الاقتراح في أصول النحو ط البيروتي

السيوطي

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الفقير إلى الله تعالى , عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي: الحمد لله الذي أرشد لابتكار هذا النمط وتفضل بالعفو عما صدر عن العبد على وجه السهو والغلط، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , شهادة لا وكس فيها ولا شطط , وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله , أفضل من عليه جبرئيل بالوحي هبط , صلى الله عليه وسلم , وعلى آله وصحبه الذين هم لأتباعهم خير فرط , وبعد .. فهذا كتاب غريب الوضع , عجيب الصنع , لطيف المعنى , طريف المبنى , لم تسمح قريحة بمثاله , ولم ينسج ناسج على منواله , في علم لم أسبق إلى ترتيبه , ولم أتقدم إلى تهذيبه , وهو أصول النحو , الذي هو بالنسبة إلى النحو كأصول الفقه بالنسبة إلى الفقه , وإن وقع في متفرقات كلام بعض المؤلفين , وتشتت في أثناء كتب المصنفين , فجمعه وترتيبه صنع مخترع , وتأصيله وتبويبه وضع مبتدع , لأبرز في كل حين للطالبين , ما تبتهج به أنفس الراغبين. وقد سميته بـ (الاقتراح في علم أصول النحو) ورتبته على مقدمات وسبعة كتب. واعلم أني قد استمديت في هذا الكتاب كثيرا من كتاب الخصائص لابن جني , فإنه وضعه في هذا المعنى , ليس مرتبا , وفيه الغث والسمين , والاستطرادات , فلخصت منه جميع ما يتعلق بهذا المعنى , بأوجز عبارة , وأرشقها , وأوضحها , معزوا إليه , وضممت إليه

نفائس أخر , ظفرت بها في متفرقات كتب اللغة , والعربية , والأدب , وأصول الفقه , وبدائع استخرجتها بفكري. ورتبته على نحو ترتيب أصول الفقه في الأبواب والفصول والتراجم , كما ستراه واضحا بينا , إن شاء الله تعالى. ثم بعد تمامه رأيت الكمال ابن الأنباري قال في كتابه (نزهة الألباء في طبقات الأدباء): " علوم الأدب ثمانية: اللغة , والنحو, والتصريف , والعروض , والقوافي , وصنعة الشعر , وأخبار العرب , وأنسابهم ". ثم قال: " وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما: علم الجدل في النحو , وعلم أصول النحو , فيعرف به القياس وتركيبه وأقسامه , من قياس العله , وقياس الشبه , وقياس الطرد , إلى غير ذلك على حد أصول الفقه , فإن بينهما من المناسبة ما لا خفاء به , لأن النحو معقول من منقول , كما أن الفقه معقول من منقول ". هذه عبارته. فتطلبت هذين الكتابين , حتى وقفت عليهما فإذا هما لطيفان جدا , وإذا في كتابي هذا من القواعد الفقهيه والفوائد , ما لم يسبق إليه أحد , ولم يعرج في واحد منهما عليه. فأما الذي في أصول النحو , فإنه في كراستين صغيرتين , سماه (لمع الأدلة) ورتبه على ثلاثين فصلا: الأول: في معنى أصول النحو وفائدته. الثاني: في أقسام أدلة النحو. الثالث: في النقل. الرابع: في انقسام النقل. الخامس: في شرط نقل المتواتر. السادس: في شرط نقل الآحاد.

السابع: في قبول نقل أهل الأهواء. الثامن: في قبول المرسل والمجهول. التاسع: في جواز الإجازة. العاشر: في القياس. الحادي عشر: في تركيب القياس. الثاني عشر: في الرد على من أنكر القياس. الثالث عشر: في حل شبه تورد على القياس. الرابع عشر: في أقسام القياس. الخامس عشر: في قياس الطرد. السادس عشر: في كون الطرد شرطا في العله. السابع عشر: في كون العكس شرطا في العله. الثامن عشر: في جواز تعليل الحكم بعلتين فصاعدا. التاسع عشر: في إثبات الحكم في محل النقل , بماذا يثبت: بالنقل أم بالقياس؟ العشرون: في العلة القاصرة. الحادي والعشرون: في إبراز الإخالة والمبارزة عند المطالبة. الثاني والعشرون: في الأصل الذي يرد إليه الفرع , إذا كان مختلفا فيه. الثالث والعشرون: في إلحاق الوصف بالعلة مع عدم الإخالة.

الرابع والعشرون: في ذكر ما يلحق بالقياس , ويتفرع عليه من وجوه الاستدلال. الخامس والعشرون: في الاستحسان. السادس والعشرون: في المعارضة. السابع والعشرون: في معارضة النقل بالنقل. الثامن والعشرون: في معارضة القياس بالقياس. التاسع والعشرون: في استصحاب الحال. الثلاثون: في الاستدلال بعدم الدليل بالشيء على نفيه. وأما الذي في جدل النحو , فإنه في كراسة لطيفة , سماه بـ (الإغراب في جدل الإعراب) ورتبه على ثني عشر فصلا: الأول: في السؤال. الثاني: في وصف السائل. الثالث: في وصف المسئول به. الرابع: في وصف المسئول منه. الخامس: في وصف المسئول عنه. السادس: في الجواب. السابع: في الاستدلال. الثامن: في الاعتراض علىلاستدلال بالنقل. التاسع: في الاعتراض على الاستدلال بالنقل. العاشر: في الاعتراض على الاستدلال باستصحاب الحال. الحادي عشر: في ترتيب الأسئلة.

الثاني عشر: في ترجيح الأدلة. انتهى. وقد أخذت من الكتاب الأول اللباب وأدخلته معزوا إليه في خلل هذا الكتاب , وضممت خلاصة الثاني في مباحث العلة. وضممت إليه من كتابه الثاني (الأنصاف في مباحث الخلاف) جملة. ولم أنقل من كتابه حرفا إلا مقرونا بالعزو إليه ليعرف مقام كتاب من كتابه ويتميز عند أولي التمييز جليل نصابه. وإلى الله الضراعة في حسن الختام والقبول , فلا ينفع العبد إلا ما من بقبوله , والسلام.

الكلام في المقدمات

الكلام في المقدمات فيها مسائل المسألة الأولى (في حد أصول النحو) أصول النحو: علم يبحث فيه عن أدلة النحو الإجمالية , من حيث هي أدلته , وكيفية الاستدلال بها , وحال المستدل. فقولي (علم) , أي صناعة فلا يرد ما أورد على التعليل به في حد أصول الفقه , من كونه يلزم عليه فقده , إذا فقد العالم به , لأنه صناعة مدونة , مقررة وجد العالم به , أم لا. وقولي (عن أدلة النحو) يخرج كل صناعة سواه , وسوى النحو. وأدلة النحو الغالبة أربعة. قال ابن جني في الخصائص: " أدلة النحو ثلاثة: السماع , والإجماع , والقياس ". وقال ابن الأنباري في أصوله:" أدلة النحو ثلاثة: نقل , وقياس،

واستصحاب حال ". فزاد الاستصحاب ولم يذكر الإجماع , فكأنه لم ير الاحتجاج به في العربية , كما هو رأي قوم. وقد تحصل مما ذكراه أربعة , وقد عقدت لها أربعة كتب. وكل من الإجماع والقياس لا بد له من مستند من السماع كما هما في الفقه كذلك , ودونها الاستقراء والاستحسان , وعدم النظير , وعدم الدليل , المعقود لها الكتاب الخامس. وقولي (الإجمالية) احتراز في البحث عن التفصيلية , كالبحث عن دليل خاص بجواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار , وبجواز الإضمار قبل الذكر في باب الفاعل والمفعول , وبجواز مجيء التمييز مؤكدا , ونحو ذلك , فهذه وظيفة علم النحو نفسه , لا أصوله. وقولي (من حيث هي أدلته) بيان لجهة البحث عنها , أي البحث عن القرآن بأنه حجة في النحو , لأنه أفصح الكلام , سواء كان متواترا أم آحادا , وعن السنة كذلك بشرطتها الآتي , وعن كلام من يوثق بعربيته كذلك وعن إجماع أهل البلين كذلك , أي إن كلا مما ذكر يجوز الاحتجاج به دون غيره , وعن القياس وما يجوز من العلل فيه وما لا يجوز.

المسألة الثانية (حدود النحو)

وقولي (وكيفية الاستدلال بها) , أي عند تعارضها ونحوه , كتقديم السماع على القياس واللغة الحجازية على التميمية إلا لمانع , وأقوى العلتين على أضعفهما , وأخف الأقبحين على أشدهما قبحا , إلى غير ذلك. وهذا هو المعقود له من الكتاب السادس. وقولي (وحال المستدل) , أي المستنبط للمسائل من الأدلة المذكورة , أي صفاته وشروطه , وما يتبع ذلك من صفة المقلد والسائل. وهذا هو الموضوع له الكتاب السابع. وبعد أن حررت هذا الحد بفكري وشرحته , وجدت ابن الأنباري قال: " أصول النحو أدلة النحو التي تفرعت منها فروعه وأصوله , كما أن أصول الفقه أدلة الفقه التي تنوعت عنها جملته وتفصيله. وفائدته التعويل في إثبات الحكم على الحجة والتعليل والارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على الديل , فإن المخلد إلى التقليد لا يعرف وجه الخطأ من الصواب , ولاينفك في أكثر الأمر عن عوارض الشك والارتياب ". هذا جميع ما ذكره في الفصل الأول بحروفه. المسألة الثانية (حدود النحو) للنحو حدود شتى , وأليقها بهذا الكتاب قول ابن جني (في الخصائص): " هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية , والجمع , والتحقير , والتكسير , والإضافة , والنسب , والتركيب , وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة , فينطق بها , وإن لم يكن منهم , وإن شد بعضهم عنها رد به إليها. وهو في الأصل مصدر شائع , أي نحوت نحوا , كقولك , قصدت قصدا ثم خص به انتحاء هذا هذا القبيل من العلم , كما أن الفقه , في الأصل مصدر فقهت الشيء , أي عرفته , ثم خص به علم الشريعة من التحليل والتحريم , وكما أن بيت الله خص به الكعبة , وإن كانت البيوت كلها لله , وله نظائر في قصر ما كان شائعا في جنسه على أحد أنواعه. وقد استعملته العرب ظرفا , وأصله المصدر. انتهى. وقال صاحب (المستوفى):" النحو صناعة علمية ينظر لها أصحابها في ألفاظ

العرب من جهة ما يتألف بحسب استعمالهم لتعرف النسبة بين صيغة النظم وصورة المعنى , فيتوصل بإحداهما إلى الأخرى ". وقال الخضراوي: " النحو علم بأقيسة تغيير ذوات الكلم وأواخرها بالنسبة إلى لغة لسان العرب ". وقال ابن عصفور: " النحو علم مستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها ". وانتقده ابن الحاج بأنه ذكر ما يستخرج به النحو وتبيين ما يستخرج به الشيء ليس تبيينا لحقيقة النحو , وبأن فيه المقاييس شيء غير النحو , وعلم مقاييس كلام العرب هو النحو. وقال صاحب (البديع): " النحو صناعة علمية يعرف بها أحوال كلام العرب من جهة ما يصح ويفسد في التأليف ليعرف الصحيح من الفاسد ". وبهذا يعلم أن المراد بالعلم المصدر به حدود العلوم: الصناعة , ويندفع الإيراد الأخير على كلام ابن عصفور. وقال ابن السراج في (الأصول): " النحو علم استخرجه المتقدمون من استقراء كلام العرب ".

المسألة الثالثة (حد اللغة , وهل هي بوضع الله أو البشر)

المسألة الثالثة (حد اللغة , وهل هي بوضع الله أو البشر) قال في (الخصاص): " حد اللغة: أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ". واختلف هل هي بوضع الله أو البشر؟ على مذاهب: أحدها: وهو مذهب الأشعري أنها بوضع الله. واختلف على هذا: هل وصل إلينا علمها بالوحي إلى نبي من أنبيائه , أو بخلق أصوات في بعض الأجسام تدل عليها , واسماعها لمن عرفها ونقلها , أو بخلق العلم الضروري في بعض العباد بها؟ على ثلاثة مذاهب , أرجحها الأول , ويدل له ولأصل المذهب قوله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها , أي أسماء المسميات. قال ابن عباس: علمه اسم الصحفة , والقدر , حتى الفسوة والفسية. وفي رواية عنه: عرض عليه أسماء ولده إنسانا إنسانا , والدواب فقيل: هذا الحمار , هذا الجمل , هذا الفرس. أخرجهما ابن أبي حاتم في تفسيره. وتعليمه تعالى دال على أن الواضع دون البشر , وأن وصولها بالوحي إلى آدم. ومال إلى هذا القول ابن جني , ونقله عن شيخه أبي علي الفارسي , وهما من المعتزلة. والمذهب الثاني: أنها اصطلاحية , وضعها البشر , ثم قيل: وضعها آدم. وتأول ابن جني الآية على أن معنى (علم آدم): أقدره على وضعها. وقيل: لعله كان يجتمع حكيمان , أو ثلاثة فصاعدا , فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومة , فوضعوا لكل واحد منها لفظا , إذا ذكر عرف به. وقيل: أصل اللغات كلها من الأصوات المسموعات , كدوي الريح والرعد ,

وخرير الماء , ونعيق الغراب , وصهيل الفرس , ونهيق الحمار , ونحو ذلك , ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. واستحسنه ابن جني. والمذهب الثالث: الوقف , أي لا يدري: أهي من وضع الله أو البشر لعدم دليل قاطع في ذلك. وهو الذي اختاره ابن جني أخيرا. تنبيهان: الأول: زعم بعضهم أنه لا فائدة لهذا الخلاف. وليس كذلك , بل ذكر له فائدتان: الأولى: فقهية , ولذا ذكرت هذه المسألة في أصوله. والأخرى: نحوية , ولهذا ذكرها في أصوله تبعا لابن جني في (الخصائص) , وهي جواز قلب اللغة , فإن قلنا: أنها اصطلاحية جاز , وإلا فلا. وإطباق أكثر النحاة على أن المصحفات ليست بكلام ينبغي أن يكون في هذا الأصل. الثاني: قال ابن جني: الصواب , وهو رأي أبي الحسن الأخفش , سواء قلنا بالتوقيف أن بالاصطلاح - أن اللغة لم توضع كلها في وقت واحد , بل وقعت متلاحقة متتابعة. قال الأخفش: اختلاف لغات العرب إنما جاء من قبل أن أول ما وضع منها وضع على خلاف , وإن كان كله مسوقا على صحة وقياس , ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة لا حاجة إليها , غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفا.

المسألة الرابعة في مناسبة الألفاظ للمعاني

قال: وبجوز أن يكون الموضوع الأول ضربا واحدا , ثم رأى من جاء من بعد أن خالف قياس الأول إلى قياس ثان جار في الصحة مجرى الأول. قال وأما أي الأجناس الثلاثة: الاسم , والفعل , والحرف , وضع قبل؟ فلا يدرى ذلك , ويحتمل في كل من الثلاثة وضع قبل. وبه صرح أبو علي. قال: وكان الأخفش يذهب إلى أن ما غير لكثرة استعماله , إنما تصورته العرب قبل وضعه , وعلمت أنه لابد من كثرة استعمالها إياه , فابتدءوا بتغييره , علما بأن لابد من كثرته الداعيه إلى تغييره. قال: ويجوز أن يكون كانت قديما معربة , فلما كثرت غيرت فيما بعد. قال: والقول عندي هو الأول , لأنه أدل على حكمتها وأشهد لها بعلمها بمصاير أمرها , فتركوا بعض الكلام مبنيا غير معرب , نحو: أمس , وأين , وكيف , وكم , وإذا , وحيث , وفبل , علما بأنهم سيستكثرون منها فيما بعد , فيجب لذلك تغييرها. المسألة الرابعة في مناسبة الألفاظ للمعاني قال في (الخصاص): هذا موضع شريف , نبه عليه الخليل , وسيبويه , وتلقته الجماعة بالقبول. قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة , فقالوا: صر , وفي صوت البازي تقطيعا , فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للضطراب والحركة , نحو: الغليان , والغثيان , فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال. قال ابن جني: وقد وجدت أشياء كثيرة من هذا النمط.

من ذلك المصادر الرباعية المضعفة , تأتي للتكرير , نحو: الزعزعة , والقلقلة , والصلصلة , والقعقعة , والقرقرة. والفعلي تأتي للسرعة , نحو: الجمزي , والولقي. ومن ذلك باب استفعل , جعلوه للطلب , لما فيه من تقدم حروف زائدة على الأصول , كما يتقدم الطلب الفعل , وجعلوا الأفعال الواقعة من غير طلب إنما تفجأ حروفها الأصول أو ما ضارع الأصول , نحو: خرج , وأكرم. وكذلك جعلوا تكرير العين دالا على تكرير الفعل , نحو , فرح , وكسر , فجعلوا قوة اللفظ لقوة المعنى وخصوا بذلك العين , لأنها أقوى من الفاء واللام , إذ هي واسطة لهما , ومكنوفة بهما فصارا كأنهما سياج لها ومبذولان للعوارض دونها , ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها. ومن ذلك قولهم: الخضم لأكل الرطب , والقضم لأكل اليابس , فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب , والقاف لصلابتها لليابس. والنضح للماء ونحوه , والنضخ أقوى منه , فجعلوا الحاء لرقتها للماء الخفيف , والخاء لغلظتها لما هو أقوى. ومن ذلك قولهم: القد طولا , والقط عرضا , لأن الطاء أحصر للصوت , وأسرع قطعا له من الدال المستطيلة , فجعلوها لقطع العرض لقربه وسرعته , والدال المستطيلة لما طال من الأثر , وهو قطعه طولا. وهذا الباب واسع جدا , لايمكن استقصاؤه.

المسألة الخامسة الدلالات النحوية

المسألة الخامسة الدلالات النحوية الدلالات النحوية ثلاث: لفظية , وصناعية , ومعنوية. قال في (الخصائص): " وهي في القوة على هذا الترتيب ". قال: " وإنما كانت الصناعية أقوى من المعنوية من قبل أنها , وإن لم تكن لفظا , فإنها صورة يحملها اللفظ , ويخرج عليها , ويستقر على المثال المعتزم بها. فلما كانت كذلك لحقت بِحُكْمِهِ , وجرت مجرى اللفظ المنطوق به , فدخلا بذلك في باب المعلوم بالمشاهدة. وأما المعنى فدلالته لاحقة بعلوم الاستدلال , وليست في حيز الضروريات. مثال ذلك الأفعال , ففي كل واحد منها الدلالات الثلاث فإنه يدل بلفظه على مصدره وببنائه وصيغته على زمانه , وبمعناه على فاعله. فالأولان مسموعان , والثالث إنما يدرك من جهة أن كل فعل لابد له من فاعل , لأن وجود فعل من غير فاعل محال. قال الخضراوي في (الإفصاح): "ودلالة الصيغة هي المسماة دلالة التضمن , والدلالة المعنوية هي المسماه دلالة اللزوم ". وقال أبو حيان في (تذكره): "في دلالة الفعل ثلاثة مذاهب: أحدها: إنما يدل على الحدث بلفظه , وعلى الزمان بصيغته , أي كونه على

المسألة السادسة أقسام الحكم النحوي

شكل مخصوص , ولذلك تختلف الدلالة على الزمان باختلاف الصيغ ولا تختلف الدلالة على الحدث باختلافها. والثاني: أنه يدل على الحدث بالصيغة , واختلافها من كونه واقعا , أو غير واقع , وينجر مع ذلك الزمان , فيدل عليه الفعل باللزوم دلالة السقف على الحائط. والثالث: عكسه , أنه يدل على الزمان بذاته , لأن صيغته تدل على الزمان الماضي والمستقبل بالذات ودلالته على الحدث بالانجرار." المسألة السادسة أقسام الحكم النحوي الحكم النحوي ينقسم إلى: واجب , وممنوع , وحسن , وقبيح , وخلاف الأولى , وجائز على السواء. فالواجب: كرفع الفاعل , وتأخره عن الفعل , ونصب المفعول , وجر المضاف إليه , وتنكير الحال والتمييز , وغير ذلك. والممنوع كأضداد ذلك. والحسن: كرفع المضارع الواقع جزاء بعد شرط ماض. والقبيح: كرفعه بعد شرط مضارع. وخلاف الأولى: كتقديم الفاعل في نحو: ضرب غلامه زيدا.

والجائز على السواء: كحذف المبتدأ , أو الخبر , أو إثباته حيث لا مانع من الحذف , ولا مقتضى له. وقد اجتمعت الاقسام الستة في عمل الصفة المشبهة فإنها إما أن تكون بـ (أل) , أو لا , ومعمولها إما مجرد , أو مقرون بـ (أل) أو إلى ضمير , أو إلى مضاف ضمير , أو إلى مجرد. فهذه اثنا عشر قسما. وعملها: إما رفع أو نصب , أو جر , فتلك ستة وثلاثون. والجر ممنوع في أربع صور: أن تكون بـ (أل) والمعمول خال منها , ومن إضافة لما هي فيه: بأن يكون مجرد , أو مضاف إلى ضمير. وخلاف الأولى في صورتين: أن تكون الصفة مجردة والمعمول مضاف إلى ضمير , أو إلى مضاف إلى ضمير.

المسألة السابعة تقسيم الحكم النحوي إلى رخصة وغيرها

والرفع قبيح في أربع صور: أن يكون المعمول مجردا , أو مضافا إلى مجرد , سواء كانت الصفة بـ (أل) أم دونها. والحسن فيها النصب أو الجر , والنصب خلاف الأولى في أربع صور: أن تكون الصفة مجردة والمعمول بـ (أل) , أو مضاف إلى ما فيه (أل) , أو إلى ضمير أو إلى مضاف إلىضمير. وواجب في صورتين: أن تكون الصفة بـ (أل) , والمعمول مجرد أو مضاف إلى مجرد. وتجوز الأوجه الثلاثة على السواء في صورتين: أن تكون الصفة بـ (أل) والمعمول مقرون , أو مضاف إلى معرف بها. المسألة السابعة تقسيم الحكم النحوي إلى رخصة وغيرها ينقسم الحكم النحوي أيضا إلى رخصة وغيرها [وغيره]. والرخصة: ما جاز استعماله لضرورة الشعر ويتفاوت حسنا وقبحا. وقد يلحق بالضرورة ما في معناها وهو الحاجة إلى تحسين النثر بالزدواج. فالضرورة الحسنة: ما لا يستهجن , ولا تستوحش منه النفس , كصرف ما لا

ينصرف , وقصر الجمع الممدود , ومد الجمع المقصور. وأسهل الضرورات: تسكين عين (فعلة) في الجمع بالألف والتاء حيث يجب الإتباع كقوله: فتستريح النفس من زفراتها والضرورة المستقبحة: ما تستوحش منه النفس , كالأسماء المعدولة وما أدى إلى التباس جمع بجمع , كرد مطاعم إلى مطاعيم , او عكسه فإنه يؤدي إلى التباس مطعم بمطعام قال حازم في (منهاج البلغاء): " وأشد ما تستوحش منه النفس تنوين (أفعل من) " قال: وأقبح ضرائر: الزيادة المؤدية لما ليس أصلا في كلامهم , كقوله: من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور أي أنظر. أو الزيادة المؤدية لما يقل في الكلام , كقوله: طأطأت شيمالي أراد: شمالي. وكذلك يستقبح النقص المجحف كقول لبيد:

المسألة الثامنة تعلق الحكم بشيئين فأكثر

درس المنا بمتالع فأبان أراد المنازل. وكذلك العدول عن صيغة لأخرى كقول الحطيئة: جدلاء محكمة من نسج سلام أراد سليمان. وقد اختلف الناس في حد الضرورة , فقال ابن مالك: هو ما ليس للشاعر عنه مندوحة. وقال ابن عصفور: الشعر نفسه ضرورة , وإن كان يمكنه الخلاص بعبارة أخرى. قال بعضهم: وهذا الخلاف هو الخلاف الذي يعبر عنه الأصوليون بأن التعليل بـ (المظنة): هل يجوز أم لابد من حصول المعنى المناسب حقيقة؟ وأيد بعضهم الأول بأنه ليس في كلام العرب ضرورة إلا ويمكن تبديل تلك اللفظة , ونظم شيء مكانها. المسألة الثامنة تعلق الحكم بشيئين فأكثر قد يتعلق الحكم بشيئين فأكثر , فتارة يجوز الجمع بينهما , وتارة يمتنع.

فالأول: كمسوغات الابتداء بالنكرة , فإن كلا منها مسموع على انفراده , ولايمتنع اجتماع اثنين منها فأكثر. و (أل) والتصغير من خواص الأسماء , ويجوز اجتماعهما , و (قد) والتاء من خواص الأفعال , ويجوز اجتماعهما. والثاني كاللام من خواص الأسماء , وكذا الإضافة ولا يجوز الجمع بينهما. وكذا التنوين مع الإضافة خاصتان ولا يجتمعان. والسين و (سوف) من أداة الاستقبال , ولا يجتمعان. والتاء والسين خاصتان ولا يجتمعان. ومن القواعد المشتهرة قولهم: البدل والمبدل منه , والعوض والمعوض عنه , لايجتمعان. ومن المهم الفرق بين البدل والعوض. قال أبو حيان في تذكرته: " البدل لغة: العوض , ويفترقان في الاصطلاح فالبدل أحد التوابع , يجتمع مع المبدل منه , وبدل الحرف من غيره لا يجتمعان أصلا , ولا يكون إلا في موضع المبدل منه. والعوض لا يكون في موضعه , وربما اجتمعا ضرورة. وربما استعملوا العوض مرادفا للبدل في الاصطلاح ". وقال ابن جني في (الخصائص): " الفرق بين العوض والبدل أن البدل أشبه بالمبدل منه من العوض بالمعوض منه , وإنما يقع البدل في موضع المبدل منه , والعوض لا يلزم فيه ذلك , ألا تراك تقول في الألف من (قام) إنها بدل من الواو التي هي عين الفعل , ولا تقول إنها عوض منها؟ وكذلك تقول في لام (غازي) و (داعي): إنها بدل من الواو ولا تقول إنها عوض منها. وكذلك الحرف المبدل من الهمزة. وتقول في التاء في (عدة) و (زنة): إنها عوض من فاء الفعل , ولا تقول إنها بدل منها. وكذلك ميم (اللهم) عوض من (يا) في أوله. وتاء (زنادقة) عوض من ياء (زناديق) ولا يقال: بدل وياء (أينق) عوض من عين (أنوق) فيمن جعلها (أيفل) , ومن جعلها عينا مقدمة مغيرة إلى الياء جعلها بدلا من الواو. فالبدل أعم تصرفا من العوض , فكل عوض بدل , وليس كل بدل عوضا ". انتهى.

المسألة التاسعة هل بين العربي والعجمي واسطة

المسألة التاسعة هل بين العربي والعجمي واسطة اختلف: هل بين العربي والعجمي واسطة؟ فقال ابن عصفور: نعم. قال في (الممتع): " إذا نحن تكلمنا بهذه الألفاظ المصنوعة , كان تكلمنا بما لا يرجع إلى لغة من اللغات " ورده الخضراوي بأن كل كلام ليس عربيا , فهو عجمي , ونحن كغيرنا من الأمم. وقول أبو حيان في (شرح التسهيل): "العجمي عندنا: هو كل ما نقل إلى اللسان العربي من لسان غيره , سواء كان من لغة الفرس , أو الروم , أو الحبش , أو الهند , أو البربر , أو الإفرنج , أو غير ذلك ". _ يوافق رأي ابن عصفور , حيث عبر بالنقل , ولا نقل في المصنوعة. قال النحاة: وتعرف عجمة الاسم بوجوه (¬1): أحدها: أن ينقل ذلك عن أحد الأئمة. الثاني: خروجه عن أوزان الأسماء العربية , نحو: إبريسم , فإن مثل هذا الوزن مفقود في أبنية اللسان العربي (¬2). الثالث: أن يكون في أوله نون ثم راء , نحو نرجس , فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية. الرابع: أن يكون آخره زاي بعد دال , نحو: المهندز , فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية. الخامس: أن يجتمع فيه الصاد والجيم , نحو: الصولجان , والجص. السادس: أن يجتمع فيه الجيم والقاف , نحو: المنجنيق. السابع: أن يكون خماسيا أو رباعيا عاريا من حروف الذلاقة , وهي ¬

(¬1) قلت: هذه الوجوه جميعا وغيرها ترجع لاستقراء كلام العرب من الأئمة المتقنين المتقدمين وهو أمر محتمل للخلاف لأنه لا يحيط بكلام العرب إلا نبي كما قال الشافعي. ومن ذلك أنهم ذكروا أن التاء لا تجتمع مع الجيم إلا في ثلاث كلمات (تجر - ...) (¬2) قال الزمخشري [الكشاف ج1/ص364] ((وقرأ الحسن (الأنجيل) بفتح الهمزة وهو دليل على العجمة لأن أفعيل بفتح الهمزة عديم في أوزان العرب))

المسألة العاشرة أقسام الألفاظ

الباء , والراء , والفاء , واللام , والميم ,والنون , فإنه متى كان عربيا , فلابد أن يكون فيه شيء منها , نحو: سفرجل , وقذعمل , وقرطعب , وجحمرش. المسألة العاشرة أقسام الألفاظ قسم ابن الطراوة الألفاظ إلى: واجب ,وممتنع , وجائز. قال: " فالواجب: رجل , وقائم , ونحوهما مما يجب أن يكون في الوجود , ولا ينفك الوجود عنه. والممتنع: لا قائم , ولا رجل , إذ يمتنع أن يخلو الوجود من أن يكون لا رجل ولا قائم. واجاز: زيد وعمرو , لأنه جائز أن يكون , وأن لا يكون ". قال فكلام مركب من واجبين لا يجوز , نحو: رجل قائم , لأنه لا فائدة فيه. وكلام مركب من ممتنعين أيضا لا يجوز , لا رجل لا قائم , لأنه كذب , ولا فائدة فيه. وكلام مركب من واجب وجائز صحيح , نحو: زيد قائم.

وكلام مركب من ممتنع وجائز لا يجوز ولا من واجب وممتنع نحو: زيد لا قائم , ورجل لا قائم , لأنه كذب , إذ معناه: لاقائم في الوجود. وكلام مركب من جائزين لا يجوز , نحو: زيد أخوك , لأنه معلوم , لكن بتأخيره صار واجبا , فصح الإخبار به , لأنه مجهول في حق المخاطب. فالجائز يصير بتأخيره واجبا. ولو قلت: زيد قائم , صح , لأنه مركب من جائز وواجب , فلو قدمت وقلت: قائم زيد , لم يجز , لأن زيدا صار بتأخيره , واجبا , فصار الكلام مركبا من واجبين فصار بمنزلة: قائم رجل ". قال أبو حيان: " وهذا مذهب غريب ". قال: " وما قاله أن الجائز يصير بتأخيره واجبا ممنوع , لأن معناه مقدما ومؤخرا واحد ".

الكتاب الأول في السماع

الكتاب الأول في السماع وأعني به ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته , فشمل كلام الله تعالى , وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم , وكلام العرب , قبل بعثته , وفي زمنه , وبعده , إلى أن فسدت الألسنة بكثرة المولدين , نظما ونثرا , عن مسلم أو كافر. فهذه ثلاثة أنواع , لابد في كل منها من الثبوت. أما القرآن فكل ما ورد أنه قريء به جاز الاحتجاج به في العربية , سواء كان متواترا , أو آحادا , أم شاذا. وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة في العربية إذا لم تخالف قياسا معلوما , بل ولو خالفته يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه , وإن لم يجز القياس عليه , كما يحتج بالمجمع على وروده ومخالفته القياس في ذلك الوارد بعينه , ولا يقاس عليه , نحو: استحوذ , ويأبى. وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذة لا أعلم فيه خلافا بين النحاة , وإن اختلف في الاحتجاج بها في الفقه. ومن ثم احتج على جواز إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء

الخطاب بقراءة (فبذلك فلتفرحوا) , كما احتج على إدخالها على المبدوء بالنون بالقراءة المتواترة (ولنحمل خطاياكم). واحتج على صحة قول من قال: إن (الله) أصله (لاه) بالاسانيد المتواترة الصحيحة التي لا مطعن فيها , وثبوت ذلك دليل على جوازه في العربية , وقد رد المتأخرون منهم ابن مالك , على من عاب عليهم ذلك بأبلغ رد , واختار جواز ما وردت به قراءاتهم في العربية , وإن منعه الأكثرون مستدلا به من ذلك احتجاجه على جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار بقراءة حمزة: (تساءلون به والأرحام). وعلى جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمفعوله بقراءة ابن عامر: (قتل أولادهم شركائهم). وعلى جواز سكون لام الأمر بعد (ثم) بقراءة حمزة: (ثم ليقطع)

فإن قلت فقد روي عن عثمان أنه قال: لما عرض عليه المصاحف: إن فيه لحنا ستقيمه العرب بألسنتها. وعن عروة قال: سالت عائشة عن لحن القرآن عن قوله: (إن هذان لسحران). وعن قوله: (والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) وعن قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون) فقالت يا ابن أختي , هذا عمل الكتاب , أخطأوا في الكتاب. أخرجهما أبو عبيد , في فضائله فكيف يستقيم الاستدلال بكل ما فيه بعد هذا؟ قلت: معاذ الله كيف يظن أولا بالصحابة أنهم يلحنون في الكلام , فضلا عن القرآن وهم الفصحاء اللد؟! فقلت: كيف يظن بهم ثانيا في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم كما أنزل وضبطوه وحفظوه وأتقنوه؟! ثم كيف يظن بهم ثالثا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته؟! ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبههم ورجوعهم عنه؟! ثم كيف يظن بعثمان أن يقرأه ولا يغيره؟! ثم كيف يظن أن القراءات استمرت على مقتضى ذلك الخطأ , وهو مروي بالتواتر خلف عن سلف؟! هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة. وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة عديدة , بسطتها في كتابي (الإتقان في علوم القرآن). وأحسن ما يقال في أثر عثمان _ رضي الله عنه _ بعد تضعيفه بالاضطراب الواقع في إسناده والانقطاع: أنه وقع في روايته تحريف , فإن ابن أشته أخرجه في

كتاب (المصاحف) من طريق عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر , قال: "لما فرغ من المصحف , أتي به عثمان , فنظر فيه فقال: أحسنتم وأجملتم , أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا ". فهذا الأثر لا إشكال فيه فكأنه لما عرض عليه , عند الفراغ من كتابته , رأى فيه شيئا غير لسان قريش , كما وقع لهم في (التابوت) و (التابوه) , فوعد بأنه سيقيمه على لسان قريش , ثم وفى بذلك , كما ورد من طريق آخر , أوردتها في كتاب (الإتقان). ولعل من روى ذلك الأثر حرفه , ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان فلزم ما لزم من الإشكال , وأما أثر عائشة فقد أوضحنا الجواب عنه في (الإتقان) أيضا.

فصل الاستدلال بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم

فصل الاستدلال بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأما كلامه صلى الله عليه وسلم فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المروي , وذلك نادرا جدا , إنما يوجد في الأحاديث القصار , على قلة أيضا , فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى , وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها , فرووها بما أدت إليه عبارتهم فزادوا ونقصوا , وقدموا وأخروا , وأبدلوا ألفاظا بألفاظ , ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مرويا على أوجه شتى بعبارت مختلفة , ومن ثم أنكر على ابن مالك إثباته القواعد النحوية بالألفاظ الواردة في الحديث.

قال أبو حيان في (شرح التسهيل): " قد أكثر هذا المصنف من الاستدلال بما وقع في الاحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب , وما رأيت أحدا من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأولين لعلم النحو , المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمر بن العلاء , وعيسى بن عمر , والخليل , وسيبويه من أئمة البصريين , والكسائي , والفراء , وعلي بن المبارك الأحمر , وهشام الضرير من أئمة الكوفيين _ لم يفعلوا ذلك , وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد , وأهل الأندلس. وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء , فقال: إنما ترك العلماء ذلك , لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم , إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية. وإنما كان ذلك لأمرين: أحدهما: أن الرواة جوزا النقل بالمعنى , فتجد قصة واحدة جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم لم تقل بتلك الألفاظ جميعها , نحو ما روي من قوله: "زوجتكها بما معك من القرآن " " ملكتكها بما معك" " خذها بما معك". وغير ذلك من الألفاظ الواردة في هذه القصة، فتعلم يقينا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ؛ بل لا تجزم بأنه قال بعضها، إذ يحتمل أنه قال لفظا مرادفا لهذه الألفاظ غيرها، فأتت الرواة بالمرادف ولم تأت بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب ولا سيما مع تقادم السماع، وعدم ضبطه بالكتابة، والاتكال على الحفظ والضابط منهم من ضبط المعنى وأما من ضبط اللفظ فبعيد جدا، لا سيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني؛ إنما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم علم اليقين أنهم إنما يروون بالمعنى. الأمر الثاني أنه وقع اللحن كثيرا فيما روي من الحديث؛ لأن كثيرا من الرواة كانوا غير عرب، ولا يعلمون لسان العرب لصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم، وهم لا يعلمون ذلك، وقد وقع في كلامهم وروايتهم غيرُ الفصيح من لسان العرب، غير شك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أفصح الناس، فلم يكن ليتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها وإذا تكلم بلغة

غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز وتعليم الله ذلك له من غير معلم. والمصنف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقبا بزعمه على النحويين وما أمعن النظر في ذلك ولا صحب من له التمييز، وقد قال لنا قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة وكان ممن أخذ عن ابن مالك: ((قلت له: يا سيدي هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما يعلم أنه ليس من لفظ الرسول فلم يجب بشيء)) قال أبو حيان: ((وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة لئلا يقول مبتدئ: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما؟ فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث)) انتهى كلام أبي حيان بلفظه وقال أبو الحسن ابن الضائع في (شرح الجمل): " تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة , كسيبويه وغيره , الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم , لأنه أفصح العرب ". وقال: " وابن خروف يستشهد بالحديث كثيرا , فإن كان على وجه الاستظهار والتبرك بالمروي فحسن وإن كان يرى أن من قبله أغفل شيئا وجب عليه استدراكه , فليس كما رأى ". انتهى ومثل ذلك قول صاحب (ثمار الصناعة): " النحو علم يستنبط بالقياس والاستقراء من كتاب الله وكلام الفصحاء العرب ". فقصره عليهما ولم يذكر الحديث. نعم اعتمد عليه صاحب (البديع) فقال في (أفعل التفضيل):

" لايلتفت إلى قول من قال: إنه لايعمل لأن القرآن والأخبار والأشعار نطقت بعمله " ثم أورد آيات ومن الأخبار حديث: " ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيها الصوم ". ومما يدل لصحة ما ذهب إليه ابن الضائع أن ابن مالك استشهد على لغة (أكلوني البراغيث) بحديث الصحيحين: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ". وأكثر من ذلك حتى صار يسميها (لغة بتعاقبون) وقد استدل به السهيلي ثم قال: " لكنني أقول: إن الواو فيه علامة إضمار لأنه حديث مختصر رواه البزاز مطولا مجردا فقال فيه: إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم , ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ". وقال ابن الأنباري في (الإنصاف) في منع (أن) في خبر كاد: " وأما حديث: كاد الفقر أن يكون كفرا فإنه من تغييرات الرواة لأنه أفصح من نطق بالضاد ".

فصل القبائل التي نقلت عنه اللغة العربية

فصل القبائل التي نقلت عنه اللغة العربية وأما كلام العرب فيحتج منه بما ثبت عن الفصحاء الموثوق بعربيتهم قال أبو نصر الفرابي في أول كتابه المسمى بـ (الألفاظ والحروف): "كانت قريش أجود العرب انتقادا للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعا وإبانة عما في النفس. والذين عنهم اللغة العربية وبهم اقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي من بين كلام العرب هم: قيس وتميم وأسد فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه وعلهيم اتكل في الغريب وفي الأعراب والتصريف ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم. فإنه لا يؤخذ لا من لخم ولا من جذام فإنهم كانو مجاورين لأهل مصر القبط , ولا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد فإنهم كانو مجاورين لأهل الشام وأكثرهم نصارى يقرأون في صلاتهم بغير العربية , ولا من تغلب ولا

النمر فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين للنبط والفرس ولا من عبد القيس لأنهم كانوا سكان البحرين مخالطين للهند والحبشة ولولادة الحبشة فيهم , ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وسكان الطائف لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم , ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادتفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم. والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب وصيرها علما وصناعة هم أهل الكوفة والبصرة فقط من بين أمصار العرب. وكانت صناعة هؤلاء التي بها يعيشون الرعاية والصيد واللصوصية وكانوا اقواهم نفوسا وأقساهم قلوبا وأشدهم توحشا وأمنعهم جانبا وأشدهم حمية وأحبهم لأن يغلِبوا ولا يُغلَبوا وأعسرهم انقيادا للملوك وأجفاهم أخلاقا وأقلهم احتمالا للضيم والذلة ". انتهى ونقل ذلك أبو حيان في (شرح التسهيل) معترضا به علىبن مالك حيث عني في كتبه بنقل لغة لخم وخزاعة وقضاعة وغيرهم وقال: " ليس ذلك من عادة أئمة هذا الشأن ". ثم الاعتماد على ما رواه الثقات عنهم بالأسانيد المعتبرة من نثرهم ونظمهم وقد دونت دواوين عن العرب العرباء كثيرة مشهورة كديوان امريء القيس والطرماح وزهير وجرير والفرزدق وغيرهم. ومما يعتمد عليه في ذلك مصنفات الإمام الشافعي - رضي الله عنه - فقد قال ابن شاكر في (مناقبه): " حدثنا أحمد بن غالب حدثنا عمر بن الحسن الحراني , حدثنا محمد بن أحمد الهروي , حدثنا زكريا بن يحيى الساجي , حدثنا جعفر بن محمد , قال: قال الإمام أحمد بن حنبل: كلام الشافعي في اللغة حجة ".

فروع

فروع أحدها:] انقسام المسموع إلى مطرد وشاذ [ ينقسم المسموع إلى مطرد وشاذ. قال في (الخصائص): " وأصل مواضع (ط ر د) في كلامهم: التتابع والاستمرار ومنه مطاردة الفرسان بعضهم بعضا واطرد الجدول: إذا تتابع ماؤه بالريح. ومواضع (ش ذ ذ): التفرق والتفرد ثم قيل ذلك في الكلام والأصوات على سمته في غيرهما. فجعل أهل علم العربية ما استمر من الكلام من الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مطردا وما فارق ما عليه بقية بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذ ". قال: " ثم الاضطراد والشذوذ على أربعة أضرب: مطرد في القياس والاستعمال معا وهو الغاية المطلوبة نحو: قام زيد وضربت عمرا ومررت بسعيد. ومطرد في القياس شاذ في الاستعمال نحو الماضي من (يذر) و (يدع) وقولهم: مكان مقبل , هذا هو القياس والأكثر في السماع باقل والأول مسموع أيضا. ومنه أيضا مجيء مفعول (عسى) اسما صريحا نحو: عسى زيد قائما

فهو القياس غير أن الأكثر في السماع كونه فعلا والأول مسموع أيضا ومطرد في الاستعمال شاذ في القياس نحو قولهم: استحوذ واستنوق الجمل واستوصبت الأمر وأبى يأبى والقياس الإعلال في الثلاثة وكسر عين الأخير. وشاذ في القياس والاستعمال معا كقولهم: ثوب مصون وفرس مقوود ورجل معوود من مرضه ". انتهى ملخصا. وقال الشيخ جمال الدين بن هشام: " اعلم أنهم يستعملون غالبا وكثيرا ونادرا وقليلا ومطردا. فالمطرد لا يتخلف. والغالب أكثر الأشياء ولكنه يتخلف. والكثير دونه. والقليل دونه. والنادر أقل من القليل. فالعشرون بالنسبة بالنسبة إلى ثلاثة وعشرين غالب والخمسة عشر بالنسبة إليها كثير لا غالب والثلاثة قليل والواحد نادر فاعلم بهذا مراتب ما يقال فيه ذلك ". انتهى.

الفرع الثاني [الاعتماد على أشعار الكفار من العرب]

الفرع الثاني ] الاعتماد على أشعار الكفار من العرب [ قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام من كبار أصحابنا الشافعية: " اعتمد في العربية على أشعار العرب وهم كفار لبعد التدليس فيها كما اعتمد في الطب وهو في الأصل مأخوذ عن قوم كفار لذلك ". فعلم أن العربي الذي يحتج بقوله لا بشترط فيه العدالة نعم تشترط في رواي ذلك. وكثيرا ما يقع في (كتاب سيبويه) وغيره: " حدثني من لا أتهم " و " من لا أثق به " وينبغي الاكتفاء بذلك. وعدم التوقف في القبول ويحتمل المنع. وقد ذكر المرزباني عن أبي زيد النحوي قال: " كل ما قال سيبويه في كتابه (أخبرني الثقة) فأنا أخبرته ". وقد وضع المولدون اشعارا ودسوها على الأئمة فاحتجوا بها ظنا أنها للعرب وذكر أن في (كتاب سيبويه) منها خمسين بيتا وأن منها قول القائل: أعرف منها الأنف والعينانا ... ومنخرين أشبها ظبيانا ومن الأسباب الحاملة على ذلك: نصرة رأي ذهب إليه وتوجيه كلمة صدرت منه وقال ابن النحاس في (التعليقة): " حكي الحريري في (درة الغواص):

الفرع الثالث (أحوال المسموع الفرد والاحتجاج به)

ورى خلف الأحمر أنهم صاغوا (فعال) متسقا من أحاد إلى عشار وأنشد ما عزي فيه إلى أنه موضوع منه أبياتا من جملتها: وثلاثا ورباعا ... وخماسا فاطعنا وسداسا وسباعا ... وثمانا فاجتلدنا وتساعا وعشارا ... فأصبنا وأصبنا الفرع الثالث (أحوال المسموع الفرد والاحتجاج به) المسموع الفرد: هل يقبل ويحتج به؟ له أحوال لخصتها من متفرقات كلان ابن جني في (الخصائص) أحدها: أن يكون فردا بمعنى أنه لا نظير له في الألفاظ المسموعة مع إطباق العرب على النطق به فهذا يقبل ويحتج به ويقاس عليه إجماعا كما قيس على قولهم في شنوءة: شنئي مع أنه لم يسمع غيره لأنه لم يسمع ما يخالفه وقد أطبقوا على النطق به. الحال الثاني: أن يكون فردا بمعنى أن المتكلم به من العرب واحد ويخالف ما عليه الجمهور. قال ابن جني: " فينظر في حال هذا المنفرد به فإن كان فصيحا في جميع ما عدا ذلك القدر الذي انفرد به وكان مما أورده مما يقبله القياس إلا أنه لم يرد به استعمال إلا من جهة ذلك الإنسان فإن الأولى في ذلك أن يحسن الظن به ولا يحمل على فساده.

فإن قيل: فمن أين ذلك وليس مسوغا أن يرتجل لنفسه لغة أخرى؟ قيل: قد يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة طال عهدها وعفا رسمها فقد أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: قال لي ابن عون عن ابن سيرين قال: قال عمر بن الخطاب: " كان الشعر علم قوم ولم يكن لهم علم أصح منه ". فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحظوا أقل من ذلك وذهب عنهم كثيره. ثم روى بسنده عن أبي عمرو بن العلاء قال: " ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جائكم وافرا لجائكم علم وشعر كثير ". وعن حماد الراوية قال: " أمر النعمان فنسخت له أشعار العرب في الطنوج _ وهي الكرايس _ ثم دفنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن أبي عبيد قيل له إن تحت القصر كنزا فاحتفره فأخرج تلك الأشعار فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة ". قال ابن جني: "فإذا كان كذلك لم يقطع على الفصيح يسمع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ ما دام القياس يعضده فإن لم يعضده كرفع المفعول

والمضاف إليه وجر الفاعل أو نصبه فينبغي أن يرد لأنه جاء مخالفا للقياس والسماع جميعا. وكذا إذا كان الرجل الذي سمعت منه تلك اللغة الخالفة مضعوفا في قوله مألوفا منه اللحن وفساد الكلام فإنه يرد عليه ولا يقبل منه. وإن احتمل أن يكون مصيبا في ذلك لغة قديمة فالصواب رده وعدم الاحتفال بهذا الاحتمال ". الحال الثالث: أن ينفرد به المتكلم ولا يسمع من غيره لا ما يوافقه ولا ما يخالفه. قال ابن جني: " والقول فيه أنه يجب قبوله إذا ثبت فصاحته لأنه إما أن يكون شيئا أخذه عمن نطق به بلغة قديمة لم يشارك في سماع ذلك منه على حد ما قلناه فيمن خالف الجماعة وهو فصيح أو شيئا ارتجله فإن الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرف وارتجل ما لم يسبق إليه فقد حكي عن رؤبة وأبيه أنهم كانا يرتجلان ألفاظا لم يسمعاها ولا سبقا إليها. أما لو جاء عن متهم أو من لم ترق به فصاحته ولا سبقت إلى الأنفس ثقته فإنه يرد ولا يقبل فإن ورد عن بعضهم شيئ يدفعه كلام العرب ويأباه القياس على كلامها فإنه لا يقنع في قبوله أن يسمع من الواحد ولا من العدة القليلة إلا أن يكثر من ينطق به منهم فإن كثر قائلوه إلا أنه مع هذا ضعيف الوجه في القياس فمجازه وجهان: أحدهما أن يكون من نطق به لم يحكم قياسه. والآخر: أن تكون أنت قصرت عن استدراك وجه صحته. ويحتمل بأن يكون سمعه من غيره ممن ليس فصيحا وكثر استماعه له فسرى في كلامه إلا أن ذلك قلما يقع فإن الأعرابي الفصيح إذا عدل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عدل عنها ولم يعبأ بها. فالأقوى أن يقبل ممن شهرت فصاحته ما يورده ويحمل أمره على ما عرف من حاله لا على ما عسى أن يحتمل كما أن على القاضي قبول شهادة من ظهرت عدالته وإن كان يجوز كذبه في الباطن إذ لو لم يؤخذ بذلك لأدى إلى ترك الفصيح بالشك وسقوط كل اللغات.

الفرع الرابع اختلاف اللغات وكلها حجة

الفرع الرابع اختلاف اللغات وكلها حجة قال ابن جني: " اللغات على اختلافها كلها حجة. ألا ترى أن لغة الحجازين في إعمال (ما) ولغة التميمين في تركه كل منها يقبله القياس فليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها ". وسيأتي في ذلك مزيد كلام في (الكتاب السادس). الفرع الخامس (علة امتناع الأخذ عن أهل المدر) قال ابن جني: "علة امتناع الأخذ عن أهل المدر كما يؤخذ عن أهل الوبر ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم لم يعرض للغتهم شيء من الفساد أوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر وكذلك لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من الخلل والفساد لوجب رفض لغتها ". قال: " وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا لأنا لا نكاد نرى بدويا فصيحا. وإذا كان قد روي أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يلحن فقال: (أرشدوا أخاكم فقد ضل) وسمع عمر رجلا يلحن وكذلك علي حتى حمله ذلك على وضع النحو إلى أن شاع واستمر فساد الألسنة مشهورا ظاهرا فينبغي أن يستوحش من الأخذ عن كل أحد إلا أن تقوى لغته وتشيع فصاحته ". وقد قال الفراء في بعض كلامه: " إلا أن تسمع شيئا من بدوي فصيح فتقوله ".

الفرع السادس في العربي الفصيح ينتقل لسانه

الفرع السادس في العربي الفصيح ينتقل لسانه قال ابن جني: " العمل في ذلك أن تنظر حال ما انتقل إليه فإن كان فصيحا مثل لغته الأولى أخذ بها كما يؤخذ بما انتقل عنها أو فاسدا فلا ويؤخذ بالأولى ". قال: " فإن قيل: فما يؤمنك _ أن يكون كما وجدت في لغته فسادا بعد أن لم يكن فيها _ أن يكون فيها فسادا آخر لم تعلمه؟ قيل: لو أخذ بها لأدى إلى أن لا تطيب نفس بلغة وأن يتوقف عن الأخذ عن كل أحد مخافة أن يكون في لغته زيغ لا نعلمه الآن ويجوز أن يعلم بعد زمان وفي هذا من الخطل ما يكفي. فالصواب الأخذ بما عرف صحته ولم يظهر فساده ولا يلتفت إلى احتمال الخلل فيما لم يبن ". الفرع السابع (في تداخل اللغات) قال في (الخصائص): " إذا اجتمع في كلام الفصيح لغتان فصاعدا كقوله وأشرب الماء ما بي نحوه عطش إلا لأن عيونه سيل واديها فقال: نحوهو بالإشباع وعيونه بالإسكان فينبغي أن يتأمل حال كلامه. فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتان في الاستعمال كثرتهما واحدة فأخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على تينك اللفظتين لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليها في أوزان أشعارها وسعة تصرف أقوالها. ويجوز أن

تكون لغته في الأصل إحداهما ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى وطال بها عهده وكثر استعماله لها فلحقت لطول المدة وكثرة الاستعمال بلغته الأولى. وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر من كلامه من الأخرى فأخلق الأمر به أن تكون القليلة الاستعمال هي الطارئة والكثيرة هي الأولى الصلية. ويجوز أن تكونا معا لغتين له ولقبيلته وإنما قلت إحداهما في استعماله لضعفها في نفسه وشذوذها عن قياسه. وإن كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت في لغة إنسان فعلى ما ذكرناه كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك وكما تنحرف الصيغة واللفظ واحد كقولهم رغوة اللبن ورُغوته ورِغوته ورغاوته كذلك مثلثا. وكقولهم: جئت من عل ومن عِل ومن عَل ومن علا ومن عُلو ومن علوٍ ومن علوَ ومن عال ومن معال. فكل ذلك لغات لجماعات قد تجتمع لإنسان واحد. قال الأصمعي: " اختلف رجلان في الصقر فقال أحدهما بالصاد وقال الآخر بالسين فتارضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه فقال: لا أقول كما قلتما إنما هو الزقر ". " وعلى هذا يتخرج جميع ما ورد من التداخل نحو: قلى يقلى وسلا

الفرع الثامن (لا يحتج بكلام المولدين)

يسلى. وطهر فهو طاهر وشعر فهو شاعر. فكل ذلك إنما هو لغات تداخلت فتركبت بأن أخذ الماضي من لغة والمضارع أو الوصف من لغة أخرى لا تنطق بالماضي كذلك فحصل التداخل والجمع بين اللغتين فإن من يقول: قلا يقول في المضارع يقلي والذي يقول: يقلا يقول في الماضي: قلي وكذا من يقول يسلا يقول في الماضي سلي. فتلاقى أصحاب اللغتين فسمع هذا لغة هذا وهذا لغة هذا فأخذ كل واحد من صاحبه ما ضمه إلى لغته فتركبت هناك لغة ثالثة. وكذا شاعر وطاهر إنما هو من شعر وطهر بالفتح وأما بالضم فوصفه على فعيل فالجمع بينهما من التداخل ". انتهى كلام ابن جني. وقد حكى غيره في استعمال اللغتين المتداخلتين قولين: أحدهما: أنه يجوز مطلقا والثاني: إنما يجوز بشرط ألا يؤدي إلى استعمال لفظ مهمل كـ (الحبك). الفرع الثامن (لا يحتج بكلام المولدين) أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين

الفرع التاسع لا يحتج بشعر أو نثر لا يعرف قائله

وفي (الكشاف) ما يقتضي تخصيص ذلك بغير أئمة اللغة ورواتها فإنه استشهد على مسألة بقول حبيب بن أوس ثم قال: " وهو وإن كان محدثا لا يستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة فيقتنعون بذلك لتوثقهم بروايته وإتقانه ". فائدة أول الشعراء المحدثين بشار بن برد وقد احتج سيبويه في كتابه ببعض شعره تقربا إليه لأنه كان هجاه لتركه الاحتجاج بشعره ذكره المرزباني وغيره. ونقل ثعلب عن الأصمعي قال: ختم الشعر بإبراهيم بن هرمه وهو آخر الحجج. الفرع التاسع لا يحتج بشعر أو نثر لا يعرف قائله لا يجوز الاحتجاج بشعر أو نثر لا يعرف قائله صرح بذلك ابن الأنباري في ... (الإنصاف) وكان علة ذلك خوف أن يكون لمولد أو من لا يوثق بفصاحته ومن هذا يعلم أنه لا يحتاج إلى معرفة أسماء العرب وطبقاتهم. قال ابن النحاس في (التعليقة): " أجاز الكوفيون إظهار (أن) بعد (كي) واستشهدوا بقول الشاعر:

أردت لكيما أن تطير بقربتي ... فتتركها شنا ببيداء بلقع قال: والجواب أن هذا البيت غير معروف قائله ولو عرف لجاز أن يكون من ضرورة الشعر. وقال أيضا: ذهب الكوفيون إلى جواز دخول اللام في خبر (لكن) واحتجوا بقول الشاعر: ولكنني من حبها لعميد والجواب: أن هذا البيت لا يعرف قائله ولا أوله ولم يذكر منه إلا هذا ولم ينشده أحد ممن وثق في اللغة ولا عزي إلى مشهور بالضبط والإتقان وفي ذلك ما فيه. وفي تعاليق ابن هشام على الأفية: " استدل الكوفيون على جواز مد المقصور للضرورة بقوله: قد علمت أخت بني السعلاء وعلمت ذاك مع الجراء أن نعم مأكولا على الخواء يا لك من تمر ومن شيشاء

الفرع العاشر (هل يقبل قول القائل: حدثني الثقة)

ينشب في المشعل واللهاء فمد السعلا والخوا واللها وهي مقصورات. قال: والجواب عندنا أنه لا يعلم قائله فلا حجة فيه ". لكن ذكر في شرحه للشواهد ما يخالف ذلك فإنه قال: طعن عبد الواحد الطواح في كتابه (بغية الآمل) في الاستشهاد بقوله: لا تكثرن إني عسيت صائما وقال هو بيت مجهول لم ينسبه الشارح إلى أحد فسقط الاحتجاج به. ولو صح ما قاله لسقط الاحتجاج بخمسين بيتا من (كتاب سيبويه) فإن فيه ألف بيت قد عرف قائلوها وخمسين مجهولة القائلين. الفرع العاشر (هل يقبل قول القائل: حدثني الثقة) إذا قال حدثني الثقة فهل يقبل؟ قولان: في علم الحديث وأصول الفقه رجح كلا مرجحون وقد وقع ذلك لسيبويه كثيرا يعني به الخليل وغيره وكان يونس يقول: حدثني الثقة عن العرب فإن قيل له: من الثقة؟ قال: أبو يزيد , قيل له: لم لا تسميه؟ قال: هو حي فانا لا أسميه. الفرع الحادي عشر (طرح الشاذ ونحوه) قال ابن السراج في (الأصول) بعد أن قرر أن (أفعل) التفضيل لا يأتي

الفرع الثاني عشر (من يسوغ التأويل؟)

من الألوان: فإن قيل: قد أنشد بعض الناس: ياليتني مثلك في البياض ... أبيض من أخت بني أباض فالجواب أن هذا معمول على فساد وليس البيت الشاذ والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجة على الأصل المجتمع عليه في كلام ولا نحو ولا فقه وإنما يركن إلى ضعفة أهل النحو ومن لا حجة معه. وتأويل هذا وما أشبهه كتأويل ضعفة أصحاب الحديث وأتباع القصاص في الفقه ". انتهى. فأشار بهذا الكلام إلى أن الشاذ ونحوه يطرح طرحا ولا يهتم بتأويله. الفرع الثاني عشر (من يسوغ التأويل؟) قال أبو حيان في شرح التسهيل " التأويل إنما يسوغ إذا كانت الجادة على شيء ثم جاء شيء يخالف الجادة فيتأول. أما إذا كان لغة طائفة من العرب لم تتكلم إلا بها فلا تأويل. ومن ثم كان مردودا تأويل أبي علي: " ليس الطيب إلا المسك " على أن فيها ضمير شأن لأن أبا عمرو نقل أن ذلك لغة تميم ". الفرع الثالث عشر إذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال قال أبو حيان أيضا: "إذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال ". ورد به على ابن مالك كثيرا في مسائل استدل عليها بأدلة تقبل التأويل منها منها استدلاله قصر الأخ بقوله:

الفرع الرابع عشر رواية الأبيات على أوجه مختلفة

أخاك الذي إن تدعه لملمة يجبك بما تبغي ويكفيك من يبغي فإنه يحتمل أن يكون منصوبا بإضمار فعل أي الزم. وإذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال. الفرع الرابع عشر رواية الأبيات على أوجه مختلفة كثيرا ما تروى الأبيات على أوجه مختلفة وربما يكون الشاهد في بعضها دون بعض وقد سئلت عن ذلك قديما فأجبت باحتمال ان يكون الشاعر أنشده مرة هكذا ومرة هكذا. ثم رأيت ابن هشام قال في شرح الشواهد: روي قوله: ولا أرض أبقل إبقالها بالتذكير والتأنيث مع نقل الهمزة فإن صح أن القائل بالتأنيث هو القائل بالتذكير صح الاستشهاد به عل الجواز في غير الضرورة وإلا فقد كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها ومن هنا تكثر الرويات في بعض الأبيات ". انتهى.

فصل

فصل ملخص من المحصول للإمام فخر الدين مع زيادات من شروحه قال: " اعلم أن معرفة اللغة والنحو والتصريف فرض كفاية لأن معرفة الأحكام الشرعية واجبة بالإجماع ومعرفة الأحكام بدون معرفة أدلتها مستحيل فلابد من معرفة أدلتها والأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم فإن توقف العلم بالأحكام على الأدلة ومعرفة الأدلة تتوقف على معرفة النحو والتصريف وما يتوقف على الواجب المطلق وهو مقدور للمكلف فهو واجب فإذن معرفة اللغة والنحو والتصريف واجبة ". قال: " ثم الطريق إلى معرفتها إما النقل المحض كأكثر اللغة أو العقل مع النقل كقولنا: " الجمع المحلى باللام للعموم " لأنه يصح استثناء أي فرض منه فإن صحة الاستثناء بالنقل وكونه معيار العموم بالعقل. فمعرفة كون الجمع المذكور له بالتركيب من النقل والعقل , وأما العقل المحض فلا مجال له في ذلك ". قال: " فالنقل المحض: إما تواتر أو آحاد وعلى كل منهما إشكالات.

أما التواتر فالإشكال عليه من وجوه: أحدها: أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ تداولا ودورانا على ألسنة المسلمين اختلافا شديدا لا يمكن فيه القطع بما هو الحق. كلفظة (الله) فإن بعضهم زعم أنها عبرية وقال قوم: إنها سيريانية والذين جعلوها عربية اختلفوا: هل هي مشتقة أو لا؟ والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذا اللفظ علم أنها متعارضة وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين. وكذلك اختلفوا في لفظ الإيمان والكفر والصلاة والزكاة. فإذا كان هذا الحال في الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إليها ماسة جدا فما ظنك بسائر الألفاظ؟! وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر. وأجيب عنه بأنه وإن لم يكن دعوى التواتر في معانيها على سبيل التفصيل فإنا نعلم معانيها في الجملة. فنعلم أنهم يطلقون لفظة الله على الإله المعبود بحق وإن كنا لا نعلم مسمى هذا اللفظ: أذاته أم كونه معبودا أم كونه قادرا على الاختراع أم كونه ملجأ للخلق أم كونه بحيث تتحير العقول في إدراكه؟ إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ. وكذا القول في سائر الألفاظ. الإشكال الثاني: أن من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة. فهب أنا علمنا حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة والنحو والتصريف في زماننا فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمنة؟ وإذا جهلنا شرط التواتر جهلنا التواتر ضرورة لأن الجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط. فإن قيل: الطريق إليه أمران: أحدهما: أن الذين شاهدناهم أخبرونا أن الذين أخبروهم بهذه اللغات كانوا موصوفين بالصفات المعتبرة في التواتر وأن الذين أخبروا من أخبرهم كانوا كذلك إلى أن يتصل النقل بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم.

والآخر: أن هذه الألفاظ لو لم تكن موضوعة لهذه اللغات ثم وضعها واضع لهذه المعاني لاشتهر ذلك وعرف فإن ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله. قلنا: أما الأول فغير صحيح لأن كل واحد منا حين يسمع لغة مخصوصة من إنسان فإنه لم يسمع منه أنه سمعه من أهل التواتر وهكذا بل تحرير هذه الدعوى على هذا الوجه مما لا يفهمه كثير من الأدباء فكيف يدعى عليهم أنهم علموه بالضرورة؟ بل الغاية القصوى في راوى اللغة أن يسنده إلى كتاب صحيح أو إلى إسناد متقن ومعلوم أن ذلك لا يفيد اليقين. وأما الثاني فضعيف أيضا لأن ذلك الاشتهار إنما يجب في الأمور العظيمة وليس هذا منه , سلمنا أنه منه لكن لا نسلم أنه لم يشتهر فإنه قد اشتهر بل بلغ مبلغ التواتر أن هذه اللغات إنما أخذت عن جمع مخصوص كالخيل وأبي عمرو والأصمعي وأقرانهم ولا شك أن هؤلاء ما كانو معصومين ولا بالغين حد التواتر وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم. أقصى ما في الباب أن يقال: نعلم قطعا أن هذه اليلغات بأسرها غير منقوله على سبيل الكذب ونقطع بأن فهيا ما هو صدق قطعا لكن كل لفظة عيناها فإنا لا يمكنا القطع بأنها من قبيل ما نقل صدقا وحين إذ لا يبقى القطع في لفظ معين أصلا. وهذا هو الإشكال على من ادعى التواتر في نقل اللغات. هذا كلام الإمام. وتعفبه الأصبهاني بأن كون اللغة مأخوذة عمن لم يبلغ عدد التواتر لا يصلح أن يكون سندا لمنع عدم شهرة نقل اللغات عن موضوعاتها الأصلية إلى غيرها لأن عدم عصمتهم لا يستلزم وقوع النقل والتغيير بل يثبت به احتماله وذلك لا يقدح في دعوى انتفاء اللازم. انتهى. والأمر كما قال. ثم قال الإمام: " وأما الآحاد فالإشكال عليه من وجوه: منها أن الرواة له مجرحون ليسوا سالمين عن القدح. بيانه: ان أصل الكتب المصنفة في النحو واللغة كتاب سيبويه وكتاب العين

أما كتاب سيبويه فقدح الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهر من الشمس. وأيضا فالمبرد كان من أجل البصريين وهو أفرد كتاب في القدح فيه. وأما كتاب العين فقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح فيه. وأيضا فإن ابن جني أورد بابا في الخصائص في قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضا. وأورد بابا آخر في لغة أهل الوبر أصح من لغة أهل المدر وغرضه من ذلك القدح في الكوفيين. وأورد بابا آخر في كلمات من الغريب لا يعلم أحد أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي. وروي عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظا لم يسمعاهاولا سبقا إليها وعلى ذلك قال المازني: " ماقيس على كلام العرب فهو من كلامهم وأيضا فالأصمعي كان منسوبا إلى الخلاعة ومشهورا بأنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها. والعجب من الأصوليين أنهم أقاموا الدلائل على خبر الواحد أنه حجة في الشرع ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة وكان هذا أولى وكان من الواجب عليهم أن يبحثوا عن أحوال اللغات والنحو وأن يتفحصوا عن أحوال جرحهم وتعديلهم كما فعلوا ذلك في رواية الأخبار لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدة الحاجة إليه فإن اللغة والنحو يجريان مجرى الأصل للستدلال بالنصوص. انتهى. قال الأصبهاني: أما قوله: " وأورد ابن جني بابا في كلمات عن الغريب لم يأت بها إلا الباهلي " فاعلم أنهذا القدر وهو انفراد شخص بنقل شيء في اللغة العريبة

لا يقدح في عدالته ولا يلزم من نقل الغريب أن يكون كاذبا في نقله ولا قصد ابن جني ذلك. وأما قول المازني:" ما قيس ... إلى آخره " فإنه ليس بكذب ولا تجويز للكذب لجواز أن يرى القياس في اللغات أو يحمل كلامه على هذه القاعدة وأمثالها وهي أن الفاعل في كلام العرب مرفوع فكل ما كان في معنى الفاعل فهو مرفوع. وأما قوله إن الأصوليين لم يقيموا ... إلى آخره فضعيف جدا وذلك أن الدليل الدال على أن خبر الواحد حجة في الشرع يمكن التمسك به في نقل اللعة آحادا إذا وجدت الشرائط المعتبرة في خبر الواحد فلعلهم أهملوا ذلك اكتفاء منهم بالأدلة على أنه حجة في الشرع. وأما قوله: " كان من الواجب أن يبحثوا عن أحوال الرواة ... إلى آخره فهذا حق فقد كان من الواجب أن يفعل ذلك ولا وجه لإهماله مع احتمال كذب من لم تعلم عدالته. وقال القرافي في هذا الأخير إنما أهملوا ذلك لأن الدواعي متوفرة على الكذب في الحديث لأسبابه المعروفه الحاملة للواضعين على الوضع. وأما اللغة فالدواعي إلى الكذب عليها في غاية الضعف. وكذلك كتب الفقه لا تكاد تجد فروعا موضوعة على الشافعي أو مالك أو غيرهما ولذلك جمع الناس من السنة موضوعات كثيرة وجدوها ولم يجدوها ولم يجدوا في اللغة وفروع الفقه مثل ذلك ولا قريبا منه ولما كان الكذب والخطأ في اللغة وغيرها في غاية الندرة اكتفى العلماء فيها بالاعتماد على الكتب المشهورة المتداولة فإن شهرتها وتداولها يمنع ذلك مع ضعف الداعية له. فهذا هو الفرق. ثم قال الإمام: والجواب عن الإشكالات كلها: أن اللغة والنحو والتصريف ينقسم إلى قسمين: قسم منه متواتر والعلم الضروري حاصل بأنه كان في الأزمنة الماضية موضوعا لهذه المعاني فإنا نجد أنفسنا جازمة بأن السماء والأرض كانتا مستعملتين في زمنه صلى الله عليه وسلم في معناهما المعروف ز وكذلك الماء والهواء والنار وأمثالها. وكذلك لم يزل الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا والمضاف إليه مجرورا.

وقسم منه مظنون وهو الألفاظ الغريبة والطريق إلى معرفتها الآحاد. وأكثر ألفاظ القرآن ونحوه وتصريفه من القسم الأول. والثاني فيه قليل جدا فلا يتمسك به في القطعيات ويتمسك به في الظنيات. انتهى.

خاتمة النقل عن النفي

خاتمة النقل عن النفي قال الشيخ بهاء الدين بن النحاس في التعليقة: " النقل عن النفي فيه شيء لأن حاصله أنني لم أسمع هذا وهذا لا يدل على أنه لم يكن " تنبيه النقل عند ابن الأنباري بعد أن حررت هذا الكتاب بفروعه وجدت ابن الأنباري قال في أصوله: " أدلة النحو ثلاثة: نقل وقياس واصطحاب حال فالنقل هو الكلام العربي الفصيح المنقول النقل الصحيح الخارج عن حد القلة إلى حد الكثرة. وعلى هذا يخرج ما جاء من كلام غير العرب من المولدين وغيرهم وما جاء شاذا

في كلامهم نحو الجزم بـ (لن) والنصب بـ (لم) والجر بـ (لعل) ونصب الجزأين بها وبـ (ليت) وهو ينقسم إلى تواتر وآحاد فأما التواتر فلغة القرآن وما تواتر من السنة وكلام العرب. وهذا القسم قطعي من أدلة النحو يفيد العلم. وأما الآحاد فما تفرد بنقله بعض أهل اللغة ولم يوجد فيه شرط التواتر وهو دليل مأخوذ به والأكثرون على أنه يفيد الظن. وشرط التواتر أن يبلغ عدد ناقليه عددا لا يجوز على مثلهم الاتفاق على الكذب. وشرط الآحاد أن يكون ناقله عدلا رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا كما يشترط في نقل الحديث لأن باللغة نعرفة تفسيره وتأويله فاشترط في نقلها ما اشترط في نقله فإن كان ناقل اللغة فاسقا لم يقبل نقله. ويقبل نقل العدل الواحد وأهل الأهواء إلا أن يكونوا ممن يتدين بالكذب.

وأما المرسل: وهو الذي انقطع سنده نحو أن يروي ابن دريد عن أبي زيد. والمجهول: وهو الذي لم يعرف ناقله نحو أن يقول أبو بكر بن الأنباري حدثني رجل عن ابن الأعرابي. فلا يقبلان لأن العدالة شرط في النقل وانقطاع السند والجهل بالناقل يوجبان النقل بالعدالة فإن لم يذكر اسمه أو ذكر ولم يعرف , لم تعرف عدالته فلا يقبل نقله. وقيل يقبلان لأن الإرسال صدر ممن لو أسند لقبل ولم يهتم في إسناده فكذلك في إرساله فإن التهمة لو تطرقت إلى إرساله لتطرقت إلى إسناده وإذا لم يهتم في إسناده فكذلك في إرساله. وكذلك النقل عن المجهول صدرا ممن لا يهتم في نقله لأن التهمه لو تطرقت إلى نقله عن المجهول لتطرقت إلى نقله عن المعروف وهذا ليس بصحيح. واختلف العلماء في جواز الإجازة والصحيح جوازها هذا حاصل ما ذكره ابن الأنباري في ثمانية فصول من كتابه.

الكتاب الثاني في الإجماع

الكتاب الثاني في الإجماع والمراد به إجماع نحاة البلدين: البصرة والكوفة قال في الخصائص: وإنما يكون حجة إذا لم يخالف المنصوص ولا المقيس على المنصوص وإلا فلا لأنه لم يرد في القرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ كما جاء النص بذلك في كل الأمة وإنما هو علم ينتزع من استقراء هذه اللغة فكل من فرق له عن علة صحيحة وطريق نهجة كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره ". " إلا أننا مع ذلك لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي طال بحثها وتقدم نظرها إلا بعد إمعان وإتقان ". انتهى. وقال في موضع آخر: " يجوز الاحتجاج بإجماع الفريقين وذلك كإنكار أبي العباس جواز تقديم خبر ليس عليها فأحد ما يحتج به عليه أن يقال له: هذا أجازه سيبويه وكافة أصحابنا والكوفيون أيضا. فإذا كان ذلك مذهبا للبلدين وجب أن تنفر عن خلافه ". قال: " ولعمري إن هذا ليس بموضع قطع على الخصم لأن للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما يدعو إليه القياس ما لم يخالف نصا ".

(مسألة)

قال: " فما جاز خلاف الإجماع الواقع فيه منذ بدء هذا العلم وإلى آخر هذا الوقت قولهم في: هذا جحر ضب خرب إنه من الشاذ الذي لايحمل عليه ولا يجوز رد غيره إليه. وأما أنا فعندي أن في القرآن مثل ذلك نيفا على ألف موضع وذلك أنه على حذف المضاف والأصل جحر ضب خرب جحره فجرى خرب وصفا على ضب وإن كان في الحقيقة لـ (الجحر) كما تقول مررت برجل قائم أبوه وإن كان القيام للأب لا للرجل ثم حذف الجحر المضاف إلى الهاء وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت لأن المضاف المحذوف كان مرفوعا فلما ارتفعت استتر الضمير المرفوع في نفس خرب. انتهى. وقال غيره: إجماع النحاة على الأمور اللغوية معتبر خلافا لمن تردد فيه وخرقه ممنوع ومن ثم رد. وقال ابن الخشاب في المرتجل: " لو قيل: إن من الشرط لا موضع لها من الإعراب لكان قولا إجراء لها مجرى إن الشرطية وتلك لا موضع لها من الإعراب لكن مخالفة المتقدمين لا تجوز ". انتهى. (مسألة) وإجماع العرب حجة، ولكن أنى لنا بالوقوف عليه؟! ومن صوره أن يتكلم العربي بشيء ويبلغهم ويسكتون عليه. قال ابن مالك في (شرح التسهيل): ((استدل على جواز توسط خبر (ما) الحجازية ونصبه بقوله الفرزدق: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر ورده المانعون بأن الفرزدق تميمي، تكلم بهذا معتقدا جوازه عند الحجازيين فلم يصب.

ويجاب بأن الفرزدق كان له أضداد من الحجازيين والتميميين، ومن مناهم أن يظفروا له بزلة يشنعون بها عليه، مبادرين لتخطئته. ولو جرى شيء من ذلك لنقل؛ لتوفر الدواعي على التحدث بمثل ذلك إذا اتفق، ففي عدم نقل ذلك دليل على إجماع أضداده الحجازيين والتميميين على تصويبه قوله) انتهى.

فصل [في تركيب المذاهب]

فصل [في تركيب المذاهب] مما يشبه تداخل اللغات السابق تركيبُ المذاهب، وقد عقد له ابن جني بابا في الخصائص). ويشبهه في أصول الفقه إحداث قول ثالث، والتلفيق بين المذاهب، قال ابن جني: وذلك أن تضم بعض المذاهب إلى بعض، وتنتحل بين ذلك مذهبا ثالثا. مثاله أن المازني كان يعتقد مذهب يونس في رد المحذوف في التحقير، وإن غني المثال عنه، فيقول في تحقير (يضع) اسم رجل: (يويضع). وسيبويه إذا استوفى التحقير مثاله لا يرد، فيقول: (يضيع) وكان المازني يرى رأي سيبويه في صرف نحو جوار) علما، ويونس لا يصرفه. فقد تحصل إذن للمازني مذهب مركب من مذهب الرجلين، وهو الصرف على مذهب سيبويه والرد على مذهب يونس. فيقول في تحقير اسم رجل سميته (يرى) رأيت يريئيا، فرد الهمزة من (يرى) إذا أصله (يرأى) على قول يونس، ويصرف على قول سيبويه. ويونس يرد ولا يصرف، فيقول: رأيت يريئي. وسيبويه يصرف ولا يرد فيقول: رأيت يريا؛ بإدغام ياء التحقير في الياء المنقلبة عن الألف. فقد عرف تركب مذهب المازني عن مذهب الرجلين.

(مسألة)

(مسألة) قال أبو البقاء في التبيين) ((جاء في الشعر (لولاي) و (لولاك) فقال معظم البصريين: الياء والكاف في موضع جر. وقال الأخفش والكوفيون: في موضع رفع. قال أبو البقاء: وعندي أنه يمكن أمران آخران: أحدهما: أن لا يكون للضمير موضع؛ لتعذر العامل، وإذا لم يكن عامل لم يكن عمل، وغير ممتنع أن يكون الضمير لا موضع له كالفصل. ويمكن أن يقال: موضعه نصب؛ لأنه من ضمائر المنصوب، ولا يلزم من ذلك أن يكون له عامل مخصوص؛ ألا ترى أن التمييز في نحو عشرين درهما لا ناصب له على التحقيق، وإنما هو مشبه بالمفعول حيث كان فضلة. وكذلك قولهم: لي ملؤه عسلا، فهذا منصوب، وليس له ناصب على التحقيق، وإنما هو مشبه بما له عامل. ومثل ذلك يمكن في (لولاي) و (لولاك) وهو أن يجعل منصوبا حيث كان من ضمائر المنصوب. فإن قيل: الحكم بأنه لا موضع له وأن موضعه نصب خلاف الإجماع، إذ الإجماع منحصر في قولين: إما الرفع وإما الجر، والقول بحكم آخر خلاف الإجماع وخلاف الإجماع مردود. فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن هذا من إجماع مستفاد من السكوت، وذلك أنهم لم يصرحوا بالمنع من قول ثالث، وإنما سكتوا عنه، والإجماع هو الإجماع على حكم الحادثة قولا.

والثاني أن أهل العصر الواحد إذا اختلفوا على قولين جاز لمن بعدهم إحداث قول ثالث. هذا معلوم من أصول الشريعة، وأصولُ اللغة محمولة على أصول الشريعة. وقد صنع مثل ذلك من النحويين على الخصوص أبو علي فإن له مسائل كثيرة قد سبق إليها بحكم، وأثبت هو فيها حكما آخر. منها أن لفظة (كل) لا يدخلها الألف واللام في أقوال الأول، وجوز هو فيها ذلك، وقد أفردها بمسألة في (الحلبيات) واستدل على ذلك بالقياس. فغيرُ ممتنع أن يذهب ذاهب هنا إلى مذهب ثالث؛ لوجود الدليل عليه) انتهى.

الكتاب الثالث في القياس

الكتاب الثالث في القياس قال ابن الأنباري في (جدله) هو حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه) انتهى. وهو معظم أدلة النحو، والمعول في غالب مسائله عليه، كما قيل: إنما النحو قياس يتبع ولهذا قيل في حده: إنه علم بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب. وقال صاحب (المستوفى) كل علم فبعضه مأخوذ بالسماع والنصوص، وبعضه بالاستنباط والقياس، وبعضه بالانتزاع من علم آخر. قال (فالفقه بعضه بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة، وبعضه بالاستنباط والقياس،

والطب بعضه مستفاد من التجربة، وبعضه من علوم أخر، والهيئة بعضها منعلم التقدير، وبعضها تجربة يشهد بها الرصد، والموسيقى جلها منتزع من علم الحساب، والنحو بعضه مسموع مأخوذ من العرب، وبعضه مستنبط بالفكر والروية، وهو التعليلات، وبعضه يؤخذ من صناعة أخرى. كقولهم: الحرف الذي تختلس حركته هو في حكم المتحرك لا الساكن، فإنه مأخوذ من علم العروض. وكقولهم: الحركات أنواع: صاعد عال، ومنحدر سافل ومتوسط بينهما، فإنه مأخوذ من صناعة الموسيقى) انتهى. وقال ابن الأنباري في (أصوله) اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق؛ لأن النحو كله قياس، ولهذا قيل في حده: النحو علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب، فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو، ولا يعلم أحد من العلماء أنكره؛ لثبوته بالدلالة القاطعة، وذلك أنا أجمعنا على أنه إذا قال العربي: كتب زيد فإنه يجوز أن يسند هذا الفعل إلى كل اسم مسمى تصح منه الكتابة نحو عمرو وبشر وأزدشير إلى ما لا يدخل تحت الحصر، وإثبات ما لا يدخل تحت الحصر بطريق النقل محال. وكذلك القول في سائر العوامل الداخلة على الأسماء والأفعال الرافعة والناصبة والجارة والجازمة؛ فإنه يجوز إدخال كل منها على ما لا يدخل تحت الحصرن وذلك بالنقل متعذر، فلو لم يجز القياس واقتصر على ما ورد في النقل من الاستعمال لبقي كثير من المعاني لا يمكن التعبير عنها لعدم النقلن وذلك مناف لحكمة الوضع، فوجب أن يوضع وضعا قياسيا عقليا لا نقليا، بخلاف اللغة، فإنها وضعت وضعا نقليا لا عقليا، فلا يجوز القياس فيها، بل يقتصر على ما ورد به النقل، ألا ترى أن (القارورة) سميت بذلك لاستقرار الشيء فيها، ولا يسمى كل مستقر فيه قارورة، وكذلك سميت (الدار) دارا لاستدارتها ولا يسمى كل مستدير دارا) انتهى.

فصل في أركان القياس للقياس أربعة أركان: أصل وهو المقيس عليه وفرع وهو المقيس وحكم وعلة جامعة قال ابن الأنباري: " وذلك مثل أن تركب قياسا في الدلالة على رفع ما لم يسم فاعله فتقول: اسم أسند الفعل إليه مقدما عليه فوجب أن يكون مرفوعا قياسا على الأصل. فالأصل هو الفاعل والفرع هو ما لم يسم فاعله والحكم هو الرفع والعلة الجامعة هي الإسناد والأصل في الرفع أن يكون للأصل الذي هو الفاعل وإنما أجري على الفرع الذي هو ما لم يسم فاعله بالعلة الجامعة التي هي الإسناد ".

الفصل الأول في المقيس عليه وفيه مسائل

الفصل الأول في المقيس عليه وفيه مسائل المسألة الأولى من شرطه ألا يكون شاذا خارجا عن سنن القياس فما كان كذلك لا يجوز القياس عليه كتصحيح استحوذ واستصوب واستنوق وكحذف نون التوكيد في قوله: اضرب عنك الهموم طارقها أي: اضربن ووجه ضعفه في القياس أن التوكيد للتحقيق وإنما يليق به الإسهاب والإطناب لا الاختصار والحذف وكحذف صلة الضمير دون الضمة في قوله: له زجل كأنه صوت حاد

المسألة الثانية

ووجه ضعفه في القياس أنه ليس على حد الوصل ولا حد الوقف لأن الوصل يجب أن تتمكن فيه واوه كما تمكنت في قوله: له زجل والوقف يجب أن تحذف فيه الواو والضمة معا فحذف الصلة وإبقاء الضمة منزلة بين منزلتين الوصل والوقف لم تعهد قياسا. نعم يجوز على ما استعمل للضرورة في الضرورة. قال أبو علي: كما جاز لنا أن نقيس منثورنا على منثورهم كذلك يجوز أن نقيس شعرنا على شعرهم فما أجازته الضرورة لهم أجازته وما لا فلا. قال ابن جني: " فإن قيل: هلا امتنع متابعتهم في الضرورة من حيث كان القوم لا يترسلون في عمل أشعارهم ترسل المولدين وإنما كان ارتجالا فضرورتهم إذن أقوى من ضرورتنا فينبغي أن يكون عذرهم فيه أوسع؟ قيل: ليس جميع الشعر القديم مرتجلا بل كان لهم فيه نحو ما للمولدين من الترسل. روي عن زهير أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين فكانت تسمى (حوليات زهير). وعن ابن أبي حفصة قال: كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر وأعرضها في أربعة أشهر ثم أخرج بها إلى الناس. وحكايهم في ذلك كثيرة وأيضا فإن من المولدين من يرتجل ". المسألة الثانية كما لا يقاس على الشاذ نطقا لا يقاس عليه تركا قال في الخصائص: " إذا كان الشيء شاذا في السماع مطردا في

المسألة الثالثة

القياس تحاميت ما تحامت العرب من ذلك وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله. من ذلك امتناعك من (وذر) و (ودع) لأنهم لم يقولوهما ولا منع أن يستعمل نظيرهما نحو: وزن ووعد وإن لم تسمعهما أنت ". المسألة الثالثة ليس من شرط المقيس عليه الكثرة فقد يقاس على القليل لموافقته للقياس ويمتنع على الكثير لمخالفته له. مثال الأول: قولهم في النسب إلى شنوءة شنئي فلك أن تقول في ركوبة ركبي وفي حلوبة حلبي وفي قتوبة قتبي قياسا على شنئي وذلك أنهم أجروا فعولة مجرى فعيلة لمشابهتها إياه من أوجه: - أن كلا منها ثلاثي. - وأن ثالثه حرف لين. - وأن آخره تاء التأنيث. - وأن فعولا وفعيلا يتواردان نحو: أثيم وأثوم ورحيم ورحوم ومشي ومشو ونهي عن الشيء ونهو. - فلما استمرت حال فعيلة وفعولة هذا الاستمرار جرت واو شنوءة مجرى ياء حنيفة فكما قالوا حنفي قياسا قالوا شنئي قياسا. قال أبو الحسن: فإن قلت: إنما جاء هذا في حرف واحد يعني شنوءة. فالجواب: أنه جميع ما جاء. قال في الخصائص: " وما ألطف هذا الجواب ومعناه أن الذي جاء في فعولة هو هذا الحرف والقياس قابله ولم يأت فيه شيء ينقضه. فإذا قاس الإنسان على جميع ما جاء وكان أيضا صحيحا في القياس مقبولا فلا لوم. ولما ذكرناه من المناسبة بين فعولة وفعيلة لم يجز في نحو ضرورة: ضرري ولا يقال في حرورة: حرري لأن باب فعيلة المضاعف نحو جليلة لا يقال فيه جللي استثقالا بل هو جليلي. ومثال الثاني: قولهم في ثقيف وقريش وسليم ثقفي وقرشي وسلمي فهو وإن

المسألة الرابعة أقسام القياس

كان أكثر من شنئي فإنه عند سيبويه ضعيف في القياس ولا يقال في سعيد سعدي ولا في كريم كرمي ". المسألة الرابعة أقسام القياس القياس في العربية على أربعة أقسام: حمل فرع على أصل. حمل أصل على فرع. حمل نظير على نظير. حمل ضد على ضد. وينبغي أن يسمى الأول والثالث: قياس المساوي والثاني: قياس الأولى والرابع: قياس الأدون. فمن أمثلة الأول: إعلان الجمع وتصحيحه حملا على المفرد في ذلك كقولهم قيم وديم في قيمة وديمة. وزوجة وثورة في زوج وثور. ومن أمثلة الثاني: إعلان المصدر لإعلان فعله وتصحيحه لصحته كـ (قمت قياما) و (قاومت قواما). وفي الخصائص: " من حمل الأصل على الفرع تشبيها له في المعني الذي أفاده ذلك الفرع من ذلك الأصل تجويز سيبويه في قولك: هذا حسن الوجه أن يكون الجر في الوجه تشبيها بـ الضارب الرجل الذي إنما جاز فيه الجر تشبيها بـ الحسن الوجه.

قال: فإن قيل: وما الذي سوغ لسيبويه هذا وليس مما رواه عن العرب وإنما هو شيء رآه وعلل به؟ قيل: يدل على صحته ما عرف من أن العرب إذا شبهت شيئا بشيء مكنت ذلك الشبه الذي لهما وعمرت به الحال بينهما ألا تراهم لما شبهوا المضارع بالاسم فأعربوه تمموا ذلك المعنى بينهما بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فأعملوه. ولما شبهوا الوقف بالوصل في نحو قولهم: عليه السلام والرحمت وقوله: الله نجاك بكفي مسلمت كذلك أيضا شبهوا الوصل بالوقف في قولهم سبسبا وكلكلا. وكما أجروا غير اللازم مجرى اللازم في قوله: فقلت أهي سرت أم عادني حلم وقوله: ومن يتق فإن الله معه كذلك أجروا اللازم مجرى غيره في قوله تعالى (على أن يحيي الموتى)

فأجرى النصب مجرى الرفع الذي لايلزم فيه الحرف أصلا. وكما حمل النصب على الجر في المثنى والجمع حمل الجر على النصب في ما لا ينصرف وكما شبهت الياء بالألف في قوله: كأن أيديهن بالقاع القرق حملت الياء على الألف في قوله: ولا ترضاها ولا تملق وكما وضع الضمير المنفصل موضع المتصل في قوله: قد ضمنت ... إياهم الأرض ... وضع المتصل موضع المنفصل في قوله: إلاك ديار

فلما رأى سيبويه العرب إذا شبهت شيئا بشيء فحملته على حكمه عادت أيضا فحملت الآخر على حكم صاحبه تثبيتا لهما وتتميما لمعنى الشبه بينهما حكم أيضا بأن الوجه محمول على الرجل. ولما كان النحاة بالعرب لاحقين وعلى سمتهم آخذين جاز لهم أن يروا فيه نحو ما رأوا ويحذوا على أمثلتهم التي حذوا قال: ومن ومن حمل الأصل على الفرع حذف الحروف للجزم وهي أصولي حملا على حذف الحركات له وهي زوائد وحمل الاسم على الفعل في منع الصرف وعلى الحرف في البناء وهو أصل عليهما وحمل ليس وعسى في عدم التصرف على ما ولعل كما حملت ما على ليس في العمل. انتهى. وفي التذكرة لأبي حيان ذكر بعضهم أنه إنما اشترط اتحاد الزمان في عطف الفعل على الفعل لأن العطف نظير التثنية فكما لا يجوز تثنية المختلفين لا يجوز عطف المختلفين في الزمان قال أبو حيان: "وهذا من حمل الأصل على الفرع لأن العطف أصل التثنية إلا أن يدعى أنه في الفعل نظير التثنية في الاسم ". وأما الثالث: فالنظير إما في اللفظ أو في المعنى أو فيهما فمن أمثلة الأول زيادة إن بعد ما المصدرية الظرفية والموصولة

لأنهما بلفظ ما النافية. ودخول لام الابتداء على ما النافية حملا لها في اللفظ على ما الموصولة وتوكيد المضارع بالنون بعد لا النافية حملا لها على لا الناهية. وحذف فاعل أفعل به في التعجب لما كان مشبها لفعل الأمر في اللفظ. وبناء باب (حذام) على الكسر تشبيها له بـ (دراك) و (نزال). وبناء (حاشا) الاسمية لشبهها في اللفظ بـ (حاشا) الحرفية. ومنها إدغام الحرف في مقاربة في المخرج. ومن أمثلة الثاني: جواز (غير قائم الزيدان) حملا على (ما قام الزيدان) لأنه في معناه ولولا ذلك لم يجز لأن المبتدأ إما أن يكون ذا خبر أو أن يكون ذا خبر أو ذا خبر أو ذا مرفوع يغني عن الخبر. ومنها إهمال (أن) المصدرية مع المضارع حملا على (ما) المصدرية.

ومن أمثلة الثالث اسم التفضيل وأفعل في التعجب فإنهم منعوا أفعل التفضيل أن يرفع الظاهر لشبه بـ (أفعل) في التعجب وزنا وأصلا وإفادة للمبالغة وأجازوا تصغير أفعل في التعجب لشبهه بأفعل التفضيل في ذلك. قال الجوهري: " ولم يسمع تصغيره إلا في أملح وأحسن ولكن النحويين قاسوه فيما عداهما ". وأما الرابع: فمن أمثلته النصب بـ (لم) حملا على الجزم بـ (لن). فإن الأولى لنفي الماضي والثانية لنفي المستقبل. وفي الجزولية: " قد يحمل الشيئ على مقابله وعلى مقابل مقابله مثال الأول: لم يضرب الرجل حمل الجزم على الجر. ومثال الثاني: اضرب الرجل حمل الجزم فيه الكسر الذي هو مقابل الجر من جهة أن الكسر في البناء مقابل الجر في الإعراب ومثال الثالث: اضرب الرجل جعل السكون فيه على الكسر الذي هو مقابل للجر الذي هو مقابل للجزم والجزم مقابل السكون ".

المسألة الخامسة تعدد الأصول

المسألة الخامسة تعدد الأصول اختلف هل يجوز تعدد الأصول المقيس عليها لفرع واحد؟ والأصح نعم ومن أمثلة ذلك: (أي) في الاستفهام والشرط فإنها أعربت حملا على نظيرتها (بعض) وعلى نقيضتها (كل).

الفصل الثاني المقيس وهل يوصف بأنه من كلام العرب أو لا؟

الفصل الثاني المقيس وهل يوصف بأنه من كلام العرب أو لا؟ قال المازني: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب " قال: " ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره فإذا سمعت (قام زيد) أجزت: طرف بشر وكرم خالد ". قال أبو علي: وكذلك يجوز أن تبني بإلحاق اللام ما شئت كقولك: خرجج ودخلل وضربب من خرج ودخل وضرب على مثال شملل وصعرر ". قال ابن جني: " وكذلك تقول في مثال (صمحمح) من الضرب: ضربرب ومن القتل قتلتل ومن الشرب شربرب ومن الخروج خرجرج وهو من العربية بلا شك وإن لم تنطق العرب بواحد من هذه الحروف ". قال: فإن قيل: فقد منع الخليل لما أنشد: ترافع العز بنا فارفنععا قياسا على قول العجاج: تقاعس العز بنا فاقعنسسا فدل على امتناع القياس في مثل هذه الأبنية. فالجواب: أنه إنما أنكر ذلك لأنه فيما لامه حرف حلقي والعرب لم تبن هذا

المثال مما لامه حرف حلق خصوصا وحرف الحلق فيه متكرر وذلك مستنكر عندهم مستثقل. قال: " فثبت إذن أن كل ما قيس على كلامهم فهو من كلامهم ولهذا قال من قال في العجاج ورؤبة: أنهما قاسا اللغة وتصرفا فيها وأقدما على ما لم يأت به من قبلهما ". قال: " وذكر أبو بكر أن منفعة الاشتقاق لصاحبه أن يسمع الرجل اللفظة فيشك فيها فإذا رأى الاشتقاق قابلا لها أنس بها وزال استحاشه منها وهذا تثبيت اللغة بالقياس " وقال في موضع آخر من الخصائص: "من قوة القياس عندهم اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم نحو قولك في بناء مثل (جعفر) من ضرب ضربب وهذا من كلامهم ولو بنيت منه ضورب أو ضيرب لم يكن من كلام العرب لأنه قياس على الأقل استعمالا والأضعف قياسا ".

الفصل الثالث في الحكم

الفصل الثالث في الحكم فيه مسألتان: المسألة الأولى إنما يقاس على حكم ثبت استعماله عن العرب. وهل يجوز أن يقاس على ما ثبت بالقياس والاستنباط؟ ظاهر كلامهم: نعم وقد ترجم عليه في الخصائص: باب الاعتلال لهم بأفعالهم. قال: " من ذلك أن تقول: إذا كان اسم الفاعل _ على قوة تحمله للضمير _ متى جرى على غير من هو له: صفة أو صلة أو خبرا لم يتحمل الضمير فما ظنك بالصفة المشبهة باسم الفاعل فإن الحكم الثابت للمقيس عليه إنما هو بالاستنباط والقياس على العل الرافع للظاهر حيث لا تلحقه العلامات ". المسألة الثانية قال ابن الأنباري: " اختلف في القياس على الأصل المختلف في حكمه.

فأجازه قوم لأن المختلف فيه إذا قام الدليل عليه صار بمنزلة المتفق عليه ومنعه آخرون لأن المختلف فيه فرع لغيره فكيف يكون أصلا؟ وأجيب بأنه يجوز أن يكون فرعا لشيء آخر فإن اسم الفاعل فرع على الفعل وأصل للصفة المشبهة. وكذلك لات فرع على لا ولا فرع على ليس فـ (لا) أصل لـ لات وفرع على ليس ولا تناقض في ذلك لاختلاف الجهة ومن أمثلة القياس على المختلف فيه أن تستدل على أن (إلا) تنصب المستثنى فتقول: حرف قام مقام فعل يعمل النصب فوجب أن يعمل النصب كـ يا في النداء فإن إعمال يا في النداء مختلف فيه فمنهم من قال: إنه العامل ومنهم من قال فعل مقدر.

الفصل الرابع في العلة

الفصل الرابع في العلة فيه مسائل: المسألة الأولى قال صاحب المستوفي: "إذا استقريت أصول هذه الصناعة علمت أنها في غاية الوثاقة وإذا تأملت عللها عرفت أنها غير مدخولة ولا متسمح فيها. وأما ما ذهب إليه غفلة العوام من أن علل النحو تكون واهية ومتمحلة واستدلالهم على ذلك بأنها أبدا تكون هي تابعة للوجود لا الوجود تابعا لها فبمعزل عن الحق وذلك أن هذه الأوضاع والصيغ وإن كنا نستعملها فليس ذلك على سبيل الابتداء والابتداع بل على وجه الاقتداء والاتباع ولابد فيها من التوقيف فنحن إذا صادفنا الصيغ المستعملة والأوضاع بحال من الأحوال وعلمنا أنها كلها أو بعضها من وضع واضع حكيم جل وتعالى تطلبنا بها وجه الحكمة لتلك الحال من بين أخواتها فإذا حصلنا عليه فذلك غاية المطلوب " وقال ابن جني في الخصائص: " اعلم أن علل النحويين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين وذلك أنهم إنما يحيلون على الحس ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس وليس كذلك علل الفقه لأنها إنما هي أعلام وأمارات لوقوع الأحكام وكثير منه لا يظهر فيه وجه الحكمة كالأحكام التعبدية بخلاف النحو فإن كله أو غالبه مما تدرك علته وتظهر حكمته ".

قال سيبويه: " وليس شيء مما يضطرون إلا وهم يحاولون به وجها ". نعم قد لا يظهر فيه وجه الحكمة. قال بعضهم إذا عجز عن تعليل الحكم قال هذا تعبدي وإذا عجز النحوي عنه قال: هذا مسموع. وهذا موضع آخر من الخصائص: لاشك أن العرب قد أرادت من العلل والأعراض ما نسبناه إليها ألا ترى إلى أطراد رفع الفاعل ونصب المفعول والجر بحروفه والجزم بحروفه وغير ذلك من التثنية والجمع والإضافة والنسب والتحقير وما يطول شرحه. فهل يحسن بذي لب أن يعتقد هذا كله اتفاق وقع وتوارد اتجه؟ فإن قلت فلعله شيئ طبعوا عليه من غير اعتقاد لعلة ولا لقصد من المقصود من القصود التي تنسبها إليهم بل لأن آخرا منهم حذرا على ما نهج الأول فقام به. قيل: إن الله إنما هداهم لذلك وجبلهم عليه لأن في طباعهم قبولا له وانطواء على صحة الوضع فيه وتراهم قد اجتمعوا على هذه اللغة وتواردوا عليها. فإن قلت: كيف تدعي الاجتماع وهذا اختلافهم موجود ظاهر ألا ترى إلى الخلاف في (ما) الحجازية والتميمية إلى غير ذلك؟ قيل: هذا القدر والخلاف لقلته محتقر غير محتفل به وإنما هو في شيء من الفروع يسير فأما الأصول وما عليه العامة والجمهور فلا خلاف عليه. وأيضا فإن أهل كل واحدة من اللغتين عدد كثير وخلق عظيم وكل منهم محافظ على لغته لا يخالف شيئا منها. فهل ذلك إلا لأنهم يحتاطون ويقتاسون ولا يفرطون ولا يخلطون؟ ومع هذا فليس شيئ من مواضع الخلاف على قلته إلا وله وجه من القياس يؤخذ به. ولو كانت اللغة حشوا مكيلا وحثوا مهيلا لكثر خلافها وتعادت أوصافها فجاء عنهم جر الفاعل ورفع المضاف إليه والنصب بحروف الجزم. وأيضا فقد ثبت عنهم التعليل في مواضع نقلت عنهم كما سيأتي.

المسألة الثانية في أقسام العلل

المسألة الثانية في أقسام العلل قال أبو عبد الله الحسين بن موسى الدينوري الجليس في كتابه ثمار الصناعة: "اعتلالات النحويين صنفان: علة تطرد على كلام العرب وتنساق إلى قانون لغتهم وعلة تظهر حكمتهم وتكشف عن صحة أغراضهم ومقاصدهم في موضوعاتهم. وهم للأولى أكثر استعمالا واشد تداولا وهي واسعة الشعب إلا أن مدار المشهورة منها على أربعة وعشرين نوعا وهي: علة سماع وعلة تشبيه وعلة استغناء وعلة استثقال وعلة فرق وعلة توكيد وعلة تعويض وعلة نظير وعلة نقيض وعلة حمل على المعنى وعلة مشاكلة وعلة معادلة وعلة قرب ومجاورة وعلة وجوب وعلة جواز وعلة تغليب وعلة اختصار وعلة تخفيف وعلة دلالة حال وعلة أصل وعلة تحليل وعلة إشعار وعلة تضاد وعلة أولى. وشرح ذلك التاج ابن مكتوم في تذكرته فقال: قوله: علة سماع: مثل قولهم امرأة ثدياء ولا يقال رجل أثدي. وليس لذلك علة سوى السماع وعلة تشبيه مثل إعراب المضارع لمشابهته الاسم وبناء بعض الأسماء لمشابهتها الحروف. وعلة استغناء كاستغنائهم بـ ترك عن ودع وعلة استثقال كاستثقالهم الواو في يعد لوقوعها بين ياء وكسرة

وعلة فرق وذلك فيما ذهبوا إليه من رفع الفاعل ونصب المفعول وفتح نون الجمع وكسر نون المثنى. وعلة توكيد مثل إدخالهم النون الخفيفة والثقيلة في فعل الأمر لتأكيد إيقاعه. وعلة تعويض مثل تعويضهم الميم في اللهم من حرف النداء. وعلة نظير مثل كسرهم أحد الساكنين إذا التقيا في الجزم حملا على الجر إذ هو نظيره. وعلة نقيض مثل نصبهم النكرة بـ لا حملا على نقيضها إن. وعلة حمل على المعنى مثل (فمن جاءه موعظة) ذكر فعل الموعظة وهي مؤنثة حملا لها على المعنى وهو الوعظ وعلة مشاكلة مثل قوله (سلاسلا وأغلالا) وعلة معادلة مثل جرهم ما لا ينصرف بالفتح حملا على النصب ثم عادلوا بينهما فحملوا النصب على الجر في جمع المؤنث السالم. وعلة مجاورة مثل الجر بالمجاورة في قولهم جحر ضب خرب وضم لام (الله) في (الحمد لله) لمجاورتها الدال. وعلة وجوب وذلك تعليلهم رفع الفاعل ونحوه. وعلة جواز وذلك ما ذكروه في تعليل الإمالة من الأسباب المعروفة فإن ذلك علة لجواز الإمالة فيما أميل لا لوجوبها.

وعلة تغليب مثل (وكانت من القانتين) وعلة اختصار مثل باب الترخيم و (لم يك) وعلة تخفيف كالإدغام. وعلة أصل كـ استحوذ ويؤكرم وصرف ما لا ينصرف وعلة أولى كقولهم: إن الفاعل أولى برتبة التقديم من المفعول وعلة دلالة حال كقول المستهل الهلال أي هذا الهلال فحذف لدلالة الحال عليه. وعلة إشعار كقولهم في جمع موسى موسون بفتح ما قبل الواو إشعار بأن المحذوف ألف. وعلة تضاد مثل قولهم في الأفعال التي يجوز إلغاؤها متى تقدمت وأكدت بالمصدر أو بضميره لم تلغ أصلا لما بين التأكيد والإلغاء من التضاد قال ابن مكتوم وأما علة التحليل فقد اعتاص علي شرحها وفكرت فيها أياما فلم يظهر لي فيها شيء. وقال الشيخ شمس الدين بن الصائغ: " قد رأيتها مذكورة في كتب المحققين كابن الخشاب البغدادي حاكيا لها عن السلف في نحو الاستدلال على اسمية كيف بنفي حرفيتها لأنها مع الاسم كلام ونفي فعليتها لمجاورتها الفعل بلا فاصل فتحلل عقد شبه خلاف المدعي " وأما الصنف الثاني فلم يتعرض له الجليس ولا بينه وقد بينه ابن السراج في الأصول فقال: "اعتلالات النحويين ضربان::

المسألة الثالثة في العلل الموجبة وغيرها

ضرب منها هو المؤدي إلى كلام العرب كقولنا: كل فاعل مرفوع وكل مفعول منصوب وضرب يسمى علة العلة مثل أن يقولوا: لم صار الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا؟ وهذا ليس يكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب وإنما يستخرج منها حكمتها في الأصول التي وضعتها ويتبين به فضل هذه اللغة على غيرها " وقال ابن جني في الخصائص: "هذا الذي سماه علة العلة إنما هو تجوز في اللفظ فأما في الحقيقة فإنه شرح وتميم للعلة ألا ترى أنه إذا قيل: فلم ارتفع الفاعل؟ قيل: لإاسناد الفعل إليه ولو شاء لابتدأ هذا فقال في جواب رفع زيد من قولنا قام زيد إنما ارتفع لإسناد الفعل إليه فكان مغنيا عن قوله إنه ارتفع لأنه فاعل حتى يسأل فيما بعد عن العلة التي لها رفع الفاعل ". المسألة الثالثة في العلل الموجبة وغيرها قال في الخصائص: أكثر العلل عندنا مبناها على الإيجاب بها كنصب الفضلة أو ما شابهها ورفع العمدة وجر المضاف إليه وغير ذلك وعلى هذا مفاد كلام العرب. وضرب آخر يسمى علة وإنما هو في الحقيقة سبب يجوزه ولا يوجبه. ومن ذلك أسباب الإمالة فإنها علة الجواز لا الوجوب. وكذا علة قلب واو (وقتت) همزة وهي كونها انضمت ضما لازما فإنها مع ذلك يجوز إبقاؤها واو فعلتها مجوزة لا موجبة " قال: وكذا كل موضع جاز فيه إعرابان فأكثر كالذي يجوز جعله بدلا

وحالا وذلك النكرة بعد معرفة هي في المعنى هي نحو مررت بزيد رجل صالح ورجلا صالحا فإن علته لجواز ما جاز لا لوجوبه " انتهى فظهر بهذا الفرق بين العلة والسبب وأن ما كان موجبا يسمى علة وما كان مجوزا يسمى سببا. وقال في موضع آخر: " اعلم أن محصول مذهب أصحابنا ومتصرف أقوالهم مبني على جواز تخصيص العلل فإنها وإن تقدمت علل الفقه فأكثرها يجري مجرى التخفيف والفرق ولو تكلف متكلف نقضها لكان ذلك ممكنا وإن كان على غير قياس مستثقلا كما لو تكلف تصحيح فاء ميزان وميعاد ونصب الفاعل ورفع المفعول وليست كذلك علل المتكلمين لأنها لا قدرة على غيرها. فإن علل النحويين متأخرة عن علل المتكلمين متقدمة علل المتفقهين إذا عرفت ذلك فاعلم أن علل النحويين ضربان واجب لابد منه لأن النفس لا تطيق في معناه غيره وهذا لا حق بعلل المتكلمين والآخر ما يمكن تحمله لكن على استكراه وهذا لاحق بعلل الفقهاء فالأول: ما لابد للطبع منه كقلب الألف واو للضمة قبلها ومنع الابتداء بالساكن والجمع بين الألفين المدتين إذ لا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحا فلو التقت ألفان مدتان لوقعت الثانية بعد ساكن. والثاني: ما يمكن النطق به على مشقة كقلب الواو ياء بعد الكسرة إذ يمكن أن تقول في عصافير عصافور ولكن يكره قلت: ومن الأول تقدير الحركات في المقصور ومن الثاني تقدير الضمة والكسرة في المنقوص وقال في موضع آخر: " اعلم أن أصحابنا انتزعوا العلل من كتب محمد بن الحسن وجمعوها منها بالملاطفة والرفق ".

المسألة الرابعة إثبات الحكم في محل النص

المسألة الرابعة إثبات الحكم في محل النص قال ابن الأنباري: اختلفوا في إثبات الحكم في محل النص: بماذا ثبت بالنص أم بالعلة؟ فقال الأكثرون: بالعلة لابالنص لأنه لو كان ثابتا به لا بها لأدى إلى إبطال الإلحاق وسد باب القياس لأن القياس حمل فرع على أصل بعلة جامعة فإذا فقدت العلة الجامعة بطل القياس وكان الفرع مقتبسا من غير أصل وذلك محال ألا ترى أنا لو قلنا: إن الرفع والنصب في نحو ضرب زيد عمرا بالنص لا بالعلة لبطل الإلحاق بالفاعل والمفعول والقياس عليهما وذلك لا يجوز. وقال بعضهم يثبت في محل النص بالنص وفيما عداه بالعلة وذلك نحو النصوص المنفولة عن العرب المقيس عليها بالعلة الجامعة في جميع أبواب العربية. واستدل لذلك بأن النص مقطوع به والعلة مظنونة وإحالة الحكم على المقطوع له أولى من إحالته على المظنون. ولا يجوز أن يكون الحكم ثابتا بالنص والعلة معا لأنه يؤدي إلى أن يكون الحكم مقطوعا به مظنونا في حال واحدة محال. وأجيب عن هذا الاستدلال بأن الحكم إ نما يثبت بطريق مقطوع به وهو النص ولكن العلة هي التي دعت إلى إثبات الحكم فنحن نقطع على الحكم بكلام العرب ونظن أن العلة هي التي دعت الواضع إلى الحكم فالظن لم يرجع إلى ما يرجع إليه القطع بل هما متغايران فلا منافاة ". اتهى كلام ابن الأنباري.

المسألة الخامسة العلة البسيطة والمركبة

المسألة الخامسة العلة البسيطة والمركبة العلة قد تكون بسيطة وهي التي يقع التعليل بها من وجه واحد كالتعليل بالاستثقال والجوار والمشابهة ونحو ذلك. وقد تكون مركبة من عدة أوصاف اثنين فصاعدا كتعليل قلب ميزان بوقوع الياء ساكنة بعد كسرة فالعلة ليس مجرد سكونها ولا وقوعها بعد كسرة بل مجموع الأمرين وذلك كثير جدا. وقد يزاد في العلة صفة لضرب من الاحتياط بحيث لو أسقطت لم يقدح فيها كما سيأتي في القوادح. وقال ابن النحاس في التعليقة: " نعلل ابن عصفور حذف التنوين من العلم الموصوف بـ ابن مضاف إلى علم بعلة مركبة من مجموع أمرين وهو: كثرة الاستعمال مع التقاء الساكنين والنحاة لم يعللوه إلا بكثرة الاستعمال فقط بدليل حذفه م (هند بنت عاصم) على لغة من صرف هندا وإن لم يلتق هنا ساكنان وكأنه لما رأى انتقاض العلة احتاج إلى قوله: ومن العرب من يحذف لمجرد كثرة الاستعمال وهذه العلة الصحيحة المطرة في الجميع لا ما علل به أولا ". ومن العلل المركبة قول الزمخشري في المفصل في الذي: ولاستطالتهم إياه بصلته مع كثرة الاستعمال خففوه من غير وجه فقالوا: اللذ بحذف الياء ثم اللذ بحذف الحركة ثم حذفوه رأسا واجتزءوا بلام التعريف الذي في أوله وكذا فعلوا في (التي) " وقال ابن النحاس: " إنما التزموا الفصل بين (أن) إذا خففت وبين خبرها إذا كان فعلا لعلة مركبة من مجموع أمرين وهما: العوض من تخفيفها وإيلاؤها ما لم يكن يليها ".

المسألة السادسة العلة موجبة للحكم في المقيس عليه

المسألة السادسة العلة موجبة للحكم في المقيس عليه من شرط العلة أن تكون هي الموجبة للحكم في المقيس عليه ومن ثم خطأ ابن مالك البصريين في قولهم: إن علة إعراب المضارع مشابهته للإسم في حركاته وسكناته وإبهامه وتخصيصه فإن هذه الأمور ليست الموجبة لإعراب الاسم وإنما الموجب له قبوله بصيغة واحدة معاني مختلفة ولا يميزها إلا الإعراب تقول: ما أحسن زيدا أو الثاني نصبته أو الثالث جررته. فلابد أن تكون هذه العلة هي الموجبة لإعراب المضارع فإنك تقول: لا تأكل السمك وتشرب اللبن فيحتمل النهي عن كل منهما علة انفراده وعن الجمع بينهما وعن الأول فقط والثاني مستأنف ولا يبين ذلك إلا الإعراب بأن تجزم الثاني أيضا إن أردت الأول وتنصبه إن أردت الثاني وترفعه إن أردت الثالث. المسألة السابعة التعليل بالعلة القاصرة قال ابن الأنباري: " اختلفوا في التعليل بالعلة القاصرة فجوزها قوم ولم يشترطوا التعدية في صحتها وذلك كالعلة في قولهم: ما جائت حاجتك؟ وعسى الغوير أبؤسا فإن جاءت وعسى أجريا مجرى صار فجعل لهما اسم مرفوع وخبر منصوب ولا يجوز أن يجريا مجرى صار في غير هذين الموضعين فلا يقال: ما جاءت حالتك أي صارت ولا جاء زيد قائما أي صار زيد قائما وكذلك لا يقال: عسى الغوير أنعما ولا عسى زيد قائما

المسألة الثامنة التعليل بعلتين

بإجراء عسى مجرى صار واستدل على صحتها بأنها ساوت العلة المتعدية في الإخالة والمناسبة وزادت عليها بظاهر النقل فإن لم يكن ذلك علما للصحة فلا أقل من أن يكون علما للفساد. وقال قوم: إنها علة باطلة لأن العلة إنما تراد للتعدية وهذه العلة لا تعدية فيها وإذا لم تكن متعدية فلا فائدة لها لأنها لا فرع لها فالحكم فيها ثابت بالنص لا بها وأجيب: بأنا لا نسلم أنها إنما تراد للتعدية فإن العلة إ نما كانت علة لإخالتها ومناسبتها لا لتعديتها. ولا نسلم أيضا عدم فائدتها فإنها تفيد الفرق بين المنصوص الذي يعرف معناه والذي لا يعرف معناه وتفيد أنه ممتنع رد غير المنصوص عليه وتفيد أيضا أن الحكم ثبت في المنصوص عليه بهذه العلة " انتهى كلام ابن الأنباري وقال ابن مالك في شرح التسهيل: " عللوا سكون آخر الفعل المسند إلى التاء ونحوه بقولهم لئلا تتوالى أربع حركات فيما هو ككلمة واحدة وهذه العلة ضعيفة لأنها قاصرة إذ لا يوجد التوالي إلا في الثلاثي الصحيح وبعض الخماسي كـ انطلق وانكسر والكثير لا يتوالى فيه ذلك والسكون عام في الجميع " انتهى فمنع العلة القاصرة. المسألة الثامنة التعليل بعلتين قال في الخصائص: " يجوز التعليل بعلتين ومن أمثلة ذلك قولك: هؤلاء مسلمي فإن الأصل مسلموي فقلبت الواو ياء لأمرين كل منهما موجب للقلب:

أحدهما اجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بالسكون والآخر ياء المتكلم أبدا يكسر الحرف الذي قبلها فوجب قلب الواو ياء وإدغامها ليمكن كسر ما تليه " ومن ذلك قولهم: سي في (لا سيما) أصله سوي قلبت الواو ياء إن شئت لأنها ساكنة غير مدغومة بعد كسرة وإن شئت لأنها ساكنة قبل ياء. فهاتان علتان إحدهما كعلة قلب ميزان والأخرى كعلة طي مصدري طويت ولويت وكل منهما مؤثرة " وقال في موضع آخر: قد يكثر الشيء فيسأل عن علته كرفع الفاعل ونصب المفعول فيذهب قوم إلى شيء وآخرون إلى غيره فيجب إذن تأمل القولين واعتقاد أقواهما ورفض الآخر فإن تساويا في القوة لم ينكر اعتقادهما جميعا فقد يكون الحكم الواحد معلولا بعلتين " انتهى وقال ابن الأنباري: " اختلفوا في تحليل الحكم بعلتين فصاعدا: فذهب قوم إلى أنه لا يجوز لأن هذه العلة مشبهة بالعلة العقلية والعلة العقلية لايثبت إلا بعلة واحدة فكذلك ما كان مشبها بها وذهب قوم إلى الجواز وذلك مثل أن يدل على كون الفاعل ينزل منزلة الجزء من الفعل بعلل كونه يسكن لام الفعل في نحو ضربت ويمتنع العطف عليه إذا كان ضميرا متصلا ووقوع الإعراب بعده في الأمثة الخمسة واتصال تاء التأنيث بالفعل إذا كان الفاعل مؤنثا وقولهم في النسب إلى كنت كنتي وقولهم حبذا بالتركيب

المسألة التاسعة تعليل حكمين بعلة واحدة

ولا أحبذه أي لا أقول له حبذا وقولهم في فحصت فحصط بالإبدال طاء لتجانس الصاد في الإطباق وهذا الإبدال يكون في كلمة لا كلمتين فهذه ثمان علل واستدل على على جواز ذلك بأن هذه العلة ليست موجبة وإنما هي إمارة ودلالة على الحكم بأنواع من الإمارات والدلالات فكذلك يجوز أن يستدل عليه بأ نواع من العلل وأجيب: بأنه إن كان المعنى أنها ليست موجبة كالعلل العقلية كالتحرك لا يعلل إلا بالحركة والعالمية لا تعلل إلا بالعلم فمسلم وإن كان المعنى أنها غير مؤثرة بعد الوضع على الإطلاق فممنوع فإنها بعد الوضع بمنزلة العلل العقلية فينبغي أن يجري مجراها " انتهى المسألة التاسعة تعليل حكمين بعلة واحدة يجوز تعليل حمين بعلة واحدة قال في الخصائص " سواء لم يتضادا أم تضادا كقولهم مررت بزيد فإنه يستدل به على أن الجار معدود من جملة الفعل ووجه الدلالة منه أن الباء فيه معاقبة لهمزة النقل في نحو أمررت زيدا فكما أن همزة أفعل موضوعة فيه كائنة من جملته فكذلك ما عاقبها من حروف الجر ينبغي أن يعد من جملته لمعاقبته ما هو من جملته ويستدل به أيضا على ضد ذلك وهو أن الجار جار مجرى بعض ما جره بدليل أنه لا يفصل بينهما فهذان تقديران مختلفان مقبولان في القياس متلقيان بالبشر والإيناس " وقال في موضع آخر " باب في أن سبب الحكم قد يكون سببا لضده على وجه: "هذا باب ظاهره التدافع وهو مع استغرابه صحيح واقع وذلك كقولهم القود والحوكة فإن القاعدة في مثله الإعلال بقلب الواو ألفا

المسألة العاشرة في دور العلة

لتحركها وانفتاح ما قبلها لكنهم شبهوا حركة العين التابعة لها بحرف اللين التابع لها فكأن فعلا فعال فكما صح نحو جواب وهيام صح باب القود والغيب ونحوه فأنت ترى حركة العين التي هي سبب الإعلال صارت على وجه آخر سبب التصحيح وهذا مذهب غريب المأخذ " انتهى. المسألة العاشرة في دور العلة قال في الخصائص: " هو نوع ظريف ذهب المبرد في وجوب إسكان لام نحو: ضربت إلى أنه لحركة ما بعده من الضمير لئلا يتوالى أربع حركات. وذهب أيضا في حركة الضمير من ذلك إلى أنها لسكون ما قبله فاعتل لهذا بهذا ثم دار فاعتل لهذا بهذا. قال: وهو نظير ما أجازه سيبويه في جر الوجه من قولك الحسن الوجه " قال: إلا أن مسألة سيبويه أقوى من مسألة المبرد لأن الشيء لا يكون علة على نفسه وإذا لم يكن كذلك كان من أن يكون علة علته أبعد " المسألة الحادية عشر في تعارض العلل قال في الخصائص: " هو ضربان: أحدهما: حكم واحد يتجاذبه علتان فأكثر والآخر حكمان في شيء واحد مختلفان دعت إليهما علتان مختلفتان

المسألة الثانية عشر التعليل بالأمور العدمية

فالأول ذكر في التعليل بعلتين والثاني كإعمال أهل الحجاز (ما) وإهمال بني تميم لها فألأولون لما رأواها داخلة على المبتدأ والخبر دخول ليس عليهما ونافية للحال نفيها إياها أجروها في الرفع والنصب مجراها والآخرون لما رأواها حرفا داخلا بمعناه على الجملة المستقلة بنفسها ومباشرة لكل واحد من جزأيها أجروها مجرى هل ولذلك كانت عند سيبويه أقوى قياسا من لغة أهل الحجاز وكذلك ليتما من ألغاها ألحقها بأخواتها ومن أعملها ألحقها بحروف الجر إذا دخلت عليها ما وفرق بينهما وبين أشبه بالفعل في الإفراد وعدد الحروف. وكذلك هلم ألحقها أهل الحجاز باسم الفعل فلم يلحقوها العلامات وبنوا تميم يلحقونها العلامات اعتبارا لأصل ما كانت عليه " المسألة الثانية عشر التعليل بالأمور العدمية يجوز التعليل بالأمور العدمية كتعليل بعضهم بناء الضمير باستغناءه عن الإعراب باختلاف صيغة لحصول الامتياز بذلك.

خاتمة

خاتمة قال أبو الزجاجي في كتاب إيضاح علل النحو: القول في علل النحو أقول أولا: إن علل النحو ليست موجبة وإنما هي مستنبطة أوضاعا ومقاييس وليست كالعلل الموجبة للأشياء المعلول بها ليس هذا من تلك الطرق. وعلل النحو بعد هذا على ثلاثة أضرب: علل تعليمية وعلل قياسية وعلل جدلية نظرية. فأما التعليمية: فهي التي يتوصل بها إلى تعلم كلام العرب لأنا لا نسمع نحن ولا غيرنا كل كلامها منها لفظا وإنما سمعنا بعضا فقسنا على نظيره مثال ذلك: أنا لما سمعنا قام زيد فهو قائم وركب فهو راكب عرفنا اسم الفاعل فقلنا ذهب فهو ذاهب وأكل فهو آكل وما أشبه ذلك وهذا كثير جدا وفي الإيمان إليه كفاية لمن نظر في هذا العلم. فمن هذا النوع من العلل قولنا: إن زيدا قائم إن قيل: بم نصبتم زيدا؟ قلنا بأن لأنها تنصب الاسم وترفع الخبر لأنا كذلك علمناه ونعلمه وكذلك قام زيد إن قيل: لم رفعتم زيدا؟ قلنا: لأنه فاعل اشتغل به فعله فرفعه فهذا وما أشبهه من نوع التعليم وبه ضبط كلام العرب فأما العلة القياسية فأن يقال لمن قال نصبت زيدا بـ إن في قوله: إن زيدا قائما: ولم وجب أن تنصب إن الاسم؟ فالجواب في ذلك أن يقول: لأنها وأخواتها ضارعت الفعل المتعدي إلى مفعول فحملت عليه فأعملت إعماله لما ضارعته فالمنصوب بها مشبه بالمفعول

لفظا والمرفوع بها مشبه بالفاعل لفظا فهي تشبه من الأفعال ما قدم مفعوله على فاعله نحو ضرب أخاك محمد وما أشبه ذلك. وأما العلة الجدلية النظرية فكل ما يعتل به في باب إن بعد هذا مثل أن يقال: فمن أي جهة شابهت هذه الحروف الأفعال؟ وبأي الأفعال شبهتموها؟ أبالماضية أم بالمستقبلة أم الحادثة في الحال أم التراخية أم المنقضية بلا مهلة؟ وحين شبهتوها بالأفعال لأي شيء عدلتم بها إلى ما قدم مفعوله على فاعله نحو ضرب زيدا عمرو؟ وهلا شبهتوها بما قدم فاعله على مفعوله لأنه هو الأصل وذاك فرع ثان فأي علة دعتكم إلى إلحاقها بالفروع دون الأصول؟ وأي قياس اطرد لكم في ذلك؟ وحين شبهتوها بما قدم مفعوله على فاعله هلا أجزتم تقديم فاعليها على مفعوليها كما أجزتم ذلك في المشبه به في في قولكم: ضرب أخاك محمد وضرب محمد أخاك؟ وهلا حين امتنعت من ذلك لعلة لزمتموه ولم ترجعوا عنه فتجيزوه في بعض المواضع في قولكم إن خلفك زيدا وإن أمامك بكرا وما أشبه ذلك؟ وهلا حين مثلتم عملها بعمل الفعل المتعدي إلى مفعول واحد نحو: ضرب زيدا عمرو امتنعتم من إجازة وقوع الجمل في موضع فاعلها في قولكم: إن زيدا أبوه قائم وإن زيدا ماله كثير والفاعل لا يكون جملة؟ ولم أجزتم وقوع الفعل موقع فاعلها في قولكم: إن زيدا يركب وإن عبد الله ركب أرأيتم فعل وقع موقع الفاعل بدلا منه نائبا عنه؟ ما أرى كلامكم إلا ينقض بعضه بعضا وكل شيء اعتل به المسئول جوابا عن هذه المسائل فهو داخل في الجدل والنظر ... وذكر بعض شيوخنا أن الخليل بن أحمد رحمه الله سئل عن العلل التي يعتل بها في النحو فقيل له: عن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك.؟ فقال: إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها وعرفت مواقع كلامها وقام في عقولها علله وإن لم ينقل ذلك عنها واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست وإن تكن هناك علة غير ما ذكرت فالذي ذكرته محتمل أن يكون علة له ومثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دار محكمة البناء عجيبة النظم والأقسام وقد صحت عنده حكمه بانيها بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: إنما فعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا ولسبب كذا وكذا لعله سنحت له وخطرت بباله محتملة أن تكون علة لتلك فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة إلا أن ما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك فإن سنحت لغيري علة لما عللته من النحو هي أليق مما ذكرته بالمعول فليأت بها. وهذا كلام مستقيم وإنصاف من الخليل رحمة الله عليه وعلى هذه الأوجه الثلاثة مدار علل جميع النحو ". هذا آخر كلام الزجاجي.

ذكر مسالك العلة

ذكر مسالك العلة إحدها: الإجماع: بأن يجمع أهل العربية على أن علة هذا الحكم كذا كإجماعهم على أن علة تقدير الحركات في المقصور التعذر وفي المنقوص الاستثقال. الثاني: بأن ينص العربي على العلة قال أبو عمرو: سمعت رجلا من اليمن يقول: فلان لغوب جائته كتابي فاحتقرها فقلت له: أتقول: جائته كتابي؟ قال نعم أليست بصحيفة؟ قال ابن جني: " فهذا الأعرابي الجلف علل هذا الموضع بهذه العلة واحتج لتأنيث المذكر بما ذكره ". قال: وعن المبرد أنه قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ: (ولا الليل سابق النهار) فقلت له: ما تريد؟ قال: أردت (سابق النهار) فقيل له: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن " قال ابن جني: " ففي هذه الحكاية لنا ثلاثة أغراض مستنبطة منها: أحدها: تصحيح قولنا إن أصل كذا وكذا. والآخر: قولنا: إنها فعلت كذا وكذا ألا تراه إنما طلب الخفة يدل عليه قوله: لكان أوزن أي أثقل في النفس واقوى من قولهم: هنا درهم وازن أي ثقيل له وزن. والثالث: أنها قد تنطق بالشيء غيره في نفسها أقوى منه لإيثارها الخفة " وقال سيبويه: " سمعنا بعضهم يدعو على غنم رجل فقال: اللهم ضبعا وذئبا

الثالث: الإيماء

ففسر ما نوى " فهذا تصريح منهم بالعلة. انتهى الثالث: الإيماء: كما روي أن قوما من العرب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أنتم؟ فقالوا نحن بنوا غيان. فقال: بل أنتم بنو رشدان قال ابن جني: فهل هذا إلا كقول أهل الصناعة إن الألف والنون زائدتان وإن كان صلى الله عليه وسلم لم يتفوه بذلك غير أن اشتقاقه إياه من الغي بمنزلة قولنا نحن: إن الألف والنون زائدتان " ومن ذلك أيضا ما حكاه غير واحد: أن الفرزدق حضر مجلس ابن أبي إسحاق فقال له كيف تنشد هذا البيت: وعينان قال الله كونا فكانتا فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فقال الفرزدق: كذا أنشد فقال ابن أبي إسحاق: ما كان عليك لو قلت فعولين؟ فقال الفرزدق: لو شئت أن أسبح لسبحت ونهض فلم يعرف أحد في المجلس ما أراد قال ابن جني: " أي لو نصب لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما أن تفعلا ذلك وإنما أراد: هما تفعلان وكان هنا تامة غير محتاجة إلى خبر فكانه قال: وعينان قال الله: احدثا فحدثتا " انتهى فهذا من الفرزدق إيماء إلى العلة الرابع: السبر والتقسيم بأن يذكر جميع الوجوه المحتملة ثم يسبرها أي يختبرها فيبقى ما يصلح وينفي ما عداه بطريقه

قال ابن جني: " مثاله: إذا سئلت عن وزن مروان فتقول لا يخلو إما أن يكون فعلان أو مفعالا أوفعوالا هذا ما يحتمله ثم يفسد كونه مفعالا أو فعوالا بأنهما مثالان لم يجيئا فلم يبق إلا فعلان " قال ابن جني: وليس لك أن تقول في التقسيم: ولا يجوز أن يكون فعوان ومفوالا أو نحو ذلك لأن هذه ونحوها أمثلة ليست موجودة أصلا ولا قريبة من الوجود بخلاف مفعال فإنه ورد قريب منه وهو مفعال بالكسر كـ محراب وفعوال ورد قريب منه وهو فعوال بالكسر كـ قرواش وكذلك تقول في مثل أيمن من قوله: يبري لها من أيمن وأشمل لا يخلو إما أن يكون أفعلا أو فعلنا أيفلا أو فيعلا لأن الأول كثير كـ أكلب وفعلن له نظير في أمثلتهم نحو: خبلن وعجلن وأيفل نظيره أينق وفيعل نظيره صيرف ولا يجوز أن يقول: ولا يخلو أن يكون أيفعا ولا فعملا ولا أفعما ونحو ذلك لأن هذه أمثلة لا تقرب من أمثلتهم فيحتاج إلى ذكرها في التقسيم " انتهى. قال ابن الأنباري: " الاستدلال بالتقسيم قسمان: أحدها: أن تذكر الأقسام التي يجوز أن يتعلق الحكم بها فيبطلها جميعا فيبطل بذلك قوله وذلك مثل أن يقول: لو جاز دخول اللام في خبر لكن لم يخل إما أن تكون لام التوكيد لأنها إنما حسنت مع إن لاتفاقهما في المعنى وهو التأكيد ولكن ليست كذلك

وبطل أن تكون لام القسم لأنها إنما حسنت مع إن لإن إن تقع في جواب القسم كاللام ولكن كذلك. وإذا بطل أن تكون لام التوكيد ولام القسم بطل أن يجوز دخول اللام في خبرها. والثاني: أن تذكر الأقسام التي يجوز أن يتعلق الحكم بها فيبطلها إلا الذي يتعلق بالحكم به من جهته فيصحح قوله وذلك كأن يقول لا يخلو نصب المستثنى في الواجب نحو قام القوم إلا زيدا: إما أن يكون بالفعل المتقدم بتقوية إلا أو بـ إلا لأنها بمعنى أستثني أو لأنها مركبة من إن المخففة ولا أو لأن التقدير فيه إلا أن زيدا لم يقم والثاني باطل بنحو قام القوم غير زيد فإن نصب غير لو كان بـ لا لصار التقدير: إلا غير زيد وهو يفسد المعنى. وبأنه لو كان العامل إلا بمعنى أستثني لوجب النصب في النفي كما في الإيجاب لأنها فيه أيضا بمعنى أستثني ولجاز الرفع أيضا بتقدير امتنع لاستوائهما في حسن التقدير كما أورد ذلك عضد الدولة علي بن أبي علي. حيث أجابه بذلك. والثالث باطل بأن إن المخففة لا تعمل وبأن الحرف إذا ركب مع حرف آخر خرج كل منهما عن حكمه وثبت له بالتركيب حكم آخر

الخامس المناسبة

والرابع: باطل بأن أن لا تعمل مقدرة وإذا بطل الثلاثة ثبت الأول وهو أن النصب بالفعل السابق بتقوية إلا " انتهى ملخصا وقال أبو الفراء في التبيين: " الدليل على على أن نعم وبئس فعلان السبر والتقسيم وذلك أنهما ليسا حرفين بالإجماع وقد دل الدليل على أنهما ليسا اسمين لوجهين أحدهما: بناؤهما على الفتح ولا سبب له لو كانا اسمين لأن الاسم إنما بني إذا أشبه الحرف ولا مشابهة بين نعم وبئس وبين الحرف فلو كانت اسما لأعربت. والثاني: أنها لو كانت اسما لكانت إما جامدا أو وصفا ولا سبيل إلى اعتقاد الجمود فيها لأن وجه الاشتقاق فيها ظاهر لأنها من نعم الرجل إذا أصاب نعمة والمنعم عليه يمدح ولا يجوز أن يكون وصفا إذ لو كانت كذلك لظهر الموصوف معها ولأن الصفة ليست على هذا البناء وإذا بطل كونها حرفا وكونها اسما ثبت أنها فعل " انتهى وقال ابن فلاح في المغني: الدليل على أن كيف اسم السبر والتقسيم فنقول لا يجوز أن تكون حرفا لحصول الفائدة منها مع الاسم وليس ذلك لغير حرف النداء ولا فعلا لأن الفعل يليها بلا فاصل نحو: كيف تصنع؟ فيلزم أن تكون اسما لأنه الأصل في الإفادة " الخامس المناسبة وتسمى الإخالة أيضا لأن بها يخال أي يظن أن الوصف علة وهو أن يحمل الفرع على الأصل بالعلة التي علق عليها الحكم في الأصل كحمل ما لم يسم فاعله على الفاعل في الرفع بعلة الإسناد

السادس: الشبه

وحمل المضارع على الاسم في الإعراب بعلة اعتوار المعاني عليه. ذكره ابن الأنباري قال: " في إبراز الإخالة والمناسبة عند المطالبة اعلم ان العلماء اختلفوا في ذلك فذهب قوم إلى أنه لا يجب إبراز الإخالة وذلك مثل ان يدل على جواز تقديم خبر كان عليها فيقول: هي فعل متصرف فجاز تقديمه عليها قياسا على سائر الأفعال المتصرفة. فيطالبه بوجه الإخالة والمناسبة. وتمسكوا في الدلالة على أنه لايجب إبراز الإخالة بأن المستدل أتى بالدليل بأركانه فلا يبقى عليه الإتيان بوجه الشرط وهو الإخالة وليس على المستدل بيان الشروط بل يجب على المعترض بيان عدم الإخالة التي هي الشرط ولو كلفناه أن يستقل بالمناظرة وحده وأن يورد الأسئلة ويجيب عنها وذلك لا يجوز. وذهب آخرون إلى أنه يجب إبراز الإخالة وتمسكوا في الدلالة على أنه يجب إبراز الإخالة بأن الدليل إنما يكون دليلا إذا ارتبط به الحكم وتعلق به وإنما يكون متعلقا إذا بان وجه الإخالة ولا يكتفي في ذلك ينطلق عليه القياس من غير بيان ولا ارتباط وهذا ليس بصحيح. وقولهم: إنه إنما يكون دليلا إذا ارتبط به الحكم وتعلق به فنقول: الارتباط موجود فإنه قد صرح بالحكم فصار بمنزلة ما قد قامت عليه البينة بعد الدعوى. فأما المطالبة بوجه الإخالة والمناسبة فبمنزلة إبانة عدالة الشهود فلا يجب ذلك على المدعي ولكن على الخصم أن يقدح في الشهود فكذلك ليس على المستدل إبراز الإخالة وإنما المعترض أن يقدح ". انتهى. السادس: الشبه: قال ابن الأنباري: وهو ن يحمل الفرع على أصل بضرب من الشبه غير العلة التي علق عليها الحكم في الأصل وذلك مثل أن يدل على إعراب المضارع بأنه يتخصص بعد شياعه كما أن الاسم يتخصص بعد شياعه فكان معربا كلاسم أو بأنه يدخل عليه لام الابتداء كالاسم أو بأنه على حركة الاسم وسكونه. وليس شيء من هذه العلل هي التي وجب لها الإعراب في الأصل إنما هو إزالة اللبس كما تقدم ". قال: "وقياس الشبه قياس صحيح يجوز التمسك به في الأصح كقياس العلة "

السابع: الطرد

السابع: الطرد: قال ابن الأنباري: "وهو الذي يوحد معه الحكم وتفقد الإخالة في العلة. واختلفوا في كونه حجة فقال قوم: ليس بحجة لأن مجرد الطرد لا يوجب غلبة الظن ألا ترى أنك لو عللت بناء (ليس) بعدم التصرف لاطراد البناء في كل فعل غير متصرف وإعراب ما لاينصرف لما كان ذلك الطرد يغلب على الظن أن بناء ليس لعدم التصرف ولا أن إعراب ما لا ينصرف لعدم الانصراف بل نعلم يقينا أن ليس إنما بني لأن الأصل في الأفعال البناء وأن ما لاينصرف إنما أعرب لأن الأصل في الأسماء الإعراب. وإذا ثبت بطلان هذه العلة مع اطرادها علم أن مجرد الطرد لا يكتفى به فلابد من إخالة أو شبه. ويدل على أن الطرد لا يكون علة أنه لو كان علة لأدى إلى الدور ألا ترى أنه إذا قيل له: ما الدليل على صحة دعواك؟ فيقول: أن أدعي أن هذه العلة علة في محل آخر فإذا قيل له وما الدليل على أنها علة في محل آخر؟ فيقول دعواي أنها علة في مسألتنا فدعواه دليل على صحة دعواه فإذا قيل له: ما الدليل على أنها علة في الموضعين معا؟ فيقول وجود الحكم معها في كل موضع دليل على أنها علة فإذا قيل له إن الحكم قد يوجد مع الشرط كما يوجد مع العلة فما الدليل على أن الحكم لا يثبت بها في المحل الذي هو فيه؟ فيقول كونها علة.

الثامن: إلغاء الفارق

فإذا قيل وما الدليل على كونها علة؟ فيقول وجود الحكم معها في كل موضع وجدت فيه فيصير الكلام دورا. وقال قوم إنه حجة واحتجوا على ذلك بأن قالوا الدليل على صحة العلة اطرادها وسلامتها من النقص وهذا موجود هنا وربما قالوا عجز المعترض دليل على صحة العلة. وربما قالوا: نوع من القياس فوجب أن يكون حجة كما لو كان فيه إخالة أو شبه ورد الأول: بأنهم جعلوا الطرد دليلا على صحة العلة وادعوا هنا أنها العلة نفسها وليس من ضرورة كونه دليلا على صحة العلة أن يكون هو العلة؛ بل ينبغي أن يثبتوا العلة، ثم يدلوا على صحتها بالطرد؛ لأن الطرد نظر ثانٍ بعد ثبوت العلة. ورد الثاني بأن العجز عن تصحيح العلة عند المطالبة دليل على فسادها. ورد الثالث بأنه تمسك بالطرد في إثبات الطرد، فإن ما فيه إخالة أو شبه لم يكن حجة، لكونه قياسا لقبا وتسمية، بل لما فيه من الإخالة والشبه المغلب على الظن، وليس كذلك موجودا في الطرد فوجب أن لا يكون حجة. انتهى. الثامن: إلغاء الفارق وهو بيان أن الفرع لم يفارق الأصل إلا فيما لا يؤثر، فيلزم اشتراكهما مثاله: قياس الظرف على المجرور في الأحكام بجامع أن لا فارق بينهما، فإنهما مستويان في جميع الأحكام، وإنما وقع الخلاف في هذه المسألة.

ذكر القوادح في العلة

ذكر القوادح في العلة منها النقض قال ابن الأنباري في جدله "وهو وجود العلة، ولا حكم على مذهب من لا يرى تخصيص العلة" وقال في أصوله: الأكثرون على أن الطرد شرط في العلة، وذلك أن يوجد الحكم عند وجودها في كل موضع، كرفع كل ما أسند إليه الفعل في كل موضع؛ لوجود علة الإسناد، ونصب كل مفعول وقع فضلةً؛ لوجود علة وقوع الفعل عليه، وجر كل ما دخل عليه حرف الجر، لوجود عامله، وكذلك وجود الجزم في كل ما دخل عليه حرف الجزم؛ لوجود عامله. وإنما وجب أن يكون الطرد شرطا في العلة هاهنا؛ لأن العلة النحوية كالعلة العقلية، ولا خلاف في أن العلة العقلية لا تكون إلا مطردة، ولا يجوز أن يدخلها التخصيص فكذلك العلة النحوية. وقال قوم: إن الطرد ليس بشرط في العلة، فيجوز أن يدخلها التخصيص، وذلك لأن هذه العلة دليل على الحكم بجعل جاعل، فصارت بمنزلة الاسم العام، فكما يجوز تخصيص الاسم العام فكذلك ما كان في معناه، وكذلك إذا جاز التمسك بالعموم المخصوص، فكذلك بالعلة المخصوصة. وعلى الأول قال في الجدل: مثال النقض أن يقول: إنما بنيت حذامِ وقطامِ ورقاشِ لاجتماع ثلاث علل، وهي التعريف والتأنيث والعدل. فتقول هذا ينتقض بـ (أذربيجان) فإن فيه ثلاث علل بل أكثر وليس بمبني. قال: والجواب عن النقض أن يمنع مسألة النقض، إن كان فيها منع، أو يدفع النقض باللفظ أو بمعنى في اللفظ. فالمنع مثل أن تقول: إنما جاز النصب في نحو يا زيد الظريفَ حملا على الموضع؛ لأنه وصف لمنادى مفرد مضموم.

فيقال: هذا ينتقض بقولهم: يا أيها الرجل؛ فإن الرجل وصف لمنادى مفرد مضموم، ولا يجوز فيه النصب. نسلم أنه لا يجوز فيه النصب. ويمنع على مذهب من يرى جوازه. والدفع [ينتقض] باللفظ مثل أن يقول في حد المبتدأ "كل اسم عريته من العوامل اللفظية لفظا أو تقديرا" فيقال: هذا ينتقض بقولهم: إذا زيد جاءني أكرمته، فـ (زيد) قد تعرى من العوامل اللفظية ومع هذا فليس مبتدأ. فيقول: قد ذكرت في الحد ما يدفع النقض لأني قلت لفظا أو تقديرا. وهو وإن تعرى لفظا لم يتعر تقديرا فإن التقدير إذا جاءني زيد. والدفع بمعنى في اللفظ مثل مثل أن يقول إنما ارتفع يكتب في نحو: مررت برجل يكتب لقيامه مقام الاسم وهو كاتب. فيقول: هذا ينتقض بقولك: مررت برجل كتب فإنه فعل قد قام مقام الاسم وهو كاتب وليس بمفروع. فنقول قيام الفعل مقام الاسم إنما يكون موجبا للرفع إذا كان الفعل معربا وهو الفعل المضارع نحو يكتب, و (كتب) فعل ماض والفعل الماض لا يستحق شيئا من الإعراب فلما لم يستحق من جنس الإعراب منع الرفع الذي هو نوع منه فكأنا قلنا هذا الفعل المستحق للإعراب قام مقام الاسم فوجب له الرفع فلا يرد النقض بالفعل الماضي الذي لا يستحق شيئا من الإعراب. أما على من يرى تخصيص العلة فإن النقض غير مقبول ". ومنها (تخلف العكس) بناء على أن العكس شرط في العلة وهو رأي الأكثرين وهو" أن يعدم الحكم عند عدم العلة " كعدم رفع الفاعل لعدم إسناد الفعل

إليه لفظا أو تقديرا وعدم نصب المفعول لعدم وقوع الفعل عليه لفظا أو تقديرا. وقال قوم: إنه ليس بشرط لأن هذه العلة مشبهة بالدليل العقلي والدليل العقلي يدل وجوده على وجود الحكم ولا يدل عدمه على عدمه. ومثال تخلف العكس قول بعض النحاة في نصب الظرف إذا وقع خبرا عن المبتدأ نحو (زيد أمامك): إنه منصوب بفعل محذوف غير مطلوب ولا مقدر بل حذف الفعل واكتفى بالظرف منه وبقي منصوبا بعد حذف الفعل لفظا وتقديرا على ما كان عليه قبل حذف الفعل. فذكر المقصورة حشو لأنه لا أثر له في العلة لأن ألف التأنيث لم تستحق أن تكون سببا مانعا من الصرف لكونها مقصورة بل لكونها للتأنيث فقط ألا ترى أن الممدودة سبب مانع أيضا؟ واستدل على عدم الجواز بأنه لا إخالة فيه ولا مناسبة وإذا كان خاليا عن ذلك لم يكن دليلا لم يجز إلحاقه بالعلة.

وقال قوم: إذا ذكر إذا ذكر لدفع النقض لم يكن حشوا لأن الأوصاف في العلة تفتقر إلى شيئين. أحدهما: أن يكون لها تأثير. والثاني: أن يكون يفها احتراز فكما لا يكون ما له تأثير حشوا فكذلك ما فيه احتراز حشوا ". وقال ابن جني في الخصائص: قد يزاد في العلة صفة لضرب من الاحتياط بحيث لو اسقطت لم يقدح اسقاطها فيها كقولهم في همز أوائل: أصله: أواول فلما اكتنف الألف واوان وقربت الثانية منهما من الطرف ولم يؤثر إخراج ذلك على الأصل تنبيها على غيره من المغيرات في معناه وليس هناك ياء قبل الطرف مقدرة وكانت الكلمة جمعا ثقل ذلك فأبدلت الواو همزة فصار (أوائل) فهذه علة مركبة من خمسة أوصاف محتاج إليها إلا الخامس. فقولك: ولم يؤثر ... إلى آخره احتراز من نحو قوله: تسمع من شذانها عواولا وقولك: وليس هناك ياء مقدرة لئلا يلزمك نحو قوله: وكحل العينين بالعواور لأن أصله (عواوير) وقولك: وكانت الكلمة جمعا غير محتاج إليه لأنك لو لم تذكره لم يخل

ذلك بالعلة ألا ترى أنك لو بنيت من قلت (قلت) و (بعت) واحدا على فواعل أو أفاعل لهمزت كما تهمز في الجمع لكنه ذكر تأنيسا من حيث كان الجمع في غير هذا مما يدعو إلى قلب الواو ياء في نحو: حقي ودلي فذكر هنا تأكيدا ووجوبا ". قال: ولا يجوز زيادة صفة لا تأثير لها أصلا البتة كقولك في رفع (طلحة) من نحو جائني طلحة:: إنه لإسناد الفعل إليه ولأنه مؤنث وعلم فذكر التأنيث والعلمية لغو لا فائدة له ". انتهى. ومنها (القول بالموجب) قال ابن الأنباري: في جدله: " وهو أن يسلم للمستدل منقطعا فإن توجه في بعض الصور مع عموم العلة لم يعد منقطعا. مثل أن يستدل البصري على جواز تقديم الحال على العامل في الحال إذا كان العامل فيها فعلا متصرفا وذو الحال اسما ظاهرا نحو راكبا جاء زيد فيقول: جواز تقديم معمول الفعل المتصرف ثابت في غير حال فكذلك في الحال. فيقول له الكوفي: أنا أقول بموجبه فإن الحال يجوز تقديمها عندي إذا كان ذو الحال مضمرا. والجواب: أن يقدر العلة على وجه لا يمكنه القول بالموجب بأن يقول: عنيت به ما وقع فيه الخلاف فيه وعرفته بالألف واللام فتناوله وانصرف إليه. وله أن يقول: هذا قول بموجب العلة في بعض الصور مع عموم العلة في جميع الصور فلا يكون قولا بموجبها ".

ومنها (فساد الاعتبار) قال ابن الأنباري: " وهو أن يستدل بالقياس على مسألة في مقابلة النص عن العرب. كأن يقول البصري: الدليل على أن ترك صرف ما لا ينصرف لا يجوز لضرورة الشعر أن الأصل في الاسم الصرف فلو جوزنا ترك صرف ما لا ينصرف لأدى ذلك إلى أن نرده عن الأصلا إلى غير أصل فوجب أن لا يجوز قياسا على مد المقصور. فيقول له المعترض: هذا استدلال منك بالقياس في مقابلة النص عن العرب وهو لا يجوز فإنه قد ورد النص عنهم في أبيات تركوا فيها صرف المنصرف للضرورة. والجواب: الطعن في النقل المذكور إما في أسناده وذلك من وجهين: أحدهما: أن يطالبه بإثباته وجوابه: أن يسنده أو يحيله على كتاب عند أهل اللغة. والثاني: القدح في راويه وجوابه: أن يبدي له طريقا آخر وإما في متنه وذلك من خمسة أوجه:

أحدها: التأويل بأن يقول الكوفي: الدليل على ترك صرف المنصرف قوله: وممن ولدوا عامـ ... ـــر ذو الطول وذو العرض فيقول له البصري: إنما لم يصرفه لأنه ذهب به إلى القبيلة والحمل على المعنى كثير في كلامهم. والثاني: المعارضة بنص آخر مثله فيتساقطان ويسلم الأول كأن يقول الكوفي: الدليل على أن إعمال الأول في (باب التنازع) أولى قول الشاعر: وقد نغني بها ونرى عصورا فيقول له البصري: هذا معارض بقول الآخر: لوكن نصفا لو سببت وسبني بنو عبد شمس من مناف وهاشم والثالث: اختلاف الراوية كأن يقول الكوفي: الدليل على جواز مد المقصور في الضرورة قوله: سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناء

فيقول له البصري: الراوية (غناء) بفتح الغين وهو ممدود. الرابع: منع ظهور دلالته على ما يلزم منه فساد القياس كأن يقول البصري الدليل على أن المصدر أصل للفعل أنه يسمى مصدرا والمصدر هو الموضع الذي تصدر عنه الإبل فلو لم يصدر عنه الفعل لما سمي مصدرا. فيقول له الكوفي: هذا حجة لنا في أن الفعل أصل للمصدر فإنه إنما يسمى مصدرا لأنه مصدور عن الفعل كما يقول: مركب فاره ومشرب عذب أي مركوب ومشروب ومنها (فساد الوضع) قال ابن الأنباري: " وهو أن يعلق على العلة ضد المقتضي كأن يقول الكوفي: إنما جاز التعجب من السواد والبياض دون سائر الألوان لأنهما أصلا من الألوان. فيقول له البصري: قد علقت على العلة ضد المقتضي لأن التعجب إنما امتنع من سائر الألوان للزومها المحل وهذا المعنى في الأصل أبلغ منه في الفرع فإذا لم يجز مما كان فرعا لملازمته المحل فلأن لا يجوز مما كان أصلا وهو ملازم للمحل أولى. والجواب: أن يبين عدم الضدية أو يسلم له ذلك ويبين أنه يقتضي ما ذكره أيضا من وجه آخر ".

ومنها (المنع للعلة) قال ابن الأنباري: " وقد يكون في الأصل والفرع وأما المنع في الأصل فمثل أن يقول البصري: إنما ارتفع المضارع لقيامه مقام الاسم وهو عامل معنوي فأشبه الابتداء في الاسم المبتدأ والابتداء يوجب الرفع فكذلك ما أشبهه. فيقول له الكوفي: لا أسلم أن الابتداء يوجب الرفع في الاسم المبتدأ. والمنع في الفرع مثل أن يقول البصري: الدليل على أن فعل الأمر مبني أن دراك ونزال وتراك وما أشبه ذلك من أسماء الأفعال مبنية لقيامها قيامه ولولا أنه مبني وإلا لما بنى ما قام مقامه. فيقول له الكوفي: لا أسلم أن نحو دراك ونزال وتراك إنما بني لمقامه مقام فعل الأمر وإنما بني لتضمنه لام الأمر. والجواب عن منع العلة أن يدل على وجودها في الأصل أو الفرع بما يظهر به فساد المنع ". ومنها (المطالبة بتصحيح العلة) قال ابن الأنباري: " والجواب أن يدل على ذلك بشيئين: التأثير وشهادة الأصول. فالأول: وجود الحكم لوجود العلة وزواله لزوالها كأن يقول: إنما بنيت (قبل) و (بعد) على الضم لأنها اقتطعت عن الإضافة. فيقال: وما الدليل على صحة هذه العلة؟ فيقول: التأثير وهو وجود البناء لوجود هذه العلة , وعدمه لعدمها ألا ترى أنه إذا لم يقتطع عن الإضافة يعرب فإذا اقتطع عنها بني فإذا عادت الإضافة عاد الإعراب.

والثاني: كأن يقول: إنما بنيت (كيف) و (أين) و (متى) لتضمنها معنى الحرف فيقال وما الدليل على صحة هذه العلة؟ فيقول: إن الأصول تشهد وتدل على أن كل اسم تضمن معنى الحرف وجب أن يكون مبنيا. ومنها (المعارضة) قال ابن الأنباري: " وهو أن يعارض المستدل بعلة مبتدأة. والأكثرون على قبولها لأنها دفعت العلة وقيل: لا تقبل لأنها تصد لمنصب الاستدلال وذلك رتبة المسئول لا السائل. مثلها ان يقول في الإعمال: إنما كان إعما لالول أولى لأنه سابق وهو ثالح للعمل فكان إعماله أولى لقوة الابتداء والعناية به. فيقول البصري: هذا معارض بأن الثاني أقرب إلى الاسم وليس في إعماله نقص معنى فكان إعماله أولى. تنبيه (في ترتيب الأسئلة) قال ابن الأنباري " اعلم أن علماء الجدل اختلفوا في ذلك فذهب قوم إلى أنه لا يجب على السائل ترتيب الأسئلة بل له أن يوردها كيفما شاء لأنه جاء مستفهما مستعلما. وذهب آخرون إلى أنه يجب ترتيبها فعلى هذا أول الأسئلة فساد الاعتبار وفساد الوضع والقول بالموجب والمنع ثم المطالبة ثم النقض ثم المعارضة. وإنما وجب تقديم فساد الاعتبار وفساد الوضع لأن المعترض يدعي أن ما يظنه قياسا ليس مستعملا في موضعه فقد صادم أصل الدليل والقول بالموجب لأنه يبين أنه لم يدل في موضع الخلاف ولا حاجة إلى الاعتراض والمنع ثم المطالبة لأن المنع إنكار العلة والمطالبة إقرار بالعلة والإقرار بعد الإنكار يقبل والإنكار بعد الإقرار لا يقبل.

ثم النقض لما فيه من تسليم صلاحية العلة لو سلمت من النقض فكان تأخيره عن المطالبة أولى من تقديمه عليها لأن المطالبة لا تتوجه على علة منقوضة. ثم المعارضة لأنها ابتداء دليل مستقبل في مقابلة دليل المستدل فهي بمنصب الاستدلال أشبه منها بالسؤال ولهذا ذهب من ذهب إلى أنها ليست بسؤال ". تذنيب (في السؤال والجواب) قال ابن الأنباري: " السؤال طلب الجواب بأداته ومبناه على سائل ومسئول به ومسئول منه ومسؤل عنه. فالسائل: ينبغي له أن يقصد قصد المستفهم ولهذا قال قوم: إنه ليس له مذهب والجمهور على أنه لابد له من مذهب لئلا ينتشر الكلام فتذهب فائدة النظر. وأن يسأل عما يثبت فيه الاستفهام فقد قيل: ما ثبت فيه الاستبهام صح عنه الاستفهام كأن يسأل عن حد النحو وأقسام الكلام فإن سأل عن وجود النطق والكلام كان فاسدا. وأن لا يسأل إلا عن ما يلائم مذهبه فإن سأل عما لا يلائم مذهبه لم يسمع منه كأن يسأل الكوفي عن الابتداء لم كان عمله الرفع دون غيره؟ فإنه لايرى أنه عامل البتة. وأن لا ينتقل من سؤال إلى سؤال فإن انتقل عد منقطعا. والمسئول به أدوات الاستفهام المعروفة وليكن مفهوما غير مبهم كأن يقول ما تقول في اشتقاق الاسم؟ فإن كان مبهما غير مفهوم لم يستحق الجواب كأن يقول: ما تقول في الاسم؟

مسألة في الدور

لأنه لا يدري: أسأل عن حده؟ أن اشتقاقه؟ أم غير ذلك؟. المسئول منه شرط كونه أهلا بأن يكون السؤال من أهل فن السؤال كانحوي عن النحو والتصريفي عن التصريف. وعليه أن يأخذ في ذكر الجواب بعد تعيين السؤال فإن سكت بعده كان قبيحا وكذلك إن ذكر الجواب وسكت عن ذكر الدليل زمنا طويلا كان قبيحا ولم يعد منقطعا لاحتمال أن يكون سكوته لتفكره في إيراد الدليل بعبارة أدل على الغرض. وقيل يعد منقطعا لأنه تصدى لمنصب الاستدلال فينبغي أن يكون الدليل معدا في نفسه. والمسئول عنه ينبغي أن يكون مما يمكن إدراكه كأنواع الحركات فإن كان لا يمكن إدراكه كأعداد جميع الألفاظ والكلمات الدالة على جميع المسميات كان فاسدا لتعذر إدراكه فلا يستحق الجواب عنه. والجواب: هو المطابق للسؤال من غير زيادة ولا نقصان فإن كان السؤال عاما وجب أن يكون الجواب عاما. وقال قوم: يجوز الفرض في بعض الصور كأن يسأل عن جواز تقديم خبر المبتدأ فله أن يفرض في المفرد وله أن يفرض في الجملة لأن من سأل عن الكل فقد سأل عن البعض. وقال آخرون لا يجوز في الجواب وإنما يجوز في الدليل لئلا يكون الجواب غير مطابق للسؤال ". انتهى. مسألة في الدور قال في الخصائص: " وذلك أن تؤدي الصنعة إلى حكم ما مثله أن يقتضي التغيير فإن أنت غيرت صرت إلى مراجعة مثل ما منه هربت فحينئذ يجب أن تقيم على أول رتبة.

مسألة في اجتماع ضدين

وذلك كأن تبني من (قويت) مثل (رسالة) فإنك تقول: قِواءة ثم تكسرها على (رسالة) ثم تبدل من الهمز الواو , لتطرفها بعد ألف ساكنة فتقول (قواو) فتجمع بين واوين مكتنفي ألف التكسير ولا حاجز بين الأخير والطرف. فإن أنت فررت من ذلك وقلت أهمز كما همزت في (أوائل) لزمك أن تقول: (قواء) كما كان أولا وتصير هكذا تبدل من الهمزة واو ثم من الواو همزة إلى مالا نهاية له. فإذا أدت الصنعة إلى نحو هذا وجبت الإقامة على أول رتبة ولا يعدل عنها. مسألة في اجتماع ضدين قال في الخصائص: " اعلم أن التضاد في هذه اللغة جار مجرى التضاد عند أهل الكلام فإذا ترادف الضدان في شيء منها كان الحكم للطارىء ويزول الأول وذلك كلام التعريف إذا دخلت على المنون يحذف لها تنوينه لأن اللام للتعريف ولاتنوين للتنكير فلما ترادفا على الكلمة تضادا فكان الحكم للطارىء وهو اللام. وهذا جار مجرى الضدين المترادفين على المحل الواحد كالأبيض يطرأ عليه السواد والساكن تطرأ عليه الحركة. وكذلك أيضا حذف التنوين للإضافة وحذف تاء التأنيث لياء النسب. مسألة في التسلسل قال الأندلسي في شرح المفصل: " من قال بأن العامل في الصفة مقدرا أجاز الوصف على زيد من قولك: جائني زيد العاقل وابتداء (العاقل) لأن تقديره عنده جاءني العاقل فكان جملة والجملة مستقلة فوجب أن يوقف ويبتدأ بها.

مسألة القياس جلي وخفي

وهذا فاسد يؤدي إلى التسلسل إذا قدر: جاءني العاقل والصفة لابد لها من موصوف فيكون التقدير: جاءني زيد العاقل ثم يقدر أيضا: جاءني العاقل ويكون التقدير أيضا: جاءني زيد العاقل وهكذا أبدا متى أولى العامل الصفة قدر بينهما موصوف ومتى استقل العامل بموصوف قدر مع الصفة عامل آخر إلى مالا يتناهى وذلك محال. فالمختار الذي عليه الجماعة والجمهور أنه لا يجوز الوقف على الموصوف دون الصفة " انتهى. مسألة القياس جلي وخفي فمن الأول: قياس حذف النون من المثنى في صلة الألف واللام على حذف النون من الجمع فيها فإن الأول لم يسمع بخلاف الثاني. قال أبو حيان: وقياس المثنى على الجمع قياس جلي. خاتمة اجتماع السماع والإجماع والقياس دليلا على مسألة قد يجتمع السماع والإجماع والقياس دليلا على مسألة قال في شرح التسهيل: يجوز دخول الباء في خبر (ما) التميمية خلافا للفارسي والزمخشري ويدل عليه السماع والقياس والإجماع أما السماع فلوجود ذلك في أشعار بني تميم ونثرهم.

وأما القياس فلأن الباء دخلت الخبر لكونه منفيا لا لكونه منصوبا بدليل دخولها بعد (ما) وبعد (هل) وأما الإجماع فنقله أبو جعفر الصفار ".

الكتاب الرابع في الاستصحاب

الكتاب الرابع في الاستصحاب قال ابن الأنباري: " هو إبقاء حال اللفظ على ما يستحقه في الأصل عند عدم دليل النقل على الأصل ". قال: " وهو من الأدلة المعتبرة كاستصحاب حال الأصل في الأسماء وهو الإعراب حتى يوجد دليل البناء وحال الأصل في الأفعال وهو البناء حتى يوجد دليل الإعراب ". وقال في الأنصاف: " احتج البصريون على عدم تركيب كم بأن الأصل الإفراد والتركيب فرع ومن تمسك بالأصل خرج عن عهدة المطالبة بالدليل. ومن عدل عن الأصل افتقر إلى إقامة دليل لعدوله عن الأصل واستصحاب الحال أحد الأدلة المعتبرة ". وقال في موضع آخر منه: " احتج البصريون على أنه لا يجوز الجر بحرف محذوف بلا عوض بأن قالوا: أجمعنا على أن الأصل في حروف الجر أن لا تعمل مع الحذف وإنما تعمل معه في بعض المواضع إذا كان لها عوض ولم

يوجد هنا فبقي فيما عداه على الأصل والتمسك بالأصل تمسك باستصحاب الحال وهو من الأدلة المعتبرة ". وقال ابن مالك: " من قال: أن كان وأخواتها لا تدل على على الحدث فهو مردود بأن الأصل في كل فعل الدلالة على المعنيين فلا يقبل إخراجها عن الأصل إلا بدليل ". قلت: والمسائل التي استدل فيها النحاة بالأصل كثيرة جدا لا تحصى كقولهم: الأصل في البناء السكون إلا لموجب تحريك والأصل في الحروف عدم الزيادة حتى يقوم الدليل عليها من الاشتقاق ونحوه والأصل في الأسماء الصرف والتنكير والتذكير وقبول الإصافة والإسناد. وقال الأندلسي في شرح المفصل: استدل الكوفيون على أن الضمير في لولاك ونحوه مرفوع بأن قالوا: أجمعنا على أن الظاهر الذي قام الضمير مقامه مرفوع فوجب أن يكون كذلك في الضمير بالقياس عليه والاستصحاب " وقال ابن الأنباري في أصوله: " استصحاب الحال من أضعف الأدلة ولهذا لا يجوز التمسك به ما وجد هناك دليل ألا ترى أنه لا يجوز التمسك به في إعراب الاسم مع وجود دليل البناء في شبه الحرف أو تضمين معناه وكذلك لا يجوز التمسك به في بناء الفعل مع وجود دليل الإعراب من مضارعته للاسم ". وقال في جدله: " الاعتراض على الاستدلال باستصحاب الحال بأن يذكر دليلا على زواله كأن يدل الكوفي على زواله إذا تمسك البصري به في بناء فعل الأمر فيبين أن فهل الأمر مقتطع من المضارع ومأخوذ منه والمضارع قد أشبه الأسماء وزال عنه استصحاب حال البناء وصار معربا بالشبه فكذلك فعل الأمر والجواب: أن يبين أن ما توهمه دليلا لم يوجد فبقي التمسك باستصحاب الحال صحيحا ".

الكتاب الخامس في أدلة شتى

الكتاب الخامس في أدلة شتى قال ابن الأنباري: " اعلم أن أنواع الاستدلال كثيرة لا تحصر منها (الاستدلال بالعكس) كأن يقال: لو كان نصب الظرف في خبر المبتدأ بالخلاف لكان ينبغي أن يكون الأول منصوبا لأن الخلاف لايكون من واحد من اثنين فلو كان الخلاف موجبا للنصب في الثاني لكان موجبا للنصب في الأول فلما لم يكن الأول منصوبا دل على أن الخلاف لا يكون موجبا للنصب في الثاني.

ومنها (الاستدلال ببيان العلة) قال ابن الأنباري وهو ضربان: أحدهما: أن يبين علة الحكم ويستدل بوجودها في موضع الخلاف ليوجد بها الحكم. والثاني: أن يبين العلة ثم يستدل بعدمها في موضع الخلاف ليعدم الحكم فالأول: كأن يستدل من أعمل اسم الفاعل في المضي , فيقول: إنما عمل اسم الفاعل في محل الإجماع لجريانه على حركة الفعل وسكونه وهذا جار على حركة الفعل وسكونه فوجب أن يكون عاملا. والثاني كأن يستدل من أبطل عمل (إن) المخففة من الثقيلة فيقول إنما عملت (إن) الثقيلة لشبهها بالفعل وقد عدم بالتخفيف فوجب ألا تعمل. (ومنها بعدم الدليل في الشيء على نفيه) قال ابن الأنباري: " وهذا إنما يكون فيما إذا ثبت لم بخف دليله فيستدل بعدم الدليل على نفيه كأن يستدل على نفي أن الكلمات أربعة وعلى نفي أن أنواع الإعراب خمسة فيقول: لو كانت الكلمات أربعة وأنواع الإعراب خمسة لكان على ذلك دليل لعرف مع كثرة البحث وشدة الفحص. فلما لم يعرف ذلك دل على أنه لا دليل فوجب ألا تكون الكلمات أربعة ولا أنواع الإعراب خمسة ".

الاستدلال بعدم النظير)

قال: وقد زعم بعضهم ان النافي لا دليل عليه وليس كذلك لأن الحكم بالنفي لا يكون إلا عن دليل كما أن الحكم بالإثبات لا يكون عن دليل فكما يجب الدليل على المثبت يجب أيضا على النافي ". ومنها (الاستدلال بالأصول) قال ابن الأنباري: " كأن يستدل على إبطال أن رفع المضارع لتجرده من الناصب والجازم بأن ذلك يؤدي إلى خلاف الأصول لأنه يؤدي إلى أن يكون الرفع بعد النصب والجزم وهذا خلاف الأصول لأن الأصول تدل على أن الرفع قبل النصب لأن الرفع صفة الفاعل والنصب صفة المفعول فكما أن الفاعل قبل المفعول فكذلك الرفع قبل النصب وكذلك تدل الأصول أيضا على أن الرفع قبل الجزم. فإن قيل: فهب أن الرفع في الأسماء قبل الجزم في الأفعال فلم قلتم: إن الرفع في الأفعال قبل الجزم؟ قلنا: لأن إعراب الأفعال فرع على إعراب الأسماء وإذا ثبت ذلك في الأصل فكذلك في الفرع , لأن الفرع يتبع الأصل ". ومنها (الاستدلال بعدم النظير) ولم يذكره ابن الأنباري وذكره ابن جني وهو كثير في كلامهم وإنما يكون دليلا على النفي لا على الإثبات. وقد استدل المازني ردا على من قال: إن السين وسوف ترفعان الفعل المضارع بأنا لم نر عاملا في الفعل يدخل عليه اللام وقد قال الله تعالى: " ولسوف يعطيك ربك ". قال في الخصائص: " وإنما يستدل بعدم النظير على النفي حيث لم

(الاستحسان)

يقم الدليل على الإثبات فإن قام لم يلتفت إليه لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس لا للحاجة. مثاله (أندلس) فإن همزته ونونه زائدتان فوزنه (أنفعل) وهو مثال لا نظير له لكن قام الدليل على ما ذكرنا لأن النون زائدة لا محالة إذ ليس في ذوات الخمسة شيء على (فعللل) فتكون النون فيه أصلا لوقوعها موقع العين وإذا ثبت زيادة النون بقي في الكلمة ثلاثة أحرف أصول: الدالو اللام والسين وفي أولها همزة ومتى وقع ذلك حكمت بزيادة الهمزة. ولا تكون النون أصلا والهمزة زائدة لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها نحو: مدحرج وبابه. فقد وجب إذن أن الهمزة والنون زائدتان وأن الكلمة بهما على أنفعل وإن كان مثالا لا نظير له. فإن اجتمع النظير والدليل فهو الغاية كنون (عنبر) فالدليل يقتضي كونها أصلا لأنها مقابلة لعين (جعفر) والنظير موجود وهو (فعلل) ". انتهى. وقال الخضراوي: " إذا ورد شيء حمل على القياس وإن لم يوجد له نظير ". ومنها (الاستحسان) قال في الخصائص: " ودلالته ضعيفة غير مستحكمة إلا أن فيه ضربا من الاتساع والتصرف. من ذلك تركك الأخف إلى الأثقل من غير ضرورة نحو: الفتوى والتقوى فإنهم قلبوا الياء هنا واومن غير علة قوية بل أرادوا الفرق بين الاسم والصفة في أشياء كثيرة لا يوجبون على أنفسهم الفرق بينهما فيها. من ذلك قولهم في تكسير حسن: حسان فهذا كجبل وجبال

وفي غفور غُفُر كعمود وعُمُد. ولسنا ندفع أن يكونوا فصلوا بين الاسم والصفة في أشياء غير هذه إلا أن جميع ذلك إنما هو استحسان لا عن ضرورة علة فليس بجار مجرى رفع الفاعل ونصب المفعول لأنه لو كان واجبا لجاء في جميع الباب مثله. ومن الاستحسان ما يخرج تنبيها على أصل بابه نحو: استحوذ و: أطولت الصدود ومطيبة للنفس ومنه ما يبقى الحكم فيه مع زوال علته كقوله: ولا تسأل الأقوام عقد الميثاق فإن الشائع في جمع ميثاق مواثق برد الواو إلى أصلها لزوال العلة الموجبة لقلبها ياء وهي الكسرة لكن استحسن هذا الشاعر ومن تابعه إبقاء القلب وإن زالت العلة من حيث إن الجمع تابع لمفرده إعلالا وتصحيحا. قال ابن جني: " وقياس تحقيره على هذه اللغة أن يقال: مييثيق ". ومنه ما ذكره صاحب البديع قال: " إذا اجتمع التعريف العلمي والتأنيث السماعي أو العجمة في ثلاثي ساكن الوسط كـ (هند) و (نوح) فالقياس منع الصرف والاستحسان الصرف لخفته ". وقال ابن الأنباري: " اختلفوا في الاخذ بالاستحسان فقال قوم إنه غير مأخوذ به لما فيه من التحكم وترك القياس.

(الاستقراء)

وقال آخرون: إنه مأخوذ به واختلفوا فيه: فقيل: هو ترك الأصول لدليل. وقيل: هو تخصيص العلة. فمثال ترك قياس الأصول ما تقدم في الكلام على رفع المضارع. ومثال تخصيص العلة أن تقول: إنما جمعت أرض بالواو والنون فقيل أرضون عوضا من حذف تاء التأنيث لأن الأصل أن يقال في أرض: أرضة فلما حذفت التاء جمعت بالواو والنون عوضا عنها , وهذه العلة غير مطردة لأنها تنقض بـ (شمس) و (دار) و (قدر) فإن الأصلا فيها: شمسة ودارة وقدرة ولا يجوز أن تجمع بالواو والنون " انتهى. ومنها (الاستقراء) استدلوا به في مواضع: منها: انحصار الكلمات الثلاث في الاسم والفعل والحرف. ومنها (الدليل المسمى بالباقي) كقولنا: الدليل يقتضي أن لا يدخل الفعل شيء من الإعراب لكون الأصل فيه البناء لعدم العلة المقتضية للإعراب. وقد خولف هذا الدليل في دخول الرفع والنصب على المضارع لعلة اقتضت ذلك فبقي الجر على الأصل الذي اقتضاه الدليل من الامتناع.

الكتاب السادس في التعارض والترجيح

الكتاب السادس في التعارض والترجيح فيه مسائل (المسألة الأولى) " إذا تعارض نقلان " قال ابن الأنباري: إذا تعارض نقلان أخذ بأرجحهما والترجيح في شيئين: أحدهما: الإسناد , والآخر المتن. فأما الترجيح بالإسناد فبأن يكون رواة أحدهما أكثر من الآخر أو أعلم أو أحفظ وذلك كأن يستدل الكوفي على النصب بـ (كما) بقول الشاعر: اسمع حديثا كما يوما تحدثه عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا

(المسألة الثانية) " تقوية لغة على أختها "

فيقول له البصري: الرواة اتفقوا على أن الرواية: كما يوما تحدثه بالرفع ولم يروه أحد بالنصب غير المفضل بن سلمة ومن رواه بالرفع أعلم منه وأحفظ وأكثر فكان الأخذ بروايتهم أولى. وأما الترجيح في المتن فبأن يكون أحد النقلين على وفق القياس والآخر على خلافه وذلك كأن يستدل الكوفي على إعمال (أن) مع الحذف بلا عوض بقول الشاعر: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى فيقول له البصري: قد روي (أحضر) بالرفع أيضا وهو على وفق القياس فكان الأخذ به أولى وبيان كون النصب على خلاف القياس أنه لا شيء من الحروف يعمل مضمرا بلا عوض. (المسألة الثانية) " تقوية لغة على أختها " قال في الخصائص: " اللغات على اختلافها حجة , ألا ترى أن لغة أهل الحجاز في إعمال (ما) ولغة بني تميم في تركه كل منهما يقبلها القياس فليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنها ليست أحق بذلك من الأخرى لكن غاية ما لك في ذلك أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسا بها فأما رد إحداهما بالأخرى فلا ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم:

(المسألة الثالثة) " اللغة الضعيفة أقوى من الشاذ "

" نزل القرآن بسبع لغات كلها شاف كاف " هذا إن كانت اللغتان في القياس سواء أو متقاربتين. فإن قلت إحداهما جدا وكثرت الأخرى جدا أخذت بأوسعهما رواية وأقواهما قياسا ألا ترى أنك لا تقول: المال لك ولا مررت بك قياسا على قول قضاعة المال له ومررت به ولا أكرمتكش قياسا على قول من قال: مررت بكش. فالواجب في مثل ذلك استعمال ما هو أقوى وأشيع ومع ذلك لو استعمله إنسان لم يكن مخطئا لكلام العرب فإن الناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطيء لكنه مخطيء لأجود اللغتين فإن احتاج لذلك في شعر أو سجع فإنه غير ملوم ولا منكر عليه ". انتهى وفي شرح التسهيل لأبي حيان: " كل ما كان لغة لقبيلة قيس عليه ". (المسألة الثالثة) " اللغة الضعيفة أقوى من الشاذ " إذا تعارض ارتكاب شاذ ولغة ضعيفة فارتكاب اللغة الضعيفة أولى من الشاذ ذكره ابن عصفور. (المسألة الرابعة) " الأخذ بأرجح القياسين عند تعارضهما " قال ابن الأنباري: " إذا تعارض قياسان أخذ بأرجحهما وهو ما وافق دليلا آخر من نقل أو قياس. فأما الموافقة للنقل فكما تقدم.

(المسألة الخامسة) " في تعارض القياس والسماع "

وأما الموافقة للقياس فكأن يقول الكوفي: إن (أن) تعمل في الاسم النصب لشبه الفعل ولا تعمل في الخبر الرفع بل الرفع فيه بما كان يرتفع به قبل دخولها. فيقول البصري: هذا فاسد لأنه ليس في كلام العرب عامل يعمل في الاسم النصب إلا ويعمل الرفع فما ذهبت إليه يؤدي إلى ترك القياس ومخالفة الأصول لغير فائدة وذلك لا يجوز ". (المسألة الخامسة) " في تعارض القياس والسماع " قال في الخصائص: " إذا تعارض القياس والسماع نطقت بالمسموع على ما جاء عليه ولم تقسه في غيره نحو: (استحوذ عليهم الشيطان) فهذا ليس بقياس لكنه لابد من قبوله لأنك إنما تنطق بلغتهم وتحتذي في جميع ذلك أمثلتهم , ثم أنك من بعد لا تقيس عليه غيره فلا تقول في استقام: استقوم ولا في استباع: استبيع ". (المسألة السادسة) " تقديم كثرة الاستعمال على قوة القياس " قال في الخصائص: " إذا تعارض قوة القياس وكثرة الاستعمال قدم ما كثر استعماله ولذلك قدمت اللغة الحجازية على التميمية لأن الأولى أكثر استعمالا ولذا نزل بها القرآن وإن كانت التميمية أقوى قياسا فمتى رابك في الحجازية ريب من تقديم أو تأخير فزعت إذ ذاك إلى التميمية ".

(المسألة السابعة) " في معارضة مجرد الاحتمال للأصل والظاهر "

(المسألة السابعة) " في معارضة مجرد الاحتمال للأصل والظاهر " قال في الخصائص: " باب في الشيء يرد فيوجب له القياس حكما ويجوز أن يأتي السماع بضده أنقطع أم نتوقف إلى أن يرد السماع بجلية حاله؟ قال: وذلك نحو: نون (عنبر) فالمذهب أن نحكم في نونه بأنها أصل لوقوعها موضع الأصل مع تجويزنا أن يرد دليل على زيادتها كما ورد في (عنسل) ما قطعنا به على زيادة نونه وكذلك ألف (آءة) حملها الخليل على أنها منقلبة عن واو حملا على الأكثر ولسنا ندفع مع ذلك أن يرد شيء من السماع نقطع معه بكونها منقلبة عن ياء ". وقال في موضع آخر: " باب في الحمل على الظاهر , وإن أمكن أن يكون المراد غيره حتى يرد ما يبين خلاف ذلك: إذا شاهدت ظاهرا يكون مثله أصلا أمضيت الحكم على ما شاهدت من حاله وإن أمكن أن يكون الأمر في باطنه بخلافه ولذلك حمل سيبويه (سيدا) على أنه مما عينه ياء فقال في تحقيره (سييد) عملا بظاهره مع توجه كونه فعلا مما عينه واو كـ (ريح) و (عيد) ". (المسألة الثامنة) " في تعارض الأصل والغالب " إذا تعارض أصل وغالب في مسألة جرى قولان والأصح العمل بالأصل كما في الفقه. ومن أمثلته في النحو ما ذكره صاحب الإفصاح: إذا وجد فعل العلم ولم يعلم أصرفوه أم لا؟ ولم يعلم له اشتقاق ولا قام عليه دليل

(المسألة التاسعة) "في تعارض أصلين"

ففيه مذهبان: مذهب سيبويه صرفه حتى يثبت أنه معدول لأن الأصل في الأسماء الصرف وهذا هو الأصح. ومذهب غيره المنع لأنه الأكثر في كلامهم. ومنها ما ذكره أبو حيان في (شرح التسهيل): أن رحمان ولحيان هل يصرف أو يمنع؟ مذهبان والصحيح صرفه لأنا قد جهلنا النقل فيه عن العرب والأصل في الأسماء الصرف فوجب العمل به. ووجه مقابله أن ما يوجد من فعلان الصفة غير مصروف في الغالب والمصروف منه قليل فكان الحمل على الغالب أولى. هذه عبارته. (المسألة التاسعة) "في تعارض أصلين" قال في الخصائص: والحكم في ذلك مراجعة الأصل الأقرب دون الأبعد. من ذلك قولهم في ضمة الذال من قولك: ما رأيته مذ اليوم فإن أصلها السكون فلما حركت لالتقاء الساكنين ضموها ولم يكسروها لأن أصلها الضم في منذ وإنما ضمت فيها لالتقاء الساكنين إتباعا لضمة الميم. فأصلها الأول وهو الأبعد السكون وأصلها الثاني وهو الأقرب الضم فضمت الذال من (مذ) عند التقاء الساكنين ردا إلى إلى الأصل الأقرب وهو ضم منذ دون الأبعد الذي هو سكونها قبل أن تحرك المقتضي مثله للكسر لا للضم

(المسألة العاشرة) "تعارض استصحاب الحال مع دليل آخر"

ومن ذلك قولهم بعت وقلت فهذه معاملة على الأصل الأقرب دون الأبعد لأن أصلهما فعل بفتح العين: بيع وقول ثم نقلا من فعَل إلى فعِل وفعُل ثم قلبت الواو والياء في فعلت ألفا فالتقى ساكنان: العين المعتلة المقلوبة ألفا ولام الفعل فحذفت العين للالتقائهما فصار التقدير: قلت وبعت ثم نقلت الضمة والكسرة إلى الفاء لأن أصلهما قبل القلب فعلت وفعلت فصار بعت وقلت مراجعة الأصل الأقرب ولو روجع الأبعد لقيل: قلت وبعت بفتح الفاء لأن أول أحوال هذه العين إنما هو الفتح الذي أبدل منه الضم والكسر ". (المسألة العاشرة) "تعارض استصحاب الحال مع دليل آخر" إن تعارض استصحاب الحال مع دليل آخر من سماع أو قياس فلا عبرة به. ذكره ابن الأنباري في كتابه. (المسألة الحادية عشر) "في تعارض قبيحين" قال في الخصائص: " إذا حضر عندك ضرورتان لابد من ارتكاب إحداهما فأت بأقربهما وأقلهما فحشا

(المسألة الثانية عشر) "المجمع عليه أولى من المختلف فيه"

وذلك كواو (ورتل) أنت فيها بين ضرورتين: إما أن تدعي كونها أصلا والواو لا تكون أصلا في ذوات الأربعة إلا مكررة كـ (الوصوصة) و (والوحوحة). وإما أن تتدعي كونها زائدة والواو لا تزاد أولا. فجعلها أصلا أولى من جعلها زائدة لأنها لا تكون أصلا في ذوات الأربعة في حالة ما وهي حالة التكرير وكونها زائدة أولا لا يوجد بحال. وكذلك إذا قلت: (فيها قائما رجل) لما كنت بين أن ترفع (قائما) فتقدم الصفة على الموصوف وهذا لايكون بحال وبين أن تنصبه حالا من النكرة وهو على قلته جائز حملت المسألة على الحال فنصبت ". انتهى. (المسألة الثانية عشر) "المجمع عليه أولى من المختلف فيه" إذا تعارض مجمع عليه ومختلف فيه فالأول أولى. مثال ذلك: إذا اضطر في الشعر إلى قصر ممدود أو مد مقصور فارتكاب الأول أولى لإجماع البصريين والكوفيين على جوازه ومنع البصريين الثاني. (المسألة الثالثة عشر) "تقديم المانع على المقتضي عند تعارضهما" إذا تعارض المانع والمقتضي قدم المانع

(المسألة الرابعة عشر) "في القولين لعالم واحد"

من ذلك ما وجد فيه سبب الإمالة ومانعها لا تجوز إمالته و (أي) وجد فيها سبب البناء وهو مشابهة الحرف ومنع منها لزومها للإضافة التي هي من خصائص الأسماء فامتنع البناء. والمضارع المؤكد بالنون وجد فيه سبب الإعراب ومنع منه النون التي هي من خصائص الأفعال. واسم الفاعل إذا وجد شرط إعماله وهو الاعتماد وعارضه المانع من تصغير أو وصف قبل العمل امتنع إعماله. (المسألة الرابعة عشر) "في القولين لعالم واحد" قال في الخصائص: "إذا ورد عن عالم في مسألة قولان فإن كان أحدهما مرسلا والآخر معللا أخذ بالمعلل وتؤول المرسل كقول سيبويه في غير موضع في التاء من (بنت وأخت) إنها للتأنيث. وقال في باب ما لا ينصرف إنها ليست للتأنيث وعلله بأن ما قبلها ساكن وتاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها ساكنا إلا أن يكون ألفا كفتاة وقناة وحصاة والباقي كلع مفتوح كرطبة وعنبة وعلامة ونسابة. قال فلو سميت رجلا بـ (بنت) و (أخت) لصرفته. قال ابن جني: فمذهبه الثاني وقوله للتأنيث محمول على التجوز لأنها لا توجد في الكلمة إلا في حال التأنيث وتذهب بذهابه لا أنها في نفسها

زائدة للتأنيث بل أصل كتاء (عفريت وملكوت) فإنها بدل لام (أخ وابن) إذ أصلهما: أخو وبنو. وإن لم يعلل واحدا منهما نظر إلى الأليق بمذهبه والأجرى على قوانينه فيعتمد ويتأول الآخر إن أمكن كقول سيبويه: (حتى) الناصبة للفعل وقوله: إنها حرف جر فإنهما متنافيان إذ عوامل الأسماء لا تباشر الأفعال فضلا عن أن تعمل فيها وقد عد الحروف الناصبة للفعل ولم يذكر فيها (حتى) فعلم بذلك أن (أن) مضمرة عنده بعد (حتى) كما تضمر مع اللام الجارة في نحو (ليغفر لك الله). وإن لم يمكن التأويل فإن نص فإن نص في أحدهما على الرجوع عن الآخر علم أنه رأيه والآخر مطرح وإن لم ينص بحث عن تاريخهما وعمل بالمتأخر والأول مرجوع عنه. فإن لم يعلم التاريخ وجب سبر المذهبين والفحص عن حال القولين فإن كان أحدهما أقوى نسب إليه أنه قوله إحسانا للظن به وأن الآخر مرجوع عنه. وإن تساويا في القوة وجب أن يعتقد أنهما رأيان له وأن الدواعي إلى تساويهما عند الباحث عنهما هي الدواعي التي دعت القائل بهما إلى أن اعتقد كلا منهما. وكان أبو الحسن الأخفش يقع له ذلك كثيرا حتى أن أبا علي {الفارسي} كان إذا عرض له قول عنه يقول: لابد من النظر في إلزامه إياه لأن مذاهبه كثيرة. وكان أبو علي يقول في (هيهات): أنا أفتي مرة بكونها اسما للفعل كـ (صه ومه) وأفتي مرة بكونها ظرفا على قدر ما يحضرني في الحال. قال أبو علي: وقلت لأبي عبد الله البصري يوما: أنا أعجب من هذا الخاطر في حضوره تارة ومغيبه أخرى وهذا يدل على أنه لابد من تقديم النظر النظر ". انتهى كلام (الخصائص) ملخصا.

(المسألة الخامسة عشر) "فيما رجحت به لغة قريش على غيرها"

(المسألة الخامسة عشر) "فيما رجحت به لغة قريش على غيرها" قال الفراء: كانت العرب تحضر الموسم في كل عام وتحج البيت في الجاهلية وقريش يسمعون جميع لغات العرب فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به فصاروا أفصح العرب وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ. من ذلك الكشكشة وهي في ربيعة ومضر يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شينا فيقولون رأيتكش وبكش وعليكش. فمنهم من يثبتها حال الوقف فقط وهو الأشهر ومنهم من يثبتها في الوصل أيضا ومنهم من يجعلها مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكنها في الوقف فيقول منش وعليش. ومن ذلك الكسكسة وهي في ربيعة ومضر يجعلون بعد الكاف أو مكانها في المذكر سينا على ما تقدم وقصدوا بذلك الفرق بينهما. ومن ذلك العنعنة وهي في كثير من العرب في لغة قيس وتميم يجعلون الهمزة المبدوء بها عينا فيقولون في إنك: عنك وفي أسلم: عسلم وفي إذن: عذن.

ومن ذلك الفحفحة في لغة هذيل يجعلون الحاء عينا. ومن ذلك الوكم في لغة ربيعة وقوم من كلب يقولون عليكم عليكم وبكم حيث كان قبل الكاف ياء أو كسرة. ومن ذلك العجعجة في قضاعة يجعلون الياء المشددة جيما يقولون في تميمي: تميمج. ومن ذلك الاستنطاء لغة سعد بن بكر وهذيل والأزد وقيس والانصار يجعلون العين الساكنة نونا إذا جاورت الطاء كـ (أنطى) في (أعطى).

(المسألة السادسة عشرة) "في الترجيح بين مذهب الكوفيين والبصريين "

ومن ذلك الوتم في لغة اليمن تجعل السين تاء كـ (النات) في (الناس). ومن ذلك الشنشنة في لغة اليمن تجعل الكاف شينا مطلقا كـ (لبيش اللهم لبيش) أي لبيك. ومن العرب من يجعل الكاف جيما كـ (الجعبة) يريد الكعبة. أورده ياقوت في معجم الأدباء. (المسألة السادسة عشرة) "في الترجيح بين مذهب الكوفيين والبصريين " اتفقوا على أن البصريين أصح قياسا لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع ولا يقيسون على الشاذ والكوفيين أوسع رواية. قال ابن جني: " الكوفيون علامون بأشعار العرب مطلعون عليها ". وقال أبو حيان في مسألة العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار: الذي يختار جوازه لوقوعه في كلام العرب كثيرا نظما ونثرا ". وقال: " ولسنا متعبدين باتباع مذهب البصريين بل نتبع الدليل ".

وقال الأندلسي في (شرح المفصل): " الكوفيون لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه بخلاف البصريين ". قال: " ومما افتخر به البصريون على الكوفيون أن قالوا: نحن نأخذ اللغة من حوشة الضباب وأكلة اليرابيع وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواء وباعة الكواميخ ".

الكتاب السابع في أحوال مستنبط هذا العلم ومستخرجه

الكتاب السابع في أحوال مستنبط هذا العلم ومستخرجه فيه مسائل المسألة الأولى في أول من وضع النحو والتصريف اشتهر أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لأبي الأسود. قال الفخر الرازي في كتابه (المحرر في النحو): " رسم علي رضي الله عنه لأبي الأسود باب (إن) وباب الإضافة وباب الإمالة ثم صنف أبو الأسود باب العطف وباب النعت ثم صنف باب التعجب وباب الاستفهام. وتطابقت الروايات على أن أول من وضع النحو أبو الأسود وأنه أخذه أولا عن علي.

واتفقوا على أن معاذا الهراء أول من وضع التصريف وكان تخرج بأبي الأسود. ثم خلف أبو الأسود خمسة: عنبسة الفيل وميمون الأقرن ويحيى بن يعمر وابنا أبي الأسود: عطاء وأبو حرب. ثم خلف هؤلاء عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وأبو عمر بن العلاء. ثم خلفهم الخليل بن أحمد ففاق من كان قبله ولم يدركه أحد بعده , أخذ عن عيسى وتخرج بابن العلاء ثم أخذ عنه سيبويه وجمع العلوم التي استفاد منه في كتابه فجاء كتابه أحسن من كل كتاب صتف فيه. وأما الكسائي فقد خدم أبا عمرو بن العلاء نحو من سبع عشرة سنة لكنه لاختلاطه بأعراب الأبلة فسد علمه ولذلك احتاج إلى قراءة كتاب سيبويه

المسألة الثانية شرط المستنبط

على الأخفش وهو مع ذلك إمام الكوفيين وما ظنك برجل إمامه الفراء؟! ثم صار الناس بعد ذلك فرقتين: بصريا وكوفيا " انتهى. وقال ثعلب في (أماليه): " قال أبو المنهال: أئمة البصرة في النحو وكلام العرب ثلاثة: أبو العمر بن العلاء وهو أول من وضع أبواب النحو , ويونس بن حبيب , وأبو زيد الأنصاري وهو أوثق هؤلاء كلهم وأكثرهم سماعا من فصحاء العرب سمعته يقول: ما أقول: قالت العرب إلا إذا سمعته من عجز هوازن. وفي رواية أخرى: إلا إذا سمعته من هؤلاء: بكر بن هوزان , وبني كلاب , وبني هلال , أو من عالية السافلة , أو من سافلة العالية , وإلا لم أقل: قالت العرب. المسألة الثانية شرط المستنبط شرط المستنبط لشيء من مسائل هذا العلم , المرتقي عن رتبة التقليد أن يكون عالما بلغة العرب , محيطا بكلامها , مطلعا على نثرها ونظمها, ويكفي في ذلك الرجوع إلى الكتب المؤلفة في اللغات والأبنية, وإلى الدواوين الجامعة لأشعار العرب, وأن يكون خبيرا بصحة نسبة ذلك إليهم, لئلا يدلس عليهم شعر مولد, أو غير مصنوع عالما بأحوال الرواة, ليعلم المقبول روايته من غيره, وبإجماع النحاة كيلا يخرق وبالخلاف , كيلا يحدث قولا زائدا خارقا, إذا قلنا بامتناع ذلك.

المسألة الثالثة طريقة ابن مالك في النحو

المسألة الثالثة طريقة ابن مالك في النحو لابن مالك في النحو طريقة سلكها بين طريقي البصريين والكوفيين , فإن مذهب الكوفيين القياس على الشاذ, ومذهب البصريين اتباع التأويلات البعيدة التي خالفها الظاهر. وابن مالك يعلم بوقوع ذلك من غير حكم عليه بقياس, ولا تأويل , بل بل يقول: إنه شاذ , أو ضرورة, كقوله في التمييز: والفعل ذو التصريف نزرا سبقا وقوله في مد المقصور: والعكس في شعر يقع قال ابن هشام: وهذه الطريقة طريقة المحققين, وهي أحسن الطريقتين. المسألة الرابعة ترك القياس بالسماع قال في الخصائص: "إذ أداك القياس إلى شيء ما ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه". ا. هـ وهذا يشبه من أصول الفقه نقض الاجتهاد, إذا بان النص بخلافه. [تم كتاب الاقتراح بحمد الله]

§1/1