مثلثة اللام: سمرة في الشفتين تخالطها حمرة، وذلك مما يمدح به. واللطع: بين الشفتين، وذلك مما يذم به. وقوله: (وفي تقويم اللسان واليد): يريد بتقويم اللسان: استقامته في الكلام حتى لا تلحن، وبتقويم اليد: استقامتها في الكتابة، لأن فساد الهجاء لحن في الخط، كما أن فساد الإعراب لحن في القول. وقوله: (إن فاءت به همته) كذلك الرواية: فاءت بالفاء. وكان أبو علي البغدادي يقول: الصواب (ناءت به همته) بالنون أي نهضت، من قولهم: ناء بالحمل ينوء: إذا نهض به متثاقلاً. قال الله عز وجل: (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة). والذي أنكره أبو علي على غير منكر. ومعناه، إن رجعت به همته إلى النظر الذي أغفله، والفئ: الرجوع. فالهاء في (به) فيمن قال: (ناءت) بالنون، تعود على الكتاب كما تقول: ناء بالحمل: إذا استقل به وأطاقه. ويجوز أن تعود على مغفل التأديب أي إن نهضت به همته إلى النظر. ومن روى: (فاءت

بالفاء، فالهاء في به تعود على مغفل التأديب. أي إن رجعت به همته إلى النظر بعد إعراضه عنه. وقوله: (أو استظهر له بإعداد الآلة لزمان الإدالة أو لقضاء الوطر عند تبين فعل النظر): الوطر: الحاجة. والإدالة: مصدر أديل العامل من عمله إذا صرف عنه وعزل. يقول: يكون كتابي هذا معداً مذخوراً لمغفل التأدب الذي شغله جاهه، وما أدرك من المنزلة عند الملوك، عن القراءة والنظر، فإذا عزل عن عمله قرأه، واستدرك ما كان ضيعه. وإن ظهر إليه فضل النظر وهو في جاهه وحرمته، قضى منه وطرة. وقوله: (وألحقه مع كلال الحد ويبس الطينة با لمرهفين، وأدخله وهو الكودن في مضمار العتاق): هذه أمثال ضربها لقارئ كتابه. والمرهف: السيف الحديد. والكلال والكليل: الذي لا يقطع، فضرب ذلك مثلاً للبلادة والذكاء. وكذلك يبس الطينة: مثل مضروب لنبو الذهن عن قبول التعلم وأصل ذلك أن الطين إذا كان رطبا ثم طبع فيه قبل نقش الطابع، وإذا كان يابساً لم يقبل النقش. والكودن: البغل. والمضمار: الموضع الذي تدرى فيه الخيل وذكر ابن قتيبة في باب المصادر من هذا، الكلال إنما يستعمل في الإعياء، وأن السيف إنا يقال فيه كل بكل يكل كلة. وخالف في كلامه هاهنا ما قاله هناك فاستعمل الكلال في السيف، وهو غير معروف. وقوله: (فعرف الصدر والمصدر) ... إلى آخر الفصل الصدر: الفعل والمصدر: الحدث فكلاهما اسم الفعل. وسمى حدثا لأن الشخص

الفاعل يحدثه، وسمى مصدراً، لأن الفعل اشتق منه، فصدر عنه، كما يصدر الصادر عن المكان. وهذا أحد ما استدل به البصريون على أن المصدر أصل للفعل، ولو لم يكن أصلاً له، لم يسم مصدراً. فأما الكوفيون فزعموا أن الفعل هو الأصل للمصدر، وأن المصدر مشتق منه. وبين الفريقين في هذه المسألة شغب يطول ليس هذا موضع ذكره. وكان أبو علي البغدادي يقول: أرد ابن قتيبة بالصدر: الأفعال المشتقة من المصدر، الصادرة عنه. وكان يرى أن الصدر: جمع صادر كما يقال: راكب وركب، وصاحب وصحب. وأما الحال فهي هيئة الفاعل في حين إيقاعه للفعل، وهيئة المفعول في حين وقوع الفعل به. أما هيئة الفاعل فكقولك: جاء زيد راكباً، فالركوب هيئته في وقت مجيئه. وأما هيئة المفعول، فكقولك: ضرب زيد جالساً. فالجلوس هيئة زيد في حين وقوع الضرب به. ولها سبعة شروط: الأول منها: أن تكون مشتقة، أو في حكم المشتق. والثاني: أن تكون منتقلة، أو في حكم المنتقل. والثالث: أن تكون نكرة أو في حكم النكرة. والرابع: أن تكون بعد كلام تام، أو في حكم التام. والخامس: أن تكون بعد اسم معرفة، أوفي حكم المعرفة.

والسادس: أن تكون مقدرة بفي. والسابع: أن تكون منصوبة. ولها أقسام كثيرة. فمنها الحال المستصحبة كقولك هذا زيد قائماً. ومنها الحال المحكية كقولك: رأيت زيداً أمس ضاحكاً. ومنها الحال المقدرة، كقولك: سيخرج زيد مسافراً غداً. ومنها الحال السادة مسد الأخبار كقولك: ضربي زيداً قائماً. ومنها الحال المؤكدة كقوله تعالى: {وهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} ومنها الحال الموطئة كقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا}. فمن النحويين من يرى أن (لساناً) هو الحال، وعربياً هو التوطئة. ومعنى التوطئة، أن الاسم الجامد لما وصف بما يجوز أن يكون حالاً، صلح أن يقع حالاً. ومن النحويين من يرى أن عربياً هو الحال، ولسانا هو التوطئة. ومعنى التوطئة عندهم، أن الحال لما كانت صفة معنوية، شبيهة بالصفة اللفظية، وكان حكم الصفة اللفظية، أن يكون لها موصوف تجرى عليه فعل، مثل ذلك بالصفة المعنوية في بعض المواضع، فقام لها موصوف أيضاً تجزى عليه. وقد يكون معنى التوطئة في الحال: أن يتأول في الاسم الجامد تأويل يخرجه إلى حكم الاسم المشتق، كقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل: كيف بأتيك الوحي فقال: أحياناً يتمثل لي الملك رجلاً. فالتوطئة هنا على وجهين: أحدهما: أن تجعل رجلاً في تأويل قوله: قريباً أو محسوساً، وهما اسمان جاريان على الفعل. والثاني: أن تريد مثل رجل، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وهذا معنى قولنا: إن سبيلها أن تكون مشتقة، أو في حكم المشتق.

وأما الحال التي في حكم المنتقل، فنحو قوله تعالى {وهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا}، فالحق لا يفارقه التصديق. ولكن لما كان قد يذكر الحق ليصدق به حقاً آخر، وقد يذكره لنفسه، أشبهت الحال المنتقلة حين كان لها معنيان تنتقل من أحدهما إلى الآخر. وأما الظروف فهي أسماء الأزمنة، وأسماء الأمكنة، إذا جعلت محلاً لأمور تقع فيها، كقولك: أعجبني الخروج اليوم. فاليوم محل للخروج الذي أسندت الحديث إليه. فإذا قلت: أعجبني اليوم. أو قلت: اليوم مبارك، لحق بالأسماء، ولم يسم ظرفاً، لأنك إنما تحدث عنه لا عن شيء وقع فيه. فمن خاصة الظرف ألا يكون محدثاً عنه، وأن يصلح فيه تقدير (في). فإذا فارقه هذا الشرط لم يكن ظرفاً. والكلام في هذه الأشياء يطول. وإنما نذكر من كل نوع منها نكتا ترغب القارئ في قراءة ذلك النوع، وطلبه في مواضعه من الكتب الموضوعة فيه. وقوله: (وشيئاً من التصاريف والأبنية): هذا العلم من أجل علوم العربية لأنه [يهدى إلي] معرفة الأصلي من الزائد، والصحيح من المعتل، والتام من الناقص، والمظهر من المدغم. وأكثر المتعاطين العربية لا يحسنونه [وهو ينقسم ثلاثة أقسام: تصريف لفظ فقط، وتصريف معنى فقط، وتصريف لفظ ومعنى معاً. فأما تصريف اللفظ فنوعان: أحدهما: تعاقب الحركات والحروف على اللفظ الواحد، كقولك، زيد وزيداً. وأخوك وأخاك وأخيك. والثاني: تغيير الصور مع اتفاق المعاني، كقولهم: رجل ضروب،

وضراب، ومضراب، وضرب، وضريب. فالألفاظ مختلفة، والمعنى الواحد. وأما تصريف المعنى وحده، فهو اختلاف المعاني مع اتفاق الألفاظ، كالهلال يتصرف في كلام العرب على عشرين معنى. والقمر يتصرف على ستة معان، والكوكب على خمسة، والنجم على ستة، ونحو ذلك. وأما تصريف اللفظ والمعنى، فهو أن يختلف اللفظ، ويختلف المعنى باختلافه، كقولك: ضارب لفاعل الضرب، ومضروب للذي وقع عليه الضرب. ومضرب بفتح الراء: للمصدر، ومضرب بكسر الراء: للمكان الذي وقع فيه الضرب، أو للزمان. ومضراب للعود الذي يضرب به. وانقلاب الياء عن الواو يكون في كل موضع تسكن فيه الواو وقبلها كسرة نحو ميزان، أصله: موزان، لأنه من الوزن، وانقلاب الواو عن الياء يكون في كل موضع تسكن فيه الياء وقبلها ضمة، نحو أيقن فهو موقن. وانقلاب الألف عن الواو وعن الياء، يكون في كل موضع تتحرك فيه الواو والياء، وقبلها فتحة، نحو: قال، أصله قال، وباع أصله: بيع وانقلاب الياء عن الألف في نحو سربال وسرابيل. وانقلاب الياء عن الواو في نحو عنقود وعناقيد. وقوله: (ولابد له مع كتبنا هذه من النظر في (الأشكال لمساحة الأرضين) إلى آخر الفصل. المساحة: مصدر مسحت الأرض: إذا ذرعتها. والمثلث على الإطلاق: هو أول السطوح التي تحيط بها خطوط مستقيمة، وهي كثيرة غير متناهية الكثرة، فمبدؤها من الثلاثة وتترقى صاعدة، فيكون

أولها: المثلث، وهو الذي تحيط به ثلاثة خطوط، ثم المربع: وهو الذي تحيط به أربعة خطوط، ثم المخمس ثم المسدس، ويتزايد هكذا أبداً. وإنما صار المثلث أولها، لأن خطين مستقيمين لا يحيطان بسطح، وما كان من هذه السطوح يحيط به أكثر من أربعة خطوط، فإنما يسمى الكثير الزوايا، ومبدؤها: المخمس. وأنواع المثلث الذي تحيط به خطوط مستقيمة ثلاثة: مثلث قائم الزاوية ومثلث حاد الزاوية، ومثلث منفرج الزاوية. ذكر ابن قتيبة منها الاثنين، ولم يذكر الثالث. والمثلث القائم الزاوية نوعان: متساوي الساقين، وهو الذي له ضلعان من أضلاعه متساويتان، ومختلف الأضلاع، وهو الذي أضلاعه كلها مختلفة والمثلث الحاد الزوايا: ثلاثة أنواع: المتساوي الأضلاع، والمتساوي الساقين، والمختلف الأضلاع. والمثلث المنفرج الزاوية نوعان: متساوي الساقين، ومختلف الأضلاع. وأما قوله: ومساقط الأحجار، فإن مسقط الحجر: هو الخط الذي يخرج من زاوية المثلث إلى الضلع المقابلة لها، وتسمى العمود أيضاً. ويقال للضلع التي يقع عليها مسقطة الحجر: القاعدة. وهذا هو أحد العمودين اللذين ذكرهما. والعمود الآخر كل خط قام على خط آخر قياماً معتدلاً، فإن الخط الأسفل يقال له القاعدة، والقائم، يقال له: العمود. وتسمى الزاويتان اللتان في جنس العمود قائمتين، فإن مال العمود إلى إحدى الناحيتين، قبل للزاوية التي من ناحية الميل: حادة وللثانية: منفرجة. وأما قوله: (والمربعات المختلفات) فإن أنواع المربعات على ما ذكره

إقليدس خمسة: مربع قائم الزوايا، متساوي الأضلاع، وسماه المربع الصحيح. ومربع قائم الزوايا متساوي كل ضلعين متقابلتين، وسماه مربعاً مستطيلاً. ومربع متساوي الأضلاع، غير قائم الزوايا متساوي كل زاويتين متقابلتين، وسماه المعين ومربع متساوي كل ضلعين متقابلتين فقط، وكل زاويتين متقابلتين فقط، وسماه الشبيه بالمعين وما خرج عن هذه الحدود، سماه منحرفاً. وذكر غير إقليدس، المربعات سبعة، ولكنا تركنا ذكرها اقتصاراً على ما قال إقليدس، إذ كان المقدم في هذه الصناعة. وقوله: (والقسي والمدورات) فالقسي: جمع قوس والقوس نوع من أنواع الخطوط وذلك أن الخطوط ثلاثة أنواع: مستقيم، ومقوس ومنحن. والخطوط المستقيمة كثيرة، ولها أسماء مختلفة كقولنا: عمود، وقاعدة وساق، وضلع، ووتر، وسهم، وقطر، ومسقط الحجر، ومحور، وجيب مستو، وجيب منكوس، ونحو ذلك. والخطوط المقوسة أربعة أنواع: دائرة، ونصف دائرة، وأكثر من نصف دائرة. وأقل من نصف دائرة. وأما الخط المنحني فقلما يستعمل في هذه الصناعة، فلذلك لم نذكره. وأما الدائرة: فإنها أول أنواع السطوح، التي تحيط بها خطوط قوسية، وذلك أن دائرة أن أنواع السطوح بها خطوط قوسية ثلاثة، فمنها ما يحيط به خط واحد مقوس. ومنها ما يحيط به خطان مقوسان، ومنها ما يحيط به أكثر من خطين مقوسين. فالذي تحيط به قوس واحدة: يسمى

الدائرة. والذي يحيط به خطان مقوسان نوعان: أحدهما يسمى الشكل الهلالي، وهو أن تكون حدبة إحدى القوسين تلي أخمص القوس الأخرى. والآخر: يسمى الشكل البيضي، وهو أن يكون أخمصا القوسين متقابلين. وأما السطوح التي بها أكثر من خطين مقوسين فإنها غير متناهية، وأولها المثلث. وقوله: (وكانت العجم تقول: من لم يكن عالماً بإجراء المياه وحفر فرض المشارب) إلى آخر الفصل، من طريف أمر هذا الرجل رحمه الله تعالى أنه نهى قارئ كتابه أولاً عن النظر في شيء من العلوم القديمة، وسماها هذيانا ثم جعل بعد ذلك يرغبه فيها، وكأنه كره أن يكون هو الآمر بذلك، فيتناقض قوله، فنسب ذلك إلى العجم. والمشارب: جمع مسرب، وهو شاطئ النهر الذي يشرب منه الدواب، ويستقي منه الناس. والفرضة: المدخل إلى النهر. وقال الخليل: الفرضة: مشرب الماء من النهر. والفرضة: مرفأ السفينة. والمهاوي: جمع مهوى ومهواة، وهو ما بين أعلى الجبل وأسفله وكل مكان عميق يهوى فيه، فإنه مهوى ومهواة. وقوله: (ومجارى الأيام في الزيادة والنقصان). معرفة هذا الذي قال: لا تكون إلا بعد معرفة هيئة الفلك ونصبة العوالم، والعلة في ذلك على ما يذكرون تردد الشمس ما بين رأس الجدي، ورأس السرطان، مدبرة عنا تارة، ومقبلة إلينا تارة، وبترددها ما بين هذين الحدين، تعظم قسي النهار مرة، وتصغر مرة، فيكون ذلك سبباً لطول النهار وقصره. وذلك أن الشمس إذا

صارت في رأس الجدي، كانت في أبعد بعدها عنا، وكانت حينئذ قوس النهار أصغر ما يكون، وقوس الليل أعظم ما يكون، فيكون ذلك اليوم أقصر الأيام عندنا. ثم تأخذ في الإقبال إلى الشق الشمالي فتدنو كل يوم منا، وتبدأ قوس النهار التي نمر عليها الشمس تعظم، وقوس الليل تصغر، فيزيد في طول النهار بقدر ما يزيد في قوسه، وينقص من الليل بقدر ما ينقص من قوسه. فلا تزال كذلك إلى أن تنتهي إلى رأس الحمل، فتتوسط المسافة التي بين رأس الجدي ورأس السرطان، وتتساوى قوس النهار وقوس الليل في العظم، فيكون ذلك سبباً لتساوى الليل والنهار. ثم تجوز رأس الحمل مقبلة نحونا، والنهار أخذ في الزيادة لزيادة عظم قوسه، والليل آخذ في النقصان، لزيادة صغر قوسه، إلى أن تنتهي إلى رأس السرطان، فتنتهي قوس النهار إلى غايتها في العظم، فيكون ذلك اليوم أطول يوم عندنا. وتتناهى قوس الليل في الصغر، فتكون تلك الليلة أقصر ليلة عندنا. ثم تبدأ بالرجوع نحو الشق الجنوبي مدبرة، فتبدأ قوس النهار تصغر، وقوس الليل تعظم، فينقص من النهار بقدر ما ينقص من قوسه، ويزيد في الليل بقدر ما يزيد في قوسه. فإذا انتهت إلى رأس الميزان، وصارت متوسطة من المسافة التي بين

رأس السرطان ورأس الجدي. استوي الليل والنهار مرة ثانية. كاستوائهما عند مرورها على رأس الحمل لتساوي القوسين. فإذا جازت رأس الميزان موغلة في الجنوب اشتد بعدها عنا واشتد صغر قوس النهار، فاشتد قصره. واشتد عظم قوس الليل، فاشتد طوله حتى ينتهي إلى رأس الجدي. وذلك دأبهما أبداً. {ذَلِكَ تَقْدِيُر العَزيز العَلِيْم}. ولها ما بين رأس الجدي ورأس السرطان مائة وثمانون مشرقاً. ومائة وثمانون مغرباً، تطلع من كل مشرق منها مرتين، مرة في إقبالها إلينا، ومرة في إدبارها عنا، وتغرب في كل مغرب منها مرتين على نحو ذلك. وقوله: (والدوالي والنواعير). الدوالي: جمع دالية، وهي التي يقال لها الخطارة. سميت بذلك لأنها يدلى بها الماء. يقال: أدليت الدلو: إذا أدخلتها في البئر لتملأها، ودلوتها: إذا أخرجتها. قال مسكين الدرامي: بأيديهم مغارف من حديد ... أشها مقيرة الدوالي وقوله: (ولابد له من النظر في جمل الفقه) ... إلى آخر الفصل. فالخراج والخرج سواء، وقرئ بهما جميعاً. وهو قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ}. وقرئ أم تسألهم خراجا فخراج ربك خير. ومعنى قوله: الخراج بالضمان: أن من اشترى شيئاً فاستغله مدة، ثم وجد به عيباً يجب

له به رده على صاحبه، فإنه يرده، ولا يرد ما استغله منه، لأنه كان ضامناً له لو تلف عنده، قبل ظهور العيب به. وقوله: (وجرح العجماء جبار) العجماء: البهيمة، سميت عجماء لامتناعها من الكلام، والجبار: الهدر الذي لا دية فيه. ومعناه: أن كل حدث أحدثته الدابة، هدر، لا دية فيه، إذا لم يكن معها قائد ولا راكب، ولا سائق فإن كان معها واحد من هؤلاء، كان مأخوذاً بما أحدثته، إلا فيما لا يمكنه منعها منه، كالركض بالرجل. وقد جاء في الحديث: الرجل جبار. وقوله: (ولا يغلق الرهن) يقال: غلق الرهن، وذلك على وجهين: أحدهما: أن يضيع عند المرتهن أو يمسكه عن صاحبه، ولا يصرفه عليه. وهذا المعنى هو المراد بالحديث. وذلك أن الرجل في الجاهلية، كان يبيع السلعة من الرجل فيرغب إليه المبتاع أن يؤخره بالثمن إلى أجل معلوم، فيأبى البائع من تأخيره إلا برهن يضعه عنده. فإذا رأي الرهن يساوي أكثر مما له عنده، أمسكه بما له قبله، ولم يصرفه عليه، فهذا أحد المعنيين. والآخر أن الرجل كان يرهن الرهن ثم لا يريد أن يفكه إذا رأى أن رهنه لا يساوي القيمة التي عليه. وهو عكس القول الأول. وكلاهما قد فسر به الحديث، وإن كان التفسير الأول أظهر

التفسيرين. ومن هذا المعنى الثاني ما روى في تفسير قولهم: أهون من قعيس على عمته. قالوا: أصله أن (قعيستا) رهنته عمته في جزرة بقل اشترتها، لم ثم لم تفكه وقال: غلق الرهن. وقوله: (والمنحة مردودة) المنحة، والمنيحة: الشاة أو الناقة يعيرها الرجل صاحبه، لينتفع بلبنها مدة ثم يردها. فأراد أن إعطاءه إياها ليس يخرجها عن ملك صاحبها، إلا أن يعطيها إياه على وجه الهبة، فليس له أن يرجع فيما وهب، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الراجع في هبته كالراجع في قيئه)) وقوله: (والعارية مؤداة): يريد أن إعارته إياها لا يخرجها عن ملكه، كما لم يخرج المنحة عن ملكه منحه إياها. والعارية أعم من المنحة، لأنها لا تقع على كل ما أعطاه الإنسان إعطاء ينوي استرجاعه، إذا قضي المستعير منه حاجته، فكل منحة عارية، وليست كل عارية منحة. واشتقاق العارية من التعاور وهو تداول الرجلين الشيء يفعله هذا حيناً، ويفعله هذا حيناً، ويقال: عاورته الشيء، معاورة وعواراً، كما تقول: داولته الشيء مداولة ودوالا، قال ذو الرمة: وسقط كعين الديك عاورت صاحبي ... أباها وهيأنا لموقعها وكرا ووزن عارية على هذا (فعليه)، وأصلها عورية، انقلبت واوها ألفاً، لتحركها وانفتاح ما قبلها.

وزعم بعض العلماء أنها منسوبة إلى العار، لأن استعارتها عار على مستعيرها وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد استعار أدراعا من صفوان بن أمية، ولو كان ذلك عاراً ما فعله. والثاني. أن العار عينه ياء، ويدل على ذلك قولهم عيرته، كذا قال النابغة: وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل على بأن أخشاك من عار وعين العارية واو. فلا يجوز أن يكون أحدهما مشتقاً من الآخر. والدليل على أن العين من عارية واو، قولهم: تعاورنا العواري بيننا. وما أنشدنا من بيت ذي الرمة المتقدم. وقوله: (والزعيم غارم). الزعيم: الضامن. يقال: زعمت بالشيء أزعم زعامة. كقولك: كفلت به أكفل كفالة، قال أمية بن أبي الصلت: وإني زعيم لكم أنه ... سينجز كم ربكم ما زعم وقوله: (ولا وصية لوارث) معناه، أن الرجل إذا مات وأوصى بثلث ماله للمساكين، فليس لمن يرثه من مساكين أهله حظ في ذلك الثلث، وإنما هو لمن لاحظ له في ميراثه. وقوله: (ولا قطع في ثمر ولا كثر)، الكثر: الجمار، واحده كثرة، ومعناه: أن السارق إذا سرق ثمراً من شجرة، أو كثراً من

نخلة، ولم يكن تحت ثقاف وحرز، لم يلزمه قطع يده. ولكن يؤدب بما يراه الإمام. فإذا كان ذلك تحت حرز وثقاف، وسرق منه قدر ربع دينار. لزمه قطع يده. وقوله (ولا قود إلا بحديدة) القود: القصاص. ومعناه أن القاتل إذا قتل رجلاً بأي أنواع القتل كان، فإنما يقتص منه بالسيف. ومن الفقهاء من يرى أن يفعل به مثل ما فعل. وقوله (والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية) أي تساويه في العقل. فإذا بلغ العقل ثلث الدية، أخذت نصف ما يأخذه الرجل. والدية مائة بعير، أو قيمتها من الذهب أو الدراهم. فإن قطع لها إصبع وللرجل إصبع، أخذ كل واحد منهما عشراً من الإبل، فإن قطع للمرأة إصبعان وللرجل إصبعان، أخذ كل منهما عشرين من الإبل، وكذلك يأخذ كل واحد منهما في ثلاث أصابع ثلاثين. فإن قطع كل واحد منهما أربع أصابع، أخذ الرجل أربعين من الإبل وأخذت المرأة عشرين، لأن الدية قد تجاوزت الثلث. وقوله (ولا تعقل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً) العاقلة: أهل الزوجة وقرابته الذين يغرمون عنه الدية، أي إنما يعقلون عنه، إذا قتل خطأ، فأما إذا قتل عمداً، فإن الدية، عليه في صميم ماله، إن رضى بذلك ولي المقتول. ومعنى العبد: أن يقتل الرجل عبداً لغيره، فتلزمه قيمته في صميم ماله. والصلح: أن يصالح أولياء المقتول على شيء يعطيهم

إياه. والاعتراف: أن يقر على نفسه بأنه قتل بأنه قتل خطأ، فتلزمه الدية في ماله أيضاً. وقوله: (ولا طلاق في إغلاق): الإغلاق: الإكراه. واشتقاقه من أغلقت الباب إغلاقاً، كأن المكره سدت عليه الأبواب والسبل، فلم يجد بداً من الطلاق. وزعم بعض الناس أن الإغلاق الغضب. والإغلاق وإن كان يوجد في اللغة بمعنى الغضب، فليس المراد هنا بالحديث. ولو كان هذا صحيحاً لم يلزم أحداً طلاق، لأن كل مطلق لا يطلق إلا وهو غضبان على، عرسه غير راض. وقوله: (والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا) يعني بالبيعين: البائع والمشتري، لأن البيع في كلام العرب من الأضداد. واختلف الفقهاء في صفة الافتراق، فمنهم من يرى أنه تباعد الأشخاص وتباينها. ومنهم من يرى أنه الافتراق بالعقد، وانقطاع الكلام، وإن لم يفترق الأشخاص. وقوله: (والجار أحق بصقبه) يريد بذلك الشفعة. وبهذا الحديث أوجب العراقيون الشفعة للجار. وأما الحجازيون من الفقهاء، فإنهم لا يرون الشفعة إلا للشريك. والصقب على وجهين: يكون القرب، ويكون الشيء القريب بعينه. وقوله: (والطلاق بالرجال، والعدة بالنساء). هذا مذهب عثمان بن عفان- رضي الله عنه- ومعناه: أن الحرة إذا كانت تحت مملوك بانت عنه

بطلقتين، واعتدت ثلاثة قروء، وهي الأطهار على مذهب الحجازيين، والحيض على مذهب العراقيين. وإذا كانت مملوكة تحت حر بانت عنه بثلاث طلقات، واعتدت قرءين، فينظر في الطلاق إلى الرجل، وفي العدة إلى المرأة. وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: الطلاق بالنساء والعدة بالنساء، لا ينظر إلى الرجل في شيء من الطلاق. فإن كانت حرة تحت مملوك، بانت عنه بثلاث طلقات، واعتدت ثلاثة قروء. وإن كانت مملوكة تحت حر، بانت عنه بطلقتين، واعتدت قرءين. فأما الفقهاء الحجازيون فأخذوا بمذهب عثمان، فجرت عليه أحكامهم. وأما الفقهاء العراقيون فأخذوا بمذهب علي، فجرت عليه أحكامهم. وفي هذا قول ثالث، قاله عبد الله بن عمر رضي الله عنه، لم يجر به حكم، وهو أنه قال: يقع الطلاق بمن رق منهما. وقوله: (وكنهيه في البيوع عن المخابرة) والمخابرة: المزارعة على جزء مما يخرج من الأرض، كالثلث والربع ونحوهما. وفي اشتقاقها قولان: أحدهما أنها مشتقة من الخبرة وهو النصيب، والخبرة أيضاً أن يشتري قوم شاة فيقتسموها .. قال عروة بن الورد: إذا ما جعلت الشاة للقوم خبرة ... فشأنك أني ذاهب لشئوني والثاني: قول ابن الأعرابي، كان يزعم أنها مشتقة من خيبر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أقرها بأيدي أصحابها حين افتتحها، على أن يأخذ منهم

نصف غلاتها. ثم تنازعوا، فنهى عن ذلك. ويقال للأكار: خبير. ويقال للمخابرة: خبر أيضاً، بكسر الخاء. (والمحاقلة): فيها ثلاثة أقوال: قال قوم: هي بيع الزرع في سنبله بالحنطة ونحوها. وقيل: هي كراء الأرض ببعض ما يخرج منها من الطعام. وقيل: هي مثل المخابرة. وهذا القول أشبه بها من طريق اللغة، لأنها مأخوذة من الحقل وهو القراح. ويقال له: المحقل أيضاً. وقال الراجز. يخطر بالمنجل وسط الحقل ... يوم الحصاد خطران الفحل (والمزابنة): بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر كيلاً، وبيع العنب بالزبيب كيلاً، واشتقاقها من الزبن، وهو الدفع: يقال: زبنت الناقة الحالب إذا ضربته برجلها عند الحلب. وتزابن الرجلان: إذا تخاصما. ومنه قيل: حرب زبون، لأن الناس يفرون عنها، فكأنها تزبنهم. ويجوز أن يكون قيل لها زبون، لأن كل واحد من الفريقين يزبن صاحبه، فنسب الزبن إليها. والمراد: أهلها الذين يتزابنون، كما قال تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}. وإنما الكذب والخطأ لصاحبها. قال أبو الغول الطهوي: فوارس لا يملون المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبون

فسميت هذه المبايعة مزابنة، لأن المشتري إذا بان له أنه مغبون، أراد فسخ البيع، وأراد البائع إمضاءه، فتزابنا، أي تدافعاً وتخاصما. وكان مالك رضي الله عنه يجعل المزاينة في كل شيء، من الجزاف الذي لا يعلم كيله، ولا وزنه، ولا عدده، بيع شيء [غير] مسمى الكيل والوزن والعدد. (والمعاومة) فيها قولان: قال قوم: هي بيع عصير الكرم لعامين، وكذلك حمل النخل ونحوه من الشجر. وهذا دخل في بيع الغرر، لأنه لا يجوز بيع شيء منها حتى يبدو صلاحه. وقال قوم: هي مبايعة كانت في الجاهلية يبيع الرجل من صاحبه السلعة مؤجلاً عنه ثمنها إلى انقضاء عام، فإذا انقضى العام واقتضاه الثمن، قال: ليس عندي مال، ولكن أضعف على العدد، وأجلني به إلى انقضاء عام آخر. (والثنيا): بيع الغرر المجهول الكيل والوزن. والاستثناء منه، وذلك غير جائز، لأن المستثنى منه ربما أتى على جميعه. فمن الفقهاء من لا يجيزه لا فيما قل، ولا فيما كثر. ومنهم من يجيزه إن كان المستثنى الثلث فما دونه، ولا يجيزه إن كان أكثر منه.

(وبيع ما لا يقبض): أن يبيع الرجل الشيء قبل أن يقبضه، وإن باعه بأكثر من الثمن الذي اشتراه، فهو ربح ما لم يضمن. (والبيع والسلف): أن يقول الرجل لصاحبه: أبيعك هذه السلعة بكذا وكذا درهماً، على أن تسلفني كذا وكذا، لأنه لا يؤمن أن يكون باعه السلعة بأقل من ثمنها، من أجل القرض. وقوله: (شرطان في بيع): أن يقول الرجل لصاحبه أبيعك هذه السلعة إلى شهر بدينار، وإلى شهرين بثلاثة دنانير وهو شبيه بيعتين في بيعة. وهذا غير جائز. فأما بيع وشرط.، ففيه خلاف. قال عبد الوارث بن سعيد: وردت مكة حاجاً فألفيت فيها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، فقلت لأبي حنيفة: ما تقول في رجل باع بيعاً وشرط شرطاً، فقال: البيع باطل، والشرط باطل. فأتيت ابن أبي ليلى فسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز، والشرط باطل. فأتيت ابن شبرمة،

فسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت: يا سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة. قال: فأتيت أبا حنيفة، فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، فالبيع باطل، والشرط باطل. قال: فأتيت ابن أبي ليلى، فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك، حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشترى بريرة فأعتقها. البيع جائز، والشرط باطل. قال: فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما قالا لك. حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار، عن جابر قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعيرا، وشرط لي حملانه) إلى المدينة، فالبيع جائز، والشرط جائز ويروي ناقة. (وبيع الغرر): يقع في أشياء كثيرة، كبيع الجنين في بطن أمه، وبيع العبد في حين إباقة، وبيع عصير الكرم قبل أن يبدو صلاحه. وكذلك كل شيء لا يكون المبتاع منه على ثقة. (وبيع المواصفة): أن تبيع الشيء بالصفة من غير نظر إليه. (وبيع الكالئ بالكالئ): بيع الدين بالدين، كالرجل يسلم إلى رجل في طعام. فإذا حان وقت تقاضي الطعام، قال له المسلم

إليه: ليس عندي طعام أعطيكه. ولكن بعه مني. فإذا باعه منه قال: ليس عندي مال، ولكن أجلني بالثمن شهراً. وكان الأصمعي لا يهمز الكالئ ويحتج بقول الشاعر: وإذا تبا شرك الهمو ... م فإنها كال وناجز وأما أبو عبيدة معمر بن المثني، فإنه كان يهمزه، ويحتج يقول الراجز: وعينه كالكالئ المضمار والذي قاله أبو عبيدة هو الصحيح. والدليل على ذلك قولهم: تكلأت كلأة: إذا أخذت نسيئة. وكلأ الشيء: إذا بلغ منتهاه وغايته. قال الشاعر: تعففت عنها في العصور التي خلت ... فكيف التصابي بعدما كلأ العمر وأما البيت الذي أنشده الأصمعي فلا حجة فيه، لأنه جاء على تخفيف الهمزة كما قال الآخر. وكنت أذل من وتد بقاع ... يشجج رأسه بالقهر واج أراد: واجئ. وقوله: (وعن تلقى الركبان): كانوا يخرجون إلى الركبان قبل

قبل وصولها إلى المصر، فيبتاعون السلع بأقل من أثمانها، ويخدعون الأعراب. ثم يأتون بتلك السلع إلى المصر فيبيعونها ويلغون في أثمانها: ولو ورد الأعراب بها لاشتريت منهم بأقل من ذلك، فنهوا عن ذلك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوا عباد الله يصيب بعضهم من بعض)). وقوله: (ليدخلها في تضاعيف سطوره): يريد بين سطوره، وفي أثنائها. وعيون الحديث: خياره. وعين كل شيء: أفضله. قال الشاعر: قالوا خذ العين من كل فقلت لهم ... في العين فضل ولكن ناظر العين حرفان في ألف طومار مسودة ... وربما لم تجد في الألف حرفين وقوله: (ويصل بها كلامه إذا حاور) المحاورة: مراجعة الكلام. يقال: حاورته محاورة وحوار، قال عنترة: لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو يدري الكلام مكلمي وقال النابغة: بتكلم لو تستطيع حواره ... لدنت له أروى الهضاب الصخد

وقوله: (ومدار الأمر على القطب وهو العقل): أصل القطب ما تدور عليه الرحى، وما تدور عليه البكرة. وفيه أربع لغات: قطب على وزن خرج، وقطب على وزن فلس، وقطب على وزن عدل، وقطب على وزن عنق. وجعل عقل الإنسان قطبا له، لأن مدار أموره عليه، كما أن مدار الرحى على قطبها. وقوله: (وجودة القريحة): أصل القريحة: أول ما يخرج من ماء البئر عند حفرها. وقريح السحابة: ماؤها حين ينزل. والاقتراح: ابتداع الشيء، فكأن معنى قريحة الإنسان ذهنه، وما يستخرجه به مع المعاني. وقوله: (ونحن نستحب لمن قبل غنا وأتم بكتبنا): يريد: أن المتأدب أحوج إلى تأديب أخلاقه، منه إلى تأديب لسانه. وذلك أنك تجد من العامة الذين لم ينظروا في شيء من الأدب، من هو حسن اللقاء، جميل المعاملة، حلو الشمائل، مكرم لجليسه. وتجد في ذوي الأدب، من أفنى دهره في القراءة والنظر، وهو مع ذلك قبيح اللقاء، سيئ المعاملة، جافى الشمائل، غليظ الطبع. ولذلك قيل: الأدب نوعان: أدب خبرة، وأدب عشرة. وقال الشاعر: يا سائلي عن أدب الخبرة ... أحسن منه أدب العشرة كم من فتى تكثر آدابه ... أخلاقه من علمه صفره والخطل من القول: الكثير في فساد. يقال: رجل أخطل: إذا كان بذئ اللسان. وبه سمى الأخطل في بعض الأقوال، وذلك أن كعب بن جعيل، كان شاعر تغلب في زمانه، وكان لا ينزل بقوم منهم إلا أكرموه، فنزل برهط الأخطل، فجمعوا له غنماً وحظروا عليها في حظيرة، فجاء

الأخطل- وإسمه: غويث بن غياث- وهو يومئذ صبي، فأخرج الغنم من الحظيرة، فخرج كعب إليه فشتمه، ودعا قوماً، فأعانوه على ردها إلى الحظيرة. فارتقب الأخطل غفلته، فأخرجها من الزريبة، فقال كعب: يا بني مالك، كفوا عني غلامكم. فقال الأخطل: إن هجوتنا هجوناك. فقال: ومن يهجوني؟ قال: أنا فقال كعب: ويل لذاك الوجه غب الحمة. أراد غبا الحمة فحذف التنوين لالتقاء الساكنين والحمة: السواد: فقال الأخطل ... ... فقال كعب بن جعيل،: إن غلامكم هذا لأخطل، ولج بينهما الهجاء، فقال الأخطل: وسميت كعباً بشر العظام ... وكان أبوك يسمى الجعل وأنت مكانك من وائل ... مكان القراد من است الجمل ففزع كعب وقال: والله لقد هجوت نفسي بالبيت الأول من هذين البيتين وعلمت أني سأهجى به. وقد قيل: إنه سمى الأخطل، لأن ابني جعيل وأمهما تحاكموا إليه، فقال: لعمرك إنني وابني جعيل ... وأمهما لإستار لئيم فقالوا له: إنك الأخطل. والإستار: أربعة من العدد ورفث المزح ما كان فيه ذكر النكاح والإسوة والأسوة بكسر الهمزة وضمها: القدوة .. والدعابة: الفكاهة. والمزاح: [مصدر، مازح]، ويقال: مزح ومزاح، ومزاحة وممازحة، بمعنى واحد.

ويقال: توفى الرجل: إذا مات وتوفى: إذا نام. لأن حال النوم حال تضارع الموت، كما أن حال اليقظة، تضارع حال الحياة. ولذلك قال الشاعر: نموت ونحيا كل يوم وليلة ... ولابد يوماً أن تموت ولا نحيا وقال المعري: وبين الردى والنوم قربى ونسبة ... وشتان برء للنفوس وإعلال والرجل الذي سئل عنه ابن سيرين، اسمه هشام بن حسان، غاب عن مجلس ابن سيرين فقال له رجل:- أحسبه غالباً التمار-، فلماذا أرى هشاماً قد غاب اليوم عن مجلسنا؟ فقال ابن سيرين أما علمت أنه توفى البارحة؟ اقتضى ذكر الشيء الملفف في البجاد وذكر السخينة في هذه الممازحة، أن معاوية كان قرشياً، وكانت قريش تعير بأكل السخينة، وكان السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما بعث فيهم، وكفروا به، دعا الله تعالى عليهم، وقال: ((اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف)) فأجدبوا سبع سنين، فكانوا يأكلون الوبر بالدم، ويسمونه العلهز. وكان أكثر قريش إذ ذاك يأكلون السخينة، فكانت قريش تلقب (سخينة). ولذلك يقول حسان بن ثابت: زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب

وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى، أن قريشاً كانت تلقب سخينة، لأكلهم السخن، وأنه لقب لزمهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل على صحة ما ذكره قول خداش بن زهير، ولم يدرك الإسلام: ياشدة ما شددنا يوم ذاك على ... ذوى سخينة لولا الليل والحرم وأما الأحنف بن قيس فإنه كان تميماً. وكانت تميم تعير بحب الطعام وشدة الشرة إليه. وكان السبب الذي جر دلك، أن أسعد بن المنذر أخا عمرو ابن هند، كان مسترضعاً في بني دارم في حجر حاجب بن زرارة بن عدس. وقيل في حجر زرارة، فخرج يوماً يتصيد، فلم يصب شيئاً، فمر بإبل سويد بن ربيعة الدرامي، فنحر منها بكره فقتله سويد. فقال عمرو بن ملقط الطائي يحرض عمرو بن هند: من مبلغ عمرا بأن ... المرء لم يخلق صباره ونوائب الأيام لا ... تبقى عليهم الحجارة ها إن عجزة أمه ... بالسفح أسفل من أواره تسفى الرياح خلال كش ... حية وقد سلبوا إزاره فاقتل زرارة لا أرى ... في القوم أوفى من زراره

فغزاهم عمرو بن هند يوم القصيبة، ويوم أواراة ثم أقسم ليحرقن منهم مائة رجل، فبذلك سمى محرقاً. فأخذ لهم منه تسعة وتسعون رجلاً، فقذفهم في النار. وأراد أن يبر قسمه بعجوز منهم، ليكمل العدة التي أقسم عليها. فلما أمر بها قالت: ألا من فتى يفدى هذه العجوز بنفسه!! ثم قالت: (هيهات صارت الفتيان حمما)!، وأدركه النهم والشره، فأقبل حتى وقف على الملك فقال: من أنت؟ فقال: وافد البراجم. فقال عمرو: إن الشقي وافد البراجم فذهبت مثلاً، ثم أمر به فقذف في النار. ففي ذلك يقول جرير يعير الفرزدق: أين الذين بنار عمرو حرقوا ... أم أين أسعد فيكم المسترضع وقال أيضاً: وأخزاكم عمرو كما قد خزيتم ... وأدرك عماراً شقي البراجم

وقال الطرماح ودارم قد قذفنا منهم مائة ... في جاحم النار إذ ينزون بالجدد ينزون بالمستوى منها ويوقدها ... عمرو ولولا شحوم القوم لم تقد ولذلك عيرت بنو تميم بحب الطعام لطمع البرجمي في الأكل. فقال يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي: ألا أبلغ لديك بني تميم ... بآية ما يحبون الطعاما وقال أبو المهوش الأسدي: إذا ما مات ميت من تميم ... وسرك أن يعيش فجئ بزاد بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشيء الملفف في البجاد تراه يطوف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد قوله: (إذا ما مات ميت من تميم): فيه رد علي أبي حاتم السجستاني ومن ذهب مذهبه، لأن أبا حاتم كان يقول: قول العامة مات الميت: خطأ والصواب: مات الحي. وهذا الذي أنكره غير منكر، لأن الحي قد يجوز أن يسمى ميتاً، لأن أمره يئول إلى الميت. كما يقال للزرع قصيل، لأنه يقصل أي يقطع. وتقول العرب: بئس الرمية الأرنب، فيسمونها رمية، لأنها مما يرمي. ويقال للكبش الذي يراد ذبحه: ذبيحة، وهو لم يذبح،

وأضحية ولم يضح بها. وقال الله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} وإنما يعصر العنب وهذا النوع في كلام العرب كثير. والعجب من إنكار أبي حاتم إياه مع كثرته. وقد فرق قوم بين الميت بالتشديد، والميت بالتخفيف. فقالوا: الميت بالتشديد: ما سيموت، والميت بالتخفيف: ما قد مات. وهذا خطأ في القياس، ومخالف للسماع. أما القياس، فإن ميت المخفف إنما أصله ميت فخفف. وتخفيفه لم يحدث فيه معنى مخالفاً لمعناه في حال التشديد، كما يقال: هين وهين، ولين ولين، فكما أن التخفيف في هين ولين لم يحل معناهما، فكذلك تخفيف ميت. وأما السماع فإنا وجدنا العرب لم تجعل بينهما فرقاً في الاستعمال، ومن أبين ما جاء في ذلك قول الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء وقال ابن قنعاس الأسدي: ألا يا ليتني والمرء ميت ... وما يغني عن الحدثان ليت

ففي البيت الأول سوى بينهما. وفي البيت الثاني جعل الميت المخفف: الحي الذي لم يمت، ألا ترى أن معناه والمرء سيموت، فجرى مجرى قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. وقال آخر: إذا شئت آذاني صروم مشيع ... معي وعقام تتقي الفحل مقلت يطوف بها من جانبيها ويتقي ... بها الشمس حتى في الأكارع ميت يريد الظل: فجعل الميت (بالتشديد): ما قد مات. وقوله: (بخبز أو بتمر أو بسمن) بدل من قوله: بزاد. أعاد معه حرف الجر، كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ} والملفف في البجاد: وطب اللبن، يلف فيه، ويترك حتى يروب. والوطب: زق اللبن خاصة. والبجاد: الكساء فيه خطوط. وقوله: (حرصا) ينتصب على وجهين: أحدهما: أن يكون مصدراً سد مسد الحال، كما يقال: جئته ركضا، وخرجت عدواً، يريد: راكضاً، وعادياً، وحريصاً. والوجه الثاني: أن يكون مفعولاً من أجله. وإنما ذكر لقمان بن عاد لجلالته وعظمته. يريد أنه لشدة نهمه وشرهه إذا ظفر بأكلة، فكأنه قد ظفر برأس لقمان، لسروره بما نال، وإعجابه بما وصل إليه. وهذا كما يقال لمن يزهي بما فعل، ويفخر بما أدركه، كأنه قد جاء برأس خاقان.

وهذا الكلام الذي درى بين معاوية والأحنف يسمى التعريض، لأن كل واحد منهما عرض لصاحبه بما تسب به قبيلته، من غير تصريح. ونظيره ما يحكى أن رجلاً من بني نمير زار رجلاً من بني فقعس، فقال له الفقعسي: مالك لا تزورنا؟ فقال له النميري: والله إني لآتيك زائراً مراراً كثيرة. ولكني أجد على بابك شيئاً قذرا، فأنصرف ولا أدخل. فقال له الفقعسي: اطرح عليه شيئاً من تراب وادخل. عرض له النميري بقول الشاعر: ينام الفقعسي ولا يصلي ... ويحدث فوق قارعة الطريق وعرض له الفقعسي بقول جرير في هجائه بني نمير: ولو وطئت نساء بني نمير ... على التوراب أخبثن الترابا ويشبه ذلك أيضاً ما يروي من أن شريك بن عبد الله النميري، ساير عمر بن هبيرة الفزاري يوماً فبدرت بغلة شريك، فقال له ابن هبيرة: غض من لجام بغلتك فقال شريك: إنها مكتوبة أصلح الله الأمير: فضحك ابن هبيرة وقال: لم أرد ما ذهبت إليه وتوهمته. عرض له ابن هبيرة بقول الشاعر: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا وعرض له شريك بن عبد الله بقول سالم بن دارة:

تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصيك واكتبها بأسيار وكان بنو فزارة ينسبون إلى غشيان الإبل. وقوله: (وأراد الأحنف أن قريشاً كانت تعير بأكل السخينة) هكذا رويناه عن أبي نصر، عن أبي علي البغدادي. وهذا يخالف ابن قتيبة في هذا الكتاب، لأنه قال: وتقول: عيرتني كذا، ولا تقول: عيرتني بكذا. وأنشد للنابغة. وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل على بأن أخشاك من عار وقد تأملته في عدة من النسخ المضبوطة الصحاح، فوجدته بالباء. والصحيح في هذا أنهما لغتان، وإسقاط الباء أفصح وأكثر والحساء والحسو: لغتان. والعجف: الضعف والهزال. وأراد بالمال هاهنا: الحيوان. وكذا تستعمله العرب في أكثر كلامها. وقد يجعلون المال اسماً لكل ما يملكه الإنسان: من ناطق وصامت. قال الله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ} وقال {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} فالمال في هاتين الآيتين عام لكل ما يملك، لا يخص به شيء دون شيء. وكلب الزمان! شدته. وأصل الكلب: سعار يصيب الكلاب، فضرب بذلك مثلاً للزمان الذي يذهب بالأموال، ويتعرق الأجسام، كما سموا السنة الشديدة ضبعاً، تشبيها له بالضبع.

وقالوا: أكله الدهر، وتعرقة الزمان. قال العباسي بن مرداس السلمي أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع وقوله: (ونستحب له أن يدع في كلامه التقعير والتعقيب) قال أبو علي: التقعير: أن يتكلم بأقصى قعر فمه. يقال: قعر في كلامه تقعيراً. وهو مأخوذ من قولهم: قعرت البئر وأقعرتها: إذا عظمت قعرها. وإناء قعران، إذا كان عظيم القعر، فكأن المقعر: الذي يتوسع في الكلام ويتشدق. ويجوز أن يكون من قولهم: قعرت النخلة فانقعرت: إذا قلعتها من أصلها، فلم تبق منها شيئاً. فيكون معنى المقعر من الرجال الذي لا يبقى من الفصاحة والتشدق إلا أتى عليها. والتقعيب: أن يصير فمه عند التكلم كالقعب، وهو القدح الصغير وقد يكون الكبير. وقوله: (أن سألتك ثمن شكرها وشبرك) أنشأت تطلها وتضهلها): الشكر: الفرج. والشبر: النكاح. يقال: شبر الفحل الناقة: إذا علاها. وفي الحديث أنه نهى عن شبر الفحل، والمعنى عن ثمن شبر الفحل، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقوله: (أنشأت): أقبلت وابتدأت. ومنه يقال: أنشأ الشاعر يقول كذا. ومنه قول الراجز:

يا ليت أم الغمر كانت صاحبي ... مكان من أنشأ على الركائب ومعنى تطلها: تسعى في بطلان حقها من قولهم: طل دمه وأطل: ذهب هدراً ويجوز أنه يريد يقلل لها العطاء، فيكون مأخوذاً من الطل، وهو أضعف المطر. يقال: طلت الروضة: إذا أصابها الطل فهي مطلولة. قال الشاعر: لها مقلتا أدماء طل خميلة ... من الوحش ما تنفك ترعى عرارها وهذا بيت مشكل الإعراب لأن فيه تقديماً وتأخيراً. وتقديره: لها مقلتا أدماء من الوحش، ما تنفك ترعى خميلة طل عرارها. فانتصب الخميلة بترعى وارتفع العرار بطل. وقوله: (وتضهلها): أي تعطيها حقها شيئاً بعد شيء، من قولهم: بئر ضهول: إذا كان ماؤها يخرج من جرابها، وهو ناحيتها، وإنما يكثر ماؤها إذا خرج من قعرها. وقوله: (وكقول عيسى بن عمر ويوسف بن هبيرة يضربه بالسياط) كذا رويناه من طريق أبي نصر، عن أبي علي البغدادي. ولم يكن ابن هبيرة

الضارب لعيسى ابن عمر، إنما الضارب له يوسف بن عمر الثقفي في ولايته العراق، بعد خالد بن عبد الله القسري. ووجدت في بعض النسخ عن أبي علي البغدادي: (ويوسف بن عمر بن هبيرة بضربه بالسياط)، فإن كان هذا صحيحاً، فكلام ابن قتيبة لا اعتراض فيه. ووقع في طبقات النحويين واللغويين للزبيدي على ما ذكره ابن قتيبة. وكان عيسى ابن عمر هذا شديد التقعير في كلامه. ومما يحكى من تشدقه أنه قال: أتيت الحسن البصري مجرمزاً حتى اقعنبيت بين يديه، فقلت له: يا أبا سعيد: أرأيت قول الله تعالى {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} فقال: هو الطبيع في كفراه. ولعمري إن الآية لأبين من تفسيره. والطلع: أول ما يطلع في النخلة من حملها قبل أن ينشق عنه غشاؤه الذي يستره، فإذا انشق عنه غشاؤه، قيل له: الضحك، لأنه أبيض يشبه انشقاقه وبروزه بظهور الأسنان عند الضحك. والطبيع بكسر الطاء والباء وتشديدهما: الطلع بعينه. ويقال له: الطبيع أيضاً بفتح الطاء، وتخفيف الباء، والكفرى بضم الفاء وفتحها: الغشاء الذي يكون فيه الطلع. ويقال له أيضاً: الكمام والكم. قال الله تعالى {ومَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا} والمجرمز: المسرع. ومعنى اقعنبيت: جلست جلسة مستوفز.

ويروى أن رجلاً من المتقعرين مرضت أمه، فأمرته أن يصير إلى المسجد، ويسأل الناس الدعاء لها، فكتب في حيطان المسجد صين وأعين رجل دعا لامرأة مقسئنة عليلة، بليت بأكل هذا الطرموق الخبيث، أن يمن الله عليها بالاطرغشاش والابرغشاش. فما قرأ أحد الكتاب إلا لعنه وأمه. يريد بقوله: صين وأعين: صانه الله وأعانه، على معنى الدعاء. والمقسئنة: المتناهية في الهرم والشنج. يقال اقسأن العود إذا اشتد وصلب وذهبت عنه الرطوبة واللين والطرموق: الطفل فإذا قلت الطمروق، بتقديم الميم على الراء: هو الخفاش. ويقال: اطرغش الرجل من من مرضه وابرغش، وتقشقش: إذا أفاق وبرأ. وكان يقال {قُلْ هُو اللهُ أَحَد} و {قٌلْ يَا أَيُّها الكَافِرُون} المقشقشتان. يراد أنهما تبرئان حافظهما من النفاق والكفر، قال الشاعر: أعيذك بالمقشقشتين مما ... أحاذره ومن شر العيون وكان أبو علقمة النحوي ممن ينحو نحو عيسى بن عمر في التقعر. وكان يعتريه هيجان مراراً في بعض الأوقات. فهاج به في بعض الطريق فسقط إلى الأرض مغشياً عليه. فاجتمع الناس حوله، وظنوه مجنوناً. فجعلوا يقرءون في أذنه، ويعضون على إبهامه. فلما ذهب ما كان به، فتح عينيه، فنظر إلى

الناس يزدحمون عليه فقال: ما لكم تتكأكئون على كأنما تتكأكئون على ذي جنة. افرنقعوا عني. فقال رجل منهم: فإنه شيطانه يتكلم بالهندية. يقال: تكأكأ الرجل عن الشيء: إذا انحنى وتقاصر دونه. ومنه قيل للقصير: متكأكئ. وتكأكأ القوم: إذا تضايقوا وازدحموا. فإذا قيل: تكأكأ عن الشيء، فمعناه: ارتدع ونكص على عقبه. وإلا فرنقاع: الزوال عن الشيء. ومن طريف أخبار المتقعرين ما روى من أن الجرجرائي كان له كاتب يتقعر في كلامه، فدخل الحمام في السحر، فوجده خالياً. فقال لبعض الخدم: ناولني الحديدة التي تمتلخ بها الطؤطؤة من الإخفيق. فلم يفهم قوله. وعلم بهيئة الحال أنه يطلب ما يزيل به الشعر عن عانته، فأخذ كستبان النورة، فصبه عليه. فخرج وشكا به إلى صاحب المدينة، فأمر بالخادم إلى السجن. فوصل الأمر بالجرجرائي فضحك، واستطرف ما جرى. وأمر بالخادم فأطلق، وألحقه بجملة أتباعه. أراد بقوله: تمتلخ: تنزع وتزال، من قولهم: أمتلخت غصناً من من الشجر: إذا قطعته. وملخت اللجام عن رأس الفرس: إذا نزعته.

والطؤطؤة: شعر العانة. ويقال له: الشعرة أيضاً. والإخفيق: الشق يكون في الأرض. ويقال: استحد الرجل واستعان: إذا حلق عانته. حكاه أبو عمر المطرز. ويقال من النورة: انتار الرجل انتياراً، وانتور انتوراً، وتنور تنوراً وكان أبو العباس أحمد بن يحيي ثعلب ينكر تنور، ويزعم أنه لا يقال: تنور إلا إذا نظر إلى النار، كما قال امرؤ القيس: تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال وقد أنشد أبو تمام في الحماسة ما يدل على خلاف ما قال ثعلب، وهو لعبيد بن قرط الأسدي، وكان دخل الحضرة مع صاحبين له، فأحب صاحباه دخول الحمام، فنهاهما عن ذلك، فأبيا إلا دخوله، ورأيا رجلاً يتنور فسألا عنه فأخبرا بخبر النورة، فأحبا استعمالها فلم يحسنا وأحرقتهما النورة وأضرت بهما فقال عبيد: لعمري لقد حذرت قرطاً وجاره ... ولا ينفع التحذير من ليس يحذر نهيتهما عن نورة أحرقتهما ... وحمام سوء ماءه يتسعر فما منهما إلا أتاني موقعاً ... به أثر من مسها يتعشر

أجدكما لم تعلما أن جارنا ... أبا الحسل بالبيداء لا يتنور ولم تعلما حمامنا في بلادنا ... إذا جعل الحرباء بالجذل يخطر وقوله: (وينافسون في العلم) المنافسة: أن تشتد رغبة الرجل في الشيء، حتى يحسد غيره عليه أو يغبطه. وهي مشتقة من النفس، يراد ميل النفس إلى الأمر، وحرصها عليه. قوله: (ويرونه تلو المقدار) التلو: التابع. فإذا قلت: (تلو) بفتح التاء، فهو المصدر من تلوته أتلوه .. والمقدار هاهنا: بمعنى القدر الذي يراد به القضاء السابق. ومعنى كون العلم تبعا للمقدار، أن الله تعالى قدر في سابق علمه، أن يكون العلم عزا لصاحبه وشرفا. والجهل ذلاً ومهانة، فيه النجاة، وبعدمه الهلاك. وإنما أخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من استرذل الله عبداً إلا حظر عليه العلم والأدب)). وقد ألم أبو الطيب المتنبي بنحو هذا لمعنى في قوله: كأن نوالك بعض القضاء ... فما تعط منه نجده جدوداً ويجوز أن يريد بالمقدار، قيمة الإنسان. كما يقال: ما لفلان عندي قدر ولا قدر، ولا مقدار، أي قيمة. فيكون مثل قول علي رضي الله عنه: قيمة كل امرئ ما يحسن. فإن قال قائل: كان ينبغي على هذا التأويل الثاني أن يقول: ويرون المقدار تلو العلم لأن قيمة الرجل هي التابعة لعلمه. فالجواب أن هذا التأويل يصح على وجهين: أحدهما: أن يزيد مقدار الإنسان

عند الله تعالى أي أن الله تعالى يهب له من العلم بحسب مكانته عنده. وهذا نحو مما ذكرناه من قوله صلى الله عليه وسلم: ما استرذل الله عبداً! إلا حظر عليه العلم والأدب. فيكون راجعاً إلى المعنى الأول. والوجه الثاني: أن يريد مقداره عند الناس، فيكون على هذا الوجه قد أجرى الاسم الذي هو (التلو) مجرى المصدر، الذي هو التلو. كما أجرى القطامي العطاء مجرى الإعطاء في قوله: وبعد عطائك المائة الرتاعا ويكون قد جعل المصدر: بمعنى المفعول، كما قالوا: درهم ضرب الأمير. أي مضروبه. فكأنه قال: ويرونه متلو المقدار، أي يرونه الشيء الذي يتلوه المقدار. ولقائل أن يقول: إن قيمة الإنسان لما كانت مرتبطة بعلمه، صار علمه أيضاً مرتبطاً بقيمته، كالشيئين المتلازمين، اللذين يوجد كل واحد منهما بوجود الآخر، فصار كل واحد منهما تبعاً للآخر من هذه الجهة، وإن لم يكونا كذلك من جهة أخرى. وقوله: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغضكم إلى الثرثارون المتفيهقون المتشدقون).

هذه الألفاظ كلها: يراد بها المتنطعون في الكلام، المكثرون. فاشتقاق الثرثارين من قولهم: عين ثرثارة: إذا كانت كثيرة الماء، وضرع ثرثار: إذا كان غزير اللبن. قال الراجز يصف ناقة: لشخبها في الصحن للاعشار ... بريزة كصخب الممارى واشتقاق المتفيهقين من قولهم: فهق الغدير يفهق: إذا امتلأ ماء، فلم يكن فيه موضع مزيد. قال الأعشي: نفى الذم عن رهط المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق واشتقاق المتشدقين، من الشدقين، يراد به الذين يفحتون أشداقهم بالقول. يقال: رجل أشدق: إذا كان واسع الشدقين، جهير المنطق، متنطعاً في الكلام. وبه سمى عمرو بن سعيد، الأشدق. وفيه يقول القائل: تشادق حتى مال بالقول شدقه ... وكل خطيب لا أبالك أشدق وقد جاء في بعض الحديث، قيل يا رسول الله، وما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون. هذا غير خارج عما قاله أهل اللغة، لأن المتكبر المعجب بنفسه، يدعوه إعجابه بنفسه وتكبره، إلى التنطع في كلامه. وقوله: (ونستحب له إن استطاع أن يعدل بكلامه عن الجهة التي تلزمه مستثقل الإعراب): يقول: لا ينبغي للمتأدب أن يستعمل في كلامه مع عوام

الناس الإعراب، على حسب ما تستحقه الألفاظ في صناعة النحو. فإنه إن فعل ذلك، استخف به، وصار هزأة لمن يسمعه. وخرج إلى التقعر الذي تقدم ذكره. وإنما ينبغي للمتأدب أن يقصد الألفاظ. السهلة، والإعراب السهل، ويكون على كلامه ديباجة وطلاوة، تدل على أنه متأدب ويجعل لكلامه مرتبة بين الألفاظ السوقية، والألفاظ الوحشية فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((خير الأمور أوساطها.)) ومن هذه الجهة أتى المتقعرون. فإنهم حسبوا أن مكانتهم من الأدب لا تعرف حتى يستعملوا الألفاظ الحوشية، فصاروا ضحكة للناس. كما يحكى من أن رجلاً من المتأدبين، أراد شراء أضحية، فقال لبعض البائعين للأضاحي: بكم هذا الكبش (بكسر الكاف)، فضحك كل من سمعه. فلامه بعض أصحابه، وقال له: لم لم تقل كبش (بفتح الكاف) كما يقول الناس؟ فقال: كذا كنت أقول قبل أن أقرأ الأدب. فما الذي أفادتني القراءة إذن. وقوله: (فقد كان واصل بن عطاء سام نفسه للشغة.) ... إلى آخر الفصل. معنى سام نفسه للثغة: كلفها ذلك. واللثغ في اللسان: أن يتعذر عليه النطق بالحرف على وجهه، حتى يقلبه حرفاً آخر. وليس يكون ذلك في كل حرف. إنما يكون في القاف، والكاف، والسين، واللام، والراء، وقد يوجد في الشين المعجمة. فاللثغة في السين، تكون بأن تبدل ثاء، فيقال في ((بسم الله)): بثم الله. واللثغة في القاف تكون بأن تبدل طاء. فيقال في قال لي:

طال لي. وتكون أيضاً بأن تبذل كافاً. فيقال في قال لي: كال لي. واللثغة في الكاف تكون بأن تبدل همزة فيقال في كان كذا: آن إذا. واللثغة في اللام بأن تبدل ياء فيقال في جمل: جمى. وقد تكون بأن تبدل كافاً، فيقال في جمل: جمك كما حكى الجاحظ عن عمر أخي هلال: أنه كان إذا أراد أن يقول: ما العلة في هذا قال، ما اكعكة في هذا. وأما اللثغة التي تعرض في الراء، فذكر الجاحظ أنها تكون في ستة أحرف: العين، والغين، والدال، والياء، واللام، والظاء المعجمة. وذكر أبو حاتم السجستاني أنها تكون أيضاً في الهمزة. وكان واصل بن عطاء فصيح اللسان، حسن المنطق بالحروف كلها إلا الراء، فإنه كان يتعذر عليه إخراجها من مخرجها، فأسقطها من كلامه. فكان يناظر الخصوم ويجادلهم، ويخطب على المنبر، فلا يسمع في منطقة راء. فكان أمره إحدى الأعاجيب. ومما يحكى عنه من تجنبه الراء، قوله وقد ذكر بشاراً بن برد: أما لهذا الأعمى المشنف المكني يأبى معاذ، إنسان يقتله. أما والله لولا أن الغيلة خلق في أخلاق الغالية، لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجه. ثم لا يكون إلا عقيلياً أو سدوسياً. فقال الأعمى، ولم يقل الضرير، ولا بشار بن برد. وقال: المشنف، ولم يقل المرعث،

وبذلك كان يلقب. وقال: إنسان ولم يقل رجل. وقال: الغيلة، ولم يقل الغدر، وهم سواء. وقال: الغالية، ولم يقل المنصورية، ولا المغيرية، وقال: لبعثت، ولم يقل لأرسلت. وقال من يبهج بطنه ولم يقل يبقر. وقال على مضجعه، ولم يقل على فراشه. وقال الجاحظ عن قطرب: أنشدني ضرار بن عمرو قول الشاعر في واصل بن عطاء. ويجعل البر قمحاً في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فعاذ بالغيث إشفاقاً من المطر وقال: سألت عثمان البري: فكيف كان واصل يصنع في العدد في عشرة، وعشرين، وأربعين؟ وكيف كان يصنع بالقمر، ويوم الأربعاء، وشهر رمضان؟ وكيف كان يصنع بالمحرم وصفر، وربيع الأول، وربيع الآخر، ورجب، فقال: مالي فيه قول إلا ما قال صفوان: ملقن ملهم فيما يجادله ... جم خواطره جواب آفاق

وهذه الألفاظ كلها يمكن أن تبدل بألفاظ آخر، لا راء فيها. ولا يتعذر على من كان له بصر باللغة فإنك لا تكاد تجد لفظة فيها راء، إلا وتجد لفظة أخرى في معناها لا راء فيها، لأن العرب توسعت في لغتها، ما لم تتوسع أمة من الأمم، حتى إنك تجدهم قد جعلوا للشيء الواحد عشرة أسماء، وعشرين، وأكثر من ذلك. فقد قيل: إن الأسدله مائة اسم، وكذلك الحمار. وأن للداهية أربعمائة اسم. ولذلك قال علي بن حمزة: من الدواهي كثرة أسماء الدواهي. فكما قالوا الشعر والفرع، فكذلك قالوا: الهلب. وقالوا لما كثر منه: الدبب، ولما صغر: الزغب. والدبب: بالدال غير معجمة. قال الراجز: قشر النساء دبب العروس وكما قالوا: الشعرة والوفرة، فكذلك قالوا: اللمة والجمة. وكما قالوا: الغدائر والضفائر، فكذلك قالوا: النواصي والذوائب، والعقاص والعقائص، والقصائب، والمسائح، والغسن والخصل. وللقمر عشرة أسماء منها ما فيه راء، ومنها ما لا راء فيه. فمن أسمائه التي فيها راء القمر، والباهر، والبدر، والزبرقان والسنمار. ومن أسمائه التي لا راء فيها الطوس، والجلم والغاسق والمتسق، والوباص.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، وأشار إلى القمر، وقال: استعيذي بالله، من هذا، فإنه الغاسق إذا وقب. وأما ما ذكره من أسماء العدد والشهور، فقد كان يمكنه أن يقول مكان عشرة (نواتان)، لأن النواة خمسة دراهم. ويقال لعشرين نش، ولأربعين: أوقية. ويمكنه أن يقول لعشرة: نصف نش، ولأربعين: نشان، قال الراجز: إن التي زوجها المخش ... من نسوة مهورهن النش ويقال لأربعة من العدد: وخزة. ويقال لربيع الأول: خوان. ولربيع الآخر: وبصان، وبصان. ولرجب: منصل الأسنة، ومنصل الأل. قال الأعشي: تداركه في منصل الأل بعدما ... مضى غير دأ داء وقد كاد يعطب وقد كان يمكنه إذا أراد أن يقول المحرم وصفر، أن يقول: مفتتح عامكم والتالي له،. أو أول سنتكم، ونحو ذلك. ويقول مكان جمادي

الأخرى جمادي الثانية ويقول مكان شهر رمضان: أوان صيامكم وإذا أراد أن يقول يوم الأربعاء، قال: اليوم الذي أهلكت فيه عاد، أو يقول: يوم النحس، لأن المفسرين قالوا في تفسير قوله تعالى {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} إنه كان يوم الأربعاء. وقوله: (حتى انقاد له طباعه): قال أبو حاتم: الطباع: واحد مذكر، بمعنى الطبع ومن أنثه ذهب إلى معنى الطبيعة. وقد يجوز أن يكون الطباع جمع طبع بمنزلة كلب وكلاب. وقوله: (وحشي الغريب): يريد ما لم تجر العادة باستعماله، أو كان قليل الاستعمال، شبه بالوحش من الحيوان وهو ما يفر من الإنسان ولا يأنس به. وقوله: (وأنا محتاج إلى أن تنفذ إلى جيشاً لجباً عرمرما): لا أعلم من الكاتب القائل لهذا الكلام. والجيش: العسكر، سمى بذلك، لما فيه من الحركة والاضطراب. واشتق من قولهم: جاشت القدر تجيش: إذا همت بالخروج، قال ابن الإطنابة: وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكنك تحمدي أو تستريحي واللجب: الكثير الأصوات والجلبة، والعرمرم في قول الأصمعي: الكثير الأصوات والجلبة، والعرمرم: الكثير العدد. وفي قول أبي عبيدة: الشديد البأس، مأخوذ من العرامة. وقول أبي عبيدة أشبه بالاشتقاق. وإن كان قول الأصمعي راجعاً إلى نحو ذلك المعنى.

وقوله: (وكقول آخر في كتابه: عضب عارض ألم ألم، فأنهيته عذراً): لا أعلم هذا الكتاب لمن هو. ورأيت في بعض الحواشي المعلقة، أنه أحمد بن شريح الكاتب، ولا أعلم من أحمد بن شريح هذا. ومعنى عضب: قطع. والألم: المرض. وعارضه: ما يعرض للمريض منه. وألم: نزل. وقوله: (فأنهيته عذرا): أي جعلته النهاية في العذر. والمخاطب بهذا رجل كان كلفه أمراً فضمن له السعي فيه، فقطع به عن ذلك مرض أصابه، فكتب إليه يعتذر من تأخر سعيه بالمرض الذي عاقه عنه. وقد ذكر ابن قتيبة هذا الكلام في آلة الكتاب، وغير ذلك من كتبه، فلم يسم قائله من هو. والبسطة: السعة والانبساط في العلم وغيره. وقوله: (طغيان في القلم) كذا وقع في النسخ. وكان أبو علي البغدادي يقول: حفظني طغيان القلم. والعرب تختلف في تصريف الفعل من الطغيان. فمنهم من يقول: طغيت يا رجل. ومنهم من يقول طغوت بالواو. ولم يختلفوا في الطغيان أنه بالياء. ومنهم من يكسر الطاء فيقول: الطغيان حكى ذلك الفراء. وقوله: (ونستحب له أن ينزل ألفاظه في كتبه): تنزيل الكلام. ترتيبه، ووضع كل شيء منه في مرتبته اللائقة به. وذكره في الوقت الذي ينبغي أن يذكر فيه. قال الله تعالى {وَنَزَلْناهُ تَنْزِيلا}.

وقوله (إلى الأكفاء والأستاذين): الأكفاء: النظراء، واحدهم: كفء، بضم الكاف وتسكين الفاء، وكفء وكفء بفتح الكاف وكسرها مع سكون الفاء. وكنمو بضم الكاف، وكفى على مثال نبئ وكفاء، على مثال رواء. والأستاذ: لفظة فارسية عربتها العرب. والفرس يرفعونها على العالم بالشيء، الماهر فيه، الذي يبصر غيره ويسدده. ومثلها من كلام العرب الرباني: وهو العالم المعلم. قال الله تعالى {ولَكِنْ كونُوا رَبَّانِيِّينَ}. وقوله (وليس يفرقون بين ما يكتب إليه: أنا فعلت وبين من يكتب إليه: ونحن فعلنا ذلك) كذا الرواية عن ابن قتيبة. وقال أبو علي البغدادي: والصواب بين من يكتب عن نفسه: (أنا فعلت)، وبين من يكتب عن نفسه: (ونحن فعلنا) لأن هذا أمر يخص الكاتب دون المكتوب إليه. والذي قاله أبو علي: هو الصحيح الذي لا مدفع فيه، وإن كان قول ابن قتيبة قد يمكن أن يوجه له وجه يصح به، إذا حمل عليه. وذلك أن الكاتب لا ينبغي له أن يكتب عن نفسه، نحن فعلنا ذلك، إلا إلى من هو كفء له في المنزلة، أو من هو دونه في المرتبة، ولا يجوز أن يكتب بذلك إلى من يعظمه ويوقره، إنما ينبغي له أن يصعر نفسه، ويضع منها. فإذا حمل التأويل على هذا، صح قول ابن قتيبة. وإنما جاز للرئيس وللعالم أن يقولا عن أنفسهما: نحن نقول كذا، ونحن نفعل كذا، لأن الرئيس يطاع أمره، وله أتباع على مذهبه ورأيه.

فكأنه يخبر عن نفسه، وعن كل من يتبعه ويرى رأيه، وكذلك العالم. وفيه وجه آخر، وذلك أن الرجل الجليل القدر، النبيه الذكر، ينوب وحده مناب جماعة، وينزل منزلة عدد كثير، في علمه أو في فضله ورأيه. ونحو من هذا ما يروى من أن أبا سفيان بن حرب، استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحجبه، ولم يأذن له. فلما خرج الناس من عنده أذن له، فدخل وهو غضبان. فقال: يا رسول الله، ما كدت تأذن لي حتى تأذن لحجارة الجلهمتين. فقال: يا أبا سفيان. أنت كما قيل: (كل الصيد في جوف الفرا)، أي أنك وحدك تنوب مناب جماعة. والفرا: الحمار الوحشي يمد ويقصر، والأشهر فيه القصر. ومعنى قولهم: (كل الصيد في جوف الفرا): أن الحمار الوحشي أجل ما يصيده الصائد. فإذا صاده، فكأنه قد صاد جميع الصيد. وقوله: حتى تأذن لحجارة الجلهمتين: أي ما كدت أدخل إليك حتى تدخل الحجارة. وأهل الحديث يروون الجلهمتين، بالميم وضم الهاء والجيم، وذلك غير معروف، وإنما المعروف عند أهل اللغة الجلهتان، بفتح الجيم والهاء دون ميم، وهما ناحيتا الوادي. قال لبيد. فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها ولا يستنكر أن يكونوا زادوا الميم، كما قالوا للجذع: جذعم

وللناقة الدرداء: دردم، وللأستة من الرجال: ستهم: ويروي أن بكر بن وائل بعثوا إلى بني حنيفة في حرب البسوس يستمدونهم على تغلب. فبعثوا إليهم الفند الزماني، وحده، وكتبوا إليهم، قد بعثنا إليكم بثلاثمائة فارس. فلما ورد عليهم، نظروا إليه وكان شيخنا مسناً، وقالوا: وما يغني هذه العشبة عنا. فقال: أما ترضون أن أكون لكم فندا. فلذلك لقب الفند. والفند: القطعة العظيمة من الجبل. والعشبة والعشمة (بالباء، والميم): الشيخ المسن. وقد أكثرت الشعراء في هذا المعنى. قال أبو نواس: وليس على الله بمتنكر ... أن يجمع العالم في واحد وقال البحتري: ولم أر أمثال الرجال تفاوتوا ... إلى المجد حتى عد ألف بواحد فأخذه أبو الطيب المتنبي فقال: مضى وبنوه وانفردت بفضلهم ... وألف إذا ما جمعت واحد فرد وقوله (وعلى هذا الابتداء خوطبوا في الجواب): يريد أن الرجل يخاطب على حسب ما يخبر به عن نفسه، فإذا كان يقول: أنا فعلت. قيل له في المخاطبة: أنت فعلت. وإذا كان يخبر عن نفسه بأن يقول: نحن فعلنا. قيل له في المخاطبة: أنتم فعلتم.

ولما كان الله يخبر عن نفسه بإخبار الجماعة فيقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} و {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} خاطبه الكافر مخاطبة الجماعة فقال: {رَبِّ ارْجِعُون}، ولم يقل رب ارجعن. وقوله (وقال أبرواز لكاتبه في تنزيل الكلام): أي في ترتيبه، ووضع كل شيء منه في منزلته التي تليق به. ويقال: أبرواز وأبرويز بفتح الواو، وأبرويز بكسرها. ويقال: إن إبرويز هذا، هو كسرى الأخير. وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده. وهو الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام. فلما ورد ليه كتابة غضب ومزق الكتاب، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم مزق ملكه كل ممزق. ثم كتب كسرى إلى فيروز، اذهب إلى (مكة) فجئني بهذا العبد الذي دعاني إلى غير ديني، وقدم اسمه في الخطاب على اسمي. فجاء فيروز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ربي أمرني أن أحملك إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد أخبرني أنه قتل ربك البارحة. فأقم حتى تعلم. فإن كان ما قلت حقاً، وإلا كنت من وراء أمرك. ففزع فيروز، وهاب أن يقدم عليه. ثم وردت الأخبار من كل ناحية بأن كسرى قد ثار عليه ابنه شيرويه، فقتله تلك الليلة بعينها، فأسلم فيروز، وحسن إسلامه. وقوله (فهذه دعائم المقالات): أي أصولها التي تعتمد عليها.

وقد قدمنا في صدر كتابنا هذا اختلاف المتقدمين من العلماء والمتأخرين في أقسام المعاني كم هي؟. وقوله (فأسجح): أي أرفق وسهل. ومنه قول عقيبة الأسدي: معاوى إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا وقوله (وإذا سألت فأوضح) أي بين سؤالك. وقوله (وإذا أمرت فأحكم): كذا رويناه (مقطوع الهمزة، مكسورة الكاف)، وفي بعض النسخ فاحكم (موصول الألف، مضموم الكاف)، وكلاهما صحيح، لأنه يقال: حكمت الرجل وأحكمته: إذا أدبته وعلمته الحكمة. واشتقاق ذلك من قولهم: حكمت الدابة وأحكمتها: إذا جعلت لها حكمة، لأن الحكمة تمنع متعلمها من القبيح، كما تمنع الحكمة الدابة من الاضطراب والنزق، ومنه قيل: أحكمت الشيء: إذا أتقنته. وحكم الرجل يحكم: إذا صار حكيماً. قال النمر بن تولب: وأحبب حبيبك حباً رويداً ... فليس يعولك أن تضرما وأبغض بغيضك بغضاً رويدا ... إذا أنت حاولت أن تحكما وعلى هذا تأويل قول النابغة: واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد

وقوله (وليس يجوز لمن قام مقاما في تحضيض على حرب، أو حمالة بدم): التحضيض والحض: الإغراء بالشيء، والترغيب فيه. والحمالة: الكفالة. ويقال: تحملت بالشيء كقولك: تكفلت به. وفلان حميل به: كقولك: كفيل به. ووقع في بعض النسخ: أو حمالة لدم باللام، ولا أعرف ذلك مروياً عن أبي علي، وليس بممتنع، تجعله من قولك: حملت الشيء عن الرجل، وهو راجع إلى المعنى الأول. وينبغي أن تكون هذه اللام، هي التي تزاد في المفعول تأكيداً للعامل، وأكثر ما تدخل على المفعول إذا تقدم على الفعل، كقوله تعالى: {إنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} وقد تدخل عليه وهو متأخر كقوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم}. وعلى هذا: أعجبني الضرب لزيد ومنه قول كثير: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل والعشائر: القبائل. واحدها عشيرة. واشتقاقها من المعاشرة، وهي المصاحبة. يقال: فلان عشيري وشعيري: أي مصاحبي. وعشيرة المرأة: زوجها. وقوله: (ولو كتب كاتب إلى أهل بلد في الدعاء إلى الطاعة والتحذير من المعصية، كتاب يزيد بن الوليد إلى مروان) يزيد هذا هو يزيد بن الوليد ابن عبد الملك، ويكني أبا خالد، وكانت أمه أعجمية وهي شاهفريد بنت فيروز بن يزدجرد، وهي أول سرية ولدت ملكاً في الإسلام، وهو القائل:

أنا ابن كسرى وأبي مروان ... وقيصر جدى وجدى خاقان ومعنى شاهفريد بالفارسية: سيدة البنات. وكان يزيد هذا يدعى (الناقص). واختلف في المعنى الذي من أجله لقب بذلك. فقال قوم: لقب الناقص لأنه نقص الجند أعطياتهم عند ولايته. وقيل: لقبه بذلك مروان بن محمد بن مروان، وهو الذي كتب إليه يزيد بما حكاه ابن قتيبة. وقال قوم: لقب الناقص لفرط. كما له، كما يقال للحبشي: أبو البيضاء، وللأعمى: بصير وكذا قال خليفة بن خياط. وكانت خلافته خمسة أشهر وليلتين. ومروان هو آخر خلفاء بني أمي بالمشرق، وكان يكني أبا عبد الله وأمه: (لوعة)، سرية من الكرد،. وقيل: بل أمه ريا: جارية كانت لإبراهيم بن الأشقر النخعي. فصارت إلى محمد بن مروان يوم قتل إبراهيم، وكانت حاملاً من إبراهيم فولدت على فراش محمد بن مروان. وقتل مروان ببوصير من صعيد مصر، بعد ظهور الدولة العباسية. فكانت خلافته نحواً من ست سنين. والتلكوء: الإبطاء والتأخر. وقوله (وسكون الطائر): يستعمل في الكلام على وجهين: أحدهما: أن يكون مثلاً للوقار والرزانة، يريد أنه لشدة وقاره، لو نزل على رأسه طائر لم يطر. وهو الذي أراده ابن قتيبة هاهنا. والثاني: أن يكون مثلاً مضروباً للمذلة والخضوع. يراد أنه لذله لا يتحرك، وهذا المعنى الذي أراد الشاعر بقوله: إذا نزلت بنو تيم عكاظا ... رأيت على رؤوسهم الغرابا

وقال آخر في الهيبة والخضوع: كأنما الطير منهم فوق أرؤسهم ... لا خوف ظلم ولكن خوف إجلال وقال ذو الرمة: من آل أبي موسى ترى الناس حوله ... كأنهم الكروان أبصرن بازيا مرمين من ليث عليه مهابة ... تفادى أسود الغاب منه تفاديا وما الخرق منه يرهبون ولا الخنا ... عليهم ولكن هيبة هي ماهيا وأما قول الضبي: كأن خروء الطير فوق رءوسهم ... إذا اجتمعت قيس معاً وتميم ففيه قولان: وقال النميري يصف قوماً قرعاً: فإن بياض قرعهم ... كخرء الطير وهو أبيض قال غيره: يريد الذل والخضوع، كما قال الشاعر: أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب

وقوله: (وخفض الجناح) هذا مثل مضروب للين الجانب، وتعطف الإنسان على من أوى إليه، وإشفاقه على من رآه بحال شدة وبؤس. وأصل ذلك أن الطائر يضع جناحيه على فراخه، ويلحفها إياهما، فضرب مثلاً التعطف، قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} ولهذا قالوا: فلان موطأ الأكناف. وقد يضرب الجناح أيضاً مثلاً في العون على الأمور. كما قال مسكين الدرامي: أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح وقوله (العالي في ذروة المجد) المجد: الشرف. وذروته: أعلاه. وكذلك ذروة كل شيء وذروته، بالكسر والضم، والجمع ذرا، بضم الذال في اللغتين جميعاً. وقوله (الحاوي قصب السبق): هذا مثل مضروب للتقدم والتبريز على الأكفاء في كل شيء. وأصله أنهم كانوا إذا تسابقوا إلى غاية من الغايات، وخاطروا على ذلك، وضعوا الخطر على رأس قصبة وركزوها في الغاية التي يتحارون إليها، فمن سبق إليها أخذها، فصار ذلك مثلاً لكل من غولب فغلب. والسبق بسكون الباء: المصدر. والسبق بفتح الباء: الخطر بعينه. قال رؤبة: لوحها من بعد بدن وسنق ... تضميرك السابق يطوى للسبق

ويريد بالدارين: الدنيا والآخرة. هذا آخر ما حضرنا من القول في هذه الخطبة. ولما كان أبو محمد بن قتيبة- رحمه الله تعالى- قد شرط على الكاتب شروطاً في هذه الخطبة، ألزمه معرفتها وكان الكتاب مختلفي الطبقات، منهم من تلزمه معرفة تلك الأشياء، ومنهم من يختص ببعضها دون بعض. فإن علم غير ما هو مضطر إلى معرفته في صناعته، كان زائداً في نبله، وإن جهله، لم يكن معنفاً على جهله، رأينا أن نذكر أصناف الكتاب، وما يحتاج إليه كل صنف منهم، مما يخص مرتبته، ما لا يسع واحداً منهم أن يحتمله. ثم نذكر بعد ذلك آلة الكتاب التي يحتاجون إلى معرفتها، كالدواة والقلم ونحوهما. ونجري في ذلك كله إلى الاختصار، ليكون متمماً لفائد هذه الخطبة وبالله التوفيق.

=====

ذكر أصناف الكتاب

ذكر أصناف الكتاب أصناف الكتاب على ما ذكره ابن مقلة خمسة: كاتب خط، وكاتب لفظ، وكاتب عقد، وكاتب حكم، وكاتب تدبير. فكاتب الخط: هو الوراق والمحرر. وكاتب اللفظ: هو المترسل. وكاتب العقد: هو كاتب الحساب الذي يكتب للعامل. وكاتب الحكم: هو الذي يكتب للقاضي ونحوه، ممن يتولى النظر في الأحكام. وكاتب التدبير: هو كاتب السلطان، أو كاتب وزير دولته. وهؤلاء الكتاب الخمسة يحتاج كل واحد منهم إلى أن يتمهر في علم اللسان، حتى يعلم الإعراب، ويسلم من اللحن، ويعرف المقصور والممدود، والمقطوع والموصول، والمذكر والمؤنث. ويكون له بصر بالهجاء. فإن الخطأ في الهجاء، كالخطأ في الكلام. وليس على واحد منهم أن يمعن في معرفته النحو واللغة إمعان المعلمين، الذين اتخذوا هذا الشأن صناعة، وصيروه بضاعة. ولا إمعان الفقهاء الذين أرادوا بالإغراق فيه فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله، وكيف تستنبط الأحكام والحدود والعقائد بمقاييس كلام العرب ومجازاتها. إنما عليه أن يعلم من ذلك ما لا يسع جهله. ثم يكثر بعد ذلك من معرفة ما يخص صناعته.

كاتب الخط

ويحتاج كل واحد منهم أيضاً إلى العفة، ونزاهة النفس، وحسن المعاملة للناس، ولين الجانب، وسماحة الأخلاق، والنصيحة لمخدومه فيما يقلده إياه، ويعصبه به. ثم يحتاج كل واحد منهم بعد ما ذكرناه إلى أمور تخصه، لا يحتاج إليها غيره. ونحن نذكر ذلك بأوجز قول، وأقرب بيان إن شاء الله تعالى. وإنما نذكر مراتب الكتاب على ما كانت عليه في القديم. وأما اليوم فقد تغيرت عن رسمها المعلوم. ولكل دهر دولة ورجال، ولكل حال إدبار وإقبال. كاتب الخط لا يخلو كاتب الخط. أن يكون وراقاً ومحرراً. وهما موضوعان لنقل الألفاظ وتصويرها، ويحتاجان إلى أن يجمعا مع حلاوة الخط وقوته، وسواد المداد وجودته، تفقد القلم، وإصلاح قطته، وجودة التقدير. والعلم بمواقع الفصول. ويحتاج المحرر، إلى إطالة سن القلم، وألا يلح عليه بالنحت، ولا على شحمته، لأن ذلك أقوى لخطه، وكذلك حكم سائر ما يكتب بالمداد غير الحبر. فأما ما يكتب بالحبر، فيخاف على الشحم فيه أن يقل ما يحمل من الحبر. ويحتاج الوراق إلى تحريف قطة قلمه ويجعلها المحرر بين التحريف والاستواء فإن ذلك أحسن لحظة. وكلما كان اعتماد الكاتب وراقاً كان أو محرراً على سن قلمه الأيمن، كان أقوى لخطه، وأبهى له.

كاتب اللفظ

ويختار للوراق ألا يكتب في الجلود والرق بالحبر المثلث، فإنه قليل الليث فيها، سريع الزوال عنها. وأن يكتب فيها بالحبر المبطوخ، وفي الرق بما أحب. ويختار للمحرر، أن يكتب عن السلطان في أنصاف الطوابير. وفي الأدراج العريضة، وعن نفسه وسائر الناس فيما أحب، بعد أن يكون ذلك ألطف مقداراً من مقادير كتب السلطان ووزارته. ومعنى قولنا جودة التقدير، أن يكون ما يفضله من البياض في القرطاس أو الكاغد عن يمين الكتاب وشماله، وأعلاه وأسفله، على نسب معتدلة. وأن تكون رؤوس السطور وأواخرها متساوية. فإنه متى خرج عن بعض قبحت وفسدت. وأن يكون تباعد ما بين السطور على نسبة واحدة، إلى أن يأتي فصل، فيزاد في ذلك. والفصل إنما يكون بين تمام الكلام الذي يبدأ به، واستئناف كلام غيره، وسعة الفصول وضيقها على مقدار تناسب الكلام. فإن كان القول المستأنف مشاكلاً للقول الأول، أو متعلقاً بمعنى منه، جعل الفصل صغيراً. وإن كان مبايناً له بالكلية، جعل الفصل أكبر من ذلك. فأما الفصل قبل تمام القول، فهو من أعيب العيوب على الكاتب والوراق جميعاً. وترك الفصول عند تمام الكلام عيب أيضاً، إلا أنه دون الأول. المترسل كاتب اللفظ وأما كاتب اللفظ، وهو المترسل، فيتحاج إلى الاستكثار من حفظ الرسائل والخطب، والأمثال والأخبار والأشعار، ومن حفظ عيون الحديث يدخلها في تضاعيف سطوره متمثلاً إذا كتب. ويصل بها كلامه إذا حاور.

ولا بأس باستعمال الشعر في الرسائل اقتضابا وتمثلاً. وإنما يحسن ذلك في مكاتبة الأكفاء، ومن دونهم، ويكره ذلك في مخاطبة الرؤساء، والجلة من الوزراء، لأن محلهم يكبر عن ذلك، إلا أن يكون الشعر من قرض الكاتب. فإن ذلك جائز له. وقد تسامح الناس في تلك، وخالفوا الرتبة القديمة. ويحتاج الكاتب إلى معرفة مراتب المكاتبين عند من يكتب عنه، وما يليق بهم من الأوعية والعنوانات، على حسب ما تقتضيه مرتبة مخدومة بين مراتبهم، فينزل كل واحد منهم مرتبته اللائقة به. ومراتب المكاتبين ثلاث: مرتبة من فوقك. ومرتبة من هو مثلك، ومرتبة من هو دونك. والمرتبة العليا تنقسم ثلاثة أقسام: فأعلاها مرتبة الخليفة ووزيره، ومن كان نظير الوزير عنده. ثم مرتبة الأمراء ومن جرى مجراهم، ممن هو دون الوزراء. ثم مرتبة العمال وأصحاب الدواوين. كذا قال ابن مقلة. والواجب أن تجعل للخليفة مرتبة أرفع من كل مرتبة، وألا يشاركه فيها وزير ولا غيره. والمرتبة الوسطى تنقسم ثلاثة أقسام أيضاً: فأعلاها: مرتبة الشريف من الأصدقاء، والعالم. والثانية: مرتبة الشيخ من الإخوان، الذي يجب توقيره، وإن لم يكن شريف ولا عالماً. والثالثة: مرتبة الصديق إذا خلا من هذه الأحوال. والمرتبة السفلى تنقسم ثلاثة أقسام أيضاً: فأعلاها مرتبة من قرب محله

من محلك. والثانية: مرتبة من لك رياسة عليه، ووليت عملاً هو من XXX فيه. والثالثة: مرتبة الحاشية، ومن جرى مجراهم من الأولياء والخدم. ولكل طبقة من هذه الطبقات، مرتبة في المخاطبة، ومنزلة متى زيد عليها، أو قصر به عنها، ووقع في الأمور الخلل، وعاد ذلك بالضرر. وذلك أن الرئيس إذا قصر به عما يستحقه، أغضبه ذلك وأحنقه. والتابع متى زيد على استحقاقه أطغاه ذلك وأكفره. إلا أن يكون قد فعل في الخدمة ما يقتضي التنويه به ورفعه عن تلك المنزلة إلا منزلة أعلى منها. وليس في هذه الطبقات من لا تعاب الزيادة في مخاطبته إلا الصديق وا لحبيب، فكل ما تخاطب به مما يمكن المودة، ويوطد الألفة، فإنه حسن وصواب. فينبغي للكاتب أن ينزل كل واحد من هذه الطبقات في مرتبة تليق به، على قدر منزلته منه، وعلى ما جرت به عادة الكتاب في زمانه. فإن العادات تختلف اختلاف الأزمنة، فيستحسن أهل كل زمان لا يستحسنه غيرهم. وللنساء مراتب في مخاطبتهن، ينبغي للكاتب أن يعرفها، فمن ذلك أنه لا ينبغي للكابت أن يدعو لهن بالكرامة، ولا بالسعادة، لأن كرامة المرأة وسعادتها موتها عندهن. ولا يقال لواحدة منهن: أتم الله نعمه عليك، لأنهن ينكرن أن يكون شيء عليهن. ولا يقال: جعلني الله فداءك، ولا قدمني إلى الموت قبلك، لأن هذا يجري مجرى المغازلة. ولا يقال لوا حدة منهن: بلغني الله أملي فيك لاستقباحهن أن يكون شيء فيهن.

كاتب العقد

وبالجملة فينبغي للكاتب إليهن، أن يتجنب كل لفظة يقع فيها اشتراك ويمكن أن تتأول على ما يقبح. فإن ذلك يعد من حذقه ونبله. كاتب العقد وهو كتاب الحساب. وكتاب الحساب ثلاثة: كاتب مجلس، وكاتب عامل، وكاتب جيش، فيعم هؤلاء الثلاثة أنهم محتاجون إلى أن يكونوا عارفين بالتقدير، حتى يعلموا التجميل والتفصيل. وما ينبغي أن يخرجوه من الرؤوس في الأعمال، وما ينبغي أن يكون في حشو الكلام. وأن يكونوا محتاطين في ألفاظهم، حتى تصح معانيها، ولا يقع اشتراك فيها. وأن يكونوا ضابطين لما يشرعون فيه من فنون الحساب، حتى لا يقع الخطأ فيه. وإن خفت أيديهم في العقد والحساب وأسرعت، كان ذلك أنبل لهم، وأزيد في كلامهم. ويحتاجون من الحساب إلى معرفة الجمع والتفريق والتضعيف والتصريف والنسبة. ومعنى التضعيف: الحذق بضرب الأعداد بعضها في بعض. ومعنى التصريف: تثمين الأشياء، كتثمين الورق بالعين، والعين بالورق، وتصريف الغلات بعضها ببعض. فهذه جملة ما يحتاج إليه كتاب الحساب الثلاثة. ثم يختص بعد ذلك كل واحد منهم بمعرفة أشياء يحتاج إلى معرفتها دون غيرها.

كاتب المجلس

كاتب المجلس يحتاج كاتب المجلس أن يكون حاذقاً باقتصاص الكتب. وترتيب أبوابها على ما يقتضيه ترتيب وقوع الجماعات والموافقات، ليقابل بذلك ما يرد عليه من العمل عند وروده. ويخرج ما فيه من خلف في المؤامرة التي يعلمها العامل. ويحكم في ذلك بما يوجبه حكم الكتابة. وأن يكون أيضاً عالماً برسم العين المخرجة والتجميلات، وما يجوز أن يستظهر به في ذلك، مما يلزم العمل به. وأن يعرف أحكام الخراج، وما يجب رده على العمال من النفقات، ومردود الجاري. وما ينبغي أن يحتسب لهم به. وأن يعلم ما تحمد فيه آثار العمال، وما تذم فيه آثارهم، وأن يكون في ذلك عدلاً، لا يميل به الهوى. فقد كان أبو الحسن علي بن محمد بن فرات يقول: الكاتب فوق الشاهد. فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: لأنه يحكم بقوله وحده، وبما يخرجه من ديوانه. والقاضي لا يحكم بقول شاهد حتى ينضاف إليه غيره، وهذا الكاتب هو الذي يتولى محاسبة العمال، ويعرض الأعمال على كاتب الديوان، ويؤامره فيما يجب أن يفعل. وكاتب الديوان: هو المشرف على جميع أعمال السلطان المؤتمن على

كاتب العامل

أمواله، وهو يؤامر كاتب التدبير. وكاتب التدبير يؤامر الملك. وهو أعلى الكتاب مرتبة. ولا واسطة بينه وبين السلطان، وهو وزيره ومدبر دولته. كاتب العامل وأما كاتب العامل، فيحتاج مع ما قدمنا ذكره، إلى أن يكون عالماً بالزرع والمساحة، لكثرة ما يجرى ذلك في عمله. وأصل ما تمسح به الأرضون: أشل، وشاقول وباب. وذراع. فالأشل: حبل طوله ستون ذراعاً. والشاقول: خشبة قدر ذراعين في طرفها زج، تركز في الأرض، ويشد فيها طرف الأشل. والباب: قصبة طولها ست أذرع. والذراع التي يسمح بها السلطان مسائحه: اثنتان وثلاثون إصبعاً. وتسمى الذراع الهاشمية. والذارع السوداء أيضاً، وهي التي تمنح بها الدور وغيرها. وقيل: بل التي تمسح بها الدور. وغيرها أربع وعشرون إصبعاً، وتسمى الذراع الجديدة. والتي تمسح بها الرياض والأنهار ستون إصبعاً، وتسمى ذراع الميزان. والأشل: عشرة أبواب. والباب ست أذرع. وأشل في أشل: جريب. وأشل في باب: قفيز. لأنه أشل في عشر أشل فيكون عشرا. والجريب: عشرة أقفزة. واشل في ذراع: عشر وثلثا عشر، لأن واحداً في ستين ستون، والعشر: ست وثلاثون ذراعاً لأنه من ضرب باب في باب فيكون ذلك عشر كما قلنا. وباب في ذراع: سدس عشر. وذراع في ذراع: ربع تسع

عشر. والقبضة عندهم: سدس الذراع. والذراع: سدس الباب. والإصبع: ربع القبضة. والأشكال التي تقع عليها المساحة في الأصل كثيرة. وأشهرها عند المساح ثلاثة: وهي المربع والمثلث والمدور. فالمربع: خمسة أصناف: مربع متساوي الأضلاع. ومربع مستطيل. ومربع مختلف الأضلاع. ومربع معين. ومربع شبيه بالمعين. فأما المربع المتساوي الأضلاع، فإذا ضربت إحدى أضلاعه في نفسها، كان ما يجتمع تكسيره. وذلك كمربع متساوي الأضلاع. كل ضلع منه عشرة أذرع. فإن تكسيره: مائة ذراع. وأما المربع المستطيل فإن تكسيره بضرب طوله في عرضه. وأما المربع المختلف الأضلاع. فإن المساح يجمعون طولية وعرضية ويضربون نصف الطولين في نصف العرضين. فما اجتمع فهو تكسيره عندهم. وفي هذا العمل عند المهندسين غلط. إلا أنا لما كنا نصف ما يستعمله الحساب والمساح والعمال، ولم يكن كتابنا هذا موضوعاً لتحرير هذه الأشياء، لم تكن بنا حاجة إلى ذكر دقيق الحساب في هذا ولا غيره. وكذلك يفعلون بالمربع الشبيه بالمعين، فإنهم يجمعون الضلعين المتقابلتين، ويأخذون شطر ما يجتمع، ويجمعون أيضاً الضلعين الآخرين. ويأخذون شطر ما يجتمع. ويضربون الشطر في الشطر. فما اجتمع، فهو التكسير عندهم وهذا أيضاً خطأ عند المهندسين. وغير هذا الموضع أولى بتحقيق ذلك.

وأما المربع المعين، فإن استخراج تكسيره بضرب أحد شطريه في الآخر. وأما المثلث: فهو ثلاثة أصناف: مثلث متساوي الأضلاع، ومثلث متساوي الضلعين، وهذا صنفان: أحدهما: قائم الساقين والآخر منفرج الزاوية ومثلث مختلف الأضلاع. فإذا استوت أضلاع المثلث كلها أو استوت اثنتان منها، فإن عموده مضروباً في نصف قاعدته هو تكسيره. وذلك مثل مثلث عموده عشر أذرع، ونصف قاعدته خمس أذرع، فإن تكسيره خمسون ذراعاً. وأما استخراج ذرع العمود من قبل الضلع، فإن باب العمل فيه أن تضرب الضلع في نفسها وتنقص من العدد نصف القاعدة مضروباً في نفسه، وتأخذ جذر ما بقى فهو العمود. وإن أردت استخراج الضلع، ضربت العمود في نفسه ونصف القاعدة في نفسها، وجمعت العددين، وأخذت جذرهما، فهو الضلع. وإن أردت استخراج نصف القاعدة، ضربت الضلع في نفسها، ونقصت من ذلك العمود مضروباً في نفسه. وأخذت جذر ما بقى، فهو نصف القاعدة. وإذا اختلفت أضلاع المثلث، فإن العمل في مساحته، أن تجمع الأضلاع الثلاث وتأخذ نصف ما يجتمع معك من ذلك فتحفظه، ثم تنظر ما بين كل واحدة من الأضلاع، وبين هذا النصف، فتضرب بعضه في بعض، ثم في هذا النصف. وتجمع جذر جميع ذلك، فهو تكسيره. ومثال ذلك مثلث إحدى أضلاعه خمس عشرة ذراعاً، والأخرى أربع عشرة ذراعاً، والأخرى ثلاث عشرة ذراعاً. والعمل فيه أن تجمع هذه

الأضلاع، فيكون المجتمع اثنتين وأربعين. وتأخذ نصف ذلك فيكون إحدى وعشرين ثم تنظر: كم بين الخمس عشرة والإحدى والعشرين، فتجده ستاً. وما بين الأربع عشرة وبينها، فتجده سبعاً، وكم بينها وين الثلاث عشرة، فتجده ثمانياً. فتضرب ستاً في سبع. فتكون اثنين وأربعين، ثم في ثمان، فتكون ثلثمائة وستاً وثلاثين. ثم تضرب ذلك في إحدى وعشرين، فيكون سبعة آلاف وستاً وخمسين. فتأخذ جذر ذلك، وهو أربع وثمانون. فيكون تكسير الثلث. وأما المدور: فإن استخراج تكسيره: يكون بضرب قطره في مثله. وإسقاط سبع ما يجتمع معك ونصف سبعه. وذلك مثل مدور قطره أربع عشرة ذراعا. فإنك تضرب الأربع عشرة في مثلها فيكون مائة وستاً وتسعين. فتلقى من ذلك سبعه ونصف سبعه. ومبلغه: اثنان وأربعون. فتبقى مائة وأربع وخمسون، فهو تكسيره. وإن عرفت تكسيره، ولم تعرف قطره، وأردت معرفته من التكسير، فاضرب التكسير في أربعة عشر، وأقسمه على أحد فما خرج فخذ جذره فهو القطر. وإن أردت معرفة المدور، فاضرب القطر في ثلاثة وسبع، فما اجتمع فهو المدور.

كاتب الجيش

كاتب الجيش وأما كاتب الجيش فيحتاج إلى المعرفة بالحساب، إلى أن يعرف الأطماع وأوقاتها، وحلى الناس وكيف تؤخذ. ومن يحلى ممن لا يحلى ويعرف الأرزاق وما يتوفر منها، والأطماع: هي الرواتب الجارية على الجند، في الأوقات التي يستحقونها فيها، على ما يقتضيه كل زمان. وأما الحلي: فأن يصف كل واحد بحليته، التي بها ينفصل عن غيره، وكانت الرتبة القديمة في ذلك عند الكتاب، أن يذكر الرجل في يمنة الورقة وينسب إلى بلده أو ولايته، فيقال: فلان الرومي أو العربي أو نحو ذلك. ثم يذكر جاريه المرتب له تحت اسمه ويفصل فصل يسير، ثم يكتب يسرة الورقة بعد ذلك الفصل، سنه. فيقال: شاب، أو كهل، أو مراهق. ولا يقال: شيخ ولا صبي. ثم يذكر قده، فيقال: ربعة إلى الطول وربعة إلى القصر، فإن كان غير طويل ولا قصير، قيل: مربوع. وكانوا لا يقولون: طويل ولا قصير على الإطلاق، لأن الطول والقصر من باب الضاف. فالطويل: إنما يكون طويلاً بالإضافة إلى من هو أقصر منه. والقصير: وإنما يكون قصيراً بالإضافة إلى من هو أطول منه، فكان قولهم: ربعة إلى الطول، وربعة إلى القصر، أحوط في تصحيح المعاني. ثم يذكر لونه فيقال: أسود، أو دم، أو أسمر، تعلوه حمرة إذا كان أشقر أو أبيض.

وكانوا لا يقولون: أبيض ولا أشقر لأن البياض والشقرة، مما كانت العرب يعير بهما بعضهم بعضا. وكانوا يسمون البيض والشقر: العبيد والحمران وبنى حمراء العجان وصهب السبال، ويهجنون من كان منهم، إذا عرف فيه عرق منهم. ويروى أن إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن المغيرة القرشي، خطب إلى عقيل ابن علقة بنته، لبعض بنيه- وكان أحمر أبيض اللون فردده وقال: رددت صحيفة القرشي لما ... أبت أعراقه إلا احمراراً ثم يذكر الجبهة وأوصافها من ضيق، أو رحب، أو جلح، أو صلع أو غضون، ويذكر الحاجبين بما فيهما من قرن أو بلج أو زجج، ثم العينين بما فيهما من كحل، أو زرقة، أو سهل، أو خوض، أو جحوظ، أو غئور، أو حور، أو حول، أو عور، ونحو ذلك.

ثم يذكر الأنف بما فيه من قنا، أو فطس، أو خنس، أو ورود أرنبة، أو انتشاء. ثم يذكر الأسنان بما فيها من درد أو شغاً، أو فلج، أو سواد، ونحو ذلك. ويذكر الشفة وما فيها من علم أو فلج أو تقلص. ويذكر الشامات والخيلان، وآثار الضرب والطعن. وكان الاعتماد عندهم من هذه الحلي على ما لا يتغير، ولا ينتقل، مثل الفطس والزرقة والطول والقصر. فإن ذكر غير ذلك كان حسنا وزيادة في الإيضاح. وإن اقتصرت على بعض ذلك أجزأ وكفى. ويحتاج أيضاً كاتب الجيش إلى أن يعرف شيات الخيل وصفاتها. وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك ما فيه الكفاية. ولا يجوز للكاتب أن يذكر حلية قائد ولا أمير ولا نحوهما من المشهورين، لأن شهرتهم تغني عن حليتهم. ثم يذكر عددهم، ومبلغ جاريهم في آخر الصحيفة، ويكتب إلى الخازن بجملة واجبهم إلى مجلس العطاء، وتخرج الصحف بالأسماء والحلي ومبلغ الجاري إلى المنفقين مع المال، فيتولون عرضهم،

كاتب الحكم

ويعطي من صحب حليته منهم، ويرفع الحساب بما يعطونه، أو ما يتوفر من واجب من لم تصح حليته منهم. فعلى هذه الرتبة كان العمل قديماً. ولكل زمان ودولة أحكام، ورتب ليست في غير ذلك الزمان وغير تلك الدولة. فينبغي لكاتب أن يكون عمله بحسب ما قد استحسنه أهل زمانه، واستقر عليه العمل وقته وأوانه. كاتب الحكم أمور الأحكام جارية في شريعة الإسلام على أربعة أوجه: حكم القضاء، وهو أجلها وأعلاها. ثم حكم المظالم ثم حكم الديوان: وهو حكم الخراج ثم حكم الشرطة. فينبغي لكاتب القاضي أن يكون عارفاً بالحلال والحرام، وبصيراً بالسنن والأحكام. وما توجبه الألفاظ، وأقسام الكلام، ويكون له حذق ومهارة بكتب الشروط والإقرارات، والمحاضر والسجلات. وقد ذكر الناس في أوضاعهم من هذه المعاني ما فيه كفاية. غير أنا نذكر من ذلك نكتاً يسيرة:

فجملة الشروط: أن يذكر المشترط عليه بأسمائهما وأنسابهما، وتجارتهما إن كان تاجرين، وصناعتهما إن كانا صانعين، وأجناسهما وأسماء بلدانهما. ثم يذكر الشيء الي وقع فيه الشرط. فإن كان بيعاً، ذكر البيع ووصفه، وحدد المبيع إن كان فيما يحدد. ثم ذكر الثمن ومبلغه ونقده ووزنه، والقابض منهما والمقبوض منه. وتفرقهما بعد الرضا على رأي من يرى ذلك من الفقهاء. ثم ضمن- البائع الدرك للمشتري. وإن كان إجارة، ذكر الإجارة، ومدتها، والشيء المستأجر. وحدد ما يجب أن يحدد منه، ووصف ما لا يحدد، وذكر مدة الإجارة، وجعلها على شهور العرب دون غيرها. وذكر مال الإجارة، ووقت وجوبه وقبض المستأجر ما استؤجر عليه، ورضاه بذلك، وتفرقهما بعد الرضا، على رأي من يرى ذلك. وإن كان فيما استؤجر نخل أو شجر، أتى بذلك وذكر مواضعه من الأرض، وجعله في آخر الكتاب معاملة ومساقاة بجزء من الثمر، إذ لا يجوز غير ذلك في الأحكام، وضمن المؤاجر الدرك للمستأجر، على رأي من يرى التضمين في ذلك. وإن كان صلحاً، ذكر ما وقع فيه الصلح. وإن كان براءة وصفها، وذكر ما تبرأ منه. وإن كانت البراءة بعوض، ذكر العوض. وإن كان إقراراً بدين، ذكر مبلغه، وهل هو حال أو مؤجل. وإن كان مؤجلاً، ذكر أجله ووقت حلوله، وحدد ذلك بالشهور العربية. وإن كان وكالة، سمي الوكيل ونسبه، وذكر ما وكل فيه من خصومه،

أو منازعة، أو قبض، أو صلح، أو بيع، أو شراء، أو غير ذلك، مما تقع الوكالة فيه. وقرر الوكيل بالقبول. وإن كان رهناً، ذكر أولاً الدين في صدر الكتاب ووقت محله ثم ذكر الرهن، وسماه، ووصفه، وحدد ما يجب تحديده منه. ثم قرر المرتهن على قبض ذلك. وإن وكله على بيعه عند حلول أجله، وذكر ذلك بعد الفراغ من ذكر الدين والرهن. وإن كان وصية، قرر الموصي بعد تسميته إياه في صدر الوصية، ثم ذكر أنه أوصى بكذا وكذا، وبدأ بالدين، وقرره على مبلغه. ثم ذكر الوصية بعد الدين. ثم ذكر تسبيل ذلك في الوجه الذي سبل فيه. وذكر الموصى إليه وسماه، وقرره على القبول إن كان حاضراً. ثم يؤرخ ذلك بالشهور العربية. ثم يوقع الشهادة على المشترطين والمشترط. عليهم، وأن ما عقدوه على أنفسهم كان في صحة منهم، وجواز من أمرهم. وأنهم أقروا بذلك طوعاً بعد فهمه، ومعرفة ما فيه. وأما المحاضر، فإن الكاتب يكتب: حضر القاضي رجلان، فادعى أحدهما على صاحبه بكذا، فأقر له. ويكتب الأسماء والأنساب والتاريخ وإن لم يكن القاضي يعرفهما بأسمائهما ونسبهما قال: ذكر رجل أنه فلان ابن فلان، ويصفه ويحليه. وذكر رجل أنه فلان بن فلان، ويصفه

ويحليه أيضاً. فادعى فلان، أو الذي ذكر أنه فلان، أو على الذي ذكر أنه فلان: كذا وكذا، فأقر له بذلك. وإن كانت وكالة قال: فذكر أنه وكل فلان بن فلان، ويذكر ما وكله فيه، ويقول: وحضر فلان بن فلان، فذكر أنه وكل فلان بن فلان، ويذكر ما وكله [فيه]، فقبل ذلك منه، وتولاه له. وإن أحضر المدعى كتاباً يريد أن يثبته بحق أو بيع أو غير ذلك، قال: وأحضر معه كتاباً ادعى على فلان بن فلان، أو الذي ذكر أنه فلان بن فلان، ما فيه نسخته كذا. ويقول وأحضر من الشهود فلا بن فلان، وفلان بن فلان، وادعى شهادتهما له بما تضمنه الكتاب الذي أحضره، فسألهما القاضي عما عندهما في ذلك، فشهدا أن فلان بن فلان أشهدهما على نفسه في صحة منه، وجواز من أمره، بما سمى فيه ووصف عنه، فقبل القاضي شهادتهما بذلك وأمضاها. وإن أراد القاضي أن يسجل بذلك، وليس يجوز أن يسجل إلا على من قد عرف، فليذكر في صدر الكتاب تسجيل القاضي، ويسميه وينسبه في مجلس قضائه، ويقول: وهو يلي القضاء، لفلان بن فلان على فلان، كذا، ويذكر لقبه، والناحية التي استقضاه عليها، وحضور من حضره، ونسخة الكتاب الذي ادعى عنده ما فيه، ويذكر شهادة الشاهدين فيه. ثم يقول: فأنفذ القاضي الحكم، مما ثبت عنده من إقرار فلان بجميع ما سمى، وصف في الكتاب المنسوخ في صدر هذا التسجيل بشهادة الشاهدين المذكورين فيه، وحكم بذلك وأمضاه: بعد أن سأله فلان

كاتب المظالم

ابن فلان ذلك. ثم يشهد عليه بإنفاذ جميع ذلك، ويؤرخ الكتاب بالوقت الذي يقع التسجيل فيه. فهذه جملة من هذا الشأن مقنعة. وينبغي للكاتب أن يحتاط على الألفاظ، فلا يذكر لفظاً فيه اشتراك، مثل استعمال كثير من أصحاب الشروط، في موضع ذكر التسليم، أن يقولوا بغير دافع ولا مانع، فيوقعونه مكان قولهم: بلا دافع ولا مانع، ويظنون أن غيراً ها هنا تنوب مناب (لا)، إذا كانت جحداً، وليس الأمر كذلك، لأن ((لا)) حرف جحد، لا يحتمل في هذا الموضع إلا معنى واحد، و ((غير)) قد يكون بمعنى الكثرة، كقولك: لقيت فلاناً غير مرة، وجاءني غير واحد من الرجال، بمعنى لقيته أكثر من مرة واحدة، وجاءني أكثر من واحد من الرجال. فإذا قال الكاتب بغير دافع جاز أن يتأول متأول أنه أراد أكثر من دافع واحد. فإذا قال: بلا دافع، كان أسلم من التأويل، وأصح بمعنى الكلام. كاتب المظالم فأما كاتب صاحب المظالم، فإنه مثل كاتب القاضي، في عمله وجميع أوصافه، ومعرفته الشروط، وما يوجبه الحكم فيها. غير أنه لا يحتاج إلى كتب المحاضر والسجلات، لأن صاحبه لا يحكم بشيء يسجل به، وإنما عليه أن يخرج الأيدي الغاصبة ويثبت الأيدي المالكة ويأخذ بالخبر الشائع، والتابع، والاستفاضة، وبشهادة صلحاء المجاورين، وأهل الخبرة من المشهورين. وليس إليه تعديل شاهد.

كاتب الديوان

ومتى تكافأت الشهادات عنده، ممن هذه سبيله في الشهرة والخبرة، وتواترت الاستفاضة والشهرة حتى لا يجد في أحدهما من القوة ما تغلبه على صاحبه، وتعذر عليه الإصلاح بين الخصوم، رد أمرهم إلى القاضي، ليقطع بينهم المجادلة، باليمين التي جعلت عوضاً من البينة. فليس بين كاتب المظالم وكاتب القاضي إلا فرق يسير. كاتب الديوان وأما كابت صاحب الديوان، فيحتاج مع ما قدمناه من الأوصاف، أن يكون عارفا ًبأصول الأموال، التي تجلب إلى بيت المال، وأقسام وجوهها، وأحكام الأرضين ووظائفها وأملاك أهليها، وما يجوز للإمام أن يقطعه منها، ووجوه تفرقة الأموال وسبلها. وما يجوز في ذلك مما لا يجوز، وما جرت به العادة، مما هو خارج عن أحكام الشريعة، مبتدع في حكم الرياسة. ووجوه الأموال ثلاثة: فئ، وصدقة، وغنيمة. والفئ ينقسم خمسة أقسام: أحدها: ما أفاد الله على رسوله وعلى المسلمين، مما يوجد في بلاد المشركين بعد فتحها، مثل كنز النخيرجان الذي وجد بعد فتح الأهواز وما جرى مجراه. والثاني: ما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين من أموال أهل البلاد الذين أجلاهم الرعب ولم يقاتلوا، فلم يوجف عليه بخيل ولا ركاب.

والثالث: الأرضون التي صالح عليها أهلها بشيء يؤدون في كل عام. والرابع: الأرضون التي فتحت عنوة، وأقرت بأيدي أهلها، وجعلوا عمالاً للمسلمين فيها، وضرب عليهم فيها الخراج، كما فعل عمر رضي الله عنه بالسواد. والخامس: جزية أهل الذمة. وأما الصدقة فهي الزكاة الواجبة على المسلمين. وقد اختلف الفقهاء في الأصناف التي تجب فيها الزكاة اختلافاً يطول ذكره، وعلى من تجب الزكاة، وعلى من لا تجب. فينبغي لكاتب الديوان أن يعلم ذلك، ويتفقه فيه. وأما الغنيمة: فهو ما غنمه المسلمون من بلاد المشركين أو عساكرهم. وفي أحكام الديوان أمور كثيرة، تخالف أحكام القضاء، ولهذا فصل حكم الديوان من سائر الأحكام. وذلك أن صاحب الديوان يحكم بالخطوط التي يجدها في ديوانه، ويلزم من تنسب إليه بها الأموال إذا عرفت، والحكام لا يفعلون ذلك، ويمضي ضمان الثمار والعلات وأبواب المال وسائر وجوه الجبايات، ولا يمضي ذلك الفقهاء، لأن تضمن الغلة قبل الحصاد، ضرب من المخابرة التي نهى عنها، وبيع الثمار قبل ظهور صلاحها من بيع الغرر وبيع ما لا يملك، وقد نهى عن ذلك.

وأبواب الأموال من الجوالي وغيرها، فيها خلاف أيضاً لما توجبه الأحكام، لأن (الجوالي) مال على رقاب بأعيانها. ومتى مات واحد منهم قبل محل ما عليه أو أسلم بطل كان ما يلزمه، ووجوه الجبايات: من الأسواق، والعراض والطواحين على الأنهار، التي لا ينفرد بمكلها إنسان من المسلمين دون سائرهم، مخالفة أيضاً لما توجبه أحكام الشريعة. وجميع ذلك جائز عند الكتاب على مذاهب أحكام الخراج. ولأجل هذا رأى قوم من الكتاب أن يجعلوا مكان تضمين الغلات، تضمين الأرض. وكانوا يتأولون في ضمان الأرحاء، أن ماءها ماء الخراج، فيجعلون الجباية منها، لما كانت مشتركة بين المسلمين. وأصحاب الدواوين كانوا يجعلون تاريخ الخراج بحساب الشمس، لا بحساب القمر، لأن الشهور القمرية تنتقل. والشمسية لا تنتقل. وكان كثير من الكتاب إذا ذكروا الحساب الشمسي، يزيدون في ذلك أن يقولوا: ويوافق ذلك من شهور العرب شهر كذا، من سنة كذا، من سنى الهجرة، إذ كان التاريخ عند الحكام بالسنين العربية دون الأعجمية.

كاتب الشرطة

كاتب الشرطة وأما كاتب الشرطة فينبغي له أن يعلم أن صاحبه إنما وضع لشيئين: أحدهما معونة الحكام وأصحاب المظالم والدواوين، في حبس من أمروه بحبسه، وإطلاق من أمروه بإطلاقه. وإشخاص من كاتبوه بإشخاصه. وإخراج الأيدي مما خلت فيه وإقرارها، ولذلك جعل له اسم المعونة. والثاني: النظر في أمور الجنايات، وإقامة الحدود على من وجبت والعقوبات، والفحص عن أهل الريب والمنكرات، وتعزير من وجب تعزيره، وإقامة الحدود على من وجبت إقامتها عليه، من اللصوص ونحوهم. وإنما اشتق له اسم الشرطة، من زيه. وكان من زي أصحاب الشرطة، نصب الأعلام على مجالس الشرطة، والأشراط هي الأعلام. ومنه قيل أشراط الساعة: أي علاماتها ودلائلها. ومنه سمى الشرط شرطاً، لأن لهم زياً يعرفون به. فينبغي لكاتب الشرطة أن يكون له علم بالحدود والواجبات، والجروح والديات، وحكم العمد، وحكم الخطأ، وسائر أصناف الحكومات، ومن ينبغي أن يعاقب في الزلات، ومن تدرأ عنه الحدود بالشبهات وتقال عثرته من ذوي المناصب والهيئات، ونحو ذلك.

كاتب التدبير

كاتب التدبير وأما كاتب التدبير فهو أعظم الكتاب مرتبة، وأرفعهم منزلة، لأنه كاتب السلطان، الذي يكتب أسراره، ويحضر مجالسه، وهو الذي يدعى وزير الدولة المرجوع إليه في جميع أنواع الخدمة. وهذا الكاتب أحوج الكتاب المذكورين، إلى أن تكون له مشاركة في جميع العلوم بعد إحكامه لما يحتاج إليه في صناعته. وينبغي أن يكون أكثر عمله التواريخ، وأخبار الملوك، والسير والدول، والأمثال، والأشعار، فإن الملوك إلى هذه الأنواع من العمل أميل، وهم بها ألهج. وقلما يميلون على إلى غير ذلك من العلوم. وبالجملة: ينبغي لهذا الكاتب أن يجرى إلى تعلم الأشياء التي يعلم أن رئيسه يميل إليها، ويحرص عليها، وأن يتجنب كل ما ينكره الملك وينافره، فإن ذلك يحببه إليه، ويحظى بمنزلته لديه. ويدعو الملك إلى الإيثار له والتقريب، والإغضاء على ما فيه من العيوب، فقد روى أن زياداً أخا معاوية، عوتب في تقريبه لحارثة بن بدر الغدافي، وكان قد غلب على أمره، حتى كان لا يجب عنه شيئاً من سره. فقيل له: كيف تقربه وأنت تعلم اشتهاره بشرب الخمر؟ فقال: كيف لي باطراح رجل كان يسايرني حين دخلت العراق، ولم يصلك ركابي ركاباه، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فلويت عنقي إليه، ولا أخذ على الشمس في شتاء قط، ولا الروح، في صيف قط. ولا سألته عن علم إلا ظننت أنه لا يحسن غيره. وإذا اجتمع للكاتب مع التفنن في المعارف، والعلوم، والعفاف، ونزاهة النفس عن القبائح، فقد تنهي في الفضل، وجاز غاية النبل، إن شاء الله

باب ذكر جملة من آلات الكتاب

باب ذكر جملة من آلات الكتاب لا غنى لهم عن معرفتها من ذلك: الدواة: يقال: هي الدواة، والرقيم، والنون. وقال بعض المفسرين في قوله عز وجل: {ن والقَلَم} إنها الدواة. وكذلك روى عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحاب الكَهف والرَّقِيم}. وجمع دواة دويات، كما يقال قناة وقنوات، ويقال: دواة ودوى، كما يقال. قناة وقنا. قال الشاعر: لمن الدار كخط بالدوى ... أنكر المعروف منه وامحى ويقال: دواة ودوى، كما يقال: قناة وقنى: قال الشاعر وكم تركت ديار الشرك تحسبها ... تلقى الدوى على أطلالها لبقا وجمع النون في العدد القليل، أنوان، وفي العدد الكثير نينان. كما يقال في جمع حوت أحوات وحيتان. واشتقاق الدواة من الدواء، لأن بها صلاح أمر الكاتب، كما أن الدواء به صلاح أمر الجسد. وجعلها بعض الشعراء المحدثين مشتقة من دوى الرجل يدوى دوى: إذا صار في جوفه الدواء، فقال: أما الدواة فأدوى حملها جسدي ... وحرف الخط. تحريف من القلم

وليس للنون فعل مصرف منها، ولا للرقيم. وأما الدواة فقد صرف منها أفعال واشتقت منها أسماء، فقالوا: أدويت دواة: إذا اتخدتها فأنا مدو. فإذا أمرت غيرك أن يتخذها قلت: أدو دواة. ويقال للذي يبيع الدوى دواء، كما يقال لبائع الحنطة: حناط، ولبائع التمر: تمار. فإذا كان يعملها قيل مدو، كما يقال للذي يعمل القنوات مقن. قال الراجز: ((عض الثقاف خرص المقنى)) ويقال للذي يحمل الدواة ويمسكها: داو، كما يقال لصاحب السيف: سائف، ولصاحب الترس: تارس. ويقال لما تدخل فيه الدواة ليكون وقاية لها صوان وغلاف وغشاء. فإن كان شيئاً يدخل في فمها لئلا يسيل منها شيء، فهو سداد وعفاص. وكذلك القارورة ونحوها. ومن اللغويين من يجعل العفاص ما يدخل فيه رأس القارورة ونحوها، ويجعل السداد والصمام، ما يدخل فيها. ووزن دواة من الفعل فعلة، وأصلها: دوية، تحركت الياء وقبلها فتحة، فانقلبت ألفاً، ويدل على أن لامها ياء، قولهم في جمعها: دويات. فإن قال قائل: إن الواو من دواة، قد تحركت أيضاً، وانفتح ما قبلها، فهلا قلبتموها ألفاً، ثم حذفتم إحدى الألفين، لالتقاء الساكنين؟ فالجواب عن ذلك، من وجهين: أحدهما: أن حكم التصريف يوجب أنه إذا اجتمع في موضعي العين واللام حرفان يجب إعلالهما، أعلت اللام وتركت العين، لأن اللام أضعف من

العين، وأحق XXX إذا كانت طرفاً. وفي موضع تتعاقب عليه حركات الإعراب. وهو محل للتغيير. والثاني: أنهم لو فعلوا ما سألنا هذا السائل، لأجحفوا بالكلمة. وذب معناها. ويقوى هذا الجواب ويدل على صحته. أنك تجد الواو التي يلزم إلمامها إذا وقعت بعدها ألف. لم بعلوها في نحو النزوان والكروان. لئلا يلزم حذف أحد الألفين، فيلتبس فعلان بفعال. ولم يأت في الكلام إعلال العين وتصحيح اللاء. إذا كانا جميعاً حر في علة. إلا في مواضع يسيرة، شذت هما عليه الجمهور نحو آية. وصاية. وطاية. وتاية. وراية. إصلاح الدواة بالمداد يقال لصوفة الدواة قبل أن تبل بالمداد: البوهة والموارة فإذا XXX بالمداد فهي الليقة وجمعها: ليق. ويقال: لقت الدواة فهي ملبقة وألقتها. فهي ملاقة وقد يقال لها ليقة قبل أن تبل بالمداد. فتسمى مما تثول إليه. كما يقال للكبش: ذبح وذبيحة قبل أن تذبح. وللصيد رمية قبل أن ترمى. والعرب تقول: بئس الرمية الأرنب وقال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فإذا عظمت الصوفة فهي الهرشفة، فإن كانت

قطنة فهي العطبة، والكرسفة. والقطن كله يقال له: العطب والكرسف، ويقال من الكرسفة: كرسفت الدواة كرسفة وكرسافا. والمداد يذكر ويؤنث فيقال: هو المداد وهي المداد. ويقال له: نقس، بكسر النون. فأما النقس بفتح النون فمصدر نقست الدواة: إذا جعلت فيها نقساً. وقد حكى ابن قتيبة في كتاب آلات الكتاب: أنه يقال للمداد: نقس ونقس، بالكسر والفتح. قال: والكسر أفصح وأعرب. ويقال: مددت الدواة أمدها مداً: إذا جعلت فيها مدداً. فإذا كان مداداً فزدت عليه، قلت: أمددتها إمداداً. إذا أمرته أن يأخذ بالقلم من المداد، قلت: استمدد. وإذا سألته أن يعطيك على القلم مداداً، قلت: أمددني من داواتك. وقد استمددته: إذا سألته أن يمدك. وحكى الخليل، مدني وأمدني: أي أعطني من مداد دواتك، وكل شيء زاد فهو مداد. قال الأخطل: رأوا بارقات بالأكف كأنها ... مصابيح سرج أوقدت بمداد يعني بالزيت: والحبر من المداد مكسور لا غير. فأما العالم فيقال له: حبر، وحبر، وقال بعض النحويين: سمى المداد حبراً باسم العالم، كأنهم أرادوا مداد حبر، فحذفوا المضاف. ولو كان ما قاله صحيحاً، لقالوا للمداد حبر بالفتح أيضاً.

والأشبه أن يكون سمى بذلك لأنه يحسن الكتاب، من قولهم حبرت الشيء: إذا أحسنته. ويقال للجمال: حبر وسبر. وفي الحديث: يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره. فإذا قيل مداد حبر، فكأنه قيل: مداد زينة وجمال. ويجوز أن يكون مشتقاً من الحبر والحبار، وهو الأثر، سمى بذلك لتأثيره في الكتاب، قال الشاعر: لقد أشمتت بي أهل فيد وغادرت ... بجسمي حبراً بنت مصان باديها ويقال: أمهت الدواة وموهتها: إذا جعلت فيها ماء. فإذا أمرت من ذلك قلت: أمه ذواتك، وموه. القلم يقال: هو القلم والمزبر بالزاي والمذبر بالذال معجمة، سمى بذلك لأنه يزبر به ويذبر: أي يكتب وقد فرق بعض اللغويين بين زبرت وذبرت، فقال: زبرت بالزاي: أي كتبت، وذبرت بالذال: أي قرأت. وسموه قلماً، لأنه قلم أي قطع وسوى كما يقلم الظفر. وكل عود يقطع ويحز رأسه ويقلم بعلامة فهو قلم. ولذلك قيل للسهام أقلام قال الله تعالى {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}. وكانت سهاماً مكتوبة عليها أسماؤهم. ويقال للذي يقلم به مقلم، ولما يبرى به مبرى ومبراة. وقد بريته أبريه برياً،

وحصرمته حصرمة عن ابن الإعرابي. ويقال لما يسقط. من التقليم: القلامة، ولما يسقط. من البري: البراية. وجمع القلم: أقلام وقلام، كقولك في جمع جمل: أجمال وجمال. وقيل لأعرابي: ما القلم؟ ففكر ساعة، وجعل يقلب يديه، وينظر إلى أصابعه، ثم قال: لا أدري. فقيل له: توهمه في نفسك، فقال: هو عود قلم من جوانبه كتقليم الأظافر. ويقال: لعقده: الكعوب. فإن كانت فيه عقدة تشينه وتفسده، فهي الأبنة. ويقال لما بين عقده: الأنابيب، واحدها: أنبوب ولأوعية الأقلام: المقاليم. واحدها: مقلم. والأنابيب والكعوب: تستعمل أيضاً في الرماح وفي كل عود فيه عقد. وكذلك الابن، فإن كان في القصبة أو العود تأكل، قيل فيه قادح، وفيه نقد وكذلك في السن والقرن. قال جميل: رمى الله في عيني بثنية بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح وقال الهذلي: تيس تيوس إذا يناطحها ... يألم قرناً أرومه نقد

ويقال لباطنة: الشحمة، ولظاهره: الليط، فإن قشرت منه قشرة قلت: ليطت من القلم ليطة: أي قشرتها. والليط أيضاً: اللون قال أبو ذويب الهذلي. بأروى التي تأرى إلى كل مغرب ... إذا اصفر ليط الشمس حان انقلابها ويقال للقصب: اليراع والأباء. وقال قوم: الأباء: أطراف القصب، الواحدة يراعة وأباءة. قال متمم بن نويرة يذكر فرساً: ضافي السبيب كأن غض أباءة ... ريان ينفضه إذا ما يقدع ويقال للقطن الذي يوجد في جوف القصبة: البيلم، والقصف والقيسع، واحدته: بيلمه، وقيصفة وقيسعة. فإن كان فيه عوج فذلك الدرء، وكذلك في العود. قال الشماخ: أقام الثقاف والطريدة درءها ... كما قومت ضفن الشموس المهامز والطريدة: خشيبة صغيرة فيها حديدة تسوى بها الرماح ونحوها. ويقال لغشائه الذي عليه: الغلاف واللحاء والقشر. فإذا نزعته عنه قلت: قشرته وقشوته، وقشيته (مشدد)، ولحفته، ولفأته، وكشأته، ولحوته،

ولحيته، وسحيته، وسحوته، وجلفته، وجلهته ووسفته، ونقحته. هذان مشددان. ويقال لطرفيه اللذين يكتب بهما: السنان. إحدهما: سن. والشعيرتان: واحدتهما: شعيرة. فإذا قطع طرفه بعد البرى وهيئ للكتابة، قيل: قططته أقطه قطا وقضمته أقضمه قضما. والمقط: ما يقط عليه. والمقط بفتح الميم: الوضع الذي يقط من رأسه. قال أبو النجم: ((كأنما قط على مقط)). وقال المقنع الكندي يصف القلم: يحفى فيقضم من شعيرة رأسه ... كقلامة الأظفور في تقلامه فإذا انكسرت سنه قيل: قضم يقضم قضماً، على وزن حذر يحذر وكذلك كل تكسر في سن أو سيف أو رمح أو سكين. فإن أخذت من شحمته بالسكين، قلت: شحمته أشحمه. فإذا أفرطت الأخذ منها، قلت: بطنت القلم تبطيناً، وحفرته حفراً. وقلم مبطن محفور. واسم موضع الشحمة المنتزعة: الحفرة. فإذا تركت شحمته ولم تأخذ منها شيئاً، قلت: أشحمته إشحاما

ويقال للشحمة التي تحت برية القلم: الضرة. شبهت بضرة الإبهام، وهي اللحمة في أصلها. كذا قال ابن قتيبة في آلة الكتاب، وهو المعروف. وخالف ذلك في أدب الكتاب، فقال: الألية: اللحمة التي في أصلها الإبهام، والضرة: اللحمة التي تقابلها. فإن جعلت سن القلم الواحدة أطول من الأخرى قلت: قلم محرف. وقد حرفته تحريفاً. فإن جعلت سنيه مستويتين، قلت: قلم مبسوط، وقلم جزم، فإن سمع له صوت عند الكتابة، فذلك الصريف، والصرير، والرشق. ويقال: قلم مذنب بفتح النون: أي طويل الذنب. فإذا كثر المداد في رأس القلم حتى يقطر، قيل: رعف القلم يرعف رعافا، شبه برعاف الأنف. ومج يمج مجا. وأرعفه الكاتب إرعافاً، وأمجه إمجاحاً ويقال للكاتب: استمدد ولا تعرف ولا تمج، أي لا تكثر من المدد حتى يقطر. ويقال للخرقة التي يمسح فيها الكاتب قلمه: وقيعة بالقاف. كذا حكاها الثعالي في فقه اللغة. وقال أبو عمر الشيباني: وفيعة (بالفاء)، وكذا وجدتها مقيدة بخط علي بن حمزة. ويقال لما يدخل فيه القلم: غمد وغلاف وقمجار، وكذلك السكين. أصناف الأقلام قال ابن مقلة: للخط أجناس، فقد كان الناس يعرفونها، ويعلمونها أولادهم على ترتيب ثم تركوا ذلك، وزهدوا فيه، كزهدهم في سائر

العلوم والصناعات، وكان أكبرها وأجلها قلم الثلثين، وهو الذي كان كاتب السجلات يكتب فيما تقطعه الأئمة. وكان يسمى قلم السجلات. ثم ثقيل الطومار والشامي، وكان يكتب بهما في القديم عن ملوك بني أمية، ويكتب إليهم في المؤامرات بمفتح الشامي، ثم استخلص ولد العباس قلم النصف، فكتب به عنهم، وترك ثقيل: الطومار والشامي. ثم إن المأمون تقدم إلى ذي الرياستين، بأن يجمع حروف قلم النصف ويباعد ما بين سطوره، ففعل ذلك، ويسمى القلم الرئاسي، فصارت المكاتبة عن السلطان بقلم النصف، والقلم الرئاسي، والمكاتبة إليهم بحرفيهما. والمكاتبة من الوزارات إلى العمال بقلم الثلث، ومن العمال إليهم من الوزراء إلى السلطان بقلم المنشور، عوضاً من مفتح الشامي وتصغير المنشور، وسيما قلم المؤامرات، وقلم الرقاع، وهو صغير الثلث، للحوائج والظلامات. وقلم الحلية وغبار الحلية، وصغيرهما للأسرار، والكتب التي تنفذ على أجنحة الأطيار. قال ابن مقلة: وأكثر أهل هذا الزمان لا يعرفون هذه الأقلام، ولا يدرون ترتيبها، وليس بأيديهم منها إلا قلم المؤامرات، وصغير الثلث، وقلم الرقاع. وقد اقتصر كل كاتب على ما وقف عليه خطه، من صغر أو كبر، أو ضعف أو قوة، أو رخامة أو حلاوة، كاقتصارهم في سائر الأمور على البخوت والحظوظ.

وقال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: في كتاب آلة الكتاب: ذكر أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي، عن أبية، قال: أول من وضع الخط. نفر من طيئ بن بلان. وهم مرامر ابن مرة. وأسلم بن بن سدرة وعامر بن جدرة. فساروا إلى مكة، فتعلمه منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. وهشام بن المغيرة الخزومي. ثم أتوا XXX، فتعمله نفر منهم ثم أتوا الحيرة، وعلموه جم اعة، منهم. سفيان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم. وولده يسمون بالكوفة بني الكاتب. ثم أتوا الشام فعلموه جماعة. فانتهت الكتابة إلى رجلين من أهل الشام. يقال لهما الضحاك. وإسحاق بن حماد. وكانا يخطان الجليل. فأخذ إبراهم بن السحزي الخط الجليل عن إسحاق بن حماد، واخترع منه خطأ أخف منه. فسماه الثلثين. كان أخط أهل دهره بقلم الثلثين. ثم اخترع قلماً أخف من الثلثين. وسماه الثلث. وأقام ابن المخيس وصالح السجزي على الخط الجليل. الذي أخذاه عن إسحاق بن حماد. وكان

يوسف بن المخيس إذا أخذ عن إسحاق الحظ الجليل، اخترع منه قلماً آخر، أهون من الجليل، تاماً مفرط التمام مفتحاً، فأعجب ذا الرئاستين الفضل بن سهل، وأمر الكتاب ألا يحرروا الكتب إلا به. وسماه: الرياسي. ثم أخذ ابن الأحول عن ابن السجزى الثلثين والثلث، واخترع منهما قلما سماه النصف، وقلما آخر سماه: خفيف النصف، وقلما أخف من الثلث وسماه خفيف الثلث، وقلما سماه المسلسل، متصل الحروف، لا ينفصل بعضها من بعض، وقلما سماه غبار الحلية، وقلما سماه خط المؤامرات، وقلما سماه خط القصص، وقلما خفيفاً سماه الحوائجي، وقلما سماه المحدث، وقلما سماه المدمج، وقلما سماه الطوماري. وكان محمد بن معدان [المعروف بأبي ذرجان،] مقدماً في كتابة السجلات، وكان أبو ذرجان مقدماً في خط. النصف. وكان يعتمد قلماً مستوى السنين، وكان يشق الصاد والضاد والطاء والظاء بعرض النصف. وكان يعطف ياء على، وكل ياء من يساره إل يمينه، بعرض النصف، لا يرى فيها اضطراب ولا عوج.

وكان أحمد بن محمد [بن حفص] المعروف بزاقف، أحلى الكتاب خطاً في الثلث. وكان محمد بن عبد الملك الزيات يعجب بخطه، ولا يكتب بين يديه غيره. وكان حيون أخو الأحول، أخط من الأحول فأمر ابن الزيات ألا تحرر الكتب إلا بخطه، فاحتضره الموت حدثاً. وكان أهل الأنبار يكتبون المشق، وهو خط في خفه. والعرب تقول: مشقة بالرمح: إذا طعنه طعناً خفيفاً متابعاً. قال ذو الرمة يصف ثوراً وكلاباً. فكر يمشق طعناً في جواشنها ... كأنه الأجر في الإقتال يحتسب ويروى (في الأقتال)، وهم الأعداء، واحدهم قتل. ولأهل الحيرة خط الجزم، وهو خط المصاحف، فتعلمه منهم أهل [الكوفة. وخط أهل الشام، الجليل، يكتبون به المصاحف والسجلات. فعدد أصناف الأقلام حسب ما تقدم ذكره واحد وعشرون: الجليل. وقلم الثلثين، ويسمى قلم السجل. والقلم الرياسي، والنصف، وخفيف النصف، والثلث، وخفيف الثلث، ويسمى قلم الرقاع، والمسلسل، وغبار الحلية، وصغير الغبار، وهو قلم المؤامرات، وقلم القصص، والحوائجي، والمحدث، والمدمج، وثقيل الطومار، والشامي، ومفتح الشامي، والمنشور، وخفيف المنشور. وقلم الجزم.

السكين يقال: هو السكين، وهي المدية، والصلت، والمجزأة، والرميض، والمذبح، والمبراة، والشلظ، والشلطاء والمفراص، وآكلة اللحم، والسخين والشلقاء (ممدود على وزن الحرباء). وقال الفراء: السكين تذكر وتؤنث، وأنشد: فعيث في السنام غداة قر ... بسكين موثقة النصاب وقال ابن الأعرابي: في المدية ثلاث لغات: الضم، والفتح، والكسر. ويقال: إن الصلت هي الكبيرة منها. ويقال لجانب السكين الذي يقطع به: الحد والغرب والغر والغرار، والذلق. ولجنبها الذي لا يقطع: الكل، ولطرفها: الذباب، والظبة، والقرنة، وللذي يمسكه الكف منها: المقبض والمقبض (بفتح الباء وكسرها) والنصاب، والعتر والجزأة: يقال: جزأت السكين وأجزأتها: إذا جعلت لها جزأة، وأنصبتها: إذا جعلت لها نصاباً. وأقبضتها: إذا جعلت لها مقبضاً. وذكر ابن قتيبة في هذا الكتاب أن النصاب للسكين والمدية، والجزأة

للإشفى والمخصف وهو قول كثير من اللغويين. ويقال للمسمار الذي تشد به الحديدة في النصاب الشعيرة، وكذلك السيف، قال الراجز: كأب وقب عينه الضريرة ... شعيرة في قائم مسموره ويقال لما يشد به النصاب: اللك، ويقال للحديدة التي تدخل في النصاب من السكين: السيلان، وكذلك من السيف. ويقال لوجهي السكين: الأللان. واحدهما: ألل. فإذا كانت حادة: فيل سكين حديد، وحداد، وحداد، ومرهف، وذليق، ومذلق، وهذام وهذ، وصف با لمصدر من هذذت أهد: إذا أسرعت القطع. قال الشمردل بن شريك. كأن جزاراً هدم السكين ... جر له لمسير أفانين ويقال: وقعتها ورمضتها وذربتها (بالتخفيف)، وذربتها (بالتشديد) وأنفتها وألللتها وذلقتها وسننتها، هذه بالتخفيف، والثلاث

التي قبلها بالتشديد، وأرهفتها، كل هذا إذا أحددتها. والرمض: أن تجعل الحديدة بين حجرين، فتدق بهما لترق، فإذا انكسر طرفها قيل: انفلت انفلالا، وتفللت تفللاً، وقضمت قضما، وكذلك يقال في السيف. قال الشاعر: فلا توعدني إنني إن تلاقني ... معي مشرفي في مضاربه قضم ويقال لمدها: القجمار والغلاف والقراف. أنشد المطرز: وأخرج السكين من قجمارها فإن أدخلتها في غمدها قلت: غلفتها، وأغلفتها، وقربتها وأقربتها. الثلاثي منها مشدد العين. وقيل: أقربتها جعلت لها قراباً، وقربتها: أدخلتها في قرابها وغمدتها بالتخفيف، وأغمدتها. المقص يقال: هو المقص، والمقطع، والمقراض والجلم. فإذا أردت الموضع الذي يقص فيه ويقطع، قلت: مقص ومقطع، ففتحت الميم. وكذلك مقرض ومجلم، وأكثر ما يقال: اشتريت مقراضين ومقصين وجلمبن بالتثنية، فيجعلون كل واحدة من الحديدتين مقراضاً ومقصاً وجلما، قال الشاعر: ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصبح في حافاتها الجلمان

وقد جاء فيها الإفراد. قال سالم بن وابصة: داويت صدراً طويلاً غمره حقداً ... منه وقلمت أظفاراً بلا جلم وقال بعض الأعراب: فعليك ما اسطعت الظهور بلمتي ... وعلى أن ألقاك بالمقراض ويقال في تصريف الفعل منها: قصصت، وقطعت، وقرضت، وجلمت وقد قالوا: جرمت بالراء. ويقال لطرفيها: ذبابان، وظبتان، ولحديها: الغراران. ولجانبيها اللذين لا يقطعان شيئاً: الكلان ولحلقتيها: السمان وكذلك يقال لثقبى الأنف. أنشد أبو حاتم: ونفست عن سمية حتى تنفسا ... وقلت له: لا تخش شيئاً ورائياً ويقال للحديدة التي تسمر بها: الشعيرة، ولصوتها: الصليل، والصرير. وللثقب بطرفها: الزخر. وكل طعن وخز. قالت الخنساء: بيض الصفاح وسمر الرماح ... بالبيض ضرباً وبالسمر وخزا ويقال: خسقت، وخزقت، وخرقت، (بالزاي والراء): إذا ثقبت بسهم أو إبرة أو نحو ذلك.

الكتاب يقال: هو الكتاب والزبور والزبير والذبور (بالذال معجمة)، والمزبور. يقال: زبرت الكتاب (بالزاي) وذبرته (بالذال معجمة): بمعنى كتبته. وقد قال بعض اللغويين: زبرته (بالزاي): كتبته، وذبرته (بالذال): قرأته. والزبارة والتزبرة: الكتابة. قال رجل من أهل اليمن: أنا أعرف تزبرتي أي كتابتي. وقال أبو ذويب: عرفت الديار كرقم الداوا ... ة يذبره الكاتب الحميري وقال امرؤ القيس: كخط زبور في مصاحف رهبان وقال ابن قتيبة: الزبور في هذا البيت: الكاتب. يقال للكاتب. زابر وزبور وذابر وذبور. فإن كان الذي يكتب فيه من جلود فهو رق وقرطاس بكسر القاف، وقرطاس بضمها، وقرطس، وقد تقرطست قرطاساً: إذا اتخذته. وقد قرطست: إذا كتبت في قرطاس. ويقال: قرطسنا يا فلان، أي جئنا

بقرطاس. فإن كان من رق فهون كاغد (بالدال غير معجمة). وقد حكى بالذات معجمة. وقد يستعمل القرطاس لكل بطاقة يكتب فيها. ويقال لما يكتب فيه: الصحيفة، والمهرق وأصله بالفارسية (مهره)، والقضيم، والقضيمة. قال الأعشي: ربي كريم لا يكدر نعمة ... وإذا تنوشد في المهارق أنشدا وقال امرؤ القيس: وبين شبوب كالقضيمة قرهب ويقال: السجل والوصر بمعنى واحد. ويقال: سجل له القاضي وأسجل بمعنى واحد. ويقال للصك: قط وجمعه قطاط وقطوط. وكذلك كتب الجوائز والصلات. قال الأعشي: ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطى القطوط ويأفق وقال المتلمس: وألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك أقنو كل قط مضلل وقال الله تعالى {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} فإن كان

كتاباً كتب فيه بعد محو فهو طرس. ويقال: رقمت الكتاب رقماً، ولمقته لمقاً، ونمقته نمقاً ونمقته تنميقاً وحبرته تحبيراً، ونبقته تنبيقاً، (النون قبل الياء)، وبنقته تبنيقاً (الباء قبل النون)، ورقشته ترقيشا، وزبرجته زبرجة وزبراجا. وزورته تزويراً وتزورة، وزخرفته زخرفة كل ذلك إذا كتبته كتابة حسنة. فإذا نقطته قلت: وشمته وشماً، ونقطته نقطاً، وأعجمته إعجاماً، ورقمته ترقيماً. قال طرفة: كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشمه وقال المرقش، وبهذا البيت سمى مرقشاً: الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم وقال أبو ذويب: برقم ووشم كما نمنمت ... بميشمها المزدهاة الهدى وقال رؤية: دار كرقم الكاتب المرقش

فإذا أفسد الخط قيل: مجمجمه مجمجمة، وتبجه ثثبيجا، ورمجه ترميجاً، وهلهله هلهلة، ولهلهه لهلهلة. فإذا لم يبين خطه قيل: دخمسه دخمسة، ومجمجه مجمجة، وجمجمة جمجمة وعقمه عقماً، وعقله عقلاً. فإذا أدق الحروف وقارب بعضها من بعض قيل: قرمط قرمطة، وقرصع قرصعة. فإذا أمد الحروف، قيل: مشق مشقاً. ويقال: المشق: سرعة الكتابة، وسرعة الطعن، وقد تقدم ذلك. فإذا أعظم الحروف وطولها، قيل: مدها مداً، ومطها مطاً، ومططها تمطيطاً: فإذا نقص من الكتابة شيء فألحقه بين الأسطر، أو في عرض الكتاب، فهو اللحق، وجمعه ألحاق. قال الشاعر: عور وحور وثالث لهم ... كأنه بين أسطر لحق

فإذا سوى حروف كتابته، ولم يخالف بعضها بعضاً، قيل: جزم يجزم جزماً، وخط مجزوم ويقال من السطر: سطر (بالتخفيف)، وسطر (بالتشديد). ويقال: سطر وسطر (بتسكين الطاء وفتحها)، وجمع سطر، الساكن: أسطر، وسطور، وجمع سطر، المحرك: أسطار، وسطار. ويجوز سطور، كما قالوا: أسد وأسود، وجمع الجمع: أساطير. فإذا وضع على الكتاب تراباً بعد الفراغ من كتابته: أتربته إتراباً، وتربته تتريباً. ومن اللغويين من يقول أتربت ولا يجيز تربت. وكذلك قال ابن قتيبة في الأدب. فإن جعل عليه من براية العيدان التي تسقط منها عند نشرها قال: أشره تأشيراً، ووشره توشيراً، ونشره تنشيراً، لأنه يقال: أشرت الخشبة ووشرتها ونشرتها، وهو المئشار (بالهمز) والميشار (بغير همز) والمنشار (بالنون). ويقال لما يسقط منها الإشارة، والوشارة، والنشارة. والذي يصنع ذلك الآشر والواشر. وعود مأشور، وموشور، ومنشور. ويقال: سحوت الكتاب سحواً، وسحيته سحياً: إذا قشرت منه قشرة، واسم تلك القشرة: سحاءه، وسحاية، وسحاة، والجمع سحاءات وسحايات، وسحاء (مكسور ممدود) وسحاً (مفتوح ومقصور)، وسحايا. وكذلك

القطعة الصغيرة منه. فإذا شددته بسحاءة قيل: سحيته (بالتشديد) تسحية. ويقال للسحاءة التي يشد بها: خزامة أيضاً. وقد خزمه فهو مخزوم. ويقال لها أيضاً: إضباره وضبارة (بكسر الضاد). وقد ضبرته (بالتخفيف)، وضبرته (بالتشديد). والإضبارة أيضاً: صحف تجمع وتشد. ويقال للكتاب أيضاً مودة ومجلة ووحي. وكان ابن الأعرابي يروي بيت النابغة. مجلتهم ذات الإله (بالجيم). وجمع وحي وحي، على مثال عصى. قال لبيد: فمدافع الريان عرى رسمها ... خللقا كما ضمن الوحي سلامها ويقال: وحيت أحي وحيا: إذا كتبت، فأنا واح. وأوحيت فأنا موح.

وقد قيل في تفسير قوله عز وجل: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. وقال الشاعر: ماهيج الشوق من أطلال ... أضحت قفاراً كوحي الواحي ويقال للخطوط التي يكتبها الكتاب والصبيان، ويعرضونها ليرى أبهم أحسن: خط التناشير والتحاسين، لا واحد لها. ويقال للكاتب إذا سقط شيئاً من كتابته: قد أوهمت إيهاماً. فإذا غلط قيل: قد وهمت توهم وهماً (محركة الهاء) على مثال وجلت توجل وجلا. فإذا أراد شيئاً وذهب وهمه إلى غيره، قيل: وهمت تهم وهماً، ساكنة الهاء، على مثال وزنت تزن وزنا. وللكتب أسماء وقع الاصطلاح عليها بين اللغويين، فمنها ما يعم جميعها، ومنها ما يخص بعضها دون بعض. فمن الأسماء العامة: الكتاب، والصحيفة، فإنهما يقعان على جميع أنواعها، وليس كذلك المصحف، لأن هذا الاسم لا يوقعونه في المشهور المتعارف إلا على كتب الأنبياء المنزلة عليهم، وقد تستعمل في غير ذلك، وهو قليل. وأما الفنداق، والزمام، والأدواج، والأنجيذج والعمال، فلا تستعمل إلا في الكتب المتصرفة في الخدمة وحساب الخراج والعمال. ويقال من الأوارج: أرجت تأريجا وورجت توريجاً.

والرسائل لا تستعمل إلا في المخاطبات والمكاتبات. والسجلات لا تستعمل إلا في الكتب المتصرفة في مجالس القضاء والحكام. وقد تستعمل السجلات في كتب السلاطين. والعهدة لا تستعمل في كتب الشراء. والصكوك والقطوط الغالب عليها أن تستعمل في كتب الولايات والإقطاعات، والإنزالات، والمحاشاة من الوظائف والكلف. وربما استعملت في غير ذلك من الكتب. والأشهر استعمالها فيما ذكرناه. قال ابن الرومي: لك وجه كآخر الصك فيه ... لمحات كثيرة من رجال كخطوط الشهود مختلفات ... شاهدات أن ليس بابن حلال وقد جرت العادة في الأكثر، ألا يقال سفر إلا ما كان عليه جلد. وأما الدفتر فيوقعونه على ما جلد وما لم يجلد. واشتقاق السفر من قولهم: سفر الصبح: إذا أنار، كأنه يبين الأشياء كما يبينها الصبح، وهذا الاشتقاق يوجب أن يكون واقعاً على كل ما كتب، ولكن العادة إنما جرت على ما ذكرت لك. طبع الكتاب وختمه يقال: طبعت الكتاب أطبعه طبعاً، وختمته أختمه ختماً، وأنقته أنقه أنقا. ويقال للذي يطبع: طابع وطابع، وخاتم بالفتح والكسر

فأما الرجل الذي يطبع ويختم فطابع وخاتم (بالكسر لا غير). ويقال للطابع أيضاً: مطبع وميفق. قال الأعشي: يعطي القطوط ويأفق وفي الخاتم الذي يختم به لغات. يقال: خاتم، وخاتم، وخيتام، وخاتام، وختام، وختم، واختلف في قوله الأعشي: وصهباء طاف يهوديها ... وأبرزها وعليها ختم فقال قوم: أراد الخاتم. وقال قوم. إنما ختم: فعل ماض. أراد وختم عليها. ويقال للطين الذي يطبع به: ختام وجرجس وجولان وجعو. قال الله تعالى (ختامه مسك). وقال امرؤ القيس. ترى أثر القرح في جلدتي ... كما أثر الختم في الجرجس

وقال الجرمي: كأن قرادى صدره طبعتهما ... بطين من الجولان كتاب أعجم وذكر أبو رياش أن الجولان في هذا البيت: موضع بالشام، بينه وبين دمشق ليلة. وذكر أبو عمر المطرزي: أن الجعو: طين خاتم القاضي. ويقال: أكرست الكتاب: إذا ختمته. وقال المفسرون في تفسير قوله تعالى {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}:أي مختوم. ويقال لخاتم الملك: الحلق والهجار. قال المخبل السعدي يذكر رجلاً أعطاه النعمان بن المنذر خاتمه: وأعطى منا الحلق أبيض ماجد ... رديف ملوك ما تغب نوافله وقال الأغلب العجلي: ما إن رأينا أغارا ... أكثر منه قرة وقارا وفارساً يستلب الهجارا

وذكر المطرزي، أن الهجار خاتم القاضي. وذكر أشياء جعلها كأنها مختصة بالقاضي، وهي جائزة في غيره. فقال: يقال للقاضي: الفتاح، والفتاحة: الحكومة. والقواري عدو له، والخول: أمناؤه، واحدهم: منافذ. قال: وأنشدنا المفضل. وهو إذا ما قيل هل من رافد؟ ... أو رجل عن حقكم منافد يكون للغائب مثل الشاهد قال: والذرابنة: حجابه. والمثالي: كاتبة، والنون: دواته. والمزابر: أقلامها. والمجزأة: سكينة. والبوهة: صوفة مدادها. والربيدة: قمطر المحاضر. والأواصر: السحلات، واحدها وصر. يقال: هات وصري، وخذ وصرك. والسلاب: سواد القاضي. والساج: طيلسانه، والدنية: قلنسوته، والمقطرة: مجمرته. والليلة: بخوره، أنشدنا ثعلب عن ابن الأعرابي. لا تصطلي ليلة ريح صرصر ... إلا بعود لية ومجمر والسندل: جوربه إذا كان من خرق. فإن كان من صوف فهو المسماة

وإذا كان من كتان فهو الغلالة، والمبذل: خفه. والتلوة: بغلته، والمشطب: حصيره. والحشية: وسادته والهجار: خاتمة. والجعو: طين خاتمه. ويقال: طنت الكتاب: إذا جعلت عليه طيناً وتأمر من ذلك، فتقول: طن كتابك فإن أكثرت من ذلك قلت طينته، وطينه. ويقال لما يجعل فيه الطين: مطينة بكسر الميم. وكذا للطابع الذي يطبع به الدنانير والدراهم: روسم. قال كثير: من النفر البيض الذين وجوههم ... دنانير شيفت من هرقل بروسم العنوان يقال: علوان الكتاب، وعنوانه، وعنيانه. وقد عنونته أعنونه عنونة وعنواناً فهو معنون، وعلونته علونة وعلواناً، فهو معلون. وعنته أعونه عوناً، فهو معون، وعننته أعننه تعنيناً فهو معنن، وعننته أعنه عناً فهو معنون، وعنيته أعنيه تعنية فهو معنى، وعنوته أعنوه عنواً فهو معنو. وأفصحهن عنونته فهو معنون، قال الشاعر:

ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا وقال آخر: رأيت لسان المرء عنوان قلبه ... ورائده فانظر بماذا تعنون والعلوان (باللام): مشتق من العلانية. والعنوان (بالنون): مشتق من عن الشيء يعن: إذا عرض. فالواو على هذا زائدة، ووزنه فعوال. وقد قيل: إنه مشتق من قولهم: عنت الأرض تعدو: إذا ظهر فيها النبات. ويقوى هذا القول ما ذكرناه من قولهم: عنوت الكتاب وعنيته فيلزم على هذا أن يكون عنواناً (فعلاناً)، وتكون الواو أصلاً، والنون زائدة، وهو عكس القول الأول. ويلزم على هذا أن يكون اللام في علوان بدلاً من النون، كما قالوا جبريل، وجبرين. وأما من قال: عننته، وعننته بالنون، فلا يكون في هذه اللغة إلا من عن يعن: إذا عرض، وتكون الواو في عنوان زائدة، واللام في علوان بدلاً من النون، ولا يصح غير ذلك. ومن قال: عنته أعونه، على مثال صغته أصوغه، فإنه مقلوب من عنوته. وقال قوم: إن العنوان مشتق من العناية بالأمر، لأن الكتب في القديم كانت لا تطبع، فلما طبعت وعنونت، جعل القائل يقول من عنى بهذا الكتاب؟ ولقد عنى كابته به. وهذا الاشتقاق لا يصح إلا على لغة من يقول: عنيان (بالياء) ولا يليق بسائر اللغات.

وقد قال قوم: العنوان: الأثر، وبه سمى عنوان الكتاب. واحتجوا بقول الشاعر: (ضحوا بأشمط عنوان السجود به). وهذا القول فيه نظر، لأنه يلزم في العنوان الذي هو الأثر من الاشتقاق، ما يلزم في عنوان الكتاب. ولقائل أن يقول إن الأثر شبه بعنوان الكتاب.

الديوان الديوان: اسم أعجمي عربته العرب، وأصله دوان، بواو ومشددة، فقلبت الواو الأولى ياء، لانكسار ما قبلها. ودل على ذلك قولهم في جمعه: دواوين، وفي تصغيره دويوين، فرجعت الواو حين ذهبت الكسرة. ومن العرب من يقول في جمعه: دياوين (بالياء) قال الشاعر: عداني أن أزورك أم عمرو ... دياوين تنفق بالمداد كذا رويناه بالياء. وفي (ديوان) شذوذ عما عليه جمهور الأسماء في الاعتلال من وجهين: أحدهما: أن الواو الساكنة، إنما تقلب ياء للكسرة الواقعة قبلها، إذا كانت غير مدغمة في مثلها، نحو ميزان وميعاد. فإذا كانت مدغمة في مثلها صحت، نحو اجلواذ واعليواط. والوجه الآخر: أن الواو والياء من شأنهما في المشهور المستعمل من صناعة التصريف، أنهما إذا اجتمعتا وسبقت إحداهما بالسكون، قلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، نحو لويته لياً، وطويته طياً، ونحو سيد وميت. والأصل في تسميتهم الديوان ديواناً: أن كسرى أمر الكتاب أن يجتمعوا

في دار ويعملوا له حساب بالسواد في ثلاثة أيام، وأعجلهم فيه، فأخذوا في ذلك. واطلع عليهم لينظر ما يصنعون. فنظر إليهم يحسبون بأسرع ما يمكن وينسخون كذلك. فعجب من كثرة حركتهم، وقال: أي (ديوانه). ومعناه هؤلاء مجانين. وقيل معناه شياطين، فسمى موضعهم ديواناً. واستعملته العرب، وجعلوا كل محصل من كلام أو شعر ديواناً. وروى عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه قال: إذا قرأتم شيئاً من القرآن ولم تعرفوا عربيته فاطلبوه في شعر العرب، فإنه ديوانهم. ويقال لخادم الديوان: الفيج، وقد فيجت فلاناً: أي جعلته فيجاً. والفيج أيضاً: الذي يحمل الكتب من بلد إلى بلد، فأما فوجت بالواو: فمعناه: جمعت فوجاً من الناس. البراءة البراءة في الأصل: مصدر من قولك: برئت من الأمر براءة وبراء، بمعنى تبرأت منه تبرؤا. ويقال: هو برئ من ذلك، وهما بريئان، وهم براء على وزن ظرفاء. فإذا قلت: هو براء من ذلك (بفتح الباء) لم يثن ولم يجمع، لأنه مصدر وصف به. ويقال: قوم براء (بكسر الباء) على وزن ظراف، وبراء (بفتح الباء) وبراء (بضمها)، وهو اسم للجميع بمنزلة تؤام جمع تؤأم، وعراق جمع عرق وهو العظم بما عليه من اللحم، ونوق بساط. جمع بسط، وهي الناقة مع

ولدها، ولم يأت من الجمع شيء على فعال إلا ثمانية ألفاظ هذه بعضها. ويروي بيت زهير: إليكم إننا قوم براء بالفتح والكسر. فأما البراءة المستعملة في صناعة الكتابة، فسميت بذلك لمعينين: أحدهما: أن يكون من قولهم: برئت إليه من الدين براءة: إذا أعطيته ما كان له عندك. وبرئت إليه من الأمر براءة: إذا تخليت له عنه، فكان المرغوب إليه يتبرأ إلى الراغب مما أمله لديه، ويتخلى له عما رغب فيه إليه. وقيل: إنما كان الأصل في ذلك أن الجاني، كان إذا جنى جناية يستحق عليها العقاب، ثم عفا عنه الملك، كتب له أماناً مما كان يتوقعه ويخافه فكان يقال: كتبت لفلان براءة، أي أمان، ثم صار مثلاً. واستعير في غير ذلك. وقد جرت عادة الكتاب ألا يكتبوا في صدر البراءة {بِسْم الله الرَّحْمن الرَّحِيِم} اقتداء بسورة (براءة) التي كتبت في المصحف من غير بسملة، (واختلف في العلة التي من أجلها كتبت (براءة) في المصحف من غير بسملة) فقال قوم من النحويين، وهو رأي محمد بن يزيد: لم تفتتح بـ (بسم الله)، لأن (بسم الله) افتتاح الخير، وأول براءة وعيد، ونقض عهود.

وسئل أبي بن كعب، ما بال براءة لم تفتتح ببسم الله؟ فقال: فقال: لأنها نزلت في آخر ما نزل من القرآن. وقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في كل سورة ببسم الله، ولم يأمر في سورة براءة بذلك، فضمت إلى سورة الأنفال. لشبهها بها. يعني أن أمر العهود مذكور في الأنفال، وهذه نزلت بنقض العهود فكانت ملتبسة بها. التوقيع وأما التوقيع، فإن العادة جرت أن يستعمل في كل كتاب يكتبه الملك، أو من له أمر ونهى، في أسفل الكتاب المرفوع إليه، أو على ظهره، أو في عرضه، بإيجاب ما يسأل أو منعه، كقول الملك: ينفذ هذا إن شاء الله، أو هذا صحيح. وكما يكتب الملك على ظهر الكتاب: لترد على هذا ظلامته. أو لينظر في خبر هذا، أو نحو ذلك. وكما يروي عن جعفر بن يحيي: أنه رفع إليه كتاب يشتكي فيه عامل. فوقع على ظهره يا هذا قد قل شاكروك، وكثر شاكوك، فإما ما عدلت وإما اعتزلت.

وقال الخليل: التوقيع في الكتاب إلحاق فيه بعد الفراغ منه. واشتقاقه من قولهم من قولهم: وقعت الحديدة بالويقعة وهي المطرقة: إذا ضربتها وحمار موقع الظهر: إذا أصابته في ظهره دبرة. والوقيعة: نقرة في صخرة، يجتمع فيها الماء، وجمعها: وقائع، قال ذو الرمة: ولنا سقاطاً من حديث كأنه ... جنى النخل ممزوجاً بماء الوقائع فكأنه سمى توقيعاً، لأنه تأثير في الكتاب، أو لأنه سبب وقوع الأمر وإنفاذه من قولهم: أوقعت الأمر فوقع. التاريخ يقال: أرخت الكتاب تأريخاً، وهي أفصح اللغات، وورخته توريخاً، فهو مؤرخ ومورخ. وأرخته (خفيفة الراء) أرخاً، فهو مأروخ، وهي أقل اللغات. والتاريخ نوعان: شمسي، وهو المبني على دوران الشمس، وقمري: وهو المبنى على دوران على دوران القمر. وكان المتقدمون يسمون الحساب القمري خسوفاً. وتاريخ العرب مبني على دوران القمر، وهو الذي يجرى به العمل عند

الفقهاء. وكانت العرب تؤرخ بالكوائن والحوادث المشهورة، من قحط، أو خصب، أو قتل رجل عظيم، أو موته، أو وقعة مشهورة عند الناس، كما قال الربيع بن ضبع الفزاري: هأنذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا أبا امرى القيس، قد سمعت به ... هيهات هيهات طال ذا عمرا وقال آخر: زمان تناعي الناس موت هشام يعني هشام بن الوليد المخزومي. وقال النابغة الجعدي: فمن يك سائلاً غنى فإني ... من الشبان أيام الختان وقال حميد بن ثور الهلالي: وما هي إلا في إزار وعلقة ... مغار بن همام على حي خثعما

وكانوا يؤرخون بعام الفيل والفجار، وبناء الكعبة. وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل. وبين عام الفيل والفجار عشرون سنة. وسمى الفجار لأنهم فجروا فيه، وأحلوا أشياء كانوا يحرمونها. وبين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة. وبين بناء الكعبة ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، خمس سنين. وكانت الفرس تؤرخ بالوقت الذي جمعهم فيه أردشير ملك فارس، بعد أن كانوا طوائف. ولم يكن في صدر الإسلام تاريخ إلى أن ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فافتح بلاد العجم، ودون الدواوين، وجنى الخراج، وأعطى الأعطية: فقيل له: ألا تؤرخ؟ فقال: وما التاريخ؟ فقيل له: شيء كانت تعمله الأعاجم، يكتبوب في شهر كذا من سنة كذا. فقال عمر: هذا حسن، فأرخوا. فقال قوم: نبدأ بالتاريخ من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قوم: بل من وفاته. وقال قوم: بل من الهجرة. ثم أجمعوا على الابتداء بالتاريخ من الهجرة. ثم قالوا: بأي الشهور نبدأ؟ فقال بعضهم: نبدأ من رمضان. وقال بعضهم من المحرم، لأنه وقت منصرف الناس من حجهم. وكانت الهجرة في شهر ربيع الأول. وكان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. فقدم التاريخ على الهجرة بشهرين واثنتي عشرة ليلة، وجعل من المحرم.

ذكر [أول من افتتح كتابه بالبسملة

وكانوا يكتبون: شهر رمضان، وشهر ربيع الأول، وشهر ربيع الآخر فيذكرون الشهر مع هذه الثلاثة الأشهر، ولا يذكرونه مع غيرها من شهور السنة. والشهور كلها مذكرة الأسماء، إلا جمادي الأولى وجمادي الآخرة، وهي كلها معارف، جارية مجرى الأسماء الأعلام. ذكر [أول من افتتح كتابه بالبسملة، وأول من قال: أما بعد، وأول من طبع الكتب. وأول من كتب: من فلان بن فلان، إلى فلان بن فلان: * * * أول من افتتح كتابه بالبسملة، سليمان بن داود صلى الله عليهما. وأول من قال (أما بعد): داود عليه السلام. وأول من كتبها من العرب. قس بن ساعدة الإيادي. وكانت العرب تقول في افتتاحات كتبها وكلامها: (باسمك اللهم)، فجرى الأمر على ذلك في صدر الإسلام، حتى نزلت {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (بسم الله). حتى نزلت {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَانَ} فكتب (باسم الله الرحمن).

ثم نزلت: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}، فصارت سنة إلى يومنا هذا. وأما أول من طبع الكتب، فعمرو بن هند. وكان سبب ذلك: أنه كتب كتاباً للمتلمس الشاعر، إلى عامله بالبحرين، يوهمه أنه أمر له فيه بجائزة، وأمره فيه بضرب عنقه. فاستراب به المتلمس، فدفعه إلى من قرأه عليه، فلما قرئ عليه، رمى بالكتاب في النهر وفر. وفي ذلك يقول: وألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك أقنو كل قط مضلل رضيت لها بالماء لما رأيتها ... يجول بها التيار في كل محفل فأمر عمرو بن هند بالكتب فختمت. فكان يؤتى بالكتاب مطبوعاً، فيقال: من عنى به؟ فلذلك قيل: عنوان. والعنوان: الأثر، قال الشاعر: وأشعث عنوان السجود بوجهه ... كركبة عنز من عنوز أبي نصر وقد ذكرنا اشتقاق العنوان فيما تقدم، وبينا أن هذا القول لا يصح إلا في لغة من قال: عنيان (بالياء).

ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إلى ملك الروم كتاباً فلم يختمه، فقيل له: إنه لا يقرأ إن لم يكن مختوماً. فأمر أن يعمل له خاتم، وينقش على فصه: محمد رسول الله. فصار الخاتم سنة في الإسلام. وقد قيل: إن أول من ختم الكتب سليمان بن داود عليهما السلام. وقالوا في تأويل قوله عز وجل: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} أي مختوم. وأول من كتب من فلان إلى فلان، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار ذلك سنة. يكتب الكتاب ويبدأ باسمه قبل اسم من يخاطبه. ولا يكتب لقباً ولا كنية، حتى ولى عمر بن الخطاب، وتسمى بأمير المؤمنين، فكتب من أمير المؤمنين عمر. فجرت السنة بذلك إلى أيام الوليد بن عبد الملك، فكان الوليد أول من اكتنى في كتبه، وأول من عظم الخط، والكتب، وجود القراطيس، ولذلك قال أبو نواس. سبط مشافرها دقيق خطمها ... وكأن سائر خلقها بنيان واحتازها لون جرى في جلدها ... يقق كقرطاس الوليد هجان وأمر ألا يتكلم بحضرته، وألا يتكلم عنده إلا بما يحب. وقال: لا أكاتب الناس بمثل ما يكاتب به بعضهم بعضاً. فجرت سنة الوليد بذلك، إلا في

أيام عمر بن عبد العزيز، ويزيد الكامل. فإنهما لما وليا، ردا الأمر إلى ما كان عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزمن صحابته رضي الله عنهم. فلما ولي مروان بن محمد رجع إلى أمر الوليد، فجرى العمل بذلك إلى اليوم. كمل شرح الخطبة وما تعلق بها من الزوائد. بحمد الله وحسن عونه وصلى الله على محمد وآله وسلم.

القسم الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وعلى آله وسلم قال الفقيه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي رحمه الله: وهذا حين أبدأ بذكر مواضع من أدب الكتاب، يلزم التنبيه عليها، وإرشاد قارئه إليها، وليس جميعها غلطاً من ابن قتيبة، ولكنها تنقسم أربعة أقسام: القسم الأول منها: مواضع غلط فيها، فأنبه على غلطه. والقسم الثاني: أشياء اضطرب فيها كلامه، فأجاز في موضع من كتابه، ما منع فيه في آخر. والقسم الثالث: أشياء جعلها من لحن العامة، وعول في ذلك على ما رواه أبو حاتم عن الصمعي، وأجازها غير الأصمعي من

اللغويين، كابن الأعرابي، وأبي عمرو الشيباني، ويونس، وأبي زيد وغيرهم، وكان ينبغي له أن يقول: إن ما ذكره هو المختار، أو الأفصح، أو يقول: هذا قول فلان، وأما أن يجحد شيئاً وهو جائز، من أجل إنكار بعض اللغويين له، فرأى غير صحيح، ومذهب ليس بسديد. والقسم الرابع: مواضع وقعت غلطاً في رواية أبي علي البغدادي

المنقولة إلينا، فلا أعلم أهي غلط من ابن قتيبة، أم من الناقلين عنه. وأنا شارع في تبيين جميع ذلك، وترتيبه على أبواب الكتاب، بحسب ما أحاط به علمي، وانتهى إليه فهمي. وأضرب عن كر ما في الخطبة من الأغلاط، لأني قد ذكرت ذلك في الجزء الأول، وبالله أستعين، وعليه أتوكل.

باب معرفة ما يضعه الناس في غير موضعه

باب معرفة ما يضعه الناس في غير موضعه ([1] مسألة: أنشد ابن قتيبة في هذا الباب: يقلن لقد بكيت فقلت كلا ... وهل يبكي من الطرب الجليد [قال المفسر] هكذا نقل إلينا عن أبي نصر: هارون بن موسى، عن أبي علي البغدادي رحمة الله عليهما، والصواب فقلن (بالفاء)، لأن قبله. كتمت عواذلي ما في فؤادي ... وقلت لهن ليتهم بعيد فجالت عبرة أشفقت منها ... نسيل كأن وابلها فريد وأنشد أبو علي البغدادي في النوادر "فقالوا" بتذكير الضمير، وهو غير صحيح أيضا، لأن الضمير عائد على العواذل، والمراد بهن النساء لأن فواعل إنما يستعمل في جمع فاعلة، لا في جمع فاعل. فإن قلت: فلعله أراد بالعواذل: العذال، فجعل فواعل للمذكر ضرورة، كما قال الفرزدق:

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار فالجواب: أن قوله: "وقلت لهن"، يمنع من ذلك، وليس يمتنع عندي أن يكون الشاعر انصرف عن الإخبار عن المؤنث إلى المذكر مجازاً، كما ينصرفون عن المخاطب إلى الغائب، وعن الغائب على المخاطب، وذلك كثير تغني شهرته عن ذكره؛ ويدل على ذلك أنه قال بعد هذا: فقالوا ما لدمعهما سواء ... أكلتا مقلتيك أصاب عود فهذا الضمير لا يصح فيه غلا التذكير على هذه الرواية ولو روى هذا البيت: فقلن نرى دموعهما سواء لكان أجود، وأبعد من المجاز، ولم أر فيه رواية ثانية غير رواية أبي علي، ولو أنشده منشد: فقلن ما لدمعهما سواء

لكان جائزاً في العروض، ويكون الجزء الأول من البيت معقولاً، ومعنى العقل في الوافر سقوط الحرف الخامس من الجزء، فيرجع الجزء من (مفاعلتن) إلى (مفاعلن 9. وقد جاء العقل في جميع أجزاء الوافر، حاشا العروض والضرب، فإذا كان جائزاً في جميع البيت، فهو في جزء أجوز، ولنه من قبيح الزحاف، أنشد العروضيون: منازل لفرتني قفار ... كأنما رسومها سطور [2] مسألة: قال ابن قتيبة في هذا الباب: (ومن ذلك الحشمة، يضعها الناس موضع الاستحياء. قال الأصمعي: وليس كذلك وإنما هي بمعنى الغضب، وحكى عن بعض فصحاء العرب أنه قال: إن ذلك لمما يحشم بني فلان أي يغضبهم). (قال المفسر): هذا قول الأصمعي، كما ذكر عنه، وهو المشهور، وقد ذكر غيره أن الحشمة تكون بمعنى الاستحياء. وروى عن ابن عباس أنه قال: لكل داخل دهشة فابدءوه بالتحية،

ولكل طاعم حشمة فابدءوه باليمين. وقال المغيرة بن شعبة. العيش في إبقاء الحشمة. وقال صاحب كتاب العين: الحشمة: الانقباض عن أخيك في المطعم، وطلب الحاجة، تقول: احتشمت عني. وما الذي حشمك وأحشمك وقد روى في شعر عنترة: وأرى مطاعم لو أشاء حويتها ... فيصدني عنها كثير تحشمي وقال كثير: إني متى لم يسكن عطاؤهما ... عندي بما قد فعلت أحتشم وقال الكميت: ورأيت الشريف في أعين النا ... س وضيعاً وقل منه احتشامي وقد يمكن أن تتأول هذه الأبيات كلها على ما قال الأصمعي. فلا تكون فيها حجة، فيكون معنى قول عنترة (فيصدني عنها كثير تحشمي): أي إن أنفتي وحميتي من أن يتعلق بي عار وخُلُق أسب به، بمعنى من أخذ مالا يجب، لأن همتي ليست في السلب، إنما هي في المسلوب، فيكون نحو قول أبي تمام: إن السود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

وكذلك قول كثير، يكون معناه: إني أغضب وآنف أن يكون لهما فضل على ولا أجازيهما عليه. وكذلك قول الكميت: (وقل منه احتشامي) يكون معناه: قل معه غضبي وأنفتي، لأن الشريف يأنف من أن يكلم الخسيس، ويتكرم عن مراجعته، كما قال الآخر: (وأعرض عن شتم اللئيم تكرما) وكان الأصمعي لا يرى الكميت حجة، وقد استعمل أبو الطيب المتنبي الاحتشام بمعنى الاستحياء، وذلك أحد ما رود عليه من شعره فقال: ضيف ألم برأسي غير محتشم ... السيف أحسن فعلاً منه باللمم [3] مسألة: قال ابن قتيبة حكاية عن الأصمعي: (ونحو هذا قول الناس: زكنت الأمر. يذهبون فيه إلى معنى ظننت وتوهمت، وليس ذلك. إنما هو بمعنى علمت [يقال: زكنت الأمر أزكنه، قال قعنب بن أم صاحب: ولن يراجع قلبي ودهم أبدا ... زكنت منهم على مثل الذي زكنوا أي علمت منهم مثل الذي علموا مني].

(قال المفسر): قد حكى أبو زيد الأنصاري: زكنت منك مثل الذي زكنت مني. قال: وهو الظن الذي يكون عندك كاليقين، وإن لم تخبر به، وحكى صاحب العين نحوا من ذلك. وهذه الأقوال كلها متقاربة، ترجع عند النظر إلى أصل واحد. لأن الظن إذا قوى في النفس، وكثرت دلائله على الأمر المظنون، صار كالعلم، ولأجل هذا استعملت العرب الظن بمعنى العلم كقوله تعالى: (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعها). وقال دريد بن الصمة فقلت لهم ظني بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد وقال السيرافي: لا يستعمل الظن بمعنى العلم إلا في الأشياء الغائبة عن مشاهدة الحواس لها. لا يقال: ظننت الحائط مبنياً وأنت تشاهده. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: (ومن ذلك المأتم. يذهب الناس إلى أنه المصيبة، ويقولون: كنا في مأتم، وليس كذلك. إنما المأتم النساء يجتمعن في الخير والشر).

(قال المفسر): قد حكى كراعو ابن الأنباري عن الطوسي: أن المأتم يكون من الرجال أيضاً، وأنشد: حتى تراهن لديه قيما ... كما ترى حول الأمير المأتما [5] مسألة: قال ابن قتيبة: (ومن ذلك قول العامة: فلان يتصدق: إذا أعطى وفلان يتصدق: إذا سأل. وهذا غلط، والصواب: فلان يسأل، وإنما المتصدق: المعطي. قال الله تعالى: (وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين). (قال المفسر): هذا الذي قاله ابن قتيبة هو المشهور عن الأصمعي وغيره من اللغويين. وقد حكى أبو زيد الأنصاري، وذكره قاسم بن أصبغ عنه، أنه يقال: تصدق: إذا سأل. وحكى نحو ذلك أبو الفتح ابن جنى، وأنشد: ولو أنهم رزقوا على أقدارهم ... ألفيت أكثر من ترى يتصدق وذكر ابن الأنباري أيضاً في كتاب "الأضداد"، أن المتصدق يكون

المعطي، ويكون السائل، وحكى نحو ذلك صاحب كتاب "العين". والاشتقاق أيضاً يوجب أن يكون جائزاً، لأن العرب تستعمل تفعلت في الشيء، للذي يؤخذ جزءاً بعد جزء. فيقولون: تحسيت المرق، وتجرعت الماء. فيكون معنى تصدقت: التمست الصدقة شيئاً بعد شيء. [6] مسألة: قال ابن قتيبة: (ومن ذلك الحمام، يذهب الناس إلى أنها الدواجن تستفرخ في البيوت)، وذلك غلط، ثم ذكر أن التي في البيوت إنما يقال لها: اليمام). (قال المفسر): هذا الذي قاله عن الأصمعي والكسائي، فيحتج عنهما. وقد يقال لليمام حمام أيضاً. حكى أبو عبيد في الغريب المصنف، عن الأصمعي أنه قال: اليمام ضرب من الحمام بري. وحكى أبو حاتم عن الأصمعي في كتاب "الطير الكبير": اليمام الواحدة يمامة، وهو الحمام البري. وحمام مكة يمام أجمع. قال أبو حاتم: والفرق بين الحمام الذي عندنا واليمام، أن أسفل

ذنب الحمامة مما يلي ظهرها، مائل إلى البياض، وكذلك حمام الأمصار، وأسفل اليمامة لا بياض فيه. [7] مسألة: قال ابن قتيبة: ومن ذلك الآل والسراب، لا يكاد الناس يفرقون بينهما، وإنما الآل: أول النهار، وآخره، الذي يرفع كل شيء، إلى آخر الكلام. (قال المفسر): هذا الذي قاله، قد قاله غيره، وإنكار من أنكر أن يكون الآل السراب، من أعجب شيء سمع به، لأن ذلك مشهور معروف في كلام العرب الفصيح. فمن ذلك قول امريء القيس: فشبهتهم في الآل لما تكمشوا ... حدائق دوم أو سفينا مقيرا وقال العديل العجلي: فكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فوق رابية جلد وقال الأحوص لكثير: فكنت كمهريق الذي في سقائه ... لضحضاح آل بالملا يترقرق

[8] مسألة: وقد قال في هذا الباب: ومن ذلك (الربيع) يذهب الناس إلى أنه الفصل الذي يتبع الشتاء ... إلى آخر الفصل. (قال المفسر): مذهب العامة في الربيع: هو مذهب المتقدمين، لأنهم كانوا يجعلون حلول الشمس برأس الحمل، أول الزمان وشبابه. وأما العرب فإنهم جعلوا حلول الشمس برأس الميزان أول فصول السنة الأربعة، وسموه الربيع. وأما حلول الشمس برأس الحمل، فكان منهم من يجعله ربيعاً ثانياً، فيكون في السنة على مذهبهم ربيعان، وكان منهم من لا يجعله ربيعاً ثانياً، فيكون في السنة على مذهبهم ربيعان، وكان منهم من لا يجعله ربيعاً ثانياً، فيكون في السنة على مذهبهم ربيع واحد، وأما الربيعان من الشهور، فلا خلاف بينهم في أنهما اثنان: ربيع الأول، وربيع الآخر. [9] مسألة: قال ابن قتيبة: (ومن ذلك العرض. يذهب الناس إلى أنه سلف الرجل، من آبائه وأمهاته .. إلى آخر الفصل). (قال المفسر): قد اختلف الناس في حقيقة العرض. فقال قوم: عرض الرجل: آباؤه وأسلافه، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام. وقال قوم: عرضه: ذاته ونفسه وهو الذي اختاره ابن قتيبة،

وكان ينبغي له إذا اختاره، ألا ينكر قول من قال: إنه آباؤه وأسلافه، لأن كل واحد من القولين صحيح له حجج وأدلة، كذلك قال أبو عمر المطرزي. ومن أبني ما يحتج به من قال: إن العرض ذات الرجل ونفسه، حديث أبي الدرداء، وحديث ابن عينيه، وحديث أبي ضمضم، وقد ذكرها ابن قتيبة. ويزيد ذلك أيضاً، ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (لي الواجد يحل عقوبته وعرضه). فإنما أباح له أن يقول فيه، ولم يبح أن يقول في آبائه وأسلافه، واللي: مصدر لويته بدينه ليا وليانا: إذا مطلته به، وقد ذكر أبو عبيد هذا الحديث وفسره بنحو مما ذكرناه. وقال أبو عمر الشيباني في كتاب "الحروف": العرض: الجسد. حكاه عن العذري. وأما ما احتج به ابن قتيبة من قوله صلى الله عليه وسلم في صفة أهل الجنة، "لا يبولون ولا يتغوطون، إنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك"، فليست فيه حجة بينة لأن العرب تسمى المواضع التي تعرض من الجسد أعراضاً، والعرض الذي وقع فيه الخلاف ليس هذا، لأن العرض لفظة مشتركة تقع لمعان شتى، لا خلاف فيها بين اللغويين. وإنما وقع الخلاف في العرض الذي يمدح به الإنسان أو يذم. وهكذا بيت حسان بن ثابت: فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء

ليست فيه حجة ظاهرة، لأنه لا يجوز لقائل أن يقول: إنه أراد: فإن أبى ووالده وآبائي، فأتى بالعموم بعد الخصوص، كما قال تعالى: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) فخصص المثاني بالذكر تشريفاً لها وإشارة بذكرها، ثم أتى بعد ذلك بالقرآن العام لها ولغيرها ونحو ذلك مما خصص فيه الشيء تنويهاً به وإن كان قد دخل مع غيره في عموم اللفظ قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته وكتبه ورسله وجبريل) وقوله تعالى: (فيها فاكهة ونخل ورمان). ونحوه من الشعر قول الشاعر: أكر عليهم دعلجاً ولبانه ... إذا ما اشتكى وقع الرياح تحمحما ودعلج: فرسه، ولبانه: موضع اللبب من صدره، وإذا كر الفرس فقد كر صدره معه. ولكنه لما كان اعتماد الفرس على مقادمه، خصص اللبان بالذكر تنويهاً به، ومن أبين ما يحتج به من قال إن عرض الرجل حسبه وشرفه: قول مسكين الدارمي: رب مهزول سمين عرضه ... وسمين الجسم مهزول الحسب

فهذا البيت لا يصح أن يكون العرض فيه الذات، وكذلك قول طرفة، ويروى للحكم بن عبدل الأسدي: وأعسر أحياناً فتشتد عسرتي ... فأدرك ميسور الغي ومعى عرضي ومن ذلك قول القائل: قد قال قوم: أعطه لقديمه ... جهلوا، ولكن أعطني لتقدمي فأنا ابن نفسي لابن ابن عرضي احتذى ... بالسيف لا برفات تلك الأعظم [10] مسألة: قال ابن قتيبة: (ومن ذلك: الخلف والكذب): لا يكاد الناس يفرقون بينهما، والكذب فيما مضى، وهذا أن تقول فعلت كذا وكذا لم تفعله، والخلف فيما يستقبل وهو أن تقول) سأفعل كذا وكذا ولا تفعله). (قال المفسر): هذا الذي قاله هو الأكثر والأشهر، وقد جاء الذب مستعملاً في المستقبل قال الله تعالى: (ذلك وعد غير مكذوب). [11] مسألة: وقال ابن قتيبة في هذا الباب: (وأما قول الهذلي في صفة الضبع: عشنزرة جواعرها ثمان

فلا أعرف من أحد من علمائنا فيه قولاً أرتضيه). (قال المفسر): قد فسر ابن قتيبة هذا البيت في كتابه الموضوع في معاني الشعر، وقال: أراد زيادة في خلقها. وحكى ذلك عن الرياشي: وهذا قول صحيح وإن كن غير بين وإنما أراد الرياشي أن الشاعر لم يرد أن لها ثماني جواعر على الحقيقة، وإنما أراد أن مؤخرها لسعته وعظمه، كان يحتمل أن تكون فيه ثماني جواعر، والعرب قد تخرج الأمر الممكن مخرج الحقيقة، فيقولون: جاء بجفنة يقعد فيها ثلاثة رجال. وليس المراد أنه جاء بها وفيها ثلاثة رجال على الحقيقة. وإنما المراد أنها لسعتها لو قعد فيها ثلاثة رجال وسعتهم، ونظير ذلك قول عطية بن عوف بن الخرع: لها حافر مثل قعب الوليد تتخذ الفأر فيه مغارا [12] مسألة: قال ابن قتيبة: ومن ذلك (الفقير والمسكين) .. إلى آخر كلامه. (قال المفسر): هذه المسالة قد تنازع فيها الناس، فقال قوم: الفقير، أحسن حالاً من المسكين، لأن الفقير الذي له بلغة من العيش، والمسكين هو الذي لا شيء له، واحتجوا بقول الراعي: أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سيد

فجعل له حلوبة. واحتجوا بقوله تعالى (أو مسكيناً ذا متربة) أي قد لصق بالتراب من شدة حاله. واحتجوا أيضاً بأن المسكين مشتق من السكون وأنه بُني على وزن (مفعيل) مبالغة في وصفه بالسكون وعدم الحركة، أرادوا أنه قد حل محل الميت الذي لا حراك به، واحتج يونس بأن قال: قلت لأعرابي: أفقير أنت [أم مسكين] قال: لا والله، بل أنا مسكين، أراد أنه أسوأ حالاً من الفقير. وأما الذين قالوا: إن المسكين هو الذي له السُلغة من العيش، وأن الفقير هو الذي لا شيء له، فاحتجوا بأشياء. منها قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) فجعل لهم سفينة. ومنها: أن الفقير في اللغة: هو المكسور الفقار، ومن كسر فقاره، فلا حياة له، والقول الأول هو الصحيح، وما احتج به هؤلاء لا حجة فيه. أما قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين) فلا حجة فيه من وجهين: أحدهما: أنه ليس في الكلام دليل بين على أنها كانت ملكاً لهم ومالاً، وممكن أن ينسبها إليهم لأنهم كانوا يخدمونها ويتولون أمرها، كما تقول: هذه الدابة لفلان السائس، فتنسبها إليه لأنه يخدمها، لا لأنها ملك له. والعرب تنسب الشيء إلى من ليس له على الحقيقة إذا كانت بينهما ملابسة ومجاورة قوله تعالى (ذلك لمن خاف مقامي) وليس

لله تعالى مقام، ولا هو من صفاته تعالى، وإنما أراد: مقامه عندي. ومن ذلك قول الفرزدق: وأنتم لهذا الناس كالقبلة التي ... بها أن يضل الناس يهدي ضلالها في قول من جعل الضمير عائداً إلى القبلة، لا إلى الناس، ولا ضلال للقبلة، وإنما الضلال للمضلين إليها. فهذا وجه. والوجه الثاني: أن يكون الله تعالى سماهم مساكين على جهة الترحم، الذي تستعمله العرب في قولهم: مررت بزيد المسكين، فيسمونه مسكيناً إشفاقاً وتحننا، وليس بمسكين في الحقيقة. ويبين هذا ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: مسكين مسكين: رجل لا أهل له. قالوا: يا رسول الله، وإن كان ذا مال. قال وإن كان ذا مال. ولم يقع الخلاف بيننا في المسكين الذي يستعمل مجازاً على وجه التمثيل، وإنما وقع الخلاف في المسكين على الحقيقة، وأما احتجاجهم بأن الفقير هو المكسور الفقار، فليس فيه أيضاً حجة؛ لأنه يجوز أن يكون مشتقاً من قوله: فقرت أنف البعير: إذا حززته بحديدة، ثم

وضعت على موضع الحز الجرير، وعليه وتر ملوي لتذله وتروضه. فيكون الفقير إنما سمي فقيراً، لأن الدهر أذله، وفعل به ما يفعل بالبعير الصعب. احتجوا أيضاً بأبيات أنشدها ابن الأعرابي، وهي من أعظم حجاجهم وهي: هل لك في أجر عظيم تؤجره ... نغيث مسكيناً كثيراً عسكره عشر شياه سمعه وبصره ... قد حدث النفس بمصير يحضره قالوا: فجعل له عشر شياه وهذا لا حجة فيه عندنا، لأنه لم يرد أن له عشر شياه، وإنما المعنى: عشر شياه سمعه وبصره لو وهبت له، فحذف ما لا يتم الكلام إلا به، لعلم السامع بما أراد، كما قالت ميسون بنت بحدل: للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف والمعنى: من لبس الشفوف دون قرة عين. ويجوز أن يريد ملك عشر شياه أو هبة عشر شياه، فحذف المضاف.

[13] مسألة: قال ابن قتيبة: (ومن ذلك الآري، يذهب الناس إلى أنه المعلف). (قال المفسر): هكذا رواه أبو علي (بكسر الميم، وفتح اللام)، وجعله بمنزلة الآلات وقال: هو شيء منسوج من صوف يمدونه بين أيدي دوابهم، ووجدته مقيداً عن علي بن حمزة والسكري: معلف (بفتح الميم، وكسر اللام)، لأنه مكان للاعتلاف؛ وكل فعل على وزن فعل بفعل، بفتح العين من الماضي وكسرها من المستقبل، فإن اسم المكان والزمان منه (مفعل) بكسر العين، كالمضرب والمغرس. [14] مسألة: قال ابن قتيبة: ومن ذلك الملة. يذهب الناس إلى أنها الخبزة. فيقولون: أطعمنا ملة، وذلك غلط، إنما الملة موضع الخبزة. سمي بذلك لحرارته. إلى آخر الفصل. (قال المفسر): كذا قال يعقوب بن السكيت ولم أر فيه خلافاً

لغيره، وليس يمتنع عندي أن تسمى الخبزة ملة، لأنها تطبخ في الملة، كما يسمى الشيء باسم الشيء، إذا كان منه بسبب، ويجوز أيضاً أن يُراد بقولهم: أطعمنا ملة. أطعمنا خبز ملة. ثم يحذف المضاف، ويقام المضاف إليه مقامه. فإذا كان هذا ممكنا - ووجدت له نظائر - لم يجب أن يجعل غلطاً. [15] مسألة: قال ابن قتيبة: (ومن ذلك الأعجمي والعجمي، والأعرابي والعربي): لا يكاد عوام الناس يفرقون بينهما، والأعجمي: الذي لا يفصح وإن كان نازلاً بالبادية. والعجمي: منسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً؛ والأعرابي هوا لبدوي، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن يدوياً). (قال المفسر): هذا الذي قاله غير صحيح، لأن أبا زيد وغيره قد حكوا أن العجم لغة في العجم، وجاء ذلك في الأشعار الفصيحة، كقول الأخزر الحماني: سلوم لو أصبحت وسط الأعجم ... في الروم أو فارس أو في الديلم إذن لزرناك ولو لم نسلم وهذا البيت يصحفه كثير من الناس فيروونه: "ولو بسلم"، ولا وجه لذلك؛ لأن السلم لا يستعمل في قطع المسافات، وإنما يستعمل في صعود العلالي المشرفات، والمواضع المرتفعات. ولو قال قائل لصاحبه: لو كنت ببغداد لنهضت إليك ولو بسلم، لم يكن له معنى يعقل، وقد يستعمل السلم بمعنى السبب. وليس له

هاهنا أيضاً وجه. لأنه كان يجب أن يقول: ولو بغير سبب يوجب النهوض. ومما استعمل فيه الأعجم بمعنى العجم قول الشاعر: (مما تعتقه ملوك الأعجم) [16] مسألة: وأنشد ابن قتيبة عن أبي عبيدة لهند بنت النعمان بن بشير، في روح بن زنباع وهل هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل فإن نتجت مهرا كريماً فبالحري ... ون يك إقراف فما أنجب الفحل (قال المفسر): رويناه عن أبي على البغدادي (فمن قبل الفحل) على الإقواء، وقد روى هذا الشعر لحميدة بنت النعمان بن بشير، وأنها قالته في الفيض بن أبي عقيل الشقفي. فمن رواه لحميدة بنت النعمان، روى (وما أنا إلا مهرة). وكانت حميدة هذه في أول أمرها أهلا للحارث

ابن خالد المخزومي، ففركته لشيخه، وقالت فيه: فقدت الشيوخ وأشياعهم ... وذلك من بعض أقواليه ترى زوجة الشيخ مغمومة ... وتمسي لصحبته قاليه فطلقها الحارث وتزوجها روح بن زنباع ففركته، هجته أيضاً، وقالت: بكى الخز من روح وانكسر جلده ... وعجت عجيجاً من جذام المطارف وقال العباء نحن كنا ثيابه ... وأكسية مضروجة وقطائف فطلقها روح وقال: ساق الله إليك فتى يسكر ويقيء في حجرك فتزوجها الفيض بن أبي عقيل، فكان يسكر ويقيء في حجرها. فكانت تقول: أجيبت في دعوة روح، وقالت تهجوه: سميت فيضاً وما شيء تفيض به ... إلا بسلحك بين الباب والدار فتلك دعوة روح الخير أعرفها ... سقي الآله صداه الأوطف الساري وقالت فيه أيضاً: (وما أنا إلا مهرة عربية) البيتين. وقد أنكر كثير من الناس رواية من روى (بغل) بالباء، لأن البغل لا ينسل، قالوا: والصواب نغل بالنون وهو الخسيس من الناس والدواب

باب ما يستعمل من الدعاء في الكلام

وأصله نغل بكسر الغين على مثال فخذ، فسكن تخفيفاً ما يقال في فخذ فخذ. باب ما يستعمل من الدعاء في الكلام [1] قال في هذا الباب: (قولهم مرحباً: أي أتيت رحباً، أي سعة وأهلاً أي أتيت أهلاً لا غُرباء فانس ولا تستوحش. وسهلاً: أتيت سهلاً لا حزنا، وهو في مذهب الدعاء، كما تقول: لقيت خيراً). (قال المفسر): هذا الكلام يوهم من يسمعه أن هذه الألفاظ إنما تستعمل في الدعاء خاصة، وذلك غير صحيح، لأنها تستعمل دعاء وخبراً. فأما استعمالها بمعنى الدعاء فأن ترى رجلاً يريد سفراً فتقول له مرحباً، وأهلاً، وسهلاً، أي لقاك الله ذلك في وجهتك. وأما استعمالها بمعنى الخبر، فكأن يقدم عليك ضيف، فتقول له: مرحباً، وأهلاً، وسهلاً، أي إنك قد صادفت عندي ذلك. ومن العرب من يرفع هذه الألفاظ، أنشد سيبويه: وبالسهب ميمون النقيبة قوله ... لملتمس المعروف: أهل ومرحب

باب تأويل كلام من كلام الناس مستعمل

فهذا خبر محض، لا دعاء، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ مضمر، كأنه قال: هذا أهل ومرحب. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر مضمر، كأنه قال: لك أهل ومرحب. ومثله ما أنشده سيبويه أيضاً من قول الآخر: إذا جئت بواباً له قال: مرحباً ... ألا مرحب واديك غير مضيق باب تأويل كلام من كلام الناس مستعمل [1] أنشد في هذا الباب للأعشى: فقلت له هذه هاتها ... بأدماء في حبل مقتادها ثم قال بأثر البيت: يعني هذه الخمر بناقة برمتها. (قال المفسر): كذا رويناه من طريق أبي نصر، عن أبي علي البغدادي. ووقع في بعض النسخ أي يعني هذه الخمر بناقة برمتها، وهذا هو الوجه. وأظن الأول تصحيفاً، وإن كان غير ممتنع.

[2] مسألة: وقال في قولهم: وضع على يدي عدل، قال ابن الكلبي: هو العدل بن فلان بن سعد العشيرة. (قال المفسر): شك ابن قتيبة في اسم أ [ي العدل، فكنى عنه بفلان، وليس الشك لابن الكلبي، لأن غير ابن قتيبة حكى عن ابن الكلبي أنه العدل بن جزء بن سعد العشيرة، وكذلك قال يعقوب في إصلاح المنطق. [3] مسألة: قال ابن قتيبة: ويقولون (أريته لمحاً باصراً: أي نظراً بتحديق شديد، ويخرج (باصر) مخرج لابن وتامر ورامح، أي ذو لبن وتمر ورمح وبصر). (قال المفسر): يريد أن هذه الصفات، جاءت على معنى النسب، لا على أفعال، وهذا موضع أشكل على قوم فيظنونه غلطاً، حين وجدوا أفعالاً مستعملة من الرمح والتمر واللبن، وليس الأمر على ما ظنوا، وما قاله ابن قتيبة صحيح لا مطعن فيه.

والوجه في هذا أن يقال: إذا أردت باللابن الذي يسقي اللبن، وبالتامر الذي يطعم التمر، وبالرامح الذي يطعن بالرمح، فهي صفات مشتقة من أفعال جارية عليها. وليست على معنى النسب؛ لأنه يقال لبنت الرجل. وتمرته ورمحته. وإذا أريد باللابن: صاحب اللبن، وبالتامر: صاحب التمر. وبالرامح: صاحب الرمح. فهي صفات على معنى النسب، لأنها لم تستعمل منها أفعال على هذا المعنى. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: ويقولون بكى الصبي حتى فحم بفتح الحاء، أي انقطع صوته من البكاء. (قال المفسر): قد حكى أبو عبدي وغيره: فحم بكسر الحاء. وهما لغتان. [5] مسألة: وقال في هذا الباب: ويقولون: سكران ما يبت: أي لا يقطع أمراً. من مولك: بت الحبل، وطلقها ثلاثاً بتة. (قال المفسر): عول ابن قتيبة في هذا الذي قال على قول الفراء، فلذلك قال: (بتة) بغير ألف ولام، وكان سيبويه يقول: لا يجوز

إلا البتة، بالألف واللام، وذكر الفراء أنهما لغتان، وقد جاء ذلك ي بعض ما أخرجه مسلم في الصحيح. [6] مسألة: وقال في هذا الباب وقولهم أسود مثل حلك الغراب. قال الأصمعي سواده، وقال غيره أسود مثل حنك الغراب يعني منقاره. (قال المفسر): وقع في كتاب أبي علي البغدادي، أسود من حنك الغراب. وهو غلط، لأن هذا يجري مجرى التعجب، فكما لا يقال! ما أسوده، فكذلك لا يقال: هو أسود من كذا. وقال أبو العباس ثعلب: هو أشد سواداً من حلك الغراب وحنك الغراب، وهذا صحيح على ما يوجبه القياس. وقد اختلف في الحنك بالنون: فقيل: هو المنقار: ورد ذلك كثير من اللغويين وقالوا: إنما الحنك لغة في الحلك. أبدلت اللام نونا، لتقاربهما في المخرج، كما قيل رفل ورفن. وأنكر قوم من اللغويين حنكا بالنون. قال أبو بكر بن دريد: قال حاتم: قلت لأم الهيثم: كيف تقوين أشد سواداً فماذا؟ فقالت: من حلك الغراب، قلت: أفتقولينها من حنك الغراب فقالت: لا أقولها أبداً.

[7] مسألة: وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن بغضبوا (قال المفسر): وقع هذا البيت في أكثر النسخ: طعنت بضم التاء، ولا أعلم: أهو غلط من واضع الكتاب. أم من الراوي عنه، والصواب فتح التاء لأن قبله: يا كرز إنك قد فتكت بفارس ... بطل إذاهاب الكماة وجيبوا والشعر لأبي أسماء بن الغسريبة. وقيل: هو لعطية بن عفيف يخاطب كرزاً العقيلي، كان قد قتل أبا عيينة وهو حصن بن حذيفة ابن بدر الفزاري يوم الحاجر. [8] مسألة: وذكر في هذا الباب: أن المسافة مشتقة من السوف، وهو الشم وانشد قول رؤبة: "إذا الدليل استاف أخلاف الطرق". أي شمها. (قال المفسر): كذا قال يعقوب، وأكثر اللغويين، وذكر بعضهم

أنها مشتقة من السواف بضم السين وفتحها، وهو موت الإبل، وهذا بمنزلة قولهم للفلاة، مهلكة، لهلاك الناس أو الإبل بها. ويشهد لهذا قول علقمة بن عبدة: هداني إليك الفرقدان ولا حب ... له فوق أصواء المتان علوب بها جيف الحسري فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب ومن المنسوب قال في هذا الباب: عنب ملاحي بتخفيف اللام (وهو مأخوذ من الملحة وهي البياض وهذا قال في باب ما جاء مخففاً، والعامة تشدده وأنشد: ومن تعاجيب خلق الله غاطية ... يعصر منها ملاحي وغريبيب (قال المفسر): هذا الذي ذكره ابن قتيبة هو المشهور، والذي حكاه اللغوييون. وقد جاء في الشعر ملاحي بتشديد. فلا أعلم أهو لغة أم ضرورة من الشاعر قال: وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى ... كعنقود ملاحية حين نورا

باب أصول أسماء الناس المسمون بأسماء النبات

باب أصول أسماء الناس المسمون بأسماء النبات وقع في أكثر النسخ المسمين بالياءن ورأيت كثيراً ممن يقرأ هذا الكتاب، ويُقرأ عليه يبشرون الواو ويردونها ياء، كأنهم يرون المسمين صفة للناس وذلك غلط. والصواب المسمون بالواو؛ لأن قوله أصول الناس، ترجمة يدخل تحتها جميع الأبواب التي ذكر فيها أسماء الناس المنقولة عن الأجناس والأنواع والصفات إلى العلمية، إلى آخر باب المسمين بالصفات وغيرها. ثم نوع ما أجمله في الترجمة وقسمه فقال المسمون بأسماء النبات، المسمون بأسماء الطير، المسمون بأسماء السباع إلى آخر ما تقتضيه الترجمة. فقوله: المسمون بأسماء النبات مرتفع على خبر مبتدأ مضمر، كأنه قال: هؤلاء المسمون، وكذلك سائرها. [1] مسألة: قال ابن قتيبة في هذا الباب: (حدثني زيد بن أخزم قال: حدثني أبو داود عن شعبة، عن جابر، عن أبي نضرة، عن أنس بن مالك قال: كناني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقلة كنت أجتنيها، وكان يكنى أبا حمزة). (قال المفسر): وقع في بعض النسخ، عن أبي نضرة. في بعضها عن أبي نصر. وروى عن أبي علي البغدادي أنه قال: الصواب عن أبي نضرة (بضاد معجمة، وتاء التأنيث). قال: واسمه المنذر

ابن مالك بن قطعة. وهذا الذي قاله أبو علي غير صحيح، لأن أبا نضرة لم يرو عن أنس بن مالك شيئا، إنما روى عن أبي سعيد الخدري. والصواب: عن أبي نصر، واسمه حميد بن هلال العدوي البصري. وقد روى هذا الحديث أيضا ًعن أبي نصر: خيثمة البصري عن أنس، ولعلهما قد اشتركا في سماعه منه. المسمون بأسماء الهوام قال ابن قتيبة في هذا الباب: (العلس: القراد، ومنه المسيب بن علس الشاعر). (قال المفسر) هكذا رويناهعن أبي نصر عن أبي علي (بن علس) مصروفاً وكذا قرأته في غير هذا الكتاب وذكر كراع أن (علس) اسم أمه. فيجب على هذا ألا يصرف. المسمون بالصفات وغيرها [1] مسألة: قال في هذا الباب: (سلم: الدلو لها عروة واحدة). (قال المفسر) كذا قال يعقوب بن السكيت. ورده عليه على

ابن حمزة، وقال: الصواب عرقوة واحدة، وهي الخشبة التي يضع السقاء فيها يده إذا استقى بالدلو، والدلو الكبيرة لها عرقوتان. ولا يمكن أن يكون دلو بعرقوة واحدة. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: (الحوافزان: فوعلان، من حفزه بالرمح يقال: إنما سُمي بذلك لأن بسطام بن قيس حفزه بالرمح حين خاف أن يفوته فسمي بتلك الحفزة: الحوفزان، قال الشاعر: ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة ... سقته نجيعاً من دم الجوف أشكلا (قال المفسر): كذا وقع في النسخ. ولا مدخل لبسطام ابن قيس هنا. وإنما الحافز له قيس بن عاصم المنقري، طعنه في

خرابة وركه يوم جدود. والذي قاله من تسميته الحوفزان بحفز الطاعن له حين خاف أن يفوته صحيح. غير أنه سُمي بذلك لقول الشاعر فيه: (ونحن حفزنا الحوفزان .... فالشاعر هو الذي لقبه بهذا اللقب، فجرى عليه. واسمه: الحارث ابن شريك، واسم الشاعر سوار بن حبان المنقري، بحاء مكسورة غير معجمة. وباء معجمة بواحدة. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: (عامر بن فهيرة تصغير فهر. والفهر مؤنثة، يقال هذا فهر). (قال المفسر): قد ذكر بعد هذا في الكتاب، أن الفهر يذكر ويؤنث وهو خلاف قوله هاهنا. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: وقرأت بخط الأصمعي عن عيسى بن عمر أنه قال: شرحبيل: أعجمي، وكذلك شراحبيل، وأحسبهما منسوبين إلى (إيل). مثل جبرائيل وميكائيل. (قال المفسر): هذا الذي حكاه ابن قتيبة عن الأصمعي عن

عيسى، هو قول ابن الكلبي: كل اسم في كلام العرب آخره (إل) أو (إيل) فهو مضاف على الله عز وجل، مثل شرحبيل وعبد يا ليل وشراحيل وشهميل. ويلزمه على هذا الرأي أن يقول: إن أصل هذه الأسماء كلها الهمزة، وأنه ترك همزها استخفافاً، حين ركبت وطالت، كما تحذف الهمزة في قولهم ويلمه وأيشٍ لك. ونحو ذلك. وليس هذا رأي أكثر البصريين. وإنما شُرحبيل عندهم بمنزلة قُذعميل وخُزعبيل، ويا ليل بمنزلة هابيل، وشراحيل بمنزلة سراويل وقناديل، ونحو ذلك من الجموع التي سمي بها. والأسماء المعروفة التي جاءت على صورة الجموع، وشهميل: بمنزلة زحليل وبرطيل، وليست هذه الأسماء كجبرائيل وميكائيل في أنهما مضافان إلى (إيل)، لأنه قد ورد في التفسير عن علي وابن عباس رضي الله عنهما: أن جبرائيل وميكائيل ونحوهما كقولك: عبد الله وعبد الرحمن.

وقيل: إن جبراً بمعنى: عبد. وميكا: نحوه ولم يرد في شرحبيل وشراحيل ونحوهما شيء يجب التسليم له، ولا دليل قاطع يقطع بما قاله ابن الكلبي ومن رأى رأيه. فحمل هذه السماءعلى ما قاله البصريون أولى. وإن كان ما قاله ابن الكلبي ومن نحا نحوه غير ممتنع، لأن بعض اللغويين قد ذروا أن معنى شرحبيل وديعة الله بلغة حمير وهذا نحو مما قاله ابن الكلبي ومن رأى رأيه. [5] مسألة: وقال في هذا الباب: (الأخطل من الخطل، وهو استرخاء الأذنين، ومنه قيل لكلاب الصيد خطل). (قال المفسر): لا أعلم أحداً ذكر أن الخطل كان طويل الأذنين مسترخيهما، فيقال أنه لُقب الأخطل لذلك. والمعروف أنه لُقب الأخطل لبذاءته وسلاطة لسانه، وذلك أن ابني جُعيل احتكما إليه مع أمهما فقال: لعمرك انني وابني جُعيل ... وأمهما لإستسار لئيم فقيل له: إنك لأخطل، فلزمه هذا اللقب، والإستار: أربعة من العدد. وقال بعض الرواةن وحكى نحو ذلك أبو الفرج الأصبهاني: أن السبب في تلقيبه بالأخطل أن كعب بن جُعيل كان

شاعر تغلب في وقته، وكان ايُلم برهط منهم إلا أكرموه وأعطوه: فنزل على رهط الأخطل فأكرموه، وجمعوا له غنما، وحظروا عيها حظيرة، فجاء الأخطل فأخرجها من الحظيرة وفرقها، فخرج كعب وشتمه، واستعان بقوم من تغلب، فجمعوها له وردوها إلى الحظيرة. فارتقب الأخطل غفلته، ففرقها ثانية. فغضب كعب، وقال كفوا عني هذا الغلام وألا هجوتكم. فقال له الأخطل: إن هجوتنا هوجناك. وكان الأخطل يومئذ يفرذم. والفرذمة: أن يقول الرجل الشعر في أول أمره، قبل أن يستحكم طبعه وتقوى قريحته، فقال كعب: ومن يهجوني فقال: أنا. فقال كعب: "ويل لهذا الوجه غب الجمه" فأجابه الأخطل .... فقال كعب: إن غلامكم هذا هذا لأخطل، ولج الهجاء بينهما فقال الأخطل: وسميث كعبا بشر العظام ... وكان أبوك يسمى الجعل وأنت مكانك من وائل ... مكان القراد من است الجمل ففزع كعب، وقال: والله لقد هجوت نفسي بهذين البيتين، وعلمت أني سأهجي بهما. وقيل بل قال: هجوت نفسي بهذين البيتين، وعلمت أني سأهجي بهما. وقيل بل قال: لقد هجوت نفسي بالبيت الأول من هذين البيتين.

واسم الأخطل فيما ذكر ابن قتيبة: غياث بن غوث، وذكر غيره أن اسمه: غويث بن غوثن ويكنى أبا مالك، ويلقب دوبلا. والدوبل: الحمار القصير لذنب. ويقال: إن جريرا هو الذي لقبه بذلك. وذلك أن الجحاف بن حكيم لما أوقع ببني تغلب بالبشر، وهو موضع معروف من بلادهم، دخل الأخطل على عبد الملك بن مروان، فقال: لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكي والمعول فإلا تغيرها قريش بملكها ... يكن عن قريش مستزاد ومزحل فغضب عبد الملك، وقال: على أين يا ابن النصرانية؟ فرأى الخطل الغضب في وجهه، فقال: إلى النار، فقال: أولى لك لو قلت غير ذلك فقال جرير: بكى دوبل لا يرقئ الله دمعه ... ألا إنما يبكي من الذل دوبل [6] مسألة: ذكر في هذا الباب، (الروبة وما فيها من اللغات، ثم قال: إنما سمي رؤبة بن العجاج بواحدة من هذ). وهذا يوجب أن يجوز في (رؤبة) الهمز وترك الهمز. وذكر في باب ما يغير من أسماء الناس: أن رؤبة بن العجاج بالهمز لا غير، ولو كان مهموزاً لا غير. لم يمتنع من أن تخفف همزته، لأنه لا خلاف بين النحويين أن الهمزة في مثل هذا يجوز تخفيفها. وذكر أن أقسام

الرؤبة، أربع، ثلاث غير مهموزة، وواحدة مهموزة، وأغفل ثلاثاً غير مهموزة، وهي: الرؤبة: طرق الفرس في جمامه: وأرض رؤبة: أي كريمة. والروبة: شجر الزعرور. فهي على هذا سبع ست غير مهموزة، وواحدة مهموزة. [7] مسألة: وقال قتيبة في هذا الباب: وروي نقلة الأخبار أن (طيئاً) أول من طوى المناهل. فسمي بذلك، وأن مُراداً تمردت، فسميت بذلك، واسمها: يحابر. ولست أدري كيف هذان الحرفان، ولا أنا من هذا التأويل فيهما على يقين. (قال المفسر): كذا رويناه عن أبي نصر: (مرادا) مصروفاً، والقياس ألا يُصرف، لأنه أراد القبيلة دون الحي، والدليل على أنه أراد القبيلة قوله، تمردت، وقوله: واسمها: يحابر، فأنث الضمائر. وظاهر كلام ابن قتيبة أنه أنكر اشتقاق مُراد من التمرد، كما أنكر اشتقاق طيء من طي المناهل، واشتقاق (مُراد) من التمرد ممكن، غير ممتنع، فتكون الميم على هذا أصلاً، ويكون وزن (مراد) على هذا فعالاً. وممكن أن يكون (مُراد) اسم المفعول من أراد يريد، فتكون الميم زائدة، ويكون وزن مراد مفعلاً، بمنزلة مقام ومنار.

وقد جاء في خبر لا أقف الآن على نصه. ولا أعرف من حكاه، أن مراد اسم جدهم أو أبيهم. وأنه لُقب بذلك، لأن رجلاً قال له: أنت مرادي. وهذه دعاوٍ لا يعرف حقها من باطلها، ولا صحيحها من سقيمها وإنما تُحكى على ما نقلته الرواة. وأما اشتقاق طيء من طي المناهل فغير صحيح في التصريف، لأن طيئاً مهموز اللام، (وطوى يطوي) لامه ياء، فلا يجوز أن يكون أحدهما مشتقاً من الآخر، إلا أن يزعم زاعم أنه مما همز على غير قياس، كقولهم: حلأت السويق، ولاينبغي أن يحمل الشيء على الشذوذ، إذا وُجد له وجه صحيح من القياس، وإنما اشتقاق طيء من (طاء يطوء): إذا ذهب وجاء ذكر ذلك ابن جني في اشتقاق أسماء شعراء الحماسة. وقال السيرافي: ذكر بعض النحويين ان طيئاً مشتق من الطاءة، والطاءة: يُعد الذهاب في الأرض، وفي المرعى. قال: ويروى أن الحجاج قال لصاحب خيله: أبغني فرساً بعيد الطاءة، وفي بعض الأخبار، كيف بكم إذا تطاءت الأسعار، أي غلت وبعدت على المشترين.

باب من صفات الناس

ومن صفات الناس [1] مسألة: قال في هذا الباب: (رجل معربد في سكره، مأخوذ من العربد والعربد حية تنفخ ولا تؤذي). (قال المفسر): قد يكون العربد أيضاً الخبيثة، وهذه الكلمة من الأضداد، أنشد ابن الأعرابي في نوادره: إذا ما الأمر كان جداً ... ولم أجد من اقتحام بداً لاقى العدا في حية عربدا وقال رؤبة: وقد غضبا غضباً عربدا [2] مسألة وقال في هذا الباب: (رجل مأبون: أي مقروف بخلة من السوء، من قولك: أبنت الرجل آنبه وآبنه بشر). (قال المفسر): هذا الذي قاله هو المشهور من قول اللغويين، وحكى أبو الحسن اللحياني: أبنت الرجل بخير وشر. قال: فإذا حذفوا ذكر الخير والشر، لم يذكر إلا في الشر وحده.

باب معرفة ما في السماء والنجوم والأزمان والرياح

باب معرفة ما في السماء والنجوم والأزمان والرياح [1] مسألة: قال في هذا الباب: (وثلاث درع، وكان القياس درعاً، سميت بذلك لاسوداد أوائلها، وابيضاض سائرها، ومنه قيل: شاة درعاء إذا اسود رأسها وعنقها وابيض سائرها). (قال المفسر): قد ذكر في باب (معرفة في الشاة) أن الدرعاء من الشاء التي اسودت عنقها، ولم يذكر الرأس. وهو خلاف ما قاله هنا. وذكر يعقوب وغيره أن العرب تختلف في الدرعاء من الشاء، فمنهم من يجعلها التي اسود رأسها وعنقها، ويبيض سائرها، ومنهم من يجعلها التي يبيض رأسها وعنقها، ويسود سائرها. وكذلك الدرعاء من الليالي. وقال صاحب كتاب العين شاة درعاء: سوداء الجسد، بيضاء الراس، وليلة درعاء: وهي التي يطلع فيها القمر عند وجه الصبح، وسائرها مظلم.

باب النبات

وقال أبو حنيفة: يقال في جمع الليلة الدرعاء: درع، على غير قياس، وقد يقال درع على القياس، وإنما كان درع جمعا على غير قياس، لأن القياس في جمع (أفعل، وفعلاء) من الصفات (فعل) بسكون العين، نحو أحمر وحمراء وحمر. فأما فعل المفتوحة العين فإنما بابها أن تكون جمعاً لما جاء من صفات المؤنث على (الفعلى) تأنيث (الأفعل)، كالأكبر والكبرى، والأصغر والصغرى. يقال: الكبر والصغر، وكأنهم إنما فعلوا ذلك لتساوي (الفعلى والفعلاء)، في أن ل واحدة منهما صفة، وأن مذكر كل واحدة منها (أفعل). والشيئان إذا تساويا في بعض معانيهما وأحوالهما، فقد يحمل بعضهما على بعض. باب النبات [1] مسألة: قال ابن قتيبة: (الحلى: هو الرطب، والحشيش: هو اليابس، ولا يقال له رطباً: حشيش). (قال المفسر): هذا الذي ذكره قول الأصمعي. وكان يقول: من قال للرطب من النبات حشيش فقد أخطأ, وحكى أبو حاتم قال: سألت أبا عبيدة معمرا عن الحشيش، فقال: يكون رطباً، ويابساً. وقال أبو عبيد في الغريب المصنف في باب نعوت الأشجار في ورقها والتفافها: وأما الورق فخضرة الأرض من الحشيش.

وقال أيضاً في باب ضروب النبات المختلفة: (الخلي: الرطب من الحشيش، فإذا يبس فهو حشيش). والقول فيه عندي قول الأصمعي، لأنه قال: حش الشيء يحش: إذا يبس ويقال للجنين: إذا يبس في بطن أمه: حشيش، ويقال حشت يده: إذا يبست، فالاشتقاق يجب أن يكون اليابس دون الرطب، لذلك اختاره ابن قتيبة على قول أبي عبيدة. والرطب (بضم الراء، وسكون الطاء) من النبات خاصة، فإذا ضممت الراء، وفتحت الطاء، فهو من التمر خاصة. فإذا فتحت الراء وسكنت الطاء، فهو ضد اليابس من كل شيء. [2] مسألة وقال في هذا الباب: (النور من النبت: الأبيض، والزهر: الأصفر، يكون أبيض ثم يصفر). (قال المفسر): حكى أبو حنيفة: أن النور والزهر سواء. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: الشجر: ما كان على ساق، والنجم: ما لم يكن على ساق، قال الله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان).

(قال المفسر): قد يسمى مالا يقوم على ساق شجرا، قال الله تعالى: (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين). [4] مسألة: وقال في هذا الباب: والورس يقال له: الغمر. ومنه قيل: غمرت المرأة وجهها. (قال المفسر): قال أبو علي البغدادي: تصويب الغمرة (بالتاء)، وكذلك قال ابن دريد: الغمرة: طلاء من زعفران تطلى به المرأة وجهها، ليصفو لونه، وكذا قال الخليل: الغمرة: طلاء تطلى به العروس. [5] مسألة: وقال في هذا الباب: الزرجون: الكرم، قال الأصمعي، هو الخمر، وهو بالفارسية زركون؛ أي لون الذهب. (قال المفسر): كذا روى أبو على البغدادي: (زركون) بتشديد الراء. وقال: كذا أقرأنيه أبو جعفر بن قتيبة، لتصويب تسكينها. ومعنى (زر) ذهب، ومعنى (كون): لون، كأنه قال: لون الذهب.

[6] مسألة: قال في هذا الباب:"البلس: التين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يرق قلبه، فليدمن أكل البلس". (قال المفسر 9: هذا الحديث يعتقد قوم فيه أنه تصحيف من بعض الرواة، وإنما هو: فليدم أكل البُلسن، وهو العدس وذكر ابن قتيبة هذا الحديث في كتابه في شرح غريب الحديث، على ما ذكره في أدب الكتاب. وذكر أن هذا الحديث رواه عمر بن قيسن عن عطاء، عن ابن عباس. قال: والبلس عند كثير من الناس العدس، وذلك غلط. وسألت غير واحد لأتبين من أهل اليمن عن البلس ما هو؟ فأخبرت أنه التين. وقالوا: هو مبتذل في بلادنا. قال ابن قتيبة: وإنما توهمه الناس العدس فيما أرى، لأن العدس يقال له باليمن: البلسن قال: فإن كان المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم البلس، فهو التين، وإن كان البلسن فهو العدس.

باب النخل

باب النخل [1] مسألة: قال في هذا الباب "والعفار والإبار: تلقيح النخل، والجباب والجداد والجداد والجرام والجرام، والقطاع والقطاع كله الصرام. (قال المفسر): كذا رويناه من طريق أبي نصر عن أبي علي، وهكذا رأيته في جمهور النسخ من هذا الكتاب. وحكى أبو عبيد في الغريب المصنف، أن الجباب تلقيح النخل، ذكره الأصمعي. والصواب أن يقال: والعفار والإبار والجباب: تلقيح النخل، أو يقال وهو الجباب، ولعله قد كان هكذا فوقع فيه الوهم من قبل بعض الناقلين. [2] مسألة: وقال هذا في الباب (وهو فُحال النخل، ولا يقال فَحل). (قال المفسر): هذا قول أكثر اللغويين، وقد جاء فحل في النخل، أنشد يعقوب:

تابري يا خيرة الفسيل ... تأبري من جند فشولي إذ ضن أهل النخل بالفحول [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "والشمراخ والعثكال: ما عليه البسر". (قال المفسر): هذا الذي قاله، قول أبي عمرو الشيباني. فأما الأصمعي فإنه قال: العثكال: الكباسة بعينها، وليس الشمراخ، ويقال: عثكال وعثكول، وكلا القولين له شواهد من اللغة، فالشاهد لقول الأصمعي ما روى في الحديث من أن سعد بن عباده أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل مخدج سقيم في الحي، وجد على أمة من إمائهم يخبث بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة. ومن الشاهد لقول أبي عمرو، قول امريء القيس:

باب ذكور ما شهر منه الإناث

"أثيثٍ كقنو النخلة المتعثكل" فإنما أراد هنا الكثير الشماريخ، والقنو: الكباسة. باب ذكور ما شهر منه الإناث [1] مسألة: قال في هذا الباب: "اليعسوب: ذكر النحل" (قال المفسر): كذا حكى أبو عبيد في الغريب عن الأصمعي، وذكر في شرح الحديث؛ أن اليعسوب أمير النحل، وقال الخليل: اليعسوب: أمير النحل، وكذا قال أبو حنيفة. وقال أبو حاتم: في كتاب الطير: اليعسوب: نحو من الجرادة، رقيق، له أربعة أجنحة، لا يقبض له جناحاً أبداً، ولا تراه أبداً يمشي، وإنما تراه طائراً أو واقعاً على رأس عود أو قصبة، وأنشد: وما طائر في الطير ليس بقابض ... جناحا ولا يمشي إذا كان واقعاً

ويسمى الأمير من الناس يعسوبا، تشبيها له بيعسوب النحل. وبذلك فسر أصحاب المعاني قول سلامة بن جندل. أطرافهن مقيل لليعاسيب [2] مسألة: وأنشد في هذا الباب: أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب (قال المفسر): كذا روى هذا البيت كل من رواه، ورواه أبو حاتم الراري: "الثعلبان" (بفتح الثاء واللام وكسر النون) تثنية ثعلب، وذكر أن بني سليم، كان لهم صنم يعبدونه، وكان لهم سادن يقال له: غاوي بن ظالم. فبينما هو ذات يوم جالس، إذ أقبل ثعلبان يشتدان، فشغر كل واحد منهما رجله وبال على الصنم. فقال يا بني سليم: والله ما يعطي ولا يمنع، ولا يضر ولا ينفع: أرب يبول الثعلبان برأسه .. (البيت) ثم كسر الصنم وفر، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما اسمك؟ فقال: غاوى ابن ظالم، فقال: لا. أنت راشد بن عبد ربه. فهذا الخبر يوجب أن يكون الثعلبان على التثنية.

باب إناث ما شهر منه الذكور

باب إناث ما شهر منه الذكور [1] مسألة: قال في هذا الباب: "والأنثى من الوعول: أروبةن وثلاث أراوى إلى العشر. فإذا كثرت فهي الأروى". (قال المفسر): هذا الذي قاله، هو قول الأصمعي، وكان يزعم أن الوعل: هو الذكر، والأنثى هي الأروية، وكان لا يجيز أن يقال للأنثى: (وعلة)، وحكى نحو ذلك عن الأحمر. وأما أبو زيد فأجاز أن يقال للأنثى وعلة، وذكر أن الأروية يقع للذكر والأنثى. وكذلك قال أبو عبيد: الأروى: الوعول. الواحدة منها أروية، وهذا هو الأشبه بالصواب؛ لأن العرب تقول في أمثالها: إنما أنت كبارح الأروى، قلما يرى، ولا يختصمون هنا أنثى من ذكر. وكذلك قول الشاعر: فمالك من أروى تعاديت بالعمى ... ولاقيت كلابا مطلا وراميا ومعنى هذا الشعر أن الأروى إذا بالت فشمت الضأن أبوالها، أو شربت ماء، قد اختلط فيه بولها، أصابها داء يقال له الأبى، فربما هلكت منه. وهذا أمر لا تختص الإناث منها به دون الذكور؛ فلذلك قال في هذا الشعر:

أقول لكناز تدكل فإنه ... أباً لا إخال الضأن منه نواجيا وذكر أبو الحسن الطوسي أنه يقال: أروية وإروية (بضم الهمزة وكسرها). وحكى أنها تقال للذكر والأنثى، وأما قوله: إن الأراوى لما دون العشرة، والأروى لما فوقها، فنقول: ذكره الأصمعي أيضاً. والذي حمله على أن قال ذلك؛ أنه رأى العرب يضيفون العشرة وما دونها إلى الأراوى ولا يضيفونها إلى الأروى، فيقولون: ثلاث أراوى وأربع أراوى، ونحو ذلك، ولا يقولون ثلاث أروى، إنما يقولون: ثلاث من الأروى، فاستدل بذلك على أن الأراوى للقليل، والأروى للكثير، وليس في هذا دليل قاطع على ما قاله؛ لأن العرب تضيف العشرة فما دونها إلى أكثر العدد، كما تضيفها إلى أقله. فيقولون: ثلاثة كلاب، ولأن أروى ليس من أبنية أقل العدد، فيختص بما دون العشرة. والأروى أيضاً اسم للجمع لا يختص بقليل دون كثير، ولا بكثير دون قليل: ويقال أراوى بكسر الواو وتشديد الياء كما يقال: صحارى ومهارى، وأراوى واراوى بفتح الواو وكسرها من غير تشديد كما يقال صحارى ومهارى. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "والنثى من الأرانب عكرشة". (قال المفسر): ذكره الأنثى من الأرانب، يوجب أن الذكر منها

مشهور، وقد قال في الباب الذي قبل هذا: والخزز: الذكر من الأرانب، وهذا يوجب أن تكون الأنثى منها مشهورة، وهذا تناقض. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "والأنثى من العقبان: لقوة". (قال المفسر): هذا الذي قاله، قول غير متفق عليه، وقد قال الخليل: اللقوة واللقوة؟ بالفتح والكسر: العقاب السريعة، وكذلك قال يعقوب وأبو حاتم. وقد قال ابن قتيبة في أبنية الأسماء من هذا الكتاب، العقاب. لقوة ولقوة، ولم يختص أنثى من الذكر. وقال أبو عبيدة ويونس: يقال للذكر من العقبان: الغرن (بغين معجمةن وراء غير معجمة مفتوحتين). وقد زعم كثير من اللغويين، وممن تكلم في الحيوان، أن العقبان كلها إناث، وأن ذكورها من نوع آخر من الطير. وقال أبو حاتم السجستاني في كتاب الطير الكبير: حدثني أبو زفافة منهالا لشامي، مولى بني أمية: أن ذكور العقبان من طير آخر لطاف الجروم، لا تساوي شيئاً، يلعب بها الصبيان بدمشق، ويقال لفرخ العقاب البلح (بحاء غير معجمة على وزن نفر) والهيثم. ويقال لأمه:

باب ما يعرف جمعه ويشكل واحده

التلدة، على وزن ضربة، ويقال: إن الهيثم، العقاب بعينها، ذكر ذلك أبو حاتم. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: "والأنثى من الأسد: لبؤة بضم الباء والهمز" (قال المفسر): قد ذكر يعقوب أن اللبؤة تهمز ولا تهمز، والقياس أيضاً يوجب ذلك، على لغة من يخفف الهمزات من العرب، ويقال لها أيضاً: لبأة، على وزن ثمرة، وتحذف همزتها، فيقال: لبة على وزن شفة، ومنهم من يقول: لباة، على وزن قطاة ونواة. باب ما يعرف جمعه ويشكل واحده [1] مسألة: قال في هذا الباب: "الغرانيق: طير الماء، واحدها غرنيق، وإذا وصف بها الرجال فواحدهم: غرنوق، وغرنوق، وهوا لرجل الشاب الناعم". (قال المفسر): قد حكى الخليل: أنه يقال لواحد الغرانيق، التي هي طير الماء، غرنيق وغرنوق (بضم الغين والنون) وحكى مثل ذلك أبو حاتم في "كتاب الطير". ويقال في صفة الرجل: غرنوق على وزن

قرقور، وغرنيق على وزن قنديل، وغرانق على وزن غدافر وغرونق على وزن فدوكس، وغرناق على وزن سربال، قال الراجز: يا للرجال للمشيب العاتق ... غير لون شعر الغرانق وقال آخر: لا ذنب لي كنت أمرأ مفنقا ... أغيد نوام الضحى غرونقاً [2] مسألة وقال في هذا الباب: "أفواه الزقة والأنهار، واحدها فوهة، وأفواه الطيب واحدها فوه". (قال المفسر: يقال: فوهة الطريق (بتشديد الواو)، وفوهة (بسكون الواو): فم الطريق. حكى ذلك ابن الأعرابي، وجمع فوهة: فوائه، على القياس، وأفواه، على غير قياس. وأما فوهة الساكنة الواو، فقياس جمعها: فوه على مثال سورة وسور. وأما فم فقياس جمعه أفواه. [3] مسألة: وحكى في هذا الباب عن الكسائي أنه قال: "من قال أولاك فواحدهم ذاك. ومن قال: أولئك، فواحدهم ذلك".

(قال المفسر) أولاك وأولئك: إسمان للجمع، وليسا على حد الجموع الجارية على آحادها، وكل واحد منها يصلح أن يكون واحده: (ذاك). وأن يكون (ذلك) باللام، وإن كان لمؤنث فواحدها تلك، لأنهما يقعان للمذكر والمؤنث. والذي قاله الكسائي شيء لا يقتضيه قياس، ولا يقوم عليه دليل، فإنه تعلق بالسماع عن العرب، وقال: سمعت الذين يقولون للواحد، ذاك، يقولون إذا جمعوا لأولاك، فيقصرون، وسمعت الذين يقولون للواحد ذلك (باللام) يقولون إذا جمعوا: أولئك ويمدون. قلنا له: السماع أول دليل على بطلان هذه الدعوى، لأنا وجدنا من يقول: ذاك للواحد بغير لام، يقول للجميع: أولئك فيمد؛ ألا ترى أن الحطيئة قد قال: تقول لي الصراء ست لواحد ... ولا اثنين فانظر كيف شرك أولائكا وأنت امرؤ تبعي أباك صليبة ... هبلت ألما تشتقي من ضلالكا وقال أيضاً: أولئك قوم عن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا ومن العرب من إذا جمع قال: أولالك (باللام)، فقد كان يجب على

على الكسائي أن يعلمنا كيف الواحد على هذه اللغة، والأشبه عندي أن يكون هذا من لغة من يقول: ذلك (باللام). وقد حكى اللغويون أنه يقال: ألاك على القصر والتشديد. وأنشدوا: (من بين ألاك إلى ألاكا) وهذا كله يدل على ضعف قول الكسائي واستحالته. [4] مسألة: وقال في آخر الباب: "الكمأة: واحدها كمء". (قال المفسر): العرب تختلف في الكمء، والكمأة، أيهما هو الجمع، وأيهما هو الواحد. وهذا الذي ذكره ابن قتيبة، هو قول يونس. قال أبو عمر الجرمي: سمعت يونس يقول: هذا كمء، كما ترى لواحدة الكمأة، فيذكرونه، فإذا أرادوا جمعه قالوا: هذه كمأة. قال أبو زيد: قال: منتجع كمء: للواحد، وكمأة: للجميع. وقال أبو خيرة وحده: كمأة للواحد، وكمء للجميع. فمر رؤبة بن العجاج فسألاه، فقال: كمء للواحد، وكمأة للجميع، كما قال منتجع. فمن قال: كمأة للواحد وكمء للجميع؛ جعله من الجمع الذي ليس بينه وبين واحده إلا الهاء، وأكثر ما يجيء في الخلوقات دون المصنوعات، كثمرة وتمر، ونخلة ونخل، وقد جاء منه شيء في المصنوعات، إلا أنه

باب ما يعرف واحده ويشكل جمعه

قليل. قالوا: ريطة وريطن وملاءة وملاء. وقالوا: قلنسوة وقلنس، وقلسوة وقلس، قال الراجز: لا مهل حتى تلحقي بعنس ... أهل الرياط البيض والقلنس وقال آخر: "بيض بهاليل طوال القلس" ومن قال: كم للواحد، وكمأة للجميع: جعله اسماً سمي به الجمع كفرهة ورجلة، وغمد وأدم ونحو ذلك. باب ما يعرف واحده ويشكل جمعه [1] مسألة: قال في هذا الباب: "الدخان: جمعه دواخن، وكذلك العثان جمعه عواثن ولا يعرف لهما نظير. والعُثان: الغبار".

(قال المفسر): هذا الذي قاله ابن قتيبة، قد قاله جماعة من اللغويين والنحويين. وكان القياس أن يقال: أدخنة وأعثنة. كما يقال في جمع غراب: أغربة. وقد جاء الدخان مجموعاً على القياس في قول الخطل: صفر اللحى من وقود الأدخنات إذا ... قل الطعام على العافين أو قتروا فجمع دخاناً على أدخنة، وأدخنة على أدخنات. وقال أبو جعفر بن النحاس: الدواخن: جمع داخنة، والدخن جمع دخان. وهذا الذي قاله هو القياس، لأن فواعل، إنما هي جمع فاعلة، كضاربة وضوارب. وقد حكى في جمع دخان: دخان (بكسر الدال) وهو نادر ذكره ابن جني. وعلى هذا روى بيت الفرزدق: (عقاب زهتها الريح يوم دخان) ومجاز هذا عندي في العربية: أن يقال: لما كان فعال وفعيل يشتركان في المعنى، فيقال، طوال وطويل، وجسام وجسيم، حُمل بعضها على بعض في الجمع: فقالوا: دخان ودخان كما قالوا: ظريف وظراف. وكذلك قياس من قال: طوال وظراف وجسام، (إذا كسر للجمع) أن يقول طوال وظراف وجسام، كما يفعل من يقول: طويل وظريف وجسيم وهذا يسمى التداخل. ونظيره أن (فعلاً) المفتوح الأول الساكن العين، بابه أن يكسر في الجمع القليل على أفعل، كفلس وأفلس. (وفعل) المفتوح الفاء والعين بابه أن يكسر

على أفعال في العدد القليل، نحو جمل وأجمال. ثم إن فعلا وفعلا لما اشتركا في المعنى الواحد - وتداخلا، فقالوا: شعر وشعر وتهر ونهر، حمل بعضهما على بعض في الجمع، فقالوا: زمن وأزمن، كما قالوا: فلس وأفلس. وقالوا: فرخ وأفراخ، كما قالوا: جمل وأجمال. ولهذا نظائر كثيرة من التكسير. وأما قوله: والعثان: الغبار. فصحيح. وقد يكون العثان أيضاً: الذخان. وانشد أبو رياش (ليبلغ أنف العود ما عثن الجمر) [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "البلصوص: طائر وجمعه (البلنصي) على غير قياس". (قال المفسر): قد اختلف اللغويون في هذين الاسمين، أيهما الواحد وأيهما الجمع؟ فقال قوم: البلصوص: هو الواحد، والبلنصي: الجمع. وقال آخرون: بل البلنصي: هو الواحد، والبلصوص: الجمع. وقال قوم: البلصوص: الذكر، والبلنصي: الأنثى. ذكر ذلك ابن ولاد في كتابه في الممدود والمقصور، وأنشد:

"والبلصوص يتبع البلنصي" وقياس البلصوص أن يقال في جمعه: بلاصيص، كما يقولون في زرجرون: زراجين. وفي قربوس: قرابيس. وياس البلنصي إذا كان واحداً ثم كسر، أن يقال في جمعه: بلانص كما يقال في جمع قريني: قرانب. وفي جمع دلنظي: دلانظ في قول من حذف الألف. ومن حذف النون، فقياسه أن يقول بلاص، وقراب، ودلاظ. [3] مسألة: وقال ابن قتيبة في هذا الباب: "الحظ: جمعه حظوظ وأحظ، على القياس وأحظ، وأحاظ، على غير قياس .. ". (قال المفسر): قال أبو علي البغدادي: لا أعرف ما حكاه ابن قتيبة من قولهم: أحظ وحفظي حظ. وأحظ، (فأحظ) بضم الحاء وتشديد الظاء، (وحظوظ) على القياس. وعلى غير القياس: حظاء ممدود. وحكى ذلك في المقصور والممدود عن أبي زيد، عن بعض العرب، وقال: فألقى الظاء، وجعل مكانها ياء، ثم همزها حيث جاءت غاية بعد ألف، يريد أنهم جمعوا حظاً على حظاظ، ثم فعلوا ما زعم. فوجه القياس عندي في جمع حظ على أحظ، مثل أدل، وحظاء مثل

دلاء: أن يقال: إنه جاء على لغة من يبدل من أحد الحرفين المثلين ياء نحو قولهم: قصيت أظفاري، أي قصصتها. وقول العجاج: إذا الكرام ابتدروا الباع بدر ... تقضي البازي إذا البازي سر وقول أبي زبيد: خلا إن العتاق من المطايا ... حسين به فهن إليه شوس وقول كثير: تزور امرأ أما الإله فيتسقى ... وأما بفعل الصالحين فيأتمى فلما أراد جمع حظ، وقد توهم أن الظاء الثانية منه تبدل ياء، صار حظ عنده في الجمع مثل ظبي وجدي فقال: أحظ وحظاه، كما يقال: أظب وظباء، واجد وجداء. وأقيس من هذا أن يكون حظاء: جمع حظوة، لأن معناها كمعنى الحظ. فيكون حظوة وحظاء، كبرمة وبرام، وجفرة وجفار. فإذا أمكن فيه مثل هذا، لم يحتج إلى تكلف الشذوذ.

باب معرفة ما في الخيل وما يستحب من خلقها

وليس يمتنع أن يكون أحظ المنقوصة، وحظاء، جمع حظوة (المكسورة الحاء)، وهي لغة في حظوة (المضمومة الحاء)، لأنا وجدنا العرب، قد أجرت ما فيه هاء التأنيث في الجمع مجرى ما لا هاء فيه. فقالوا: كلبة وكلاب، كما قالوا: كلب وكلاب. وقالوا: أمة وآم كما قالوا: عصا وأعص. وقالوا رحبة ورحاب، كما قالوا: جمل وجمال. فعلى هذا يقال في جمع حظوة حظاء، كما قالوا في بئر: بئار. ويقال حظوة وأحظ، كما يقال: شدة وأشد، ونعمة وأنعم. باب معرفة ما في الخيل وما يستحب من خلقها [1] مسألة: قال ابن قتيبة في هذا الباب: "ويستحب في الناصية السبوغ، ويره فيها السفا، وهو خفة الناصية وقصرها. ثم قال بعد ذلك: "والسفا في البغال والحمير محمود وأنشد: جاءت به معتجراً في برده ... سفواء تردى بنسيج وحده (قال المفسر): هذا الذي قاله، قول أبي عبيدة معمر في كتاب الديباجة.

وأما الأصمعي فقال: الأسفي من الخيل: الخفيف الناصية، ولا يقال للأنثى سفواء. والسفواء من البغال: السريعة. ولا يقال للذكر أسفى. قال: وأما قوله: (سفواء تردى بنسيج وحده) فإنما أراد بغلة سريعة، لا خفيفة الناصية. وقد ذكر ابن قتيبة القولين جميعاً في كتابه هذا؛ فذكر قول أبي عبيدة في هذا الباب، ثم قال في آخر الكتاب، في باب (أبنية نعوت المؤنث): "وربما قالوا في المذكر (أفعل) ولم يقولوا في المؤنث (فعلاء). وقالوا للفرس الخفيف الناصية: أسفى، ولم يقولوا للأنثى: سفواء. وقالوا للبغلة: سفواء، ولم يقولوا للبغل أسفى. وهذا نحو قول الأصمعي إلا أنه لم يبين على أي معنى يقال للبغلة سفواء وأبهم ذلك. وحكى أبو عبيد القاسم عن الأصمعي، الأسفى من الخيل: الخفيف الناصية. ومن البغال: السريع، وتأنيثها: سفواء. وقال صاحب كتاب العين: بغلة سفواء: وهي الدريرة في اقتدار خلقتها وتلزز مفاصلها. والذكر: أسفى. توصف به البغال والحمير، ولا توصف الخيل بالسفا، لأن ذلك لا يكون مع الألواح وطول القوائم.

عيوب في الخيل

[2] مسألة: وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب للخنساء: ولما أن رأيت الخيل قبلا ... تبارى بالخدود شاب العوالى (قال المفسر): ذا رويناه من طريق أبي نصر، عن أبي علي، وفيه غلط من وجهين: أحدهما: أن الشعر لليلى الأخيلية، وليس للخنساء، والثاني: أنه أنشده (بضم التاء)، وإنما هو رأيت (بفتح التاء) على الخطاب وعلى لك يدل الشعر، وهو: ولما أن رأيت الخيل قبلا ... تبارى بالخدود شبا العوالى نسيت إخاءه وصددت عنه ... كما صد الأزب عن الظلال فلا والله يا ابن أب عقيل ... تبلك بعدها عندي (بلال عيوب في الخيل وقال في هذا الباب: "والحافر والمصطر: هو الضيق، وذلك معيب. والأرح: الواسع، وهو محمود". (قال المفسر): هذا الذي قاله: قول أبي عبيدة. وقد جاء في شعر حميد الأرقط ما يخالف هذا، وهو قوله: لا رحح؛ فيها ولا اصطرار ... ولم يقلب أرضها البيطار

خلق الخيل

فنفى عن الفرس: الرحح، كما نفى عنها الاصطرار. فكأن الرحح نوعان: محمود ومذموم، فالمحمود منه: ما كان معه تقعب. والمذموم: ما لا تقعب فيه. لأنه إذا لم يكن مع سعته نقعب، صار فرشخة، وهي مذمومة، كما قال الآخر: "ليس بمصطر ولا فرشاخ" وقد حكى أبو عبد في الغريب المصنف عن أبي عمرو: الحافر المجمر: هو الوقاح. والمفج: المقبب، وهو محمود، والمصرور: المتقبض. والأرح: العريض. وكلاهما عيب وهو نحو ما ذكرناه. خلق الخيل [1] مسألة: قال في هذا الباب: "والضرة: لحم الضرع، ولها أربعة أطباء. (قال المفسر): هذا الذي قاله قول أبي عبيدة معمر في كتاب الديباجة. ومنه نقل هذه الأبواب، وأنشد أبو عبيدة: "كأنما أطباؤها المكاحل"

وأما أبو حاتم، فرد ذلك على أبي عبيدة، وقال: وقال: ليس للفرس إلا طبيان. وكان يروى أن أبا عبيدة إنما غلط في ذلك لقول الراجز الذي أنشده. وليس في جمع الشاعر للطبي ما يدل على أنها أربعة. لأن العرب قد تخرج التثنية مخرج الجمع، كقولهم: رجل عظيم المناكب، وإنما له منكبان وكذلك يخرجون الجمع مخرج التثنية، كقولهم لبيك وسعديك، وحنانيك ودواليك. ولا يريدون بذلك اثنين فقط. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "يقولون للفرس عتيق وجواد وكريم. ويقال للبرذون والبغل والحمار فاره. قال الأصمعي: كان عدي بن زيد يخطيء في قوله في وصف الفرس: (فارها متتابعاً). قال ولم يكن له علم بالخيل. (قال المفسر): ما أخطأ عدي بن زيد، بل الأصمعي هو المخطيء، لأن العرب تجعل كل شيء حسن فارها. وليس ذلك مخصوصاً بالبرذون والبغل والحمار، كما زعم. وعلى هذا قالوا: أفهرت الناقة: إذا نجيت، فهي مفرهة. قال أبو ذؤيب: ومفرهة عنس قدرت لساقها ... فخرت كما تتابع الريح بالقفل

ألوان الخيل

وقال النابغة: أعطى لفارهة حلو توابعها ... من المواهب لا تعطى على حدس ولو كان ما قاله الأصمعي صحيحاً، لما كان قول عدى خطأ. لأن العرب تقول: فره فرها فهو فاره وفره: إذا أشر وبطر. وكذلك إذا كان ماهراً حاذقاً. وعلى هذا قرأ القراء، "فارهين" وفرهين. فممكن أن يكون قول عدى من هذا وكان الأصمعي عفا الله عنه يتسرع إلى تخطئة الناس وينكر أشياء كلها صحيح. ألوان الخيل [1] مسألة: وقال في هذا الباب: "والبهيم: هو المصمت الذي لاشية به ولا وضح: أي لو كان. ومما لا يقال له بهيم ولا شية به: الأبرش المدنر، والنمر، والاشيم، والأبقع والأبلق". (قال المفسر): كذا وقع في النسخ من هذا الكتاب، وقد طلبته في كل نسخة وقعت منه إلى، فوجدته هكذا، ووجدت في كتاب

الدوائر في الخيل وما يكره من شياتها

الديباجة لأبي عبيدة، الذي نقل منه ابن قتيبة هذه الأبواب كلها مما يخالف هذا. قال أبو عبيدة: ومما لا يقال له بهيم، وهو مما لا شية به الأشهب والصنابي وهو مستكره. ومما لا يقال له بهيم. وهو مما له شية: الأبرش والأنمر والأبلق والمدنر والأبقع. وهذا هو الصحيح وما نقله ابن قتيبة غلط. والفرق بين الشية والوضح: أن الشية لمعة تخالف معظم الفرس، وهي بياض في سواد، أو سواد في بياض، ألا ترى أن ابن قتيبة ذكر شيات الخيل ها هنا، فجعلها بياضاً، وذكر شيات الضأن، فجعلها سوادا، وأما الوضح فإنه البياض خاصة. الدوائر في الخيل وما يكره من شياتها قال ابن قتيبة: (والدوائر ثماني عشرة دائرة) .. (قال المفسر): ذكر أبو عبيدة في كتاب الديباجة الثماني عشرة دائرة كلها. وذكرها كراع. فمنها دائرة المحيا، وهي اللاصقة بأسفل الناصية. ومنها دائرة اللطاة، وهي التي في وسط الجبهة،

فإن كانت هناك دائرتان، قالوا: فرس نطيح. ومنهن دائرة اللاهز وهي التي تكون في اللهزمة ومنهن دائرة المعوذ وهي التي تكون في موضع القلادة. كذا وقع في تاب أبي عبيدة، بالذال المعجمة، وواو مفتوحة مشددة، كأنه جعله مصدراً بمعنى التعويذ، من قولك عوذت الصبي تعويذا ومعوذا: إذا جعلت في عنقه عوذة، كما تقول: مزقت تمزيقا وممزقا. وأما كراع فقال: دائرة العمود بدال غير معجمة، على وزن ضروب ورسول. ومنهن دائرة السمامة، وهي التي تكون في وسط العنق، في عرضها ومنها دائرة البنيقتين. وقال كراع: البنيقتين، وهما الدائرتان اللتان في نحر الفرس. ومنهن دائرة الناحر: وهي التي تكون في الجران إلى أسفل من ذلك. ومنهن دائرة القالع: وهي التي تكون تحت اللبد. واسم ذلك المكان: ملبد الفرس. ومنهن دائرة الهقعة، وهي التي تكون في عرض زوره. وقال أبو عبيد: إنها تكون في الشقين جميعاً. ومنهن دائرة النافذة، وهي دائرة الحزام. ومنهن دائرتا الصقرين: وهما اللتان تحت الحجبتين والقصريين. ومنهن دائرة الخرب، وهي التي تون تحت الصقرين. ومنهن دائرة الناخس: وهي التي تكون تحت

الجاعرتين إلى الفائلين. وزاد أبو القاسم الزجاجي دائرة الخطاف، هي دائرة في المركض. وقال كراع: العرب تستحب دائرة العمود، ودائرة السمامة، ودائرة الهقعة وتكره اللاهز والنطيح والفالع والناخس. وقال أبو عبيدة نحو قول كراع، إلا أنه قال: كانوا يستحبون الهقعة، لن أبقى الخيل المهقوع، حتى أراد رجل شراء فرس مهقوع، فامتنع صاحبه من بيعه منه، فقال: إذا عرق المهقوع بالمرء انعظت ... حليلته وازداد حرا متاعها فصار مكروهاً بعد أن كان مستحباً. قال غير أبي عبيدة: فكان الرجل إذا ركب الفرس المهقوع، نزل عنه عقبل أن يعرق تحته. ويروى أن رجلاً اشترى فرسا ًفوجده مهقوعاً، فخاصم بائعه منه إلى شريح، فأوجب شريح على البائع أخذ فرسه، ورد الثمن. فقال له البائع أيمنع هذا العيب من مطعم أو مشرب، أو ينقص من قوة أو جرى قال: لا. فقال البائع أفمن أجل قول شاعر زعم ما زعم، ويقول ما شاءن ترده على فقال له شريح: قد صار عيباً عند الناس، فخذ فرسك ودعني من هذا.

باب معرفة ما في خلق الإنسان من عيوب الخلق

باب معرفة ما في خلق الإنسان من عيوب الخلق [1] مسألة: قال في هذا الباب: (واللطع في الشفاه: بياض يصيبها، وأكثر ما يعتري ذلك السودان). (قال المفسر): وقع في النسخ، السودان بالنصب. وكذا روى لنا عن أبي نصر. والوجه رفع السودان على خبر المبتدأ الذي هو أكثر ما يعتري. ويكون (ما) بمعنى الذي. ويعتري ذلك: صلة لها. ويقدر في الفعل ضمير محذوف، عائد (إلى ما). كأنه قال: وأكثر الذين يعتريهم ذلك السودان. وجعل (ما) لمن يعقل. وكان ينبغي أن يقول: وأكثر من يعتري ذلك. وقد استعملت (ما) للعاقل المميز، كقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لم من النساء مثنى) وحكى عن العرب، سبحان ما سبح الرعد بحمده، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: (والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها) أنه أراد: من بناها ومن طحاها. وهذا ليس بصحيح، إنما هي هاهنا مع الفعل بتأويل المصدر، كأنه قال: وبنائها وطحوها. والنصب في السودان بعيد. لأنهم يصيرون مفعولين داخلين في صلة المصدر. فيصير التقدير:

وأكثر اعتراء ذلك السودان وهذا بعيد لأن (ما) تصير مع الفعل بتأويل المصدر فيبقى المبتدأ بلا خير. وليس يصح نصب السودان، إلا على أن يجعل ذلك مثل قولهم: أول ما أقول: إني أحمد الله، في قول من كسر الهمزة. فيكون مبتدأ محذوف الخبر. كأنه قال: وأكثر اعتراء ذلك السودان: معروف أو موجود. وقد أجاز الكوفيون نحو هذا في قولهم: ضربي زيداً قائماً. لأنهم جعلوا الضرب هو العامل في قائم والخبر مضمر، لأن قائماً على مذهبهم لا يصح أن يسد مسد الخبر، كما صح في قول سيبويه، لأنهم إذا أعملوا فيه الضرب صار من صلته. وقد قال ابن قتيبة في باب العلل: "وأكثر ما يعتري ذلك الصبيان، فيعلق عنهم. والقول فيه كالقول في هذا: [2] مسألة: وقال في هذا الباب: (وفي النساء الضهياء: التي لا تحيض، والمتكاء: التي لا تحبس بولها، وهي من الرجال الأمثن). (قال المفسر): هذا الذي قاله ابن قتيبة هو قول أبي عبيدة معمر، وهو مما غلط فيه، فأتبعه ابن قتيبة على غلطه. والصواب المثناء. والدليل على ذلك قولهم للرجل أمثن فهذان كأحمر وحمراء. وهذا قول الأصمعي. وكان ينكر قول أبي عبيدة ويرده. وهكذا حكى أبو عبيد القاسم عن أبي زيد. فأما المتكاء: فهي البظراء. ويقال للبظر: المتك، (بفتح الميم)، والمتُك (بضم الميم) والمتك أيضاً: الذباب.

فروق في الأسنان

ووقع في كتاب العين: المُتك من الإنسان: وترة الإحليل، ومن المرأة عرق البُظر (بضم الميم). وقال أبو عمرو الشيباني في كتاب الحروف: المتكاء التي لا مناكب لها والرجل أمتك. فروق في الأسنان قال في هذا الباب: "قال أبو زيد: للإنسان أربع ثنايا وأربع رباعيات [الواحدة رباعية مخففة] وأربعه أنياب وأربعة ضواحك واثنتا عشرة رحى، ثلاث في كل شق. وأربعة نواجذ وهي أقصاها قال الأصمعي مثل ذلك كله، إلا أنه جعل الأرحاء ثمانيا: أربعاً من فوق وأربعاً من أسفل". (قال المفسر): إذا جعل الأرحاء ثمانيا على ما قال الأصمعي، نقص من عدد الأسنان أربع. فان ينبغي أن يبين كيف يُقال لهذه الأربع، التي أسقطها الأصمعي من عدد الأرحاء، لان الأسنان على هذا القول تكون ثمانيا وعشرين مع النواجذ، واتماهى اثنتان وثلاثون على ما قال أبو زيد. وقد تأملت كلام الأصمعي في كتابه المؤلف في "خلق الإنسان" فوجدته على ما حكاه ابن قتيبة عنه. ورأيت ثابتاً قد حكى قول

الأصمعي في كتابه "المؤلف في خلق الإنسان" فذكر جملة الأسنان الأرحاء والطواحن. وخلط في لك تخليطاً كرهت ذكره. فأنا أحسب الأسنان الأربع التي أسقطها من عدد الأرحاء هي الطواحن عنده وبذلك يصير عددها على ما قال أبو زيد: وقال يعقوب بن السكيت في كتاب (خلق الإنسان) الأسنان اثنتان وثلاثون. ثنيتان ورباعيتان، وناجذان، وهما النابان، وضاحكان، وثمانية أضراس، من كل جانب أربعة، هذا في الفك العلى، وفي الفك الأسفل مثل ذلك. فجعل يعقوب النواجذ هي الأنياب على ما ترى، وضم التي سماها الأصمعي وأبو زيد نواجذ إلى عدد الأرحاء، فسمي الجميع منها أضراساً. وقد قيل: إن النواجذ: هي الضواحك، كما قال ابن هشام. وفي كتاب العين: الناجذ، السن التي بين الناب والأضراس. وحجة من جعل النواجذ الأنياب أو الضواحك. الحديث المروي أن

فروق في الأفواه

رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. ولم يكن صلى الله عليه وسلم ممن يفرط في الضحك. إنما كان ضحكه تبسماً. ومن جعل النواجذ أقصى الأضراس قال: ليس المراد أن نواجذه ظهرت على الحقيقة، وإنما المراد أنه أكثر من الضحك على خلاف عادته، حتى كادت نواجذه تظهر وإن لم تظهر. والعرب تستعمل مثل هذا في المبالغة، كقول القائل: ما في الدنيا من يقول هذا، وقد علم أن فيها من يقوله، ولكنه قصد المبالغة في الإنكار. ووقع في بعض نسخ أدب الكتاب: "والنواجذ للإنسان والفرس وفي بعضها: والنواجذ للإنسان، والقوارح للفرس. وهو الصواب عندي. فروق في الأفواه قال في هذا الباب عن أبي زيد "منقار الطائر ومنسره: واحد، وهو الذي ينسر به اللحم نسرا". (قال المفسر): كذا قال الأصمعي مثل قول أبي زيد في المنقار والمنسر. وفرق بعض اللغويين بينهما، فقال: المنقار لما لا يصيد، والمنسر لما يصيد.

فروق في الأطفال

وحكى يعقوب أنه يقال: منقار (بالراء)، ومنقاد (بالدال) وهو غريب. فروق في الأطفال [1] مسألة: وقال في هذا الباب: (وولد الناقة في أول النتاج: ربع، والأنثى: ربعة. والجمع: رباع وفي آخر النتاج: هبع. والأنثى: هبعة. ولا يجمع هبع: هباعاً). (قال المفسر): جمع هُبع: هبعان، كصرد وصردان، ونغر ونغران. وقد حكى أبو حاتم في كتاب الإبل هُبع وهباع مثل ربع ورباع، وهو الصحيح. [2] مسألة: وقال في هذا الباب:"والنهار: فرخ القطاة، قال أبو علي البغدادي: هكذا رأيت في هذا الكتاب. تصويب: النهار:

فرخ الحُباري." (قال المفسر): قد اختلف اللغويون في النهار. فقال قوم: هو فرخ القطاة، كما قال ابن قتيبة، وهو قول الخليل. وقال قوم: النهار: ذكر البوم. وقيل النهار: ذكر الحُبارى. والأنثى: ليل. وقيل: النهار فرخ الحُباري. قال الشاعر: ونهار رأيت منتصف اللـ ... يل رأيت نصف النهار وحكى التوزي عن أبي عبيدة: أن جعفر بن سليمان قدم من عند المهدي، فبعث إلى يونس بن حبيب وقال: إني وأمير المؤمنين اختلفنا في هذا البيت، وهو للفرزدق: والشيب ينهض في السواد كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار فما الليل والنهار؟ فقال يونس: الليل: هو الليل المعروف وكذلك النهار. فقال جعفر زعم المهدي أن الليل فرخ الكروان، والنهار: فرخ الحبارى: قال أبو عبيدة: والقول عندي في البيت ما قاله يونس

والذي قاله المهدي معروف في الغريب، ولكن ليس هذا موضعه. (قال المفسر:) يذهب قوم إلى أن المراد: بالصياح في بيت الفرزدق الذي ذكرناه، انصداع الفجر، يجعلونه، من قولهم انصاح الثوب انصياحاً: إذا تشقق. قال أوس بن حجر، ويروي لعبيد بن الأبرص: وأمست الأرض والقيعان مثرية ... ما بين مرتتق منها ومنصاح وقوم يجعلونه الصياح بعينه الذي هو الدعاء. وهذا هو الصحيح، وإنما الصياح هاهنا: مجاز، أو استعارة، لأن النهار لما كان آخذ في الإقبال، وكان الليل آخذ في الإدبار، شبه النهار بالهازم، الذي من شأنه أن يصيح على المهزوم. ولذل شبهوا الليل بالقتيل، وقد صرح الشماخ بهذا المعنى في قوله: ولاقت بأرجاء البسيطة ساطعاً ... من الصبح لما صاح بالليل بقرا وقد أكثر المحدثون من الشعراء في هذا المعنى. ومن مليح ما في ذلك قول المتنبي:

فروق في السفاد

لقيت بدرب القلة الفجر لقية ... شفت كبدي والليل فيه قتيل وقال محمد بن هانيء: خليلي هبا فانصراها على الدجى ... كتائب حتى يهزم الليل هازم وحتى ترى الجوزاء تنشر عقدها ... وتسقط من كف الثريا الخواتم وبيت ابن هانيء أوضح في المعنى الذي ذكرناه في بيت المتنبي. فروق في السفاد [1] مسألة: وقال في هذا الباب: (المنى مشدد، والمذى والودى مخففان، وذكر أنه يقال: منى وأمنى، ومذى، وأمذى، وودى. ولا يقال أودى). (قال المفسر): هذا الذي قاله هو المشهور المعروف. وحكى أبو عبيد في الغريب المنصف عن الأموي. المذي والودى (بالتشديد)، مثل المنى. وقال: الصواب عندنا أن المنى وحده بالتشديد، والآخران -

مخففان. وحكى أبو عمر المطرز قال: أخبرنا ثعلب عن ابن الأعراببي قال: يقال: هو المذي مثال الرمي، والمذي مثال العمى. يقال منه: مذى الرجل، وأمذى، ومذى، والأولى أفصحهن، وهو الودى مثال الرمي والودى، مثال العمى. يقال منه: ودى وأودى وودى والأولى أفصحهن. والمنى مثال الشقي، والمنى مثال العمى. يقال منه: منى وأمنى ومنى. والأولى أفصحهن. وقد ذكر أبو العباس المبرد في الكامل أنه يقال: ودى وأودى. وحكى مثل ذلك أبو إسحاق الزجاج. فأما رواية من يروى من الفقهاء الوذى بالذال معجمة، ولا أدري من أين نقل ذلك، فني لا أعلم أحداً حكاه. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: ويقال للشاه إذا أرادت الفحل: حنت فهي حانية. (قال المفسر): وقع في بعض النسخ من أدب الكتاب: حان بغير تاء، وكذلك في الغريب المصنف. ووقع ي بعضها حانية بالتاء وكذا في العين الكبير.

معرفة في الطعام والشراب

وحكى أبو حاتم أنه يقال حان وحانية. فمن قال: حان فعلى معنى النسب، كقولهم، امرأة عاشق وطالق. ومن قال: حانية. فعلى الفعل كضاربة وقائلة. فأما المرأة التي تقيم على ولدها بعد موت زوجها ولا تتزوج، فيقال فيها: حانية بالتاء. كذا حكى أبو عبيد في الغريب. ولا أحفظ في ذلك خلافاً لغيره. معرفة في الطعام والشراب [1] مسألة: أنشد ابن قتيبة في هذا الباب لعبيد هي الخمر تكنى الطلاء ... كما الذئب يكنى أبا جعده (قال المفسر): هذا البيت غير صحيح الوزن، وذكر أن أبا عبيدة معمر بن المثنى هو الذي رواه هكذا. قالوا: وكان لا يقيم وزن كثير من الشعر. وقال قوم: إنما وقع الفساد فيه من قبل عبيد، لأن في شعره أشياء كثيرة خارجة عن العروض. مشهورة، تغني شهرتها عن إيرادها في هذا الموضع، وهذا هو الصحيح عندي. فأما ما ذكروا عن أبي عبيدة من أنه كنا لا يقيم وزن كثير من الشعر، فأما أظنه صحيحاً،

ولم يكن ليرويَ إلا ما سمع. وروى الخليل هذا البيت: وقالوا: هي الخمر ينونها باطلا ... كما الذئب يكنى أبا جعده وهذا صحيح على ما توجبه العروض. وذكر أن الخليل هو الذي أصلحه، وهذا يدل على أن الفساد إنما وقع في وزنه من قبل عبيد. ولو كانت فيه رواية ثانية غير رواية أبي عبيدة لم يحتج الخليل إلى إصلاحه. وسنقول في هذا البيت عند انتهائنا إلى شرح الأبيات إن شاء الله. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "والمقدى: شراب كانت الخلفاء من بني أمية تشربه بالشام. وقال أبو علي البغدادي: قال أبو بكر بن الأنباري: مقدى (بتشديد الدال والياء). وقال عن أبيه، عن أحمد بن عبيد مقد: قرية بالشام بدمشق، بالجبل المشرف على الغور. قال: وروى عن ابن قتيبة بتخفيف الدال. (قال المفسر): مقدى بتشديد، ومقدى بتخفيفها جائزان جميعاً، فمن شدد الدال جعله منسوباً إلى مقد وهي قرية بالشام. ومن

خفف الدال نسبه إلى مقدية، مخففة الدال، وهو حصن بدمشق، قال عمرو بن معد يكرب في التشديد وهم تركوا ابن كبشة مسلحبا ... وهم منعوه من شرب المقد وقال آخر في التخفيف: مقديا أحله الله للنا ... س شرابا وما تحل الشمول [3] مسألة: وقال في آخر الباب: (والنياطل: مكاييل الخمر، واحدها، ناطل. (قال المفسر): هذا الذي قاله: قول أبي عمرو الشيباني، ولا يصح في مقاييس العربية أن يكون النياطل جمع ناطل، لأن فاعلا، إذا كان اسما، فإنما بابه أن يجمع على (فواعل)، كقولهم في قادم الرحل، وهو كالقربرس للسرج: قوادم؛ وفي حاجب العين، وحاجب الشمس: حواجب. وقد حكى أبو عبيد في الغريب المصنف: أنه يقال: ناطل وناطل (بكسر الطاء وفتحها). وحكى ابن الأنباري عن أبية عن الطوسي

باب معرفة الطعام

أنه يقال: نيطل، فيقال على هذا في جمع ناطل وناطل: نواطل. وفي جمع نيطل: نياطل ولا وجه لقول من قال: إن واحد النياطل: ناطل، إلا أن يزعم أنه من الجموع الخارجة عن القياس، وليس ينبغي أن يحمل الشيء على الشذوذ، إذا وُجد له وجه من القياس صحيح. باب معرفة الطعام [1] مسألة: قال ابن قتيبة في هذا الباب:"ومنه في المثل: لاتكن حلوا فتسترط، ولا مراً فتعقى. يقال: قد أعقى الشي: إذا اشتدت حرارته. (قال المفسر): المعروف فتعقى (بفتح القاف) أي تمج وتطرح من الأفواه. وهو مشتق من العقوة وهي الفناء. ومعناه تطرح بالفناء لمرارتك. وتفسير ابن قتيبة يدل على سر القاف. وقد وقف عيه أبو علي فقال: هكذا قرأته، ولا معنى له عندي. (قال المفسر): من رواه بكسر القاف، فله عندي تأويلان:

أحدهما: أن يكون معناه: لاتكن مراً فتصير بالعقوة لمرارتك، فيكون من باب أفعل الشيء إذا صار كذلك، أو أصابه ذلك. وقد ذكره ابن قتيبة. والثاني: أن يكون من باب اجتزائهم يذكر السبب عن ذكر المسبب لأن المرارة هي سبب الطرح. فاكتفى بذكرها عن ذكر الطرح، فيكون كقول الشاعر، وهو جزء بن ضرار أخو الشماخ: وأنبئت قومي أحدث الدهر فيهم ... وعهدهم بالحادثات قريب فإن ي حقاً ما أتاني فإنهم ... كرام إذا ما النائبات تنوب ولم يرد أنهم كرام في هذه الحال دون غيرها. وإنما المعنى، فسيصبرون لكرمهم فاكتفى بذكر الكرم الذي هو سبب الصبر، عن ذكر المسبب عنه، الذي هو الصبر. وأنا أحسب قولهم: أعقى الشيء: إذا اشتدت مرارته راجعاً إلى هذا المعنى، لأن شدة مرارته سبب لأن يطرح بالعقوة. وكلام العرب أكثره مجاز وإشارة إلى المعاني. لذلك غمض كثير منه على من لم يتمهر فيه. ويجوز أن يكون مشتقاً من العقى: وهو ما يخرج من بطن المولود. فيكون معنى تعقى على هذا تستقذر، فتصير كالعقى فافهم.

فروق في الأرواث قال في هذا الباب "نحو السبع وجعره". (قال المفسر): تخصيصه النجو هاهنا بأنه: للسبع غلط، وتناقض منه، لأنه قد قال في آخر باب تأويل كلام من كلام الناس. يستعمل، عند تكلمه في الاستنجاء إن النجو يكون من الإنسان. وكذلك قال: إن حلقة الدبر تحتمل أن تسمى جاعرة لأنها تجعر أي تخرج الجعر ولم يخص سبعاً من غيره. وقد رُوى أن دغة التي يضرب بها المثل في الحمق، فيقال: أحمق من دغة، أصابها الطلق، وهو وجع الولادة، فظنته غائطاً، فنهضت لتحدث، فولدت فلما صاح المولود، فزعت، فأتت ضرتها، وقالت: يا هنتاه! هل يفتح الجعر فاه. قالت: نعم، ويدعو أباه. وعلمت أنها ولدت، فنهضت إلى المولود، فأخذته. جحرة السباع ومواضع الطير قال ابن قتيبة في هذا الباب: (يقال: لجحر الضبع: وجار،

فروق في أسماء الجماعات

ولجحر الثعلب والأرنب مكأ مقصور، ومكؤ". (قال المفسر): قد يكون المكؤ والمكا، للحيات، أنشد أبو حاتم: وكم دون بيتك من مهمه ... ومن حنش جاحر في مكا وقال صاحب كتاب العين: المكو والمكا: مجثم الأرنب والثعلب ونحوهما. فروق في أسماء الجماعات [1] مسألة: أنشد في هذا الباب لجرير: أعطوا هنيدة يحدوه ثمانية ... ما في عطائهم من ولا سرف ثم قال بإثر البيت: السرف: الخطأ. (قال المفسر): يريد أن السرف الذي يراد به الإكثار

والإفراط، لا يصلح هاهنا، لأن الممدوح لا يمدح بأنه لا يكثر العطاء، وإنما يمدح بأنه يكثر ويفرط. ولذلك يشبه الشعراء الممدوح بالبحر والمطر، ألا ترى إلى قول حبيب: له خلق نهى القرآن عنه ... وذاك عطاؤه السرف البدار فلما استحال أن يحمل البيت على هذا، حمل على أنه أراد السرف الذي معناه الخطأ، ومعناه على هذا أنهم لا يخطئون فيضعون النعمة في غير موضعها، وهذا نحو قول الآخر: إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع وذهب يعقوب إلى أن السرف في هذا البيت بمعنى الإغفال. وحكى أن إعرابيا واعد قوما في موضع، ثم أخلفهم، فلاموه على ذلك، فقال: مررت بكم فسرفتكم. وهذا نحو مما قال ابن قتيبة فمعناه على قول يعقوب أنهم لا يغفلون أمر من قصدهم، وعول على جودهم. وأما أبو حاتم فتأول بيت جرير على السرف الذي هو الإكثار، وقال: معناه أنهم لا يستكثرون ما يهبون، ولكنهم يرونه قليلاً. فتقديره

على قوله: ما في عطائهم منٌ ولا سرف عندهم، أو في اعتقادهم، ونحو ذلك، ثم حذف. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "الفئام: جماعة الناس" (قال المفسر): كذا رويناه عن أبي علي بالهمز. وحكاه أبو بكر ابن دريد بغير همز، وذلك وقع في كتاب العين غير مهموز. وقد يقال فِيام وفَيام (بالكسر والفتح). [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "والركب أصحاب الإبل، وهم العشرة ونحو ذلك". (قال المفسر): هذا الذي قاله ابن قتيبة، قد قاله غير واحد من اللغويين. وحى يعقوب أن عمارة بن عقيل قال: لا أقول راكب إلا لراكب البعير خاصة. وأقول: فارس وبغال وحمار. ويقوى هذا الذي قاله، قول قريط العنبري. ليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرسانا ووحدانا

والقياس يوجب أن هذا غلط، والسماع يعضد ذلك. ولو قالوا؛ إن هذا هو الكثر في الاستعمال لكان لقولهم وجه. وأما القطع على أنه لا يقال راكب ولا ركب إلا لأصحاب الإبل خاصة، فغير صحيح، لأنه لا خلاف بين اللغويين في أنه يقال: ركبت الفرس وربت البغل وركبت الحمار. واسم الفاعل من ذلك راكب. وإذا كثرت الفعل قلت ركاب وركوب. وقد قال الله تعالى: "والخيل والبغال والحمير لتركبوها" فأوقع الركوب على الجميع، وقال امرؤ القيس: إذا ركبوا الخيل واستلأمو ... تحرقت الأرض واليوم قر وقال زيد الخيل لطائي: وتركب يوم الروع فيها فوارس ... بصيرون في طعن الأباهر والكلى وقال ربيعة بن مقروم الضبي: فدعوا نزال فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل وهذا كثير في اشعر وغيره. وقد قال الله تعالى (فرجالاً أو ركباناً)

وهذا اللفظ لا يدل على تخصيص شيء من شيء، بل اقترانه بقوله: فرجالاً يدل على أنه يقع على لك ما يُقل على الأرض. ونحوه قول الراجز: بنيتة بعصبة من ماليا ... أخشى ركيباً أو رجيلاً عادياً فجعل الركب ضد الرجل. وضد الرجل يدخل فيه راكب الفرس وراكب الجمل وغيرهما. وقول ابن قتيبة أيضاً: إن الركب: العشرة ونحو ذلك غلط آخر، لأن الله تعالى قال: "والركب أسفل منكم" يعني مشركي قريش يوم بدر، وكانوا تسع مائة، وبضعة وخمسين، والي قاله يعقوب في الركب هوا لعشرة فما فوقها، وهذا صحيح، وأظن أن ابن قتيبة أراد ذلك فغلط في النقل. معرفة في الآلات [1] مسألة: قال ابن قتيبة في هذا الباب: (الذواوع: زقاق الخمر ولم أسمع لها بواحد) ز (قال المفسر): حكى أبو علي البغدادي عن أبي بكر بن الأنباري أن واحدها ذارع. وأنشد غيره لعبد بني الحسحاس:

سلافة دن لا سلافة ذارع ... إذا صب منه في الزجاجة أزبدا [2] مسألة: وقال في هذا الباب: (يقال نصاب السكين والمدية، وجزأة الإشفي والمخصف). (قال المفسر): ذكر صاحب كتاب العين أن الجزأة تكون للسكين. وحكى جزأت السكين وأجزأتها. وذكر مثل ذلك أبو عمر المطرز وقال: يقال: للسين المجزأة. وقد ذكرناها في الكتاب الأول، والنصاب أيضاً يستعمل في أصل كل شيء. وقد قال ابن قتيبة في باب السيف: (والسيلان من السكين والسيف جميعاً: الحديدة التي تدخل في النصاب). فجعل النصاب للسيف أيضاً. وأنشد أبو العباس المبرد. أقول لثور وهو يحلق لمتى ... بعقفاء مردود عليها نصابها يعني الموسى.

[3] مسألة: وقال في هذا الباب: (والكر: الحبل يصعد به على النخل، ولا يكون كرا إلا كذلك). (قال المفسر): هذا الذي قاله ابن قتيبة قد قال مثله أبو عبيد. وقال صاحب كتاب العين: الكر: الحبل الغليظ ولم يخص حبلاً من حبل. وقد قال العجاج يصف سفينة: لأيا ينائيها عن الجئور ... جذب الصراريين بالكرور وينائيها: يباعدها ويصرفها. والجئور: الجور عن طريقها. معرفة في اللباس والثياب [1] مسألة: قال في هذا الباب: (حسر عن رأسه، وسفر عن وجهه، وكشف عن رجليه). (قال المفسر): كلامه هذا يوهم من يسمعه، أن الحسر لا يستعمل إلا في الرأس، وقد قال في باب المصادر المختلفة عن الصدر

الواحد: حسر عن ذراعيه. وقد قال في الباب الذي بعد هذا الباب (فإن لم يكن عليه درع فهو حاسر). وهذا كله تخليط وقلة تثقيف للكلام. وكذلك الكشف لا يخص الرجلين دون غيرهما من الأعضاء. وكل شيء نُزع عنه ما عليه فقد كشف. وهذا الذي قاله، قد قاله غيره، ولكن كان يجب له ألا يتشاغل به. فأما السفر والسفور، فلا أعلمه مستعملاً في شيء من الأعضاء سوى الوجه: فأما من غير الأعضاء، فإنه مستعمل في كل شيء. قال العجاج سفر الشمال الزبرج المزبرجا والزبرج: السحاب الذي تحمله الريح. وقال ابن دريد لا يقال له زبرج حتى يكون فيه حمرة. معرفة في السلاح قال في هذا الباب: (ويقال عصيت بالسيف فأنا أعصى به:

إذا ضربت به، وعصوت بالعصا، فأنا أعصو: إذا ضربت بها. والأصل في السيف مأخوذ من العصا، ففرقوا بينهما). (قال المفسر): هذا الذي ذكره، قد ذكره غيره، وهو المشهور. وحكى الخليل: عصى بسيفه: إذا ضرب به ضربه بالعصا. ولغة أخرى: عصا به يعصو. وحكى نحو ذلك الكساني ويقال أيضاً: اعتصى يعتصي، قال الشاعر: ولكننا نأبى الظلام ونعتصي ... بكل رقيق الشفرتين مصمم معرفة في الطير قال في هذا الباب: (القارية والقواري: جمعها، وهي طير خضر تتيمن بها الأعراب). (قال المفسر): العرب تتيمن بالقواري، وتتشاءم بها. أما تيمنهم بها، فلأنها تبشر بالمطر، إذا جاءت وفي السماء مخيلة غيث، ولذلك قال النابغة الجعدي: فلا زال يسقيها ويسقى بلادها ... من المزن رجاف يسوق القواريا

وأما تشاؤمهم بها فإنه يكون إذا لقي أحدهم واحدة منها في سفره من غير غيم ولا مطر. قال الشاعر: أمن ترجيع قارية تركتم ... سباياكم وأبتم بالعناق يوبخ قوما غزوا فغنموا. فلما انصرفوا غانمين، سمعوا صوت قارية، فتركوا غنيمتهم وفروا. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: (الوطواط: الخطاف، وجمعه: وطاوط. (قال المفسر): قد ذكر الخليل نحو ما ذكره ابن قتيبة. وأما أبو حاتم فقال في كتاب الطير: الواطواط: الخفاش. قال: وقال بعضهم: الخفاش الصغير. والوطواط: العيم. معرفة في الهوام والذباب وصغار الطير [1] مسألة: قال في هذا الباب: "الحرباء: أبكر من العظاءة شيئاً. يستقبل الشمس ويدور معها كيف دات، ويتلون ألوانا بحر الشمس".

(قال المفسر): هذا الذي ذكره هاهنا، هو المشهور من أمر الحرباء: وقد ذكر في باب ذكور ما شهر منه الإناث، أن "الحرباء ذكر أمحبين". وذكر في هذا الباب أن حبين: ضرب من العظاء، منتنة الريح. وذكر غيره - وأحسبه كراعا - أن أم حبين دويبة لها أجنحة مختلفة الألوان، تدخلها تحت قشرتين، فيجتمع إليها الصبيان إذا وجدوها، ويقولون: أم حبين انشرى برديك ... إن الأمير ناظر إليك وضارب بالسوط منكبيك فإن ألحوا عليها نشرت أجنحتها. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "والحلكاء (بفتح الحاء والمد): ذويبة تغوص في الرملن كما يغوص طائر الماء في الماء". (قال المفسر): لم يعرف أبو علي البغدادي الحلكاء، بفتح الحاء والمد" وحكى في الممدود والمقصور: والحلكى بضم الحاء وتشديد

اللام وفتحها، والقصر، شحمة الأرض، نغوص في الرمل، كما يعوص طائر الماء في الماء، حكاها عن أبي الدقيش الأعرابي. [3] مسألة: قال في هذا الباب: (والدلدل: عظيم القنافذ، وهو الشيهم أيضاً). (قال المفسر) قد ذكر في باب ما شهر منه افناث، أن الشيهم، ذكر القنافذ، وكذا في كتاب العين. معرفة في الحية والعقرب [1] مسألة: قال في هذا الباب: (رزباني العقرب: قرناها). (قال المفسر): هذا الكلام يوهم من سمعه أن قرني العقرب جميعاً يقال لهما زباني. وإنما الزباني أحد قرني العقرب وهو اسم مفرد مبني على (فعالى) مقصورة، كقولهم: جمادى وحبارى. فإذا أردت قرنيها جميعاً قلت: زبانيان. وكذلك الزبانيان من النجوم. إنما هو كوكبان مفترقان، بينهما أكبر من قامة الرجل في رؤية العين ويسميهما أهل الشام: يدي العقرب واحدها زباني، ويقال زباني الصيف، لأن سقوطها في زمن تحرك الحر، قال ذو الرمة.

قد زفرت للزباني من بوارحها ... هيف أنشت بها الأصناع والخبار وقال أيضاً يصف ريحاً:" حدتها زباني الصيف حتى كأنما ... تمد بأعناق الجمال الهوازم وكان الواجب أن يقول: زباني العقرب: قرنها. أو يقول: زبانيا العقرب: قرناها، فيوقع الإفراد مع الإفراد، والتثنية مع التثنية. الأسماء المتقاربة في اللفظ والمعنى [1] مسألة: قال في هذا الباب: "النضخ أكثر من النضح. ولا يقال من النضخ فعلت". (قال المفسر): هذا الذي قاله، قول كثير من اللغويين. وقد حكى صاحب كتاب العين، نضح ثوبه بالطيب. وقد حكى أبو عبيد

في الغريب عن أبي زيد: نضحت عليه الماء أنضح بالخاء غير معجمة. ونضخ عليه الماء ينضخ بالخاء المعجمة. واختار ما ذكر ابن قتيبة، وقد قال الله تعالى: (فيهما عينان نضاختان). فعال: من أبنية المبالغة، ولا يبنى إلا من فعل. وقد اختلف في النضح والنضخ، فقيل: النضح بالحاء غير معجمة: ما كان رشا خفيفا، والنضخ بالخاء معجمة: ما كثر حتى يبل. وقيل النضح بالحاء غير معجمة في كل شيء رقيق كالماء ونحوه. والنضخ بالخاء معجمة: في كل شيء ثخين نحو العسل والرب. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "الخضم بالفم، والقضم بأطراف الأسنان".

المفسر): قد قيل إن الخضم: أكل الرطب، وأن أكل اليابس. وذكر ابن جني - رحمه الله- أن العرب اختصت اليابس بالقاف. والرطب بالخاء، لأن في القاف شدة، وفي الخاء رخاوة، وذكر أشياء من هذا النحو مما حاكت فيه العرب المعاني بالألفاظ. ولعمري إن العرب ربما حاكت المعنى باللفظ الذي هو عبارة عنه في بعض المواضع، ويوجد ذلك تارة في صفة الكلمة، وتارة في إعرابها. فأما في الصفة فقولهم للعظيم اللحية: لحياني. وكان القياس أن يقول: لحيي. وللعظيم الرقبة: رقباني. والقياس رقبي. وللعظيم الجمة: جماني. والقياس جمي. فزادوا في الألفاظ على ما كان ينبغي أن يكون عليه، كما زادت المعاني الواقعة على نظائرها. وكذلك يقولون: صر الجندب: إذا صوت صوتاً لا تكرير فيه. فإذا كرر الصوت قالوا: صرصر. وأما محاكاتهم المعاني بإعراب الكلمة دون صيغها، فإنا وجدناهم يقولون: صعد زيد الجبل، وضرب زيد بكراً. فيرفعون اللف، كما ارتفع المعنى الواقع تحته، ولكن هذا قياس غير مطرد. ألا تراهم قالوا: أسد وعنكبوت، فجعلوا اللفظين مخالفين للمعنيين. وقالوا: زيد مضروب، فرفعوه لفظاً، وهو منصوب معنى. وقالوا: مات زيد، وأمات الله زيداً، وأحدهما فاعل على الحقيقة،

والآخر فاعل على المجاز. فإذا كان الأمر على هذا السبيل، كان التشاغل بما تشاغل به ابن جني عناء لا فائدة فيه. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: (الرجز: العذاب. والرجس: الفتن). (قال المفسر): هذا قول الكسائي: وكثير من اللغويين. وقال أبو الحسن الأخفش: الرجز: هو الرجس بعينه. والذي حكى ابن قتيبة هو الوجه. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: (الغلط في الكلام. فإن كان في الحساب فهو غلت). (قال المفسر): هذا الذي قاله هو الأشهر. وقد جاء الغلط في الحساب. والوجه في هذا أن يقال: إن الغلط عام في كل شيء أخطأ افنسان وجهه، عن غير تعمد منه ولا قصد، والغلت في الحساب وحده. ويروى أن أعرابياً دخل على المساور بن هند يسأله، فتشاغل عنه، ثم سعل وضرط، وكره أن يسمع الأعرابي ضرطته فجذب السفط، وقال لكاتبه: غلطنا في حساب الخراج، فأعده، ليوهم الأعرابي

أن الصوت الذي سمع إنما كان صوت السفط، فخرج الأعرابي وقال: أتيت المساور في حاجة ... فما زال يسعل حتى ضرط وحك قفاه بكرسوعه ... ومسح عثنونه وامتخط وقال غلطا حساب الخراج ... فقلت من الضرط جاء الغلط [5] مسألة: وقال في هذا الباب: (رجل صنع: إذا كان بعمده حاذقاً. وامرأة صناع، ولا يقال للرجل صناع). (قال المفسر): قد حكى أبو عبيد: رجل صناع، وامرأة صناع، مثل فرس جواد: للذكر والأنثى. ويقال: هو صنع اليدين، بكسر الصاد، وسكون النون، قال الشاعر: ورجا موادعتي وأيقن أنني ... صنع اليدين بحيث يكوى الأصيد

باب نوادر من الكلام المشتبه

باب نوادر من الكلام المشتبه [1] مسألة: قال في هذا الباب: (التقريظ: مدح الرجل حيا والتأبين: مدحه ميتاً). (قال المفسر): قد جاء التأبين في مدح الرجل حيا، إلا أنه قليل لا يكاد يعرف، أنشد يعقوب للراعي: فرفع أصحابي المطي وأبنوا ... هنيدة فاشتاق العيون اللوامح [2] مسألة: إن قال قائل: كيف سم ما ضمنه هذا الباب نوادر، والنوادر: هي الشواذ عن الاستعمال، وجمهور ما ضمنه هذا الباب ألفاظ معروفة مستعملة؟ فالجواب: أنه لم يذهب بتسميتها نوادر إلى ما ذهبت إليه، وإنما أراد أنها ألفاظ متفرقة من أبواب شتى، لم تنحصر كل لفظة منها مع ما يشاكلها تحت باب، كما انحصرت الألفاظ، التي ذكرها في سائر الأبواب. وكل شيء فارق نظيره وتحيز عنه بجهة ينفرد بها، فقد ندر عنه. ومنه قيل: ندرت النواة من تحت الحجر: إذا طارت، ففارقت أخواتها.

[2] مسألة. وقال في هذا الباب: (دوم الطائر في الهواء: إذا حلق واستدار في طيرانه. ودرى السبع في الأرض: إذا ذهب). (قال المفسر): هذا الذي ذكره قول الأصمعي، وأجاز غيره دوم في الأرض وهو صحيح، ومنه اشتقت الدوامة، وكل شيء استدار في هواء كان أو أرضن فهو دائم ومدوم. وفي الحديث: كره البول في الماء الدائم، وقال ذو الرمة: حتى إذا دومت في الأرض أدركه ... كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب وقال أيضاً: يدوم رقراق السراب برأسه ... كما دومت في الخيط فلكة مغزل وقال جريز: عوى الشعراء بعضهم لبعض ... على فقد أصابهم انتقام إذا أرسلت صاعقة عليهم ... رأوا أخرى تحرق فاستداموا

وكان الأصمعي يزعم أن ذا الرمة أخطأ في قوله: (مؤمت في الأرض" وأن الصواب إنما هو قول: معروريا رمض الرضراض بركضه ... والشمس حيرى لها في الجو تدويم وكان مولعا بالطعن على ذي الرمة [3] مسألة: وقال في هذا الباب عن يونس: (إذا غلب الشاعر فهو: مغلب. وإذا غلب قيل: غلب). (قال المفسر): القياس يوجب أنيقال: مغلب فيهما جميعاً غير أن السماع ورد مخالفاً للقياس، فاستعمل من احدهما الفعل، ولم يستعمل الاسم: كما لم يستعملوا اسم فاعل من عسى وليس ونحوهما واستعمل من الثاني الاسم ولم يستعمل الفعل. كما قالوا رجل مدرهم: إذا كان كثير الدرهم، ولم يقولوا: درهم. وقالوا: رجل رامح ودارع وتامر، ولا فعل لشيء من ذلك. وهذا مما خرج مخرج النسب. ولم يجر على الفعل غير أن فيه شذوذا، عن المنسوب من هذا الباب. لأن قياس المنسوب أن يجيء المفعول منه على صيغة لفظ الفاعل، ألا تراهم قالوا: عيشة راضية ومعناها مرضية، وماء دافق، ومعناه مدفوق.

وإنما لزم أن يجيء المفعول من هذا الباب على صيغة لفظ الفاعل، لأن الفعل ينسب غليه، كنسبته إلى الفاعل. فيقال: رجل ذو رضا، وعيشة ذات رضا ورجل ذو دفق للماء، وماء ذو دفق. فلما تساويا في نسبة الفعل إلى كل واحد منهما على صورة واحدة، وجب أن تكون صيغة اسميهما واحدة. ونظير تساوى الفاعل والمفعول في الاسم المصوغ لهما يساويهما في نسبة الفعل إليهما، تساويهما في الإعراب، حين تساويا في إسناد الحديث إليهما. فقالوا: ضُرب زيد، فرفعوه وهو مفعول، حين حدثوا عنه كما تحدث عن الفاعل. وكذلك مات زيد، وضرب الضرب، والضرب لا يُضرب، وعلى هذا المجرى كلام العرب. قال علقمة فظل الأكف يختلفن بحانذ ... إلى جؤجؤ مثل المداك المخضب يريد اللحم المحنوذ (وهو المشوى) وقال آخر: لقد عيل الأيتام طعنة ناشره ... أناشر لا زالت يمينك آشره أي مأشورة. وقد حكى الهروي في الغريبين أنه يقال: مغلب فيهما جميعاً، وهذا موافق للقياس، ومخالف لما زعمه يونس. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: (بات فلان يفعل كذا وكذا: إذا فعله

ليلا: وظل يفعل كذا وكذا: إذا فعله نهاراً). (قال المفسر): قد قال هذا كثير من اللغويين، وليس بصحيح عند التأمل. وإنما ينبغي أن يُقال: إن ظل أكثر ما يستعمل بالنهار. وأما القطع على أنه لا يستعمل إلا بالنهار، فدعوى مفتقره إلى دليل، وقد وجدنا ظل مستعملاً في أمور لا تختص نهاراً دون ليل. فمنها قوله تعالى (فظلتم تفكهون). وقوله: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) فهذا لا يختص وقتاً دون وقت، وكذلك قول مسكين الدرامي. وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ... على سر بعض غير أني جماعها يظلون شتى في البلاد وسرهم ... إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها وقال رؤبة: ظل يقاسي أمره أمبرمه ... أعصمه أم السحيل أعصمه [5] مسألة: وقال في هذا الباب: (لا يقال راكب إلا لراكب البعير خاصة). (قال المفسر؛ قد تقدم الكلام على هذا في باب أسماء الجماعات، فأغنى عن إعادته هاهنا.

[6] مسألة: وقال في هذا الباب: (برك البعير، وربضت الشاة، وجثم الطائر). (قال المفسر): قد استعمل البروك في غير البعير، والربوض في غير الشاة، والجثوم في غير الطائر. ويروى عن رجل من العرب كان يلقب البُرك: أنه قال: في بعض حروبهم: أبا البرك، أبرك حيث أدرك. وقال أبو حاتم في كتاب الفرق: وقالوا في البعير والنعامة: برك بروكا. وفي الحافر وفي الظلف والسباع: ربض يربض ربوضاً. وقال أبو عبيدة: جثم البعير. وقال أبو حاتم في كتاب الفرق: ويقال: جثم الإنسان وغيره، وجثا، وأنشد لرؤية يصف صقرا: كرز يلقي ريشه حتى جثم وأنشد غيره لتأبط شراً: نهضت إليها من جثوم كأنها ... عجوز عليها هدبل ذات خيعل وقال زهير: بها العين والأرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم [7] مسألة: وقال في هذا الباب: (يقال: حششت البعير وخزمته وأبريته. هذه وحدها بألف).

باب تسمية المتضادين باسم واحد

(قال المفسر: قد قيل: بروت الناقة وأبريتها، وهما لغتان. [8] مسألة: وقال في آخر هذا الباب (ولا يقال: عقور إلا للحيوان). (قال المفسر): كذا قال يعقوب، وهو غير صحيح، لأنه قد جاء عقور في غير الحيوان، قال الأخطل: ولا يبقى على الأيام إلا ... بنات الدهر والكلم العقور يعني الهجاء. وقال بعض بني زبيد يصف ناقة أحلنا بالعقور على مطاها ... ولم تحفل بتأثير العقور قيل: أراد بالعقور: السوط، وقيل الرجل، وهو الصحيح. باب تسمية المتضادين باسم واحد قال في هذا الباب (يبادر الجونة أن تغيبا) يعني الشمس. (قال المفسر): هذا غلط، وإنما الشعر: يبادر الآثار أن تثوبا ... وحاجب الجونة أن يغيبا

باب ما تغير فيه ألف الوصل

كالذئب يتلو طمعاً قريبا وسنذكر هذا الرجز في شرح الأبيات إن شاء الله تعالى. وقوم من النحويين ينكرون هذا الباب، ويقولون: لا يجوز أن يسمى المتضادان باسم واحد، لأن ذلك نقض للحكمة. ولهم في ذلك كلام طويل كرهت ذكره، لأنه لا فائدة في التشاغل به. باب ما تغير فيه ألف الوصل وقع في النسخ (تغير) بفتح الياء، وهو غلط، والصواب كسر الياء، لأن ألف الوصل في هذا الباب هي المغيرة لما بعدها. ألا ترى أنها إذا وقعت بعدها همزة، قلبت ياء، استثقالاً لاجتماع همزتين، نحو إيت فلانا. وإذا وقعت بعدها واو، وقلبت ياء، لانكسار ما قبلها، نحو إيجل. فإن قيل فلعله إنما أراد بتغييرها سقوطها إذا وقعت قبلها الواو والفاء أوثم ونحو ذلك. قيل: هذا شيء لا يخص هذا الباب دون غيره، فلا معنى لتخصيص هذا الباب بذلك. وذكر في هذا الباب (فأيسر وأيسر، من الميسر). ولا وجه لذكر ذلك هنا لأن الياء فيه لا تغيرها ألف الوصل كما تغير الهمزة والواو، فذكرها فضل لا يحتاج إليه.

باب (ما) إذا اتصلت

باب (ما) إذا اتصلت [1] مسألة: قال في هذا الباب. (وقد كتبت في المصحف وهي اسم، مقطوعة وموصولة. كتبوا (إن ما توعدون لآت) مقطوعة. وكتبوا (إنما صنعوا كيد ساحر) موصولة وكلاهما بمعنى الاسم). (قال المفسر): إنما تكون (ما) اسماً في قراءة من قرأ (كيد ساحر) بالرفع. وأما من نصب كيد ساحر. فما في قراءته صلة. فكأن الذي كتب المصحف إنما كتبه على قراءة من نصب، فلذلك وصلها. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: (وتكتب: أينما كنت فافعل كذا، وأينما تكونوا يدركم الموت). ونحن نأتيك أينما تكون: موصولة، لأنها في هذا الموضع صلة، وُصلت بها أين. ولأنه قد يحدث باتصالها معنى لم يكن في أين قبل، ألا ترى أنك تقول: أين تكون نكون، فترفع. فإذا أدخلت (ما) على أين قلت: أينما تكن. فتجزم).

باب (من) إذا اتصلت

(قال المفسر): هذا الكلام يُوهم من يسمعه أن (أين) لا تكون شرطاً حتى توصل بما، وذلك غير صحيح، لأنها تكون شرطاً وإن لم تصل بما. قال الشاعر: أين نضرب بنا العداة تجدنا ... نصرف العيس نحوها للتلاقي وليس في أدوات الشرط ما يلزمه (ما) إلا (إذ ما) و (حيثما) خاصة. باب (من) إذا اتصلت [1] مسألة: قال في هذا الباب: (وتكتب فيمن رغبت فتصل للاستفهام. وتكتب: كن راغباً في من رغبت إليه، مقطوعة، لأنها اسم). وقال أيضاً: فأما مع من، فإنها مفصولة إذا كانت استفهاماً أو اسما. تقول: مع من أنت؟ وكن مع من أحببت). (قال المفسر): هذا عبارة فاسدة توهم من يسمعها أن (من) إنما تكون اسماً إذا كانت بمعنى الذي وأنها إذا كانت استفهاماً لم تكن اسماً، وهي اسم في كلا الموضعين. وإنما كان الصواب أن يقول مقطوعة لأنها خبر. أو يقول: إذا كانت خبراً أو استفهاماً، حتى يصح كلامه ويسلم من الخلل.

باب (لا) إذا اتصلت

[2] مسألة: وقال في هذا الباب: (وكل من: مقطوعة في كل حال وأما 0 ممن ومما) فموصولتان أبدا). (قال المفسر): هذا تناقض منه، لأنه قد قال في صدر الباب: تكتب فيمن ترغب؟ فتصل للاستفهام. وإنما أتى هذا من سوء العبارة. وكان الصواب أن يقول: وكل (مَنْ) إذا كانت خبراً غير استفهام فهي مقطوعة أبداً، إلا ممن وعمن، فإنهما موصولتان، وإن كانتا لغير الاستفهام من أجل الادغام. وإن كان أراد أن هذه الكلمة التي هي (كل) إذا أضيفت إلى (مَنْ) فهي مقطوعة، فهو كلام صحيح، لا اعتراض فيه. وأظنه هذا أراد. باب (لا) إذا اتصلت قال في هذا الباب: (تكتب أردت ألا تفعل ذاك، وأحببت ألا تقول ذاك. ولا تظهر (أن) ما كانت عاملة في الفعل. فإذا لم تكن عاملة في الفعل، أظهرت أن، نحو علمت ألا تقول ذاك وتيقنت ألا تذهب). (قال المفسر): في هذا الفصل ثلاثة أقوال للنحويين. أحدها: الذي قاله ابن قتيبة. والثاني: أنها تظهر إذا أدغمت في اللام بغنة ولا تظهر إذا أدغمت بغير غنة. وهذا القول ينسب إلى الخليل.

والقول الثالث: أنها تكتب منفصلة على كل حال. والذي ذكره ابن قتيبة أحسن الأقوال. غير أنه يحتاج إلى زيادة في البيان، ليعلم الموضع الذي يلزم فيه نصب الفعل، والموضع الذي يرفع فيه، وحينئذ يبين الموضع الذي يظهر فيه (أن) والموضع الذي لا يظهر فيه. * * * أعلم أن (أن) المشددة وضعت للعمل في الأسماء، وأن المخففة وضعت للعمل في الأفعال المستقبلة. فما دامتا على أصل وضعهما، فلا لبس بينهما، لأن أحداهما مشددة - والثانية مخففة، وإحداهما تعمل في السماء، والثانية في الأفعال. ثم إن المشددة يعرض لها في بعض المواضع التخفيف، وإضمار اسمها، فلا يظهر في اللفظ، ويعرض لها عند ذلك أن يليها الفعل، كما يلي المخففة في أصل وضعها، فيقع اللبس بينهما، فيحتاجان إلى ما يفصل بينهما، والفصل بينهما يكون من وجهين: أحدهما: أن المخففة من الشديدة تقع قبلها الأفعال المحققة، نحو علمت، وأيقنت، وتحققت، والناصبة للفعل تقع قبلها الأفعال التي ليست محققة، نحو رجوت وأردت وطمعت. والوجه الثاني: أن المخففة من المشددة يلزمها العوض من المحذوف منها، والعوض أربعة أشياء: السين، وسوف، وقد، ولا، التي للنفي، كقولك: حلمت أن سيقوم، وأيقنت أن سوف يخرج، وتحققت أن قد ذهب. وما يعترضني شك في أن لا يفعل. وإنما لزم وقوع الأفعال المحققة قبل المخففة من المشددة، والأفعال غير المحققة

قبل الناصبة للفعل، لأن (أن) المشددة إنما دخلت في الكلام لتحقيق الجمل وتأكيدها. فوجب أن يقع قبلها ل فعل محقق، لأنه مشاكل لها، ومطابق لمعناها. ولما كانت (أن) الناصبة للفعل، إنما وضعت لنصب الأفعال المستقبلة، والفعل المستقبل ممكن أن يكون، وممكن أن لا يكون، وجب أن يقع قبلها كل فعل غير محقق، لأنه موافق لمعناها، فإذا وقع قبلها الظن والحسبان، جاز أن تكون المخففة من الشديدة، وجاز أن تكون الناصبة للفعل، لأن الظن خاطر يخطر بالنفس، فيقوى تارة، ويضعف تارة. فإذا قوى وكثرت شواهده ودلائله، صار كالعلم، ولذلك استعملت العرب الظن بمعنى العلم. وإنما قلنا: إن إظهار (أن) في الخط إذا كانت مخففة من المشددة، وترك إظهار غير المخففة هو القياس، لأن سبيل ما يدغم في نظيره أو مقاربه ألا يكون بينه وبين ما يدغم فيه حاجز، من حركة ولا حرف، لأنه إذا كان بينه وبينه حاجز، بطل الإدغام. ولذلك لزم ألا يدغم شيء في مثله أو مقاربه، حتى تسلب عنه حركته، لأن الحركة تحول بينهما إذا كانت رتبة الحركة (أن) بعد الحرف. فلما كان اسم (أن) المخففة من الشديدة مضمراً بعدها، مقدراً معها، صار حاجزاً بينها وبين (لا)، فبطل إدغام النون من (أن) في لام (لا) لأجل ذلك. ولما كانت (أن) الناصبة للأفعال ليس بعدها شيء مضمر، باشرت النون لام (لا) مباشرة المثل للمثل، والمقارب للمقارب. فوجب إدغامها فيها، فانقلبت إلى لفظها، فلم يجز ذلك ظهورها في الخط.

باب من الهجاء

باب من الهجاء [1] مسألة: قال في هذا الباب: "تكتب "إذا" بالألف، ولا تكتب بالنون، لأن الوقوف عليها بالألف، وهي تشبه النون الخفيفة في مثل قول الله تعالى: (لنسفعاً بالناصية). و (ليكونا من الصاغرين). إذا أنت وقفت، وقفت على الألف، وإذا وصلت، وصلت بنون. وقال الفراء: ينبغي لمن نصب بإذن الفعل المستقبل، أن يكتبها بالنون، فإذا توسطت الكلام فكانت لغواً كتبت بالألف. قال ابن قتيبة: وأحب إليّ أن تكتبها بالألف في كل حال، لأن الوقوف عليها بالألف في كل حال". (قال المفسر): قد اختلف الناس في (إذن) كيف ينبغي أن تكتب، فرأى بعضهم أن تكتب بالنون على كل حال، وهو رأي أبي العباس المبرد. ورأى قوم أن تكتب بالألف على كل حال، وهو رأي المازني. ورأى الفراء أن تكتب بالنون إذا كانت عاملة، وبالألف إذا كانت ملغاة. وأحسن الأقوال فيها قول المبرد. لأن نون (إذن) ليست بمنزلة التنوين، ولا بمنزلة النون الخفيفة، فتُجرى مجراهما في قلبها ألفاً. إنما هي أصل

من نفس الكلمة، ولأنها إذا كتبت بالألف أشبهت (إذاً) التي هي ظرف، فوقع اللبس بينهما. ونحن نجد الكتاب قد زادوا في كلمات ما ليس فيها، وحذفوا من بعضها ما هوا لفرق بينها وبين ما يلتبس بها في الخط، فكيف يجوز أن تكتب (إذا) بالألف، وذلك مؤد إلى الالتباس بإذا. وقد اضطربت آراء الكتاب والنحويين في الهجاء، ولم يلتزموا فيه القياس، فزادوا في مواضع حروفاً خشية اللبس، نحو واو عمرو، وياء أوخى وألف مائة وحذفوا في مواضع ما هو في نفس الكلمة، نحو خالد ومالك، فأوقعوا اللمس بما فعلوه، لأن الألف إذا حذفت من خالد صار (خلداً)، وإذا حذفت من مالك، صار (ملكاً)، وجعلوا كثيراً من الحروف على صورة واحدة، كالدال والذال، والجيم والحاء والخاء، وعولوا على النقط في الفرق بينها، فكان ذلك سبباً للتصحيف الواقع في الكلام. ولو جعلوا لكل حرف صورة لا تشبه صورة صاحبه، كما فعل سائر الأمم، لكان أوضح للمعاني وأقل للالتباس والتصحيف. لذلك صار التصحيف للسان العربي أكثر منه في سائر الألسنة. [2] مسألة: وقال في آخر هذا الباب: "وتكتب: فرأيكما وفرأيكم، فإن نصبت رأيك، فعلى مذهب الإغراء، أي: فرأيك، وإن رفعت، لم ترفع على مذهب الاستفهام، ولكن على الخبر، (وكبتت،

باب الحروف التي تأتي للمعاني

[موفقاً إن أردت الرأي وموفقين، إن أردت الرجلين] وإن كتبت إلى حاضر فنصبت (فرأيك) لم يجز أن تنصب رأي الأمير، لأنه بمنزلة الغائب، ولا يجوز أن تُغرى به". (قال المفسر): كذا وقع في النسخ وهو خطأ لأن الغائب يغرى به الحاضر، وإنما الممتنع من الجواز أن يغري الغائب بغيره. ألا ترى أنك تقول: عليك زيداً. فيجوز أن يكون زيد حاضراً وغائباً والصواب أن يقول: ولا يجوز أن يغري. وأما زيادة قوله (به) فمفسر لما أراده، ومحيل له من الصواب إلى الخطأ. باب الحروف التي تأتي للمعاني هذا باب ظريف، لأنه ترجمه بباب الحروف التي تأتي للمعاني، فذكر في الباب (عسى) وهو فعل، وذكر (كلا وكلتا) وهما اسمان، وذكر فيه متى وأنى، وهما ظرفان. والظروف نوع من الأسماء وإن كانت مشتملة على غيرها. وجه العذر له في ذلك أن يقال: إنما استجاز ذكر هذه الأشياء مع الحروف لمضارعتها لها بالبناء، وعدم التصرف لأن كلا وكلتا مشبهان في انقلاب ألفهما إلى الياء مع المضمر بإلى وعلى فلما ضارعت حروف المعاني ذكرها معها. فإن قال قائل: قد وجدنا سيبويه سمى الأفعال المتصرفة

والأسماء المتمكنة حروفاً في كتابه، فقال حين تكلم على بناء الفعل الماضي: وإنما لم يسكنوا آخر هذه الحروف، لأن فيها بعض ما في المضارعة تقول: هذا رجل ضربنا فتصف به النكرة. وتقول: إن فعلت، فعلت، فتكون في موضع إن تفعل أفعل. وقال في باب ما جرى مجرى الفاعل الذي يتعدى فعله إلى مفعولين في اللف لا في المعنى: وأما قوله تعالى جده (فبما نقضهم ميثاقهم) فإنما جاء لأنه ليس (لما) معنى سوى ما كان قبل أن تجيء به إلا التوكيد، فمن ثم جاز ذلك، إذ لم ترد به أكثر من هذا، وكانا حرفين، أحدهما في الآخر عامل. ولو كان اسما أو ظرفا أو فعلاً، لم يجز يريد بالحرفين: الباء والخفض. فالجواب: أنه لا يمتنع أن تسمى الأقسام الثلاثة التي يدور عليها الكلام حروفاً. وإنما جاز ذلك لأنها لما كانت محيطة بالكلام، صارت كحدود الشيء الحاصرة له، المحيطة به. والشيء إنما يتحدد بأطرافه ونواحيه التي هي حروف له. فجاز أن تسمى الكلم الثلاث حروفاً لهذا المعنى. وكلام ابن قتيبة لا يسوغ فيه هذا التأويل، لأنه قال: باب الحروف التي تأتي للمعاني. والنحويون لا يسمون حرف معنى إلا الأدوات الداخلة على الأسماء والأفعال المبينة لأحوالها، المتعاقبة عليها. فلذلك تأولنا كلامه على الوجه الأول، ولم نتأوله على الوجه الثاني.

باب الهمزة التي تكون آخر الكلمة وما قبلها ساكن

باب الهمزة التي تكون آخر الكلمة وما قبلها ساكن قال: وهي إذا كانت كذلك حذفت في الخفض والرفع نحو قول الله عز وجل (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه). (لكم فيها دفء) و (ملء الأرض ذهباً). وكذلك إن كنت في موضع نصب غير منون، نحو قوله عز وجل (يخرج الخبء) فإن كانت في موضع نصب منون، ألحقتها ألفاً، نحو قولك: أخجرت خبأ وأخذت دفأ. (قال المفسر): تفريقه بين المنصوب المنون والمنصوب غير المنون، يوهم من يسمعه أن للهمزة صورة مع المنون، وذلك غير صحيح. لأن الألف في قولك: أخرجت خبأ، وأخذت دفئاً. ليست صورة الهمزة، إنما هي الألف المبدلة من التنوين، كالتي في قولنا: ضربت زيداً. وقد تحرز ابن قتيبة من هذا الاعتراض بعض التحرز، بقوله: ألحقتها ألفاً. ولم يقل جعلتها ألفاً. ومما يبين لك ذلك أن الهمزة إنما تصور في معظم أحوالها بصورة الحرف الذي تنقلب إليه عند التخفيف، أو تقرب منه: فتكتب

لؤم الرجل بالواو، لأنك لو خففتها لجعلتها بين الهمزة والواو. وتكتب (جؤنا) بالواو، لأنك لو خففتها لكانت واواً محضة. فلما كانت الهمزة في الخبء والدفء إذا خففت ألقيت حركتها على ما قبلها وحذفت، وكان الوقف يزيل حركتها، وجب ألا تكون لها صورة في الخط. وهذه العلة بعينها موجودة فيها إذا كانت في موضع تنوين. ألا ترى أنك إذا خففت خبئاً ودفئاً، قلت: خبا ودفا، كما نقول: الخب والدف. فإن قال قائل: فإن من النحويين من يرى أن العلة التي من أجلها حذفت ولم يكن لها صورة في الخبء والدفء، أن الهمزة. إنما تدبرها حركة ما قبلها إذا كانت ساكنة أو حركتها في نفسها إذا كانت متحركة، إلا أن تعرض علة تمنع من أن تدبر بحركتها في نفسها فتدبر، أي تكتب حينئذ بحركة ما قبلها، مثل العلة العارضة في جؤن ومئر، لأنها لو دبرت ها هنا بحركتها في نفسها، لكانت ألفاً. ولا تصح الألف، إلا إذا انضم ما قبلها أو انكسرن فأدى ذلك إلى أن تدبر بحركة ما قبلها، فجعلت واو محضة في جؤن، وياء محضة في مئر. فما ينكر أن تكون الهمزة في الخبء والدفء لما كانت لا تثبت حركتها في الوقف، لم يجز أن تُدبر بحركتها في نفسها،

باب ما يذكر ويؤنث

ولم يكن قبلها حركة ندبرها، فسقطت صورتها. ولما كانت في أخذت خبأ، ورأيت دفئاً ثابتة الحركة، لا يزيلها الوقف، وجب أن تدبر بحركتها في نفسها، فتجعل ألفان ثم اجتمعت ألفان، الألف التي هي صورة الهمزة، والألف التي هي بدل من التنوين، فحذفت إحداهما. قيل له هذا الاعتلال ممكن أن يعلل به. ولكن لا يخلو صاحب هذا الاعتلال من أن يكون حذف الألف التي هي صورة الهمزة، أو حذف التي هي بدل من التنوين. فلا يجوز أن تحذف التي هي بدل من التنوين عند أحد علمناه. فصح ن المحذوفة هي صورة الهمزة. فقد آل الأمر في التعليلين جميعاً أن الهمزة في خبء ودفء لا صورة لها في حال النصب والتنوين، كما لم يكن لها صورة في الرفع والخفض. ومع الألف واللام. وأن الألف المرئية في الخط إنما هي المبدلة من التنوين. باب ما يذكر ويؤنث قال في هذا الباب: (الموسى، قال الكسائي: هي فُعلى. وقال غيره: هو مفعل من أوسيت رأسه: إذا حلقته، وهو مذكر إذا كان مفعلاً، ومؤنث إذا كان فعلى). (قال المفسر): كون موسى على وزن مفعل، لا يمتنع من أن تكون مؤنثة، وتكون من الأسماء التي لا علم فيها للتأنيث، كالقوس،

باب أوصاف المؤنث بغير هاء

والأرض، والشمس، ونحوها. وأحسب من أنكر كونها مؤنثة إذا كانت مفعلاً، توهم أنها لو كانت مؤنثة للزم أن يكون فيها علامة تأنيث، كما تقول: امرأة مكرمة، ولا يجوز امرأة مكرم. وهذا لا يجب، لأن موسى ليست بصفة جارية على فعل، فيلزم أن تلحقها الهاء. إنما هي اسم للدلالة التي يلحق بها، وهي مشتقة من أوسيت رأسه: إذا حلقته. وقيل: هي مشتقة من أسوت الشيء: إذا أصلحته. فأما على قول الكسائي، فيلزم أن تكون مؤنثة لا غير، لأن (فُعلى) في كلام العرب لا تكون ألفها لغير التأنيث. وتنوين العرب لها دليل على أنها لغير التأنيث، وأن ما قاله الكسائي من أن وزنها فعلى غير صحيح. وكان الكسائي يرى أنها مشتقة من ماس يميس: إذا تبختر. باب أوصاف المؤنث بغير هاء قال في هذا الباب: (وما كان على (مُفعل) فيما لا يوصف به مذكر، فهو بغير هاء، نحو امرأة مرضع، ومقرب، وملبن، ومشدن، ومطفل، لأنه لا يكون هذا في المذكر. فلما لم يخافوا لبسا، حذفوا الهاء فإذا أرادوا الفعل قالوا: مرضعة ...). (قال المفسر): هذا الذي قاله مذهب كوفي. وأما البصريون فيرون أن هذه الصفات كلها جاءت على معنى النسب، لا على الفعل.

والمعنى عندهم: ذات إرضاع، وذات إقراب، وذات ألبان، ونحو ذلك. ويدل على صحة قولهم، واستحالة قول الكوفيين، أنا وجدنا صفات كثيرة يشترك فيها المذكر والمؤنث بغير هاء، كقولهم رجل عاشق، وامرأة عاشق، ورجل حاسر، وامرأة حاسر، وفرس ضامر، ومهرة ضامر. فلو كانت العلة ما قالوه، للزم هذه الصفات التأنيث، قال ذو الرمة: ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه مي سافرا كاد يبرق وقال الأعشى: عهدي بها في الحي قد سربلت ... هيفاء مثل المهرة الضامر وقد خلط ابن قتيبة في كتابه المتقدم بين المذهبين جميعاً، لأن قوله في صدر الكلام: "وما كان على (مفعل) مما لايوصف به المذكر، فهو بغير هاء: مذهب كوفي. وقوله في آخر اللام: "فإذا أرادوا الفعل قالوا مرضعة، مذهب بصري، لأن إثباتهم الهاء إذا أرادوا الفعل، دليل على أن حذفهم إياها بناء للصفة على غير الفعل، وهذا رجوع إلى قول البصريين.

باب المستعمل في الكتب والألفاظ من الحروف المقصورة

باب المستعمل في الكتب والألفاظ من الحروف المقصورة ذكر في هذا الباب أسماء مقصورة، أولها: (الهوى هوى النفس). وآخرها "مكاناً سوى" ثم قال بإثر ذلك: (هذا كله يكتب بالياء). (قال المفسر): وليس الأمر كما قال، لأنه ذكر في الجملة أسماء لا يجوز أن تكتب إلا بالألف، وأسماء يجوز فيها الأمران جميعاً. فمما لا يكتب إلا بالألف، الشجا في الحلق، والشجا: الحزن. لأنه يقال: شجوته أشجوه. وإنما غلط في ذلك لقولهم: شجى يشجى، وهو لا يعتد به، لأن أصل الياء فيه واو انقلبت ياء، لانكسار ما قبلها. ومنها: الخنا، لأنه يقال: خنا يخنو، وأخنى يخنى: إذا أفحش. ومنها: الحفا، لأنهم قالوا: الحفوة بالواو، وقد حكى حفية بالياء، وأصلها الواو، فقلبت ياء لانكسار ما قبلها. ولم يحفل بالساكن، لأنه حاجز غير حصين. ومنها: النسا؛ لأنه قد ذكر بعد هذا أنه يثني نسوان ونسيان. وهذا يوجب أن يكتب بالياء وبالألف.

ومنها: الحشا: يكتب بالياء وبالألف، لأنه يقال في تثنيته: حشوان وحشيان، ذكر ذلك يعقوب وغيره. ثم قال ابن قتيبة ومما يكتب بالألف، وذكر فيما ذكر: خسا وزكا، فأما (زكا) فصحيح. وأما خسا، فذكره الخليل في باب الخاء والسين والياء. وهذا يوجب أن يكتب بالياء. وزعم الفراء أنه يكتب بالألف، لأن أصله الهمز وأحسب ابن قتيبة عول على قول الفراء. وذكر أيضاً: "الصغا: ميلك إلى الرجل". وهذا يجب أن يكتب بالياء وبالألف، لأنه قد ذكر بعد هذا في الكتاب أنه يقال: صفوت وصفيت. وذكر "قطا ولها" وهما يكتبان بالألف والياء، لأن الكسائي حكى أن العرب تقول: قطوات وقطيات، ولهوات ولهيات. والواو في هذين الحرفين أشهر من الياء، وما حكاه الكسائي نادر لا يلتفت إلى مثله. وذكر أيضاً: "شجر الغضا". وذكر الخليل الغضا في باب الغين والضاد والياء، وقال: يقال لمنبته: الغضياء، مثل الشجراء، وهذا يوجب أن يكتب بالياء، وكذا قال ابن جني.

باب أسماء يتفق لفظها وتختلف معانيها

باب أسماء يتفق لفظها وتختلف معانيها قال في هذا الباب: "الصبي من الصغر: مقصور بالياء. والصباء من الشوق: ممدود." وقال بعد هذا بألفاظ يسيرة: (والعدى: الأعداء: مقصور، بالياء." (قال المفسر): لا فرق بين الصبا والعدا في القياس، لأنهما كليهما من بنات الواو. ويقال: صبا يصبو، وعدا يعدو. فقياسهما أن يكتبا بالألف. وقد خلط ابن قتيبة في هذا الباب بين مذهب البصريين والكوفيين، ولم يلتزم قياس واحد منهم. فأخذ في الصبا بمذهب الكوفيين، وفي العدا بمذهب البصريين. ولا خلاف بين البصريين والكوفيين في أن الاسم الثلاثي المفتوح الأول، نحو الصفا والفتى، ينظر إلى أصله، فإن كان من ذوات الواو كتب بالألف، وإن كان من ذوات الياء كتب بالياء. واختلفوا في الثلاثي المكسور الأول والمضموم. فالبصريون يجرون ذلك مجرى المفتوح الأول، والكوفيون يكتبون كل ثلاثي مكسور الأول أو مضمومه بالياء، ولا يراعون أصله، وليست بأيديهم حجة يتعلقون بها فيما أعلم، غير أن الكسائي قال: سمعت العرب تثنى كل اسم ثلاثي مضموم الأول أو مكسوره بالياء، إلا الحمى والرضا فإني سمعتهم يقولون فيهما: حموان وحميان، ورضوان ورضيان. واحتج قوم منهم

باب حروف المد المستعمل

لذلك، بالكسر الذي في أولهما، ولو كان الكسر يوجب التثنية بالياء، لم يثن الهدى والضحى بالياء على أصولهم ولو جب أن يقال: هدوان وضحوان. فالقياس الصحيح في هذا أن يجري مجرى المفتوح الأول في أن يُنظر إلى أصله. ولو كانت العرب تثنى كل مضموم ومكسور بالياء، لم يخف ذلك على البصريين، وإن كان الكسائي سمع ذلك من بعض العرب، فليس يجب أن يجعل ذلك حجة وقياساً على سائرهم. ومن النحويين من يرى أن يكتب كل هذا بالألف، حملا للخط على اللفظ، وهو الذي اختاره أبو علي في مسائله الحلبية. باب حروف المد المستعمل قال في هذا الباب: "الإساء: الأطباء" ذكره في الممدود المكسور الأول. وأنكر ذلك أبو علي البغدادي وقال: إنما هو الأساء، بضم الهمزة. فأما الإساء بالكسر فإنه الدواء. وقال أبو بكر بن القوطية: لا وجه لإنكار أبي علي لهذا، وآسٍ وإساء: بالكسر صحيح، كما قالوا: راع ورعاء. ثم رجع أبو علي بعد ذلك عن قوله، فحكى في كتابه في المقصور والممدود: والإساء: جمع الآسي. ذكره عن ابن الأنباري عن الفراء.

باب ما يقصر فإذا غير بعض حركات بنائه مد

باب ما يُقصر فإذا غير بعض حركات بنائه مُد قال في هذا الباب: "والبؤسي، والعليا، والرغبى، والضحى، والعلى: كل ذلك إذا ضم أوله قصر وكتب بالياء، إلا العليا". (قال المفسر): كتابة الضحى والعُلى بالياء: مذهب كوفي. وقد ذكرنا مذهب البصريين والكوفيين. ومن كتب العلا بالياء، أقرب إلى القياس ممن كتب الضحى بالياء. لأن العُلا يمكن أن يكون جمع عليا، كما قالوا: الصغرى والصغر. وأصل الياء في العليا واو، فكأنهم بنوا الجمع على الواحد. وإذا كان العلى اسما مفرداً لا جمعا، فإن كتابته بالياء بعيدة في القياس. والدليل على أنه يكون اسماً مفرداً لا جمعاً، أنهم يفتحون أوله ويمدونه، فيقولون: العلاء، ولو كان جمعاً لم يجز فيه ذلك. باب الحرفين [اللذين] يتقاربان في اللفظ والمعنى ويختلفان فربما وضع الناس أحدهما موضع الآخر قال في هذا الباب: "الحمل: حمل كل أنثى، وكل شجرة. قال الله تعالى: (حملت حملاً خفيفاً). والحمل: ما كان على ظهر الإنسان".

(قال المفسر): هذا قول يعقوب ومن كتابه نقله. وقد رد على يعقوب، فكان ينبغي لابن قتيبة أن يجتنب ما رد عليه. ولا خلاف بين اللغويين في أن حمل البطن مفتوح، وأن الحمل الذي على الظهر مكسور. فأما حمل الشجرة ففيه الفتح والكسر. أما الفتح فلأنه شيء يخرج منها، فشبه بحمل البطن، وأما الكسر، فلأنه مرتفع عليها، فشبه بحمل الظهر والرأٍ. واختلف الرواة فيه عن أبي عبيدة، فروى أبو عبيد: حمل النخلة والشجرة: ما لم يكثر ويعظم، فإذا كثر وعظم فهو حمل بالفتح. وكذلك روى عنه أبو حنيفة وقال: ما أنه (لم يكثر). وروى غيرهما عنه أنه قال: الحمل إذا كان في البطن فهو مفتوح، وإذا كان على العنق فهو مكسور، وكذلك اختلفوا في حمل الشجرة. [2] مسألة: وقال في هذا الباب، "وعدل الشيء بفتح العين، مثله. قال

الله عز وجل (أو عدل ذلك صياماً). وعدل الشيء بكسر العين زنته". (قال المفسر): قد اختلف اللغويون في العَدل والعِدل. فقال الخليل: عدل الشيء (بالفتح): مثله وليس بالنظير. وعدله (بالكسر): نظيره. وقال الفراء العدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه. والعدل (بالكسر): المثل. وذلك أن تقول: عندي عدل عبدك وشاتك، إذا كان عبدك يعدل عبده وشاتك تعدل شاته. فإذا أردت قيمته من غير جنسه نصبت العين وربما قال بعض العرب عدله: فإنه منهم غلط لتقارب معنى العدل والعدل. وقد أجمعوا على واحد الأعدال أنه عدل بالكسر. وقال ابن دريد: العدل بالتفح من قول عدلت الشيء بالشيء إذا جعلته بوزنه. والعدل بالكسر العِكم يعدل بمثله. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "والسداد في المنطق والفعل بالفتح، وهو افصابة. والسداد بالكسر: كل شيء سددت به شيئاً، مثل سداد

القارورة، وسداد الثغر أيضاً. ويقال أصبت سداداً من عيش. أي ما تسد به الخلة، وهذا سداد من عوز". (قال المفسر): قد قال في باب ما جاء فيه لغتان استعمل الناس أضعفهما: "ويقولون سداد، والأجود سداد. وقال في كتاب أبنية الأسماء: "سداد من عوز، وسداد"، فسوى بين اللغتين. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: "القوام بكسر القاف: ما أقامك من الرزق". (قال المفسر) قد قال في باب ما جاء فيه لغتان استعمل الناس أضعفهما: ويقولون ما قوامي إلا بكذا (بالفتح) والأجود ما قوامي بالكسر. وقال في باب فَعالٍ وفعالٍ من كتاب الأبنية قوام وقوام، فأجاز اللغتين. [5] مسألة: وقال في هذا الباب: "وليل تمام بالكسر لا غير، وولد تمام بالنصب وقمر تمام بالفتح والكسر".

(قال المفسر): يجوز في الولادة: تمام، وتمام بالفتح والكسر. كما يجوز في القمر سواء. ولا أدري لم فرق بينهما. وقد ذكر ابن قتيبة في أبنية الأسماء من تكابه هذا: ولد تمام، وتمام. فأجاز الوجهين جميعاً، بخلاف ما قاله هنا. وكذلك يروى قول الشاعر: تمخضت المنون له بيوم ... أنى ولكل حاملة تمام بالفتح والكسر. وأنكر أبو علي البغدادي عليه في هذا الموضع شيئاً آخر غير ما أنكرناه نحن فقال الصحيح: ولد المولود لتمام وتمام. وأما ولد تمام، على الصفة، فلا أعرفه. وهذاالذي قاله أبو علي هو المعروف. والذي قاله ابن قتيبة غير مدفوع، لأن التمام مصدر، والمصادر لا ينكر أن يوصف بها، كما قيل رجل عدل ورضا ونحو ذلك. فالذي عارض به لا يلزم ابن قتيبة. [6] مسألة: وقال في هذا الباب: "الولاية: ضد العداوة. قال الله تعالى (ما لكم من ولايتهم من شيء) والولاية من وليت الشيء".

باب الحروف التي تتقارب ألفاظها وتختلف معانيها

(قال المفسر): قد ذكر في باب فَعالة وفِعالة من كتاب الأبنية أنه يقال: (الولاية والولاية، من الموالاة، فأجاز الفتح والكسر. وقد قرأت القراء: (ما لكم من ولايتهم من شيء)، وولايتهم. [7] مسألة: وقال في هذا الباب: "واللحن، بفتح الحاء: الفطنة. يقال: رجل لحن، واللحن، بالسكون: الخطأ في القول والكلام. (قال المفسر): الفتح والتسكين جائزان في كل واحد منهما، غير أن الفتح في الفطنة أشهر، وتسكين الحاء في الخطأ أشهر. وقد زعم الكوفيون أن كل اسم كان على مثال فعل وعين الفعل منه حرف من حروف الحلق، فالفتح فيه والسكون جائزان معاً، كالنهر والنهر والشعر الشعر. وأهل البصرة يجعلونه موقوفاً على السماع، وهو الصحيح. باب الحروف التي تتقارب ألفاظها وتختلف معانيها [1] مسألة: قال في هذا الباب: "المنسر: جماعة من الخيل بفتح الميم وكسر السين. والمنسر بكسر الميم وفتح السين: منقار الطائر."

باب المصادر المختلفة عن الصدر الواحد

(قال المفسر): هذا قول أكثر اللغويين. وأما الأصمعي فقال، منسر في الخيل. والمنقار بكسر الميم وفتح السين. وقال ابن سيده: المنسر والمنسر من الخيل: ما بين الثلاثة إلى العشر. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "البوص: السبق والفوت. والبوص: اللون والبوص بالضم العجز". (قال المفسر): قد حكى بعد هذا في كتاب الأبنية: أنه يقال للعجز بوص، وبوص، بالفتح والضم، فافهم. باب المصادر المختلفة عن الصدر الواحد [1] مسألة: قال في هذا الباب: "قالوا: وجدت في الغضب موجدة، ووجدت في الحزن وجدا، ووجدت الشيء وجداناً ووجوداً. وافتقر فلان بعد وُجد، بضم الواو".

(قال المفسر): قد قال بعد هذا في باب ما جاء فيه ثلاث لغات من [بنات الثلاثة]، الوجد والوُجد والوِجد: من المقدرة، فأجاز فيها الفتح، والضم، والكسر. وكذلك قال يعقوب، وباللغات الثلاث قرأ القراء: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجدكم). [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "وجب القلب وجيبا ووجبت الشمس وجوباً، ووجب البيع جبة". (قال المفسر): قد حكى ثلب في البيع وجوباً وجبة. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "أويت له مأوية وأية: أي رحمته وأويت إلى بني فلان آوى أويا. وآويت فلاناً إيواء".

(قال المفسر): قد قال في باب فعلت وأفعلت باتفاق معنى: "أويته وآويته: بمعنى، وأويت إلى فلان: مقصور لا غير". [4] مسألة: قال في هذا الباب: "سكرت الريح تسكر سكوراً: أي سكنت بعد الهبوب، وسكرت البثق أسكره سكرا: إذا سددته، وسكر الرجل يسكر سكراً وسكراً". (قال المفسر): هذا مخالف لترجمة الباب، لأنه ترجم الباب بالمصادر المختلفة عن الصدر الواحد، وهذان صدران مختلفان، أحدهما: فعل مفتوح العين، والثاني فعل مكسور العين. فإن احتج له محتج بأنه أراد أنهما فعلان متفقان في أنهما ثلاثيان وإن اختلفا في كسر العين وفتحها، انتقض عليه ذلك. فإنه قد ذكر في هذا الباب: بلى وأبلى، وحمى وأحمى، وسفر وأسفر، ونزع ونازع، وعجز وعجز. وهذه كلها صدور مختلفة، بعضها ثلاثي وبعضها رباعي وبعضها أكثر من ذلك.

وقد ذكر أيضاً في هذا الباب: "فرس" جواد: بين الجودة والجودة، وهذا مصدر لا صدر له. والذي ينبغي أن يعتذر له به، أن يقال: إنها وإن اختلفت أوزانها، فهي مشتقة من أصل واحد، وبعضها متشبث ببعض، فلم يمكن أن يُذكر واحد منها دون صاحبه. [5] مسألة: وقال في هذا الباب: "غار الماء يغور غوراً، وغارت عينه تغور غئوراً وغار على أهله يغار غيرة، وغار أهله: بمعنى مارهم يغيرهم غياراً. وغار الرجل: إذا أتى الغور وأنجد بالألف. وغارني الرجل يغيرني ويغورني: إذا أعطاك الدية، غيرة. وجمعها: غير". (قال المفسر): قد قالوا: غارت الشمس غئوراً وغياراً. قال امرؤ القيس: فلما أجن الشمس عني غيارها ... نزلت إليه قائماً بالحضيض وقال أبو ذؤيب: هل الدهر إلا ليلة ونهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم غيارها وقد حكى ابن قتيبة في كتاب الأبنية: الغير، والغار في الغيرة. وأنشد لأبي ذؤيب:

لهن نشيج بالنشيل أنها ... ضرائر حرمى تفاحش غارها وقد قالوا: غرت في الغار والغور أغور غوراً وغئوراً. حكاه اللحياني، وحكى أيضاً: أغار بالألف: إذا أتى الغور، وكان يروى بيت الأعشى: نبي يرى مالا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا وكان الأصمعي لا يجيز أغار، وكنا يروى بيت الأعشى: لعمري غار في البلاد وأنجدا وعلى قوله: عول ابن قتيبة: وكان ينبغي لابن قتيبة أن يذكر أغار هاهنا مع غار، كام ذكر أحمي مع حمى، وأبلى مع بلى، فتركه ذلك إخلال برُتبه الكتاب.

[6] مسألة: وقال في هذا الباب: "وقبلت المرأة القابلة قِبالة". (قال المفسر): وهذا غير معروف، إنما المعروف قبلت القابلة الولد قبالة: أخذته من الوالدة، كذا حكى اللغويون. وأغفل أيضاً، قبل الرجل الشيء، بفتح الباء، قبالة، بفتح القاف: إذ ضمنه، فهو قبيل. [7] مسألة: وقال في هذا الباب: "خطبت المرأة خطبة حسنة، وخطبت على المنبر خطبة. الأولى بالكسر، والثانية بالضم، وجعلهما جميعاً مصدرين". (قال المفسر): قال أبو العباس ثعلب: الخطبة بالكسر: المصدر، والخطبة بالضم: اسم ما يخطب به. وقال ابن درستويه: الخطبة والخطبة: اسمان، لا مصدران، ولكنهما وضعا موضع المصدر. ولو استعمل مصدراهما على القياس لخرج مصدر ما لا يتعدى فعله منهما على (فعول)، فقيل خطب خطوباً، ولكان مصدر المتعدى منهما على (فعل) كقولك: خطبت المرأة خطباً، ولكن ترك استعمال ذلك لئلا يلتبس بغيره، ووضع غيره في موضعه، مما يغني عنه، ولا يلتبس بشيء.

قال: والخطبة، بالكسر: اسم ما يخطب به في النكاح خاصة. والخطبة، بالضم: ما يخطب به في كل شيء. قال: ودليل ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا خطبة النكاح) كذا روى بضم الخاء. [8] مسألة: وقال في هذا الباب: رأيت في المنام (رؤيا) ورأيت في الفقه (رأيا)، ورأيت الرجل (رؤية). (قال المفسر): هذا الذي ذكره هو المشهور. وقد قيل في رؤية العين، (رأى)، كما قيل في الفقه، و (رؤيا) كما قيل في النوم. قال الله تعالى: (يرونهم مثليهم رأي العين) وقال الراجز: ورأى عيني الفتى أخاكا ... يعطي الجزيل فعليك ذاكا وقال آخر، أحسبه الراعي: ومستنبح تهوى مساقط رأسه ... على الرحل في طخياء طلس نجومها رفعت له مشبوبة عصفت لها ... صباً تزدهيها تارة وتقيمها فكبر للرؤيا وهش فؤاده ... وبشر نفساً كان قبل يلومها واتبع أبو الطيب المتنبي الراعي فقال: مضى الليل والفضل الذي لك لا يمضي ... ورؤياك أحلى في العيون من الغمض

[9] مسألة: وقال في هذا الباب: "فاح الطيب يفوح فوحاً، وفاحت الشجة تفيح فيحاً". (قال المفسر): قد حكى في باب فعل يفعل. ويفعل: "فاحت الريح تفوح وتفيح". وهذا يوجب أن يجوز في الطيب فيحاً أيضاً، وقد حكاها ابن القوطية في كتاب الأفعال. وقال الخليل: فاح المسك يفوح فوحاً وفئوحاً: وهو وجدانك الريح الطيبة، وفوح جهنم مثل فيحها وهو سطوع حرها. [10] مسألة: وقال في هذا الباب: "قنع يقنع قناعة: إذا رضى، وقنع يقنع قنوعاً: إذا سأل. (قال المفسر): قد حكى ابن الأعرابي: قنوعاً في الرضا، حكاها ابن جني، وأنشد: أيذهب مال الله في غير حقه ... ونظمأ في أطلالكم ونجوع

أنرضى بهذا منكم ليس غيره ... ويقنعها ما ليس فيه قنوع وأنشد أيضاً: وقالوا: قد زهيت فقلت كلا ... ولكني أعزني القنوع وذكر أن أبا الطيب المتنبي كان ينشد: ليس التعلل بالآمال من أربى ... ولا القناعة بالإقلال من شيمي قال: وكان مرة ينشد: (ولا القنوع بضنك العيش من شميي). [11] مسألة وقال في هذا الباب "عرضت له الغول تعرض عرضاً وغيرها عرض يعرض". (قال المفسر): هذا الذي قاله ابن قتيبة: قول كثير من اللويين. وقال يونس: أهل الحجاز يقولون: قد عرض لفلان شر، يعرض: تقديره: (علم يعلم)، وتميم تقول: عرض، تقديره: ضرب. ولقائل أن يقول إن الذي ذكره يونس ليس بخلاف لما ذكره غيره، لأنه ذكر أن ذلك مستعمل في الشر. فيمكن أن يكون الأصل في الغول، ثم استعير في الشر كله، لأن الغول ضرب من الشر،

وحكى أبو عبيد في الغريب المصنف عن أبي زيد: عرضت له الغول وعرضت. [12] مسألة: وقال في هذا الباب: "جلوت السيف أجلوه جلاء، وجلوت العروس جلوة. وجلوت بصري بالكحل جلواً". (قال المفسر): قد قال في باب الممدود المكسور الأول: "جلاء المرآة والسيف". وقال فيه أيضاً: "والجلاء: مصدر جلوت العروس". وأسقط من هذا الموضع، جلا القوم عن منازلهم جلاء، وأجلوا إجلاء، وأجليتهم وجلوتهم، وأجلوا عن القتيل إجلاء. وكان حكم هذا كله أن يذكره هاهنا. [13] مسألة: وقال في هذا الباب: "طاف حول الشيء يطوف طوفاً، وطاف الخيال يطيف طيفاً، وأطاف يطاف أطيافاً: إذا قضى حاجته (من الحدث) وأطاف به يطيف إطافة: إذا ألم به". (قال المفسر): في هذا الموضع إغفال من ثلاث جهات، إحداها أنه قد ذكر في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى: أنه يقال طافوا به،

وأطافوا: لغتان، ولم يذكر هاهنا غير اللغة الواحدة. والثانية: أن طاف يقال في مصدره: طوف، وطواف، وطوفان. ويجوز فيه أيضاً: اطاف بالتشديد، يطاف أطيافاً. وقد قرأ بعض القراء (فلا جناح عليه أن يطاف بهما)، ويقال أيضاً: تطوف تطوفاً. والثالثة: أن الخيال يقال فيه أيضاً مطاف، قال الشاعر: أنى ألم بك الخيال يطيف ... ومطافه لك ذرة وشعوف ويقال أيضاً: المطاف: بمعنى الطواف. [14] مسألة: وقال في هذا الباب: "حسر يحسر حسراً من الحسرة، وحسر عن ذراعيه يحسر حسراً". (قال المفسر): قد قال في باب معرفة في الثياب واللباس: "حسر عن رأسه" فجعله في الرأس وحده، وجعله هاهنا في الذراعين خصوصاً. وقال في باب معرفة في السلاح: "فإن لم تكن عليه درع فهو حاسر". فجعله في الجسم كله، والصحيح أن الحسر مستعمل في كل شيء كشف عنه. فلذلك يقال: حُسر البحر عن الساحل وحكى الخليل:

ومن المصادر التي لا أفعال لها

حسر الدابة بكسر السين تحسر حسرا وحسورا، وحسرتها أنا، بفتح السين حسرا، ويقال مثله في العين. ومن المصادر التي لا أفعال لها ترجمة هذا الباب مخالفة للكثير مما تضمنه، لأنه ذكر فيه مصادر لها أفعال مستعملة، فمنها قوله:"رجل غمر أي غير مجرب للأمور، بين الغمارة، من قوم أغمار". وهذا له فعل مستعمل. يقال: غمر الرجل غمارة، على مثال قباحة. ومنها قوله: "وكلبة صارف بينة الصروف، وناقة صروف بينة الصريف". فهذا له فعل مستعمل أيضاً. يقال: صرفت الكلية، وقد حكى هو ذلك في باب السفاد من كتابة هذا. وكذلك يقال: صرفت الناقة تصرف: إذا صوتت بأنيابها. ومنه قوله: "امرأة حصان: بينة الحصانة. وهذا له فعل مستعمل. لأنه يقال: حصنت المرأة وأحصنت.

ومنها قوله: "حافر وقاح" يقال: "وقح الحافر وأوقح، وقد حكى ذلك بعد هذا في باب "فعلت وأفعلت باتفاق المعنى). ومنها قوله: "رجل هجين"، مع أنه يقال: هجن الرجل هجانة، على وزن سمج سماجة. ومنها قوله: "رجل سبط الشعر" وهذا له فعل مستعمل. يقال: سبط بضم الباء سبوطة، وسبوطا. ومنها قوله: وأم بينة الأمومة، وأب بين الأبوة، وعم بين العمومة، وهذه قد حكى لها أفعال. وقد حكى أبو عبيد في الغريب، عن اليزيدي: "ما كنت أُما، ولقد أممت أمومة، وما كنت أباً، ولقد أببت أبوة، وما كنت أخاً، ولقد تأخيت، وآخيت، مثال فاعلت. وما كنت أمة، ولقد أميت، وتأميت، أموة". وروى مسلمة عن الفراء، أممت وأبوت بالفتح، في الأب والأم، وكذلك أموت في الأمة، وأخوت في الأخ وعممت في العم، كلها بالفتح.

باب الأفعال

باب الأفعال [1] مسألة: قال في هذا الباب: "قلوت اللحم والبسر، وقليت الرجل: أبغضته". (قال المفسر): قد ذكر في باب فعلت في الياء والواو، بمعنى واحد: قلوت الحب، وقليته، وهو خلاف ما ذكره هاهنا. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "حنوت .. عليه: عطفت، وحنيت العود، وحنيت ظهري. وحنوت: لغة". (قال المفسر): قد ذكر في باب فعلت في الواو والياء بمعنى واحد: "حنوت العود وحنيته". [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "قُتل الرجل بالسيف، فإن قتله عشق النساء أو الجن لم يقل فيه إلا اقتتل".

(قال المفسر): قتل يصلح في كل شيء. وكذلك قتل بالتشديد، فأما اقتتل فهو مختص بالعشق، قال جميل: فقلت له قتلت بغير جرم ... وغب الظلم مرتعه وبيل وقال امرؤ القيس: أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل وقال جرير: إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا [4] مسألة: وقال في هذا الباب: "تهجدت: سهرت، وهجدت: نمت". (قال المفسر): قد حكى في باب تسميته المتضادين باسم واحد: الهاجد المصلى بالليل، وهو النائم أيضاً. وقال في باب فعلت وفعلت بمعنيين متضادين: "تهجدت: صليت بالليل، ونمت". قال: وقال بعضهم: تهجدت: سهرت، وهجدت: نمت، قال لبيد: قال هجدنا فقد طال السرى ... وقدرنا إن خنا الدهر غفل

[5] مسألة: وقال في هذا الباب: "فرى الأديم: قطعه على جهة الإصلاح، وأفراه: قطعه على جهة الإفساد". (قال المفسر): هذا قول جمهور اللغويين. وقد وجدنا فرى مستعملاً في القطع على جهة الإفساد. قال الشاعر: فرى نائبات الدهر بيني وبينها ... وصرف الليالي مثل ما فُرى البرد وحكى أبو عبدي في الغريب المصنف عن الأصمعي: أفريت: شققت، وفريت: إذا كنت تقطع للإصلاح. [6] مسألة: وقال في هذا الباب: "قسط في الجور، فهو قاسط، وأقسط في العدل، فهو مقسط". (قال المفسر): هذا هو المشهور المستعمل الذي ورد به القرآن. قال الله تعالى: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا)، وقال (إن الله يحب المقسطين). وحكى يعقوب بن السكيت في كتابه الأضداد عن أبي عبيدة: قسط:

جار. وقسط: عدل، وأقسط بالألف: عدل لا غير، وهذا نادر. [7] مسألة: وقال في هذا الباب "خفق الطائر: إذا طار، وأخفق: إذا ضرب بجناحيه ليطير". (قال المفسر): قد قال في باب فعلت وأفعلت بمعنى واحد: خفق الطائر بجناحيه، وأخفق: إذا طار، فجعلهما سواء. [8] مسألة: وقال في هذا الباب: "أتبعت القوم: لحقتهم. وتبعتهم: سرت في إثرهم". (قال المفسر): قد قيل تبع وأتبع: بمعنى واحد، حكى ذلك الخليل وغيره وقد يتكون بلحاق وبغير لحاق، وهو الصحيح. ويدل على أن تبع يكون بلحاق قول الشاعر، أنشده أبو العباس المبرد: تبعنا الأعور الكذاب طوعا ... يزجى كل أربعة حمارا فيا لهفي على تركي عطائي ... معاينة وأطلبه ضمارا إذا الرحمن يسر لي قفولاً ... أحرق في قرى سولاف نارا يعني بالأعور، المهلب بن أبي صفرة، وكان سار معه لحرب الخوارج:

[9] مسألة: وقال في هذا الباب: "جُزت الموضع: صرت فيه، وأجزته: قطعته وخدفته". قال امرؤ القيس: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل (قال المفسر): يقال: جاز الموضع يجوزه، وأجازه يجيزه، وجاوزه يجاوزه، وتجاوزه يتجاوزه: كل ذلك بمعنى قطعه وخلفه، هذا هو المعروف وهذا الذي فعله غير صحيح، ويدل على ذلك قولهم: جاز الرجل حده، وجاز قدره، وقول طرفة: جازت البيد إلى أرحلنا ... آخر الليل بيعفور خدر وقال أبو إسحاق الزجاج "جاز الرجل الوادي وأجازه: إذا قطعه ونفذه". قال: وقال الأصمعي: جزته: نفذته، وأجزته: قطعته." وحكى ابن القوطية: جاز الوادي جوازاً، وأجازه: قطعه وخلفه، وحكى عن الأصمعي، جازه: مشى فيه، وأجازه: قطعه وخلفه. وأظن ابن قتيبة أراد هذا الذي ذكره ابن القوطية عن الأصمعي. وقد

بينا أنه غير صحيح، ويجب على هذا أن يكون جزت الموضع: سرت فيه (بالسين). وكذا في الغريب المصنف، ووقع في روايتنا في الأدب (بالصاد). [10] مسألة: وقال في هذا الباب: "أرهقت فلاناً: أعجلته، ورهقته: غشيته". (قال المفسر): قال أبو علي البغدادي: قد يقال: رهقته وأرهقته بمعنى لحقته، وحكى الخليل: أرهقنا: أي دنا منا. [11] مسألة: وقال في هذا الباب: "أسجد الرجل: إذا طأطأ رأسه وانحنى. وسجد: إذا وضع جبهته بالأرض." (قال المفسر): قد قيل سجد بمعنى انحنى، ويدل على ذلك قوله تعالى (وادخلوا الباب سجداً). ولم يؤمروا بالدخول على جباههم، وإنما أمروا بالانحناء. وقد يمكن من قال القول الذي حكاه ابن قتيبة،

أن يجعل سجداً حالاً مقدرة، كما حكى سيبويه من قولهم: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، أي مقدراً للصيد عازماً عليه، ومثله قوله تعالى: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، ولكن قد جاء في غير القرآن مايدل على صحة ما ذكرناه. قال أبو عمرو الشيباني الساجد في لغة طيء: المنتصب، وفي لغة سائر العرب: المنحنى، وأنشد: لولا الزمام اقتحم الأجاردا ... بالغرب أو دق النعام الساجدا ويدل على ذلك أيضاً قول ميد بن ثور الهلالي: فلما لوين على معصم ... وكف خضيب وأسوارها فضول أزمتها أسجدت ... سجود النصارى لأحبارها ولا يكون السجود إلا من سجد، وسجود النصارى إنما هو إيماء وانحناء. وقد قيل في قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) إنه إنما كان إيماء على جهة التحية، لا سجوداً على الجباه.

[12] مسألة: وقال في هذا الباب: "أرهنت في المخاطرة، وأرهنت أيضاً: أسلفت، ورهنت في غير ذلك." (قال المفسر): هذا قول الأصمعي، وأجاز غير الأصمعي رهنت وأرهنت في كل شيء، وأنشد لدكين بن رجاء الراجز: لم أر بؤساً مثل هذا العام ... أرهنت فيه للشقا خيتامي وأنشد: فلما خشيت أظافيرهم ... نجوت وأرهنتهم مالكا وكان الأصمعي يقول وإنما الرواية: وأرهنهم مالكاً، يذهب إلى أنه فعل مضارع مبني على مبتدأ محذوف كأنه قال: نجوت وأنا أرهنهم، والجملة في موضع نصب على الحال كأنه قال: نجوت وهذه حالي. [13] مسألة: وقال في هذا الباب: "أوعيت المتاع: جعلته في الوعاء، ووعيت العلم: حفظته".

(قال المفسر): قد قال في باب فعلت وأفعلت باتفاق معنى: وعيت العلم وأوعيته وأوعيت المتاع. وهو خلاف ما قاله هنا. [14] مسألة: وقال في هذا الباب: "أحصره المرض والعدو: إذا منعه من السفر. قال الله عز وجل (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي). وحصره العدو: إذا ضيق عليه." (قال المفسر): هذا الذي قاله هو المشهور. وحكى أبو إسحاق الزجاج: من حصرك هاهنا؟ ومن أحصرك: بمعنى واحد. [15] مسألة: وقال في هذا الباب: أخلد بالمكان: إذا أقام به، وخلد يخلد خلوداً: إذا بقى." (قال المفسر): قد قال في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى: خلد إلى الأرض وأخلد: إذا ركن. [16] مسألة: وقال في هذا الباب: "أمددته بالمال والرجال، ومددت دواتي بالمداد. قال الله تعالى: (والبحر يمده من بعده سبعة أبحر)، هو من المداد

لا من الإمداد، ومد الفرات، وأمد الجرح: إذا صارت فيه مدة." (قال المفسر): قدقال بعد هذا في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى: مددت الدواة وأمددتها وهو خلاف ما قاله هاهنا. وقال في تاب آلات الكتاب: مددت الدواة أمدها مداداً: إذا جعلت فيها مدادا. فإن كان فيها مداد، فزدت عليه قلت: أمددتها إمداداً. [17] مسألة: قال في هذا الباب: "أجمع فلان أمره، فهو مجمع: إذا عزم عليه. قال الشاعر: (لها أمر حزم لا يفرق مجمع) "وجمعت الشيء المتفرق جمعا". (قال المفسر): قد قال في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى: أجمع القوم رأيهم، وجمعوا رأيهم. فأجاز اللغتين جميعاً في العزيمة. وقد قالوا: نهب مجمع: أي مجموع. قال أبو ذؤيب: وكأنها بالجزع بين ينابع ... وأولات ذي العرجاء نهب مجمع

فصح بهذا أن جمع وأجمع جائزن في كل شيء، إلا أن جمع في ضم المتفرق أشهر، وأجمع في العزيمة على الشيء أشهر. [19] مسألة: وقال في هذا الباب: "أجبرت فلاناً على الأمر فهو مجبر، وجبرت العظم فهو مجبور". (قال المفسر): قد حكى أبو إسحاق الزجاج وغيره: جبرت الرجل على الأمر، وأجبرته: إذا أكرهته عليه، ومنه قيل للفرقة التي تقول بالإجبار، جبرية، وجبرية لا تكون إلا من جبر. [20] مسألة: وقال في هذا الباب: "يقال لكل ما حبسته بيدك مثل الدابة وغيره: وقفته، بغير ألف، وما حبسته بغير يدك: أوقفته. يقال: أوقفته على الأمر. وبعضهم يقول: وقفته، بغير ألف، في كل شيء." (قال المفسر): قد قال بعد هذا في باب ما لا يهمز والعوام تهمزه: وقفته على ذنبه. وأنكر قول العامة: أوقفته بالألف. فإذا كان صحيحاً جائزاً، فلم جعله هناك من لحن العامة؟ وإن كان اعتقد أن وقفته أفصح من أوقفته، فكان ينبغي أن يذكره في باب ما جاء فيه لغتان، استعمل الناس أضعفهما، ولا يشغل بال قاريء كتابه بأن يجيز له شيئاً في موضع من كتابه، ويمنعه منه في موضع آخر. وفي كتابه أشياء كثيرة من هذا النحو قد مر بعضها، وسترى بقيتها فيما نستأنفه إن شاء الله تعالى.

وقال أبو إسحاق الزجاج: وقفت الدابة، وأوقفته، بالألف، لغة ردية جداً، وقال الخليل وقفت بالموضع وقوفاً، ووقفت الأرض والدابة وقفاً: حبستهما، ووقفت الرجل على الأمر، ولا يقال: أوقفته، إلا في مثل قولك للرجل: ما أوقفك هاهنا، إذا رأيته واقفاً. [21] مسألة: وقال في هذا الباب: "أصحت السماء، وأصحت العاذلة، وصحا من السكر." (قال المفسر): أما السماء فلا يقال فيها إلا أصحت بالألف، وأما السكر فلا يقال فيه إلا صحا بغير ألف، وأما العاذلة فيقال فيها: صحت وأصحت، فيشبه ذهاب العذل عنها تارة، بذهاب الغيم عن السماء. وتارة بذهاب السكر عن السكران، وأما الإفاقة من الحب، فلم أسمع فيه إلا صحا، بغير ألف، كالسكر سواء، قال جرير: أتصحوا أم فؤادك غير صاح ... عشية هم صحبك بالرواح وقال كثير: صحا قلبه يا عز أو كاد يذهل ... وأضحى يريد الصرم أو يتبدل

باب ما يكون مهموزا بمعنى، وغير مهموز بمعنى آخر

باب ما يكون مهموزاً بمعنى، وغير مهموز بمعنى آخر [1] مسألة: قال في هذا الباب: "أخطأت في الأمر، وتخطأت له في المسألة، وتخطيت إليه بالمكروه، غير مهموز، لأنه من الخطوة". (قال المفسر): قد أجاز في باب ما يهمز أوسطه من الأفعال ولا يهمز معنى واحد: أخطأت وأخطيت. بالهمز. وترك الهمز، وقد حكى أن من العرب من يفعل ذلك بالأفعال المهموزة. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "ذرأت يا ربنا الخلق، وذروته في الريح" وذريته، وأذرته الدابة عن ظهرها: ألقته". (قال المفسر) قد أجاز في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى: ذروت الحب، وأذريته. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "أدأت الشيء: إذا أصبته بداء، وأدويته: إذا أصبته بشيء في جوفه فهو ذو."

باب الأفعال التي تهمز والعوام تدع همزها

(قال المفسر): قد ذكر في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى: داء الرجل يداء [مثل شاء ويشاء]، وأداء يديء: إذا صار في جوفه الداء. وعلى هذا الذي قال: يجوز أدأت الرجل: إذا أصبته بداء في جوفه، مثل أدويت، وقوله أيضاً في هذا الباب: فهو دو: عبارة غير صحيحة، لأن أدويت إنما يقال منه رجل مدو، والفاعل مدو، وأما دو فإنما هوا سم الفاعل من دوى يدوى. باب الأفعال التي تهمز والعوام تدع همزها [1] مسألة: قال في هذا الباب: "هنأني الطعام ومرأني، فإذا أفردوا قالوا: أمرأني." (قال المفسر): قد حكى في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى: مرأني الطعام وأمرأني. ولم يشترط هناك ما اشترطه هاهنا، وهكذا قال أبو إسحاق الزجاج في كتاب فعلت وأفعلت. فالحكم في هذا أن يقال إن هذا الفعل إذا انفرد جازت فيه اللغتان، وإذا ذكر مع (هنأ) قيل: مرأ بغير ألف لا غير على الإتباع.

[2] مسألة: وذكر في هذا الباب: "أطفأت السراج، وقد استخذأت له، وخذأت، وخذيت: لغة" وذكر فيه: "هذا موضع ترفأ فيه السفن. (قال المفسر): فأنكر على العامة ترك الهمز في هذه الألفاظ ثم أجاز في باب ما يهمز أوسطه من الأفعال ولا يهمز بمعنى واحد: أرفأت السفينة وأرفيت وأطفأت النار وأطفيت. وأما استخذأت، فقال الأصمعي: شكت في هذه اللفظة، أهي مهموزة أم غير مهموزة، فلقيت أعرابياً فقلت له: كيف تقول: استخذأت أم استخذيت؟ فقال: لا أقولهما، فقلت له لم ذلك؟ فقال: لأن العرب لا تستخذي لأحد، فلم يُهمز. وترك الهمز ي هذه اللفظة أقيس من الهمز، يجعلها مشتقة من الخذاء، وهو استرخاء أذنى الفرس لأن الذل يعدلينا وضعفا، كما أن العز يعد شدة وصلابة، وهو مشتق من قولهم: أرض عزاز: إذا كانت صليبة. وقد حكى أن من العرب من يترك الهمز في كل ما يهمز، إلا أن تكون الهمزة مبدوءاً بها حكى ذلك الأخفش.

باب ما يهمز من الأسماء والأفعال والعوام تبدل الهمزة فيه أو تسقطها

باب ما يهمز من الأسماء والأفعال والعوام تبدل الهمزة فيه أو تسقطها [1] مسألة: قال في هذا الباب: "آخذته بذنبه". (قال المفسر): هذا الذي قاله: أفصح اللغات، وهو القياس، لأنه فاعل من أخذ يأخذ. وحكى الأخفش، آخذته بذنبه وواخذته، وعلى هذا القياس يجري ما كان مثله، وهي لغة غير مختارة ولا فصيحة. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهي سحاءة القرطاس". (قال المفسر): يقال: سحاءة وسحاية، لغتان مشهورتان حكاهما الخليل وغيره. ويقال: سحاة على وزن قطاة. وقد تقدم في آلة الكتاب. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهي الباءة للنكاح". (قال المفسر): يقال للنكاح: الباء، والباءة، مهموزان، وجاء في الحديث عليكم بالباء. وأنشد يعقوب لعمر بن لجأ. يعرس أبكاراً بها وعنسا ... أحسن عرس باءة إذ أعرسا

ويقال أيضاً: "باه"، بالهاء. حكاه صاحب العين، وذكره أبو تمام الطائي في شعره، فقال: بيض يجول الحسن في وجناتها ... والملح بين نظائر أشباه لم يجتمع أمثالها في موطن ... لولا صفات في كتاب الباه [3] مسألة: وقال في هذا الباب: نحن على أوفاز: جمع وفز، ولا يقال وفاز". (قال المفسر): وفاز: صحيح، قد ذكره اللغويون، والقياس أيضاً يوجبه، لأن الواحد وفز، على وزن جمل. فيجب أن يقال: أوفاز ووفاز، كأجمال وجمال، وينبغي أن يقال: إفاز بالهمز أيضاً، كما يقال: وشاح وإشاح، وإن كانت العامة إنما قالت وفاز بفتح الواو، فهو خطأ، ولكن الرواية عن ابن قتيبة بكسر الواو. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: "طعام مئوف تقديره فعول، ولا يقال مأيوف ولا مأووف". (قال المفسر): كذا وقع في كثير من النسخ، ومؤوف ليس وزنه فعولاً، لأن الميم في أوله زائدة والوجه في هذا أن يقال: إنه لم يرد حقيقة وزن الكلمة، وإنما أراد تمتيلها بما يشاكل لفظها. والنحويون يفعلون مثل هذا كثيراً. ألا ترى أن الخليل قد جعل أمثلة التصغير ثلاثة فعيل وفعيعل. وفعيعيل وقد يجيء من أمثلة التصغير ما ليس على هذا الوزن نحو ضويرب

في تصغير ضارب، وأحيمر في تصغير أحمر. فعلم بذلك أنه لم يرد حقيقة الوزن، إنما أراد المماثلة في الصورة وتعادل السواكن والمتحركات. ووقع في بعض نسخ الأدب تقديره: مقول بالقاف والميم. وهذا تنظير صحيح لا اعتراض فيه. وأنا أحسب أنه مفول بالفاء، فلم يفهمه الراوي فجعله بالقاف، وهذا هو وزن الكلمة على حقيقتها عند الأخفش، لأن الساقط عنده لالتقاء الساكنين في هذا وما كان مثله عين الفعل، والواو الباقية عنده هي الزائدة لبناء مفعول. وأما سيبويه فيرى أن المحذوفة لالتقاء الساكنين هي الزائدة والواو الباقية عنده هي عين الفعل. فوزن مئوف ومقول ومصوغ ونحوها عنده على ما استقرت عليه صيغتها بعد التعليل (مفعل)، وأما وزن هذه الكلمات على أصولها فمفعول بلا خلاف بينهما لأنها بمنزلة مضروب ومجروح. [5] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهي الكمأة بالهمز، والواحدة كمء". (قال المفسر): لا أعلم خلافاً بين النحويين أن من العرب من يخفف الكمأة، فيلقى حركة الهمزة على الميم ويحذفها، فيقول كمه، ومن العرب من يلقى حركة الهمزة على الميم، ويبقى الهمزة ساكنة، ثم يقلبها لانفتاح ما قبلها فيقول: كماة، على وزن قطاة. وهذا على نحو قولهم في تخفيف رأس، رأس، وكذلك كل همزة سن ما قبلها إذا كان ما قبلها

حرفاً صحيحاً أو معتلاً أصلياً، فإلقاء حركتها على ما قبلها جائز، إذا لم يعرض عارض يمنع من ذلك. [6] مسألة: وقال في هذا الباب: "أحفر المهر للإثناء والإرباع، [فهو محفر] ولا يقال حفر". (قال المفسر): هذا الذي قاله هو المشهور، وحكى أبو عبيدة معمر حفرت الثنية والرباعية، بكسر الفاء. [7] مسألة: وقال في هذا الباب: "أغامت السماء، وأغيمت، وتغيمت، وغيمت. ولم يجز غامت." (قال المفسر): قد أجاز في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى: غامت السماء وأغامت، ونسى هاهنا ما قاله هناك. [8] مسألة: وقال في هذا الباب: "أجبرته على الأمر فهو مجبر، ولا يقال جبرت إلا في العظم، وجبرته من فقره".

(قال المفسر): قد ذكرنا فيما تقدم أن جبرته على الأمر: جائز، بما أغنى عن إعادته هاهنا. [9] مسألة: وقال في هذا الباب: "أحبست الفرس في سبيل الله، ولا يقال حبسته". (قال المفسر): قد حكى أبو إسحاق الزجاج: حبس الرجل فرسه في سبيل الله، وأحبسه. [10] مسألة: وقال في هذا الباب: "أحكمت الفرس، ولم يجز حكمته". (قال المفسر): حكمت الفرس، وأحكمته، لغتان صحيحتان. وقد أجازهما في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى. ونسي هاهنا ما قاله هناك. [11] مسألة: وقال في هذا الباب: "ضربته بالسيف فما أحاك فيه، وحاك: خطأ."

باب ما لا يهمز والعوام تهمزه

(قال المفسر): قد حاك فيه السيف: صحيح، حكاه ثعلب في الفصيح، وأبو إسحاق الزجاج في فعلت وأفعلت، وابن القوطية. وكان أبو القاسم على بن حمزة يرد على ثعلب إجازته (حاك) ويقول الصواب (أحاك) وعلى بن حمزة هو المخطيء لا ثعلب. [12] مسألة: وقال في آخر هذا الباب: هي الإوزة والإوز. والعامة تقول: وزة". (قال المفسر): حكى يونس بن حبيب في نوادره أن الإوز لغة أهل الحجاز، وأن الوز لغة بني تميم. باب ما لا يهمز والعوام تهمزه: [1] مسألة: قال في هذا الباب: "هي الكرة ولا يقال أكرة". (قال المفسر): الكرة بتخفيف الراء: التي يلعب بها. والكرة بتشديد الراء: البعر والرماد، قال النابغة الذبياني يصف دروعاً: علين بكديون وأبطن كرة ... فهن وطاء ضافيات الغلائل

والكورة بالواو: البلد العظيم. والأكرة بالهمز: الحفرة، ومن ذلك قيل للحفار: أكار هذا هو المشهور المعروف. ورأيت أبا حنيفة قد حكى في كتاب النبات؛ أنه يقال للكرة التي يلعب بها: أكرة بالهمزة، وأحسبه غلطاً منه. وقد أولع المترجمون لكتب الفلاسفة بقولهم الكر والأكرة، وإنما الصواب: كراة وكرون في الرفع وكرين في النصب والخفض، وكرا مقصورة، ومن العرب من يقول: كرين فيعرب النون ويلزمها الياء على كل حال. وهذا لغة من يقول: سنين وعليه جاء قول الشاعر: دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيباً وشيبننا مردا [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "علفت الدابة" ولم يجز أعلفتها" (قال المفسر): قد حكى أبو إسحاق الزجاج علفت الدابة، وأعلفتها. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: زكنت الأمر أزكنه: أي علمته. وأزكنت فلاناً كذا: أي أعلمته. قال: وليس هو في معنى الظن".

(قال المفسر): قد أجاز في باب فعلت وأفعلت باتفاق معنى: زكنت الأمر وأزكنته، وأنكر أزكنته في هذا الباب، إلا أن يكون في معنى النقل، وهذا تخليط وقلة تثبت. فأما قوله: إنه بمعنى العلم لا بمعنى الظن، فهو قول الأصمعي. وحكى أبو زيد أنه يكون بمعنى الظن الصحيح، وقد ذكرناه في صدر الكتاب. [4] مسألة: قال في هذا الباب:"وتدت الوتد أتده وتداً". ولم يجز أوتدته. (قال المفسر): قد أجاز ذلك أبو إسحاق الزجاج، وحكاه ابن القوطية، وهما لغتان. [5] مسألة: وقال في هذا الباب: "نعشه الله ينعشه"، ولم يجز أنعشه. (قال المفسر): قد أجاز في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى: "نعشه الله وأنعشه"، ونسي ما قاله هناك. [6] مسألة: وقال في هذا الباب: "وقفته على ذنبه". (قال المفسر): قد قال في باب الأفعال: "يقال لكل ما حبسته

بيدك مثل الدابة وغيرها: وقفته بغير ألف، وماحبسته بغير يدك أوقفته بالألف. وبعضهم يقول وقفت بغير ألف في كل شيء. فذكر في باب الأفعال أنهما قولان، وأنكر هاهنا قول العامة أوقفته، كما ترى. [7] مسألة: وقال في هذا الباب: "وقد سعرت القوم شرا، وقد رفدته"، (قال المفسر): قد قال في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى: "سعرت شراً وأسعرني" فأجاز اللغتين. وأما رفدت وأرفدت، فلغتان ذكرهما ابن القوطية، وقال: رفدت أعم من أرفدت. [7] مسألة: وقال في هذا الباب: "قد حدرت السفينة في الماء". (قال المفسر): حدرت السفينة، وأحدرتها: لغتان. إلا أن اللغة التي ذكر ابن قتيبة أشهر وأفصح. حكى ذلك أبو إسحاق الزجاج.

باب ما يشدد والعوام تخففه

[8] مسألة: وقال في هذا الباب: "مط عنا تنح:، وأمط غيرك". (قال المفسر): قد حكى في باب فعلت وأفعلت باتفاق معنى، عن أبي زيد: "مطت عنه، وأمطت: تنحيت، وكذلك مطت غيري، وأمطته،" فأجاز اللغتين جميعاً. والذي ذكره هاهنا هو قول الأصمعي. فإذا كان جائزاً فلا وجه لإدخاله في لحن العامة، من أجل إنكار الأصمعي له، وإن كان قول الأصمعي عنده هو الصحيح، فقد كان يجب عليه أن يقول: إن قول أبي زيد خطأ. باب ما يشدد والعوام تخففه [1] مسألة: قال في هذا الباب: "هو الفلو مشدد الواو، مضموم اللام، قال دكين: (كان لنا وهو فلو نرببه) (قال المفسر): قد حكى أبو زيد أنه يقال: فلو، بكسر الفاء وتسكين اللام، وحكاه أبو عبيد في الغريب المصنف.

[2] مسألة: قال في هذا الباب: "الإجاص، والإجانة، والقبرة". (قال المفسر): قد حكى اللغويون أن قوماً من أهل اليمن يبدلون الحرف الأول من الحرف المشدد نوناً، فيقولون: حنظ، يريدون حظا وإنجاص. وإنجانة. فإذا جمعوا رجعوا إلى الأصل، وهذه لغة لا ينبغي أن يلتفت إليها، فإن اللغة اليمنية فيها أشياء منكرة، خارجة عن المقاييس. وإنما ذرنا هذا ليُعلم أن لقول العامة مخرجاً على هذه اللغة، فأما القنبرة بالنون، فلغة فصيحة. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "تعهدت فلاناً". (قال المفسر): كذا قال ثعلب: فلان يتعهد ضيعته، وأنكر قول العامة يتعاهد. وقال ابن درستويه: إنما أنكرها ثعلب، لأنها على وزن يتفاعل، وهو عند أصحابه لا يكون إلا من اثنين، ولا يكون عندهم متعدياً إلى مفعول، مثل قولهم: تعاملا، وتقاتلا، وتغافلا.

قال ابن دستويه: وهذا غلط، لأنه قد يكون تفاعل من واحد، ويكون متعدياً، كقول امريء القيس: تجاوزت أحراساً وأهوال معشر ... على حراص لو يسرون مقتلي قال المفسر: وقد جاء تفاعل من اثنين، وهو متعد إلى مفعول، وهو قول امريء القيس فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال وقالوا تداولنا الشيء، وتناوبنا الماء. وقال الخليل التعاهد والتعهد: الاحتفاظ بالشيء وإحداث العهد. ولسيبويه في تفاعل قول يسبه قول الكوفيين. وسنذكره في شرح أبيات الكتاب، عند وصولنا إلى باب زيادة الصفات إن شاء الله. [4] مسألة: وقال في هذا الباب:"كع فلان عن الأمر، ولا يقال كاع". (قال المفسر): قد حكى الخليل كاع يكيع كيعا، إذا جبن؛ وقد أنشد يعقوب في القلب والإبدال: حتى استفأنا نساء الحي ضاحية ... وأصبح المرء عمرو مثبتا كاعي

باب ما جاء خفيفا والعامة تشدده

وقال: أراد كائعاً، فقلب. والذي قاله ابن قتيبة هو المشهور. [5] مسألة: وقال في آخر هذا الباب: "وعزت إليك في كذا، وأوعزت. ولم يعرف الأصمعي وعزت خفيفة .. ". (قال المفسر): إن كان الأصمعي لم يعرف وعزت خفيفة، فقد عرفها غيره. فلا وجه لإدخالها في لحن العامة من أجل أن الأصمعي لم يعرفها. وقد أجاز ابن قتيبة في باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى: وعزت وأوعزت". فإن كان قول الأصمعي عنده هو الصحيح فلم أجاز قول غيره في هذا الموضع الآخر؟. باب ما جاء خفيفاً والعامة تشدده [1] مسألة: قال في هذا الباب: "رجل يمان وامرأة يمانية". (قال المفسر): قد حكى أبو العباس المبرد وغيره، أن التشديد لغة، وأنشد: ضربناهم ضرب الأحامس غدوة ... بكل يماني إذا هز صمما

وأنشد أيضاً: فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر ... وأبرق والبرق اليماني خوان فمن قال في النسب إلى اليمن: يمنى، جاء به على القياس. ومن قال: يمان منقوض، جعل الألف بدلاً من إحدى ياءي النسب، وحذف الثانية، لسكونها وسكون التنوين، كما حذفت الياء من قاض ورام. ومن قال: يماني بالتشديد، جعل الألف زائدة. كزيادتها في حيلاوي، ونحوه مما جاء على غير قياس. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "غلفت لحيته بالطيب. ولا يقال: غلفت". (قال المفسر): إدخال مثل هذا في لجن العامة تعسف، لأن غلف جائز، على معنى التكثير، كما يقال: ضرب وضرب، وقتل وقتل. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "رجل شج، وامرأة شجية، وويل

للشجي من الخلي، ياء الشجي مخففة، وياء الخلي مشددة". (قال المفسر): قد أكثر اللغويون من إنكار التشديد في هذه اللفظة، وذلك عجب منهم، لأنه لا خلاف بينهم أنه يقال شجوت الرجل أشجوه: إذا حزنته، وشجي يشجى شجاً: إذا حزن. فإذا قيل: شج بالتخفيف كان اسم فاعل من شجي يشجي، فهو شج، كقولك عمى يعمى فهو عم. وإذا قيل شجى بالتشديد، كان اسم المفعول من شجوته أشجوه. فهو مشجو، وشجى، كقولك: مقتول، وقتيل، ومجروح، وجريح. وقد روى أن ابن قتيبة قال لأبي تمام الطائي: يا أبا تمام، أخطأت في قولك: ألا ويل الشجى من الحي ... ويل الربع من إحدى بلى فقال له أبو تمام: ولم قلت ذلك؟. قال: لأن يعقوب قال: شج بالتخفيف ولا يشدد. فقال له أبو تمام: من أفصح عندك؟ ابن الجرمقانية يعقوب، أم أبو الأسود الدؤلي حيث يقول: ويل الشجي من الخلي فإنه ... نصب الفؤاد لشجوه مغموم والذي قاله أبو تمام صحيح. وقد طابق فيه السماع القياس، وقد قال أبو داود الإيادي: وناهيك به حجة.

من لعين بدمعها موليه ... ولنفس فما عناها شجيه [4] مسألة: وقال في هذا الباب: "هذا موضع دفيء، مهموز مقصور، ولا يقال: دفي (مشدد ولا مهموز) ". (قال المفسر): يقال: (دفيء) بالهمز، على وزن خطيء و (دفؤ) بالضم على وزن وضوء. فمن قال (دفيء) بالكسر، قال: (دفيء)، مقصور، ملي مثال حذر وبطر. ومن قل: (دفؤ) بالضم قال: (دفيء) مهموز ممدود، على وزن وضيء. ويجوز له تخفيف الهمزة. فإذا خففها، فالوجه أن يقلبها ياء، ويدغمها في ياء فعيل التي قبلها، فيقول دفي مشدد، كما يقال في وضيء: وضي. وفي النسيء، النسي، ويجوز أيضاً في قول من همز ومد، أن يكون فعيلاً بمعنى مفعل من أدفأته إدفاء، فأنا مدفيء، فيكون بمنزلة قولهم: عذاب أليم: بمعنى مؤلم، وداء وجيع: بمعنى موجع. ولو لم يسمع من العرب دفؤ بضم الفاء، ولا أدفأته، لما امتنع أن يقال: (دفيء) بالمد والهمز. وإن كان من (دفيء) المكسور العين، كما قالوا: عليم، وهو من علم، وسعيد وهو من سعد، وسقيم وهو من سقم. على أنهم قد قالوا: سقم بالضم. ولكن لم يسمع منهم في اسم الفاعل سقم بغير ياء. فثبت بهذا أن سقيماً اسم الفاعل فهما معاً صحيحان.

باب ما جاء مسكنا والعامة تحركه

[5] مسألة: وقال في هذا الباب: "لطخني يلطخني، مخففة، وقصر الصلاة يقصرها، مخففة. وقشرت العود أقشره مخففة". (قال المفسر): هذا الألفاظ كلها غير ممتنعة من التشديد، إذا قصد بها المبالغة، فادخالها في لحن العامة لا وجه له. [6] مسألة: وقال في هذا الباب: "وتقول: أراد فلان الكلام فأرتج عليه. ولا يقال: أرتج. وأرتج من الرتاج، وهو الباب، كأنه أغلق عليه". (قال المفسر): هذا الذي قاله: قول جمهور اللغويين، وهو المشهور وحكى التوزي عن أبي عبيدة أنه يقال: (ارتج) موصول الألف، مضموم التاء، مشدد الجيم. ومعناه وقع ي رجة، أي اختلاط. قال أبو العباس المبرد. وهذا معنى بعيد جداً. باب ما جاء مسكناً والعامة تحركه [1] مسألة: قال في هذا الباب: "يقال في أسنانه حفر. وهو فساد في أصول الأسنان، وحفر: رديئة.".

(قال المفسر): لا مدخل لحفر في هذا الباب، لأنه إنما ترجمه بما جاء مسكناً والعامة تحركه، وحفر: قد جاءت فيه عن العرب اللغتان جميعاً فإنما كان ينبغي أن يكون في باب ما جاء فيه لغتان، استعمل الناس أضعفهما. وذلك ما حكاه في هذا الباب من قولهم: وغر. ووغر). لا مدخل له في هذا الموضع. [2] مسألة: وكذلك قوله في آخر هذا الباب: "وهو الجبن بضم الباء، ولا تشدد النون [إنما شددها بعض الرجاز ضرورة].". (قال المفسر): لا مدخل له في هذا الباب. إنما كان ينبغي أن يذكره في باب ما جاء مخففاً والعامة تشدده. وقد حكى يونس في نوادره: أن الجبن الذي يؤكل، يثقل ويخفف، ويسنك ثانية. وأحسب الراجز الذي عناه ابن قتيبة هو القائل: أقمر مأموم عظيم الفك ... كأنه في العين دون شك جبنة من جبن بعلمك

باب ما جاء محركا والعامة تسكنه

باب ما جاء محركا والعامة تسكنه [1] مسألة: قال في هذا الباب: "وهي اللقطة لما يلتقط". (قال المفسر): كذا حكى غير ابن قتيبة. ووقع في كتاب العين: اللقطة بسكون القاف اسم ما يلتقط. واللقط بفتح القاف: الملتقط. وهذا هو الصحيح، وإن صح الأول فهو نادر، لأن فعلة بسكون العين من صفات المفعول، وبتحريك العين من صفات الفاعل. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "تجشأت جشأة". (قال المفسر): قد حكى يعقوب: (جشأة) بسكون الشين. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهم نخبة القوم، أي خيارهم". (قال المفسر): المعروف (نخبة) بإسكان الخاء. وأما

النخبة بفتح الخاء فهي نادرة، لأن فعلة بتحريك العين من صفات الفاعل. [4] مسألة: وأنشد في هذا الباب: قد وكلتني طلتي بالسمسرة ... وأيقتني لطلوع الزهرة (قال المفسر): قد حكى أبو حاتم أن رجلاً من العرب، قالت له امرأته، هلا غدوت إلى السوق فتجرت وجئتنا بالفوائد، كما يصنع فلان؟ فقال: إن زوج فلان خير له منك، تصنع له النبيذ فيشربه، ويغدو إلى السوق. فصنعت له نبيذاً وأيقظته في السحر وسقته إياه، فغدا إلى السوق فخسر عشرة دراهم، فقال: قد أمرتني طلتي بالسمسرة ... وصبحتني لطلوع الزهره عسين من جرتها المخمرة ... فكان ما ربحت وسط العيثره وفي الزحام إن وضعت عشرة فهذا الخبر يقتضي أن يكون ما رواه ابن قتيبة غلطا، وأن الصواب؛ وصبحتني. وسنفسر هذا الزجر في شرح الأبيات إن شاء الله تعالى. [5] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو أحر من القرع، وهو بئر يخرج بالفصلان تحت أوبارها".

(قال المفسر:) هذا هو المشهور، وحكى حمزة بن الحسن الأصبهاني في كتاب (أفعل من كذا) أنه يقال: أحر من القرع بفتح الراء وتسكينها. وفسر القرع المتحرك الراء، بنحو من تفسير ابن قتيبة. وأما القرع بسكون الراء، فإنهم يعنون قرع الميسم، وأنشد: كان على كبدي قرعة حذاراً من البين ما تبرد وقال: "والقرع أيضاً الضراب". قال المفسر: يريد قرع الفحل الناقة. والذي تذهب إليه العامة بقولهم: (أحر من القرع) ساكن الراء، إنما هو القرع المأكول وإنما يضربون به المثل في الحر، وإن كان بارداً في طبعه، لأنه يمسك حر النار إذا طبخ إمساكاً شديداً، فلا يزول عنه إلا بعد مدة. [6] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو المر والصبر، فأما ضد الجزع، فهو الصبر، ساكن".

(قال المفسر): إنكاره على العامة تسكين الباء من الصبر: طريف، لأن كل ما كان على فعل مكسور العين أو مضمومها، فإن التخفيف فيه جائز. وقد ذكر ابن قتيبة ذلك في أبنية الأسماء. وإذا خففوا مثلهذا فربما ألقوا حركة الحرف المخفف على ما قبله، وربما تركوه على حالته، فيقولون في فَخِذ فخْذ وفخِذ، وفي عضد عضد وعضد. وعلى هذا قول الشاعر تعزيت عنها كارهاً فتركتها ... واكن فراقيها أمر من الصبر يروى بفتح الصاد وكسرها. [7] مسألة: وقال في هذا الباب: "والرسمة التي يختضب بها: بكسر السين". (قال المفسر): قد ذكرنا آنفاً أن تخفيف مثل هذا جائز. وقد أجار في أبنية الأسماء وسمة ووسمة. ونسمي ما قاله هاهنا. [8] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو الأقط والنبق والنور والكذب والحلف". (قال المفسر): هذه الألفاظ لها لا تمنع من أن تسكن أوساطها تخفيفاً. فأما نقل الحركة عن العين سها إلى الفاء، فغير مسموح إلا في الحليف والكذب خاصة.

وقال بعض الأعراب يهجو المساور بن هند وقال: (غلطنا حساب الخراج) وقد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم]. [9] مسألة: وقال في هذا الباب: "وفلان خيرني من الناس، وقد تملأت من الشبع". (قال المفسر): وقع في تاب العين: الخيرة، سان الياء، مصدر اخترت، والخيرة بفتح الياء: المختار. وإذا كانت الخيرة مصدراًن فغير منكر أن يقال للشيء المختار خيرة أيضاً، فيوصف به كما يوصف بالمصدر في قولهم: درهم ضرب الأمير. فأما الشبع، بفتح الباء: فهو مصدر شبعتن والشبع، بسكون الباء: المقدار الذي يشبع الإنسان، وقد نشد أبوتمام في الحساسة: وكلهم قد نال شبعاً لبطنه ... وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه فالظاهر من الشبع هاهنا أنه مصدر، لأن اللؤم إنما توصف به الأفعال، لا الذوات. والأجود أن يحمل على حذف مضاف، كأنه قال: ونيل شبع الفتى أو إيثار الشبع، ونحو ذلك، فيكون الشبع على هذا الشيء المشبع.

باب ما تصحف فيه العامة

[10] مسألة: وقال في هذا الباب: "وفلان نغل: أي فاسد النسب. والعامة تقول: نغل". (قال المفسر): مثل هذا لا يجعل لحناً، على ما قدمنا ذكره، لأن التخفيف في مثله جائز، وقد قيل: في رواية من روى: (سليلة أفراس تجللها بغل) أنه تصحيف، لأن البغل لا ينسل شيئاً، وأن الصواب: نغل، بالنون، يريد فرسا ًهجيناً. باب ما تصحف فيه العامة [1] مسألة: قال في هذا الباب: "ويقولون: شن عليه درعه، وإنما هو سن عليه درعه: أي صبها. وسن الماء على وجهه: أي صبه صبا، فأما الغارة فإنه يقال فيها: شن عليهم الغارة، بالشين معجمة: أي فرقها", (قال المفسر): يقال: شن عليه الماء، بالشين والسين. وقال بعضهم: سن الماء بالسين غير معجمة: إذا صبه صبا سهلاً، وشنه

بالشين معجمة: إذا صبه صبا متفرقاً كالرش، وسن عليه الدرع، بالسين غير معجمة لا غير. وشن الغارة، بالشين معجمة لا غير. وقال أبو رياش: كل لين يسن بالسين غير معجمة، وكل خشن يشن بالشين معجمة. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "ويقولون: نعق الغراب، وذلك خطأ، إنما يقال: (نغق) بالغين معجمة، فأما نعق فهو زجر الراعي الغنم. (قال المفسر): هذا الذي قاله، قول جمهور اللغويين، وقد حكى صاحب كتاب العين أنه يقال: نعق ونغق. قال: وهو بالغين معجمة أحسن، ورأيت ابن جني قد حكى مثل ذلك، ولا أدري من أين نقله. [3] مسألة: وقال في هذا الباب عن الأصمعي: "العرب تقول توت والفرس تقول توث". (قال المفسر): قد حكى أبو حنيفة في كتاب النبات أنهما لغتان، وأنشد لمحبوب بن أبي العشنط النهشلي:

باب ما جاء بالسين وهم يقولونه بالصاد

لروضة من رياض الحزن أو طرف ... من القرية جرد غير محروث للنور فيه إذا مج الندى أرج ... يشفي الصداع وينقي كل ممغوث أشهى وأحلى بعيني إن مررت به ... من كرخ بغداد ذي الرمان والتوث باب ما جاء بالسين وهم يقولونه بالصاد [1] مسألة: قال في هذا الباب: "أخذته قسراً، ولا يقال قصراً، وقد قصره: إذا حبسه. ومنه (حور مقصورات في الخيام)، فأما القسر بالسين فهو القهر.". (قال المفسر): هذا الذي قاله هو المشهور، وقد حكى يعقوب: أخذته قسراً وقصراً، بالسين والصاد: بمعنى القهر. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو الرسغ، بالسين، ولا يقال بالصاد" (قال المفسر): قد حكى ابن دريد أنه يقال: رسغ ورصغ. وقد أجاز

باب ما جاء بالصاد، وهو يقولون بالسين

النحويون في كل سين وقعت بعدها غين أو خاء معجمتان، أو قاف أوطاء أن تبدل صاداً. فإن كان صاداً في الأصل لم يجز أن تقلب سيناً، نحو سخرت منه وصخرت، (وأسبغ عليكم نعمه) وأصبغ (وزادكم في الخلق بسطة) وبصطة فمتى رأيت من هذا النوع ما يقال بالصاد والسين، فاعلم أن السين هي الأصل، لأن الأضعف يُرد إلى الأقوى، ولا يرد الأقوى إلى الأضعف. باب ما جاء بالصاد، وهو يقولون بالسين [1] مسألة: وقال في هذا الباب: "يقال: بخصت عينه بالصاد ولا يقال بخستها، إنما البخس النقصان. وذكر: "هي صنجة الميزان، ولا يقال سنجة، وهي أعجمية معربة، وهو الصماخ، ولا يقال: السماخ، وهو الصندوق بالصاد، وقد بصق الرجل وبزق، وهو البصاق والبزاق". (قال المفسر): هذه الأشياء كلها تقال بالصاد والسين، حكى ذلك الخليل وغيره.

باب ما جاء مفتوحا والعامة تكسره

فأما البخس الذي يراد به النقصان، والسنجة التي يراد بها مشاقة الكتان: فبالسين لا غير. [2] مسألة: وقال في هذا الباب:"والقرس: البرد". (قال المفسر) قد قال في باب (فعل وفعل من كتاب الأبنية) أنه يقال للبرد: قرس وقرس، بفتح الراء وتسكينها. باب ما جاء مفتوحاً والعامة تكسره [1] مسألة: قال في هذا الباب: "الطيلسان: بفتح اللام". (قال المفسر): قد حكى أبو العباس المبرد عن الأخفش، طيلسان وطيلسان، بفتح اللام، وكسرها. وزاد ابن الأعرابي طالسان بالألف. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "هو الدرهم". (قال المفسر) هذه أفصح اللغات، وقد حكى اللحياني وغيره أنه يقال: درهم، بكسر الهاء، ودرهام أيضاً، وأنشد:

لو أن عندي مائتي درهام ... لجاز في آفاقها خاتامي [3] مسألة: وذكر في هذا الباب: "جنبتيه بفتح النون". (قال المفسر): وكذا روى أبو عبيد حديث النبي صلى الله عليه وسلم "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط أبواب مفتحة"، والسكون في هذا أقيس من الفتح، وقد جاء ذلك في الشعر الفصيح، قال الراعي: أخليد إن أباك ضاف وساده ... همان باتا جنبة ودخيلا وأنشد أبو تمام في الحماسة: فما نطفة من حب مزن تقاذفت ... به جنبتا الجودي والليل دامس بأطيب من فيها وما ذقت طعمها ... ولكنني في ماترى العين فارس وأنشد أهل اللغة: أم حبين انشرى برديك ... إن الأمير ناظر إليك وضارب بالسوط جنبتيك

[4] مسألة: وقال في هذا الباب:"فلان يملك رجعة المرأة بالفتح وفلان لغير رشده ولزنية ... وهي فلكة المغزل". (قال المفسر): الفتح والكسر جائزان في هذه الألفاظ كلها، وحكى يونس في نوادره أن الفلكة بالكسر لغة أهل الحجاز. [5] مسألة: وذكر في هذا الباب: "اليسار، والرصاص، والوداع، والدجاج، وفص الخاتم". (قال المفسر): وهذه كلها قد حكى فيها الفتح والكسر. وقد قال في باب ما جاء فيه لغتان استعمل الناس أضعفهما: أن الفص: بالكسر، والدجاج: لغة ضعيفة. وذكر في أبنية الأسماء: أن الدجاج والدجاج لغتان، ولم يجعل لأحدهما مزية على الأخرى. وحكى في باب ما جاء فيه لغتان استعمل الناس أضعفهما: أن الرصاص، بالكسر لغة ضعيفة. ومثل هذا الاضطراب والتخليط يحير بال القاريء لكتابه. وكان

ينبغي أن يجعل ذلك في باب واحد، ولا ينكر الشيء تارة، ثم يجيزه تارة أخرى. [6] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو بثق السيل ... وهو ملك يمني". (قال المفسر): قد ذكر في باب أبنية الأسماء من كتابه هذا: أنه يقال بثق وبثق، وملك وملك. ونسي ما قاله هاهنا، وقد قرأ القراء (ما لكم من إله غيره) و (ما أخلفنا موعدك بملكنا) وملكنا، وملكنا، بالضم، والفتح، والكسر. [7] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو الشقراق للطائر بفتح الشين". (قال المفسر): الكسر في شين الشقراق أقيس، لأن فعالاً بكسر الفاء موجود في أبنية الأسماء نحو طرماح وسنمار، وفعلال (بفتح الفاء) معدوم يها، وبكسر الشين قرأناه في الغريب المصنف، وهكذا حكاه الخليل، وذكر أن فيه ثلاث لغات: شقراق (بكسر القاف، وتشديد الراء)، وشقراق (بتسكين القاف)، وشرقراق. وهو طائر مفوف بحمرة وخضرة. وقد قال ابن قتيبة في باب معرفة في الطير: والأخيل: هو الشقراق (بكسر الشين)، كذا يوجد في جمهور النسخ.

[5] مسألة: وقال في هذا الباب: "مرقاة ومسقاة، وذكر الأبريسم (بفتح الألف والراء). ثم ذكر أن الكسر لغة، فإذا كان الكسر لغة، فأي معنى لإدخال هذا في لحن العامة. وقد يمكن أن تكون العامة قالت: أبريسم (بكسر الراء) فذكره من أجل ذلك. وأما المرقاة والمسقاة: فلا وجه لذكرهما في هذا الباب. [6] مسألة: وقال في آخر هذا الباب: "نزلنا على ضفة الشهر وضفتيه (بفتح الضاد). (قال المفسر): كذا وقع في روايتنا. ووقع في بعض النسخ في باب ما جاء مكسوراً والعامة تفتحه، والفتح والكسر: لغتان، حكاهما الخليل وغيره، والفتح فيهما أشهر من الكسر.

باب ما جاء مكسورا والعامة تفتحه

باب ما جاء مكسوراً والعامة تفتحه قال في هذا الباب: "الإنفحة، وهو الضفدع". (قال المفسر) قد ذكر صاحب كتاب العين: أن الأنفحة (بفتح الهمزة): لغة وحكى أبو حاتم في ضفدع: أن فتح الدال. لغة. وقد حكى ضفدع، (بضم الضاد، وفتح الدال)، وهو نادر، ذكره المطرز. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو الديوان، والديباج: (بكسر الدال فيهما) ". (قال المفسر): هذا الذي ذكر هو الأفصح. وقد ذكر ابن دريد: أن الفتح فيهما لغة. [3] مسألة: وذكر في هذا الباب: "المظلة: (بكسر الميم) ". (قال المفسر): كان ابن الأعرابي يقول: المظلة، بالفتح لا غير. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: "ليس على فلان محمل، وقعدت له في

مفرق الطريق ويقال مفرق. ومرفق اليد، ولى في هذا الأمر مرفق (بكسر الميم فيهن) ". (قال المفسر): لا وجه لإدخال هذه الألفاظ في لحن العامة، لأن الفتح والكسر جائزان في جميعها، وقد قال هو في هذا الباب بعينه: أنه يقال: مفرق (بالفتح). وحكى الخليل في محمل الفتح، والقياس يوجب فيه ذلك، لأن فعله حمل يحمل (بفتح العين) من الماضي، وكسرها من المستقبل. والمفعل من هذا الباب إذا كان مصدراً: فحكمه الفتح، إلا ما شذ عن الباب، وأجاز أبو علي البغدادي في مرفق اليد، فتح الميم مع كسر الفاء، وكر الميم مع فتح الفاء، ولم يجز ذلك في المرفق من الأمر، حكى ذلك عنه في بعض تعاليق هذا الكتاب، فإن كان هذا صحيحاً عنه، فهو غلط، لأن المرفق من الأمر يجوز فيه ما جاز في المرفق من اليد، وقد قرأت القراء: (ويهيئ لكم من أمركم مرفقا) و (مرفقا) بالوجهين. [5] مسألة: وقال في هذا الباب:"السرع: السرعة". (قال المفسر): هذا الذي قاله هو المشهور. وذكر صاحب كتاب

العين، أن السرع (بكسر العين): مصدر سرع، وسرعت يده. قال: وأما السرع (بفتح العين): فهو السرعة في جري الماء وأنهار المطر ونحوه. [6] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهي الجنازة (بكسر الجيم) ". (قال المفسر): قد اضطرب قول ابن قتيبة في الجنازة، فذكر في هذا الباب: أنها بالكسر، وأنكر فتح الجيم، وجعله من لحن العامة، ثم قال في (باب جاء فيه لغتان استعمل الناس أضعفهما) إن الجنازة (بالكسر): أفصح من الجنازة. ثم ذكر في كتاب الأبنية من كتابه هذا، أنهما لغتان. وقال في كتابه في المسائل: الجنازة (بكسر الجيم): الميت، وإنما سمي النعش جنازة باسم الميت، وإنما سمي النعش جنازة باسم الميت، ولم يذكر الفتح. وقال أبو علي الدينوري في كتاب لحن العامة: الجنازة بكسر الجيم: السرير الذي يحمل عليه الميت، ولا يقال للميت جنازة. وروى السكري عن محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابي: أنه قال: الجنازة: النعش إذا كان عليه الميت، ولا يقال له دون ميت جنازة. كذا رواه بكسر الجيم، قوال صاحب كتاب العين: الجنازة (بفتح الجيم):

الإنسان الميت، والشيء الذي ثقل على القوم، واغتموا به هو أيضاً جنازة، وأنشد قول صخر: وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغتر بالحدثان قال: وأما الجنازة (مكسورة الصدر) فهي خشب الشرجع. قال: وينكرون قول من يقول الجنازة: الميت. وإذا مات الإنسان فإن العرب تقول: رمى في جنازته فمات، وقد جرى في أفواه الناس: الجنازة ببفتح الجيم، والنحارير ينكرونه. وقال ابن دريد: جنزت الشيء سترته، ومنه سمي الميت جنازة، لأنه يستر، وفي الخبر أنه أنذر الحسن لصلاة على ميت، فقال: إذا جنزتموها فآذنوني أي كفنتموها. [7] مسألة: وقال في هذا الباب: مقدمة العسكر.". (قال المفسر): يقال: قدم الرجل بمعنى تقدم، قال الله تعالى: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)، فلذلك قيل: مقدمة الجيش، لأنها تقدمته، فهي اسم فاعل من قدم بمعنى تقدم، ولو قيل مقدمة (بفتح الدال)، لكان ذلك صحيحاً، لأن غيرها يقدمها، فتتقدم، فتكون مفعوله على هذا المعنى.

[8] مسألة: وقال في هذا الباب: متاع مقارب، ولا يقال: مقارب. وقال قاسم بن ثابت لك الناس حكوا: عمل مقارب" (بالكسر) إلا ابن الأعرابي، فإنه حكى: عمل مقارب (بالفتح) لا غير." (قال المفسر): القياس يوجب أن الكسر والفتح جائزان. فمن كسر الراء جعله اسم فاعل من قارب. ومن فتح الراء؛ جعله اسم مفعول من قورب. [9] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهي الزنفليجة (بكسر الزاي) ولا تفتح". (قال المفسر): قد حكى أبو علي البغدادي في البارع عن الأصمعي: أن العرب تقول: الزنفليجة، بفتح الزاي والفاء. ووقع في بعض نسخ أدب الكتاب: الزنفيلجة (بتقديم الياء على اللام). وأظنه غلطاً من الناقل، لأن الذي رويناه في الأدب عن أبي علي: بتقديم اللام على الياء. [10] مسألة: وقال في هذا الباب: "وتقول في الدعاء": "إن عذابك الحد بالكافرين ملحق" بكسر الحاء، بمعنى لاحق." (قال المفسر): هذا الذي قاله قد قاله غير واحد من اللغويين،

باب ما جاء مفتوحا والعامة تضمه

وإنكارهم فتح الحاء شيء ظريف، لأن الفتح جائز في القياس. لأن الله تعالى ألحقه بهم، فالله تعالى ملحق والعذاب ملحق، ولا أعلم لإنكار الفتح وجهاً إلا أن تكون الرواية وردت بالكسر، فلزم اتباعها. باب ما جاء مفتوحاً والعامة تضمه [1] مسألة: قال في هذا الباب: "وهو درهم ستوق، بفتح السين". (قال المفسر): قد حكى يعقوب أنه يقال: ستوق بالضمن وزاد اللحياني فقال: يقال: تستوق أيضاً. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "فعلت ذلك به خصوصية، ولص بين اللصوصية". (قال المفسر): الفتح والضم فيهما جائزان، إلا أن الفتح أفصح، حكى ذلك ثعلب وغيره، وكذلك حر بين الحرورية.

[3] مسألة: قال في هذا الباب: "وهي الأنملة بفتح الميم: واحدة الأنامل". (قال المفسر): إدخاله الأنملة في لحن العامة ظريف جداً، ولو قال: إن هذه اللغة أفصح اللغات، لكان ما قاله صحيحاً. وقد كثرت اللغات في الأنملة والإصبع حتى صار الناطق بهما كيف شاء لا يكاد يخطيء وفي كل واحدة منهما تسع لغات: أنملة وأصبع، بفتح الأول والثالث، وأنملة وأصبع، بضم الأول والثالث؛ وإنملة وإصبع، بكسر الأول والثالث، وأنملة وأصبع، بفتح الأول وضم الثالث؛ وأنملة وأصبع، بضم الأول وفتح الثالث؛ وأنملة وأصبع، بضم الأول وكسر الثالث؛ وإنملة وإصبع، بكسر الأول وفتح الثالث؛ وإنملة وإصبع، بكسر الأول وضم الثالث، وأنملة وأصبع، بفتح الأول وكسر الثالث، وفي الإصبع لغة عاشرة، ليست في الأنملة، وهي، وهي أصبوع، بالواو وضم الهمزة، على وزن أشلوب، وأفصح اللغات: أنملة، بفتح الهمزة والميم، وإصبع، بكسر الهمزة وفتح الباء. وذكر ابن قتيبة في باب ما جاء فيه أربع لغات من حروف مختلفة الأبنية، أن في الإصبع أربع لغات، ونسي هاهنا ما قاله هناك.

باب ما جاء مضموما والعامة تفتحه

باب ما جاء مضموماً والعامة تفتحه [1] مسألة: قال في هذا الباب: "على وجهه طلاوة، بضم أولها". (قال المفسر): قد قال في باب ما جاء فيه لغتان استعمل الناس أضعفهما: ويقولون عليه طلاوة، والأجود: طلاوة، فذكر أن الضم أفصح من الفتح، ثم قال في أبنية الأسماء: على وجهه طلاوة وطلاوة، فأجاز الفتح والضم وسوى بينهما. وكان ابن الأعرابي يقول: ما على كلامه طلاوة ولا حلاوة بالفتح، ولا أقول طلاوة بالضم، إلا للشيء يطلى به. وقال أبو عمرو الشيباني: يقال: طلاوة وطلاوة وطلاوة بالضم والفتح والكسر. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "جدد ولا يقال جدد بفتحها، إنما الجدد: الطرائق، قال الله تعالى: (ومن الجبال جدد بيض). (قال المفسر): قد أجاز أبو العباس المبرد وغيره في كل ما جمع من المضاعف على فُعل الضم والفتح، لثقل التضعيف. فأجاز أن يقال: جدد وجدد وسرر وسرر. وقد قرأ بعض القراء، (على سرر موضونة)

[3] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو النكس في العلة." (قال المفسر): النكس بالفتح المصدر. والنكس بالضم. الاسم ذكر ذلك ابن جني. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: "وجلته نصب عيني". (قال المفسر): قد قال في باب الحرفين يتقاربان في اللفظ والمعنى، فربما وضع الناس أحدها موضع الآخر: النصب بالضم: الشر. قال تعالى: (بنصب وعذاب). والنصب بفتح النون: ما نصب. قال الله تعالى: (كأنهم على نصب يوفضون) وهو النصب أيضاً بفتح الصاد والنون فلامه هذا يوجب أن يجوز (جعلته نصب عيني)، بفتح النون. [5] مسألة: وقال هذا الباب، حكاية عن أبي زيد "رفق الله بك ورفق عليك". (قال المفسر): قد حكى الخليل وغيره رفقت بالأمر، بفتح الفاء: إذا لطفت به ورفقت بضم الفاء: إذا صرت رفيقاً. فيجوز على هذا: رفق الله بك، بفتح الفاء أي لطف بك، ورفق، بضم الفاء، أي صار رفيقاً. والفتح في هذا أقيس من الضم.

باب ما جاء مضموما والعامة تكسره

باب ما جاء مضموماً والعامة تكسره [1] مسألة: وقال في هذا الباب: "هي الخصية والخصيتان". (قال المفسر): قد حكى في باب فعلة وفعلة من أبنية الأسماء أنه يقال: خصية وخصية ونسي ما قاله ههنا. فأما الخصي بغير هاء، فلا أعرف فيه غير الضم. وأما الخصي فجمع خصية بالكسر لا غير. قال [خفاف بن قيس من البراجم]: وخناذيذ خصية وفحولا [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو الفسطاط بالضم". (قال المفسر): قد قال بعد هذا في باب ما جاء فيه ست لغات أنه يقال: فسطاط، وفسطاط، وفستاط، وفستاط، وفساط، وفساط، وهذا تخليط. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو جربان القميص، بضم الجيم والراء".

باب ما جاء مكسورا والعامة تضمه

(قال المفسر): قد أنشد أبو علي البغدادي في النوادر: له خفقان يرفع الجيب كالشجا ... يقطع أزرار الجربان ثائره وذكر أنه وجده هكذا بخط إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وأنه قرأه على أبي بكر بن دريد، فلم ينكره، وهكذا حكاه الخليل. وقال أبو علي البغدادي في البارع: قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن جربان القميص بكسر الجيم والراء وتشديد لباء فقال: هو فارس معرب، إنما هو كربان، فرأيت مذهبه أنه جربان، بكسر الجيم والراء. باب ما جاء مكسوراً والعامة تضمه [1] مسألة: قال في هذا الباب: "هو الخوان، بكسر الخاء". (قال المفسر): قد قال في باب ما جاء فيه لغتان استعمل الناس أضعفهما: ويقولون: خوان. والأجود خوان. فذكر أن الكسر أفصح من الضم، وأنهما لغتان، ونسي ما قاله هاهنا. ثم قال في (باب فِعال وفُعال من أبنية الأسماء) أنه يقال: خوان وخوان [للذي يؤكل عليه].

باب ما جاء على فعلت (بكسر العين) والعامة تقوله على فعلت (بفتحها)

[2] مسألة: وقال في هذا الباب: ودابة فيها قماص، ولا يقال قماص". (قال المفسر): الضم والكسر جائزان، ذكر ذلك غير واحد. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "تمر شهريز وسهريز، بالكسر ولا يضم أولهما". (قال المفسر) أما الذي بالشين معجمة فلا أحفظ فيه غير الكسر. وأما الذي بالسين غير معجمة، فإن أبا حنيفة حكى فيه الكسر والضم، وحكى نحو ذلك اللحياني وذكر أنه يقال: تمر سهريز على الصفة وتمر سهريز على الإضافة، وكذلك بالشين معجمة. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: "نحن في العلو وهم في السفل". (قال المفسر) الضم والكسر فيهما جائزان والضم فيهما أشهر من الكسر. باب ما جاء على فعلت (بكسر العين) والعامة تقوله على فعلت (بفتحها) [1] مسألة: قال في هذا الباب: "صدقت في يمينك وبررت بها".

باب ما جاء على فعلت (بفتح العين) والعامة تقوله على فعلت (بكسرها)

(قال المفسر): حكى ابن الأعرابي: صدقت وبررت، فوردا بالفتح والكسر. فأما بررت والدي فلا أعرف فهي لغة غير الكسر. باب ما جاء على فعلت (بفتح العين) والعامة تقوله على فعلت (بكسرها) قال في هذا الباب: "نكلت عن الشيء أنكل نكولاً، وحرصت على الأمر أحرص حرصاً". (قال المفسر): حكى ابن درستويه في شرح الفصيح: أنه يقال نكلت وحرصت، بالكسر. وحى ابن القوطية في حرصت الفتح والكسر، في كتاب الأفعال، ولم يذكر نكلت. باب ما جاء على فعلت (بفتح العين) والعامة تقوله على فعلت (بضمها) قال في هذا الباب: "البصريون يقولون: حمض الخل وطلقت المرأة لا غير". (قال المفسر): هذا يدل على أن الكوفيين يجيزون الفتح والضم. وإذا كان كذلك، فلا وجه لإدخال ذلك في حلن العامة، ومع ذلك فقد حكاه يونس، وهو من جملة البصريين. وكذلك ذكر: خثر اللبن يخثر، وشحب لونه يشحب في هذا الباب، ولا وجه لذلك، لأن الضم والفتح جائزان فيهما، وقد حكى ذلك

باب ما جاء على يفعل (بضم العين) مما يغير

في موضع آخر من كتابه هذا، وذكر يعقوب أن خثر، بكسر الثاء: لغة ثالثة. باب ما جاء على يفعل (بضم العين) مما يغير [1] مسألة: قال في هذا الباب: "همعت عينه تهمع وكهن الرجل يهن". (قال المفسر): الفتح جائز فيهما جميعاً. [2] مسألة: وذكر في هذا الباب: "نكل عن الأمر ينكل". (قال المفسر): قد ذكرنا أن نكلت، بكسر الكاف: لغة ذرها ابن درستويه، فينبغي أن يقال في المستقبل من هذه اللغة: أنكل، بالفتح. [3] مسألة: وذكر في هذا الباب: "در له الحلب يدر". (قال المفسر): الكسر فيه جائز، وهو أقيس من الضم، لأنه قد قال بعد هذا في الكتاب: أنكل ما كان على فعلت، بفتح العين، من ذوات التضعيف، غير متعد، فالعين من فعله المستقبل مكسورة، إلا ألفاظاً شذت، فجاءت بالضم.

باب ما جاء على يفعل بكسر العين مما يغير

باب ما جاء على يفعل بكسر العين مما يُغير [1] مسألة: قال في هذا الباب: "نعر ينعر، من الصوت. وزحر يزحر، ونحت ينحت، وبغمت الظبية تبغم". (قال المفسر): الفتح جائز في هذه الأفعال كلها، وقد حكى في بغمت الظبية ضم الغين في المستقبل وكذا قرأناه في الغريب المصنف. [2] مسألة: وذكر في هذا الباب: "نشرت الثوب أنشره". (قال المفسر): الضم فيه أشهر من الكسر. [3] مسألة: وذكر في هذا الباب: "أبق يابق". (قال المفسر): قد حكى بعد هذا في باب فعل يفعل ويفعل أنه يقال: أبق يأبق ويأبق، ونسى ما قاله هاهنا. [4] مسألة: وذكر في هذا الباب: "نعق بالشاء ينعق". (قال المفسر): الفتح فيه أيضاً جائز.

باب ما جاء على يفعل (بفتح العين) مما يغير

[5] مسألة: وذكر: "هررت الحرب أهرها". (قال المفسر): الضم فيه أقيس من الكسر. وقد قال بعد هذا أن ما انك على فعل مفتوح العين من المضاعف متعدياً، فقياس مستقبله أن يكون مضموم العين، إلا ألفاظاً شذت عما عليه الأكثر. باب ما جاء على يفعل (بفتح العين) مما يغير قد ذكر في هذا الباب: "شم يشم، وعسر على الأمر يعسر". (قال المفسر): أما شم يشم فقد ذكر بعد هذا في باب فعل يفعل ويفعل: شم يشم ويشم، ونسي ذلك في هذا الموضع. وله في هذه اللفظة غلط آخر، نذكره إذا انتهينا إلى بابه إن شاء الله تعالى. وأما عسر يعسر ففيه لغتان: عسر يعسر فهو عسر، مثل حذر يحذر فهو حذر، وعسر يعسر فهو عسير، على وزن ظرف يظرف فهو ظريف.

باب ما جاء على لفظ ما لم يسم فاعله

باب ما جاء على لفظ ما لم يسم فاعله [1] مسألة: قال في هذا الباب: "عنيت بالشيء، فأنا أعنى به، ولا يقال: عنيت". (قال المفسر) قد حكى ابن الأعرابي: عنيت بأمره أعنى، وأنابه عان، على مثال: خشيت أخشى، وأنا خاش، والذي قاله ابن قتيبة هو المعروف وهذا نادر، وأنشد ابن الأعرابي عان بآخرها طويل الشغل ... له حفيران وأي نبل [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "بُهت الرجل. وحكى عن الكسائي: بهت بكسر الهاء وبهت، على صيغة ما لم يسم فاعله. (قال المفسر): يقال: بهت على صيغة ما لم يسم فاعله، وبهت بكسر الهاء وفتح الباء على مثال علمت. وبهت بضم الهاء على مال ظرف، وبهت بفتح الهاء على مثال رددت، حكى ذلك ابن جني.

باب ما ينقص منه ويزاد فيه، ويبدل بعض حروفه بغيره

باب ما ينقص منه ويزاد فيه، ويبدل بعض حروفه بغيره [1] مسألة: قال في هذا الباب: "هو السرجين، بكسر السين والجيم. قال الأصمعي: هو فارسي، ولا أدري كيف أقوله، فأقول: الروث". (قال المفسر): قد حكى أبو حنيفة في كتاب النبات: انه يقال سرجين وسرقين بالجيم والقاف، وفتح السين وكسرها، وسرجنت الأرض وسرقنتها، وهي لفظة فارسية. ولذلك جاءت مخالفة كلام العرب؛ لأنه ليس في كلام العرب فعليل ولا فعلين، بفتح الفاء، وهذا كقولهم: آجر وسيسنبر وشاهسفرم ومرزجوش ومرزنجوش، ونحو ذلك من الألفاظ المعربة، المخالفة لأمثلة الكلام العربي، وهي كثيرة. ورأيت ابن جني قد قال في بعض كلامه: الوجه عندي أن تكسر الشين من شطرنج، ليكون على مثال جردحل، وهذا لا وجه له. وإنما كان يجب ما قاله هنا، لو كانت العرب تصرف لك ما تعربه من الألفاظ العجمية إلى أمثلة كلامها. وإذا وجدنا فيما عربوه أشياء كثيرة مخالفة لأوزان كلامهم، فلا وجه لهذا الذي ذكره، وقد ورد من ذلك ما لا أحصيه كثرة، ومنه قول الأعشى.

لنا جلسان عندهم وبنفسج ... وسيسنبر والمززجوش منمنما وآس وخيرى ومرو وسوسن ... إذا كان هنزمن ورحت مخشما وشاهسفرم والياسمين ونرجس ... يصبحنا في كل دجن تغيما ومستق بينين وعود وبربط ... يجاوبه صنج إذا ما ترنما وقال لبيد: فخمة ذفراء ترقى بالعرا ... قردمانيا وتركا كالبصل [2] مسألة: وقال في هذا الباب:"وهي القاقوزة، والقازوزة، ولا يقال: قاقزة". (قال المفسر): الذي أنكره ابن قتيبة ولم يجزه هو قول الأصمعي. قال الأصمعي: هي القاقوزة، ولا أعرف قاقزة. وهي لفظة فارسية عربت، فلذلك كثر الاختلاف في حقيقة اللفظ بها.

[3] مسألة وقال في هذا الباب:"هي البالوعة". (قال المفسر): قد حكى ابن درستويه: بالوعة وبواليع، وبولعة وبلاليع. وهو الذي أنكره ابن قتيبة. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: "ويقال: شتان ما هما بنصب النون، ولا يقال ما بينهما، وأنشد للأعشى: شتان ما يومي على كورها ... ويوم حيان أخي جابر قال: وليس قول الآخر: (لشتان ما بين اليزيدين في الندى) بحجة. (قال المفسر): هذا قول الأصمعي، وإنما لم ير البيت الثاني حجة، لأنه لربيعة الرقى، وهو من المحدثين. ولا وجه لإنكاره إياه، لأنه صحيح في معناه، وهو في مبنى لفظه، تكون (ما) فاعلة بشتان، كأنه قال بعد الذي بينهما، وهي في بيت الأعشى زائدة، وقد أنكر الأصمعي أشياء كثيرة، كلها صحيح، فلا وجه لإدخالها في لحن العامة من أجل إنكار الأصمعي لها.

[5] مسألة: وقال في هذا الباب:"ويقال: هذا ماء ملح، ولا يقال: مالح. قال الله تعالى: (هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج). ويقال: سمك مليح، ومملوح، ولا يقال: مالح. وقد قال عذافر، وليس بحجة بصرية تزوجت بصريا ... يطعمها المالح والطريا (قال المفسر): هذا الذي قاله ابن قتيبة قد قال مثله يعقوب وأبو بكر بن دريد وغيرهما ورواه الرواة عن الصمعي وهو المشهور من كلام العرب. ولكن قول العامة لا يعد خطأ. وإنما يجب أن يقال: إنها لغة قليلة، وقد قال ابن الأعرابي: يقال: شيء مالح، كما قالوا: شيء حامض، وقال أيضاً: الحمض كل شيء مالح له أصل، وليس على ساق، وروى الأثرم عن أبي الجراح الأعرابي: الحمض: المالح من الشجر والنبت. وقد قال جرير يهجو آل المهلب: آل المهلب جذ الله دابرهم ... أمسوا رماداً فلا أصل ولا طرف كانوا إذا جعلوا في صيرهم بصلا ... ثم اشتروا كنعدا من مالح جدفوا وقال غسان السليطي: وبيض غذاهن الحليب ولم يكن ... غذاهن نينان من البحر مالح أحب إلينا من أناس بقرية ... يموجون موج البحر والبجر جامح

وأنشد أبو زياد الكلابي، قال: أنشدني أعرابي فصيح: صبحن قوا والحمام واقع ... وماء قو مالح ونابع وإنما لم ير الأصمعي عذافر حجة، لأنه كان حضرياً غير فصيح، وعذافر وإن كان غير فصيح كما قال، فقد جاء مالح فيما قدمنا ذكره، وقد جاء في خبر عذافر الذي من أجله قال هذا الرجز ما فيه حجة. حكى أبو زياد الكلابي قال: أكرى رجل من بني فقيم رجلاً من أهل البصرة وامرأة له يقال لها: شعفر [والبصري رجل من بني حنيفةن وامرأته من بني حنيفة، عربيان، وذكر خبراً طويلا] ثم قال: فقال الفقيمي: لو شاء ربي لم أكن كريا ... ولم أسق لشعفر المطيا بصرية تزوجت بصريا ... يطعمها المالح والطريا قال: فاندفع الحنفي يقول: قد جعل الله لنا كريا ... مقبحاً ملعنا شقيا أكريت خرقا ماجدا سريا ... ذا زوجة كان بها حفيا يطعمها المالح والطريا ... وجيد البر لها مقليا فقد قال الحنفي مالحاً، كما قال عذافر، وهو الفقيمي، واتفقا على ذلك.

وقد حكى ابن قتيبة في باب فعل وأفعل باتفاق المعنى: ملح الماء وأملح، بضم اللام منملح، فينبغي على هذا أن يقال: ماء مليح ومملح، ولا يستنكر أن يقال من هذا ماء مالح، على معنى النسب، كما قالوا: أدرس الشجر فهو دارس، وأبقل المكان فهو باقل. وأما قولهم: سمك مالح، فلولا الرواية وما أنشدناه من الأشعار المتقدمة، لكان قياسه ألا يجوز، لأنه يقال: ملحت الشيء: إذا جعلت فيه الملح بقدر، فإن أكثرت فيه من الملح قلت: أملحت. فالقياس أن يقال: سمك مالح ومملوح، فإن أكثر فيه من الملح قيل سمك مملح. فأما ما حكوه من قولهم سمك مالح فينبغي أن يكون من المنسوب الذي يأتي فيه المفعول على لفظ فاعل، كقولهم: ماء دافق، وعيشة راضية، ونحو ذلك. وحكى على بن حمزة عن بعض اللغويين: أنه يقال: ماء ملح. فإذا وصف الشيء بما فيه من الملوحة قلت: سمك مالح، وبقلة مالحة، قال: ولا يقال ماء مالح، لأن الماء هو الملح بعينه، وهذا قول غير معروف، وهو مع ذلك مخالف للقياس، لأن صفة الماء بأنه مالح، أقرب إلى القياس من وصف السمك، لأنهم قالوا: ملح الماء وأملح، فأسندوا إليه الفعل، كما يسند إلى الفاعل. ولم يقل ملح السم. إنما قالوا: ملحت السمك: إذا جعلت فيه الملح. [6] مسألة: قال في هذا الباب: "ويقال قد فاظ الميت يفيظ فيظا ويفوظ فوظا هذا رواه الأصمعي، وأنشد لرؤبة - لا يدفنون فيهم من فاظا.

قال: ولا يقال: فاظت نفسه، وحكاها غيره. قال: ولا يقال: فاضت إنما يفيض الماء والدمع، وأنشد الأصمعي: كادت النفس أن تفيظ عليه ... إذا ثوى حشو ريطة ويرود فذكر النفس وجاء بأن مع كاد". (قال المفسر): كان الأصمعي لا يجيز فاظت نفسه لا بالظاء ولا بالضاد، وكان يعتقد في قول الشاعر (كادت النفس أن تفيظ عليه أنه شاذ أو ضرورة اضطر إليها الشاعر. فقيل للأصمعي، قد قال الراجز: اجتمع الناس وقالوا عرس ... ففقئت عين وفاضت نفس فقال الأصمعي: ليست الرواية هكذا، وإنما الرواية: وطن الضرس. وقال بعض اللغويين: يقال: فاظ الميت (بالظاء). فإذا ذكرت النفس قيل فاضت نفسه (بالضاد)، يشبه خروجها بفيض الإناء، وحكى مثل ذلك أبو العباس المبرد في الكامل. قال أبو العباس: وحدثني أبو عثمان المازني، أحسبه عن أبي زيد قال كل العرب يقولون: فاضت نفسه بالضاد. إلا بني ضبة،

فإنهم يقولون: فاظت نفسه بالظاء، وإنما الكلام الفصيح فاظ بالظاء: إذا مات. [7] مسألة: وقال في هذا الباب: "يقال: هو أخوه بليان أمه، ولا يقال بلبن أمه، إنما اللبن الذي يُشرب من ناقة أو شاة أو غيرهما من البهائم". (قال المفسر): قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في لبن الفحل أنه يحرم. كذا رواه الفقهاء، وتفسيره: الرجل تكون له المرأة وهي مرضع بلبنه، فكل من أرضعته بذلك اللبن فهو ابن زوجها، محرمون عليه، وعلى ولده من تلك المرأة وغيرها، لأنه أبوهم جميعاً، والصحيح في هذا أن يقال: إن اللبان للمرأة خاصة، واللبن عام في كل شيء. [8] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو الرزداق، ولا يقال: الرستاق". (قال المفسر): كذا قال يعقوب. والرستاق صحيح، حكاه غير واحد، وكذا روى بيت ذي الرمة. فهذا الحديث يامرأ القيس فاتركي ... بلا دتميم والحقي بالرساتق

[9] مسألة: وقال في هذا الباب: "جاء فلان بالضح والريح، أي بما طلعت عليه الشمس، وجرت عليه الريح، ولا يقال: الضيح". (قال المفسر): قد حكى بعض اللغويين أنه يقال: الريح والضيح إتباعاً للريح. والضح والرح بغير ياء: إتباعاً للضح. ذكر ذلك أبو حنيفة. وقال الخليل: الضيح إتباعاً للريح. فإذا أفرد لم يكن له معنى. [10] مسألة: وقال في هذا الباب: "وقد عار الظليم يعار عرارا، ولا يقال: عر". (قال المفسر): قد حكى أبو عبيد في الغريب المصنف عن أبي عمرو: عر الظليم بغير ألف. [11] مسألة: وقال في هذا الباب: "ويقال: نثل درعه، ولا يقال: نثرها". (قال المفسر): نثل ونثر لغتان صحيحتان، ويقال للدرع: نثلة ونثرة. قد حكى ذلك غير واحد من اللغويين.

[12] مسألة: وقال في هذا الباب: "هو مضطلع بجمله: أي قوى عليه، وهو مفتعل من الضلاعة، ولا يقال مطلع". (قال المفسر): يجوز على مقاييس النحويين، مضطلع ومطلع (بالطاء والضاد). وعلى هذا أنشدوا بيت زهير: هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفواً ويظلم أحياناً فيظطلم ويطلم (بالطاء غير معجمة، ويظلم بالظاء معجمة، ولذلك أنشدوا قول الآخر: لما رأى أن لا دعه ولا شبع ... مال إلى أرطاة حقف فاضطجع ويروى فاضجع وفاطجع (بالطاء غير معجمة)، والكلام في هذا ليس هذا موضعه، فلذلك ندعه. [13] مسألة: وقال في هذا الباب عن أبي عبيدة: "رجل مشناء: يبغضه الناس، على تقدير مفعال. وكذلك فرس مثناء. والعامة تقول مشنأ". (قال المفسر): مشنأ بفتح الميم مهموز مقصور: جائز وهو

مصدر جاء على وزن مفعل، كالمعلم والمجهل، فالملك لا يثنى ولا يجمع، فيقال: رجل مشنأ، ورجلان مشنأ، ورجال مشنأ، وكذلك المؤنث. وهو أقيس من مشناء، لأن مفعالاً إنما بابه أن يكون من صفات الفاعل، لا من صفات المفعول، نحو رجل مضحاك: للكثير الضحك، ومضارب للكثير الضرب، فكذلك مشناء: حكه أن يكون للذي يبغض الناس كثيراً. وأما المفعول فحمكه أن يقال فيه مشنوء على مثال مضروب ومقتول، فقولهم: مشناء للمفعول: نادر، خارج عن القياس. وأما المصدر فقد كثر وصف الفاعل والمفعول به، وأنا أحسب الذي وقع في الدبن والعامة تقول مشناء، مفتوح الميم ممدود. فإذا كان هكذا فهو لحن، لأنه ليس في الكلام مفعال، بفتح الميم. [14] مسألة: وقال في هذا الباب: سكران ملطخ: خطأ. إنما هو ملتخ: أي مختلط، لا يفهم شيئاً، لاختلاط عقله". (قال المفسر): حكى يعقوب في إصلاح المنطق: ملتخ وملطخ: [أي مختلط] ويقال أيضاً: ملتبك، حكاه اللحياني.

[15] مسألة: وقال في هذا الباب. ويقولون: تؤثر وتحمد، والمسموع: توفر وتحمد، من قول: قد وفرته عرضه أفره وفرا". (قال المفسر): تؤثر وتحمد: صحيح، حكاه يعقوب في القلب والابدال، وذهب إلى أن الثاء بدل من الفاء، وقد يجوز أن يكون ل واحد من الحرفين أصلاً، غير مبدل من الآخر، فيكون توفر من قولك: وفرته ماله ووفرته عرضه، ويكون تؤثر من قولك: آثرته أوثره إيثاراً: إذا فضلته. [16] مسألة: وقد قال في هذا الباب: "تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها، يذهبون إلى أنها لا تأكل لحم الثدي، وهو خطأ. والصواب ولا تأكل بثدييها أي لا تسترضع، فتأخذ على ذلك الأجرة". (قال المفسر) أما ما يذهب إليه العامة من أن المعنى لا تأكل لحم الثدي، فهو خطأ، لا وجه له. ولكن يجوز لا تأكل ثدييها على تأويلين: أحدهما: أن يراد أجر ثدييها، أو ثمن ثدييها ويحذف المضاف ويقام المضاعف إلي مقامه. وهذا كثير في الكلام، تغني كثرته عن ذكر أمثلته. والتأويل الثاني على غير حذف، ويكون المعنى أنها إذا أكلت أجر ثدييها، فكأنها قد أكلت الثديين أنفسهما. ونحو من هذا قول الشاعر: إذا صب ما في القعب فاعلم بأنه ... دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أودعه يعني رجلاً قُتل أبوه، فأخذ ديته إبلاً، يقول: إذا شربت لبن الإبل التي أخذتها في دية أبيك، فكأنك إنما شربت دمه. [17] مسألة: وقال في هذا الباب: "ويقولون: النقد عند الحافر، يذهبون إلى

أن النقد عند مقام الإنسان، ويجعلون القدم هاهنا الحافر. وإنما هو النقد عند الحافرة: أي عند أول كلمة". (قال المفسر): قد ذكر بعض اللغويين أن قول العامة: النقد عند الحافر: صحيح، وقال: أصله أن الخيل كانت أفضل ما يباع، فكان الرجل إذا اشترى فرساً قال له صاحبه: النقد عند الحافر، أي عند حافر الفرس في موضعه قبل أن يزول، ثم صار مثلاً في كل شيء لا نظرة فيه، كما قالوا: دفعوه إليه برمته، وأصله في الإبل، ثم صار مثلاً في مالا رمة له، ومثل هذا كثير. [18] مسألة: وحكى في هذا الباب عن الأصمعي:"رجل دائن: إذا كثر ما عليه من الدين، ولا يقال من الدين دين فهو مدين ولا مديون: إذا كثر عليه الدين، ولكن يقال: دين الملك فهو مدين: إذا دان له الناس." (قال المفسر): قد حكى الخليل: رجل مدين، ومديون، ومُدان، ودائن، وادان، واستدان، ودان: إذا أخذ بالدين، وأنشد: إن المدين غمسه طري ... والدين داء كاسمه دوى [19] مسألة: وقال في هذا الباب: "كساء منبجاني، ولا يقال: أنبجاني. لأنه منسوب إلى منبج، وفتحت باؤه في النسب، لأنه خرج مخرج منظراني، ومخبراني".

(قال المفسر): قد قيل: أنبجاني، وجاء ذلك في بعض الحديث. وقد أنشد أبو العباس المبرد في الكامل في وصف لحية: كالأنبجاني مصقولاً عوارضها ... سوداء في لين خد الغادة الرود ولم ينكر ذلك، وليس في مجيئه مخالفاً للفظ منبج، ما يبطل أن يكون منسوباً إليها، لأن المنسوب يرد خارجاً عن القياس كثيراً، كمروزي ورازي، ونحو ذلك. [20] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو الدرياق، وأنشد:" سقتني بصهباء درياقة ... متى ما تلين عظامي تلن (قال المفسر): قد حكى أبو حنيفة أنه يقال: ترياق، ودرياق، وطرياق، ودراق، بمعنى واحد، ويقال له أيضاً مسوس. يريدون أنه يمس الداء فيبرأ. ولهذا قالوا: ماء مسوس: يريدون أنه يمس الغلة فتذهب. قال الشاعر:

باب ما يتكلم به مثنى

لو كنت ماء كنت لا ... عذب المذاق ولا مسوسا ملحا بعيد القعر قد ... فلت حجارته الفؤوسا [21] مسألة: وقال في آخر هذا الباب "وهو الحندقوق، نبطي معرب، ولا يقال حندقوقي". (قال المفسر): حندقوقي: لغة صحيحة حكاها أبو عبيد في الغريب، وحكاها أبو حنيفة وغيرهما باب ما يُتكلم به مثنى قال في هذا الباب: "تقول: اشتريت مقراضين وجلمين. ولا يقال: مقراض ولا مقص، ولا جلم". (قال المفسر): قد حكى يعقوب: أنه يقال: جلم، وحكى الحليل: أنه يقال مقراض وأنشد أبو تمام في الحماسة لسالم بن وابصة: داويت صدراً طويلاً غمره حقداً ... منه وقلمت أظفاراً بلا جلم

باب ما جاء فيه لغتان استعمل الناس أضعفهما

وقال أعرابي: فعليك ما اسطعت الظهور بلمتي ... وعلى أن ألقاك بالمقراض باب ما جاء فيه لغتان استعمل الناس أضعفهما [1] مسألة: قال في هذا الباب: "ويقولون: أصابه سهم غرب، والأجود عرب". (قال المفسر) لم يختلف اللغويون في أنهما لغتان، وإنما اختلفوا في أفصح اللغتين؛ فكان الأصمعي والكسائي يختاران فتح الراء، وهو الذي اختاره ابن قتيبة، وكان أبو حاتم يختار تسكين الراء. [2] مسألة: وقد قال في هذا الباب: "ويقولون للعالم: حبر والأجود حبر". (قال المفسر): اختار ابن قتيبة كسر الحاء. وكان أبو العباس ثعلب يختار فتح الحاء. وقد أجاز ابن قتيبة في هذا الباب أشياء كثيرة أنكرها فيما تقدم من الكتاب.

باب ما يغير من أسماء

[3] مسألة: وقال في هذا الباب: "ويقولون: بححت والأجود: بححت". (قال المفسر): كذا وقع في روايتنا عن أبي نصر عن أبي علي: بححت، بحاءين غير معجمتين، من البحح في الحلق، واختار كسر الحاء على فتحها. ووقع في بعض النسخ: ويقولون بجحت بالأمر، والأجود: بجحت (بجيم بعدها حاء غير معجمة). والجيم في اللغة الأولى مضمومة، وفي الثانية مكسورة. وهذا أيضاً صحيح، وقد حكى أبوبكر بن دُريد اللغتين جميعا، ومعناهما: فرحت وسررت. باب ما يُغير من أسماء [1] مسألة: قال في هذا الباب: "هو وهب مسكن الهاء ولا يفتح". (قال المفسر): قد قال زهير: ولا شاركت في الموت في دم نوفل ... ولا وهب منهم ولا ابن المخزم

فيجوز أن يكون حرك الهاء ضرورة. ويجوز أن تكون لغة. وقد قال الكوفيون: كل ما كان وزن فعل وعين الفعل منه حرف من حروف الحلق، فإن الفتح والإسكان جائزان فيه، كالبعر والبعر، والنهر والنهر، والبصريون يجعلونه موقوفاً على السماع، وهو الصحيح. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "وهو كسرى بكسر الكاف، ولا تفتح". (قال المفسر): الفتح والكسر فيه جائزان واختلفوا في المختار منهما فكان أبو حاتم يختار الكسر، وكان المبرد يختار الفتح. [3] مسألة: وقال: "وهو دحية الكلبي، بفتح الدال". (قال المفسر): هذا الذي قاله الأصمعي، وحكى يعقوب. دحية بكسر الدال، فهما لغتان. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: "قال الأصمعي: وعند جفينة الخبر اليقين، ولم يعرف جهينة ولا حقينة". (قال المفسر): قد اختلف العلماء في هذا المثل، فكان الأصمعي

يقول: جفينة بالجيم والفاء، وقال: وهو خمار. وكذلك قال ابن الأعرابي. وكان أبو عبيدة يقول: حفينة، بحاء غير معجمة، وكان ابن الكلبي يقول: جهينة بالجيم والهاء وهو الصحيح، وذلك أن أصل هذا المثل: أن حصين بن عمر بن معاوية بن كلاب خرج في سفر ومعه رجل من جهينة، يقال له الأخنس بن شريق، فنزلا في بعض منازلهما، فقتل الجهني الكلابي، وأخذ ماله، وكانت لحصين أخت تسمى ضُمرة، فكانت تبكيه في المواسم، وتسأل الناس عنه، فلا تجد من يخبرها بخبره، فقال الأخنس: وكم من فارس لا تزدريه ... إذا شخصت لمونقه العيون أذل له العزيز وكل ليث ... حديد الناب مسكنه العرني علوت بياض مفرقه بعضب ... يطير لوقعه الهام السون فأضحت عرسه ولها عليه ... هدوا بعد زفرتها أنين ضمرة إذ تسائل في مراح ... وفي جرم وعلمهما ظنون تسائل عن حضين كل ركب ... وعند جهية الخبر اليقين [5] مسألة: وقال في هذا الباب: وهو الجلودي (بفتح الجيم) منسوب إلى جلود، وأحسبها قرية بإفريقية".

(قال المفسر): كذا قال يعقوب، وقال على بن حمزة البصري: سألت أهل إفريقية عن جلود هذه التي ذكرها يعقوب، فلم يعرفها أحد من شيوخهم، وقالوا: إنما نعرف كدية الجلود، وهي كدية من كدي القيروان. قال: (والصحيح): أن جلود: قرية بالشام معروفة. [6] مسألة: وقال في هذا الباب: "وفرافصة: بضم الفاء ولا تفتح". (قال المفسر): حكى أبو حاتم: الفرافصة (بفتح الفاء): اسم رجل، وبضمها: الأسد. وحكى أبو علي البغدادي في الأمالي، عن أبي بكر بن الأنباري، عن أبيه، عن أشياخه، قال: كل ما في العرب فرافصة (بضم الفاء)، إلا فرافصة أبا نائلة امرأة عثمان بن عفان، فأته بفتح الفاء لا غير. [7] مسألة: وقال في هذا الباب: "رؤبة بن العجاج بالهمز". (قال المفسر): قد ذكر في باب المسمين بالصفات، ما في الرؤبة من المعاني وإن كان قد أغفل بعضها، ثم قال بإثر كلامه: وإنما سمي رؤبة بواحدة من هذه، وهذا يوجب أن (رؤبة) يهمز

ولا يهمز، ومنع هنا من ترك همزه كما ترى، ولا خلاف بين النحويين أن تخفيف الهمزة جائز، وأنه لغة. [8] مسألة: وقال في هذا الباب: "الدول (في حنيفة) بالضم، والدئل في (عبد القيس): بالسر. والدئل في كنانة (بضم الدال وكسر الهمزة)، وإليهم نسب أبو الأسود الدؤلي". (قال المفسر): هذا الذي ذكره ابن قتيبة هو قول يونس، وأما أبو جعفر بن حبيب فيذكر في كتابه في المؤتلف والمختلف: أن الذي في كنانة: (الدئل) بن بكر بن عبد مناة بن نانة، رهط أبي السود بكسر الدال، كالذي في عبد القيس، وحكى عن محمد بن سلام مثل قول يونس. وذكر السيرافي أن أهل البصرة يقولون: أبو الأسود الدؤلي، (بضم الدال وفتح الهمزة)، وأن أهل الكوفة يقولون: أبو الأسود الديلي (بكسر الدال وياء ساكنة). [9] مسألة: وقال في هذا الباب: "ويقولون: بستان ابن عامر، وإنما هو بستان ابن معمر". (قال المفسر): بستان ابن معمر غير بستان ابن عامر، وليس

باب ما يغير من أسماء البلاد

أحدهما الآخر. فأما بستان ابن معمر، فهو الذي يعرف ببطن نخلةن وابن معمر هذا هو عامر بن عبيد الله بن معمر التميمي. وأما بستان ابن عامر، فهو موضع آخر قريب من الجحفة. وابن عامر هذا: هو عبد الله بن عامر بن كرز، استعمله عثمان رضي الله عنه على أهل البصرة، وكان لا يعالج أرضاً إلا أنبط فيها الماء. ويقال: إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير فعوذه وتفل في فيه، فجعل يمتص ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نه لمسقي، فكان لا يعالج أرضاً إلا أنيط فيها الماء. باب ما يغير من أسماء البلاد قال في هذا الباب: "أسمنة: جبل بقرب طِحفة بضم الألف". (قال المفسر): قد حكى أسنمة بفتح الألف، وهو من غريب الأبنية، لأن سيبويه قال: ليس في السماء والصفات أفعل (بفتح الهمزة)، إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع، نحو أكلب وأعبد. وذكر ابن قتيبة أنه جبل، وذكر صاحب كتاب العين أن أسنمة رملة معروفة.

باب فعلت وأفعلت باتفاق معنى

باب فعلت وأفعلت باتفاق معنى هذا الباب أجاز فيه ابن قتيبة أشياء كثيرة، منع منها فيما تقدم من كتابه، قد ذكرناها في مواضعها. وذكر في هذا الباب: "هرقت الماء وأهرقته". وهذا الذي قاله قد قاله بعض اللغويين ممن لا يحسن التصريف، وتوهم أن هذه الهاء في هذه الكلمة أصل، وهو غلط، والصحيح أن هرقت وأهرقت فعلان رباعيان معتلان، أصلهما: أرقت، فمن قال هرقت، فالهاء عنده بدل من همزة أفعلت، كما قالوا: أرحت الماشية وهرحتها، وأنرت الثوب وهترته، ومن قال أهرقت، فالهاء عنده عوض من ذهاب حركة عين الفعل عنها، ونقلها إلى الفاء، لأن الأصل أريقت، أو أروقت، بالياء أو بالواو، على الاختلاف في ذلك، ثم نقلت حركة الواو أو الياء إلى الراء، فانقلبت حركة العلة ألفاً، لانفتاح ما قبله، ثم حذف لسكونه وسون القاف. والساقط من أرقت يحتمل أن يكون واواً، فيكون مشتقاً من راق الشيء يروق، ويحتمل أن يكون ياء، لأن الكسائي حكى راق الماء يريق: إذا انصب، والدليل على أن الهاء في هرقت وأهرقت ليست فاء الفعل، على ما توهم من ظنها كذلك، أنها لو كانت كذلك للزم أن يجري هرقت في تصريفه مجرى ضربت. فيقال: هرقت أهرق، كما تقول: ضربت أضرب ضرباً، أو مجرى غيره من الأفعال الثلاثية

التي يجيء مضارعها بضم العين، وتجيء مصادرها مختلفة، وكان يلزم أن يجري أهرقت في تصريفه مجرى أرمت ونحوه من الأفعال الرباعية، الصحيحة، فيقال: أهرقت أهرق إهراقاً، كما تقول: أكرمت أكرم كراما، ولم تقل العرب شيئاً من ذلك، وإنما يقولون في تصريف هرقت أهريق فيفتحون الهاء، وكذلك يفتحونها في اسم الفاعل، فيقولون مهريق، وفي اسم المفعول: مهراق، لأنها بدل من همزة لو ثبتت في تصريف الفعل لكانت مفتوحة، ألا ترى أن لو صرفت أرقت على ما ينبغي من التصريفن ولم تحذف الهمزة منه، لقلت في مضارعه يؤريق، وفي اسم فاعله: مؤريق، وفي اسم مفعوله مؤراق. وقالوا في المصدر: هراقة، كما قالوا إراقة. وذا صرفوا أهرقت قالوا في المضارع: أهريق، وفي المصدر إهراقة، وفي اسم الفاعل مهريق، وفي اسم المفعول مهراق، فأسكنوا الهاء في جميع تصريفا لكلمة، فهذا يدل على أنه فعل رباعي معتل وليس بفعل صحيح، وأن الهاء فيه بدل من همزة أرقت، أو عوض كما قلنا. قال العديل بن الفرخ: فكنت مهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فوق رابية صلد وقال ذو الرمة: فلما دنت إهراقة الماء أنصتت ... لأعزلة عنها وفي النفس أن أثنى وقال الأعشى في أراك: في أراك مرد تكاد إذا ما ... ذرت الشمس ساعة تهراق

[10] مسألة: ذكر ابن قتيبة في هذا الباب أفعالاً على زنة فعل مضمومة العين، وهي: وقح الحافر وخلق الثوب، وملح الماء، ونتن الشيء، ومرع الوادي، ورحبت الدار، وأفعالا مكسورة العين وهي: ألفت المكان، ونكرت القوم، ونعم الله بك عينا، وجدب الوادي، وخصب، ووبئت الأرض، وحطبت، وعشبت، وضبعت الناقة، ولحقته، وقويت الدار، وزكنت الأمر، وخطئت، وردفته. وفي بعض هذه الأفعال لغتان: الضم والفتح، وهو مرع الوادي ومرع، ومنها ما فيه الضم والكسر، وهو رحبت الدار ورحبت ولم يكن غرضي في ذكر هذه الأفعال الرد على ابن قتيبة، لإدخاله إياها في باب (فعل) المفتوح العين، وإنما ذكرتها لأني رأيت كثيراً من المستورين في هذه الصناعة، المنتحلين لها، يصرفونها كلها إلى الفتح. وقد وقعت إلى نسخ كثيرة من هذا الكتاب، مقروءة على قوم مشهورين، ووجدت أكثر هذه الألفاظ فيها مبشورة مصلحة، ورأيت قوماً يعتقدون أن ابن قتيبة غلط في إدخالها في باب (فعل) المفتوح العين. وهذا الذي اعترضوا به غير صحيح، لأن الأفعال الماضية كلها كيفما تصرفت صيغها، يجوز أن يعبر عنها بفعل، وإنما تراعى مقابلة الحركات بالحركات والسواكن بالسواكن في موضع آخر غير هذا، وشهرة هذا عند العارفين بصناعة التصريف تغنينا عن إطالة القول فيه.

باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى واختلافها في التعدي

باب فعلت وأفعلت باتفاق المعنى واختلافها في التعدي ذكر في هذا الباب: "رفقت به وأرفقته". (قال المفسر): قد قال في باب ما جاء مضموماً والعامة تفتحه: رفق الله بك، ورفق عليك، وأرفقك إرفاقاً، فأنكر الفتح، وروى عنه هاهنا بالفتح. باب فعل الشيء، وفعل الشيء غيره قال في هذا الباب "سرحت الماشية وسرحتها، ورعت ورعيتها. (قال المفسر): أنكر أبو علي البغدادي رعيتها، وقال: ليس معنى رعيتها جعلتها ترعى، إنما معنى رعيتها: حفظتها. وإنما يقال من الرعي للنبات: رعيت الماشية وأرعيتها، بالألف. (قال المفسر): حكى صاحب العين: الترعية (بتشديد الياء):

الرجل الحسن الالتماس وارتياد الكلأ للماشية، ورعيت رعية يومي، والرعية: فعلك بها. وهذا نحو مما قاله ابن قتيبة. يدل على ذلك قول الفرزدق: راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعى فزارة لا هناك المرتع! وقال الراجز: أرعيتها أكرم عود عودا ... الصل والصفصل واليعضيدا والخاز باز السنم المجودا ... بحيث يدعو عامر مسعودا أراد أن الراعي يضل في النبات لكثرته وطوله، فيحتاج صاحبه أن يطلبه.

باب فعلت وأفعلت بمعنيين متضادين

باب فعلت وأفعلت بمعنيين متضادين قال في هذا الباب:"خفيت الشيء: أظهرته وكتمته". (قال المفسر): هذا غلط، إنما اللغتان في (أخفيت) الذي هو فعل رباعي، وقد ذكره في باب تسمية المتضادين باسم واحد. فأما خفيت الثلاثي، فإنما هو بمعنى أظهرت لا غير. وقد ذكر أبو علي البغدادي هذا في جملة ما رده على ابن قتيبة، وقد غلط أبا عبيد القاسم بن سلام في هذه اللفظة كما غلط ابن قتيبة. باب تفعلت ومواضعها ذكر في هذا الباب: "تدهقنت: أي تشبهت بالدهاقين". (قال المفسر): ليس تدهقنت من هذا الباب، لأن وزنه في قول من جعل نونه أصلية تفعللت، وفي قول من جعلها زائدة تفعلنت. والقياس أن تكون أصلية لا زائدة.

باب ما يهمز أوسطه من الأفعال ولا يهمز، بمعنى واحد

باب ما يهمز أوسطه من الأفعال ولا يهمز، بمعنى واحد كذا وقعت هذه الترجمة في روايتنا عن أبي نصر عن أبي علي البغداي. وتأملتها في عدة نسخ فوجدتها كذلك، ولا وجه لذكر الأوسط في هذه الترجمة، لأن جميع ما أورده في هذا الباب ليس فيه شيء مهموز الأوسط، إلا ذأى العود يذأى. وسائر ما ذكره إما مهموز اللام، نحو رقأت في الدرجة، ورقأ الدم، وناوأت الرجل، ودارأته، ونحو ذلك، وإما مهموز الفاء، نحو تأممتك، والواجب إسقاط الأوسط من الترجمة ليصح الكلام. باب فعل (بفتح العين) يفعُل ويفعِل (بضمها وبكسرها) قال في هذا الباب:"أبق الغلام يأبق ويأبق". (قال المفسر): قد أنكر يأبق بالضم في باب ما جاء على يفعل مما يغير، ثم ثنى هنا ما قاله هناك، وأجازه كما ترى. وما قاله في هذا الباب هو الصحيح، وما تقدم غلط.

باب فعل (بفتح العين) يفعل ويفعل (بفتحها وضمها)

باب فعل (بفتح العين) يفعل ويفعل (بفتحها وضمها) ذكر في هذا الباب: "شم يشم ويشم". (قال المفسر): شم الذي يفتح شينه في مضارعه ليس ماضيه على فعل مفتوح العين كما توهم. ولو كان ذلك لكان شاذاّ ولزمه أن يذكره مع أبي يأبى، وركن يركن وإنما ماضيه فعل بكسر العين. وأما شم الذي يضم شينه في مضارعه، فهو فعل مفتوح العين بمنزلة رد وشد، ولا يجوز في هذه اللغة أن يكون ماضيه مكسور العين، ولو كان كذلك لكان شاذاّ، ولزم أن يذكره مع مت تموت ونعم ينعم مما قد ذكره بعد هذا. باب فعل (بفتح العين) يفعُل ويفعِل (بفتحها وكسرها) ذكر في هذا الباب:"عام إلى اللبن يعام ويعيم". (قال المفسر): هذا غلط، ولو كان يعام على ما توهم لكان شاذاً، ولزمه أن يذكره مع أبي يأبى، وركن يركن، لأن مستقبل فعل المفتوح العين، لا يأتي بالفتح إلا إذا كانت عين الفعل منه، أو لامه أحد حروف الحلق، وأما الفاء فإنها لا تراعى، وإذا كان كذلك، وجب أن يعتقد

باب فعل (بكسر العين) يفعل ويفعل (بفتحها وكسرها)

أن عام يعام كخاف يخاف، وهاب يهاب، ويعتقد أن عام يعيم كباع يبيع، والعين من عام ياء، لقولهم في مصدره العيمة. وذكر في هذا الباب من الأفعال الشاذة عن الجمهور، أبى يأبى، وركن يركن. وزاد الكوفيون غشا الليل يغشى، وقلى يقلى، وشجى يشجى، وحى يحيا. وحكى كراع عثا يعثى، مقلوب من عاث يعيث: إذا فسد. باب فعل (بكسر العين) يفعل ويفعل (بفتحها وكسرها) وقع في روايتنا عن أبي نصر عن أبي علي البغدادي، في هذا الباب، بئس يبأس ويبئس من لفظ البؤس، ضد نعم ينعم وينعم، ويئس ييأس وييئس، من اليأس ضد الرجاء. ووقع ي بعض النسخ يبس ييبس وييبس من اليبس ضد الرطوبة. وكلاهما صحيح، حكاه أبو إسحاق الزجاج وابن كيسان. فتكون الأفعال الشاذة من الصحيح على هذا خمسة. قال ابن قتيبة: وأما المعتل: فمنه ما جاء ماضيه ومستقبله بالكسر وذكر ثمانية أفعال وهي: ورم يرم وولى يلي، ووثق يثق، وومق يمق،

وورع يرع، وورث يرث، وورى الزند يرى، ووفق أمره يفق، وأغفل وطيء يطأ ووسع يسع، لأن أصل هذين الفعل ينكسر العين، وإنما انفتحا من أجل حروف الحلق، والدليل على أن الأصل في عينيهما الكسر، سقوط الواو منهما، ولو كانا مفتوحين في أصل وضعهما، لصحت الواو، لصحتها في وجل يوجل. وهذه الأفعال النادرة كلها، فاء الفعل منها واو. ولم يسمع فعل يفعل في شيء مما الواو فيه عين أو لام، إلا في فعل واحد من المعتل العين. قالوا: آن الشيء يئين. وإنما حكمنا عليه بأنه فعل يفعل مكسور العين، لأن معناه حان يحين، فهو من معنى الأوان. فلو كان ماضيه مفتوح العين، لكان مضارعه يؤون كقال يقول، لأن ذوات الواو من هذا الباب لا يجيء مضارعها على يفعل مكسور العين. وقد حكى أبو زيد أنه يقال: آن الشيء يئين أيناً. فظاهر هذا أن من ذوات الياء كباع يبيع بيعاً، ويقوى هذا أنهم قلبوه، فقالوا: أنى يأنى، على مثال رمى يرمي. وهذا كله تقوية لقول من يجعل (آن) من ذوات الياء، وهذه نقطة من ألفاظ التصريف المشكلة. فأما طاح الشيء يطيح، فمعناه: أن نجعله كآن يئين، وإن كانوا قد قالوا: تطوح يتطوح، لأنا وجدناهم قد قالوا: طوحته وطيحته. فكان حمله على ما يقتضيه الباب، أولى من حمله على الشذوذ. فإن قال قائل: فلعل طيحت إنما وزنه يعلت بمنزلة بيطرت، وأصله طيوحت، فقلبت واوه ياء، لوقوع ياء فيعلت الساكنة قبلها، كما قالوا: سيد وميت.

باب فعل (بكسر العين) يفعل ويفعل (بضمها وفتحها)

فالجواب: أن مجيء مصدره على التطيح دليل على أن وزنه فعلت لا فيعلت، لأن مصدر فيعل إنما يجيء على فيعلة، كبيطر بيطرة، وأما التفعيل فإنه خاص بمصدر فعل المشدد العين. وقد يجوز لقائل أن يقول: إذا كان قولهم: طيح يوجب عندك أن يكون طاح يطيح، كباع يبيع، فيجب أن يكون قولهم طوح يقتضي أن يكون طاح يطيح، كآن يئين، لأنه وجدنا من قال: طوح، ومن قال طيح، قد اتفقوا على أن قالوا طاح يطيح، ولم يحك أحد عنهم طاح يطوح، وهذا اعتراض صحيح، يوجب النظر في هذه الكلمة، والقول فيه يخرجنا عما نحن عليه، فلذلك نترك القول فيه. باب فعل (بكسر العين) يفعل ويفعل (بضمها وفتحها) ذكر ابن قتيبة من شواذ هذا الباب حرفين من الصحيح وهما: فضل يفضل ونعم ينعم. وحرفين من المعتل وهما: مت تموت، ودمت تدوم، وقد جاء من الصحيح ثلاثة أفعال نوادر غير ما ذكره. وحكى يعقوب حضر بحضر، وحكى ابن درستويه: نكل عن الشيء ينكل، وشمل يشمل.

باب المبدل

باب المُبدل ذهب ابن قتيبة في هذا الباب مذهب أهل اللغة، فجميع ما ذكره فيه من المبدل. وذلك غير صحيح على مقاييس النحويين، لأن البدل عندهم لايصح إلا في الحروف التي بينها تجاور في المخارج، أو تناسب في بعض الأحوال، وما مثل أشرت العودونشرته ووشرته، وجاحفت عنه وجاحشت، ولبج به، ولبط به، فلا يرونه بدلا، وإنما هي ألفاظ تتقارب صيغها ومبانيها، وتتدانى أغراضها ومعانيها، فيتوهم المتوهم أن أحدهما بدل من الآخر، ولو كان هذا التوهم صحيحا، لجاز لقائل أن يقول: إن الراء في سبطر ودمثر زائدة، لأنهم قد قالوا: سبط ودمرث، وهما مساويان لهما في المعنى ومقاربان في الصيغة والمبنى. وكذا كان ينبغي أن يقال: إن اللام في ازلغب الفرخ زائدة لقولهم في معناه زغب، وهذا يوجب أن يكون وزن سبطر ودمثر (فعلوا) ووزن ازلغب افلعل، وهذه أمثلة مرفوضة غير متناسبة. وقد جمع النحويون حروف البدل، وحصروها، وعددها عندهم اثنا عشر حرفاً يجمعها قولنا: إن طال وجدى همت، وجمعها أبو علي البغدادي في قول: طال يوم أنجدته، كما جمعوا الحروف التي يحكم عليها بالزيادة، فجعلوها عشرة، يجمعها قولنا: هويت السمان، وقوله: (أسلمني وتاه). وجعلوا للزيادة والإبدال مواضع مخصوصة لا تعدوها، ولا يحكمون على حرف أنه بدل من غيره، ولا زائد إلا بدليل وقياس، يعرف ذلك من أحكم صناعة التصريف.

باب الإبدال من المشدد

باب الإبدال من المشدد هذا الذي ذكره ابن قتيبة في هذا الباب، مذهب الكوفيين، لأنهم يرون أنه إذا اجتمعت ثلاثة أحرف من جنس واحد، جاز أن يبدل من الأوسط حرف مماثل لفاء الفعل، نحو صرصر وقلقل وكمكم ونحو ذلك، إلا أنهم لا يجعلونه قياساً يقاس عليه، وإنما هو موقوف على السماع. وأما البصريون فلا يرون ذلك، ويجعلون صر وقل وكم ونحوها أصولاً ثلاثية، وصرصر وقلقل وكمكم ونحوها أصولاً رباعية. ولذلك قال أبو العباس المبرد في الكامل: وليست الثرة عند النحويين البصريين من لفظ الثرثارة، ولكنها في معناها. وفي القولين جميعاً نظر، ليس هذا موضعه. باب ما أُبدل من القوافي [1] مسألة: أنشد في هذا الباب: أن أصوات القطا المنغص ... بالليل أصوات الحصى المنقز (قال المفسر): قال أبو علي البغدادي: هكذا رويناه عن ابن قتيبة:

(المنغص) بالغين المعجمة، والصاد غير المعجمة، وأصله من الغصص وهو الاختناق. يقال غصصت أغص، ورويته عن غيره: (المتقض) بالقاف، والضاد المعجمة، من الانقضاض، وهو الصحيح. [2] مسألة: أنشد في هذا الباب عن الفراء: كأن تحت درعها المنقد ... شطا رميت فوقه بشط (قال المفسر): أنشد أبو حاتم هذا الرجز لأبي النجم، ورواه: المنعط (بالطاء وعين غير معجمة 9، وهذا صحيح لا ضرورة فيه، وسنذكر الرجز بكماله، إذا انتهينا إلى شرح الأبيات إن شاء الله. [3] مسألة: وأنشد في هذا الباب: كأنها والعهد منذ أقياظ ... أس جراميز على وجاذ (قال المفسر): كذا رويناه عن أبي نصر، عن أبي علي، (منذ) بالنون، وحرف الروى مقيد، ووزنه غير صحيح، والصواب إسقاط النون من منذ، وإطلاق حرف الروى. كذا أنشده الشيباني في أرجوزة دالية أولها:

هل تعرف الدار بذي أجراذ ... دارا لسلمى وابنتي معاذ وسنذرها عند وصولنا إلى شرح الأبيات إن شاء الله تعالى. [4] مسألة: وأنشد في هذا الباب: حشورة الجنبين معطاء القفا ... لا تدع الدمن إذا الدمن طفا إلا بجزع مثل أثباج القطا (قال المفسر): هذا الرجز، بين فيه ابن قتيبة على أن الفاء حرف الروى، فلذلك جعله من هذا الباب، وقد يجوز أن تكون الألف هي حرف الروى، فلا يكون في الرجز عيب، ويكون خارجاً من باب الإجازة، إلا أن تكون هذه الأبيات من قصيدة التزم الراجز في جميعها الفاء، حاشا البيت الذي ذكر فيه القطا، فيكون حينئذ من هذا الباب. [5] مسألة: وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: قبحت من سالفة ومن صدغ ... كأنها كشية ضب في صقع (قال المفسر): قد روى صقغ بالغين معجمة، فهو خارج عن هذا الباب.

(ومن المقلوب) (قال المفسر) عول ابن قتيبة في القلب على مذهب أهل اللغة فسمى جميع ما ضمنه هذا الباب مقلوباً كما فعل في باب المبدل، وليس جميع ما ذكره مقلوباً عند أهل التصريف من النحويين، وإنما يسمى مقلوباً عندهم ما انقلب تفعيله بانقلاب نظم صيغته، كقولهم في (أشياء) إنها لفعاء، مقلوبة من شيئاء، وفي (سأى) إنه مقلوب من (ساء). أما مالا ينقلب تفعيله بانقلاب نظم صيغته، فإنهم لا يسمونه مقلوباً، وإن كانت حروفه قد تغير نظمها، كتغيير نظم المقلوب. كقولنا رقب وربق وقرب وقبر وبقر بورقن ونحو هذا مما سماه أبو بكر الزبيدي مقلوباً في كتاب العين. فكل واحد من هذه الألفاظ يقال إن وزنه فعل، وليس بعضها أولى بأن يكون أصلاً في بابه من بعض. وكما أن المبدل والمزيد لهما مقاييس يعرفان بها، ومواضع يستعملان فيها، لا يتعديانها إلى غيرها، فكذلك المقلوب. ولولا أن التشاغل بهذا الشأن يخرج كتابنا عن أن يكون كتاب لغة على أن يكون كتاب تصريف، لتكلمنا على كل كلمة تضمنها هذا الباب، وذرنا وجه القياس فيها، ولنا نذكر جملة من ذلك تنبه قارئها على بقية هذا الباب إن شاء الله. فمن مقاييس هذا الباب، أن يوجد لأحد اللفظين مادة مستعملة ولا توجد للآخر، فتحكم للذي له المادة المستعملة بأنه الأصل، كقولهم: ما أطيبه، وما أيطبه، لأنا نجد لأطيب مادة مستعملة مصرفة، وهي طاب

يطيب طيبا فهو طيب ولا نجد لأيطب مادة مصرفة، فنقضي على أطيب أنه الأصل، وأيطب مقلوب فيه، وكذلك قول الشاعر: حتى استفأنا نساء الحي ضاحية ... وأصبح المرء عمرو مثبتاً كاعي فإنا نزعم أن كاعياً مقلوب من كائع، لأنا وجدنا لكائع مادة مستعملة ولم نجد كعا مستعملاً إلا في هذا البيت، وهذا على مذهب يعقوب لأنه جعل هذا من المقلوب، وقد يجوز أن يكون من قولهم: كع يكع ويكون أصله كاعا بالتشديد، فأبدل من أحد المثلين ياء كما قال الآخر: نزور امرءاً أما الإله فيتقى ... وأما بفعل الصالحين فيأتمي أراد يأتمن وكذلك قولهم رأى وراء، وجدناهم يقولون: رأى يرى رؤية، ولم نجد لراء تصرفا في مستقبل ولا في مصدر، ولا غير ذلك مما يتصرف فيها في رأي، من أمر نهي واسم فاعل واسم مفعول. وبهذا الدليل قضينا على (أيس) بأنه مقلوب من (يئس). ومن ذلك قولهم: أنى الشيء يأنى، وآن يئين. زعم الأصمعي أن أنى له مصدر وهو إني على وزن رضا، ولا مصدر لآن، فينبغي على قوله أن يكون آن هو المقلوب عن أنى. وحكى أبو زيد (آن) يئين أيناً. فعلى قول أبي زيد لا يجب أن يكون واحد منهما مقلوباً عن الآخر، ويجب على قوله أن يكون (آن) من ذوات الياء. ومنها أن يوجد صيغة الجمع مخالفة لصيغة واحده، أعني أن يكون نظم حروفه الأصلية مختلفاً في الموضعين بالتقديم والتأخير نحو شيء وأشياء، لأنك تجد الهمزة في شيء آخراً: وتجدها في أشياء أولاً.

وكذلك قولهم: ناقة وأينق، وقوس وقسى. وكذلك قول الشاعر: هم أوردوك الموت حين لقيتهم ... وجاشت إليك النفس عند الترانق يريد (التراقي)، لأنها جمع ترقوة، وقياس ترقوه، أن تجمع تراقي لا ترتق، لأن ترانق إنما ينبغي أن يكون جميع تريقه كسفينه وسفائن وتريقة غير مستعملة. وكذلك لم تستعمل منها تروقة ونحوها، مما يمكن أن يجمع هذا الجمع، وكذلك قول ذي الرمة: تكاد أواليها تفرى جلودها ... ويكتحل التالي بعود وحاصب الأوالى فيه: مقلوبة عن الأوائل، لأن لها واحداً مستعملاً على نظم حروفها، ولا واحد لأوالى. ومما يعلم به أيضاً القلب، أن يرد لفظان لم يستعمل أحدهما إلا في الشعر، والآخر في الكلام كقول العجاج: ولا يلوح نبته الشتى ... لاث به الاشاء والعبري فإن لاثيا مستعمل في الكلام، وله فعل مصرف، يقال: لاث يلوث. و (لثا) غير مستعمل، ولا له فعل مصرف في معنى لاث يلوث. وقد

يُستدل أيضاً على أن (الأوالى) مقلوبة عن الأوائل بنحو من هذا الدليل، لأنها غير مستعملة في الكلام استعمال الأوائل. [1] مسألة: ذكر في باب المقلوب: "أجحمت عن الأمر، وأحجمت". (قال المفسر): زعم بعض اللغويين أن أجحمت بتقديم الجيم بمعنى تقدمت، وأحجمت بتأخير الجيم بمعنى تأخرت، والمشهور ما قاله ابن قتيبة. [2] مسألة: وذكر في هذا الباب: "ثنت اللحم ونثت". (قال المفسر): أنكره أبو علي البغدادي، وقال: الذي أحفظه نثت اللحم، وثنت، بالثاء المثلثة مقدمة فيهما جميعاً. [3] مسألة: وذكر فيه أيضاً: "عقاب عقبناة وعبنقاة". (قال المفسر): حكى ابن الأعرابي بعنقاة وحكاها أبو عبيد أيضاً. [4] مسألة: وذكر فيه أيضاً، شآني الأمر وشاءني بالشين معجمة: إذا حزنك".

باب ما تتكلم به العرب من الكلام الأعجمي

(قال المفسر): في كتاب سيبويه: سآني الأمر، وساءني، بالسين غير معجمة، وأنشد: لقد لقيت قريظة ما سآها ... وحل بدارهم ذل ذليل وذكرهما يعقوب بن السكيت جميعاً في كتاب القلب والإبدال، وأنشد: مر الحمول فما شأونك نقرة ... ولقد أراك تشاء بالأظعان باب ما تتكلم به العرب من الكلام الأعجمي [1] مسألة: حكى في هذا الباب عن أبي عبيدة: "عزل شخت: أي صلب، بالشين معجمة". (قال المفسر): أنكر ذلك أبو علي البغدادي وقال: الرواية عن أبي عبيدة: سخت بالسين غير معجمة. وكذلك حكى في البارع عن أبي عمرو: السخيت: الشديد، وهو عجمي معرب، بالسين غير معجمة، على وزن ظريف. وحكى عن يعقوب، كذب سخت، على وزن فلس،

باب دخول بعض الصفات مكان بعض

وسخيت على وزن ظريف: أي خالص، وأما الشخت (بالشين معجمة)، فهو الرقيق من كل شيء، وليس الصلب، وهو أيضاً أعجمي معرب، قال رؤبة: (في جسم شخت المنكبين قوش). [2] مسألة: وأنشد للأعشى: بساباط حتى مات وهو محرزق". وقال: هو بالنبطية هزروق: أي محبوس، أو نحو ذلك". (قال المفسر): كان الأصمعي يرويه محرزق بتقديم الراء على الزاي، وكذلك رواه أبو زيد، وكان أبو عمرو الشيباني يرويه، بتقديم الزاي على الراء، فذكر ذلك لأبي زيد، فقال: أبو عمرو أعلم بهذا منا، يريد أن أبا عمرو أعلم باللغة النبطية، لأن أمه كانت نبطية. باب دخول بعض الصفات مكان بعض هذا الباب أجازه قوم من النحويين، أكثرهم الكوفيون، ومنع منه قوم، أكثرهم البصريون وفي القولين جميعاً نظر، لأن من أجازه دون

شرط وتقييد، لزمه أن يجيز سرت إلى زيد، وهو يريد مع زيد، قياساً على قولهم: إن فلاناً لظريف عاقل، إلى حسب ثاقب، أي مع حسب، ولزمه أن يجيز زيد في عمرو، أي مع عمرو، قياساً على قول النابغة الجعدي: (ولوح ذراعين في بركة) أي مع بركة، ويلزمه أن يجيز مررت في زيد، أي بزيد، قياساً على قوله: وخضخضن فينا البحر حتى قطعته ... على كل حال من غمار ومن وحل ويلزمه أن يجيز في زيد ثوب، أي عليه، قياساً على قول عنترة: بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس يتوأم وهذه المسائل لا يجيزها من يجيز إبدال الحروف، ومن منع ذلك على الإطلاق، ولزمه أن يتعسف في التأويل لكثير مما ورد في هذا الباب،

لأن في هذا الباب أشياء كثيرة، يبعد تأويلها على غير وجه البدل، كقوله: إذا ما امرؤ ولي على بوده ... وأدبر لم يصدر بإدباره ودى وقوله: إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها ولا يمكن المنكرين لهذا أن يقولوا: إن هذا من ضرورة الشعر، لأن هذا النوع قد كثر وشاع، ولم يخص الشعر دون الكلام. فإذا لم يصح إنكار المنكرين له، وكان المجيزون له لا يجيزون في كل موضع، ثبت بهذا أنه موقوف على السماع، غير جائز القياس عليه، ووجب أن يطلب له وجه من التويل، يزيل الشناعة عنه، ويعرف كيف المأخذ فيما يرد منه، ولم أر فيه للبصريين تأويلا أحسن من قول ذكره ابن جني في كتاب الخصائص. وأنا أورده في هذا الموضع، وأعضد بما يشاكله من الاحتجاج المقنع، إن شاء الله تعالى.

(اعلم)، أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف جر، والثاني بحرف جر آخر، فإن العرب قد تتسع، فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه مجازا، وإيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر. كما صححوا عور وحول، إيذاناً بأنهما لما كانا في معنى أعور واحول واجتوروا بمعنى تجاوروا. وكما جاءوا بمصادر بعض الأفعال، على غير ما يقتضيه القياس، حملاً لذلك الفعل على فعل هو في معناه كقوله: وإن شئتم تعاوذنا عاوذا وكان القياس تعاوذا، فجاء به على عاوذ، إذ كان تعاوذ راجعاً إلى معنى عاوذ؛ وكذلك قول القطامي: (وليس بأن تتبعه اتباعاً) والقياس تتبعاً، ولكن لما كان تتبع يؤول إلى معنى اتبع، حمل عليه وكذلك وجدنهم يحملون الشيء على الشيء إذا كانت بينهما علاقة لفظية، أو معنوية فاللفظية كحملهم (تعد، وتعد، وأعد) على (يعد) في حذف الواو، ونكرم، وتكرم ويكرم، على (أكرم) في حذف الهمزة، وأما المعنوية فكقول أبي كبير الهذلي: ما إن يمس الأرض إلا منكب ... منه وحرف الساق طي المحمل لأن قوله: ما إن يمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق، يفيد أنه طاوٍ، فأنابه لذلك مناب الفعل، لو ذكره، فصار كقوله: طوى طي

المحمل، ولهذا نظائر كثيرة في كلامهم، فكذلك حملوا بعض هذه الحروف على بعض، لتساوي المعاني وتداخلها. فمن ذلك قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)، وأنت لا تقول رفث إلى المرأة، إنما تقول: رفث بها، أو رفث معها، ولكن لما كان الرفث بمعنى الإفضاء، وكان الإفضاء يتعدى بإلى، كقولك: أفضى إلى الشيء، أجرى الرفث مجراها لفظا، لموافقته له معنى، وكذلك قول القحيف العقيلي. إذا رضيت على بنو قشير ... لعمرو الله أعجبني رضاها إنما عدى فيه رضي بعلى، لأنا الرضا بمعنى الإقبال. وقولك أقبلت عليه بودي، بمعنى رضيت عنه. وكان الكسائي يقول: حمله على ضده، وهو سخطت، لأن العرب قد تحمل الشيء على ضده، كما تجعله على نظيره، وكذلك قول الآخر: إذا ما امرؤ ولى على بوده ... وأدبر لم يصدر بإدباره ودى إنما عدى فيه (ولى) بعلى، وكان القياس أن يعديها بعن، لأنه إذا ولى عنه بوده، فقد ضن عليه وبخل، فأجرى التولي بالود، مجرى الضنانة والبخل، أو مجرى السخط، لأن توليه عنه بوده، لا يكون إلا عن سخط عليه، وكذلك قول عنترة: بطل كأن ثيابه في سرحة

إنما استعمل (في) مكان (علي)، لأن ثيابه، إذا كانت عليها، فقد صارت السرحة موضعاً لها، كما أن من ركب دابة واستوى عليها، فقد صار هرها موضعاً له، فتأويله تأويل الظرف، وكذلك قول الآخر: وخضخضن فينا البجر حتى قطعته ... على كل حال من غمار ومن وحل إنما كان ينبغي أن يقول: خضخضن بنا، ولن خضخضتهن البحر بهم: إنما هو سعي فيما يرضيهم، وتصرف في مرادهم. كما أنك إذا قلت: نهضت بزيد إلى السوق، أفاد قولك: نهضت به إلى ما يفيده، وقولك: سعيت في مراده، وتصرفت في أمره. وكذلك قول زيد الخيل: ويركب يوم الروع فيها فوارس ... يصيرون في طعن الأباهر والكلى إنما كان الوجه أن يقول: يصيرون بطعن، ولكن قولك: هو بصير بكذا، يرجع إلى معنى هو حكيم فيه، متصرف في وجوهه، وكذلك قول النابغة: فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلى به القار أجرب إنما كان وجهه أن يقول: عند الناس أو في الناس، ولكنه إذا كان عندهم وفيهم بهذه المنزلة، فهو مبغض إليهم، وكذلك قول الراعي:

رعته أشهراً وخلا عليها ... فطار التي فيها واستغارا كان الوجه أن يقول: وخلالها، كما قال الآخر: دار لقابلة الغرانق ما بها ... إلا الوحوش خلت له وخلا لها ولكن قوله: وخلالها، يفيد ما يفيده قوله: إنه وقف عليها وكذلك قوله تعالى (من أنصارى إلى الله): إنما صلح ذكر (إلى) هاهنا لتضمن أنصارى معنى الإضافة لأن من نصره، فقد أضاف نصرته إلى نصرة الله تعالى. وكذلك قول الشاعر: شدخت غرة السوابق فيهم ... في وجوه إلى اللمام الجعاد إنما صلح ذكر (إلى) هاهنا، لأن الغرة إذا شدخت ملأت الجبهة: فوصلت إلى اللمة. وقد يعدون الفعل بحرف الجر وهو غنى عنه، إذا كان في معنى ما لا يتعدى إلا به، كقول الفرزدق: كيف تراني قالباً مجنى ... أقلب أمرى ظهره للبطن قد قتل الله زياداً عني

وقتل لا يحتاج في تعديه إلى (عن) ولا غيرها. ولكن لما كان الله تعالى قد صرفه عنه حين قتله، أجرى قتل مجرى صرف، هذا قول ابن جني. وقد يجوز أن يكون بمنزلة قولهم ججبت البيت عن زيد أي نبت في ذلك منابه، وفعلت في ذلك مراده، فيكون معنى (قد قتل الله زياداً عني) أي فعل به ما كنت أنا أفعله لو قدرت عليه ولا يكون على ما قاله ابن جني. فعلى نحو هذه التأويلات، ينبغي أن يحمل ما ورد من هذا الباب، وهو مقصور على السماع، لا يجوز القياس عليه، ولكن ما سُمع منه فهذا مجازه. وجميع ما أورده ابن قتيبة في هذا الباب، إنما نقله من تاب يعقوب ابن السكيت في المعاني، وفيه أشياء غلط فيها يعقوب، واتبعه ابن قتيبة على غلطه، وأشياء يصح أن تتأول على غير ما قاله، ونحن نبين ذلك ن شاء الله تعالى. [1] مسألة: أنشد في هذا الباب لطرفة: وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الرفيع المصمد وقال: معناه: في ذروة [البيت]، وهذا لا يلزم، لأنه يمكن

أن يريد آويا إلى ذروة، كما قال تعالى: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) فليس فيه على هذا حجة. وكذلك ما ذكره من قولهم: جلست إلى القوم [أي فيهم]، إنما تأويله: جلست منضماً إلى القوم، أو آويا إليهم: [2] مسألة: وقال في هذا الباب: "رميت على القوس: أي عنها وأنشد: (أرمي عليها وهي فرع أجمع) (قال المفسر): إنما جاز استعمال (على) هاهنا، لأنه إذا رمى عنها، فقد وضع السهم عليها للرمي، وكذلك ما أنشده من قول ذي الإصبع العدواني: لم تعقلا جفرة على ولم ... أود صديق ولم أنل طمعسا إنما جاز استعمال (على) هاهنا، لأنها إذا عقلاها عنه، اعتدا بها عليه، فكأنه قال لم تعقلا جفرة تستدان بها على، وقد يقال: ضربت على يديك، أي بسبك من أجلك. [3] مسألة: وقال في هذا الباب: "حدثني فلان من فلان: أي عنه، ولهيت من فلان: أي عنه".

(قال المفسر): إنما جاز استعمال (من) هاهنا مكان (عن) لأنه إذا حدثه عنه، فقد أتاه بالحديث من قبله. وكذلك إذا لهى عنه، فقد لهى من أجله وبسببه، فتكون (من) الأولى هي التي يراد بها ابتداء الغاية، (ومن) الثانية، إن شئت جعلتها التي يراد بها الغاية وإن شئت جعلتها التي بمعنى من أجل كقوله تعالى: (الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف). [4] مسألة: وقال في هذا الباب: "إنما تأتي الباء بمعنى عن بعد السؤال" قال الله جل ذكره (فاسأل به خبيرا) [أي عنه] ويقال: أتينا فلاناً نسأل به: أي عنه. وأنشد لعلقمة بن عبدة: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب (قال المفسر): إنما جاز استعمال الباء مكان (عن) بعد السؤال، لأن السؤال عن الشيء إنما يكون عن عناية به، واهتبال بأمره فلما كان السؤال بمعنى العناية والاعتبال، عدى مما يعديان به. وأما قوله تعالى: (فاسأل به خبيرا) فإنه يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون فاسأل عنه العلماء ذوى الخبر من خلقه، فيكون من هذا الباب.

والثاني: أن يريد فاسأل بسؤالك إياه خبيراً. أي إذا سألته فقد سألت خبيراً عالماً، كما تقول: لقيت بزيد الأسد، أي لقيت الأسد بلقائي إياه. فالمسئول في هذا الوجه: هو الله عز وجل، والباء على وجهها والمسئول في الوجه الأول غير الله تعالى، والباء بمعنى عن والقول الثاني عندي أجود، وإن كان الأول غير بعيد. [5] مسألة: وقال في هذا الباب: "رميت عن القوس، بمعنى: بالقوس، وأنشد لامريء القيس: (تصد وتبدى عن أسيل وتتقى) وقال: يريد باسيل، وحكى عن أبي عبيدة في قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى) أي بالهوى". (قال المفسر): قد قال قبل هذا، إن قولهم: رميت على القوس، معناه: عن القوس، وأن (على) بمعنى (عن)، ثم ذكر هاهنا أن (عن) بمعنى الباء، فحصل من كلامه أن (على) بدل من (عن)، و (عن) بدل من الباء. فهي إذن بدل من بدل، وهذا غير صحيح، لأن (عن) في قولهم: رميت عن القوس، ليست ببدل من شيء، لأن معنى عن التجاوز، كقولك خرجت عن البلد. وهذا المعنى موجود في الرمي، لأن السهم يتجاوز القوس، ويسير عنها.

فهي على بابها، وكذلك قولهم: رميت بالقوس، ليست الباء فيه بدلا من حرف آخر، لأنه بمنزلة قول رميت بالحجر زيداً. والمعنى رميت السهم بالقوس، كما تقول: دفعته عن نفسي بالسيف. وقد أنكر بعض اللغويين استعمال الباء هاهنا، وقال: لا يجوز رميت بالقوس إلا أن تلقيها عن يدك، وإنما الصواب: رميت عن القوس، كما قال طفيل: رمت عن قسي الماسخي رجالنا ... بأجود ما يبتاع من نبل يثرب وإنما أنكر هذا المنكر ذلك، لأنه توهم قولهم: رميت بالقوس، بمنزلة قولك: رميت بالشيء: إذا ألقيته عن يدك، وليس المعنى على ما ظن، إنما المعنى رميت السهم بالقوس، على ما ذكرناه. وأما قوله في بيت امرئ القيس: إنه أراد بأسيل، فإنما يلزم ما قال، إذا جعل (عن) متعلقة بتصد، على إعمال الفعل الأول. فكان يجب على هذا أن يقول تعد بأسيل، كما تقول: صد بوجهه. وإذا جعلت (عن) متعلقة بتبدى، لم يلزم ما قال: لأنه يقول: أبديت عن الشيء: إذا أهرته، قال عبد بني الحسحاس - يصف ثوراً يحضر في أصل شجرة كناساً له:

يهيل ويبدى عن عروق أنها ... أعنة خراز جديداً وباليا والوجه في هذا البيت أن يعمل الفعل الثاني، ويجعل (عن) متعلقة به، لأنه لو أعمل الأول، للزمه أن يقول: تصد وتبدى عنه بأسيل، لأن الفعل الأول إذا أعمل، فحكم الفعل الثاني: أن يضمر فيه. وأما ما حكاه عن أبي عبيدة: أن معنى قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى) أي: ما ينطق بالهوى، فإنه لا يلزم. و (عن) في الآية على بابها، غير بدل من شيء آخر، والمراد: أن نطقه لا يصدر عن هوى منه، إنما يصد رعن وحي. [6] مسألة: وقال في قوله تعالى: (فردوا أيديهم في أفواههم) معناه: إلى أفواههم. (قال المفسر): هذا التأويل لا يلزم، و (في) هاهنا: على بابها المتعارف في اللغة، لأن الأيدي هاهنا لا يخلو أن يراد بها الأيدي التي هي الجوارح، والأيدي التي هي النعم؛ فإن كان المراد بها الجوارح، فالمعنى أنهم عضوا أيديهم من الغيظ على الرسل، فيكون قوله تعالى: (عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) ولا يعضون على

أيديهم إلا بأن يدخلوها في أفواههم. ويدل على هذا قول الشاعر: يردون في فيه عشر الحسود وإن كان المراد بالأيدي النعم، فالمعنى أنهم ردوا كلام الرسل وإنذارهم عليهم، فلم يقبلوه، وسمى ما جاءت به الرسل من إنذارهم نعما، لأن من خوفك من عاقبة ما تصير إليه، وأمرك بما فيه نجاتك، فقد أنعم عليك. فصار هذا بمنزلة قول القائل: رددت كلامه في فيه، إذا لم تقبله منه، فالأيدي والأفواه على هذا التأويل للرسل، وهي في القول الأول للكفار. [7] مسألة: وأنشد: (نلوذ في أم لنا ما تعتصب). وقال: المعنى بأم. وأنشد للأعشى: (وإذا تنوشد في المهارق أنشدا). (قال المفسر): إنما يقال: لذت بالشيء: إذا لجأت إليه، وإنما جاز استعمال (في) هاهنا، لأن المراد بالأم سلمى، وهي أحد جبل طيء، وجعله أما لهم: إذ كان يحفظهم ممن يروقهم، كما تفعل الأم. وإذا لاذوا بالجبل، فقد صاروا فيه. وأما قول الأعشى: ربى كريم لايكدر نعمة ... فإذا تنوشد في المهارق أنشدا

فإن المعروف أن يقال: نشدتك بالله. وإنما صلح ذكر (في) هاهنا لأنه إذا حلف بالمهارق، فإنما يحلف بما فيها من كلام الله تعالى: [8] مسألة: قال: ويقال: سقط لفيه: أي على فيه، وأنشد: (فخر صريعاً لليدين وللفم) وأنشد: كأن مخواها على ثفناتها ... معرس خمس وقعت للجناجن (قال المفسر): إنما جرت العادة بأن يقال: سقط على رأسه، أو على صلاه، أو قفاه، وإنما جاز استعمال اللام هاهنا، لأنه إذا سقط على عضو من أعضائه، فقد حصل التقدم لذلك العضو، على كل ما تبعه من بقية الأعضاء، فإذا قال: سقط لفيه، فكأنه قال: سقط مقدما لفيه ... وكذلك بقية هذا الباب

[9] مسألة: وأنشد لابن أحمر: (يسقى فلا يروى إلى ابن أحمرا) وقال: معناه منى". (قال المفسر): هذا من مواضع (مِنْ) وجاز استعمال (إلى) هاهنا، لأن الري من الماء ونحوه لا يكون إلا عن ظمإ إليه. فلما كان الظمأ هو السبب الداعي إلى الرين استعمل الحرف الذي يتعدى به الظمأ، مكان الحرف الذي يتعدى به الري، فصار استعمالهم الحرف الذي يتعدى به أحد الضدين، مكان الحرف الذي يتعدى به ضده، كاستعمالهم (على) التي يتعدى بها السخط، مكان التي يتعدى بها الرضا في قوله: (إذا رضيت على بنو قشير) ويجوز أن يكون أراد يسقى ابن أحمر، فلا يروى ظمؤه إلىَّ، فترك ذكر الظمأ لما كان المعنى مفهوما، وليس ينبغي لك أن تستوحش من تركه ذكر الفاعل، لأنه قد أقام الضمير الذي كان مضافاً إليه مقامه، فصار مستتراً في الفعل. ألا ترى أن التقدير: فلا يروى هو، ويشبه هذا قولهم: (هذا جحر ضب خرب) في أحد القولين. ألا ترى

أن تقديره خرب جحره، فحذف الجحر، الذي كان فاعلا، وأقام الضمير الذي كان الجحر مضافاً إليه مقامه، فصار مستتراً في خرب. وقد وجدناهم يحذفون الفاعل دون أن يقيموا أشياء مقامه، اتكالاً على ما فهم السامع، كقوله تعالى: (حتى توارث بالحجاب) وقول عنترة: وأدفئه إذا هبت شمالاً ... بليلاً حرجفا بعد الجنوب وأنشد أبو علي البعدادي في نوادره: سقى دمنتين ليس لي بهما عهد ... بحيث التقى الدارات والجرع الكبد وقال أبو الحسن الأخفش: إذا قلت: عجبت من ضرب زيد، فالفاعل محذوف، لعلم السامع، وليس بمضمر في الضرب، لأن المصادر أجناس، والأجناس، لا يضمر فيها. [10] مسألة: وقال في هذا الباب: "يقال: هو أشهى إلى من كذا، أي عندي إلى آخر الفصل".

(قال المفسر): (إلىَّ) و (عند) في هذا الموضع تتقارب معانيهما فلذلك تسد كل واحدة منهما مسد الأخرى. ألا ترى أنه إذا قال: هو أشهى عندي من العسل، فمعناه أنه أحب إليه منه، (وإلى) في هذا الموضع أشد تمكناً من (عند). وكذلك قوله: "تقال إذا راد النساء حزيدة ... صناع فقد سادت إلى الغوانيا [أي عندي] لأنها إذا سادت عنده العواني، فقد صارت أحبهن إليه. وقوله: وكان إليها كالذي اصطاد بكرها ... شقاقاً وبغضاً أو أطم وأهجرا فإنما جاز استعمال (إلى) هاهنا، لأنه إذا كان عندها كالذي اصطاد بكرها في البغض، كان بغيضاً إليها مثله. وأما قوله: (وذكرك سبات إلى عجيب)

فيجوز أن يكون على ما تأولناه في الأول، لأنه إذا كان عجيباً عنده، كان حبيباً إليه. ويجوز أن يكون (عجيب) بمعنى معجب، فيكون التقدير: وذكرك معجب لي، فتكون (إلى) في هذا الوجه بمنزلة اللام. وأما قوله: لعمرك إن المس من أم جابر ... إلى ونلم آته لبغيض فليس من هذا الباب، لأن معناه: لبغيض إلى. فإلى فيه على بابها. [11] مسألة: وأنشد في هذا الباب لذي الإصبع العدواني: لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتحزوني وقال معناه: لم تفضل في الحسب علي." (قال المفسر): من ذهب هذا المذهب الذي ذكره ابن قتيبة، وهو الذي حكاه يعقوب، فإنما جعل أفضلت من قولهم: أفضلت على الرجل، إذا أوليته فضلاً. فلذلك جعل (عن) بمعنى (علي). وجاز استعمال عن هاهنا - وإن كان الموضع لعلى - لأنه إذا أفضل عليه، فقد جاز الإفضال عنه، واستبد به دونه. وقد يجوز أن يكون أفضلت، بمعنى صرت ذا فضل، فتكون (عن) على بابها غير واقعة

موقع (على). كأنه قال: لم تنفرد بفضل عني. وأما قول قيس ابن الخطيم: لو أنك تلقى حنظلاً فوق بيضنا ... تدحرج عن ذي سامه المتقارب فإنه يصف شدة انضمام بعضهم إلى بعض وتدانيهم، فيقول: أو القيت حنظلاً فوق بيضنا، لتدحرج عليها، ولم يسقط إلى الأرض. وجاز ذكر (عن) هاهنا لأنه إذا تدحرج عليها، انتقل عن بعضها إلى بعض. [12] مسألة: وأنشد: (لقحت حرب وائل عن حيال وقال معناه: بعد حيال. (قال المفسر): (عن) و (بعد) يتقارب معناهما ويتداخلان، فلذلك يقع كل واحد منهما موقع الآخر، لأن (عن) تكون لما عدا الشيء وتجاوزه، و (بعد) لما تبعه وعاقبه، فقولك: أطعمه عن جوع، وكساه عن عُرى، يفيد أنه فعل الإطعام بعد الجوع، والكسوة بعد العرى. وكذلك إذا قال: لقحت الناقة بعد حيال، أفاد ذلك أن اللقاح عدا وقت الحيال وتجاوزه. وعلى نحو هذا يتأول جميع ما ذكره في هذا الباب.

[13] مسألة: وقال في هذا الباب في قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) أي في مُلكه. وكان ذلك على عهد فلان أي في عهده". (قال المفسر): (في) و (على) يتداخل معنياهما في بعض المواضع، فلذلك يقع بعضهما موقع بعض، لأن معنى على: الإشراف والارتفاع، ومعنى في: الوعاء والاشتمال وهي خاصة بالأمكنة، ومكان الشيء قد يكون عالياً مرتفعاً، وقد يكون متسفلاً منخفضاً. ويدل على ذلك استعمالهم فوق وتحت في الظروف، وأحدهما يدل على العلو، والآخر على السفل، ومما يبين ذلك قول عنترة: (بطل كأن ثيابه في سرحة وهو يريد: على سرحة، لأنها إذا كانت عليها، فقد صارت ظرفاً لها. وأما قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) فقد يجور أن يكون من هذا الباب، وقد يمكن أن تكون (على) إنما استعملت هاهنا، لأن معناه: أنهم تقولوا على ملك سليمان ما لم يكن فيه، كما يقال: تقولت عليه ما لم يقل. * * * ونحن نشرح أمر (على) هذه شرحا يدفع الإشكال عنها، ويُجعل مثالاً يقاس عليه ما ورد في الكلام منها، إن شاء الله: (اعلم) أن أصل (على): العلو على الشيء وإتيانه من فوقه كقولك:

أشرفت على الجبل، ثم يعرض فيها إشكال في بعض مواضعها التي تتصرف فيها، فيظن الضعيف في هذه الصناعة أنها قد فارقت معناها. فمن ذلك قول القائل: زرته على مرضى، وأعطيته على أن شتمني، وإنما جاز استعمال (على) هاهنا، لأن المرض من شأنه أن يمنع من الزيارة. وكذلك الشتم بمنع المشتوم من أن يعطى شاتمه شيئاً. والمنع قهر للممنوع، واستيلاء عليه، فهي إذن لم تخرج عن أصلها بأكثر من أن الشيء المعقول، شبه بالشيء المحسوس، فخفي ذلك على من لا دربة له في المجازات والاستعارات. ويدل على دخول معنى الاستعلاء في هذا قولهم اجعل هذا الأمر تحت قدمك، فيستعملون فيه لفظة التحت. ومثل هذا قولهم: فلان أمير على البصرة. إنما المراد أنه قد ملكها، وصارت تحت حكمه ونظره. واستعمالهم لفظتي التحت والفوق هاهنا، يوضح ما قلناه. ألا تراهم يقولون: فلان تحت يد فلان، وتحت نظره وإشرافه، وهو فوقه في المنزلة والمكانة، وإن كان دونه في ما يحسس ويرى. وكذلك قولهم: تقولت عليه في ما لم يقل، إنما جازا استعمال (على) فيه، لأنه إذا نسب إليه القول، فقد حمله إياه، وعصبه به. والتحميل: راجع إلى معنى العلو، يدل على ذلك قولهم: هذا الأمر معصوب برأسه، ومقلد من عنقه. ويوضح ذلك قول الشاعر: وما زلت محمولاً على ضغينة ... ومضطلع الأضغان مذ أنا يافع ألا تراه قد جعل الضغينة محمولة عليه، كما يحمل الشيء على

الظهر. وجعل نفسه مضطلعة بذلك، كاضطلاع الحامل بحمله. وكذلك قولهم: كان ذلك على عهد كسرى: إنما استعملت فيه (على)، لأنه إذا كان في عهده، فقد صار العهد متحملاً له، والشيء المتحمل في الأمور المحسوسة، من شأنه أن يكون عالياً على حامله. ونبين ذلك - وإن كان ما قدمناه يغني عنه نحو قولهم اتصل بي هذا الأمر على لسان فلان. وقوله تعالى: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم) أي على لسانه. وقولهم: تقلدت الأمر. ويقول المتضمن للشيء المتكفل به. هذا الأمر في عنقي وعلى أن أقوم به وهذا المعنى أراد الشاعر بقوله: إن لي حاجة إليك فقالت ... بين أذني وعاتقي ما تريد ومن ظريف هذا الباب قول ابن الرقيات. ألا طرقت من آل بثنة طارقه ... على انها معشوقة الدل عاشقه وأبين ما فيه: أن تكون (عاشقة) صفة لطارقة، على معنى التقديم والتأخير، كأنه قال: طارقة عاشقة، على أنها معشوقة. وذلك أن من شأن المعشوق أن يُعرض عن عاشقه ويهجره، فيريد أن هذه الطارقة لا يمنعها معرفتها بعشق محبها لها أن تعشقه، فهو من باب قولهم: زرته على مرضي، وأكرمته على أنه أهانني. فقس ما يرد عليك من هذا الباب على هذه الأمثلة، فإنك تجده غير خارج عما وضعت عليه هذه اللفظة من معنى الإشراف: حقيقة ومجازاً، إن شاء الله تعالى.

[14] مسألة: وأنشد في هذا الباب لأبي ذؤيب: شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نثيج وقال: معناه شربن من ماء البحر. ثم قال بعد هذا في باب زيادة الصفات في قوله تعالى: (عينا يشرب بها عباد الله): إن معناه يشربها. ولا أعلم من جعل الباء في الآية زائدة. وفي بيت أبي ذؤيب: بمعنى (من). ولا فرق بين الموضعين، فإذا احتج له محتج بأنه لا يجوز تقدير زيادة الباء في البيت، لأنه يصير التقدير: شربن ماء البحر، وماء البحر لا يشرب كله، إنما يشرب بعضه، لزمه مثل ذلك في العين. وأيضاً، فإن العرب تقول: أكلت الخبز، وشربت الماء، ومعلوم أنه لم يأكل جميع نوع الخبز، ولم يشرب جميع نوع الماء، وإنما مجاز ذلك على وجهين: أحدهما: أن العموم قد يوضع موضع الخصوص، كما يوضع الخصوص موضع العموم.

والآخر: أن الأنواع والأجناس، ليس لأجزائها أسماء تخصها من حيث هي أجزاء، إنما يسمى كل جزء منها باسم جنسه أو نوعه، فيقال لكل جزء من الماء ماء، ولكل جزء من العسل عسل، ونحو ذلك، ولا يحكم على الباء بالزيادة، لأنها بدل في كل موضع، ولكن لها مواضع مخصوصة، سنذكرها إذا انتهينا إلى باب الصفات، إن شاء الله تعالى. [15] مسألة: وقال في هذا الباب:"يقال: إن فلاناً لظريف عاقل، إلى حسب ثاقب: أي مع حسب". (قال المفسر): (إلى) و (مع): تتداخلان في معنييهما، فيوجد في كل واحدة منهما معنى صاحبتها، لأن الشيء إذا كان مع الشيء، فهو مضاف إليه وإذا كان مضافاً إليه فهو معه. ألا ترى أنه إذا قال: فلان ظريف عاقل إلى حسب، فمعناه أن له ظرفاً وعقلاً مضافين إلى حسب ثاقب، وكذلك جميع ما ذكره في هذا الباب. وأما قول ابن مفرغ: شدخت غرة السوابق فيهم ... في وجوه إلى اللمام الجعاد فيجوز أن يكون من هذا الباب، ويجوز أن يريد أن غررهم شدخت في وجوههم، حتى انتهت إلى اللمام، فلا يكون من هذا الباب. [16] مسألة: وقال في هذا الباب:"يقال: هديته له وإليه".

(قال المفسر): جاز وقوع اللام موقع (إلى)، ووقوع (إلى) موقع اللام، لما بين معنييهما من التداخل والتضارع. ألا ترى أن اللام لا يخلو من أن تكون بمعنى الملك، أو الاستحقاق، أو التخصيص، أو العلة والسبب. وإلى للانتهاء والغاية. وكل مملوك فغايته أن يلحق بمالكه، وكل مستحق فغايته أن يلحق بمستحقه، وكل مختص فغايته أن يلحق بمختصه، وكل معلول فغايته أن يلحق بعلته، فكلها، يوجد فيها معنى (إلى)، وموضوعها الذي وضعت له. [17] مسألة: وقال في هذا الباب: "يقال اركب على اسم الله: أي باسم الله. ويقال: عنف عليه، وبه، وخرق عليه، وبه" إلى آخر الفصل. (قال المفسر) قد ذكرنا (على) فيما تقدم، وقلنا إنها موضوعة لمعنى العلو: حقيقة أو مجازاً، حسا أو عقلاً، وإنما جاز استعمالها ههنا بمعنى الباء، لأن (الباء) و (على)، تقعان جميعاً موقع الحال ويشتركان في ذلك، فيقال: جاء زيد بثيابه، وجاءني زيد وعليه ثيابه، فيكون المعنى واحداً، وقد يكون لقوله: جاء زيد بثيابه، معنى آخر وهو أن يراد أن جاء بها، غير لا بس لها. فهذا غير ما نحن بسبيله. والفرق بين المسألتين أن الباء تتعلق في هذا الوجه الآخر بالفعل الظاهر، وفي الوجه الأول، تتعلق بمحذوف، لأن كل حرف جر، وقع موقع حال أو صفة أو خبر، فإنه يتعلق أبداً بمحذوف، وذلك المحذوف هو ما ناب الحرف منابه، ووقع موقعه، ولأجل هذا لم يجب أن يكون

قولنا: اركب على اسم الله: بمنزلة قولنا: اركب على الفرس، لأن (على) هاهنا متعلقه بنفس الفعل الظاهر، ولا موضع لها من الإعراب. وهي في قولنا: اركب على اسم الله متعلقة بمحذوف، ولها موضع من الإعراب، وهي متعلقة بالحال التي نابت منابها، والتقدير: اركب معتمداً على سام الله، وكذلك قوله: شدوا المطي على دليل دائب أي معتمدين على دليل دائب. وأما ما حكاه من قولهم: عنف به، وعنف عليه، فليسا من هذا الباب، إنما عنف به: كقولك: ألصق به العنف وعنف عليه، كقولك: أوقع عليه العنف، فكل واحد من الحرفين، يمكن فيه أن يكون أصلاً على موضعه الذي وضع له. وكذلك خرق به، وخرق عليه. وأما قول أبي ذؤيب: وكأنهن ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع فليس كقولهم: اركب على اسم الله، ولا كقول الآخر: شدوا المطى على دليل دائب

لأن (على) في بيت أبي ذؤيب، متعلقة بنفس يفيض، لأنه يقال: أفاض بالقداح إذا دفع بها. فالظاهر من أمر (على) هذه، أن تكون بدلاً من الباء، وإنما جاز لعلى أن تقع موقع هذه الباء، لأنه إذا قال: دفعت به، فمعناه كمعنى أوقعت عليه الدفع. وهذا التفسير، على قول من جعل يصدع في هذا البيت بمعنى يفصل الحكم ويبينه، من قوله تعالى (فاصدع بما تؤمر)، ومن قال: إن (يصدع) هاهنا: بمعنى يصبح، فيجوز على قوله، أن تكون (على) متعلقة بيصدع، كأنه قال: ويصدع على القداح، كقولك يصيح عليها، فتقدم الجار هاهنا على ما يتعلق به، كتقدم الظرف في قول طرفة تلاقي وأحياناً تبين كأنها ... بنانق غر في قميص مقدد أراد، وتبين أحياناً، والقول الأول: هو الوجه. [17] مسألة: وأنشد في هذا الباب للبيد أن مصفحات في ذراه ... وأنواحاً عليهن المآلي وقال: على بمعنى مع".

(قال المفسر): لا وجه لهذا الذي قاله، و (على) هنا غير موضوعة موضع غيرها. وأحسب الذين زعموا أن (على) هاهنا بمعنى (مع)، إنما قالوا ذلك، لأن (على) يراد بها الإشراف على الشيء. والمآلي: ليست مشرفة على الأنواح، إنما هي خرق يمسكنها في أيديهن، وهذا غلط وسهو، لأن العرب تجعل ما أشرف على جزء من الجسم بمنزلة ما أشرف عليه كله، فيقولون: جاء وعليه خف جديد، ورأيته وعليه خاتم فضة، ويجوز أن يريد: على أيديهن المآلي، فيحذف المضاف، ويقيم المضاف إليه مقامة، ويدل على ما ذكرناه من توسعهم في هذه المعاني، قول الهذلي: فرميت فوق ملاءة محبوكة ... وأبيت للإشهاد حزة ادعى وإنما أراد أنه رمى بالسهام وعليه ملاءة. [19] مسألة: وأنشد في هذا الفصل أيضا للشماخ وبردان من خال وسبعون درهماً ... على ذاك مقروظ من القد ماعز (قال المفسر): قوله: على ذاك يريد مع ذاك. يصف قواساً ساوم بقوس، فطلب من مشتريها هذه الأشياء، وطلب منه مع ذلك جلداً مقروظاً أي مدبوغاً بالقرظ ماعزاً، وهو الشديد المحكم وسنذكر هذا في شرح الأبيات بأبلغ من هذا إن شاء الله تعالى. والقول عندي في هذا البيت أن (على) فيه على وجهها، وإنما

أراد من المبتاع أن يزيده على ما اشترط من الثمن جلدا مقروظاً، كما تقول: أبيعك هذه السلعة بكذا وكذا درهما، وتزيدني على ذلك ثوباً. وقال بعض أصحاب المعاني: غنما أراد منه أن يعطيه ما ذكر من الثمن مجموعاً في عيبة مقروظة. وهذا التأويل أيضاً يوجب أن تكون (على) غير مبدلة من شيء، لأن الشيء إذا جُعل في وعاء، صار الوعاء عليه، لأنه يحيط به من جهاته. [20] مسألة: وحكى عن أبي عبيده أنه قال في قوله تعالى: (إذا اكتالوا على الناس يستوفون) أن معناه من الناس، وأنشد لصخر الغي: متى ما تنكروها تعرفوها ... على أقطارها علق نفيث (قال المفسر): إنما قال أبو عبيدة هذا، لأنه يقال: اكتلت من زيد الطعام، أي سألته أن يكيله على، واكتال منى طعاما، أي سألتني أن اكتاله عليه، فيستعملون (من) في البائع و (على) في المبيع منه، وجاز استعمال (على) هاهنا، لأن معنى كال عليه، عرض عليه كيله. فكان يجب أن يقال في الآية: إذا اكتالوا من الناس، لأن المراد، استدعوا منهم أن يكيلوا عليهم.

وأما هذا البيت، فليس لصخر الغي، إنما هو لأبي المثلم الهذلي في شعر، يخاطب صخراً الغي. وهذا مما غلط فيه يعقوب فنقل ابن قتيبة كلامه، ورواه يعقوب في كتاب المعاني: (متى أقطارها) وقال: أراد من أقطارها. وحكى أن هذيلاً تستعمل (متى) بمعنى (من)، وفسره فقال: يريد كتيبة. أي متى (ما تقولوا ما هذه، فتشكوا فيها، ترد عليكم فيها الدماء تنفثها نفثاً. وكذلك قال السكري في أشعار الهذليين: إنه يعني كتيبة. وهذا التفسير ظريف، لأن الشعر كله لا ذكر فيه المكتيبة. وسنتكلم في حقيقة معناه، ونقول فيه ما يجب، عند انتهائنا إلى الكلام في معاني الأبيات، إن شاء الله تعالى. [21] مسألة: وأنشد لامرئ القيس: وهل يعمن من كان أحدث عهده ... ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال وقال: معناه من ثلاثة أحوال. (قال المفسر): كذا حكي يعقوب عن الأصمعي أن (في) هاهنا بمعنى من، وأجاز أيضاً أن تكون بمعنى (مع) كما قال: (ولوح ذراعين في بركة) وكونها بمعنى (مع)، أشبه من كونها بمعنى (من)، رواه الطوسي:

أو ثلاثة أحوال" وكل هؤلاء ذهبوا إلى أن الأحوال هاهنا الستون، جمع حول. والوجه فيه عندي أن الأحوال هاهنا جمع حال، لا جمع حول. وإنما يريد، كيف ينعم من كان أقرب عهده بالنعيم ثلاثين شهراً وقد تعاقبت عليه ثلاثة أحوال، وهي اختلاف الرياح عليه، وملازمة الأمطار له، والقدم المغير لرسومه. فتكون (في) هاهنا هي التي تقع بمعنى واو الحال في نحو قولك: مرت عليه ثلاثة أشهر في نعيم، أي وهذه حاله. [22] مسألة: وقال في هذا الباب: يقال: فلان عاقل في حلم، أي مع حلم، وأنشد: قول الجعدي: (ولوح ذراعين في بركة وقال معناه مع بركة. (قال المفسر): إنما جاز استعمال (في) بمعنى (مع)، لتقاربهما في معنييهما، لأن الشيء، إذا كان في الشيء، فهو معه. [23] مسألة: وأنشد لعمرو بن قميئة. بودك ما قومي على أن تركتهم ... سليمي إذا هبت شمال وريحها وقال: معناه: على ودك. (قال المفسر): كذا قال يعقوب في كتاب المعاني، ومنه نقل

أكثر هذه الأبواب. وقد غلط يعقوب في معنى البيت، واتهمه ابن قتيبة على غلطه. وليس في هذا البيت حرف أبدل من حرف، ولا (ما) فيه زائدة، على ما قال. إنما الباء هاهنا بمعنى القسم، و (ما) استفهام في موضع رفع على الابتداء، وقومي: خبره. والمعنى: بحق المودة التي بيني وبينك: أي شيء [قومي] في الكرم والجود عند هبوب الشمال. يريد زمان الشتاء، لأنهم كانوا يتحدثون بإطعام الطعام فيه، كما قال طرفة: نحن في المشتاة ندعوا الحفلى ... لاترى الآدب فينا ينتقر ويعني بريحها، النكباء، التي تناوحها، كما قال ذو الرمة. (إذا النكباء ناوحت الشمالا) ويروى: بودك، بفتح الواو، فمن رواه هكذا، فمعناه بحق صنمك الذي تعبدين. ومن رواه بضم الواو، جاز أن يريد المودة، وجاز أن يريد الصنم، لأن الصنم يقال له: ود وود، قريء بهما جميعاً. ويقال في المودة أيضاً: ود، وود (بالفتح، والكسر). ولو أراد على مودتك قومي على ما توهم يعقوب وابن قتيبة، لم

باب زيادة الصفات

يقل: إذا هبت شمال وريحها. إنما كان يجب أن يقول: ما هبت شمال وريحها، كما تقول: لا أكلمك ما هبت الريح، وما طار طائر، ونحو ذلك. باب زيادة الصفات سمي ابن قتيبة في هذه الأبواب حروف الجر صفات، وهي عبارة كوفية لا بصرية. وإنما سموها صفات، لأنها تنوب مناب الصفات، وتحل محلها. فإذا قلت: مررت برجل من أهل الكوفة، أو رأيت رجلاً في الدار، فالمعنى: مررت برجل كائن من أهل الكوفة، ورأيت رجلاً مستقراً في الدار. وحروف الجر تنقسم من طريق الزيادة وغير الزيادة ثلاثة أقسام: قسم لا خلاف بين النحويين في أنه غير زائد. وقسم لا خلاف بينهم في أنه زائد، وإن كان في ذلك خلاف لم يلتفت إليه، لشذوذ قائله عما عليه الجمهور. وقسم ثالث فيه خلاف، وإنما خصصنا الباء بالذكر دون غيرها نم حروف الجر، لأن ابن قتيبة، لم يذكر في هذا الباب حرفاً غير الباء، إلا ما ذكره من بيت حميد في آخر الباب. فالباءات التي لا يجوز أن يقال فيها إنها زائدة: تسعة أنواع، منها الباء التي لا يصل الفعل إلى معموله إلا بها، كقولك: مررت بزيد. وهذه هي التي تسمى باء الإلصاق، وباء التعدية. ومنها الباء التي تدخل على الاسم المتوسط بين العامل ومعموله،

كقولك ضربت بالسوط زيداً، وكتبت بالقلم الكتاب، وشربت بالماء الدواء. وهذه الباء تسمى باء الاستعانة. والفرق بينها وبين الأولى: أن الفعل في النوع الأول متعد إلى الاسم الذي باشرته الباء، من غير توسط شيء بينهما. وفي النوع الثاني تتعدى إلى شيء بتوسط شيء آخر. وقد يقتصرون على أحد الاسمين، فيقولون: ضربت بالسوط، وكتبت بالقلم، ولا يذكرون المضروب ولا المكتوب، وقد يقولون ضربت زيداً وتبت الكتاب، ولا يذكر الاسم المتوسط، الذي بوساطته باشر العامل معموله. ومنها الباء التي ننوب مناب واو الحال كقولهم: جاء زيد بثيابه: أي وثيابه عليه، وقوله: ومستنة كاستنان الخروف ... قد قطع الحبل بالمرود أي والمرود فيه: دفوع الأصابع ضرح الشمـ ... وس نجلاء مؤنسة العود ومنها الباء التي تأتي بمعنى البدل والعوض كقولهم: هذا بذاك ومنها الباء التي تأتي بمعنى (عن) بعد السؤال، كقوله: فإن تسأوني بالنساء فإنني ... بصير بادواء النساء طبيب

ومنها الباء التي تأتي بمعنى القسم. ومنها الباء التي تقع في التشبيه، كقولهم: لقيت به الأسد، ورأيت به القمر، أي لقيت بلقائي إياه الأسد، ورأيت برؤيتي إياه القمر. ومنها الباء التي تقع بعد ما ظاهره غير الذات، وإنما المراد الذات بعينها، كقوله: إذا ما غزا لم يسقط الخوف رمحه ... ولم يشهد الهيجا بألوث معصم أي لم يشهد الهيجاء من نفسه برجل ألوث. وكذلك قوله: يا خير من يركب المطى ولا ... يشرب كأساً بكف من بخلا ومنها ياء السبب كقوله غلت تشذر بالذحول كأنها ... جن البدى رواسيا أقدامها أي بسبب الذحول، ومن أجلها. فجميع هذه الباءات لاتجوز زيادتها، لا أعرف في ذلك خلافاً لأحد. وأما الزائدة التي لا خلاف في زيادتها إلا ما لا يعتد به، فكل باء

دخلت على الفاعل في نحو قوله تعالى: (وكفى بالله شهيداً) وقول الشاعر: ألم يأتيك والانباء فنمى ... مما لافت لبون بنى زياد وهذا البيت أول القصيدة. وكذلك ما دخل منها على المبتدء في نحو قوله: بحسبك في القوم أن يعلموا ... بأنك فيهم غنى مضر وإنما لزم أن تكون هنا زائدة، لأن الفاعل لا يحتاج إلى واسطة بينه وبني فعله لشدة اتصاله. والمبتدأ سبيله أن يكون معرى من العوامل اللفظية. * * * وأما الباء التي فيها خلاف، فكل باء دخلت على معمول وعامله، يمكن أن يتعدى إليه نفسه، من غير وساطه حرف بينهما، كقوله تعالى (عيناً يشرب بها عباد الله).

وقول أبي ذؤيب: (شربن بماء البحر ...) فللنحويين في هذا النوع من الباءات أقوال مختلفة، وهي كثيرة ولنا نذكر ما تضمنه هذا الباب عنها إن شاء الله تعالى. [1] مسألة: أما قوله تعالى (تنبت بالدهن) فإنه يقرأ بفتح التاء وضمها. فمن قرأ بالفتح - وعليه أكثر القراء - فالباء غير زائدة. ومن قرأ بضم التاء - وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير - ففي هذه القراءة ثلاثة أقوال: أحدها: ما ذكره ابن قتيبة: من زيادة الباء، وأحسبه قول أبي عبيدة. ويقوى هذا القول ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ: (يخرج الدهن). والقول الثاني: أن تكون هاهنا هي الباء التي تعاقب واو الحال في نحو ما حكيناه من قول الشاعر: (قد قطع الحبل بالمرود أي والمرود فيه. فيكون المعنى: تنبت نباتها والدهن فيه والقول الثالث: أن تكون على حدها في قراءة من فتح التاء، لأنه قد حكى نبت البقل وأنبت بمعنى واحد. [2] مسألة: وأما قوله تعالى (اقرأ باسم ربك) وتأوياه إياه على زيادة

الباء، فقول غير مختار، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما ذكره، والثاني: أن تكون الباء غير زائدة، ولكنها على بابها في الإلصاق، كأنه قيل: ألصق قراءتك باسم ربك. فالمقروء في هذين القولين هو الاسم والقول الثالث: أن تكون الباء بمعنى الاستعانة، والمقروء غير الاسم، كأنه قال: اقرأ كل ما تقرأ باسم ربك. أي قدم التسمية قبل قراءتك. وهذا خير الأقوال، لأن السنة غنما وردت بتقديم التسمية قبل كل ما يقرأ من القرآن، فهو إذن من باب بريت بالسكين القلم: في أن الفعل يصل إلى أحد المفعولين بتوسط الاسم الآخر. [3] مسألة: أما قوله تعالى (عينا يشرب بها عباد الله) ففيه أيضاً ثلاثة أوجه أحدها زيادة الباء، والثاني: أن يكون بمعنى (من) كالتي في قول أبي ذؤيب: (شربن بماء البحر ...) والثالث: أن يكون المعنى أنهم يلصقون بها شربهم. وهذا على رأي من لا يرى زيادة شيء من القرآن. [4] مسألة: وأما قول أمية: "إذ يسقون بالدقيق" وقول الراعي، "لا يقرأن بالسور"، ففيهما أيضاً قولان: الزيادة، والإلصاق على ما قدمناه.

وأما قوله: بواد يمان ينبت الشت صدره ... وأسفله بالمرخ والشبهان فيحتمل وجهين: أحدهما زيادة الباء، فيكون موضع المجرور بها نصباً عطفاً على الشت كما نقول: ضرب زيد عمراً وبكر خالداً. فتعطف الفاعل على الفاعل والمفعول على المفعول. والثاني: أن تكون غير زائدة، فيكون قوله: وأسفله، مرفوعاً بالابتداء. وقوله بالمرخ: في موضع رفع على خبره، كأنه قال: وأسفله مثمر بالمرخ، ونحو ذلك من التقدير. [5] مسألة: وأما قول الأعشى: (ضمنت برزق عيالنا أرماحنا). فإنما جاز دخول الباء فيه على الرزق، لأن ضمنت بمعنى تكفلت، والتكفل يتعدى بالباء. تقول: تكلفت بكذا، فصار نحو ما قدمناه من حملهم الفعل على نظيره. وكذلك قول الراجز: (نضرب بالسيف ونرجو بالفرج)

إنما عدي الرجاء بالباء، لأنه بمعنى الطمع، والطمع يتعدى بالباء، كقولك: طمعت بكذا قال الشاعر: طمعت بليلى أن تريع وإنما ... تقطع أعناق الرجال المطامع [6] مسألة: وأما قوله تعالى: (وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً)، فإن في هذه الآية وجوهاً من القراءات والإعراب: فمن قرأ يساقط بباء مضمومة أو بتاء مضمومة وخفف السين، وكسر القاف، فالباء على قراءته زائدة، أو للإلصاق، على ما قدمناه من رأى من يرى أن القرآن ليس فيه شيء زائد. والهز بحسب هاتين القراءتين والرأيين ليس فيه شيء زائد، وهو واقع على الجذع. وقوله (رطباً): مفعول تساقط، وفي تساقط ضمير فاعل، فمن قرأ يساقط، فذكر، كان الضمير عائداً إلى الجذع. ومن قرأ تساقط فأنث، كان الضمير عائداً إلى النخلة. وقد قيل: إنه عائد على الجذع، وأنث الجذع إذ كان مضافاً على مؤنث هو بعضه. كما قالوا ذهبت بعض أصابعه. ومن قرأ يساقط عليك، ففتح الياء، وشدد السين، وفتح القاف، وذكر الضمير. فلا يكون الضمير على قراءته إلا عائداً على الجذع. ومن فتح وشدد وأنث الضمير، كانالضمير الفاعل عائداً على النخلة، أو على الجذع، ويكون الهز في هاتين القراتين، واقعاً أيضاً على الجذع، والباء زائدة، أو للإلصاق، كما كان في القراءتين

المتقدمتين غير أن الرطب في هاتين القراءتين الأخريين، ينصب على التمييز والتفسير، لأن التساقط لا يتعدى إلى مفعولين، كما تتعدى المساقطة. ويجوز في هاتين القراءتين الثانيتين، أن يكون الرطب منتصباً بهزي، أي هزي رطباً جنياً بهزك جذع النخلة. فيكون كقولهم: لقيت بزيد كرماً وبراً. أي لقيت الكرم والبر بلقائي إياه، فتكون الباء على هذا غير زائدة. ويكون الضمير الفاعل في تساقط، عائداً على الرطب، لا على الجذع. وكذلك في قراءة من أنث، يكون عائداً على الرطب، لا على النخلة، لأن الرطب يذكر ويؤنث. وفي تأنيث الضمير، وهو عائد على الرطب نظر، لأنه قد قال تبارك وتعالى: (جنيا) فذكر صفته، وكان يجب على هذا أن تكون جنية، غير أنه أخرج بعض الكلام على التذكير، وبعضه على التأنيث، كما قال الأعشى: قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا ... وأرى ثيابك بايات همدا فقال: باليات على تأنيث الجمع، وهمدا على تذكيره، وقد جاء في القرآن ما هو أظرف من هذا وأغرب وهو قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) فأفرد اسم كان، على

لفظ (من)، وجمع خبرها على معناها، فصار بمنزلة قول القائل لا يدخل الدار إلا من كان عقلاء. وهذه مسألة قد أنكرها كثير من النحويين، وقد جاء نظيرها في كتاب الله تعالى كما ترى. [7] مسألة: وأما قوله تعالى (فستبصر ويبصرون، بأيكم المفتون). فإنما ذهب من ذهب إلى زيادة الباء هنا، لأنه اعتقد أن المفتون اسم المفعول من فتنته، فوجب على هذا الاعتقاد أن يقال: أيكم المفتون على الابتداء والخبر. وصارت الباء هاهنا زائدة، كزيادتها في قولهم: بحسبك قول السوء، وقول الشاعر: بحسبك في القوم أن يسلموا ... بأنك فيهم غنى مضر والأجود في هذه الآية، أن يكون المفتون مصدراً جاء على زنة المفعول، كقولهم: خذ ميسوره، ودع معسوره، فيرتفع بالابتداء، يكون قوله: بأيكم، في موضع رفع على أنه خبره كأنه قال: بأيكم الفتون، كما تقول: بأيكم المرض .. وقد قيل إن الباء هاهنا فمعنى في، كما تقول زيد بالبصرة وفي البصرة. والمفتون: اسم مفعول لا مصدر، ومرفوع بالابتداء، والمجرور: متضمن لخبره، كأنه قال: في أيكم المفتون؟ كما تقول: في أيكم الضال؟ وفي أي الطافتين الكافر؟

[8] مسألة وأما قول امريء القيس: (هصرت بغصن ذي شماريخ ميال. فنه محمول على الوجهين المتقدمين من زيادة الباء، أو من معنى الإلصاق. ويقوى قول من قاله بالإلصاق في هذه الأشياء، أنه لو قال: أوقعت الهصر بالغصن، لأفاد ما يفيده قوله هصرت غصناً. وكذلك لو قال: أوقع الهز بالجذع، والشرب بالماء، لأفاد ما يفيده قوله: هز الجذع، واشرب الماء، فكأنه كلام حمل على ما هو مثاله في المعنى، على ما تقدم من حملهم بعض الأشياء على بعض. [9] مسألة: وأما قول حميد بن ثور: أبى الله إلا أن سرحة مالك ... على كل أفنان العضاه تروق فإنما جعل (على) فيه زائدة، لأن راق يروق، لا يحتاج في تعديه إلى حرف جر إنما يقال الشيء يروقني. والمعنى: تروق كل أفنان. وإنما استعمل (على) هاهنا، لأنها إذا راقتها، كان لها فضل وشرف عليها. وقد يمكن في هذا البيت، على رأى من ينكر الزيادة، أن بقدر في الكلام محذوف، كأنه قال: أبى الله لا أن أفنان سرحة مالك.

باب إدخال الصفات وإخراجها

فيكون قوله: على كل أفنان في موضع خبر (أن)، كما يقال: أبى الله إلا أن فضل ربى على كل فضل، أي فوق كل فضل فالأفنان على هذا القول: جمع فنن، وهو الغصن. وعلى هذا القول حكاه ابن قتيبة، وهو قول يعقوب: ينبغي أن يكون جمع فن وهو النوع، كأنه قال: تروق كل أنواع العضاه. وقد يجوز أن يقدر في صدر البيت من الحذف مثل ما قدرناه، فتكون الأفنان: الأغصان. كما أنه يمكن في القول الثاني، أن تكون الأفنان: الأنواع، ولا يحتاج إلى تقدير محذوف. باب إدخال الصفات وإخراجها هذا الباب موقوف على السماع، ولا يجوز القياس عليه، وإنما لم يجز أن يجل مقياساً كسائر المقاييس، لأن الفعل نما يحتاج في تعديه إلى وساطة الحرف، إذا ضعف عن التعدي إلى معموله بنفسه، فتعديه بلا واسطة، دليل على قوته، وتعديه بواسطة، دليل على ضعفه، فمن أجاز تعديه بنفسه تارة، وتعديه بواسطة تارة، من غير أن يكون بين الحالتين اختلاف، كان كمن أجاز اجتماع الضدين. ولهذا والذي ذكرناه، أنكر هذا الباب قوم من النحويين واللغويين ودفعوه، وتكلفوا أن يجعلوا لكل واحد من اللفين معنى غير معنى الآخر، فأفضى بهم الأمر إلى تعسف شديد. وإن ذهبنا إلى الكلام على كل لفظة من الألفاظ التي تضمنها هذا

الباب، على الرأيين جميعاً، طال ذلك جداً، واحتجنا إلى أن نتكلف ما تلكفه المنكرون له. ولكنا نقول في ذلك قولاً متوسطاً بين القولين أخذاً بطرف من كلا المذهبين، ينتفع به من يقف على معناه، ويستدل به على سواه، إن شاء الله تعالى. * * * (اعلم) أن العرب قد تحذف حروف الجر من أشياء هي محتاجة إليها، وتزيدها في أشياء هي غنية عنها. فإذا حذفوا حرف الجر مما هو محتاج إليه، فذلك لأسباب ثلاثة: أحدها: أن يكثر استعمال الشيء، ويفهم الغرض منه والمراد فيحذف الحرف تخفيفاً، كما يحذفون غير ذلك من كلامهم، مما لا يقدر المنكرون على أن يدفعوه، كقولهم: (أيش لك)، يريدون: أي شيء. و (يلمه)، وهم يريدون: ويل أمه، وويل لامه. وذلك كثير جداً، كحذفهم المبتدأ تارة، الخبر تارة، وغير ذلك مما يعلمه أهل هذه الصناعة. والثاني: أن يحمل الشيء على شيء آخر وهو في معناه، ليتداخل اللفظان، كما تداخل المعنيان، كقولهم: استغفر الله ذنبي، حين كان بمعنى استوهبه إياه: والثالث: أن يضطر إلى ذلك شاعر، كنحو ما أنشده الكوفيون من قول جرير: تمرون الديار ولم تعوجوا ... كلامكم على إذن حرام

وإنما زاد حرف الجر فيما هو غنى عنه، فذلك لأسباب أربعة: أحدها: تأيد المعنى وتقوية عمل العامل، وذلك بمنزلة من كان معه سيف صقيل، فزاده صقلاً، وهو غني عنه، أو بمنزلة من أعطى آلة يفعل بها، وهو غير محتاج إليها، مئونة له على فعله. والثاني: الحمل على المعاني، ليتداخل اللفظان، كتداخل المعنيين، كقول الراجز: (نضرب بالسيف ونرجو بالفرج فعدى الرجاء بالباء حين كان بمعنى الطمع، وكقول الآخر: أردت لكيلا يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود حين كان بمعنى إرادتي واقعة لهذا الأمر. والثالث: أن يضطر شاعر. والرابع: أن يحدث بزيادة الحرف معنى لم يكن في الكلام. وهذا النوع أظرف الأنواع الأربعة، وألطفها، مأخذاً، وأخفاها صنعة. ومن أجل هذا النوع، أراد الذين أنكروا هذا الباب أن يجعلوا لكل معنى غير معنى الآخر، ضاق عليهم المسلك، وصاروا إلى التعسف. وهذا النوع كثير في الكلام، يراه من منحه الله طرفا ًمن النظر، ولم يمر عليه معرضاً عنه. فمن لك قولهم: شكرت زيداً، وشكرت لزيد، يتوهم كثير من أهل هذه الصناعة: أن دخول اللام هاهنا كخروجها، كما توهم ابن قتيبة ويعقوب، ومن كتبه نقل ابن قتيبة ما ضمنه هذا الباب، وليس كذلك، لأنك إذا قلت: شكرت زيداً، فالفعل متعد إلى مفعول واحد. وإذا قلت: شكرت لزيد، صار

بدخول اللام متعدياً إلى مفعولين، لأن المعنى، شكرت لزيد فعله. وإنما يترك ذلك الفعل اختصاراً. ويدلك على ظهور المفعول في قول الشاعر: شكرت لكم آلاءكم وبلاءكم ... وما ضاعمعروف يكافئه شكر ومن هذا النوع قولهم: كلت الطعام، ووزنت الدراهم، فيعدونهما إلى مفعول واحد، ثم يدخلون اللام فيعدونهما إلى مفعولين، فيقولون: كلت الطعام لزيد، ووزنت الدراهم لعمرو. وإذا قالوا: كلت لزيد، ووزنت لعمرو، فإنما يتركون ذكر المكيل والموزون اختصاراً. وكذلك إذا قالوا: كلت زيداً ووزنت عمراً، حذفوا حرف الجر والمفعول الثاني اختصاراً، وثقة بفهم السامع. وذكر ابن درستويه، أن نصحت زيداً، ونصحت لزيد من هذا الباب، وأن اللام إنما تدخله لتعديه إلى مفعول آخر، وأنهم إذا قالوا: نصحت لزيد، فإنما يريدون نصحت لزيد رأيي، أو مشورتي، فيترك ذكر المفعول اختصاراً، كما يتركون ذكره في قولهم: سكرت لزيد. وذكر أنه من قولهم نصحت الثوب: إذا خطته فان معنى نصحت لزيد رأيي: أحكمته، أي كما يحكم الثوب إذا خيط. فعلى تلك الأوجه التي ذكرتها ينصرف هذا الباب. [1] مسألة: وذكر في هذا الباب قول الله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) وقال معناه يخوفكم بأوليائه.

أبنية الأسماء

(قال المفسر): يريد أنه مثل قولهم: خوفت زيداً الأمر، وخوفته بالأمر. فالمخوفون على ما قاله: هم المؤمنون، والأولياء، وهم الكفار، هم المخوف منهم. وقد يجوز أن يكون الأولياء هم المخوفين، دون المؤمنين، ويكون المعنى أن الشيطان إنما يخوف الكفار لأنهم يطيعونه. وأما المؤمنون، فلا سلطان له عليهم. كقوله تعالى موضع آخر: (إنما سلطانه على الذين يتولونه) فليس في هذا تقدير حرف محذوف. أبنية الأسماء (فَعلة وفِعلة): قال في هذا الباب: "العُقاب: لقوة، ولقوة، فأما التي تسرع اللقح فهي لقوة بالفتح". (قال المفسر): هذا الذي قاله، قول أبي عمرو الشيباني، وحكى الخليل غيره: (لقوة) بكسر اللام، للتي تسرع اللقح. وكذا حكى أبو عبيد في الأمثال: "كانت لقوة صادفت قبيساً". والقبيس الفحل السريع اللقاح. يضرب مثلاً للرجلين يلتقيان وهما على مذهب واحد، وخلق واحد، فيتفقان في سرعة.

(فُعلة وفِعلة): قال في هذا الباب "خُصية وخِصية". (قال المفسر): قد أنكر خصية بكسر الخاء في باب ما جاء مضموماً والعامة تكسره، ثم أجازها في هذا الموضع كما ترى. (فَعلة وفَعلة) قال في هذا الباب: "الوسمة والوسمة التي يختضب بها". (قال المفسر): قد أنكر تسكين السين في باب ما جاء محركاً والعامة تسكنه، ثم أجازه هاهنا. * * * (فَعال وفِعال): قال في هذا الباب: "سداد من عوز، وسداد. وهذا قوامهم وقوامهم، وحكى فيه: ولد تمام وتمام". (قال المفسر): لم يجز في باب الحرفين يتقاربان في اللفظ والمعنى، في السداد من العوز والقوام من الرزق، غير الكسر. وأجاز فيهما هاهنا: الفتح. وكذلك لم يجز في الباب المذكور غير ولد تمام، بالفتح، وأجاز فيه هاهنا الكسر. * * * فعَال وفُعال: قال في هذا الباب: "خوان وخوان".

(قال المفسر): قد أنكر ضم الخاء من خوان في باب ما جاء مكسوراً والعامة تضمه، ثم أجازه هاهنا. (فُعال وفَعيل): قال في هذا الباب: "وحكى الفراء صغار وصغير". (قال المفسر): كذا وقع في بعض النسخ بالغين معجمة، ووقع في بعضها صفار وصفير بالفاء. وكلاهما جائز. وهكذا اختلفت نسخ إصلاح المنطق في هذه اللفظة، في رواية أبي علي البغدادي، وحكى الفراء عن بعضهم، قال: قال في كلامه: رجل صغار يريد صغيراً. وذكر أن أحمد بن عبيد رواه صغار بالتشديد. وفي رواية ثعلب التي رويناها عن عبد الدايم بن مرزوق القيرواني: وحكى الفراء عن بعضهم قال: في كلامه صفار يريد صفيراً. كذا وقع بالفاء، جعله مصدر صفر بضمه. * * * (فعَالة وفِعالة): ذكر في هذا الباب: "الجنازة والجنازة". (قال المفسر): قد أنكر فتح الجيم في باب ما جاء مكسوراً والعامة تفتحه، وقد تكلمنا في هذا هناك، وإنما أذكر هذا ونحوه لأنبه على المواضع التي اختلف فيها قوله. * * *

(فْعَالة وفُعالة) قال في هذا الباب:"عليه طلاوة من الحسن وطلاوة" (قال المفسر): قد أنكر فتح الطاء في باب ما جاء مضموماً والعامة تفتحه، ثم أجازه هاهنا. (مَفعل ومَفْعِل): قال في هذا الباب: "وما كان من ذوات الياء والواو مثل مغزى من غزوت، ومرمى من رميت، فمفعل منه مفتوح: اسماً كان أو مصدراً، إلا مأقي العين، ومأوى الإبل، فإن العرب تكسر هذين الحرفين، وهما نادران". (قال المفسر): هذا قول الفراء، وقد حكاه عنه في شواذ الأبنية، وأكثر ما يجيء هذا المثال بالهاء كالمعصية والمأييه: مصدر أبيت، ومحنية الوادي. وقالوا حميت من الأنفة حمية ومحمية، وقليت الرجل مقلية: إذا أبضغته، فأما مأقى العين، فذهب غير الفراء إلى أن الميم فيه أصل غير زائدة، واستدل على ذلك بقولهم في معناه: (ماق) على وزن فلس، وجعل وزنه (فاعلاً) منقوصاً، كقاضٍ وغازٍ. وحكى أيضاً (مؤق) منقوص على وزن معط، وإن كان يخالفه في زيادة الميم، ووزنه فُعل. وذكر ابن جني هذين الاسمين في الأبنية المستدركة على سيبويه، وأجاز فيهما أن يكونا مخففين من موقى على مثال كرسين ومأقى على مثال دهري، وجعلهما مما جاء على صورة المنسوب، ويقوى

هذا القول: أن مأق العين قد جاءت فيه لغات كثيرة، الميم في جميعها أصل. فسبيل الميم في المأقى والموقى المنقوصين ألا يكون كذلك. وليس يبعد على قول الفراء، أن تكون الميم في هذين الحرفين زائدة، وإن كانت في سائر الكلمة أصلاً، ويكون هذا من الألفاظ التي تتقارب صيغها مع اختلاف أصولها، كقولهم: عين ثرة وثرثارة في قول البصريين، وكذلك قولهم: سبط وسبطر. ومن المعتل: شاة وشياه وشوى. وقالوا في جمع مسيل الماء: مسل ومسلان، فجعلوا الميم أصلا، وهم يقولون مع ذلك سال الماء يسيل، ومثل هذا كثير. * * * (مُفعل ومِفعل): ذكر في هذا الباب أنه يقال: منتن ومنتن [بكسر الميم لا يعرف غيره] ثم قال: فمن أخذه من أنتن، قال: منتن ومن أخذه من (نتن) قال: منتن". (قال المفسر): يمكن أن يكون منتن المكسور الميم والتاء، من أنتن أيضاً، غير أنهم كسروا الميم اتباعاً لكسرة التاء، كما قالوا: المغيرة، وهي من أغار، وقد قالوا أيضاً منتن بضم الميم والتاء، جعلوا التاء تابعة لضمة الميم، وقد ذكر ابن قتيبة نحواً من هذا في باب شواذ الأبنية.

(مِفعل وفعِال): قال في هذا الباب: "مقرم وقرام". (قال المفسر): المعروف مقرمة (بالهاء)، وكذا حكى أبو عبيد والخليل، وقد رواه عنه أبو علي البغدادي. * * * (مِفعل ومِفعال): قال في هذا الباب: "مقول ومقوال". (قال المفسر): كذا وقع في النسخ بالقاف، وأنكره أبو علي البغدادي وقال: "الذي أحفظ منول ومنوال بالنون". والمنول بالنون: الخشبة التي يلف عليها الحائك الثوب. والأشهر فيه (منوال) بالألف، كما قال امرؤ القيس: بعجلزة قد أترز الجرى لحمها ... كميت أنها هراوة منوال وأما المقول والمقوال بالقاف، فالخطيب الكثير القول، وأما المقول الذي يراد به اللسان، والمقول الذي يراد به (القيل) فلا أحف فيها غير هذه اللغة.

(مَفعلة ومَفْعِلة): قال في هذا الباب: "مضربة السيف ومضربته". (قال المفسر): وقع في تعاليق الكتاب عن أبي علي البغدادي: أنه قال: لا يقال مضربة، ومضربة، إنما هو مضرب ومضرب. (قال المفسر): مضربة ومضربة: صحيحتان، حكاهما يعقوب وغيره. * * * (فُعْلُل وفُعْلَل) قال في هذا الباب: "قنفذ وقنفذ، وعنصل وعنصل (للبصل البري 9 وعنصر وعنصر". (قال المفسر): قياس النون في هذه الأمثلة أن تكون زائدة، ووزنها فنعل، لا فعلل. ويدل على ذلك جواز الفتح والضم فيها، وليس في الكلام (فعلل) بفتح اللام، إلا ما حكاه الكوفيون من طحلب وجؤذر وقعدد وذحلل، على أنهم قد قالوا: تقنفذ القنفذ: إذا اجتمع، وليس في هذا دليل قاطع بكون النون أصلاً، لأنهم قد قالوا: تقلنس الرجل: إذا لبس القلنوسه، وقلنسته، وقالوا: تمسكن، وشمدرع، فأثبتوا الميم والنون في تصريفا لفعل من هذه الألفاظ، وهما زائدتان.

باب ما يضم ويكسر

(فَعلل وفِعلل): ذكر في هذا الباب: "الأثلب والإثلب، والأبلمة والإبلمة". (قال المفسر): قياس الهمزة في هذه الأمثلة أن تكون زائدة لا أصلية، فوزن أثلب أفعل لا فعلل، وذلك إبلمة، إفعلة، لا فعللة. باب ما يُضم ويكسر ذكر في هذا الباب أنه يقال: "جُندب وجندب". (قال المفسر): رد ذلك أبو علي البغدادي، وقال: إنما هو جندب، بضم الدال، وجندب بفتحها، والجيم مضمومة في اللغتين، وأما كسر الجيم مع فتح الدال فلا أعرفه. أهـ. (قال المفسر): جندب بكسر الجيم: صحيح، حكاه سيبويه في الأمثلة، والذي قاله أبو علي: غلط. باب ما يكسر ويفتح ترجم ابن قتيبة هذا الباب مما يكسر ويفتح، وأدخل أشياء مخالفة للترجمة، لأنه ذكر فيه ما يخفف فيمد، فإذا شُدد قصر.

ومن ذلك: (القبيطي، والقبيطاء) و (الباقلي، والباقلاء)، ونحو ذلك فيما لا يليق بالترجمة. والقول في ذلك عندي، أن ذلك مردود على ألو الباب، لأه قال: ما جاء فيه لغتان من حروف مختلفة الأبنية، ثم نوع ما تضمنته هذه الترجمة، فقال: ما يضم ويكسر، ثم قال: ما يضم ويفتح، ثم قال: ما يسر ويفتح، ثم جعل هذه الأشياء المختلفة نوعاً رابعاً، وإن كان لم يترجمه، لأن ترجمته أول الباب قد ضمنت ذلك وحصرته. [1] مسألة: وأنشد في هذا الباب لصخر السلمي: ولقد قتلتكم ثناء وموحداً ... وتركت مرة مثل أمس الدابر (قال المفسر): كذا وقع في النسخ والصواب: المدبر، لأن بعده: ولقد دفعت إلى دريد طعنة ... نجلاء تزغل مثل غط المنخر

باب ما جاء فيه ثلاث لغات من حروف مختلفة الأبنية

باب ما جاء فيه ثلاث لغات من حروف مختلفة الأبنية ذكر في هذا الباب: " (الأبلمة) بضم الهمزة واللام، و (الأبلمة) بفتحهما، (والإبلمة) بكسرهما". (قال المفسر): حكى قاسم بن ثابت: (إبلمة) بكسر الهمزة، وفتح اللام، ففيها على هذا أربع لغات. باب ما جاء فيه أربع لغات من بنات الثلاثة [1] مسألة: ذكر في هذا الباب: "العفو، والعفو، والعفو، والعفا: ولد الحمار. قال: وأنشد المفضل. وطعن كتشهاق العفا هم بالنهق (قال المفسر): قد حكى يعقوب ن ابن الأعرابي أنشده عن المفضل: (كتشهاق العفا) بكسر العين، فينبغي أن تكون هذه لغة خامسة. [2] مسألة: وذكر في هذا الباب؛ أن في العضد والعجر أربع لغات: عضد وعجز،

باب ما جاء فيه أربع لغات من حروف مختلفة الأبنية

بفتح الأول، وضم الثاني، وعضد وعجز، بتخفيف الضمة، وإقرار أولهما على الفتح، وعضد وعجز، بتخفيف الضمة، ونقلها إلى الأول، وعضد وعجز، بضم الأول والثاني". (قال المفسر) حكى يعقوب: عضد وعجز، بفتح الأول، وكسر الثاني، فهذه لغة خامسة. ويجوز التخفيف أيضاً في هذه اللغة، ونقل الكسرة إلى الأول، فتكون لغة سادسة. [3] مسألة: وذكر في هذا الباب أيضاً: اسم، بكسر الهمزة، واسم، بضمها، وسم، بسين مكسورة، وسم، بسين مضمومة. (قال المفسر): وزاد النحويون سما على وزن هدى وهي أغربها. باب ما جاء فيه أربع لغات من حروف مختلفة الأبنية حكى في هذا الباب: أن في صداق المرأة أربع لغات: صداق، بالفتح، وصداق بالكسر، وصدقة، بضم الصاد، وضم الدال، وصدقة، بضم الصاد، وسكون الدال".

باب ما جاء فيه خمس لغات

(قال المفسر): هذا على تخفيف الضمة، ونقلها إلى ما قبلها، وقد حكى أبو إسحاق: أن منهم من يخفف ولا ينقل الضمة إلى الصاد، فهذه لغة خامسة. وذكر في هذا الباب: أن في الإصبع أربع لغات، وقد ذكرنا فيما سلف: أن فيها عشر لغات. باب ما جاء فيه خمس لغات قال في هذا الباب: ريح الشمال، على وزن فذال، والشمأل، الهمزة بعد الميم، والشأمل، الهمزة بعد الميم، والشأمل، الهمزة قبل الميم، والشمل، والشمل بفتح الميم وتسكينها من غير همز". (قال المفسر) قد قيل: شمول، على وزن رسول، وروى في بيت الأخطل: فإن تبخل سدوس بدرهميها ... فإن الريح طيبة شمول حكى ذلك أبو علي البغدادي.

باب معاني أبنية الأسماء

باب معاني أبنية الأسماء قال في هذا الباب: وقالوا: سهك ولخن ولكد ولكن وحسك وقتم، كل هذا للشيء يتغير من الوسخ ويسود". (قال المفسر): وقع في النسخ قتم، بالتاء، كأنه من القتام، وهو الغبار، وأنكره أبو علي البغدادي، وقال: "لست أذكر (قتم) في هذا المعنى، إنما أذكر (قنم) بالنون. يقال: يدى من كذا وكذا قنمة". أهـ. (قال المفسر): فتم بالتاء والنون جائزان، وهما متقاربان في المعنى، لأن القنمة بالنون: خبث الريح، فيما حكى يعقوب. وقال أبو زيد قنم الطعام والثريد قنما: إذا فسد وعفن. والقنم: مثل النمس، وهو في الطعام: مثل العفن، وفي الدهن: فساد ريحه، والقنم بالتاء: السواد غير الشديد. يقال: قتم قتماً وقتمة، والقتم: ريح ذات غبار، قال الشاعر: كأنما الأسد في عرينهم ... ونحن الليل جاش في قتمه

باب شواد الأبنية

باب شواد الأبنية [1] مسألة: قال في هذا الباب، حكاية عن سيبويه: ليس في الأسماء ولا في الصفات (فُعِل)، ولا تكون هذه البنية إلا للفعل. قال: وقال لي أبو حاتم [السجستاني]: سمعت الأخفش يقول: قد جاء على فعل حرف واحد وهو الدئل، لدويبة صغيرهن تشبه ابن عرس". (قال المفسر): قد جاء حرف آخر، وهو: رئم، اسم من أسماء الإست، والوجه في هذين الاسمين: أن يجعلا فعلين في أصل وضعهما، نقلا إلى تسمية الأنواع، كما ينقل الفعل إلى العلمية، فيسمى الرجل ضرب، فإذا اعتقد فيهما هذا، لم يكونا زيادة على ما حكاه سيبويه. وقد جاء نقل الفعل إلى تسمية النواع، كما نقل إلى تسمية الأعلام، قالوا: تنوط وتبشر، وهما طائران سميا بالفعل. [2] مسألة: وذكر في هذا الباب: أن سيبويه قال: "ليس في الكلام (فعل)

إلا حرفان في الأسماء: إبل، والحبرة، وهي القلح في الأسنان. وحرف في الصفة، قالوا: امرأة بلز، وهي الضخمة. قال ابن قتيبة وقد جاء حرفآخر وهو إطل [وهو الخاصرة]. (قال المفسر): هذا غلط، لم يحك سيبويه غير إبل وحده، وقال: لا نعلم في السماء والصفات غيره، وأما الحيرة والبلز فإنهما من زيادة أبي الحسن الأخفش، وليسا من كلام سيبويه وهذا الذي حكاه الأخفش من قولهم: الحبرة غير معروف، إنما المعروف: (حبرة) بفتح الحاء وسون الباء، ويدل على ذلك قول الشاعر: ولست بسعدي بما فيه حبرة ... ولست بعبدي حقيبته التمر وأما إطل فزيادة غير مرضية، لأن المعروف (إطل) بالسكون، ولم يسمع محركا إلا في الشعر، كقول امريء القيس: له إطلا ضبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل فيمكن أن يكون الشاعر حركه بالكسر للضرورة، كما حرك الهذلي لام الجلد ضرورة، في قوله: إذا تجاوب نوح قامتا معه ... ضرباً أليماً بسبت يلعج الجلدا وقد حكى: أتان إبد، وهي المتوحشة، وحكى عن العرب أنهم

قالوا: لا أحسن اللعب، إلا جلخ جلب، وهي لعبة لهم يلعبونها. [3] مسألة: وحكى في هذا الباب عن سيبويه قال: ليس في اللام (فعل) وصف إلا حرف واحد من المعتل، يوصف به الجميع، وذلك قولهم (عدي)، وهو مما جاء على غير واحده. وحكى عن سيبويه أنه زاد مكاناً سوى"., (قال المفسر): هذه الزيادة صحيحة، وقد جاء حرفان آخران، قالوا: ماء صرى: للمجتمع المستنقع، وماء روى: للكثير المروى، قال الراجز: تبشرى بالرفه والماء الروى ... وفرج منك قريب قد أتى وقال ذو الرمة: سرى آجن يزوي له المرء وجهه ... ولو ذاقه ظمآن في شهر ناجر

يروى بفتح الصاد وكسرها. وقد جاء منه شيء بالهاء، قالوا: سبى طيبه للحلال، وخيرة: للشيء المحتار. [4] مسألة: وحكى عن سيبويه قوله: لا نعلم في الكلام أفعلاء، إلا الأربعاء وحكى عن أبي حاتم عن أبي زيد: أنه قدجاء الأرمداء، وهو الرماد العظيم، وأنشد: لم يبق هذا الدهر من آبائه ... غير أثافيه وأرمدائه (قال المفسر): هذه الزيادة غير صحيحة، لأن أبا علي البغدادي حكى أنه يُقال: رماد، ويجمع على أرمدة. وتجمع أرمدة على أرمداء. فإذا كان جمعاً لم يعند زياده، لأن سيبويه إنما ذكر أنه لا يكون في الآحاد لا في الجمع، وذكر أبو علي أن ابن دريد كان يروى (غير أثافيه وإرمدائه) بكسر الهمزة فيلزم على هذه الرواية أن يكون اسماً مفرداً، وهو زيادة على ما حكاه سيبويه لنه قال وتكون على إفعلاء بكسر الهمزة، ثم قال: ولا نعلمه جاء إلا في الأربعاء. ففي الأربعاء، على هذا ثلاث لغات (أربعاء) بفتح الهمزة والباء و (إربعاء) بكسرهما، وأربعاء بفتح الهمزة وكسر الباء.

[5] مسألة: وحكى عن سيبويه أنه قال: ليس في الكلام مفعل إلا منخر، فأما منتن ومغيرة، فإنهما من أغار وأنتن، ولكنهم كسروا كما قالوا: أجوءك ولإمك". (قال المفسر): كذا وقع في روايتنا عن أبي نصر، عن أبي علي، وكذا وجدته في جمهور النسخ، ولا أدري أهو غلط وتصحيف من ابن قتيبة، أم من بعض الراوين عنه، وإنما قال سيبويه أجوءك ولإمك، وأجوءك: لغة في أجيئك. يقال: جاء يجيء ويجوء، حكاهما أهل اللغة، وأنشدوا: أبو مالك يقتادنا في الظهائر ... يجوء فيلقى رحله عند جابر يعني بأبي مالك: الجوع، وبجابر: الخبز، والعرب تسمى الخبز جابر بن حبة، لأنه يجبر الجائع، وحكى يعقوب لغة ثالثة، وهي وزن رمى، وأنشد: أصبن فغني قد رأيت جرادة ... جأت في كبيدات السماء تطير [6] مسألة: وقال في هذا الباب: ليس يأتي مفعول من ذوات الواو بالتمام، وإنما

يأتي بالنقص مثل مقول ومخوف، إلا حرفين قالوا: مسك مدووف، وثوب مصوون، وأما ذوات الياء فتأتي بالنقص والتمام". (قال المفسر): حكى الفراء عن الكسائي أن بني يربوع وبني عقيل يقولون: حلى مصووع، بواوين، ودواء مدووف، وثوب مصوون، وفرس مقوود، وقول مقوول. وأما البصريون فلم يعرفوا شيئاً من هذا. [7] مسألة: وحكى عن سيبويه أنه قال: ليس في الكلام فعلول بفتح الفاء وتسكين العين. قال: وقال غيره: قد جاء فعلول في حرف واحد، قالوا: بنو صعفوق لخول باليمامة". (قال المفسر): قد جاء على وزن فعلول ثلاثة أحرف سوى ما ذكره، حكى اللحياني: زرنوق، وزرنوق: للذي يبني على البئر. وحكى أبو حنيفة في النبات: برسوم وبرسوم، وهي أبكر نخلة بالبصرة. وقال أبو عمرو الشيباني في نوادره: زرنوق بالفتح، ولا يقال زرنوق، ومثله بنو صعفوق قوم باليمامة، وصندوق، ولا يضم أوله. [8] مسألة: وقال عن سيبويه: لم يأت فعيل في الكلام إلا قليلاً، قالوا: المريق، وكوكب دري، وأما الفاء فزعم أن الدري منسوب إلى الدر، ولم يجعله على فعيل.

(قال المفسر): الذي ذكره سيبويه أنه فعيل: دريء، بالهمز، كذا قرأناه في الكتاب وهذا لا يمكن الفراء أن يخالف فيه. والهمزة أصل، لأنه مشتق من (درأ): إذا دفع. وكذلك من قرأ دريء، بكسر الدال، ودريء، بفتحها، وهي قراءة تنسب إلى أبي جعفر المدني، وهي نادرة، لأنه ليس في الكلام فعيل بفتح الفاء. وإنما الخلاف في قراءة من قرأ (دري) مشددة. ففي هذه القراءة يحتمل أن يكون منسوباً إلى الدر كما قال الفراء، ويحتمل أن يكون أصله الهمزة، ثم خففت الهمزة فانقلبت ياء، وأدغمت في ياء فعيل، كما يقال في النسيء، النسي، وفي خطيئة: خطية. [9] مسألة: وقال في هذا الباب: قال سيبويه: لا نعلم في الكلام فعلالا إلا المضاعف نحو الجرجار والدهداه، والصلصال والحقماق، وذكر أن الفراء قال: قد جاء على ذلك حرف واحد، وهو الخزعال، يقال: ناقة خزعال، وهو اللع. (قال المفسر): قد جاء في الشعر حرف آخر، وهو قول الشاعر: ولنعم رفد القوم ينتظرونه ... ولنعم حشو الدرع والسربال

ولنعم مأوى المستضيف إذا دعا ... والخيل خارجة من القسطال يريد القسطل، وهو الغبار، والوجه في هذا عندي ألا يجعل زيادة على سيبويه، ويقال: إن الشاعر أراد القسطل، فأشبع فتحة الطاء اضطراراً، فنشأت بعدها ألف، كما قال الراجز: أقول إذا خرت على الكلكال ... يا ناقتي ما جلت من مجال [10] مسألة: وقال في هذا الباب: كل حرف جاء على (فُعلاء) فهو ممدود، إلا أحرفا جاءت نوادر، وهي الأربي، وهي الداهية، وشعبي: اسم موضع، وأدمي: اسم موضع أيضاً". (قال المفسر): لم يقل سيبويه في كتابه إنه ليس في الكلام إلا هذه الألفاظ الثلاثة، وإنما قال: ويكون على فعلى، وهو قليل في الكلام نحو شعبي والأربى والأدمي: أسماء. وقد وجدنا في الكلام ثلاثة ألفاظ أخر غير ما ذكره، وهي الأرنى بالنون: حب يطرح في اللبن فيجبنه. ويقال له أيضاً: (أرنة) على مثال لمة، وأراني على مثال حبارى. حكى ذلك ابن الأعرابي، وأنشد: (هدان كشحم الأرنة المترجرج وحكى يعقوب جنفى: اسم موضع. وحكى المطرزي: الجعبي، عظام

النمل، وحكى هذه الألفاظ الثلاثة أبو علي البغدادي في كتابه المقصور والممدود. [11] مسألة: وحكى في هذا الباب عن الأصمعي أنه قال: ليس في الكلام فعلل بكسر الفاء، وفتح اللام، إلا حرفان، وهما درهم وهجرع: للطويل المفرط الطول، ثم قال بإثر ذلك وقال سيبويه: وقلعم، وهو اسم، وهبلع، وهو صفة". (قال المفسر) هذا الكلام يوهم أنه ليس في اللام اسم على (فعلل) إلا هذه الأربعة؛ ولم يقطع سيبويه في كتابه أنه ليس في الكلام غير هذه الألفاظ إنما قال: ويكون على فعلل (بمعنى الاسم والصفة). فالأسماء نحو قلعم ودرهم، والصفة هجرع وهبلع. وقد حكى ابن الأعرابي أنه يقال: سرجع (بمعنى) هجرع، وقد حكى ضفدع وصندد: اسم موضع والمشهور صندد، بكسر الدال. [12] مسألة: وحكى في هذا الباب عن أبي عبيدة أنه قال لم يأت مفيعل في غير التصغير إلا في حرفين مسيطر ومبيطر، وزاد غيره ومهيمن". (قال المفسر): قد جاءت ألفاظ أخر غير هذه، قالوا: هيلل الرجل فهو مهيلل، إذا قال: لا آله إلا الله، وقالوا: المجيمر: في اسم أرض. قال امرؤ القيس:

كأن ذرا رأس المجيمر غدوة ... من السيل والغثاء فلكة مغزل وقالوا: بيقر الرجل، فهو مبيقر: إذا لعب البقيري، وهو لعبة للصبيان: يجمعون تراباً ويلعبون به، وبيقر أيضاً: إذا هاجر من أرض إلى أرض، وبيقر: إذا أعيا. وبيقر الدار: إذا أقام بها. وبيقر: إذا خرج من العراق إلى والشام، وبيقر: إذا رأى البقر فتحير، كما يقال: غزل: إذا رأى الغزال فلهى. واسم الفاعل من جميعها مبيقر قال امرؤ القيس: ألا هل أتاها والحوادث جمة ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا وقالوا: هينم فهو مهينم، وهو شبه قراءة غير بينةن وقال أوس ابن حجر: هجاؤك إلا أن من كان قد مضى ... على كأثواب الحرام المهينم [13] مسألة: وقال عن سيبويه: لم يأت على أفعل إلا قليل في الأسماء، قالوا: ابلم وأًبع ولم يأت وصفا".

(قال المفسر): كذا قال سيبويه، وقد وجدناهم قالوا: لبن أمهج، وأمهجان، وأمهوج. وهو من المحض الرقيق قبل أن يحمض، ولم يخثر، ويكون الشحم، قال الراجز: جارية شمت شباباً علجا ... في حجر من لم يك عنها ملفجا يطعمهما اللحم وشحما أمهجا قال ابن جني: قلت لأبي على الفارسي وقت قراءتي عليه: يكون أمهج محذوفاً من أمهوج، مقصوراً منه، فقيل ذل، ولم يأبه. قال ابن جني: وقد يجوز أن يكون أمهج في الأصل اسما غير صفة، إلا أنه وصف به، لما فيه من معنى الصفاء، والرقة، كما يوصف بالأسماء الضامنة لمعنى الأوصاف، كما أنشد أبو عثمان من قول الراجز: (مئبرة العرقوب إشفي المرفق) فوصف بإشفي، وهو اسم، لما فيه من معنى الحدة. [14] مسألة: وقال عن سيبويه: لم يأت على أفعلى، إلا حرف واحد، لا نعرف غيره، قالوا: هو يدعو الأجفلى، وهو أيضاً الجفلى". (قال المفسر): قد قالوا: الأوتكى: وهو ضرب من التمر، وقياس الهمزة فيه أن تكون زائدة، أنشد أبو علي البغدادي:

شواذ التصريف

وباتوا يعشون القطيعاء جارهم ... وعندهم البرني في جلل وسم وما أطعمونا الأوتكى من سماحة ... ولا منعوا البرنى إلا من اللؤم [15] مسألة: وقال عنه: لم يأت على أفنعل غلا حرفان: ألنجج وألندد من الألد". (قال المفسر): قد جاء أبنبم: اسم موضع حكاه غير سيبويه، ويقال: (ويبنبم) بالياء، قال طفيل الغنوي: أشاقت أظعان بجفر أبنبم ... نعم بكرا مثل الفسيل المكمم شواذ التصريف قال ابن قتيبة: "قال الفراء: العرب إذا ضمت حرفاً إلى حرف، فربما اجروهعلى بنيته، ولو أفرد، لتركوه على جهته الأولى. من ذلك قولهم: إني لآتيه بالغدايا والعشايا، فجمعوا الغداة على غدايا، لما ضمت إلى العشايا، وأنشد: هتاك أخبية ولاج أبوية ... يخلط بالجد منه البر واللينا" (قال المفسر): قد حكى ابن الأعرابي أنه يقال: غدية على وزن عشية، وأنشد: ألا ليت حي من زيارة أميه ... غديات قيظ أو عشيات أشتيه

فعلى هذه اللغة يقال في الجمع غدايا على غير وجه الازدواج، ويجوز لقائل أن يقول: هذا أيضاً جاء على وجه الازدواج، فقال: غديات لقوله: عشيات. فيكون بمنزلة قولهم: الغدايا والعشايا، وحكى ابن الأعرابي أيضاً عن المفضل أنه قال: يقال ندى وأندية، وباب وأبوبة، وقفا وأقفية، وحكى أبو حاتم عن الأصمعي في المقصور والممدود، قال: يقال: قفا وأقفية، ورحى وأرحية، وندى وأندية. [1] مسألة: وقال في هذا الباب: قالوا مذروان، والأصل: مذريان، وهما فرعا كل شيء. وإنما جاز بالواو، لأنه بني مثنى، لم يأت له واحد فيبنى عليه". (قال المفسر): هذا الذي قاله هو المعروف، وحكى أبو عبيد القاسم، عن أبي عمرو: أنه يقال لواحدها: مذرى، وأحسب أن أبا عمرو قاس ذلك عن غير سماع، وأن أبا عبيد، وهم فيما حكاه عن أبي عمرو، كما وهم في أشياء كثيرة من كتابه. [2] مسألة: وقال في هذا الباب: وقال الفراء: إنما قالوا: (هو أليط بقلبي منك) بالياء، وأصله الواو، ليفرقوا بينه وبين المعنى الآخر". (قال المفسر): قد حكى فيما تقدم من الكتاب أنه قال: لاط حبه بقلبي يليط ويلوط، فيجب على هذا أن يقال: هو أليط بقلبين وألوط. [3] مسألة: وأنشد في هذا الباب عن الكسائي:

وتأوى إلى زغب مساكين دونهم ... فلأ لا تخطاه الرماح مهوب (قال المفسر): هذا غلط، والصواب: (وتأوى إلى زغب مساكين دونها)، لأنه يصف قطاة، وسنذكر هذا الشعر إذا وصلنا إلى شرح الأبيات، عن شاء الله تعالى. [4] مسألة: وقال في هذا الباب: لم نجد ياء بعدها واو غير مهموزة في الأسماء إلا في يوم". (قال المفسر): قد قال أبو علي الفارسي في مسائلة الحلبية: لم تجيء العين ياء، واللام واواً، في اسم ولا فعل، فأما حيوة للاسم العلم والحيوان، فالواو فيهما بدل من ياء، وقد جاء عكس هذا كثير، نحو طويت ولويت ورويت. وجاءت الواو فاء والياء عينا، في ويل وويح وويسن وعكس هذا قولهم يوم. قال: وقرأت بخط محمد بن يزيد، يوح في اسم الشمس". أهـ. (قال المفسر): المشهور في اسم الشمس بوح بالباء المعجمة بواحدة، وكذلك حكى أبو علي البغدادي في البارع، وحكى أبو عمر المطرز:

يوح، كالذي حكاه الفارسي عن محمد بن يزيد، ويروى أن أبا العلاء المعرى لما قال ويوشع رد يوحاً بعض يوم ... وأنت متى سفرت رددت يوحا اعترض في ذلك ببغداد، ونسب إلى التصحيف، واحتج عليه بكتاب الألفاظ ليعقوب فقال لهم: هذه النسخ التي تقرءونها مغيرة، غيرها شيوخكم، ولكن أخرجوا ما في الخزانة من النسخ العتيقة، فأخرجوا النسخ القديمة، فوجدوها مقيدة كما قال. [5] مسألة: وقال في هذا الباب عن سيبويه: وكل همزة جاءت أولا فهي مزيدة في نحو أحمر وأفكل وأشباه ذلك، إلا أولقا، فإن الهمزة من نفس الحرف، ألا ترى أنك تقول: ألق الرجل، فهو مألوق، وهو (فوعل)، أرطى، لأنك تقول: أديم مأروط. ولو كانت الهمزة زائدة لقلت: مرطى". (قال المفسر): لم يقل سيبويه هكذا، إنما قال: "فالهمزة إذا لحقت أول حرف، رابعة فصاعداً، فهي زائدة أبداً عندهم، ألا ترى انك لو سميت بأفكل أو أيدع، لم تصرفه، وأنت لا تشتق منهما ما تذهب فيه الألف.

ثم قال بعد سطور كثيرة: وأما أولق فالألف من نفس الحرف" أهـ. وكلام ابن قتيبة يوهم أن كل همزة وقعت أولا، حكم عليها بالزيادة، ونما يحكم عليها بالزيادة إذا وقعت بعدها ثلاثة أحرف أصول، وإذا كانت بعدها أربعة أحرف أصول أو خمسة، حكم عليها بأنها أصل، نحو إصطبل. وكلام سيبويه أيضاً يوهم نحو ما يوهمه كلام ابن قتيبة، لأنه قال: إذا لحقت أول حرف رابعة فصاعداً. وقد فسر ذلك أبو علي الفارسي فقال: يريد بقوله فصاعداً مع الزواد مثل إصليت وما أشبهها، ومحال أن يلحق رباعياً أو خماسياً، لأن الزوائد لا تلحق ذوات الأربعة والخمسة في أوائلها. وقول سيبويه أيضاً: أول حرف رابعة، ظريف، لأنه يريد أنها أربعة في عدد الحروف إذا عدت من آخرها إلى أولها. وأما (أولق)، فأجاز الفارسي في الإيضاح: أن تكون الهمزة فيه زائدة، حملاً على الأكثر، ويكون مشتقاً من قولهم: ولق يلق: إذا أسرع، قال الراجز: (جاءت به عنس من الشام تلق) ويكون قولهم: ألق الرجل على هذا، أصله ولق، فأبدلت الواو همزة لانضمامها، كما أبدلت في أعد وأجوه، وهذا الذي ذهب الفارسي إليه قول غير مختار، لأنه كنا يلزم على هذا أن يقال: رجل مولوق،

فترجع الواو إلى أصلها، لذهاب العلة التي أوجبت همزها، ألا ترى أن من يقول: أعد الرجل بالهمز، إذ صار إلى المفعول به قال: موعود، ولم يقل مأعود، والمسموع من العرب مألوق بالهمز. وقد أنكر أبو علي قول من زعم: إن الهمزة في (أله) بدل من واو قال: كان يلزم على قول من قال هذا، أن يقال في الجمع أولهة كما قال: ن من يقول في وشاح إشاح، إذا جمع قال: أوشحة. ولا يصح قول أبي علي إلا على أن يجعل من البدل اللازم الذي يلتزمونه، مع ذهاب العلة الموجبة له، كقولهم في عيد أعياد، وفي ريح أرياح. وقد حكى أبو عمر الجرمي أنه يقال: أديم مرطي ومرطو، وحكى أبو حنيفة: أديم مأروط، ومرطى، ومؤرطي، وحكى الأخفش أيضاً أديم مرطى، وهذا يوجب أن تكون الهمزة في أرطى زائدة. [6] مسألة: وحكى عن الفراء في هذا الباب: أنه أنكر على البصريين قولهم في كينونة وأخواتها: أنها فيعولة، مخففة من كينونة، وقال: لو كانت كذلك لوجدتها تامة في شعر أو سجع، كما وجدت الميت والميت على وجهين: على الأصل، وعلى التخفيف". (قال المفسر): هذا الذي قاله قد خالف به الفراء البصريين، وهو لا يلزم من وجهين: أحدهما: أن الأصول قد ترفض، حتى تصير غير مستعملة، وتستعمل الفروع، كرفضهم استعمال أينق، وقسى، وأشياء، وأعياد، على الأصل. وكذلك قولهم: أقام إقامة، وأثار إثارة،

ووعد يعد، ووزن يزن، ولم يستعمل شيء من ذلك على أصله، وقد قال الفراء في سيد وميت ونحوهما: أن الأصل فيهما فعيل كسويد ومويت. وقال في قولهم (اللهم): إن أصله: يا ألله أمنا بخير، ولم يستعمل شيء من ذلك، وهذا النوع كثير في مذاهب البصريين والكوفيين. ومن طريف قوله: أنه زعم أن كينونة وأخواتها، أريد بهن فعلولة، ففتحوا أولها، راهية أن تصير الياء واوا، هذا يلزمه فيه مثل ما ألزمه البصريون. والوجه الآخر أن البصريين قد أنشدوا: قد فارقت قرينها القرينه ... وشحطت عن دارها الظعينه يا ليت أنا ضمنا سفينه ... حتى يعود الوصل كينونه [7] مسألة: قال ابن قتيبة: قال غير واحد: كل (أفعل) فالاسم منه مفعل بكسر العين، نحو أقبلفهو مقبل، وأدبر فهو مدبر، وجاء حرف واحد لا يعرف غيره. قالوا: أسهب الرجل فهو مسهب (بفتح الهاء) ولا يقال: مسهب بكسرها". (قال المفسر): قال أبو علي البغدادي: أسهب الرجل فهو مسهب (بفتح الهاء): إذا خرف وذهب عقله، وتكلم بما لا يعقل، فإذا تكلم بالصواب فأكثر، قيل: أسهب فهو مسهب، (بكسر الهاء)، وحكى

أبو عمر المطرز: ألفج فهو ملفج: إذا افتقر، وأحصن فهو محصن: إذا نكح. [8] مسألة: قال في هذا الباب: وأما قولهم: أحببته، فهو محبوب، وأجنه الله، فهو مجنون، أحمه الله فهو محموم، وأزكمه الله فهو مزكوم، ومثله مكزوز ومقرور، فإنه بُني على (فعل)، لأنهم يقولون في جميع هذا فعل بغير ألف. يقولون: حب، وجن، وزكم، وحم، وكز، وقر. قال: ولا يقال: قد حزنه المر، ولكن يقال: أحزنه، ويقولون: يحزنه. فإذا قالوا: أفعله الله، فكله بالألف، ولا يقال مفعل في شيء من هذا إلا في حرف. قال عنترة: ولقد نزلت فلا تني غيره ... منى بمنزلة المحب المكرم (قال المفسر): هذا له نادر، خارج عن القياس، لأن فعل إذا رد إلى صيغة ما لم يسم فاعله، لم يجب فيه أكثر من تغيير الحركات، وأما أن يكون مع المفعول الذي لم يسم فاعله ثلاثياً ومع الفاعل رباعيا، فغير معروف، إلا ما شذ من هذه الألفاظ. وقد جاء بعضها على القياس، فقد حكى، حزنه الأمر وأحزنه، وقد قرأت القراء بهما جميعاً: (إني ليحزنني)، ويحزنني، وقد حكى حببت الرجل وأحببته. وقرأ

أبو رجاء العطاردي (فاتبعوني يحبكم الله) بفتح الياء. وأنشد أبو العباس المبرد: لعمرك إنني وطلاب مصر ... لكالمزداد مما حب بعدا وقال آخر: وأقسم لولا تمره ما حببته ... وكان عياض منه أدنى ومشرق [9] مسألة: وقال في هذا الباب: قال الفراء: ماء معين، مفعول، من العيون، فنقض كما قال: مخيط ومكيل". (قال المفسر): لا وجه لإدخال هذا ي شواذ التصريف، لأنه على ما ينبغي أن لا يكون عليه على ما قاله الفراء. ويجوز أن يكون (معين) فعيلا، فتكون الميم أصلاً، لأن الخليل قال: المعين: الماء الكثير، وقال أبو علي البغدادي: المعين: الماء الجاري على وجه الأرض، ومعن الوادي: إذا كثر الماء فيه. وحُكى عن ابن دريد: ماء معن ومعين، وقد معن على مثال ظرف، وحكى الخليل في باب الثلاثي الصحيح: المعين الماء الكثير، ثم قال في باب المعتل: الماء المعين: الظاهر الذي تراه الأعين، وهذا يوجب أن تكون الميم زائدة. كما قال الفراء، وقوله الأول يوجب أن تكون أصلية.

أبنية نعوت المؤنث

أبنية نعوت المؤنث قال في آخر هذا الباب: وعلامات المؤنث تكون آخرا، بعد كمال الاسم، إلا كلتا: فإن التاء وهي علامة التأنيث، جُعلت قبل آخر الحرف". (قال المفسر): هذا الذي حكاه هو قول أبي عمر الجرمي، أو شبيه قوله، لأن أبا عمر زعم أن وزن كلتا من الفعل فعتل، وأن التاء للتأنيث، وهذا القول خطأ عند البصريين والكوفيين، لأن فيه شذوذاً من ثلاث جهات: إحداها: أنه لا يعرف في الكلام فعتل، ومنها، أن علامة التأنيث لا تكون حشواً في الكلمة، إنما شأنها أن تكون آخراً، كقائمة وقاعدة، ومنها: أن ما قبل تاء التأنيث لا يكون إلا مفتوحاً، ولا يجوز أن يكون ما قبلها ساكناً، إلا أن تكون ألفا في نحو أرطاة وسفلاة. وقد اختلف النحويون في تاء (كلتا) وألفها، فأما الكوفيون فقد ذهبوا إلى أن التاء للتأنيث، والألف للتثنيةن كالتي في بنتان وأختان، وزعموا أن واحدها كلت وأنشدوا: في لت رجليها سلامي واحدة ... كلتاهما مقرونة بزائده واحتجوا بانقلابها مع المضمر ياء في قولهم: جاءتني المرأتان كلتاهما، ورأيت المرأتين كلتيهما. وأما البصريون فيرونها كلمة مفردة تدل على التثنية، كما أن (كلا)

لفظ مفرد يدل على الجمع في قولك: كل القوم جاءني، واحتجوا بمجيء الخبر عنها مفرداً في نحو قوله تعالى: (كلتا الجنتين آتت أكلها) وكذلك أخبروا عن (كلا) المذكر بالمفرد في نحو قول جرير. كلا يومي أمامة يوم صد ... وإن لم نأتها إلا لماما واختلف البصريون فيها، فذهب بعضهم إلى أن التاء فيها عوض من لام الفعل المحذوفة، على معنى المعاقبة، لا على معنى البدل، يريدون أنها عاقبت لام الفعل المحذوفة، كما عاقبت ألف الوصل في ابن واسم، اللام الساقطة، وكما صارت التاء في زنادقة، معاقبة للياء في زناديق، وذهب بعضهم إلى أنها بدل من الواو التي هي لام الفعل، كإبدالها في تراث وتجاه. واصلها كلوى، ومن رأي هذا الرأي، فحكمه أن يقول في النسب إليها كلتوى، في لغة من يقول: حبلوى، وكلتى، في لغة من يقول: حبلى. وأما من جعلها عوضاً على معنى المعاقبة، فقياس قوله أن يقول في النسب إليها كلوى، كما يقال في اسم، سموى، ومن قال: اسمى، لزمه أن يقول: كلتوى أو كلتى. ولسيبويه فيها كلام مشكل، يحتمل التأويلين جميعا، لأنه قال في باب الإضافة على ما فيه الزوائد، من بنات الحرفين، بإثر كلامه في بنت: "وكذلك كلتا وثنتان، تقول: كلوى وثنوى، وبنتان: بنوى، وأما يونس فيقول: بنتى. وينبغي له أن يقول: هنتي في هنة. وهذا لا يقوله أحد.

ولسيبويه في بنت كلام مضطرب، وكذلك في أخت، يقتضي بعضه أن التاء فيهما للتأنيث، ويقتضي بعضه أنها للإلحاق، وقد شبه (كلتا) ببنت، فينبغي أن ينظر ما وجه هذا التشبيه، واستيفاء القول في هذا الباب لا يليق بهذا الموضع. [1] مسألة: وقال في هذا الباب: "وقالوا: بهماة، فأدخلوا التاء التي هي علامة التأنيث، وفعلى لا تكون إلا للمؤنث". (قال المفسر) بهماة: شاذة على مذهب البصريين، لأن ألف فعلى عندهم لا تكون أبداً إلا للتأنيث، ولا يجوز أن تكون للإلحاق، لعلتين: أحداهما: أن فعلى لم يسمع فيها التنوين، كما سمع في فعلى المفتوحة، وفعلى المكسورة. والثانية أنه ليس في الكلام اسم على وزن (فعلل) مفتوح اللام مضموم الفاء، فيكون فعلى ملحقاً به، وينبغي أن تكون 0 بهماة) غير شاذة على مذهب الكوفيين، لأنهم قد حكوا ألفاظاً على فعلل مفتوحة اللام، وهي برقع، وطحلب، وجؤذر، وقعدد، وجندب، فيلزم على هذا أن تكون ألف (بهماة) للإلحاق، في لغة من أثبت الهاء فيها، وتكون للتأنيث في لغة من لم يدخل عليها التاء، لأن التنوين لم يلحقها. وقد جاء حرفان آخران نادران، حكى أبو حنيفة عن الفراء نهم يقولون لواحد الخزامى: خزاماة. وحكى صاحب العين في واحدة السماني: سماناة، وألف فعالى لا تكون لغير التأنيث في مذهب الفريقين جميعاً.

[2] مسألة: وأنشد في آخر الكتاب: (وإن شئتم تعاوذنا عواذا). (قال المفسر) هذا رويناه من طريق أبي نصر، عن أبي علي البغدادي، بالذال معجمة، وأنشده ابن جني بالدال، غير معجمة في تفسير قول أبي الطيب: هيهات عاق عن العواد قواضب ... كثر القتيل بها وقل العساني ولا أعلم قائل الشعر، ولا وجدت من الشعر شيئاً أستدل به على الصواب فيه والأشبه عندي: أن يكون على ما قاله ابن جني، لأنه قد قيده بما رفع الأشكال عنه. ويكون هذا الذي وقع في الأدب، غلط من ابن قتيبة، أو من بعض الناقلين عنه. ولله الحمد على ما من به وأنعم وصلى الله على محمد وآله وسلم

القسم الثالث: [شرح أبيات أدب الكتاب ومشكل إعرابها]

الكتاب الثالث وهو شرح أبيات أدب الكتاب، التي ذكرها ابن قتيبة في كتابه لابن السيد البطليوسي بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً قال الفقيه الأستاذ النحوي، أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي رحمه الله. وهذا حين أبدأ بشرح مشكل إعراب أبيات هذا الكتاب ومعانيها، وذكر ما يحضرني من أسماء قائليها. وغرضي أن أقرن بكل بيت منها ما يتصل به من الشعر من قبله أو من بعده، إلا أبياتاً يسيره لم أعلم قائلها ولم أحفظ الأشعار التي وقعت فيها وفي معرفة ما يتصل بالشاهد ما يجلو معناه، ويعرب عن فحواه، فإنا رأينا كثيراً من المفسرين للأبيات المستشهد بها، قد غلطوا في معانيها، حين لم يعلموا الأشعار التي وقعت فيها، لأن البيت إذا انفرد احتمل تأويلات كثيرة كقول بعض من شرح أبيات كتاب سيبويه في قول العجاج: كشحاً طوى من بلد مختارا من يأسة اليائس أو حذارا أنه يصف ثورًا وحشياً:

وفي قول أبي النجم: (يأتي لها من أيمن وأشمل) أنه يصف ظليما ًونعامة. وقال بعض من شرح إصلاح المنطق في قول مزرد. قذيفة شيطان رجيم رمى بها فصارت ضواة في لهازم ضرزم إنه وصف ناقة وأراد أنها حديدة شهمة، كأنما هي نار نفخها شيطان في جسم ناقة، فتخلقت نطفة ثم مضغة فصارت كالضواة. وقال في قول جبيهاء الأشجعي:

فلو أنها طافت يطنب معجم نفى الرق عنه جدبه وهو صالح. لجاءت كأن القسور الجون مجها عساليجه والثامر المتناوح إنه يصف امرأة، وأراد أنها لو لمست عودا يابسا لأورق في يدها. وقال بعض المفسرين في قول الفرزدق: هما نفثا في في من فمويهما على النابح العاوي أشد رجام ويروى: لجام، أنه عنى أبويه: وقال في قوله:

على شكل إعرابها فأما "إذا" فظرف من ظروف الزمان يجري مجرى أدوات الشرط في أنه يدخل على جملتين، فيربط إحداهما بالأخرى، ويصير الثانية منها جواباً للأولى، ويخالفها في أنه لا يجزم كما تجزم أدوات الشرط، وأن العامل فيه جوابه. ولا يصح أن يعمل فيه الفعل الذي هو شرطه، وأما الأسماء التي يشرط بها فالعوامل فيها شروطها: ولا يصح أن تعم فيها أجوبتها. وإنما امتنع (إذا) من أن يعمل فيه الفعل الذي هو شرطه، لأنه في تقدير الإضافة إلى ما بعده، ولا يجوز أن يعمل المضاف إليه في المضاف، ولا يجوز أن يجازى به عند البصريين إلا في الشعر. وقد أجاز قوم المجازاة إذا زيدت عليه (ما). وإنما امتنعت المجازاة عند البصريين، لأن المجازاة سبيلها أن تكون بالممكن، الذي يجوز أن يقع ويجوز ألا يقع. والفعل المشروط به بعد إذا مضمون الوقوع ألا ترى أنك إذا قلت: إذا كان يوم الجمعة أتيتك، فيكون يوم الجمعة موجوداً لا محالة، وإذا قلت: إن جئتني أكرمتك، فممكن أن يكون ذلك، وممكن ألا يكون. فلما خالف حروف الشرط في المعنى، خالفها في العمل. وأما العامل في قوله (إذا ما مات ميت من تميم) فمن كان من مذهبه المجازاة بإذا إذا زيدت عليها ما، فالعامل عنده فيها مات، لأنه إذا أجراها مجرى الأسماء التي يجازى بها، لم يجز أن تكون مضافة إلى الجملة التي بعدها كما لا تضاف الأسماء المجازى بها، فلم تمتنع حينئذ من أن يعمل فيها الفعل الذي هو شرطها. ومن كان من مذهبه ألا يجريها مجرى أدوات الشرط وأسمائه، فالعامل فيها فوله (فجيء بزاد) وأبو الحسن الأخفش يجعل الفاء في مثل هذا الموضع زائدة، لأن ما بعد الفاء عنده لا يجوز أن يعمل في ما قبلها. وقد أجاز سيبويه زيدًا فاضرب

وبزيد فامرر، على إعمال ما بعد الفاء في ما قبلها. قال السيرافي: تقدير الكلام تأهب فاضرب زيدا أو تعمد فاضرب زيدا، وما أشبه ذلك. فلما حذفت الفعل قدمت زيدا، ليكون عوضا من الفعل المحذوف، وأعملت فيه ما بعد الفاء، كما أعملت ما بعد الفاء في جواب أما فيما قبلها، وقدمت الاسم عوضاً من الفعل المحذوف، الذي قامت أماً مقامه، وهو قولك: مهما يكن من شيء فقد ضربت زيدا فإذا نقلته إلى إما، قلت: أما زيدا فقد ضربت. قال: والدليل على جواز ذلك، قولهم بزيد فامرر، فلولا أن ما بعد الفاء عمل فيما قبلها، ما دخلت الباء على زيد، لأن الباء من صلة المرور: ولا يصلح أن تضمر فعلاً آخر، لأن ما كان من الأفعال متعديا ًبحرف لا يضمر. ومن النحو بين من يرى أن العامل في (إذا) في نحو هذه المواضع، فعل محذوف يدل عليه الجواب، وفي هذه المسائل نظر يطول، فلذلك نقتصر على بعضه. وأما حروف الجر المذكورة في هذا الشعر، فمنها ما له موضع من الإعراب، ومنها ما لا موضع له، ومنها ما يتعلق بمضمر، والأصل في هذا. أن كل حرف جر وقع خبراً أو صفة أو صلة أو حالاً فإنه يتعلق أبداً بمحذوف" وما ناب منها مناب صفة أو خبر أو حال، قيل فيه: إن له موضعا من الإعراب. وما عدا هذه المواضع فإنه متعلق بظاهر، أو ما هو في حكم الظاهر، ولا يقال فيه إن له موضعا من الإعراب. فقوله (من تميم): من هاهنا لها موضع، لأنها وقعت

موقع الصفة، والتقدير: ميت كائن من تميم، فهي متعلقة بالصفة المحذوفة، التي قامت مقامها. وسائر حروف الجر المذكورة في هذا الشعر لا موضع لها وكل واحد منها متعلق بالظاهر. فالباء في قوله (بزاد)، متعلقة بجيء، وفي متعلقة بالملفق، واللام في قوله ليأكل، متعلقة بقوله يطوف، وأما الباء التي في قوله (بخبز أو بتمر) ففيها خلاف، لأن مجروريها هاهنا بدل من (زاد) أعيد معه العامل، كإعادته في قوله (للذين استضعفوا لمن آمن منهم) وكإعادته في قول الشاعر: ألا بكر الناعي بخيري بني أسد بعمر بن مسعود وبالسيد الصمد فمن كان من مذهبه أن البدل من جملة ثانية، واستدل على ذلك بجواز إعادة العامل معه، وهو رأي أبي علي الفارسي، جاز على قياس قوله أن تكون الباء في قوله (بخبز)، متعلقة بفعل محذوف، وجاز أن تتعلق بالفعل الذي هو (جيء) ولا موضع لها. ومن كان يرى أن البدل ليس من جملة أخرى، ولا يقدر معه إعادة العامل فالباء في قوله (بخبز) متعلقة بجيء. ومعنى قوله إن الباء في قوله "فجيء بزاد" لا موضع لها، أنها لم تقع موقع صفة ولا حال ولا خبر. ولست أريد أن المجرور لا موضع له من الإعراب، لأن المجرور ههنا مفعول في المعنى، وأنما أكملت الكلام في إعراب هذه الأبيات، ليقاس عليها غيرها، مما يأتي بعد هذا إن شاء الله.

وقوله (يطوف) في موضع الحال من الضمير المفعول في تراه، و (حرصا) ينتصب على وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولاً من أجله، والثاني أن يكون مصدراً وقع موقع الحال من الضمير في (يطوف)، كأنه قال: يطوف الآفاق حريصاً؛ فيكون بمنزلة قولهم جئت ركضا: أي راكضاً. وأنشد ابن قتيبة: "ولا عيب فينا غير عرق لمعشر كرام وأنا لا نخط على النمل" هذا البيت لا أعلم قائله، وفيه روايتان (نخط) بالخاء معجمة، و (نحط) بالحاء غير معجمة. فمن رواه بالخاء معجمة: أراد بالنمل: القروح التي تخرج في الجنب، يعرض برجل كان أخواله مجوساً. كذا قال ابن قتيبة في كتاب المعاني، وأنشد: (ولا عيب إلا نزع عرق لمعشر) ومن روى (نحط) غير معجمة، فله معنيان: أحدهما: أن يكون الحط الدلك، من قولهم حططت الجلد: إذا دلكته، فيكون معناه كالمعنى في رواية من رواه بالخاء معجمة. والثاني: أن يريد بالنمل الحيوان المعروف، ولا يريد القروح، فيكون تأويله: إنا لا نحفر بيوت النمل نستخرج ما فيها، مهانة وخساسة فيكون على هذا قد عرض بقوم كانوا يفعلون ذلك، والتفسير الصحيح هو الأول. وهذا التفسير الثاني ليس بشيء، وقد أنكراه ابن قتيبة. والعرق: الأصل

شبه بعرق الشجرة. ومن نصب (غيرا) جعله مستثنى منقطعا، ليس من الأول لأن العرق الكريم، والامتناع من الخط على النمل ليس من العيوب، ومن رفع (غيرا) وجعله مردودا على موضع الاسم المنصوب بلا التبرئة، جعل ذلك من العيوب مجازا، كما تقول: ما في فلان عيب إلا السخاء. والمعنى أنه لا عيب فيه البتة، إلا أن يعتقد معتقد أن السخاء من العيوب، فيكون سخاؤه عيبا. وأصحاب المعاني والنقد يجعلون هذا الاستثناء من محاسن الشعر وبديعه، كما يجعلون الطباق والتجنيس والتصدير والترصيع، ونحوها مما هو مشهور عند نقاد الكلام وجها بذته. والوجه في استعمال العرب هذا الاستثناء: أن اللثيم الطبع من الناس، لما كان مضادا للكريم الطبع، صار يعتقد في المحاسن أنها قبائح، وفي القبائح أنها محاسن، فيعتقد في السخاء أنه تبذير، وفي الشجاعة أنها هوج، وفي الحلم أنه ذل، ويرى أن الصواب والسداد في أضدادها. ويروى أن رجلا قال للأحنف بن قيس ما أبالي: أمدحت أم هجيت فقال له الأحنف: استرحت يا أخي من حيث تعب الكرام. وحرف الجر الذي في آخر البيت، متعلق بنخط، فلا موضع له، لتعلقه بالظاهر. وحرف الجر الذي في أول البيت متعلق بخبر لا التبرئة المقدر، فله موضع، لتعلقه بمحذوف. ومن رفع (غيرا) أجاز أن يكون مرتفعا على خبر لا التبرئة، ويكون (فينا) في موضع الصفة لعيب، وجاز أن يكون صفة لعيب

على الموضع، أو بدلا، ويكون خبر لا التبرئة في المجرور، وبعض هذه الوجوه متفق عليه، وبعضها مختلف فيه. وقوله (وأنا لا نخط على النمل) جملة في موضع خفض بالعطف على العرق، كأنه قال: غير عرق لمعشر كرام، وامتناع من الخط على النمل. ويجوز أن يكون في موضع نصب عطفا على المعنى، لأنه إذا قال (غير عرق) فمعناه إلا عرقا. ومن رفع (غيرا) أجاز أن تكون الجملة في موضع رفع، لأنه إذا قال غير عرق، فكأنه قال: إلا عرق: وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (3) (وأران طربا في إثرهم طرب الواله أو كالمختبل) هذا البيت للنابغة الجعدي، واسمه قيس بن عبد الله، وقال أبو عمرو الشيباني: اسمه حيان بن قيس بن عبد الله بن ربيعة بن جعدة، ويكنى أبا ليلى، قاله في شعر يذكر به مقتل عثمان رضي الله عنه، ويوم الجمل ويم صفين، وأنشده ابن قتيبة شاهدا على أن الطرب يكون في الجزع، كما يكون في السرور. ويدل على ذلك قوله (طرب الواله أو كالمختبل)؛ لأن الواله: هو الذي ذهب عقله، أو قارب الذهاب، لفقد حبيب ذهب عنه. والمختبل: الذي قطع عضو من أعضائه. قال يعقوب: يقال: بنو فلان يطالبون بني فلان بدماء وخبول أي بقطع أيد وأرجل، ويكون المختبل أيضاً: الفاسد العقل، وهو نحو

من الواله، والتفسير الأول أجود في هذا الموضع، ليختلف المعنيان، لأنه قال أو كالمختبل. ويدل أيضاً على أن الطرب: الجزع، قوله قبل هذا البيت: سألتني جارتي عن أسرتي وإذا ما عى ذو اللب سأل سألتني عن أناس هلكوا شرب الدهر عليهم وأكل وقوله (وأراني طربا في إثرهم): يجوز أن تكون هذه الرؤية رؤية علم، وهو الوجه، فيكون طربا مفعولاً ثانياً، ويجوز أن يكون رؤية عين، فيكون طربا منصوباً على الحال، لأن هذا مما يرى العين، ويرى بالقلب. وإنما قلنا إن الأول هو الوجه، لقوله (أراني)، فعدى فعل الضمير المتصل إلى الضمير، وهما جميعاً للمتكلم، ولا يجيز سيبويه وأصحابه تعدى فعل الضمير المتصل، إلى نفسه إلا في الأفعال المتعدية إلى مفعولين، مما يدخل على مبتد أو خبر، كقولك: ظننتني خارجا، وحسبتك منطلقا، ولا يجيز ذلك في الأفعال المتعدية إلى مفعول واحد، فلا تقول ضربتني، إنما تقول ضربت نفسي، ولا تقول للمخاطب. ضربتك إنما تقول: ضربت نفسك. وقد جاء ذلك في الأفعال المتعدية إلى مفعول واحد، إلا أنه قليل، قالوا: فقدتني وعدمتني، قال قيس بن ذريح:

ندمت على ما كان مني فقدتني كما يندم المغبون حين يبيع وقال عنترة: فرأيتنا ما بيننا من حاجز إلا المجن ونصل أبيض مقصل واستعمل ذلك أبو الطيب المتنبي، فقال: يرى حده غامضات القلوب إذا كنت في هبوة لا أراني وقوله (طرب الواله): مصدر مشبه به، أراد: طربا مثل طرب الوال فاجتمع فيه حذف الموصوف، وأقام صفته مقامه، وحذف المضاف، وإلى المضاف إليه منابه، على مثال قولهم: ضربته ضرب الأمير اللص، والو في موضع رفع بالطوب، كأنه قال: كما يطرب الواله.

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (4) (يقلن لقد بكيت فقلت كلاً وهل يبكى من الطرب الجليد) هذا البيت يروى لبشار بن برد، ويروى لعروة بن أذينة الفقيه، ورويناه عن أبي نصر عن أبي علي البغدادي: يقلن بالياء، والصواب: فقلن، لأن قبله: كتمت عواذلي ما في فؤادي وقلت لهن ليتهم بعيد فجالت عبرة أشفقت منها تسيل كأن وابلها فريد ورواه أبو علي في النوادر، فقالوا، وقد ذكرت فيما تقدم بما أغني عن إعادته هنا. وكلا: كلمة معناها الزجر والردع، وقيل: منعاها النفي، ولا موضع لمن من الإعراب، لتعلقها بالظاهر، وهو يبكى. وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (5) (ولن يراجع قلبي ودهم أبداً زكنت منهم على مثل الذي زكنوا) هذا البيت لقعنب بن أم صاحب، يقوله في أناس من قومه، كانوا يناصبونه العداوة، ويتتبعون عثراته، فيشهرونها في الناس. وبعد هذا البيت: كل يداجى على البغضاء صاحبه ولن أعالنهم إلا كما علنوا صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

ويجوز في ودهم النصب والرفع، لأن المراجعة فعل لا يصح وقوعه إلا من اثنين فما فوقهما ومن راجعك فقد راجعته. وأنشد ابن قتيبة: (6) (عشية قام النائحات وشققث جيوب بأيدي مأتم وخدود) هذا البيت لأبي عطاء السندي، فيما ذكر أبو جعفر بن حبيب، مرزوق، وقال ابن الأعرابي: اسمه أفلح، مولى عنبر بن سماك بن حصين، من شعر يرثى به عمر بن هبيرة الفزاري، وقبله: ألا إن عينا لم تجد يوم واسط عليك بجاري دمعها لجمود وعشية: ظرف أبدله من يوم واسط، ولا يصح أن يكون العامل فيه قام، لأنه بعض الجملة التي أضاف العشية إليها، ولا يجوز أن يعمل المضاف إليه في المضاف. وإنما العامل فيه لم تجد. فإن قيل كيف جاز أن يعمل فيه (لم تجد) وقد حال الخبر الذي هو قوله (لجمود) بين العامل والمعمول فيه. ولو قلت: إن الضارب أخوك زيدا، وأن خارجا غير مصيب يوم الجمعة، لم يجز، وإنما تقول: إن الضارب زيدا أخوك، وإن خارجا يوم الجمعة غير مصيب. فالجواب: أن العشية لما كانت بدلا من يوم واسط، والبدل يقدر من جملة أخرى، وتقدر معه إعادة العامل، بدليل ظهوره في نحو قوله (للذين

استضعفوا لمن آمن منهم) جاز ذلك. وقد أجاز النحويون تأخر الصفة بعد الخبر في نحو قولك إن زيدا خارج الكريم. والصفة أشد اتصالا بالموصوف من البدل، وأجازوا ذلك في المعطوف، كقولك إن زيدا خارج وعمراً، وعمرو على اللفظ وعلى الموضع، وإذا جاز في الصفة، كان في البدل أجوز. وأنشد ابن قتيبة: (7) (رمته أناة من ربيعة عامر نؤوم الضحى في مأتم أي مأتم) هذا البيت لأبي حية النميري، واسمه الهيثم بن الربيع. وقوله (رمته أناة) أي فتنته بمحاسنها، وصادته بعينيها، فكأنها رمته من ألحاظها بسهم قتله. والشعراء يشبهون العيون بالسهام واليسوف والرماح. والأناة: المرأة التي فيها فتور عند القيام، وهي مشتقة من الونى، وهو الإعياء والفتور، والهمزة فيها منقلبة عن واو، ولم تبدل الهمزة من الواو المفتوحة إلا في ألفاظ يسيرة، هذا أحدها، وأكثر ما تبدل من الهمزة المضمومة، نحو وجوه وأجوه، ومن المكسورة في نحو وشاح وإشاح وهو أقل من إبدال المضمومة. وقوله من ربيعة عامر، في موضع رفع على الصفة لأناة، فمن متعلقة بمحذوف، وهو الصفة التي ناب المجرور عنابها كأنه قال: كائنة من ربيعة عامر ونحو ذلك. وقوله (مأتم): يجوز أن

تكون في موضع الصفة لأناة، أو في موضع الحال منها، لأن النكرة إذا وصفت قربت من المعرفة، فجازت الحال معها وحسنت. وقد تجيء الحال من النكرة دون صفة، إلا أن ذلك قليل، وفيه قبح، لأن النكرة أحوج إلى الصفة منها إلى الحال، فحرف الجر الذي هو (في) متعلق أيضاً بمحذوف في الموضعين: وبعد هذا البيت: فجاء كخوط البان لا متتابع ولكن بسيمي ذي وقار وميسم فقلن لها سرا فديناك لا يرح صحيحا وإن لم تقتليه فألممي فالفت قناعادونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم وقالت فلما أفرغت في فؤاده وعينيه منها السحر قلن له: قم فود بجدع الأنف لو أن صحبه تنادوا وقالوا في المناخ له: نم وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (8) (وما هاج هذا الشوق إلا حمامة دعت ساق حر ترحة وترنما) هذا البيت لحميد بن ثور الهلالي، وقد ذكر ذلك ابن قتيبة، وإنما قال: فالحمامة هنا قمرية، لأن (ساق حر): اسم لذكر القمارى، وسمى بذلك لحكاية

صوته؛ والترحة: الشوق. والترنم: الغناء، وهما مصدران واقعان موقع الحال من الضمير الفاعل في دعت. وقوله (دعت ساق حر) جملة في موضع الصفة لحمامة، وبعد هذا البيت: إذا شئت غنتني بأجزاع بيشة أو النخل من تثليث أو من يبنبما محلاة طوق لم يكن من تميمة ولا ضرب صواغ بكفيه درهما وأنشد ابن قتيبة للنابغة الذبياني: (9) (أحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد) اسم النابغة الذبياني: زياد بن معاويةن ويكنى أبا أسامة وأبا عقرب، بابنتين كانتا له، ولقب النابغة لأنه قال الشعر بعدما كبر. وقيل سمى بقوله: وحلت في بني القين بن جسر فقد نبغت لنا منهم شئون وليس في بيت النابغة من الدليل على أنه أراد بالحمام القطا، مثل ما في بيت

حميد بن ثور، من الدليل على أنه أراد بالحمامة القمرية؛ وإنما علم ذلك بالخبر المروي عن زرقاء اليمامة، أنها نظرت إلى قطا فقالت: يا ليت ذا القطا لنا ومثل نصفه ليه إلى قطاة أهلنا إذا لنا قطاميه وقد روى أنها قالت: ليت الحمام ليه إلى حمامتيه ونصفه قديه تم الحمام مية وقوله: (أحكم كحكم فتاة الحي) أي أصب في أمرك كإصابة فتاة الحي، فهو من الحكم الذي يراد به الحكمة، لا من الحكم الذي يراد به القضاء، قال الله تعالى (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما) أي حكمة، ويقال من ذلك: حكم الرجل يحكم: إذا صار حكيما، قال النمر بن تولب: وأحبب حبيبك حبا رويدا فليس يعولك أن تصرما وأبغض بغيضك بغضا رويدا إذا أنت حاولت أن تحكما وكان الأصمعي يروى (شراع) بالشين معجمة، يريد الذي شرعت في الماء وروى غيره (سراع) بالسين غير معجمة: والثمد: الماء القليل. وجاز أن يصف حماما، وهي نكرة بوارد، وقد أضافه إلى المعرفة؛ لأن إضافته غير محضة، لأن الثمد مفعول في المعنى، وإن كان مخفوضاً في اللفظ،

وأفرد (واردا) وإن كان صفة لحمام، حملا على معنى أجمع. كما قال تعالى (من الشجر الأخضر نارا) والكاف في قوله (كحكم): متعلقة بمحذوف، لأنها في موضع صفة لمصدر مقدر، كأنه قال: احكم حكما كحكم. وأنشد ابن قتيبة: (10) (قد أعسف النازح المجهول مسعفه في ظل أخضر يدعو هامه البوم) هذا البيت لذي الرمة، واسمه غيلان بن عقبة، من عدى الرباب، ويكنى أبا الحارث، ولقب ذا الرمة لقوله في صفة الوتد: لم يبق منها أبد الأبيد غير ثلاث ما ثلاث سود

وغير مشجوع القفا موتود فيه بقايا رمة التقليد والرمة: الحبل البالي وقيل: بل لقبته بذلك مية وذلك أنه مر بخبائها قبل أن ينسب بها، فرآها فأعجبته، فأحب الكلام معها فخرق دلوه، وأقبل إليها وقال: يا فتاة اخرزي لي هذه الدلو فقالت إني خرقاء: والخرقاء: التي لا تحسن العمل: فخجل غيلان، ووضع دلوه على عنقه وهي مشدودة بحبل بال، وولى راجعا، فعلمت منه ما أراد، فقالت: يا ذا الرمة انعطف، فانعطف، فقالت: إن كنت أنا خرقاء، فإن أمتى صناع، فاجلس حتى تخرز دلوك. ثم دعت خادمتها، وقالت: أخرزي له هذه الدلو، فكان ذو الرمة يسمى مية خرقاء، لقولها إني خرقاء، وغلب عليه ذو الرمة. وقد قيل إن الخرقاء غير مية. وقوله (قد أعسف النازح) العسف والاعتساف: ركوب الفلاة بلا دليل، والنازح: القفر البعيد. وقوله (يدعو هامه البوم): يريد أنه قفر خال موحش، يمدح نفسه بأنه يقطع القفار الخالية الموحشة، البعيدة عن الناس، التي يجهل الناس المشي فيها بالليل المظلم، وذلك أشد وأصعب على الماشي فيها. وقوله (يدعو هامه اليوم): جملة في موضع جر على الصفة لأخضر. وفي الكلام ضمير مقدر، يعود على الموصوف من صفته، كأنه قال: داع هامه البوم فيه. ويجوز أن يكون في موضع الحال من النازح. وفي الكلام أيضاً ضمير مقدر، يرجع إلى النازح، ويكون في البيت تقديم وتأخير، ويروى (في ظل أغضف). وبعد هذا البيت: بالصهب ناصية الأعناق قد خشعت من طول ما وجفت أشرافها الكوم

ومعنى خشعت: تطأطأت وانخفضت من الهزال. وأراد بأشرافها أسمنتها، والكوم: العظام المرتفعة. ومعنى وجفت: أي أسرعت، وأطالت السير. وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (11) (تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي) هذا البيت لامرئ القيس بن حجر، واسمه فيما ذكر بعض النسابين حندج، وامرؤ القيس: لقب له، ومعناه: رجل الشدة. كذا قال علي بن حمزة. وأنشد: وأنت على الأعداء قيس ونجدة وللطارق العافي هشام ونوفل ويكنى أبا وهب، وأبا الحارث. وقال غير علي بن حمزة: قيس: اسم صنم نسب إليه، ولهذا كان يكره الأصمعي أن يقول: امرؤ القيس، وكان يروي (عقرت بعيري يا امرأ الله فانزل) وقبل هذا البيت: ولما رأت أن الشريعة همها وأن البياض من فرائصها دامي

والشريعة: مورد الماء حيث تشرع الدواب، والهم ههنا: المراد والمطلب الذي تهم به، والفرائص: جميع فريصة، وهي مضغة بين الثدي ومرجع الكتف. ومعنى تيممت: قصدت. وضارج: موضع في بلاد بني عبس، فيه ماء، والعرمض والطحلب والغلفق: سواء، وهي الخضرة تكون على الماء. وطام: مرتفع. يصف أنه ماء لا يرده أحد، فقد علاه الطحلب، وفي معنى هذين البيتين قولان: قيل يصف حمرا وحشية عطشت، فاحتاجت إلى ورود الماء، وخشيت إن وردت شريعة الماء رماها القانص في فرائصها، فدميت، فنكبت عن ذلك، وأنت عين ضارج، كأنها أمنت أن يكون عليها قانص يرميها. وقيل إنما يصف ناقته، ونسب الهم إليها، والمراد نفسه. ومعنى قوله (وأن البياض من فرائصها دامي) أن الماء إن تعذر وجوده، نحرت فاستخرج ما في جوفها من الماء، فشرب. وكذلك كانوا يفعلون في الفلوات إذا لم يجدوا ماء، قال الشاعر: وشربة لوح لم أجد لسائقها بدون ذباب السيف أو شفرة حلا كلا المعنيين يحتمله الشعر، وإنما يعمل مراد الشاعر منها بالوقوف على بقية الشعر: ولم أجد هذا الشعر فيما رواه الطوسي وغيره لامرئ القيس، وإنما وجدته في بعض الحديث المروى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعند، متعلقة بالاستقرار المقدر في صلة التي، كأنه قاله التي استقرت عند ضارج، ولا موضع لعند، وما تعلقت به من الإعراب، لأنها من تمام الاسم الموصول، كما لا موضع للدال من زيد.

وقوله (يفيء عليها الظل)، وقوله (عرمضها طامي): جملتان لهما موضع من الإعراب، وموضعهما النصب على الحال. أما الجملة الأولى ففي موضع نصب على الحال من العين، والعامل فيها تيممت، ولا يصح أن يعمل فيها الاستقرار، لأنه يصير المعنى: أنها مستقرة عنده في حال فيء الظل خاصة، دون سائر أحوالها. وأما الجملة الثانية فيجوز أن تكون حالاً من العين، والعامل فيها تيممت أيضاً. ويجوز أن تكون حالاً من الضمير في عليها، والعامل فيها يفيء، ولا موضع لعلى هذه، لتعلقها بالظاهر. وأنشد ابن قتيبة: (12) (إذا الأرطي توسد أبرديه خدود جوازئ بالرمل عين) البيت للشماخ، واسمه معقل بن ضرار. وذكر ابن دريد أنه كان يكنى أبا سعيد. وهذا البيت من قصيدة مدح بها عرابة بن أوس الأنصاري، وقبله:

إليك بعثت راحلتي تشكى هزالا بعد محفدها السمين إذا بركت على شرف وألقت عسيب جرانها كعصا الهجين يعنى بالمحفد: السنام. والعسيب ههنا: عظم العنق. وفي غير هذا الموضع: عظم الذنب. والجران باطن العنق، وشبهه بعصا الهجين لخفته وطوله. وخص الهجين، لأن العبيد كانوا يرعون الإبل، ويستجيدون العصى. والأرطي: شجر تدبغ به الجلود. ومعنى توسد أبرديه: اتخذتهما كالوسادة. والأبردان: الظل. والفيء، سميا بذلك لبردهما. والأبردان أيضاً: الغداة والعشي. والجوازئ: الظباء وبقر الوحش سميت جوازئ لأنها تجزأ بأكل النبت الأخضر عن الماء أي تكتفي به، ويغنيها عن شرب الماء، وعين: واسعات الأعين: والمعنى أن الوحش تتخذ كناسين عن جانبي الشجر، تستتر فيهما من حر الشمس، فترقد قبل زوال الشمس في الكناس الغربي، فإذا زالت الشمس عن كبد السماء إلى ناحية المغرب، وتحول الظل، فصار فيئاً، زالت عن الكناس الغربي، ورقدت في الكناس الشرقي. فوصف الشماخ أنه قطع الفلاة في الهاجرة، حين تفر الوحش من حر الشمس إلى الظل. يمدح نفسه بالجلادة، والصبر على مشقة السفر، ويوجب على الممدوح بذلك رعاية حقه، وأن يثيبه ولا يخيب عناءه وتعبه. وأما إعرابه فإن إذا ظرف من ظروف الزمان، فيه معنى الشرط، غير أنه لا يجزم عند البصريين، ولا جواب له في هذا البيت، ولا بعده، لأن المتصل به قوله: كأن محاز لحييها حصاة جناباً جلد أجرب ذي غضون

وإنما الجواب محذوف، أغنى عنه ما تقدم من قوله: (إليك بعثت راحلتي) كما تقول: أنا أشكرك إن أحسنت إلي، فلا تأتي للشرط بجواب، لأن قولك (أنا أشكرك) قد أغنى عنه، ولأجل ما ذكرناه من معنى الشرط الموجود في إذا، لا يجوز عند البصريين أن يرتفع الاسم بعدها بالابتداء، لأن الشرط يطلب الفعل: ظاهراً أو مضمراً، فلا يصح على مذهبهم أن يكون الأرطي ههنا مرفوعاً بالابتداء، ولكن يقدر له فعل يفسره ما بعده، كأنه قال: إذا توسد الأرطي توسد أبرديه. والكوفيون يجيزون فيه الابتداء. وقوله (بالرمل) في موضع جر على الصفة لجوازئ، كأنه قال: جوازئ كائنة بالرمل، أو مستقرة، فللباء موضع، لتعلقها بمحذوف، وصفر جوازئ، ضرورة. وذكر أبو الفرج الأصبهاني في هذا البيت حكاية مستظرفة، رأيت ذكرها في هذا الموضع. حكى عن المدائني أن عبد الملك بن مروان نصب الموائد يطعم الناس، فجلس رجل من أهل العراق على بعض الموائد، فنظر إليه خادم، لعبد الملك فأنكره، فقال أعراقي أنت؟ قال نعم، فقال: بل أنت جاسوس. قال لا، ويحك دعني أتهنا بطعام أمير المؤمنين، ولا تنغصه على. ثم إن عبد الملك أقبل بطوف على الموائد، فوقف على تلك المائدة، فقال من القائل: إذا الأرطي توسد أبرديه خدود جوازى بالرمل عين وما معناه؟ ومن أجاب فيه أجزناه. فقال العراقي للخادم: أتحب أن أشرح لك ذلك؟ قال: نعم فقال: هذا البيت بقوله عدي بن زيد في صفة البطيخ الرمسي،

فنهض الخادم مسروراً إلى عبد الملك، فأخبره، فضحك عبد الملك حتى سقط فقال له الخادم: أخطأت يا مولاي أم أصبت؟ فقال: بل أخطأت. فقال هذا العراقي لفنني إياه. فقال: أي الرجال هو؟ فأراه إياه، فقال: أنت لقنته هذا؟ فقال: نعم. فقال: أصوابا لقتنه أم خطأ؟ فقال: بل خطأ. فقال: ولم؟ قال: لأني كنت متخرما بمائدتك، فقال لي كيت وكيت، فأردت أن أكفه عني، وأضحك منه. فقال له عبد الملك: فكيف الصواب؟ فقال: هذا البيت بقوله الشماخ بن ضرار الغطفاني، في صفة البقر الوحشية التي قد جزأت بالرطب عن عن الماء، فقال: صدقت، وأمر له بجائزة ثم قال له: ألك حاجة؟ قال: نعم. قال: وما هي؟ قال تنحى هذا عن بابك، فإنه يشينه. وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (13) (حتى لحقنا بهم تعدى فوارسنا كأننا رعن قف يرفع الآلا)

البيت للنابغة الجعدي، من شعر يهجو به سوار بن أوفى القشيرئ والضمير في قوله (بهم): يعود إلى قوم ذكرهم قبل هذا البيت، فقال: كفعلنا بابن حسان الرئيس وبا بن الجون إذ لا يريد الناس إقبالا إذ أصعدت عامر لا شيء يحبسها حتى نرى دونهم هضبا وأغوالا ومثلهم من بني عبس ندفهم دف الرحى الحب إدبارا وإقبالا ثم استمرت شموس الريح ساكرة تزجى رباها ضعاف الوطء أطفالا وقوله (تعدى فوارسنا) أراد تعدى فوارسنا الخيل، فحذف المفعول اختصارا لما فهم المعنى. (رعن القف): نادر يندر منه. والقف: ما ارتفع من الأرض، شبه أنفسهم في كثرة عددهم برعن قف رفعه الآل، فعظم ظله، وأراد: كأننا ظل رعن قف، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، لأنه إنما شبه أنفسهم بظل الرعن، لا بالرعن. وإنما أراد أن عددهم لكثرته قد ملأ الفضاء، كما يملأه ظل الرعن، إذا رفعه الآل. وقد قيل إنما شبه حركتهم في عددهم بحركة القف في الآل، لأن الجبال في ذلك الوقت تخيل إلى الناظر أنها تضطرب، ولذلك قال العجاج. كأن رعن الآل منه في الآل بين الضحا وبين قيل القيال وإذا بدا دهانج ذو أعدال فشبه الرعن لاضطرابه في الآل بجمل يسرع وعليه أعدال، فلا حذف في البيت على هذا التأويل. وقال الأصمعي: إنما قال: يرفع الآل: لأنه ينزو في الآل،

فإذا نزا فكأنه قد رفع الآل. يريد أنه لا قلب في البيت، كما قال ابن قتيبة. وقوله (تعدى فوارسنا): جملة في موضع الحال من الضمير الفاعل في لحقنا. وقوله: (كاننا رعن قف) جملة في موضع الحال من الضمير الفاعل أيضاً. وقوله. (يرفع الآلا): جملة في موضع الصفة للقف، أو للرعن: وأنشد ابن قتيبة: (14) (كأنها وقد براها الأخماس ودلج الليل وهاد قياس) شرائج النبع براها القواس الرجز للشماخ بن ضرار، قاله وهو يحدو بأصحابه في بعض أسفارهم. والضمير في قوله: كانها، يعود على الإبل ولم يتقدم لها ذكر في هذا الرجز، لأن هذا البيت أول الأرجوزة، وإنما أضمر لها من غير ذكر لها، استغناءً بالحال التي كان فيها، ولأن هذا الرجز إنما قاله بعد أراجيز قالها الحسن بن مزرد أخي الشماخ، وجليج ابن شريد، وجندب بن عمرو، وذلك أنهم كانوا في سفر، فتداولوا حداء الإبل، فكان كل واحد منهم ينزل عن بعيرة، ويحدو الإبل، ثم يركب وينزل الآخر. والأخماس: جمع خمس، وهو أن ترد الإبل في كل خمسة أيام. ودلج الليل: سيره كله. والهادي: الدليل الذي يهديها. والشرائج. جمع شريجة، وهي القوس تصنع من عود يشق، فتعمل منه قوسان. والنبع: شجر صليب،

تتخذ منه القسي والسهام. والهادي القياس: الحاذق بالهداية والدلاية. ويروى: (وهاد قسقاس) وهو الشديد السوق، الذي لا يخلد إلى راحة. يقال قسقس ليلته: إذا سارها كلها حتى يصبح. وقوله (وقد براها الأخماس): جملة في موضع نصب على الحال من الضمير المنصوب بكان. وقوله (براها القواس): جملة في موضع الحال من الشرائج، والعامل في الحالين ما في كان من معنى التشبيه، لأن كأن تعمل في الأحوال، بخلاف إن، لأن كأن تدخل على الجمل، فتغير ألفاظها ومعانيها، فيقوى فيها معنى الفعل، (وإن) ليست كذلك، لأنها إنما تغير لفظ الجملة فقط، فضعف فيها معنى الفعل، فلم تقو على العمل في الأحوال ونحوها من اللواحق والفضلات، ويدل على ذلك قول النابغة: كأنه خارجا ًمن جنب صفحته سفود شرب نسوة عند مفتاد وبعد هذه الأبيات: يهوى بهن بختري لباس كان حر الوجه منه قرطاس ليس بما ليس به بأس باس ولا يضر البر ما قال الناس يهوى: يسرع. والبختري. المتبختر في مشيه كبرا وإعجابا، ولباس يلبس بعضها بعض.

وأنشد بن قتيبة في هذا الباب: (15) (فباتوا يدلجون وبات يسري بصير بالدجى هاد غموس) هذا البيت لأبي زبيد الطائي واسمه حرملة بن المنذر وهو أحد من شهر بكنيته دون اسمه، يصف قوماً سروا والأسد يقفو آثارهم لكي ينتهز فيهم فرصة وبعد هذا البيت: إلى أن عرسوا وأغب عنهم قريبا ما يحس له حسيس خلا أن العتاق من المطايا حسين به فهن إليه شوس وقوله بصير باتدجي يريد أنه بصير بالمشي في الظلم هاد فيه. والدجى: الظالم واحدتها دجية. وهذا مما خالف فيه التصريف القياس، لأن الفعل دجا يدجو. فكان القياس دجوة، ولهذا يجوز في الدجا أن يكتب بالياء حملا على واحدها، وبالألف حملا على فعلها، والغموس: الواسع الشدقين، من قولهم طعنة غموس: إذا كانت واسعة الشق عميقة. ويروى عموس بالعين غير معجمة، وهو الذي يتهافت في الأمور كالجاهل. يقال: فلان يتعامس، أي يتجاهل. ويروى هموس، وهو الخفيف الوطء الذي لا يحس بوطئه. وأنشد ابن قتيبة: (16) (وتشكو بعين ما أكل ركابها وقيل المنادى أصبح القوم أدلجي)

البيت للشماخ بن ضرار، والركاب: الإبل. والقيل: القول والقال سواء. قال الله تعالى (ومن أصدق من الله قيلا) ويروى: وقال المنادي. يصف امرأة أتعبها طول السير ليلاً ونهاراص. فمعناه: وتشكو هذه المرأة السير الذي أكل ركابها، وتشكو قول المنادي عند الصباح: قد أصبح القوم فما تنتظرون بالسير. وقوله في أول الليل: (أدلجى) أي سيري بالليل، فلا راحة لها. ومعنى شكواها بعينها أن السفر لما طال عليها غارت عيناها، وانكسر طرفها، وصار النعاس يغالبها على ظهر المطية، فجعل ذلك كالشكوى، لأنه دليل على ما تكابده وتقاسيه ويروى (ما أكلت) فمن ذكر الضمير، أراد السير الذي أكل بها. ومن أنت أراد الحال التي أكلت ركابها، أو المشقة. وجاز ذلك، لأن (ما) تقع للمذكر والمؤنث بلفظ واحد، وإنما يعلم مكانها من التذكير والتأنيث بضميرها العائد إليها، أو بغيره مما يدل عليه فحوى الكلام. وقد قال بعض أصحاب المعاني إنه يصف ناقة، وذلك غلط، والدليل على أنه يصف امرأة قوله قبل هذا البيت: ألا أدلجت ليلاك من غير مدلج هوى نفسها إذ إدلجت لم تعرج وكيف أرجيها وقد حال دونها بنو الهون من جسر ورهط ابن حندج تحل الشجا أو تجعل الرمل دونه وأهلي بأطراف اللوي فالموتج

وموضع (ما) نصب بتشكو. وقيل معطوف على (ما) وكذلك من روى (وقال). والمنادى مخفوض بإضافة القيل والقال إليه، وأصبح ههنا: لا خبر لها، لأن معناها دخلوا في الصباح، ولم تدخل على جملة فيلزم أن يكون لها خبر، إنما هي بمنزلة قولهم أظلم القوم: إذا دخلوا في الظلام، وأمسوا: إذا دخلوا في المساء، وما في هذا البيت هي الموصولة الجارية مجرى الذي، ولا يجوز أن تكون المصدرية، أعني التي تأتي بمعنى المصدر، كقولك أعجبني ما صنعت، أي أعجبني صنعك، كأنه قال: إكلال ركابها، وإنما لم يجز ذلك لأن في أكل ضميرا يرجع إليها، وما المصدرية حرف لا يعود إليها من صلتها ضمير، كما لا يعود إلى أن الموصولة إذا قلت: أعجبني أن تقوم. وأنشد ابن قتيبة: (17) (هجوت محمداً وأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء) (فإن أبى ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء) وهذا الشعر لحسان بن ثابت يخاطب به أبا سفيان بن الحارث، وكان هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن عباد بن عباد، عن أبيه قال: أنشد النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت قصيدته التي أولها:

عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء حتى انتهى إلى قوله: هجوت محمداً وأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جزاؤك على الله الجنة يا حسان، فلما انتهى إلى قوله: فإن أبى ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقاك الله يا حسان النار، فلما قال: أتهجوه ولست له بند فشر كما لخير كما الفداء قال من حضر: هذا أنصف بيت قالته العرب. وقوله: هجوت محمدا وأجبت عنه: كذا الرواية، وفيه شاهد على أن المعطوف بالواو قد يكون مرتباً يعد ما عطف عليه، لا ينوى به التقديم والتأخير إذا كان في الكلام دليل على الترتيب. فإن لم يكن في الكلام دليل على الترتيب، جاز أن يكون كل واحد من الاسمين هو المبدوء به، ومثل هذا قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها) فإخراج الأرض أثقالها إنما هو بعد الزلزلة. والعامل في (عند) الاستقرار، فمن رفع الجزاء بالابتداء، وجعل (عند) متضمناً لخبره، فلعند موضع من الإعراب. ومن جعل الجزاء مرفوعاً بالاستقرار، وهو مذهب الأخفش، فلا موضع لعند. واللام في قوله لعرض محمد في موضع نصب على الحال، من الوقاء، وهي حال لنكرة تقدمت عليها، لأنه لو قال: وقاء لعرض محمد،

لكان المجرور في موضع الصفة لوقاء، فلما تقدم صار في موضع نصب على الحال. وأما قوله (منكم وقاء) فالمعنى: وقاء منكم، كما تقول: وقيته بنفسي من المكروه، فحكم من أن تكون متعلقة بوقاء، ولكن لا يجوز أن تجعلها متعلقة به وقد قدمتها عليه، لأنك تقدم صلة المصدر عليه، ولكن تعلقها بفعل دل عليه وقاء، كأنه قال: يقونه منكم، والتقدير: ذو وقاء. فحذف المضاف. ويجوز أن يكون الأب والوالد والعرض الوقاء بعينه، مبالغة في المعنى، كما تقول للرجل ما أنت إلا مخلوق من الكرم: إذا كثر ذلك منه، ومثله قوله تعالى: (خلق الإنسان من عجل) ويجوز أن تجعل المصدر نائباً مناب اسم الفاعل، كأنه قال: لعرض محمد منكم وأقون، كما نقول: رجل عدل، وأنت تريد عادل. وقوله (في ذاك الجزاء) معناه: على ذاك، لأنك إنما تقول جازيته على كذا، ولا تقول جازيته في كذا. فهذا مكان على، لا مكان في، وقياسه قياس ما تقدم. وأنشد ابن قتيبة: (18) (إذا ما انتحاهن شؤوبوبه رأيت لجاعرتيه غضونا) البيت: لكعب: بن زهير بن أبي سلمى. ومعنى انتحاهن: اعتمدهن. وشؤبوبه: شدة دفعه في السير. والجاعرتان: موضع الرقمتين من مؤخر الحمار.

والغضون: الكسر والتشنج في الجلد، يقال تغض جلده: إذا تشنج. وواحد الغضون: غضن قال الراجز. أريت إن سقنا سياقا حسنا نمد من آباطهن الغضا وإنما وصف كعب بن زهير حمارا وحشياً يسوق أتنا، ويعنف عليهن في السوق، فترى جواعره تنبسط تارة، وتنغضن تارة. وأنشد يعقوب بن السكيت بعد هذا البتي: وبصبصهن بين أداني الغضى وبين غدانة شأوا بطينا فصادفن ذا حنق لاطئاً لصوق البرام يظن الظنونا والبصبصة: سرعة السير، يقال قرب بصباص: شديد [لا اضطراب فيه] والشأو: الطلق، والشأو أيضاً: السبق. وقوله: فصادفن ذا حنق: يعني القانص. والحنق: الغضب. والبرام، القراد.

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (19) (عشنزوة جواعرها ثمان) هذا صدر بيت لحبيب بن عبد الله الهذلي، وهو المعروف بحبيب الأعلم، يصف ضيعا وتمام البيت: (فويق زماعها وشم حجول) وبعده: تراها الضبع أعظمهن رأساً جراهمة لها حرة وثيل العشنزرة: الغليظة. ويقال: هي السريعة. يقال: سير عشنزو، قال الشاعر: فهاتي لنا سيراً أحد عشنزرا وذكر ابن قتيبة أنه لم يسمع من أحد علمائه في قوله (جواعرها ثمان) قولاً يرتضيه. وقال في كتابه الموضوع في المعان الشعر: سألت الرياشي عن قوله (جواعرها ثمان) فقال: الجواعر أربع، وهي في موضع الرقمتين من مؤخر الحمار. وأراد زيادة في تركيب خلقها. وهذا الذي حكاه ابن قتيبة عن الرياشي قول حسن، إلا أنه يحتاج إلى تلخيص وزيادة بيان، ولذلك لم يرضه ابن قتيبة فيما أحسب.

وحقيقة ما ذهب إليه أن الشاعر لم يرد أن لها ثماني جواعر على الحقيقة، لأن الجواعر إنما هي أربع، وإنما أراد أن عجزها واسع عظيم، يحتمل لسعته أن يكون فيه ثمان جواعر. والعرب تخرج الشيء الممكن مخرج الشيء الذي قد وجب ووجد، فيقولون جاءنا بحفنة يقعد فيها ثلاثة رجال. وليس المراد أنه جاء بالجفنة وفيها ثلاثة رجال. وإنما المراد أنها تحتمل ذلك لعظمها، ومثله قول عوف ابن عطية: لها حافر مثل قعب الوليد يتخذ الفأر فيه مغارا أي: لو اتخذه فيه لأمكنه ذلك. وقوله (فويق زماعها) الزماع جمع زمعة، وهي شعرات مجتمعات خلف ظلف الشاة ونحوها شبيهة بالزيتونة، والوشم: خطوط تخالف معظم اللون والحجول: جمع حجل وهو البياض. ويجوز أن يكون جمع حجل، وأصله القيد، ثم يقال للخلخال حجل، تشبيهاً به، قال جرير في الحجل الذي يراد به القيد: ولما اتقى القين العراقي باسته فزعت إلى العبد المقيد في الحجل وقال النابغة الذبياني في الحجل، الذي هو الخلخال: على أن حجليها وإن قلت أوسعا صموتان من ملء وقلة منطق

ويجوز أن تكون الحجول: جمع حجل، كقولك أسد وأسود، والحجل: التحجيل بعينه قال أبو النجم: إغر في البرقع باد حجله نعلو به الحزن وما نسهله والضبع جمع ضباع، وضباع: جمع ضبع. والجراهمة: العظيمة الرأس. ويروى حراهمة، بالحاء غير معجمة، وهي الشديدة الغلمة وهي العراهمة أيضاً بعين غير معجمة ويروى زراهمة بزاء بعدها راء وهي العظيمة. وأنشد ابن قتيبة: (20) (أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد) هذا البيت للراعي، واسمه عبيد حصين بن معاوية بن نوح النميري، ويكنى أبا جندل. وقال محمد بن حبيب: يكنى أبا نوح، ولقب الراعي، لأنه وصف راعى الإبل، فأجاد وصفة، فقالت العرب: ما هذا إلا راع، فغلب ذلك عليه، وشهر به. والحلوبة: الناقة التي تحلب، وكذلك الشاة، وهي بمعنى محلوبة،

كما يقال: ناقة ركوبة، أي مركوبة. وقوله (وفق العيال) أي لها لبن قمر كفايتهم، لا فضل فيه عنهم. وقيل قدر ما يقوتهم، وكل شيء طابق شيئاً وافقة، فهو وفق. والسيد: الشعر. وقيل الوبر. فإذا قيل ما له سيد ولا لبد، فمعناه: ما له ذو وبر ولا صوف متلبد، يكنى بهما عن الإبل والغنم. وقيل: يكنى بهما عن المعز والضأن. وقيل: يكنى بهما عن الإبل والمعز. فالوبر: للإبل، والشعر: للمعز. ثم كثر ذلك حتى صار مثلاً مضروباً للفقر، فقيل لكل من لا مال له، أي شيء كان. ففي هذا الكلام مجاز من وجهين: أحدهما إيقاعهم النفي على السبد واللبد، وهم يريدون نفي ما له السبد واللبد. والثاني: استعمالهم ذلك في كل من لا مال له، وأصله أن يكون في الإبل والمعز والغنم خاصة. وهذا البيت من قصيدة قالها الراعي في عبد الملك بن مروان، يشتكى فيها إليه عماله، ويصف جورهم على الناس في أخذ الصدقة. وقبله: أزرى بأموالنا قوم بعثتهم بالعدل ما عدلوا فينا ولا قصدوا نعطى الزكاة فما يرضى خطيبهم حتى نضاعف أضعافاً لها عدد وأنشد ابن قتيبة: (21) (وإن بني ربيعة بعد وهب كراعي البيت يحفظه فجانا)

البيت: للنمر بن تولب العكلى، وكان يلقب الكيس بصناعة الشعر. وكان أبو حاتم يقول النمر بسكون الميم، ويزعم أن العرب لا تقوله إلا هكذا. وهذا الذي ذكره غير معروف. وقوله (بعد وهب) يريد بعد خيانة وهب، وليس يريد: (بعد هلاك وهب)، ولو كان كذلك لكان قد مدح وهبا، وليس بمدحه، إنما يذمه. والمعنى: أن وهبا كان أوثقهم وأجدرهم بالأمانة، فإذ قد خان وهب، فهم أجدر بالخيانة، والدليل على أنه يذم وهبا قوله قبل هذا البيت: يريد خيانتي وهب وأرجو من الله البراءة والأمانا فإن الله يعلمني ووهبا ويعلم أن سنلقاه كلانا ويروى: (يحفظه) بضم الياء: أي يؤتمن عليه، يقال حفظ الرجل الشيء وأحفظته إياه، وهذا بين لا إشكال فيه. ويروى (يحفظ) بفتح الياء، وفيه إشكال، لأن الحافظ لا يخون، فكيف وصفه بالحفظ والخيانة. والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما أن الفاء في كلام العرب إنما وضعت لتدل على أن ما بعدها يقع عقيب ما قبلها. فمعناه: يحفظه أولا ثم يعقب الحفظ بالخيانة. والثاني أن يكون معنى يحفظه: يدعى أنه يحفظه وهو يخون، لأن العرب تنسب الفعل إلى من يدعيه كما تنسبه إلى من هو له بالحقيقة، فإذا قلت: هذا ضارب زيدا، جاز أن يكون معناه هذا الذي أوقع بزيد الضرب على

الحقيقة. وجاز أن يكون معناه هذا الذي يزعم أنه ضرب زيداً. وقد يقال أيضاً هذا ضارب زيد، إذا كان عازماً على ضربه، معتقداً لذلك. ويقال أيضاً هذا ضارب زيد: إذا أ/ر بذلك أو رضيه. وأنشد ابن قتيبة: (22) (لا يتأرى لما في القدر يرقبه ولا يعض على شر سوقه الصفر) البيت لأعشى باهلة، واسمه عامر بن الحارث بن رياح، ويكنى أبا قحافة، من شعر يرثى به المنتشر بن وهب الباهلي. وهذا البيت الذي أنشده ابن قتيبة، مركب من بيتين، والذي رواه أبو العباس المبرد في الكامل: لا يتأرى لما في القدر يرقبه ولا تراه أمام القوم يقتفر لا يغمز الساق من أين ولا وصب ولا يعض على شرسوفه الصفر وغير بعيد أن يكون ما ذكره ابن قتيبة رواه ثانية. ومعنى البيت: أنه يمدحه بأن همته في طلب المعالي، فليس يرقب

نضج ما في القدر، إذا هم بأمر له فيه شرف، بل يتركها ويمضي لما يريده. وقوله (ولا يعض على شرسوفه الصفر) الشرسوف: طرف الضلع، والصفر حية تتخلق في البطن، وتعض على شراسيف الأضلاع إذا جاع الإنسان، ولم يرد أن يثبت أن في جوفه صفرا لا يعض على شراسيفه، وإنما أراد أنه لا صفر في جوفه، فيعض على شراسيفه. يصفه بشدة الخلق وصحة البنية. وهذا كقوله تعالى: (لا يسألون الناس إلحافا) أي لا يكون منهم سؤال فيكون إلحاف، ولم يرد أن يثبت أن لهم سؤالا لا إلحاف فيه، ومثله قول امرئ القيس: على لا حب لا يهتدى بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا أي ليس فيه منار، فتكون فيه هداية. وحروف الجر المذكورة في هذا البيت: لا موضع لها لتعلق كل واحد منهما بالظاهر، أو ما هو في حكم الظاهر. فاللام متعلقة بيتأرى، وعلى متعلقة ببعض، وفي متعلقة بالاستقرار المضمن في الصلة، وهو في حكم الملفوظ به. وقوله: (يرقبه): جملة موضعها نصب على الحال من الضمير في يتأرى، وهي على هذا التقدير حال جارية على من هي له. ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من (ما) وهي على هذا حال جارية على غير من هي له. وإنما جاز أن تكون حالاً منهما معاً، لأن فيها ضميراً عائداً على كل واحد منهما وجاز أن يستتر الضمير، وإن كانت قد جرت حالا على غير من هي

له، لأن الفعل يستتر فيه ضمير الأجنبي، كما يستتر ضمير ما ليس بأجنبي. ولو ظهرت الحال إلى اللفظ لقلت في أحد الوجهين (راقبه)، فلم تظهر الضمير، وقلت في الوجه الآخر (راقبه هو) فأظهرت الضمير. وأنشد في هذا الباب: (23) (وتبرد برد رداء العرو س بالصيف رقرقت فيه العبيرا) البيت لأعشى بكر، واسمه ميمون بن قيس بن جندل، ويكنى أبا بصير، ويسمى: قتيل الجوع، لأنه دخل غارا يستظل فيه من الحر، فوقعت صخرة على فم الغار فمات فيه جوعا. ففي ذلك يقول جهنام يهجوه: أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل وخالك عبد من خماعة راضع وبعد قوله وتبرد برد رداء العروس: وتسخن ليلة لا يستطيع نباحا بها الكلب إلا هريرا يصف امرأة بصحة الجسم، واعتدال المزاج، فيقول إنك إذا ضاجعتها بالصيف وجدتها باردة الجسم كبرد رداء العروس إذا رقرق فيه العبير: أي جعل

رقيقاً وذلك حتى يصير أملس، وإذا ضاجعتها في البرد الشديد الذي لا يقدر فيه الكلب على النباح وجدت جسمها سخناً. والباء في قوله بالصيف: بمعنى في. وفي البيت تقديم وتأخير، وتقديره: وتبرد بالصيف برد رداء العروس. فالباء متعلقة بتبرد، وبرد رداء العروس منصوب على المصدر المشبه به، والتقدير: وتبرد بردا مثل برد رداء العروس، فحذف الموصوف والمضاف، كما حذفا من قولك: ضربته ضرب الأمير اللص، وقوله. (رقرقرت فيه العبيرا): جملة في موضع نصب على الحال من الرداء، وهي حال جارية على غير من هي له. ولو جعلت مكان الفعل الحال المحضة لقلت: مرقرقاً فيه العبير أنت، فأبرزت الضمير. ولو قلت رقرق فيه العبير ثم أظهرت الحال لقلت: مرقرقاً فيه العبير، ولم تظهر الضمير، لجريان الحال على من هي له. وقوله فيه متعلق برقرقت، فلا موضع له لتعلقه بالظاهر. وأنشد ابن قتيبة: (24) (أشليت عنزي ومسحت قعبي) وزاد يعقوب: ثم تهيأت لشرب قاب

يصف أنه دعا عنزة ليحلبها، ومسح قعبه وهو القدح، ليحلب فيه، ثم تهيأ ليشرب شرباً قأباً وهو الكثير. يقال قئب من الشراب قأبا على مثال سم سأما وقأب قأبا على مثال زأر زأرا: إذا أكثر منه، والمسح في هذا الشعر بمعنى الغسل. وأنشد ابن قتيبة: (25) (وهل هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تجللها نغل) (فإن نتجب مهراً كريماً فبالحرى وإن يك إقراف فقد أقرف الفحل) رواه أبو علي (فمن قبل الفحل) ورواه غيره (فما أنجب الفحل) وروى أبو علي (تجللها بغل) بالباء، وأنكر كثير من أصحاب المعاني هذه الرواية، وقالوا: هي تصحيف، لأن البغل لا ينسل. والصواب: (نغل) بالنون، وهو الخيس من الناس والدواب، وأصله: (نغل)، بكسر الغين، ثم نخفف الكسرة فيقال: (نغل)، كما يقال فخذ وفخذ: وأنكر ابن قتيبة تسكين الغين من (نغل) في هذا الكتاب، وجعله من لحن العامة، وقد ذكرناه في موضعه. وروى غير ابن قتيبة: (وهل أنا إلا مهرة) وذكر أن الشعر لحميدة بنت النعمان ابن بشير، وهي أخت هند، وكان تزوجها أولا الحارث بن خالد المخزومي، وكان شيخا ففركته وقالت فيه:

ففدت الشيوخ وأشياعهم وذلك من بعض أقواليه ترى زوجة الشيخ مغمومة وتمسى بصحبته قاليه في أبيات غير هذين، فطلقها الحارث، وتزوجها روح بن زنباع، فهجته بهذا الشعر الذي أنشده ابن قتيبة، وقالت فيه أيضاً: بكى الخز من روح وأنكر جلده وعجت عجيجا من جذام المطارف وقال العباء نحن كنا ثيابهم وأكسية مضروجة وقطائف فطلقها روح وقال: ساق الله إليك شابا يسكر ويقي في حجرك. فتزوجها الفيض ابن أبي عقيل الثقفي، وكان فتى شابا مولعا بالشراب، فسكر وقاء في حجرها، فقالت: أجيبت في دعوة روح. ثم هجت الفيض فقالت: سميت فيضا ولا شيء تفيض به إلا بسلحك بين الباب والدار فتلك دعوة روح الخير أعرفها سقى الإله صداه الأوطف الساري ثم نرجع إلى تفسير معنى البيتين الأولين. فقولها: (وهل هند إلا مهرة): مثل ضربته. وذلك أنها كانت أنصارية، وكان روح بن زنباع جذامياً، والأنصار أشرف من جذام، فقالت إنما مثلى ومثل روح: مهرة عربية عتيقة علاها بغل، فإن ولدت مهرا كريماً فما أحراها وأحقها بذلك، لكرمها وعتقها، وإن كان مهرها خسيساً، فإنما جاءت الخساسة من قبل الأب، لا من قبلها، وقولها (فبالحرى) يحتمل وجهين من التأويل: أحدهما أن يكون من قولهم هو حرى بكذا: أي حقيق به، أي فبالحقيقة أن يكون مهرها كريماً: والثاني:

أن يريد فبالجهد والمشقة، أي لا يتخلص لها ولد كريم إلا بعد جهد، لخساسة الأب الغالبة عليه، فيكون بمنزلة قول الأعشى: إن من عضت الكلاب عصاه ثم أثرى فبالحرى أن يجودا أي أنه لا يجود إلا بعد جهد، لأنه قد جرب الأيام، وقاسى الفقر، وعلم قدر المال. والباء في قولها (فبالحرى): متعلقة بمحذوف، لأنها نابت مناب خبر مبتدأ مقدر، كأنها قالت: فبالحرى أن يكون ذلك، فأن يكون مبتدأ، وبالحرى: في موضع الخبر وكذلك (من) في رواية من روى (فمن قبل الفحل) لأن التقدير فذلك من قبل الفحل. فمن متعلقه بالخبر المقدر، كأنها قالت: فذاك كائن من قبل الفحل، أو واقع، أو نحو ذلك. وأنشد. عن أبي زيد: (26) (وكيف بأطرافي إذا ما شتمتني وما بعد شتم الوالدين صلوح) يريد بأطرافه: أجداده من قبل أبيه وأمه. والصلوح والصلاح والصلح: سواء، والباء في قوله بأطرافي يحتمل تأويلين: أحدهما أن تكون زائدة كزيادتها في قوله (كفى بالله شهيدا) وقولهم: بحسبك قول السوء. فتكون الأطراف في

موضع رفع بالابتداء، وكيف: متضمنة للخبر معموله له على مذهب سيبويه، أو في موضع رفع بالاستقرار على مذهب الأخفش. فإذا جعلت الأطراف مرفوعة بالابتداء، فموضع كيف رفع، فإذا جعلتها مرفوعة بالاستقرار، فموضع (كيف) نصب، والعامل في (كيف) في الوجهين: الاستقرار والتأويل. الثاني: أن تكون الباء غير زائدة، ويكون التقدير: وكيف أصالحك بأطرافي، وحذف ذكر المصالحة لدلالة الصلوح المذكور في آخر البيت عليه، فالباء على هذا متعلقة بالفعل المقدر، وهو العامل في كيف، ويكون في الكلام على هذا مجازان. أحدهما: حذف الفعل. والثاني: حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، لأن التقدير: كيف أصالحك بشتم أطرافي: وكان الأخفش يقدر (كيف) تقدير الظروف، وكان سيبويه يقدرها تقدير الأسماء: والدليل على صحة قول سيبويه: أنك تفسرها بالأسماء، كقولك كيف زيد أصحيح أم سقيم؟ وتجيب عنها بالأسماء. فإذا قال قائل كيف زيد؟ قلت: صالح. ولو كانت ظرفا لم يجز أن تفسر، ولا يجاب عنها إلا بالظروف. وحجة الأخفش أنها تقدر تقدير الجار والمجرور، وذاك أنك إذا قلت: كيف زيد؟ فمعناه على أي حال هو؟ والحروف للظروف وما يجرى مجراها. وليس في هذا دليل قاطع، لأننا قد نقدر حرف الجر فيما لا خلاف فيه أنه اسم. ألا ترى أن كل مضاف إليه تقدر فيه اللام أو من، إلا أن تكون إضافته غير صحيحة

وكذلك قوله تعالى (أن تسترضعوا أولادكم) أي لأولادكم، ويقوى قول الأخفش أن كيف موضوعة للأحوال، والأحوال مضارعة للظروف، فلذلك صار القولان متقاربين. وأنشد ابن قتيبة: (27) (وقولا لها ما تأمرين بوامق له بعد نومات العيون أليل) هذا البيت لابن ميادة، واسمه الرماح بن أبرد، وميادة: أمه. ووقع في كتاب طبقات الشعراء لابن قتيبة: أنه الرماح بن يزيد، وهو غلط من ابن قتيبة، أو وهم وقع في النسخ. والدليل على أن اسم أبيه أبرد قول بعض الشعراء يهجوه: أبوك أبوك أبرد غير شك أحلك في المخازى حيث حلا ووقع في الحماسة (أبوك أبوك أربد غير شك) وهو غلط أيضاً. وروينا عن أبي نصر، عن أبي علي البغدادي: (وقولا لها ما تأمرين) على مخاطبة الاثنين. ووقع في غير أدب الكتاب: (وقولي لها) على مخاطبة المؤنث. وكذا في إصلاح المنطق، ولا أعلم كيف الصواب فيه؟ لأني لم أر شيئاً من الشعر أستدل به على ذلك، وقوله (ما تأمرين) ما: في موضع نصب: ويقدر الاسم

الذي وقعت (ما) في موضعه منتصباً انتصاب المصادر، وإن كان غير مصدر محض، لأن تقديره: أي أمر تأمرين بهذا الوامق، ومن شأن (أي) إذا أضيفت إلى مصدر أن تصير مصدرا، كقولك أي مرور تمر بزيد؟ وأي ضرب تضرب عمراً؟ والباء متعلقة بنفس الفعل الظاهر، فلا موضع لها لأنها من صلته. وأما اللام من قولك (له) فيحتمل تأويلين إن شئت جعلت الأليل مرتفعا بالابتداء، وجعلت (له) في موضع خبر، فتكون اللام متعلقة بالخبر مقدرا ويكون موضع الجملة جراً على الصفة لوامق، وإن شئت رفعت الأليل بالاستقرار وجعلت (له) في موضع جر على الصفة لوامق، على حد ارتفاع الأسماء بالصفات التي تكون صفات لما قبلها: وأفعالاً لما بعدها، في نحو قولك (مررت برجل قائم أبوه)، فيكون التقدير بوامق كائن له بعد نومات العيون أليل. والفرق بين هذا الوجه والوجه الأول: أن المحذوف الذي تتعلق به اللام في الوجه الأول: خبر، والمحذوف الذي تتعلق به في الوجه الثاني: صفة، وأن الجملة في القول الأول تقدر تقدير جملة مركبة من مبتدأ وخبر، نابت مناب صفة، وتقدر في القول الثاني تقدير جملة مركبة من فعل وفاعل، نابت مناب صفة. ومن النحو بين من يرى أن الاسم في نحو هذه المسألة لا يرتفع بالابتداء، وإنما يرتفع بالاستقرار، لأن الاستقرار قد اعتمد على ما قبله، وإنما يقبح رفع الاسم بالاستقرار إذا لم يعتمد على شيء قبله، كقولك: في الدار زيد، فإذا كان

معتمداً على ما قبله جاز رفع الاسم به. ومعنى اعتماده على ما قبله أن يكون صفة لموصوف، أو حالا لذي حال، أو خبرا لذي خبر، أو صلة لموصول، أو معتمدا على أداة من أدوات الاستفهام، أو ما ولا النافيتين. ومن النحو بين من يرى أنه يرتفع بالابتداء أبدا، وإن لم يعتمد على ما قبله ولم ينكر رفعه بالاستقرار، وهو رأي السيرافي. ولسيبويه في هذا الموضع من كتابه عبارة مشكلة، تحتمل المذهبين جميعاً وهو قوله في بعض أبواب الصفات: واعلم أنك إذا نصبت في هذا الباب، فقلت: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، فالنصب على حاله، لأن هذا ليس بابتداء، ولا يشبه (فيها عبد الله قائم) غداً، لأن الظروف تلغى حتى يكون المتكلم كأنه لم يذكرها في هذا الموضع، فإذا صار الاسم مجروراً، أو عاملاً فيه فعل، أو مبتدأ، لم تلغه، لأنه ليس يرفعه الابتداء. وفي الظروف إذا قلت: فيها أخواك قائمان، يرفعه الابتداء. والأظهر عندي من هذا الكلام الرفع بالاستقرار. وأنشد ابن قتيبة: (28) (باتت تبيا حوضها عكوفاً)

هذا الرجز لأبي محمد الفقعسي أنشده أبو عمرو الشيباني وابن الأعرابي: وبعده: مثل الصفوف لاقت الصفوفا وأنت لا تغنين عني فوقا يصف إبلا اصطفت حول الحوض لتشرب الماء، بعضها من هذا الجانب، وبعضها من هذا الجانب، فشبهها بخيل اصطفت بحذاء خيل غيرها للقتال، وقوله: عكوفا، أي ملازمة للحوض لا تفارقة، لشدة عطشها، وهذا نحو قول الآخر: حرقها حمض بلا دفل وغنم نجم غير مستقل فما تكاد نيبها تولى أي ما تكاد تولى عن الحوض، لشدة حاجتها إلى الماء. وقوله: (لا تغنين عني فوفا) الفوف: جمع فوفة، وهي القشرة التي تكون على النواة. والفوف، أيضاً: البياض التي يكون في الظفر. يخاطب زوجه، ويعنفها على امتناعها عن معونته على سقى إبله، يقول: نالني الجهد والنصب في سقيها، ولم تغن عني من التعب قدر فوف، وكانوا يستعينون بنسائهم على سقي الإبل، ولذلك قال الراجز: قد علمت إن لم أجد معينا ... لأخلطن بالخلوق طينا

يقول: قد علمت أني إن لم أجد من يعينني على سقي إبلي، فإني أستعين بها، فيختلط الطين بخلوقها. وفي انتصاب (عكوف) ثلاثة أوجه من الإعراب: أحدها: أن يكون مصدرا محضاً، محمولاً على معنى الفعل الذي قبله، لأنه إذا قال: (تبياً حوضها) فقد ناب مناب قوله (تعكف)، عليه، فيكون نحواً من قولهم: قعد زيد جلوسا، وتبسمت وميض البرق. والثاني: أن يكون مصدراً وقع موقع الحال، كأنه قال: قد تبياً حوضها عاكفة، فيكون من باب جئته ركضاً، أي راكضاً. والثالث: أن تجعل عكوفا جمع عاكف، ولا تجعله مصدراً، فيكون حالاً محضة. وأنشد ابن قتيبة: (منا يزيد وأبو محيأة وعسعس نعم الفتى تبيأه) وعسعس ههنا اسم رجل. يقول: هو نعم الفتى إذا قصدته. وقوله (نعم الفتى): جملة سدت مسد خبر المبتدأ، وهي عارية من ضمير يرجع إليه، وحكم كل جملة سدت مسد خبر المبتدأ أن يكون فيها ضمير يعود إليه، ففي هذا ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الغرض في ذكر الضمير: أن يربط الخبر بالمخبر عنه، فلما كان (الفتى) اسماً يراد به جميع النوع، وكان عسعس بعض الفتيان، ارتبط

بهم ارتباط الجزء بالكل، فأغنى ذلك عن ذكر الضمير. هذا قول الفارسي، وهو الذي أشار إليه سيبويه. والقول الثاني: أن الفتى ههنا سد مسد الضمير، وهذا القول هو الذي أشار إليه أبو القاسم الزجاج، في قوله في باب (نعم وبئس) وهو في موضع المضمر العائد على زيد، إلا أنه جاء مظهرا. وتلخيص معنى هذا القول: أن الاسم الفاعل إذا تقدم على فعله الرافع له، لزم إضماره فيه؛ ألا ترى أنك تقول: قام زيد، فإذا قدمت زيدا قلت: زيد قام، فأضمرت في قام ضميرا يعود على زيد، فكذلك كان القياس إذا قلت: زيد نعم الرجل، أن تضمر في نعم ضميرا يرجع على زيد، إلا أن الضمير لا يجوز ارتفاعه بنعم، لأنها لا ترفع إلا ما فيه الألف واللام، أو ما أضيف إلى ما فيه الألف واللام. فلما لم يجز ذلك، وضع الظاهر موضع المضمر، فقيل زيد نعم الرجل. والقول الثالث: أن العائد مقدر في الجملة، وحذف اختصارا، والتقدير: زيد نعم الرجل هو، وعسعس نعم الفتى هو، فاستغنى عن ذكر هو، لأن الاسم الأول قد أغنى عن ذكره. والدليل على صحة هذا القول: أن حكم (نعم) أن يظهر بعدها اسمان، أحدهما اسم النوع، والآخر: المقصود بالمدح، فإذا ترك ذكر أحدهما، علم أنه مراد، وقد جاء حذف المقصود بالمدح، في نحو قوله عز وجل (نعم العبد إنه أواب) وفي نحو قول الشاعر: نعم الفتى فجعت به إخوانه يوم البقيع حوادث الأيام

فإن قيل: ما بالك لم تجعل الهاء في (تبباه) عائدة على عسعس؟ فالجواب: أن الهاء في (تبياه) إنما تعود على الفتى، لأن (تبياه) في موضع نصب على الحال منه، وحكم الحال أن يكون فيها ضمير يرجع إلى صاحبها، فلذلك احتيج إلى ضمير آخر، يرجع إلى عسعس بحكم الخبر. وقد يجوز أن يقال: لما كان (الفتى) هو عسعس، اكتفى بالضمير العائد عليه، من الضمير العائد على (عسعس). وهذه حال جرت على غير من هي له، لأن القاصد إنما هو المخاطب، واستتر الضمير الفاعل فيها، لأن الفعل من شأنه أن يتحمل ضمير الأجنبي، ولو صيرتها اسم فاعل لقلت متبيئاً له أنت، فظهر الضمير، ولو كانت حالاً محضة للفتى، لقلت: نعم الفتى متبيا على صفة اسم المفعول، ولم تحتج إلى أن يظهر الضمير فتقول: هو. وأنشد ابن قتيبة: (لعمر بني شهاب ما أقاموا صدور الخيل والأسل التياعا) البيت: لدريد بن الصمة الجشمي، ويكنى أبا قرة، وأمه ريحانة أخت عمرو بن معدى كرب و (ما) في هذا البيت نفى، وليست مصدراً واقعاً موقع

الظرف، لأنه يذم بني شهاب، ويذكر أنهم فروا وولوا الدبر وإنما أقسم بأعمارهم على سبيل الهزء بهم، ويدل على ذلك قوله بعد هذا البيت: ولكني كررت بفضل قومي فخرت مكارما وحويت باعا وذلك فعلنا في كل حي وننتجع الأقاصي انتجاعا ويروى: (فجدت بنعمة ومددت باعا) والباع ههنا الشرف. وقوله: (الأقاصي) قياسه: الأقاصي بتخفيف الياء، ولكنه أشبع كسرة الصاد، فنشأت بعدها ياء، وأدغمها في الياء الأصلية، على حد قول الفرزدق: نفى الدراهم تنقاد الصياريف وأنشد ابن قتيبة: (31) (فقلت له هذه هاتها بأدماء في حبل مقتادها) البيت لأعشى بكر، وقد ذكرنا اسمه فيما تقدم، وإنما يضاف إلى بكر للبيان، لأن في الشعراء جماعة يسمى كل واحد منهم الأعشى، فيضاف كل واحد منهم إلى رهطه، ليعرف به، فيقال أعشى بكر، وأعشى باهلة، وأعشى همدان،

وأعشى طرود ونحو ذلك. والأدماء: الناقة البيضاء. والأدمة: على ثلاثة معان: إذا وصف بها الرجال، فالمراد بها السمرة، وإذا وصف بها الإبل، فالمراد بها البياض، وإذا وصف بها الظباء فالمراد بها سمرة في ظهورها، وبياض في بطونها. والمقتاد: القائد. والهاء في قوله (له) عائدة إلى خمار ذكره قيل هذا البيت، في قوله: فقمنا ولما يصح ديكنا إلى جونة عند حدادها يعني بالحداد: الخار، لأنه يمنع من الخمر ويحفظها، وكل من حفظ شيئاً ومنع، فهو حداد. وذكر صاحب كتاب العين؛ أن الخمار يقال له جداد بالجيم. وهذه الكلمة من الأشياء التي نسب فيها إلى التصحيف. وهذه إشارة إلى الجونة المذكورة. وهي الخابئة، جعلها جونة لاسودادها من القار. والمعنى: هات هذه الجونة، وخذ هذه الناقة الأدماء بحبل قائدها. وذكر الأعشى بعد هذا البيت أن الخمار لم يقنع منه بالناقة الأدماء، حتى زاده تسعة دراهم، وذلك قوله: فقال تزيدونني تسعة وليست بعدل لأندادها فقلت لمنصفنا أعطه فلما رأى حضر إشهادها أضاء مظلته بالسرا ج والليل غامر جدادها دراهمنا كلها جيد فلا تحبسنا بتنقادها وحرف الجر في قوله (فقلت له) متعلق بظاهر، وفي قوله (بأدماء) وفي (حبل): متعلق بمحذوف غير ظاهر. والباء في قوله (بأدماء) في موضع نصب

على الحال، كأنه قال (مشتراة بأدماء) و (في) من قوله (في جبل): في موضع خفض على الصفة لأدماء، كأنه قال: (بأدماء مشدودة في حبل مقتادها). ويجوز أن تكون مبنية على مبتدأ محذوف، كأنه قال: (بأدماء وهي في حبل مقتادها) وتكون الجملة في موضع الحال من (أدماء)، فتكون بمنزلة قولهم: جاء زيد بثيابة، أي وهو في ثيابة، وجازت الحال هنا من النكرة، لأنها صفة نابت مناب موصوف، لأن المعنى بناقة أدماء، فالناقة في حكم ما هو ملفوظ به، فقربت النكرة ههنا من المعرفة بالصفة. والوجه الأول أجود وإن كان هذا الثاني غير بعيد. والظاهر من كلام ابن قتيبة أنه جعل (في) في هذا البيت، بمعنى الباء، لأنه ذكر قولهم ادفعوه إليه برمته، ثم قال: وهذا المعنى أراد الأعشى في قوله للخمار. ثم أنشد البيت، وقال في تفسيره: أي يعني هذه الخمر بناقة برمتها، وقد قلنا فيما تقدم من كتابنا هذا إنه إذا أمكن حمل الشيء على موضوعه، وظاهر لفظه، لم يجب أن يعدل عنه إلى غيره، و (في) يوجد فيها من معنى الصفة والحال، ما يوجد في الباء، ألا ترى أن قولك جاءني زيد بثيابه، وفي ثيابه، سواء وأن المجرور في كل واحد من المسألتين في موضع الحال، لأن المعنى جاءني زيد وثيابه عليه. وكذلك قولهم: ادفعوه إليه برمته، أي ورمته عليه، وكذلك قول أبي ذؤيب في صفة الحمير: يعثرن في حد الظباة كأنما كسيت برود بني تزيد الأذرع

و (في) قد نابت فيه مناب الباء في قول الآخر: ومستنة كاستنان الخرو ف قد قطع الحبل بالمرود دفوع الأصابع ضرح الشمو س نجلاء مؤيسة العود لأن المعنى بعثرن والظبات فيهن، وقد قطع الحبل والمرود فيه. وأنشد ابن قتيبة: (32) (ولم يقلب أرضها البيطار ولا لحبليه بها حبار) الرجز: لحميد الأرقط، وقبله: لارحح فيها ولا اصطرار يصف فرسا بالعتق. يقول لم تحتج إلى بيطار يقلب قوائمها، لينظر: هل بها علة؟ وذكر أبو العباس المبرد أنه يروى: (ولم يقلم) بالميم، وقال: معناه: أن حوافرها لا تتشعث فتحتاج إلى أن تقلم، كما قال علقمة: ولا السنابك أفناهن تقليم

وهذا التأويل فيه بعد، لأن تقليم الحوافر ليس من عمل البيطار، ويمكن أن تكون الميم بدلاً من الباء، كما قالوا: ما هذا بضربة لازب، ولازم، وأرض الدابة قوائمها. وزعم بعض اللغويين أنها تكتب بالظاء، والصحيح أنها تكتب بالضاد، لأنها مشتبهة بالأرض التي توطأ، ويدل على ذلك قول الشاعر: وأحمر كالديباج أما سماؤه فرياً وأما أرضه فمحول فتسميته أعلاه سماء، ووصفه أرضه بالمحل، دليل على غلط من قال القول الأول. والعرب تجعل أعلى كل شيء سماء، وأسفله أرضاً، على التمثيل والاستعارة، والحبار والحبر: الأثر. والاصطرار: ضيق في الحافر. وقد ذكرنا فيما تقدم أن الرحح نوعان: محمود ومذموم، وأن المحمود منه ما كان سعة مع تقعب، والمذموم ما كان سعة ليس معها تقعب، وهذه هي الفرشخة التي نفاها الراجز عن الحافر بقوله- ليس بمصطر ولا فرشاخ. وأنشد ابن قتيبة: (33) (قد أركب الالة بعد الآلة وأترك العاجز بالجدالة) والآلة: الحالة. يمدح نفسه بالجلد في السفر، والدؤوب على السير، إذا عجز صاحبه عن المشي، وسقط إلى الجدالة من الإعياء. والجدالة: الأرض. وبعد هذين البيتين:

(مُنْعفرا ليست له محالة). والمنعفر: الذي قد لصق بالعفر، وهو التراب، والمحالة: الحيلة. ونظير هذا الرجز: ما أنشده يعقوب من قول الآخر: إن دليما قد ألاح بعشى وقال أنزلني فلا إيضاع بي والباء في قوله (بالجدالة) في موضع الحال، كانه قال: لاصقا بالجدالة، فهي متعلقة بمحذوف. ويجوز أن تكون بمعنى (في) كقولهم زيد بالكوفة يريدون الكوفة. وأنشد ابن قتيبة: (34) (ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا) البيت: لأبي أسماء بن الضريبة. وقيل: بل هو لعطية بن عفيف. ولم يقع شطر البيت الأول في كثير من النسخ، ووقع في بعضها: ولقد طعنت (بضم التاء) وهو غلط. والصواب: فتحها، لأن الشاعر خاطب بها كرزا العقيلي، وكان طعن أبا عيينة وهو حصن بن حذيفة بن بدر الفزارى يوم الحاجر. ويدل على ذلك قوله قبل هذا البيت: يا كرز إنك قد فتكت بفارس بطل إذا هاب الكماة وجببوا

وقوله جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا، أي كسبت فزارة الغضب عليك. وقول الفراء: وليس قول من قال: (حق لفزارة الغضب) بشيء، رد منه على سيبويه والخليل، لأن معناه عندهما أحقت فزارة بالغضب، (فأن يغضبوا) على تأويلهما: مفعول سقط منه حرف الجر، وهو على قول الفراء مفعول، لا تقدير فيه لحرف جر، وكلا التأويلين صحيح. وقوله (جرمت فزارة): جملة لها موضع، لأنها في تأويل الصفة للطعنة، كأنه قال: طعنة حارمة. وأنشد ابن قتيبة: (35) (إذا الدليل استاف أخلاق الطرق) البيت: لرؤبة بن العجاج بن رؤبة، ويكنى أبا الحجاف، وقبل هذا البيت: تنشطته كل مغلاة الوهق مضبورة قرواء هرجاب فنق مسودة الأعطاف من وشم العرق مائرة العضدين مصلات العنق قوله (تنشطته) قال أبو حاتم: هو أن تمد يدها وتسرع ردها، والمغلاة من النوق: التي تبعد الخطو وتغلو فيه، أي تفرط. والوهق: المباراة في السير. والمضبورة: المجموعة الخلق، المكتنزة. والقرواء: الطويلة القرا، وهو الظهر. والفنق: المنعمة في عيشها. وقال الأصمعي: هي الفتية الضخمة. ومائرة: يمور ضبعاها، أي يذهبان ويجيئان لسعة إبطيها. والعضدان: مثنى العضد، وهو غليظ الذراع، الذي بين المرفق والكتف. والمصلات: التي انحسر. الشعر عن عنقها.

هذا قول الزيادي. وقال غيره: هي التي تنصلت في السير: أي تتقدم. وأخلاق الطرق: أي القديمة، التي قد أخلقت. واحدها: خلق، شبهها بالثوب الخلق، وخص الأخلاق من الطرق، لأن الاستدلال بثم التراب إنما يكون في الطرق القديمة، التي كثر المشي فيها، فتوجد فيها رائحة الأرواث والأبوال. وأنشد ابن قتيبة: (36) (عيوا بأمرهم كما عيت بيضتها الحمامة) (جعلت لها عودين: من نشم، وآخر من ثمامه) الشعر لعبيد بن الأبرص الأسدي، من كلمة له يخاطب بها حجرا أبا امرئ القيس، ويستعطفه لبني أسد، وذلك أن حجرا كان يأخذ منهم إتاوة، فمنعوه إياها، فأمر بقتلهم بالعصي، فلذلك سموا عبيد العصا، ونفى من نفى منهم إلى تهامة، وأمسك منهم عمرو بن مسعود وعبيد بن الأبرص، وكانا أسيرين عنده، فلذلك قال عبيد في هذه الكلمة: ومنعتهم نجداً فقد حلوا على وجل تهامه أنت المليك عليهم وهم العبيد إلى القيامة فرق لهم حجر وأمر برجوعهم إلى ديارهم، فاضطغنوا عليه ما فعل بهم، فقتلوه. وأصحاب المعاني يقولون في قوله:

جعلت لها عودين: من نشم، وآخر من ثمامه إنه أراد: جعلت لها عودين: عودا من نشم، وآخر من ثمامة، فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه. فقوله (وآخر) على هذا التأويل ليس معطوفاً على عودين، لأنك إن عطعفته عليهما كانت ثلاثة، وإنما هو معطوف على الموصوف الذي حذف، وقامت صفته مقامه، فهو مردود على موضع المجرور. وهذا قبيح في العربية، لأن إقامة الصفة مقام الموصوف، إنما يحسن في الصفات المحضة، كقولك جاءني العاقل ومررت بالظريف، ولا يحسن أيضاً في الصفة المحضة حتى تكون صفة مختصة بالموصوف، دالة عليه، وكلما ازدادت الصفة عموماً ضعف إحلالها محل موصوفها، فقولك: جاءني العاقل، أحسن من قولك: جاءني الطويل لأن العاقل يختص بالإنسان، ولا يختص به الطويل. وإذا لم تكن الصفة محضة، وكانت شيئاً ينوب مناب الصفة، من مجرور، أو جملة، أو فعل، لم يجز إقامتها مقام الموصوف. فلا يحسن أن تقول جاءني من بني تميم، وأنت تريد رجلاً من بني تميم، ولا لقيت يركب، وأنت تريد رجلاً يركب، وقد جاء من ذلك شيء قليل، لا يقاس عليه، أنشد سيبويه: لو قلت ما في قومها لم تيثم ... يفضلها في حسب وميسم

وقال النابغة: كأنك من جمال بني أقيش يقعقع خلف رجليه بشن أراد الأول: أحد يفضلها. وأراد الثاني جمل من جمال بني أقيش: وأما تشبيه عبيد أمر بني أسد بأمر الحمامة، فتلخيصه أنه ضرب النشم مثلاص لذوي الحزم وصحة التدبير، وضرب الثمام مثلاً لذوي العجز والتقصير، فأراد أن ذوي العجز منهم شاركوا ذوي الحزم في آرائهم، فأفسدوا عليهم تدبيرهم، فلم يقدر الحلماء، على إصلاح ما جناه السفهاء، كما أن الثمام لما خالط النشم في بنيان العش، فسد العش وسقط، لوهن الثمام وضعفه، ولم يقدر النشم على إمساكه بشدتد وقوته ونظير هذا قول الآخر: ولكن قومي عزهم سفهاؤهم على الرأي حتى ليس للرأي حامل تظوهر بالعدوان، واحتبل بالغني، وشورك في الرأي الرجال الأماثل

وأنشد ابن قتيبة: (37) (أنا الذي سمتني أمي حيدره) الرجز: لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قاله يوم خيبر. وبعده: أضرب بالسيف رقاب الكفرة كليث غابات غليظ القصره أكليكم بالسيف كيل السندرة أراد: (أنا الذي سمتني أمي أسداً) فلم يمكنه ذكر الأسد، من أجل القافية، فذكر حيدره، لأنه اسم من أسمائه. وإنما قلنا ذلك، لأن أمة لم تسمه حيدرة، وإنما سمته أسداً. قال أبو محمد بن قتيبة في شرح غريب الحديث: سألت بعض آل أبي طالب عن قوله: أنا الذي سمتني أمي حيدره فذكر أن أم علي، وهي فاطمة بنت أسد، ولدت علياً وأبو طالب غائب، فسمته أسداً باسم أبيها، فلما قدم أبو طالب كره هذا، الذي سمته أمه به، وسماه علياً، فلما كان يوم خيبر، رجز علي، ذكر الاسم الذي سمته به أمه فكأنه قال: أنا الأسد. والغابات: جمع غابة، وهي أجمة الأسد. والقصرة: أصل العنق.

وأنشده ابن قتيبة في شرح الحديث: (كريه النظرة)، وروى أيضاً: أوفيهم بالصاع كيل السندرة وفسر السندرة فقال: هي شجرة يعمل القسى والنيل. فيحتمل أن يكون مكيالاً يتخذ من هذه الشجرة، سمى باسمها، كما تسمى نبعة باسم الشجرة التي أخذت منها، قال: ويحتمل أن تكون امرأة كانت تكيل كيلاص وافياً، أو رجلاً. وذكر أبو عمر المطرز في كتاب الياقوت أن السندرة امرأة. وأنشد في باب المسمين بأسماء الهوام: (38) (مدراج شيئان لهن هميم) هذا البيت لساعدة بن جؤية الهذلي، وصدره: (ترى أثره في جانبيه كأنه) وقوله: فورك ليناً لا يثمثم نصله إذا صاب أوساط العظام صميم قوله (فورك لينا): أي حمل عليهم سيفاً ابن المهز ليس بكز، فذلك أقطع له، ومن روى (يثمثم) بفتح الثاء أراد: لا يرد ولا يمنع عما يقوم به، وهو نحو قولهم: (سبق السيف العدل)، ونحو قول طرفة:

أخي ثقة لا ينثنى عن ضريبة إذا قيل مهلاً قال حاجزه قدي ومن روى (يثمثم) بكسر الثاء، جعل الفعل للسيف. ومعناه: لا يتعتع ولا يتوقف في الضريبة. وصاب وأصاب: بمعنى واحد، وصميم: مصمم. وأثره: فرنده. والمدارج: الطرق التي تدرج فيها، أي تدب: والهميم: الدبيب. شبه فرند السيف بطرق الشبئان إذا دبت، كما قال الآخر: وصقيل كأنما درج النمـ ـل على متنه لرأي العيون والقول في قوله (لهن هميم) كالقول في قول ابن ميادة- (له بعد نومات العيون أليل) وقدم تقدم ذكره. وأنشد في باب المسمين بالصفات وغيرها: (39) (ونحن حفزنا الحوفزان بطعنة سقنه نجيعا من دم الجوف أشكلا) البيت: لسوار بن حبان المنقري، يفتخر بطعن الحوفزان، واسمه الحارث ابن شريك الشيباني، ولم يكن سوار الحافز له، وإنما الحافز له قيس بن عاصم المنقري

في يوم جدود وذلك أن الحارث كان رئيس بني شيبان في هذا اليوم، فلما انهزمت بنو شيبان، أدرك قيس بن عاصم المنقري الحارث، فقال: أستأسر يا حارث لخير آسر. فقال الحارث ما شاء الزند. والزند اسم فرسه، فلما رآه لا يستأمر وخشي أن يفوته ذرقه بالرمح ذرقة أصابت خُرابة وركه، وهجمت على جوفه وأفلت الحارث مطعوناً، ففخر بذلك سوار، فقال: (ونحن حفرنا الحوفزان)، وبعده: وحُمران أدته إلينا رماحنا فعالج غلا في ذراعيه مقفلا فمالك من أيام صدق تعدها كيوم جواثى والنباج وثيتلا فلست بمسطيع السماء ولن ترى لعزٍّ بناه الله فوقك منقلا والنجيع الدم: الطرى. فإذا يبس قيل له: جسد. وقيل النجيع دم الجوف خاصة، والأشكل الذي يخالطه بياض من الزبد. ... وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (40) (فألفاهم القوم روبى نياما) هذا البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي، وصدره: فأما تميمٌ تميم بن مرٍّ

قال هذا الشعر في إيقاع بني أسد بني تميم بالجفار، وبني عامر يوم النسار، ولذلك قال في الشعر: ويوم النسار ويوم الجفا ر كانوا عذابا وكانوا غراماً فأما تميم تميم بن مر فألقاهم القوم روبى نياما وأما بنو عامر بالنسار غداة لقونا فكانوا نعاما واختلف في قوله روبى، فقال أبو عبيدة: معنى روبى: خثراء الأنفس مختلطون. والخثراء: الكسالى، وروى مثل ذلك عن أبي الحسن الأخفش. وقال ابن الأعرابي: مسنى روبى: لم يحكموا أمرهم. وهو نحو قول أبي عبيدة والأخفش. وقال أبو عمرو الشيباني في نوادره: روبت إبل بني فلان: أعيت، وروب القوم: أعيو، ورجل رائب: معي. وأنشد هذا البيت: وقال أبو علي البغدادي يقال. رجل رائب: إذا سكر من النوم، وقد راب يروب روبا. وبعضهم يقول: أروب، وقوم روبى. وحكى ابن قتيبة عن بعض المفسرين أنه قال الروبي السكارى من اللبن الرائب. وأنكره في كتاب المعاني، وقال: ليس هذا القول بشيء.

وأنشد ابن قتيبة، في باب صفات الناس: (41) (وبات شيخ العيال يصطلب) البيت: للكميت الأسدي، وهو الكميت بن زيد، ويكنى أبا المستهل، وصدر هذا البيت: واحتل برك الشتاء منزله والبرك: الصدر، وحقيقته: أنه الموضع الذي يبرك عليه البعير من صدره، ثم سمى الصدر بركاً، ولا برك للشتاء، وإنما هو مثل. أراد: أن الشتاء لزم منزله، كما يلزم البعير مبركه، وإذا ذكروا الشتاء في مثل هذا، فليسوا يريدون الشتاء بعينه، إنما يريدون ما فيه من الضيق وشظف العيش، وهذا المعنى أراد الخطيئة بقوله: إذا نزل الشتاء بجار قوم تجنب جار بيتهم الشتاء والشتاء نفسه لا يقدر أحد على الامتناع منه. وقوله (وبات شيخ العيال يصطلب) أي يجمع عظام الجزر التي ينحرها أهل الثروة والغناء، ويطبخها ليأتدم بما يخرج من ودكها، لشدة الزمان، وضيق المعيشة عليه. وأنشد في هذا الباب: (42) (ترى لعظام ما جمعت صليبا)

البيت: لأبي خراش الهذلي، واسمه: خويلد بن مرة، وهو أحد من شهر بكنيته دون اسمه، يصف عقاباً. وصدر البيت: (جريمة ناهض في رأس نيق) وقبله: كأني إذ عدوا ضمنت بزي من العقبان خائتة طلوبا يقول: كأني لسرعتي في العدو، ألبست بزي عقابا خائتة، وهي المنقضة من الجو على الصيد لتأخذه. والطلوب: التي تطلب الصيد. والبزههنا: السلاح. والجريمة التي تكسب لفرخها القوت، وتجمعه له. والناهض: الذي قد قوى على النهوض واشتد. والنيق: الشمراخ من الجبل. والصليب: الودك. يريد: أنها تأتي بما تصطاد من الطير وغيرها إلى فرخها، فياكله، وتبقى عظامه يسيل منها الودك، لما يصيبها من حر الشمس. وأنشد في باب معرفة في السماء والنجوم، لهند بنت عتبة: (43) (نحن بنات طارق نمشي على النمارق) هذا الشعر لهند بنت عتبة، قالته يوم بدر تحرض المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم. وبعده:

المسك في المفارق والدر في المخانق إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق ونفرش النمارق فراق غير وامق وهذا الشعر ليس لهند بنت عتبة، وإنما تمثلت به، وإنما الشعر لهند بنت بياضة بن رياح بن طارق الإيادي، قالته حين لقيت إياد جيش الفرس بالجزيرة، وكان رئيس إياد يومئذ بياضة بن رياح طارق الإيادي، وقع ذلك في شعر أبي داود الإيادي. وذكر أبو رياش وغيره أن بكر بن وائل لما لقيت تغلب يوم قضة، ويسمى يوم التحليق، ويوم التحاليق أقبل الفند الزمان وكان معه بنتان بذيتان جريئتان فتكشفت إحداهما تحرض الناس وتقول: وعى وعى حر الجلاد والتظى وملئت منه الصحارى والربا يا حبذا المحلقون بالضحا وجعلت الأخرى تقول: نحن بنات طارق نمشي على النمارق

الشعر. (فطارق) على رواية من روى هذا الشعر لهند بنت عتبة أو لبنت الفند الزماني: تمثيل واستعارة، لا حقيقة. إنما شبهت أباها بالنجم الطارق، في شرفه وعلوه. وعلى رواية من رواه لهند بنت بياضة بن رياح بن طارق: حقيقة، ليس باستعارة، لأن طارقا كان جدها، والأظهر من هذا أن الشعر لهند بنت بياضة، وإنما قاله غيرها متمثلاً. ويروى (بنات) بالرفع و (بنات) بالنصب. فمن رفعه فعلى خبر المبتدأ. ومن نصبه فعلى المدح والتخصيص، ويكون الخبر قولها (نمشي على النمارق) ومثله ما حكاه سيبويه من قولهم: نحن العرب أقوى الناس للضيف. ومثله قول نهشل بن حرى: إنا بني نهشل لا ندعي لأب عنه، ولا هو بالأبناء يشرينا وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (44) (أراقب لوحاً من سهيل كأنه إذا بدا من آخر الليل يطرف) البيت لجران العود النميري، وجران العود: لقب غلب عليه، لقوله: خذا حذرا يا خلتي فإنني رأيت جران العود قد كان يصلح فشهر بذلك حتى صار اسمه مجهولاً، لا يكاد يعرف. والعود: الجمل المسن. وجرانه: باطن عنقه، وكان اتخذ منه سوطاً ليضرب به زوجتيه. ويروى: (يا حنتي) وحنة الرجل: زوجته سميت بذلك، لأنها تحن إليه ويحن إليها،

وأما الخلة فهي: الصديقة، وتسمى الزوجة خلة أيضاً. وبعد قوله (أراقب لوحاً): يعاوض عن مجرى النجوم وينتحى كما عارض الشول البعير المؤنق بدا لجران العود والبحر دونه وذو حدب من سر وحمير مشرف اللوح: الظهور. يقال لاح النجم: إذا تلألأ. وشبه سهيلا لحركته واضطرابه، بعين تطرف: أي تحرك أجفانها. قال أبو حاتم: سهيل، كوكب يطلع في آخر الليل، فلا يمكث إلا قليلاً حتى يغيب، وهو يطرف كما تطرف العين، لقربه من الأفق. (وقوله يعارض عن مجرى النجوم): يريد أنه لا يقطع السماء، كما تقطعها النجوم، فيطلع عن يسار قبلة العراق، ويرتفع قليلاً، ثم ينحط راجعاً. والشول: الإبل التي جفت ألبانها، وجفت ضروعها. والبعير المؤنف الذي يضم إلى الإبل وليس منها، فهو يعتزلها ويرعى في ناحية عنها، ولا يختلط بها، فشبه سهيلا به لميله عن مجرى النجوم، ولذلك قال الراجز: إذا سهيل لاح كالوقود فردا كشاة البقر المطرود وقوله (وذو حدب) يعني البحر. والحدب: الموج، وسرو حمير: أعلى بلادها. كذا فسروا هذا البيت وهو عندي غير صحيح، لأنه قد ذكر البحر، فلا وجه لذكره مرة ثانية، وإنما أراد (بذي حدب) موضعاً مرتفعاً بين بلاد

حمير، والحدب ما أشرف من الأرض. قال الله تعالى: (وهم من كل حدب ينسلون): وأنشد: (45) (كثور العداب الفرد يضربه الندى تعلى الندى في متنه وتحدرا) البيت: لعمرو بن أحمر بن فراص الباهلي، وهو أحد العور الخمسة، من شعراء قيس، فيما ذكر ابن دريد. وقبل هذا البيت: فلما غسا ليلى وأيقنت أنها هي الأربى جاءت بأم حبوكرا فزعت إلى القصواء وهي معدة لأمثالها عندي إذا كنت أوجرا قال هذا الشعر حين هرب من يزيد بن معاوية، وكان اتصل به عنه: أنه هجاه، فطلبه ففر. ومعنى (غسا) أظلم. والأربى، وأم حبوكر، وأم حبوكري:

من أسماء الدواهي. والقسواء: اسم ناقته. والقصواء من الإبل: المقطوعة طرف الأذن والأوجر والأوجل: الخائف. يقال: وجرت منه ووجلت: إذا خفت. وقوله (كثور العداب) شبه ناقته بثور وحشي، في نشاطها وقوتها وسرعتها. والعداب: منقطع الرمل، حيث يذهب معظمه، ويفضى إلى الجدد، وخصه لأن بقر الوحش تألفه لخصبه، وخوفاً من القانص، فإذا فاجأها القانص، اعتصمت بركوب الرمل، فلا تقدر الكلاب عليها ولذلك قال العجاج: يركب كل ما قر جمهور مخافة وزعل المحبور والهول من تهول الهبور حتى احتداه سنن الدبور وقاله (يضربه الندى): يريد أنه في سلوة من العيش وخصب، فهو أقوى له. ويحتمل أن يريد أنه بات والمطر يضر به، كما قال النابغة: أو ذو وسوم بحوضي بات منكرساً في ليلة من جمادى أخضات ديما وقوله: (تعلى الندى في متنه وتحدرا): يقول: سمن أعلاه وأسفله. والندى، ههنا: الشحم، سمى ندى لأنه عن الندى يكون وهو النبات، وسمى النبات ندى: لأنه عن المطر يكون وهذا يسمى التدريج. ومعناه: أن يدرج

الشيء من حال إلى حال، فيسمى الشيء باسم ما هو سبب له، فمنه ما يسمى بالسبب الأقرب، ومنه ما يسمى بالسبب الأبعد. فما سمي بالسبب الأقرب قولهم للقوة طرق، لأنها تكون على الطرق، وهو الشحم، ومما سمي بالسبب الأبعد قوله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} ولم ينزل الله تعالى اللباس بعينه، وإنما أنزل المطر، فأنبت النبات، ثم رعته البهائم فصار صوفاً وشعراً عليها، ثم غزل الصوف، ونسج الشعر، فاتخذ منها اللباس. فالمطر: سبب للباس، ولكنه سبب بعيد منه، لأن بينه وبين اللباس مراتب كثيرة، ونحو قول الراجز: الحمد لله العزيز المنان صار الثريد في رؤوس العيدان يعني: السنبل، وبينه وبين الثريد مراتب كثيرة، والكاف في قوله (كثور العداب): يجوز أن يكون في موضع رفع على ضمير مبتدأ مضمر كأنه قال: هي كثور العداب. ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من القصواء، أو من ضميرها. وقوله (يضربه الندى) وقوله: (تعلى الندى): جملتان في موضع نصب على الحال من الثور، والعامل فيهما معنى التشبيه.

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (46) (إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا) البيت: لمعاوية بن مالك بن جعفر بن كلاب، ويسمى معود الحكماء لقوله في هذه القصيدة: سأعقلها وتحملها غني وأورث مجدها أبداً كلابا أعود مثلها الحكماء بعدي إذا ما الحق في الحدثان نابا وقوله (إذا سقط السماء بأرض قوم): يقول: إذا نزل المطر بأرض قوم، فأخصبت بلادهم، وأجدبت بلادنا، سرنا إليها، فرعينا نباتها، وإن غضب أهلها لم نبال بغضبهم، لعزنا ومنعتنا. ومثله قول أبي الغول: ولا يرعون أكناف الهويني إذا حلوا ولا روض الهدون

وقوله (رعيناه): أراد: رعينا نباته، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وبعد هذا البيت: بكل مقلص عبل شواه إذا وضعت أعنتهن ثابا ودافعة الحزام بمرفقيها كشاة الربل آنست الكلابا وأنشد في هذا الباب: (47) (إن ديموا جاد، وإن جادوا وبل) وشرح ابن قتيبة هذا البيت في غريب الحديث، فذكر أنه يمدح رجلاً، ويفضله على غيره في الكرم. وقال غيره: هذا غلط. إنما يمدح فرساً والدليل على ذلك قوله قبل هذا البيت: أنا الجواد ابن الجواد ابن سبل

وسبل: فرس عتيق، تنسب إليه الخيل العتاق، كما تنسب إلى الوجيه ولاحق. وكان سبل لغني، وقيل لبني جعدة، وقد ذكره النابغة الجعدي في قوله: وعناجيج جياد نجب نجل فياض ومن آل سبل والضمير في قوله: جادوا. يرجع إلى أرباب الخيل المتسابقين. أرد: إن جاء أصحاب الخيل يجري يشبه الديمة، جاء هذا الفرس يجري يشبه الجود، وإن جاءوا بجري يشبه الجود، جاء بجري يشبه الوابل. والديمة: مطر يدوم في سكون، فإذا زاد وقوي وقعه، قيل له جود، فإذا أفرط وعظم فطره، قيل له وابل. وفي قوله (ديموا) شذوذ وخروج عن النظائر، وذلك أن الديمة أصل

الياء فيها واو، لأنها مشتقة من الدوام، ولكن الواو لما سكنت وانكسر ما قبلها قلبت ياء، فكان ينبغي حين ذهبت الكسرة الموجبة لانقلاب الواو؛ أن ترجع إلى أصلها، فيقول: (دوموا) كما أن من قال: قيل إذا بنى منه فعل قال: قول ولكن هذا من البدل الذي يلتزمونه. مع ذهاب العلة الموجبة له، وقد جاءت من ذلك ألفاظ تحفظ ولا يقاس عليها، كقولهم: عيد وأعياد، وريح وأرياح في لغة بني أسد، وغيرهم يقول (أرواح) على القياس. وأنشد في باب ذكور ما شهر منه الإناث: (48) (أرب يبول الثعلبان برأسه لقد هان ما بالت عليه الثعالب) البيت: لغاوي بن ظالم السلمي. ويروى لأبي ذر الغفاري. ويروى للعباس ابن مرداس السلمي. ورواه جمهور اللغويين (الثعلبان) كما روى ابن قتيبة ورواه أبو حاتم الرازي في كتاب الزينة (الثعلبان) بفتح الثاء واللام وكسر النون، تثنية ثعلب. وذكر أن بني سليم كان لهم صنم يعبدونه، وكان له سادن يقال له غاو، والسادن: خادم الأصنام، فبيتا هو ذات يوم جلس أقبل ثعلبان يشتدان، نشغر كل واحد منهما رجله، وبال على الصنم، فقال: يا بني سليم، والله ما يضر ولا ينفع، ولا يعطى ولا يمنع. ثم قال البيت، وكسر الصنم: وأتى النبي

صلى الله عليه وسلم فأسلم. فقال: من أنت؟ فقال: غاوي بن ظالم، فقال له: لا. أنت راشد بن عبد ربه. فهذا الخبر يوجب أن يكون (ثعلبان) على التثنية. وأنشد في هذا الباب: (49) (لترتحلن مني على ظهر شيهم) البيت: لأعشى بكر: يخاطب به جهنام بن عبيد الله بن المنذر، وكانت بينهما مهاجاة، فجمع بينهما، واجتمع حولهما الناس لينظروا من الغالب منهما، فلذلك قال في هذا الشعر: دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له جهنام جذعا للهجين المذمم فإني وثوبي راهب اللج والتي بناها قصي وحده وابن جرهم لئن جد أسباب العداوة بيننا لترتحلن مني على ظهر شيهم يقول: لئن تمادت العداوة بيننا واتصلت، لترتحلن مني وقد حملتك على أمر صعب، لا قرار لك عليه، كما لا قرار لمن ركب على ظهر القنفذ. وهذا قول نحو قول الأخطل: لقد حملت قيس بن عيلان حربنا على يابس السيساء محدودب الظهر

ومسحل: اسم شيطان الأعشى. ويروى: (جهنام) بضم الجيم والهاء، و (جهنام) بكسرهما، ولا موضع لمن من قوله (مني) لتعلقها بالظاهر. وأما (على) فلها موضع، لتعلقها بمحذوف، وهي في موضع نصب على الحال من الضمير في (ترتحلن) كأنه قال: راكباً على ظهر، أو محمولاً، أو نحو ذلك. وأنشد في باب ما يعرف جمعه ويشكل واحده: (50) (ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل وما لومى أخي من شماليا) هذا البيت: لعبد يغوث بن وقاص الحارئي: وكان أسر يوم الكلاب، أسرته تيم الرباب، وكانوا يطلبونه بدم رجل منهم، يقال له النعمان بن جساس، فعلم أنه مقتول لا محالة، فقال هذا الشعر ينوح به على نفسه وأوله: ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا فما لكما في اللوم خير ولا ليا ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل وما لومى أخى من شماليا فيا راكبا إما عرضت فبلغن نداماي من نجران أن لا تلاقيا وأنشد أبو علي الفارسي (وما لومى أخي من شماليا) في الإيضاح، وذكر أنه لجرير، وهو غلط. وأنشد في باب معرفة في الخيل: (51) (ويخرجن من مستطير النقع دامية كأن آذانها أطراف أقلام)

البيت لعدي بن الرقاع العاملي، يصف خيلاً. والنقع: الغبار. ومستطيرة ما طار منه وارتفع. وقوله (كأن آذانها أطراف أقلام): جملة في موضع نصب على الحال، من الضمير في يخرجن، كأنه قال: مشبهة آذانها أطراف أقلام. وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (52) (مضبر خلقها تضبيراً ينشق عن وجهها السبيب) البيت لعبيد بن الأبرص الأسدي وقبله: فذاك عصر وقد أراني تحملني فهدة سرحوب والمضبر: المدمج الشديد. والسبيب: شعر الناصية يريد أن شعر ناصيتها كثير منتشر على وجهها كما قال امرؤ القيس. وأركب في الروع خيفانة كما وجهها سعف منتشر وخلقها يرتفع على وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ، ومضبر خبره، والثاني أن يكون مضبر صفة لهذه وخلقها مفعول لم يسم فاعله. وأنشد في هذا البيت: (53) (ليس بأسفى ولا أقنى ولا سغل)

البيت لسلامة بن جندل السعدي وتمامه: يسقى دواء قفى السكن مربوب الأسفى: الخفيف الناصية. وقال ابن الأعرابي هو الذي تعتليه شعرة من غير شيته الغالبة عليه. قال: وهذه هجة فيه إذا لم يخلص لونه بلون مصمت، فيكون أشهب مصمتاً، أو أدهم كذلك. قال: وإذا كان أقنى ضاق منخره عن نفسه، فلذلك كره القنا في الخيل، والقنا: أحد يداب الأنف. والسغل والصغل (بالسين، والصاد: السيء الغذاء. والسغل: المهزول أيضاً وقوله: يسقى دواء قفى السكن: الدواء: ما يداوي به الفرس ليضمر، قال متمم بن نويرة يصف فرساً: داويته كل الدواء وذدته بذلاكما يعطى الحبيب الموسع والذواء في هذا البيت: مكسور الدال، لأنه مصدر لقوله داويته ومعناه داويته كل المداواة. ومن فتح الدال فقد غلط. والدواء أيضاً: اللبن، وكانوا يسقون خيلهم الألبان، سمي دواء لأنه قوام الأبدان، وصلاح لها. هذا قول ابن الأعرابي والقفى، الطعام يؤثر به رب المنزل والضيف، وهو القفيه أيضاً والسكن: أهل المنزل، أي يؤثرونه بما عندهم من خيار الطعام، لنفاسته عندهم، كما قال شمعلة ابن الأخضر يصف الحيل: نوليها الحليب إذا شتونا على علاتنا ونلي السمارا

يقول: نسقيها اللبن المحض، ونشرب نحن السمار، وهو اللبن الممذوق بالماء. والمربوب: الذي يربى في البيوت، ولا يترك أن يزول لكرامته على أهله. وذهب أبو علي الفارسي في قوله (مربوب) إلى أنه مخفوض على الجوار. وغيره يقول إنه مخفوض على الصفة للفرس المذكور قبل هذا البيت لأنه قال قبله: والعاديات أسابى الدماء بها كأن أعناقها أنصاب ترجيب من كل حت إذا ما ابتل ملبده صافى الأديم أسيل الخد يعبوب فمربوب صفة لحت والحت: السريع، وكذلك العيوب. والتقدير من كل حت يعبوب مربوب. والملبد: موضع اللبد من ظهره. والأنصاب حجارة كانوا يذبحون عليها ما يقربونه للأصنام. شبه أعناق الخيل بها لما عليها من الدم. والترجيب: التعظيم والأسابي: طرائق الدم. وأنشد في هذا الباب: (54) (جاءت به معتجرا ببرده سفواء تردى بنسيج وحده) الشعر لجرير، قاله في المهاجر بن عبد الله صاحب اليمامة. والمعتجر: الملنف والاعتجار: لف العمامة على الرأس دون تلج، والاعتجار: إدارة المرأة المعجر على رأسها ووجهها.

وقال أبو حاتم لا يقال للثوب برد حتى يكون فيه وشى. وقال الخليل: البرد: ثوب من ثياب العصب والوشى، وأما البردة بالهاء فكساء كانت العرب تلتحف به، ولذلك قال حبيب: فهم يميسون البخترية في بروده والأنام في برده يقول: هم يختالون في برود المديح أي في جدده، والناس في برده، جمع برد، أي في ثياب خلقه. وأراد بالسفواء بغلة خفيفة الناصية. كذا قال أبو عبيدة، وكان يقول: السفاء مكروه في الخيل، ومحمود في البغال والحمير، ويحتج بهذا البيت. وكان الأصمعي يرد ذلك ويقول: إنما أراد بالسفواء بغله سريعة، لا خفيفة الناصية. وقد ذكرت هذا في الكتاب الثاني بأكثر من هذا التفسير والرديان: سير سريع. وأنشد في هذا الباب: (55) (لها جبهة كسراة المجن)

وبقية البيت: (حذقه الصانع المقتدر) هذا البيت يروى لامرئ القيس بن حجر، وكان الأصمعي يرويه عن أبي عمرو بن العلاء لرجل من النمر بن قاسط، يقال له ربيعة بن جشم، وهو الصحيح. والمجن: الترس، وسراته: ظهره. ومعنى (حذقه): سواه بحذق ومهارة، محكم الصنعة، والمقتدر: الحاذق بالعمل، القادر عليه، والكاف من قوله (كسراة): لها موضع من الإعراب لأنها في تقدير الصفة للجبهة، وحذقه الصانع: جملة في موضع الحال من المجن، والتقدير قد حذقه، وإنما احتيج إلى إضمار قد لأنها تقرب الماضي من الحال والعامل في هذه الحال معنى التشبيه، الذي دلت عليه الكاف، ولا موضع لهذه الجملة على قياس قول الكوفيين، لأنهم يجعلونها صلة للمجن، ويجيزون وصل الألف واللام مع غير الصفات، ولا يجيزه البصريون. وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (56) (طويل طامح الطر ف إلى مفزعة الكلب) (حديد الطرف والمنكـ ـب والعرقوب والقلب)

هذا الشعر يروي لأبي داود الإيادي، واسمه: حنظلة بن الشرفي، فيما ذكر الأصمعي. وقال: غيره: اسمه جارية بن الحجاج. وزعم أبو عبيدة أن هذا الشعر لعقبة بن سابق الهزاني، ويروى برفع طويل وحديد وطويل وخفضهما، فمن خفضهما جعلهما صفتين للفرس المذكور قبلهما، لأن قبل هذين البيتين: وقد أغدو بطرف هيـ ـكل ذي ميعة سكب أشم سلجم المقبـ ـل لا شخت ولا جأب ومن رفع فعلى خبر مبتدأ مضمر. والطامح: المرتفع المشرف، يقال: طمح ببصره إلى الشيء، والمفزعة مكان الفزع. وقال الأصمعي: أراد: يطمح ببصره إلى حيث يفزع الكلب إلى الصيد، يصفه بالنشاط. وقال غير الأصمعي: إنما أراد أن الكلب إذا فزع من أمر ينكره نبح، وتشوف ونظر إلى مكانه، توقعا للركوب لحدة نفسه. والأشياء التي تستحب حدتها من الفرس ثلاثة عشر: الأذنان، والعينان، والقلب، والعرقو بأن، والمنجمان، وهما عظمان في الكعبين متقابلان، والكتفان، والمنكبان. ذكر أبو داود منها سبعة: العينين، والمنكبين، والعرقوبين، والقلب، ولم تمكنه التثنية فذكر أحد العضوين وهو يريدهما معاً، ونحو من هذا قول عبد الغفار الخزاعي يصف الفرس: حدت له تسعة وقد عريت مسع ففيه لمن رأى منظر

فذكر تسعة، ولم يذكر سائر ما يستحب فيه الحدة. والطرف: الفرس الكريم الطرفين، والهيكل: الضخم. والميعة: النشاط، والسكب: الذي يسكب الجري كما يسكب المطر، والأشم: المرتفع، والسلجم: الطويل. ويعني بالمقبل: رأسه وعنقه، والشخث: الرقيق. والجاب: الغليظ الجافي الخلق. وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (57) (ولما أن ارأيت الخيل فبلاً تبارى بالخدود شبا العوالي) في هذا البيت غلط من وجهين: أحدهما أنه روى عنه رأيت بضم التاء، وإنما هو رأيت بفتحها، والثاني أنه نسبه إلى الخنساء وإنما هو لليلى الأخيلية قالته في قابض بن أبي عقيل وكان فرعن توبة يوم قتل، في شعر يقول فيه: ولما أن رأيت الخيل قبلا تبارى بالخدود شبا العوالى نسيت وصاله وصددت عنه كما صد الأثرب عن الظلال ألم تعلم- جزاك الله شرا- بأن الموت منهاة الرجال فلا والله يا ابن أبي عقيل تبلك بعدها عندي بلال وقولها (تبارى بالخدود شبا العوالي) يريد أن أعناقها طوال، فخدودها تبارئ أطراف الرماح إذا مدها الفرسان، ومثله قول امرئ القيس: يبارى شباة الرمح خد مذلف كصفح السنان الصلبي النحيض

والمباراة: المعارضة. والعوالي: صدور الرماح. واحدها: عالية. وشبا كل شيء: حده، وبلال اسم مبني على الكسر بمنزلة حذام وقطام، أرادت به صلة الرحم من قولهم: بل رحمه: إذا وصلها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (بلوا أرحامكم ولو بالسلام). ومعناه: لا تصلك بي رحم بعد خذلانك توبة، وإنما قالت له هذا لأنه كان ابن عمها. وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (58) (لها منخر كوجار السباع فنمه تريح إذا تنبهر) البيت لامرئ القيس بن حجر. وذكر أبو عمرو بن العلاء والأصمعي أنه لرجل من النمر بن قاسط، يقال له ربيعة بن جشم. والوجار والوجار (بفتح الواو وكسرها): حجر الضبع، شبه به منخرها لسعته. وفي المنخر لغات: يقال: منخر (بفتح الميم وكسر الخاء) ومنخر (بكسرهما) ومنخر (بكسر الميم وفتح الخاء) ومنخور بضم الميم على مثال مفقور ونخرة على وزن ظلمة، ونخرة على وزن رطبة وقال قوم: النخرة والنخرة: طرف الأنف. ومعنى تريح تستنشق الريح تارة، وترسلها تارة، والانبهار والبهر: ضيق النفس عند الجري والتعب.

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (59) (هريت قصير عذار اللجام أسيل طويل عذار الرسن) هذا البيت وجدته منسوباً إلى تميم بن أبي بن مقبل، وقبله: بنهد المراكل ذي ميعة إذا الماء من جانبيه سخن ولم يقع هذا البيت في رواية أبي حاتم. فيجوز في هريت على هذا الخفض على الصفة، والرفع على القطع، وهو أمدح. والهريت: الواسع شق الفم، مأخوذ من هرت الثوب، وهردة: إذا خرقه. والأسيل الذي في خده طول وملاسة. والنهد: الغليظ. والمراكل: مواضع عقبى الفارس من جنبي الفرس، وإنما هما مركلان، فوضع الجمع موضع التثنية، كما يقال: رجل عظيم المناكب، وإنما له منكبان. والميعة: النشاط. وأراد بالماء: العرق. ويقال سخن الماء وسخن (بفتح الخاء وضمها). وأنشد في هذا الباب: (60) (وهي شواء كالجوالق فوها مستجاف يضل فيه الشكيم)

الشعر لأبي دواد الإيادي، وفي الشوهاء ثلاثة أقوال: قال الخليل: هي الطويلة الرأس، الواسعة الفم والمنخرين، وقال أبو عبيدة: هي المفرطة رحب الشدقين والمنخرين، والجمع شوه ولا يقال للذكر أشوه، وقال المنتجع بن نبهان: هي الرائعة (في الحسن) ومنه قولهم: لا تشوه على: إذا قال ما أحسنك، أي لا تصبني بالعين. ووجدت في شعر أبي داود: الشوهاء: الحديدة النفس. وإذا وصف بالشوهاء غير الفرس، فإنما يراد بها القبيحة. والجوالق: العدل. شبه به فاها في عظمه. والمستجاف: العظيم الجوف، وقوله: (يضل فيه الشكيم): أي يتلف، من قولهم ضل الشيء إذا تلف. وأما إعرابه فإن قوله (فوها): مرتفع بالابتداء، و (مستجاف): خبره. والكاف في قوله (كالجوالق): صفة لمصدر محذوف، كأنه قال: فوها مستجاف استجافة كاستجافة الجوالق، فحذف المصدر، وأقام صفته مقامه، وحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه أيضاً، ففيه على هذا نوعان من المجاز: حذف المضاف، وحذف الموصوف. ونظيره من مسائل النحو زيد مضروب كعمرو، أي ضربا كضرب عمرو، ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن يكون (مستجاف) خبرا، وكالجوالق خبر آخر، فيكون للمبتدأ خبران، أي قد جمع فوها أنه مستجاف، وأنه كالجوالق. وبعد هذا البيت:

رهل زورها كان قراها مسد شد متنه التبريم فرشت كبدها على الكبد السفـ ـلى جميعا كأنها فرزوم الزهل: المسترخى الجلد اللين. والقرا: الظهر. والمسد: الحبل. والتبريم: الإبرام والإحكام. والفرزوم: خشبة الحذاء التي يحذر عليها: وكان ابن دريد يقول: قرزوم، بالعاف. وأنشد في هذا الباب: (61) (كأن على أعطافه ثوب مائح وإن يلق كلب بن لحييه يذهب) البيت: لطفيل الغنوي. وهو طفيل بن عوف بن ضبيس، وقال ابن قتيبة: هو طفيل بن كعب، ويكنى أبا قران. وكان يسمى المحبر لحسن شعره. وقوله (كأن على أعطافه ثوب مائح): يريد جوانبه. وإنما له عطفان، ولكنه أخرج التثنية مخرج الجمع: كما قالوا رجل عظيم المناكب، وإنما له منكبان. والمانح: الذي ينزل في البئر إذا قل ماؤها، فيملأ الدلو، وفعله: ماح يموح ميحا، ويقال للذي يقف في أعلى البئر فيجذبها، ماتح، وفعله: متح يمتح متحا. فإذا جذب الماتح الدلو ليخرجها، سقط ما يتطاير من مائها على الماتح فابتل ثوبه، فأراد طفيل أن الفرس عرق، فكأنه ليس ثوب ماتح. واللحيان: عظما

الشدقين. فيقول: لو ألقى فيه كلب لغاب، لسعته وعظمه "وخص بالكلب لملازمته لهم، وصحبته إياهم في الحضر والسفر. وقبل هذا البيت: كان رعال الخيل لما تبادرت بوادي جراد الهبوة المنصوب يبادرن بالفرسان كل ثنية جنوحا كفراط القطا المتسرب وعارضتها رهواً على متتابع شديد القصيري خارجي محنب الرعال: الجماعات. واحدتها: رعلة. وبوادي الجراد: أوائلها وسوابقها، وقيل: هي المجتمعة. والفراط: المتقدمة. والمتسرب: الذي يمضي سربة سربة، أي قطعة قطعة. والرهو: السير السهل. والمتتابع: الذي يتتابع خلقه في الجودة أي اتسق واطرد، فليس فيه عضو يستقبح ويخالف غيره. والقصيري: الضلع التي في آخر الأضلاع، وأراد هاهنا الخاصرة كلها، والخارجي: الذي خرج بنفسه، وشرف بها، وقد فسر ابن قتيبة المجنب والمحنب.

وأنشد في هذا الباب: (62) (ملاعبة العنان بغصن بان إلى كتفين كالقتب الشميم) هذا البيت لخالد بن الصقعب النهدي ذكر ذلك المفضل، وبعده: كأن قطاتها كردوس فحل مشمرة على ساقي ظليم وتشبع مجلس اللحيين لحما وتبقى للإماء من الوزيم قوله (ملاعبة العنان): يريد أن عنقها لينة غير كزة، كأنها غصن بان، فهي تلاعب عنانها، وتطوى عنقها كيف شاءت. وقد أفرط أبو الطيب المتنبي في هذا المعنى، فقال يصف مهره: يحك أني شاء حك الباشق وشبه كتفيها في ارتفاعهما بالقتب، وهو الإكاف. والشميم: المرتفع. وقياسه أن يكون فعيلاً بمعنى مفعل من قولهم أشم الرجل: إذا رفع رأسه متكبراً،

وأشم بأنفه، وأشم البعير؛ ولا يجوز أن يكون من الشمم، لأن فعله شم يشم كقولك عض يعض، ولا يستعمل منه فاعل ولا فعيل وإنما تأتي الصفة منه على (أفعل وفعلاء) فيقال: أشم وشماء. والقطاة: الكفل. وكل ملتقى عظمين فهو كردوس. والوزيم: اللحم المملوح، عن المفضل. وقوله (إلى كتفين): إلى متعلقة بمحذوف كأنه قال مفض إلى كتفين، فهي في موضع الصفة لغصن، ويجوز أن تكون بمعنى (مع) كأنه قال: مع كتفين. وأنشد في هذا الباب: (63) (وكاهل أفرع فيه مع الإفراع إشراف وتقبيب) ذكر ابن قتيبة أن هذا البيت للضبي، ولا أعلم من هو؟ ولا ما يتصل به من الشعر، وفيه روايتان: (تقتيب) وهو تفعيل من القبة، كأنه شبه إشرافه بإشراف القبة. و (تقتيب)، وهو تفعيل من القتب، وهو الإكاف. شبهه لأن فيه إشرافاً. والإفراع: الإشراف، والإفراع: الطول. وقد كان يغنيه

ذكر الإفراع عن ذكر الإشراف، فمن الناس من يرى أنه جاء على جهة التأكيد والمبالغة، كما قال امرؤ القيس: (أمق الطول لماع السراب). فجعل طوله طويلاً مبالغة في وصفه بالطول. وهذا على قول من يرى أن الحارك والكاهل سواء. وأما من جعل الكاهل مقدم الظهر، وجعل الحارك أعلى الكاهل، فإن للإفراغ على قوله مذهباً غير مذهب الإشراف في هذا الموضع، وإن كان سواء في غيره، فكأنه أراد أن مكان كاهله من ظهره مشرف على عنقه، وذلك مما يمدح به، وإذا لم يكن كذلك سمي الدـ، وكان عيباً. وأراد أن فيه مع إشرافه على عنقه إشرافاً وتقتيباً في حاركه، فهو مشرف الكاهل، مشرف الحارك. وقد اضطرب كلام ابن قتيبة في الكاهل والحارك، فقال في هذا الباب: ويستحب ارتفاع الكتفين والحارك والكاهل، فجعل الحارك غير الكاهل. ثم قال في باب خلق الخيل: والحارك: فروع الكتفين، وهو أيضاً الكاهل. والمنسج: أسفل من ذلك، فجعلهما هاهنا سواء، وإنما اضطرب كلامه فيه، لاختلاف اللغويين في ذلك. ذكر أبو عبيدة في كتاب الديباجة في صفة الفرس، ومنه نقل ابن قتيبة هذه الأبواب، وأن المنسج من أصل العنق إلى نصف

الحارك. قال: وقال آخرون: بل هو الحارك، وهو أيضاً الكاهل، وهو ما شخص من فروع الكتفين إلى أصل العنق، إلى مستوى الظهر، قال: وقال آخرون. بل المنسج: ما أسهل من الحارك، وقال آخرون: بل الحارك منبت أدنى العرف إلى الظهر، الذي يأخذ به الفارس إذا ركب. قاله أبو عبيدة. وقال آخرون: بل الحارك من جانبي الكاهل، وهو عظم مشرف، اكتنفه فرعاً الكتفين. فالحارك: هو فرع الكاهل. وأنشد في هذا الباب: (64) (منتفج الجوف عريض كلكله) هذا الرجز لأبي النجم العجلي. واسمه: الفضل بن قدامة. ويجوز رفع منتفخ وعريض وخفضهما، لأن قبله؛ بمفرع الكتفين حر عيطلة نفرعه فرعاً ولسنا نعتله طار عن المهر نسيل ينسله صور في صلب أمين موصله

فمن خفضهما جعلهما صفتين للفرع أو للصلب، ومن رفعهما قطعهما مما قبلهما، وأضمر مبتدأ يحملهما عليه، والقطع في الصفات التي يراد بها المدح أو الذم أبلغ من إجرائها على موصوفها. والانتفاخ (بالجيم) نحو من الانتفاخ، إلا أن الانتفاخ (بالخاء) من علة رداء، والانتفاج (بالجيم) من غير علة، إنما يكون خلقة أو سمن. وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (65) (متقارب الثفنات ضيق زوره رحب اللبان شديد طيي ضريس) الشعر: لعبد الله بن سليمة بن الجارث، أنشده الأصمعي في اختياراته، وقبله: ولقد غدوت على القنيص بشيغلم كالجذع وسط الجنة المغروس القنيص: الصيد، بمعنى مقنوص. والشيظم: الفرس الطويل وشبهه هاهنا بجذع النخلة، في إشراف خلقه، وطول عنقه. والثفنات: ما يصيب الأرض من قوائم الدابة. قال الأصمعي: يريد أن زوره ضاق، فتقاربت ثفنات يديه. واللبان من الصدر: ما جرى عليه اللبب. وأما الزور ففيه قولان: قيل هو وسط الصدر، وهو قول الخليل. وقيل: الزور: أعلى الصدر وما يصعد منه

إلى الكتفين، وإنما استحب في أعلاه أن يكون ضيقاً، ليكون أوسع لمجال عضديه، وإذا اتسع أعلى الصدر ضاق مجال عضديه، وإذا اتسع أعلى الصدر ضاق مجال عضديه وانسجحا، لاصطكاكهما مع جنبيه. والضريس: البئر المطوية بالحجارة، شبه بها جوفه في عظمه. والمعنى: شديد طي الجوف المشبه للضريس. فسمى الجوف ضريساً مبالغة في التشبيه، والعرب تسمى المشبه باسم ما شبهت به، مبالغة في التشبيه. يريدون أنه لما أفرط في شبهه له، صار كأنه هو وهو كثير، فمنه قول الشاعر: وعادية سوم الجراد وزعتها وقابلتها سيداً أزل مصدراً والسيد: الذئب، ولم يقابلها بذئب، إنما قابلها بفرس يشبه الذئب. ونظير تشبيهه جوفه بالضرير، قول النابغة الجعدي: ويصهل في مثل جوف الطو ي صهلاً يبين للمعرب وقوله (شديد طي ضريس): تقديره: شديد طي ضريسه، كما تقول مررت برجل حسن لون خده، ولا بد من هذا التقدير، ليكون في الصفة ضمير يعود إلى الموصوف. ثم حذف الضمير، ونقل الصفة عن الطي إلى الموصوف قبلها، وخفض الطي بإضافة شديد إليه، ولم يعوض الألف واللام من الضمير،

ثقة بفهم السامع، وكان ينبغي أن يقول شديد طي الضريس، فصار كقولك مررت برجل حسن لون خد. والقياس: حسن لون الخد، ونحو منه قوله: لا حق بطن بقراً سمين وأنشد في هذا الباب: (66) (خيط على زفرة فتم ولم يرجع إلى دقة ولا هضم) هذا البيت للنابغة الجعدي، وقد ذكرنا اسمه فيما نقدم، وقبله: وغارة تسعر المقانب قد سارعت فيها بصلدم صمم في مرفقيه تقارب وله بركة زور كجباة الخزم وهو طويل الجران مد باجيـ ـيه فلم يأطما على كزم

المقانب: قطع الخيل تخرج للإغارة، واحدها، مقنب. وتسعر: توقد وتشعل. والصلدم: الفرس الشديد، وكذلك الصمم. ويروى صم (بالتاء) وهو نحو الصمم. والبركة من الصدر: الموضع الذي يبرك عليه، والجبأة: خشبة الحذاء التي يحذو عليها، شبه بها بركته في استدارتها. والخزم: شجر معروف. وقوله (خيط على زفرة): يريد أنه مجفر الجنبين، عظيم الجوف، فكأنه زفر، فخيط فمه، ولم يخرج النفس، كما يفعل بالزق إذا نفخ، ثم شد فمه لئلا يخرج الريح منه، ونحو منه قول سلمة بن يزيد الجعفي: كأن مواضع الدأيات منه وجفرة جنبه حشيت ثماما شبهه لعظم جنبيه بعدل قد خشي بالثمام. وأنشد لامرئ القيس: (67) (كأن مكان الردف منه على ران)

هذا البيت مشهور، تغني شهرته عن القول فيه. والرال: فرخ النعامة وهو مشرف الكفل، فشبه كفل الفرس بكفله في إشرافه وهو مهموز في الأصل، فخففه تخفيفاً بدليا، لا قياسياً، فلذلك جعل الألف ردفاً، واجري الألف فيه مجراها في سائر القوافي. ولو خففه تخفيفاً قياسياً لم يجز أن يكون ردفاً. والفرق بين تخفيف الهمزة البدلي وتخفيفها القياسي أن التخفيف البدلي يصير الهمزة بمنزلة حروف اللين، التي لاحظ فيها للهمز، فتجري مجرى حروف اللين، في أن تكون ردفاً وتأسيساً ووصلاً، والتخفيف القياسي لا يخرج الهمزة عن حكمها، فتجري مجرى الحروف الصحاح. ولهذا كان أبو عمر الجرمي يجيز رأساً مع فلس وناس، وذكر أنه مذهب الخليل. قال فأما مجيئها مع فلس فعلى معاملة الأصل، واعتقاد التخفيف القياسي، وأما مجيئها مع ناس فمن جهة اللفظ. وكان أبو علي الفارسي لا يجيز ذلك إلا على جهة التخفيف البدلي (فمن التخفيف البدلي ما أنشد سيبويه من قول الراجز): عجبت من ليلاك وانتيابها من حيث زارتني ولم أورابها والأصل أدرأ بالهمز. ومن القياس قول الآخر: يقول لي الحداد وهو يقودني إلى السجن لا تجزع فما بك من بأس وما البأس إلا أن يسربى العدا ويترك عذرى وهو أضوا من الشمس

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (68) (جموم الشد شائلة الذنابي تخال بياض غرتها سراجا) البيت للنمر بن تولب وكان أبو عمرو بن العلا يسميه الكيس استحانا لشعره: وقبل هذا البيت: أأهلكها وقد لا قيت فيها مراس الطعن والضرب الشجاجا وتذهب باطلا غدوات صهبى على الأعداء تختلج اختلاجا قوله: أأهلكها: يعني إبله، وكان ابنه دخل الحضرة، فراى الدجاج فأعجبته، فأشار على أبيه بأن يبيع إبله، ويقتني مكانها دجاجا. فلذلك قال في أول الشعر: اعذني رب من حصر وعي ومن نفس أعالجها علاجا ومن حاجات نفس فاعصمني فإن لمضمرات النفس حاجا فأنت وهبتها كوماً جلاداً أرجى النسل منها والنتاجا وتأمرني ربيعة كل يوم لأشريها وأقتني الدجاجا وما تغني الدجاح الضيف عني ولا ينفعنني إلا نضاجا

وصهبى: اسم فرسه. وتختلج: تمتد وتنجذب. والجموم من الآبار: التي لها مادة تجيئها من تحت الأرض، فكلما استقى منها شيء نبع آخر، فشبه بها الفرس، يريد أنها تجيء بجري بعد جرى، قال الراجز: فصبحت قليذما هموما يزيدها مخج الدلا جموما وأنشد في هذا الباب: (69) (لها ذنب مثل ذيل العروس تسد به فرجها من دبر) هذا البيت يروي لامرئ القيس بن حجر، ويروى لرجل من النمر بن قاسط. وشبه ذنب الفرس في طوله بذيل العروس، والعروس: يقع على الرجل والمرأة. قال داود بن جهوة. كان الصبا والشيب يطمس نوره عروس أناس مات في ليلة العرس وقال أبو الأسود الدؤلي: جرت بها الريح أذيالاً مظاهرة كما تحد ثياب القوة العرس

وقوله (تسد به): في موضع الصفة للذنب، وهي صفة جرت على غير من هي له، واستتر فيها الضمير، لأن الفعل يتضمن ضمير الأجنبي وضمير غير الأجنبي، لقوته في الإضمار، ولأنه الأصل في الإضمار والعمل. والاسم مشبه به، والمشبه بالشيء لا يقوى قوته، فلذلك يظهر الضمير الأجنبي مع الاسم، فلو صير هذا الفعل اسم فاعل لبرز الضمير، وكان يقول سادة هي به فرجها وقوله (من دبر): أراد من دبرها، فترك ذكر الضمير، لأنه قد علم ما أراد. ودبر كل شيء: خلفه. وهذا يسميه أصحاب النقد الحشو والاستعانة، لأن قوله (سد به فرجها) قد أغنى عن ذكر الدبر، فصار ذكره فضلاً، لا يحتاج إليه، ومثله قول أبي العيال الهذلي: ذكرت أخي فعاودني صداع الرأس والوصب وقد علم أن الصداع لا يكون إلا في الرأس، فصار ذكر الرأس حشواً لا يحتاج إليه. وأنشد في هذا الباب: (70) (بشنج موتر الأنساء)

وأنشد أبو عبيدة: بأعوجي شنج الأنساء حابى الضلوع خفق الأحشاء يعني بأعوجي: فرسا من نسل أعوج، وأعوج: فرس كان لبني هلال ابن عامر، وأبوه سبل، وأمه سوادة. وزعم ابن الكلبي أن أعوج كان لملك من ملوك كندة، فغزا بني سليم يوم علاف فهزموه، وأخذوا أعوج، ثم صار بعد ذلك إلى بني هلال بن عامر، فأنجب في نسله وأجاد، فمن الخيل المشهورة من نسله: الغراب، والوجيه، ولاحق، والمذهب، ومكتوم، وكن لغني بن أعصر وذو العقال، وجلوى، وكانا لبني يربوع، وداحس وأبوه ذو العقال، وكان لقيس ابن زهير العبسي، والحنفاء والغبراء، وكانتا لحذيفة بن بدر الفزاري. ومن نسله حلاب والنباك، وكانا لبني تغلب وفي حلاب يقول الأخطل. تجول بنات حلاب علينا ونزجرهن بين هلا وهاب وفي العقال يقول جرير: إن الجياد يبتن حول قبابنا من آل أعوج أو لذي العقال وقد ذكر أبو فراس الحمداني الحنفاء، فقال: إذا كان غير الله للمرء عدة أتته الرؤايا من وجوه الفوائد فقد جرت الحنفاء حتف حذيفة وكان يراها عدة للشدائد

وقوله (موتر الأنساء) إنما له نسيان، ولكنه أخرج التثنية مخرج الجمع، وقد تقدم ذكر ذلك. والحابي: الضلوع المشرفها، والخفق: الأحشاء الضامرها. كذا قال أبو عبيدة. وأنشد في هذا الباب: (71) (وقصرى شنج الأنساء نباح من الشعب) هذا الشعر لأبي داود الإيادي. وذكر أبو عبيدة أنه لعقبة بن سابق الهزاني. وبعده هذا البيت: ومتان خظاتان كزحلوف من الهضب. يهز العنق الأبرد في مستأمن الشعب قال أبو عبيدة في كتاب الديباجة: ضلوغ الفرس ست: فأولهن مما يلي أصل العنق هي القصيري، وإن شئت القصر، وقال بعضهم هي الجانحة، وإنما القصيري آخر ضلع من جنبه، إلى الطفطفة، وهي الخلب. وهذا القول الثاني: هو الصحيح، والذي حكاه أولا غلط، لأن أشعار العرب إنما تدل على أن القصرى في موضع الخصر، ألا ترى إلى قول امرئ القيس: له قصر يا عير وساقا نعامة كفحل الهجان ينتحى للعضيض

وأراد بقوله شنج الأنساء: الظبي، وجعله نباحاً لأنهم يذكرون أن الظبي إذا أسن أشبه صوته نباح الكلب. حكى ذلك ابن القزاز في معاني الشعر، وأنشد في صفة ظبي: وينبح بين الشعب نبحاً تخاله نباح سلوق أبصرت ما يريبها. وروى بعضهم (نباج) بالجيم، وهو الشديد الصوت، ويروى (الشعب) بضم الشين، وكذا أنشده ابن قتيبة في معاني الشعر، ويروى (الشعب) بكسر الشين، فمن ضم الشين ففيه وجهان: أحدهما أن يكون جمع أشعب، وهو المفترق القرنين، فيكون في البيت تقديم وتأخير، كأنه قال: وقصرى شنج الأنساء من الشعب، أي الظباء الشعب. والوجه الثاني أن يكون الشعب: جمع شعبة، وهي رأس الجبل، فيكون معناه: ينبح من رأس الجبل. والشعب، بكسر الشين: الطريق في الجبل، والروايتان سواء في أن ذكر الشعب والشعب من الحشو الذي لا يحتاج إليه، وأكثر ألفاظ هذا البيت حشو، وموضوعة على غير الوجه المختار، ألا ترى أن هذا البيت بكماله يساوي قول امرئ القيس (له أيطلا ظبي) فصدر بيت امرئ القيس قد أفادما أفاده بيت أبي داود كله، ثم تمم بيته بمعان آخر، وسلم بيته من الحشو. وكذلك (شنج الأنساء): كلام موضوع على غير الوجه المختار، لأنه أراد: وقصرى ظبي شنج الأنساء، فحذف الموصوف، وأقام صفته مقامه. وشنج الأنساء: صفة لا تخص الظبي دون غيره، وإنما تحسن إقامة الصفة مقام موصوفها إذا كانت مختصة به،

أو بنوعه، فقولك جاءني العاقل أقرب إلى الجواز من قولك جاءني الطويل، ومع ذلك فإنما أراد تشبيه خصري الفرس بخصري الظبي، فذكره شنج أنسائه لا يؤكد المعنى الذي قصده، كما لا يخل به تركه، وكذلك نبحه من الجبل. وقوله (في مستأمن الشعب): قال الأصمعي: يريد أنه أمين لا يخاف ضعفه. (والسعب) بالسين غير معجمة: اتصال العدو، ويقال (سعم) بالميم. وأنشد في هذا الباب: (72) (شنج النسا خرق الجناح كأنه في الدار أثر الظاعتين مقيد) البيت للطرماح بن حكيم. ويكنى أبا نفر، يصف غراباً. وقبله: وجرى بينهم غداة تحملوا من ذي الأباطح شاحج يتفيد يعني بالشاحج غراباً. يقال شحج الغراب يشحج: إذا صاح. والأبارق جمع أبرق؛ وهو موضع فيه رمل وحصى. ويتقيد: يتبختر في مشيه، وقيل التفيد أن يصيح ويحرك رأسه، كأنه يريد أن يتقيأ. ووقع في شعر الطرماح (شنج النسا أدفى الجناح)، وهو الذي في جناحه ميل. ويروى حرق وخرق بالحاء، معجمة فيه قولان. قيل: هو اللين الجناح مثل الأدفى، وقيل هو الشديد الضرب بجناحه. والظاعنون: الراحلون. يريد أنه يألف الديار إذا رحل عنها أهلها، فكأنه مقيد فيها.

وأنشد في هذا الباب: (73) (لها كفل كصفاة المسيل) البيت لامرئ القيس بن حجر. ويروى لرجل من النمر بن قاسط، وتمامه: أبرز عنها حجاف مضر والصفاة: الصخرة الملساء. وهي الصفواء أيضاً. والمسيل: مجرى السيل. شبه كفلها في ملاسته بصفاة في مسيل أبرزها السيل، وكشف ما كان عليها من التراب. والحجاف والقحاف (بالجيم والقاف): السيل الشديد. والمضر: فيه قولان: قيل هو الذي يضر بكل شيء يمر به، أي يقلعه ويهدمه، ويقال: هو الداني المتقارب، يقال أضر بالشيء إضرارا: إذا دنا منه، قال الأخطل: ظلت ظباء بني البكاء راتعة حتى اقتنصن على بعد وإضرار وأنشد في هذا الباب: (74) (لها كفل مثل متن الطراف) هذا البيت: لعوف بن عطية بن الخرع. وتمامه: مدد فيه البناة الحتارا

وقبله: لها رسغ مكرب أيد فلا العظم واه ولا العرق فارا لها حافر مثل قعب الوليـ ـد يتخذ الفأر فيه مغارا المكرب: الشديد، وكذلك الأيد. والواهي: الضعيف. وقوله (ولا العرق فارا): يقول: هي ممحصة القوائم لم تمتلئ عروقها وتنتفخ، وإذا انتفخت العروق كان ذلك ضعفاً في قوائمها، يقال: فار العرق ونفر: إذا انتفخ. والقعب: القدح الصغير، شبه به حافر الفرس. والمغار: الحجر الذي يغور فيه، أي يدخل. وهذا من الممكن الذي يخرجه العرب مخرج الواجب، فظاهر الكلام: أن الفأر يتخذ فيه مغارا على الحقيقة والوجوب، والمراد أن الفأر لو فعل ذلك لأمكنه، ومثله قولهم جاء بجفنة يعقد فيها ثلاثة أنفس. وكذلك قوله: عشنزرة جواعرها ثمان وقد تقدم ذكره. والطراف: قبة تتخذ من أدم. والبناة: الذين يقيمون الخباء على عمده، واحدهم بان. والحتار: الطرة التي في أسفل البيت، ويسمى الكفاف أيضاً، وهو الذي تشد به الأطناب، وحرف كل شيء: حتاره

وكفافه. قال الأصمعي: فأراد أن كفلها ليس بمضطرب ولكنه كالبيت الممدود والموثق بالأطناب. وأنشد في هذا البيت: (75) (وأحمر كالديباج أما سماؤه فرياً، وما أرضه فمحول) هذا البيت ينسب إلى طفيل الغنوي ولم أجده في ديوان شعره يصف فرساً أشقر أو ورداً؛ وشبه بالديباج في حسن لونه، وملاسة جلده، وأراد بسمائه: أعاليه وبأرضه: قوائمه. وشبه قوائمه لقلة لحمها بالأرض المحل التي لا نبات فيها، ويروى بفتح الميم، من محول وضمها، فمن فتح الميم جعله اسماً مفرداً، بناه على فعول للمبالغة، والفعل منه أمحل، وقياس فعول أن لا يكون إلا من الأفعال الثلاثية، ولكنه جاء على حذف الزيادة، كما قالوا: بلد ما حل، والقياس ممجل ومن رواه بضم الميم، جعله جمع محل، وتقديره: ذات محول، فحذف المضاف. وزعم بعض اللغويين أن أرض الدابة بالظاء. والأرض التي هي ضد السماء بالضاد، وذلك غير صحيح. والصحيح أنها بالضاد، لأنها إنما سميت: أرضاً لأنها تلى الأرض، والعرب تسمى أعلى كل شيء سماء، وأسفله أرضاً، على

التمثيل والاستعارة، وفي هذا البيت أدل دليل على بطلان ما قالوه، لأنه سمي أعلى الفرس يماه لعلوه، فكذلك سمي قوائمه أرضاً لسفولها: * * * وأنشد في هذا الباب: (76) (لها ساقا ظليم خا ... ضب فوجيء بالرعب) قد تقدمت أبيات من هذا الشعر في هذا الباب، وذكرنا أنها تروى لأبي دواد الإيادي، وتروى لعقبة بن سابق الهزاني، ويتلو هذا البيت البيت الذي تقدم آنفاً، وهو قوله: وقصرى شنج الأنسا ... ء نباح من الشعب وروينا هذا البيت عن أبي نصر، عن أبي علي البغدادي (لها) بتأنيث الضمير، وهو غلط من ابن قتيبة، أو من الراوي عنه، والصواب (له)، لأن قبله: وقد أغدو بطرف هيـ ... ـكل ذي ميعة سكب مسح لا يواري الصيـ ... ـد منه عصر اللهب قوله (ساقا ظليم): شبه ساقيه في قصرهما بساقي الظليم، وهو ذكر النعام، وفي الخاضب ثلاثة أقوال: قال قوم هو الذي أكل الربيع فاحمر ظنبو باه وأطراف ريشه؛ وقال آخرون: هو الذي اخضرت له الأرض بالنبات. وقال آخرون:

هو الذي اغتلم فاحمرت ساقاه، وخص الخاضب، لأنه حينئذ أسرع ما يكون. قال الكلابي: لا تطلب الخيل الظليم إذا خضب في الشتاء؛ فإذا قاظ استرخى وضعف، وانتشر ريشه وسمن، فتطلبه الخيل فتدركه، وأكد المعنى بقوله: (فوجيء بالرعب) لأن الظليم أشد الحيوان فزعا، ولذلك يضرب به المثل، فيقال: أشرد من ظليم، وأشرد من نعام. * * * وأنشد في هذا الباب: (77) (له متن عير وساقا ظليم) هذا البيت للحطيئة، واسمه جرول بن أوس العبسي، ويكنى أبا مليكة. قال أبو الفرج الأصبهاني: ولقب الحطيئة لقصره وقربه من الأرض. وقال حماد الرواية عن أبي نصر الأعرابي: لقب الحطيئة، لأنه حبق بين قوم، فقيل له: ما هذا فقال حطيئة. وقال الرواسي: لقب الحطيئة، لأنه كان محطوء الرجل. قال والرجل المحطؤة: التي لا أخمص لها. وتمام هذا البيت: ونهدُ المعدين ينبي الحزاما ووقع في النسخ (لها) بتأنيث الضمير، والصواب: (له) لأن قبله: وسرب ذعرت بذي معية ... ترى في البديهة منه اعتزاما

السرب: القطيع من الظباء والبقر. والميعة: النشاط. والبديهة والبداهة: أول الجزي. والاعتزام: المضي والتصميم: والعير: الحمار. ومتنه: ظهره. وقوله نهد المعدين: أراد: وجوف نهد المعدين. والنهد: العظيم، والمعدان: موقع دفتي السرج من جنبي الفرس. ومعنى ينبي الحزاما: يدفعه عن نفسه لعمته، وشدة نفسه. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (78) (شرحب سلهب كأن رماحا ... حملته وفي السراة دموج) هذا البيت لا أعلم قائله، والشرحب والسلهب سواء. وكلاهما: الطويل. وقوله: كأن رماحاً حملته، يقول: كأنما يمشي على رماح، لطول قوائمه. والسراة: أعلى الظهر، والدموج: دخول بعض الشيء في بعض، من شدته واكتنازه. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (79) (وفي اليدين إذا ما الماء أسهله ... ثنى قليل وفي الرجلين تجنيب)

هذا البيت لأبي دواد الإيادي، وبعده: وكل قائمة تهوى لوجهتها ... لها أنى كفرغ الدلو أثعوب لا في شظاه ولا أرساغه عنت ... ولا مشك صفاق البطن منقوب قوله: ('إذا ما الماء أسهله) الماء هنا: العرق. وفي قوله سهله تأويلان: أحدهما أن يكون من قولك: سهل الشيء وأسهلته وسهلته: إذا جعلته سهلا، لا صعوبة فيه. والثاني أن يكون من قولهم أسهل: إذا انحدر من الجبل إلى الأرض السهلة. يريد انحدار العرق من أعلاه إلى أسفله، فيكون ف هذا الوجه الثاني قد حذف حرف الجر، وأراد أصهل نمه. ونظيره قول خفاف بن ندبة: إذا ما استحمت أرضه من سمائه ... جرى وهو مودوع وواعد مصدق والثنى: الانعطاف والتثني. وجعله قليلاً لأنه إذا أفرط كان عيباً، وسمى روحاً. وقوله: (كل قائمة تهوى لوجهتها): يريد أن قوائمه متساوية في الجرى، لا يخذل بعضهاب عضا. والآتي: السيل يأتي من بلد قد مطر، إلى بلد لم يمطر، شبه به تدفقه في الجري. وفرغ الدلو مخرج الماء من بين العراقي، والأثعوب: المندفع والعنت الضرر والداء. يقال: أعنته يعته: إذا أضر به، وفعل به فعلا

يشق عليه، قال الله تعالى: (ولو شاء الله لأعنتكم) و (مشك صفاق البطن) مدخله ومفرزه. يريد أنه لم يحتج إلى بيطار فينقب بطنه، كما قال زهير: أمين شظاه لم يخرق صفاقه ... بمنقبة أو لم تقطع أباجله وقوله (في اليدين): تقديره على مذهب البصريين: وفي اليدين منه، فحذف الضمير، وكذلك (وفي الرجلين منه)، وتقديره على مذهب الكوفيين: وفي رجليه فنابت الألف واللام منه، مناب الضمير، ويرتفع الماء في مذهب البصريين بفعل مضمر؛ يفسره الفعل الظاهر، كأنه قال: إذا ما أسهله الماء أسهله، لأن (إذا) هذه لا تبتدأ بعدها الأسماء، والكوفيون يجيزون فيه الابتداء. وجواب إذا قوله (وفي اليدين)، وهذا بمنزلة قولك أنا أشكرك إن أحسنت إلي، فلا تأتي للشرط بجواب، لأن ما تقدم قبله من ذكر الشكر قد سد مسده، وأغنى عنه. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (80) (ترى له عظم وظيف أحدبا) وبعده: (مسقفا عبلاً ورسغاً مكربا) الرجز للعثماني؛ واسمه محمد بن ذؤيب الفقيمي. قال ابن قتيبة: ولم يكن من أهل (عمان)، وإنما قيل له عماني، لأن دكينا الراجز نظر إليه يسقى الإبل

ويرتجز فرآه غُليما مصفر اللون، ضريراً مطحولاً، فقال من هذا العماني، فلزمه الاسم، وإنما نسبه إلى عمان، لأنها وبيئة، وأهلها مصفرة وجوههم مطحولون وكذلك البحران، قال الشاعر: من يسن البحرين يعظم طحاله ... ويغبط بما في بطنه وهو جائع وجعل عظم وظيفه أحدب، لما فيه من الانحناءن فشبهه بالأحدب. والمسقف: المنحني أيضاً. والعبل: الغليظ. والرسغ: موضع القيد من الدابة والمكرب: الموثق الشديد. وقد اختلف كلام ابن قتيبة في حقيقة الوظيف، فقال في باب (شيات الخيل): والتحجيل: بياض يبلغ نصف الوظيف، والمحجل: أن تكون قوائمه الأربع بيضا يبلغ البياض منها ثلث الوظيف أو نصفه أو ثلثيه، بعد أن يتجاوز الأرساغ، ولا يبلغ الركبتين والعرقوبين، فجعل الوظيف هنا واقعاً على الذراع والساق، ثم قال بعد ذلك: والجبة: موصل الوظيف في الذراع. وقال في باب (فروق في قوائم الحيوان): قال أبو زيد: في فرسن البعير السلامي، وهي عظام الفرس، وقصبها، ثم الرسغ، ثم الوظيف ثم فوق الوظيف من يد البعير الذراع. وقال مثل ذلك في الفرس والبغل والحمار، وكذلك اختلف فيه قول أبي عبيدة في كتاب الديباجة، فكان الوظيف يكون تارة واقعاً على الذراع كلها، وكذلك الساق، ويكون تارة واقعاً على ما يلي الرسغ ويتصل به. * * * وأنشد في هذا الباب: (81) (كأن تماثيل أرساغه ... رقاب وعول على مشرب)

البيت للنابغة الجعدي. وهذا من التشبيه البديع الذي لم يسبق إليه، شبه أرساغه في غلظها وانحنائها وعدم الانتصاب، فيها برقاب وعول قد مدتها لتشرب الماء، وقيل هذا البيت: وأوظفة أيد جدلها ... كأوظفة الفالج المصعب ظماء الفصوص لطاف الشظا ... نيام الأباجل لم تضرب الفالج: الجمل الذي له سنامان. والمصعب: الذي لم يرض ولم يحمل عليه وترك للفحلة. والفصوص جمع فص، وهو ملتقى كل عظمين. والأباجل: جم الأبجل، وهو من الفرس: بمنزلة الأكحل من الإنسان. وأراد بقوله نيام الأباجل: سونها، لأن شدة نبض العروق نما يكون عن خروج المزاج عن الاعتدال. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (82) (لها ثنن كخوافي العقا ... ب سود يفين إذا تزبئر) قد قدمنا قبل هذا أن هذه القصيدة تروى لامريء القيس بن حجر، وتروى لرجل من النمر بن قاسط، وقد فسره ابن قتيبة بما أغنى عن ذكره، وروى بعضهم (يفئن) بالهمز، أي يرجعن إلى مواضعهن، لأنها تزبئر، فنتفش شعرات ثننها، فإذا سكن ازبئرارها عادت الشعرات إلى مواضعها، والرواية الأولى هي الوجه. * * *

وأنشد لعوف بن عطية: (83) (لها حافر مثل قعب الوليد ... يتخذ الفأر فيه مغارا) قد تقدم من كلامنا في هذا البيت، ما أغنى عن إعادته، والهاء في قوله (فيه) تعود على الحافر. وزعم بعض اللغويين أنها تعود على القعب، لأن قعب الوليد لا يخلو من طعام يعلل به، فالفأر يعتاده، وليس هذا التفسير مماي لتفت إليه وإنما الوجه فيه ما قد ذكرناه. * * * وأنشد في هذا الباب: (84) (بكل وأب للحصى رضاح ... ليس بمصطر ولا فرشاح) هذا الرجز لأبي النجم، فيما ذكر أبو عبيدة، وبعده: صافي الحوامي مكرب وقاح ... ينفض طش الماء كالمياح الرضاح: الذي يكسر الحجارة. والحوامي: نواحي الحوافر. والمكرب: الموثق الشديد. والوقاح: الصليب. ويعني بالماء: العرق. والطش: أصغر الرشاش وألطفه. يصف أنه عرق، فهو ينفض العرق عن نفسه، كما قال امرؤ القيس: وظل كتيس الرمل ينفض متنه ... أذاة به من صائك متحلب

شبه الفرس بالتيس الذي تحلب عليه صائك المطر من الشجر، والصائك: الذي تغير لونه وريحه وشبهه في امتلائه له من العرق بالمياح وهو نحو قول طفيل: كأن على أعطافه ثوب مائح ... وإن يلق كلب بين لحييه يذهب والباء في قوله (بكل وأب) تتعلق بقوله قبله - (يُذري صلاب المرو والصفاح). وأما الباء في قوله (ليس بمصطر) فليست متعلقة بشيء، لأنها زائدة للتأكيد. * * * وأنشد في باب خلق الخيل: (85) (بكل مدجج كالليث يسمو ... إلى: أوصال ذيال رقن) هذا البيت للنابغة الذبياني، وهو من الشعر المنحول إليه، والمدحج والمدحج، بفتح الجيم وكسرها: الفارس الكامل السلاح، فمن كسر الجيم نسب الفعل إليه،

أراد أنه دجج نفسه، ومن فتح الجيم نسب الفعل إلى غيره، أراد أن غيره دججه. واشتقاقه من شيئين أحدهما أن يكون مشتقاً من الدجة، وهي الظلمة ومن قولهم: ليل دجوج وديجوج ويقال: تدجج الليلن وتدجدج: إذا أظلم، قال العجاج: إذا رداء ليلة تدجدجا شبه بالليل، لتكفره بالحديد. والثاني: أن القنفذ يسمى مدججاً، فكأنه شبه بالقنفذ، لما عليه من السلاح ويدل على هذا تشبيههم الرجالة إذا اجتمعوا، ورفعوا رماحهم بالحرشف، قال امرؤ القيس: كأنهم حرشف مبثوث ... بالجو غذ تبرق النعال ومن بديع ما جاء في هذا، قول محمد بن هانيء يصف جيش المعز: وأرعن يحموم كان أديمه ... إذا أشرعت أرماحه ظهر شيهم وقد فرق بعض اللغويين بين المدجج والمدجج فقال: المدجج (بالكسر): الفارس. والمدجج (بالفتح) الفرس، لأنهم كانوا يدرعون الخيل، وقاية لها، والقول الأول هو المشهور. والليث: الأسد، سمي بذلك لشدته. ويسمو: يصعد عند الركوب. والأوصال؛ الأعضاء. والباء في قوله بكل مدجج متصلة بقوله قبل هذا البيت.

وهم زحفوا لغسان بزحف ... رحيب السرب أرعن مرثعن وهي الباء التي تنوب مناب واو الحال في قوله: جاء زيد بثيابه؛ أي وثيابه عليه: ومثله قول الآخر: قد قطع الحبل بالمرود وقد تقدم من القول في هذا الباب ما أغنانا عن إعادته، وحرف الجر من قوله إلى أوصال، لا موضع له لتعلقه بالظاهر، وأما لكاف من قوله كالليث، فلها موضع لتعلقها بمحذوف، لأنها في موضع الصفة لمدجج، كأنه قال بكل مدجج كأن كالليث، والنحويون يقولون إن الكاف بمعنى مثل، كأنه قال مثل الليث، وحقيقته ما ذكرته لك لأن كونها بمعنى مثل لا يخرجها عن أن تكون حرفاً، وإنما هو تقدير المعنى لا حقيقة اللفظ. * * * وأنشد في هذا الباب: (86) (يبذ الجياد فارها متتايعا) البيت لعدي بن زيد العبادي وصدره: فصاف يفرى جله عن سراته وقبله: تأيبيت منهن المصير فلم أزل ... أسير طرفا ساهم الوجه فارعا

تزبيته لم أله عن ثغباته ... فتبصره عين إذا شير ضائعا قوله (تأييت منهن المصير) الضمير يرجع إلى حمير وحش ذكرها قبل ذلك، أي تعمدت مصير الحُمر أين يصرن. والطرف: الفرس الكريم الطرفين. والساهم: القليل لحم الوجه، والفارع: المشرف العالي الخلق. وقوله (لم أله) أي لم اغفل، يقال: لهيث عن الشيء: إذا تركته وغفلت عنه. ولهوت ألهو، من اللهو: وثغباته: سقيه اللبن شيئاً بعد شيء وأصل الثغب: الماء العذب يغادره السيل وقيل: هو الماء ينبع بين الحصى، ويقال: شرت الفرس أشوره، وشورته: إذا امتحنته ورضته. وقوله (صاف) أي أقام زمن الصيف، وقوله (يفرى جله) أي يمزقه ويلقيه عن سراته وهي ظهر، نشاطاً ومرحاً، ويبذ الجياد: يسبقها. ويروى يبذ القياد، كذا وجدته في ديوان شعره، وقال: معناه يسبق قائده لنشاطه. والفاره: الحسن الخلق. وقيل: هو الناعم العيش، الكثير الأشر. وفي المتتابع قولان: قيل هو الذي إذا مشى اضطرب في مشيه. وقيل: هو الشديد اللجاجة المتهافت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (ما يحملكم على أن تتابعوا في الكذب، كما يتتايع الفراش في النار). والتتايع (بياء معجمة باثنتين) نحو من التتايع المعجم بواحدة، إلا أن في التتايع بالياء المعجمة باثنين لجاجة وتهافتاً. * * *

وأنشد في باب الدوائر من الخيل: (87) (أسيل نبيل ليس فيه معابة ... كميت كلون الصرف أرجل أقرح) هذا البيت لمرقش الأصغر، واسمه عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة. وقال ابو العباس ثعلب: اسمه عمرو بن حرملة. قال ابن قتيبة: ويقال اسمه عمرو بان سفيان بن سعد. والأسيل: الذي في خده طول وملاسه. والنبيل: العظيم الخلق. والمعابة العيب. والصرف: صبغ أحمر تصبغ به الجلود، شبه به لونه، لخلوصه ونصاعته، كما قال الآخر: كميت غير محلفة ولكن ... كلون الصرف على به الاديم والمحلفه: التي لونها غير خالص، وسميت بذلك لأن الناظرين إليها يختلفون في لونها، فيحلف بعضهم أنها كميت، ويحلف بعضهم أنها شقراء، ويحلف بعضهم أنها وردة، وبعد بيت المرقش. على مثله تأتى الندى مخائلا ... وينظر سرا أي أمريك أربح ويسبق مطروداً ويلحق طاردا ... ويخرج من غمى المضيق ويجرح الندى: المجلس. والمخايل: ذو الخيلاء. وقوله (وتنظر سرا أي أمريك اربح) يريد بالأمرين الطلب والفرار. يقول: على مثله تفر إن أردت الفرار، وتطلب العدو إن أردت الطلب.

ومثله قول امريء القيس: مكر مفر مقبل مدبر معا ً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل والغمى: الشدة إذا ضممت أولها قصرتها، وإذا فتحت أولها مددتها، ومنهم من يفتح أولها ويقصر آخرها، ومعنى يجرح: يكسب ويصير، ومنه قيل للطير الذي يصاد بها: جوارح. * * * وأنشد في باب العلل: (89) (غمز الطبيب نغانغ المعذور) البيت لجرير بن عطية الخطفي، وصدره: (غمز ابن مرة يا فرزدق كينها) وقبله: خزى الفرزدق بعد وفعة سبعة ... كالحصن من ولد الأشد ذكور الغمز: شبه الطعن والدفع. ويعني: ابن مرة عمران بن مرة المنقري، وكان أسر جعثن أخت الفرزدق يوم السيدان، وفي ذلك يقول جرير يخاطب الفرزدق:

على حفر السيدان لاقيت خزية ... ويوم الرحى لم ينق ثوبك غاسله وقد نوختها منقر قد علمتم ... لمعتلج الدايات شعر كلاكله يفرج عمران بن مرة كينها ... وينزو نزاء العير أعلق حائله وفي ذلك يقول أيضاً يخاطب جعثن: أجعثن قد لاقيت عمران شاربا ... عن الحبة الخضراء ألبان إيل والكمين: لحمالفرج. والنغانغ: أورام تحدث في الحلق. جمع نغنغ، وهو اللحمة في الحلق عند اللهازم. والمعذور: الذي أصابته العذرة وهي وجع الحلق. وقوله (بعد وقعة سبعة) أرد أن أخته نكحها حين أسرت، سبعة من ولد الأشد المنقري. ويقال علقت الأنثى من الذكر. وأعلقت: إذا حملت. والحائل: التي يضربها الفحل فلا تحمل. والحبسة الخضراء: حب البطم، ويقال: هي الشغاين. وإنما ذكرها لأنها تهيج الغلمة إذا شربت، وكذلك لبن الإيل، قال النابغة الجعدي في هجائه ليل الأخيلية: بريذينة حك البراذين ثفرها ... وقد شربت من آخر الصيف أيلا

أراد: لبن إيل، فحذف المضاف. وحكى كراع أن الأيل: اللبن الخاثر. وروى بعضهم (أُيلا) بضم الهمزة، وقال: جمع إبل، وهو اللبن الخاثر. * * * وأنشد في هذا الباب: (90) (وقد حال هم دون ذلك شاغل ... ولوج الشغاف تبتغيه الأصابع) هذا البيت مشهور للنابغة الذبياني، يقوله في موجدة النعمان بن المنذر اللخمي عليه، وقوله (ذلك): إشارة إلى الصبا الذي ذكره قبل هذا البيت في قوله: (على حين عاتبت المشيب على الصبا) يقول: كيف أصبو وقد حال بيني وبين الصبا الشيب، الذي يزعني عن الجهل، والهم الذي شغل بالي، وحل منى محل الشغاف، لغضب النعمان على. ويروي (والج ولوج الشغاف) أي داخل دخوله. ويروى مكان الشغاف. واختلف في الشفاف؛ فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: هو غلاف القلب. وقال الأصمعي: هو داء تحت الشراسيف، في الشق الأيمن، فيقال: إذا التقى هو والطحال، مات صاحبه، وأنشد أبو عبيدة: يعلم الله أن حبك منى ... في سواد الفؤاد تحت الشغاف

وقوله: (تبتغيه الأصابع) يعني أصابع الأطباء تلمسه، لتنظر هل ينزل أم لم ينزل، وإنما ينزل عند البرء. هذا قول الأصمعي وأبي عبيدة. وقيلي: معناه تلمسه، هل انحدر نحو الطحال، فيتوقع على صاحبه الموت، أم لم ينحدر فترجى له السلامة. وقال أبو علي البغدادي: يعني أصابع الأطباء يلمسنه: هل وصل إلى القلب أم لا؟ لأنه إذا اتصل بالقلب تلف صاحبه، وإنما أراد النابغة: أن موجدة النعمان عليه بين رجاء ويأس، كهذا العليل الذي يخشي عليه الهلاك، ولا يأس من ذلك من برئه. وهذان التأويلان أشبه بغرض النابغة من التأويل الأول. وأما إعرابه: فمن روى (والج لوج الشغاف) جعله مثل قولهم: ضربته ضرب الأمير اللص. وتقديره: (والج ولوجاً مثل ولوج الشغاف)، فحذف الموصوف، وأقام صفته مقامه، وحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. ومن روى (شاغل ولوج الشغاف) جعله من المصادر المحمولة على معاني الأفعال، دون ألفاظها، لأنه إذا شغل فقد ولج، فصارت الفائدة من قوله (شاغل) كالفائدة من قوله (والج ولوج) فصار مثل قولهم تبسمت وميض البرق، وجلس زيد قعود عمرو، ومن روى (شاغل) مكان الشغاف، جاز أن يكون المكان ظرفاً وجاز أن يكون مفعولاً به. * * * وأنشد في هذا الباب: (91) (قضيبا لطبيب نائط المصفور)

البيت للعجاج، واسمه عبد الله بن رؤبة، وقبله: وبج كل عانه نعور ... أجوف ذي ثوارة ثؤور يصف ثورا وحشياً وكلاباً، ومعنى بج: شق والعاند: العرق الذي يخرج منه الدم (معترضاً غير مستقيم. والنعور: المصوت، يقال نعر الدم) ينعر: إذا خرج وله صوت. والثؤور: الذي يثور بالدم. والثوارة: ما يثور منه. والقضب: القطع، شبه الثور حين طعن الكلاب بقرنه، فثار الدم، بطبيب قضب نائط رجل مصفور، فثار منه الماء الأصفر. فقضب: مصدر مشبه به البج، محمول على معنى الفعل، لا على لفظه، وتقديره: وبج بجاً مثل قضب الطبيب وذا بج فقد قضب، فصار كقوله قضب قضب الطبيب، ومثله ما ذكرناه من قولهم: تبسمت وميض البرق. * * * وأنشد في هذا الباب: (92) (شربت الشكاعى والتددت ألدة ... وأقبلت أفواه العروق المكاويا)

البيت لعمرو بن أحمر الباهلي، وكان أصابه الماء الأصفر، فعالجه بأنواع العلاج، فلم يبرأ. والشكاعي: ثبت يعاني به الماء الأصفر. والألدة: جمع لدود، وهو دواء يدخل في الفم بالإصبع. يقول: شربت الشكاعي واستعملت الألدة النافعة، وكويت أفواه العروق التي تنبعث منها المواد، فلم يغن عني جميع ذلك شيئاً. وبعد هذا البيت: لانسا في عمرى قليلاً وما أرى ... لداني إن لم يشفه الله شافيا فيا صاحبي رحلي سواء عليكما ... أدوايتما العصرين أم لم تداويا وي كل عام تدعوان أطبة ... إلى وما يجدون إلا هواهيا فإن تحسما عرقا من الداء تتركا ... إلى جنبه عرقا من الداء ساقيا * * * وأنشد في باب: فروق في خلق الإنسان: (93) (فجال على وحشيه) وأكثر من يقرأ هذا الكتاب، يزعم أنه ليس بشعر، لأنه أخرجه مخرج الكلام المنثور، وهو صدر بيت لضابيء بن الحارث البرجمي. والبيت بكماله: فجال على وحشيه وكأنها ... يعاسيب صيف إثره إذ تمهلا يصف ثوراً وحشياً وكلاباً. ومعنى جال: أسرع ذاهباً في شقه الوحشي، وشبه الكلاب باليعاصيب، وهي فحول النحل وقيل رؤساؤها. ومعنى تمهل: تقدم، وقال عبدُ بني الحسحاس في مثله

فجال على وحشيه وكأنما ... ترى فوقه سبا جديداً يمانيا والسب: ثوب رقيق أبيض كالعمامة. * * * وأنشد في هذا الباب: (94) (فانصاع جانبه الوحشي) وهذا صدر بيت لذي الرمة. ويتوهم كثير ممن يراه، أنه ليس بشعر، وتمامه: فانصاع جانبه الوحشي وانكدرت ... يلحبن لا يأتلي المطلوب والطلب يصف ثوراً وكلاباً. ومعنى انصاع: مال. وجانبه منصوب نصب الظروف، أي مال في جانبه الوحش ذاهبا، وانكدرت الكلاب في غثره. وشبه اندفاعها في العدو بانكدار النجوم. ويلحبن: يسعدن والمطلوب: الثور. ويأتلي: يقصر. يقول لا يقصر الثور المطلوب في هربه، ولا تقصر الكلاب الطالبة في طلبه. * * * وأنشد في هذا الباب: (95) (ولا تنكحي أن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا)

البيت لهدبة بن خشرم العذري يخاطب به زوجه حين أريد أن يقتل، وقبله: أقلى على اللوم يا أم بوزعا ... ولا تجزعي مما أصاب فأوجعا ويجوز خفض الوجه ونصبه ورفعه. وأقوى الوجوه فيه الخفض، وأضعفهما الرفع، فمن خفض الوجه، جعل القفا في موضع خفض، على حد قولهم: زيد حسن الوجه، ومن نصبه، جعل القفا في موضع نصب، على التشبيه بالمفعول، على حد قولهم زيد حسن الوجه. والكوفيون يجيزون نصبه على التمييز، ولا يجيزه البصريون لأن التمييز عندهم لا يكون إلا نكرة. ومن رفع الوجه، ففيه وجهان: أحدهما أن يكون القفا في موضع رفع، والوجه عطف عليه. وهذا الذي ذكرنا أنه أضعف الوجوه، يكون على حد قولهم: مررت برجل حسن الوجه. وأكثر البصريين يقولون تقديره: حسن الوجه منه، فحذف الضمير لما فهم المعنى. والكوفيون يقولون إن الألف واللام عاقبتا الضمير، وسدتا مسده، وكان الفارسي يأبى هذين التأويلين جميعاً، ويضمر فيحسن ضميراً يرجع إلى الرجل، ويجعل الوجه بدلاً منه. والقول الثاني في البيت: أن يكون الوجه مرفوعاً بالابتداء، وليس بأنزعا في موضع خبره، فيكون موضع الجملة على هذا التأويل رفعا، وفي الوجوه المتقدمة يكون موضعها نصباً على الصفة لأغم. ونظير هذا البيت قول النابغة: ونمسك بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام يروى برفع الظهر ونصبه وخفضه. وقوله (إن فرق الدهر بيننا) شرط لا جواب له، لأن ما قبله أغنى عنه، وسد مسده، لأن معناه عن فرق الدهر بيننا فلا تنحي، فصار بمنزلة أنا أشكرك إن أحسنت إلى. * * *

وأنشد في باب فروق في الإنسان: (96) (فجاءت كسن الظبي لم أر مثلها ... سناء قتيل أو حلوبة جائع) هذا الشعر لأبي جرول الجشمي، واسمه هند، يقوله في رجل من أهل العالية قتل، فحكم أولياؤه في ديته، فاشترطوا أن يعطوا الدية كلها إبلاً ثنيانا، فدفعت إليهم على اقتراحهم، فقال أبو جرول هذا الشعر. وبعد هذا البيت: تقطع أعناق التنوط بالضحا ... وتفرس في الظلماء أفعى الأجارع مضاعفة شنم الوارك والذرا ... عظام مقيل الهام جرد المذارع قوله (جاءت كسن الظبي) أي ثنيانا، وقد فسره ابن قتيبة، والسناء: الشرف. والحلوبة الناقة التي تحلب، وكذلك الشاة. يقول: لم أر مثلها شرفاً لقتيلن لأن اقتراح الأولياء أن يأخذوها كلها ثنيانا، إنما كان لجلالة المقتول، وعظم قدره. والتنوط: طائر يعلق عشه من الشجر في أرفع موضع منها، وفيه لغتان: تنوط بضم التاء وفتح النون وكسر الواو وتنوط بفتح التاء والنون وضم الواو فأراد أنها طوال الأعناق تصل رؤوسها لطول أعناقها وأشرف خلقها إلى الموضع الذي يعشش فيه التنوط، فتفسد عشه الذي علقه. وقوله: (وتفرس في الظلماء أفعى الأجارع) الأجارع: رمال سهلة، واحدها أجرع. وتفرس: تدق. يريد أن أخفافها مجمدة صليبة، تطأبها الأفاعي فتقلبها، ولا تبالي بلسعها. وقوله (مضاعفة) يريد أن عليها طاقات من الشحم مركبة، بعضها فوق بعض كما قال امرؤ القيس:

تظاهر فيها النيء، لا هي بكرة ... ولا ذات صفن في الذمام غموض والذرا: الأسنمة، واحدها ذروة. وقوله عظام مقيل الهام: يريد أنها عظام الرؤس. وأصل المقيل الموضع الذي ينام فيه الإنسان في القائلة، فاستعاره للرؤوس. وقوله (جرد المذارع): يريد أن قوائمها جرد من الشعر. وقوله لم أر مثلها سناء: قيل في إعرابه وجهان: أحدهما: أن تجعل (مثلها) مفعولاً لأرى، وسناء منصوباً على التمييز، فيكون بمنزلة قولك ما رأيت مثله رجلاً. والآخر: أن يكون سناء هو المفعول لأرى، ومثلها منصوباً على الحال، كأنه أراد لم أر سناء قتيل مثلها، فكان مثلها صفة لسناء، فلما قدم صفة النكرة عليها صارت حالا، فصار بمنزلة قولك: فيها قائماً رجل. ويلزم في هذا الوجه أن يقدر مضاف محذوف، أراد سناء قتيل مثل سنائها، فحذف المضاف، وهذا الوجه فيه بُعد، والأول هو الصحيح. * * * وأنشد في باب فروق في الأصوات: (97) (فنفسي فداؤك يوم النزال ... إذا كان دعوى الرجال الكريرا) البيت لأعشى بكر، ووقع في بعض النسخ (نفسي فداؤك) بغير فاء، ووقع في بعضها: (فنفسي فداؤك) بالفاء، والوجه أن يكون بالواو، لأن قبله: فأهلي فداؤك يوم الجفار ... إذا ترك القيد خطوى قصيراً كذا روى أبو علي البغدادي، عن ابن دريد، وقد يمكن أن يكون (فنفسي فداؤك) فيما رواه ابن قتيبة مقدماً قبل قوله: (وأهلي فداؤك) فيكون بالفاء،

ويكون الآخر بالواو. والنزال في الحرب على ضربين: أحدهما في أول الحرب، والثاني في آخرها. فالذي في أولها أن ينزلوا عن إبلهم التي يمتطونها، ويركبوا خيلهم، لأنهم يركبون الإبل، ويقودون الخيل. والذي في آخرها: أن ينزلوا عن خيلهم، ويقاتلوا على أقدامهم. وهذا النزال الثاني: هو الذي يمتدح به الكماة، وهو الذي أراده مهلهل بقوله: لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا، ... وأخو الحرب من أطاق النزولا وإياه عني ربيعة بن مقروم الضبي بقوله: فدعوا نزل، فكنت أول نازل ... وعلام أركبه إذا لم أنزل * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (98) (كشيش أفعى أجمعت لعض ... فهي تحك بعضها ببعض) هذا الرجز لا أعلم قائله، وقبله: كان صوت شخبها المرفض

يصف ناقة تحلب أو شاة، فشبه صوت شخبها يكشيش الأفعلى إذا هممت بأن تثبت للعض. والشخب: ما يندفع من اللبن من الضرع عند الحلب. والمرفض: المتفرق لكثرته. وأجمعت: عزمت على ذلك وتهيأت له، ومثله قول الآخر، أنشده ابن الأعرابي: كأن صوت شخبها إذا همى ... صوت الأفاعي في خشي أخشما يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخاً على كرسيه معمماً لو أنه أبان أو تكلما ... لكان إياه ولكن أعجما همي: سال. ويروي خمى: أي صوت. والخشي: النبت اليابس، يقال بالخاء والحاء، وشبه اللبن في القعب لما عليه من الرغوة حين امتلأ الإناء، بشيخ معمم فوق كرسي. والأخشم: والأشخم: الذي ابيض بعد خضرته. * * * وأنشد في باب معرفة في الطعام والشراب: (99) (نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الادب فينا ينتقر) هذا البيت مشهور لطرفة بن العبد. والمشتاة: زمن الشتاء. يقول: دواتنا في زمن الشتاء دعوات عموم، لا دعوات خصوص. وخص زمان الشتاء لأنه وقت الضيق والشدة. والآدب: صاحب المأدبة، يقال: أدب يأدب

أدباً، فهو آدب. وينتقر: يخص بدعوته، يقال: انتقر انتقارا، وهو من الأفعال التي لم تستعمل إلا بالزيادة. والجفلى: مصدر من المصادر الدالة على الكيفية، وحقيقته أنه صفة لمصدر محذوف، تقديره ندعو الدعوة الجفلى، فحذف المصدر، وقامت صفته مقامه. والمصادر أربعة أنواع: أحدها المصدر الدال على نوع الفعل مجردا من الكمية والكيفية، كقولك: ضربته ضرباً، وقتلته قتلاً. والثاني: المصدر الدال على المقدار والكمية كقول: ضربته ضربة، وضربته ضربتين. والثالث: المصدر الدال على الكيفية والهيئة كقولك: قعد قعدة حسنة، وقعد القرفصاء، ودعاهم الجفلى. والرابع: المصدر الذي يراد به التمثيل والتشبيه، كقولك: ضربته ضرب الأمير اللص. ويروى الحفلى (بالحاء غير معجمة) كأنه من الاحتفال، ذكر ذلك كراع. وقوله: (نحن في المشتاة تدعو الجفلى) تقديم وتأخير، تقديره: نحن ندعو الجفلى في المشتاة، فندعو خبر المبتدأ وفي المشتاة من صلته ومتمم له. * * * وأنشد في هذا الباب: (100) (فجاءت بيتن للضيافة أرشما) البيت للبعيث، واسمه خراش بن بشير المجاشعي، وسمى البعيث لقوله: تبعث منى ما تبعث بعدما ... أمرت حبالى كل مرتها شزرا

وصدره: (لقي حملته أمه وهي ضيفة) يهجو بهذا الشعر جرير بن عطية الخطفي. واللقى: كل شيء يطرح ولا يلتفت إليه. واليتن الذي يخرج رجلاه عند الولادة قبل رأسه، وكانوا يتشاءمون به، لخروجه مقلوباً، لأن الولادة المستقيمة أن يخرج رأس المولود أولاً، وإذا خرج كذلك سهلت ولادته على أمه، لأن ذراعيه تنضمان إلى جنبه، فينخرط من الرحم في سرعة، وإذا خرجت رجلاه أولا، تجافت ذراعاه عن جنبيه، فاعترض في رحم أمه، فربما كان سبب هلاكها. وقوله: (حملته أمه وهي ضيفة) يريد أن أمه حملت به وقد دعيت إلى ضيافة فجاء حريصاً على الضيافات، محباً في الدعوات. وأشار بذلك على زنى أمه، وكونه لغير رشدة. ويروى (فجاءت بنز من نزالة أرشما) والنز: الخفيف. والنزالة: ما ينزل من المنى في الرحم. وهذه الرواية أبلغ في الهجو، لأنه أراد أن يكون من منى رجل أرشم، فغلب عليه شبه أبيه، فجاء أرشم مثله. وفي معنى هذا البيت وإعرابه إشكال شديد، لأنه قال قبل هذا البيت يخاطب جريراً: فإنك قد جاريت سابق حلبة ... نجيب جياد بين فرعين معلما لزاز حضار يسبق الخيل عفوه ... على الدفعة الأولى وفي القعب مرجما ثم قال (لقي حملته أمه) البيت. وقال بعده: مدا من جوعات كأن عروقه ... مسارب حيات تسربن سمسما فألقى عصا طلح ونعلا كأنها ... جناح سماني صدرها قد تجذما

فمن روى (فجاءت بيتين) جعله هجوا، وجعل قوله لقي منادي، أراد يالقي، وكان حكمه أن يكون مرفوع الموضع، لأنه قصد به جريراً، ولكن لما كان ما بعده من صفته، أشبه المضاف إليه لطوله، فنصبه وصار بمنزلة قولك (يا خيراً من زيد) ويدل على أنه في موضع نصب، تنوينه إياه، ومن روى (بنز من نزالة أرشما) ففيه إشكال: قال قوم: هو هجو، وهو الظاهر من أمره. وقال قوم: هو مدح، وهو من صفة نفسه، لا من صفة جرير، واحتجوا بالبيتين اللذين قبله، وجعلوا (لقى) صفة لقوله لزاز حضار، وقالوا معنى قوله في صفة نفسه (لقى) أنه لم ينعم عيشة، ولا كان ممن يميل إلى الرفاهية والدعة. قالوا: وأراد بقوله (وهي ضيفة) أنها كانت ضيفة، فامتنعت عليه، فنكحها كرها، فغلبها على شبه الولد، فجاء مذكرا. قال أبو كبير الهذلي: حملت به في ليلة مزءودة ... كرهاً وعقد نطاقها لم يحلل والأرشم هنا: الذي قد تغير وجهه واسود، لكثرة أسفاره. وقوله (مُدا من جوعات) يريد أن همه ليس في المآكل والمشارب، غنما هو في طلب المعالي، وهذا نحو قوله: لا يتأرى لما في القدر يرقبه ... ولا يعض على شرسوفه الصفر ويجوز أن يريد. أنه يؤثر الضيف على نفسه، فيكون كقول حاتم: لقد كنت أختار القرى طاوي الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم

وشبه عروقه لدقتها وظهورها، بمسارب الحيات، وهي طرفها. وسمسم: موضع. ومعنى تسربن: سلكن. وذكر ابن قتيبة أنه يروى: (تشربن) بالشين معجمة، والسمسم: هاهنا السم. ومعنى (تشربن سمسما) على هذه الرواية: كثر فيهن السم فدقت أجسامهن، لأن الحية إذا كثر سمها، دق خلقها، ولذلك قالوا: رماه الله بأفعى حارية. وقوله (فألقى عصا طلح ونعلا) يريد أنه خفيف المتاع، لا مال له، لأنه لا يتعرض للمكاسب، أو لأنه يجود بما له، ويبذره. ونحوه قول حاتم الطائي. متى ما يجيء يوماً على المال وارثي ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر يجد فرسا مثل العنان وصارما ... حساما إذا ما هز لم ير بالهبر واسمر خطيا كان كعوبه ... نوى القسب قد أرمى ذراعاً على العشر وشبه النعل بجناح سماني، لأنها تؤكل فيبقى جناحاها: وتجذم: تقطع. وهذا كله مدح. يريد قلة مؤونته. * * *

وأنشد في هذا الباب: (101) (أباريق لم يعلق بها وضر الزبد) هذا البيت لأبي الهندي الرياحي، واسمه عبد المؤمن بن عبد القدوس. وصدره: سيغني أبا الهندي عن وطب سالم وبعده - وهو من بديع التشبيه مفدمة قزا كأن رقابها ... رقاب بنات الماء تفزع للرعد وبنات الماء: الغرانيق. شبه أعناق الأباريق بأعناقها وقد فزعت من الرعد، وقوله (لم يعلق بها وضر الزبد): يريد أنها أباريق خمر، لا أباريق لبن. وسالم الذي ذكره: هو مولى قديد بن منيع المنقري. * * * وأنشد في هذا الباب: (102) (هي الخمر تكنى الطلا ... كما الذئب يكنى أبا جعده) هذا البيت لعبيد بن الأبرص، وهو بيت مفرد وليس من قصيدة، قاله للمنذر ابن ماء السماء، وكان له يوم بؤس يركب فيه، فيقتل أول رجل يلقاه، ويوم نعيم

يركب فيه، فيغني أول رجل يلقاه، فلقي عبيداً يوم بؤسه، فترك قتله، ليستمع بإنشاده وحديثه بقية يومه، ثم ينفذ فيه سنته في غيره. فقال له: أنشدني. فقال: (حال الجريض دون القريض). ثم قال له: أنشدني. فقال: 0 هي الخمر تكنى الطلا) البيت. يريد أن اعتاده فيه ضد ما يظهره من التحفي به، والتأنيس له، كما يكنى الذئب أبا جعدة، وجعدة: الشاة، وليس أباً لها، غنما هو عدو لها وكذلك الخمر، يكنى عنها بالطلا وليست طلاء، فصار مثلاً لمن يظهر له البر والإكرام. والمراد به ضد ذلك. وقد قيل: معنى قوله (كما الذئب يكنى أبا جعده) أن الذئب يكنى، وليس ذلك لكرامته، وهو نحو قول العامة ليس من كرامة الديك تغسل رجلاه. وهذا البيت رواه أبو عبيدة هكذا، وهو فاسد الوزن ينقص من شطره الأول جزء، وذكروا أن الخليل بن أحمد أصلحه، فقال: هي الخمر يكنونها بالطلاء ... كما الذئب يكنى أبا جعده وهو بيت من المتقارب، عروضه محذوفة. ومن أطلق ضربه كان محذوفاً مثل عروضه، ومن رواه (مقيداً) كان ضربه أبتر. ويروى برفع الذئب وخفضه، فمن رفعه فعلى الابتدا، وتكون (ما) هاهنا هي التي تدخل على العامل فتكفه عن عمله، كالتي في قولك إنما زيد قائم. ومن خفضه جعل ما زائدة مؤكدة، كالتي في قوله تعالى (فبما نقضهم)، وعلى هذين الوجهين أنشد الأخفش: وجدنا الحمر من شر المطايا ... كما الحبطات شربني تميم * * *

وأنشد في هذا الباب: (103) (عقار كماء النيء ليست بخمطة ... ولا خلة يكوى الشروب شهابها) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. واسمه خويلد بن خالد بن محرث. وفي العقار ثلاثة أقوال: قيل سميت عقاراً لمعاقرتها الدن، أي ملازمتها إياه، وهو قول الأصمعي. وقيل بل أخذت من عقر العوض وهو مقام الإبل الشاربة، أرادوا أن الشاربين يجتمعون حولها كاجتماع الإبل حول عقر الحوض. وقيل: سميت عقاراً لأنها تعقر شاربها من قولهم كلأ عقار إذا كان يعقر الماشية. وهو قول أبي عبيدة. والنيء، بكسر النون والهمز: الذي لم يطبخ، شبه الخمر بمائه في حمرتها. فإذا فتحت النون، وشددت الياء، ولم تهمز، فهو الشحم، وليس هذا موضعه، والخمطه: قد فسرها ابن قتيبة، والخلة التي طعمها كطعم الخل. ويروى الشروب (بفتح الشين) وهو الكثير الشراب، ورواه ابن دريد (بضم الشين) وهو جمع شارب. وأراد بشهابها: حدتها وحرها. وأصل الشهاب: النار، فشبه به نارية الخمر والتهابها في جوف شاربها. ويروى يشوى الوجوه، وقبل هذا البيت: ولا الراح راح الشام جاءت سبية ... لها غاية تهدى الكرام عقابها

والغاية: علم كان ينصبه الخمار عند بيته، ليعلم أن عنده خمرا، وشبهها بالعقاب، لخفقانها واضطرابها، وتسمى الراية نفسها عقاباً. وأصل ذلك ما ذكرته. * * * وأنشد في هذا الباب: (104) (فإن تسق من أعتاب وج فإننا ... لنا العين تجرى من كسيس ومن خمر) هذا البيت لا أعلم قائله. ووج: اسم الطائف، فمن صرفه أراد الموضع أو البلد، ومن لم يصرفه ذهب إلى البقعة أو الأرض. ويجوز أن يصرف وإن كان مؤنثاً لسكون وسطه وخفته، كما تصرف هند. والكسيس والسكر: شراب يتخذ من التمر. وفي هذا البيت حجة لمن قال: لا يقال إلا لما كان من العنب، والصحيح أن الخمر واقع على كل ما خامر العقل من الأشربة. * * * وأنشد في باب فروق في الأرواث: (105) (لقد ونم الذباب عليه حتى ... كأن ونيمه نقط المداد)

البيت للفرزدق فيما ذكر أبو العباس المبرد. ورواه أبو العباس بالواو، (وقد) أنشده قبله: تجمشني عيونكم بظفر ... ويغريني بأنياب حداد والتجميش: المغازلة والمداعبة. وأراد بالظفر هنا: الظفرة، وهي جلدة تغشى العين، يقال فرت عينه تظفر ظفراً. ولم أسمع بالظفر إلا في هذا البيت، فيجوز أن تكون لغة في الظفرة، ويجوز أن تكون جمع ظفرة، كما قالوا أكمة وأكم وبدنة وبدن. ويجوز أن تكون هذه الأسماء كلها جمع الجمع، كأنهم جمعوها أولاً على أكم وبدن وظفرن ثم جمعوا الجمع، فقالوا: ظفر وبدن وأكم، كما قالوا أسد وأسد. وذكر بعض العلماء أن المبرد صحف هذا البيت، وأن صوابه: يخمشني عميرتكم بظفر ... ويفريني بأنياب حداد ومعنى يخمشني: يخدشني. وعميرة: اسم رجل. ويفريني: يقطعني. ووقع في كتاب الفرق لأبي عبيدة على ما رواه أبو العباس المبرد، ورواه أبو إسحاق الزجاج عن المبرد (تخمشني عشيرتكم بظفر) بالخاء معجمة. وروى في آخر البيت: (وثغر بين أنياب حداد) ولم أجده في شعر الفرزدق، فأقف منه على حقيقة. * * * وأنشد في باب معرفة الوحش: (106) (وكان انطلاق الشاة من حيث خيما)

البيت لأعشى بكره وصدره: فلما أضاء الصبح قام مبادراً ورواه أبوعلي عن ابن دريد في شعر الأعشى: (وحان انطلاق) وهو أجود يصف ثوراً وحشياً. وبعده: فصبحه عند الشروق غدية ... لاب الفتى البكري عوف بن أرقما * * * وأنشد في باب فروق في أسماء الجماعات: (107) (أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم من ولا سرف) هذا البيت لجرير، في شعر يمدح به عبد الملك بن مروان. وقيل بل الممدوح به يزيد بن عبد الملك بن مروانن وهو الصحيح، لقوله في هذا الشعر: يا ابن العواتك خير العالمين أبا ... قد كان يدفئني من ريشكم كنف ويدل على ذلك أيضاً قوله في هذا الشعر: الجود والحزم والإيمان قد نزلوا ... على يزيد أمين الله فاختلفوا وعاتكة هي أم يزيد بن عبد الملك. وإنما قال جرير هذا، لأنه قد كان قدم على عبد الملك بن مروان مع محمد ابن يوسف أخي الحجاج، في خبر فيه طول، فأنشده شعراً قال فيه:

تشكت أم حزرة ثم قالت ... رايت الموردين ذوى لقاح تعلل وهي ساغبة بنيها ... بأنفاس من الشيم القراح فقال عبد الملك: أترى أم حزره ترويها مئة من الإبل؟ فقال جرير: إن كانت من نعم كلب ولم تروها، فلا أرواها الله. وكان جرير رأى عند دخوله عليه صدقه كلب قد وردت، فلذلك ذكرها، فأمر له بمئة منها، فقال جرير: يا أمير المؤمنين أنا شيخ، وليس في فضل عن راحلتي. فقال عبد الملك أتحب أن نأمر لك بثمنها، قال: فقلت: لا، ولكن الرعاء. فقال عبد الملك لجلسائه: كم يكفي مائة ناقة من الرعاء؟ فقالوا: ثمانية. فأمر له بثمانية عبيد: أربعة من النوبة، وأربعة من الصقالبة، فلذلك قال جرير: (أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية) ويقال لمئة من الإبل هنيدة ولمئتين: هند. ولثلثمائة: أمامة، كذلكقال صاعد اللغوي، وأنشد لعارق الطائي: أيوعدني والرمل بيني وبينه ... تأمل رويداً ما أمامة من هند

ولم أر هذا الذي قاله لأحد من اللغويين. وذكر أبو عمر المطرز أن أمامة وهنداً في البيت جبلان. وقوله (ما في عطائهم من ولا سرف) فيه ثلاثة أقوال: قال قوم: السرف ههنا: الخطأ. ومعناه: أنهم لا يخطئون فيضعون النعمة في غير موضعها، كقول الآخر: إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع وهذا هو الذي حكاه ابن قتيبة. وقال قوم: السرف ههنا الإغفال. ومعناه: لا يغفلون أمر من قصدهم وعول عليهم، وهو قول يعقوب. وحكى أن أعرابياً قال: مررت بكم فسرفتكم: أي أغفلتكم. وأنشد لطرفة: إن امرأ سرف الفؤاد يرى ... عسلاً بماء سحابة شتمي وقال أبو حاتم: السرف: الإكثار. ومعناه أنهم لا يستكثرون ما يهبون، وإن كان كثيراًن لجلالة أقدارهم. * * * وأنشد في باب معرفة في الآلات: (108) (قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا) هذا البيت للحطيئة، يمدح به بني قريع بن عوف بن كعب، رهط بغيض بن عامر بن شماس بن لؤي بن جعفر، وكان جعفر يقال له أنف الناقة، وكانرهطه يغضبون من ذلك، حتى قال الحطيئة في هذا الشعر:

قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يساوي بانف الناقة الذنبا فصاروا يفخرون بذلك. وقد فسر ابن قتيبة العناح والكرب. وأراد الحطيئة أنهم إذا عقدوا عقداً أحكموه وأوثقوه، كإحكام عقد الدلو إذا شُد عليها العناج والكرب، وليس هناك عناج ولا كرب في الحقيقة، وإنما هو مثل. * * * وأنشد في باب أسماء الصناع. (109) (وشعبتا ميس براها إسكاف) هذا الرجز للشماخ بن ضرار، قاله في بعض أسفاره وقد نزل يجدو بأصحابه في حكاية فيها طول، وقبله: لم يتق إلا منطق وأطراف ... وريطتان وقميص هفهاف يريد أن طول السفر أنحل أجسامهم، وأبلى ثيابهم وأمتعتهم" فلم يبق منها إلا هذا الذي وصفه. والمنطق والنطاق سواء ويعني بالطراف: ما بقي من الأمتعة والآلات التي ذهب معظمها بمكابدة السفر. ورواه بعضهم (منطق) بفتح الميم، وكسر الطاء وقال: يريد بالمنطق كلامه أو لسانه، وبالأطراف أصابعه. والريطة كل ملاءة لم تكن لفقين. والهفهاف: الخلق الرقيق والميس: شجر تتخذ منه الرحال، ثم يسمى الرحل نفسه ميساً ويريد بالشبعتين آخرة الرحل وقادمته. * * *

وأنشد في هذا الباب: (110) (طي القسامي برود العصاب) هذا الرجز لرؤبة بن العجاج، وقبله: طاوين مجهول الخروق الأجداب شبه طيهم للفلوات بالمشي فيها، بطي القسامي للبرود. والخروق: جمع خرق، وهو القفر الذي ينخرق، وقيل هو الذي تنخرق فيه الرياح. والأجداب: المجدبة، جمع جدب والتقدير: طيا مثل طي القسامي، فحذف الموصوف، وأقام صفته مقامهن وحذف المضاف، وأناب المضاف إليه منابه. وقد تقدم قولنا فيه: * * * وأنشد في باب معرفة في الطير: (111) (وما من تهتفين به لنصر ... بأقرب جابة لك من هديل) البيت للكميت الأسدي" يخاطب به قضاعة ويؤيسها من نصرة من يطمع في نصره، ويعلمها أن الذين يهتفون بهم لينصروهم، ولا يجيبونهم حتى يجيب الهديل الحمام. وإنما قال هذا، لأن قضاعة تركت نسبها في معد بن عدنان، وتيمنت، فادعت أنها من ولد مالك بن حمير، حتى قال في ذلك بعض شعرائهم: قضاعة بن مالك بن حمير ... النسب المعروف غير المنكر

قال أبو رياش: فأنشد بعض العلماء بالنسب هذا الشعر، فقال بل والله النسب المنكر غير المعروف فوبخهم الكميت بتركهم أصلهم، واعتزائهم على غير أبيهم. وقيل هذا البيت: فإنك والتحول عن معد ... كحالية تزين بالعطول تغايظ بالتعطل جارتيها ... وبالأحماء تبدأ والحليل فمهلا يا قضاعة لا تكوني ... كقدح خربين يدي محيل * * * وأنشد في هذا الباب: (112) (كأن الهديل الظالع الرجل وسطها ... من البغي شريب بغزة منزف) هذا البيت لجران العود، وقد ذكرنا لم سمي بذلك فيما مضى، وقبله: شبه الهديل في تغنيه وتمايله من المرح بشريب قد سكر فهو يتغنى. والمنزف: السكران. يروى بفتح الزاي وكسرها، لأنه قال: أنزف الرجل إذا سكر، ونزفه السكر وأنزفه قال الشاعر:

لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى أنتم آل أبجرا وقال العجاج: وصرح ابن معمر لمن ذمر ... وأنزف العبرة من لاقى العبر وغزة: بلدة بالشام. وروى أبو حاتم في كتاب الطير: (يغرد) من التغريد، فظننت أن أحد اللفظين مصحف من الآخر، حتى وجدت في شعر جران العود الروايتين جميعاً. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (113) (أرى ناقتي عند المحصب شاقها ... رواح اليماني والهديل المرجع) البيت: لذي الرمة. والمحصب: موضع رمي الجمار بمكة. يقول: لما رأت ناقتي أهل اليمن يروحون على بلادهم عند انقضاء الحج، والإبل ترجع هديلها، حنت إلى وطنها، وذكر ناقته وإنما يريد نفسه، ولم يرد باليماني رجلاً واحداً من أهل اليمن، إنما أراد جميع من كان بمكة من أهل اليمن. والهديل يكون للإبل، ويكون للحمام أيضاً، وبعد هذا البيت: فقلت لها قرى فإن ركابنا ... وركبانها من حيث تهوين نزع وهن لدى الأكوار يكسعن بالبرى ... على عجل منها ومنهن يكسع * * *

وأنشد في هذا الباب: (114) (كأبي براقش كل لو ... ن لونه يتخيل) هذا الشعر ذكره الأصمعي عن أبي عمرو بن العلا أنه لبعض بني أسد، وقبله: إن ينجلوا أو يجبنوا ... أو يغدروا لا يحفلوا يغدوا عليك مرجليـ ... ـن كأنهم لم يفعلوا هجا قوماً، فوصفهم بأنهم لا يلبثون على حال واحدة، فشبههم بهذا الطائر الذي يتلون بألوان شتى، ولذلك كنى بأبي براقش، لأنه يقال: تبرقش الروض: إذا ظهرت فيه أنواع الأزهار وتبرقش الرجل إذا تزين. وقال ابن الأعرابي، البرقشة: التفرق، وتركت البلاد براقش: أي ممتلئة زهراً مختلفاً من كل لون. وفي هذا الشعر من مشكل الإعراب، أن قوله (يغدوا عليك) بدل من قوله لا يحفلوا، لأن غدوهم مرجلين يدل على أنهم لم يحفلوا بما صنعوا ولا حجلوا منه، وليس ببدل من الفعل وحده، ولو كان كذلك لكان قد نفى عنهم الغدو مرجلين، كما نفى عنهم الحفل، ولكنه بدل من مجموع الفعل، ولا محمول على المعنى، لأنه إذا قال (يحفلوا) فقد ناب مناب قوله (تهاونوا بذلك) وقوله (كأنهم لم يفعلوا) في موضع نصب على الصفة لمرجلين، أو على الحال، كأنه قال مشبهين من لم يفعل. والكاف في (كأن) كاف التشبيه الجارة، دخلت على أن، وكان حكمها

أن تكون داخلة على الخبر، فإذا قلت كأن زيداً عمرو، فأصله إن زيداً كعمرو، فأرادوا العناية بحرف التشبيه، فقدموه إلى صدر الجملة، فانفتحت همزة أن لدخول الكاف عليها، كما تنفتح مع سائر العوامل الداخلة عليها، ولا موضع للكاف من الإعراب، ولا تعلق بظاهر ولا مضمر، لمفاقرتها موضعها الذي كان أخص بها، ولأنها قد ركبت مع أن وصارت كالجزء منها. والكاف من قوله (كأبي براقش) يجوز أن تكون في موضع رفع على خبر مبتدأ مضمر، كأنه قال: هم كأبي براقش: ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال، كأنه قال مشبهين أبا براقش. وقوله (كل لون): منصوب على المصدر، وفيه مجاز من ثلاثة أوجه: أحدها: أن (كل) ليس من المصادر على الحقيقة، وإنما يصير مصدراً إذا أضيف إلى مصدر، كقولك: ضربته كل ضرب. والثاني: أنه وضع اللون وهو اسم، موضع التلون، الذي هو مصدر، والثالث: أنه أجرى (يتخيل) مجرى يتلون، لأنه إذا تخيل فقد تلون، فأنه يتلون لونه كل تلون. ويجوز أيضاً أن يكون وضع اللون موضع التلون، والتلون موضع التخيل، فكأنه قال: لونه يتخيل كل تخيل. ونظير هذا في حملك المصدر على الفعل مرة، وحملك الفعل على المصدر مرة، قولهم تبسمت وميض البرق، فلك أن تقدره ومضيت وميض البرق، ولك أن تقدره تبسمت تبسم البرق. ومثله: قعد زيد جلوساً، فلك أن تجعل (قعد) في تأويل (جلس)، ولك أن تجعل الجلوس في تأويل القعود. ويروى: (كل لون لونه يتحول) وفيه من الصنعة مثل ماء في يتخيل. * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (115) (وليس بهياب إذا شد رحله ... يقول عداني اليوم واق وحاتم) هذا البيت لخيثم بن عدي ورواه أبو عبيد: (وليس بهياب) وزاد بعده: ولكنه يمضي على ذاك مقدماً ... إذا صد عن تلك الهنات الخثارم والخثارم: الذي يتطير. ويروى الخثارم بفتح الخاء، وهو جمع خثارم، وهذا من الجمع الذي ليس بينه وبين واحده إلا ضم أوله وفتحه، كقولك جوالق وجوالق وقراقر وقراقر وعُذافر وعَذافر. وأراد بواق: الصرد، وبحاتم: الغراب. وقد فسر ذلك ابن قتيبة. والهياب: الكثير الهيب والخوف. والرحل للناقة السرج للفرس. ومعنى عداني: صرفني. مدح نفسه بأنه لا يرجع عن سفره خوفاً من طائر يتطير به. ونحوه قول الآخر: ولقد غدوت وكيف لا ... أغد على واق وحاتم فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (116) (وردت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الراس ابن ماء محلق)

البيت لذي الرمة، ووقع في نسخ أدب الكتاب (قطعت) وفي شعر ذي الرمة (وردت) وهو الصواب، لأن قبله: وماء قديم العهد بالناس آجن ... كأن الدبا ماء الغضى فيه يبصق وصف ماء قد علاه الطحلب، لعدم الاستسقاء منه، فاخضر، فكأن الدبا وهي الجراد بصقت فيه ماء الغضى. قال الأصمعي: وماء الغضى أخضر إلى السواد. والاعتساف: ركوب الفلاة بلا دليل، وقمة الراس أعلاه ومحلق: مستدير وإنما غلط ابن قتيبة في هذا البيت (فوضع قطعت موضع وردت) لأن قبله بأبيات في صفة الناقة: قطعت عليها غول كل تنوفة ... وقضيت حاجاتي تخب وتعنق * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (117) (إذا غرد المكاء في غير روضة ... فويل لأهل الشاء والحمرات) لا أعلم قائل هذا البيت. ومعناه: أن المكاء إنما يألف الرياض، فإذا غرد في غير روضة، فإنما يكون ذلك لإفراط الجدب وعدم النبات، وتلك حالة تهلك الشاء والحمير، فالويل لمن لم يكن له مال غيرها. وحمرات: جمع حمر، وحمر، جمع حمار، بمنزلة كتاب وكتب، ويجوز أن يكون جمع الحمير على حمر

فيكون بمنزلة قضيب وقضب. وقولهم: حمير ليس بجمع، ولكنه اسم للجمع، بمنزلة العبيد والكليب. * * * وأنشد في باب معرفة في الهوام والذباب وصغار الطير. (118) (والله لو كنت لهذا خالصا ... لكنت عبداً آكل الأبارصا) هذا البيت لا أعلم قائله، ولا ما يتصل به. والظاهر من معناه: أن قائله سيم خطة لم يرضها ورأى قدره يجل عنها، فقال لو كنت ممن يرضى بما سمتموني إياه، وأهلتموني له، لكنت كالعبد الذي يأكل الوزغ. ويروى آكل الأبارصا، أراد أكلاً الأبارص، فحذف التنوين لالتقاء السانين، ومثله ما أنشده سيبويه لأبي الأسود الدؤلي: فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا وقال أبو العباس المبرد سمعت عمارة بن عقيل يقرأ ولا الليل سابق النهار بالنصب، فقلت ما تريد فقال أريد؟ سابق النهار. فقلت له: فهلا قلته فقال؟ لو قلته لكان أوزن. * * *

وأنشد في هذا الباب: (119) (كأنها من سمن واستيقار ... دبث عليها عارمات الأنبار) الرجز لشبيب بن البرصاء - فيما ذكر أبو حاتم السجستاني. ويروى استيفار بالفاء" وهو استفعال من الشيء الوافر. ويروى استيقار بالقاف، يريد أنها أوقرت بالشحوم. والرواية هي الأولى. يقول: كأن هذه الإبل من سمنها ووفورها دبت عليها الأنبار العارمة فلسعتها فانتفخت. ويروى ذربات الأنبار، وفيه قولان: أحدهما أنها الحديدة اللسع من قولهم سكين ذرب ومذرب أي حاد. والثاني: أنها المسمومة. يقال: ذربت السهم إذا سقيته السم. ويقال للسم الذواب. وبعد هذين البيتين: يتبعها أسود جسم العوار ... حمش الشوى ليس من أهل الأمصار ذو زندة في قلعة وزمار يعني بالأسود: الراعي، والجم: الكثير، والعوار: القذى يكون في العين ويكون أيضاً الوجع الذي يكاد يعور العين. والحمش: الدقيق، والشوى: القوائم وقوله: ليس من أهل الأمصار: يريد أنه ستغرب في الغلوات وراء الإبل لا يألف المحاضر. والزندة: ما يقدح به النار. والقلع: الكنف الذي يحبس فيه الراعي ما يحتاج إليه ويعلقه من وسطه. وأراد بالزمار اليراع الذي يزمر فيه الرعاء. * * *

وأنشد في هذا الباب: (120) (وهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعداً) والبيت: للحارث بن حلزة اليشكري، وقبله: (ولقد رأيت معاشراً ... قد جمعوا مالاً وولدا) يقول: رأيت معاشر من الناس قد رزقهم الله المال والأولاد، وهم مثل الزباب الحائر الذي لا يسمع الرعد لصممه. يريد أن الأرزاق لم تقسم على قدر العقول. والولد يكون واحداً وجمعاً. وقوله (لا تسمع الآذان رعداً) يجوز أن يكون من صفة الزباب، ويجوز أن يكون من صفة المعاشر، وتقديره، على مذهب البصريين: لا تسمع الآذان منها أو منهم، فحذف الضمير اختصاراً لما فهم المعنى. وتقديره على مذهب الكوفيين: لا تسمع آذانها او آذانهم، فنابته الألف واللام مناب الضمير. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (121) (سبحل له نزكان كانا فضيلة ... على كل حاف في البلاد وناعل)

هذا البيت لحمران ذي الغصة، وكان خالد بن عبد الله القسرى ولاه بعض البوادي، فلما جاء المهرجان أهدى كل عامل إليه ما جرت عادة العمال بإهدائه؛ وأهدى إليه حُمران قفصاً مملوءاً ضباباً، وكتب إليه: جبى المال عمال الخراج وجبوتي ... محذفة الأذناب صفر الشواكل رعين الدبا والنقد حتى كأنما ... كساهن سلطان ثياب المراجل ترى كل ذيال إذا اشمس عارضت ... سما بين عرسيه سمو المخايل سيحل له نزكان كانا فضيلة ... على كل حاف في البلاد وناعل وذكر أبو عمر والشيباني في تاب الحروف أن ابن هبيرة استعمل رجلاً من أهله على ناحية البادية فأهدى إليه في المهرجان ضببن، وكتب إليه بهذا الشعر. والجبوة ما يجيبه العامل يقال جبوت الخراج وجيته. والشواكل: الخواصر، والدبا: الجراد. والنقد: ضرب من النبت، والمراجل: ثياب موشاة ويقال ثوب ممرجل، قال العجاج: وكل براق الشوى مسرول ... بشية كشية الممرجل

وقال وضاح اليمن: وأبصرت سعدي بين ثوبي مراجل ... وأثواب عصب من مهلهلة اليمن * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (122) (وأنت لو ذقت الكشى بالأكباد ... لما تركت الضب يعدو بالواد) هذا الرجز لا أعلم لمن هو وقائله أعرابي أكل الضباب، وعيب بذلك، فقال للذي عابه وعيره: إنما تنكر أكلها وتعيبها، لأنك لم تذق كشاها وأكبادها لو ذقتها لم تترك منها واحداً إلا وصدته. وهذا الرجز يدل على أن جميع العرب لم يكونوا يأكلون الضب كما زعمت الشعوبية ومثله قول الآخر: فلو كان سيفي باليمين تباشرت ... ضباب الفلا من جمعهم بقتيل يقول ذل في قوم كانوا يأكلون الضباب فقال: لو كان سيفي بيميني لقتلت منهم قتيلا فاستبشرت الضباب بقتله، لاستزاحتها من صيده إياها. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (123) (ومكن الضباب طعام العريب ... ولا تشتهيه نفوس العجم)

هذا البيت لأبي الهندي وقد أنشد ابن قتيبة هذا الشعر بكماله في عيون الأخبار وهو: ألكت الضباب فما عفتها ... وإني لشهى قديد الغنم ولحم الخروف حنيذاً وقد ... أتيت به فائزاً في الشيم فأما البهط وحيتانكم ... فما زلت منها كثير السقم وكم نلت منها كما نلتم ... فلم أر فيها كضب هرم وما في البيوض كبيض الدجا ... ج وبيض الجراد شفاء القرم ومكن الضباب طعام العريب ... ولا تشتهيه نفوس العجم الحنيذ: اللحم المشوي. والشبم، بكسر الباء: البارد. والبهط: الرز باللبن والقرم: الشهوة إلى اللحم فإذا كسرت الراء، فهو المشتهي للحم. * * * وأنشد في هذا الباب باب الحية والعقرب. (124) (أيغايشون وقد رأوا حفائهم ... قد عضه فقضى عليه الأشجع)

البيت: لجرير يهجو به الفرزدق. والمغايشة: المغالبة والمفاخرة. وقد شبه الفرزدق بالحفاث، وهي الحية التي تنفخ ولا تؤذى، وشبه نفسه بالأشجع وهو الذكر من الحيات. والألف في قوله (أيغايشون) ألف التوبيخ والإنكار. والأشجع: يرتفع على مذهب البصريين بكل واحد من الفعلين اللين قبله، ولا يجوز ارتفاعه في قول الفراء إلا بالأول، لأنه لا يجيز إضمار الفاعل قبل الذكر، كما لا يجيز إضمار المفعول. والبصريون يجيزون إضمار الفاعل قبل الذكر ولا يجيزون إضمار المفعول، وحجتهم أن الفاعل لا يستغني عنه فيضمر في هذا الباب قبل الذكر على شرط التفسير والمفعول يستغني عنه، فلذلك لم يضمر قبل الذكر، والكساء، يجيز ذلك ولا يضمر شيئاً. وقد حكى السيرافي أن الفراء يجيز في قام وقعد زيد أن يرفع زيد بالفعلين معاً. وهذا غلط، لأنه لا يعمل عاملان في اسم واحد، في حال واحدة، فيلزم بحسب هذا الرأي الفاسد أن يرتفع الأشجع بعضه وقضى جميعاً. والضمير في يغايشون: يعود إلى مجاشع، لأنه قال قبل هذا البيت: لا يعجبنك أن ترى لمجاشع ... جلد الرجال ففي القلوب الخولع ويريب في رجع الفراسة فيهم ... وهل الطفاطف والعظام تخرع إنا لنعرق من رجال مجاشع ... هذا الحفيف كما يحف الخروع والخولع: الجبن الشديد الذي يخلع القلب والخروع: نبت لين. والنجار: الأصل. * * *

وأنشد في باب معرفة في جواهر الأرض: (125) (ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلاً يحملن أم حديدا) (أم صرفانا بارداً شديدا) هذا الرجز للزباء، قالته حين جاءها قصير اللخمي بالجمال، وعليها صناديق فيها رجال عمرو بن عدي، وتقدم إليها وقال: قد جئتك بما صأى وصمت، فأشرفت فنظرت إلى الجمال تمشي مشياً ضعيفاً، لثقل ما على ظهورها، فقالت هذا الرجز، وبعده - (أم الرجال جثماً قعودا) وخبرها مشهور. وكان أبو حاتم يقول: هي الزبى مقصورة، ويجعلها تأنيث زبان، مثل سكران وسكرى. وقال غيره: إنما هي الزباء بالمد تأنيث الأزب: والصرفان فيه ثلاثة أقوال: قيل: هو الرصاص. وقيل: هو الموت. لأنه انصراف عن الحياة. وقيل: هو نوع من النمر رزين. ذكر ذلك أبو حنيفة. وروى الكوفيون مشيها بالرفع والنصب والخفض، قالوا: فمن رفع أراد ما للجمال وئيدا مشيها، فقدم الفاعل ضرورة. ومن نصب فعلى المصدر لفعل مضمر، أراد تمشي مشيها، ومن خفض فعلى البدل، من الجمال. والبصريون لا يجيزون تقدم الفاعل قبل الفعل في اضطرار ولا غيره غيره. قال أبو علي الفارسي: من روى مشيها بالرفع، أبدله من الضمير في قوله (للجمال) المرفوع قال: وإن شئت جعته مبتدأ، ووئيدا: منتصب به وفي صلته. والخبر مضمر، والجملة في موضع نصب. قال: ويجوز أن يكون (وئيدا) حالا تسد مسد الخبر،

وهذه حال غريبة في الأحوال السادة مسد الأخبار، لأن النحويين يقدرون الحال السادة مسد الخبر بإذ وإذا، ويضمرون معهما كان التامةن لتكون عاملة في الحال، فإذا قلت: ضربى زيداً قائماً، فتقديره عندهم: إذا كان قائماً، وإذ كان قائماً، لأن الحال إنما جاز أن تسد في هذا الموضع مسد الخبر، لأنها نابت مناب ظرف الزمان المحذوف، ولذلك لم يجز أن تسد مسد خبر المبتدأ إلا إذا كان المبتدأ مصدراً، أو في تأويل المصدر، كما أن الزمان لا يكون خبراً إلا عن المصدر، وما سد مسده، ولا يجوز تقدير ذلك في بيت الزباء، ألا ترى أنك إن قلت: ما للجمال مشيها إذ كانت وئيدا وإذا كانت وئيدا، كان ذلك خطأ، لأن الزباء غنما قالت هذا القول في حال تشاهدها، ولم تقل ذلك في شيء ماض ولا مستقبل، فلا يصح دخول كان هاهنا ولا (إذ وإذا)، ومع ذلك فإن (وئيدا) على هذا التقدير لا يجوز أن يكون حالا إذ على بُعد من التأويل، فلأجل هذا الذي قلناه، صار كثير من النحويين ينكر قول أبي على هذا ويرده، لمخالفته المعهود من أمر الأحوال السادة مسد الأخبار. وتلخيص قول أبي علي رحمه الله: أن يكون التقدير: مشيها حين أراها ذات وئيد، يضمر الخبر، لأنه يقع على كل وقت ماض وحاضر ومستقبل، ويجعل (أراها) المضمر فعل حال، ويحذف (ذات) ويقيم (الوئيد) مقامها. * * * وأنشد ابن قتيبة في باب نوادر: (126) (من بين جمع غير جماع)

البيت: لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري، وصدره: حتى تجلت ولنا غاية وقبله: نذودهم عنا بمستنة ... ذات عرانين ودفاع كأنهم أسد لدى أشبل ... ينهتن في غيل وأجراع فنذودهم: ندفعهم. ويعني بالمستنة: كتيبة لها استنان إلى القتال، وهو المدح والنشاط والتسرع. ويعني بالعرانين الرؤساء المتقدمين في الفضل والشجاعة. وأصل العرانين: الأنوف. والعرب تشبه السادة والأشراف بالرءوس والأنوف والأعناق، ونحوها من مقاديم الحيوان، وتشبه السقاط والسفلة بالأقدام والحوافر والزمعات، ونحوها من أسافل الحيوان. وأصل الدفاع: السيل الذي يندفع فلا يقدر على رده، فضربه مثلاً للتقدم إلى الحرب. والأشبل أولاد الأسد، واحدها: شبل. وإذا كانت السد عند أغيالها وأولادها كانت أشد بأساً وأحمى أنوفاً والغيل: الأجمة. والأجراع: معاطف الأودية. وينهتن: يصوتن، يقال نهت الأسد وزأر. وتجلت: تكشفت. والغاية: الراية: والجمع: المجتمعون. والجماع: المتفرقون. يقول: انجلت الحرب وجمعنا لم يفترق، فيعود جُماعاً. * * * وأنشد في هذا الباب: (127) (أماتهن وطرقهن فحيلا)

البيت: للراعي. وصدره: كانت نجائب منذر ومحرق النجائب: الإبل العتيقة المنجبة: وأراد بمنذر: المنذر ابن ماء السماء، ومحرق: عمرو بن هند، وكان يسمى محرقاً لأنه حرق مائة رجل من تميم. وقيل سمى محرقاً لأنه حرق نخل ملهم. وقيل سمى محرقاً لشدة ملكه وعتوه، كما سمي مضرم الحجارة، يقال للذي يكثر الشر والفساد: أضرم فلان الأرض ناراً. وهذا المعنى أراد الربيع ابن زيادة في قوله: وحرق قيس على البلا ... د حتى إذا اضطرمت أجذما وقد ألم أبو الطيب المتنبي بهذا المعنى في قوله: وما كان إلا النار في كل موضع ... يثير غبارا في مكان دخان وأمات: جمع أم، وكذلك أمهات. والمشهور في الاستعمال وقوع أمهات لمن يعقل، وأمات لما لا يعقل، وقد استعمل كل واحد منهما مكان الآخر، قال ذو الرمة يصف ماء: سوى ما أصاب الذئب منه وسربة ... أطافت به من أمهات الجوازل وقال جرير: لقد ولد الأخيطل أم سوء ... مقلدة من الأمات عارا

والطرق: الضراب. يقال: طرق الفحل الناقة يطرقها طرقا: إذا علاها. وقال أبو عمرو الشيباني: الطرق: الفحل بعينه، كأنه سمى بالمصدر، لكثرته منه، كما يقال للرجل إذا كان يكثر الأكل والشرب ما أنت إلا أكل وشرب وأما إعرابه فأماتهن: اسم كان، ونجائب: خبرها. وطرقهن معطوف على أماتهن. وفحيلا: معطوف على نجائب، كأنه قال: كانت أماتهن نجائب منذر ومحرق، وكان طرقهن فحيلا: كما تقول كان زيد قائماً، وعمرو قاعداًن فترد الاسم على الاسم، والخبر على الخبر، ومن جعل الطرق في هذا البيت الضراب، فالتقدير: وذو طرقهن. ثم حذف المضاف. ومن جعله الفحل بعينه، فلا حذف فيه، وبعد هذا البيت: قودا تذارع غول كل تنوفة ... ذرع النواشج مبرما وسحيلا * * * وانشد في هذا الباب: (128) (ألح على أكتابهم قتب عقر) هذا البيت للبعيث المجاشعي. وصدره: (ألد إذا لقيت قوماً بخطة) الألد: الشديد الخصومة. والقتب العقر الذي يعقر ظهر الدابة، أي يجرحه. مدح نفسه بأنه حاذق بالخصام، عارف بوجوه الحجاج والكلام، فإذا علق بخصم لم ينفصل عنه حتى يؤثر فيه ما يؤثر القتب العقر في ظهر الدابة.

وأنشد في باب تسمية المتضادين باسم واحد. (129) (يبادر الجونة أن تغيبا) هذا الشعر للخطيم الضبابي، وليس على ما أنشده ابن قتيبة. وصوابه: يبادر الآثار أن تئوبا ... وحاجب الجونة أن يغيبا الجونة: الشمس وتئوب ترجع. وكان أبو العباس ثعلب يروى (الآثار) جمع آثر، وكان الغالبي يروى (الأثآر) في وزن الأشعار، يجعلها جمع ثار، وكان أبو العباس ثعلب يروى الآثار جمع أثر. فأما رواية الغالبي فيجوز فيها وجهان أحدهما أن تكون (الآثار) جمع الثأر، الذي هو مصدر ثأرت به أثأر: إذا أدركت ثأره، فيكون على هذا قد نسب الإياب إلى الآثار. والمراد أصحابهما، كما قال تعالى: (ناصية كاذبة خاطئة)، وغنما الخطأ والكذب لصاحب الناصبة. والوجه الثاني: أن يكون الآثار جمع الثأر الذي يراد به المثئور منهن يقال: فلان ثأرى كما قال الفرزدق: وقفت بها أذرى الدموع كأنني ... بها سلم في كف صاحبه ثأر يريد رجلاً أسلم إلى طالبه بالقصاص ليقتله. ومعنى البيت في كلا الوجهين: أن هذا الفرس لسرعته يبادر المغيرين على الحي، فيدرك ثأره منهم قبل أن يثوبوا إلى أوطانهم.

وأما رواية أبي العباس ثعلب، ففيها أيضاً وجهان: أحدهما: أنه يريد أن يقتفي آثار المغيرين، فيدركهم قبل أن يثوبوا إلى بلادهم. والثاني: أنه يريد بالآثار الفنكات والوقعات، من قولهم: أثر فلان في القوم: إذا أوقع بهم، فيكون نحو الآثار في رواية الغالبي، وذكر الآثار في هذين الوجهين، وهو يريد أصحابهما، كما قلنا في رواية الغالبي. وقال بعض أصحاب المعاني: يريد أنه إذا اتبع أثر طريدة بادرها ومنعها من أن تؤوب إلى ملجئها الذي خرجت منه فيكون مثل قول ابن مقبل يصف الفرس: وصاحبي وهوه مستوهل وهل ... يحول بين حمار الوحش والعصر وقوله: (وصاحب الجونة أن يغيبا) يريد أنه لو سابق الشمس إلى المغرب لسبقها إليه. وقد أخذ أبو الطيب المتنبي هذا المعنى، وأوضحه بقوله: ولو سابق الشمس من المشارق ... جاء إلى الغرب مجيء السابق وأول من نبه على هذا المعنى النابغة الذبياني بقوله: سماماً تبارى الشمس خوصاً عيونها ... لهن رذايا بالطريق ودائع وأنشد أبو عبيدة من هذا الرجز، في كتاب الديباجة، ما أنا منشده في هذا الموضع، وهو:

لا تسقه حزراً ولا حليبا ... إن لم تجده سابحاً يعبوبا ذاميعة يلتهم الجبوبا ... يترك صوان الصورى ركوبا بزلقات قعبت تقعيباً ... يبرك في آثارها لهوبا يبادر الآثار أن تثوبا ... وحاجب الجونة أن يغيبا كالذئب يتلو طمعاً قريباً * * * وأنشد في هذا الباب: (130) (أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذوداً شصائصا نبلا) البيت: لحضرمي بن عامر، وكان له تسعة إخوة، فماتوا فورثهم، وكان له ابن عم ينافسه، يقال له جزء، فزعم أن حضرمياً سر بموت إخوته، وما صار إليه من ميراثهم، فقال حضرمي هذا الشعر. وقبل هذا البيت:

يزعم جزء ولم يقل جللا ... أنى تروحت ناعماً جذلا إن كنت أزننتني بها كذبا ... جزء فلاقيت مثلها عجلا فجلس جزء على شفير بئر مع إخوته، وكانوا تسعة، فانخسفت البئر بهم، فهلك إخوته، ونجا هو. فقيل ذل لحضرمي فقال: إن لله كلمة وافقت قدراً وأبقت حقداً. وقوله (أفرح) أراد: أأفرح؟ على معنى التقرير والانكار، فترك ذكر الهمزة وهو يريدها حين فهم ما أراد. وهذا قبيح، وإنما يحسن حذفها مع (أم) كقولك: بسبع رمين الجمر أم بثمان ويروى: أغبط. والذود من الإبل: ما دون العشرة، وأكثر ما يستعمل في الإناث والشصائص: التي لا ألبان لها، واحدتها شصوص. يقال شصت الناقة وأشصت. والنبل: الصغار ههنا، والجلل: يكون العظيم، ويكون الحقير، هو من الأضداد، وهو ههنا الحقير. والجذل: الفرح المسرور. ويقال زننته بكذا وأزننته: إذا اتهمته به، ونسبته إليه. * * * وأنشد في هذا الباب: (131) (ينهل منها الأسل الناهل)

هذا البيت يروى لعبيد بن الأبرص، وصدره: والطاعن الطعنة يوم الوغى وقبله: قومي بنو دودان أهل الندى ... يوماً إذا ألقحت الحائل كم فيه من سيد أيد ... ذي نفحات قائل فاعل من قوله قول ومن فعله ... فعل ومن نائله نائل ويروى أيضاً للنابغة الذبياني في شعر يمدح به الحارث الأعرج الغساني وقبله: والله والله لنعم الفتى ال ... أعرج لا النكس ولا الخاذل الحارب الحافز والجابر الـ ... محروب والمرجل والحامل * * * وأنشد في هذا الباب: (132) (فمنها مستبين ومائل) وجدت هذا البيت في شعر زهير بن أبي سلمى من رواية السكرى، في قصيدة أولها: لسلمى بشرقي القنان منازل ... ورسم بصحراء اللبيين حائل تحمل منها أهلها وخلت لها ... سنون فمنها مستبين ومائل * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (133) (وخنذيذ ترى الغرمول منه ... كطي الزق علقه التجار) هذا البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي، قال أبو جعفر بن النحاس: قال ابن الأعرابي، الخنذيذ من الخيل: الضخم الشديد، وشبه غرمولة بزق خلا مما فيه فعُلق. وقال أبو علي الفارسي: أراد تضامه وانثناءه كطي الزق، لأن الطي انثناء وتضام، فيشبه المعنى بالمعنى، ولا يشبه العين بالمعنى. قال أبو علي: ويجوز أن يكون أراد بالطي المطوي، مثل نسج اليمن وضرب الأمير، فيكون المعنى كمطوى الزق، فيشبه العين بالعين على هذا الوجه الثاني. وبعد هذا البيت: كأن حفيف منخره إذا ما ... كتمن الربو كير مستعار يضمر بالإصائل فهو نهد ... أقب مقلص فيه اقورار وقوله (وخنذيذ) بالخفض، لأنه معطوف على قوله قبله: بكل قياد مسنفة عنود ... أضربها المسالح والفوار * * * وأنشد ابن قتيبة في باب إقامة الهجاء: (134) (فلما لبسن الليل أو حين نصبت ... له من خذا آذانها وهو جانح)

البيت: لذي الرمة. وقال ابن قتيبة في تفسيره: خبرت عن الأصمعي أنه قال: أراد أو حين أقبل الليل نصبت آذانها، وكانت مسترخية، والليل مائل عن النهار، فحذف. وهذا التفسير يحتاج إلى تلخيص وإيضاح. وحقيقته أنه حذف الجملة التي أضاف إليها حين أراد أو حين أقبل الليل، ولا يجوز أن يكون حين مضافاً على قول الأصمعي إلى نصبت، لأن (نصبت) عنده جواب لما، وإذا كان جواباً لم تجز إضافة حين إليه ومعنى لباسها الليل. دخولها فيه، والتقدير: فلما لبست الحمير الليل، أو حين أقبل الليل قبل أن تلبسه، نصبت آذانها، وتشوفت للنهوض إلى الماء، لأنها لا تنهض لورد الماء إلا ليلا، والخذا: استرخاء الأذنين، يريد أن آذانها كانت مسترخية من الحر، فلما أقبل الليل وضعف الحر، نصبت آذانها" وهذا كله على مذهب الأصمعي. وذهب غير الأصمعي على أن حين مضاف إلى (نصبت)، وأن جواب لما في البيت الذي بعد هذا، وهو قوله: حداهن شحاج كأن سحيله ... على حافتيهن ارتجاز مفاضح فتقديره على هذا: فلما دخلت الحمير في الليل، أو في الحين الذي تنصب فيه آذانه" وهو حين إقبال الليل، حداها الحمار نحو الماء. والهاء في قوله (له) عائدة على الليل، ولا يجوز أن تكون للتبعيض يريد أن مجيء الليل أذهب بعض حذا آذانها ولم يذهب جملته، وإنما تذهب جملته إذا تمكن الليل وقوى برد الهواءن وزال مابها من العطش بورود الماء. وقبل هذا البيت:

دعاهن من ثاج فأزمعن رده ... أو الأصهبيات العيون السوائح فظلت بأجماد الزجاج سواخطا ... صياما تغنى تحتهن الصفائح قال الأصمعي (ثاج): عين هي من البحرين على ليال. وأراد بالأصهبيات: عين أصهب، وهي وراء كاظمة، والسوائح: الجواري. وأجماد الزجاج: موضع. وصياما: واقفة. والصفائح: حجارة عريضة، وأراد بغنائها: بين أصواتها. أرجلها إذا وطئتها. * * * وأنشد في هذا الباب: (135) (فإن المنية من يخشها ... فسوف تصادفه أينما) البيت للنمر بن تولب. وقبله: وإن أنت لاقيت في نجدة ... فلا تتهيبك أن تقدما قال أصحاب المعاني: أراد فلا تتهيبها أن تقدم عليها، فقلب كما قال ابن مقبل: ولا تهيبني الموماة أركبها ... إذا تجاوبت الأصداء بالسحر أراد: لا أتهيب الموماة. ويجوز عندي أن تكون الكاف في تهيبك حرف خطاب، لا موضع لها من الإعراب كالكاف التي في قولك في (أرأيتك زيداً ما صنع)؟ والنجاءك، فلا يكون مقلوبا، وكأنه قال: ولا تتهيب أن تقدم:

وأنشد في باب دخول ألف الاستفهام على ألف القطع: (136) (أيا ظبية الوعساء بين حلاحل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم) هذا البيت لذي الرمة. والوعساء: رملة لينة، وحلاحل: موضع. بالجيم والحاء. وقوله: (آأنت أم أم سالم): أراد: أنت ظبية أم أم سالم؟ فقوله: أم أم سالم معطوفة على خبر المبتدأ المحذوف. وقبل هذا البيت: أقول لدهناوية عوهج جرت ... لنا بين أعلى عرفة فالصرائم أراد بدهناوية ظبية نسبها إلى الدهناء، وهي فلا معروفه من تميم. والعوهج: الطويلة العنق. وعرفة: اسم موضع. والصرائم: رمال تنقطع من غيرها، واحدتها: صريمة. ويروى أن أخاه مسعوداً اعترضه في هذا البيت فقال: فلو تحسن التشبيه والوصف لم تقل ... لشاة النقا: آأنت أم أم سالم جعلت لها قرنين فوق جبينها ... وظلفين مشقوقين تحت القوائم فقال ذو الرمة: هي الشبه إلا مدربيها وأذنها ... سواء، وإلا مشقة في القوائم وهذه حاكية طريفة، لأن المشبه بالشيء إنما يشبه به في بعض معانيه. فليس يلزم هذا الاعتراض، ولا هذا الجواب. وهبه استثنى ما ذكر، فما الذي يصنع بسائر خلقها. أهـ.

وأنشد في باب حروف توصل بما وبإذ وغير ذلك. (137) (ويلمه رجلاً تابى به غبناً ... إذا تجرد لا خال ولا بخل) البيت للمتنخل الهذلي. واسمه مالك بن عمرو، ويكنى أبا أثيلة. ويقال (المتنخل) بكسر الخاء وفتها، فمن كسرها أراد أنه يتنخل الشعر ويستجيده، ومن فتحها أراد أنه مقدم على الشعراء متخير منهم، وهذا البيت من شعر رثى به ابنته أثيلة، وهي التي يكنى بها، وقبله: تبكي على رجل لم تبل جدته ... خلى عليك فجاجاً بينها سبل والغبن، بفتح الباء، الخديعة في الرأي. والغبن بسكون الباء: الخديعة في الشراء والبيع. وفعل الأول: غبن يغبن، على مثال حذر يحذر، وفعل الثاني غبن يغبن، على مثال: ضرب يضرب. ومعنى التجرد هاهنا التشمير للأمر، والتأهب له. وأصل ذلك: إن الإنسان يتجرد من ثيابه إذا حاول فعل أمر أو الدخول في حرب، فصار مثلاً لكل من جد في الشيء وإن لم يتجرد من ثيابه. ويجوز أن يراد بالتجرد للأمر: الانسلاخ من جميع الأمور سواه. وقوله (لا خال) (ولا بخل) فيه وجهان: أحدهما أن يريد بالخال الاختيال والتكبر، من قولهم رجل فيه خال: إذا كانت فيه خيلاء، قال الشاعر: فإن كنت سيدنا سدتنا ... وإن كنت للخال فاذهب فخل

فيكون تأويله على هذا لا فيه خال ولا بخل، فيكون مبتدأ محذوف الخبر، ويجوز أن يكون التأويل: لا ذو خال ولا ذو بخل. فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. و (خال) في هذا الوجه: خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: لا هو ذو خال. والوجه الثاني: أن يكون من قولهم: رجل خال: إذا كان متكبراً، كأنهم سموه بالخال الذي هو التكبر، لكثرته منه، كما يقال: ثوب نسج اليمن، أي منسوج، وكما يقال للرجل إذا كثر أكله وشربه ما أنت إلا أكل وشرب. ويجوز أن يكون صفة بنيت على مثال بطر وأشر، ويكون أصله خول، فانقلبت الواو ألفاً، لتحركها وانفتاح ما قبلها، فيكون بمنزلة قولهم: (رجل مال، ويوم راح وكبش صاف)، فيرتفع (خال) في البيت على أنه خبر مبتدأ مضمر، كأنه قال: لا هو خال، ولا ذو بخل فيقدر في (بخل) حذف مضاف، لأنه مصدر، ولا تقدره مع خال، لأنه اسم وإن أجريت المصدر مجرى الاسم مبالغة في المعنى، كما ذكرنا، لم تقدر مضافاً محذوفاً في الثاني، كما لم تقدره في الأول. وقد روى: ولا بخل، بكسر الخاء، فهذا اسم فاعل لا مصدر. وأما من أجاز في (خال) الذي يراد به الرجل المتكبر، أن يكون مقلوباً من خايل، فلا يصلح في هذا الموضع، لأنه كان يجب أن يروى: لاخال، يكسر اللام، ولا نعلم أحداً رواه هكذا، وإن كان قد روى فهذا مجازه. وعلى هذا تأول بعضهم بيت امريء القيس: وامنع عرسي أن يزن بها الخالي

ومن ذهب هذا المذهب في بيت امريء القيس، جاز أن يكون (الخالي) مفعولاً لم يسم فاعله، وجاز أن يكون صفة للمرء، كأنه قال: على المرء الخالي عرسه. وأما من أعرب (خالاً) وأجراه مجرى مال ودار، وتأول عليه بيت امريء القيس، فإنه على هذا الاعتقاد صفة للمرء لا غير، وأما قوله (ويلمه): فمدح خرج بلفظ الذم. والعرب تستعمل لفظ الذم في المدح، فتقول أخزاه الله ما أشعره، ولعنه الله ما أجراه، وكذلك يستعملون لفظ المدح في الذم، فيقولون للأحمق: يا عاقل، وللجاهل، يا عالم. ومعنى هذا يا أيها العاقل عند نفسه، أو عند من يظنه عاقلاً، فسموه عاقلاً على ما يعتقده في نفسه. وأما قولهم: أخزاه الله ما أشعره، ونحو ذلك من المدح الذي يخرجونه بلفظ الذم، فلهم في ذلك غرضان: أحدهما أن الإنسان إذا رأى الشيء فأثنى عليه، ونطق باستحسانه فربما أصابه بعين، وأضرّ به، فيعدلون عن مدحه إلى ذمه، لئلا يؤذوه. والثاني: أنهم يريدون أنه قد بلغ غاية الفضل، وحصل في حد من يذم ويسب، لأن الفاضل يكثر حساده والمعادون له، والناقص لا يلتفت إليه، ولذلك كانوا يرفعون أنفسهم عن مهاجاة الخسيس، ومجاوبة السفيه، ولذلك قال الفرزدق: وإن حراما أن أسب مقاعسا ... بآبائك الشم الكرام الخضارم ولكن نصفا لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من مناف وهاشم

وقال أبو الطيب: صغرت عن المديح فقلت أهجى ... كأنك ما صغرت عن الهجاء ويروى: ويلمه، بكسر اللام، وويلمه بضمها، فمن كسر اللام ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون أراد: ويل أمهن بنصب (ويل) وإضافته إلى الأم، ثم حذف الهمزة، لكثرة الاستعمال، وكسر لام (ويل)، إتباعاً لكسرة الميم، كما قالوا: مررت بامريء القيس، فكسروا الراء، لكسرة الهمزة. والثاني: أن يكون أراد (ويل) لأمه، برفع ويل على الابتدا، ولامه خبره، وحذف لام (ويل) وهمزة (أم) كما قالوا: أيش لك، يريدون أي شيء؟ فاللام المسموعة في (ويلمه) على هذا، هي لام الجر. والثالث: ألا يريد الويل، ولكنه أراد (وي) التي ذكرها عنترة في قوله: ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم فيكون على هذا قد حذف همزة (أم) لا غير، وهذا عندي أحسن هذه الأوجه، لأنه أقل للحذف والتقدير. واللام المسموعة في (ويلمه) أيضاً هي لام الجر. وأجاز ابن جني أن تكون اللام المسموعة هي لام (ويل)، على أن يكون حذف همزة (أم) ولام الجر، وكسر لام (ويل) إتباعاً لكسرة الميم. وهذا بعيد جداً. وأما من روى (ويلمه) بضم الميم، فإن ابن جني أجاز فيه وجهين أحدهما: أنه حذف الهمزة واللام، وألقى ضمة الهمزة على لام الجر، كما حكى عنهم: (الحمد لله) بضم لام الجر، وهي قراء إبراهيم بن أبي عبلة: والوجه الثاني: أن

يكون حذف الهمزة ولام الجر، وتكون اللام المسموعة هي لام (ويل) لا لام الجر. * * * وأنشد ابن قتيبة في باب ما نقص منه الياء لاجتماع الساكنين: (138) (ولقد شربت ثمانيا وثمانيا ... وثمان عشرة واثنتين وأربعاً) هذا البيت لأعشى بكر، ولم تقع هذه القصيدة فيما رويناه عن أبي علي البغدادي من شعره وأنشد أبو عمرو الشيباني قبل هذا البيت: إن الأحامرة الثلاثة أهلكت ... مالي وكنت بهن قدماً مولعاً الخمر واللحم السمين وأطلى ... بالزعفران فلن أزال مروعاً قال أبو عمرو: إذا قالوا: الأحمران، أرادوا اللحم والخمر. وإذا قالوا الأحامرة زادوا فيها الزعفران. * * *

وأنشد في هذا الباب: (139) (رباعياً مرتبعاً أو شوقياً) هذا البيت للعجاج. والمرتبع الذي ليس بطويل ولا قصير. والشوقب: الطويل. وأحسبه يصف حماراً وحشياً. * * * وأنشد في باب ما يكتب بالألف والياء من الأسماء: (140) (فلا يرمي بي الرجوان إني ... أقل القوم من يغني مكاني) هذا البيت لعبد الرحمن بن الحكم، من شعر يقوله في أخيه مروان، وقد عتب عليه. وقبله: ألا من مبغل مروان عني ... رسولاً والرسول من البيان فلولا أن أمك مثل أمي ... وأنك من هجاك فقد هجاني وأعلم أن ذاك هوى رجال ... هم أهل العداوة والشتان لقد جاهرت بالبغضاء إني ... إلى أمر الجهارة ذو علان

قوله: (فلا يرمي بي الرجوان): مثل يضرب لمن يتهاون به، ولمن يعرض للمهالك، والرجوان: ناحيتا البئر. وأصل هذا: أن البئر إذا كانت مطوية بالحجارة، احتاج المستقى منها إلى أن يتحفظ بالدلو، لئلا يصيب أحد جانبي البئر فيتخرق أو ينقطع فيقال له عند ذلك: (أبن أبن) أي أبعد دلوك عن جانبي البئر. وإذا كان المستقي ممن يتهاون بالدلو، ويريد الإضرار بصاحبها، صدم له بها أحد جانبي البئر فانخزقت وانقطعت، فضرب ذلك مثلاً لمن يخاطر به، ويعرض للهلاك، ولهذا الذي وصفناه، قال بعض السقاة: أما يزال قائل: ابن أبن ... دلوك عن حد الضروس واللبن وقوله: (فلا يرمي) يجوز أن يكون (لا) بمعنى ليس. ويجوز أن تكون نهياً، وأثبت الألف ضرورة، وكان ينبغي أن يحذفها للجزم. وقد روى: (فلا يقذف) وهذا لا ضرورة فيه. (وأقل): مرفوع بالابتداء، ومن خبره. والجملة في موضوع خبر إن. ومعناه: قليل من القوم من يغني مكاني، وينوب منابي، فيكون على هذا التأويل قد أثبت أن في الناس من يقوم مقامه، إلا أنه قليل. والأجود أن تكون القلة ههنا بمعنى النفي، فيكون قد نفى أن يقوم أحد مقامه، لأنه يعم نفسه، والعرب تستعمل القلة بمعنى النفي، فيقولون: أقل رجل يقول ذاك إلا زيد، وإنما جاز ذلك لأن الشيء إذا قل انتفى أكثره. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (141) (كأنا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مدير)

البيت لمهلهل بن ربيعة التغلبي. ويريد بقوله وبنى أبينا: بكر بن وائل. وعنيزة: موضع، كانت فيه وقعة بين تغلب وبكر ابني وائل، وشبه الجيش برحيين يديرهما مدير للطحن، ورحى الحرب: وسطها ومعظمها لأنهم يستديرون فيها عند القتال، أو لأنها تهلك من حصل فيها كما تطحن الرحى الحب، ألا ترى إلى قول ربيعة بن مقروم: فدارت رحانا بفرسانهم ... فعادوا كأن لم يكونوا رمما وبعد بيت مهلهل: فلولا اريح أسمع من بحجرٍ ... صليل البيض تقرع بالذكور قال أبو جعفر ابن النحاس: يقال: إن هذا أول كذب سمع بالشعر، وإن قوله (كأنا غدوة) أول تناصف سمع في الشعر. وهذا الذي حكاه غير صحيح، لأن الشعر موضوع على الكذب والتخييل، إلا القليل منه، وإنما أراد قائل هذا أن يقول: إن هذا أول غلو سمع في الشعر، لأن قتالهم كان بالجزيرة، وحجر: قصبة اليمامة، وبين الموضعين مسافة عظيمة، فعبر عن الغلو بالكذب. * * * وأنشد في باب ما يجري عليه العدد في تذكيره وتأنيثه: (142) (فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تضيف وتجأرا)

البيت للنابغة الجعدي، يصف بقرة وحشية أكل السبع ولدها، فطافت ثلاثة أيام وثلاث ليال تطلبه، ولا إنكار عندها ولا غناء إلا الإضافة، وهي الجزع والإشفاق. والجؤار: هوا لصياح، والنكير: الإنكار، وهو من المصادر التي أتت على (فعيل) كالنذير والعذير، وأكثر ما يأتي هذا النوع من المصادر في الأصوات التي على (فعيل) كالهدير والهديل: قال الله تعالى (ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير) وبعد هذا البيت: فألفت بياناً عند آخر معهد ... إهابا ومعبوطا من الجوف أحمرا وخدا كبرقوع الفتاة ملمعاً ... وروقين لما يعدوا أن تقشرا أراد: أنها وجدت عند آخر معهد عهدته فيه، ما بين لها وحقق عندها، أن السبع أكله، ثم فسر ذلك البيان بما ذكره بعد ذلك. والإهاب: الجلد. والمعبوط: الدم الطرين والروقان: القرنان. وشبه خده لما فيه من السواد والبياض، ببرقوع الفتاة، لأن الفتيات يزين براقعهن، وبقر الوحش بيض الألوان، لا سواد فيها إلا في قوائمها، وفي خدودها، وفي أكفالها ويقال: برقع بضم القاف، ويرقع بفتحها، وبرقوع بالواو. * * *

وأنشد في باب ما لا ينصرف: (143) (لم تتلفع بفضل مئزرها ... دعد ولم تسق دعد في العلب) هذا البيت يروى لجرير، ويروى لعبد الله بن قيس الرقيات. والتلفع: الاشتمال بالثوب، والالتحاف فيه. والعلب: جمع علبة، وهو إناء يصنع من جلود الإبل. وصف أن دعداً نشأت في الرفاهية والنعمة، ولم تكن من البدويات اللواتي يتلفعن بالمآزر، وتشربن الألبان في العُلب. وهذا ضد قول بعض الأعراب: لعمري لأعرابية في عباءة ... تحل دماثاً من سويقة أو فندا أحب إلى القلب الذي لج في الهوى ... من اللابسات الخز يظهرن لي كندا ويجوز في (دعد) الأولى الصرف وترك الصرف، ولا يجوز في الثانية الصرف، لفساد وزن الشعر. وكرر ذكر دعد ولم يضمرها تنويهاً بذكرها، وإشارة أو تلذذاً لاسمها واستطابة كما قال الآخر: عذاب على الأفواه ما لم يذقهم ... عدو وبالأفواه أسماؤهم تحلو وقد تكرر العرب ذكر الاسم، على غير وجه الإشارة والاستطابة، ولكن لضرب من المبالغة، أو على وجه الضرورة، فإذا كان ذلك في جملتين حسن الإظهار والإضمار، لأن كل جملة تقوم بنفعها، كقولك جاءني زيد، وزيد رجل فاضل. وإن شئت قلت: وهو رجل فاضل. وإذا كان في جملة واحدة

قبح الإظهار، ولم يكد يوجد إلا في الشعر، كقولك زيد جاء زيد، فمن الأول قوله تعالى: (لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالته). ومنه قول الفرزدق: لعمرك ما معن تبارك حقه ... ولا منسيء معن ولا متيسر ومن الثاني قول سوادة بن عدي: لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا فإذا اقترن بالثاني حرف الاستفهام لمعنى التعظيم والتعجب، كان الباب الإظهار، كقوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة) و (القارعة ما القارعة)؟ والإضمار جائز كما قال (فأمه هاوية، وما أدراك ما هية): ويروى بالعُلب، وفي العلب، وإنما حسن دخول (في) هاهنا لن تأويله لم تسق اللبن في العلب: ويروى ولم تغذ. وقد تقدم في كلامنا في حروف الجر التي يقع بعضها موضع بعض ما فيه كفاية. * * * وأنشد في باب أوصاف المؤنث بغير هاء: (144) (أبي حبي سليمي أن يبيدا ... وأمسى حبلها خلقا جديدا) هذا البيت لا أعلم قائله. وقد فسر ابن قتيبة الجديد ههنا بأنه المقطوع. وانتصابه على وجهين: أحدهما: على الصفة لخلق. والثاني: أن يكون خبراً بعد خبر. ومعنى يبيد: يهلك. يقول محبتي لها لم تذهب، وإن كان وصلها قد ذهب.

وأنشد في هذا الباب: (145) (أيا جارتا بيني فإنك طالقه ... كذاك أمور الناس غاد وطارقة) البيت: لأعشى بكر. والجارة، هاهنا الزوجة. وكان تزوج امرأة من هزان، فوجد عندها فتى شابا، فقال لها من هذا؟ فقالت: ابن عمي فنهاها عنه، فلما رآها لا تنتهي طلقها، وقال هذا البيت، وبعده: وبيني فإن البين خير من العصا ... وألا تزال فوق راسك بارقه وما ذاك من جرم عظيم جنيته ... ولا أن تكوني جئت فينا ببائقه وذوقي فتى قوم فني ذائق ... فتاة أناس مثل ما أنت ذائقه فقد كان في فتيان قومك منكح ... وفتيان هزان الطوال الغرانقه وقوله: (كذاك أمور الناس): مبتدأ، وخبره في المجرور، وقوله (غاد وطارقه): يرتفعان على وجهين أحدهما أن تجعل كل واحد منهما خبر مبتدأ مضمر، كأنه قال: بعضها غاد، وبعضها طارقه. والثاني: أن تجعل كل واحد منهما مبتدأ وتضمر له خبراً، كأنه قال: منها غادٍ، ومنها طارقه، فطارقة معطوفة على غاد على حد عطف الجمل على الجمل، لا على حد عطف المفرد على المفرد، وإنما كان كذلك، لأنه تقسيم وتبعيض، فلزم ذكر حرف التبعيض مع كل واحد من القسمين، ولو عطفت الثاني على الأول، كعطف المفرد على المفرد، ولم تقدر للثاني من الإضمار مثل ما قدرته للأول، لصار القسمان قسماً واحداً، واحتجت إلى قسم آخر يستوفي ما تضمنه المجمل الذي أردت تقسيمه،

ومثله قوله عز وجل: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك، منها قائم وحصيد) أراد: ومنها حصيد، ومثله قول الكميت: لنا راعياً سوء مضيعان منهما ... أبو جعدة العادي وعرفاء جيأل وأنشد في باب أسما يتفق لفظها ويختلف معانيها: (146) (إذا عاش الفتى مائتين عاماً ... فقد ذهب التخيل والفتاء) هذا البيت للربيع بن الفزاري، وقبله: إذا كان الشتاء فأدفئوني ... فإن الشيخ يهرمه الشتاء وأما حين يذهب كل قر ... فسربال رقيق أو رداء والتخيل: الخيلاء ويروى: اللذاذة، ويروى المسرة، ويروى المروءة. * * * وأنشد في باب ما يمد ويقصر: (147) (بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل) البيت: لحسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري، ويكنى أبا الوليد، ويقال له ابن الفريعة، وهي أمه، وهو من شعر رثى به حمزة بن عبد المطلب، وبعده:

على أسد الإله غداة قالوا: ... أحمزة ذاكم الرجل الفتيل أصيب المسلمون به جميعاً ... هناك وقد أصيب به الرسول وأراد: وما يغني البكاء ولا العويل شيئاًن فحذف المفعول، (وما): نفى، ويبعد أن يكون استفهاماً في موضع نصب بيغني، لظهور حرف النفي بعده، إلا أن تجعل (لا) زائدة كزيادتها في قوله تعالى (ما منعك ألا تسجد) وذلك تكلف. * * * وأنشد في باب الحرفين يتقاربان في اللفظ والمعنى: (148) (تنام عن كبر شأنها فإذا ... قامت رويداً تكاد تنغرف) البيت: لقيس بن الخطيم بن عدي الأنصاري، وصف امرأة نشأت في رفاهية ونعمة، فهي تنام لجلالة شأنها وأن لها من يكفيها المؤنة. فإذا قامت قامت في سكون وضعف، وكادت تنغرف، لرقة خصرها، وثقل ردفها، ويقال انغرف الغصن من الشجرة: إذا انقطع ونحو منه قول امريء القيس: نؤم الضحا لم تنطق عن تفضل

وقوله (قامت رويداً) أراد قياماً رويداً، فحذف المصدر وأقام صفته مقامه. ويجوز أن يكون منصوباً على الحال، وبعد هذا البيت: حوراء جيداء يستضاء بها ... كأنها خوط بانة قصف تغترق الطرف وهي لاهية ... كأنما شف وجهها نزف والحوراء: التي في عينها حور، وهو صفاء سواد العين وصفاء بياضها، وقال الأصمعي: الحور: أن ترى العين سوداء كلها، تشبيهاً لها بالظبية والبقرة، والجيداء: الطويلة العنق والخوط: الغصن والقصف: المنكسر للينه، وقوله تغترق الطرف: أي تشغل نظر الناظر، فلا ينظر إلى غيرها، لكمال حسنها، وهي غير مستعدة ولا متزينة. وقوله: كأنما شف وجهها نزف، يريد أنها قليلة لحم الوجه غير جهمة فكأن دمها نزف. * * * وأنشد في هذا الباب: (149) (شدا سريعاً مثل إضرام الحرق)

البيت: لرؤبة بن العجاج، ويكنى أبا الجحاف؛ ووجدت هذا البيت في شعر رؤبة رواية أبي بكر بن دريد، على خلاف ما أنشده ابن قتيبة، وهو: تكاد أيديها تهاوى في الزهق ... من كفتها شدا كإضرام الحرق قال ابن دريد: يقال فرس رهق: إذا تقدم الخيل، فيقول تكاد أيدي الحمر تهوى فتزلج وتذهب من شدة ما يقدمها الحمار والكفت: شدة القبض، والشد: الجرى الشديد، وشبهه باضطرام النار، لما فيه من الخفيف والصوت، كما قال العجاج: كأنما يستضرمان العرفجا والحرق النار بعينها، والحرق: الاحتراق، وبعده: سوى مساحيهن تقطيط الحقق ... تقليل ما قارعن من سمر الطرق والمساحي: ههنا: الحوافرن سماها مساحي لأنها تسحو الأرض أي تقشرها يقول سوت الطرق حوافر هذه الحمير كما تسوى الحقق؛ والحقق جمع حقة وهي وعاء من عود يتخذ للطيب وغيره. والتقليل هو الفاعل الذي سواها، ونصب تقطيط الحقق على المصدر المشبه به والتقدير تسوية مثل تقطيط الحقق فحذف المصدر، وأقام صفته مقامه، وحذف المضاف، وأناب المضاف إليه مقامه وهذا من المصادر المحمولة على معنى الفعل، لا على لفظه لأن التسوية هي التقطيط في المعنى، فصار كقولك قعد زيد جلوس عمرو، وتبسمت وميض البرق. * * *

وأنشد في هذا الباب للنابغة: (150) (كذي العر يكوى غيره وهو راتع) وصدر هذا البيت مختلف فيه، فكان الأصمعي يروى: لكلفتني ذنب امريء وتركته وروى ابن الأعرابي وأبو عبيدة: حملت على ذنبه وتركته والعربضم العين: قروح تخرج في مشافر الإبل وقوائمها، والراتع المقيم في المرعى. وفي معنى هذا البيت أربعة أقوال: أحدها أن هذا أمر كان يفعله جهال الأعراب، كانوا إذا وقع العُر في إبلهم اعترضوا بعيراً صحيحاً من تلك الإبل فكووا مشفره وعضده وفخذه، يرون أنهم إذا فعلوا ذلك ذهب العُر من إبلهم كما كانوا يعلقون على أنفسهم كعوب الأرانب خشية العطب، ويفقؤون عين فحل الإبل، لئلا تصيبها العين. وهذا قول الأصمعي وأبي عمرو وأكثر اللغويين. وقول آخر "كالثور يضرب لما عافت البقر. قال يونس: سألت رؤبة بن العجاج عن هذا فقال: هذا شيء كان قديماً ثم تركه الناس.

ويدل عليه هذا الرجز. فكان شكر القوم عند المتن ... كي الصحيحات وفقأ الأعين وقيل إنما كانوا يكوون الصحيح، لئلا يعلق به الداء، لا ليبرأ السقيم. حكى ذلك ابن دريد، وأما أبو عبيدة فقال: هذا أمر لم يكن وإنما هذا مثل لا حقيقة. أي أخذت البريء وتركت المذنب، فكنت كمن كوى البعير الصحيح وترك السقيم لو كان هذا مما يكون. قال ونحو من هذا قولهم: يشرب عجلان ويسكر ميسرة. ولم يكونا شخصين موجودين وقيل أصل هذا أن الفصيل إذا أصابه العُر لفساد في لبن أمه عمدا إلى أمه فكووها فتبرأ ويبرأ فصيلها، لأن ذلك الداء إنما كان ليسرى إليه في لبنها، وهذا أغرب الأقوال وأقربها إلى الحقيقة. والكاف في قوله كذى العر تحتمل وجهين: أحدهما أن تكون في موضع الحال من الهاء في تركته، كأنه قال وتركته مشبهاً ذا العر. والثاني أن تكون صفة لمصدر محذوف كأنه قال تركته تركاً مثل ترك ذي العر، ففي هذا الوجه حذف مضافاً وأقام ما أضيف إليه مقامه، وحذف موصوفاً وأحل صفته محله، وفي الوجه الأول لم يحذف شيئاً. وقوله: وهو راتع جملة في موضع الحال، أي يكوى غيره في حال رتوعه. وأما قوله: (يكوى غيره وهو راتع) فجملة لا موضع لها من الإعراب لأنها مفسرة لما قبلها، كأنه لما قال وتركته كذى العر. قيل: وما شأن ذي العر، فقال يكوى غيره وهو راتع، ونظير هذا لم أر أعجب من أمر زيد يضرب أخوه وهو يضحك، فقولك وهو يضحك جملة لها موضع، وقولك أخوه يضرب وهو يضحك جملة مفسرة لا موضع لها.

ومن روى كذي العر بفتح العين فقد غلط لأن العر الجرب، ولم يكونوا يكوون من الجرب إنما كانوا يكوون من القُروح التي تخرج في مشافر الإبل وقوائمها خاصة. * * * وأنشد في هذا الباب: (151) (وأوثر غيري من عيالك بالطعم) هذا البيت لأبي خراش الهذلي واسمه خويلد بن مرة وصدره: (أرد شجاع البطن قد تعلمينه) وبعده: مخافة أن أحيا برغم وذلة ... وللموت خير من حياة على رغم قال الأصمعي قوله شجاع البطن مثل أن يقول الجوع يتلظى في جوفي كما يتلظى الشجاع، والشجاع الحية، وقيل، يريد بالشجاع الصفر وهي حية تتخلق في البطن تعض على شراسيف الجائع وهي التي ذكرها أعشى باهلة في قوله: (ولا يعض على شر سوفه الصفر) * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (152) (واغتبق الماء القراح فأنتهى ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم) وهذا البيت لأبي خراش يتصل بقوله- (أرد شجاع البطن) - يقول أغتبق الماء القراح فاكتفي به تكرما وأوثر غيري بقوتي إذا كان المزلج يحب الطعام ولا يؤثر به. والاغتباق: افتعال من الغبوق وهو ما يشرب بالعشى، والمزلج: الضعيف من الرجال. وعيش مزلج إذا كان فيه نقص عن التمام. والقراح من الماء: الخالص الذي لا يشوبه شيء. وهذا مثل قول عروة ابن الورد: أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد * * * وانشد في هذا الباب: (153) (الذم يبقى وزاد القوم في حور)

كذا الرواية والصواب والذم لأن صدره: (واستعجلوا عن ضعيف المضع فازدردوا) وأنشد ابن الأعرابي قبل هذا الشعر في نوادره ولم يسم قائله وهو: نبهت زيداً فلم أفزع إلى وكل ... رث السلاح ولا في الحي مكثور سالت عليه شعاب المجد حين دعا ... أنصاره ووجوه كالدنانير إن ابن آل ضرار حين أدركها ... زيداً معى لي سعياً غير مكفور لولا الإله ولولا سعي صاحبها ... تلهو جوها كما نالوا من العير واستعجلوا من ضعيف المضغ فازدردوا ... والذم يبقى وزاد القوم في حور * * * وانشد ابن قتيبة في هذا الباب: (154) (كأن راكبها غصن بمروحة ... إذا تدلت به أو شارب ثمل) قال أبو علي البغدادي: هذا البيت أنشده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد ركب ناقة مهرية فسارت به سيراً حسناً، فلا يدري أتمثل به أم قاله. والمروحة:

الفلاة التي تخرقها الرياح، فالغصن يكثر فيا التثني والاضطراب، فشبه به راكب الناقة لتبخترها به في مشيها، والتدلي سير في رفق وسكون، يقال: دلوت الناقة أدلوها دلواً. قال الراجز: لا تقلواها وادلواها دلوا ... إن مع اليوم أخاه غدوا والقلو: سير سريع. * * * وأنشد في باب الحروف التي تتقارب ألفاظها وتختلف معانيها: (155) (الحافظو عورة الشعيرة لا ... يأتيهم من ورائنا وكف) البيت لقيس بن الخطيم الأنصاري في بعض الروايات وقبله: أبلغ بني حججبي وقومهم ... خطمة أنا وراهم أنف وأننا دون ما يسومهم ... الأعداء من ضيم خطة نكف العورة: المكان الذي تخاف منه العدو، والوكف ههنا: العيبن ويروى نطف وهو نحو الوكف. يقول نحن نحفظ عورة عشيرتنا فلا يتيهم من ورائنا شيء يعابون به من يبيع ثغرهم وقلة رعايته. هذا على رواية من روى من ورائنا

ومن روى من ورائهم أخرج الضمير مخرج الغيبة على لفظ الألف واللام، لأن معنى (الحافظ وعورة) نحن الذين يحفظون عورة. كما تقول أنا الذي قام، فيخرج الضمير مخرج الغيبة وإن كانت تعني نفسك، لأن معناه أنا الرجل الذي قام، وقد يقولون أنا الذي قمت. فعلى هذا رواية من روى من ورائنا. * * * وأنشد لطرفة: (156) (وإذا تلسنني ألسنها ... إنني لست بموهون فقر) الملاسنة: المفاخرة، وتكون الملاسنة أيضاً أن تعاتب الرجل وتعاتبك. والموهون: الضعيف، يقال: وهنه وأوهنه. والفقر في قول الأصمعي: المكسور الفقار، والذي يشتكي فقاره ويقال فقير بالياء وهو بمعنى مفقور كما يقال قتيل بمعنى مقتول قال لبيد: لما رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل وقال أبو عبيدة: الفقر: البادي العورة الممكن لمن أراده من قولهم قد أفقرك الصيد فارمه أي أمكنك. يقول أبين عن نفسي كما تبين عن نفسها وأعاتبها كما تعاتبني ولست كالضعيف الذي لا يستطيع أن يقيم حجته، ويعرب عن نفسه وينقاد لخصمه، وإنما يمدح نفسه بعلو الهمة وانه ليس من يغلب عليه الهوى. * * *

وأنشد للحطيئة: (157) (اررغتني وزعمت أنـ ... ـك لابن بالضيف تامر) هذا الشعر هجا به الحطيئة الزبرقان بن بدر، وزعموا أن الأصمعي كان يصحفه ويرويه (لاتني بالصيف تامر) أي تأمر بإكرامه وإنزاله. ومعنى تنى: تفتقر، من قولك ونى في الأمر يني ونيا وونيا. إذا فتر وتكاسل عنه. ويقال ونى بكسر النون وبعده: فلقد كذبت وما خشيت ... بأن تدور بك الدوائر ولحيتني في معشر ... هم ألحقوك بمن تفاخر يعني بالمعشر بنى قريع بن عوف بن كعب من آل الزبرقان بن بدر، وكان الحطيئة نزل على الزبرقان فلم يحمده واستدعاه القريعيون إلى أنفسهم وتوسعوا له في البر والإكرام فانتقل إليهم وهجا الزبرقان. * * * وأنشده ابن قتيبة في باب الأفعال: (158) (هل لشباب فات من مطلب ... أم ما بكاء البدن الأشيب) هذا البيت للأسود بن يعفر أحد بني حارثة بن سلمى بن جندل ويكنى أبا الجراح، وهو أحد الشعراء العمى، ولذلك قال:

ومن النوائب لا أبالك أنني ... ضربت على أرض بالأسداد لا أهندى فيها لموضع تلعة ... بين العذيب وبين أرض مراد يقول: هل يمكن طلب الشباب الغائب واسترجاعه، بل كيف يبكي الرجل شيب شوقاً إلى أحبته وذلك لا يليق به، وهذا قول العجاج. بكيت والمحتزن البكى ... وإنما يأتي الصبا الصبي أطربا وأنت قنسري والقنسري: الشيخ المسن. * * * وأنشد في هذا الباب: (159) (وكنت خلت الشيب والتبدينا ... والهم مما يذهل القرينا) البيت لحميد بن الأرقط، والتبدين: الكبر، ويذهل، ينسى، والقرين: صاحب. يقول كنت حسبت أن كبر السن وتواتر الهم والحزن مما يذهل عن قرين ويسلى عن الحبيب والحزين، فوجدت حنيني إلى أحبتي في حال الكبر، ثنيني إليهم في حال الصغر. * * *

أنشد في هذا الباب: (160) (وخافق الراس فوق الرحل قلت له ... زع بالزمام وجوز الليل مركوم) البيت لذي الرمة، وأراد بقوله وخافق الرأس رجلاً يضطرب رأسه فوق رحله من شدة النعاس؛ وصف نفسه بالجلد في السفر والصبر على مقاسات السهر وأن صاحبه ينام على الرحل ويخرج عن الطريق فيوقظه، ويقول: زع ناقتك بالزمام فقد جارت عن القصد. وجوز الليل: وسطه، ومركوم متراكب الظلام. وبعد هذا البيت: كأنه بين شرخي رحل ساهمة ... حرف إذا ما استرق الليل مأموم وشرخا الرحل: قادمته وآخرته، والساهمة: الناقة التي أضعفها السفر، والحرف: الهزيل، والمأموم: الذي شج شجة وصلت إلى أم دماغه. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (161) إذا ما امرؤ حاولن أن يقتتلنه ... بلا إحنة بين النفوس ولا ذحل) هذا البيت لذي الرمة أيضاً، وجواب إذا في بيت آخر متصل بهذا، وبه كمال المعنى وهو:

تبسمن عن نور الأقاحي في الثرى ... وفترن من أبصار مضروجة نجل الأحنة: الحقد، والذحل: طلب الثأر، ويعني بالمضروجة: عيوناً واسعة الشق. يقال ضرجت الثوب: إذا شققته، والنجل: العظام الحدق. * * * أنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (162) (ايشهد مثغور على وقد رأى ... سميرة منا في ثناياه مشهدا) البيت: لجرير بن الخطفي، ويروى سميرة على لفظ التكبير وسميرة على لفظ التصغير. ووقع في كتاب النقائض لأبي عبيدة معمر بن المثنى: أيشهد مثغور علينا وقد رأى ... نميلة منا في ثناياه شهدا ومثغور هذا هو عبيد بن غاضرة السلمى، وسمى مثغوراً لأن ثنيتيه انتزعتا في قود كان عليه، وكان المثولي لذلك من بني رياح، ولذلك قال جرير بعد هذا البيت: متى ألق مثغوراً على سوء ثغره ... أضع فوق ما أبقى الرياحي مبردا

وإنما قال جرير هذا لأن عبيد بن عاضرة كان قد سئل عن الفرزدق وجريراً أيهما أشعر فقضى للفرزدق بالتقدم، فقال: كيف تقبل شهادته علينا وقد وترناه بنزع ثنيتيه وليس من العدل أن تقبل شهادة الموتور على من وتره. ومن روى مشهداً جعله مصدراً بمعنى الشهادة، لحقت الميم أوله كما تلحق المصادر دلالة على أنها مفعولات. ومن روى شهدا، أراد أفعالاً شهدا وأموراً شهدا ونحو ذلك من التقدير. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (163) (أدين وما ديني عليكم بمغرم ... ولكن على الشم الجلاد القراوح) هذا البيت لسويد بن الصامت الأنصاري، وزاد أبو حنيفة بعد هذا البيت: على كل خوار كأن جذوعها ... طلين بقار أو بحمأة ماتح وصف أن قومه لاموه على التعين والأخذ بالدين من الناس، فقال: لست أعول في قضاء ديني على أن تؤدوه عني من أموالكم فيشق عليكم ذلك، وإنما أعول في قضائه على غلة نخلي، والشم من النخل: الطوال، والجلاد: القوية الصابرة على الجدب، والقراوح: القليلة السعف. وقد توهم قوم أنه يصف إبلاً، وذلك غلط، والبيت الذي أنشدناه بعده، يدل على أنه يصف نخلاً ووصف

جذوعها بالسواد لأن ذلك إنما يكون عن عتقها وكثرة دبسها، وعلى الأولى في موضع نصب على الحال من المغرم، وهي صفة نكرة تقدمت عليها، لأن التقدير بمغرم عليكم. فكان الجار والمجرور في موضع خفض على الصفة لمغرم، فلما قدمه صار في موضع نصب على الحال. وعلى الثانية في موضع رفع على خبر مبتدأ مضمر كأنه قال: ولكن ديني على الشم. وقد ذكرنا فيما تقدم أن كل حرف وقع موقع صفة أو حال أو خبر فإنه يتعلق بالمحذوف الذي ناب منابه. والباء في قوله بمغرم لا تتعلق بشيء لأنها زائدة مؤكدة. * * * وأنشد في هذا الباب: (164) (أدان وأنبأه الأولو ... ن بأن المدان مليء وفي) هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي، والضمير في قوله أدان يعود على كاتب ذكره قبل هذا البيت في قوله: عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزيره الكاتب الحميري ومعنى أدان: باع بدين. ويعني بالأولين: من سبقه إلى معاملة الذي داينه. شبه رسوم الدار بكتاب كتبه كاتب حميري عامل رجلا وأخبره من سبق

إلى معاملته بأنه مليء الذمة، وفي بما عليه، فعقد عليه عقداً، وتغافل عن طلبه بما فيه حتى درس كتابه. وخص الكاتب الحميري لأن أصل الخط العربي لحمير، ومن عندهم انتشر في سائر العرب، وكانلهم خط يسمى المسند فولد منه خط آخر سمي الجزم، لأنه جزم منه: أي قطع، وهو الخط الذي بأيدي الناس اليوم. وبعد هذا البيت: فنمنم في صحف كالريا ... ط فيهن إرث كتاب محي وهذا عند أصحاب المعاني من أحسن التشبيه وأبلغه، لأنه شبه رسوم الدار بكتاب كتب في صحف كان فيها كتاب قديم فبشر وبقيت منه آثار. وإنما قال ذلك لأنه أراد أن رسوم الديار منها ما تقادم عهده، ومنها ما هو حديث العهد، فشبه الرسوم القديمة بما بقي من الخط القديم، وشبه الرسوم الحديثة بالخط الحديث. * * * وأنشد في هذا الباب: (165) (وأعدني بالسجن والأداهم) هذا الرجز لا أعلم لمن هو وبعده: (رجلي، ورجلي شئنة المناسم)

يقول هددني بالسجن والأداهم وهي الكبول، ولم يعلم بأن رجلي شئنة، تبالي بذلك ولا تكثرت له، وهو نحو من قول جعفر بن علبة الحارثي: ولا أن نفسي يزدهيها وعيدهم ... ولا أنني بالمشي في القيد أخرق والشئنة: الغليظة الخشنة، والمناسم: جمع منسم وهو طرف خف البعير استعاره للإنسان. وحسن ذلك ههنا لما ذكره من جلده وقوته، وبذلك يصفون أنفسهم، ألا ترى إلى القول الآخر: أصبر من ذي ضاغط عركرك ... ألقى بواني زوره للمبرك وقوله رجل بدل من الضمير في قوله أوعدني، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً حذف منه حرف الجر اختصاراً كأنه أراد لرجل، وأتى بالرجل الثانية مظهرة غير مضمرة تعظيماً لأمرها وإشادة بذكرها، ولأنها وقعت في جملة ثانية، وقد قدم من قولنا إنه إنما يقبح إظهار المضمر إذا كان في جملة واحدة. * * * وأنشد في هذا الباب: (166) (وقد ألاح سهيل بعدما هجعوا ... كأنه ضرم بالكف مقبوس)

هذا البيت للمتلمس واسمه جرير بن عبد المسيح الضبعي، قال ابن قتيبة: ويقال إنه جرير بن عبد العزى وسمى المتلمس بقوله: فهذا أوان العرض جن ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس والضرم: الشعلة من النار، ويقال قيست النار إذا أخذتها، وأقبستها: إذا أعطيتها، وقبل هذا البيت: حنت قلوصي بها والليل معتكر ... بعد الهدوء وشاقتها النواقيس معقولة ينظر الإشراق راكبها ... كأنه طرب للرمل مسلوس * * * وأنشد في هذا الباب: (167) (فلما اجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنابطن حقف ذي ركام عقنقل) هذا البيت مشهور لامرئ القيس بن حجر ومعنى أجزنا: قطعنا وخلفنا، وساحة الحي: فناؤه، وانتحى: اعترض. والحقف: الكثيب من الرمل يعوج وينثنين وبطنه: ما انخفض وغمض، وركامه: ما تراكم منه بعضه فوق بعض، والعقنقل: ما تعقد ودخل بعضه في بعض. وفي جواب لما أربعة أقوال؛ فمذهب الكوفيين أن انتحى هو جوابها، وأن الواو زائدة، وكذلك قالوا في قوله تعالى: (إذا جاءوها وفتحت أبوابها) ومذهب أكثر البصريين أن الجواب

محذوف تقديره عندهم فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن الحقف نلت أملي منها ونحو ذلك، وكذلك الآية تقديرها عندهم حتى إذا جآوها وفتحت أبوابها صادفوا ما وعدوا به. واحتجوا بأن الجواب قد جاء محذوفاً في مواضع لا يمكن المخالف إنكارها ولا أن يتأول فيها وجهاً غير الحذف كقوله تعالى (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) ولم يقل لكان هذا القرآن وكذلك قول الراجز: لو قد حداهن أبو الجودي ... برجز مسحنفر الروى مستويات كنوى البرني أراد لأسرعن مستويات. والواو في قوله وانتحى على قول الكوفيين زائدة، وعلى قول البصريين واو العطف، ولا موضع لقوله: وانتحى بحسب الرأيين جميعاً. وكان بعض النحويين فيما حكى أبو إسحاق الزجاج يذهب في ما كان من هذا النوع مذهباً يخالف فيه البصريين والكوفيين، فكان يقول تقدير الآية (حتى إذا جاؤوها جاؤوها وفتحت أبوها. وكذلك بيت امريء القيس على رأيه، تقديره فلما أجزنا ساحة الحي أجزناها وانتحى، فالجواب على رأيه محذوف، والواو واو الحال، وفي الكلام (قد) مضمرة لتقرب الماضي من الحال كالتي في قوله (أو جاؤوكم حصرت صدورهم) فالمعنى على قوله جاؤوها وقد فتحت أبوابها وأحزناها قد

انتحى، وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه روى بعد هذا البيت هصرت بفودي رأسها فتمايلت ... على هضيم الكشج ريا المخلخل فالجواب هصرت على روايته، والعامل في (لما) فيه ثلاثة أقوال؛ أما على قول الكوفيين فالعامل فيها انتحى، وأما على رأي البصريين فالعامل فيها الجواب المحذوف، وأما على رأي أبي عبيدة فالعامل فيها هصرت. ولا يجوز أن يكون العامل فيها أجزنا لأن لما مضافة إليه، ولا يعمل المضاف إليه في المضاف، وكذلك لا يصح أن يعمل فيها انتحى على مذهب البصريين لأن انتحى عندهم معطوف على أجزنا، وداخل فيما أضيفت إليه لما، وكذلك على رأي من حكى عنه أبو إسحاق، لأن الجواب المقدر عنده هو العامل. * * * وأنشد في هذا الباب: (168) (فما برحوا حتى رأى الله صبرهم ... وحتى أشرت بالأكف المصاحف) هذا البيت للحصين بن الحمام المزي قاله في حرب صفين، وذلك أن معاوية لما رأى أمر علي رضي الله عنه يقوى وأمره يضعفن شاور عمرو بن العاص وقال له: ما ترى؟ فقال له مر الناس برفع المصاحف، فأمر بخمسمائة مصحف فرفعت، فلما رأى أصحاب عليّ ذلك كفوا عن القتال، فقال لهم علي: إن هذه خديعة. فسألوهم ما شأن هذه المصاحف، فقال معاوية: نجعل القرآن حكماً

بيننا ونثوب إلى السلم، فكان ذلك سبب تحكيم الحكمين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وخروج الخوارج على علي رضي الله عنه وفي ذلك يقول بعض الشعراء: وأيام صفين لو جئتنا ... رأيت المنية جونا شميطا فعاذ الجزوع برفع الكتاب ... ونادى إلى السلم حكما وسيطا * * * وأنشد في هذا الباب: (169) (نصف النهار الماء غامره ... ورفيقه بالغيب لا يدري) البيت للمسيب بن علس الخُماعي فيما ذكر الأصمعي، وكان أبو عبيدة يروى هذا الشعر لأعشى بكر؛ وكذلك قال ابن دري وصف غائصاً غاض على درة فانتصف النهار وهو في الماء لم يخرج ورفيقه لا يدري أهو حي أم ميت؟ وقوله: الماء غامره جملة في موضع نصب على الحال، وكذلك الجملة التي بعدها، وكان ينبغي أن يقول والماء غامره، فيأتي بواو الحال، ولكنه اكتفى بالضمير منها، ولو لم يكن في الجملتين ضمير عائد إلى صاحب الحال، لم يجز حذف الواو، فأما صاحب هاتين الحالين فليس بمذكور في البيت ولكنه مذكور في البيت الذي قبله: كجمانة البحري جاء بها ... غواصها من لجة البحر * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (170) (لها أمر حزم لا يفرق مجمع) هذا البيت لأبي الحسحاس الأسدي وصدره: (يُهل ويسعى بالمصابيح وسطها) وبعده: نمدهم: نمدهم بالماء لا من هوانهم ... ولكن إذا ما ضاق أمر يوسع يصف إبلاً، والإهلال: رفع الصوت. يقول يدعو بعضنا بعضاً: هاتوا ما عندكم من القِرى وعجلوا به، والمصابيح ههنا: الآنية التي يصبح بها، أي يسقى بها الصبوح. وقوله (لها أمر حزم لا يفرق مجمع) يقول أصحاب هذه الإبل آخذون في أمرها بالحزم لا تختلف كلمتهم ولا يخذل بعضهم بعضاً، وقوله: نمدهم بالماء: يقول: إذا أكثر علينا الأضياف وقل اللبن شبناه بالماء، وليس ذلك من هوان الضيفان علينا. ولكن لقلة اللبن عندنا، وكذلك يفعلون بالمرق، ولذلك قال الشاعر: وسع بمدك ماء اللحم تقسمه ... وأكثر الشرب إن لم يكثر اللبن

وأنشد في باب ما لا يهمز والعوام تهمزه: (171) (إذا كنت في قوم عدى لست منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيب) هذا البيت لزرارة بن سبيع الأسدي فيما ذكر يعقوب، وذكر الجاحظ أنه لخالد بن فضلة الجحواني من بني أسد، والعدى: الغرباء، والعدى أيضاً الأعداء، والأكل والعلف ههنا مثلان مضروبان للموافقة وترك المخالفة. وكان هذا الشاعر قد راغم قومه وعتب عليهم ثم جاور غيرهم فلم يحمد جوارهم، وندم على مفارقة قومه ولذلك قال قبل هذا البيت: لعمري لقوم المرء خير بقية ... عليه وإن عالوا به كل مركب من الجانب الأقصى، وإن كان ذاغني ... جزيل ولم يخبرك مثل مجرب تبدلت من دودان نصرا وأرضها ... فما ظفرت كفى ولا طاب مشربي

وقوله لست منهم جملة في موضع خفض على الصفة، ولو صيرتها صفة لفظية غير معنوية لزمك أن تقول: غير كائن منهم، أنت، لأن ليس فعل غير منصرف فلم يمكنك اشتقاق صفة منه، فأتيت بشيء هو في معناه، ولزمك أن تظهر الضمير لجريان الصفة على غير من هي له، و (في) متعلقة بمحذوف لوقوعها موقع خبر كان، والوجه في (ما) أن تكون بمعنى الذي، وقد يمكن أن تكون التي توصل بالفعل فتنوب مناب المصدر في نحو قولك أعجبني ما فعلت، أي فعلك، فكأنه قال: فكل علفك. ويجب على هذا أن يكون العلف بمعنى المعلوف؛ لأن نفس المصدر لا يعلف، فيكون كقولهم درهم ضرب الأمير؛ أي مضروب. والفرق بين ما المصدرية وما التي بمعنى الذي وإن كانت كل واحدة منهما موصولة أن التي بمعنى الذي يعود عليها من صلتها عائد، والمصدرية لا يعود عليها من صلتها. عائد؛ لأنها حرف بمنزلة أن الموصولة. والوجه أن تكون ههنا بمعنى الذي. وأما (من) فإنها التي تأتي للتنويع والتفصيل في نحو قولهم جاءني القوم من فارس وراجل و (من) هذه و (بين) يتعاقبان على المعنى الواحد، ألا ترى أنهم يقولون جاءني القوم بين فارس راجل فتؤدي ذلك المعنى بعينه. وكذلك لو قال فكل ما علفت بين خبيث وطيب لأدى ذلك المعنى بعينه. و (من) هذه تتعلق بمحذوف، ويدلك على ذلك أنك تجدها تنوب مناب الأخبار في نحو قولهم: القوم من ضاحك وباك وقول ذي الرمة: والعيس من واسج أو عاسج خببا ... ينحزن من جانبيها وهي تنسلب

وقوله: فكل ما عُلفت كان القياس أن يقول فكل ما تعلف لأن الأمر إنما يكون بالمستقبل، غير أن العرب تستعمل ههنا الماضي فيقولون: خذ ما أعطيت، واشكر الله على ما وهب لك، ومنه قول الراجز: وإنما نأخذ ما أعطينا فيجوز أنا يكون هذا مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل حين فهم المعنى كقول الحطيئة: شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر وقول آخر: فإني لآتيكم تشكر ما مضى ... من المس واستيجاب ما كان في الغد ويجوز أن يكون معناه خذ ما قُدر لك أن تعطاه، وكل ما قدر لك أن تعلفه؛ فالعلف والإعطاء وإن كانا مستقبلين فالقدر قد سبق بوقوعهما في الوقت الذي يقعان فيه، ويدلك على صحة اعتقادهم لهذا المعنى، أنهم قد صرحوا به فقالوا خذ ما قسم الله لك. وقال الشاعر: وإن جاء ما لا تستطيعان دفعه ... فلا تجزعا مما قضى الله واصبرا * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (173) (لو أطعموا المن والسلوى مكانهم ... ما أبصر الناس طعماً فيهم نجعا) هذا البيت لأعشى بكر قاله في بني تميم، وكانوا أخذوا لطيمة كسرى بنطاع، وهو واد باليمامة، فأغزاهم كسرى جيوشه فقتلت وسبت، فرغب هوذة بن علي الحنفي إلى المكعبر عامل كسرى في مائة منهم فوهبهم له، وكان ذلك في وقت صوم النصارى فحبسهم عنده يطعمهم الجذائذ في الجفان والتمر، فلما جاء الفصح كسا كل رجل منهم ثوبين وخلى سبيله، فلذل قال الأعشى قبل هذا البيت: سائل تميماً به أيام صفقتهم ... لما أتوه أسارى كلهم ضرعا وسط المشقر في عيطاء مظلمة ... لا يستطيعون فيها ثم ممتنعاً وقوله لو أطعموا المن والسلوى، يقول لو أطعموا المن والسلوى اللذين هما اجل من الجذائذ والتمر لم ينجع فيهم لما كانوا فيه من الأسر وخوف القتل: * * * وأنشد في هذا الباب: (174) (يا جل ما بعدت عليك بلادنا ... وطلابنا فابرق بأرضك وارعد)

هذا البيت يروى لابن أحمر، ويروى للمتلمس، ومعناه في أحد الشعرين مخالف لمعناه في الشعر الآخر، وقبله في شعر ابن أحمر: أزرى بوصل الحارثية أنها ... تنأى ويحدث بعض ما لم نعهد قالت لنا يوماً ببطن سيوحه ... في موكب زجل الهواجر مبرد قال الأصمعي: يقول إذا أبيت أن تأتينا في بلادنا فاذهب إلى أرضك وافعل بها ما بدالك أن تفعل. وسيوحة: واد بناحية اليمن، والزجل المختلط الأصوات. وأما الذي في شعر المتلمس فنه يخاطب به عمرو بن هند حين فر منه. ووقع في بعض ألفاظه خلاف ما وقع في شعر بن أحمر، ولفظه على ما رواه الأصمعي: فإذا حللت ودون بيتي غاوة ... فابرق بأرضك ما بدالك وارعد وغاوة: قرية في أوائل بلاد الشام، وقوله يا جل ما بعدت: أراد يا هذا جل ما بعدت، كحذف المنادى، ويجوز أن يكون "يا" استفتاح كلام، فلا يكون في البيت حذف. وعلى هذا أنشد الأصمعي قول الراجز: يا لعنة الله على أهل الرقم ... أهل الوقير والحمير والحزم برفع اللعنة، أراد يا هؤلاء لعنة الله. وما مع الفعل بتأويل المصدر، كأنه قال: جل بعد بلادنا. والأشبه بهذا البيت أن يكون للمتلمس لأنه يليق بما قبله وما بعده من الشعر. وأما شعر بن أحمر فلا مدخل له فيه، ولكن الرواة يفسدون الأشعار ويروون كثيراً من الأبيات في غير مواضعها، وسنذكر شيئاً من ذلك. * * *

وأنشد في باب ما يشدد والعوام تخففه: (175) (كأن لنا وهو فلو نرببه) هذا البيت لدكين بن رجاء الفقيمي، بوعده: مجعثن الخلق يطير زغبه ... كان غرمتنه إذ نجنبه من بعد يوم كامل نؤوبه ... سير صناع في خريز تكلبه قال أبو علي البغدادي: وكان ابن دريد ينشد نرببه فيجمع لغة من يقول رببته أربه فيكسر الباء، ولغة من يكسر زوائد الفعل المستقبل. والمجعثن: المجتمع الشديد. والمتن الظهر وغره: طريقته، ونجنبه: نقوده، والصناع: المرأة الحاذقة بالعمل، والخريز المخروز: قال يعقوب: يقول طريقة متنه تبرق كأنها سير في خرزن وقال غيره: الغر: تكسر الجلد وتثنيه، والكلب أن يبقى السير في القرية وهي تخرز فتدخل الخارزة يدها وتجعل عقبة أو شعرة مثنية فتدخل السير في ذلك الشراك المثني ثم تخرق خرقاً بالأشفى وتخرج رأس الشعرة منه وتجذبه فيخرج السير. * * * وأنشد في هذا الباب لعلقمة: (176) (يحملن أترجة نضخ العبير بها)

وتمامه: (كأن تطيابها في الأنف مشموم) الأترجة هنا: كناية عن امرأة شبهها في طيب رائحتها وما في لونها من الصفرةن وكانت العرب تكره بياض اللون المفرط، ولذلك كانوا يعيبون قول الأعشى: ومن كل بيضاء رعبوبة ... لها بشر ناصع كاللبن وكانوا يستحسنون قول ذي الرمة: صفراء في نعج، بيضاء في دعج ... كأنها فضة قد مسها ذهب وكان النساء يضمخن أجسامهن بالطيب، ولذلك قال الشاعر: وألين من مس الرخامات يلتقي ... بمارنه الجازي والعنبر الورد واختلف في قول الأعشى: بيضاء غدوتها وصفـ ... ـراء العشية كالعرارة فقال قوم: أراد أنها تتردع بالطيب، وقال آخرون: كانت العرب تقول إن المرأة إذا رقت بشرتها وصفت ابيضت، بابيضاض الشمس واصفرارها.

وهذا القول أشبه بالبيت. ولو أراد الطيب لم يكن لتخصيصه العشية معنى وقوله: (كأن تطيابها في الأنف مشموم) فيه قولان: أحدهما أن المشموم ههنا المسك، والآخر أنه وصف شدة تخيله لها وتذكره حتى كأن طيبها في أنفه وإن كانت قد فارقته، وهذا نحو قول الآخر: فما مس جنبي الأرض إلا ذكرتها ... وإلا وجدت ريحها من ثيابيا وهذا المعنى أراد أبو الطيب المتنبي بقوله: ممثلة حتى كأن لم تفارقي ... وحتى كان اليأس من وصلك الوعد وحتى تكادي تمسحين مدامعي ... ويعبق في ثوبي من ريحك الند وقال عبد بني الحسحاس: فما زال ثوبي طيباً من نسيمها ... إلى الحول حتى أصبح البرد باليا * * * وأنشد في هذا الباب: (177) (يا لك من قبرة بمعمر ... خلالك الجو فبيضي واصفري) وبعده: (ونقري ما شئت أن تنقري)

معمر: موضع بعينه، وقيل: هو الموضع العامر المخصب، والتنقير: البحث والطلب. وقيل التنقير: تسوية الطائر لعشه. وهذا الرجز يروى لطرفة بن العبد وكان سافر مع عمه وهو صغير فنزل عمه في بعض مناقله فتصب طرفة فخا كان عندهن فجاءت قبرة لتلتقط ما فيه فجعلت تستدير حول الفخ ولا تقرب منه، فلما حان رحيل عمه تزغ فخه وركب، ثم التفت فرأى القبرة تلتقط الحب الذي كان وضعه في الفخ فقال هذا الرجز. وقد روى أن هذا الرجز لكليب وائل وذلك أن كليباً كان قد حمى مرعى لا ترعى فيه إلا إبله وإبل جساس بن مرة فخرج يطوف في حماه يوماً فإذا هو بحمرة على بيض لها فلما نظرت إليه صرصرت وخففت بجناحها فقال كليب آمن روعك أنت وبيضك في ذمتي. وقال: - (يا لك من حمرة بمعمر) الرجز. ثم خرج بعد ذلك يطوف في الحمى فإذا هو بأثر بعير لا يعرفه قد وطيء البيض فشدخها فاشتد ذلك عليه، وقال: وأنصاب وائل ما اجترأ على ذمتي جمل من إبل وائل. وانصرف والغضب قد عرف في وجهه، وكان رجل من جرم يقال له سعد قد نزل على البسوس جارة خاله جساس وكانت له ناقة يقال لها سراب فكانت ترعى في الحمى مع إبل جساس، فخرج كليب مع جساس يطوفان في الحمى، فنظر كليب على الناقة فن أنها كسرت البيض، فقال: لا تعد هذه الناقة إلى الحمى بعد يومها هذا. فقال جساس: والله لتعودن ولا وضعت إبل رؤوسها في موضع إلا وضعت هذه الناقة رأسها فيه. فقال: كليب: لقد تقدمت رجلك على سيسائك يا جساس، وأنصاب وائل، لئن عادت لأضعن سهمي في ضرعها. فقال جساس: وأنصاب وائل لئن وضعت

سهمك في ضرعها لأضعن سناني في صلبك. فلما كان بعد ذلك وجدها كليب في الحمى فرماها بسهم في ضرعها فكان ذلك سبباً لقتل جساس إياء، والخبر طويل، وفي ذلك يقول كليب: سيعلم آل مرة حيث كانوا ... بأن حماى ليس بمستباح وان لقوح جدارهم ستغدو ... على الأبيات غدوة لا رواح إذا عطيت سراب بفرسنيها ... تبينت المراض من الصحاح * * * وانشد ابن قتيبة في هذا الباب: (178) (أفلح من كانت له قوصره ... يأكل منها كل يوم مره) يروى هذا الرجز لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، والقوصرة: جلة يجعل فيها التمر وهي هاهنا كناية عن المرأة، ومثله: أفلح من كانت له ترغامه ... ورسة يدخل فيها هامه والرسة القلنسوة عن المطرز ومثله أفلح من كانت له كرد يده ... يأكل منها ثم يثني جيده ومثله: أفلح من كانت له مزخه ... يزخها ثم ينام الفخه

والزخ: النكاح، يقال: زخ المرأة يزخها زخا، والفخة: نوم يسع فيه للنائم فخيخ أي صوت. * * * وأنشد في هذا الباب: (179) (كالخص إذ جلله الباري) البيت للعجاج، يصف ناس ثور وحشي، فشبهه بخص قد جلل بباري، والخص: بيت من خشب كالسقيفة والباري: الحصير وقبله: ومكنس ينتابه قيظي ... فهو إذا ما اجتافه جوفي اجتافه: دخل في جوفه، وجوفي: عظيم الجوف. * * * وأنشد في باب ما جاء مخففاً والعامة تشدده: (180) (ومن تعاجيب خلق الله غاطية ... يعصر منها ملاحي وغربيب)

التعاجيب: الأعاجيب، غير أن الأعاجيب جمع أعجوبة، والتعاجيب لا واحد لها، وغاطية: كرمة تغطي الأرض، كذا قال أبو حنيفة. وقيل هي: الدالية، وروى المفضل عاطية بالعين غير معجمة وقال: هي بمعنى معطية كأنها تعطي العنب فجاء على حذف الزيادة كما قالوا: أبقل المكان فهو باقل وهذا أحد ما نسب فيه إلى التصحيف. والملاحي: العنب الأبيض، والغربيب: الأسود. * * * وأنشد في باب ما جاء محركاً والعامة تسكنه: (181) (قد وكلتني طلتي بالسمسرة ... وأيقظتني لطلوع الزهره) قد ذكرنا هذا الرجز فيما تكلمنا عليه من أغلاط هذا الكتاب، وذكرنا ما حكاه أبو حاتم من السبب الذي قيل فيه هذا الرجز والصواب (صبحتني). * * * وأنشد في هذا الباب: (182) (والفارسية فيهم غير منكرة ... فكلهم لابيه ضيزن سلف) ذكر ابن قتيبة أن هذا البيت لأوس ولم أجده في شعر أوس بن حجر، ولعله لأوس بن غلفاء التميمي، وفي رواية أخرى غير رواية أبي حاتم والضيزن الشريك في المرأة، وقال ابن الأعرابي: ليس في النساء سلفة إنما اسلفان الرجلان. وأجاز الخليل أن يقال للمرأة سلفة. والفرس ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم، فأراد أوس

أن هؤلاء المهجوين يدينون بدينهم ويقتدون بأفعالهم فيشاركون آباءهم في أزواجهم. * * * وأنشد في هذا الباب: (183) (كروايا الطبع همت بالوحل) البيت للبيد بن ربيعة العامري وصدره: فتولوا فاتراً مشيهم يصف قوماً خاصمهم بين يدي النعمان بن المنذر فغلبهم فانصرفوا مغلوبين يقاربون الخطو لما أصابهم من اللة فشبههم لذل بالروايا التي همت بالوحل والروايا: الإبل التي يحمل عليها الماء والطبع ههنا النهر كذا قال يعقوب وقال ابن قتيبة: الطبع التي قد ملئت وطبعت وكان يجب على تفسيره أن يقول كالروايا الطبع لأن الظاهر من قوله أنه جعل الروايا ههنا المزاد التي يحمل فهيا الماء، فهو على هذا من باب قولهم صلاة الأولى، ومسجد الجامع. وحب الحصيد. ولا وجه لهذا لأن التشبيه إنما هو بالإبل لا بالمزاد. والوجه فيه أن يكون أراد بالروايا الإبل، وبالطبع المزاد المطبوعة، التي قد ملئت، فيكون الطبع صفة لموصوف محذوف، كأنه قال: كراويا المزاد الطبع. والكوفيون يجيزون في مثل هذا إضافة الموصوف إلى صفته، وذلك عندنا خطأ.

وقيل هذا البيت: ولدى النعمان منى مشهد ... بين فاثور أفاق فالدحل إذ دعتني عامر أنصرها ... والتقى الألسن كالنبل الدول فرميت القوم رشقاً صائباً ... ليس بالعصل ولا بالمفتعل فاثور أفاق والدحل: موضعان. والرشق (بكسر الراء) أن ترمي سهام كثيرة دفعة. والرشق (بفتح الراء): المصدر. والعصل: المعوجة. والمفتعل: الكذب، ويروى: المقتعل بالقاف، وهو السهم الذي لم يبر بريا جيداً. وقوله همت بالوحل جملة في موضع الحال عند البصريين، والعامل في هذه الحال ما في الكاف من معنى التشبيه، وهي صلة للطبع على مذهب الكوفيين كما قالوا في بيت الهذلي: لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل وقد ذكرناه في موضع آخر. وأما الكاف فتحتمل أمرين أحدهما: أن تكون في موضع الحال أيضاً من الضمير في تولوا، كأنه قال: مشبهين روايا الطبع. والثاني: أن تكون صفة لمصدر محذوف. كأنه قال فاترا مشيهم فتورا كفتور مشي روايا الطبع، والوجه الأول أجود لأن في هذا الوجه الثاني حذفاً كثيراً فكان بعيداً لذلك. * * * وأنشد في باب ما جاء بالصاد، صدر بيت الأعشى بكر، والبيت بكماله: (184) (ترتعي اسفح فالكثيب فذاقا ... ر فروض القطا فذات الرئال)

وقبله: لات هنا ذكرى جبيرة أو من ... جاء منها بطائف الأهوال حل أهلي بطن الغميس فبادوا ... لي وحلت علوية بالسخال قوله (لات هنا ذكرى جبيرة) يقول: ليس حين ذكرها فأيش منها. هذا قول الأصمعي. وقال أبو عبيدة: معناه اتنس ذكرها. والغميس، وبادولي، والسخال: مواضع وكذلك ذو قار. وروض القطا: روض تألفه القطا، وذات الرئال: أرض تألفها النعام، والرئال: فراخها. وقوله ترتعي السفح: أراد ترتعي إبلها السفح فنسب الرعي إليها مجازاً. ويجوز أن يريد ترتعي إبلها السفح، فيكون من قولهم ارتعي: بمعنى رعى كما تقول: كسب واكتسب. * * * وأنشد في باب ما جاء مكسوراً والعامة تفتحه: (185) (قد أطعمتني دقلا حوليا ... مدوداً مسوساً حجرياً) وبعده: (قد كنت تفرين به الفريا)

هذا الرجز لا أعلم قائله. والدقل: نوع من التمر رديء. وحجري: منسوب إلى حجر، وهي قصبة اليمامة. وقوله (قد كنت تفرين به الفريا) أي قد كنت تكثرين فيه القول، وتعظمين أمره، يقال: جاء فلان يفري الفرى: إذا جاء بالعجب فيما يفعله. وأصله في الخرز، يقال. فرى دلوه يفريها: إذا خرزها، فهي مفرية وفرى، قال امرؤ القيس: (فريان لما تسلقا بدهان) فمعنى قولهم يفرى الفرى يخرز المخروز، كأنه يريد على الخرز خرزاً آخر، ليكون أقوى له وأحكم فضرب مثلاً لمن يحكم الأمر، ويبلغ غاية الجد فيه، وقد يمكن أن يكون الفرى هنا مصدراً، فيكون كقولك: هو يضرب ضرباً. وإلى نحو هذا ذهب أبو عبيد في تفسير قوله، صلى الله عليه وسلم، في عمر: (فلم أر عبقرياً يفري فريه)، لأنه قال في تفسير قوله (يفري فريه) كقولك يعمل عمله، ويقول قوله: والذي قدمته أجود. وإنما أراد يعمل معموله، ويصنع مصنوعه، لأن مجيء المصدر على (فعيل) في غير الأصوات قليل، قالوا: النذير: بمعنى الإنذار، والنكير: بمعنى الإنكار، والعذير بمعنى العذر، قال ذو الإصبع العدواني: عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض

وقد روى في هذا الحديث (يفرى فريه): واستعمله محمد بن هانئ على هذا الرواية فقال: فلا عبقري كان أو هو كائن ... فرى فريه في المعضلات العظائم قال الفراء: معنى "قد كنت تفرين به الفريا": قد كنت تأكلينه أكلاً كثيراً. وهذا ليس بشيء، يلتفت إليه. * * * وأنشد في باب ما جاء مفتوحاً والعامة تضمه: (186) (يا بني التخوم لا تظلموها ... إن ظلم التخوم ذو عقال) هذا البيت لأحيحة بن الجلاح. قاله لبنية، يأمرهم بألا يغصبوا الأرضين ولا يغيروا حدودها. وأصل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، والعقال: ظلع يعتري الدابة، يمنعها المشي. يقول: ظلم التخوم يصيب منه الظالم مثل ما يصيب الدابة من العقال. يريد أنه يثبطه عن الاستقلال والخلاص، كما يثبت العقال الدابة عن المشي. وفي الحديث: من غصب (جاره) شبراً من أرض، طوقه من سبع أرضين. وبعد هذا البيت: ثم مال اليتيم لا تأكلوه ... عن مال اليتيم يرعاه والي * * *

وأنشد في باب ما جاء على يفعل مما يغير عجز بيت لعنترة، والبيت بكماله: (187) 0 حلفنا لهم والخيل تردى بنا معاً ... نزايلكم حتى تهروا العواليا) يقول لبني سعد بن زيد مناة بن تميم: إن كنتم جئتمونا حراصاً على الحرب محبين في الطعن والضرب، فلسنا نزايلكم حتى تبغضوا من ذلك ما أحببتم، وتندموا على ما فعلتم"وخص العوالي بالذكر، لأن الاعتماد عليها في المطاعنة. وقد يجوز أن تسمى الرماح عوالى. وإن كانت العوالى إنما هي صدورها، كما تسمى الجملة ببعضها إذا كان الإعتماد على ذلك البعض، كقولهم للربيئة (عين)، لأن اعتماده على عينه. وللذي يتسمع الأخبار (أذن) لأن اعتماده على أذنه. ويروى (نزايلهم) بالهاء، لأنه مخبر عنهم. ومن روى (نزايلكم) بالكاف: حكى ما خاطبهم به عند الحلف، وهذا كما تقول: حلفت لزيد: لأضربنه وإن شئت قلت: لأضربنك: أي قلت له: لأضربنك. و (معاً) ينتصب على الحال، كأنه قال: تردى بنا مجتمعين، وإن شئت كان ظرفاً، كأنه قال في وقت واحد، وقد ذهب قوم إلى ان الضمير في (نزايلهم) يرجع إلى النساء، في قوله قبل هذا البيت: ونحن منعنا بالفروق نساءنا ... نطرف عنها مشعلات غواشيا

وكان يجب على هذا أن يقول (نزايلهن)، ولنه ذكر الضمير، لاختلاط النساء بالأطفال، فغلب المذكر على المؤنث: * * * وأنشد في هذا الباب: (188) (فقد هر بعض القوم سقى زياد) البيت: لإسحاق بن إبراهيم الموصلي. ومثله لا يحتج به في اللغة: وصدره: (وقلنا لساينا زياد يرقها) وزياد هذا: غلام كان له، وقوله (يرقها) أي يمزجها بالماء، لترق وتزول بشاعتها. وقبله: خليل هبا نصطبح بسواد ... ونروى قلوباً هامهن صوادى فلما مات رثاه، فقال: فقدنا زياداً بعد طول صحابة ... فلا زال يسقى الغيث قبر زياد ستيكيك كأس لم تجد من يديرها ... وظمآن يستسقي الزجاجة صادي * * * وأنشد في باب ما جاء على ما لم يسم فاعله: (189) (وأتانا عن الأراقم أنبا ... ء وخطب نعني به ونساء)

البيت: للحارث بن حلزة اليشكري، من قصيدته التي ارتجلها بين يدي عمرو بن هند، في أمر كنا قد شجر بني بكر وتغلب ابني وائل، وكان ينشده من وراء سجف، لبرص كان به، فأمر برفع السجف، استحساناً لها. ويقال إن الحارث قام ينشدها متوكئاً على عنزة، فارتزت في جسده وهو لا يشعر. وهذا البيت أنشده ابن قتيبة شاهداً على انه يقال عنيت بالأمر على صيغة ما لم يسم فاعله، وإنما يكون شاهداً إذا جعلته من العناية بالأمر، والاهتبال به، لأن هذا الفعل لم يأت مسنداً إلى الفاعل في قول أكثر اللغويين وحكى ابن الأعرابي عنيت بالأمر (بفتح العين وكسر النون). وأنشد: عان بأخراها طويل الشغل ... له جفيران وأي نبل وقد يجوز أن يكون (نعني به) بمعنى: نقصد به، فلا يكون فيه حجة، لأن الذي يراد به القصد: يسند إلى الفاعل، وإلى المفعول، يقال عناني الأمر يعنيني، قال الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

وأجاز أبو جعفر بن النحاس في قوله (نُساء) وجهين: أحدهما أن يكون من قولك (سؤته بالأمر). والآخر أن يريد: يساء بنا الظن فيه. وهذا الوجه الثاني لا يصح إلا على أن يكون من المقلوب. وبعد هذا البيت: إن إخواننا الأراقم يغلون ... علينا في قيلهم إحفاء والإحفاء: الإصرار. * * * وأنشد في هذا الباب: (190) (وقال المذمر للناتجين ... متى ذمرت قبلي الأرجل) هذا البيت للكميت. والمذمر: الذي يدخل يده في رحم الناقة، فيلمس مذمر الفصيل، وهو موضع الذفري، ليعلم: أذكر هو أم أنثى؟ والناتج: الذي يتولى أمر نتاج الناقة، يصف أموراً أنتجت دواهي وأحوالاً مقلوبة عن وجوهها، فضرب لها المثل بالأجنة التي تنقلب في بطون أمهاتها، فتخرج أرجلها قبل رءوسها، لأن المذمر لا يلمس رجل الفصيل إلا إذا انقلب في الرحم، وهذا هو الذي يسمى اليتن، والعرب تشبه تولد الأمور بخروج الأجنة من الأرحام، ولذلك قالوا في المثل: "الدهر حبلى ليس يدري ما تلد". ومنه قول خلف الأحمر:

قد طرفت ببكرها بنت طبق ... فذمروه خبراً ضخم العنق موت الإمام فلقة من الفلق وقد قيل في بيت الكميت: إنه أراد أن الجنة انقلبت في بطون أمهاتها، لطول الغزو، وكثرة السفر والحركة. وقيل هو مثل لارتفاع الأرذال، وانحطاط الأشراف، كما قال الأفوه: أمارة الغي أن يلقى الجميع لدى الـ ... إبرام للأمر والأذناب أكثار والقول الأول هو الوجه، ويدل عليه قوله قبل هذا البيت: إذا طرق الأمر بالمعضلات ... بتنا وضاق بها المهبل والتطريق: أن يخرج بعض الجنين من الرحم ويبقى بعض والمعضلات: الأمور الشداد، والمهبل موضع الولد من الرحم. * * * وأنشد في باب ما ينقص منه ويزاد: (191) (شتان ما يومي على كورها ... ويوم حيان أخى جابر) البيت: لأعشى بكر. وحيان وجابر رجلان من بني حنيفة، وكان حيان نديماً للأعشى. يقول: يومي على رحل هذه الناقة، ويومي مع حيان أخي جابر

مختلفان، لا يستويان، لأن أحدهما يوم سفر وتعب، والثاني يوم لهو وطرب. ويروى أن حيان وجابرا كانا أخوين، وكان حيان سيداً أفضل من جابر، فلما أضافه (أي الأعشى) جابر إلى غضب وقال: عرفتني بأخي، وجعلته أشهر مني، والله لا نادمتك أبداً فقال له الأعشى: اضطرتني القافية، فلم يعذره. وبعده: أرمي بها البيد إذ هجرت ... وأنت بين القرو والعاصر والقرو: المعصرة. وشتان: اسم للفعل، مبني على الفتح، لوقوعه موقع الفعل الماضين وكان الفراء يجيز فيه الكسرن ويومي: مرتفع به، وما زائدة والكور رحل الناقة. * * * وأنشد في هذا الباب: (192) (لشتان ما بين اليزيدين في الندى) هذا البيت لربيعة الرقى يمدح يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلبن ويذم يزيد بن أسيد السلمي، وتمامه - يزيد سليم والأعز بن حاتم. وبعده: فهم الفتى الزدي اتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمتام أنى هجوته ... ولكنني فضلك أهل المكارم

وهذا أقذع ما يكون من الهجاء، وإنما لم ير الأصمعي هذا البيت حجة، لأن ربيعة هذا محدث، وكان عنده ممن لا يحتج بشعره. وهذا غلط لأن شتان اسم للفعل، يجري مجراه في العمل، فلا فرق بين ارتفاع (ما) به في بيت ربيعة، وارتفاع (اليوم) من شعر الأعشى، كما أنك لو قلت: بعدما بين زيد وعمرو لجاز باتفاق. * * * وأنشد في هذا الباب لغدافر: (193) (بصرية تزوجت بصرياً ... يطعمها المالح والطريا) قد ذكرنا هذا الرجز فيما تقدم بما أغنى عن إعادته. * * * وأنشد في هذا الباب: (194) (لا يدفنون فيهم من فاظا) البيت لرؤبة بن العجاج، وقبله: إنا أناس نلزم الحفاظا ... إذ سئمت ربيعة الكظاظا لأراءها والأزل والمظاظا ... والأزد أمسى شلوهم لفاظا

يريد أن القتلى كثرت حتى لا يستطيع على دفنها. والحفاظ والمحافظة: الملازمة للشيء، والحفاظ: الغضب، وتسمى الحرب حفاظاً، لأن الغضب سببها. والكظاظ: المضايقة والملازمة. واللاواء والأزل: الشدة. والمظاظ: المشاتمة والمشارة. والشلو: العضو. وجمعه أشلاء. واللفاظ: الملفوظ المطروح. * * * أنشد في هذا الباب: (195) (كادت النفس أن تفيظ عليه ... إذ ثوى حشو ريطة وبرود) هذا البيت يروى لأبي زيد الطائي في شعر يرثى به اللجلاج الحارثي وقبله: غير أن اللجلاج هاض جناحي ... يوم فارقته بأعلى الصعيد صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود وثوى، معناه: أقام. والريطة كل ملاءة لم تكن لفقين. والبرود: ثياب تصبغ باليمن. وقال أبو حاتم: لا يقال له برد حتى يكون فيه وشيء. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (196) (فإن تكن الموسى جرت فوق بظرها ... فما ختنت إلا ومصان قاعد)

هذا البيت يروى لأعشى همدان، واسمه عبد الرحمن بن عبد الله، ويكنى "أبا المصبع" قاله في خالد بن عبد الله القسرين ذكر ذلك الأصبهاني. وذكر أبو عمرو الشيباني: أنه لزياد الأعجم في خالد بن عتاب بن ورقاء، وقبله: لعمرك ما أدري وأني لسائل ... أبظراء أم مختونة أم خالد؟ قال الأصبهاني: كان خالد بن عبد الله القسري يسمى بالكوفة "ابن البظراء" فأنف من ذلك، فيقال أنه اكره أمه على الختان. وفي معنى هذا البيت قولان: قيل أنه أراد بالمصان: الحجام، لأنه يمص المحاجم. يقول: إن كانت قد ختنت فإنما ختنها الحجام، لتبذلها وقلة حيائها، لان العادة جرت أن يختن النساء النساء. وقيل: إنما أراد بالمصان ابنها خالداً، لأن العرب تقول لمن تسبه: يا مصان، أي من مص بظر أمه. يقول: إن كنت قد ختنت فإنما ختنت بعد أن بلغ أبيها المصان العقود، فقد مص بظرها على كل حال أو أجرى مصان مجرى اسماه الأعلام، فلذلك لم يصرفه. * * * وأنشد بن قتيبة في هذا الباب: (197) (رضعي لبان ثدي أم تحالفا ... باسحم داج عوض لا نتفرق) هذا البيت لأعشى بكر يمدح به المحلق بن جشم الكلابين وكان خامل الذكر، لا صيت له، وكان له بنات لا يخطبهن أحد، رغبة عنهن: فمر به الأعشى،

فنحر له ناقة لم يكن عنده غيرها، وأطعمه وسقاه، فلما أصبح الأعشى قال: ألك حاجة؟ قال: نعم، بذكرى، فلعلى أشتهر ويرغب في بناتي، فنهض الأعشى على (عكاظ) وانشد هذه القصيدة، فلم يمس حتى خطب إليه جميع بناته. وقيل هذا البيت: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق وإنما ذكر النار والمحالفة، لأنهم كانوا يتحالفون على النار، وجعل الندى والمحلق كالأخوين اللذين رضعا لباناً واحداً من ثدى أم واحدة، مبالغة في وصفه بالكرم، وذكر أنهما تحالفا وتعاقدا أن لا يفترقا أبدا. وعوض: صنم كان لبكر بن وائل. وقيل: هو اسم من أسماء الدهر. وزعم المازني: أنه يضم ويفتح ويكسر، ولا أعلم أحداً حكى فيه الكسر غير المازني. وأصله أن يكون ظرفاً، كقولهم: (لا أفعله عوض العائضين) كما تقول (دهر الداهرين) ثم كثر، حتى أجروه مجرى ما يقسم به وأحلوه محله. وفي قوله: (بأسحم داج) سبعة أقوال: قيل: هو الرماد، وكانوا يحلفون به، قال الشاعر: حلفت بالملح والمراد وبالنـ ... ـار وبالله نسلم الحلقه حتى يظل الجواد منعفراً ... وتخضب النيل غرة الدرقه

وقيل: أراد الليل. وقيل: أراد الرحم، وقيل: أراد الدم، لأنهم كانوا يغمسون أيديهم فيه إذا تحالفوا. حكى هذه الأقوال الأربعة (يعقوب) وقال غيره: (يعني حلمة الثدي)، وقيل: يعني زق الخمر. وقيل: يعني دماء الذبائح التي كانت تذبح للأصنام، وجعله أسحم، لأن الدم إذا يبس اسود. وهذا نحو قول النابغة. وما هريق على الأنصاب من جسد وأبعد هذه الأقوال قول من قال إنه أراد الرماد، لأن الرماد لا يوصف بأنه أسحم، ولا داج، وإنما يوصف بأنه أورق، والورقة: شبه الغبرة. وأما الدم فلا ينكر وصفه بالسواد، لأنه يسود إذا يبس. وقد صرح الطرماح بذلك في قوله يصف ثوراً: فبات يقاسي ليل أنقد دائباً ... ويحدر بالقف اختلاف العجاهن كطوف متلى حجة بين غبغب ... وقرت مسود من النسك فاتن وقد وصف المتنبي الدم بالسواد، على هذا المعنى، فقال: وربتما حملة في الوغى ... رددت بها الذبل السمر سودا

وقوله (تشب): أي توقد. والمقرور: الذي أصابه القر، وهو البرد. ومعنى (لاحت): نظرت وتشوفت إلى هذه النار. حكى الفراء لحت الشيء إذا أبصرته. وجعلها في (يفاع) لأنه أشهر لها، ولأنها إذا كانت في يفاع، وهو الموضع العالي، أصابتها الرياح فاشتعلت. وقوله وبات على النار: لما كان من شأن المتحالفين أن يتحالفوا على النار، جعل الندى والمحلق، كمتحالفين اجتمعا على نار، وذكر المقرورين، لأن المقرور يعظم النار ويشعلها، لشدة حاجته إليها. وقد أخذ أبو تمام الطائي هذا المعنى وأوضحه وإن كان ليس مثله من جميع الوجوه فقال في مدحه الحسن بن وهب: قد أثقب الحسن بن وهب في الندى ... ناراً جلت إنسان عين المجتلي موسومة للمهتدي مأدومة ... للمجتدي مظلومة للمصطلي ما أنت حين تعد ناراً مثلها ... إلا كتالى سورة لم تنزل وأما إعرابه فإن قوله (رضيعي) ينصب على أربعة أوجه: إن شئت كان حالاً. وقوله (على النار) هو خبر بات، وإن شئت جعلت رضيعي خبر بات، وعلى النار في موضع الحال، وغن شئت كانا خبرين، وإن شئت نصبت

(رضيعي) على المدح، ولك أن تجعل الرضيع بمعنى الراضع كقولهم قدير بمعنى قادر، وعليم بمعنى عالم، متعدياً إلى مفعول واحد، وإن شئت جعلته بمعنى مرضع، كقولهم رب قعيد بمعنى مقعد، فيتعدى إلى مفعولين. ومن خفض (ثدي أم) جعله بدلاً من لفظ اللبان، ومن نصبه أبدله من موضعهن لأنه في موضع نصب، ولابد من تقدير مضاف محذوف في كلا الوجهين، كأنه قال: لبان ثدى أم. وإنما لزم تقدير حذف مضاف، لأنه لا يخلو من أن يكون بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، أو بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال، فلا يجوز أن يكون من بدل البعض، لأن الثدي ليس بعض اللبان، ولا يجوز أن يكون بدل اشتمال، لأن معنى قولنا بدل اشتمال، أن يكون الأول يشتمل على الثاني، وذلك لا يصبح ههنا، وقد ذهب قوم إلى أن الثاني هو المشتمل على الأول وذلك غلط، فلم يبق إلا أن يكون بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، والثدي ليس اللبان، فوجب أن يقدر لبان ثدي ويجوز أن يكون ثدي أم مفعولاً سقط منه حرف الجر، كقولك اخترت زيداً الرجال وقوله (عوض لا نتفرق): من جعل (عوض) اسم صنم، جاز في إعرابه ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قال عوض قسمنا الذي نقسم به. ويجوز أن يكون في موضع نصب، على أن تقدر فيه حرف الجر، وتحذفه، كقولك يمين الله لأفعلن: ويجوز أن يكون في موضع خفض على إضمار حرف القسم، وهو أضعف الوجوه ومن اعتقد هذا لزمه أن يجعل الباء في قوله بأسحم بمعنى (في) ويعني بالأسحم: الليل، أو الرحم، ولا يجوز أن تكون الباء في هذا الوجه للقسم، لأن القسم لم يقع بالأسحم، وإنما وقع بعوض، الذي هو الصنم.

ومن جعل (عوض) من أسماء الدهر، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون القسم به لا بالأسحم، فيكون القول فيه كالقول في الوجه الأول. والوجه الثاني: أن يكون القسم بالأسحم، فتكون الباء فيه باء القسم، ويكون (عوض) ظرفاً، كأنه قال: لا نتفرق عوض، أي لا نتفرق عوض دهرنا. وقوله (لا نتفرق) جاء بجواب القسم على حكاية لفظ المتحالفين، الذي نطقا به عند التحالف، ولو جاء به على لفظ الإخبار عنهما لقال لا يفترقان، كما تقول: حلف الزيدان لا يخرجان، إذا أخبرت عنهما، ولم تحك لفظهما فإن حكيت لفهما قلت: حلف الزيدان لا نخرج. * * * وأنشد في هذا البيت: (198) (فإلا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها) البيت لأبي الأسود الدؤلي واسمه ظالم بن سراق، وقبله: دع الخمر يشربها الغواة فنني ... رأيت أخاها مغنيا لمكانها يعني بأخيها نبيذ الزبيب. يقول: إن لم يكن الزبيب الخمر أو يكن الزبيبي فإنهما أخوان، غذاي بلبن واحد، ينوب أحدهما مناب الآخر. * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (199) (غدا أكهب الأعلى وراح كأنه ... من الضح واستقباله الشمس أخضر) البيت لذي الرمة. وصف به الحرباء، وهي دويبة تستقبل الشمس، وتدور معها كيف دارت، وتتلون ألواناً بحر الشمس. وقبله: يظل بها الحرباء للشمس ماثلاً ... على الجذل إلا أنه لا يكبر إذا حول الظل العشى رأيته ... حنيفاً وفي قرن الضحى يتنصر يريد أنه يستقبل في أول النهار المشرق، فإذا زالت الشمس عن كبد السماء استقبل القبلة. وقوله (غدا أكهب الأعلى) يجوز أن يكون موضع الأعلى خفضاً، بإضافة أكهب إليه، ويجوز أن يكون في موضع نصب، على التشبيه بالمفعول به في قول البصريين، وعلى التمييز في قول الكوفيين. ويجوز أن يكون في موضع رفع بأكهب، وتقديره، على رأي البصريين: الأعلى منه، وعلى مذهب الكوفيين: أعلاه، فنابت الألف واللام مناب الضمير. وكان الفارسي يأبى قول الفريقين جميعاً، ويضمر في أكهب ضميراً فاعلاً، ويجعل الأعلى بدلاً منه. ونظير هذا البيت قول النابغة: أجب الظهر ليس له سنام

وقوله: (كأنه من الضح): جملة لها موضع من الإعراب، فإن اعتقدت أن راح ههنا هي الناقصة، جعلت كأن وما عملت فيه في موضع خبرها، وإن اعتقدت أنها التامة، التي لا خبر لها، جعلت الجملة في موضع الحال. * * * وأنشد في هذا الباب: (200) (ترتج الياء ارتجاج الوطب) وقبله: كأنما عطية بن كعب ... ظعينة واقفة في ركب وصفه بأن كفله عظيم رخو، فهو يربح لعظمه ورخاوته ارتجاج الوطب، وهو زق اللبن، وارجاجه اضطرابه وهذا كقول الآخر: فأما الصدور لا صدور لجعفر ... ولكن أعجازاً شديداً ضريرها يقول: قوتهم ليست في صدورهم، إنما هي في أكفالهم، فهم يلقون منهم ضريراً، أي ضرراً ومشقة. والظعينة: المرأة سميت بذل لأنها يظعن بها، وكان يجب أن يقال: ظعين، بغير هاء، لأنها في تأويل: مظعون بها، وفعيل إذا كان صفة لمؤنث، في تأويل مفعول، كان بغير هاء، نحو امرأة قتيل وجريح، لكنها جرت مجرى الأسماء. حتى صارت غير جارية على موصوف،

كالذبيحة والنطيحة. ووصفها بأنها واقعة في ركب لأنها تتبختر إذا كانت كذلك، وتعظم عجيزتها لترى حسنها، ألا ترى إلى قول الآخر: تخطط حاجبها بالمداد ... وتربط في عجزها مرفقه وقال طرفة: فذالت كما ذالت وليدة مجلس ... ترى ربها اذيال سحل ممدد * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (201) (بنات بنات أعوج ملجمات ... مدى الأبصار عليتها الفحال) البيت للقحيف بن خمير العقيل. وصف أن هذه الخيل من نسل أعوج، وهو فحل مشهور بالنجابة والعتق، وأنها ملحمة للحرب، بحيث تراها أبصارهم، كما قال امرؤ القيس: وبات بعيني قائماً غير مرسل وقوله (عليتها الفحال): يقول: لا يعلوها إلا الفحول. وقبل هذا البيت: وحالفنا السيوف وصافنات ... سواء هن فينا والعيال نقود الخيل كل أشق نهد ... وكل طمرة فيها اعتدال

(الصافنات): الخيل التي تقوم على ثلاث، وتثني سنابك أيديها. يقال: صفن الفرس، فهو صافن والصافن أيضاً: الصاف قدميه. والأشق: الطويل، والنهد: الغليظ. والطمرة: الطويلة القوائم الوثابة. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (202) (لأبل كلى يامي واستأهلي ... إن الذي أنفقت من ماليه) هذا البيت لا أعلم قائله. ويروى: (يا أم) بكسر الميم، أراد يا أمي، فحذف الياء، واكتفى بالكسرة منها. كقوله (يا عباد فاتقون). ويروى يا أم بفتح الميم، وفيه ثلاثة أقوال: قيل أراد يا أما على لغة من يقول ياغلاما، فحذف الألف، واكتفى بالفتحة. وقيل: أريد يا أمة، فرخم وحذف التاء، وأمة: لغة في أم إلا أنها لا تستعمل في الغالب المشهورن إلا في النداء، وقد استعملت في غيره، قال الشاعر: نقيلتها من أمة لك طال ما ... تنوزع في الأسواق عنها خمارها وقيل: أراد يا أمتاه. وهذا خطأن لكثرة الحذف، ولأن هذا ليس بموضع ندبه. وهذه الزيادة أكثر ما تلحق في الندية وقد استعملت في غير الندية. أنشد يا مرحباه بحمار عفرا * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (203) (أحافرة على صلع وشبب ... معاذ الله من سفه وعار) هذا البيت لا أعلم قائله وأظنه لعمران بن حطان ومعناه: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا؟ معاذ الله من أن آتي بمثل هذا السفه، ويتحدث به عني. والألف في قوله (أحافرة): للإنكار والتوبيخ. وحافرة اسم وقع موقع المصدر، وليس بمصدر، كأنه قال: أرجوعاً، فأجراه، وإن كان اسماًن مجرى المصدر المحض في قول العجاج: أطرباً وأنت قنسري وقوله (على صلع وشيب): في موضع نصب على الحال و (على) هاهنا: هي التي تنوب مناب واو الحال في قولهم (جاء زيد على ضعفه) كأنه قال: وهو ضعيف و (أحافرة وأنا أصلع أشيب). * * * وأنشد في هذا الباب: (204) (إذا عملت بزتي على عدس ... على التي بين الحمار والفرس) (فما أبالي من غزا ومن جلس)

هذا الرجز لا أعلم قائله. والبزة: السلاح، وكذلك البز. (وعدس وحدس بالعين والحاء غير معجمتين): زجر تزجر به البغال. وزعم بعض اللغويين أن عدساً وحدساً رجلان كانا يبيعان البغال، ويعنفان عليها في زمن سليمان صلى الله عليه وسلم، فكان البغل إذا رآهما أو سمع باسم واحد منهما، طار فرقاً فاستعمل اسماهما في الزجر، فصارا صوتين مبنيين على السكون، يزجر بهما. وقوله 0 على عدس) كلام فيه مجاز، لأن البزة لا تحمل على الزجر، وإنما أراد بغلة، فسماها يزجرها، كما قال الآخر: ولو ترى إذ جبتي من طاق ... ولمتي مثل جناح غاق يريد الغراب، وإنما (غاق): حكاية صوته. وقوله (على التي بين الحمار والفرس). الفرس: يقع على الذكر والأنثى، من الخيل، أراد أنها تناسلت بينهما، وإبدال التي من عدس بإعادة الجر كقوله (للذين استضعفوا لمن آمن منهم). * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (205) (عدس ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق)

هذا البيت ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري. ولقب جده مفرغاً، لأنه راهن على أن يشرب سقاء لبن، فشربه كله حتى فرغه. وكان يزيد هذا قد صحب عباد بن أبي سفيان، أخا معاويةن فركب معه يوماً، فهبت ريح، فانتشرت لحية عباد، وكان عظيم اللحية، فقال ابن مفرغ: ألا ليت اللحى كانت حشيشاً ... فيعلفها خيول المسلمينا فاتصل ذلك بعباد، فسجنه، ودس إليه غرماءه، يطلبونه بما لهم عليه من الديون، فاضطره إلى بيع جارية له كان يقال لها (الأراكة)، وغلام له كان يسمى (بردا)، وكان شديد الكلف به، وقال في بيعه: شريت بردا ولولا ما تكنفني ... من الحوادث ما فارقته أبدا فلما أفرط عباد في تعذيبه، والعبث به، اجتمعت اليمنية، فدخلوا على معاوية، فكلموه في أمره، فلم يشفعهم، فقاموا غضاباً، وعرف الشر في وجوههم، فردهم واسترضاهم، وكتب عهداً بإطلاقه مع رجل من بني راسب، كان يسمى خمخاما، فأخرج ابن مفرغ من السجن، وقربت له بغلة من بغال البريد، فلما استوى على ظهرها قال: (عدس ما لعباد ... البيت). وبعده: طليق الذي نجى من الكرب بعدما ... تلاحم من كرب عليك مضيق قضى لك خمخام قضاك فألحقى ... بأهلك لا سدت عليك طريق لعمري لقد أنجا من هوة الردى ... إمام وحيل للإمام وثيق وقوله (وهذا تحملين طليق): الكوفيون يرون أن (هذا) في هذا البيت موصولة، بمنزلة (الذي)، و (تحملين): صلةلها، كأنه قال: والذي تحملين

طليق. وكذلك قالوا في قوله تعالى (وما تلك بيمينك يا موسى): تقديره عندهم: وما (الذي) بيمينك والبصريون يجعلون تحملين في موضع نصب على الحال، وكذلك قولك بيمينك. وبين الفريقين في ذلك تنازع، ليس هذا موضع ذكره. * * * وأنشد في هذا الباب: (206) (سقتني بصهباء درياقة ... متى ما تلين عامي تلن) هذا البيت لابن مقبل، وبعده: صهابية منزع دنها ... ترجع في عود وعس مرن الصهباء: الخمر التي يضرب لونها إلى الحمرة، وكذلك الصهابية. وقيل: هي التي تعصر من العنب الأبيض. وقوله (درياقة): أراد أنها تشفى من العلل، كما يشفى الدرياق، ويروى: (تصفق)، ومعناه كمعنى ترجع، أي تحول من إناء إلى إناء عند المزج. ويروى الأصمعي: (عن عس عود)، قال الأصمعي: كأنه كان يشرب في قارورة، فصيرها كأنها عود، فقال: في عس عود أي في عس خشب، قال: وسمعت رجلاً يقول: اسقني في قدح عيدان. وروى غيره في عود وعس، وقال: أراد قدح زجاج، والزجاجي عمل من الرمل، والوعس الرمل اللين الموطي. والمرن الذي يصوت إذا فرغ. * * *

وأنشد في باب ما يتعدى والعامة لا تعديه: (207) (قد كاد من طول البلى أن يمصحا) هذا البيت يروى لرؤبة بن العجاج، ولم أجده في ديوان شعره، يصف منزلاً بلى حتى كاد لا يتبين له أثر، ويقال: (مصبح الشيء يمصح): إذا ذهب: * * * وأنشد ابن قتيبة للنابغة: (208) (وعيرتني بنو ذبيان خشيته ... وهل على بأن أخشاك من عار؟) هذا البيت خاطب به النابغة النعمان بن الحارث الغساني، وكان حمى موضعاً يقال له (ذو أقر) أي جعله حمى من الناس، لا يرعى به أحد، فتربعته بنو ذبيان، فنهاهم النابغة عن ذلك، وخوفهم من غارة النعمان وعقابه، فلم يلتفتوا إلى قوله، وعيروه خوفه منه، فبعث إليهم النعمان جيشاً مع النعمان بن الجلاج الكلبي، فأوقع بهم. والباء في قوله بأن أخشاك: بمعنى (في) و (من): زائدة مؤكدة، وتقديره: وهل على عار "في أن أخشاك"، فكأن المجرور في موضع الصفة للعار، فلما قدمه صار في موضع الحال، فالباء لها موضع، وأما (من) فلا موضع لها، لأنها زائدة، وفي تقديم الحال في مثل هذا الموضع خلاف بين النحويين، ليس هنا موضع ذكره. * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (209) (تعيرني أمي رجال ولن ترى ... أخا كرم إلا بأن يتكرما) البيت للمتلمس، واسمه جرير بن عبد المسيح. وقيل: هو جرير بن عبد العزى، وكان نشأ في أخواله بني يشكر، ويقال: إنه ولد فيهم وصحبهم، حتى كادوا يغلبون على نسبه، ويظن منهم، وإنما هو أحد بنى بهثة بن جلى بن أخمس ابن ضبيعة، فسأل عمرو بن هند الحارث اليشكري عن المتلمس، وعن نسبة، فادعاه، فغضب المتلمس، ولذلك قال في هذا الشعر: أحارث إنا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمس دم دما وأصبحت ترجو أن أكون لعقبكم ... زعيماً فما أحرزت أن أتكلما أمنتفيا من نصر بهئة خلتني ... ألا إنني منهم وإن كنت أينما وقوله (ولن ترى أخا كرم إلا بأن يتكرما) يقول: غنما شرف الإنسان بنفسه، لا بآبائه، فإذا كان خسيس النفس، لم ينتفع بشرف قديمه. ومن أحسن ما قيل في هذا قول القائل: قد قال قوم أعطه لقديمه ... جهلوا ولن أعطني لتقدمي فأنا ابن نفسي لا ابن عرضي أحتذى ... بالسيف لا برفات تلك الأعظم وقال آخر: تلقى السرى من الرجال بنفسه ... وابن السرى إذا سرا أمراهما * * *

وأنشد في هذا الباب: (210) (أعيرتني داء بأمك مثله ... وأي جواد لا يقال له هلا) هذا البيت لليلى الأخيلية، قالته للنابغة الجعدي لما هجا سوار بن الحيا بشعره الذي يقول فيه: جهلت على ابن الحيا وظلمتني ... وجمعت قولا جاء يتنا مضللا فاعترضت ليلى الأخيلية بينهما، فقالت: تسلور سوارا إلى المجد والعلا ... وفي ذمتي لئن فعلت ليفعلا فقال النابغة: ألا حسيا ليلى وقولا لها هلا ... فقد ركبت أمرا أغر محجلا بريذينة حك البراذين ثفرها ... وقد شربت من آخر الصيف أيلا فقالت ليلى: أنابغ لم تنبغ ولم تك أولا ... وكنت صنيا بين صدين مجهلا أعيرتني داء بأمك مثله ... وأي جواد لا يقال له هلا فغلبت عليه: (وهلا) زجر يحمل به الذكر على الأنثى، والصنى: شعب ضيق بين الجبال. وقيل: هو تحقير الصنا، وهو الرماد. وقيل هو الشيء الحقير الذي لا يلتفت إليه. وقوله وقد شربت من آخر الصيف أيلا: أراد لبن إيل،

فحذف، وخصه دون غيره، لأنه يهيج الغلمة ويروى: أيلا، بضم الهمزة، وفيه ثلاثة أقوال: قيل: هو لغة في إبل. وقيل: هو اسم للجمع. وقيل: هو اللبن لخاثر، يقال آل اللبن يثول أولاً: إذا خثر. أراد: ألباناً أيلا، فحذف الموصوف. * * * وأنشد في باب ما جاء فيه لغتان استعمل الناس أضعفهما: (211) (نهيت بني عوف فلم يتقبلوا ... رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي) هذا البيت للنابغة الذبياني، قاله في وقعة عمرو بن الحارث الأصغر الغساني ببني مرة بن عمرو بن سعد بن ذبيان، وكان حذرهم إغارته عليهم، فلم يقبلوا منه، وبعد هذا البيت: فقلت لهم لا أعرفن عقائلا ... رعابيب من جنسي أريك وعاقل ضوارب بالأيدي وراء براغز ... حسان كآرام الصريم الخواذل الوسائل: الأسباب التي يتقرب بها، واحدتها وسيلة. يقول: توسلت إليهم بالنصيحة لهمن فلم ينجح ذلك عندهم، وقلت لهم: لا تتعرضوا لأن تسبي عقائلكم وحرمكم فأعرفهن مسبيات. وعقائل النساء كرائمهن، واحدتهن: عقيلة، وهي مشتقة من قولهم: 0 عقلالظبي والوعل عقولا: إذا صعداً في الجبل، فامتنعا فيه ممن يريدهما، يراد أنها ممتنع عزيزة، ويجوز أن تكون مشتقة من قولهم:

(عقلت البعير): إذا شددته بالعقال، لئلا يبرح. يراد أنها ترتبط ويحرص على إمساكها لنفاستها، فتكون في الوجه الأول فاعلة، وفي هذا الوجه فعيلة بمعنى مفعولة، وأثبتوا فيها الهاء، لأنهم أجروها مجرى النطيحة والذبيحة. والرعابيب: البيض النواعم الجسام، واحدتهن: رعبوبة. وأريك: واد. وعاقل: جبل. والبراغز: أولاد البقر، شبه بهن أولادهن. والآرام: الظباء البيض. والصريم الرمل المنقطع. وخصه لأن الظباء تألفه. والخواذل: التي تختلف عن أصحابها، وخصها لأنها فزعة متشوفة، فهو أحسن لها. * * * وأنشد في هذا الباب: (212) (وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها) هذا البيت للفرزدق، واسمه همام بن غالب، ويقال: هميم، كذا قال ابن قتيبة، ويكنى أبا فراس. واختلف قول ابن قتيبة في تلقيبه بالفرزدق، فقال في هذا الكتاب: الفرزدق: قطع العجين، واحدتها: فرزدقة، وهو لقب له، لأنه كان جهم الوجه. وقال في (طبقات الشعراء): إنما لقب الفرزدق لغلظه وقصره، شبه بالفتيتة التي يشربها النساء، وهي الفرزدقة. والقول الأول هو الوجه، لأنه كان أصابه جدرى في وجهه، ثم برأ منه، فبقى وجهه جهما. والشرى: موضع تألفه الأسد. وفي قوله (يستبيلها) ثلاثة أقوال: قيل معناه: يقول لها: ما بالك؟ وقيل: معنى (يستبيهلها) يسعى في الإضرار بها والفساد،

لأن العرب تضرب المثل في الفساد بالبول، ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه، أي أفسد عليه أمره ومنه قول الراجز. إذا رأيت أنجما من السد ... جبهته أو الحزاة والكتد بال سهيل في الفضيخ ففسد ... وطاب ألبان اللقاح وبرد والفضيخ: شراب يصنع من التمر، وهو يفسد عند طلوع سهيل، فلما كان طلوعه سبباً لفساده، جعل سهيلاً كأنه بال فيه. والقول الثالث: أن معنى (يستبيلها): يطلب بولها. وهذا القول أصح الأقوال، ويدل على صحته قوله قبل هذا البيت: ومن دون أبوال الأسود بسالة ... وبسطة أيد يمنع الضيم طولها وهذا الشعر قاله الفرزدق في النوار، وكانت نشزت عليه، وشكت به إلى عبد الله بن الزبير، وله في ذلك حديث مشهور، ولذلك قال في هذا الشعر: لعمري لقد أردى النوار وساقها ... إلى الشأم أقوام قليل عقولها أطاعت بني أم النسير فأصبحت ... على قتب يعلو الفلاة دليلها وفي ذلك يقول بعض الشعراء: لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزاً ... ولو رغبت في وصله لاستقرت * * *

وأنشد في هذا الباب: (213) (بنو عمه دنيا وعمرو بن عامر ... أولئك قوم بأسهم غير كاذب) هذا البيت من شعر النابغة الذبياني المشهور بأيدي الناس، مدح به عمرو ابن الحارث الأعرج الغساني حين هرب إلى غسان لموجدة النعمان بن المنذر عليه. وعمرو بن عامر: من الأزد. وأراد بقوله 0 دنيا): الأدنين من القرابة ويروى (دنيا) بكسر الدال، و (دنيا) بضمها فمن كسر جاز أن ينؤن وألا ينؤن، ومن ضم لم ينون، لأن الفظ فُعل المضمومة لا تكون أبدا إلا للتأنيث. وقوله (بأسهم غير كاذب) أي أنهم لا ينكصون عند الحرب. والعرب تستعمل الصدق والكذب في الأفعال، كما يستعملونها في الأقوال، فيستعملون الصدق بمعنى: التحقيق والإحكام للشيء، والكذب فيما لا يحقق ولا يحكم، ويقولون: حمل عليه فصدق، أي حقق الحملة ولم يرجع، وحمل عليه فكذب: إذا رجع ولم يحقق، ولذلك قالوا: صدقوهم القتال، ونظر صادق، أي محقق. قال خفاف بن ندبة يصف فرساً: إذا ما استحمت أرضه من سمائه ... جرى وهو مودوع وواعد مصدق

وقال الأعشى: جمالية تغثلى بالرداف ... إذا كذب الآثمات الهجيرا وأما إعراب بيت النابغة، فإنه يروى (بنو، وبنى) فمن روى (بنى) جعله صفة لغسان، من قوله: كتائب من غسان غير أشايب أو بدلاً منهم. ومن رفع فعلى وجهين: أحدهما أن يكون خبر مبتدأ مضمر. والثاني: على البدل من تائب. فإن قيل: كيف يصح إبداله من كتائب، وأنت إذا أبدلته منها، صرت كأنك قلت: غزت بنو عمه، وهذا غير جائز، لأن الجمع السالم المذكر لا يؤنث، إنما يؤنث المكسر، ألا ترى أنك لا تقول: قامت الزيدون، إنما تقول: قامت الرجال، فعن هذا جوابان: أحدهما: أن الجمع المذكر السالم قد جاء فيه التأنيث وإن كان قليلاً كنحو قول النابغة: قالت بنو عامر خالوا بني أسد وقوله أيضاً: ولا تلاقي كما لاقت بنو أسد وقوله أيضاً: وقد عسرت من دونهم بأكفهم ... بنو عامر عسر المخاض الموانع

والثاني: أن البدل وإن كان يحل محل المبدل منه، ويوافقه من وجوه، فإنه مخالف له في كثير من أحكامه: فمن ذلك إجازتهم أعجبتني الجارية حسنها، فيؤنثون الفعل وإن كان التقدير أعجبني حسن الجارية، وعلى هذا قراءة من قرأ (تخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) على التأنيث. ومن ذلك أن البدل والمبدل منه وإن كان يقدر أحدهما حالاً محل الآخر، فإن ذلك لا يبطل حكم الأول، ولا يرفعه، ويدل على ذلك جواز إعادة العامل مع البدل، في نحو قوله (للذين استضعفوا لمن آمن منهم) ولذلك قال الفارسي إن البدل يقدر من جملة أخرى. ويدل على ذلك إجازتهم زيد ضربت أباه عمرا. فلو كان المبدل منه ملغي لفظاً ومعنى، لم تجز هذه المسئلة، لأنك لو قلت زيد ضربت عمراً لم يجز. ويدل على جواز ذلك أيضاً ما أنشده سيبويه من قوله: فكأنه لهق السراة كأنه ... ما حاجبيه معين بسواد فأفرد خبر كان، ولم يقل: معينان. ومن كسر دال (دنيا) ونونه، جعله مصدرا، ومن لم ينونه جعل ألفه للتأنيث، وجعله حالاً. * * * وأنشد في باب ما يغير من أسماء الناس: (214) (وداويتها حتى شتت حبشية ... كأن عليها سندساً وسدوساً)

هذا البيت ليزيد بن خذاق العبدي وقبله: ألا هل أتاها أن شكة حازم ... لدى وأنى قد صنعت الشموسا الشكة: السلاح. والشموس: اسم فرسه، ومعنى صنعته إياها: تضميره لها، وحسن قيامه عليها، كما قال طرفة: أدت الصنعة في أمتنها ... فهي من تحت، مشيحات الحزم ومعنى (داويتها): سقيتها الدواء، وهوا للبن وما يداوي به الفرس ليضمر والحبشية السوداء، وإنما يريد ههنا الدهماء، لأن العرب تجعل الخضرة سواداً. وفي البيت الأول من هذين البيتين عيب يسميه العروضيون ترك الاعتماد في الطويل، وهو لزوم القبض لجزئه السابع إذا أدرك ضربه الحذف، ومعنى القبض: ذهاب خامس الجزء فيرجع (فعولن) إلى (فعول) و (مفاعيلن) إلى (مفاعلن). ومعنى الحذف في ضرب الطويل: أن يحذف السبب الأخير من 0 مفاعيلن) فيبقى (مفاعي)، فينقل إلى (فعولن) ن وبيته المعتمد الذي مثل به الخليل: وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ... وما كل مؤت نصحه بلبيب فقوله (حهوب) فعول (لبيبي) فعولن، فإذا جاء الجزء الذي قبل هذا الضرب (فعولن) سالماً غير منقوص، كان عيباً، كقول امرئ القيس: أصاب قطاتين فسال لواهما ... فؤادي البدى فانتحى للأريض

وفي هذه القصيدة أبيات كثيرة من هذا النوع. وقوله: كأن عليها سندساً وسدوساً: جملة في موضع الحال، وفي هذه الحال وجهان: إن شئت كان التقدير مشبهة السندس والسدوس، وإن شئت كان التقدير مظنوناً عليها سندس وسدوس، لأن كان إذا أخبر عنها بالظروف والأفعال والأسماء المشتقة من الأفعال داخلها معنى الظن والحسبان. * * * وأنشد في هذا الباب: (باب فعلت وأفعلت): (215) (ألفيت أغلب من أسد المسد حديـ ... ـد الناب إخذته عقر فتطريخ) هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي، ووقع في بعض النسخ ألفيت بضم التاء، وفي بعضها ألفيت بفتحها وكلاهما على صيغة فعل ما لم يسم فاعله، والصواب ألفيت بفتح الهمزة والتاء، لأن قبله. ثم إذا فارق الأغماد حشوتها ... وصرح الموت إن الموت تصريح وصرح الموت عن غلب كأنهم ... جرب يدافعها الساقي منازيح ألفيته لا يفل القرن شوكته ... ولا يخالطه في البأس تسميح رثى بهذا الشعر حبيباً الهذلي، وهو جد عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأغلب: الغلي العنق. وفي المسد قولان. قال الأصمعي هو موضع، وقال غيره المسد: ههنا مصدر من سددت الشيء أسده، وإنما أراد

الأسد الذين تسد بهم الثغور، والعقر: القتل، ويروي عفر (بالفاء) وهو أن يعفر الفريسة في التراب. والتطريح: الطرح على الأرض ويروى تطويح وهو الأهلاك. والرواية في الأدب بالراء ويروى جبذته، والجبذة والجذبة: سواء. * * * وأنشد في باب ما يغير من أسماء الناس: (216) (لولا ابن عتبة عمرو والرجاء له ... ما كانت البصرة الحمقاء لي وطناً البيت للفرزدق، من شعر يمدح به عمرو بن عتبة ويذم البصرة، ونسب الحمق إلى البصرة وهو يريد أهلها كما قال تعالى: (ناصية كاذبة خاطئة) والمراد صاحب الناصية، ومثله قول أبي كبير الهذلي: حملت به في ليلة مزؤودة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل * * * (217) (جزى الله قومي بالأبلة نصرة ... وبدوا لهم حول الفراض وحضرا)

البيت لعمرو بن أحمر وبعده: هم خلطوني بالنفوس وأشفقوا ... على وردوا البختري المؤمرا الأبلة: موضع بجهة البصرة والفراض: جمع فرضة وهي مشرعة النهر، وأراد بالبختري المتبختر المتكبر، وعني به يزيد بن معاوية وكان قد رفع إليه أنه جاه فهرب. * * * وأنشد في باب فعلت وأفعلت باتفاق معنى: (218) (وأنت لما ظهرت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق) البيت للعباس بن عبد المطلب من شعر يمدح به النبي صلى الله عليه وسلم وبعده: فنحن في ذلك الضياء وفي النو ... ر وسبل الرشاد نخترق وأنشده ابن قتيبة في أدب الكتاب (لما ظهرت)، وانشده في غريب الحديث (لما ولدت) والأفق يذكر ويؤنث. وهذا البيت شاهد على تأنيثه. وقال أبو وجرة في التذكير: تستبرق الأفق الأعلى إذا ابتسمت ... لمع السيوف سوى أجفانها القضب * * *

وأنشد في هذا الباب: (219) (حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلا كما تطرح الجمالة الشردا) هذا البتي لعبد مناف بن ربع الهذلي وصف قوما هزموا حتى ألزموا الدخول في قتائده، وهي ثنية ضيقة. وقال الأصمعي: كل ثنية قتائدة. والإسلاك: الإدخال. والشل: الطرد. والجمالة: أصحاب الجمال، كما يقال الحمارة لأصحاب الحمير، والبغالة لأصحاب البغال. ولم يقولوا فراسة ولا خيالة. والشرد من الإبل: التي تفر من الشيء إذا رأته، فإذا طردته كان اشد لفراردها، فلذلك خصصها بالذكر ولم يأت لإذا في هذا البيت بجواب على ظاهره، ولا بعده بيت آخر يكون فيه الجواب، لأنه آخر الشعر، وفي ذلك ثلاثة أقوال، قال أبو عبيدة: إذا زائدة فلذلك لم يأت لها بجواب. وذهب الأصمعي إلى أن الجواب محذوف كأنه قال: بلغوا أملهم وأدركوا ما أحبوا ونحو ذلك، ومثله قول الراجز: لوقد حداهن أبو الجودى ... برجز مستحنفر الروى مستويات كنوى البرني أراد لأسرعن. وقال قوم: الجواب قوله شلا، أراد شلوهم شلا فاستغنى بذكر المصدر عن ذكر الفعل لدلالته عليه. وهذا أضعف الأقوال، لأن الشل إنما كان قبل إدخالهم في قتائدة. وهذا الرأي يوجب أن يكون بعد ذلك. وقول

أبي عبيدة بعيد لأن "إذا" اسم، والأسماء تبعد زيادتها. وأحسن الأقوال فيه أن يكون الجواب محذوفاً؛ لأن له نظائر كثيرة في القرآن والشعر، ولأن في حذف الأجوبة من هذه المواضع ضرباً من المبالغة كما ذرنا فيما تقدم. فشلا على القول الثالث لا موضع له من الإعراب، غنما هو مصدر محض أكد فعله المضمر الذي هو الجواب. وعلى القولين الأولين هو مصدر له موضع؛ لأنه في تقدير الحال ولك في هذه الحال وجهان: عن شئت جعلتها من الضمير الفاعل كأنه قال: شالين وغن شئت جعلتها من الضمير المفعول كأنه قال: مشلولين. والأقيس أن يكون حالاً من الضمير الفاعل لقوله ما تطرد الجمالة الشردا، فشبه الشل بشل الجمالة وهم الطاردون. وإذا كان حالاً من الضمير المفعول، وجب أن يقال كما تطرد الجمال الشرد، وهو مع ذلك جائز؛ لأن العرب قد توقع التشبيه على شيء والمراد غيره، والكاف في قوله كما في موضع الصفة للشل. كأنه قال: شلا كطرد. وقبل هذا البيت: فالطعن شغشغة، والضرب هيقعة، ... ضرب المعول تحت الديمة العضدا وللقسى أزاميل وغمغمة ... حس الجنوب تسوق الماء والبردا الشغشغة: حكاية صوت الطعن في الأجواف والأكفال، والهيقعة: حكاية أصوات السيوف والمعول الذي يبنى من الشجر عالة تظله من المطر، فهو يقطع الشجر ويجد في قطعها ويسرع لما غشيه من المطر، والعضد ما قطع من الشجر، فإذا أردت المصدر قلت عضد بسكون الضاد والأزاميل والغماغم أصوات مختلطة لا تفهم. * * *

وأنشد في هذا الباب: (220) (وهمه هالك من تعرجا) البيت للعجاج وفيه قولان؛ قال أبو عبيدة: هالك بمعنى مُهلك، وكذلك حكى يونس. وقال: كانت لغة رؤبة بن العجاج هلكني وهلكه الله، فمن على قولهما في موضع نصب. ومن قال لا يجوز هلكته إنما يقال: هلك ... ؟ وأهلكه الله، فمن على رأيه في موضع رفع كأنه قال هالك المتعرج فيه، كما تقول مررت برجل فاره العبد أي فاره عبده وبعد هذا البيت: هائلة أهواله من أدلجا ... إذا رداء ليلة تدجدجا علوت أخشاه إذا ما أحبجا ومعنى تدجدج: اسود واليس كل شيء، وأخشاه: أخوفه، ومعنى أحبجا: تكاثف وعظم. * * * وأنشد في هذا الباب: (221) (فلما جلاها بالإيام تحيزت ... ثياب عليها ذلها واكتئابها)

هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي وصف مشتاراً اشتار عسلاً فطرد النحل عنه بالإيام؛ وهو الدخان، ومعنى جلاها، طردها وكشفها ليأخذ العسل وتحيزت: انحازت إلى جهة فراراً عن الدخان وثبات: جماعات متقطعة، واحدتها ثُبة. يقال: خرج القوم ثبات إذا خرجوا قطعاً قطعاً. ومن روى ثبات بكسر التاء وهو الوجه فلا نظر في روايته. وأما من روى تباة ففتح التاء ففيه قولان: أحدهما أن يكون على لغة من يقول في جمع المذكر السالم هذه سنين فيعرب النون ويجعلها كأنها بدل من لام الفعل، وعلى هذا أثبتوها في الإضافة في قول الشاعر: دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيباً وشيبننا مردا والقول الثاني أن يكون رد لام الفعل في الجمع كما يردها في قولك ثبة وثنى، ولغة ولغى، فتكون الألف الآن، ليست الألف المزيدة للجميع ولكنها بدل من لام الفعل كالتي في قضاة ورماة، وهذا يوجب أن تكتب بالهاء لا بالتاء، وهو رأي الفارسي وشبهه بقول الآخر: تقول ابنتي لما رأت وشك رحلتي ... كأنك فينا يا أبات غريب قال أبو علي: راد يا أبة ثم رد لام الفعل. وأما يعقوب فقال في كتاب القلب والابدال: أراد يا أبتاه ثم قلب، وقوله (عليها ذلها واكتئابها) لك في رفعه وجهان: إن شئت جعلته مرفوعاً بالابتداء

وعليها متضمن للخبر والجملة في موضع الحال، وإن شئت رفعت ذلها واكتئابها بمعنى الاستقرار والجملة أيضاً في موضع الحال. والفرق بين القول الأول والقول الثاني أن "على" في القول الأول موضعها رفع وهي متعلقة بخبر المبتدأ الذي سدت مسده. وهي على القول الثاني في موضع نصب وهي متعلقة بالحال التي سدت مسدها. فتقدير الكلام على القول الأول تحيزت ثبات ذلها واكتئابها عليها، وعلى القول الثاني تحيزت ثبات مستقرا عليها ذلها واكتئابها. ومن النحويين من لا يجيز الابتداء في مثل هذا الموضع. وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. وأنشد لطرفة: أنني لست بموهون فقر وهذا البيت قد تقدم كلامنا فيه. * * * وأنشد في هذا الباب: (222) (أقتلت سادتنا بغير دم ... إلا لتوهن آمن العظم) هذا البيت لا أعلم قائله، والهمزة في قوله: أقتلت يراد بها التقرير والإثبات وإن كان لفظها لفظ الاستفهام، وجاز دخول إلا التي للإيجاب ههنا ولم يتقدم نفي لأن قوته قوة النفي، ألا ترى أنه يؤول إلى معنى ما قتلت سادتنا إلا لما حاولته من

إيهان عظمنا، ولأجل هذا جاز دخول الباء التي يؤكد بها النفي بعد هل في قوله: تقول إذا اقلولي عليها وأقردت ... ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم والباء في قوله بغير دم هي التي تنوب مناب واو الحال في قولهم جاء زيد بثيابه. ألا ترى أن معناه أقتلت "سادتنا" وهم غير ملتبسين بدم. وقوله "آمن العظم" تقديره على مذهب البصريين آمن العظم منا، فحذف. وعلى مذهب الكوفيين آمن عظمنا، فأقام لام المعرفة مقام الضمير. * * * وأنشد في هذا الباب: (223) (عبادك يخطئون وأنت رب ... بكفيك المنايا لا تموت) هذا البيت لأمية بن أبي الصلت ووجدته في بعض ما قرأته من الكتب غير هذا الكتاب. المنايا والحتوف. وكلتا الروايتين خطأ. والصواب: المنايا والحتوم؛ لأن هذا البيت من قصيدة ميمية القوافي، يقول فيها: سلامك ربنا في كل فجر ... برئيا ما تعننك الذموم من الآفات ست لها بأهل ... ولكن المسيء هو اللئيم عبادك يخطئون وأنت رب ... بكفيك المنايا والحتوم

وأنشد في باب أفعلت الشيء عرضته للفعل: (224) (فرضيت آلاء الكميت فمن يبع ... فرساً فليس جوادنا بمباع) هذا البيت للأجدع بن مالك الهمداني أنشده الأصمعي والمفضل في اختياراتهما، وآلاؤه: خصاله. وقيل آلاؤه: نعمه وأياديه، جعل تخليصه إياه من المهالك نعما أولاه إياها، وقبله والخيل تعلم أنني جاريتها ... بأجش لا ثلب ولا مظلاع يهدي الجياد وقد تزايل لحمه ... بيدي فتى سمج اليدين شجاع * * * وأنشد في باب أفعلت الشيء وجدته كذلك: (225) (تمنى حصين أن يسود جذاعه ... فأمسى حصين قد أذل وأقهرا) هذا البيت للمخبل السعدي من شعر يهجو به الزبرقان بن بدر واسمه حصين، وكان رهط حصين يلقبون الجذاع، ومعنى أذل وأقهرا: وجد ذليلاً مقهوراً حين لم يكن له ناصر إلا جذاعه. وكان الأصمعي يروى أذل وأقهرا بفتح الهمزة والذال والهاء وقال معناه: جاء بذل وبما يقهر فيه، كما تقول أخس الرجل: إذا أتى بخسيس من الفعل. وألام: إذا أتى بما يلام فيه. وحكى أبو عبيد عن

الأصمعي في تفسير قوله أذل وأقهرا، أي صار أصحابه أذلاء مقهورين، وبعد هذا البيت: وعضى بنى عوف فأما عدوهم ... فأرضى، وأما العز منهم فغيرا ومعنى عض: فرق وبدد. * * * وأنشد في هذا الباب: (226) (قمضى وأخلف من قتيلة موعدا) البيت لأعشى بكر وصدره: أثوى وقصر ليله ليزودا ووقع في بعض النسخ (فمضت) وهو غلط لأن المعنى أن هذا العاشق أقام وهو قد عزم على السفر منتظرا لما وعدته به محبوبته من التزويد، وقصر عنه الليل الطويل لشدة حرصه ثم مضى ولم تف له بما وعدته به، وأراد بالتزويد: الوداع والسلام، ويدل على أنه الماضي لا هي قوله بعد هذا البيت: ومضى لحاجته وأصبح حبلها ... خلقا وكان يظن أن لن ينكدا

ويقال ثوى الرجل وأثوى: إذا أقام، ويروى (ليله) مضافاً إلى الضمير (وليلة) على التأنيث والتنكير، ومعنى أخلف: وجده خلفاً، وإنما يصح فمضت بالتأنيث في رواية من روى ليلة بالتنكير، يريد فمضت الليلة. * * * وأنشد في هذا الباب: (227) (وأهيج الخلصاء من ذات البرق) هذا البيت لرؤبة بن العجاج، وصف حماراً وحشيا وبعده: وشفها اللوح بمأزول ضيق ... وحل هيف الصيف أقران الربق قوله (وأهيج الخلصاء) أي: وجدها هائجة النبات، وحينئذ يحتاج إلى شرب الماء ووروده؛ لأن النبت إذا كان أخضر استغنى به عن الماء، فإذا جف: عطش. والهائج من النبات الذي يصفر ويأخذ في الجفوف. والحلصاء: فلاة والبرق: جمع برقة وهي أرض فيها طين مختلط برمل وحجارة، وشفها: جهدها وشق عليها. واللوح العطش. وقوله بمأزؤل ضيق: أي بأمر شديد مضيق عليها فيه. والأزل: الشدة، وأراد أن يقول: ضيق بسكون الياء فحركه للضرورة كما قال زهير: (فلم ينظر به الحشك)

وقوله: (وأهيج) كان القياس أن يقول (أهاج) فجاء به على أصله ضرورة كما قال الآخر: صددت فأطولت الصدود، وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم والهيف: ريح حارة تأتي من قبل اليمن، فإذا هبت جففت النبات ونشفت المياه. والأقران: الحبال. والربق حبال تشد بها صغار الغنم واحدتها ربقة. وهذا مثل يقول: كانوا في ربيع مجتمعين، فلما جاء الصيف، وهبت الهيف، افترقوا يطلبون النجعة والمواضع المخصية كما تفترق البُهم إذا حلت أرباقها. * * * وأنشد في باب أفعل الشيء أتى بذلك: (228) (ومن يخذل أخاه فقد ألاما) هذا البيت لامرأة من بني حنيفة وصدره: (تعد معاذرا لا عذر فيها) وكان سبب قولها الشعر: أن رجلاً من بني أبي بكر بن كلاب، قدم اليمامة ومعه أخ له، فكتب له عمير بن سلمى الحنفي: أنه له جار؛ فقتل أخاه (قرين) أخو عمير في أمر اختلف في حقيقته، فأتى الكلابي قبر سُلمى أبي عمير، فاستجار به وقال: وإذا استجرت من اليمامة فاستجر ... زيد بن يربوع وآل مجمع وأتيت سلميا فعذت بقبره ... وآخو الزمانة عائذ بالأمنع

أقرين إنك لو رأيت فوارسي ... بعمايتين إلى جوانب ضلفع حدثت نفسك بالوفاء، ولم تكن ... للغدر خائنة مغل الأصبع فلجأ قُرين على قتادة بن مسلمة الحنفي معتصما به فعرض قتادة على الكلابي قبول الدية، وضاعفها، فأبى من قبولها. وكان عمير غائباً فلما قدم أعلم بما حدث، وإن الكلابي قد أبى من أخذ الدية فشد أخاه وثاقاً ومضى به حتى قطع الوادي فربطه إلى نخلة وقال للكلابي: أما إذ أبيت قبول الدية فأمهل حتى أقطع الوادي وأغيب عنك. ثم أقتل صاحبك وأرتحل عن جواري فلا خير لك فيه. فقتله الكلابي ورحل هارباً، فقال عمير: قتلنا أخانا للوفاء بجارنا ... وكان أبونا قد تجير مقابره فقالت أم عمير: تعد معاذرا لا عذر فيها ... ومن يخذل أخاه فقد ألاما * * * وأنشد في باب أفعلت الشيء جعلت له ذلك: (229) (كأنها ظبية تعطو إلى فنن ... تأكل من طيب والله يرعيها) هذا البيت لا أعلم قائله. شبه محبوبته بظبية تمد عنقها إلى أفنان الشجر فترعاها. ووصف الظبية بهذه الصفة لأنها حينئذ تمد عنقها وتقف على رجليها فيبين

حسنها وطول عنقها، وأراد أنها في خصب ونعمة، وذلك من كمال حسنها ومعنى تعطو: تتناول، والفنن: الغصن، وبعد هذا البيت: إنى لأكنى بأجبال أجبلها ... وذكر أودية عن ذكر واديها عمداً ليحسبها الواشون غانية ... أخرى، وتحسب أنى لا أباليها * * * وأنشد في باب أفعل الشيء [في نفسه] وأفعل الشيء غيره: (330) (أضاءت لنا النار وجهاً أغـ ... ـر ملتبساً بالقلوب التباسا) البيت للنابغة الجعدي، وبعده: يضيء كضوء سراج السليـ ... ـط لم يجعل الله فيه نحاسا ومعنى أضاءت لنا النار وجهاً: بينته لنا بضوئها، حتى رأيناه، لأنه وصف أنه أقبل إليها في الليل البهيم، فقال قبل هذا البيت: فلما دونونا لجرس النبوح ... ولا نلمس الحي إلا التماسا ومعنى التباسه بالقلوب: امتزاجه بها لمحبتها فيه، والسليط: الزيت، وقيل: هو دهن الشيرج، ويقال صليت بالتاء، والنحاس: الدخان.

وأنشد في باب فعل الشيء وفعل الشيء غيره: (231) (قد جبر الدين الإله فجبر) البيت للعجاج، من شطر يمدح به عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان عبد الملك بن مروان قد وجهه لقتال أبي فديك الحروري، فأوقع به وبأصحابه، فلذلك ذكر انجبار الدين، وبعده: وعور الرحمن من ولى العور ... فالحمد لله الذي أعطى الشبر موالى الخير إن المولى شكر والشبر: الخير، ويروى الحبر: وهو السرور، ويروى موالي الخير بفتح الميم يريد العبيد، فمن رواه هكذا جعله مفعولاً ثانياً لأعطى. وروى إن المولى (بفتح الميم) ويروى موالي بضم الميم، فمن رواه هكذا جعله من صفة الله تعالى ونصبه بفعل مضمر على معنى المدح والثناء، وروى عن المولى بضم الميم. * * * وأنشد في باب فعلت [وفعلت] بمعنيين متضادين: (232) (قال هجدنا فقد طال السرى)

البيت للبيد بن ربيعة العامري وتمامه: وقدرنا إن خنا الدهر غفل ومجود من صبابات الكرى ... عاطف النمرق صدق المبتذل وصف نفسه بالجلد في السفر وكثر السهر حتى يتأذى رفيقه بذلك ويعرض عليه النزول والتعريس فيأبى ذلك. وأصل المجود: الذي أصابه جود من المطر، فشبه به الذي غلبه النوم. وصبابات: جمع صبابة وهي بقية الماء، فضربها مثلاً لبقية النوم. وقوله عاطف النمرق: يريد أنه ثنى نمرقته تحت رأسه ونام. والمبتذل ههنا مصدر بمعنى الابتذال، ومعنى هجدنا: خلن ننام ونستريح. وقوله: وقدرنا. يقول: قد قدرنا على ما نريد، ووصلنا إلى ما نحب إن غفل عنا الدهر ولم يفسد علينا أمرنا، فلم نجهد أنفسنا بطول السرى ونمنع أعيننا لذيذ الكرى. * * * وأنشد في باب أفعلته ففعل: (233) (ولا يدى في حميت السكن تندخل) هذا البيت للكميت بن زيد الأسدي وصدره. لا خطوتي تتعاطى غير موضعها والحميت: زق السمن، والسكن: أهل الدار، وأراد ههنا الحي. يقول لا أخطو إلى ريبة ولا أخرق جلود الحي بالشتم. كذا فسره بن قتيبة في المعاني والخطوة بفتح الخاء المصدر والخطوة: بضم الخاء ما بين القدمين، وقيل هما بمعنى واحد. * * *

وأنشد في هذا الباب: (234) (وأبى الذي ورد الكلاب مسوماً ... بالخيل تحت عجاجها المنجال) البيت للفرزدق، والمسوم: الذي يعلم نفسه بعلامة يعرف بها، والعجاج الغبار، والمنجال: الحابل المضطرب، وأراد بقوله ورد الكلاب الكلاب الأول وهو واد كانت فيه وقعة بين سُلمى بن الحارث وشرحبيل بن الحارث الملكمين عمي امريء القيس بن حجر. وكانت تميم مع شرحبيل، وكانت تغلب مع سلمى فقتل في ذل اليوم شرحبيل وذلك قال امرؤ القس: (ولا أنسى قتيلاً بالكلاب) وأما الكلاب الثاني فلم يشهده أبوه، وكان بين عبد يغوث بن وقاص الحارثي وقيس بن عاصم المنقري وبعد بيت الفرزق: تمشى كواتفها إذا ما أقبلت ... بالدارعين تكدس الأوعال والكواتف: التي تحرك أكتافها إذا مشت، وتكدس الأوعال: مزاحمة بعضها بعضا. * * * وأنشد في باب معاني أبنية الأفعال: (235) (ما زلت أفتح أبواباً وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار)

البيت للفرزدق، والفتح والإغلاق هنا مثلان لما استغلق عليه من الأمور وما انفتح ويعني بأبي عمرو هذا أبا عمرو بن العلاء: * * * وأنشد في باب أفعلت ومواضعها: (235) (وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه) (وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه) البيتان لذي الرمة، والربع: الدار حيث كانت وأما المربع فالمنزل في الربيع خاصة. وقوله وأسقيه، أي أدعو له بالسقيا. ويقال: بثثته ما في نفسي وأبثثته: ذا اخبرته بما تنطوي عليه وتسره. والملاعب: المواضع التي يلعب فيها الولدان. وبعدهما بأجرع مقفار بعيد من القرى ... فلاة وحفت بالفلاة جوانبه * * * وأنشد ابن قتيبة في باب تفاعلت ومواضعها: (236) (إذا تخازرت وما بي من خزر) هذا الرجز يروى لعمرو بن العاص، ويروى لأرطاة بان سهية المري وبعده:

ثم كسرت العين من غير عور ... ألفيتني ألوى بعيد المستمر أحمل ما حملت من خير وشر ... كالحية النضناض في أصل الحجر التخارز: النظر بمؤخر عينه تداهيا ومكرا، فإن كان خلقة فهو خزر. وقوله ثم كسرت العين يحتمل تأويلين، أحدهما أن يفعل ذلك تداهيا، والآخر انه يريد أن يتغامى عن بعض الأمور كأنه لا يراه. ويشبه المعنى الأول قول الشاعر: إن جئت أرضا أهلها كلهم ... عور فغمض عينك الواحده والألوى: الشديد الخصومة، والمستمر المذهب، وهو مصدر جاء على صيغة المفعول من استمر يستمر إذا ذهب. ويجوز أن يريد بالمستمر العزيمة والرأي، وقوله (أحمل ما حملت من خير وشر) يريد أنه قدير على فعل كل واحد منهما إذا شاء. والنضناض من الحيات: الذي يخرج لسانه ويحركه. وجعله في أصل الحجر لأنه أشد لتحريكه لسانه وتقليبه عينيه وتشوفه من كل من يمر به وهو نحو قول كثير: يقلب عيني حية بمجازة ... إذا أمكنته شده لا يقبلها والمجازة الموضع الذي يجوز عليه الناس. * * * وأنشد في هذا الباب: (237) (وقيس عيلان ومن تقيسا)

هذا البيت للعجاج وقبله: وإن دعونا من تميم أرؤسا ... والرأس من خزيمة العرندسا الرأس: الرئيس، يقال فلان رأس قومه. والرأس أيضاً: القوم إذا عزوا وكثروا. قال ذو الرمة: تبرك بالسهل الفضاء وتتقي ... عداها برأس من تميم عرمرم والعرندس: الشديد: وتقيس: انتمى إلى قيس. * * * وأنشد في باب استفعلت ومواضعها: (238) (ومستخلفات من بلاد تنوفة ... لمصفرة الأشداق حمر الحواصل) البيت لذي الرمة، ويعني بالمستخلفات قطا تستقي الماءفي حواصلها لفراخها وتأتيها به فتزفها. ويعني بالمصفرة الأشداق: فراخها والتنوفة: القفر. وبعد هذا البيت: صدرن بما أسارت من ماء آجن ... صرى ليس من أعطانه غير حائل سوى ما أصاب الذئب منه وربة ... أطافت به من أمهات الجوازل

وأنشد في [باب افعوعلت وأشباهها]: (239) (فلما أتى عامان بعد فصاله ... عن الضرع واحلولي دماثا يرودها) البيت لحميد بن ثور الهلالي يصف حوار ناقة وقبله: وصهباء منها كالسفينة نضجت ... به الحول حتى زاد شهراً عديدها طوت دون مثل القلب منها ألفة ... كأردية من بركة تستجيدها الصهباء: الناقة التي فيها حمرة وبياض، وشبهها بالسفينة في عظم خلقها. والتنضيح: أن تزيد أياماً على مدة حملها المعهودة، فيجيء الولد قوى الخلقة محكم البنية: والقلب السوار من الفضة، شبهه به في بياض لونه وتثنيه في بطن أمه. والألفة ما يلتف فيه الولد في الرحم. وبركة: موضع. والدماث: جمع دمث وهو: المكان اللين التربة الكثير النبات. ومعنى يرودها: يأتيها للرعي وجواب لما هو في بيت بعد هذا وهو قوله: رماه المماري بالتي فوق سنه ... بسن إلى عليا ثلاث يزيدها أراد أنه لعظم خلقه يتمارى فيه من رآه فيقول بعضهم له من السن كذا، ويقول آخر بل له من السن كذا ثلاثة أعوام على حقيقة سنة.

وأنشد في هذا الباب: (240) (سود كحب الفلفل المصعرر) هذا البيت لا أعلم من قائله وأنه يصف بعراً فشبهها في اسودادها واستدارتها وامحاقها لطول اعهد بحب الفلفل، كما قال امرؤ القيس: ترى بعر الآرام في عرصاتها ... وقيعانها كأنه حب فلفل والمصعرر: المستدير. * * * وأنشد في باب المبدل: (241) (نصي الليل بالأيام) وهذا صدر بيت لذي الرمة والبيت بكماله: نصى الليل بالأيام حتى صلاتنا ... مقاسمة يشتق انصافها السفر وبعده: نبادر إدبار الشعاع بأربع ... من اثنين عند اثنين مماسهما قفر

يصف أنهم يصلون الليل بالنهار في مداومة السفر فيقصرون الصلاة. وقوله (نبادر إدبار الشعاع)، يقول: نبادر بصلاة العصر قبل ميل الشمس للغروب فأصلى أنا ركعتين ورفيقي ركعتين، فتلك أربع ركعات بيننا. وقوله من اثنين يعني من رجلين هو ورفيقه. وقوله: عند اثنين أي عند جملين وممساهما: مكانهما الذي أمسيا فيه. * * * وأنشد في هذا الباب: (242) (وإن ريع منها أسلمته النوافز) البيت للشماخ بن ضرار وصدره: هتوف إذا ما خالط الظبي سهمها وصف قوساً وقوله هتوف أراد أنها مصوتة عند الرمي. وريع: أفزع وأسلمته: خذلته والنوافز والنواقز بالفاء والقاف: القوائم لأنها تنفز وتنقز أي تثبت يقول: إذا فزع الظبي من صوت القوس أسلمته قوائمه فسقط، ويروى قذوف، وهي الشديدة القذف بالسهم، وهو أحسن من الرواية الأولى لأنه قال قبل هذا البيت: إذا أنبض الرامون عنها ترنمت ... ترنم ثكلى أوجعتها الجنائز فقوله ترنمت يغنيه عن قوله هتوف.

وفي البيت المتقدم شيآن يحتاجان إلى جواب وهما: إذا وغن. فإن شئت جعلت قوله أسلمته النوافز جواباً لإن وحذفت جواب إذا، فيكون التقدير: إذا ما خالط الظبي سهمها أسلمته النوافز. يريد أنه يسقط إلى الأرض من الفزع وإن لم يخالطه سهمها، كما سقط إذا خالطه. وإن شئت جعلت قوله (أسلمته النوافز) جواباً فإذا وحذفت جواب إن، والأول على مذهب سيبويه لأنه يختار حمل الشيء على ما قرب منه، والثاني على مذهب القراء وأصحابه: لأنهم كانوا يختارون الحمل على الأسبق. ويجوز في رواية من روى (هتوف) أن يكون التقدير إذا ما خالط الظبي سهمها هتف فاستغنى عن ذكر هتفت لما تقدم من قوله هتوف، كما تقول أنا شاكر لك عن أحسنت إليّ، فلا تأتي للشرط بجواب استغناء بما تقدم من الكلام، فغن قيل إن حمله على هذا التأويل يضعف المعنى، لأنه يصير المعنى أنها لا تهتف إلا عند مخاطلة سهمهتا للظبي، والقوس يهتف على كل حال خالطه سهمها أو لم يخالطهن فالجواب أن من ذهب هذا المذهب فالمعنى عنده أن الظبي لا يسمع صوتها غلا بعد مخالطة سهمها إياه، لأن سهمها يسبق إليه قبل وصول صوتها إلى أذنيه. * * * وأنشد في هذا الباب: (243) (فليست بطلق ولا ساكره) هذا البيت لأوس بن حجر الأسدي، وكانت ناقته جالت به بني مكانين يقال لأحدهما شرج وللآخر ناظره، فسقط فانكسرت فخذه، فقال في ذلك:

خذلت على ليلة ساهرة ... بصحراء شرج إلى ناظره تزاد ليالي في طولها ... فليست بطلق ولا ساكره أنوء برجل بها ذهنها ... وأعيث بها أختها العاشرة كأنى أطاول شوك السيال ... تشك به مضجعي شاجره يقال ليلة طلق وطلقة إذا اكنت حسنة لا حر فيها ولا قر ولا شيء يؤذي ويكره، والساكرة: الساكنة الريح. وقوله: أنوء: أي أنهض من تثاقل لانكسار رجلي، والذهن ههنا القوة. والإعنات: الإضرار والمشقة، والسيال: شجر له شوك، يقول، كأن على مضجعي شوك السيال فلا أقدر على النوم ويقال شجر الشيء شجرا إذا دخل بعضه ببعض. * * * وأنشد في هذا الباب: (244) (فهي تئوخ فيها الإصبع) هذا بعض عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي والبيت بكماله: قصر الصبوح لها فشرج لحمها ... بالنيء فهي تئوخ فيها الإصبع وصف فرساً سقاها صاحبها اللبن وقصر عليها الصبوح منه، أي حبسها عليها، واختصها به، حتى قويت وكثر لحمها وسمنت. وكان الصمعي يعيب هذا البيت ويقول أحسبه كان سمنها للذبح. إنما توصف الفرس بشدة اللحم ويبسه لا بأن الإصبع تئوخ فيه. قال: والجيد قول امريء القيس:

بعجلزة قد أترز الجرى لحمها ... كميت كانها هراوة منوال وقال غير الأصمعي: لم يرد أن لحمه رخو تثوخ فيه الإصبع وإنما أراد أن أعلاها ريان من اللحم، فلو كانت الإصبع مما يمكن أن تثوخ فيها لثاخت. وسماوة الفرس توصف بالامتلاء من اللحم وإنما يستحب قلة اللحم في قوائمه كما قال الآخر: وأحمر كالديباج أما سماؤه ... فرياً، وأما أرضه فمحول ويروى فشرج لحمها بالرفع، أي صار شريحين أي خليطين من لحم وشحم. ويروى لحمها بالنصب ومعناه أن الصبوح هو الذي فعل بها ذلك. والضمير في قوله قصر يرجع إلى شجاع ذره قبل هذا البيت في قوله: والدهر لا يبقى على حدثانه ... مستشعر حلق الحديد مقنع تعدو به خوصاء يفصم جريها ... حلق الرحالة فهي رخو تمزع * * * وأنشد في [باب إبدال الياء من أحد الحرفين المثلين إذا اجتمعا]: (245) (تقضي البازي إذا البازي كسر) هذا البيت للعجاج من شعر يمدح به عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان عبد الملك بن مروان وجهه إلى أبي فديك الحروري حين خرج عليه فأوقع به، وقبله:

حول ابن غراء حصان إن وتر ... فات وإن طالب بالوغم اقتدر إذا الكرام ابتدروا الباع أبتدر ... داني جناحيه من الطور فمر الوغم: الحقد، والباع: اشرف، وسمى باعاً لأن الطالبين للشرف لا يصلون إليه إلا بالسير الحثيث الذي يحتاج فيه إلى امتداد الباع وسعة الخطو، وقوله (دانى جناحيه من الطور): شبهه بطائر ضم جناحيه إلى نفسه وانقض على الصيد، ويحتمل أن يكون شبهه بالعقاب وشبه الجيش حوله بالجناحين لأن جيشه أنهضه إلى ما أراد، كما تنهض العقاب جناحاها. وقد سرق أبو الطيب هذا المعنى فأبدع فيه وذلك قوله يهز الجيش حولك جانبيه ... كما نفضت جناحيها العقاب ومعنى كسر: ضم جناحيه وانقض وقوله تقضي: أراد تقضض فأبدل الضاد التي هي لام الفعل ياء استثقالاً لاجتماع المثال وكسر ما قبلها لتصح، وانتصابه على المصدر المشبه به، والتقدير دانى مداناة مثل تقضي البازي، والأجود حمله على المرور لقربه منه. وفيه نوع آخر من المجاز، وذلك أن مروره ومداناته جناحيه يفيد معنى الانقضاض، فكأنه قال: تقضي تقضي الباز فهو من المصادر المحمولة على المعاني.

وأنشد في هذا الباب: (246) (باتت تكره كره الجنوب) لا أعلم قائل هذا البيت ولا أحفه على هذه الصفة والذي أحفظه في شعر عبيد بن الأبرص: باتت تكركره الصبا ... وهنا وتمريه خريقه وأحفظ في شعر أبي داود: إذا كركرته رياح الجنو ... ب ألقحن منه عجافاً حيالا يصفان سحاباً تحمله الريح، والصبا الريح الشريقة، والجنوب الريح القبلية والوهن مقدار ثلث الليل وتمريه: تستخرج ماءه يقال مريت ضرع الشاة وخلف الناقة: إذا حلبتها، والخريق: الريح الشديدة. والعجاف من الإبل وغيرها: الهزيلة، والحيال: التي لا تحمل، وأراد بالعجاف الحيال ههنا: الأرضين المجدبة التي لا نبات فيها لما أصابها هذا المطر أنبتت، فكانت كإبل حائلة ضربها الفحل فألقحها. * * *

وأنشد في هذا الباب: (247) (ويخلفن ما ظن الغيور المشفشف) البيت للفرزدق، وصدره: موانع للأسرار إلا لأهلها وبعده يحدثن بعد اليأس من غير ريبة ... أحاديث تشفى المدنفين وتشغف وصف نساء عفائف عن الفواحش يظن بهن الغيور من أهلهن الظنون السيئة، وهن بريئات من ذلك. والمشفشف: الذي شفته الغيرة عليهن، أي جهدته وأتعبته وأراد المشفف فأبدل إحدى الفاءات شينا. * * * وأنشد في باب ما أبدل من القوافي: (248) (والله ما فضلى على الجيران ... إلا على الأخوال والأعمام) هذا الرجز لأبي الجراح العقيلي، والمراد بالفضل ههنا: الإنعام والإفضال، ولم يرد الفضل الذي هو الشرف، وفي الكلام حذف تقديره والله ما فضلي على

الجيران إلا فضلي على الأخوال والأعمام، ويعني بالجيران من استجار به. يقول: ما أوليته جيراني من الفضل فإنما أوليه أخوالي وأعمامي، لأني أشيد بذلك شرفهم وأبر عشيرتي وسلفي ببرهم. فسبيلي أن التزم الوفاء لمن استجا بي ولا أغدر بمن تعلق بحبلى، فحذف الفضل الثاني الذي تتعلق به على اختصاراً. * * * وأنشد في هذا الباب: (249) (يا رب جعد فيهم لو تدرين ... يضرب ضرب السبط المقاديم) هذا الرجز لا أعلم قائله وزاد كراع قبله: قالت سليمي لا أحب الجعدين ... ولا القصار إنهم مناتين وأراد بالمقاديم ههنا الرؤوس لأنها مقاديم الحيوان، وهي في موضع نصب بيضرب لا بالضرب كأنه قال: يضرب المقاديم ضرب السبط فقدم وأخر. ولك في المقاديم وجهان: إن شئت جعلتها جمع المقدم الخفيف الدال الساكن القاف، فتكون الياء زائدة لإشباع الكسرة كالتي في قوله: نفي الدراهم تنقاد الصياريف

وإن شئت جعلتها جمع المقدم المشدد الدال، فتكون الياء عوضاً عن إحدى الدالين الساقطة في التكسير. ومن روى ولا السباط فقد غلط لأنها كانت تحب السباط وتريدهم، والشعر يدل عل ذلك. * * * وأنشد في هذا الباب: (250) (كأن أصوات القطا المنقض ... بالليل أصوات الحصى المنقز) قال أبو علي هكذا رويته عن ابن قتيبة المنغص بالغين المعجمة والصاد غير المعجمة وهو من الغصص ومعناه المختنق، ورويته عن غير ابن قتيبة المنقض بالضاد المعجمة والقاف وهو الصواب، شبه صوت انقضاض القطا إذا انقضت بأصوات الحصى إذا قرع بعضها ببعض والمتنقز: المتوثب. يقال: قز وانقز إذا وثب. * * * وأنشد في هذا الباب: (251) (والله لولا شيخنا عباد ... لكمرونا عندها أو كادوا) (فرشط لما كره الفرشاط ... بفيشة كأنها ملطاط)

معنى كمرونا: غلبونا بعم كمرهم، والكمر: جمع كمرة وهي رأس الذكر. والفرشطة والفرشاط. فتح الفخذين. والملطاط: شفير الوادي والنهر وقال أبو بكر بن دريد: الملطاط أشد انخفاضاً من الفائط وأوسع منه قال غيره الملطاط عظم ناتيء في رأس البعير. وصف قوماً تفاخروا بعظم كمرهم فكان المفاخرون لهم يغلبونهم حتى أخرج شيخهم عباد كمرته فغلبهم. وهذا الرجز يمكن أن يكون من الشعر الذي يسمى المختص وهو نوع من الرجز لكل بيتين قافية تخالف قافية بيتين آخرين فلا يكون من هذا الباب. * * * وأنشد في هذا الباب: (252) (كأن تحت درعها المنقد ... شطا رميت فوقه بشط) هذا الرجز لأبي النجم، والمعروف (كأن تحت درعها المنعط) وهذا لا ضرورة فيه، وكذلك أنشده الحاتمي وذكر الأصبهاني أن الجنيد بن عبد الرحمن المرى بعث إلى خالد بن عبد الله القسري بسبي من الزط بيض، فجعل خالد يهب أهلي البيت كما هو للرجل من رجال قريش، حتى بقيت جارية منهن جميلة وعليها فوطتان فقال لأبي النجم: هل يحضرك فيها شيء وتأخذها الساعة؟ فقال العريان بن الهيثم النخعي - وكان على شرطته-: والله ما يقدر على ذلك. فقال أبو النجم: علقت خودا من بنات الزط ... ذات جهاز مضغط ملط ربي المجس حسن المخط ... كأنما قط على مقط

كان تحت ثوبها المنعط ... إذا بدا منها الذي تغطى شطا رميت فوقه بشط ... لم ينز في البطن ولم ينحط فيه شفاء من أذى التمطي ... كهامة الشيخ اليماني الثط وأوما بيده إلى العريان وكان العريان ثطا وهو القليل شعر اللحية. فضحك خالد وقال له: خذها ثم قال: يا عريان: هل تراه احتاج إلى أن يروى فيها؟ قال: لا والله ولكنه ملعون ابن ملعون. والمنقد والمنعط سواء وهو المنشق المنخرق. وقال ابن قتيبة الثط: السنام. وقال الخليل الشط شق السنام وهو أحسن في التشبيه، والجهاز: الفرج. * * * وأنشد في هذا الباب: (253) (إذا نزلت فاجعلوني وسطا ... إني كبير لا أطيق العندا) وفسره فقال العند: الجانب، ورواه أبو بكر بن دريد العندا بضم العين وتشديد النون جعله جمع عائد وهو المائل المنحرف، وزاد بعده: ولا أطيق البكرات الشردا

وقد يجوز لقائل أن يقول ما الذي يمنعكم أن جعلوا الألف حرف الروى فيهذين البيتين فلا يكونان من هذا الباب، وقد وجدناهم استعملوا الألف رويا في نحو قوله: نأت دار ليلى وشط المزار ... فعيناك ما تطعمان الكرا ومر بفرقتها بارح ... فصدق ذاك غراب النوى فالجواب: أن الذي يمنع من ذلك أن الألف التي في قوله وسطا هي التي تبدل من التنوين في الوقف في نحو قولك رأيت زيدا، والألف التي في قوله العندا هي التي تزاد لإطلاق القوافي المنصوبة في نحو قوله: أقلى اللوم عاذل والعتابا ... وقولي عن أصبت لقد أصابا وهاتان الألفان لا يجوز أن تكونا رويا، فلذلك عدلنا عنه. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (254) (أبلج لم يولدبنجم الشح ... مميم البيت كريم السنح)

هذا الرجز يروى لرؤبة بن العجاج ولم أجده في ديوان شعره، والميمم: المقصود لكرمه، والسنخ والسنج بالخاء والجيم: الأصل، وقد روى السنح بالحاء غير معجمة. * * * وأنشد في هذا الباب: (255) (كأنها والعهد منذ أقياظ ... أس جراميز على وجاذ) قد ذكرنا في الكتاب الثاني أن الصواب (مذ أقياظ) بحذف نون منذ وإطلاق القافية لأن الرجز كله كذلك. وأنشد أبو عمرو الشيباني في نوادره: أتعرف الدار بذي أجراذ ... دار لسعدي وأبنني معاذ إذ النوى تدنو عن الخواذ ... لم يبق منها رهم الرذاذ ومر ريح سيهك هذاذ ... غير أثافى مرجل جواذى كأنها والعهد مذ أقياظ ... أس جراميز على وجاذ وفسره فقال الجواد: التفرقن والأس: الأصل، والجراميز: الحياض الواحد جرمز، والوجاذ: الصفا ولم نسمع له بواحد، كذا قال الشيباني. وقال غيره واحدها وجذ، وكذا قال سيبويه. والهذاذ: السريعة والسيهك والسيهج التي نسهك الأرض وتسجها أي تسحقها وتذرى ترابها. والرهم:

الأمطار الضعيفة والجواذي: المنتصبات، يقال جذا يجذوا إذا قام على أطراف أصابعه. وانشد الأصمعي بعد هذا الرجز وذكر أنه لعمرو بن جميل ولم يذكر فيه البيتين اللذين أنشدهما ابن قتيبة. * * * وأنشد في هذا الباب: (255) (حشورة الجنبين معطاء القفا ... لا تدع الدمن إذا الدمن طفا) ألا بجزع مثل أثباج القطا الحشورة: العظيمة، والمعطاء: التي تساقط شعرها. والدمن: الزبل، والأثباج: الأوساط. يصف ناقة قد اشتد عطشها فهي تشرب الماء بما يطفو عليه من الزبل ولا تعافه، ونظيره قول عوف بن عطية بن الخرع: وتشرب أسار الحياض تسوفها ... ولو وردت ماء المريرة آجما أراد آجنا، وهو المتغير، فأبدل النون ميماً. وشبه جرعاتها في عمها بأثباج القطا. وأنشد ابن قتيبة ومن رأى رأيه هذا الرجز على أن الفاء هي حرف الروى، فلذلك جعله من هذا الباب. وقد يمكن أن تكون الألف هي حرف فلا يكون الروى في الرجز عيب وقد ذكرنا ذلك. * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (256) (قبحت من سالفة ومن صدع ... كأنها كشية ضب في صقع) هذا الرجز لجواس بن هريم. والسالفة: صفحة العنق: والكشية: شحمة بطن الضب. والصقع: الناحية من الأرض، ويروى صقغ بالغين معجمة. هجا امرأة وشبه سالفتها وصدغها في اصفرارهما بكشية ضب في صقع من الأرض، وأراد أن يقول من سالفتين ومن صدغين فلم تمكنه التثنية، فوضع الواحد موضع الاثنين اكتفاء بفهم السامع كما قال الآخر: كأنه وجه تركيين قد غضبا ... مستهدف لطعان عند تذنيب وقوله كأنها كشية ضب إنما أفرد الضمير ولم يقل كأنهما لأنه أراد سالفتيها وصدغيها وهي أربع فحمله على المعنى. * * * وأنشد ابن قتيبة في باب المقلوب: (257) (كأن لها في الأرض نسيا تقصة ... على أمها وإن تحدثك تبلت) هذا البيت للشنفري الأزدي واسمه عمرو بن عامر. والنسى الشيء المنسي الذي ضل عن صاحبه ويكون النسي أيضاً الشيء الذي تقادم عهده حتى نسى.

وصف امرأة بالعفة والخفر يقول: إذا مشت نظرت إلى الأرض لشدة حيائها كأنها تطلب شيئاً تلف لها. والأم: القصد الذي تريده لا تعرج عنه إلى غيره ومعنى تبلت: تقطع كلامها ولا تطيله. وبعده: أميمه لا يخزى نثاها حليلها ... إذا ذكر النسوان عفت وجلت إذا هو أمسى آب قرة عينها ... مآب السعيد لم يقل أين ظلت فدقت وجلت، واسبكرت وأكملت، ... فلوجن إنسان من الحسن جنت * * * وأنشد في هذا الباب: (258) (مثل القسي انتقاها المنقي) هذا الرجز لا أعلم قائله، وأحسيه يصف إبلا لأن تشبه بالقسي: وقد يمكن أن يكون شبه أضلاعها بالقسي كما قال الشماخ: فقربت مبراة تخال ضلوعها ... من الماسخيات القسي الموترا * * *

وأنشد في باب ما تتكلم به العرب من الكلام الأعجمي: (259) (وكنا إذا القيسي نب عتوده ... ضربناه دون الأنثيين على الكرد) هذا البيت للفرزدق يهجو به جندل بن الراعي وبعده: وأورثك الراعي عبيد هراوة ... وما طورة تحت السوية من جلد والعتود: من أولاد المعز الذي قد رعى النبات قوى. ونب: هاج وطلب السفاد. والأنثيان: الأذنان، جعلها أنثيين لأن اسمهما مؤنث. وهذا مما يوهمون فيه أن المعاني مطابقة للأسماء وإن كانت مخالفة لها لغرض من الأغراض يقصدونه، كما قال الآخر: وما ذكر فإن يكبر فأنثى ... شديد الأزم ليس بذي ضروس يريد القراد لأنه يقال له ما دام صغيراً قراد، وهو اسم مذكر اللفظ، فإذا كبر سمي حلمة وهو اسم مؤنث اللفظ. ومثله قول الأخطل ليربوع بن حنظلة: تسد القاصعاء عليه حتى ... تنفق أو تموت به هزالا جعله كاليربوع حقيقة إذا كان يسمى باسمه. والكرد: العنق. يقول إذا كثرت معز القسى وضأنه وتوالدت فأدركه الأشر وحركه إلى الحرب البطر، ضربنا عنقه، ونحوه قول الشماخ:

نبئت أن ربيعاً أن رعى إبلا ... يهدي إلى خناه ثاني الجيد يقول لما كثرت إبله وحسنت حاله أبطرته النعمة. وقيل معناه أنا نغزوه في أيام الربيحين يهيج الحيوان ويطلب السفاد. وفي ذلك الوقت يغزو بعضهم بعضاً ونحوه قول الآخر: قوم إذا نبت الربيع لهم ... نبتت عداوتهم مع البقل * * * وأنشد في هذا الباب: (260) 0 قد علمت فارس وحمير والـ ... أعراب بالدست أيكم نزلا) هذا الشعر لأعشى بكر في شعر يمدح به سلامة ذا فايش الحمير. يقول: قد علمت الفرس وحمير والأعراب أيكم غلب على الصحراء ونزل بها. ويروى أيهم والدست: الصحراء، وإنما أشار بهذا على الحرب التي كانت بين حمير والحبشة، وكان سيف بن ذي يزن الحميري قدم على كسرى فاستمده على الحبشة، فبعث معه وهزر الفارسي، وفي ذلك يقول الأعشى: قتلنا القيل مسروقاً ... وروينا الكثيب دما

وبعد البيت المتقدم: ليث لدى الحرب أو تدوخ له ... قسراً وبذ الملوك ما فعلا * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (261) (قردمانيا وتركا كالبصل) هذا البيت للبيد بن ربيعة وصدره: فخمة ذفراء ترتى بالعرا وقبله: فمتى ينقع صراخ صادق ... يحلبوه ذات جرس وزجل النقع: ارتفاع الأصوات، ويحلبوه: يمدوه ويعينوه بحلائب الخيل، الجرس والجرس بالفتح والكسر: الصوت، والزجل كذلك إلا أن فيه تطريباً. أراد كتيبة ذات جرس وزجل، فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه. وقوله فخمة ذفراء فيه قولان: قال يعقوب: أراد بالفخمة الكتيبة وجعلها ذفراء لسهكها وتغير رائحتها من الحديد. وقال ابن القزاز في المعاني: أراد درعاً وجعلها ذفراء لرائحة الحديد. وتُرتى: تشد يقال: رتوت الشيء إذا شددته، ورتوته: إذا أرخيته، وهو من الأضداد. ومعنى ترتى بالعرا أنهم كانوا يتخذون عرا في أوساط الدروع تشد ذيوله إليه لتشمر عن لابسها إذا أراد أن يمشي. وكانوا أيضاً يشدون البيض في الدروع لئلا تسقط البيضة عن رأس الفارس إذا ضرب على

رأسه، وكان الفارس ربما رفع ذيل درعه وشده في رئاس سيفه إذا أراد المشي ولذلك قال أبو قيس بن الأسلت: أعددت للأعداء فضفاضة ... بيضاء مثل النهي بالقاع أحفزها عني بذي رونق ... أبيض مثل الملح قطاع واختلف في القردماني فقيل: هي دروع، وقال أبو عبيدة: قباء محشو، وقيل: هي قسى كانت تعمل وترفع في خزائن الملوك. وشعر لبيد هذا يشهد بأنها الدروع؛ لأنه قال بعد هذا البيت: أحكم الجنثى من عورتها ... كل حرباء إذا أكره صل والحرباء: مسمار تسمر به حلق الدرع، ومن رفع الجنثى ونصب كلا أراد بالجنثى الزراد، ومن نصب الجنثى ورفع كلا أراد بالجنثى السيف وجعل أحكم بمعنى منع ورد. وروى عن عورتها أي رد اسيف عن عوارتها. والترك البيض وشبهها بالبصل البرى في استدرائها وبياضها. وأحسن من هذا قول سلامة ابن جندبل: كأن النعام باض فوق رؤوسهم ... بنهى القذاف، او بنهي مخفق

وفي إعراب بيت لبيد إشكال، فمن ذهب إلى أن الفخمة الدرع نصبها على البدل من ذات جرس، وهو بدل اشتمال لأن في قوله يحلبون ذات جرس وزجل معنى يشتمل على أنهم يحلبونه بالدروع وغيرها، والعائد من البدل إلى المبدل منه محذوف، كأنه قال بالعرا منها. هذا على قياس مذهب البصريين، وأما على قياس مذهب الكوفيين فإن الألف واللام في العرا سدتا مسد الضمير ونابتاً منابه وقردمانيا بدل من فخمة ولم نحتج في إبدال القردماني من الفخمة إلى ضمير كما احتجنا إليه في إبدال فخمة من ذات جرس؛ لأن القردماني هو الفخمة بعينها، لأنه لم يرد بالفحمة ههنا درعاً واحده وإنما هو لفظ خرج مخرج الخصوص والمراد به العموم، ومن ذهب إلى أن الفخمة ههنا الكتيبة وهو قول يعقوب، نصبها على الصفة لذات جرس ونصب قردمانيا بفعل مضمر دل عليه قوله ترتى بالعرا لأنه لما قال: ترتى بالعرا على صيغة ما لم يسم فاعله احتمل أن يريد أنها ترتو دروعها لتشمرها، أو ترتو بيضها على دروعها خوف السقوط. فبين الرتو الذي أراد فكأنه قال ترتو قردمانيا، وتركا: أي تشد بيضاتها إلى دروعها خوف السقوط. ونظيره قول الآخر: ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوايح لأنه لما قال ليبك يزيد على صيغة ما لم يسم فاعله احتمل أن يبكي لمعان شتى، فبين المعنى الذي أراد. وذهب بعض النحويين إلى أن قردمانيا مفعول ثان لترتي؛ لأنه إذا قال ترتي بالعرا فكأنه قال تكسى، يريد أنه أجراه مجرى الأفعال التي تحمل على غيرها لتداخل معانيها.

وقد ذكرنا في الكتاب الثاني طرفا من هذا المعنى. وهذا عندي بعيد ههنا لأنه إنما يصح له هذا التأويل في قول من قال أنه أراد بالفخمة الكتيبسة والكتيبة لا توصف بأنها ترتى بالعرا، إنما ترتى دروعها. فلابد من تقدير مضاف محذوف حتى يصح الكلام، كأنه قال: ترتى دروعها ثم حذف الدروع وأقام الضمير مقامها، فاستتر في الفعل، فلا يستقيم على هذا أن تجعل ترتى بمعنى تكسى، لأن الدروع لا توصف بأنها تكسى قردمانيا. * * * وأنشد في هذا الباب: (262) (كالخص إذ جلله الباري) وقد تقدم هذا البيت في باب ما يشدد والعوام تخففه، وقلنا فيه هناك ما أغنى عن إعادته. * * * وأنشد في هذا الباب: (263) (كالحبشي التف أو تسبجا) هذا البيت للعجاج وقبله: واستبدلت رسومه سفنجا ... أصك نغضا لا يني مستهدجا

يعني بالسفنج ظليماً؛ وهو ذكر النعام. والأصك: الذي يصطك عرقوباه، وكل ظليم أصك لأنه ينشر جناحيه إذا أسرع ولا يستقل عن الأرض استقلال الطائر فيتقارب عرقوباه. والنغض: الذي يرفع رأسه ويحركه. وقوله: لايني مستهدجاً: أي لا يزال منفرا فزعاً لأنه شديد الشرود والخوف من كل شيء يراه، ولذلك قيل في المثل "أشرد من نعام" وأشرد من ظلم". ومعنى يني: يفتر. يقال وني في أمره يني. والمستهدج: الذي يحمل على أن يهدج ويضطر إلى ذلك، والهدج والهدجان: سرعة مع مقاربة خطو. وشبه الظليم لسواد لونه وما عليه من الريش بحبشي التف في كساء أو لبس سبيجا، وهو ثوب من صوف ليس له كمان مثل البقيرة يلبسه الجواري. ونحوه قول عنترة: (كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم) * * * وأنشد في هذا الباب: (264) (كما رأيت في الملاء البردجا) وأنشد معه بيتين آخرين للعجاج، وهذه الأبيات الثلاثة متقاربة في شعره فرأيت أن أذكرها مع ما يتصل بها وهي:

وكل عيناء تزجى بخرجا ... كأنه مسرول أرنذجا في نعجات من بياض نعجا ... كما رأيت في الملاء البردجا يتبعن ذيالا موشى هبرجا ... فهن يعكفن به إذا حجا بربض الأرطى وحقف أعوجا ... عكف النبيط يلعبون الفنزجا يوم خراج يخرج السمرجا العيناء: البقرة الوحشية، سميت بذلك لعظم عينها وتزجى بخرجا: تسوقه برفق لتعلمه المشي، والبخرج: ولد البقرة، والمسرول: الذي البس سراويل، والأرندج: جلد أسود يعمل منه أخفاف يلبسها النصارى كما قال الشماخ: كمشى النصارى في خفاف اليرندج وإنما قال ذلك لأن بقر الوحش في قوائمها سواد ونعجات بقر شديدات البياض. والنعج بفتح العين: البياض. كأنه قال في بقر مبيضات. والملاء: الملاحف. والبردج: ما سبى من ذراري الروم وغيرهم، وذيال: ثور طويل الذنب، والهبرج: المتبختر في مشيه. وحجا: أقام ووقف. والنبيط: جنس من العجمسموا بذلك لإنباطهم المياه، والفتزج: لعبة للنبط يجتمعون حولها. شبه اجتماع البقر حول الثور باجتماع النبط للفنزج. والسمرج الخراج يؤدي إلى العامل في ثلاث مرات هذا أصله عند الفرس واستعملته العرب في كل خراج.

وأنشد للعجاج أيضاً: (265) (مياحة تميح مشياً رهوجاً) يصف امرأة، والمياحة: التي تتبختر في مشيها، والمشي الرهوج: السهل، ومشي مصدر محمول على معنى الفعل لأنها إذا ماحت فقد مشت مشياً رهوجاً وبعده: تدافع السيل ذا تعمجا وتعمج السيل تثنيه. * * * وأنشد للعجاج أيضاً: (266) (وكان ما اهتض الجحاف بهرحا) اهتض: كسر وأهلك. والجحاف والجحاش: المدافعة في الحرب، وبهرج: باطل لا دية فيه. وإنما وصف حرباً ذكرها قبل هذا البيت بأبيات في قوله:

إنا إذا مُذكى الحروب أرجا ... منها سعاراً واستشاطت وهجا ولبست للموت جلا اخرجا ... نرد عنا رأسها مشججا ومعنى أرج: أوقد والسعار والوهج: حر النار، واستشاطت: التهبت. * * * وأنشد في هذا الباب: (267) (وقارفت وهي لم تجرب وباع لها ... من الفصافص بالنمى سفسير) هذا البيت يروى للنابغة الذبياني، ويروى لأوس بن حجر. والضمير في قوله: وفارقت يعود إلى ناقة ذكرها قبل هذا البيت في قوله. هل تبلغنيهم حرف مصرمة ... أجد القفار وإدلاج وتهجير قد عريت نصف حول أشهراً جدداً ... يسقى على رحلها بالحيرة المور الحرف: الناقة التي انحرفت عن السمن إلى الضمر. وقيل: هي العظيمة الخلق. شبهت بحرف الجبل، وقيل: هي الماضية التي لا يردها شيء. شبهت

بحرف السيف، وقيل: هي التي تقوست من الهزال شبهت بحرف من حروف المعجم. قالوا وذلك الحرف هو النون لتقوسها، والمصرمة القليلة اللبن، وذلك محمود في الإبل التي تتخذ للركوب والسفر، ومذموم في الإبل التي يتخذ للنسل والأجد: القوية من قولهم بناء مؤجد، ويروى جرداً بالراء وجدداً بالدال. والمور: دقاق التراب الذي تحمله الريح ويسمى أيضاً السافي والسافياء وقارفت أي أكدت تجرب ولم تفعل. وباع ههنا بمعنى اشترى: والفصافص: جمع فصفصة وهي القضب، وأصلها بالفارسية (اسفست)، ويقال اسبست بالباء والفصافص من علف أهل الأمصار وليس من علف أهل البوادي، والنمى: فلوس من رصاص كانوا يتبايعون بها. وقيل: هو الدرهم الرديء يقال للدرهم الرديء قد ظهرت نُميته أي رداءته. والسفسير: خادم القوم وتابعهم، وهو أيضاً: الرسول، وهو أيضاً الفيج، والسفسير أيضاً الواسطة بين البائع والمشترى. وإنما أراد النابغة أنه أقام بالحيرة ستة أشهر ينتظر صلة النعمان حتى همت ناقته بأن تجرب لمقامها بالحاضرة واعتلافها علف أهل الأمصار، واختلاف الغذاء عليها، ولولا انتظار جبا الملك لم تقم فيها هذه المدة، وقد بين ذلك بقوله: لولا الهمام الذي ترجى نوافله ... لقال راكبها في عصبة سيروا وأنشد في هذا الباب: (268) (وبيداء تحسب ارآمها ... رجال أياد بأجيادها)

البيت لأعشى بكر، والبيداء: الفلاة التي تبيد من سكها أي تهلكه، والآرام: أعلام تنصب في الفلوات ليهتدي، بها فشبهه برجال إياد لأنهم كانوا يوصفون بالطول وعظم الأجسام، ولذلك رواه الأصمعي بأجلادها: أي بشخوصها وخلقها. وأما أبو عبيدة فقال: أراد الجودياء وهو الكساء بالنبطية أو بالفارسية يريد أنه شبه الأعلام برجال إياد وقد احتبت بأكسيتها، وقوله تحسب آرامها جملة في موضع الصفة للبيداء وهي صفة جرت على غير من هي له، واستتر فيها الضمير الفاعل لأن الفعل يتضمن ضمير الأجنبي كما يتضمن ضمير غير الأجنبي. ولو صيرت الجملة صفة محضة لبرز الضمير ولم تتضمنه الصفة، وكنت تقول: وبيداء حاسب آرامها أنت. والباء في قوله بأجيادها هي التي تنوب مناب واو الحال كأنه قال رجال إباد وهي بأجيادها. وبعد هذا البيت: يقول الدليل بها للصحا ... ب لا تخطئوا بعض أرصادها قطعت إذا خب ريعانها ... بعرفاء تنهض في آدها * * * وأنشد في هذا الباب (269) (وغارة ذات قيروان ... كأن أسرابها الرعال)

هذا البيت لامريء القيس بن حجر، والقيروان: معظم الشيء وهو مفتوح الراء، وحكى صاعد بن الحسن الريعي، قال: حدثني على بن مهدي الفارسي، قال: سمعت ابن دريد يقول: القيروان بفتح الراء: الجيش، والقيروان بضم الراء القافلة، والأسراب الجماعات. والرعال. جمع رعلة: وهي القطعة من القطا، شبههم بها في السرعة. وبعده: كأنهم حرشف مبثوث ... بالجو إذ تبرق النعال * * * وأنشد في هذا الباب: (270) (أضاء مظلته بالسرا ... ج والليل غامر جدادها) البيت لأعشى بكر يصف خماراً طرقه لابتياع خمر منه فأوقد سراجه والليل قد غمر جُداد المظلة. والمظلة: الخباء" والجُداد: الخيوط المعقدة. وقيل: هي هُدب الثوب. وقال أبو عبيدة هي خصاص ما بين شفتي الملة قال الأصمعي أراد أن الليل لازق بمؤخر البيت. وبعده: دراهمنا كلها جيد ... فلا تحبسنا بتنقادها * * * وأنشد في هذا الباب: (271) (تضمنها وهم ركوب كأنه ... إذا ضم جنبيه المخارم رزدق)

هذا البيت لأوس بن حجر، ويقال أنه لشريح ابنه، وصف نعامة تساير ظليماً، وقبل هذا البيت: كأن ولاياها إذا هي هيجت ... تضمنها وحف الجناحين نقنق أرته حياض الموت صكاء صعلة ... فلا هي تشآه ولا هو يلحق يقول كأن ولايا الناقة التي وصف على ظهر ظليم، وحف الجناحين، أي كثير الريش، والنقنق: الذي يردد صوته. والولايا: جمع ولية وهي شبه البرذعة، وقوله: أرته حياض الموت صكاء، يريد أنها أتعبته وجهدته بفرارها منه واتباعه إياها. والصكاء: النعامة المصطكة العرقوبين، والصعلة: الصغيرة الرأس. ومعنى تشآه: تسبقه. ومعنى تضمنها وهم: أي صارت فيه فاشتمل عليها، وكان ينبغي أن يقول تضمنها لأنه وصف ظليماً ونعامة فلم يمكنه، فأخبر عنها وترك الإخبار عن الظليم لعلم السامع أنه إذا تبعها فهو معها في طريق واحد. والوهم ههنا: الطريق العظيم، والركوب: الذي يركب ويوطأ. وشبهه بالرزدق وهو: السطر الممدود والصف، والمخارم: أنوف الجبال. ويجوز أن يكون الضمير في قوله تضمنها عائداً على الناقة المذكورة قبل هذه الأبيات في قوله وإني لتعديني على الهم جسرة ... تخب بوصال صدوم وتعنق * * * وأنشد في هذا الباب: (272) (ضوابعا ترمي بهن الرزدقا)

هذا البيت لرؤبة بن العجاج والضمير في قوله بهن يعود على إبل ذكرها في قوله: والعيس يحذرن السياط المشقا ... كأن بالأقتاد ساجاً عوهقا في الماء يفرقن العباب الغلفقا العيس، الإبل البيض التي تخالط ألوانها حمرة، وهي أكرم الإبل. والمشق التي تؤثر بالضرب يقال مشقه بالصوط، والأقتاد: أعواد الرحل، والساج: خشب أسود تعمل منه السفن وغيرها. شبه الإبل وهي تسير في السراب بالسفن التي تسير في الماء. والعوهق: الطويل، والعباب: الموج، والغلفق. الطحلب وأراد العباب ذا الغلفق فحذف المضاف. والضوابع: التي تمد أضباعها في السير وهي أعضادها. وقيل: هي التي يسمع لصدورها صوت عند السير، وأراد بالزردق الطريق ههنا. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (273) (كأنها وابن أيام ترببه ... من قرة العين مجتابا ديابود) البيت للشماخ بن ضرار يصف، وقبله: دار الفتاة التي كنا نقول لها ... يا ظبية عطلا حسانه الجيد قوله كأنها يريد كأن الظبية ويعني بابن أيام ولدها الذي تربيه وجعله ابن أيام لصغره ويروى تُتضرتره أي تحركه ليمشي معها، ومعنى مجتابا: لابساً والديابود:

ثوب ينسج على نيرين. وفي معنى هذا البيت قولان: قيل أراد أنهما سمنا لما هما فيه من الخصب فكأنهما لمسنهما وحسن خلقهما قد لبسا ديابودا. وقيل: بل أراد أنهما في خصب يمشيان بين الأنوار والأزهار فكان عليهما من النبات ثوباً يلبسانه، وإلى هذا القول الثاني أشار يعقوب. * * * وأنشد في هذا الباب: (274) (حتى مات وهو محزرق) هذا بعض عجز بيت لأعشى بكر والبيت بكماله: فذاك وما نجى من الموت ربه ... بساباط حتى مات وهو محرزق أراد النعمان بن المنذر حين سخط عليه كسرى فرمى به إلى الفيلة فقتلته، وساباط: موضع، ومحرزق: محبوس، وأصله بالنبطيطة هرزوقاء، ورواه الأصمعي وأبو زيد محرزق بتقديم الراء على الزاي، وكان أبو عمرو الشيباني يرويه بتقديم الزاي على الراء فقيل ذلك لأبي زيد فقال: أبو عمرو أعلم بهذا منا، يريد أن أمه نبطية فهو عالم بلغة النبط. وقوله فذاك إشارة إلى ما ذكره قبل هذا البيت من ملك النعمان بن المنذر وقدرته، وذلك قوله: ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بأمته يعطي القطوط ويأفق وتجبي غليه السيلحون ودونه ... صريفون في أنهارها والخورنق

ثم قال بعد أبيات فذاك، ومعناه فذاك ملكه أو فملكه ذاك فارتفع ذاك على خبر مبتدأ مضمر أو على الابتداء وإضمار الخبر والضمير في أنجى يعود على الملك، أي وما أنجى الملك من الموت ربه، ويروى: هنالك ما اجنته عزة ربه. وروى أبو عبيد: هنالك لم ينفعه كيد وحيلة. * * * وأنشد في هذا الباب: (275) (في جسم شخت المنكبين قوش) هذا البيت لرؤبة بن العجاج، وقبله يخاطب الحارث بن سليم الهجيمي: إليك أشكو شدة المعيش ... ومر أعوام نتفن ريشي نتف الحبارى عن قرارهيش ... حتى تركن أعظم الجؤشوش حدباً على أحدب كالعريش ... غث ضعيف جبلة النطيش القرا: الظهر، والهريش، لذي ترتهش من الهزال، والجؤشوش: الصدر، والغث: الهزيل، والنطيش، القوة والتصرف، والشخت: الرقيق، والقوش: الصغير. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (276) (كدكان الدرابنة المطين)

البيت للمثقب العبدي واسمه عائذ بن محصن. وقال ابن قتيبة: اسمه محصن ابن ثعلبة، وسمى المثقب لقوله في هذه القصيدة: رددن تحية وكتمن أخرى ... وثقبن الوصاوس للعيون وهذا قول من قال المثقب بفتح القاف ومن قال المثقب بالكسر سماه بقوله: فلا يدعني قومي لنصر عشيرتي ... لئن أنا لم أجلب عليهم وأثقب وصدر البيت الذي أنشد ابن قتيبة بعضه: (فأبقى باطلي والجد منها) يعني ناقته يقول ركبتها في الباطل وجدت هي في السير فهزلت بين الباطل والجد. وبقى منها بعد الهزال كالدكان المطين الذي تجلس عليه الدرابنة، وهم: البوابون، واحدهم دربان. فإذا كانت خلفتها بعد أن هزلت على هذه الحال، فما ظنك بها قبل الضعف والهزال. وقبل هذا البيت: تقول إذا درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني أكل الدهر حل وارتحال ... أما يبقى على وما يقيني * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (277) (فسرونا عنه الجلال كما ... سل لبيع اللطيمة الدخدار)

البيت لأبي دؤاد الإيادي، وصف فرساً أضمره وسقاه اللبن. ومعنى سرونا: نزعنا. يقال سروت عنه الثوب أسروه سروا: إذا أزلته. والجلال: جمع جل وهو الكساء الذي يجلل به الفرس واللطيمة: إبل تحمل البز والطيب. يقول لما أكمل تضميره والقيام عليه، كشفنا عنه جله فبرز كأنه ثوب ينشره تاجر ليبيع به بقية ثيابه التي يتضمنها دخداره وهو تحت الثياب. وإنما يخرج التاجر أنفس ما في تحته. وهذا نحو من قول علقمة: كميت كلون الأرجوان نشرته ... لبيع الرداء في الصوان المكعب والصوان التخت، وقيل بيت أبي دؤاد: دافع المحل والشتاء ويبس الـ ... عود عنه قناعس أظآر رهلات ضراتهن مهاريس ... جلاد إذا شتون غزار فقصرن الشتاء بعد عليه ... وهو للذود إذ يقسمن جار القناعس: الإبل العظام، والأصل قناعيس بالياء، لأن الواحد منها قنعاس، فحذف الياء ضرورة. والاظآر: التي تعطف على أولاد غيرها، والرهلات: المسترخيات والضرات جمع ضرة وهي: لحم الضرع. والمهاريس: الشديدات الأكل. والغزار: الشديدة اللبن. يقول: هذه الإبل وقف عليه تغذوه بألبانها عند عدم المرعى وهو يمنعها من أنيغار عليها فتقتسم. ومعنى قصرن: حبسن. * * *

وأنشد في هذا الباب: (278) (تجلو البوادق عنه صفح دخدار) البيت للكميت الأسدي يصف بقرة وحشية ولا أحفظ صدره. ومعنى تجلو: تكشف. والصفح: الجانب. يقول: إذا لمعت البروق في الظلام ظهر منها مثل صفح الدخدار. * * * وأنشد في باب دخول بعض الصفات على بعض: (279) (باتت تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أجواز الفلا) لا أعلم لمن هذا الرجز. والنوش: التنول، ويقال جئته من علو ومن علو ومن عل مخفوض غير منون، ومن عل مضموم غير منون، ومن عل مفتوح غير منون، ومن عال ومن معال مخفوضان منونان، ومعناها كلها: أنه جاء من فوقه مستعلياً عيه. والفلا: جمع فلاة، وأجوازها: أوساطها. يصف ناقة شربت الماء من الحوض. وقد يمكن أن يصف إبلاً، ويريد بقوله (به تقطع أجواز الفلا) أنهم كانوا إذا حاولوا سفراً سقوا إبلهم الماء على نحو ما يقدرونه من بعد المسافة وقربها، وكانوا يجعلون أظماء الإبل ثلثا وربعاً وخمساً على العشر، والعشر

نهاية الأظماء. وكانوا ربما احتاجوا في الفلاة إلى الماء ولا ماء عندهم فينحرون الإبل ويستخرجون ما في أجوافها من الماء ويشربونه، وهو معنى قوله زيد الخيل الطائي: نصول بكل أبيض مشرفي ... على اللائي بقى فيهن ماء عشية نؤثر الغرباء فينا ... فلاهم هالكون ولا رواء * * * وأنشد في هذا الباب: (280) (إذا نفحت من عين يمين المشارق) البيت لذي الرمة وصدره وهيف تهيج البين بعد تجاورٍ والهيف: ريح حارة ذات سموم إذا هبت أعطشت الناس الإبل وغيرها، وجففت النبات وأيبست المياه، فكان ذلك سبباً لرحيلهم وطلبهم النجعة. ولذلك قال: تهيج البين بعد تجاور. ومعنى نفحت: هبت. وقبل هذا البيت الما يئن للقلب إلا تشوقه ... رسوم المغاني وابتكار الحزائق * * * وأنشد في هذا الباب: (281) (من عن يمين الحبيا نظرة قبل)

البيت للقطامي، واسمه عمير بن أشيم تصغير اشيم؛ وهو الذي به شامة. ويقال شييم بكسر الشين. وصدره: فقت للركب لما أن علا بهم والركب جمع راكب، والحبيا: موضع بالشام، والنظرة القبل: المستأنفة التي لم تتقدمها نظرة، والباء في قوله: علا بهم هي باء النقل التي تعاقب الهمزة في قولك دخلت به وأدخلته. ومعنى علا بهم، جعلهم يعلون وينظرون، ويروى علت بهم بغير تاء، والقول الثاني قاله في بيت آخر وهو: ألمحة من سنا برق رأى بصري ... أم وجه عالية اختالت بها الكلل واللمحة: اللمعة، وسنا البرق: ضوءه، واختالت: تبخترت. والكلل: الستور. يريد أن وجه عالية ظهر غليهم من الستر فأشرفوا ينظرون إليه إعجاباً به. * * * وأنشد في هذا الباب: (282) (غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها ... تصل وعن قبض ببيداء مجهل) البيت لمزاحم بن الحارث العقيلي وصف قطاة وقبل هذا البيت: أذلك أم كدرية ظل فرخها ... لقي بشرورى كاليتيم المعيل

يعني بالكدرية قطاة في لونها كدرة، واللقى: المطروح الذي لا يلتفت إليه. وشرورى: موضع، وشبهه في انفراده وسوء حاله باليتيم. والمعيل: الفقير. قال الأصمعي: وإنما قال لقى بشروري لأن القطاة لا تبيض إلا في الأرض في مفاحص ونقر ولا تعشش في الشجر. وقوله (غدت من عليه) يريد أن أقامت مع فرخها حتى احتاجت إلى ورود الماء وعطشت فطارت تطلب الماء عند تمام ظمئها والظمء: مدة صبرها عن الماء وهو ما بين الشرب إلى الشرب ويروى تم خمسها وهو ورود الماء في كل خمسة أيام. ولم يرد أنها تصبر عن الماء خمسة أيام إنما هذا للإبل لا للطير، ولكنه ضربه مثلاً. هذا قول أبي حاتم، ولأجل ذلك كانت رواية من روى ظمؤها، أحسن وأصح معنى. وقال الأصمعي: قوله (من عليه) يريد من فوق الفرخ. وقال أبو عبيدة: معناه غدت من عند فرخها، وقال يعقوب في المعاني: قوله: بعد ما تم ظمؤها، أي إنها كانت تشرب في كل ثلاثة أيام أو أربعة مرة. فلما جاء ذلك الوقت طارت. قال أبو حاتم: قلت للأصمعي: كيف قال غدت من عليه، والقطاة غنما تذهب إلى الماء ليلاً لا غدوة؟ فقال: لم يرد الغدوة وغنما هذا مثل للتعجيل، والعرب تقول بكر إلى العشية ولا بكور هناك. * * * وأنشد أبو زيد: (283) (بكرت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي)

وعلى هذا يتأول بيت النابغة: مشى الإماء الغوادي تحمل الحزُما وقال أبو حاتم: معنى تصل: تضرب أحشاءها من اليبس والعطش، والصليل: صوت الشيء اليابس، يقال: جاءت الإبل تصل عطشا. وقال غيره: أراد أنها تصوت في طيرانها، والقيض: قشر البيضة الأعلى، وإنما أراد قشر البيضة التي خرج منها فرخها. والبيداء: القفر الذي يبيد من سلكه أي يهلكه، والمجهل: الذي ليس فيه أعلام يهتدي بها، ويروى بزيزاء مجهل والزيزاء: ما ارتفع من الأرض وغلظ فمن روى بيداء جعل المجهل صفة لها، من روى بزيزاء أضافها إلى مجهل، وهذه رواية البصريين، وأجاز الكوفيون ترك صرف زيزاء على أن يكون ألفها للتأنيث، واحتجوا بقوله تعالى (تخرج من طور سيناء) في قراءة من قرأ بكسر السين. فمجهل على هذا الرأي صفة لزيزاء. ولم يجز البصريون ذلك، وألف فعلاء المكسورة الفاء لا تكون عندهم إلا للإلحاق وكذلك فعلاء المضمومة الفاء دائماً تكون الهمزة للتأنيث عندهم في فعلاء المفتوحة الفاء خاصة، ويقولون في قوله تعالى (من طور سيناء) ليس امتناعه من الصرف من أجل أن الهمزة للتأنيث، وإنما امتناعه لأنه ذهب بها إلى البقعة أو الأرض فاجتمع فيها التأنيث والتعريف وفي القولين جميعاً نظر. * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (284) (وزعت بكالهراوة أعوجى ... إذا ونت الركاب جرى وثابا) هذا البيت لابن عادية السلمى فيما ذكر أبو عبيدة، وبعده: كمريخ يدافع جانبيه ... كأن يدف فارسه عقاباً فنجاني من الغمرات يردى ... ونار الحرب تلتهب التهابا قوله وزعت يقول: ففت الخيل عن انتشارها في الغارة بفرس مثل الهراوة في الشدة والصلابة إذا ونت الإبل التي تتمطى وتحمل مجنوباً معها لم يعى هو وجرى حينئذ إن احتيج إلى جريه، وثاب له جرى. ومعنى ونت: فترت وأعيت. والركاب: الإبل، ولو قال إذا ونت الجياد لكان أجود، ولكن كذا الرواية. ومعنى ثاب: جاء يجرى بعد جرى، وأعوجي: منسوب إلى أعوج وهو فرس قديم تنسب إليه عتاق الخيل، والمريخ: السهم الذي يغالي به. وقوله يدافع جانبيه: أي ينثني في عطفيه، والدف: الجنب. يقول إذا قاده فارسه إلى جنبه فكأنه يقود عقاباً من سرعته. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (285) (ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا ... تصوب فهي العين طوراً وترتقي)

هذا البيت يروى لامرئ القيس بن حجر النكدي، ويروى لعمرو بن عمار الطائي، وصف فرساً فقال: رحنا من الصيد بفرس مثل ابن الماء في سرعته وسهولة مشيه، وابن الماء: طائر يقال إنه الغرنيق، ويجنب: يقاد، ويرى يختب وهو يفتعل من الخبب وهو جرى، ليس بالشديد، وتصوب: تنحدر، وترتقي: ترتفع .. يريد أن يعن النظر إليه تصعد فيه النظر وتصوبه إعجاباً به. وبعده: وأصحب زهلولاً يزل غلامنا ... كقدح النضى باليدين المفوق والزهلول: الخفيف. يقول أصبح خفيفاً بعد أن جهدناه في طلب الصيد لم يكسر ذلك من حدته ولا نقص من سرعته، والقدح، السهم، والنضى: الذي لا نصل فيه. قال ثعلب: ولا يقال له سهم حتى يكون فيه نصل، وإن لم يكن في نصل فهو قدح. والمفوق: الذي عمل فيه فوق وهو موضع الوتر من السهم. * * * وأنشد في هذا الباب: (286) (وصاليات ككما يؤثفين) البيت لخطام المجاشعي وصف منزلاً قد خلا من أهله وبقيت فيه آثارهم، ومن تلك الآثار صاليات يعني الأثافي، لأنها صليت بالنار حتى اسودت، وأجرى الكاف الجارة مجرى مثل، فأدخل عليها كافا ثانية، فكأنه قال كمثل ما يوثفين،

(وما) مع الفعل تقدر بتقدير المصدر كأنه قال كمثل إثفائها؛ أي إنها على حالها حين أثفيت، والكافان في قوله (ككما) لا تتعلقان بشيء، أما الأولى منهما فإنها زائدة كزيادتها في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) وقد ذكرنا فيما مضى أن حرف الجر إذا كان زائداً لم يتعلق بشيء. وأما الثانية فقد جرت مجرى الأسماء لدخول حرف الجر عليها فحكمها كحكم الأسماء، ولو سقطت الكاف الأولى لقال كما يؤثفين، وكان يجب حينئذ أن تكون الكاف متعلقة بمحذوف صفة لمصدر مقدر محمول على معنى الصاليات لا على لفهظا، لأنه قوله وصاليات قد ناب مناب قوله ومثفيات فكأنه قال ومثفيات إثفاء مثل إثفائها حين نصبت للقدر، ولابد لك من هذا التقدير ليصح اللفظ والمعنى، وأما قوله يوثفين فاختلف النحويون في وزنه من الفعل، فقال قوم: وزنه يؤفعلن والهمزة زائدة والثاء فيه فاء الفعل وكان يجب أن يقول يثفين ليكون كيرضين ويعلين غير أنه جاء به على الأصل للضرورة كما قال الآخر-: (فإنه أهل لأن يؤكرما-) وكان قياسه يكرما. ومن ذهب هذا المذهب جعل وزن أثفية أفعولة، وأصلها أثفوية اجتمعت فيها ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبل الياء لتصح. واستدلوا على زيادة الهمزة بقول العرب ثفيت القدر: إذا جعلتها على الأثافي. وبقول الكميت: وما استنزلت في غيرنا قدر جارنا ... ولا ثفيت إلا بنا حين تنصب وتقول العرب: امرأة مثفاة، إذا كان لها ثلاثة أزواج. وقال قوم: وزن يؤثقين على مثال يسلقين ويجعبين، وجعلوا الهمزة أصلاً والياء هي الزائدة بعكس

القول الأول؛ ووزن أثفية عنهم فعلية على مثال بختية، واستدلوا على لك بقول النابغة: - وإن تأثفك الأعداء بالرفد - فوزن تأثف تفعلك لا يصح فيه غير ذلك، والهمزة أصل ولو كان من قولهم ثفيت القدر لقال تثفاك. وفي هذه المسألة نظر أوسع من هذا ولنا ندعه لموضع هو أخص به من هذا الموضع. * * * وأنشد في هذا الباب: (287) (على كالحنيف السحق يدعو به الصدي ... له قلب عفى الحياض اجون) هذا البيت يروى لامرئ القيس بن حجر ويروى لسلامة العجل، وقبله: سأبعثها يدمى من الجهد خفها ... وأنت بأكناف الشطيط بطين قوله سأبعثها يعني ناقته، وأرد أنه يسير بها وإن كان خفها قد دمى من الجهد والتعب على طريق مثل الخنيف، والخنيف: ثوب يتخذ من الكتان: والسحق البالي. يريد أنه طريق قديم قد سلكه الناس وأثروا فيه بالأقدام والحوافر، فلذلك

شبهه بالثوب البالين والصدى: ذكر البوم، يريد أنه موحش خال، فالبوم يصيح فيه، والقلب: الآبار واحدها قليب، وعفى: جمع عاف وهو الدارس، وأجون قد أجن ماؤها أي تغير لطول عهده بالاستقاء منه، وأجون جمع آجن، كما يقال قاعد وقعود، ويجوز أن يكون أجون مصدراً وصف به، فيكون تقديره ذات أجون فحف المضاف، يقال أجن الماء وأجن بفتح الجيم وكسرها: إذا تغير، فمن كسر الجيم قال في تصريفه يا جن أجنا فهو أجن، كقولك حذر يحذر حذرا فهو حذرن ومن فتح الجيم من الماضي قال في تصريه يا جن وياجن بكسر الجيم وضمها وفي المصدر أجن (بسكون الجيم) وأجون، وفي اسم الفاعل آجن، وهذه رواية يعقوب، وأما الطوسي فروى: له (صدد ورد التراب دفين) والصدد القصد والورد الأحمر. * * * وأنشد في باب دخول بعض الصفات على بعض: (288) (وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا) هذا البيت لا أعلم قائله، والأجدع: المقطوع الأنف، والتقدير فلا عطست شيبان إلا بأنف أجدع، فحذف الموصوف. وفيه مجاز آخر، وهو أنه بأنوف الواحد موضع الجمع كما قال عز وجل: (ثم يخرجكم طفلاً) كأنه قال: وضع جدع ودعا عليهم بجدع الأنوف لصلبهم العبدي. * * *

وأنشد في هذا الباب: (289) (بطل كان ثيابه في سرحة) هذا البيت من مشهور شعر عنترة بن شداد وتمامه: يحذى نعال السبت ليس بتوأم السرحة: شجو فيه طول وإشراف، أراد أنه طويل الجسم فكأن ثيابه على سرحة من طوله. وقوله (يحذى نعال السبت)، يريد أنه من الملوك فهو يلبس النعال السبتية وهي المدبوغة بالقرظ وهم يتمدحون بجودة النعلا كما يتمدحون بجودة الملابس، ولذلك قال النابغة: رقاق النعال طيب حجزاتهم وقال كثير: إذا جردت لم تطب الكلب ريحها ... وإن خليت في مجلس القوم شمت يريد بقوله لم تطب الكلب ريحها أنها ليست من جلد غير مدبوغ لأن النعال إذا كانت كذلك وفر بها الكلب أكلها كما قال النجاشي: ولا يأكل الكلب السروق نعالنا ... ولا ينتقي المخ الذي في الجماجم

وقوله ليس بتوأم يريد أنه لم يزاحمه أخ في بطن أمه فيكون ضاوي الخلق ضعيفاً. * * * وأنشد في هذا الباب: (290) (فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب) هذا البيت من مشهور شعر النابغة الذبياني الذي يقوله للنعمان بن المنذر اللخمي عند موجدته عليه. والوعيد: التهديد، والقار ههنا: القطران، وإنما شبه نفسه بالبعير الجرب المطلي بالقطران، لأن الناس يطردونه إذا أراد الدخول بين إبلهم لئلا يعرها بالقطران ويعديها بدائه، فقال للنعمان إن لم تعف عني كنت كهذا البعير يتحاما في الناس ما يتحامونه خوفاً منك. * * * وأنشد في هذا الباب: (291) (وأن يلتقي الحي الجميع تلاقني ... على ذرة البيت الرفيع المصمد) هذا البيت من مشهور شعر طرفة بن العبد، وذروة كل شيء: أعلاه، والمصمد: الذي يقصده الناس، يصف أنه مشهور المكان في الشرف كما قال الأحوص: إني إذا خفى الرجال وجدتني ... كالشمس لا تخفى بكل مكان

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (292) (إذا رضيت على بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها) البيت للقحيف العقيلي، وزاد أبو زيد الأنصاري بعده: ولا تنيو سيوف بني قشير ... ولا تمضي الأسنة في صفاها وقد تقدم من قولنا في وقوع (على) ههنا موقع (عن) ما أغنانا عن إعادته ههنا. * * * وأنشد في هذا الباب: (293) (أرمي عليها وهي فرع أجمع) وزاد يعقوب في كتاب القلب والإبدال: وهي ثلاث أذرع والإصبع ... وهي إذا انبضت فيها تسجع ترنم النحل أبى لا يهجع الفرع: القوس تتخذ من عود كامل، وقيل: هي التي تتخذ من طرف القضيب، وقوله: والإصبع كان الذي يقطع العود لتتخذ منه القوس يزيد على الثلاث الأذرع المتعارفة إصبعاً احتياطاً لاختلاف أذرع الناس في الطول والقصر.

فصارت الإصبع معهودة عندهم متعارفة لديهم، كتعارف الأذرع الثلاث، فلذلك أدخل عليها الألف واللام اللتين للعهد، وكانوا ربما زادوا شبراً قال الراجز: ما علتي وأنا شيء يجر ... والقوس فيها وتر حبجر وهي ثلاث أذرع والشبر والإنباض: جذب الوتر عند الرمي. وشبه رنينها عند إنباضها بترنم النحل، وذل لكرم عودها وعتقه. وأما قوله (وهي فرع أجمع) فإن اجمع يرتفع على وجهين: أحدهما التأكيد للضمير المتوهم في فرع، لأن فرعاً وإن لم يكن جارياً على فعل، فإنه بمعنى الجاري، كما قالوا؛ مررت بقاع عرفج له، والثاني أن يكون تأكيداً لهي كأنه قال: وهي أجمع فرع. وكان ينبغي أن يقول: جميعاً ولكنه حمله على معنى العود. وإنما احتيج إلى هذا التأويل لأن فرعا نكرة، والنكرة لا تؤكد، وقد حكى الكوفيون تأكيد النكرة في الشعر وأنشدوا: يا ليتني كنت صبياً مرضعاً ... تحملني الذلفاء حولا أكتعا إذا بكيت قبلتني أربعاً ... إذن ظللت الدهر أبكي أجمعا ففي هذا شيئان من الشذوذ: أحدهما تأكيد النكرة، والثاني استعمال (أكتع) غير تابع لأجمع. * * * وأنشد في هذا الباب: (294) (لم تعقلا جفرة على ولم ... أوذِ صديقاً ولم أبل طبعاً)

هذا البيت الذي الإصبع العدواني واسمه حرثان بن عمرو، ويقال حرثان ابن الحارث بن محرث، ولقب ذا الإصبع لأن أفعى عضت إصبعه فقطعها، وقبل هذا البيت: إنكما صاحبي لن تدعا ... لومي ومهما أضع فلن تسعا إنكما من سفاه رأيكما ... لن تجنباني الشكاة والقذعا يعنف صاحبيه على لومهما إياه فيقول لهما: لم أجن جناية تعقلان فيها عنى جفرة، وهي الصغيرة من أولاد الضان والمعز، ولم أوذ صديقاً من أصدقائي ولم أتدنس بدنس فأستحق اللوم على ذلك، قال الأصمعي: والجفرة لا تعقل وإنما ضرب مثلاً أي لم تعقلا عني قدر جفرة، والقذع: الكلام القبيح. والطبع: الدنس. وأصل الطبع في السيف، ثم استعير في غيره. * * * وأنشد في هذا الباب: (295) (إذا ما امرؤ ولى على بوده ... وأدبر لم يصدر بادباره ودي)

البيت لدوسر بن عسان اليربوعي، وبعده: ولم أتعذر من خلال تسوؤه ... كما كان يأتي مثلهن على عمد فإن تك أثوابي تمزقن للبلى ... فإني كنصل السيف في خلق الغمد ويروى لم يدبر بإدباره. * * * وأنشد في هذا الباب: (296) (فان تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب) هذا البيت من مشهور شعر علقمة بن عبدة، وعبدة مفتوح الباء ومن سكنها فقد أخطأ، فأما عبدة بن الطيب فساكن الباء، وقد قيد ابن الرومي هذا بقوله: أعتقت عبدي في القريض معا ... عبدة والفحل من بني عبده وقد قيد عبدة بن الطيب هذا أيضاً بقوله يتباشرون بأن عبدة مقبل ... كلاً وما جمع الحجيج إلى منى والبصير: العالم. والطبيب: الحاذق وأدواء: جمع داء.

وأنشد في هذا الباب: (297) (تسائل بابن أحمر من رآه ... أعارت عينه أم لم تعارا) البيت لعمرو بن أحمر وهذا من الشعر الذي يدل على قائله ويغني عن ذره ووقع في شعر ابن أحمر: (وربت سائل عني حفي) وهو الصحيح، لأنه ليس قبل هذا البيت مذكور يعود إليه الضمير من قوله (تسائل)، ولعل الذي ذكر ابن قتيبة رواية ثانية مخالفة للرواية التي وقعت إلينا من هذا الشعر. وبعد هذا البيت: فإن يفرح بما لاقيت قومي ... لئامهم فلم أكثر حواراً والحوار: مصدر حاورته في الأمر إذا راجعته فيه. يقول: لم أكثر مراجعة من سر بذلك من قومي ولا عنفته في سروره بما أصابني، وكان رماه رجل يقال له مخشي بسهم ففقأ عينه وفي ذلك يقول: شلت أنامل مخشي فلا جبرت ... ولا استعان بضاحي كفه أبدا أهوى لها مشقصاً حشراً فشبرقها ... وكنت أدعوها قذاها الإثمد الفردا أعشو بعين وأخرى قد أضربها ... ريب الزمان فأمسى ضوءها خمدا وقوله: أم لم تعارا، كان قياسه أن يقول أم لم تعر، ولكنه أراد النون الخفيفة كما قال الآخر: يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخنا على كرسيه معمما * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (298) (دع المغمر لا تسأل بمصرعه ... واسأل بمصقلة البكرى ما فعلا) البيت للأخطل من شعر يمدح به مصقلة بن هبيرة أحد بني ثعلبةبن شيبان والمغمر ههنا: الرجل الذي تغمره الرجال أي تفضله وتعلو عليه وهو من قولهم: غمره الماء إذا علاه فلم يظهر، فشبه الرجل الذي لا صيت له في الناس بالشيء المتوارى تحت الماء. ويقال في هذا المعنى: رجل مغمور، وهو الذي أراد ابن قتيبة بقوله (فالعلماء مغمورون). يقول لا تسأل عن مصرع من هو بهذه الصفة، فإن فقده لا يهم، والرزء به لا يغم، وإنما ينبغي لك أن تسأل عن مصقلة البكرى الذي يوجع مصابه ويستمطر إيابه وبعد هذا البيت: جزل العطاء، وأقوام إذا سئلوا ... يعطون نزرا ًما تستوكف الوشلا وفارس غير وقاف برايته ... يوم الكريهة حتى يخضب الأسلا والنزر: القليل من كل شيء، والوشل: القليل من الماء خاصة، وتستوكف تستقطر قطرة بعد قطرة. وقوله: ما فعلا فيه ثلاثة أوجه: يجوز أن تكون (ما) بمعنى الذي، ويجوز أن تكون مع الفعل بتأويل المصدر، وهي في كلا هذين الوجهين يدل من مصقلة، والعامل فيها الباء العاملة في مصقلة، ويجوز أن يجعلها استفهاماً فتكون

في موضع نصب بالفعل الذي بعدها ويكون في هذا الوجه قد علق الباء عن العمل في (ما)، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وأجرى السؤال مجرى القول لأنهما يرجعان إلى معنى واحد؛ فإن قال قائل: قد وجدنا أسماء الاستفهام يعمل فيها ما قبلها إذا كان العامل من عوامل الجر، وما ينوب منابها كقولك: بمن تمر؟ ولم جئت. وإنما يمتنع ذلك في الناصب والرافع، فلم امتنعت من أعمال الباء في قوله ما فعلا؟ فالجواب: أن ذلك إنما يجوز في الجار إذا كان متعلقاً بما بعده، وهذه الباء ههنا متعلقة بما قبلها فلذلك لم يجز ذلك. * * * وأنشد في هذا الباب: (299) (ولا يسأل الضيف الغريب إذا شتا ... بما زخرت قدرى له حين ودعا) هذا البيت لمالك بن حريم الهمذاني، وكان أبو العباس المبرد يقول: خريم بخاء معجمة وراء مفتوحة على لفظ التصغير، وكان ينسب في ذلك إلى التصحيف، قال السيرافي: وأخبرني أبو بكر بن السراج أنه وجد بخط اليزيدي الروايتين جميعاً. وحكى أبو جعفر بن النحاس قيل: قال أبو عبد الله نفطويه: هو مالك بن خزيم بالزاي وخاء معجمة على لفظ التصغير. كذلك وجدته مضبوطاً عنه، ووقع

في بعض نسخ أدب الكتاب: ولا تسأل الضيف بنصب الضيف وتاء الخطاب على لفظ النهي، والصحيح ولا يسأل الضيف بالرفع، والياء على وجه الإخبار، وعليه يصح المعنى لأن بعده: (فإن يك غثاً أو سميناً فإنني ... سأجعل عينيه لنفسه مقنعاً) يقول: ليس يحتاج ضيفي إذا ودعني وفارقني أن يسأل عما كنت أطبخه في قدري، لأن ما فيها من غث أو سمين لايغيب عنه، لأني أقدمه بين يديه وأجعل عينيه مقنعاً لنفسه، أي أقول له تحير: ما تحب. ومعنى زخرت: غلت، وذكر الشتوة لأنها وقت الضيق والجهد، ويروى (له) و (به)، والعامل في إذا جوابها الذي دل عليه، وأغنى عنه قوله: ولا سئل الضيف والعامل في حين، يجوز أن يكون زخرت، ويجوز أن يكون يسأل وهو أجود. * * * وأنشد في هذا الباب: (300) (تصد وتبدى عن أسيل وتتقي) هذا البيت مشهور لامرئ القيس بن حجر وتمامة. بناظرة من وحش وجرة مطفل ومعنى تصد: تعرض. وتبدى: تظهر. والناظرة فيها قولان؛ قيل: أراد العين، وقيل أراد بقره ناظرة، ووجرة: فلاة تألفها الوحش، وخصها بالذكر

لأنها قليلة الماء، فوحشها تجنزي بالنبات الأخر عن شرب الماءن فتضمر بطونها ويشتد عدوها. ومطفل: ذات طفل. وخص المطفل لأنها تحنو على ولدها وتخشى عليه القناص، والسباع، فتكثر التلفت والتشوق، فذلك أحسن في المنظر، لها وأصح في تنبيه المرأة بها لأنه أراد أنها حذرة من الرقباء. فهي متشوفة كتشوف هذه البقرة. وفي إعراب هذا البيت إشكال، فأما قوله "تصد وتبدى" فلك أن تعمل أي الفعلين شئت. فإن أعملت (تصد) وهو اختيار الكوفيين وعليه بني ابن قتيبة، كانت (عن) بدلاً من باء الجر، لأن صد إنما يتعدى بالياء لا بعن، ألا ترى أنك تقول صددت بوجهي عنه. وإن أعملت تبدى - وهو اختيار البصريين - كانت (عن) غير مبدلة من حرف آخر، لأنك تقول أبديت عن الشيء، كما قال سحيم يصف ثوراً يحفر في أصل شجرة كناساً له: يثير ويبدي عن عروق كأنها ... أعنة خراز جديداً وباليا والوجه ههنا أن يعمل تبدى، لأنه إذا أعمل (تصد) لزم أن يقول: تصد وتبدى عنه عن أسيل، لأن الفعل الأول في هذا الباب إذا أعمل أضمر في الثاني، وإذا أعمل الثاني لم يضمر في الأول، إلا أن يكون فاعلاً فإنه يضمر في قول أكثر النحويين، إذ لابد من فاعل ظاهر أو مضمر. فإن قلت: كيف زعم ابن قتيبة وزعمت أنت أن حكم (صد) أن يتعدى بالباء حتى احتيج إلى أن يجعل (عن) بدلاً من (الباء) ونحن نجد صد يتعدى (بعن) في نحو قوله: صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمينا

فالجواب: أن صد إنما يحتاج في تعديه إلى (عن) في غير الشيء المصدود به، كقولك صد زيد عن عمرو، فإذا ذكرت الشيء الذي يقع به الصد احتجت إلى الباء كقولك: صد زيد بوجهه عن عمرو. فلما كان الخد الأسيل هو الذي به يقع الصد لا عنه، كان مكان الباء، ولم تجز فيه (عن) فالصد إذن نوعان من التعدي: تعد على جهة النقل، وتعد على غير جهة النقل؛ فتعديه على جهة النقل هو الذي يحتاج فيه إلى الباء المعاقبة للهمزة، وتعديه على غير جهة النقل هو الذي يحتاج فيه إلى (عن). تقول: صد زيد بوجهه عن عمر، وأصد زيد وجهه عن عمرو، فتكون الباء معاقبة للهمزة، كما قال امرؤ القيس: أصد نشاص ذي القونين حتى ... تولى عارض الملك الهمام ونظير هذه المسألة قولك: نزل زيد بجملته على عمرو، فتعدى نزل بالباء، و (على) على معنيين مختلفين، وقد يستغنى صددت عن الباء في تعديه فيقال صددت الشيء وأصددته كما قال (صددت الكاس عنا أم عمرو) - ولا يستغني عن التعدي (بعن) إذا أردت ذكر الشيء الذي وقع الإعراض عنه. وأما قوله (مطفل) فمن جعل الناظرة البقرة، كان (مطفل) صفة لها. وكان التقدير: ونتقى بعين بقرة ناظرة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وحذف الموصوف أيضاً وأناب الصفة منابه، ويجوز أن يريد وتتقي من نفسها ببقرة ناظرة، فيكون كقولك لقيت بزيد الأسد أي لقيته فكأني لقيت الأسد، ففي هذا الوجه حذف موصوف لا غير، وفي الأول حذف موصوف ومضاف.

ومن جعل الناظرة العين، جعل مطفلاً بدلا ًمن ناظرة ولابد من تقدير محذوف أيضاً حتى يصح الكلام، وتقديره: وتتقي بناظرة ناظرة مطفل، ثم حذف المضاف. فهو إذن من إبدال الشيء وهما لعين واحدة. وذهب بعض النحويين - وأحسبه قول ابن كيسان- إلى أنه أراد وتتقي بناظرة مطفل، فلما فرق بين المضاف والمضاف إليه رد التنوين الذي كان سقط للإضافة. وعلى هذا كان يتأول قول الآخر: رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلعه الطلحات وهذا القول خطأ لا يلتفت إلى مثله، لأن العرب إذا حالت بين المضاف والمضاف إليه لم تنونه، وذلك أكثر في الشعر من أن يحصى كقوله: كأن أصوات من إيفالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج وليس ينبغي أن يحمل الشيء على الشذوذ إذا وجد له وجه صحيح يحمل عليه. وقوله من وحش وجرة (من) فيه متعلقة بمحذوف لأنها في موضع خفض على الصفة لناظرة، فمن اعتقد أن الناظرة البقرة، فتقدير الكلام: بناظرة بقرة كائنة من وحش وجرة، فحذف الموصوف. ومن اعتقد أن الناظرة العين فتقدير الكلام بناظرة بقرة كائنة من نواظر وحش وجرة، ففيه مجازان: حذف موصوف، وحذف مضاف. * * *

وأنشد في هذا الباب: (301) (وتركب يوم الروع فيها فوارس ... بصيرون في طعن الأباهر والكلى) البيت لزيد الخيل بن مهلهل الطائي، وسمى زيد الخيل لخيل كثيرة انت له، منها: الهطال، والكميت، والورد، والكامل ودؤول، ولاحق، وهذا البيت من شعر خاطب به كعب بن زهير، وقبله: تحضض جبارا على ورهطه ... وما صرمتي منهم لأول من سعى فترعى بأذناب الشعاب ودونها ... رجال يصدون الظلوم عن الهوى والهاء في قوله "وتركب فيها" تعود على الصرمة، وقوله "بصيرون في طعن الأباهر والكليء) وصفهم بالحذق في الطعن، فهم يتعمدون المقاتل. والأباهر: جمع أبهر وهو عرق مستبطن المتن متصل بالقلب. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (302) (وخضخضن فينا البحر حتى قطعنه ... على كل حال من غمار ومن وحل) هذا البيت لا أعلم قائلة واحسبه يصف سفنا، والخضخضة: التحريك، والغمار: جمع غمرة وهي معظم الماء. * * *

وأنشد في هذا الباب: (303) (نلود في أم لنا ما تغتضب) هذا البيت لبعض شعراء طيء، وبعده: سما لها أنف عزيز وذنب ... وحاجب ما عن يواريه العطب من السحاب ترتدي وتنتقب يعني بالأم سلمى أحد جبلى طيء وجعله أما لهم لأنه كان يضمهم ويؤويهم كما تضم المرأة ولدها وتؤويه، كما قال تعالى: (فأمه هاوية). ويواريه: يستره، والعطب: القطن. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (304) (وإذا تنوشد في المهارق أنشدا) البيت لأعشى بكر وصدره: (ربي كريم لايكدر نعمة) عني بربه سرى، وكنا الحارص بن وعلة أغار على بعض سواد كسرى فأخذ كسرى قيس ابن مسعود ومن وجد من بني بكر فحبسهم، فلذلك قال

الأعشى هذا يستعطفه به ويسأله نعمته عليهم وأن يكدرها بإساءة من أساء منهم. وقوله: (وإذا تنوشد بالمهارق)، يذكره بمعاهدته التي كان عاهدهم، وذمته التي كان أعطاهم، فوصفه بأنه إذا حلف بما في كتب الأنبياء، التزم ما حلف عليه لصحة دينه واستحكام بصيرته ويقينه، وقبله: قالت قتيلة: ما لجسمك شاحباً ... وأرى ثيابك باليات همدا أذللت نفسك بعد تكرمة لها ... أم كنت ذاعوز ومنتظرا غدا أم غاب ربك فاعترتك خصاصة ... فلعل ربك أن يعود مؤيدا * * * وأنشد في هذا الباب: (305) (رعته أشهراً وخلا عليها ... فطار التي فيها واستغارا) البيت للراعي وصف ناقة فقال: رعت هذا الموضع أشهر الربيع وخلالهان فلم ين لها فيه منازع، فسمنت. الني: الشحم، ومعنى طار: أسرع ظهوره. وقال ابن قتيبة في المعاني: استغار وغار واحد كأنه قال ظهر الني فيها واستتر. ورواه الباهلي فسار بالسين، وقال: معنى سار: ارتفع، واستغار: انهبط من قولك غار يغور، ومثله قول ابن أحمر: تعلى الندى في متنه وتحدرا وقال الحربي: يقال استغار الجرح إذا تورم. وأنشد: (فطار الني فيها واستغارا)

وذكر أنه يروى استعار بالعين غير معجمة، أي ذهب يميناً وشمالاً من قولهم عار الفرس إذا أفلت. * * * وأنشد في هذا الباب: (306) (فخر صريعاً لليدين وللفم) هذا البيت يروى للمكعبر الأسدي وقيل إنه للمكعبر الضبين ويقال إنه لشريح ابن أوفى العبسي، وقيل نه لعصام بن المقشعر العبسي، وذكر ابن شبة أنه للأشعث بن قيس الندي، وصدره. تناولت بالرمح الطويل ثيابه وهذا الشعر قيل في محمد بن طلحة، وقتل يوم صفين، وكان على رضي الله عنه قال لأصحابه: اجعلوا شعاركم حاميم، لا يبصرون. وكان محمد بن طلحة من أصحاب معاوية، فكان إذا حمل عليه رجل من أصحاب على يقول له محمد: أسألك بحاميم فيكف عنه، إلى أن حمل عليه الأشعث بن قيس فقال له محمد أسألك بحاميم فلم يلتفت إلى قوله فقتله وقال: وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم تناولت بالرمح الطويل ثيابه ... فخر صريعاً لليدين وللفم يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم على غير شيء غير أن ليس تابعاً ... عليا ومن لا يتبع الحق يندم * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (307) (كأن محواها على ثفناتها ... معرس خمس وقعت للجناجن) هذا البيت للطرماح بن حكيم، وبعده: وقعن اثنتين واثنتين وفردة ... يبادرن تغليساً سمال المداهن المخوى: مصدر خوى البعير تخويه، ومخوى: إذا تجافى للبروك. ويقال للموضع الذي يبرك فيه محوى أيضاً. والثفنات: ما أصاب الأرض من البعير إذا برك، والمعرس: موضع التعريس وهو النزول في السحر. ويكون مصدراً أيضاً بمعنى التعريس، والجناجن: جمع جنجن وجنجن وهي عظام الصدر، وصف نافة بركت فشبه آثار ثفناتها في الأرض، وهي قوائمها الأربع وصدرها بآثار خمس من القطا وقعت على جناجها فأثرت في الأرض، وأراد بالاثنتين والاثنتين: مواقع يديها ورجليها، وبالفردة: موقع صدرها، وأراد أن يقول: معرس خمس من القطا فلم يمكنه ذلك، وقد أوضح ذلك ذو الرمة بقوله: مناخ قرون الركبتين كأنه ... معرس خمس من قطا متجاور وقعن اثنتين واثنتين وفردة ... حريدا هي الوسطى بصحراء حائر قال الأصمعي: قوله قرون الركبتين يقول: إذا بركت قرنت بين ركبيها فكأن معرسها معرس خمس من قطا. أراد الركبتين والثفنتين والكركرة وهي ما أصاب

الأرض من صدرها. وقوله: (وفردة حريدا) يعني الكركرة وهي الوسطى. وحائر: موضع. والتغليس: البكور، والسمال: بقايا الماء. والمداهن: نقر في الصخر يجمع فيها الماء واحدها مدهن. * * * وأنشد في هذا الباب: (308) (يسقى فلا يروى إلى ابن أحمرا) البيت لعمرو بن أحمد الباهلي، وصدره: تقول وقد عاليت بالكور فوقها وصف أنه يتعب ناقته بطول السفر حتى إنها لو انكت ممكن يتكلم لقالت هذه المقالةن والتقدير يسقى ابن احمر فلا يروى مني، فقدم وأخر. واستعمل (إلى) موضع (من) وضرب السقى والري مثلين لما يناله بها من المآرب، ويدرك بالسفر عليها من المطالب، وقبله: فزعت إلى القصواء وهي معدة ... لا مثالها عندي إذا كنت أوجرا كثور العداب الفرد يضربه الندى ... تعلى الندى في متنه وتحدرا * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (309) (أم لا سبيل إلى الشباب، وذكره ... أشهى إلى من الرحيق السلسل)

البيت لأبي كبير الهذلي وهو أحد من شهر بكنيته دون اسمه، واسمه عامر بن الحليسن أحد بني سعد بن هذيل، وقال أبو عمرو الشيباني: هو عامر بن جمرة بجيم وراء غير معجمة وقبل هذا البيت: أزهير هل عن شيبة من معدل ... أم لا سبيل على الشباب الأول زهير ترخيم زهيرة وهي ابنة، والرحيق: الخمر، والسلسل: السهل في الحلق السلس. يقال ماء سلس وسلسال وسلاسل وسلسبيل: إذا كان عذابا. * * * وأنشد في هذا الباب: (310) (ثقال إذا راد النساء خريدة ... صناع فقد سادت إلى الغوانيا) البيت للراعي وقد تقدم ذكر اسمه. والثقال: المرأة الثقيلة عن الحركة والتصرف الملازمة لمكانها. ومعنى راد النساء: أكثرن من الذهاب والمجيء والتصرف. يقول: إذا أكثر النساء الجولان والطواف لزمت بيتها ولم تخرج لخفرها وحيائها، أو لأن لها من يكفيها الأمور ويغنيها عن التصرف. والصناع: الصانعة الحاذقة بالأعمال. والغواني: النساء اللواتي غنين بجمالهن عن الزينة، وقيل هن اللواتي غنين بأزواجهن عن غيرهم: وقيل: هن اللواتي لم يقع عليهم سياء. ومعنى (إلى) عندي، وقبل هذا البيت: رأيت نساء الناس لما رميتني ... أصبن الشوى مني واصمت فؤاديا

يقال: رماه فأشواه، ورماه فأصاب شواه إذا أخطأ مقتله. وأصل ذلك أن يرمي الوحشي فيصيب شواه وهي قوائمه وليست بمقتل فضرب ذلك مثلاً. ويقال: رماه فأصماه: إذا أصاب مقتله. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (311) (وكان إليها كالذي اصطاد بكرها ... شقاقاً وبغضاً أو أطم وأهجرا) هذا البيت للنابغة الجعدي، وقد ذكرنا اسمه فيما مضى، وقبله: فلما شفاها اليأس وارتد همها ... إليها ولم يترك لها متذكرا أشب لها فرد خلا بين عاذب ... وبين جماد الحي بالصيف أشهرا فلما رآها كانت الهم والمنى ... ولم ير فيما دونها متغيرا وصف بقرة أكل السبع ولدها فلما يئست منه عرض لا ثور فرد ليس معه أزواج فأرادها ففرت عنه، لما كانت فيه من الحزن على ولدها، وكان عندها في كراهتها إياه كالذي اصطاد ولدها، أو كانت له أشد بغضاً وأهجر، ومعنى أشب لها: عرض لها، يقال أشب لي فلان إذا عرض لك بحيث تراه من بعد، ومتغير بقاء، أي حرص عليها ولم يرد بقاء دونها، والبكر: الولد الأول. * * *

وأنشد في هذا الباب: (312) (وذكرك سبات إلى عجيب) البيت لحميد بن ثور الهلالي، وصدره: ذكرتك لما أتلعت من كناسها يقول لمحبوبته: لما رأيت الظبية قد مدت عنقها من كناسها ونصبته ذكرتك لشبهها بك، والتلع: إشراف العنق وانتصابه: والسبات: الأوقات واحدتها سبة، وعجيب: معجب لذيذ، يقول ذكرك في جميع الأوقات يعجبني ويلذ لي، وبعده: فقلت على الله لا تذعرانها ... وقد بشرت إن اللقاء قريب يريد أنها سحنت له فتفاءل بذلك. وكانت العرب تتيمن بالسانح وتتشاءم بالبارح، وكان منهم من يعكس الأمر. والعلة الموجبة لاختلافهم في ذلك أن بعضهم كان يراعي ميامن ما يمر به من الوحش والطير ومياسره، وكان بعضه يراعى ميامن نفسه ومياسرها. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (313) (لعمرك إن المس من أم جابر ... إلى، وإن لم آته، لبغيض)

وهذا البيت لا أعلم قائله وزاد ابن الأعرابي بعده: إذا فرشتنا ثوبها فكأنما ... يفرق نمل بيننا وبعوض ويروى: وإن باشرتها. والمراد بالمباشرة ههنا. النكاح، وصف امرأة يكره مضاجعتها وملامسة جسمه لجسمها، ويقلقه ذلك حتى كان بينه وبينها البعوض والنمل. * * * وأنشد في هذا الباب: (314) (لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني) البيت لذي الإصبع العدواني خاطب به ابن عمل له كان ينافسه ويعاديه. وقوله (لاه): أراد (الله) فحذف لام الجر واللام الأولى من الله. وكان أبو العباس المبرد يروى أنه حذف اللامين من الله تعالى وأبقى لام الجر وفتحها من أجل الألف، وحجته أن حرف الجر لا يجوز أن يحذف، والأول قول سيبويه، والديان: القيم بالأمر المجازي به. ومعنى تخزوني: تسوسني. يقول لله ابن عمك الذي ساواك في الحسب وماثلك في الشرف، فليس لك فضل عليه في الأبوة فتفخر به ولا أنت مالك أمره فتسوسه وتصرفه على حكمك. ويعني بابن العم المذكور نفسه فلذلك رد الإخبار بلفظ المتكلم ولم يخرجه بلفظ الغيبة لئلا يتوهم أنه يعني غير

نفسه، ولو جاء بالكلام على لفظ الغيبة لكان أحسن، ولكنه أراد تأكيد البيان ورفع الإشكال. وذهب يعقوب - ومن كتابه نقل ابن قتيبة هذه الأبواب - إلى أن (عن) ههنا بمعنى (على)، وإنما قال ذل لأنه جعل قوله أفضلت من قوله: أفضلت على الرجل: إذا أوليته فضلاً، وأفضلت هذه تتعدى بعلى لأنها بمعنى الإنعام، ومعناه أنك لم تنعم علي بأن شرفتني فتعتد بذلك على. وقد يجوز أن يكون من قولهم أعطى وأفضل: إذا زاد على الواجب. وأفضل هذه أيضاً تتعدى بعلى؛ يقال أفضل على كذا: أي زاد عليه فضله. وقد يجوز أن يكون من قولهم أفضل الرجل: إذا صار ذا فضل في نفسه، فيكون معناه ليس لك فضل تنفرد به عني وتحوزه دوني، فتكون (عن) ههنا واقعة موقعها غير مبدلة من (على). وقوله: لا أفضلت معناه: لم تفضل، والعرب تقرن (لا) بالفعل الماضي فينوب ذلك مناب (لم) إذا قرنت بالفعل المستقبل؛ فمن ذلك قوله تعالى (فلا صدق ولا صلى) معناه: لم يصدق ولم يصل. ومنه قول أبي خراش: إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما أي لم يلم بذنب. وبعد بيت ذي الإصبع: ولا تقوت عيالي يوم مسغبة ... ولا بنفسك في العزاء تكفيني * * * وأنشد في هذا الباب: (315) (تدحرج عن ذي سامه المتقارب)

البيت لقيس بن الخطيم، وصدره: لو أنك تلقى حنظلاً فوق بيضنا وصف تضايقهم في الحرب وشدة تلاصقهم لكثرة عددهم حتى لو ألقى الحنظل على بيضاتهم لمشى عليها ولم يسقط إلى الأرض، وكان الناس يعدون هذا من الإغراق والمحال الذي لا يمكن، حتى قال ابن الرومي: فلو حصبتهم بالنضاء سحابة ... لظل على هاماتهم يتدحرج يقول: لو نزل على رؤوسهم برد لم يسقط إلى الأرض فكان ذلك أشنع في الحال من قول قيس. ثم قال أبو الطيب المتنبي فزاد في الإغراق والمحال. يمنعها أن يصيبها مطر ... شدة ما قد تضايق الأسل ومعنى تدحرج: استدار، والسام: عروق الذهب، ويعني بذي سامه: البيض المذهبة، ويروى عن دلاصه وهو البراق الأملس. وفي قوله عن ذي سامه شذوذ واستكراه لأن الهاء التي في سامه ترجع إلى البيض، وذو السام هو البيض بعينه، وهذا يقتضي إضافة الشيء إلى نفسه. وفيه شذوذ آخر. وذلك أن الشيء إذا ذكر ثم احتيج إلى إعادة ذكره في جملة واحدة وجب أن يضمر ولا يظهر كقولك زيد قام، ويقبح أن تقول زيد قام زيد. فكان ينبغي أن يضمر البيض لأن ذكرها قد جرى فيقول: تدحرج عنه، فأتى به مظهراً بغير لفظ الأول

فصار كقولك: لقيت زيداً فضربت ذا الفرس، وأنت تريد فضربته ثم أضافه إلى الهاء فصار كقولك لقيت زيداً فضربت ذا فرسه. وهذا شذوذ لا نظير له في كلامهم فيما علمناه، وهو أقبح من قولهم مررت برجل حسن وجهه على ما فيه من القبح. والوجه لمن روى هذه الرواية أن يجعل الهاء عائدة على الرجال من قوله قبل هذا البيت: رجال متى يدعوا إلى الموت أرفلوا ... إليه كإرقال الجمال المصاعب فكأنه قال تدحرج عن ذي سام الرجال، وذكر الضمير وأفرده على معنى الجميع. وذو سام الرجال، هو البيض. فأدى ذلك ما يؤديه قوله عن بيض الرجال، ولو روى عن ذي سامتا، أي عن بيضنا، لكان أجود وإن كان مستكرهاً، وإنما أضاف السام إلى الرجال، أو إلى ضميرهم وإن كان السام إنما هو للبيض، لأنهم الذين أذهبوه به وزينوه فكأنه قال: عن البيض الذي أذهبه الرجال أو أذهبناه وقد يضاف الشيء على الشيء وإن لم يكن له لما بينهما من الملابسة والاتصال كقوله تعالى: (ذلك لمن خاف مقامي) ولا مقام لله تعالى ولا هو من صفاته وإنما المعنى مقامه عندي. وقد روى بيت زهير: وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى رهنها غلقا والرهن ليس لها وإنما المعنى رهن عندها. * * *

وأنشد في هذا الباب: (316) (لقحت حرب وائل عن حيال) البيت للحارث بن عباد، وصدره: قربا مربط النعامة منى قاله في حرب بكر وتغلب حين قتل جساس كليبا، فاعتزل الحارث حربهم، وقال هذا أمر لا ناقة لي فيه ولا جمل، فذهبت مثلاً. فلم يزل كذلك إلى أن لقي مهلهل بجيراً ابن أخيه وزعم أبو العباس المبرد أنه ابنه فقتله وقال: بؤ بشسع نعل كليب، فأخبر بذلك الحارث فقال: نعم القتيل قتيل أصلح بين ابني وائل فكف سفهاءهما وحقن دماءهما. والسفاء ممدود: الطيش فقيل له إنما قتله مهلهل بشسع نعله، فلم يصدق ذلك وبعث إلى مهلهل: إن كنت قتلت بجيراً بأخيك ورضيت به كفأ فقد رضيت ذلك لنزول هذه النائرة: فقال مهلهل: إنما قتلته بشسع نعله، فعندها قال الحارث هذا الشعر وبعد هذا البيت: لا يجير أغنى قتيلا ولا رهـ ... ـط كليب تزاجروا عن ضلال لم أكن من جناتها علم اللـ ... ـه وإني بحرها اليوم صالي قربا مربط النعامة منى ... إن قتل الغلام بالشسع غالي

والنعامة اسم فرسه، ومعنى لقحت: حملت، والحيال أن تضرب الناقة فلا تحمل، وإنما ضرب ذل مثلاً لما تولد عن الحرب وانتهج منها من الأمور التي لم تكن تحتسب قبل ذلك. * * * وأنشد في هذا الباب: (317) (تؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل) هذا البيت من مشهور شعر امريء القيس وصدره: ويضجي فتيت المسك فوق فراشها ويجوز في تؤوم الرفع على إضمار مبتدأ والنصب على إضمار فعل، كأنه قال أعنى، والخفض على البدل من الضمير، ومعنى لم تنتطق: لم تحتزم بنطاق للخدمة، والتصرف والتفضل: التجرد في ثوب واحد للابتذال، وإنما أراد أنها مكفية المؤونة وأن لها من يخدمها، فهي تنام إلى وقت الضحى، ويتناثر المسك من شعرها على فراشها لكثرته. * * * وأنشد في هذا الباب: (318) (ومنهل وردته عن منهل)

هذا البيت للعجاج، وبعده: قفرين هذا، ثم ذا، لم يؤهل ... كأن أرياش الحمام النسل عليه ورقان القران النصل ... كأن نسج العنكبوت المرمل على ذرى قلامه المهدل ... سبوب كتان بأيدي الغزل وأنشده ابن الأعرابي في نوادره في رجز ذكر أنه لعبد الله بن رواحة الأنصاري، وأنشد بعده: قفر به الأعطان لم تسهل ... عليه نسج العنكبوت المرمل طال فلم يقطع ولم يوصل المنهل: مورد الماء، ويوهل: يعمر ويكون به أهل، والمرمل: المنسوج يقال: رملت الحصير وأرملته، وهو مخفوض على الجوار، ويجوز أن يكون صفة للعنكبوت على أن يريد المرمل نسجه ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه النسج مقامه فاستتر في الرمل؛ لأن الضمير المرفوع إذا كان مفردا استتر في الفعل وما ينوب مناب الفعل، وإنما يظهر في التثنية والجمع. وعلى هذا الوجه يحمل قول العرب (هذا جحر ضب خرب) فيكون خرب صفة لا مخفوضاً على الجوار. فإن قيل: فما الذي يمنعكم من كسر الميم من المرمل فتكون صفة للعنكبوت على ما ينبغي ولا يحتاج إلى هذا التكلف، فالجواب أنه سمع من العرب مفتوح الميم فلذلك احتيج إلى هذا التأويل. والذري: الأعالي واحدها ذروة وذروة بضم الذال

وكسرها، والقلام: نبت، والمهدل: المتدلي الأغصان والسبوب: الثياب الرقاق واحدها سب. * * * وأنشد في هذا البيت: (319) (واسأل بهم أسداً إذا جعلت ... حرب العدو تشول عن عقم) البيت للنابغة الجعدي، وقوله تشول عن عقم يقال: شالت الناقة إذا رفعت ذنبها لترى أنها لاقح، والعقم: مصدر العقيم وهي التي لا تلد، يقول: اسأل عنهم أسداً كيف صبرهم وشجاعتهم إذا صارت الحرب الحائل لاقحا وهو مثل قوله - لقحت حرب وائل عن حيال. وبعده: شم الأنوف طوال أنضية الـ ... أعناق غير تنابل كزم والتنابل: القصار واحدهم تنبال، والكزم: القصار الأنوف، وقيل هم القصار الأصابع واحدهم أكزم، والأنضية: جمع نضى وهو القدح بلا نصل فشبه به العنق. * * * وأنشد في هذا الباب: (320) (لوردٍ تقلص الغيطان عنه) هذا البيت للبيد بن ربيعة العامري، وتمامه: (يبذ مفازة الخمس الكمال)

يصف حمير وحش تسير لورود الماء وهي شديدة العطش، فهي تسرع فكأن الغيطان تقصر من سرعتها. والغيطان: المواضع المنخفضة من الأرض، واحدها غائط، وقوله: عنه، أي من أجله. ويبذ هنا بمعنى يقطع، والمفازة: الفلاة سميت بذلك تفاؤلاً لسالكها بالفوز والنجاة، وكان ينبغي أني قال لها: مهلكة كما قالوا للذيع سليم، تفاؤلاً له بالسلامة. هذا قول الأصمعي، وحكى أبو العباس ثعلب قال: ذكرت لابن الأعرابي قول الأصمعي في المفازة فقال أخطأ، لأن المكارم أخبرنا أنها إنما قيل لها مفازة، لأن من قطعها فاز. وحكى أبو العباس المبرد: فاز الرجل وفوز إذا هلك، فالمفازة على هذا بمنزلة المهلكة بخلاف ما قالا، وأراد بالخمس الكمال: مسيرها إلى الماء خمس ليال كاملة، يريد أنها تقطع المسافة التي لا تقطع إلا في هذا المقدار فيما دون ذلك لسرعة السير، وكمال جمع كامل كقولك قائم وقيام، ويجوز أن يكون جمع كميل كقولك ظريف وظراف، ويروى الخمس بكسر الخاء، والكمال بفتح الكاف، وتقديره على هذا ذي الكمال فحذف المضاف، ويجوز أن يصف بالمصدر فيجعله بمعنى اسم الفاعل كما قالوا: رجل عدل: أي عادل، ونوم: أي نائم، وقبل هذا البيت: فذكرها مناهل طاميات ... بصارة لا تنزح بالدوالي فاقبلها النجاد وشايعته ... هواديها كأنضية المغالي قوله ذكرها: يعني الحمار، والمناهل: موارد الماء، والطاميات: اللواتي طمى ماؤها أي ارتفع لكثرته. وقوله لا تنزح أي لا يسقى ما فيها حتى ينقذ لكثرته، وأنه في فلاة لا يرده وارد فيستقيه، والدوالي: ما يدلي به الماء، أي يستقي. والنجاد: المواضع المرتفعة، وشايعته: تابعته على ما أراد، والهوادي:

المتقدمة، والأنضية: سهام لا نصال لها واحدها نضى، شبهها بها لسرعتها، والمغالى: الذي يرامى صاحبه لينظر أيهما أبعد غلوة سهم وأقصر على الغرض. * * * وأنشد في هذا الباب: (321) (ولقد شهدت إذا القداح توحدت ... وشهدت عند الليل موقد نارها) (عن ذات أولية أوساد ربها ... وكأن لون الملح فوق شفارها) البيتان للنمر بن تولب، مدح نفسه بحضور الميسر والمقامرة، وكانوا يعدون ذلك من الكرم ويسمون اللاعب له: يسرا، وكانوا يعدون الامتناع من لعبه من اللؤم ويسمونه الممتنع منه برما، ولذلك قال العرندس الكلابي: هينون لينون أيسار ذو وكرم ... سواس مكرمة أبناء أيسار ويروى: إذا اللقاح توحدت، فمن روى القداح فمعناه: أخذ كل رجل قدحاً واحداً لغلاء اللحم، وإذا كان اللحم رخيصاً فربما أخذ الرجل قدحين فكان له غنمهما وعليه غرمهما، وربما اخذ أكثر من ذلك. ومن روى: إذا اللقاح فمعناه: تفرد كل إنسان بلقحة للجهد ليقوم عليها ولا يشركه فيها أحد. واللقحة: الناقة ذات اللبن. قال يعقوب: أراد أنه شهدها حيث توحدت ليشرب لبنها وشهدها حيث أوقدت النار ليضرب عليها بالقداح. وذكر إيقاد النار إعلاماً بأن

ذلك كان في أيام البرد وضيق الأحوال. وفي ذلك الوقت يتمدحون باللعب. والموقد بفتح القاف: المكان الذي توقد فيه النار، ويكون أيضاً مصدراً بمعنى الإيقاد، والموقد بكسر القاف: اسم الفاعل والرواية بفتح القاف. وقوله: (عن ذات أولية) فيه قولان، قال قوم: أراد سنامها، شبهه لتكاثف الشحم عليه بالأولية وهي البراذع واحدتها ولية. وقال بعضهم: أراد أنها أكلت وليا بعد ولي. والولي أصله المطر الذي يلي الوسمى. وأراد هاهنا النبت الذي أنبته الولي، سماه باسمه إذ كان نباته عنه كما قالوا للنبت ندى لتكونه عن الندى والمساودة والسواد: المسارة يقال: ساودت الرجل يريد أنه يسار صاحب الناقة ليخدعه. وفي الحديث السواد ضرب من السحر. وقيل لابنة الحنس: كيف زنيت وأنت سيدة قومك عقلاً ورأياً؟ فقالت: قرب الوساد، وطول السواد. وقوله عن ذات أولية: أي من أجلها، وكان لون الملح فوق شفارها فيه قولان: قيل أراد الشفار شحذت لها حتى ترت تلألأ وتطرد مثل لون الملح، ومثله قول عنترة: ضرتب عمراً على الخيشوم مقتدرا ... بصارم مثل لون الملح بثار وقيل: أراد على شفارها التي جزرت بها من شحمها شبه الملح، وغنما قال عند الليل، ولم يقل عند الصبح لأن لعبهم إنما كان بالعشايا وبالليل، ولذلك قال دريد بن الصمة القشيري: دفعت إلى المفيض وقد تجانوا ... على الركبات مغرب كل شمس * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (322) (شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج) البيت لأبي ذؤيب الهذلي وصف سحابا ارتفعت من البحر. وهذيل كلها تصف أن السحاب تستقيم، البحر ثم تصعد في الجو. وقبل هذا البيت: سقى أم عمرو كل آخر ليلة ... حناتم سود ماؤهن ثجيج والحناتم: سحاب سود واحدها حنتم، وأصل الحناتم: جراد خضر، ولكن العرب تجعل كل أخضر أسود. وإنما يفعلون ذلك لأن الخضرة إذا اشتدت صارت سواداً، ولذلك قالوا: الليل أخضر. قال ذو الرمة: في ظل أخضر يدعو هامه اليوم وقوله: كل آخر ليلة، قال الأصمعي: يريد أبدا، ومثله: لا أكلم آخر الليالين أي لا أكلمك ما بقى علي من الزمن ليلة، والثج والثجيج: السيل الشديد، فيجوز أن يكون ثجبج بمعنى ثاج، ويجوز أن يكون أراد ذو ثجيج فحذف المضاف، ويجوز أن يكون أوقع المصدر موقع اسم الفاعل مبالغة في المعنى، وفي قوله متى لُجج قولان؛ قيل: أراد من لجج كما قال أبو المثلم الهذلي: متى أقطارها علق نفيث

أراد من أقطارها، وقيل: متى بمعنى وسط وحكى أبو معاذ الهراء - وهو من شيوخ الكوفيين: جعلته في متى كمي والنشيج: المر السريع معه صوت. * * * وأنشد في هذا الباب: (323) (شربت بماء الدحرضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم) هذا البيت من مشهور شعر عنترة، والدحرضان: ماء آن يقال لأحدهما وسيع، وللآخر الدحرض، فلما جمعهما غلب أحدهما على الآخر. وإنما يغلبون في مثل هذه الأشهر أو الخف لفظاً. هذا قول الأصمعي، ويقال وسيع ووشيع بالسين والشين. وقال أبو عمرو الدحرضان بلد. وقال غيرهما: هو ماء لبني سعد. وزراء: مائلة منحرفة. وأراد بالديلم: الأعداء، وأصل الديلم: جيل من العجم، فشبه بهم أعداءه، هذا قول الأصمعي وابن الأعرابي. وقال أبو عمرو: الديلم: الجماعة، ويقال الظلمة، ويقال أرض، ويقال هو ماء في أقاصي البدو. وحكى يعقوب في المعاني عن الأصمعي قال: الديلم ضبة، وذلك أنهم دلمان في ألوانهم. وذكر النفار عن حياضهم، لأن بني عبس لما راغموا قومهم مروا بضبة فأرادت ضبة اخذ أموالهم فنجوا، ومالوا إلى بني عامر مستجيرين. ثم ساروا

على الدحرض ووسيع ورداعة حتى عاذوا بمالك ذي الرقيبة القشيري فحكى عنترة ما كان. قال: وهذه مياه بني أنف الناقة من بني بهدلة، وحكى أبو على البغدادي قال: حدثني ابن الأنباري عن أبي العباس ثعلب عن ابن الأعرابي قال: قال لي أبو زياد الكلابي في قوله عنترة: 0 تنفو عن حياض الديلم) الديلم: آبار وقد أوردتها إبلي. وأنشد في هذا الباب: (324) (ما بكاء الكبير بالأطلال) هذا البيت لأعشى بكر وتمامه: وسؤالي فهل يرد سؤالي ويروى فما ترد ولا ترد، ويروى بالتاء والياء، وبعده: دمنة قفرة تعاورها الصيـ ... ـف بريحين من صبا وشمال فمن روى ترد على لفظ التأنيث، رفع الدمنة وجعلها الفاعلة وجعل (سؤالي) في موضع نصب، وقدر مضافاً محذوفاً كأنه قال: فهل ترد جواب سؤالي دمنة؟. في ومن روى فهل يرد بلفظ التذكير نصب دمنة وجعلها مفعوله وجعل (سؤالي) في موضع رفع، ومعناه أن سؤالي لا يرد الدمنة إلى ما كانت عليه، ومن روى "ما" واعتقد أنها نفى جاز أن يقول ترد، بلف التأنيث، ويرفع الدمنة لا غير،

وجاز أن يقول: يرد بلفظ التذكير وينصب الدمنة إن شاء ويرفعها إن شاء، وإن اعتقد أن "ما" ههنا استفهام، قال: يرد على لفظ التذكير، وجعل "ما" في موضع نصب بيرد، وسؤالي في موضع رفع، ونصب دمنة بالسؤال لا غير. ومن روى "فلا يرد سؤالي" على لفظ التذكير، نصب الدمنة، وإن شاء رفعها. ومن روى "فلا ترد على لفظ التأنيث رفع الدمنة لا غير". ورويت في هذا البيت حكاية مستظرفة، رأيت إثباتها في هذا الموضع: روى نقلة الأخبار أن طليحة الأسدي كان شريفاً، وكان يفد على كسرى فيكرمه ويدني مجلسه، قال طليحة: فوفدت عليه مرة فوافقت عيداً من أعياد الفرس، فحضرت عند سرى في جملة من حر من أصحابه، فلما طعمنا وضع الشراب فطفقنا نشرب فغنى المغني: لا يتأرى لما في القدر يرقبه ... ولا يعض على شر سوفه الصفر فقال كسرى لترجمانه: ما يقول؟ ففسره له، فقال كسرى: هذا قبيح، ثم غناه المغني: أتتك العيس تنفخ في براها ... تكشف عن مناكبها القطوع فقال كسرى لترجمانه: ما يقول؟ فقال لا أدري. فقال بعض جلسائه شاه شاه اشتر أف أف، معناه يا ملك الملوك هذا جمل ينفخ وأشتر بلغتهم الجمل وشاه: الملك، وأف، حكاية النفخ. قال طليحة: فأضحكني تفسيره العربية بالفارسية. ثم غناه المغني بشعر فارسي لم أفهمه، فطرب كسرى وملئت له كأس وقام فشربها قائماً، ودارت الكأس على جميع الجلساء. قال طليحة: وكان الترجمان إلى جانبي فقلت له: ما هذا الشعر الذي أطرب الملك هذا الطرب؟ فقال: خرج يوماً

متنزها فلقي غلاماً حسن الصورة وفي يمينه ورد فاستحسنه وأمر أن يصنع له فيه شعراً فإذا غني المغني ذلك الشعر، طرب وفعل ما رأيت، فقلت: وما في هذا مما يطرب حتى يبلغ فيه هذا المبلغ؟ فسأل كسرى الترجمان عما حاورني فيه؟ فأخبره، فقال: قل له إذا كان هذا لا يطرب فما الذي يطربك أنت؟ فأدى على الترجمان قوله فقلت قول الأعشى: ما بكاء الكبير بالأطلال ... وسؤالي فما يرد سؤالي فأخبره الترجمان بذلك فقال كسرى: وما معنى هذا؟ فقلت: هذا شيخ مر بمنزل محبوبته فوجده خالياً قد عفا وتغير، فوقف فيه وجعل يبكي. فضحك كسرى وقال: وما الذي يطربك من شيخ واقف في خربة وهو يبكي؟ أو ليس الذي أطربنا نحن أولى بأن يطرب له؟ قال طليحة: فثقل عليه حالي بعد ذلك. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (325) (شدخت غرة السوابق فيهم ... في وجوه إلى اللمام الجعاد) هذا البيت لابن مفرغ الحميري مدح به قوماً وأراد أنهم مشهورون بالسبق إلى الفضل كشهرة الفرس الذي شدخت غرته حتى ملأت جبهته، وأن لهم لمما جعادا - وهي الشعور التي تلم بالمناكب واحدتها لمة- فإذا لم تجاوز شحمة الأذن فهي وفرة، وأراد بالجعودة هاهنا: غير المفرطة وأما الجعودة المفرطة فليست مما يستحب. * * *

وأنشد في هذا الباب: (326) (بها كل خوار إلى كل صعلة) البيت لذي الرمة وتمامه: ضهول ورفض المذرعات القراهب وصف داراً خلت من أهلها وصارت مألفا للوحوش بعدهم. والخوار: الثور، وقيل هو الظبي: والصعلة: النعامة، سميت بذلك لصغر رأسها وكل نعامة كذلك. والضهول: التي تذهب وتعود. والرفض: القطع المتفرقة، والمذرعات: البقر التي لها ذرعان وهي أولاد البقر واحدها ذرع. والقراهب: المسنة واحدها قرهب. وقبله: خليلي عوجا بار الله فيكما ... على دارمي من صدور الركائب بصلب المعى أو برقة الثور لم يدع ... لها جدة مر الصبا والجنائب * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (327) (شدوا المطى على دليل دائب) هذا البيت لعوف بن عطية بن الخرع فيما ذكر يعقوب، وتمامه: من أهل كاظمة بسيف الأبحر

وصف قوماً رحلوا فشدوا مطيهم للرحيل ومعهم دليل دائب. أي يواصل السير ويديمه. يريد أنهم لا ينفكون من السفر. و (على) ههنا هي التي تعاقب واو الحال في قولهم: جاءني على مرضه، أي جاءني وهو مريض، وكذلك تقدير البيت شدوا المطى ومعهم دليل دائب. وكاظمة اسم بئر، والسيف: ساحل البحر. * * * وأنشد في هذا الباب: (328) (وكأنهن ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع) البيت لأبي ذؤيب الهذلي وصف أتنا وحماران والربابة: الخرقة التي تجمع فيها قداح الميسر وأراد ههنا: القداح بأعيانها على مذهبهم في تسمية الشيء باسم ما جاوره أو كان منه بسبب. واليسر: المقامر صاحب الميسر. شبه الأتن في اجتماعها وتصريف الحمار لها على حكمه بقداح يلعب بها يسر ويصرفها كيف شاء. ومعنى يفيض: يدفع، ومنه الإفاضة من عرفات. ومعنى على القداح: بالقداح، ويصدع: يفرق ويفصل الحكم من قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر)؛ أي افصل الحكم. وقال الخليل: معنى يصدع: يصيح بأعلى صوته: هذا قداح فلان. ويجب على هذا أن تكون العين بدلاً من جاء لأن المعروف أن يقال صدح يصدح. وقال ابن الأعرابي: معنى يصدع: يخرج القداح. وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض. وقال الأصمعي: قوله وكأنه يسر يفيض

على القداح أي يكب عليها وهو يفيض، كما يقال سكر على الخمر؛ أي سكر وهو يشربا لخمر. يقول الحمار يصكها كما يصك اليسر القداح: وأنشد: كما يصك اليسر القدوحا ... صك معلاهن والمنيحا وبعد بيت أبي ذؤيب: وكأنما هو مدوس متقلب ... بالكف إلا أنه هو أضلع وفوردن والعيوق مقعد رابيء الـ ... ـضرباء فوق النجم لا يثتلع * * * وأنشد في هذا الباب: (329) (كان مصفحات في ذراه ... وأنواحاً عليهن المآلي) هذا البيت للبيد بن ربيعة القامري. وصف سحاباً فيه برق ورعد. ويروى: مصفحات بكسر الفاء وهي الرواية التي ذكر ابن قتيبة. ويروى مصفحات بفتح الفاء، فمن كسر الفاء، أراد النساء اللواتي يصفحن أي يصفقن، والتصفيح والتصفيق سواء، شبه صوت الرعد بالتصفيق. ومن فتح الفاء شبه لمع البرق بالسيوف المصفحات وهي العريضة، وذراه: أعالية، وأنواح: نساء ينحن. والمآلي: جمع مئلاة وهي خرق يمسكهن النوائح بأيديهن ويلطمن بهن خدودهن، شبه بها حركة البرق. وروى أبو حاتم بأيديها المآلي. وقبله:

أصاح ترى بريقاً هب وهناً ... كمصباح الشعيلة في الذبال كان ربابه في الأفق حبس ... قيام بالحراب وبالآل * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (330) (وبردان من خال وسبعون درهماً ... على ذاك مقرو من القد ماعز) هذا البيت للشماخ بن ضرار، وصف قواساً أراد بيع قوس. وقبله: فوافي بها أهل المواسم وانبرى ... له بائع يغلي له السوم رائز فقال إزار شرعبي وأربع ... من السيراء أو أواق نواجز ثمان من الكورى حمر أنها ... من الجمر ما يذكى من النار خابز أراد أن هذه الأشياء كلها ثمن هذه القوس لنفاستها والمواسم: الأسواق والمواضع المشهورة التي يجتمع إليها الناس وانبرى: اعترض، والبائع ههنا: المشترى. والرائز، المختبر هل يبيعها أم لا، والشرعبي: البرد المصنف. والسيراء: ثياب حرير. والنواجز: الحاضرة التي لا مطل فيها، ويعني بالأواقي: أواقي من ذهب، والأوقية: أربعون درهماً. والكورى: الذهب الذي خلص في كور الحداد بعدما خلص من تراب المعدن. والخال: ثياب تصنع باليمن وقيل: هو

موضع باليمن تصنع به الثياب. والمقروظ: الجلد المدبوغ بالقرظ. والماعز: الشديد المحكم أي وتعطيني مع هذه الأشياء جلداً مقروظاً. فعلى بمعنى (مع). وقال في تفسير شعر الشماخ: قوله على ذلك مقروظ: أراد عيبة من أدم فيها هذه الثياب، "فعلى" في هذا التفسير واقعة موقعها، وليست ببدل من (مع) لأن هذه الأشياء إذا كانت في المقروظ فالمقرو عليها مشتمل. ويجوز عندي أيضاً أن يريد وزائد على ذلك مقروظ من القد، فإذا حمل البيت على هذين التأويلين لم يكن فيه شاهد. * * * وأنشد في هذا الباب: (331) (متى ما تنكرها تعرفوها ... على أقطارها علق نفيث) هذا البيت فيه غلط من وجهين: أحدهما يختص يعقوب، والآخر يختص الأصمعي. أما الغلط الذي يختص يعقوب، فإنه نسب هذا البيت إلى صخر الغي فاتبعه ابن قتيبة على غلطه، وإنما البيت لأبي المثلم الهذلي من شعر رد به على صخر الغي، ويدل على ذلك قوله بعد هذا البيت: ومن يك عقله ما قال صخر ... يصبه من عشيرته خبيت وإنما قال هذا لأن صخر الغي قال في شعره: وليت مبلغاً يأتي بقول ... لقاء أبي المثلم لا يريث فيخبره بأن العقل عندي ... جراز لا افل ولا أنيث

والعقل: الدية؛ أي لا دية عندي إلا السيف الجُرازي. وأما الغلط الذي يختص الأصمعي فنه زعم أن الهاء في قوله (متى ما تنكروها) ضمير الكتيبة أي متى ما أنكرتم هذه الكتيبة عرفتموها بهذه العلامة يسيل من أقطارها الدم. وهذا تفسير طريف، لأن الشاعر لم يذكر في هذا الشعر كتيبة لا قبل هذا البيت ولا بعده. وإنما قبله وهو أول القصيدة: أنسل بني شعارة من لصخر ... فإني عن تفقركم مكيث لحق بني شعارة أن يقولوا ... لصخر الغي ماذا تستبيث وبنو شعارة: رهط صخر، وشعارة لقب لصخر، ويروى بالعين والغين. وتستبيث: تستخرج، أي ماذا تستخرج وتثير من الشر بما قلته. فيجب - على ما قال الأصمعي - أن يكون هذا من الإضمار الذي يستعملونه ون لم يجر له، ذكر، لما في الكلام عليه من الدليل، وهو كثير في الكلام والشعر. ولكن ليس تحتاج في هذا الشعر إلى تكلف هذا؛ لأن الأصمعي روى في آخر هذا الشعر بيتاً وقع في غير موضعه، وهو: فلا وأبيك لن تنفك مني ... إليك مقالة فيها وعوث فهذا البيت إذا قدم قبل (قوله متى ما تنكروها)، استقام الشعر ولم يحتج إلى إضمار شيء لم يذكر، لأن الهاء في قوله تنكروها تعود على المقالة. والمعنى إني أقول فيكم مقالة لا تقدرون على إنكارها ورفعها عن أنفسكم لأني أسمها بأسمائكم وأشهرها بذكركم وتأتيكم وعلى أقطارها الدم المنفوث. أي إنها مقالة تثير الحرب

وسفك الدماء، كما يقال: هذا كلام يقطر منه الدم، فإذا حمل الشعر على هذا كانت (على) قد وقعت موقعها، والضمير قد عاد إلى مذكور، وفي الأشعار الجاهلية والإسلامية القديمة كثير من هذا النوع قد أفسدته الرواة، فقدموا وأخروا، يرى ذلك من تأمل الأشعار وعني بها كقول طرفة: للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدى ساقة قدمه عند أنصاب لها زفر ... في صعيد جمة أدمه ولا مدخول لقوله "عند أنصاب" في هذا الموضع ولا يتعلق به إلا على استكراه وتأويل بعيد، وإنما موضعه اللائق به بعد قوله أخذ الأزلام مقتسما ... فأتى أغواهما زلمه لأنهم كانوا يستقسمون بالأزلام عند الأصنام. وكذلك ما أنشده يعقوب من قول الراجز: إن زل فوه عن اتان مئشير ... اصلق ناباه صياح العصفور يتبعن جابا كمدق المعطير وإنما ينبغي أن يكون قوله (يتبعن جأبا) قبل قوله (إن زل فوه)، لأن الضمير إليه يرجع. وأنشد أبو علي البغدادي في نوادره (حمراء من معرضات الغربان) يقدمها كل علاه عليان. وإنما ينبغي أن يكون قوله: يقدمها قبل قوله حمراء وحمراء صفة لعلاه. ويجوز رفعها على أن تكون صفة لكل. والعلة في اضطراب هذه الروايات أن

الشاعر كان يقول الشعر وينشده بعكاظ أو في غيرها من المواسم فيحفظه عنه من يسمعه من الأعراب ويذهبون به إلى الأقطار فيقدمون ويؤخرون ويبدلون الألفاظ، وربما حفظ السامع منهم بعض الشعر ولم يحفظ بعضه ولم ين القوم أصحاب خط وتاب، إنما كانوا يعولون على القوم الحفظ، والحف يخون صاحبه ما لم يقيده بكتاب فكان الرواة يسمعون ذلك وينقلونه عنهم حسب ما يسمعون. * * * وأنشد في هذا الباب: (332) (وهل يعمن من كان أحدث عهده ... ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال) هذا البيت من مشهور شعر امرئ القيس. يقال: وعم يعم على مثال وعد يعد، ووعم يعم بكسر العين على مثال ومق يمق: وذهب قوم إلى أن يعم محذوف من ينعمن وأجازوا عم صباحاً بفتح العين وكسرها، كما يقال أنعم صباحاً وأنعم. وزعموا أن بعض العرب أنشد: ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... بفتح العين وحكى يونس أن أبا عمرو بن العلاء سئل عن قول عنترة: وعمى صباحاً دار عبلة واسلمي فقال: هو من نعم المطر إذا كثر، ونعم البحر إذا كثر زبده، كأنه يدعو لها بالسقيا وكثرة الخير.

وقال الأصمعي والفراء في قولهم (عم صباحاً) إنما هو دعاء بالنعيم والأهل وهو المعروف، وما حكاه يونس نادر غريب. وأما قوله في ثلاثة أحوال، فحكى يعقوب عن الأصمعي أن "في" ههنا بمعنى (من)، وأجاز أن يكون بمعنى "مع" كما قال النابغة الجعدي: ولوح ذراعين في بركة وكونها بمعنى (من) ورواه الطوسي أو ثلاثة أحوال، وكل من فسره ذهب إلى أن الأحوال ههنا: السنون جمع حول والقول فيه عندي أن الأحوال هاهنا جمع حال لا جمع حول ونما أراد كلف ينعم من كان أقرب عهده بالنعيم ثلاثين شهراً وقد تعاقبت عليه ثلاثة أحوال، وهي اختلاف الرياح عليه، وملازمة الأمطار له، والقدم: المغير لرسومه، فتكون (في) هنا هي التي تقع بمعنى واو الحال في نحو قولك: مرت عليه ثلاثة أشهر في نعيم أي وهذه حاله. * * * وأنشد للنابغة الجعدي: (333) (ولوح ذراعين في بركة) وتمام البيت: (إلى جؤجؤ رهل المنكب)

وصف فرساً وكل عظم عريض فهو لوح. والبركة: الصدر إذا أدخلت فيها هاء التأنيث كسرت الباء، وإذا حذفت الهاء فتحت الباء: وأصل البرك والبركة للبعير لأن يبرك عليه، فاستعير في غيره. والجؤجؤ: الصدر والرهل المسترخي. ونما أراد أن جلد صدره واسع غير ضيق فمنكبه يموج ويتقلب، وذلك مستحب في الفرس. وكذلك قال أبو الطيب: له فضلة عن جسمه في إهابه ... تجيء على صدر رحيب وتذهب وقوله "ولوح" معطوف على قوله قبل هذا البيت بأبيات: وأوظفة أيد جدلها ... كأوظفة العالج المصعب والعالج: البعير الذي له سنامان والمصعب الذي لم يرض. * * * وأنشد في هذا الباب: (334) (أو طعم غادية في جوف ذي حدب ... من ساكن المزن يجري في الغرانيق) هذا البيت لخراشة بن عمرو العبسي، ورواه بعض الرواة لعنترة بن شداد، وقبله: كان ريقتها بعد الكرى اغتبقت ... من مستكن نماه النحل في النبق

وصف امرأة بعذوبة الريق وطيبه. والكرى: النوم، لأن الأفواه تتغير بعد النوم. واغتبقت: من الغبوق، وهو ما يشرب بالعشى أو بالليل. ويعني بالمستكن: عسلاً نمته النحل أي رفعته في نيق وهو أعلى الجبل. والطعم: المذق، وللغادية: السحابة المبكرة، والحدب: الموضع المشرف. وقال يعقوب: ذو حدب: سيل له عرف، وهذا غلط لا وجه ههنا لذكر السيل وإنما شبه ريقها في عذوبته وبرده بماء استنقع في موضع منخفض تحت جبل فبرد وصفاً كما قال امرؤ القيس: بماء سحاب زل عن متن صخرة ... إلى بطن أخرى طيب ماؤها خمر وكما قال طرفة: صادفته حرجف في تلعة ... فسجا وسط بلاط مسبطر وذكر الغرانيق لأنها تفرح بالمطر فتجيء معه. وقوله: من ساكن المزن: يريد من الماء الساكن في المزن وهي السحاب. ووقع في شعر عنترة من ساكن المزن وهو المنسكب السائل. * * * وأنشد في هذا الباب: (335) (فلما تفرقنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً)

هذا البيت لمتمم بن نويرة من شعر رثى به أخاه مالكاً، وكان خالد بن الوليد قتله في الردة. وقبل هذا البيت: وكفا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا وندمانا جذيمة هما: مالك وعقيل، ويقال: إنهما نادماه أربعين سنة، ولهما حديث مشهور وفيهما يقول أبو خراش: ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... خليلاً صفاء مالك وعقيل * * * وأنشد في هذا الباب: (336) (حتى وردن لم خمس بائص ... جدا تعاوره الرياح وبيلا) د هذا البيت للراعي وصف إبلاً وردت ماء بعد أن سارت إليه خمسة أيام، وهو الظماء الذي يسمى الخمس بكسر الخاء. والبائص: المتقدم السابق. والجد بضم الجيم: البئر يكون بين العشب والكلأ. ومعنى تعاوره: تداوله تهب عليه هذه الريح مرة وهذه الريح مرة، وأراد تتعاوره، فحف إحدى التائين استثقالاً لاجتماعهما فمن النحويين من يرى أن الأولى هي المحذوفة، ومنهم من يرى أن الثانية هي المحذوفة. والوبيل الثقيل على شاربه الذي لا يستمرئه إذا شربه. والتم: التمام وفيه ثلاث لغات تم وتم وتُم، وبعد هذا البيت سدما إذا التمس الدلاء نطافه ... صادفن مشربة المثاب دحولا

والسدم: الماء المندفن. والنطاف: جمع نطفة وهي الماء القليل، وقد يكون الكثير، قال الهذلي: وإنهما لجواباً خروق ... وشرابان بالنطف الطوامي والمثاب: الموضع الذي يثوب منه الماء يقال هذه بئر لها ثائب إذا كانت لها مادة من تحت الأرض. ولم يرد المثابة التي هي مقام الساقي. كذا قال ابن قتيبة في المعاني. والدخول: البئر تحفر فيوجد ماؤه تحت أجوالها فتحفر حتى يستنبط ماؤها تحت جالها. * * * وأنشد في هذا الباب: (337) (تسمع للجرع إذا استحيرا ... للماء في أجوافها خريرا) الشعر للعجاج في وصفه إبل وردت ماء، والاستحارة: الشرب وترديد الجرع، والحرير: صوت الماء، أراد أنها وردته وهي عطاش فإذا شربت سمع للماء صوت في أجوافها، كما قال الراعي: فسقوا سوادى يسمعون عثية ... للماء في أجوافهن صليلا

والضمير من قوله في أجوافها يعود على هجمة ذكرها في أول هذا الشعر، فقال: أتت وهبت هجمة جرجورا ... أدما وعيسا معصا خبورا والهجمة من الإبل: ما زاد على الأربعين والجرجور: العظام الخلق والأدم ههنا السمر. والمعروف في الأدب إذا وصف بها الإبل أن يراد بها البيض. وفي بني آدم السمره وإنما قلنا إنه أراد السمر، لأنه ذكر بعد ذلك العيس وهي البيض التي تعلوها حمرة. والمعص: البيض. وقيل: هي الخيار الكريمة. والحبور الغزار الكثيرة اللبن، وأصل الخبور: المزادة المملوءة بالماء شبه بها الإبل لكثرة لبنها. * * * وأنشد في هذا الباب: (338) (بودك ما قومي على أن تركتهم ... سليمي إذا هبت شمال وريحها) هذا البيت لعمرو بن قميئة اليشكري، وهو مما غلط فيه يعقوب في كتاب المعاني، فاتبعه ابن قتيبة على غلطه. وليس في هذا البيت حرف. وليست الباء فيه زائدة على ما قال، وإنما الباء ههنا بمعنى القسم. وما استفهام في موضع رفع بالابتداء وقومي خبره. والمعنى بحق المودة التي بيني وبينك، أي شيء قومي

في الكرم والجود عند هبوب الشمال؟ يريد في زمن الشتاء؛ لأنهم كانوا يتمدحون ويمدحون غيرهم بإطعام الطعام فيه، وأراد بريحها النكباء التي تقابلها كما قال ذو الرمة: تناخي عند خير فتى يمان ... إذا النكباء ناوحت الشمالا ويروى بودك بفتح الواو، فمن رواه هكذا احتمل أن يريد بحق صنمك الذي تعبدين. ومن رواه بضم الواو، جاز أن يريد المودة، وجاز أن يريد الصنم، لأن الصنم يقال له ود، وود وقد قريء بهما جميعاً. وقد حكى أيضاً في المودة الفتح والضم والكسر، ولو أراد على مودتك قومي على ما توهم يعقوب، ومن قال بقوله، لم يقل إذا هبت شمال وريحها، وإنما كان يجب أن يقول ما هبت شمال وريحها، كما تقول لا أكلمك ما هبت الريح ولا زال حبك ما طار طائر، وهكذا جميع هذا الباب الذي يراد به الدوام، إنما يستعمل (بما) لا (بإذا). والوجه عندي أنه يريد بالود الصنم لا المودة؛ لأن سليمي هذه المذكورة كانت عرسه، وكانت نشزت عليه فطلقها، ولذلك قال (على أن تركتهم)، ولذلك قال في أول هذا الشعر: أرى جارتي خفت وخف نصيحها ... وحب بها لولا النوى وطموحها فيبنى على طير سينيح نحوسه ... وأشأم طير الزاجرين سنيحها ومن جعل الود المودة فمعناه: بحق المودة التي كانت بينا قبل الطموح ووقوع الطلاق. * * *

وأنشد في هذا الباب: (339) (غلب تشذر بالذحول كأنها ... جن البدى رواسيا أقدامها) هذا الباب للبيد بن ربيعة وقبله: وكثبرة غرباؤها مجهولة ... ترجى نوافلها ويرهب ذامها يريد قبة ملك فيها قوم غرباء نزاع من كل قبيلة، فاخروه بين يدي الملك فغلبهم، وظهر عليهم. وقوله مجهولة: أراد مجهول من فيها، ولم يرد أن القبة نفسها مجهولة. والنوافل: الفضل والذام: العيب والعار، يريد أن من حضرها يرجو أن يكون له الظهور. والشرف ويرهب أن يغلب ويظهر عليه، فيكون ذلك عاراً يبقى في عقبه، فهو لذلك يُذب عن نفسه ولا يدع غاية من المفاخرة إلا قصدها. وشبههم بجمال غلب تشذر بأذنابها إذا تصاولت وهاجت. يقال تشذر البعير يذنبه إذا استثفر به وتشذر الرجل بثوبه عند القتال إذا تحزم وتهيأ للحرب. والغلب: الغلاظ الأعناق الواحد أغلب. والبديّ. واد تسكنه الجن فيما يزعمون، والرواسي، الثابتة التي لا تبرح. وتمام معنى الشعر في قوله بعد هذا: أنكرت باطلها وبؤت جقها ... عندي ولم يفخر على كرامها وتقدير البيت الأول وكثيرة غرباؤها مجهولة غرباؤها، فحذف المضاف وأقام الضمير المضاف إليه مقامه فاستتر في الصفة. * * *

وأنشد في باب زيادة الصفات: (340) (إذا يسفون بالدقيق) وهذا صدر بيب لأمية بن أبي الصلت، والبيت بكماله: إذ يسفون بالدقيق وكانوا ... قبل لا يأكلون شيئاً فطيراً أراد إذ يسفون الدقيق فزاد الباء. وهذا الشعر قال في صفة بني إسرائيل وقبله. سنته أزمة تخيل بالناس ... ترى للعضاة منها صريراً لا على كوكب ينوء ولا ريـ ... ـح جنوب ولا ترى صحرورا ومعنى تخيل: يتلون. والعضاة: كل شجر له شوك. والصرير: الصوت وينوء: يأنى بمطر. والصرور: الذي يلقح النخل. * * * وأنشد في هذا الباب: (341) (بواديمان ينبت الشث صدره ... وأسفله بالمرخ والشبهان) هذا البيت ليعلي الأحول فيما ذكر الأصبهاني، والشث: شجر طيب الريح مر الطعم فيما ذكر الخليل. وقال أبو حنيفة، أخبرني بعض الأعراب قال: الشث

مثل شجر التفاح الصغار وورقة شبيه بورق الخلاف ولا شوك فيه، وله برمة موردة وسنفة مدورة صغيرة فيها ثلاث حبات أو أربع سود مثل الشيئنيز ترعاه الحمام إذا انتثر. والمرخ: شجر خوار خفيف العيدان ليس له ورق ولا شوك تصنع منه الزناد، وهو من أكثر الشجر ناراً، ولذلك قالت العرب في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار. ويقال إن المرخ هو الذي يقال له الكلخ، والعفار: الدفلى - وروى أبو حنيفة وأسفله بالورخ، وقال اورخ شجر يشبه المرخ والشبهان شجر يشبه السمر كثير الشوك وهو من العصاة. وقال الخليل: الشبهان: الثمام. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (342) (ضمنت برزق عيالنا أرماحنا) هذا البيت لأعشى بكر ولم يقع في شعر الأعشى رواية أبي على البغدادي هكذا إنما وقع في روايته: ضمنت لنا أعجازهن قدورنا ... وضروعهن لنا الصريح الأجردا

وقبله في صفة إبل: مثل الهضاب جزارة لسيوفنا ... فإذا تُراع فإنها لن تطردا قال أبو علي: ويروى ضمنت لنا أعجازها أرماحنا؛ أي ضمنت أرماحنا أعجاز إبلنا أن يغار عليها فنحن نتحرها ونشرب ألبانها. والصريح من اللبن: ما ذهبت رغوته، والأجرد: الذي لا رغوة له، ولعل الذي ذكر ابن قتيبة رواية ثانية، أو من قصيدة أخرى وقعت في غير روايتنا. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (343) (هصرت بغصن ذي شماريخ ميال) هذا البيت من مشهور شعر امرئ القيس، وصدره: (فلما تنازعنا الحديث واسمحت) قوله تنازعنا الحديث أي: تداولناه فحدثتني مرة وحدثنها أخرى، وأسمحت: لانت بعد صعوبتها وانقادت بعد إيابها، والهصر: الجذب، يقال هصرت الغصن فانهصر: أي جذبته إليّ فانجذب، والشماريخ: العراجين، شبه قدها بالغصن وشعرها بالشماريخ. وفي هذا البيت شيء يظنه قوم مخالفاً لما قاله سيبويه، وذلك أن سيبويه قال في كتابة: وأما تفاعلت فلا يكون إلا وأنت تريد فعل اثنين فصاعداً، ولا يجوز أن يكون معملاً في مفعول ولا يتعدى الفاعل إلى منصوب،

ففي تفاعلنا تلفظ بالمعنى الذي في فاعلته، وذلك قولك تضاربنا وترامينا وتقاتلنا. وقال بعد ذلك: وقد تجيء تفاعلت على غير هذا ما تقول عاقبت ونحوها لا تريد بها الفعل من اثنين، وذلك قولك تماريت في هذا، وتراءيت له، وتقاضيته، وتعاطيت منه أمراً قبيحاً، فلم يجز سيبويه تعدى تفاعل إلى مفعول إلا إذا كان من واحد، ولم يجزه إذا كان من اثنين لكل واحد منهما حظ في العمل، والعلة في ذلك أن قولك: تفاعلنا قد تضمن الفاعل والمفعول الذي في قولك فاعل، ألا ترى أنك تقول ضاربت زيداً وضار بني زيد، فتجعل أحد كما الفاعل والآخر المفعول، فإذا قلت تضاربنا لم يجز أن يتعدى لأنك قد أسندت الفعل إلى كل واحد منكما وجعلته فاعلاً، وتضمن الكلام أن كل واحد منكما صارب صاحبه، فلذلك امتنع من التعدي؛ إذ لم ين هناك مفعول خارج عنكما، وليس كذلك تنازعنا الحديث، لأن في هذا مفعولاً آخر خارجاً عنكما لاحظ في إسناد الفعل إليه، ألا ترى أنك تقول نازعت زيداً الحديث فتعديه إلى مفعولين، فإذا قلت: تنازعنا الحديث لم يكن بد من ذلك المفعول الثاني، لأن قولك تنازعنا إنما تضمن أحد المفعولين ولم يتضمن الآخر، فإذا كان الأمر على ما قلناه فليس فيه نقض لما قاله سيبويه، لأنا قد أخبرنا أن العلة المانعة من تعديه تضمنه المعنى الذي في فاعلته، وتنازعنا الحديث لم يتضمن المعنى في نازعته الحديث كله فلذلك تعدى. على أن سيبويه كان يلزمه أن يذكر أن هذا إنما يكون في فاعل الذي يتعدى إلى مفعول واحد دون فاعل المتعدى إلى اثنين، ففي كلامه من هذا الوجه نقص عن توفية الغرض الذي أراده. * * *

وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (344) (نضرب بالسيف ونرجو بالفرج) وزاد يعقوب قبله: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ولم يسم قائله، وقد ذكرنا في الكتاب الثاني أن الباء إنما دخلت في قوله بالفرج لأن معنى نرجو كمعنى نطمع، وقلنا هناك في هذه الحروف ما أغنى عن إعادته ههنا. والفلج: الماء الجاري من العين، والفلج: البئر الكبيرة عن ابن كناسه، وماء فلج: جار. قال عبيد: أو فلج ببطن واد ... للماء من تحته قسيب * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (345) (أبي الله إلا أن سرحة مالك ... على كل أفنان العضاه تروق) البيت لحميد بن ثور الهلالي، والسرحة: شجرة من العضاه تطول في السماء، وجمعها سرح، وظلها بارد في الحر يستظل بها من الحر، ولذلك قال الشاعر: فيا سرحة الركبان ظلك بارك ... وماؤك عذب لم يحل لوارد

والسرحة في هذا البيت وبيت حميد بن ثور كناية عن امرأة، وكان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عهد إلى الشعراء أن لا يشبب رجل منهم بامرأة وتوعدهم على ذلك، فكان الشعراء يكنون عن النساء بالشجر وغيرها، ولذلك قال حميد قبل هذا البيت: سقى السرحة المحلال والأبرق الذي ... به الشرى غيث دائم وبروق وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة ... من السرح موجود على طريق ويروى إلى. والأفنان: الأغصان، واحدها فنن. والأفنان أيضاً: الأنواع واحدها فن، تروق: تعجب. وإنما جعل (على) في هذا البيت زائدة لأن راق يروق لا يحتاج في تعديه إلى حرف جر إنما يقال: راقني الشيء يروقني، فالمعنى يروق كل أفنان، وقد يجوز أن يقدر في البيت محذوف كأنه قال أبي الله إلا أن أفنان سرحة مالك. وقد يكون قوله (على كل أفنان العضاه) في موضع خبر أن كما تقول أبى الله إلا أن فضل زيد على كل فضل، أي ظاهر على كل فضل، ويكون تروق خبراً ثانياً لأن أن في موضع نصب على الحال، فالأفنان على هذا القول جمع فنن وهو الغصن، وعلى القول الذي حكاه ابن قتيبة وهو قول يعقوب ينبغي أن يكون جمع فن وهو النوع، كأنه قال: تروق كل أنواع العضاه، وقد يمكن أن يقدر في صدر البيت من الحذف ما ذكرناه، فتكون الأفنان الأغصان، كما أنه يجوز في القول الثاني أن تكون الأفنان الأنواع ولا تقدر محذوفاً. * * *

وأنشد في باب إدخال الصفات وإخراجها: (346) (فلم يستجبه عند ذاك مجيب) هذا البيت لكعب بن سعد الغنوي وقيل لسهم الغنوي، وصدره: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى وبعده: فقلت ادع أخرى وارفع الصوت رفعة ... لعل أبا المغوار منك قريب واحتج به ابن قتيبة على أنه يقال استجبتك بمعنى استجبت لك، وكذا قال يعقوب ومن كتابه نقل ابن قتيبة أكثر ما أورده ههنا. وقد يمكن أن يريد فلم يجبه. ويدل على ذلك أنه قال مجيب ولم يقل مستجيب. فيكون الشاعر قد أجرى أفعل كما قالوا استخلف لأهله بمعنى أخلف، واستوقد بمعنى أوقد، قال الله تعالى: (كمثل الذي استوقد نارا)، وقد ذكر ابن قتيبة ذلك فيما تقدم وأنشد لذي الرمة: ومستخلفات من بلاد تنوفة ... لمصفرة الأشداق حمرا الحواصل وروى بعضهم لعل أبي المغوار بالخفض وزعموا أن من العرب من يخفض بلعل فيقول: لعل زيد خارج، وأن منهم من يكسر لام لعل مع الخفض بها، وأنشد يعقوب: لعل الله فضلكم علينا ... بشيء أن أمكم شريم

وقال قوم إنما هو لعا لأبي المغوار، وأما كلمة تقال للعاثر يراد بها الانجبار والارتفاع، قال الأعشى: بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعاً فيكون لعاً في موضع رفع بالابتدا. وقوله: لأبي المغوار مجرور في موضع الصفة له، وقريب خبر المبتدأ، ولعا اسم من أسماء الفعل مبني على السكون والتنوين فيه علامة التنكير كالتنوين في صه ومه. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (347) (أستغفر الله ذنباً لست محصية ... رب العباد إليه الوجه والعمل) هذا البيت لا أعلم قائله، والوجه: القصد الذي يقصده الإنسان ويتوجه نحوه. ويحتمل أن يريد بالوجه: التوجه فيكون من الأسماء التي وضعت موضع المصادر. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (348) (ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل)

هذا البيت من مشهور شعر عنترة بن شداد، والطوى: انطواء البطن وضموره، ويكون خلفة ويكون من قلة الأكل. وكريم المأكل ما لا عيب فيه على أكله، يقول أصبر على الجوع ولا آكل مأكلا أعاب به، والعرب تستعمل الكرم بمعنى الشرف والفضل، وإن لم يكن هناك جود ولا عطاء، قال الله تعالى: (إني ألقى إلى كتاب كريم) وقال الشاعر: فرب ثوب كريم كنت آخذه ... من القطار بلا نقد ولا ثمن وجاء في الحديث أن رسولا لله صلى الله عليه وسلم أنشد هذا البيت فقال: م وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا سمع هذا البيت يقول ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم. * * * وأنشد ابن قتيبة في باب أبنية الأسماء: (349) (كما خشخشت يبس الحصاد جنوب) هذا البيت من مشهور شعر علقمة بن عبدة، وصدره: تخشخش أبدان الحديد عليهم والخشخشة: الحركة والصوت الخفي، والأبدان: الدروع واحدها بدن. شبه أصوات الدروع على الفرسان بصوت الحصاد اليابس إذا هبت عليه الجنوب؛

وهي الريح القبليةن وليس لتخصيصه الجنوب بالذكر معنى أكثر من طلب القافية، ألا ترى أن الأعشى قد ذكر الدبور مكان الجنوب فقال: لها جرس كحفيف الحصـ ... ـاد صادف بالليل ريحاً دبوراً ويجوز أن يريد باليبيس اليابس من النبات، وهو لغة في يبس، وعلى هذا أنشده ابن قتيبة. ويجوز أن يكون جمع يابس كما قالوا راكب وركب ويقوى ذلك قول العجاج: تسمع للحلي إذا ما وسوسا ... زفرفة الريح الحصاد اليها فهذا جمع يبس كقولك شاهد وشهد، وكثر ممن يفسر هذا الشعر يقول: الحصاد: ما يبس من الزرع وحان أن يحصد. وحكى أبو حنيفة عن أبي نصر قال: الحصاد: نبات يشبه السبط وله إذ جف وهبت عليه الريح جرس وزفازف. قال: ولذلك قال علقمة (تخشخش أبدال الحديد عليهم) البيت. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (350) (وما صب رجلي في حديد مجاشع ... مع القدر إلا حاجة لي أريدها)

هذا البيت للفرزدق وأظنه يريد تقييده لنفسه، وكان عاهد الله تعالى بمكة أن لا يشتم مسلماً، وقيد نفسه وحلف أن لا يفك قيده حتى يحفظ القرآن، فلما ألح جرير على بني تميم بالهجاء وسمع الفرزدق قوله: لعمري لقد ألهى الفرزدق قيده ... ودرجاً نوار ذو الدهان وذو الغسل أنف من ذلك وعنفه قومه وقالوا قد مزق جريراً أعراض قومك وعجز البعيث عن مقاومته، فكسر قيده وجعل يهاجي حريراً وقال: فإن يك قيدي كان ندراً نذرنه ... فمالي عن أحساب قومي من شغل * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (351) (عن اللغا ورفث التكلم) البيت للعجاج وقبله: ورب أسراب حجيج كظم والأسراب: الجماعات واحدها سربن والحجيج: جماعة الحجاج وهو اسم للجميع كالعبيد والكليب، والكظيم: الساكتون قد منعوا ألسنتهم من التكلم باللغو والرفث، لأنهم حجاج يتجنبون ما يفسد حجهم. * * * وأنشد ابن قتيبة: (352) (ضرائر حرمي تفاحش غارها)

هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره: لهن نشيج بالنشيل كأنها وصف قدوراً تغلي فشبه نشيجها وهو صوت غليانها بأصوات نساء ضرائر لرجل حرمي؛ أي من أهل الحرم، وقد وقع بينهن شر من أجل غيرة بعضهن من بعض، فكثر لغطهن وصخهن. والعار: الغيرة، والنشيل: لحم يطبخ ثم ينشل بحديدة معقفة تسمى المنشال، أي تجذب وتخرج من القدر ما فيها. وقال الجيرمي: إنما وصف نساء أهل الحرم لأن في أصواتهم غلظاً ونساؤهم أرخم أصواتاً وألين من نساء غيرهم، والعرب تنسب إلى الحرم فتقول حرمي بفتح الحاء والراء، ومن قال حرمى وحرمي فضم الحاء وكسرها وسن الراء ففيه قولان: أحدهما أنه من المنسوب المغبر عن وجهه الذي يحفظ ولا يقاس عليه، والثاني أنه منسوب إلى حرمة البيت وفيه لغتان حرمة كظلمة وحرمة كفرية. وقيل هذا البيت: وسود من الصيدان فيها مذانب ... نضار إذا لم نستفدها نعارها يعني بالسود قدوراً قد اسودت من الطبخ، والصيدان بفتح الصاد وكسرها: حجارة تصنع منها القدور، وتسمى القدور أيضاً صيداناً، والمذانب: المغارف، ونضار: مصنوعة من الأثل، والنضار خبرا تحشب وأفضله للآية، وقوله نعارها، قال النجيرمي: يقول: إذا كثر الأضياف ولم يكن عندنا قدور تسعهم، استعرنا قدوراً من غيرنا لا يطبخ لشدة الزمان. * * *

وأنشد في هذا الباب: (353) (لو عصر منه البان والمسك انعصر) البيت لأبي النجم العجلي وقد ذكرنا اسمه فيما تقدم، وقبله: كأنما في نشرها إذا نشر ... فغمة روضات تردين الزهر هيجها نفح من الطل سحر ... وهزت الريح الندى حتى قطر ويروى لو عصر منها، فمن أنت الضمير أعاده إلى المرأة التي تغزل بها، ومن ذكر الضمير أعاده على الفرع المذكور قبل هذا البيت في قوله: بيضاء لا يتسع منها من نظر ... خود يغطي الفرع منها المؤتزر والفرع: الشعر، والمؤتزر: الكفل حيث يقع الإزار، والنشر: الرائحة الطيبة، والفغمة: الرائحة التي تملأ الأنوف ولا تكون إلا من الطيب. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (354) (وما كل مغبون ولا سلف صفقه ... براجع ما قد فاته برداد)

ذكر ابن قتيبة أن هذا البيت للأخطل، ولم أجده في ديوان شعره الذي رواه أبو علي البغدادي ولعله قد وقع في رواية أخرى. والصفق: مصدر صفق البائع صفقا إذا ضرب بيده على يد صاحبه عند كمال المبايعة بينهما، والرداد مصدر راد للبائع صاحبه مرادة وردادا إذا فاسخه البيع. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (355) (فأصبح العين ركوداً على الـ ... أو شاز أن يرسخن في الموحل) هذا البيت للمتنخل الهذلي، والعين: بقر الوحش واحدتها عياء، والركود: القيام التي لا نبرح. والأوشاز: المواضع المرتفعة واحداً وشز، ويرسخن: يغرقن، والموحل والموحل بفتح الحاء وكسرها: الوحل، وصف مطراً أحدث سيلاً عظيماً فرت منه الوحش إلى الجبال، وقبله: ظاهر نجداً فترامى به ... منه توالى ليلة مطفل للقمر من كل فلا نله ... غمغمة يقزعن الحنظل وقوله ظاهر نجداً، أي علا ظهرها، وتوالى الليلة: مآخيرها، وأراد بقوله ليلة مطفل: ليلة جاءت بالمطر والسيل، فشبهها بالناقة التي تنتج طفلاً. والقمر: الحمير التي في بطونها بياض، والغمغمة: أصوات لا تفهم، ويفزعن

يمرون مراً سريعاً فوق الماء قد حملها السيل، فهي تطفو على الماء كما يطفر الحنظل. * * * وأنشد ابن قتيبة: (356) (لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تغدو المنية أول) البيت لمعن بن زائدة المزني، وبعده: وإني أخوك الدائم العهد لم أحل ... إن أنزاك خصم أو نبابك منزل قال هذا الشعر في رجل من قرابته كان يحسده مكانته، ويسمى معاشرته فيصفح عنه ويعرض عما يرى منه، لعله سينزع عن قبيح ما يأنيه ويرى سوء العاقبة فيه. والأوجل: الخائف. ويروى تغدو وتعدو بالغين والعين، ومعنى ايزاك: قهرك وغلبك، قال أبو طالب: كذبتم وحق الله يبزى محمد ... ولما نطاعن دونه ونناضل ويقال: نبا به المنزل: إذا لم يحمله ودفعه عن نفسه، يقول إن قهرك خصم أعنتك، وإن نبا بك منزل أو بيتك، فلم تعاملني معاملة العداء وأنا أعاملك معاملة الأحباء، ولعل أيام عمرنا قصيرة، فيفرق بيننا الممات، فلم نستعجل الفراق في الحياة، وهذا نحو قول الآخر: أفلل عتابك فالبقاء قليل ... والدهر يعدل مرة ويميل ولعل أيام الحياة قصيرة ... فعلام يكثر عنها ويطول * * *

وأنشد ابن قتيبة: (357) (بعثوا إلى عريفهم يتوسم) هذا الشعر لطريق بن عمرو العنبرين قال أبو عبيدة معمر بن المشى: كانت الفرسان إذا وردت عكاظ في الأشهر الحرم تلثمت، لئلا تعرف فيقصد إليها في الحرب، وكان طريف بن عمرو بن تميم العنبري لا يتقنع كما يتقنعون، فوافى عكاظ سنة وقد حشدت بكر بن وائل وكان طريف قد قتل قيل ذلك شراحيل الشيباني، فقال حمصيصة بن شراحيل: أروني طريفا، فأروه إياه فجعل كلما مر طريف تأمله ونظر إليه حتى فطن له طريف: فقالن مالك تنظر إلى وتديم النظر مرة بعد أخرى؟! فقال: أتوسمك لأعرفك، فإن لقينك في حرب، فلله على أن أقتلك أو تقتلني، فقال طريف في ذلك: أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إلى عريفهم يتوسم فتوسموني إنني أنا ذاكم ... شاك سلاحي في الحوادث معلم تحى الأغر وفوق جلدي نثرة ... زغف ترد السيف وهو مثلم ولل بكرى لدى عداوة ... وأبو ربيعة شانيء وحلم حولى أسيد والهجيم ومازن ... وإذا حللت فحول بيتي خصم

فلما كان يوم مبايض لقيه حمصيصة فقتله. التوسم: التثبت في النظر، والشاكي: التام السلاح، وقيل هو الحاد السلاح شبه بالشوك، ويقال شاك بكسر الكاف وشاك بضمها، فمن كسر الكاف جعله منقوصاً مثل قاض، وفيه قولان: قيل: أصله شائك فقلب، كما قالوا جرف هار، واشتقاقه على هذا من الشوكة، وقيل: أصله شاك من الشكة وهي السلاح فكرهوا اجتماع المثلين فأبدلوا الأخير منهما ياء وأعلوه إعلال قاض، ومن ضم الكاف ففيه قولان أيضاً: أحداهما أن أصله شرك على مثال فعل انقلبت واوه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وقيل هو محذوف من شائك كما قالوا (جرف هار) فضموا الراء. وفيه لغة ثالثة لا تجوز في هذا البيت وهي شاك بتشديد الكاف، وهذا مشتق من الشكة لا غير. والمعلم الذي يشهر نفسه بعلامة يعرف بها والأغر: فرسه، والنثرة: الدرع السابغة، وكذلك الزغف، ومنه يقال: زغف في الحديث إذا زاد فيه، وقيل: هي اللينة المجسة، وخضم: لقب لبني العنبر بن تميم. * * * وأنشد ابن قتيبة: (358) (من بين مقتول وطاف غارق) البيت لأبي النجم من شعر يمدح به الحجاج بن يوسف، وقبله: هو الذي أوقع بالصعافق ... وبالشبيبين وبالأزارق وكل من يدعو لكلب مارقٍ ... فأصبحوا في الماء والخنادق * * *

وأنشد ابن قتيبة: (359) (فان تصرمي حبلى وإن تتبدلي ... خليلاً فمنهم صالح وسميج) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، ووقع في النسخ فمنهم بالفاء، والصواب بالواو؛ لأنه ليس جواباً للشرط، وإنما هو اعتراض بين الشرط "وجوابه"، والجواب قوله بعد: فني صبرت النفس بعد ابن عنبس ... وقد لج من ماء الشؤون لجوج لأحسب جلدا أو لينبأ شامت ... وللشر بعد القارعات فروج ولابد في هذا الكلام من تقدير محذوف وألا لم يصح أن يكون جواباً، والمعنى: فإن تصرمي حبلى وإن تتبدلي خليلاً فلا تحسي أنني أجزع لذلك، فني قد صبرت بعد فقدي لابن عنبس الذي كان أعز فقداً علىّ منك، فكيف لا أصبر عنك، فاقتصر على بعض الكلام اختصاراً لما فهم مراده، ولأن قد دل على ذلك بقوله بعد هذا: وذلك أعلى منك فقداً لأنني ... كريم، وبطني بالكرام يعبج * * * وأنشد ابن قتيبة: (360) (ضربك بالمرزبة العود النخر)

هذا البيت لا أعلم قائله يصف شيئاً ضرب فانكسر كانكسار العود النخر إذا ضرب بالمرزبة. والنخر: البالي العفن، فهو أسرع لانكساره. * * * وأنشد ابن قتيبة: (361) (فما صار لي في القسم إلا ثمينها) هذا الشعر ليزيد بن الطثرية، والطثرية أنه نسبت إلى طثرة؛ وهو حي من اليمن عدادهم في جرم، وقيل طثر من بني غر بن وائل أخوه بكر بن وائل، وقيل إنها كانت مولعة بإحراج زبد اللبن فسميت الطثريةن وطثرة اللبن: زبده، وهو أحد الشعراء الذين شهروا بأمهاتهم، واسم أبيه الصمة، ويكنى يزيد أبا المكشوح، ويلقب مودقا لحسن وجهه وشعره وحديثه، فكانوا يقولون إنه إذا جلس بين النساء ودقهن؛ أي هيج عليهن شهوة النكاح. وكان يزور امرأة ويكلف بها ويكن أنها لا تخاذن سواه، فجاءها يوماً فجلس معها يحادثها، فإذا فتى شاب قد أقبل وجلس، ثم جاء آخر حتى صاروا سبعة وهو ثامنهم فهجرها وقال: أرى سبعة يسعون للوصل كلهم ... له عند ليلى دينة يستدينها فألقيت سهمي وسطهم حين أوخشوا ... فما صار لي في القسم إلا ثمينها وكنت عزوف النفس أكره أن أرى ... على الشرك في ورهاء طوع قرينها

فيوماً تراها بالعهود وفية ... ويوماً على دين ابن خاقان دينها يداً بيد من جاء بالعين منهم ... ومن لم يجيء بالعين حيزت رهونها الدينة: العادة ويستدينها: يستعديها. ومعنى أوخشوا: خلطوا، ويقال أوخش الرجل: إذا كسب وخشاً أو غنمه، والوخش من كل شيء: الرذل. والعزوف: الذي يتنزه عن الشيء وينصرف عنه. والورهاء: الحمقاء والقرين والقرون: النفس، يريد أن نفسها تطاوعها على مواصلة كل من تعرض لها ولا تعاف أحداً، ومعنى حيزت رهونها: حيزت الرهون لها. * * * وأنشد ابن قتيبة: (362) (لم يغذها مد ولا نصيف) هذا البيت يروي لسلمة بن الأكوع، وكعب بن مالك الأنصاري، وروى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مسير له فقال لابن الأكوع: ألا تنزل فتأخذ لنا من هنالك فنزل سلمة يرتجز ويقول: لم يغذها مد ولا نصيف ... ولا نميرات ولا رغيف لكن غذاها اللبن الخريف ... المحض والقارص والصريف

فلما سمعته الأنصار يذكر التمرات والرغيف علموا أنه يعرض بهم فاستنزلوا كعب بن مالك فقالوا: يا كعب أنزل فأحبه، فنزل كعب يرتجز ويقول لم يغذها مد ولا نصيف ... ولا تميرات ولا تعجيف لكن غذاها حنظل نقيف ... ومذقه كطرة الخنيف تنهت بين الزرب والكنيف فكأن النبي صلى الله عليه وسلم خاف أن يجري بينهما شيء فقال اركبا. ويروى لبن الخريف على الإفراء، وخاصة بالذكر دون غيره لأنه أدسم من لبن سائر الفصول، والمحض من اللبن: ما لم يخالطه الماء حلواً كان أو حامضاً، والصريف: اللبن حين ينصرف به عن الضرع حاراً. والتعجيف: أن تطعم العجاف، وهو نوع من التمر، والحنظل: شجر، والنصيف: المكسور. وقال ابن قتيبة جاءني الحنظل ينقف الحنظلة بظفره، فإن صمتت علم أنها بالغة فاجتاها، وإن لم تصوت علم أنها لم تدرك بعد فتركها. والمذقة: قطعة من اللبن تمزج بالماء، والحنيف: ثوب يصنع من الكتان الرديء، وطرته: حاشيته التي لا هدب فيها. شبه بها اللبن لنه إذا مزج بالماء تغير لونه وصار أغبر، وطرة الحيف ليست بناصعة البياض، والكنيف: حظرة تعمل للإبل من خشب، والزرب: حظيرة الغنم. وقوله (تنهت بين الزرب والكنيف)

يريد أن درور تلك المذقة وتولدها مما تعلفه الشاء والإبل في الزروب والكنف لا بالكلأ والرعي، وذلك لأن مكة ليس فيها رعي تسام فيه إبلهم ومواشيهم لأنه بلد غير ذي زرع. * * * وأنشد ابن قتيبة: (363) (ولقد قتلتكم ثناء وموحداً ... وتركت مرة مثل أمس الدابر) كذا وقع في النسخ، وكذا رويناه عن أبي نصر عن أبي علي، والصواب المدبر كذا أنشده أبو عبيدة في كتاب مقاتل الفرسان وأنشد بعده: ولقد دفعت إلى دريد طعنة ... نجلاء تزغل مثل عط المنخر والشعر لصخر بن عمرو السلمي بقوله لبني مرة بن سعد بن ذبيان، ويعني بدريد دريد بن حرملة المري، وكان دريد وهاشم ابنا حرملة فلا معاوية بن عمرو وأخا صخر ثم غزا دردي بعد ذلك ببني مرة فقتله صخر - وقال هذا الشعر، وأما هاشم فقتله رجل من بني جشم، رماه بسهم وهو يغوط ففلق عجبه، فقالت في ذلك الخنساء: فدى للفارس الجشمي نفسي ... وأفديه بمن لي من حميم أفسديه بحل بني سليم ... بظاعنهم وبالأنس المقيم كما من هاشم أقررت عيني ... وكانت لا تنام ولا تنيم

وأنشد أبو قتيبة: (364) (ولكنما أهلي بواد أنيسه ... سباع تبغى الناس مثنى وموحد) هذا البيت لساعدة بن جؤية الهذلي، وقبله: وعاودني ديني فبت كأنما ... خلال ضلوع الصدر شرع ممدد بأوب يدي صناجة عند مدمن ... غوى إذا ما ينتشي يتعرد ولو أنه إذ حم ما كان واقعاً ... بجانب من يحفى ومن يتودد رثى بهذا الشعر ابن عم له قتلته قسر. وقوله وعاودني ديني: أراد حاله التي كانت تعتاده. يقال: ما زال ذلك ديني ودأبي وديداني وديدوني: أي عادتي وحالي. والشرع: الوتر. يقول كأن بين أضلاعي غناء عود لكثرة حنيني وبكائي، والمدمن الذي يدمن شرب الخمر والغناء. ومعنى حُم: قُدر. ويحفى: يلطف. يقال: فلان يحفى بفلان ويتخفى به إذا رفق به ولطف. يقول لو أصابني هذا الرزء بجانب من يتحفى بي، ويهم بحالي، لهان على موقعه. فحذف جواب (لو) لما فهم المعنى ما قال تعالى (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى) ولم يقل لكان هذا القرآن. وقوله (ولكنما أهلي بواد) يقول: ولكن الذي يعظم مصابي، أن أهلي بواد لا أنيس به إلا السباع التي تطلب الناس لتأكلهم اثنين اثنين وواحداً واحداً. ويمكن أن يريد السباع بأعيانها، ويحتمل أن يريد قوماً بمنزلة السباع.

وأنشد بعض بيت للكميت والبيت بكماله: (365) (فلم يستر يثوك حتى رميـ ... ـت فوق الرجال خصالاً عشاراً) ومعنى يستر يثوك يجدونك رائثاً بطيئاً. ورميت: زدت. يقال رمى على الخمسين وأرمى أي زاد. يقول: لما نشأت نشأ الرجال: أسرعت في بلوغ الغاية التي يبلغها طلاب المعالي ولم يقنعك ذلك حتى زدت عليهم بعشر خصال فقت بها السابقين وأيأست الذين راسوا أن يكونوا لك لاحقين. * * * وأنشد ابن قتيبة: (366) (ما أنا بالجافي ولا المجفى) هذا البيت لا أعلم قائله. مدح نفسه بأنه لا يجفو أحداً، ولا يجفى لكرم خلقه وحسن معاشرته. * * * وأنشد ابن قتيبة: (367) (أنا الليث معدياً عليه وعادياً)

هذا البيت لعيد يغوث بن وقاصي الحارثي، وصدره: وقد علمت عرسي مليكة أنني وقد كنت بحار الجزور ومعمل الـ ... مطى وأمضى حيث لاحى ماضيا الليث: الأسد وكان ينبغي أن يقول معدواً عليه، لأنه من العدوان، ولكنه بناه على عدي عليه، والجزور: الناقة التي تنحر وجمعها جزر. فإذا كانت من الغنم فهي جزرة، ولم يرد جزوراً واحدة، لأنه لا يقال نحارا إلا لمن يكثر النحر، ولا يفتخر أحد بأنه ينحر جزوراً واحدة ولكنه خصوص وقع موقع العموم، كما قال تعالى (إن الإنسان لفي خسر) ولم يردا إنساناً واحداً، والدليل على ذلك قوله (إلا الذين آمنوا) فاستثنى منه ولا يستثني جمع من واحد. * * * وأنشد ابن قتيبة: (370) (وطعن كتشهاق العفاهم بالنهق) هذا البيت لحنظلة بن شرقي، ويكنى أبا الطمحان، وكان من مردة العرب وفتاكهم. وقيل له مرة يا أبا الطمحان ما أدنى ذنوبك؟ فقال: ليلة الدير.

فقال نزلت بديرانية فأكلت عندها طغشيلا لحم خنزير، وشربت من خمرها، مزنت بها، وسرقت كساءها: وصدر البيت: بضرب يزيل الهام عن سكناته الهام: الرؤوس، جمع هامة. وأراد بالسكنات الأعنان وأصل السكنة: عش الطائر، فاستعاره للعنق من حيث كانوا يسمون الرأس هامة. والهامة: طائر، ونحو هذا من الاستعارة قول الأخطل في يربوع بن حنظلة: تسد القاصعاء عليه حتى ... ينفق أو يموت بها هزالا لما كان يسمى بها يربوعاً استعار له قاصعاء، وتنفيقاً: تتميماً للمعنى. ويقال نفق اليربوع إذا حرج من نافقائه. والتشهاق والشهق: ترديد النفس، والعفا: ولد الحمار، شبه صوت الطعن بشهيقه إذا أراد أن ينعق. * * * وأنشد في باب شواذ الأبنية: (371) (جاءوا بجيش لو قيس معرسه ... ما كان إلا كمعرس الدائل) هذا البيت لكعب بن مالك الأنصاري، قال في أبي سفيان بن حرب، وكان غزا المدينة في مائتي راكب بعد وقعة بدر، فحرق بعض نخل المدينة وقتل قوماً من الأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه، حتى بلغ موضعاً

يقال له قرقرة الكدر، ففر أبو سفيان وجعل أصحابه يلقون مزاود السويق يتحففون للفرار، فسميت غزوة السويق. وبعد هذا البيت عار من البصر والثراء ومن ... أبطال أهل البكاء والأسل والمعرس والمعرس: مكان النزول من آخر الليل، والأشهر فيه معرس بتشديد الراء. والدئل: دريبة صغيرة تشبه ابن عرس. والثراء: المال والسعة. والنكاء والنكاية سواء، والأسل: الرماح. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (372) (لم يبق هذا الدهر من آيائه ... غير أثافيه وأرمدائه) لا أعلم قائل هذا الرجز، وآياء جمع آي؛ وأي: جمع آية، وهي العلامة والأثر، وصف منزلاً درس، فلم يبق منه إلا الأثافي والرماد، والأرمداء: لغة في الرماد. وحكى أب علي البغدادي جمع رماد أرمدة، وجمع أرمدة أرمداء، فعلى هذا لا يكون زيادة على ما جاء به سيبويه، لأن أفعلاء في الجموع كثيرة. وكان ابن دريد يروى وإرمدئه بكسر الهمزة. * * * وأنشد ابن قتيبة في هذا الباب: (373) (ليوم روع أو فعال مكرم)

البيت لأبي الأخرز الحماني، وقبله: مروان مروان أخو اليوم اليمي كذا رواه سيبويه، روى غيره مروان يا مروان لليوم اليمي. قوله اليمي صفة لليوم من لفظه كما قالوا: يوم أيوم، وليل أليل، ووزنه فعل على مثال حذر وأصله اليوم فقلب اللام إلى موضع العين والعين إلى موضع اللام فصار اليمو، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقال السيرافي: أصله. أخو اليوم اليوم - كما قال الآخر: (إن مع اليوم أخاه غدوا) فقدم الميم بضمتها إلى موضع الواو فصار اليمو فوقعت الواو طرفاً وقبلها ضمة فقلبت ياء وكسر ما قبلها، كما قالوا في جمع دلو أدل، فموضع اليمى على قول السيرافي رفع، موضعه على القول الأول خفض. وهذا التأويل الذي تأوله السيرافي هو الظاهر من مذهب سيبويه، وهو تأويل لا يصح إلا على روية من روى أخو اليوم اليمي، وأما من رواه مروان يا مروان لليوم اليمي فلا يكون موضع اليمي إلا خفضاً على الصفة، وكذلك لا يمتنع أن يكون موضعه خفضاً على رواية من روى أخو اليوم اليمي، فيكون معناه أن مروان أخو اليوم الشديد الذي يفرج غمه ويجلى همه، وهو أشبه بمعنى الشعر، لأن البيتين لا يلتثمان على تفسير السيرافي ومذهب سيبويه، وأنشد أبو العباس المبرد في كتاب الأرمنة: (نعم أخو الهيجاء في اليوم اليمي) وهذا يدل أيضاً على أن اليمي في موضع خفض. وكذلك قال المبرد، وإليه ذهب يعقوب ابن السكيت. * * *

وأنشد في هذا الباب: (374) (بثين الزمى لا ن لا إن لرمته ... على كثرة الواشين أي معون) هذا البيت لجميل بن عبد الله بن معمر العري، يقول: إن سألك سائل: هل بين وبين جميل صلة؟ فقولي: (لا) فإن فيها عوناً على الواشين ودفعاً لشرهم، بعده: ونبئت قوماً فيك قد نذروا دمي ... فليت الرجال الموعدي لقوني إذا ما رأوني طالعاً من ثنية ... يقولون من هذا وقد عرفوني * * * وأنشد في هذا الباب: (375) (من آل صعفوق وأتباع أخر) البيت للعجاج من شعر يمدح به عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان عبد الملك ابن مروان ولاه حرب أبي فديك الحروري فأوقع به، وقبله: ها فهو ذا فقد رجا الناس الغير ... من أمرهم على يديك والثؤر قوله ها معناه: خذ أبا فدي فهو هذا قد أمكنك والناس قد رجوا أن يغير الله هذه الحال على يديك، ويثأر لهم من أعدائهم بك، والثؤرة: الثأر وجمعها ثور. قال الشاعر: طلبت بها ثأري فأدوكت ثؤرتي ... بني عامر هل كنت في ثؤرتي نكسا

فيجب على هذا أن لم يكن ما أنشده ابن قتيبة من شعر آخر أن يكون (وتأوى إلى زغب مساكين دونها) بتأنيث الضميرين، ويعني بمسقاها: حوصلتها. وكثيب موثق، يقال كثبت القربة: إذا خرزتها، والعصام: الخيط الذي تشد به القربة إذا ملئت. * * * وأنشد في هذا الباب: (387) (كرات غلام من كساء مؤرنب) هذا البيت لليلى الأخيلية، وصدره: (تدلت إلى حص الرؤوس كأنها) وصفت قطاة انحطت إلى فراخها، ومعنى حص الرؤوس: لا ريش عليها لصغرها. وشبهت الفراخ في صغرها وانضمامها في العش وما عليها من الزغب بكرات صنعها غلام من كساء مؤرنب؛ وهو الذي خلط فيه وبر الأرانب، وهذا من بديع التشبيه وقولها إلى حص الرؤوس إنما كان يجب أن تقول إلى أحص الرؤوس، أو أحص الرأسين؛ لأنها إنما وصفت فرخين. ولكنها لما جمعت الرأس على مذهبهم في إجراء كل اثنين من اثنين مجرى الجمع، جمعت الصفة أيضاً إيثاراً لمطابقة بعض الألفاظ ببعض. ويدل على أنها وصفت فرخين قولها قبل هذا البيت: فلما أحسا رزها وتضورا ... وانتهما من ذلك المتأوب * * *

وبنو صعفوق: قوم كانوا يخدمون السلطان باليمامة، كان معاوية بن أبي سفيان قد صيرهم بها. وقال الأصمعي: صعفوفة قرية باليمامة كان ينزلها خول السلطان. وقال ابن الأعرابي: يقال هو صعفقي فيهم، والصعافقة: قوم من بقايا الأمم الخالية باليمامة ضلت أنسابهم. وقيل هم الذين يشهدون الأسواق ولا بضائع لهم فيشترون السلع ويسعون على وجوههم ويأخذون الأرباح، وإنما أراد العجاج أن يصغر أمر الخوارج، ويصف أنهم سوفة وعبيد أتباع تألبوا واجتمعوا إلى أبي فديك، وليسوا ممن يقاتل على حسب، ويرجع إلى دين صحيح ومنصب. * * * وأنشد في هذا الباب: (376) (على قرماء عالية شواه ... كأن بياض غرته خمار) هذا البيت لسلبك بن السلكة السعدي يرثى به فرسه وكان نحره لأصحابه في بعض أسفاره وقد نفد زادهم، وقبله: كأن قوائم النحام لما ... تحمل صحبتي أصلاً محار النحام: اسم فرسه، وشبه قوائمه بالمحار وهو الصدف حين عربت من اللحم وظهر بيض عظامها. والأصل: العشى هنا، وقد يكون الأصل جمع أصيل وهو العشى. والشوى: القوائم، وأراد كأن بياض غرته بياض خمار فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وفرماء: موضع. ويجوز في قوله عالية شواه

إلى جنب الساج وواحدها، فيما زعموا، مطلاء بالمد. وقالوا مطلى بالمصر، وهذا مثل مفتح ومفتاح، والباء ههنا بمعنى "في" كما تقول زيد بالكوفة تريد في الكوفة. * * * وأنشد في هذا الباب: (378) (وما كنا بني ثأداء لما ... شفينا بالأسنة كل وتر) هذا البيت للميت، ويقال للأمة ثأداء وتأداء بتسكين الهمزة وفتحها. وقال أبو زيد: يقال ما كنت في ذلك ثأداء أي عاجزاً بسكون الهمزة. وحى أبو علي البغدادي عن غيره ثأدا والدأتاء والثأطاء: الحمقاء، ونما خاطب الكميت بهذا قوماً عيروهم أنهم أولاد أمة، لأن مضر من ولد هاجر، فقال: لم نكن أولاد أمة حين أدركنا أوتارنا منكم، بل كنا أولاد حرة. ويروى (حتى قضينا)، فمن رواه هكذا فمعناه لم تنسبونا إلى أننا أولاد أمة إلا بعد أن أغضبناكم بإدراكنا أوتارنا عندكم فنسبتمونا إلى ذلك غيظاً علينا وحسداً لنا. * * * وأنشد في هذا الباب: (379) (فشحا جحافله جراف هيلع) هذا البيت لجرير الخطفي قاله في مهاجاته الفرزدق، وصدره: (وضع الخزير وقيل أين مجاشع)

قال الخليل: الخزير: مرقة تصفى من بلالة النخالة ثم تطبخ. وقال يعقوب: الخزيرة: أن تنصب القدر بلحم يقطع صفاراً على ماء كثير. فإذا نضج ذر عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة. ومعنى شحا فتح. يقال: شحا فاه وشحا فوه، فيجعل الفعل تارة للفم وتارة لصاحبه. والجحافل من الخيل كالشفاه من الناس فاستعار له جحافل لعظم شفته. والجراف: الذي لا يترك شيئاً إلا أكله، به بالسيل الجراف وهو الذي يحمل كل شيء يمر به، والهبلع: الواسع الجوف الكثير الأكل. وذهب بعض النحويين إلى أن الهاء فيه زائدة وأنه مشتق من البلع. وقبل هذا البيت: أكثرتم جحف الخزير فنمتم ... وبنو صفية ليلهم لا يهجع يعيرهم قتل الزبير بن العوام، وأمه صفية، وكان قتله عمرو بن جرموز المجاشعي عند انصرافه من يوم الجمل. * * * وأنشد في هذا الباب: (380) (ألا يا ديار الحي بالسبعان) هذا البيت لابن مقبل، وهو تميم بن أبي بن مقبل، وتمامه: (أمل عايها بالبلى الملوان)

والملوان: الليل والنهار، وجعلهما لين مقبل الغداة والعشى، ويدل على ذلك قوله بعد هذا: نهار وليل دائب ملواهما ... على كل حال الناس يختلفان ألا يا ديار الحي لاهجر بيننا ... ولكن روعات من الحدثان * * * وأنشد في هذا: (381) (ما بالعيني كالشعيب العين) البيت لرؤبة بن العجاج، وبعده: وبعض أعراض الشجون الشجن ... دار كرقم الكاتب المرقن بين في الملقى وبين الأجؤن ووجدته في نسخة من شعر رؤبة بخط أبي يعقوب إسحاب بن إبراهيم بن الجنيد، قرأها على أبي بكر بن دريد وعليها خط ابن دريد وأجازته، العين بكسر الياء، وقال العين: الذي قد رق وتهيأ للحرق، والشعيب: المزادة، ودار خبر بعض. والمرقن: الذي ينقط الكتاب. والملقى والأجؤن: مكانان. كذا وجدته الملقى مضموم الميم مفتوح القاف. والأجؤن مضموم الواو مهموزاً كأنه قال. جمع جون، ووجدته في غيره الأجون مفتوح الواو غير مهموز. * * *

وأنشد في باب شواذ التصريف: (382) (هتاك أخبية ولاج أبوبة ... يخلط بالبر منه الجد واللينا) هذا البيت للفلاح بن حباب أحد بني حزن بن منقر، قال ابن قتيبة وهو القائل: أنا الفلاح بن حباب بن جلا ... أبو حنائير أقود الجملا مدح رجلاً ووصفه بأنه يهتك الأحبية عند الإغارة على الأحياء، ويلج أبواب الملوك والرؤساء، إما فاهراً لهم وإما وافداً عليهم، فهو لجلالته إذا وقف على أبواب الملوك لم يحجب عنهم. وهو ضد ما قاله جرير للتيم: قوم إذا حضر الملوك وفودهم ... نئفت شواربهم على الأبواب وأنشده ابن قتيبة عن الفراء شاهداً على أنه يجمع الأبواب على أبوبة، إذا كان متبعاً للأخبية. قال: ولو افرد لم يجز، لأن بابا حكم أن يجمع على أبواب. وحكى عن ابن الأعرابي عن الخليل أنه قال: يقال: ندى واندية، وباب وأبوبة، وقفا وأقفية. وحكى أبو حاتم عن الأصمعي في المقصور والممدود: قفا وأقفية، ورحى وأرحية، وندى واندية، ولم يذكر باب وأبوبة. لم يذكر واحد من هؤلاء إتباعاً، وكأنهم جعلوا ذلك لعة.

وأنشد في هذا الباب: (383) (أزمان عيناء سرور المسرور ... عيناء حوراء من العين الحير) هذا الرجز أنشده الأصمعي عن أبي مهدي. وأنشد قبله هل تعرف الدار بأعلى ذي القور ... قد درست غير رماد مكفور مكتئب اللون مروح ممطور والقور: جمع قارة؛ وهي جبيل صغير أسود اللون. والرماد المكفور: الذي عطاه التراب بهبوب الرياح عليه. والمروح: الذي أصابته الرياح، ويروى مريح وهو مما جاء نادراً على غير قياس، كأنه بنى على فعل ما لم يسم فاعله، وجعله مكتئب اللون لتغيره بالقدم. وكذلك الكآبة، إنما هي تغير الوجه من الحزن. ويجوز أن يجعله كالحزين لذهاب أهل الدار. وعيناء الأولى: اسم امرأة علم لها، وعيناء الثانية "صنعة لها بعم العينين. وقال الحير إتباعاً للعين وليس بلغة في الحور، وكأنه كره الخروج من كسره اللون من العين إلى ضمة الحاء ثم الانحدار إلى كسره الراء. ولم يعتد بالسواكن الفاصلة بينهما كما قلبوا السين صاداً في بسطة، كراهية للخروج من تسفل السين إلى استعلاء الطاء، ونصب أزمان بفعل مضمر كأنه قال: أذكر أزمان ونحوه من التقدير. ولا يجوز أن يعمل فيه (تعرف) لأنه لم يستفهمه هل يعرفها حين كان بها عيناء، إنما استفهمه هل يعرفه حين عفت وتغيرت. ولا يجوز أن تعمل فيه درست، لأن الدروس لم يكن في الوقت لذي كانت فيه عيناء سروراً للمسرور بها. * * *

وأنشد: (383) (ما أنا بالجافي ولا المجفي) وأنشد أيضاً: (أملت خيرك هل تأتي مواعده ... فاليوم قصر عن تلقائك الأمل) هذا البيت لا أعلم قائله. والتلقاء هنا بمعنى اللقاء. يقول: كنت وعدتني بمواعد أرتقبها منك، وآمل أن ألقاك فأنالها، فاليوم لا أمل لي في لقائك حين يئست من خبرك، وتحقق عندي إخلافك لوعدي. * * * وأنشد: (384) (مكتئب اللون مريح ممطور) وقد تقدم كلامنا فيه. * * * وأنشد أيضاً: (385) (وماء قدور في القصاع مشيب) هذا البيت للسليك بن السلكة السعدي فله لرجل من بني حرام يقال له صرد، وكان سافر معه للغارة على أرض مراد، فقل عليهم الماء حتى خافوا العطب.

وانصرف جملة من أصحابه إلى بلادهم. وأراد صرد الانصراف فشجعه السليك وأعلمه أن الماء قريب، فبقى معه ثم ندم على تخلفه عن أصحابه فبكى، فقال السليك: بكى صرد لما رأى الحي أعرضت ... مهامه رمل دونهم وسهوب فقلت له: لاتبك عينك. أنها ... قضية ما يقضي لنا فنؤوب سيكفيك صرب القوم لحم معرض ... وماء قدور في القصاع مشيب المهامه: القفار الملس التي لا نبات فيها واحدها مهمه، واشتقاقه من قولهم مهمهت بالرجل: إذا زجرته فقلت له مه مه، كأنهم أرادوا أنه قفر يخاف فيه الهلاك، فإذا تكلم فيه الرجل زجره أصحابه عن الكلام، وهذا نحو مماقاله أهل اللغة في قول الهذلي: على أطرقا باليات الحيا ... م إلا الثمام وألا العصى فإنهم ذكروا أن أطرقا موضع، وأنه سمي بذلك لأن ثلاثة نفر مروا به خائفين فتكلم أحدهم مع صاحبه فقال الثالث أطرقا، فغلب عليه ذلك. والسهوب: المواضع السهلةن ونؤوب: نرجع، والصرب: اللبن الحامض، واللحم المعرص بالعين والصاد غير معجمتين: المرمذ الذي لم يبالغ في إنضاجه، وكانوا يستحسنون ذلك في السفر. قال امرؤ القيس: (إذا نحن قمنا عن شواء مضهب)

ورواه بعضهم مغرض بالغين والضاد معجمتين؛ أي طريء. وروى أيضاً معرض بالعين غير معجمة وضاد معجمة، ومعناه: ممكن لا يمنع منه. وإنما أراد السليك بهذا تسليته عما كان به من الحزن والخوف فقال له: سنغير على مراد ونغنم، فنأل اللحم مكان شربك اللبن الحامض في حيك لو صحبتهم وفارقتني فلا نأسف لفراقهم، وأراد بماء القدر المرق، ومشيب مخلوط بما يصلحه من تابل غيره. يقول ستأكل اللحم مشوياً تارة ومطبوخاً تارة. * * * وأنشد في هذا الباب: (386) (ويأوي إلى زغب مساكين دونهم ... فلا لا تخطاه الرفاق مهوب) كذا روى عن ابن قتيبة بتذكير الضميرين. ووجدت في شعر حميد بن ثور الهلالي في وصف قطاة: فجاءت وما جاء القطا، ثم شمرت ... لمسكنها والواردات تتوب وجاءت ومسقاها الذي وردت به ... إلى النحر مشدود العصام كتيب تثيث به زغباً مساكين دونها ... فلا لا تخطاه العيون رغيب

أربعة أوجه من الإعراب: احدها الرفع والتنوين على معنى شواه عالية فيكون شواه مبتدأ وعالية خبر مقدم، أو على أن يجعل عالية مبتدأ وشواه فاعله تسد مسد خبر المبتدأ. والوجه الثاني أن تنصب عالية وتنون فيكون انتصابها على الحال ويرتفع الشوى فاعله. والوجه الثالث أن يقول عالية ويجعل اسم فاعل مضافاً إلى الضمير ويجعله مرفوعاً بالابتدا وشواه خبره وتجعله مبتدا وشواه فاعلاً به يسد مسد خبره. والوجه الرابع أن يجعل عالية اسم فاعل مضافاً إلى الضمير أيضاً منصوباً ويكون انتصابه على وجهين: أحدهما على الحال لأن إضافته إلى المضير غير صحيحة والتقدير فيها الانفصال، والثاني أن تنصبه نصب الظروف وترفع شواه بالابتدا. وتجعل عالية متضمناً للخبر لأن معناه فوقه شواه، فيكون كقوله عز وجل (عاليهم ثياب سندس) في مذهب من جعله ظرفاً. * * * وأنشد في هذا الباب: (387) (رحلت إليك من جنفاء حتى ... أنخت فناء بيتك بالمطال) لا أعلم قائل هذا البيت وجنفاء: موضع. وقال أبو عبيد المطالي: واحدها مطلاء على زنة مفعال وهي أرض سهلة لينة تنبت الغضا. وقال أبو علي الفارسي

وأنشد في هذا الباب: (388) (يخرجن من أجواز ليل غاض) البيت لرؤبة بن العجاج من شعر يمدح به بلال بن أبي بردة، وقبله: يقطع أجواز الفلا انقضاضي ... بالعيس فوق الشرك الرقاض كأنما يضخغن بالخضخاض الأجواز: الأوساط، والإنقضاض، الانكماش في السير والعجلة. والعيس: الإبل البيض يخلط بياضها حمرة. والشرك: أخاديد الطريق. والرفاض: المتفرقة، الخضخاض: القطران يريد أنها إذا عرقت من شدة السير فاسودت من العرق فكأنها طليت بالقطران وعرف الإبل أسود. ولذلك قال عنترة: وكأن ربا أو حيلا معقدا ... حش الوقود به جوانب قمقم ينباع من ذفرى غضوب جسرة ... زيافة مثل الغنيق المكدم وأنشده ابن قتيبة على أن غاضبا من أغضى جاء على حذف الزيادة من الفعل، وهذا لا يلزم، لأن الأصمعي وغيره حكوا غضا الليل وأغضى. فغاض من غضى لا من أغضى. ولعل رؤبة كان من لغته أغضى فلذلك قال: إنه أراد مغض. * * * وأنشد في هذا الباب: (389) (فقلت لها فييء إليك فإنني ... حرام وأني بعد ذاك لبيب)

هذا البيت للمضرب بن كعب وسمى المضرب، لأنه شبب بامرأة قفار أخوها لذلك فضربه بالسيف ضربات عديدة، ويروى لشبل بن الصامت المري، وبعده: فصدت بعيني شادن وتبسمت ... بعجفاء عن غر لهن غروب أراد بالعجفاء: لثاتها؛ لأن اللثات يستحب أن يكون قليلة اللحم ويكره انتفاخها. ويحتمل أن يريد شفتها لأن الشفة يستحب فيها الرقة، فتكون بمنزلة قول النابغلة: تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... برداً أسف لثاته بالأثمد وأراد بالغر: أسنانها، والغروب: جمع غرب وهو حد الأسنان. وصف أن محبوبته لفيها وهو محرم ملب فتورع عن الكلام معها. ومعنى فيئي: ارجعي والحرام: المحرم، ولبيب ههنا: بمعنى ملب وهو نادر؛ لأن فعيلاً لا يستعمل بمعنى مفعل. وإنما يجيء أصلاً من فعل المضموم العين كظريف من ظرف؛ وهذا بابه المطرد. ويأتي بمعنى فاعل كقولهم عليم بمعنى عالم، وقدير بمعنى قادر، إذا أرادوا المبالغة. ويأتي بمعنى مفعل المكسور العين كقولهم عذاب أليم بمعنى مؤلم، ويأتي بمعنى مُفعل كقولهم العين المفتوح أكيل وجليس وشريب، قال الراجز: رب شريب لك ذو حساس

وقال الله تعالى: (الله كان على كل شيء حسيبا) أي محاسبا، ولا أعلم فعيلا بمعنى مفعل إلا في هذا البيت في قول الهذلي: فورك لينا لا يثمثم نصله ... إذا صاب أوساط العظام صميم ترى إثره في جانبية كأنه ... مدارج شبثان لهن هميم فصميم ههنا بمعنى مصمم، "وبعد" في هذا البيت بمعنى (مع)؛ لأن التلبية ليست بعد الإحرام بالحج، إنما هي معه. وقوله فبثي إليك: أمر على معنى التأكيد في أبعادها عن نفسه. * * * وأنشد في باب ما جمعه وواحده سواء: (390) (أولاد قوم خلقوا أقنه) هذا البيت لجرير بن الخطفي من شعر هجا به سليطاً، وهو: إن سليطاً في الخسار إن هـ ... أولاد قوم خلقوا أقنه لا توعدوني يا بني المصنه قوله (إنه) يحتمل أن يريد للتأكيد كأنه قال: إن سليطاً في الخسار إن سليطاً في الخسار، فحذف الجملة الثانية لدلالة الأولى عليها واقتصر على (إن) وزاد عليها هاء السكت.

ويحتمل أن تكون التي بمعنى نعم والهاء للسكت أيضاً كأنه قال: نعم أنهم في انحسار. وجمع (قنا) على (أقنة) وفعل لا يجمع على أفعلة، والوجه فيه أن فعلاً لما كان يشارك فعالاً المكسور الفاء فيتعافان على المعنى الواحد كقولهم دبغ ودباغ، وصبغ وصباغ، وكان يشارك أيضاً فعالاً المفتوح الفاء في نحو قولهم حل وحلال، وحرم وحرام، وكان فعال وفعال بجمعان على أفعلة حمل فعلاً محلها كما أدخلوا فعلى الساكن العين على فعل المفتوح العين في الجمع حين تعاقبا على المعنى الواحد في قولهم شعر يشعر بنحوه، فقالوا فرخ وأفراخ، والقياس أفرخ. وقالوا جبل وأجبل والقياس أجبال. وهذا باب واسع، والمصة ههنا: المنصة، والمصنة أيضاً: شامخة بأنفها كبراً. قال الراجز: أإبلي تأكلها مُصناً * * * وأنشد في باب نعوت المؤنث: (391) (حدواء جاءت من جبال الطور) البيت للعجاج وصف سفينة، وقبله: لأيا ينائيها عن البؤور ... جدب الصرارين بالكرور إذ نفحت في جله المثجور

اللأي: البطيء، والجهد، وينائيها: يباعدها، والجؤر: العدول عن القصد، والصراريون: الملاحون، والكرور: الحبال واحدها كر. يقول إذا عدلت وجارت عن القصد لم يصرفها الملاحون عن ذلك إلا بعد جهدهم. وتفحت: هبت، والجل: الشراع، والمشجور: الذي شد بالحبال، والحدواء: الريح التي تحدو السحاب أي تسوقها. والطور: جبل، والريح التي تجيء من قبله هي الشمال، وجبال الطور: ناحيته وشقه. ويروى من بلاد الطور ومن جبال الطور. * * * وأنشد في هذا الباب: (392) (ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرس تحرى وتدر) هذا البيت من مشهور شعر امريء القيس، والديمة: المطرة الدائمة في سكون. والهطلاء: المتتابعة الغزيرة، والوطف: الدنو من الأرض، وأصل الوطف: طول هدب العينين، فضربه مثلاً لما يتدلى من السحاب من حيث كان السحاب يسمى غينا، ومعنى طبق الأرض أنها قد طبقتها وعمتها، فلم تختص موضعاً دون آخر، وتحرى: تقصد المواضع بالمطر، وتدر: تصب الماء كما يصب الضرع اللبن إذا حُلب، ويروى طبق بالرفع على الصفة لديمة، ويروى بالنصب على المدح، وقيل هو مفعول مقدم لتحرى، أراد تحرى طبق الأرض أي وجهها. * * *

وأنشد في آخر الكتاب: (393) (وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعاً) هذا البيت للقطامي، وقبله: أمور لو تدبرها حكيم ... إذن لنهى وهيب ما استطاعا ولكن الأديم إذا تفرى ... بلى وتعينا غلب الصناعا ومعصية الشفيق عليك مما ... يزيدك مرة منه استماعا والأديم: الجلد. وتفرى: تشقق، والتعين: أن ترق منه مواضع وتتهيأ للانخراق. والصناع: المرأة الصانعة. يريد أن الأمور إذا صارت إلى حد الفساد لم يقدر الحليم على إصلاحها، كما أن الجلد إذا انقطع وبلى لم تقدر الصانعة على تدارك ما وهي منه، ونحو منه قول الآخر: وهل يصلح العطار ما أسد الدهر * * * وأنشد أيضاً: (394) (وإن شئتم تعاوذنا عواذا) هذا البيت لا أعلم قائله ووجدت في بعض التعاليق أن صدره فإما تشكروا المعروف منا

ولا أعلم صحة ذلك من سقمه لأن الشطرين لا يلتئمان التئاماً صحيحاً. وقد ذكرت فيما تقدم أن الرواية عن أبي نصر عن أبي علي نقلت إلينا (تعاوذنا عواذاً بالذال معجمة. وأنشده ابن جني بالدال غير معجمة وهو الصواب عن شاء الله عز وجل. * * * تم جمع الكتاب بحمد الله وحسن عونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله في عقب ربيع الأول سنة خمس عشرة وخمسمائة

§1/1