الاعتصام للشاطبي ت الهلالي

الشاطبي، إبراهيم بن موسى

مقدمة المؤلف

[مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ] [مَعْنَى حَدِيثِ " بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا "] الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَحْمُودِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، الَّذِي بِحَمْدِهِ يُسْتَفْتَحُ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ، خَالِقِ الْخَلْقِ لِمَا شَاءَ، وَمُيَسِّرِهِمْ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ، لَا عَلَى وَفْقِ أَغْرَاضِهِمْ لِمَا سَرَّ وَسَاءَ، وَمُصَرِّفِهِمْ بِمُقْتَضَى الْقَبْضَتَيْنِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، وَهَدَاهُمُ النَّجْدَيْنِ فَمِنْهُمْ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ، وَمُسَوِّيهِمْ عَلَى قَبُولِ الْإِلْهَامَيْنِ فَفَاجِرٌ وَتَقِيٌّ، كَمَا قَدَّرَ أَرْزَاقَهُمْ بِالْعَدْلِ عَلَى حُكْمِ الطَّرَفَيْنِ فَفَقِيرٌ وَغَنِيٌّ، كُلٌّ مِنْهُمْ جَارٍ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ فَلَا يَعْدُوهُ، فَلَوْ تَمَالَئُوا عَلَى أَنْ يَسُدُّوا ذَلِكَ الْفَتْقَ لَمْ يَسُدُّوهُ، أَوْ يَرُدُّوا ذَلِكَ الْحُكْمَ السَّابِقَ لَمْ يَنْسَخُوهُ وَلَمْ يَرُدُّوهُ، فَلَا إِطْلَاقَ لَهُمْ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَلَا انْفِصَالَ، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15]. وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، وَكَاشِفِ الْغُمَّةِ، الَّذِي نَسَخَتْ شَرِيعَتُهُ كُلَّ شَرِيعَةٍ، وَشَمَلَتْ دَعْوَتُهُ كُلَّ أُمَّةٍ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ دُونَ حُجَّتِهِ، وَلَا اسْتَقَامَ لِعَاقِلٍ طَرِيقٌ سِوَى لَاحِبِ مَحَجَّتِهِ، وَجَمَعَتْ تَحْتَ حِكْمَتِهَا كُلَّ مَعْنًى مُؤْتَلِفٍ، فَلَا يُسْمَعُ بَعْدَ وَضْعِهَا خِلَافُ مُخَالِفٍ وَلَا قَوْلُ مُخْتَلِفٍ، فَالسَّالِكُ سَبِيلَهَا مَعْدُودٌ فِي الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ،

وَالنَّاكِبُ عَنْهَا مَصْدُودٌ إِلَى الْفِرَقِ الْمُقَصِّرَةِ أَوِ الْفِرَقِ الْغَالِيَةِ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِشَمْسِهِ الْمُنِيرَةِ، وَاقْتَفَوْا آثَارَهُ اللَّائِحَةَ وَأَنْوَارَهُ الْوَاضِحَةَ وُضُوحَ الظَّهِيرَةِ، وَفَرَّقُوا بِصَوَارِمِ أَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ بَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ فَاجِرَةٍ وَمَبْرُورَةٍ، وَبَيْنَ كُلِّ حُجَّةٍ بَالِغَةٍ وَحُجَّةٍ مُبِيرَةٍ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ السَّبِيلِ، سَائِرِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى ذَلِكَ الْقَبِيلِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أُذَكِّرُكَ أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْأَوْفَى، وَالْخَالِصَةُ الْأَصْفَى، فِي مُقَدِّمَةٍ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا، كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ».

وَهَذَا مُجْمَلٌ، وَلَكِنَّهُ مُبَيَّنٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَجَاءَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ حِينَ يَفْسُدُ النَّاسُ». وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ وَهْبٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُمْسِكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ حِينَ يُتْرَكُ، وَيَعْمَلُونَ بِالسُّنَّةِ حِينَ تُطْفَى». وَفِي رِوَايَةٍ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى

لِلْغُرَبَاءِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَكُونُ غَرِيبًا؟ قَالَ: كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ فِي حَيِّ كَذَا وَكَذَا: إِنَّهُ لَغَرِيبٌ». وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْغُرَبَاءِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَمَاتَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي».

وَجُمْلَةُ الْمَعْنَى فِيهِ مِنْ جِهَةِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ مَا ظَهَرَ بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَآخِرِهِ: وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَفِي جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ، لَا تَعْرِفُ مِنَ الْحَقِّ رَسْمًا، وَلَا تُقِيمُ بِهِ فِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ حُكْمًا، بَلْ كَانَتْ تَنْتَحِلُ مَا وَجَدَتْ عَلَيْهِ آبَاءَهَا، وَمَا اسْتَحْسَنَهُ أَسْلَافُهَا، مِنَ الْآرَاءِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَالنِّحَلِ الْمُخْتَرَعَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْمُبْتَدَعَةِ. فَحِينَ قَامَ فِيهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فَسُرْعَانَ مَا عَارَضُوا مَعْرُوفَهُ بِالنُّكْرِ، وَغَيَّرُوا فِي وَجْهِ صَوَابِهِ بِالْإِفْكِ، وَنَسَبُوا إِلَيْهِ إِذْ خَالَفَهُمْ فِي الشِّرْعَةِ وَنَابَذَهُمْ فِي النِّحْلَةِ كُلَّ مُحَالٍ، وَرَمَوْهُ بِأَنْوَاعِ الْبُهْتَانِ، فَتَارَةً يَرْمُونَهُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، الَّذِي لَمْ يُجَرِّبُوا عَلَيْهِ قَطُّ خَبَرًا بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ، وَآوِنَةً يَتَّهِمُونَهُ بِالسِّحْرِ وَفِي عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مِمَّنْ يَدَّعِيهِ، وَكَرَّةً يَقُولُونَ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ بِكَمَالِ عَقْلِهِ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ وَخَبَلِهِ.

وَإِذَا دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ الصَّادِقَةِ: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65]. وَإِذَا أَنْذَرَهُمْ بَطْشَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَنْكَرُوا مَا يُشَاهِدُونَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِمْكَانِهِ، (وَقَالُوا {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3]. وَإِذَا خَوَّفَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ، قَالُوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، اعْتِرَاضًا عَلَى صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَإِذَا جَاءَهُمْ بِآيَةٍ خَارِقَةٍ; افْتَرَقُوا فِي الضَّلَالَةِ عَلَى فِرَقٍ، وَاخْتَرَقُوا فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْعِنَادِ مَا لَا يَقْبَلُهُ أَهْلُ التَّهَدِّي إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. كُلُّ ذَلِكَ دُعَاءٌ مِنْهُمْ إِلَى التَّأَسِّي بِهِمْ وَالْمُوَافَقَةِ لَهُمْ عَلَى مَا يَنْتَحِلُونَ، إِذْ رَأَوْا خِلَافَ الْمُخَالِفِ لَهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ رَدًّا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَنَبْذًا لِمَا شَدُّوا عَلَيْهِ يَدَ الظِّنَّةِ، وَاعْتَقَدُوا إِذْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِدَلِيلٍ أَنَّ الْخِلَافَ يُوهِنُ الثِّقَةَ وَيُقَبِّحُ جِهَةَ الِاسْتِحْسَانِ، وَخُصُوصًا حِينَ اجْتَهَدُوا فِي الِانْتِصَارِ بِعِلْمٍ فَلَمْ يَجِدُوا أَكْثَرَ مِنْ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ.

وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ: {مَا تَعْبُدُونَ - قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ - قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ - أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ - قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 70 - 74] فَحَادُوا كَمَا تَرَى عَنِ الْجَوَابِ الْقَاطِعِ الْمُورَدِ مَوْرِدَ السُّؤَالِ إِلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ - بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 21 - 22]. فَرَجَعُوا عَنْ جَوَابِ مَا أُلْزِمُوا إِلَى التَّقْلِيدِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24]، فَأَجَابُوا بِمُجَرَّدِ الْإِنْكَارِ، رُكُونًا إِلَى مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّقْلِيدِ، لَا بِجَوَابِ السُّؤَالِ. فَكَذَلِكَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَرُوا مَا تَوَقَّعُوا مَعَهُ زَوَالَ مَا بِأَيْدِيهِمْ; لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مُعْتَادِهِمْ، وَأَتَى بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. حَتَّى أَرَادُوا أَنْ يَسْتَنْزِلُوهُ عَلَى وَجْهِ السِّيَاسَةِ فِي زَعْمِهِمْ، لِيُوقِعُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ [ـهُ] الْمُؤَالَفَةَ وَالْمُوَافَقَةَ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَيَقْنَعُوا مِنْهُ بِذَلِكَ; لِيَقِفَ لَهُمْ بِتِلْكَ الْمُوَافَقَةِ وَاهِي بِنَائِهِمْ، فَأَبَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا الثُّبُوتَ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى خَالِصِ الصَّوَابِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ:

{قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَنَصَبُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ حَرْبَ الْعَدَاوَةِ، وَرَمَوْهُ بِسِهَامِ الْقَطِيعَةِ، وَصَارَ أَهْلُ السِّلْمِ كُلُّهُمْ حَرْبًا عَلَيْهِ، [وَ] عَادَ الْوَلِيُّ الْحَمِيمُ عَلَيْهِ كَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ مُوَالَاتِهِ، كَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ، وَأَلْصَقُهُمْ بِهِ رَحِمًا كَانُوا أَقْسَى قُلُوبًا عَلَيْهِ. فَأَيُّ غُرْبَةٍ تُوَازِي هَذِهِ الْغُرْبَةَ؟! وَمَعَ ذَلِكَ; فَلَمْ يَكِلْهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا سَلَّطَهُمْ عَلَى النَّيْلِ مِنْ أَذَاهُ، إِلَّا نَيْلَ الْمَصْلُوفِينَ، بَلْ حَفِظَهُ وَعَصَمَهُ، وَتَوَلَّاهُ بِالرِّعَايَةِ وَالْكِلَاءَةِ، حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ. ثُمَّ مَا زَالَتِ الشَّرِيعَةُ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِهَا، وَعَلَى تَوَالِي تَقْرِيرِهَا تُبْعِدُ بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، وَتَضَعُ الْحُدُودَ بَيْنَ حَقِّهَا وَبَيْنَ مَا ابْتَدَعُوا، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْحِكْمَةِ عَجِيبٍ، وَهُوَ التَّأْلِيفُ بَيْنَ أَحْكَامِهَا وَبَيْنَ أَكَابِرِهِمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ الْأَوَّلِ الْأَصِيلِ، فَفِي الْعَرَبِ نِسْبَتُهُمْ إِلَى أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي غَيْرِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمُ الْمَبْعُوثِينَ فِيهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90].

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} [الشورى: 13]. وَمَا زَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو لَهَا، فَيَئُوبُ إِلَيْهِ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ عَلَى حُكْمِ الِاخْتِفَاءِ، خَوْفًا مِنْ عَادِيَةِ الْكُفَّارِ زَمَانَ ظُهُورِهِمْ عَلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ. فَلَمَّا اطَّلَعُوا عَلَى الْمُخَالَفَةِ أَنِفُوا وَقَامُوا وَقَعَدُوا: فَمِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ لَجَأَ إِلَى قَبِيلِهِ، فَحَمَوْهُ عَلَى إِغْمَاضٍ، أَوْ عَلَى دَفْعِ الْعَارِ فِي الْإِخْفَارِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ مِنَ الْإِذَايَةِ وَخَوْفِ الْغِرَّةِ، هِجْرَةً إِلَى اللَّهِ وَحُبًّا فِي الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَزِرٌ يَحْمِيهِ، وَلَا مَلْجَأٌ يَرْكَنُ إِلَيْهِ، فَلَقِيَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْعَذَابِ أَوِ الْقَتْلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، حَتَّى زَلَّ مِنْهُمْ مَنْ زَلَّ فَرَجَعَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ الرُّجُوعِ - إِلَى الْمُوَافَقَةِ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّخْصَةَ فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ ظَاهِرًا، لِيَحْصُلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاطِقِ الْمُوَافَقَةُ وَتَزُولَ الْمُخَالَفَةُ، فَنَزَلَ إِلَيْهَا مَنْ نَزَلَ عَلَى حُكْمِ التَّقِيَّةِ، رَيْثَمَا يَتَنَفَّسُ مِنْ كَرْبِهِ وَيَتَرَوَّحُ مِنْ خِنَاقِهِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. وَهَذِهِ غُرْبَةٌ أَيْضًا ظَاهِرَةٌ. وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَوَاقِعِ الْحِكْمَةِ، وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحَقُّ ضِدَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَمَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ، فَلَوْ عَلِمُوا لَحَصَلَ الْوِفَاقُ، وَلَمْ يُسْمَعِ الْخِلَافُ، وَلَكِنَّ سَابِقَ الْقَدَرِ حَتَّمَ عَلَى الْخَلْقِ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118]. ثُمَّ اسْتَمَرَّ مَزِيدُ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَقَامَ طَرِيقُهُ عَلَى مُدَّةِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وَأَكْثَرِ قَرْنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِلَى أَنْ نَبَغَتْ فِيهِمْ نَوَابِغُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ، وَأَصْغَوْا إِلَى الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ، كَبِدْعَةِ الْقَدَرِ، وَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، وَهِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ» ; يَعْنِي: لَا يَتَفَقَّهُونَ فِيهِ، بَلْ يَأْخُذُونَهُ عَلَى الظَّاهِرِ; كَمَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي بِحَوْلِ اللَّهِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي آخِرِ عَهْدِ الصَّحَابَةِ. ثُمَّ لَمْ تَزَلِ الْفِرَقُ تَكْثُرُ حَسْبَمَا وَعَدَ بِهِ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي قَوْلِهِ: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً».

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ، لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟» وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَهَذَا الثَّانِي عَامٌّ فِي الْمُخَالَفَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ. وَكُلُّ صَاحِبِ مُخَالَفَةٍ، فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ إِلَيْهَا، وَيَخُصَّ سُؤَالَهُ بَلْ سِوَاهُ عَلَيْهَا، إِذِ التَّأَسِّي فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَذَاهِبِ مَوْضُوعٌ طَلَبُهُ فِي الْجِبِلَّةِ، وَبِسَبَبِهِ تَقَعُ فِي الْمُخَالِفِ الْمُخَالَفَةُ وَتَحْصُلُ مِنَ الْمُوَافِقِ الْمُؤَالَفَةُ، وَمِنْهُ تَنْشَأُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ لِلْمُخْتَلِفِينَ. كَانَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِهِ وَجِدَّتِهِ مُقَاوِمًا بَلْ ظَاهِرًا، وَأَهْلُهُ غَالِبُونَ، وَسَوَادُهُمْ أَعْظَمُ الْأَسْوِدَةِ، فَخَلَا مِنْ وَصْفِ الْغُرْبَةِ بِكَثْرَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْلِيَاءِ النَّاصِرِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ - مِمَّنْ لَمْ يَسْلُكْ سَبِيلَهُمْ، أَوْ سَلَكَهُ وَلَكِنَّهُ

ابْتَدَعَ فِيهِ - صَوْلَةٌ يَعْظُمُ مَوْقِعُهَا، وَلَا قُوَّةٌ يَضْعُفُ دُونَهَا حِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ، فَصَارَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَجَرَى عَلَى اجْتِمَاعٍ وَاتِّسَاقٍ، فَالشَّاذُّ مَقْهُورٌ مُضْطَهَدٌ، إِلَى أَنْ أَخَذَ اجْتِمَاعُهُ فِي الِافْتِرَاقِ الْمَوْعُودِ، وَقُوَّتُهُ إِلَى الضَّعْفِ الْمُنْتَظَرِ، وَالشَّاذُّ عَنْهُ تَقْوَى صَوْلَتُهُ وَيَكْثُرُ سَوَادُهُ، وَاقْتَضَى سِرُّ التَّأَسِّي الْمُطَالَبَةَ بِالْمُوَافَقَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَالِبَ أَغْلَبُ، فَتَكَالَبَتْ عَلَى سَوَادِ السُّنَّةِ الْبِدَعُ وَالْأَهْوَاءُ، فَتَفَرَّقَ أَكْثَرُهُمْ شِيَعًا. وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ; أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ فِي جَنْبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ قَلِيلٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وَلِيُنْجِزَ اللَّهُ مَا وَعَدَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَوْدِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْغُرْبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ فَقْدِ الْأَهْلِ أَوْ قِلَّتِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يَصِيرُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَتَصِيرُ السُّنَّةُ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، فَيُقَامُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ بِالتَّثْرِيبِ وَالتَّعْنِيفِ، كَمَا كَانَ أَوَّلًا يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ; طَمَعًا مِنَ الْمُبْتَدِعِ أَنْ تَجْتَمِعَ كَلِمَةُ الضَّلَالِ، وَيَأْبَى اللَّهُ أَنْ تَجْتَمِعَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَلَا تَجْتَمِعُ الْفِرَقُ كُلُّهُا عَلَى كَثْرَتِهَا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ عَادَةً وَسَمْعًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَثْبُتَ جَمَاعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لِكَثْرَةِ مَا تُنَاوِشُهُمُ الْفِرَقُ الضَّالَّةُ وَتُنَاصِبُهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ; اسْتِدْعَاءً إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ، لَا يَزَالُونَ فِي جِهَادٍ وَنِزَاعٍ، وَمُدَافَعَةٍ وَقِرَاعٍ، آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِذَلِكَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الْأَجْرَ الْجَزِيلَ وَيُثِيبُهُمْ

الثَّوَابَ الْعَظِيمَ. فَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مُطَالَبَةَ الْمُخَالَفَةِ بِالْمُوَافَقَةِ جَارٍ مَعَ الْأَزْمَانِ، لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَمَنْ وَافَقَ; فَهُوَ عِنْدَ الْمُطَالِبِ الْمُصِيبُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، وَمَنْ خَالَفَ; فَهُوَ الْمُخْطِئُ الْمُصَابُ، وَمَنْ وَافَقَ; فَهُوَ الْمَحْمُودُ السَّعِيدُ، وَمَنْ خَالَفَ; فَهُوَ الْمَذْمُومُ الْمَطْرُودُ، وَمَنْ وَافَقَ، فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ، وَمَنْ خَالَفَ: فَقَدْ تَاهَ فِي طُرُقِ الضَّلَالَةِ وَالْغِوَايَةِ. وَإِنَّمَا قَدَّمْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لِمَعْنًى أَذْكُرُهُ: وَذَلِكَ أَنِّي وَلِلَّهِ الْحَمْدُ لَمْ أَزَلْ مُنْذُ فَتَقَ لِلْفَهْمِ عَقْلِي، وَوُجِّهَ شَطْرَ الْعِلْمِ طَلَبِي أَنْظُرُ فِي عَقْلِيَّاتِهِ وَشَرْعِيَّاتِهِ، وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، لَمْ أَقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى عِلْمٍ دُونَ عِلْمٍ، وَلَا أَفْرَدْتُ عَنْ أَنْوَاعِهِ نَوْعًا دُونَ آخَرَ، حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ، وَأَعْطَتْهُ الْمِنَّةُ الْمَخْلُوقَةُ فِي أَصْلِ فِطْرَتِي، بَلْ خُضْتُ فِي لُجَجِهِ خَوْضَ الْمُحْسِنِ لِلسِّبَاحَةِ، وَأَقْدَمْتُ فِي مَيَادِينِهِ إِقْدَامَ الْجَرِيءِ، حَتَّى كِدْتُ أَتْلَفُ فِي بَعْضِ أَعْمَاقِهِ، أَوْ أَنْقَطِعُ فِي رُفْقَتِي الَّتِي بِالْأُنْسِ بِهَا تَجَاسَرْتُ عَلَى مَا قُدِّرَ لِي، غَائِبًا عَنْ مَقَالِ الْقَائِلِ وَعَذْلِ الْعَاذِلِ، وَمُعْرِضًا عَنْ صَدِّ الصَّادِّ وَلَوْمِ اللَّائِمِ، إِلَى أَنْ مَنَّ عَلَيَّ الرَّبُّ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ، فَشَرَحَ لِي مِنْ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِي، وَأَلْقَى فِي نَفْسِي الْقَاصِرَةِ: أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ لَمْ يَتْرُكَا فِي سَبِيلِ الْهِدَايَةِ لِقَائِلٍ مَا يَقُولُ وَلَا أَبْقَيَا لِغَيْرِهِمَا مَجَالًا يُعْتَدُّ فِيهِ، وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ، وَالسَّعَادَةَ الْكُبْرَى فِيمَا وَضَعَ، وَالطِّلْبَةَ فِيمَا شَرَعَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضَلَالٌ وَبُهْتَانٌ وَإِفْكٌ وَخُسْرَانٌ، وَأَنَّ الْعَاقِدَ عَلَيْهِمَا بِكِلْتَا يَدَيْهِ مُسْتَمْسِكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى مُحَصِّلٌ لِكَلِمَتَيِ الْخَيْرِ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَمَا

سِوَاهُمَا فَأَحْلَامٌ وَخَيَالَاتٌ وَأَوْهَامٌ، وَقَامَ لِي عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْبُرْهَانُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ تُطْرَقُ حَوْلَ حِمَاهُ، وَلَا تَرْتَمِي نَحْوَ مَرْمَاهُ: {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38]، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالشُّكْرُ كَثِيرًا كَمَا هُوَ أَهْلُهُ. فَمِنْ هُنَالِكَ قَوِيَتْ نَفْسِي عَلَى الْمَشْيِ فِي طَرِيقِهِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ فِيهِ، فَابْتَدَأْتُ بِأُصُولِ الدِّينِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا، ثُمَّ بِفُرُوعِهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ أَتَبَيَّنُ مَا هُوَ مِنَ السُّنَنِ أَوْ مِنَ الْبِدَعِ، كَمَا أَتَبَيَّنُ مَا هُوَ مِنَ الْجَائِزِ وَمَا هُوَ مِنَ الْمُمْتَنِعِ، وَأَعْرِضُ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ، ثُمَّ أُطَالِبُ نَفْسِي بِالْمَشْيِ مَعَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَتَرْكِ الْبِدَعِ

الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا بِدَعٌ وَأَعْمَالٌ مُخْتَلِفَةٌ. وَكُنْتُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ قَدْ دَخَلْتُ فِي بَعْضِ خُطَطِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْخَطَابَةِ وَالْإِمَامَةِ وَنَحْوِهَا، فَلَمَّا أَرَدْتُ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى طَرِيقٍ; وَجَدْتُ نَفْسِي غَرِيبًا فِي جُمْهُورِ أَهْلِ الْوَقْتِ; لِكَوْنِ خُطَطِهِمْ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْعَوَائِدُ، وَدَخَلَتْ عَلَى سُنَنِهَا الْأَصْلِيَّةِ شَوَائِبُ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ الزَّوَائِدِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِدْعًا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا هَذَا؟! فَقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ: كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ مَا عَرَفَ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا الصَّلَاةَ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فَكَيْفَ لَوْ كَانَ الْيَوْمَ؟ قَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ: فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ الْأَوْزَاعِيُّ هَذَا الزَّمَانَ؟ وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو الدَّرْادَاءِ وَهُوَ غَضْبَانُ، فَقُلْتُ: مَا أَغْضَبَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ فِيهِمْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ; قَالَ: مَا أَعْرِفُ مِنْكُمْ مَا كُنْتُ أَعْهَدُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ قَوْلِكُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قُلْنَا: بَلَى يَا أَبَا حَمْزَةَ. قَالَ: قَدْ صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، أَفَكَانَتْ تِلْكَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!

وَعَنْ أَنَسٍ ; قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدْرَكَ السَّلَفَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ بُعِثَ الْيَوْمَ مَا عَرَفَ مِنَ الْإِسْلَامِ شَيْئًا. قَالَ: وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَدِّهِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ - عَلَى ذَلِكَ - لَمَنْ عَاشَ فِي النُّكْرِ، وَلَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ السَّلَفَ الصَّالِحَ، فَرَأَى مُبْتَدِعًا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، وَرَأَى صَاحِبَ دُنْيَا يَدْعُو إِلَى دُنْيَاهُ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ يَحِنُّ إِلَى ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، يَسْأَلُ عَنْ سُبُلِهِمْ، وَيَقْتَصُّ آثَارَهُمْ، وَيَتَّبِعُ سَبِيلَهُمْ، لَيُعَوَّضُ أَجْرًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ فَكُونُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ; قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أُنْشِرَ فِيكُمْ مِنَ السَّلَفِ، مَا عَرَفَ غَيْرَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ. إِلَى مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ تَدْخُلُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ قَبْلَ زَمَانِنَا، وَإِنَّمَا تَتَكَاثَرُ عَلَى تَوَالِي الدُّهُورِ إِلَى الْآنَ. فَتَرَدَّدَ النَّظَرُ بَيْنَ أَنْ أَتَّبِعَ السُّنَّةَ عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ مَا اعْتَادَ النَّاسُ ; فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ نَحْوٍ مِمَّا حَصَلَ لِمُخَالِفِي الْعَوَائِدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ادَّعَى أَهْلُهَا أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ السُّنَّةُ لَا سِوَاهَا، إِلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ الْعِبْءِ الثَّقِيلِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ، وَبَيْنَ أَنْ أَتْبَعَهُمْ عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، فَأَدْخُلَ تَحْتَ تَرْجَمَةِ الضُّلَّالِ عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنِّي أُوَافِقُ

الْمُعْتَادَ، وَأُعَدُّ مِنَ الْمُؤَالِفِينَ لَا مِنَ الْمُخَالِفِينَ؟! فَرَأَيْتُ أَنَّ الْهَلَاكَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ هُوَ النَّجَاةُ، وَأَنَّ النَّاسَ لَنْ يُغْنُوا عَنِّي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَأَخَذْتُ فِي ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ التَّدْرِيجِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، فَقَامَتْ عَلَيَّ الْقِيَامَةُ، وَتَوَاتَرَتْ عَلَيَّ الْمَلَامَةُ، وَفَوَّقَ إِلَيَّ الْعِتَابُ سِهَامَهُ، وَنُسِبْتُ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَأُنْزِلْتُ مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهَالَةِ. وَإِنِّي لَوِ الْتَمَسْتُ لِتِلْكَ الْمُحْدَثَاتِ مَخْرَجًا; لَوَجَدْتُ؛ غَيْرَ أَنَّ ضِيقَ الْعَطَنِ وَالْبُعْدَ عَنْ أَهْلِ الْفِطَنِ رَقَى بِي مُرْتَقًى صَعْبًا وَضَيَّقَ عَلَيَّ مَجَالًا رَحْبًا، وَهُوَ كَلَامٌ يُشِيرُ بِظَاهِرِهِ إِلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهَاتِ، لِمُوَافَقَاتِ الْعَادَاتِ، أَوْلَى مِنِ اتِّبَاعِ الْوَاضِحَاتِ، وَإِنْ خَالَفَتِ السَّلَفَ الْأَوَّلَ. وَرُبَّمَا أَلَمُّوا فِي تَقْبِيحِ مَا وَجَّهْتُ إِلَيْهِ وِجْهَتِي بِمَا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ الْقُلُوبُ، أَوْ خَرَّجُوا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْفِرَقِ الْخَارِجَةِ عَنِ السُّنَّةِ شَهَادَةً سَتُكْتَبُ وَيُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: فَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَنْفَعُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ كَمَا يُعْزَى إِلَى بَعْضِ النَّاسِ، بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمِ الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الْإِمَامَةِ. وَسَيَأْتِي مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الصَّالِحِ وَالْعُلَمَاءِ. وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الرَّفْضِ وَبُغْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمْ ذِكْرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْهُمْ فِي الْخُطْبَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ السَّلَفِ فِي خُطَبِهِمْ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي أَجْزَاءِ الْخُطَبِ:

وَقَدْ سُئِلَ (أَصْبَغُ) عَنْ دُعَاءِ الْخَطِيبِ لِلْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ؟ فَقَالَ: هُوَ بِدْعَةٌ وَلَا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ، وَأَحْسَنُهُ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً. قِيلَ لَهُ: فَدُعَاؤُهُ لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ؟ قَالَ: مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَصْمُدُ لَهُ فِي خُطْبَتِهِ دَائِمًا، فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ. وَنَصَّ أَيْضًا عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْخُلَفَاءِ فِي الْخُطْبَةِ بِدْعَةٌ غَيْرُ مَحْبُوبَةٍ. وَتَارَةً أُضِيفَ إِلَيَّ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْقِيَامِ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَمَا أَضَافُوهُ إِلَّا مِنْ عَدَمِ ذِكْرِي لَهُمْ فِي الْخُطْبَةِ، وَذِكْرُهُمْ فِيهِ مُحْدَثٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ. وَتَارَةً حُمِلَ عَلَيَّ الْتِزَامُ الْحَرَجِ وَالتَّنَطُّعُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنِّي الْتَزَمْتُ فِي التَّكْلِيفِ وَالْفُتْيَا الْحَمْلَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ لَا أَتَعَدَّاهُ، وَهُمْ يَتَعَدَّوْنَهُ وَيُفْتُونَ بِمَا يُسَهِّلُ عَلَى السَّائِلِ وَيُوَافِقُ هَوَاهُ، وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فِي الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلِلْمَسْأَلَةِ بَسْطٌ فِي كِتَابِ (الْمُوَافَقَاتُ). وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُعَادَاةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنِّي عَادَيْتُ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ الْمُنْتَصِبِينَ بِزَعْمِهِمْ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَتَكَلَّمْتُ لِلْجُمْهُورِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى

الصُّوفِيَّةِ وَلَمْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي أُمِرَ بِاتِّبَاعِهَا وَهِيَ النَّاجِيَةُ مَا عَلَيْهِ الْعُمُومُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ. وَكَذَبُوا عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، أَوْ وَهِمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَكُنْتُ عَلَى حَالَةٍ تُشْبِهُ حَالَةَ الْإِمَامِ الشَّهِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَطَّةَ الْحَافِظِ مَعَ أَهْلِ زَمَانِهِ إِذْ حَكَى عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: " عَجِبْتُ مِنْ حَالِي فِي سَفَرِي وَحَضَرِي مَعَ الْأَقْرَبِينَ مِنِّي وَالْأَبْعَدِينَ، وَالْعَارِفِينَ وَالْمُنْكِرِينَ، فَإِنِّي وَجَدْتُ بِمَكَّةَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمَاكِنِ أَكْثَرَ مَنْ لَقِيتُ بِهَا مُوَافِقًا أَوْ مُخَالِفًا، دَعَانِي إِلَى مُتَابَعَتِهِ عَلَى مَا يَقُولُهُ، وَتَصْدِيقِ قَوْلِهِ، وَالشَّهَادَةِ لَهُ، فَإِنْ كُنْتُ صَدَّقْتُ فِيمَا يَقُولُ وَأَجَزْتُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ; سَمَّانِي مُوَافِقًا، وَإِنْ وَقَفْتُ فِي حَرْفٍ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ سَمَّانِي مُخَالِفًا، وَإِنْ ذَكَرْتُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَارِدٌ، سَمَّانِي خَارِجِيًّا، وَإِنْ قَرَأْتُ عَلَيْهِ حَدِيثًا فِي التَّوْحِيدِ، سَمَّانِي مُشَبِّهًا، وَإِنْ كَانَ فِي الرُّؤْيَةِ; سَمَّانِي سَالِمِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي الْإِيمَانِ سَمَّانِي مُرْجِئًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَعْمَالِ، سَمَّانِي قَدَرِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْرِفَةِ سَمَّانِي كَرَامِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، سَمَّانِي نَاصِبِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ سَمَّانِي رَافِضِيًّا، وَإِنْ سَكَتُّ عَنْ

تَفْسِيرِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَلَمْ أُجِبْ فِيهِمَا إِلَّا بِهِمَا، سَمَّانِي ظَاهِرِيًّا، وَإِنْ أَجَبْتُ بِغَيْرِهِمَا، سَمَّانِي بَاطِنِيًّا، وَإِنْ أَجَبْتُ بِتَأْوِيلٍ، سَمَّانِي أَشْعَرِيًّا، وَإِنْ جَحَدْتُهُمَا، سَمَّانِي مُعْتَزِلِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَنِ مِثْلَ الْقِرَاءَةِ، سَمَّانِي شَفْعَوِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُنُوتِ سَمَّانِي حَنَفِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ، سَمَّانِي حَنْبَلِيًّا، وَإِنْ ذَكَرْتُ رُجْحَانَ مَا ذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ إِذْ لَيْسَ فِي الْحُكْمِ وَالْحَدِيثِ مُحَابَاةٌ قَالُوا: طَعَنَ فِي تَزْكِيَتِهِمْ. ثُمَّ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَنِي فِيمَا يَقْرَءُونَ عَلَيَّ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَشْتَهُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَسَامِي، وَمَهْمَا وَافَقْتُ بَعْضَهُمْ; عَادَانِي غَيْرُهُ، وَإِنْ دَاهَنْتُ جَمَاعَتَهُمْ، أَسْخَطْتُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَنْ يُغْنُوا عَنِّي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. وَإِنِّي مُسْتَمْسِكٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. هَذَا تَمَامُ الْحِكَايَةِ، فَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ الْجَمِيعِ، فَقَلَّمَا تَجِدُ عَالِمًا مَشْهُورًا أَوْ فَاضِلًا مَذْكُورًا، إِلَّا وَقَدْ نُبِذَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِهَا، لِأَنَّ الْهَوَى قَدْ يُدَاخِلُ الْمُخَالِفَ، بَلْ سَبَبُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ الْجَهْلُ بِهَا وَالْهَوَى الْمُتَّبَعُ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْخِلَافِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، حُمِلَ عَلَى صَاحِبِ السُّنَّةِ، أَنَّهُ غَيْرُ صَاحِبِهَا، وَرُجِعَ بِالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِ وَالتَّقْبِيحِ لِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ،

التحذير من البدع وبيان أنها ضلالة وخروج عن الجادة

حَتَّى يُنْسَبَ هَذِهِ الْمَنَاسِبَ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ سَيِّدِ الْعُبَّادِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ (أُوَيْسٍ) الْقَرَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَمْ يَدَعَا لِلْمُؤْمِنِ صَدِيقًا: نَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَشْتُمُونَ أَعْرَاضَنَا، وَيَجِدُونَ فِي ذَلِكَ أَعْوَانًا مِنَ الْفَاسِقِينَ، حَتَّى وَاللَّهِ لَقَدْ رَمَوْنِي بِالْعَظَائِمِ، وَايْمُ اللَّهِ، لَا أَدَعُ أَنْ أَقُومَ فِيهِمْ بِحَقِّهِ. فَمِنْ هَذَا الْبَابِ يَرْجِعُ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، لِأَنَّ الْمُؤَالِفَ فِيهِ عَلَى وَصْفِهِ الْأَوَّلِ قَلِيلٌ، فَصَارَ الْمُخَالِفُ هُوَ الْكَثِيرَ، فَانْدَرَسَتْ رُسُومُ السُّنَّةِ حَتَّى مَدَّتِ الْبِدَعُ أَعْنَاقَهَا، فَأُشْكِلَ مَرْمَاهَا عَلَى الْجُمْهُورِ، فَظَهَرَ مِصْدَاقُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. [التَّحْذِيرُ مِنِ الْبِدَعِ وَبَيَانُ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْجَادَّةِ] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الْإِنْكَارِ مَا وَقَعَ مَعَ مَا هَدَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَلَهُ الْحَمْدُ، لَمْ أَزَلْ أَتَّبِعُ الْبِدَعَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَذَّرَ مِنْهَا، وَبَيَّنَ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْجَادَّةِ، وَأَشَارَ الْعُلَمَاءُ إِلَى تَمْيِيزِهَا وَالتَّعْرِيفِ بِجُمْلَةٍ مِنْهَا، لَعَلِّي أَجْتَنِبُهَا فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَأَبْحَثُ عَنِ السُّنَنِ الَّتِي كَادَتْ تُطْفِئُ نُورَهَا تِلْكَ الْمُحْدَثَاتُ; لَعَلِّي أَجْلُو بِالْعَمَلِ سَنَاهَا، وَأُعَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَنْ أَحْيَاهَا، إِذْ مَا مِنْ بِدْعَةٍ تُحْدَثُ إِلَّا وَيَمُوتُ مِنَ السُّنَنِ مَا هُوَ فِي مُقَابَلَتِهَا، حَسْبَمَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; قَالَ: مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ، إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً، حَتَّى تَحْيَا الْبِدْعَةُ، وَتَمُوتَ السُّنَنُ. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: لَا يُحْدِثُ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلَّا تَرَكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا.

الترغيب في إحياء السنن

وَعَنْ لُقْمَانَ بْنِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا أَحْدَثَتْ أُمَّةٌ فِي دِينِهَا بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ بِهَا عَنْهُمْ سُنَّةٌ. وَعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا، ثُمَّ لَمْ يُعِدْهَا إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ حَسْبَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [التَّرْغِيبُ فِي إِحْيَاءِ السُّنَنِ] وَجَاءَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي إِحْيَاءِ السُّنَنِ مَا جَاءَ: فَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنَ النَّاسِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِ النَّاسِ شَيْئًا» وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِاخْتِلَافٍ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

سبب تأليف كتاب الاعتصام

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ ثُمَّ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَرَجَوْتُ بِالنَّظَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الِانْتِظَامَ فِي سِلْكِ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً وَأَمَاتَ بِدْعَةً. [سَبَبُ تَأْلِيفِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ] وَعَلَى طُولِ الْعَهْدِ وَدَوَامِ النَّظَرِ اجْتَمَعَ لِي فِي الْبِدَعِ وَالسُّنَنِ أُصُولٌ قَرَّرْتُ أَحْكَامَهَا الشَّرْعِيَّةَ، وَفُرُوعٌ طَالَتْ أَفْنَانُهَا، لَكِنَّهَا تَنْتَظِمُهَا تِلْكَ الْأُصُولُ، وَقَلَّمَا تُوجَدُ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي سَنَحَ فِي الْخَاطِرِ، فَمَالَتْ إِلَى بَثِّهَا النَّفْسُ، وَرَأَتْ أَنَّهُ مِنَ الْأَكِيدِ الطَّلَبِ، لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الِالْتِبَاسِ النَّاشِئِ بَيْنَ السُّنَنِ وَالْبِدَعِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتِ الْبِدَعُ، وَعَمَّ ضَرَرُهَا، وَاسْتَطَارَ شَرَرُهَا، وَدَامَ الْإِكْبَابُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالسُّكُوتُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ الْإِنْكَارِ لَهَا، وَخَلَفَتْ بَعْدَهُمْ خُلُوفٌ جَهِلُوا أَوْ غَفَلُوا عَنِ الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْقِيَامِ فِيهَا، صَارَتْ كَأَنَّهَا سُنَنٌ مُقَرَّرَاتٌ، وَشَرَائِعُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ مُحَرَّرَاتٌ، فَاخْتَلَطَ الْمَشْرُوعُ بِغَيْرِهِ، فَعَادَ الرَّاجِعُ إِلَى مَحْضِ السُّنَّةِ كَالْخَارِجِ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْتَبَسَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَتَأَكَّدَ الْوُجُوبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عِنْدَهُ فِيهَا عِلْمٌ، وَقَلَّمَا صُنِّفَ فِيهَا عَلَى الْخُصُوصِ تَصْنِيفٌ، وَمَا صُنِّفَ فِيهَا فَغَيْرُ كَافٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ.

مَعَ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْيَوْمَ فَاقِدُ الْمُسَاعِدِ عَدِيمُ الْمُعِينِ: فَالْمُوَالِي لَمْ يَخْلُدْ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيُلْقِي لَهُ بِالْيَدِ إِلَى الْعَجْزِ عَنْ بَثِّ الْحَقِّ، بَعْدَ رُسُوخِ الْعَوَائِدِ فِي الْقُلُوبِ، وَالْمُعَادِي يَرْمِيهِ بِالْأَرْدَبِيسِ، وَيَرُومُ أَخْذَهُ بِالْعَذَابِ الْبَئِيسِ، لِأَنَّهُ يَرُدُّ عَوَائِدَهُ الرَّاسِخَةَ فِي الْقُلُوبِ، الْمُتَدَاوَلَةَ فِي الْأَعْمَالِ، دِينًا يُتَعَبَّدُ بِهِ، وَشَرِيعَةً يُسْلَكُ عَلَيْهَا، لَا حُجَّةَ لَهُ إِلَّا عَمَلُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، مَعَ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ الْعَالِمِينَ، كَانُوا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ أَمْ لَا. وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى أَنَّهُمْ عِنْدَ مُوَافَقَتِهِمْ لِلْآبَاءِ وَالْأَشْيَاخِ مُخَالِفُونَ لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ. فَالْمُعْتَرِضُ لِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ يَنْحُو نَحْوَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعَمَلِ، حَيْثُ قَالَ: " أَلَا وَإِنِّي أُعَالِجُ أَمْرًا لَا يُعِينُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، قَدْ فَنِيَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَكَبُرَ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ، وَفَصُحَ عَلَيْهِ الْأَعْجَمِيُّ، وَهَاجَرَ عَلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ، حَتَّى حَسِبُوهُ دِينًا لَا يَرَوْنَ الْحَقَّ غَيْرَهُ. وَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ بِصَدَدِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهِ، وَلَا يَسَعُ أَحَدًا مِمَّنْ لَهُ مِنَّةٌ إِلَّا الْأَخْذُ بِالْحَزْمِ وَالْعَزْمِ فِي بَثِّهِ، بَعْدَ تَحْصِيلِهِ عَلَى كَمَالِهِ، وَإِنْ كَرِهَ الْمُخَالِفُ فَكَرَاهِيَتُهُ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى الْحَقِّ إِلَّا يُرَفْعُ مَنَارُهُ، وَلَا تُكْشَفُ وَتُجَلَّى أَنْوَارُهُ. فَقَدْ خَرَّجَ أَبُو الطَّاهِرِ السَّلَفِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ عَلِّمِ النَّاسَ الْقُرْآنَ وَتَعَلَّمْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ وَأَنْتَ كَذَلِكَ;

زَارَتِ الْمَلَائِكَةُ قَبْرَكَ كَمَا يُزَارُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ، وَعَلِّمِ النَّاسَ سُنَّتِي، وَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَلَّا تُوقَفَ عَلَى الصِّرَاطِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى تَدْخُلَ الْجَنَّةَ; فَلَا تُحْدِثْ فِي دِينِ اللَّهِ حَدَثًا بِرَأْيِكَ».

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْقَطَّانِ: " وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، مِنْ إِقْرَاءِ كِتَابِ اللَّهِ، وَالتَّحْدِيثِ بِالسُّنَّةِ، أَحَبَّ النَّاسُ أَمْ كَرِهُوا، وَتَرْكِ الْحَدَثِ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ لَا يَتَأَوَّلُ شَيْئًا مِمَّا رَوَى، تَتْمِيمًا لِلسَّلَامَةِ مِنَ الْخَطَأِ. عَلَى أَنَّ أَبَا الْعَرَبِ التَّمِيمِيِّ حَكَى عَنِ ابْنِ فَرُّوخَ: " أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إِنَّ بَلَدَنَا كَثِيرُ الْبِدَعِ، وَإِنَّهُ أَلَّفَ كَلَامًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ يَقُولُ لَهُ: إِنْ ظَنَنْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ، خِفْتُ أَنْ تَزِلَّ فَتَهْلِكَ، لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَنْ كَانَ ضَابِطًا عَارِفًا بِمَا يَقُولُ لَهُمْ، لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُعَرِّجُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ فَيُخْطِئَ فَيَمْضُوا عَلَى خَطَئِهِ، أَوْ يَظْفَرُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ فَيَطْغَوْا وَيَزْدَادُوا تَمَادِيًا عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى. وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْضِي لِمِثْلِي بِالْإِحْجَامِ دُونَ الْإِقْدَامِ. وَشِيَاعُ هَذَا النُّكْرِ، وَفُشُوُّ الْعَمَلِ بِهِ، وَتَظَاهَرُ أَصْحَابِهِ; يَقْضِي لِمَنْ لَهُ بِهَذَا الْمَقَامِ مُنَّةٌ بِالْإِقْدَامِ دُونَ الْإِحْجَامِ، لِأَنَّ الْبِدَعَ قَدْ عَمَّتْ وَجَرَتْ أَفْرَاسُهَا مِنْ غَيْرِ مُغَيِّرٍ مِلْءَ أَعِنَّتِهَا.

وَحَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: أَنَّ أَسَدَ بْنَ مُوسَى كَتَبَ إِلَى أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ: " اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ مَا حَمَلَنِي عَلَى الْكَتْبِ إِلَيْكَ مَا أَنْكَرَ أَهْلُ بِلَادِكَ مِنْ صَالِحِ مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، مِنْ إِنْصَافِكَ النَّاسَ، وَحُسْنِ حَالِكَ مِمَّا أَظْهَرْتَ مِنَ السُّنَّةِ، وَعَيْبِكَ لِأَهْلِ الْبِدَعِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِكَ لَهُمْ وَطَعْنِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ، وَشَدَّ بِكَ ظَهَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَوَّاكَ عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ عَيْبِهِمْ، وَالطَّعْنِ عَلَيْهِمْ، وَأَذَلَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَصَارُوا بِبِدْعَتِهِمْ مُسْتَتِرِينَ. فَأَبْشِرْ يَا أَخِي بِثَوَابِ اللَّهِ، وَاعْتَدَّ بِهِ مِنْ أَفْضَلِ حَسَنَاتِكَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ. وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ مِنْ إِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَإِحْيَاءِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ أَحْيَا شَيْئًا مِنْ سُنَّتِي كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ وَضَمَّ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ»، وَقَالَ: «أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ عَلَيْهِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ تَبِعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»؟! فَمَنْ يُدْرِكُ يَا أَخِي هَذَا بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ؟! وَذَكَرَ أَيْضًا: «إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ كِيدَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَلِيًّا لِلَّهِ يَذُبُّ عَنْهَا، وَيَنْطِقُ بِعَلَامَتِهَا». فَاغْتَنِمْ يَا أَخِي هَذَا الْفَضْلَ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ

حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَأَوْصَاهُ وَقَالَ: " لِأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ. فَاغْتَنِمْ ذَلِكَ، وَادْعُ إِلَى السُّنَّةِ حَتَّى يَكُونَ لَكَ فِي ذَلِكَ أُلْفَةٌ وَجَمَاعَةٌ يَقُومُونَ مَقَامَكَ إِنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ، فَيَكُونُونَ أَئِمَّةً بَعْدَكَ، فَيَكُونُ لَكَ ثَوَابٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ. فَاعْمَلْ عَلَى بَصِيرَةٍ وَنِيَّةٍ حَسَنَةٍ، فَيَرُدُّ اللَّهُ بِكَ الْمُبْتَدِعَ وَالْمَفْتُونَ الزَّائِغَ الْحَائِرَ، فَتَكُونُ خَلَفًا مِنْ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَحْيِ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَلْقَى اللَّهَ بِعَمَلٍ يُشْبِهُهُ. انْتَهَى مَا قَصَدْتُ إِيرَادَهُ مِنْ كَلَامِ أَسَدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي جَانِبَ الْإِقْدَامِ، مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ فِي خُطْبَتِهِ أَنْ قَالَ: " وَاللَّهِ إِنِّي لَوْلَا أَنْ أُنْعِشَ سُنَّةً قَدْ أُمِيتَتْ، أَوْ أَنْ أُمِيتَ بِدْعَةً قَدْ أُحْيِيَتْ، لَكَرِهْتُ أَنْ أَعِيشَ فِيكُمْ فَوَاقًا ". وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ فِي كِتَابِ " الْقُطْعَانِ " وَحَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: " لَنْ يَزَالَ لِلَّهِ نُصَحَاءُ فِي الْأَرْضِ مِنْ عِبَادِهِ، يَعْرِضُونَ أَعْمَالَ الْعِبَادَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِذَا وَافَقُوهُ، حَمِدُوا اللَّهَ، وَإِذَا خَالَفُوهُ، عَرَفُوا بِكِتَابِ اللَّهِ ضَلَالَةَ مَنْ ضَلَّ، وَهُدَى مَنِ اهْتَدَى، فَأُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ. وَفِيهِ عَنْ سُفْيَانَ ; قَالَ: اسْلُكُوا سَبِيلَ الْحَقِّ، وَلَا تَسْتَوْحِشُوا مِنْ قِلَّةِ

أَهْلِهِ. فَوَقَعَ التَّرْدِيدُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ. ثُمَّ إِنِّي أَخَذْتُ فِي ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ الْإِخْوَانِ الَّذِينَ أَحْلَلْتُهُمْ مِنْ قَلْبِي مَحَلَّ السُّوَيْدَاءِ، وَقَامُوا لِي فِي عَامَّةِ أَدْوَاءِ نَفْسِي مَقَامَ الدَّوَاءِ، فَرَأَوْا أَنَّهُ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِي طَلَبِ الشَّرْعِ نَشْرُهُ، وَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ. فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي وَضْعِ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْبِدَعِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ أُصُولًا وَفُرُوعًا وَسَمَّيْتُهُ بِـ الِاعْتِصَامِ. وَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَمَلًا خَالِصًا، وَيَجْعَلَ ظِلَّ الْفَائِدَةِ بِهِ مَمْدُودًا لَا قَالِصًا، وَالْأَجْرَ عَلَى الْعَنَاءِ فِيهِ كَامِلًا لَا نَاقِصًا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَيَنْحَصِرُ الْكَلَامُ فِيهِ بِحَسَبِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ فِي جُمْلَةِ أَبْوَابٍ، وَفِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا فُصُولٌ اقْتَضَاهَا بَسْطُ الْمَسَائِلِ الْمُنْحَصِرَةِ فِيهِ، وَمَا انْجَرَّ مَعَهَا مِنَ الْفُرُوعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ.

الباب الأول تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظا

[الْبَابُ الْأَوَّلُ تَعْرِيفُ الْبِدَعِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا وَمَا اشْتُقَّ مِنْهُ لَفْظًا] [تَعْرِيفُ الْبِدْعَةِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا] وَأَصْلُ الْمَادَّةِ " بَدَعَ " لِلِاخْتِرَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَمِنْهُ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]، أَيْ: مُخْتَرِعُهَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ مُتَقَدِّمٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] ; أَيْ: مَا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ، بَلْ تَقَدَّمَنِي كَثِيرٌ مِنَ الرُّسُلِ. وَيُقَالُ: ابْتَدَعَ فَلَانٌ بِدْعَةً، يَعْنِي ابْتَدَأَ طَرِيقَةً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا سَابِقٌ. وَهَذَا أَمْرٌ بَدِيعٌ، يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحْسَنِ الَّذِي لَا مِثَالَ لَهُ فِي الْحُسْنِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدْعَةً، فَاسْتِخْرَاجُهَا لِلسُّلُوكِ عَلَيْهَا هُوَ الِابْتِدَاعُ، وَهَيْئَتُهَا هِيَ الْبِدْعَةُ، وَقَدْ يُسَمَّى الْعِلْمُ الْمَعْمُولُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بِدْعَةً. فَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِدْعَةً، وَهُوَ إِطْلَاقٌ أَخَصُّ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ.

ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَقْوَالِهِمْ ثَلَاثَةٌ: حُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ; كَانَ لِلْإِيجَابِ أَوِ النَّدْبِ، وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ، كَانَ لِلْكَرَاهَةِ أَوِ التَّحْرِيمِ. وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ. فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَقْوَالُهُمْ لَا تَعْدُو هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ: مَطْلُوبٌ فِعْلُهُ، وَمَطْلُوبٌ تَرْكُهُ، وَمَأْذُونٌ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ. وَالْمَطْلُوبُ تَرْكُهُ لَمْ يُطْلَبْ تَرْكُهُ إِلَّا لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، لَكِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ وَيُنْهَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُخَالَفَةً خَاصَّةً مَعَ مُجَرَّدِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا; سُمِّيَ فِعْلًا مَعْصِيَةً وَإِثْمًا وَسُمِّيَ فَاعِلُهُ عَاصِيًا وَآثِمًا، وَإِلَّا، لَمْ يُسَمَّ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ فِي حُكْمِ الْعَفْوِ; حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا يُسَمَّى بِحَسَبِ الْفِعْلِ جَائِزًا وَلَا مُبَاحًا، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالنَّهْيِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ وَيُنْهَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُخَالَفَةً لِظَاهِرِ التَّشْرِيعِ; مِنْ جِهَةِ ضَرْبِ الْحُدُودِ، وَتَعْيِينِ الْكَيْفِيَّاتِ، وَالْتِزَامِ الْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، أَوِ الْأَزْمِنَةِ الْمُعَيَّنَةِ مَعَ الدَّوَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الِابْتِدَاعُ وَالْبِدْعَةُ، وَيُسَمَّى فَاعِلُهُ مُبْتَدِعًا. فَالْبِدْعَةُ إِذَنْ عِبَارَةٌ عَنْ: طَرِيقَةٍ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٍ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ. وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يُدْخِلُ الْعَادَاتِ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ، وَإِنَّمَا

يَخُصُّهَا بِالْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ أَدْخَلَ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ، فَيَقُولُ: الْبِدْعَةُ: طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِّ: فَالطَّرِيقَةُ وَالطَّرِيقُ وَالسَّبِيلُ وَالسَّنَنُ هِيَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا رُسِمَ لِلسُّلُوكِ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا قُيِّدَتْ بِالدِّينِ، لِأَنَّهَا فِيهِ تُخْتَرَعُ، وَإِلَيْهِ يُضِيفُهَا صَاحِبُهَا، وَأَيْضًا; فَلَوْ كَانَتْ طَرِيقَةً مُخْتَرَعَةً فِي الدُّنْيَا عَلَى الْخُصُوصِ، لَمْ تُسَمَّ بِدْعَةً; كَإِحْدَاثِ الصَّنَائِعِ وَالْبُلْدَانِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا كَانَتِ الطَّرَائِقُ فِي الدِّينِ تَنْقَسِمُ، فَمِنْهَا مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِيهَا، خُصَّ مِنْهَا مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَدِّ، وَهُوَ الْقِسْمُ الْمُخْتَرَعُ، أَيْ: طَرِيقَةٌ ابْتُدِعَتْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ تَقَدَّمَهَا مِنَ الشَّارِعِ، إِذِ الْبِدْعَةُ إِنَّمَا خَاصَّتُهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَمَّا رَسَمَهُ الشَّارِعُ. وَبِهَذَا الْقَيْدِ انْفَصَلَتْ عَنْ كُلِّ مَا ظَهَرَ لِبَادِي الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخْتَرَعٌ مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ، كَعِلْمِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَأُصُولِ الدِّينِ، وَسَائِرِ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ، فَأُصُولُهَا مَوْجُودَةٌ فِي الشَّرْعِ: إِذِ الْأَمْرُ بِإِعْرَابِ الْقُرْآنِ مَنْقُولٌ. وَعُلُومُ اللِّسَانِ هَادِيَةٌ لِلصَّوَابِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَحَقِيقَتُهَا إِذًا

أَنَّهَا: فِقْهُ التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا; كَيْفَ تُؤْخَذُ وَتُؤَدَّى؟ وَأُصُولُ الْفِقْهِ; إِنَّمَا مَعْنَاهَا اسْتِقْرَاءُ كُلِّيَّاتِ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ نُصْبَ عَيْنٍ وَعِنْدَ الطَّالِبِ سَهْلَةُ الْمُلْتَمَسِ. وَكَذَلِكَ أُصُولُ الدِّينِ، وَهُوَ عِلْمُ الْكَلَامِ، إِنَّمَا حَاصِلُهُ تَقْرِيرٌ لِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا فِي التَّوْحِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمَا كَانَ الْفِقْهُ تَقْرِيرًا لِأَدِلَّتِهَا فِي الْفُرُوعِ الْعِبَادِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ تَصْنِيفَهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُخْتَرَعٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ، فَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ، فَالشَّرْعُ بِجُمْلَتِهِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهَا بِحَوْلِ اللَّهِ: فَعَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ خَادِمٍ لِلشَّرِيعَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ أَدِلَّتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْخُوذَةٍ مِنْ جُزْءٍ وَاحِدٍ، فَلَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ أَلْبَتَّةَ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعُلُومُ مُبْتَدَعَاتٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي عِلْمِ الْبِدَعِ؛ كَانَتْ قَبِيحَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَتْبُ الْمُصْحَفِ وَجَمْعُ الْقُرْآنِ قَبِيحًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَيْسَ إِذًا بِبِدْعَةٍ. وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَلَيْسَ إِلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ

الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ جُزْئِيٌّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، ثَبَتَ مُطْلَقُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى عِلْمُ النَّحْوِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ أَوْ عِلْمُ الْأُصُولِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ، بِدْعَةً أَصْلًا. وَمَنْ سَمَّاهُ بِدْعَةً: فَإِمَّا عَلَى الْمَجَازِ; كَمَا سَمَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيَامَ النَّاسِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِدْعَةً، وَإِمَّا جَهْلًا بِمَوَاقِعِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُعْتَدًّا بِهِ وَلَا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِّ: " تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ " ; يَعْنِي أَنَّهَا تُشَابِهُ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مُضَادَّةٌ لَهَا مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْهَا: وَضَعُ الْحُدُودِ; كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لَا يَقْعُدُ، ضَاحِيًا لَا يَسْتَظِلُّ، وَالِاخْتِصَاصُ فِي الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ، وَالِاقْتِصَارُ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ. وَمِنْهَا: الْتِزَامُ الْكَيْفِيَّاتِ وَالْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، كَالذِّكْرِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَاتِّخَاذُ يَوْمِ وِلَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: الْتِزَامُ الْعِبَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يُوجَدْ لَهَا ذَلِكَ التَّعْيِينُ فِي الشَّرِيعَةِ، كَالْتِزَامِ صِيَامِ يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَقِيَامِ لَيْلَتِهِ. وَثَمَّ أَوْجُهٌ تُضَاهِي بِهَا الْبِدْعَةُ الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ، فَلَوْ كَانَتْ لَا تُضَاهِي الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ لَمْ تَكُنْ بِدْعَةً، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ إِنَّمَا يَخْتَرِعُهَا لِيُضَاهِيَ بِهَا السُّنَّةَ حَتَّى

يَكُونَ مُلَبِّسًا بِهَا عَلَى الْغَيْرِ أَوْ تَكُونَ هِيَ مِمَّا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ، إِذِ الْإِنْسَانُ لَا يَقْصِدُ الِاسْتِتْبَاعَ بِأَمْرٍ لَا يُشَابِهُ الْمَشْرُوعَ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَا يَسْتَجْلِبُ بِهِ فِي ذَلِكَ الِابْتِدَاعِ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا وَلَا يُجِيبُهُ غَيْرُهُ إِلَيْهِ. وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْمُبْتَدِعَ يَنْتَصِرُ لِبِدْعَتِهِ بِأُمُورٍ تُخَيِّلُ التَّشْرِيعَ، وَلَوْ بِدَعْوَى الِاقْتِدَاءِ بِفُلَانٍ الْمَعْرُوفِ مَنْصِبُهُ فِي أَهْلِ الْخَيْرِ. فَأَنْتَ تَرَى الْعَرَبَ الْجَاهِلِيَّةَ فِي تَغْيِيرِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ تَأَوَّلُوا فِيمَا أَحْدَثُوا احْتِجَاجًا مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِشْرَاكِ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وَكَتَرْكِ الْحُمْسِ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ ; لِقَوْلِهِمْ: لَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ اعْتِدَادًا بِحُرْمَتِهِ، وَطَوَافِ مَنْ طَافَ مِنْهُمْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا; قَائِلِينَ: لَا نَطُوفُ بِثِيَابٍ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا وَجَّهُوهُ لِيُصَيِّرُوهُ بِالتَّوْجِيهِ كَالْمَشْرُوعِ. فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ عُدَّ أَوْ عَدَّ نَفْسَهُ مِنْ خَوَاصِّ أَهْلِ الْمِلَّةِ؟! فَهُمْ أَحْرَى بِذَلِكَ، وَهُمُ الْمُخْطِئُونَ، وَظَنُّهُمُ الْإِصَابَةَ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا; ظَهَرَ أَنَّ مُضَاهَاةَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ ضَرُورِيَّةُ الْأَخْذِ فِي أَجْزَاءِ الْحَدِّ. وَقَوْلُهُ: " يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى " هُوَ تَمَامُ مَعْنَى الْبِدْعَةِ، إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَشْرِيعِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الدُّخُولِ فِيهَا يَحُثُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فَكَأَنَّ الْمُبْتَدِعَ رَأَى أَنَّ

الْمَقْصُودَ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ فِيهِ مِنَ الْقَوَانِينِ وَالْحُدُودِ كَافٍ، فَرَأَى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِمَا أُطْلِقَ الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ قَوَانِينَ مُنْضَبِطَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُرْتَبِطَةٍ، مَعَ مَا يُدَاخِلُ النُّفُوسَ مِنْ حُبِّ الظُّهُورِ أَوْ عَدَمِ مَظِنَّتِهِ، فَدَخَلَتْ فِي هَذَا الضَّبْطِ شَائِبَةُ الْبِدْعَةِ. وَأَيْضًا; فَإِنَّ النُّفُوسَ قَدْ تَمَلُّ وَتَسْأَمُ مِنَ الدَّوَامِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمُرَتَّبَةِ، فَإِذَا جُدِّدَ لَهَا أَمْرٌ لَا تَعْهَدُهُ، حَصَلَ بِهَا نَشَاطٌ آخَرُ لَا يَكُونُ لَهَا مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: لِكُلِّ جَدِيدٍ لَذَّةٌ; بِحُكْمِ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَنْ قَالَ: كَمَا تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ، فَكَذَلِكَ تَحْدُثُ لَهُمْ مُرَغِّبَاتٌ فِي الْخَيْرِ بِقَدْرِ مَا حَدَثَ لَهُمْ مِنَ الْفُتُورِ. وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ فَيَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَّأْتُ الْقُرْآنَ، فَلَا يَتَّبِعُنِّي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ.

وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا الْقَيْدِ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَادَاتِ، فَكُلُّ مَا اخْتُرِعَ مِنَ الطُّرُقِ فِي الدِّينِ مِمَّا يُضَاهِي الْمَشْرُوعَ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّعَبُّدُ; فَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، كَالْمَغَارِمِ الْمُلْزَمَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا عَلَى نِسْبَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَقَدْرٍ مَخْصُوصٍ مِمَّا يُشْبِهُ فَرْضَ الزَّكَوَاتِ وَلَمْ يَكُنْ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ الْمَنَاخِلِ، وَغَسْلُ الْيَدِ بِالْأُشْنَانِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ قَبْلُ، فَإِنَّهَا لَا تُسَمَّى بِدَعًا عَلَى إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ. وَأَمَّا الْحَدُّ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى; فَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهُ، إِلَّا قَوْلُهُ: " يُقْصَدُ بِهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ "، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي عَاجِلَتِهِمْ وَآجِلَتِهِمْ; لِتَأْتِيَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا، فَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُبْتَدِعُ بِبِدْعَتِهِ، لِأَنَّ الْبِدْعَةَ إِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعِبَادَاتِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا أَنْ يَأْتِيَ تَعَبُّدَهُ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ، لِيَفُوزَ بِأَتَمِّ الْمَرَاتِبِ فِي الْآخِرَةِ فِي ظَنِّهِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَادَاتِ; فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَضَعَهَا لِتَأْتِيَ أُمُورُ دُنْيَاهُ عَلَى تَمَامِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا.

فصل البدعة التركية

فَمَنْ يَجْعَلُ الْمَنَاخِلَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ; فَظَاهِرٌ أَنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَهُ بِلَذَّةِ الدَّقِيقِ الْمَنْخُولِ أَتَمُّ مِنْهُ بِغَيْرِ الْمَنْخُولِ، وَكَذَلِكَ الْبِنَاءَاتُ الْمُشَيَّدَةُ الْمُحْتَفِلَةُ; التَّمَتُّعُ بِهَا أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْحُشُوشِ وَالْخَرِبِ، وَمِثْلُهُ الْمُصَادَرَاتُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَقَدْ أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ التَّوَسُّعَ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَيَعُدُّ الْمُبْتَدِعُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْبِدْعَةِ، وَمَا هِيَ فِي الشَّرْعِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. [فَصْلٌ الْبِدْعَةُ التَّرْكِيَّةُ] فِي الْحَدِّ أَيْضًا مَعْنًى آخَرُ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْبِدْعَةَ مِنْ حَيْثُ قِيلَ فِيهَا: " إِنَّهَا طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ " إِلَى آخِرِهِ، يَدْخُلُ فِي عُمُومِ لَفْظِهَا الْبِدْعَةُ التَّرْكِيَّةُ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبِدْعَةُ غَيْرُ التَّرْكِيَّةِ. فَقَدْ يَقَعُ الِابْتِدَاعُ بِنَفْسِ التَّرْكِ تَحْرِيمًا لِلْمَتْرُوكِ أَوْ غَيْرَ تَحْرِيمٍ، فَإِنَّ الْفِعْلَ مَثَلًا يَكُونُ حلَالًا بِالشَّرْعِ، فَيُحَرِّمُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ يَقْصِدُ تَرْكَهُ قَصْدًا. فَبِهَذَا التَّرْكِ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ شَرْعًا أَوْ لَا. فَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ، فَلَا حَرَجَ فِيهِ، إِذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَ مَا يَجُوزُ تَرْكُهُ أَوْ مَا يُطْلَبُ بِتَرْكِهِ، كَالَّذِي يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ الطَّعَامَ الْفُلَانِيَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَضُرُّهُ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ دِينِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا مَانِعَ هُنَا مِنَ التَّرْكِ، بَلْ إِنْ قُلْنَا بِطَلَبِ التَّدَاوِي لِلْمَرِيضِ; فَإِنَّ التَّرْكَ هَنَا مَطْلُوبٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِإِبَاحَةِ التَّدَاوِي; فَالتَّرْكُ مُبَاحٌ. فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْعَزْمِ عَلَى الْحَمِيَّةِ مِنَ الْمُضِرَّاتِ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ» إِلَى أَنْ قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ الَّذِي يَكْسِرُ مِنْ شَهْوَةِ الشَّبَابِ حَتَّى لَا تَطْغَى عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، فَيَصِيرَ إِلَى الْعَنَتِ. وَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ; فَذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ، وَكَتَارِكِ الْمُتَشَابِهِ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، وَاسْتِبْرَاءً لِلدِّينِ وَالْعِرْضِ. وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ لِغَيْرِ ذَلِكَ; فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَدَيُّنًا أَوْ لَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَدَيُّنًا; فَالتَّارِكُ عَابِثٌ بِتَحْرِيمِهِ الْفِعْلَ أَوْ بِعَزِيمَتِهِ عَلَى التَّرْكِ، وَلَا يُسَمَّى هَذَا التَّرْكُ بِدْعَةً، إِذْ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ الْحَدِّ; إِلَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ الْقَائِلَةِ: إِنَّ الْبِدْعَةَ تَدْخُلُ فِي الْعَادَاتِ، وَأَمَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى; فَلَا تَدْخُلُ، لَكِنَّ هَذَا التَّارِكَ يَصِيرُ عَاصِيًا بِتَرْكِهِ أَوْ بِاعْتِقَادِهِ التَّحْرِيمَ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّرْكُ تَدَيُّنًا، فَهُوَ الِابْتِدَاعُ فِي الدِّينِ عَلَى كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا الْفِعْلَ جَائِزًا شَرْعًا، فَصَارَ التَّرْكُ الْمَقْصُودُ مُعَارَضَةً لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ التَّحْلِيلِ. وَفِي مِثْلِهِ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]،

فَنَهَى أَوَّلًا عَنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْآيَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ اعْتِدَاءً، لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ. وَسَيَأْتِي لِلْآيَةِ تَقْرِيرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ هَمَّ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، وَآخَرَ الْأَكْلَ بِالنَّهَارِ، وَآخَرَ إِتْيَانَ النِّسَاءِ، وَبَعْضُهُمْ هَمَّ بِالِاخْتِصَاءِ، مُبَالَغَةً فِي تَرْكِ شَأْنِ النِّسَاءِ، وَفِي أَمْثَالِ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». فَإِذَا كُلُّ مَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْعَامِلُ بِغَيْرِ السُّنَّةِ تَدَيُّنًا، هُوَ الْمُبْتَدِعُ بِعَيْنِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَتَارِكُ الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا، هَلْ يُسَمَّى مُبْتَدِعًا أَمْ لَا؟. فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّارِكَ لِلْمَطْلُوبَاتِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْرُكَهَا لِغَيْرِ التَّدَيُّنِ: إِمَّا كَسَلًا، أَوْ تَضْيِيعًا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَاعِي النَّفْسِيَّةِ; فَهَذَا الضَّرْبُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَالَفَةِ لِلْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَاجِبٍ فَمَعْصِيَةٌ; وَإِنْ كَانَ فِي نَدْبٍ، فَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ إِذَا كَانَ التَّرْكُ جُزْئِيًّا، وَإِنْ كَانَ كُلِيًّا فَمَعْصِيَةٌ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأُصُولِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتْرُكَهَا تَدَيُّنًا; فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ، حَيْثُ تَدَيَّنَ

بِضِدِّ مَا شَرَعَ اللَّهُ، وَمِثَالُهُ أَهْلُ الْإِبَاحَةِ الْقَائِلُونَ بِإِسْقَاطِ التَّكَالِيفِ إِذَا بَلَغَ السَّالِكُ عِنْدَهُمُ الْمَبْلَغَ الَّذِي حَدُّوهُ. فَإِذًا قَوْلُهُ فِي الْحَدِّ: " طَرِيقَةٌ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ " ; يَشْمَلُ الْبِدْعَةَ التَّرْكِيَّةَ، كَمَا يَشْمَلُ غَيْرَهَا; لِأَنَّ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَيْضًا تَنْقَسِمُ إِلَى تَرْكٍ وَغَيْرِهِ. وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا قُلْنَا: إِنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ، أَمْ قُلْنَا: إِنَّهُ نَفْيُ الْفِعْلِ، عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَكَمَا يَشْمَلُ الْحَدُّ التَّرْكَ يَشْمَلُ أَيْضًا ضِدَّ ذَلِكَ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمُ الِاعْتِقَادِ، وَقِسْمُ الْقَوْلِ، وَقِسْمُ الْفِعْلِ، فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ، يَتَعَلَّقُ بِهِ الِابْتِدَاعُ.

الباب الثاني في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها

[الْبَابُ الثَّانِي فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَسُوءِ مُنْقَلَبِ أَصْحَابِهَا] [الْأَدِلَّةُ مِنَ النَّظَرِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ] لَا خَفَاءَ أَنَّ الْبِدَعَ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا يَعْلَمُ الْعَاقِلُ ذَمَّهَا، لِأَنَّ اتِّبَاعَهَا خُرُوجٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، وَالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ الْعَامِّ. أَمَّا النَّظَرُ فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالتَّجَارِبِ وَالْخِبْرَةِ السَّارِيَةِ فِي الْعَالَمِ مِنْ أَوَّلِ الدُّنْيَا إِلَى الْيَوْمِ أَنَّ الْعُقُولَ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ بِمَصَالِحِهَا، اسْتِجْلَابًا لَهَا، أَوْ مَفَاسِدِهَا، اسْتِدْفَاعًا لَهَا. لِأَنَّهَا إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ. فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ; فَلَا يُسْتَقَلُّ بِاسْتِدْرَاكِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَلْبَتَّةَ، لَا فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِهَا أَوَّلًا، وَلَا فِي اسْتِدْرَاكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ فِي طَرِيقِهَا، إِمَّا فِي السَّوَابِقِ، وَإِمَّا فِي اللَّوَاحِقِ، لِأَنَّ وَضْعَهَا أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ عَلِمَ كَيْفَ يَسْتَجْلِبُ مَصَالِحَ دُنْيَاهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ مَعْلُومِهِ أَوَّلًا، إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ مُقْتَضَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ تَعْلِيمًا غَيْرَ عَقْلِيٍّ، ثُمَّ تَوَارَثَتْهُ ذُرِّيَّتُهُ كَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ

فَرَّعَتِ الْعُقُولُ مِنْ أُصُولِهَا تَفْرِيعًا تَتَوَهَّمُ اسْتِقْلَالَهَا بِهِ، وَدَخَلَ فِي الْأُصُولِ الدَّوَاخِلُ حَسْبَمَا أَظْهَرَتْ ذَلِكَ أَزْمِنَةُ الْفَتَرَاتِ، إِذْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الْفَتَرَاتِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ; لِوُجُودِ الْفِتَنِ وَالْهَرْجِ، وَظُهُورِ أَوْجُهِ الْفَسَادِ. فَلَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْخَلْقِ بِبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ تَسْتَقِمْ لَهُمْ حَيَاةٌ، وَلَا جَرَتْ أَحْوَالُهُمْ عَلَى كَمَالِ مَصَالِحِهِمْ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالنَّظَرِ فِي أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الْأُخْرَوِيَّةُ، فَأَبْعَدُ عَنْ مَصَالِحِ الْمَعْقُولِ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ أَسْبَابِهَا، وَهِيَ الْعِبَادَاتُ مَثَلًا; فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَشْعُرُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ. وَمِنْ جِهَةِ تَصَوُّرِ الدَّارِ الْأُخْرَى وَكَوْنِهَا آتِيَةً، فَلَا بُدَّ وَأَنَّهَا دَارُ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ; فَإِنَّ الَّذِي يُدْرِكُ الْعَقْلُ مِنْ ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْإِمْكَانِ أَنْ يَشْعُرَ بِهَا. وَلَا يَغْتَرَّنَّ ذُو الْحِجَى بِأَحْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُدَّعِينَ لِإِدْرَاكِ الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّ دَعْوَاهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ الشَّرَائِعَ لَمْ تَزَلْ وَارِدَةً عَلَى بَنِي آدَمَ مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَيْضًا لَمْ يَزَالُوا مَوْجُودِينَ فِي الْعَالَمِ وَهُمْ أَكْثَرُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنِ انْتَهَتْ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. غَيْرَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ كَانَتْ إِذَا أَخَذَتْ فِي الدُّرُوسِ; بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمَفْرُوضَةِ، مَا بَيْنَ زَمَانِ أَخْذِهَا فِي الِانْدِرَاسِ وَبَيْنَ إِنْزَالِ الشَّرِيعَةِ

بَعْدَهَا بَعْضُ الْأُصُولِ الْمَعْلُومَةِ. فَأَتَى الْفَلَاسِفَةُ إِلَى تِلْكَ الْأُصُولِ، فَتَلَقَّفُوهَا أَوْ تَلَقَّفُوا مِنْهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يُخَرِّجُوهُ عَلَى مُقْتَضَى عُقُولِهِمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عَقْلِيًّا لَا شَرْعِيًّا. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، فَالْعَقْلُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مُتَقَدِّمٍ مُسَلَّمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ قِبَلَهُمْ أَصْلٌ مُسَلَّمٌ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى بَسْطٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَعَلَى الْجُمْلَةِ: الْعُقُولُ لَا تَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا دُونَ الْوَحْيِ، فَالِابْتِدَاعُ مُضَادٌّ لِهَذَا الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ بِالْفَرْضِ، فَلَا يَبْقَى إِلَّا مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْعَقْلِ. فَالْمُبْتَدِعُ لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ بِدْعَتِهِ أَنْ يَنَالَ بِسَبَبِ الْعَمَلِ بِهَا مَا رَامَ تَحْصِيلَهُ مِنْ جِهَتِهَا، فَصَارَتْ كَالْعَبَثِ. هَذَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الشَّرَائِعَ جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ; فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهَا; لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ مُجَرَّدُ تَعَبُّدٍ وَإِلْزَامٍ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ، وَالْعَقْلُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. وَنَاهِيكَ مِنْ نِحْلَةٍ يَنْتَحِلُهَا صَاحِبُهَا فِي أَرْفَعِ مُطَالَبَةٍ لَا ثِقَةَ بِهَا، وَيُلْقِي مِنْ يَدِهِ مَا هُوَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ كَامِلَةً لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ:

لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهَا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، وَلَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» الْحَدِيثَ. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى أَتَى بِبَيَانِ جَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَهَذَا لَا مُخَالِفَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْمُبْتَدِعُ إِنَّمَا مَحْصُولُ قَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ مَقَالِهِ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَتِمَّ، وَأَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا أَشْيَاءُ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُهَا; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِكَمَالِهَا وَتَمَامِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ; لَمْ يَبْتَدِعْ، وَلَا اسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا، وَقَائِلُ هَذَا ضَالٌّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: " مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ

بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً، زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُبْتَدِعَ مُعَانِدٌ لِلشَّرْعِ، وَمَشَاقٌّ لَهُ; لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ عَيَّنَ لِمَطَالِبِ الْعَبْدِ طُرُقًا خَاصَّةً عَلَى وُجُوهٍ خَاصَّةٍ، وَقَصَرَ الْخَلْقَ عَلَيْهَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْخَيْرَ فِيهَا، وَأَنَّ الشَّرَّ فِي تَعَدِّيهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. فَالْمُبْتَدِعُ رَادٌّ لِهَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ ثَمَّ طُرُقًا أُخَرَ، لَيْسَ مَا حَصَرَهُ الشَّارِعُ بِمَحْصُورٍ، وَلَا مَا عَيَّنَهُ بِمُتَعَيِّنٍ، كَأَنَّ الشَّارِعَ يَعْلَمُ وَنَحْنُ أَيْضًا نَعْلَمُ، بَلْ رُبَّمَا يَفْهَمُ مِنِ اسْتِدْرَاكِهِ الطُّرُقَ عَلَى الشَّارِعِ، أَنَّهُ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الشَّارِعُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ مَقْصُودًا لِلْمُبْتَدِعِ; فَهُوَ كُفْرٌ بِالشَّرِيعَةِ وَالشَّارِعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ; فَهُوَ ضَلَالٌ مُبِينٌ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ كَتَبَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَأَةَ يَسْتَشِيرُهُ فِي بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ; فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالِاقْتِصَادِ فِي أَمْرِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرْكِ مَا أَحْدَثَ الْمُحْدِثُونَ فِيمَا قَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ وَكُفُوا مُؤْنَتَهُ. فَعَلَيْكَ بِلُزُومِ السُّنَّةِ ; فَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَرَفَ مَا فِي خِلَافِهَا مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ. فَارْضَ لِنَفْسِكَ بِمَا رَضِيَ بِهِ الْقَوْمُ لِأَنْفُسِهِمْ; فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَقَفُوا،

وَبِبَصَرٍ نَافِذٍ قَدْ كُفُوا وَهُمْ كَانُوا عَلَى كَشْفِ الْأُمُورِ أَقْوَى، وَبِفَضْلٍ كَانُوا فِيهِ أَحْرَى. فَلَئِنْ قُلْتُمْ: أَمْرٌ حَدَثَ بَعْدَهُمْ، مَا أَحْدَثَهُ بَعْدَهُمْ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سُنَنِهِمْ، وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، إِنَّهُمْ لَهُمُ السَّابِقُونَ، فَقَدْ تَكَلَّمُوا مِنْهُ بِمَا يَكْفِي، وَوَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي، فَمَا دُونَهُمْ مُقَصِّرٌ، وَمَا فَوْقَهُمْ مَحْسَرٌ، لَقَدْ قَصَرَ عَنْهُمْ آخَرُونَ [فَجَفَوْا، وَطَمِحَ عَنْهُمْ] فَغَلَوْا وَأَنَّهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ. ثُمَّ خُتِمَ الْكِتَابُ بِحُكْمِ مَسْأَلَتِهِ. فَقَوْلُهُ: " فَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَرَفَ مَا فِي خِلَافِهَا " ; فَهُوَ مَقْصُودُ الِاسْتِشْهَادِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُبْتَدِعَ قَدْ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُضَاهِي لِلشَّارِعِ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ الشَّرَائِعَ، وَأَلْزَمَ الْخَلْقَ الْجَرْيَ عَلَى سُنَنِهَا، وَصَارَ هُوَ الْمُنْفَرِدَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ التَّشْرِيعُ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْخَلْقِ لَمْ تُنَزَّلِ الشَّرَائِعُ، وَلَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا احْتِيجَ إِلَى بَعْثِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. [فَـ] هَذَا الَّذِي ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ قَدْ صَيَّرَ نَفْسَهُ نَظِيرًا وَمُضَاهِيًا لِلشَّارِعِ، حَيْثُ شَرَعَ مَعَ الشَّارِعِ، وَفَتَحَ لِلِاخْتِلَافِ بَابًا، وَرَدَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي الِانْفِرَادِ بِالتَّشْرِيعِ، وَكَفَى بِذَلِكَ.

وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى; لِأَنَّ الْعَقْلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلشَّرْعِ، لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى وَأَنَّهُ ضَلَالٌ مُبِينٌ. أَلَا تَرَى قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. فَحَصَرَ الْحُكْمَ فِي أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ وَالْهَوَى، وَعَزَلَ الْعَقْلَ مُجَرَّدًا إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ إِلَّا ذَلِكَ. وَقَالَ: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28]، فَجَعَلَ الْأَمْرَ مَحْصُورًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: اتِّبَاعِ الذِّكْرِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. وَهِيَ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا. وَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ; فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ هُدَى اللَّهِ فِي هَوَى نَفْسِهِ، فَلَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْهُ. وَهَذَا شَأْنُ الْمُبْتَدِعِ، فَإِنَّهُ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ. وَهُدَى اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ. وَمَا بَيَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَبَيَّنَتْهُ الْآيَةُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ وَلَا صَاحِبُهُ

بِضَالٍّ، كَيْفَ وَقَدْ قَدَّمَ الْهُدَى فَاسْتَنَارَ بِهِ فِي طَرِيقِ هَوَاهُ؟ وَهُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ. وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ هَوَاهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ تَابِعَيْنِ بِالسُّنَّةِ إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ تَابِعَيْنِ وَهُوَ الْمَذْمُومُ. وَالْمُبْتَدِعُ قَدَّمَ هَوَى نَفْسِهِ عَلَى هُدَى رَبِّهِ، فَكَانَ أَضَلَّ النَّاسِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى هُدًى. وَقَدِ انْجَرَّ هُنَا مَعْنًى يَتَأَكَّدُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ عَيَّنَتْ لِلِاتِّبَاعِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الشَّرِيعَةُ، وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّهَا عِلْمٌ وَحَقٌّ وَهُدًى. وَالْآخَرُ: الْهَوَى، وَهُوَ الْمَذْمُومُ; لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَسَاقِ الذَّمِّ. وَلَمْ يَجْعَلْ ثَمَّ طَرِيقًا ثَالِثًا، وَمَنْ تَتَبَّعَ الْآيَاتِ; أَلْفَى ذَلِكَ كَذَلِكَ. ثُمَّ الْعِلْمُ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ وَالْحَقُّ الَّذِي حُمِدَ إِنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ وَمَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143]. وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144]

وَقَالَ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]. وَهَذَا كُلُّهُ لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِي التَّشْرِيعِ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103]، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي التَّشْرِيعِ، إِذْ حَقِيقَتُهُ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] أَيْ لَا يَهْدِيهِ دُونَ اللَّهِ شَيْءٌ. وَذَلِكَ بِالشَّرْعِ لَا بِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْهُدَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ الشَّرْعِ وَالْهَوَى، تَزَلْزَلَتْ قَاعِدَةُ حُكْمِ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ مَجَالٌ إِلَّا مِنْ تَحْتِ نَظَرِ الْهَوَى، فَهُوَ إِذًا اتِّبَاعُ الْهَوَى بِعَيْنِهِ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ. وَدَعِ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ فِي الْمَعْقُولَاتِ الْمَحْضَةِ، فَلَا كَلَامَ فِيهِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ أَهْلُهُ قَدْ زَلُّوا أَيْضًا بِالِابْتِدَاعِ; فَإِنَّمَا زَلُّوا مِنْ حَيْثُ وُرُودِ الْخِطَابِ وَمِنْ حَيْثُ التَّشْرِيعِ. وَلِذَلِكَ عُذِرَ الْجَمِيعُ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، أَعْنِي: فِي خَطَئِهِمْ فِي التَّشْرِيعَاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، حَتَّى جَاءَتِ الرُّسُلُ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ يَسْتَقِيمُ

فصل الأدلة من النقل على ذم البدع

إِلَيْهَا {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ بَالِ النَّاظِرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَتْ أُصُولِيَّةً، فَهَذِهِ نُكْتَتُهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، انْتَهَى. [فَصْلٌ الْأَدِلَّةُ مِنَ النَّقْلِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ] [مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا] وَأَمَّا النَّقْلُ; فَمِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهُمَا: مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ: فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]. فَهَذِهِ الْآيَةُ أَعْظَمُ الشَّوَاهِدِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهَا: فَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]؟ قَالَ: فَإِذَا رَأَيْتِهِمْ فَاعْرِفِيهِمْ». وَصَحَّ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 7] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ; فَاحْذَرُوهُمْ». وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُبْهَمٌ. وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا، قَالَتْ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] الْآيَةَ قَالَ: فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ، فَاحْذَرُوهُمْ». وَهَذَا أَبْيَنُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَامَةَ الزَّيْغِ الْجِدَالَ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الْجِدَالُ مُقَيَّدٌ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ. فَإِذًا، الذَّمُّ إِنَّمَا لَحِقَ مَنْ جَادَلَ فِيهِ بِتَرْكِ الْمُحْكَمِ - وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ وَمُعْظَمُهُ، وَالتَّمَسُّكِ بِمُتَشَابِهِهِ. وَلَكِنَّهُ بَعْدُ مُفْتَقِرٌ إِلَى تَفْسِيرٍ أَظْهَرَ. فَجَاءَ عَنْ أَبِي غَالِبٍ وَاسْمُهُ حَزَوَّرٌ قَالَ: «كُنْتُ بِالشَّامِ، فَبَعَثَ الْمُهَلَّبُ سَبْعِينَ رَأْسًا مِنَ الْخَوَارِجِ، فَنُصِبُوا عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، فَكُنْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لِي فَمَرَّ أَبُو أُمَامَةَ فَنَزَلْتُ فَاتَّبَعْتُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا يَصْنَعُ السُّلْطَانُ بِبَنِي آدَمَ! قَالَهَا ثَلَاثًا كِلَابُ جَهَنَّمَ، كِلَابُ جَهَنَّمَ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،

خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ، فَقَالَ: أَبَا غَالِبٍ! إِنَّكَ بِأَرْضٍ هُمْ بِهَا كَثِيرٌ، فَأَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ. قُلْتُ: رَأَيْتُكَ بَكَيْتَ حِينَ رَأَيْتَهُمْ. قَالَ: بَكَيْتُ رَحْمَةً حِينَ رَأَيْتُهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَرَأَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] حَتَّى بَلَغَ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَزِيغَ بِهِمْ. ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] إِلَى قَوْلِهِ {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107]. قُلْتُ: هُمْ هَؤُلَاءِ يَا أَبَا أُمَامَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: مِنْ قِبَلِكَ تَقُولُ أَوْ شَيْءٌ سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ، بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا مَرَّةً، وَلَا مَرَّتَيْنِ حَتَّى عَدَّ سَبْعًا.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَزِيدُ عَلَيْهَا فِرْقَةً، كُلُّهُا فِي النَّارِ; إِلَّا السَّوَادُ الْأَعْظَمُ. قُلْتُ: يَا أَبَا أُمَامَةَ! أَلَا تَرَى مَا فَعَلُوا؟ قَالَ: {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] الْآيَةَ». خَرَّجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ; قَالَ: قَالَ: أَلَا تَرَى مَا فِيهِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْقَتْلُ يَوْمَئِذٍ ظَاهِرٌ؟ قَالَ: {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54]. وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا، وَقَالَ فِيهِ: " حَدِيثٌ حَسَنٌ ". وَخَرَّجَهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا بِاخْتِلَافٍ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَفِيهِ: " فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا أُمَامَةَ! تَقُولُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ تَبْكِي يَعْنِي قَوْلَهُ: شَرُّ قَتْلَى إِلَى آخِرِهِ؟! قَالَ: رَحْمَةً لَهُمْ; إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَخَرَجُوا مِنْهُ، ثُمَّ تَلَا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 7] حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: هُمْ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] حَتَّى خَتَمَهَا. ثُمَّ قَالَ: هُمْ هَؤُلَاءِ. وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ عَنْ طَاوُسٍ ; قَالَ: " ذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ الْخَوَارِجُ وَمَا

يُصِيبُهُمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: يُؤْمِنُونَ بِمُحْكَمِهِ، وَيَضِلُّونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ. وَقَرَأَ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7]. فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ; لِأَنَّ أَبَا أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الْخَوَارِجَ دَاخِلِينَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ: إِمَّا عَلَى أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِبِدْعَتِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ; عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِمْ. وَجَعَلَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مِمَّنْ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَزِيغَ بِهِمْ، وَهَذَا الْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ. مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ عَامٌّ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ عَلَى صِفَاتِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّمَا نَزَلَ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ وَمُنَاظَرَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ الْإِلَهُ أَوْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، بِأَوْجُهٍ مُتَشَابِهَةٍ، وَتَرَكُوا مَا هُوَ الْوَاضِحُ فِي عُبُودِيَّتِهِ حَسْبَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ السِّيَرِ؟! ثُمَّ تَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى قَضَايَا دَخَلَ أَصْحَابُهَا تَحْتَ حُكْمِ اللَّفْظِ; كَالْخَوَارِجِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْعُمُومِ. ثُمَّ تَلَا أَبُو أُمَامَةَ الْآيَةَ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] إِلَى قَوْلِهِ: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107]، وَفَسَّرَهَا بِمَعْنَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ الْأُخْرَى،

فَهِيَ الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ لِمَنْ تِلْكَ صِفَتُهُ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ. وَنَقَلَ عُبَيْدٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ كَيْفَ يَصْنَعُ أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ الْخَبِيثَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] قَالَ: نَبَذُوهَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَيْضًا قَالَ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: مَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَشَدُّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِلَافِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] إِلَى قَوْلِهِ: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106] قَالَ مَالِكٌ: فَأَيُّ كَلَامٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا؟! فَرَأَيْتُهُ يَتَأَوَّلُهَا لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ. وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَزَادَ: قَالَ لِي مَالِكٌ: إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ قَدْ نُقِلَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ; كَالَّذِي تَقَدَّمَ لِلْحَسَنِ. وَعَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105] يَعْنِي أَهْلَ الْبِدَعِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] قَالَ: " تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ. وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ، وَهُوَ السُّنَّةُ، وَالسُّبُلُ هِيَ سُبُلُ الِاخْتِلَافِ الْحَائِدِينَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سُبُلَ الْمَعَاصِي; لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعَاصٍ لَمْ يَضَعْهَا أَحَدٌ طَرِيقًا تُسْلَكُ دَائِمًا عَلَى مُضَاهَاةِ التَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا هَذَا الْوَصْفُ خَاصٌّ بِالْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رَوَى إِسْمَاعِيلُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا طَوِيلًا، وَخَطَّ لَنَا سُلَيْمَانُ خَطًّا طَوِيلًا، وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ لَنَا خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَقَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ وَعَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] يَعْنِي الْخُطُوطَ {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]». قَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ: " أَحْسَبُهُ أَرَادَ شَيْطَانًا مِنَ الْإِنْسِ، وَهِيَ الْبِدَعُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ". وَعَنْ عُمَرَ بْنِ سَلَمَةَ الْهَمْدَانِيِّ ; قَالَ: " كُنَّا جُلُوسًا فِي حَلْقَةِ

ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ بَطْحَاءُ قَبْلَ أَنْ يُحَصِّبَ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ أَتَى غَازِيًا: مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: هُوَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ أَبُوكَ حَتَّى دَخَلَ الْجَنَّةَ. ثُمَّ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ أَيْمَانٍ وَلَاءً، ثُمَّ خَطَّ فِي الْبَطْحَاءِ خَطًّا بِيَدِهِ، وَخَطَّ بِجَنْبَيْهِ خُطُوطًا، وَقَالَ: تَرَكَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرَفِهِ، وَطَرَفُهُ الْآخَرُ فِي الْجَنَّةِ، فَمِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ أَخَذَ فِي هَذِهِ الْخُطُوطِ هَلَكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: " يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؟ قَالَ: تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ، وَطَرَفُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَنْ يَمِينِهِ جَوَادٌ وَعَنْ يَسَارِهِ جَوَادٌ، وَعَلَيْهَا رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ: هَلُمَّ لَكَ! هَلُمَّ لَكَ! فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الطُّرُقِ; انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمَنِ اسْتَقَامَ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ; انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ تَلَا ابْنُ مَسْعُودٍ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] الْآيَةَ كُلَّهُا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، قَالَ: الْبِدَعُ وَالشُّبُهَاتُ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيِّ: " قَدْ سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ السُّنَّةِ؟ قَالَ: هِيَ مَا لَا اسْمَ لَهُ غَيْرُ السُّنَّةِ، وَتَلَا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. قَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ: يُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ لَهُ خَطًّا»، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَهَذَا التَّفْسِيرُ يَدُلُّ عَلَى شُمُولِ الْآيَةِ لِجَمِيعِ طُرُقِ الْبِدَعِ، لَا تَخْتَصُّ بِبِدْعَةٍ دُونَ أُخْرَى. وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9]. فَالسَّبِيلُ الْقَصْدُ هُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، وَمَا سِوَاهُ جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ; أَيْ: عَادِلٌ عَنْهُ، وَهِيَ طُرُقُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ سُلُوكِهَا بِفَضْلِهِ، وَكَفَى بِالْجَائِرِ أَنْ يُحَذَّرَ مِنْهُ، فَالْمَسَاقُ يَدُلُّ عَلَى التَّحْذِيرِ وَالنَّهْيِ. وَذَكَرَ ابْنُ وَضَّاحٍ ; قَالَ: " سُئِلَ عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ، وَقِيلَ لَهُ: أَبَا بَكْرٍ!، هَلْ رَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9]؟ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ; قَالَ: «خَطَّ عَبْدُ اللَّهِ خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَخُطُوطًا عَنْ شِمَالِهِ، فَقَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا، فَقَالَ لِلْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، وَلِلْخُطُوطِ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ: هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ; وَالسَّبِيلُ مُشْتَرَكَةٌ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] إِلَى آخِرِهَا». عَنِ التُّسْتُرِيِّ: {قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9]: طَرِيقُ السُّنَّةِ، {وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] ;يَعْنِي: إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ الْمِلَلُ وَالْبِدَعُ ". وَعَنْ مُجَاهِدٍ: {قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] ; أَيِ الْمُقْتَصِدُ مِنْهَا بَيْنَ الْغُلُوِّ

وَالتَّقْصِيرِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْجَائِرَ هُوَ الْغَالِي أَوِ الْمُقَصِّرُ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَوْصَافِ الْبِدَعِ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: " فَمِنْكُمْ جَائِرٌ " ; قَالُوا: يَعْنِي هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعَ الْآيَةِ قَبْلَهَا يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]. هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ جَاءَ تَفْسِيرُهَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَائِشَةُ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] مَنْ هُمْ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ، وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ، وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ; مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَا عَائِشَةُ إِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً، مَا خَلَا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مِنِّي بُرَآءٌ.»؟. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: " هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالشُّذُوذِ فِي

الْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْجِدَالِ وَالْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ، هَذِهِ كُلُّهُا عُرْضَةٌ لِلزَّلَلِ وَمَظِنَّةٌ لِسُوءِ الْمُعْتَقَدِ. وَيُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْفُرُوعِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي فَصْلِ ذَمِّ الرَّأْيِ مِنْ " كِتَابِ الْعِلْمِ " لَهُ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ. وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ بِمَكَّةَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ أَنْتَ؟، قُلْتُ: مِمَّنْ لَا يَسُبُّ السَّلَفَ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدْرِ وَلَا يُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ، فَقَالَ عَطَاءٌ: عَرَفْتَ فَالْزَمْ. وَعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا يَخْطُبُنَا، فَقَطَعُوا عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَتَرَامَوْا بِالْبَطْحَاءِ، حَتَّى جَعَلْتُ مَا أُبْصِرُ أَدِيمَ السَّمَاءِ. قَالَ: وَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ بَعْضِ حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ: هَذَا صَوْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: أَلَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ بَرِئَ مِمَّنْ فَرَّقَ دِينَهُ وَاحْتَزَبَ، وَتَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]». قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ: " أَحْسَبُهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: أُمَّ سَلَمَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي ذَلِكَ

الْوَقْتِ حَاجَّةً. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: هُمُ الْخَوَارِجُ. قَالَ الْقَاضِي: " ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ; فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ; لِأَنَّهُمْ إِذَا ابْتَدَعُوا تَجَادَلُوا وَتَخَاصَمُوا وَتَفَرَّقُوا وَكَانُوا شِيَعًا. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31]. قُرِئَ: " فَارَقُوا دِينَهُمْ ". وَفُسِّرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمُ الْخَوَارِجُ. وَرَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ. قَالُوا: رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ مَنِ ابْتَدَعَ; حَسْبَمَا قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيِ الْأُخَرِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].

فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ لَبَّسَكُمْ شِيَعًا هُوَ الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ. وَيَكُونُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65]: تَكْفِيرُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ حَتَّى يَتَقَاتَلُوا، كَمَا جَرَى لِلْخَوَارِجِ حِينَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَى {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65]: مَا فِيهِ إِلْبَاسٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: " إِنَّ الْآيَةَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: " هُنَّ أَرْبَعٌ، ظَهَرَ اثْنَتَانِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً: فَأُلْبِسُوا شِيَعًا، وَأُذِيقُ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ، فَهُمَا وَلَا بُدَّ وَاقِعَتَانِ، الْخَسْفُ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، وَالْمَسْخُ مِنْ فَوْقِكُمْ ". وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَهْوَاءِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ، وَمَذْمُومٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ. وَفِيمَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118]: قَالَ فِي الْمُخْتَلِفِينَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ. {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] ; قَالَ: " فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ لَيْسَ فِيهِمُ اخْتِلَافٌ ". وَرُوِيَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ: أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ كَانَتِ الْأَهْوَاءُ كُلُّهُا

وَاحِدًا; لَقَالَ الْقَائِلُ: لَعَلَّ الْحَقَّ فِيهِ! فَلَمَّا تَشَعَّبَتْ وَتَفَرَّقَتْ; عَرَفَ كُلُّ ذِي عَقْلٍ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَفَرَّقُ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] يَعْنِي فِي الْأَهْوَاءِ {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ. وَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ ثَابِتٌ الْخَطِيبُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ; قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْحَسَنِ وَرَجُلٌ خَلْفِي قَاعِدٌ، فَجَعَلَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] قَالَ: نَعَمْ {لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119]، فَمَنْ رَحِمَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ. وَلِهَذِهِ الْآيَةِ بَسْطٌ يَأْتِي بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مُصْعَبٍ ; قَالَ: " سَأَلْتُ أَبِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف: 103] ; هُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا ; هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ ; فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَذَّبُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ. وَالْحَرُورِيَّةُ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27].

وَكَانَ شُعْبَةُ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ. وَفِي تَفْسِيرِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] ; أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا! أُولَئِكَ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَلَكِنَّ الْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]. وَخَرَّجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي (تَفْسِيرِهِ) هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} [الكهف: 103] إِلَى قَوْلِهِ: {يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، قُلْتُ: أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا ; هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى ; فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، وَلَكِنَّ الْحَرُورِيَّةُ: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 27] فَالْأَوَّلُ: لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بِشَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةَ، وَكَذَا فَعَلَ الْمُبْتَدِعَةُ وَهُوَ بَابُهُمُ الَّذِي دَخَلُوا فِيهِ. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هَذَا التَّصَرُّفَ. فَأَهْلُ حَرُورَاءَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ قَطَعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]

عَنْ قَوْلِهِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة: 95] وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَا فَعَلَ سَائِرُ الْمُبْتَدِعَةِ حَسْبَمَا يَأْتِيكَ بِحَوْلِ اللَّهِ. وَمِنْهُ [مَا] رَوَى عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ ; قَالَ: " بَلَغَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ يَقُولُ فِي الْقَدَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَحَجَبَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا غَيْلَانُ! مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ؟ ". قَالَ عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ: " فَأَشَرْتُ إِلَيْهِ أَلَّا يَقُولَ شَيْئًا ". قَالَ: " فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا - إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا - إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 1 - 3]. قَالَ عُمَرُ: اقْرَأْ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا - يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 30 - 31]. ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ يَا غَيْلَانُ؟ قَالَ أَقُولُ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَبَصَّرْتَنِي، وَأَصَمَّ فَأَسْمَعْتَنِي، وَضَالًّا فَهَدَيْتَنِي.

فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ غَيْلَانُ صَادِقًا، وَإِلَّا فَاصْلُبْهُ ". قَالَ فَأَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْقَدَرِ، فَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ دَارَ الضَّرْبِ بِدِمَشْقَ، فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى هِشَامٍ ; تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ هِشَامٌ، فَقَطَعَ يَدَهُ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ وَالذُّبَابُ عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: يَا غَيْلَانُ! هَذَا قَضَاءٌ وَقَدَرٌ. قَالَ: كَذَبْتَ - لَعَمْرُ اللَّهِ - مَا هَذَا قَضَاءٌ وَلَا قَدَرٌ; فَبَعَثَ إِلَيْهِ هِشَامٌ فَصَلَبَهُ ". وَالثَّالِثُ: لِأَنَّ الْحَرُورِيَّةَ جَرَّدُوا السُّيُوفَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَهُوَ غَايَةُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ شَائِعٌ، وَسَائِرُهُمْ يُفْسِدُونَ بِوُجُوهٍ مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ تَقْتَضِيهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159]. وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ: " «إِنَّ الْأُمَّةَ تَتَفَرَّقُ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» ". وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِمُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ أَيْضًا، فَقَدْ وَافَقَ أَبَاهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ. ثُمَّ فَسَّرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ: أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ

الزَّيْغِ الْحَاصِلِ فِيهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى آيَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]. الْآيَةَ; فَإِنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَدْخَلَ الْحَرُورِيَّةُ فِي الْآيَتَيْنِ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الزَّيْغُ فِي إِحْدَاهُمَا، وَالْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأُخْرَى; لِأَنَّهَا فِيهِمْ مَوْجُودَةٌ. فَآيَةُ الرَّعْدِ تَشْمَلُ [الْحَرُورِيَّةَ] بِلَفْظِهَا; لِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لُغَةً، وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْكُفَّارِ خُصُوصًا; فَهِيَ تُعْطِي أَيْضًا فِيهِمْ حُكْمًا مِنْ جِهَةِ تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ. وَكَذَلِكَ آيَةُ الصَّفِّ; لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِقَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْ هُنَا كَانَ شُعْبَةُ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ أَعْنِي: الْحَرُورِيَّةَ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ جَاءَ فِيهَا: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108]، وَالزَّيْغُ أَيْضًا كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمْ، فَدَخَلُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وَمِنْ هُنَا يُفْهَمُ أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ بِالْحَرُورِيَّةِ، بَلْ تَعُمُّ كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الَّتِي أَصْلُهَا الزَّيْغُ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى. وَإِنَّمَا فَسَّرَهَا سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْحَرُورِيَّةِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا سُئِلَ عَنْهُمْ عَلَى الْخُصُوصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ; لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ تَخْصِيصًا.

وَأَمَّا الْمَسْئُولُ عَنْهَا أَوَّلًا وَهِيَ آيَةُ الْكَهْفِ فَإِنَّ سَعْدًا نَفَى أَنْ تَشْمَلَ الْحَرُورِيَّةَ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ (الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) بِالْحَرُورِيَّةِ أَيْضًا. فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ; قَالَ: " قَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَنِ {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]؟ قَالَ: مِنْهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ ". وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ فِي " تَفْسِيرِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ". وَفِي " جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ ": " أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْآيَةِ؟ فَقَالَ لَهُ: ارْقَ إِلَيَّ أُخْبِرْكَ وَكَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَرَقِيَ إِلَيْهِ دَرَجَتَيْنِ، فَتَنَاوَلَهُ بِعَصًا كَانَتْ فِي يَدِهِ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ ". وَخَرَّجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ; قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَوْدٍ: " أَنَّ عَلِيًّا خَطَبَ النَّاسَ بِالْعِرَاقِ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَصَاحَ بِهِ ابْنُ الْكَوَّاءِ مِنْ أَقْصَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَنِ (الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا)؟ قَالَ: أَنْتَ، فَقُتِلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ يَوْمَ الْخَوَارِجِ ". وَنَقَلَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: " أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَهُ؟ فَقَالَ: أَنْتُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ، وَأَهْلُ الرِّيَاءِ، وَالَّذِينَ يُحْبِطُونَ الصَّنِيعَةَ بِالْمِنَّةِ ". فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ حَرُورَاءَ بَعْضُ مَنْ شَمِلَتْهُ الْآيَةُ.

وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِهِمْ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 104] ; وَصَفَهُمْ بِالضَّلَالِ مَعَ ظَنِّ الِاهْتِدَاءِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ عُمُومًا، كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوَّلًا، مِنْ حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّهِ. فَقَدْ يَجْتَمِعُ التَّفْسِيرَانِ فِي الْآيَةِ، تَفْسِيرُ سَعْدٍ بِأَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَتَفْسِيرُ عَلِيٍّ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدْعَةِ; لِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى الِابْتِدَاعِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ كُفْرَ النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا فِي الْجَنَّةِ غَيْرَ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ بِالرَّأْيِ. فَاجْتَمَعَتِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ عَلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ وَأَهْلِهَا، وَأَشْعَرَ كَلَامُ سَعِدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ اقْتَضَتْ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ الْمُبْتَدِعَةِ، فَهُمْ مَقْصُدُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْخِزْيِ وَسُوءِ الْجَزَاءِ، إِمَّا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْوَصْفِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِكِتَابٍ فِي كَتِفٍ فَقَالَ: " كَفَى بِقَوْمٍ حُمْقًا أَوْ قَالَ: ضَلًالًا أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَى غَيْرِ نَبِيِّهِمْ، أَوْ كِتَابٍ إِلَى غَيْرِ كِتَابِهِمْ " فَنَزَلَتْ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]». وَخَرَّجَ عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ

رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي "، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ». وَخَرَّجَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] ; قَالَ: " مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ يُعْمَلُ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ ". وَهَذَا التَّفْسِيرُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ; قَالَ: " مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ صَالِحَةٍ يُعْمَلُ بِهَا مِنْ بَعْدِهَا، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا ". خَرَّجَهُ ابْنُ مُبَارَكٍ وَغَيْرُهُ. وَجَاءَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَبِي قِلَابَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: " كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ أَوْ فِرْيَةٍ ذَلِيلٌ "، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]. وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] ; يَقُولُ: " مَا قَدَّمُوا مِنْ خَيْرٍ، وَآثَارَهُمُ الَّتِي

فصل ما جاء من الأحاديث في ذم البدع وأهلها

أَوْرَثُوا النَّاسَ بَعْدَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أَرَى أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً، أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ ". قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: " وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]. وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ أَنَّهُ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ فَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْجَوْزَاءِ بِيَدِهِ; لِأَنْ تَمْتَلِئَ دَارِي قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُجَاوِرَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَقَدْ دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119]. وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ وَالْمُشِيرَةُ إِلَى ذَمِّهِمْ وَالنَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَةِ أَحْوَالِهِمْ كَثِيرَةٌ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَفِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَوْعِظَةُ لِمَنِ اتَّعَظَ، وَالشِّفَاءُ لِمَا فِي الصُّدُورِ. [فَصْلٌ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا] الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ النَّقْلِ: مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ; إِلَّا أَنَّا نَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى

الْبَاقِي وَنَتَحَرَّى فِي ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الصِّحَّةِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ; فَهُوَ رَدٌّ». وَفِي رِوَايَةٍ لِـ مُسْلِمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا; فَهُوَ رَدٌّ». وَهَذَا الْحَدِيثُ عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ ثُلُثَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ جَمَعَ وَجْهَ الْمُخَالَفَةِ لِأَمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا كَانَ بِدْعَةً أَوْ مَعْصِيَةً. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: " «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ". وَفِي رِوَايَةٍ; قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ، يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَخَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ». وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: " «وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ فِي النَّارِ» ". وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْطُبُ بِهَذِهِ الْخُطْبَةِ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " «إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: الْكَلَامُ، وَالْهُدَى، فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، إِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» ". وَفِي لَفْظٍ: " «غَيْرَ أَنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» ". وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَخْطُبُ بِهَذَا كُلَّ خَمِيسٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: " «إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ: الْهُدَى، وَالْكَلَامُ، فَأَفْضَلُ الْكَلَامِ أَوْ أَصْدَقُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، أَلَا لَا يَتَطَاوَلَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمْرُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، وَلَا يُلْهِيَنَّكُمُ الْأَمَلُ، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، أَلَا إِنَّ بَعِيدًا مَا لَيْسَ آتِيًا». وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: " «أَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَ {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134]»). وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».

وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ دَعَا إِلَى الْهُدَى; كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ يَتْبَعُهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ يَتْبَعُهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا». وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا; فَلَهُ أَجْرُهُ، وَمِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعُهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا; كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ كَأَنَّ هَذَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا

حَبَشِيًّا; فَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ بَعْدِي; فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. وَرُوِيَ عَلَى وُجُوهٍ مِنْ طُرُقٍ». وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: " نَعَمْ; قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْتَدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي ". قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ، قَذَفُوهُ فِيهَا ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: " نَعَمْ; هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا ". قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: " تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ ". قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ وَلَا جَمَاعَةٌ؟ قَالَ: " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهُا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» ". وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى نَحْوٍ آخَرَ.

وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيفَةِ: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا; فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» ". وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سِيَاقِ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ حَدَثٍ أُحْدِثَ فِيهَا مِمَّا يُنَافِي الشَّرْعَ، وَالْبِدَعُ مِنْ أَقْبَحِ الْحَدَثِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةٍ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا بِحَوْلِ اللَّهِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَدِينَةِ ; فَغَيْرُهَا أَيْضًا يَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى. وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ: فَقَالَ: " «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» " الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ فِيهِ «فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ، أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا». حَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ.

وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا خَرَّجَهُ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ ; قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَاهُنَا قَوْمًا يَشْهَدُونَ عَلَيْنَا بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ، فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ; سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْكُفْرِ أَوِ الشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَرَكَهَا فَقَدْ أَشْرَكَ، وَحَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ، أَبَارِيقُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ أَوْ قَالَ: كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، لَهُ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، كُلَّمَا نَضَبَ أَمَدَّاهُ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَسَيَرِدُهُ أَقْوَامٌ ذَابِلَةٌ شِفَاهُهُمْ، فَلَا يُطْعَمُونَ مِنْهُ قَطْرَةً وَاحِدَةً. مَنْ كَذَّبَ بِهِ الْيَوْمَ، لَمْ يُصِبْ مِنْهُ الشَّرَابَ يَوْمَئِذٍ». فَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، فَنِسْبَتُهُمْ أَهْلَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ مِنْ أَوْصَافِ الْخَوَارِجِ، وَالتَّكْذِيبُ بِالْحَوْضِ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ وَغَيْرِهِمْ. مَعَ مَا فِي حَدِيثِ " الْمُوَطَّأِ " مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا هَلُمَّ لِأَنَّهُ عَرَفَهُمْ بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ الَّذِي جَعَلَهُ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّتِهِ، وَإِلَّا; فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْأُمَّةِ; لَمْ يَعْرِفْهُمْ بِالْعَلَامَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْعِظَةِ، فَقَالَ: " «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]»). قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّهُ يُسْتَدْعَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 117 - 118]، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتُهُمْ» ". وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْحَدِيثُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ، كَحَدِيثِ " الْمُوَطَّأِ "، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنِ ارْتَدَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً». حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي الْحَدِيثِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ، سَيَأْتِي ذِكْرُهَا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَكِنَّ الْفِرَقَ فِيهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فِرَقُ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا

يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا». وَهُوَ آتٍ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا; فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ، حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ; لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَضَلَلْتُمْ» الْحَدِيثَ. فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ جُعِلَ تَرْكُ السُّنَّةِ ضَلَالَةً! وَفِي رِوَايَةٍ: «لَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكَفَرْتُمْ»، وَهُوَ أَشَدُّ فِي التَّحْذِيرِ. وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ، أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فِيهِ الْهُدَى مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ; كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ; ضَلَّ» وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ». وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا خَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ وَنَحْوُهُ لِابْنِ وَهْبٍ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; قَالَ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ بِبِدْعٍ مِنَ الْحَدِيثِ، لَمْ تَسْمَعُوهُ أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ إِيَّاهُمْ لَا يَفْتِنُونَكُمْ». وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا سُّنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا»، حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِابْنِ وَضَّاحٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَنْ أَتَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ لَا تُوقَفَ عَلَى الصِّرَاطِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى تَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلَا تُحْدِثْ فِي دِينِ اللَّهِ حَدَثًا بِرَأْيِكَ». وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ اقْتَدَى بِي، فَهُوَ مِنِّي،

وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي; فَلَيْسَ مِنِّي». وَخَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سِتَّةٌ أَلْعَنُهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مُجَابٍ: الزَّائِدُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَالْمُتَسَلِّطُ بِالْجَبَرُوتِ يُذِلُّ بِهِ مَنْ أَعَزَّ اللَّهُ وَيَعِزُّ بِهِ مَنْ أَذَلَّ اللَّهُ، وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي، وَالْمُسْتَحِلُّ لِحَرَمِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللَّهُ». وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبِ: «سِتَّةٌ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنْتُهُمْ، وَفِيهِ: وَالرَّاغِبُ عَنْ سُنَّتِي إِلَى بِدَعٍ». وَفِي الطَّحَاوِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَإِمَّا إِلَى سُّنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ هَلَكَ».

وَفِي مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; قَالَ: «ذَكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْلَاةً لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالُوا: إِنَّهَا قَامَتِ اللَّيْلَ وَصَامَتِ النَّهَارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنِ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي، إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةً ثُمَّ فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى بِدْعَةٍ، فَقَدْ ضَلَّ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُّنَّةٍ فَقَدِ اهْتَدَى». وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ وَمُمَثِّلٌ مِنَ

الْمُمَثِّلِينَ». وَفِي " مُنْتَقَى حَدِيثِ خَيْثَمَةَ " عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا، فَيُحْدِثُونَ الْبِدْعَةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ إِذَا أَدْرَكْتُهُمْ؟ قَالَ: تَسْأَلُنِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ لَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ». وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا، وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ، وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ فِي النَّاسِ لَكَثِيرٌ، قَالَ: وَسَيَكُونُ فِي قُرُونٍ بَعْدِي»، حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي كِتَابِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ أَوْ قَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ، قَدْ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، اخْتَلَفُوا فَصَارَتْ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قَالُوا: وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُونَ بِمَا تَعْرِفُونَ، وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ، وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ». وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ مُرْسَلًا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، قَالُوا: وَمَا الشِّعَابُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْأَهْوَاءُ». وَخَرَّجَ أَيْضًا: «إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخِلُ الْعَبْدَ الْجَنَّةَ بِالسُّنَّةِ يَتَمَسَّكُ بِهَا». وَفِي كِتَابِ السُّنَّةِ لِلْآجُرِّيِّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مُعَاذَ بْنِ جَبَلٍ ; قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حَدَثَ فِي أُمَّتِي الْبِدَعُ، وَشُتِمَ أَصْحَابِي، فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: فَقُلْتُ لِلْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ: مَا إِظْهَارُ الْعِلْمِ؟

فصل ما جاء عن السلف الصالح في ذم البدع وأهلها

قَالَ: إِظْهَارُ السُّنَّةِ. وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَلْيَعْلَمِ الْمُوَفَّقُ أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ يَقْصُرُ عَنْ رُتْبَةِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهَا عَمَلًا بِمَا أَصَّلَهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ ذَمُّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الْقُرْآنِيِّ وَالدَّلِيلِ السُّنِّيِّ الصَّحِيحِ، فَمَا زِيدَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا حَرَجَ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [فَصْلٌ مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا] الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا: وَهُوَ كَثِيرٌ. فَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ: مَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ! قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا ". وَصَفَّقَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: " إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا " إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ

الْقُرَّاءِ! اسْتَقِيمُوا; فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا، لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلًالًا بَعِيدًا. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَيَقِفُ عَلَى الْحِلَقِ، فَيَقُولُ: " يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ! اسْلُكُوا الطَّرِيقَ، فَلَئِنْ سَلَكْتُمُوهَا; لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا، لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلًالًا بَعِيدًا ". وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ: فَوَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَقَمْتُمْ; لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا. الْحَدِيثَ وَعَنْهُ أَيْضًا: " أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى النَّاسِ اثْنَتَانِ: أَنْ يُؤْثِرُوا مَا يَرَوْنَ عَلَى مَا يَعْمَلُونَ، وَأَنْ يَضِلُّوا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ". قَالَ سُفْيَانُ: وَهُوَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ أَخَذَ حَجَرَيْنِ، فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " هَلْ تَرَوْنَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ "؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا نَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ النُّورِ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ; لَتَظْهَرَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى لَا يُرَى مِنَ الْحَقِّ إِلَّا قَدْرُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ، وَاللَّهِ لَتَفْشُوَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ; قَالُوا: تُرِكَتِ السُّنَّةُ ". وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةَ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةَ، وَلَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، وَلَيُصَلِّيَنَّ نِسَاؤُكُمْ وَهُنَّ حُيَّضٌ، وَلَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، وَحَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، لَا تُخْطِئُونَ طَرِيقَهُمْ، وَلَا تُخْطِئُ بِكُمْ، وَحَتَّى تَبْقَى فِرْقَتَانِ مِنْ

فِرَقٍ كَثِيرَةٍ تَقُولُ إِحْدَاهُمَا: مَا بَالُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؟، لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]، لَا تُصَلُّونَ إِلَّا ثَلَاثًا. وَتَقُولُ الْأُخْرَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ كَإِيمَانِ الْمَلَائِكَةِ، مَا فِيهَا كَافِرٌ وَلَا مُنَافِقٌ. حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْشُرَهُمَا مَعَ الدَّجَّالِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُوَافِقٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ: «لَأَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ ; فَإِنَّ السُّنَّةُ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً لِلْكِتَابِ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالسُّنَّةِ ; زَلَّ عَنِ الْكِتَابِ كَمَا زَلَّ عَنِ السُّنَّةِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُ الْقَائِلُ: " لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا» " إِلَى آخِرِهِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ عَنْ حُذَيْفَةَ مِنْ تَخْرِيجِ ابْنِ وَضَّاحٍ. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " اتَّبِعُوا آثَارَنَا وَلَا تَبْتَدِعُوا; فَقَدْ كُفِيتُمْ ". وَخَرَّجَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا: أَنَّهُ قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ بِذَهَابِ أَهْلِهِ. عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ; فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَفْتَقِرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ. وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ وَالتَّنَطُّعَ وَالتَّعَمُّقَ،

وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ ". وَعَنْهُ أَيْضًا: " لَيْسَ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، لَا أَقُولُ: عَامٌ أَمْطَرُ مِنْ عَامٍ، وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ، وَلَكِنْ ذَهَابُ عُلَمَائِكُمْ وَخِيَارِكُمْ، ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ، فَيُهْدَمُ الْإِسْلَامُ وَيُثْلَمُ. وَقَالَ أَيْضًا: " كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا أُلْبِسْتُمْ فِتْنَةً، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَنْشَأُ فِيهَا الصَّغِيرُ، تَجْرِي عَلَى النَّاسِ، يُحْدِثُونَهَا سُّنَّةً، وَإِذَا غُيِّرَتْ، قِيلَ: هَذَا مُنْكَرٌ؟!. وَقَالَ أَيْضًا: " أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَبْتَدِعُوا، وَلَا تَنَطَّعُوا، وَلَا تَعَمَّقُوا، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ، خُذُوا مَا تَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا تُنْكِرُونَ ". وَعَنْهُ أَيْضًا: " الْقَصْدُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْبِدْعَةِ ". وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَاهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُّنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ. وَعَنْهُ أَيْضًا خَرَّجَهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ أَنَّهُ قَالَ: أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِمَامٌ ضَالٌّ يُضِلُّ النَّاسَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَمُصَوِّرٌ، وَرَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ; قَالَ: " لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ، إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ

أَنْ أَزِيغَ ". خَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ; قَالَ: " بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَأْكُلُ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، فَقَالَ عُمَرُ لِمَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ يَرْفَأُ: إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَ عَشَاؤُهُ فَأَعْلِمْنِي، فَلَمَّا حَضَرَ عَشَاؤُهُ، أَعْلَمَهُ، فَأَتَاهُ عُمَرُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَرَّبَ عَشَاءَهُ فَجَاءَ بِثَرِيدِ لَحْمٍ، فَأَكَلَ عُمَرُ مَعَهُ مِنْهَا، ثُمَّ قَرَّبَ شِوَاءً، فَبَسَطَ يَزِيدُ يَدَهُ، وَكَفَّ عُمَرُ يَدَهُ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ يَا يَزِيدُ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، أَطَعَامٌ بَعْدَ طَعَامٍ؟! وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ، لَئِنْ خَالَفْتُمْ عَنْ سُنَّتِهِمْ، لَيُخَالَفَنَّ بِكُمْ عَنْ طَرِيقِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ ". وَخَرَّجَ الْآجُرِّيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ; قَالَ: " أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ [رِجَالٌ]، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّا لَقِينَا رَجُلًا يَسْأَلُ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَمْكِنِّي مِنْهُ ". قَالَ: " فَبَيْنَمَا عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ يُغَدِّي النَّاسَ; إِذْ جَاءَهُ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَعِمَامَةٌ، فَتَغَدَّى، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا - فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} [الذاريات: 1 - 2] فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ هُوَ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ مُحْسِرًا عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَجْلِدُهُ حَتَّى سَقَطَتْ عِمَامَتُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ; لَوْ وَجَدْتُكَ مَحْلُوقًا; لَضَرَبْتُ رَأْسَكَ. أَلْبِسُوهُ ثِيَابَهُ، وَاحْمِلُوهُ عَلَى قَتَبٍ، ثُمَّ أَخْرِجُوهُ حَتَّى تَقْدَمُوا بِهِ بِلَادَهُ،

ثُمَّ لِيَقُمْ خَطِيبًا ثُمَّ لِيَقُلْ: إِنَّ صَبِيغًا طَلَبَ الْعِلْمَ، فَأَخْطَأَ فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعًا فِي قَوْمِهِ حَتَّى هَلَكَ، وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ. وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهُ قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ أَبَدًا. وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ، فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، إِلَّا كَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ قَدْ يَبُسَ وَرَقُهَا، فَهِيَ كَذَلِكَ إِذَا أَصَابَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَتَحَاتَّ عَنْهَا وَرَقُهَا; إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتَّ عَنِ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا، فَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسُنَّةً خَيْرٌ مِنِ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، وَانْظُرُوا أَنْ يَكُونَ عَمَلُكُمْ إِنْ كَانَ اجْتِهَادًا وَاقْتِصَادًا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ. وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; قَالَ: " مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ; إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا سُنَّةً، حَتَّى تَحْيَا الْبِدَعُ، وَتَمُوتَ السُّنَنُ ". وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالْأَثَرِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ ". وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ أَيْضًا; قَالَ: " مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ

يَوْمًا: " إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا، يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ، حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لِلنَّاسِ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ. قَالَ الرَّاوِي: قُلْتُ لِمُعَاذٍ: وَمَا يُدْرِينِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ ضَلَالَةٍ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: " بَلَى! اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ (غَيْرَ) الْمُشْتَهِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا: مَا هَذِهِ؟ وَلَا يَثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ، فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا ". وَفِي رِوَايَةٍ مَكَانَ (الْمُشْتَهِرَاتِ): الْمُشْتَبِهَاتِ، وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَا تَشَابَهَ عَلَيْكَ مِنْ قَوْلٍ، حَتَّى يُقَالَ: مَا أَرَادَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ؟ وَيُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا لَمْ يَشْتَمِلْ ظَاهِرُهُ عَلَى مُقْتَضَى السُّنَّةِ، حَتَّى تُنْكِرَهُ الْقُلُوبُ، وَيَقُولَ النَّاسُ: مَا هَذِهِ؟ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُحْذَرُ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ حَسْبَمَا يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ. وَمِمَّا جَاءَ عَمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: مَا ذَكَرَ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنِ الْحَسَنِ ; قَالَ: صَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا يَزْدَادُ اجْتِهَادًا - صِيَامًا وَصَلَاةً - إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا.

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: " لِأَنْ أَرَى فِي الْمَسْجِدِ نَارًا لَا أَسْتَطِيعُ إِطْفَاءَهَا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِيهِ بِدْعَةً لَا أَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا ". وَعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ: " اتَّبِعْ طُرُقَ الْهُدَى وَلَا يَضُرُّكَ قِلَّةُ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطُرُقَ الضَّلَالَةِ وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ ". وَعَنِ الْحَسَنِ: " لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ هَوًى فَيَقْذِفَ فِي قَلْبِكَ مَا تَتَّبِعُهُ عَلَيْهِ فَتَهْلِكَ، أَوْ تُخَالِفَهُ فَيَمْرَضَ قَلْبُكَ ". وَعَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] ; قَالَ: " كَتَبَ اللَّهُ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا كَتَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، فَأَمَّا الْيَهُودُ; فَرَفَضُوهُ، وَأَمَّا النَّصَارَى; فَشَقَّ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ، فَزَادُوا فِيهِ عَشْرًا، وَأَخَّرُوهُ إِلَى أَخَفِّ مَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّوْمُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ ". فَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ; قَالَ: " عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُّنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ ". وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ: " لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ; فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، وَيُلَبِّسُوا عَلَيْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ". قَالَ أَيُّوبُ: " وَكَانَ وَاللَّهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ ذَوِي الْأَلْبَابِ ". وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " إِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ أَهْلُ ضَلَالَةٍ، وَلَا أَرَى مَصِيرَهُمْ إِلَّا إِلَى النَّارِ ".

وَعَنِ الْحَسَنِ: " لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يُمْرِضُ قَلْبَكَ ". وَعَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا ". وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ: " مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلَّا اسْتَحَلَّ السَّيْفَ ". وَكَانَ أَيُّوبُ يُسَمِّي أَصْحَابَ الْبِدَعِ خَوَارِجَ، وَيَقُولُ: " إِنَّ الْخَوَارِجَ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى السَّيْفِ ". وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: " كَانَ رَجُلٌ فَقِيهٌ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنِّي هَدَيْتُ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَأَضْلَلْتُ رَجُلًا وَاحِدًا ". وَخَرَّجَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " لَا يَسْتَقِيمُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نِيَّةٌ، إِلَّا مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ ". وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ يَرَى أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً أَهْلَ الْأَهْوَاءِ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ: " وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَرْتَدَّ قُلُوبُكُمْ ". وَعَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ صِيَامًا وَلَا صَلَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا جِهَادًا وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَدَقَةً وَلَا عِتْقًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ". زَادَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: " وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَشْتَبِهُ فِيهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ; لَمْ يَنْفَعْ فِيهِ دُعَاءٌ إِلَّا كَدُعَاءِ الْغَرَقِ ". وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ; قَالَ: " إِذَا لَقِيتَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ

فِي طَرِيقٍ; فَخُذْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: " مَنْ جَالَسَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ، نُزِعَتْ مِنْهُ الْعِصْمَةُ، وَوُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ. وَعَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِابْنِهِ: " يَا عِيسَى، أَصْلِحْ قَلْبَكَ وَأَقْلِلْ مَالَكَ ". وَكَانَ يَقُولُ: " وَاللَّهِ لَأَنْ أَرَى عِيسَى فِي مَجَالِسِ أَصْحَابِ الْبَرَابِطِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْبَاطِلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَاهُ يُجَالِسُ أَصْحَابَ الْخُصُومَاتِ ". قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: " يَعْنِي: أَهْلَ الْبِدَعِ ". وَقَالَ رِجَالٌ لِـ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَنِ السُّنِّيُّ؟ [قَالَ]: " الَّذِي إِذَا ذُكِرَتِ الْأَهْوَاءُ لَمْ يَغْضَبْ لِشَيْءٍ مِنْهَا ". وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: " إِنَّ الَّذِي تُعْرَضُ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فَيَقْبَلُهَا الْغَرِيبُ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ صَاحِبُهَا ". وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الشَّيْبَانِيِّ ; قَالَ: " كَانَ يُقَالُ: يَأْبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ بِتَوْبَةٍ، وَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ إِلَّا إِلَى شَرٍّ مِنْهَا ". وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: " تَعَلَّمُوا الْإِسْلَامِ، فَإِذَا تَعَلَّمْتُمُوهُ; فَلَا تَرْغَبُوا عَنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ; فَإِنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَلَا تُحَرِّفُوا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَعَلَيْكُمْ بِسُّنَّةِ نَبِيِّكُمْ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْتُلُوا صَاحِبَهُمْ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا، قَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْتُلُوا

صَاحِبَهُمْ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا، وَإِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْأَهْوَاءَ الَّتِي تُلْقِي بَيْنَ النَّاسِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ". فَحُدِّثَ الْحَسَنُ بِذَلِكَ فَقَالَ: " رَحِمَهُ اللَّهُ، صَدَقَ وَنَصَحَ ". خَرَّجَهُ ابْنُ وَضَّاحٍ وَغَيْرُهُ. وَكَانَ مَالِكٌ كَثِيرًا مَا يُنْشِدُ: وَخَيْرُ أُمُورِ الدِّينِ مَا كَانَ سُّنَّةً ... وَشَرُّ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَاتُ الْبَدَائِعُ وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ؛ قَالَ: " أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ آفَةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، فَيَتَصَيَّدُونَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَسَنِ عِنْدَ الْجُهَّالِ مِنَ النَّاسِ، فَيَقْذِفُونَ بِهِمْ فِي الْمَهَالِكِ، فَمَا أَشْبَهَهُمْ بِمَنْ يَسْقِي الصَّبْرَ بِاسْمِ الْعَسَلِ، وَمَنْ يَسْقِي السُّمَّ الْقَاتِلَ بِاسْمِ التِّرْيَاقِ، فَأَبْصِرْهُمْ; فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَكُنْ أَصْبَحْتَ فِي بَحْرِ الْمَاءِ، فَقَدْ أَصْبَحْتَ فِي بَحْرِ الْأَهْوَاءِ الَّذِي هُوَ أَعْمَقُ غَوْرًا، وَأَشَدُّ اضْطِرَابًا، وَأَكْثَرُ صَوَاعِقَ، وَأَبْعَدُ مَذْهَبًا مِنَ الْبَحْرِ وَمَا فِيهِ، فَتِلْكَ مَطِيَّتُكَ الَّتِي تَقْطَعُ بِهَا سَفَرَ الضَّلَالِ، اتِّبَاعُ السُّنَّةِ ". وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: " اعْلَمْ أَيْ أَخِي أَنَّ الْمَوْتَ كَرَامَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ عَلَى السُّنَّةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو وَحْشَتَنَا، وَذَهَابَ الْإِخْوَانِ، وَقِلَّةَ الْأَعْوَانِ، وَظُهُورَ الْبِدَعِ. وَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو

عَظِيمَ مَا حَلَّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ ذَهَابِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَظُهُورِ الْبِدَعِ ". وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي بِدِينِكَ وَبِسُّنَّةِ نَبِيِّكَ، مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْحَقِّ، وَمِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَمِنْ سُبُلِ الضَّلَالَةِ، وَمِنْ شُبُهَاتِ الْأُمُورِ، وَمِنَ الزَّيْغِ وَالْخُصُومَاتِ ". وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ يَكْتُبُ فِي كُتُبِهِ: " إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ مَا مَالَتْ إِلَيْهِ الْأَهْوَاءُ وَالزِّيَغُ الْبَعِيدَةُ ". وَلَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ; صَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ نَبِيٌّ، وَلَا بَعْدَ كِتَابِكُمْ كِتَابٌ، وَلَا بَعْدَ سُنَّتِكُمْ سُّنَّةٌ، وَلَا بَعْدَ أُمَّتِكُمْ أُمَّةٌ، أَلَا وَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا وَإِنَّ الْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِقَاضٍ وَلَكِنِّي مُنَفِّذٌ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِخَازِنٍ وَلَكِنِّي أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِخَيْرِكُمْ وَلَكِنِّي أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا. أَلَا وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ". ثُمَّ نَزَلَ. وَفِيهِ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ أُذَيْنَةَ عَنْ أُذَيْنَةَ يَرْثِيهِ بِهَا: وَأَحْيَيْتَ فِي الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَسُنَّةً ... وَلَمْ تَبْتَدِعْ حُكْمًا مِنَ الْحُكْمِ أضْجَعَا فَفِي كُلِّ يَوْمٍ كُنْتَ تَهْدِمُ بِدْعَةً ... وَتَبْنِي لَنَا مِنْ سُنَّةٍ مَا تَهَدَّمَا وَمِنْ كَلَامِهِ الَّذِي عُنِيَ بِهِ وَيَحْفَظُهُ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ يُعْجِبُ مَالِكًا جِدًّا،

وَهُوَ أَنْ قَالَ: " سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا، الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهُ، مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ انْتَصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ". وَبِحَقٍّ مَا كَانَ يُعْجِبُهُمْ; فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ، جَمَعَ أُصُولًا حَسَنَةً مِنَ السُّنَّةِ: مِنْهَا مَا نَحْنُ فِيهِ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: " لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهَا "، قَطْعٌ لِمَادَّةِ الِابْتِدَاعِ جُمْلَةً. وَقَوْلُهُ: " مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ مَدْحٌ لِمُتَّبِعِ السُّنَّةِ، وَذَمٌّ لِمَنْ خَالَفَهَا بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وَمِنْهَا مَا سَنَّهُ وُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; فَهُوَ سُّنَّةَ; لَا بِدْعَةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ عَلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ نَصُّ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا،

وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ». فَقَرَنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَرَى سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِسُنَّتِهِ، وَإِنَّ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِمُ، وَإِنَّ الْمُحْدَثَاتِ خِلَافُ ذَلِكَ، لَيْسَتْ مِنْهَا فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا سَنُّوهُ: إِمَّا مُتَّبِعُونَ لِسُّنَّةِ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسِهَا، وَإِمَّا مُتَّبِعُونَ لِمَا فَهِمُوا مِنْ سُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ عَلَى وَجْهٍ يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِمْ مِثْلُهُ، لَا زَائِدَ عَلَى ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ. عَلَى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمَ نَقَلَ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ قَوْلَ السَّلَفِ الصَّالِحِ: " سُنَّةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "، أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ: " أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ السُّنَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ ". وَمَا قَالَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَا زَائِدَ إِذًا عَلَى مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ; إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُخَافُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِسُنَّةٍ أُخْرَى، فَافْتَقَرَ الْعُلَمَاءُ إِلَى النَّظَرِ فِي عَمَلِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَاسِخٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِهِ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَنَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي احْتِجَاجِهِ بِالْعَمَلِ، وَرُجُوعِهِ إِلَيْهِ عِنْدَ تَعَارُضِ السُّنَنِ.

فصل ما جاء عن الصوفية في ذم البدع وأهلها

وَمِنَ الْأُصُولِ الْمُضَمَّنَةِ فِي أَثَرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّ سُنَّةَ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَعَمَلَهُمْ تَفْسِيرٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِ: " الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ ". وَهُوَ أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَدْ جَمَعَ كَلَامُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ أُصُولًا حَسَنَةً وَفَوَائِدَ مُهِمَّةً. وَمِمَّا يُعْزَى لِـ أَبِي إِلْيَاسَ الْأَلْبَانِيِّ: " ثَلَاثٌ لَوْ كُتِبْنَ فِي ظُفُرٍ; لَوَسِعَهُنَّ، وَفِيهِنَّ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: اتَّبِعْ لَا تَبْتَدِعْ، اتَّضِعْ لَا تَرْتَفِعْ، وَمَنْ وَرِعَ لَا يَتَّسِعُ ". وَالْآثَارُ هُنَا كَثِيرَةٌ. [فَصْلٌ مَا جَاءَ عَنِ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا] الْوَجْهُ الرَّابِعُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا عَنِ الصُّوفِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ النَّاسِ: وَإِنَّمَا خَصَصْنَا هَذَا الْمَوْضِعَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّقْلِ كِفَايَةٌ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجُهَّالِ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مُتَسَاهِلُونَ فِي الِاتِّبَاعِ، وَأَنَّ اخْتِرَاعَ الْعِبَادَاتِ وَالْتِزَامَ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ الْتِزَامُهُ مِمَّا يَقُولُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ أَوْ يَقُولُوا بِهِ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَنَوْا عَلَيْهِ طَرِيقَتَهُمْ: اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَاجْتِنَابُ مَا خَالَفَهَا، حَتَّى زَعَمَ مُذَكِّرُهُمْ، وَحَافِظُ مَأْخَذِهِمْ، وَعَمُودُ نِحْلَتِهِمْ، (أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ) أَنَّهُمْ إِنَّمَا اخْتُصُّوا بِاسْمِ التَّصَوُّفِ انْفِرَادًا بِهِ عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَّسِمْ أَفَاضِلُهُمْ فِي

عَصْرِهِمْ بَاسِمِ عَلَمٍ سِوَى الصُّحْبَةِ، إِذْ لَا فَضِيلَةَ فَوْقَهَا، ثُمَّ سُمِّيَ مَنْ يَلِيهِمُ التَّابِعِينَ، وَرَأَوْا هَذَا الِاسْمَ أَشْرَفَ الْأَسْمَاءِ، ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَتَبَايَنَتِ الْمَرَاتِبُ، فَقِيلَ لِخَوَاصِّ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ شِدَّةُ عِنَايَةٍ مِنَ الدِّينِ: الزُّهَّادُ وَالْعُبَّادُ. قَالَ: ثُمَّ ظَهَرَتِ الْبِدَعُ، وَادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ فِيهِمْ زُهَّادًا وَعُبَّادًا، فَانْفَرَدَ خَوَاصُّ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُرَاعُونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ اللَّهِ الْحَافِظُونَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْغَفْلَةِ بِاسْمِ التَّصَوُّفِ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، فَقَدْ عَدَّ هَذَا اللَّقَبَ مَخْصُوصًا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُبَايَنَةِ الْبِدْعَةِ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْجُهَّالُ وَمَنْ لَا عِبْرَةَ بِهِ مِنَ الْمُدَّعِينَ لِلْعِلْمِ. وَفِي غَرَضِي إِنْ فَسَحَ اللَّهُ فِي الْمُدَّةِ، وَأَعَانَنِي بِفَضْلِهِ، وَيَسَّرَ لِيَ الْأَسْبَابَ أَنْ أُلَخِّصَ فِي طَرِيقَةِ الْقَوْمِ أُنْمُوذَجًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّتِهَا وَجَرَيَانِهَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَأَنَّهُ إِنَّمَا دَاخَلَتْهَا الْمَفَاسِدُ وَتَطَرَّقَتْ إِلَيْهَا الْبِدَعُ مِنْ جِهَةِ قَوْمٍ تَأَخَّرَتْ أَزْمَانُهُمْ عَنْ عَهْدِ ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَادَّعَوُا الدُّخُولَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ سُلُوكٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا فَهْمٍ لِمَقَاصِدِ أَهْلِهَا، وَتَقَوَّلُوا عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَقُولُوا بِهِ، حَتَّى صَارَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْأَخِيرِ كَأَنَّهَا شَرِيعَةٌ أُخْرَى غَيْرَ مَا أَتَى بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتَسَاهَلُونَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَيَرَوْنَ اخْتِرَاعَ الْعِبَادَاتِ طَرِيقًا لِلتَّعَبُّدِ صَحِيحًا، وَطَرِيقَةُ الْقَوْمِ بَرِيئَةٌ مِنْ هَذَا الْخِبَاطِ بِحَمْدِ اللَّهِ. فَقَدَ قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: " مَنْ جَلَسَ مَعَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ، لَمْ يُعْطَ الْحِكْمَةَ ". وَقِيلَ لِـ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وَنَحْنُ نَدْعُوهُ مُنْذُ دَهْرٍ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَنَا! فَقَالَ: مَاتَتْ قُلُوبُكُمْ فِي عَشَرَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: عَرَفْتُمُ اللَّهَ فَلَمْ تُؤَدُّوا حَقَّهُ، وَالثَّانِي: قَرَأْتُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَلَمْ تَعْمَلُوا بِهِ، وَالثَّالِثُ: ادَّعَيْتُمْ حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكْتُمْ سُنَّتَهُ، وَالرَّابِعُ: ادَّعَيْتُمْ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ وَوَافَقْتُمُوهُ، وَالْخَامِسُ: قُلْتُمْ نُحِبُّ الْجَنَّةَ وَمَا تَعْمَلُونَ لَهَا. إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ. وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: " مِنْ عَلَامَةِ حُبِّ اللَّهِ مُتَابَعَةُ حَبِيبِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَمْرِهِ وَسُنَّتِهِ ". وَقَالَ: " إِنَّمَا دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ، الْأَوَّلُ: ضَعْفُ النِّيَّةِ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَالثَّانِي: صَارَتْ أَبْدَانُهُمْ مُهَيَّئَةً لِشَهَوَاتِهِمْ، وَالثَّالِثُ: غَلَبَهُمْ طُولُ الْأَمَلِ مَعَ قِصَرِ الْأَجَلِ، وَالرَّابِعُ: آثَرُوا رِضَاءَ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى رِضَاءِ اللَّهِ، وَالْخَامِسُ: اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَنَبَذُوا سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّادِسُ: جَعَلُوا زَلَّاتِ السَّلَفِ حُجَّةً لِأَنْفُسِهِمْ وَدَفَنُوا أَكْثَرَ مَنَاقِبِهِمْ. وَقَالَ لِرَجُلٍ أَوْصَاهُ: " لِيَكُنْ آثَرَ الْأَشْيَاءِ عِنْدَكَ وَأَحَبَّهَا إِلَيْكَ: إِحْكَامُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَاتِّقَاءُ مَا نَهَاكَ عَنْهُ، فَإِنَّ مَا تَعْبُدُ اللَّهَ بِهِ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا تَخْتَارُهُ لِنَفْسِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي [لَا] تَجِبُ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهَا أَبْلَغُ لَكَ فِيمَا تُرِيدُ، كَالَّذِي يُؤَدِّبُ نَفْسَهُ بِالْفَقْرِ وَالتَّقَلُّلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ أَنْ يُرَاعِيَ أَبَدًا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضٍ يُحْكِمُهُ عَلَى تَمَامِ حُدُودِهِ، وَيَنْظُرُ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ فَيَتَّقِيهِ عَلَى إِحْكَامِ مَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ الَّذِي قَطَعَ الْعِبَادَ عَنْ رَبِّهِمْ، وَقَطَعَهُمْ عَنْ أَنْ يَذُوقُوا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَأَنْ يَبْلُغُوا حَقَائِقَ الصِّدْقِ، وَحَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْآخِرَةِ: تَهَاوُنُهُمْ بِأَحْكَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَسْمَاعِهِمْ، وَأَبْصَارِهِمْ، وَأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلِهِمْ، وَبُطُونِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ، وَلَوْ وَقَفُوا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَحْكَمُوهَا; لَأُدْخِلَ عَلَيْهِمُ الْبِرُّ إِدْخَالًا تَعْجَزُ أَبْدَانُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ عَنْ حَمْلِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ حُسْنِ مَعُونَتِهِ وَفَوَائِدِ كَرَامَتِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ وَالنُّسَّاكِ حَقَّرُوا مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، وَاسْتَهَانُوا بِالْقَلِيلِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ، فَحُرِمُوا ثَوَابَ لَذَّةِ الصَّادِقِينَ فِي الْعَاجِلِ ". وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لِي: يَا بِشْرُ! تَدْرِي لِمَ رَفَعَكَ اللَّهُ بَيْنَ أَقْرَانِكَ؟ قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لِاتِّبَاعِكَ سُنَّتِي، وَحُرْمَتِكَ لِلصَّالِحِينَ، وَنَصِيحَتِكَ لِإِخْوَانِكَ، وَمَحَبَّتِكَ لِأَصْحَابِي وَأَهْلِ بَيْتِي؛ هُوَ الَّذِي بَلَّغَكَ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ ". وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: " اخْتِلَافُ النَّاسِ كُلِّهِمْ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ضِدٌّ، فَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ، وَقَعَ فِي ضِدِّهِ: التَّوْحِيدُ

وَضِدُّهُ الشِّرْكُ، وَالسُّنَّةُ وَضِدُّهَا الْبِدْعَةُ، وَالطَّاعَةُ وَضِدُّهَا الْمَعْصِيَةُ ". وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ: " كُنْتُ مَارًّا فِي تِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَخَطَرَ بِبَالِي أَنَّ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ مُبَايِنٌ لِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: كُلُّ حَقِيقَةٍ لَا تَتْبَعُهَا الشَّرِيعَةُ فَهِيَ كُفْرٌ ". وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْزَجَانِيُّ: " مِنْ عَلَامَاتِ السَّعَادَةِ عَلَى الْعَبْدِ: تَيْسِيرُ الطَّاعَةِ عَلَيْهِ، وَمُوَافَقَةُ السُّنَّةِ فِي أَفْعَالِهِ، وَصُحْبَتُهُ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَحُسْنُ أَخْلَاقِهِ مَعَ الْإِخْوَانِ، وَبَذْلُ مَعْرُوفِهِ لِلْخَلْقِ وَاهْتِمَامُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمُرَاعَاتُهُ لِأَوْقَاتِهِ ". وَسُئِلَ كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ: " الطُّرُقُ إِلَى اللَّهِ كَثِيرَةٌ، وَأَوْضَحُ الطُّرُقِ وَأَبْعَدُهَا عَنِ الشُّبَهِ: اتِّبَاعُ السُّنَّةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَعَزْمًا وَعَقْدًا وَنِيَّةً، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى السُّنَّةِ؟ فَقَالَ: " مُجَانَبَةُ الْبِدَعِ، وَاتِّبَاعُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّبَاعُدُ عَنْ مَجَالِسِ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلُزُومُ طَرِيقَةِ الِاقْتِدَاءِ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ التِّرْمِذِيُّ: " لَمْ يَجِدْ أَحَدٌ تَمَامَ الْهِمَّةِ بِأَوْصَافِهَا إِلَّا أَهْلُ الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا أَخَذُوا ذَلِكَ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَعْلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ هِمَّةً، وَأَقْرَبَهُمْ زُلْفَى ".

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْوَرَّاقُ: " لَا يَصِلُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بِاللَّهِ، وَبِمُوَافَقَةِ حَبِيبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَرَائِعِهِ، وَمَنْ جَعَلَ الطَّرِيقَ إِلَى الْوُصُولِ فِي غَيْرِ الِاقْتِدَاءِ، يَضِلُّ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ مُهْتَدٍ ". وَقَالَ: " الصِّدْقُ: اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ فِي الدِّينِ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِي الشَّرْعِ ". وَقَالَ: " عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ مُتَابَعَةُ حَبِيبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وَمِثْلُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْقَمَّارِ، قَالَ: " عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ: إِيثَارُ طَاعَتِهِ، وَمُتَابَعَةُ نَبِيِّهِ ". وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا كَانَ صَوَابًا، وَمِنْ صَوَابِهَا إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، وَمِنْ خَالِصِهَا إِلَّا مَا وَافَقَ السُّنَّةَ ". وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ الْقِرْمِيسِينِيُّ صَحِبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيَّ وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَاصَّ، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، مُتَمَسِّكًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَازِمًا لِطَرِيقِ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ، حَتَّى قَالَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنَازِلٍ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ الْآدَابِ وَالْمُعَامَلَاتِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعْدَانَ - وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْجُنَيْدِ - وَغَيْرِهِ: الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ هُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْمَعَاصِي وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّجَّاجِيُّ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْجُنَيْدِ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا: " كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَّبِعُونَ مَا تَسْتَحْسِنُهُ عُقُولُهُمْ

وَطَبَائِعُهُمْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّهُمْ إِلَى الشَّرِيعَةِ وَالِاتِّبَاعِ، فَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَسْتَحْسِنُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ الشَّرْعُ، وَيَسْتَقْبِحُ مَا يَسْتَقْبِحُهُ ". وَقِيلَ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيِّ جَدِّ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَلَقِيَ الْجُنَيْدَ وَغَيْرَهُ: مَا الَّذِي لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْهُ؟ فَقَالَ: " مُلَازَمَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى السُّنَّةِ، وَدَوَامُ الْمُرَاقَبَةِ ". وَقَالَ أَبُوعُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ التُّونُسِيُّ: " هِيَ الْوُقُوفُ مَعَ الْحُدُودِ لَا يُقَصِّرُ فِيهَا وَلَا يَتَعَدَّاهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]. وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: " عَمِلْتُ فِي الْمُجَاهَدَةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْعِلْمِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَلَوْلَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ لَشَقِيتُ. وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ إِلَّا فِي تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ، وَمُتَابَعَةُ الْعِلْمِ هِيَ مُتَابَعَةُ السُّنَّةِ لَا غَيْرِهَا ". وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " قُمْ بِنَا نَنْظُرُ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ شَهَّرَ نَفْسَهُ بِالْوِلَايَةِ كَانَ رَجُلًا مَقْصُودًا مَشْهُورًا بِالزُّهْدِ ". قَالَ الرَّاوِي: " فَمَضَيْنَا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ; رَمَى بِبُصَاقِهِ تِجَاهَ الْقِبْلَةِ، فَانْصَرَفَ أَبُو يَزِيدَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَأْمُونًا عَلَى مَا يَدَّعِيهِ؟! وَهَذَا أَصْلٌ أَصَّلَهُ أَبُو يَزِيدَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْقَوْمِ، وَهُوَ أَنَّ الْوِلَايَةَ لَا

تَحْصُلُ لِتَارِكِ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا مِنْهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذَا كَانَ عَامِلًا بِالْبِدْعَةِ كِفَاحًا؟! وَقَالَ: " هَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَكْفِيَنِي مُؤْنَةَ الْأَكْلِ وَمُؤْنَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ قُلْتُ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ هَذَا؟ وَلَمْ يَسْأَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَسْأَلْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَفَانِي مُؤْنَةَ النِّسَاءِ حَتَّى لَا أُبَالِي اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ أَمْ حَائِطٌ ". وَقَالَ: " لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَقِيَ فِي الْهَوَاءِ; فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَآدَابِ الشَّرِيعَةِ ". وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتُرِيُّ: " كُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ اقْتِدَاءٍ: طَاعَةً كَانَ أَوْ مَعْصِيَةً، فَهُوَ عَيْشُ النَّفْسِ يَعْنِي: بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِالِاقْتِدَاءِ; فَهُوَ عِتَابٌ عَلَى النَّفْسِ يَعْنِي لِأَنَّهُ لَا هَوَى لَهُ فِيهِ ". وَاتِّبَاعُ الْهَوَى هُوَ الْمَذْمُومُ، وَمَقْصُودُ الْقَوْمِ تَرْكُهُ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ: " أُصُولُنَا سَبْعَةُ أَشْيَاءَ: التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكْلُ الْحَلَالِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاجْتِنَابُ الْآثَامِ، وَالتَّوْبَةُ، وَأَدَاءُ الْحُقُوقِ ". وَقَالَ: " قَدْ أَيِسَ الْخَلْقُ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ: مُلَازَمَةُ التَّوْبَةِ، وَمُتَابَعَةُ السُّنَّةِ، وَتَرْكُ أَذَى الْخَلْقِ ". وَسُئِلَ عَنِ الْفُتُوَّةِ؟ فَقَالَ: " اتِّبَاعُ السُّنَّةِ ". وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: " رُبَّمَا تَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ

الْقَوْمِ أَيَّامًا، فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ". وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا بِلَا اتِّبَاعِ سُنَّةٍ; فَبَاطِلٌ عَمَلُهُ ". وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْحَدَّادُ: " مَنْ لَمْ يَزِنْ أَفْعَالَهُ وَأَحْوَالَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَتَّهِمْ خَوَاطِرَهُ، فَلَا تَعُدَّهُ فِي دِيوَانِ الرِّجَالِ ". وَسُئِلَ عَنْ الْبِدْعَةِ؟ فَقَالَ: " التَّعَدِّي فِي الْأَحْكَامِ، وَالتَّهَاوُنُ فِي السُّنَنِ، وَاتِّبَاعُ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، وَتَرْكُ الِاتِّبَاعِ وَالِاقْتِدَاءِ ". قَالَ: " وَمَا ظَهَرَتْ حَالَةٌ عَالِيَةٌ; إِلَّا مِنْ مُلَازَمَةِ أَمْرٍ صَحِيحٍ ". وَسُئِلَ حَمْدُونُ الْقَصَّارُ: مَتَى يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى النَّاسِ؟ فَقَالَ: " إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَدَاءُ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ فِي عَمَلِهِ، أَوْ خَافَ هَلَاكَ إِنْسَانٍ فِي بِدْعَةٍ يَرْجُو أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْهَا ". وَقَالَ: " مَنْ نَظَرَ فِي سِيَرِ السَّلَفِ; عَرَفَ تَقْصِيرَهُ، وَتَخَلُّفَهُ عَنْ دَرَجَاتِ الرِّجَالِ ". وَهَذِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُثَابَرَةِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ لِرَجُلٍ ذَكَرَ الْمَعْرِفَةَ وَقَالَ: أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ يَصِلُونَ إِلَى تَرْكِ الْحَرَكَاتِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ الْجُنَيْدِ: " إِنَّ هَذَا قَوْلُ قَوْمٍ تَكَلَّمُوا بِإِسْقَاطِ الْأَعْمَالِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فِيهَا ". قَالَ: وَلَوْ بَقِيتُ أَلْفَ عَامٍ; لَمْ أَنْقُصْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ذَرَّةً، إِلَّا أَنْ

يُحَالَ بِي دُونَهَا ". وَقَالَ: " الطُّرُقُ كُلُّهُا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ إِلَّا عَلَى مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وَقَالَ: " مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ". وَقَالَ: " مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ، لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ; لِأَنَّ عِلْمَنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ". وَقَالَ: " هَذَا مُشَيَّدٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْجَبْرِيُّ: " الصُّحْبَةُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِحُسْنِ الْأَدَبِ وَدَوَامِ الْهَيْبَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَلُزُومِ ظَاهِرِ الْعِلْمِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بِالِاحْتِرَامِ وَالْخِدْمَةِ ". إِلَى آخِرِ مَا قَالَ. وَلَمَّا تَغَيَّرَ عَلَيْهِ الْحَالُ، مَزَّقَ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ قَمِيصًا عَلَى نَفْسِهِ، فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانُ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: " خِلَافُ السُّنَّةِ يَا بُنَيَّ فِي الظَّاهِرِ، عَلَامَةُ رِيَاءٍ فِي الْبَاطِنِ ". وَقَالَ: " مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا; نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا; نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ النَّوَوِيُّ: " مَنْ رَأَيْتَهُ يَدَّعِي مَعَ اللَّهِ حَالَةً تُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا تَقْرَبَنَّ مِنْهُ ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ: " ذَهَابُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: لَا

يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنَ التَّعَلُّمِ. هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ وَصْفُ صُوفِيَّتِنَا الْيَوْمَ، عِيَاذًا بِاللَّهِ. وَقَالَ: " أَعْرَفُهُمْ بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ مُجَاهَدَةً فِي أَوَامِرِهِ، وَأَتْبَعُهُمْ لِسُّنَّةِ نَبِيِّهِ ". وَقَالَ شَاةُ الْكَرْمَانِيُّ: " مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَعَوَّدَ نَفْسَهُ أَكْلَ الْحَلَالِ، لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ ". وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: " كُلُّ بَاطِنٍ يُخَالِفُهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ بَاطِلٌ ". وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ: " مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ آدَابَ اللَّهِ; نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ، وَلَا مَقَامَ أَشْرَفَ مِنْ مَقَامِ مُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَامِرِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ ". وَقَالَ أَيْضًا: " أَعْظَمُ الْغَفْلَةِ: غَفْلَةُ الْعَبْدِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَفْلَتُهُ عَنْ أَوَامِرِهِ، وَغَفْلَتُهُ عَنْ آدَابِ مُعَامَلَتِهِ ". وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ: " لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنِ اتَّبَعَ الْعِلْمَ، وَاسْتَعْمَلَهُ، وَاقْتَدَى بِالسُّنَنِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْعِلْمِ ". وَسُئِلَ عَنِ الْعَافِيَةِ؟ فَقَالَ: " الْعَافِيَةُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: دِينٌ بِلَا بِدْعَةٍ، وَعَمَلٌ بِلَا آفَةٍ، وَقَلْبٌ بِلَا شُغْلٍ، وَنَفْسٌ بِلَا شَهْوَةٍ ". وَقَالَ: " الصَّبْرُ: الثَّبَاتُ عَلَى أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ". وَقَالَ بُنَانٌ الْحَمَّالُ وَسُئِلَ عَنْ أَصْلِ أَحْوَالِ الصُّوفِيَّةِ؟ فَقَالَ:

" الثِّقَةُ بِالْمَضْمُونِ، وَالْقِيَامُ بِالْأَوَامِرِ، وَمُرَاعَاةُ السِّرِّ، وَالتَّخَلِّي عَنِ الْكَوْنَيْنِ ". وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الْبَغْدَادِيُّ: " مَنْ عَلِمَ طَرِيقَ الْحَقِّ سَهُلَ عَلَيْهِ سُلُوكُهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مُتَابَعَةُ سُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الرَّقَاشِيُّ: " عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيثَارُ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةُ نَبِيِّهِ " اهـ. وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. وَقَالَ مَمْشَادُ الدِّينَوَرِيُّ: " آدَابُ الْمُرِيدِ فِي: الْتِزَامِ حُرُمَاتِ الْمَشَايِخِ، وَحُرْمَةِ الْإِخْوَانِ، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَسْبَابِ، وَحِفْظِ آدَابِ الشَّرْعِ عَلَى نَفْسِهِ ". وَسُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ عَمَّنْ يَسْمَعُ الْمَلَاهِيَ وَيَقُولُ: هِيَ لِي حَلَالٌ لِأَنِّي قَدْ وَصَلْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيَّ اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ. فَقَالَ: نَعَمْ، قَدْ وَصَلَ، وَلَكِنْ إِلَى سَقَرٍ ". وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنَازِلٍ: " لَمْ يُضَيِّعْ أَحَدٌ فَرِيضَةً مِنَ الْفَرَائِضِ; إِلَّا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِتَضْيِيعِ السُّنَنِ، وَلَمْ يُبْتَلَ بِتَضْيِيعِ السُّنَنِ أَحَدٌ; إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْبِدَعِ ". وَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ: " أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ مَا قَارَنَ الْعِلْمَ ". وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ نُجَيْدٍ: " كُلُّ حَالٍ لَا يَكُونُ عَنْ نَتِيجَةِ عِلْمٍ; فَإِنَّ

ضَرَرَهُ عَلَى صَاحِبِهِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ ". وَقَالَ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ: " صُحْبَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ تُورِثُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحَقِّ ". وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطَّمَسْتَانِيُّ: " الطَّرِيقُ وَاضِحٌ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَائِمَانِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَفَضْلُ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ لِسَبْقِهِمْ إِلَى الْهِجْرَةِ وَلِصُحْبَتِهِمْ، فَمَنْ صَحِبَ مِنَّا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَتَغَرَّبَ عَنْ نَفْسِهِ وَالْخَلْقِ، وَهَاجَرَ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ الصَّادِقُ الْمُصِيبُ ". وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ: " أَصْلُ التَّصَوُّفِ مُلَازَمَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَرْكُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِ الْمَشَايِخِ، وَرُؤْيَةُ أَعْذَارِ الْخَلْقِ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْأَوْرَادِ، وَتَرْكُ ارْتِكَابِ الرُّخَصِ وَالتَّأْوِيلَاتِ ". وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ، وَقَدْ نَقَلْنَا عَنْ جُمْلَةٍ مِمَّنِ اشْتُهِرَ مِنْهُمْ يَنِيفُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ شَيْخًا، جَمِيعُهُمْ يُشِيرُ أَوْ يُصَرِّحُ بِأَنَّ الِابْتِدَاعَ ضَلَالٌ وَالسُّلُوكَ عَلَيْهِ تِيهٌ، وَاسْتِعْمَالُهُ رَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِطَلَبِ النَّجَاةِ، وَصَاحِبُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَمَوْكُولٌ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَطْرُودٌ عَنْ نَيْلِ الْحِكْمَةِ، وَأَنَّ الصُّوفِيَّةَ الَّذِينَ نُسِبَتْ إِلَيْهِمُ الطَّرِيقَةُ; مُجْمِعُونَ عَلَى تَعْظِيمِ الشَّرِيعَةِ، مُقِيمُونَ عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ، غَيْرُ مُخِلِّينَ بِشَيْءٍ مِنْ آدَابِهَا، أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا. وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى فِر‍َقٍ مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ، وَلَا مَنْ يَمِيلُ إِلَى خِلَافِ السُّنَّةِ. وَأَكْثَرُ مَنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ عُلَمَاءُ وَفُقَهَاءُ وَمُحَدِّثُونَ وَمِمَّنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ الدِّينُ

أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي دِينِهِ بِمِقْدَارِ كِفَايَتِهِ. وَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْحَقَائِقِ وَالْمَوَاجِدِ وَالْأَذْوَاقِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَسْرَارِ التَّوْحِيدِيَّةِ، فَهُمُ الْحُجَّةُ لَنَا عَلَى كُلِّ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى طَرِيقِهِمْ وَلَا يَجْرِي عَلَى مِنْهَاجِهِمْ، بَلْ يَأْتِي بِبِدَعٍ مُحْدَثَاتٍ، وَأَهْوَاءٍ مُتَّبَعَاتٍ، وَيَنْسُبُهَا إِلَيْهِمْ، تَأْوِيلًا عَلَيْهِمْ. مِنْ قَوْلٍ مُحْتَمِلٍ، أَوْ فِعْلٍ مِنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ، أَوِ اسْتِمْسَاكًا بِمَصْلَحَةٍ شَهِدَ الشَّرْعُ بِإِلْغَائِهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَكَثِيرًا مَا تَرَى الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ، يَرْتَكِبُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى فَسَادِهِ شَرْعًا، وَيَحْتَجُّ بِحِكَايَاتٍ هِيَ قَضَايَا أَحْوَالٍ، إِنْ صَحَّتْ; لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ، لِوُجُوهٍ عِدَّةٍ، وَيَتْرُكُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الْحَقِّ الصَّرِيحِ، وَالِاتِّبَاعِ الصَّحِيحِ، شَأْنُ مَنِ اتَّبَعَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا تَشَابَهَ مِنْهَا. وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ التَّصَوُّفِ فِي طَرِيقِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَمْرٍ كَسَائِرِ أَهْلِ الْعُلُومِ فِي عُلُومِهِمْ، أَتَيْتُ مِنْ كَلَامِهِمْ بِمَا يَقُومُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى (مُدَّعِي) السُّنَّةِ وَذَمِّ الْبِدْعَةِ فِي طَرِيقَتِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ دَلِيلًا لَنَا مِنْ جِهَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ عُمُومًا، وَعَلَى الْمُدَّعِينَ فِي طَرِيقِهِمْ خُصُوصًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فصل ما جاء في ذم الرأي المذموم

[فَصْلٌ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ] الْوَجْهُ الْخَامِسُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ مِنْهُ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ: وَهُوَ الْمَبْنِيُّ عَلَى غَيْرِ أُسِّ، وَالْمُسْتَنِدُ إِلَى غَيْرِ أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُّنَّةٍ، لَكِنَّهُ وَجْهٌ تَشْرِيعِيٌّ، فَصَارَ نَوْعًا مِنَ الِابْتِدَاعِ، بَلْ هُوَ الْجِنْسُ فِيهَا; فَإِنَّ جَمِيعَ الْبِدَعِ إِنَّمَا هِيَ رَأْيٌ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِوَصْفِ الضَّلَالِ. فَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ; قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ إِذْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ، يَسْتَفْتُونَ، فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ». فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَذَمُّ الرَّأْيِ عَائِدٌ عَلَى الْبِدَعِ بِالذَّمِّ لَا مَحَالَةَ. وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ، يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَيُحِلُّونَ بِهِ مَا حَرَّمَ.» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: " هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَالْكَلَامُ فِي الدِّينِ بِالتَّخَرُّصِ وَالظَّنِّ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: " يُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ "؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَلَالَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُّنَّةِ رَسُولِهِ تَحْلِيلُهُ، وَالْحَرَامَ مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُّنَّةِ رَسُولِهِ تَحْرِيمُهُ، فَمَنْ جَهِلَ

ذَلِكَ وَقَالَ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَاسَ بِرَأْيِهِ مَا خَرَجَ (مِنْهُ) عَنِ السُّنَّةِ، فَهَذَا الَّذِي قَاسَ بِرَأْيِهِ فَضَلَّ وَأَضَلَّ، وَمَنْ رَدَّ الْفُرُوعَ فِي عِلْمِهِ إِلَى أُصُولِهَا; فَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيِهِ ". وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدِيثًا: " «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثَلَاثًا، وَإِحْدَاهُنَّ: " أَنْ يُلْتَمَسَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْأَصَاغِرِ» ". قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: مَنِ الْأَصَاغِرُ؟ قَالَ: " الَّذِينَ يَقُولُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَأَمَّا صَغِيرٌ يَرْوِي عَنْ كَبِيرٍ; فَلَيْسَ بِصَغِيرٍ ". وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ: " أَصْبَحَ أَهْلُ الرَّأْيِ أَعْدَاءَ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ ". قَالَ سَحْنُونُ: " يَعْنِي: الْبِدَعَ ".

وَفِي رِوَايَةٍ: " إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ، فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا ". وَفِي رِوَايَةٍ لِـ ابْنِ وَهْبٍ: " إِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَّةِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ يُسْأَلُوا أَنْ يَقُولُوا: لَا نَعْلَمُ، فَعَارَضُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاكُمْ ". قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: " أَهْلُ الرَّأْيِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ". وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " قُرَّاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ، وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ ". وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ قَالَ: " السُّنَّةُ مَا سَنَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، لَا تَجْعَلُوا خَطَأَ الرَّأْيِ سُنَّةً لِلْأُمَّةِ ". وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى أَدْرَكَ فِيهِمُ الْمُوَلَّدُونَ أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فَأَخَذُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ، فَأَضَلُّوا بَنِي إِسْرَائِيلَ ". وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: " إِنَّمَا هَلَكْتُمْ حِينَ تَرَكْتُمُ الْآثَارَ وَأَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ ". وَعَنِ الْحَسَنِ: " إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ شُعِّبَتْ بِهِمُ السُّبُلُ، وَحَادُوا عَنِ الطَّرِيقِ فَتَرَكُوا الْآثَارَ، وَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ، فَضَّلُوا

وَأَضَلُّوا. وَعَنْ دَرَّاجِ بْنِ السَّمْحِ قَالَ: " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ; يُسَمِّنُ الرَّجُلُ رَاحِلَتَهُ حَتَّى تَعْقِدَ شَحْمًا، ثُمَّ يَسِيرُ عَلَيْهَا فِي الْأَمْصَارِ حَتَّى تَعُودَ نَقْضًا، يَلْتَمِسُ مَنْ يُفْتِيهِ بِسُّنَّةٍ قَدْ عَمِلَ بِهَا فَلَا يَجِدُ إِلَّا مَنْ يُفْتِيهِ بِالظَّنِّ ". وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّأْيِ الْمَقْصُودِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ: فَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِهِ رَأْيُ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَنِ، لَكِنْ فِي الِاعْتِقَادِ كَمَذْهَبِ جَهْمٍ وَسَائِرِ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا آرَاءَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ وَفِي رَدِّ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ; لِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الرَّدَّ وَيَقْتَضِي التَّأْوِيلَ، كَمَا قَالُوا بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ نَفْيًا لِلظَّاهِرِ بِالْمُحْتَمَلَاتِ، وَنَفْيِ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَنَفْيِ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ. وَكَذَلِكَ رَدُّوا أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ إِلَى أَشْيَاءَ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ الْمَعِيبُ الرَّأْيُ الْمُبْتَدَعُ، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ ضُرُوبِ الْبِدَعِ، فَإِنَّ حَقَائِقَ جَمِيعِ الْبِدَعِ رُجُوعٌ إِلَى الرَّأْيِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الشَّرْعِ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَظْهَرُ، إِذِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَا تَقْتَضِي بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبِدَعِ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ، بَلْ ظَاهِرُهَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ، حَدَثَتْ أَوْ تَحْدُثُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَانَتْ مِنَ الْأُصُولِ أَوِ الْفُرُوعِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] ; بَعْدَمَا حَكَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخَوَارِجِ.

وَكَأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّخْصِيصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ يَقُلْ بِهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ أَتَى بِمِثَالٍ مِمَّا تَتَضَمَّنُهُ الْآيَةُ، كَالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ; فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا كَانَ مُشْتَهِرًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ، وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ مَسْكُوتًا عَنْ ذِكْرِهِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، وَلَوْ سُئِلَ عَنِ الْعُمُومِ لَقَالَ بِهِ. وَهَكَذَا كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْخَاصَّةِ بِبَعْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ إِنَّمَا تَحْصُلُ عَلَى التَّفْسِيرِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي قِصَّةِ نَصَارَى نَجْرَانَ، ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَى الْخَوَارِجِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُذْكَرُ فِي التَّفْسِيرِ، إِنَّمَا يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا يَشْمَلُهُ الْمَوْضِعُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ الْحَاضِرَةِ لَا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ لُغَةً. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْهَمَ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ الْأَوْلَى لِمَنَاصِبِهِمْ فِي الْعِلْمِ، وَمَرَاتِبِهِمْ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ وَهُمْ فِيمَا زَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الرَّأْيُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآثَارِ هُوَ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالُ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ وَالْأُغْلُوطَاتِ، وَرْدُّ الْفُرُوعِ وَالنَّوَازِلِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ قِيَاسًا دُونَ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِهَا وَالنَّظَرِ فِي عِلَلِهَا وَاعْتِبَارِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ، وَفُرِّعَتْ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ، وَتُكُلِّمَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بِالرَّأْيِ الْمُضَارِعِ لِلظَّنِّ. قَالُوا: لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ: تَعْطِيلُ السُّنَنِ، وَالْبَعْثُ عَلَى جَهْلِهَا، وَتَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَى مَا يَلْزَمُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَمِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَانِيهِ.

وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ، مِنْهَا: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَعَنَ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، وَمَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ، وَهِيَ صِعَابُ الْمَسَائِلِ، وَعَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَأَنَّهُ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّلَفِ لَمْ يَكُنْ يُجِيبُ إِلَّا عَمَّا نَزَلَ مِنَ النَّوَازِلِ دُونَ مَا لَمْ يَنْزِلْ. وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِهِ; قَدْ مَنَعَ مِنَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْمُومٍ، لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَهُوَ تَرْكُ النَّظَرِ فِي السُّنَنِ اقْتِصَارًا عَلَى الرَّأْيِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ; اجْتَمَعَ مَعَ مَا قَبْلُهُ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ وَشَدَّدَ فِيهِ; مَنَعَ مَا حَوَالَيْهِ، وَمَا دَارَ بِهِ وَرَتَعَ حَوْلَ حِمَاهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ»، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الشَّرْعِ أَصْلُ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ مَنْعُ الْجَائِزِ; لِأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى غَيْرِ الْجَائِزِ، وَبِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمَمْنُوعِ يَكُونُ اتِّسَاعُ الْمَنْعِ فِي الذَّرِيعَةِ وَشِدَّتُهُ. وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ يُبَيِّنُ لَكَ عِظَمَ الْمَفْسَدَةِ فِي الِابْتِدَاعِ، فَالْحَوْمُ حَوْلَ حِمَاهُ يَتَّسِعُ جِدًّا، وَلِذَلِكَ تَنَصَّلَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى الطَّرِيقَةِ، فَامْتَنَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُتْيَا بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَسْأَلَةِ، وَحَكَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَعْجَلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا فَإِنَّكُمْ إِنْ تَفْعَلُوا تُشَتَّتُ بِكُمُ الطُّرُقُ

هَاهُنَا وَهَاهُنَا». وَصَحَّ نَهْيُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ. وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ لَا عَنْ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا». وَأَحَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَلَمْ يَكُونُوا يُفْتُونَ حَتَّى يَكُونَ الْأَمِيرُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ، وَيُسَمُّونَهَا: صَوَافِيَ الْأُمَرَاءِ. وَكَانَ جَمَاعَةٌ يُفْتُونَ عَلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَأَنَّهُ رَأْيٌ لَيْسَ بِعِلْمٍ: كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذْ سُئِلَ فِي الْكَلَالَةِ: " أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ "، ثُمَّ أَجَابَ. وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَأَمْلَاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ، فَأَجَابَهُ، فَكَتَبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ سَعِيدٍ: أَتَكْتُبُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ رَأْيَكَ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ لِلرَّجُلِ: " نَاوِلْنِيهَا "، فَنَاوَلَهُ

الصَّحِيفَةَ، فَخَرَقَهَا. وَسُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ شَيْءٍ؟ فَأَجَابَ، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ; دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: " لَا تَقُلْ: إِنَّ الْقَاسِمَ زَعَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَكِنْ إِنِ اضْطُرِرْتَ إِلَيْهِ عَمِلْتَ بِهِ ". وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: " قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ، فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَّبِعَ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَتَّبِعَ الرَّأْيَ، فَإِنَّهُ مَتَى اتُّبِعَ الرَّأْيُ; جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى فِي الرَّأْيِ مِنْكَ فَاتَّبَعْتَهُ، فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَ رَجُلٌ غَلَبَكَ اتَّبَعْتَهُ، أَرَى هَذَا لَا يَتِمُّ ". ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِرَأْيِهِ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ بَعْدَ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي النَّازِلَةِ: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]. وَلِأَجْلِ الْخَوْفِ عَلَى مَنْ كَانَ يَتَعَمَّقُ فِيهِ، لَمْ يَزَلْ يَذُمُّهُ وَيَذُمُّ مَنْ تَعَمَّقَ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ يُنْحَى عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ، لِكَثْرَةِ تَصَرُّفِهِمْ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ، فَحُكِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءَ، مِنْ أَخَفِّهَا قَوْلُهُ: " الِاسْتِحْسَانُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ، وَلَا يَكَادُ الْمُغْرِقُ فِي الْقِيَاسِ إِلَّا يُفَارِقُ السُّنَّةَ ". وَالْآثَارُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَيْسَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَخْصُوصَةٌ بِالرَّأْيِ فِي الِاعْتِقَادِ، فَهَذِهِ كُلُّهُا تَشْدِيدَاتٌ فِي الرَّأْيِ، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى الْأُصُولِ، حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الرَّأْيِ غَيْرِ الْجَارِي عَلَى أَصْلٍ. وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ هُنَا كَلَامٌ كَثِيرٌ كَرِهْنَا الْإِتْيَانَ بِهِ.

فصل الأوصاف المحذورة والمعاني المذمومة في البدع

وَالْحَاصِلُ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ: أَنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ مَا بُنِيَ عَلَى الْجَهْلِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ ذَرِيعَةً إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِهِ مَحْمُودًا، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ: فَالْأَوَّلُ: دَاخِلٌ تَحْتَ حَدِّ الْبِدْعَةِ، وَتَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الذَّمِّ. وَالثَّانِي: خَارِجٌ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ بِدْعَةً أَبَدًا. [فَصْلٌ الْأَوْصَافُ الْمَحْذُورَةُ وَالْمَعَانِي الْمَذْمُومَةُ فِي الْبِدَعِ] [الْبِدْعَةُ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عِبَادَةٌ] الْوَجْهُ السَّادِسُ: مِنَ النَّقْلِ يُذْكَرُ فِيهِ بَعْضُ مَا فِي الْبِدَعِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَحْذُورَةِ، وَالْمَعَانِي الْمَذْمُومَةِ، وَأَنْوَاعِ الشُّؤْمِ: وَهُوَ كَالشَّرْحِ لِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا، وَفِيهِ زِيَادَةُ بَسْطٍ وَبَيَانٍ زَائِدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ الْأَدِلَّةِ، فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى مَا يَسَعُ ذِكْرُهُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ وَالْحَالِ. فَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِدْعَةَ: لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عِبَادَةٌ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَمُجَالِسُ صَاحِبِهَا تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ، وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمَاشِي إِلَيْهِ وَمُوَقِّرُهُ مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ، فَمَا الظَّنُّ بِصَاحِبِهَا؟ وَهُوَ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ، وَيَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ بُعْدًا، وَهِيَ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَمَانِعَةٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَرَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا، وَعَلَى مُبْتَدِعِهَا إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، وَتُلْقَى عَلَيْهِ الذِّلَّةُ وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ، وَيُبْعَدُ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعْدُودًا فِي الْكُفَّارِ الْخَارِجِينَ عَنِ الْمِلَّةِ، وَسُوءُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا، وَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ فِي الْآخِرَةِ، [وَ] يُعَذَّبُ بِنَارِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ

فِي الدُّنْيَا زِيَادَةً إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ. فَأَمَّا أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عَمَلٌ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: " كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ ذِي بِدْعَةٍ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا صَدَقَةً وَلَا جِهَادًا وَلَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ". وَفِيمَا كَتَبَ بِهِ أَسَدُ بْنُ مُوسَى: " وَإِيَّاكَ أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الْبِدَعِ أَخٌ أَوْ جَلِيسٌ أَوْ صَاحِبٌ: فَإِنَّهُ جَاءَ الْأَثَرُ: مَنْ جَالَسَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ; نُزِعَتْ مِنْهُ الْعِصْمَةُ، وَوُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ مَشَى إِلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ، مَشَى إِلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ. وَجَاءَ: مَا مِنْ إِلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ مِنْ صَاحِبِ هَوًى. وَوَقَعَتِ اللَّعْنَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ. وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَلَا فَرِيضَةً وَلَا تَطَوُّعًا. وَكُلَّمَا ازْدَادُوا اجْتِهَادًا صَوْمًا وَصَلَاةً ازْدَادُوا مِنَ اللَّهِ بُعْدًا. فَارْفُضْ مُجَالَسَتَهُمْ، وَأَذِلَّهُمْ، وَأَبْعِدْهُمْ، كَمَا أَبْعَدَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةُ الْهُدَى بَعْدَهُ. وَكَانَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ يَقُولُ: " مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا ". وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ صَلَاةً وَلَا

صِيَامًا وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا جِهَادًا وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَدَقَةً وَلَا عِتْقًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ". وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ; قَالَ: " مَنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ مَعَ اللَّهِ قَاضِيًا أَوْ رَازِقًا أَوْ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا أَوْ نَفْعًا أَوْ مَوْتًا أَوْ حَيَاةً أَوْ نُشُورًا، لَقِيَ اللَّهَ، فَأَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَأَخْرَسَ لِسَانَهُ، وَجَعَلَ صَلَاتَهُ وَصِيَامَهُ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَقَطَعَ بِهِ الْأَسْبَابَ، وَكَبَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ". وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَمَا كَانَ نَحْوَهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ تَتَضَمَّنُ عُمْدَةَ صِحَّتِهَا كُلُّهَا; فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُقَرَّرَ فِيهَا لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ صَحِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ. أَمَّا أَوَّلًا; فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِهَا مَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْقَبُولِ. وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ كَبِدْعَةِ الْقَدَرِيَّةِ، حَيْثُ قَالَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: " إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بَرَاءٌ مِنِّي، فَوَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ; لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ; مَا تَقَبَّلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ "، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ الْمَذْكُورِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ الْخَوَارِجِ وَقَوْلُهُ فِيهِ: " «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ "، بَعْدَ قَوْلِهِ: تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ» الْحَدِيثَ.

وَإِذَا ثَبَتَ فِي بَعْضِهِمْ هَذَا لِأَجْلِ بِدْعَةٍ; فَكُلُّ مُبْتَدِعٍ يُخَافُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَنْ ذَكَرَهُ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدِعُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ عَمَلٌ: إِمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لَهُ بِإِطْلَاقٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ مِنْ وِفَاقِ سُّنَّةٍ أَوْ خِلَافِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا ابْتَدَعَ فِيهِ خَاصَّةً دُونَ مَا لَمْ يَبْتَدِعْ فِيهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَيُمْكِنُ عَلَى أَحَدِ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ; مِنْ أَنَّ كُلَّ مُبْتَدِعٍ أَيَّ بِدْعَةٍ كَانَتْ فَأَعْمَالُهُ لَا تُقْبَلُ مَعَهَا دَاخَلَتْهَا تِلْكَ الْبِدْعَةُ أَمْ لَا. وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ آنِفًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ: " وَاللَّهِ; مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ; إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، فَنَشَرَهَا، فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ، وَإِذَا فِيهَا: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ". وَذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ فَسَّرَ الصَّرْفَ وَالْعَدْلَ بِالْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ. وَهَذَا شَدِيدٌ جِدًّا عَلَى أَهْلِ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِدْعَتُهُ أَصْلًا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَعْمَالِ، كَمَا إِذَا ذَهَبَ إِلَى إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِإِطْلَاقٍ، فَإِنَّ عَامَّةَ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ; لِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ. وَمَا تَفَرَّعَ

مِنْهُمَا رَاجِعٌ إِلَيْهِمَا: فَإِنْ كَانَ وَارِدًا مِنَ السُّنَّةِ، فَمُعْظَمُ نَقْلِ السُّنَّةِ بِالْآحَادِ، بَلْ قَدْ أَعْوَزَ أَنْ يُوجَدَ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاتِرًا. وَإِنْ كَانَ وَارِدًا مِنَ الْكِتَابِ، فَإِنَّمَا تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ، فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَيَّنْ فِي الْقُرْآنِ; فَلَا بُدَّ لِمُطَّرِحِ نَقْلِ الْآحَادِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ رَأْيَهُ [فِيهِ]، وَهُوَ الِابْتِدَاعُ بِعَيْنِهِ، فَيَكُونُ [كُلُّ] فَرْعٍ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ بِدْعَةً لَا سُنَّةً، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». وَكَمَا إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا كُلُّ عَمَلٍ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَعْمَالَ إِنَّمَا تَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْأَوْلِيَاءِ الْمُكَاشَفِينَ بِحَقَائِقِ التَّوْحِيدِ، فَأَمَّا مَنْ رُفِعَ لَهُ الْحِجَابُ وَكُوشِفَ بِحَقِيقَةِ مَا هُنَالِكَ، فَقَدِ ارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَصْلٍ هُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ لَا يَلِيقُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ذِكْرُهُ. أَمْثِلَةُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمَارِقِينَ مِنْ إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ جَاءَتْ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ أَمْرِي فِيمَا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ»! حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَفِي رِوَايَةٍ: «أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ عَنِّي الْحَدِيثُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ (قَالَ): فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا حَلَّلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ». حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الذَّمِّ وَإِثْبَاتِ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ كَكِتَابِ اللَّهِ، فَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ، فَقَدْ بَنَى أَعْمَالَهُ عَلَى رَأْيِهِ لَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ تُخْرِجُ صَاحِبَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقٍ أَوْ بِاخْتِلَافٍ، إِذْ لِلْعُلَمَاءِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ قَوْلَانِ. وَفِي الظَّوَاهِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ; كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْخَوَارِجِ حِينَ ذَكَرَ السَّهْمَ بِصِيغَةِ الْخَوَارِجِ مِنَ الرَّمِيَّةِ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ. وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ. وَنَحْوُ الظَّوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا قَدْ يَجُرُّهُ اعْتِقَادُ بِدْعَتِهِ الْخَاصَّةِ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي يُصَيِّرُ اعْتِقَادَهُ فِي الشَّرِيعَةِ ضَعِيفًا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ عَلَيْهِ جَمِيعَ عَمَلِهِ. بَيَانُ ذَلِكَ أَمْثِلَةٌ،

مِنْهَا: أَنْ يَتْرُكَ الْعَقْلَ مَعَ الشَّرْعِ فِي التَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا يَأْتِي الشَّرْعُ كَاشِفًا لِمَا اقْتَضَاهُ الْعَقْلُ. فَيَا لَيْتَ شِعْرِي! هَلْ حَكَّمَ هَؤُلَاءِ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ شَرْعَهُ أَمْ عُقُولَهُمْ؟ بَلْ صَارَ الشَّرْعُ فِي نِحْلَتِهِمْ كَالتَّابِعِ الْمُعِينِ لَا حَاكِمًا مُتَّبَعًا. وَهَذَا هُوَ التَّشْرِيعُ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لِلشَّرْعِ مَعَهُ أَصَالَةٌ، فَكُلُّ مَا عَمِلَ هَذَا الْعَامِلُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ عَقْلُهُ، وَإِنْ شَرَكَ الشَّرْعَ، فَعَلَى حُكْمِ الشَّرِكَةِ لَا عَلَى إِفْرَادِ الشَّرْعِ، فَلَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، إِذْ هُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ مِنْ مَشْهُورِ الْبِدَعِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُسْتَحْسِنَ لِلْبِدَعِ يَلْزَمُهُ عَادَةً أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ عِنْدَهُ لَمْ يَكْمُلْ بَعْدُ، فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ; مَعْنًى يُعْتَبَرُ بِهِ عِنْدَهُمْ، وَمُحْسِنُ الظَّنِّ مِنْهُمْ يَتَأَوَّلُهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ الَّتِي تَبْتَدِعُ الْعِبَادَاتِ أَكْثَرُهَا مِمَّنْ يُكْثِرُ الزُّهْدَ وَالِانْقِطَاعَ وَالِانْفِرَادَ عَنِ الْخَلْقِ، وَإِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ يَجْرِي أَغْمَارُ الْعَوَامِّ، وَالَّذِي يَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ وَإِنْ كَانَ أَتْقَى خَلْقِ اللَّهِ لَا يُعِدُّونَهُ إِلَّا مِنَ الْعَامَّةِ، وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ. وَلِذَلِكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْمُعْتَزِّينَ بِهِمْ، وَالْمَائِلِينَ إِلَى جِهَتِهِمْ، يَزْدَرُونَ بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَنْتَحِلْ مِثْلَ مَا انْتَحَلُوا، وَيَعُدُّونَهُمْ مِنَ الْمَحْجُوبِينَ عَنْ

أَنْوَارِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الْمَعْنَى; يَضْعُفُ فِي يَدِهِ قَانُونُ الشَّرْعِ الَّذِي ضَبَطَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَبَيَّنَ حُدُودَهُ الْفُقَهَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ فِي طَرِيقِ السُّلُوكِ بِمُنْهَضٍ حَتَّى يَدْخُلَ مَدَاخِلَ خَاصَّتِهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى لِعَمَلٍ فِي أَيْدِيهِمْ رُوحُ الِاعْتِمَادِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ بَابُ عَدَمِ الْقَبُولِ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ مَشْرُوعَةً، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ فِيهَا أَفْسَدَهَا عَلَيْهِمْ، فَحَقِيقٌ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِمَّنْ هَذَا شَأْنُهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ! وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ لِأَعْمَالِهِمْ مَا ابْتَدَعُوا فِيهِ خَاصَّةً فَيَظْهَرُ أَيْضًا. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ: «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» وَالْجَمِيعُ مِنْ قَوْلِهِ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، أَيْ: إِنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ مَعْنَى عَدَمِ الْقَبُولِ، وِفَاقَ قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا يَقْتَصِرُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ، وَلَا عَلَى الصِّيَامِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَلَا عَلَى الزَّكَاةِ دُونَ الْحَجِّ، وَلَا عَلَى الْحَجِّ دُونَ الْجِهَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَاضِرٌ مَعَهُ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْهَوَى وَالْجَهْلُ بِشَرِيعَةِ اللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَفِي " الْمَبْسُوطَةِ " عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى: أَنَّهُ ذَكَرَ الْأَعْرَافَ وَأَهْلَهُ،

صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه

فَتَوَجَّعَ وَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: " قَوْمٌ أَرَادُوا وَجْهًا مِنَ الْخَيْرِ فَلَمْ يُصِيبُوهُ ". فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! أَفَيُرْجَى لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لِسَعْيِهِمْ ثَوَابٌ؟ قَالَ: " لَيْسَ فِي خِلَافِ السُّنَّةِ رَجَاءُ ثَوَابٍ ". [صَاحِبُ الْبِدْعَةِ تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ] وَأَمَّا أَنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ جِدًّا: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ حَسْبَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ طُلُوعِ ذَلِكَ النُّورِ الْأَعْظَمِ لَا نَهْتَدِي سَبِيلًا، وَلَا نَعْرِفُ مِنْ مَصَالِحِنَا الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَّا قَلِيلًا عَلَى غَيْرِ كَمَالٍ، وَلَا مِنْ مَصَالِحِنَا الْأُخْرَوِيَّةِ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، بَلْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَرْكَبُ هَوَاهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ، وَيَطْرَحُ هَوَى غَيْرِهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ. فَلَا يَزَالُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَالْفَسَادُ فِيهِمْ يَخُصُّ وَيَعُمُّ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِزَوَالِ الرَّيْبِ وَالِالْتِبَاسِ، وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ النَّاسِ: كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة: 213] إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213]. وَقَوْلِهِ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة: 213]. {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19].

وَلَمْ يَكُنْ حَاكِمًا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ; إِلَّا وَقَدْ جَاءَهُمْ بِمَا يَنْتَظِمُ بِهِ شَمْلُهُمْ، وَتَجْتَمِعُ بِهِ كَلِمَتُهُمْ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا اخْتَلَفُوا، وَهُوَ مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالصَّلَاحِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَيَدْرَأُ عَنْهُمُ الْفَسَادَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَانْخَفَضَتِ الْأَدْيَانُ وَالدِّمَاءُ وَالْعَقْلُ وَالْأَنْسَابُ وَالْأَمْوَالُ، مِنْ طُرُقٍ يَعْرِفُ مَآخِذَهَا الْعُلَمَاءُ، وَذَلِكَ [مِنَ] الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَعَمَلًا وَإِقْرَارًا، وَلَمْ يُرَدُّوا إِلَى تَدْبِيرِ أَنْفُسِهِمْ; لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَقِلُّونَ بِدَرْكِ مَصَالِحِهِمْ وَلَا تَدْبِيرِ أَنْفُسِهِمْ. فَإِذَا تَرَكَ الْمُبْتَدِعُ هَذِهِ الْهِبَاتِ الْعَظِيمَةَ وَالْعَطَايَا الْجَزِيلَةَ، وَأَخَذَ فِي اسْتِصْلَاحِ نَفْسِهِ أَوْ دُنْيَاهُ بِنَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَجْعَلِ الشَّرْعُ عَلَيْهِ دَلِيلًا، فَكَيْفَ لَهُ بِالْعِصْمَةِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ؟ وَقَدْ حَلَّ يَدَهُ مِنْ حَبْلِ الْعِصْمَةِ إِلَى تَدْبِيرِ نَفْسِهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِالْبُعْدِ عَنِ الرَّحْمَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] بَعْدَ قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، فَأَشْعُرُ أَنَّ الِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللَّهِ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ حَقًّا، وَأَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ تَفْرِقَةٌ، لِقَوْلِهِ: {وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وَالْفُرْقَةُ مِنْ أَخَسِّ أَوْصَافِ الْمُبْتَدِعَةِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَبَايَنَ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ حَبْلَ اللَّهِ الْجَمَاعَةُ. وَعَنْ قَتَادَةَ: " حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ: هَذَا الْقُرْآنُ وَسُنَنُهُ، وَعَهْدُهُ إِلَى عِبَادِهِ الَّذِي أَمَرَ أَنْ يُعْتَصَمَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَالثِّقَةُ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ وَيَعْتَصِمُوا

الماشي إلى المبتدع والموقر له معين على هدم الإسلام

بِحَبْلِهِ. . . " إِلَى آخِرِ مَا قَالَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ} [الحج: 78]. [الْمَاشِي إِلَى الْمُبْتَدِعِ وَالْمُوَقِّرِ لَهُ مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ] وَأَمَّا أَنَّ الْمَاشِي إِلَى الْمُبْتَدِعِ وَالْمُوَقِّرُ لَهُ مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ. وَرُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا: «مَنْ أَتَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ، فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ». وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ». وَيُجَامِعُهَا فِي الْمَعْنَى مَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.» الْحَدِيثَ. فَإِنَّ الْإِيوَاءَ يُجَامِعُ التَّوْقِيرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَشْيَ إِلَيْهِ وَالتَّوْقِيرَ لَهُ تَعْظِيمٌ لَهُ لِأَجْلِ بِدْعَتِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْعَ يَأْمُرُ بِزَجْرِهِ وَإِهَانَتِهِ وَإِذْلَالِهِ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، كَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، فَصَارَ تَوْقِيرُهُ صُدُودًا عَنِ الْعَمَلِ بِشَرْعِ الْإِسْلَامِ، وَإِقْبَالًا عَلَى مَا يُضَادُّهُ وَيُنَافِيهِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يَنْهَدِمُ إِلَّا بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا يُنَافِيهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْقِيرَ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ مَظِنَّةٌ لِمَفْسَدَتَيْنِ تَعُودَانِ عَلَى

الْإِسْلَامِ بِالْهَدْمِ: إِحْدَاهُمَا: الْتِفَاتُ الْجُهَّالِ وَالْعَامَّةِ إِلَى ذَلِكَ التَّوْقِيرِ، فَيَعْتَقِدُونَ فِي الْمُبْتَدِعِ أَنَّهُ أَفْضَلُ النَّاسِ، وَأَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِمَّا عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِهِ عَلَى بِدْعَتِهِ; دُونَ اتِّبَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى سُنَّتِهِمْ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا وُقِّرَ مِنْ أَجْلِ بِدْعَتِهِ; صَارَ ذَلِكَ كَالْحَادِي الْمُحَرِّضِ لَهُ عَلَى إِنْشَاءِ الِابْتِدَاعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَتَحْيَا الْبِدَعُ، وَتَمُوتُ السُّنَنُ، وَهُوَ هَدْمُ الْإِسْلَامِ بِعَيْنِهِ. وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ حَدِيثُ مُعَاذٍ: " «فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لَهُمْ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ» ". فَهُوَ يَقْتَضِي أَنّ السُّنَنَ تَمُوتُ إِذَا أُحْيِيَتِ الْبِدَعُ، وَإِذَا مَاتَتْ [السُّنَنُ] ; انْهَدَمَ الْإِسْلَامُ. وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ النَّقْلُ عَنِ السَّلَفِ; زِيَادَةً إِلَى صِحَّةِ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ الْبَاطِلَ إِذَا عُمِلَ بِهِ لَزِمَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ كَمَا فِي الْعَكْسِ، لِأَنَّ الْمَحَلَّ الْوَاحِدَ لَا يَشْتَغِلُ إِلَّا بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ. وَأَيْضًا; فَمِنَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ تَرْكُ الْبِدَعِ، فَمَنْ عَمِلَ بِبِدْعَةٍ وَاحِدَةٍ; فَقَدْ تَرَكَ تِلْكَ السُّنَّةَ. فَمِمَّا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّهُ أَخَذَ

المبتدع ملعون على لسان الشريعة

حَجَرَيْنِ فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَرَوْنَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! مَا نَرَى بَيْنَهُمَا إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَظْهَرَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى لَا يُرَى مِنَ الْحَقِّ إِلَّا قَدْرَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ، وَاللَّهِ لَتَفْشُوَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ، قَالُوا: تُرِكَتِ السُّنَّةُ ". وَلَهُ آخَرُ قَدْ تَقَدَّمَ. وَعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " مَا أَحْدَثَتْ أُمَّةٌ فِي دِينِهَا بِدْعَةً; إِلَّا رَفَعَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُمْ سُنَّةً ". وَعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ; قَالَ: " مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ; إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا، ثُمَّ لَمْ يُعِدْهَا إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ". وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ يَرْفَعُهُ: «لَا يُحْدِثُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً; إِلَّا تَرَكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ; قَالَ: " مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً، حَتَّى تَحْيَا الْبِدَعُ، وَتَمُوتَ السُّنَنُ ". [الْمُبْتَدِعُ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ] وَأَمَّا أَنَّ صَاحِبَهَا مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ: فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». وَعَدَّ مِنَ الْإِحْدَاثِ: الِاسْتِنَانُ بِسُنَّةٍ سُوءٍ لَمْ تَكُنْ. وَهَذِهِ اللَّعْنَةُ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهَا صَاحِبُ الْبِدْعَةِ مَعَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ وَقَدْ

شَهِدَ أَنَّ بَعْثَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهَا، وَجَاءَهُ الْهُدَى مِنَ اللَّهِ وَالْبَيَانُ الشَّافِي، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} [آل عمران: 86] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [آل عمران: 87] إِلَى آخِرِهَا. وَاشْتَرَكَ أَيْضًا مَعَ مَنْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَبَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] إِلَى آخِرِهَا. فَتَأَمَّلُوا الْمَعْنَى الَّذِي اشْتَرَكَ الْمُبْتَدِعُ فِيهِ مَعَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ، وَذَلِكَ مُضَادَّةُ الشَّارِعِ فِيمَا شَرَعَ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ، وَبَيَّنَ الطَّرِيقَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى غَايَةِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْبَيَانِ، فَضَادَّهَا الْكَافِرُ بِأَنْ جَحَدَهَا جَحْدًا، وَضَادَّهَا كَاتِمُهَا بِنَفْسِ الْكِتْمَانِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ يُبَيِّنُ وَيُظْهِرُ وَهَذَا يَكْتُمُ وَيُخْفِي، وَضَادَّهَا الْمُبْتَدِعُ بِأَنْ وَضَعَ الْوَسِيلَةَ لِتَرْكِ مَا بَيَّنَ وَإِخْفَاءِ مَا أَظْهَرَ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُدْخِلَ الْإِشْكَالَ فِي الْوَاضِحَاتِ، مِنْ أَجْلِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ، لِأَنَّ الْوَاضِحَاتِ تَهْدِمُ لَهُ مَا بَنَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَهُوَ آخِذٌ فِي إِدْخَالِ الْإِشْكَالِ عَلَى الْوَاضِحِ، حَتَّى يَرْتَكِبَ مَا جَاءَتِ اللَّعْنَةُ فِي الِابْتِدَاعِ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ صَاحِبُ مَالِكٍ: " قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ يَعْنِي: الْمَدِينَةَ فَصَلَّى وَوَضَعَ رِدَاءَهُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ; رَمَقَهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ وَرَمَقُوا مَالِكًا، وَكَانَ قَدْ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا سَلَّمَ;

المبتدع يزداد من الله بعدا

قَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْحَرَسِ؟ فَجَاءَهُ نَفْسَانِ، فَقَالَ: خُذَا صَاحِبَ هَذَا الثَّوْبِ، فَاحْبِسَاهُ، فَحُبِسَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ; فَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَمَا خِفْتَ اللَّهَ وَاتَّقَيْتَهُ أَنْ وَضَعْتَ ثَوْبَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ فِي الصَّفِّ، وَشَغَلْتَ الْمُصَلِّينَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَأَحْدَثْتَ فِي مَسْجِدِنَا شَيْئًا مَا كُنَّا نَعْرِفُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي مَسْجِدِنَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؟!» فَبَكَى ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي غَيْرِهِ ". وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّوَقِّي وَالتَّحَفُّظِ فِي تَرْكِ إِحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُنْ; خَوْفًا مِنْ تِلْكَ اللَّعْنَةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا سِوَى وَضْعِ الثَّوْبِ؟! وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ الطَّحَاوِيِّ: " «سِتَّةٌ أَلْعَنُهُمْ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ» "، فَذَكَرَ فِيهِمْ التَّارِكَ لِسُنَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْذًا بِالْبِدْعَةِ. [الْمُبْتَدِعُ يَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا] وَأَمَّا أَنَّهُ يَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا: فَلِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ قَالَ: " صَاحِبُ الْبِدْعَةِ; مَا يَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ اجْتِهَادًا صِيَامًا وَصَلَاةً، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا ". وَعَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ ; قَالَ: " مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا ". وَيُصَحِّحُ هَذَا النَّقْلَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَوَارِجِ: يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُونَ

البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام

صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ إِلَى أَنْ قَالَ: " «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ». فَبَيَّنَ أَوَّلًا اجْتِهَادَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ آخِرًا بُعْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُوَ بَيِّنٌ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ عَلَى الْبِدْعَةِ، فَكَمَا لَوْ لَمْ يَعْمَلْهُ. وَيَزِيدُ عَلَى تَارِكِ الْعَمَلِ بِالْعِنَادِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ابْتِدَاعُهُ، وَالْفَسَادِ الدَّاخِلِ عَلَى النَّاسِ بِهِ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ وَفِي فُرُوعِ الْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَهُوَ يَظُنُّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ بِدْعَتَهُ تُقَرِّبُهُ مِنَ اللَّهِ وَتُوَصِّلُهُ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ (الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ) بِأَنَّهُ لَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الْعَمَلُ بِمَا شَرَعَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَ وَهُوَ تَارِكُهُ، وَأَنَّ الْبِدَعَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ وَهُوَ يَنْتَحِلُهَا. [الْبِدَعُ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ] وَأَمَّا أَنَّ الْبِدَعَ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ: فَلِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّفَرُّقَ شِيَعًا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ; حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]. وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32]. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، وَأَنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الشَّوَاهِدِ تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الِافْتِرَاقِ وَالْعَدَاوَةِ عِنْدَ وُقُوعِ الِابْتِدَاعِ. وَأَوَّلُ شَاهِدٍ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ قِصَّةُ الْخَوَارِجِ، إِذْ عَادَوْا أَهْلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارُوا يَقْتُلُونَهُمْ وَيَدَعُونَ الْكُفَّارَ; كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ [الْحَدِيثُ] الصَّحِيحُ. ثُمَّ يَلِيهِمْ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ صَوْلَةٌ مِنْهُمْ بِقُرْبِ الْمُلُوكِ; فَإِنَّهُمْ تَنَاوَلُوا أَهْلَ السُّنَّةِ بِكُلِّ نَكَالٍ وَعَذَابٍ وَقَتْلٍ أَيْضًا، حَسْبَمَا بَيَّنَهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَخْبَارِ. ثُمَّ يَلِيهِمْ كُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُثَبِّطُوا النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ، وَيَذُمُّونَهُمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمُ الْأَرْجَاسُ الْأَنْجَاسُ الْمُكِبِّينَ عَلَى الدُّنْيَا، وَيَضَعُونَ عَلَيْهِمْ شَوَاهِدَ الْآيَاتِ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا وَذَمِّ الْمُكِبِّينَ عَلَيْهَا:

كَمَا يُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ شَهِدَ عِنْدِي عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ عَلَى شِرَاكِ نَعْلٍ; مَا أَجْزَتُ شَهَادَتَهُمْ ". وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ; قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: كَيْفَ حَدَّثَ الْحَسَنُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ وَرَّثَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا؟ فَقَالَ: " إِنَّ فِعْلَ عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ سُنَّةً ". وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ حَدَّثَ الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ فِي السَّكْتَتَيْنِ؟ فَقَالَ: " مَا تَصْنَعُ بِسَمُرَةَ؟! قَبَّحَ اللَّهُ سَمُرَةَ " اهـ. بَلْ قَبَّحَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ. وَسُئِلَ يَوْمًا عَنْ شَيْءٍ؟ فَأَجَابَ فِيهِ. قَالَ الرَّاوِي: قُلْتُ: لَيْسَ هَكَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا. قَالَ: " وَمَنْ أَصْحَابُكَ لَا أَبَا لَكَ؟ "، قُلْتُ: أَيُّوبُ، وَيُونُسُ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَالتَّيْمِيُّ. قَالَ: " أُولَئِكَ أَنْجَاسٌ أَرْجَاسٌ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ". فَهَكَذَا أَهْلُ الضَّلَالِ يَسُبُّونَ السَّلَفَ الصَّالِحَ; لَعَلَّ بِضَاعَتَهُمْ تَنْفُقُ، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]. وَأَصْلُ هَذَا الْفَسَادِ مِنْ قِبَلِ الْخَوَارِجِ، فَهُمْ أَوَّلُ مَنْ لَعَنَ السَّلَفَ الصَّالِحَ، وَتَكْفِيرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَمِثْلُ هَذَا كُلِّهِ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ. وَأَيْضًا; فَإِنَّ فِرْقَةَ النَّجَاةِ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ مَأْمُورُونَ بِعَدَاوَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالتَّشْرِيدِ بِهِمْ، وَالتَّنْكِيلِ بِمَنِ انْحَاشَ إِلَى جِهَتِهِمْ بِالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ،

البدع مانعة من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

وَقَدْ حَذَّرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ مُصَاحَبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ مَظِنَّةَ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، لَكِنَّ الدَّرْكَ فِيهَا عَلَى مَنْ تَسَبَّبَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا عَلَى التَّعَادِي مُطْلَقًا. كَيْفَ وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِمُعَادَاتِهِمْ وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِمُوَالَاتِنَا وَالرُّجُوعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ؟! [الْبِدَعُ مَانِعَةٌ مِنْ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَأَمَّا أَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِمَا رُوِيَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «حَلَّتْ شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي; إِلَّا صَاحِبَ بِدْعَةٍ». وَيُشِيرُ إِلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى فِيهِ مَا فِي الصَّحِيحِ; قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَأَنَّهُ سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِلَى قَوْلِهِ: فَيُقَالُ: لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ.» الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. فَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ شَفَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَالَ: «فَأَقُولُ لَهُمْ: سُحْقًا; كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ». وَيَظْهَرُ مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ الِارْتِدَادَ لَمْ يَكُنِ ارْتِدَادَ كُفْرٍ; لِقَوْلِهِ:

البدع رافعة للسنن التي تقابلها

«وَإِنَّهُ سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَمَا نُسِبُوا إِلَى أُمَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِالْآيَةِ، وَفِيهَا: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]»، وَلَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً، لَمَا ذَكَرَهَا، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا غُفْرَانَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُرْجَى الْغُفْرَانُ لِمَنْ لَمْ يُخْرِجْهُ عَمَلُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ (الْمُوَطَّأِ) لِقَوْلِهِ فِيهِ: «فَأَقُولُ فَسُحْقًا فَسُحْقًا». [الْبِدَعُ رَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا] وَأَمَّا أَنَّهَا رَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا: فَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الْمُوَقِّرَ لِصَاحِبِهَا مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ. [عَلَى الْمُبْتَدِعِ إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِالْبِدْعَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] وَأَمَّا أَنَّ عَلَى مُبْتَدِعِهَا إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]. وَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» الْحَدِيثَ.

وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا; إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ». وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُشْعِرُ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ قَبْلَهُ، إِذْ عَلَّلَ تَعْلِيقَ الْإِثْمِ عَلَى ابْنِ آدَمَ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ سَنَّ مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ مِثْلُهُ، إِذْ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْإِثْمُ بِمَنْ سَنَّ الْقَتْلَ; لِكَوْنِهِ قَتْلًا دُونَ غَيْرِهِ، بَلْ لِكَوْنِهِ سَنَّ سُنَّةَ سُوءٍ وَجَعَلَهَا طَرِيقًا مَسْلُوكَةً. وَمِثْلُ هَذَا مَا جَاءَ فِي مَعْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَوْ يَأْتِي كَقَوْلِهِ: «وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ; كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا». وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ. فَلْيَتَّقِ اللَّهَ امْرُؤٌ رَبَّهُ، وَلْيَنْظُرْ قَبْلَ الْإِحْدَاثِ فِي أَيِّ مَزَلَّةٍ يَضَعُ قَدَمَهُ فِي مَصُونِ أَمْرِهِ، [أَمْ] يَثِقُ بِعَقْلِهِ فِي التَّشْرِيعِ، وَيَتَّهِمُ رَبَّهُ فِيمَا شَرَعَ! وَلَا يَدْرِي الْمِسْكِينُ مَا الَّذِي يُوضَعُ لَهُ فِي مِيزَانِ سَيِّئَاتِهِ، مِمَّا لَيْسَ فِي حِسَابِهِ، وَلَا شَعَرَ أَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ. فَمَا مِنْ بِدْعَةٍ يَبْتَدِعُهَا أَحَدٌ فَيَعْمَلُ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ، إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ إِثْمُ ذَلِكَ الْعَامِلِ، زِيَادَةً إِلَى إِثْمِ ابْتِدَاعِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ عَمَلِهِ ثَانِيًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ تُبْتَدَعُ، فَلَا تَزْدَادُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ إِلَّا مُضِيًّا

المبتدع ليس له توبة

حَسْبَمَا تَقَدَّمَ وَاشْتِهَارًا وَانْتِشَارًا، فَعَلَى وَزْنِ ذَلِكَ يَكُونُ إِثْمُ الْمُبْتَدِعِ لَهَا، كَمَا أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً; كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَيْضًا، فَإِذَا كَانَتْ كُلُّ بِدْعَةٍ يَلْزَمُهَا إِمَاتَةُ سُّنَّةٍ تُقَابِلُهَا; كَانَ عَلَى الْمُبْتَدِعِ إِثْمُ ذَلِكَ أَيْضًا، فَهُوَ إِثْمٌ زَائِدٌ عَلَى إِثْمِ الِابْتِدَاعِ، وَذَلِكَ الْإِثْمُ يَتَضَاعَفُ تَضَاعُفَ إِثْمِ الْبِدْعَةِ بِالْعَمَلِ بِهَا، لِأَنَّهَا كُلَّمَا تَجَدَّدَتْ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ; تَجَدَّدَتْ فِي قَوْلِ إِمَاتَةِ السُّنَّةِ كَذَلِكَ. وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ بِبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَنَا بِأَنَّهُمْ: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ». . . . . الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ، فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا مَا إِذَا نَظَرَ فِيهِ النَّاظِرُ; شَكَّ فِيهِ وَتَمَارَى: هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِيهِمْ أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا سَبَبُهُ الِابْتِدَاعُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ»، وَقَوْلُهُ: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يَتَجَاوَزُ تَرَاقِيَهُمْ» فَهَذِهِ بِدَعٌ ثَلَاثٌ، إِعَاذَةً بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. [الْمُبْتَدِعُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ] وَأَمَّا أَنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ: فَلِمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوْبَةَ عَلَى كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ». وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: " كَانَ يُقَالُ: يَأْبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ بِتَوْبَةٍ، وَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ; إِلَّا إِلَى أَشَرَّ مِنْهَا ". وَنَحْوُهُ عَنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ; قَالَ: " مَا كَانَ رَجُلٌ

عَلَى رَأْيٍ مِنَ الْبِدْعَةِ فَتَرَكَهُ، إِلَّا إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ ". خَرَّجَ هَذِهِ الْآثَارَ ابْنُ وَضَّاحٍ. وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " اثْنَانِ لَا نُعَاتِبُهُمَا: صَاحِبُ طَمَعٍ، وَصَاحِبُ هَوًى، فَإِنَّهُمَا لَا يَنْزِعَانِ ". وَعَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ; قَالَ: " سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْقَاسِمِ وَهُوَ يَقُولُ: مَا كَانَ عَبْدٌ عَلَى هَوًى تَرَكَهُ; إِلَّا إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ ". قَالَ: " فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا، فَقَالَ: تَصْدِيقُهُ فِي حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَرْجِعَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ». وَعَنْ أَيُّوبَ; قَالَ: " «كَانَ رَجُلٌ يَرَى رَأْيًا، فَرَجَعَ عَنْهُ، فَأَتَيْتُ مُحَمَّدًا فَرِحًا بِذَلِكَ أُخْبِرُهُ، فَقُلْتُ: أَشَعَرْتَ أَنَّ فُلَانًا تَرَكَ رَأْيَهُ الَّذِي كَانَ يَرَى؟ فَقَالَ: انْظُرْ إِلَامَ يَتَحَوَّلُ؟ إِنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِهِ: يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ. . . . . . ثُمَّ لَا يَعُودُونَ». وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ». فَهَذِهِ شَهَادَةُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآثَارِ، وَحَاصِلُهَا: أَنْ [لَا] تَوْبَةَ لِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ عَنْ بِدْعَتِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا; فَإِنَّمَا يَخْرُجُ إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا; كَمَا فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ، أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ يُظْهِرُ الْخُرُوجَ عَنْهَا وَهُوَ مُصِرٌّ

عَلَيْهَا بَعْدُ; كَقِصَّةِ غَيْلَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ الْفِرَقِ إِذْ قَالَ فِيهِ: «وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ». وَهَذَا النَّفْيُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِيِّ، إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَتُوبَ عَمَّا رَأَى وَيَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا نُقِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، وَمَا نَقَلُوهُ فِي مُنَاظَرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَرُورِيَّةَ الْخَارِجِينَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي مُنَاظَرَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِبَعْضِهِمْ. وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِي الْوَاقِعِ الْإِصْرَارُ، وَمِنْ هُنَالِكَ قُلْنَا: يَبْعُدُ أَنْ يَتُوبَ بَعْضُهُمْ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِظَاهِرِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَسَبَبُ بُعْدِهِ عَنِ التَّوْبَةِ: أَنَّ الدُّخُولَ تَحْتَ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ صَعْبٌ عَلَى النَّفْسِ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُخَالِفٌ لِلْهَوَى، وَصَادٌّ عَنْ سَبِيلِ الشَّهَوَاتِ، فَيَثْقُلُ عَلَيْهَا جِدًّا; لِأَنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ، وَالنَّفْسَ إِنَّمَا تَنْشَطُ بِمَا يُوَافِقُ هَوَاهَا لَا بِمَا يُخَالِفُهُ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ فَلِلْهَوَى فِيهَا مَدْخَلٌ، لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى نَظَرِ مُخْتَرِعِهَا لَا إِلَى نَظَرِ الشَّارِعِ، [فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِحُكْمِ الشَّارِعِ] فَعَلَى حُكْمِ التَّبَعِ لَا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، مَعَ ضَمِيمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَعَلُّقٍ بِشُبْهَةِ دَلِيلٍ

يَنْسِبُهَا إِلَى الشَّارِعِ، وَيَدَّعِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَصَارَ هَوَاهُ مَقْصُودًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي زَعْمِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ وَدَاعِي الْهَوَى مُسْتَمْسِكٌ بِحُسْنِ مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ وَهُوَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ فِي الْجُمْلَةِ؟!. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ; قَالَ: " بَلَغَنِي أَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةَ ضَلَالَةٍ آلَفَهُ الشَّيْطَانُ الْعِبَادَةَ، أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ الْخُشُوعَ وَالْبُكَاءَ; كَيْ يَصْطَادَ بِهِ ". وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: " أَشَدُّ النَّاسِ عِبَادَةً مَفْتُونٌ "، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ صَلَاتَهُ فِي صَلَاتِهِ وَصِيَامَهُ فِي صِيَامِهِ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَيُحَقِّقُ مَا قَالَهُ الْوَاقِعُ; كَمَا نُقِلَ فِي الْأَخْبَارِ عَنِ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ. فَالْمُبْتَدِعُ يَزِيدُ فِي الِاجْتِهَادِ; لِيَنَالَ فِي الدُّنْيَا التَّعْظِيمَ وَالْمَالَ وَالْجَاهَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الشَّهَوَاتِ، بَلِ التَّعْظِيمُ عَلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، أَلَا تَرَى إِلَى انْقِطَاعِ الرُّهْبَانِ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ عَنْ جَمِيعِ الْمَلْذُوذَاتِ، وَمُقَاسَاتِهِمْ فِي أَصْنَافِ الْعِبَادَاتِ وَالْكَفِّ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ خَالِدُونَ فِي جَهَنَّمَ؟!. قَالَ اللَّهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ - عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ - تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2 - 4].

المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى

وَقَالَ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103]. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِخِفَّةٍ يَجِدُونَهَا فِي ذَلِكَ الِالْتِزَامِ، وَنَشَاطٍ بِدَاخِلِهِمْ; يَسْتَسْهِلُونَ بِهِ الصَّعْبَ، بِسَبَبِ مَا دَاخَلَ النَّفْسَ مِنَ الْهَوَى، فَإِذَا بَدَا لِلْمُبْتَدِعِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، رَآهُ مَحْبُوبًا عِنْدَهُ; لِاسْتِبْعَادِهِ لِلشَّهَوَاتِ وَعَمَلِهِ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَرَآهُ مُوَافِقًا لِلدَّلِيلِ عِنْدَهُ، فَمَا الَّذِي يَصُدُّهُ عَنِ الِاسْتِمْسَاكِ بِهِ وَالِازْدِيَادِ مِنْهُ؟ وَهُوَ يَرَى أَنَّ أَعْمَالَهُ أَفْضَلُ مِنْ أَعْمَالِ غَيْرِهِ، وَاعْتِقَادَاتِهِ أَوْفَقُ وَأَعْلَى؟! أَفَيُفِيدُ الْبُرْهَانُ مَطْلَبًا؟ {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]. [الْمُبْتَدِعُ يُلْقَى عَلَيْهِ الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى] وَأَمَّا أَنَّ الْمُبْتَدِعَ يُلْقَى عَلَيْهِ الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] ; حَسْبَمَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ; لِأَنَّ الْمُتَّخِذِينَ لِلْعِجْلِ إِنَّمَا ضَلُّوا بِهِ حَتَّى عَبَدُوهُ، لِمَا سَمِعُوا مِنْ خُوَارِهِ، وَلِمَا أَلْقَى إِلَيْهِمُ السَّامِرِيُّ فِيهِ، فَكَانَ فِي حَقِّهِمْ شُبْهَةً خَرَجُوا بِهَا عَنِ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] ; فَهُوَ عُمُومٌ فِيهِمْ وَفِيمَنْ أَشْبَهَهُمْ، مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْبِدَعُ كُلُّهُا افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ; حَسْبَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 140].

المبتدع بعيد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم

فَإِذًا كُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَهُوَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ بِسَبَبِ بِدْعَتِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ لِبَادِي الرَّأْيِ عِزُّهُ وَجَبَرُوتُهُ، فَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَذِلَّاءُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الذِّلَّةَ الْحَاضِرَةَ بَيْنَ أَيْدِينَا مَوْجُودَةٌ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، أَلَا تَرَى أَحْوَالَ الْمُبْتَدِعَةِ فِي زَمَانِ التَّابِعِينَ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ حَتَّى تَلَبَّسُوا بِالسَّلَاطِينِ، وَلَاذُوا بِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ; اسْتَخْفَى بِبِدْعَتِهِ، وَهَرَبَ بِهَا عَنْ مُخَالَطَةِ الْجُمْهُورِ، وَعَمِلَ بِأَعْمَالِهَا عَلَى التَّقِيَّةِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، فَأَنْجَزَ اللَّهُ وَعْدَهُ، فَقَالَ: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61]. وَصَدَّقَ ذَلِكَ الْوَاقِعُ بِالْيَهُودِ حَيْثُمَا حَلُّوا; فِي أَيِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ كَانُوا، لَا يَزَالُونَ أَذِلَّاءَ مَقْهُورِينَ: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]، وَمِنْ جُمْلَةِ الِاعْتِدَاءِ اتِّخَاذُهُمُ الْعِجْلَ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذِّلَّةِ، وَأَمَّا الْغَضَبُ; فَمَضْمُونٌ بِصَادِقِ الْأَخْبَارِ، فَيُخَافُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدِعُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْغَضَبِ، وَاللَّهُ الْوَاقِي بِفَضْلِهِ. [الْمُبْتَدِعُ بَعِيدٌ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وَأَمَّا الْبُعْدُ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِحَدِيثِ (الْمُوَطَّأِ): «فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ». . الْحَدِيثَ.

الخوف على المبتدع أن يكون كافرا

وَفِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَسْمَاءَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي، مَشَوْا الْقَهْقَرَى». وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ، حَتَّى إِذَا تَأَهَّبْتُ لِأَتَنَاوَلَهُمْ، اخْتَلَجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَصْحَابِي، يَقُولُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوهُ بَعْدَكَ». وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي غِمَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ; لِأَجْلِ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِيهِمْ، وَهُوَ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْكُفْرِ الْمَحْضِ، كَانَ كُفْرُهُمْ أَصْلًا أَوِ ارْتِدَادًا، وَلِقَوْلِهِ: قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ; لَقَالَ: قَدْ كَفَرُوا بَعْدَكَ، وَأَقْرَبُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ تَبْدِيلُ السُّنَّةِ، وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ النِّفَاقُ; فَذَلِكَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَقْصُودِنَا، لِأَنَّ أَهْلَ النِّفَاقِ إِنَّمَا أَخَذُوا الشَّرِيعَةَ تَقِيَّةً لَا تَعَبُّدًا، فَوَضَعُوهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَهُوَ عَيْنُ الِابْتِدَاعِ. وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى كُلُّ مَنِ اتَّخَذَ السُّنَّةَ وَالْعَمَلَ بِهَا حِيلَةً وَذَرِيعَةً إِلَى نَيْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا، لَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لَهَا، وَإِخْرَاجٌ لَهَا عَنْ وَضْعِهَا الشَّرْعِيِّ. [الْخَوْفُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا] وَأَمَّا الْخَوْفُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا: فَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنَ السَّلَفِ الْأَوَّلِ وَغَيْرَهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ كَثِيرٍ مِنْ فِرَقِهِمْ; مِثْلَ: الْخَوَارِجِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ.

الخوف على المبتدع من سوء الخاتمة

وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ. وَقَدْ حَكَمَ الْعُلَمَاءُ بِكُفْرِ جُمْلَةٍ مِنْهُمْ كَالْبَاطِنِيَّةِ وَسِوَاهُمْ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَذْهَبِ الْحُلُولِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِمَا يُشْبِهُ قَوْلَ النَّصَارَى فِي اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ. وَالْعُلَمَاءُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْرٍ: هَلْ هُوَ كُفْرٌ أَمْ لَا؟ فَكُلُّ عَاقِلٍ يَرْبَأُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى خُطَّةِ خَسْفٍ كَهَذِهِ; بِحَيْثُ يُقَالُ لَهُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا: هَلْ أَنْتَ كَافِرٌ أَمْ ضَالٌّ غَيْرُ كَافِرٍ؟ أَوْ يُقَالُ: إِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا بِكُفْرِكَ، وَأَنْتَ حَلَالُ الدَّمِ. [الْخَوْفُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ] وَأَمَّا أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا سُوءُ الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ: فَلِأَنَّ صَاحِبَهَا مُرْتَكِبٌ إِثْمًا، وَعَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى حَتْمًا، وَلَا نَقُولُ الْآنَ: هُوَ عَاصٍ بِالْكَبَائِرِ أَوْ بِالصَّغَائِرِ، بَلْ نَقُولُ: هُوَ مُصِرٌّ عَلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْإِصْرَارُ يُعَظِّمُ الصَّغِيرَةَ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً حَتَّى تَصِيرَ كَبِيرَةً، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً فَأَعْظَمُ. وَمَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ; فَيُخَافُ عَلَيْهِ، فَرُبَّمَا إِذَا كُشِفَ الْغِطَاءُ، وَعَايَنَ عَلَامَاتِ الْآخِرَةِ اسْتَفَزَّهُ الشَّيْطَانُ، وَغَلَبَهُ عَلَى قَلْبِهِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَخُصُوصًا حِين كَانَ مُطِيعًا لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ

زَمَانِهِ، مَعَ حُبِّ الدُّنْيَا الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيِّ: " إِنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ لَا يَكُونُ لِمَنِ اسْتَقَامَ ظَاهِرُهُ، وَصَلُحَ بَاطِنُهُ، مَا سُمِعَ بِهَذَا قَطُّ، وَلَا عُلِمَ بِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ لَهُ فَسَادٌ فِي الْعَقْدِ، أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَإِقْدَامٌ عَلَى الْعَظَائِمِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ مُسْتَقِيمًا ثُمَّ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ وَخَرَجَ عَنْ سُنَنِهِ، وَأَخَذَ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِ، فَيَكُونُ عَمَلُهُ ذَلِكَ سَبَبًا لِسُوءِ خَاتِمَتِهِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ ". قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وَقَدْ سَمِعْتُ بِقِصَّةِ بَلْعَامَ بْنِ بَاعُورَاءَ حَيْثُ آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ. . .} [الأعراف: 175] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. فَهَذَا ظَاهِرٌ إِذَا اغْتُرَّ بِالْبِدْعَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى كَوْنِهَا بِدْعَةً، فَذَلِكَ أَعْظَمُ، لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ مَعَ كَوْنِهِ مُصِرًّا عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ، يَزِيدُ عَلَى الْمُصِرِّ بِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِلشَّرِيعَةِ بِعَقْلِهِ، غَيْرُ مُسَلِّمٍ لَهَا فِي تَحْصِيلِ أَمْرِهِ، مُعْتَقِدًا فِي الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا طَاعَةٌ، حَيْثُ حَسَّنَ مَا قَبَّحَهُ الشَّارِعُ، وَفِي الطَّاعَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ طَاعَةً إِلَّا بِضَمِيمَةِ نَظَرِهِ فَهُوَ قَدْ قَبَّحَ مَا حَسَّنَهُ الشَّارِعُ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا، فَحَقِيقٌ بِالْقُرْبِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ مَنْ ذَمَّ: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].

اسوداد وجه المبتدع في الآخرة

وَالْمَكْرُ: جَلْبُ السُّوءِ مِنْ حَيْثُ لَا يُفْطَنُ لَهُ، وَسُوءُ الْخَاتِمَةِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، إِذْ يَأْتِي الْإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ. [اسْوِدَادُ وَجْهِ الْمُبْتَدِعِ فِي الْآخِرَةِ] وَأَمَّا اسْوِدَادُ وَجْهِهِ فِي الْآخِرَةِ: فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]. وَفِيهَا أَيْضًا الْوَعِيدُ بِالْعَذَابِ لِقَوْلِهِ: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106]، وَقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]. حَكَى عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ عَنْهُ قَالَ: " لَوْ أَنَّ الْعَبْدَ ارْتَكَبَ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا، دُونَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ شَيْئًا، ثُمَّ نَجَا مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ، لَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْلَى جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ، لِأَنَّ كُلَّ كَبِيرَةٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ هُوَ مِنْهَا عَلَى رَجَاءٍ، وَكُلَّ هَوًى لَيْسَ هُوَ مِنْهُ عَلَى رَجَاءٍ; إِنَّمَا يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ". [الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمُبْتَدِعِ] وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ مِنْهُ: فَفِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ بَرَاءٌ مِنِّي». وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَهْلَ الْقَدَرِ: " إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ; فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بَرَاءٌ مِنِّي ". وَجَاءَ عَنِ الْحَسَنِ: " لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ ; فَإِنَّهُ يُمْرِضُ قَلْبَكَ ". وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: " مَنْ جَالَسَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ; لَمْ يَسْلَمْ مِنْ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لِغَيْرِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ بِقَلْبِهِ شَيْءٌ يَزِلُّ بِهِ فَيُدْخِلُهُ النَّارَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أُبَالِي مَا تَكَلَّمُوا بِهِ، وَإِنِّي وَاثِقٌ بِنَفْسِي، فَمَنْ أَمِنَ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ عَلَى دِينِهِ; سَلَبَهُ إِيَّاهُ ". وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ; قَالَ: " إِذَا لَقِيتَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي طَرِيقٍ; فَخُذْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ ". وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ ; قَالَ: " لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ; فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمُرُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، وَيُلَبِّسُوا عَلَيْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ". وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ ; قَالَ: " لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ; فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَرْتَدَّ قُلُوبُكُمْ "، وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَيُعَضِّدُهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ». وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ أَبِي قِلَابَةَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ

عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السُّنَّةِ، فَيُلْقِي لَهُ صَاحِبُ الْهَوَى فِيهِ هَوًى مِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ لَا أَصْلَ لَهُ، أَوْ يَزِيدُ لَهُ فِيهِ قَيْدًا مِنْ رَأْيِهِ، فَيَقْبَلُهُ قَلْبُهُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ يَعْرِفُهُ; وَجَدَهُ مُظْلِمًا; فَإِمَّا أَنْ يَشْعُرَ بِهِ; فَيَرُدَّهُ بِالْعِلْمِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَشْعُرَ بِهِ; فَيَمْضِيَ مَعَ مَنْ هَلَكَ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: " وَسَمِعْتُ مَالِكًا إِذْ جَاءَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ يَقُولُ: أَمَّا أَنَا; فَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَأَمَّا أَنْتَ فَشَاكٌّ، فَاذْهَبْ إِلَى شَاكٍّ مِثْلِكَ فَخَاصِمْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] . فَهَذَا شَأْنُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ تَمْكِينِ زَائِغِ الْقَلْبِ أَنْ يُسْمِعَ كَلَامَهُ. وَمَثَلُ رَدِّهِ بِالْعِلْمِ: جَوَابُهُ لِمَنْ سَأَلَهُ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ لَهُ: " الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَأَرَاكَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ "، ثُمَّ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ السَّائِلِ. وَمَثَلُ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى رَدِّهِ: مَا حَكَى الْبَاجِيُّ ; قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: " كَانَ يُقَالُ: لَا تُمَكِّنْ زَائِغَ الْقَلْبِ مِنْ أُذُنِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا يَعْلَقُكَ مِنْ ذَلِكَ ". وَلَقَدْ سَمِعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ شَيْئًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْقَدَرِ، فَعَلِقَ قَلْبُهُ، فَكَانَ يَأْتِي إِخْوَانَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْصِحُهُمْ، فَإِذَا نَهَوْهُ; قَالَ: " فَكَيْفَ بِمَا عَلِقَ قَلْبِي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى أَنْ أُلْقِيَ نَفْسِي مِنْ فَوْقِ هَذِهِ الْمَنَارَةِ; فَعَلْتُ ". ثُمَّ حُكِيَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُجَالِسِ الْقَدَرِيَّ وَلَا تُكَلِّمْهُ;

فتنة المبتدع

إِلَّا أَنْ تَجْلِسَ إِلَيْهِ، فَتُغْلِظَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، فَلَا تُوَادُّوهُمْ ". [فِتْنَةُ الْمُبْتَدِعِ] وَأَمَّا أَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ: فَلِمَا حَكَى عِيَاضٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: أَنَّهُ قَالَ: " سَأَلْتُ مَالِكًا عَمَّنْ أَحْرَمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ؟ فَقَالَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، أَخْشَى عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابَ الْأَلِيمَ فِي الْآخِرَةِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]؟! وَقَدْ «أَمْرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَلَّ مِنَ الْمَوَاقِيتِ» ". وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، قَالَ: " سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، قَالَ: فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ، قَالَ: لَا تَفْعَلْ; فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ، فَقَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ هَذِهِ؟! إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا، قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّكَ سَبَقْتَ إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ هِيَ شَأْنُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَاعِدَتُهُمُ الَّتِي يُؤَسِّسُونَ عَلَيْهَا بُنْيَانَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَنَّهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ.

فصل الفرق بين البدعة والمعصية

وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ: " لَقَدْ هُدِيتُمْ لِمَا لَمْ يَهْتَدِ لَهُ نَبِيُّكُمْ! وَإِنَّكُمْ لَتُمْسِكُونَ بِذَنَبِ ضَلَالَةٍ " ; إِذْ مَرَّ بِقَوْمٍ كَانَ رَجُلٌ يَجْمَعُهُمْ، يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَيَقُولُ الْقَوْمُ. وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَيَقُولُ الْقَوْمُ. ثُمَّ إِنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّفَاقَ مِنْ أَصْلِهِ بِدْعَةٌ، لِأَنَّهُ وَضَعَ بِدْعَةً فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ; قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16]، فَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمُخَالِفِينَ عَنْ أَمْرِهِ يَدْخُلُونَ أَيْضًا مِنْ بَابِ أَحْرَى. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا بَقِيَ، إِذْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِيهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، وَبَسْطُ مَعَانِيهَا طَوِيلٌ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ] وَبَقِيَ مِمَّا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ شَرْحُ مَعْنًى عَامٍّ يَتَعَلَّقُ بِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ: أَنْ الْبِدَعَ ضَلَالَةٌ، وَأَنَّ الْمُبْتَدِعَ ضَالٌّ وَمُضِلٌّ: وَالضَّلَالَةُ مَذْكُورَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّقْلِ الْمَذْكُورِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهَا فِي آيَاتِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ شِيَعًا وَتَفَرُّقِ الطُّرُقِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّهَا لَمْ

تُوصَفُ فِي الْغَالِبِ بِوَصْفِ الضَّلَالَةِ; إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِدْعَةً أَوْ شِبْهَ الْبِدْعَةِ، وَكَذَلِكَ الْخَطَأُ الْوَاقِعُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ وَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ لَا يُسَمَّى ضَلَالًا، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُخْطِئِ اسْمُ ضَالٍّ، كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِسَائِرِ الْمَعَاصِي. وَإِنَّمَا ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِحِكْمَةِ قَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّلَالَ وَالضَّلَالَةَ ضِدُّ الْهَدْيِ وَالْهُدَى، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْهُدَى حَقِيقَةً فِي الظَّاهِرِ الْمَحْسُوسِ، فَتَقُولُ: هَدَيْتُهُ الطَّرِيقَ وَهَدَيْتُهُ إِلَى الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ: نُقِلَ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3]، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]. وَالصِّرَاطُ وَالطَّرِيقُ وَالسَّبِيلُ; بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الطَّرِيقِ الْمَحْسُوسِ، وَمَجَازٌ فِي الطَّرِيقِ الْمَعْنَوِيِّ، وَضِدُّهُ الضَّلَالُ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ وَالشَّاةُ الضَّالَّةُ، وَرَجُلٌ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ إِذَا خَرَجَ عَنْهُ. لِأَنَّهُ الْتُبِسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ هَادٍ يَهْدِيهِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ. فَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ; لَمَّا غَلَبَ الْهَوَى مَعَ الْجَهْلِ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ; تَوَهَّمَ أَنَّ مَا ظَهَرَ لَهُ بِعَقْلِهِ هُوَ الطَّرِيقُ الْقَوِيمُ دُونَ غَيْرِهِ، فَمَضَى عَلَيْهِ، فَحَادَ بِسَبَبِهِ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَهُوَ ضَالٌّ مِنْ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ رَاكِبٌ لِلْجَادَّةِ; كَالْمَارِّ بِاللَّيْلِ عَلَى الْجَادَّةِ وَلَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ يَهْدِيهِ، يُوشِكُ أَنْ يَضِلَّ عَنْهَا، فَيَقَعُ فِي مُتَابِعِهِ، وَإِنْ كَانَ بِزَعْمِهِ يَتَحَرَّى قَصْدَهَا.

فَالْمُبْتَدِعُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ; إِنَّمَا ضَلَّ فِي أَدِلَّتِهَا، حَيْثُ أَخَذَهَا مَأْخَذَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ لَا مَأْخَذَ الِانْقِيَادِ تَحْتَ أَحْكَامِ اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُبْتَدِعِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ جَعَلَ الْهَوَى أَوَّلَ مَطَالِبِهِ، وَأَخَذَ الْأَدِلَّةَ بِالتَّبَعِ، وَمِنْ شَأْنِ الْأَدِلَّةِ أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ شَأْنِ كَلَامِهَا الِاحْتِرَازُ فِيهِ بِالظَّوَاهِرِ، فَكَمَا تَجِبُ فِيهِ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ [التَّأْوِيلَ; تَجِدُ فِيهِ ظَاهِرًا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ] حَسْبَمَا قَرَّرَهُ مَنْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ الْعِلْمِ، وَكُلُّ ظَاهِرٍ يُمْكِنُ فِيهِ أَنْ يُصْرَفَ عَنْ مُقْتَضَاهُ فِي الظَّاهِرِ الْمَقْصُودِ، وَيُتَأَوَّلُ عَلَى غَيْرِ مَا قُصِدَ فِيهِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْجَهْلُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَعَدَمُ الِاضْطِلَاعِ بِمَقَاصِدِهَا، كَانَ الْأَمْرُ أَشَدَّ وَأَقْرَبَ إِلَى التَّحْرِيفِ وَالْخُرُوجِ عَنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ، فَكَأَنَّ الْمُدْرِكَ أَغْرَقُ فِي الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ، وَأَمْكَنُ فِي ضَلَالِ الْبِدْعَةِ، فَإِذَا غَلَبَ الْهَوَى; أَمْكَنَ انْقِيَادُ أَلْفَاظِ الْأَدِلَّةِ إِلَى مَا أَرَادَ مِنْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ لَا تَجِدُ مُبْتَدِعًا مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْمِلَّةِ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَشْهِدُ عَلَى بِدْعَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَيُنْزِلُهُ عَلَى مَا وَافَقَ عَقْلَهُ وَشَهْوَتَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي الْحِكْمَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي لَا مَرَدَّ لَهَا، قَالَ تَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، وَقَالَ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]. لَكِنْ; إِنَّمَا يَنْسَاقُ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَشَابِهُ مِنْهَا لَا الْوَاضِحُ، وَالْقَلِيلُ مِنْهَا لَا الْكَثِيرُ، وَهُوَ أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْمُعْظَمَ وَالْجُمْهُورَ مِنَ

الْأَدِلَّةِ إِذَا دَلَّ عَلَى أَمْرٍ بِظَاهِرِهِ، فَهُوَ الْحَقُّ، فَإِنْ جَاءَ عَلَى مَا ظَاهِرُهُ الْخِلَافُ; فَهُوَ النَّادِرُ وَالْقَلِيلُ، فَكَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ رَدُّ الْقَلِيلِ إِلَى الْكَثِيرِ، وَالْمُتَشَابِهِ إِلَى الْوَاضِحِ. غَيْرَ أَنَّ الْهَوَى زَاغَ بِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ زَيْغَهُ، فَهُوَ فِي تِيهٍ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ; بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُبْتَدِعِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ الْهِدَايَةَ إِلَى الْحَقِّ أَوَّلَ مَطَالِبِهِ، وَأَخَّرَ هَوَاهُ إِنْ كَانَ فَجَعَلَهُ بِالتَّبَعِ، فَوَجَدَ جُمْهُورَ الْأَدِلَّةِ وَمُعْظَمَ الْكِتَابِ وَاضِحًا فِي الطَّلَبِ الَّذِي بَحَثَ عَنْهُ، فَوَجَدَ الْجَادَّةَ، وَمَا شَذَّ لَهُ عَنْ ذَلِكَ; فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكِلَهُ إِلَى عَالِمِهِ، وَلَا يَتَكَلَّفُ الْبَحْثَ عَنْ تَأْوِيلِهِ. وَفَيْصَلُ الْقَضِيَّةِ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، إِلَى قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مُبْتَدِعًا وَلَا ضَالًّا، وَإِنْ حَصَلَ فِي الْخِلَافِ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ. أَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُبْتَدِعٍ; فَلِأَنَّهُ اتَّبَعَ الْأَدِلَّةَ; مُلْقِيًا إِلَيْهَا حِكْمَةَ الِانْقِيَادِ، بَاسِطًا يَدَ الِافْتِقَارِ، مُؤَخِّرًا هَوَاهُ، وَمُقَدِّمًا لِأَمْرِ اللَّهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ غَيْرَ ضَالِّ; فَلِأَنَّهُ عَلَى الْجَادَّةِ سَلَكَ، وَإِلَيْهَا لَجَأَ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا يَوْمًا فَأَخْطَأَ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ مَأْجُورًا حَسْبَمَا بَيَّنَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: " «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ; فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ; فَلَهُ

أَجْرَانِ» " وَإِنْ خَرَجَ مُتَعَمِّدًا; فَلَيْسَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ خُرُوجَهُ طَرِيقًا مَسْلُوكًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَشَرْعًا يُدَانُ بِهِ. عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الذَّنْبُ مَوْقِعَ الِاقْتِدَاءِ قَدْ يُسَمَّى اسْتِنَانًا فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةُ مَنْ سَنَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا». . . . الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»، فَسُمِّيَ الْقَتْلُ سُنَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عَمِلَ بِهِ عَمَلًا يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، لَكِنَّهُ لَا يُسَمَّى بِدْعَةً; لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَشْرِيعًا، وَلَا يُسَمَّى ضَلَالًا; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي طَرِيقِ الْمَشْرُوعِ أَوْ فِي مُضَاهَاتِهِ لَهُ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ وَاضِحٌ يَشْهَدُ لَهُ الْوَاقِعُ فِي تَسْمِيَةِ الْبِدَعِ ضَلَالَاتٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا أَحْوَالُ مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَفِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]. فَإِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا أُمِرُوا بِالْإِنْفَاقِ، شَحُّوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا لِذَلِكَ الشُّحِّ مَخْرَجًا، فَقَالُوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]؟) وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَمْ يُحْوِجْ أَحَدًا إِلَى أَحَدٍ، لَكِنَّهُ ابْتَلَى عِبَادَهُ لِيَنْظُرَ كَيْفَ

يَعْمَلُونَ؟ فَقَصَّ هَوَاهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ، وَاتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 47]. وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60]. فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَقَرُّوا بِالتَّحْكِيمِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ التَّحْكِيمُ عَلَى وَفْقِ أَغْرَاضِهِمْ; زَيْغًا عَنِ الْحَقِّ، وَظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْجَمِيعَ حَكَمٌ، وَأَنَّ مَا يَحْكُمُ بِهِ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ أَوْ غَيْرُهُ مِثْلَ مَا يَحْكُمُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَهِلُوا أَنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَأَنَّ حُكْمَ غَيْرِهِ مَعَهُ مَرْدُودٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60] ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ; لِقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء: 60] كَذَا إِلَى آخِرِهِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103].

فَهُمْ شَرَّعُوا شِرْعَةً، وَابْتَدَعُوا فِي مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْبِدْعَةَ، تَوَهُّمًا أَنَّ ذَلِكَ يُقَرِّبُهُمْ مِنَ اللَّهِ كَمَا يُقَرِّبُ مِنَ اللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْحَقِّ، فَزَلُّوا، وَافْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، إِذْ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا مِنْ ذَلِكَ، وَتَاهُوا فِي الْمَشْرُوعِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إِثْرِ الْآيَةِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 140]. فَهَذِهِ فَذْلَكَةٌ لِجُمْلَةٍ بَعْدَ تَفْصِيلٍ تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136]. الْآيَةَ. فَهَذَا تَشْرِيعٌ كَالْمَذْكُورِ قَبْلَ هَذَا. ثُمَّ قَالَ: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: 137]، وَهُوَ تَشْرِيعٌ أَيْضًا بِالرَّأْيِ مِثْلُ الْأَوَّلِ. ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 138] إِلَى آخِرِهَا. فَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَحَرَّمُوا مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ

مِنَ الرِّزْقِ بِالرَّأْيِ عَلَى جِهَةِ التَّشْرِيعِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ تَعْزِيرِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي حَرَّمُوهَا وَهِيَ مَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]، وَقَوْلِهِ: (لَا يَهْدِي) يَعْنِي أَنَّهُ يُضِلُّهُ. وَالْآيَاتُ الَّتِي قَرَّرَ فِيهَا حَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ أَتَى فِيهَا بِذِكْرِ الضَّلَالِ; لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ; لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا آلِهَتَهُمْ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فِي زَعْمِهِمْ، فَقَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فَوَضَعُوهُمْ مَوْضِعَ مَنْ يُتَوَسَّلُ بِهِ حَتَّى عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ أَوَّلُ وَضْعِهَا فِيمَا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ صُوَرًا لِقَوْمٍ يَوَدُّونَهُمْ وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِمْ، ثُمَّ عُبِدَتْ، فَأَخَذَتْهَا الْعَرَبُ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ، وَهُوَ الضَّلَالُ الْمُبِينُ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73]. فَزَعَمُوا فِي الْإِلَهِ الْحَقِّ مَا زَعَمُوا مِنَ الْبَاطِلِ، بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ عِنْدَهُمْ مُتَشَابِهٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ، فَتَاهُوا بِالشُّبْهَةِ عَنِ الْحَقِّ;

لِتَرْكِهِمُ الْوَاضِحَاتِ، وَمَيْلِهِمْ إِلَى الْمُتَشَابِهَاتِ; كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ: فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، وَهُمُ النَّصَارَى، ضَلُّوا فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ شَوَاهِدِ الْعُبُودِيَّةِ فِي عِيسَى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} [مريم: 34]. وَبَعْدَ ذِكْرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَتَقْدِيسِ الْوَاحِدِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَذِكْرِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَقَالَاتِهِمُ الشَّنِيعَةِ، قَالَ: {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [مريم: 38]. وَذَكَرَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ فِي أَحْوَالِ التَّكَالِيفِ عَلَى كَسَلٍ وَتَقِيَّةٍ; أَنَّ ذَلِكَ يُخَلِّصُهُمْ، أَوْ أَنَّهُ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا يُخَادِعُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الضَّلَالُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا يَظُنُّ أَنَّهُ لَهُ، فَإِذَا هُوَ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ عَلَى هُدًى مِنْ عَمَلِهِ، وَلَا هُوَ سَالِكٌ عَلَى سَبِيلِهِ. فَلِذَلِكَ قَالَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88].

وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23] ; مَعْنَاهُ: كَيْفَ أَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يُغْنِي شَيْئًا، وَأَتْرُكُ إِفْرَادَ الرَّبِّ الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ؟ هَذَا خُرُوجٌ عَنْ طَرِيقٍ إِلَى غَيْرِ طَرِيقٍ; {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 24]. وَالْأَمْثِلَةُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ، جَمِيعُهَا يَشْهَدُ بِأَنَّ الضَّلَالَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعٍ يَزِلُّ صَاحِبُهُ لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ لَهُ، أَوْ تَقْلِيدِ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ الشُّبْهَةُ، فَيَتَّخِذُ ذَلِكَ الزَّلَلَ شَرْعًا وَدِينًا يَدِينُ بِهِ، مَعَ وُجُودِ وَاضِحَةِ الطَّرِيقِ الْحَقِّ وَمَحْضِ الصَّوَابِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْكُفْرُ فِي الْوَاقِعِ مُقْتَصِرًا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، بَلْ ثَمَّ طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْعِرْفَانِ عِنَادًا أَوْ ظُلْمًا، ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّنْفَيْنِ فِي السُّورَةِ الْجَامِعَةِ، وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ: فَقَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7]، فَهَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الْعُظْمَى الَّتِي دَعَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ إِلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]. فَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْيَهُودُ; لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ اللَّهِ فِيهِمْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، يَعْنِي: الْيَهُودَ. وَالضَّالُّونَ: هُمُ النَّصَارَى; لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا فِي الْحُجَّةِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَلْحَقُ بِهِمْ فِي الضَّلَالِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي أَثْنَاءِ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] يَعُمُّهُمْ وَغَيْرَهُمْ، فَكُلُّ مَنْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ دَاخِلٌ فِيهِ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ " الضَّالِّينَ " يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ ضَلَّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ; كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلًا، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذَا مِثْلُهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] عَامٌّ فِي كُلِّ ضَالٍّ، كَانَ ضَلَالُهُ كَضَلَالِ الشِّرْكِ أَوِ النِّفَاقِ، أَوْ كَضَلَالِ الْفِرَقِ الْمَعْدُودَةِ فِي الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ وَأَعْلَى فِي قَصْدِ حَصْرِ أَهْلِ الضَّلَالِ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِكُلِّيَّةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أُوتِيهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ خَرَجْنَا عَنِ الْمَقْصُودِ بَعْضَ خُرُوجٍ، وَلَكِنَّهُ عَاضِدٌ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الباب الثالث ذم البدع والمحدثات والرد على شبه المبتدعة

[الْبَابُ الثَّالِثُ ذَمُّ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ وَالرَّدُّ عَلَى شُبَهِ الْمُبْتَدِعَةِ] [ذَمُّ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ عَامٌّ] فِي أَنَّ ذَمَّ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ عَامٌّ لَا يَخُصُّ مُحْدَثَةً دُونَ غَيْرِهَا وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ جُمْلَةٌ مِنْ شُبَهِ الْمُبْتَدِعَةِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا فَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ حُجَّةٌ فِي عُمُومِ الذَّمِّ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا جَاءَتْ مُطْلَقَةً عَامَّةً عَلَى كَثْرَتِهَا، لَمْ يَقَعْ فِيهَا اسْتِثْنَاءٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَمْ يَأْتِ فِيهَا مَا يَقْتَضِي أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ هُدًى، وَلَا جَاءَ فِيهَا: كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ إِلَّا كَذَا وَكَذَا، وَلَا شَيْءَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي. فَلَوْ كَانَ هُنَالِكَ مُحْدَثَةٌ يَقْتَضِي النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ فِيهَا الِاسْتِحْسَانَ أَوْ أَنَّهَا لَاحِقَةٌ بِالْمَشْرُوعَاتِ; لَذُكِرَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ، لَكِنَّهُ لَا يُوجَدُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ بِأَسْرِهَا عَلَى حَقِيقَةِ ظَاهِرِهَا مِنَ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ مُقْتَضَاهَا فَرْدٌ مِنَ الْأَفْرَادِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ الْعِلْمِيَّةِ أَنَّ كُلَّ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ كُلِّيٍّ، إِذَا تَكَرَّرَتْ فِي مَوَاضِيعَ كَثِيرَةٍ، وَأُتِيَ بِهَا شَوَاهِدُ عَلَى مَعَانٍ أُصُولِيَّةٍ أَوْ فُرُوعِيَّةٍ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا تَقْيِيدٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، مَعَ تَكَرُّرِهَا وَإِعَادَةِ تَقَرُّرِهَا، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بَقَائِهَا عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهَا مِنَ الْعُمُومِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى - وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. . . .} [النجم: 18 - 53]

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَبُسِطَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ هُنَالِكَ. فَمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، إِذْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَالْمُتَكَرِّرَةِ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى وَبِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ: أَنَّ «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، وَأَنَّ «كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ». . . . وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ مَذْمُومَةٌ، وَلَمْ يَأْتِ فِي آيَةٍ وَلَا حَدِيثٍ تَقْيِيدٌ وَلَا تَخْصِيصٌ وَلَا مَا يُفْهَمُ مِنْهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْكُلِّيَّةِ فِيهَا; فَدَلَّ ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهَا عَلَى عُمُومِهَا وَإِطْلَاقِهَا. وَالثَّالِثُ: إِجْمَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ عَلَى ذَمِّهَا كَذَلِكَ، وَتَقْبِيحِهَا وَالْهُرُوبِ عَنْهَا وَعَمَّنِ اتَّسَمَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ تَوَقُّفٌ وَلَا مَثْنَوِيَّةٌ، فَهُوَ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ إِجْمَاعٌ ثَابِتٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ لَيْسَتْ بِحَقٍّ، بَلْ هِيَ مِنَ الْبَاطِلِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ مُتَعَقِّلَ الْبِدْعَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مُضَادَّةِ الشَّارِعِ وَاطِّرَاحِ الشَّرْعِ، وَكُلُّ مَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، فَمُحَالٌ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يُمْدَحُ وَمِنْهُ مَا يُذَمُّ، إِذْ لَا يَصِحُّ فِي مَعْقُولٍ وَلَا مَنْقُولٍ اسْتِحْسَانُ مُشَاقَّةِ الشَّارِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ الثَّانِي. وَأَيْضًا; فَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ جَاءَ فِي النَّقْلِ اسْتِحْسَانُ بَعْضِ الْبِدَعِ أَوِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِهَا عَنِ الذَّمِّ، لَمْ يُتَصَوَّرْ; لِأَنَّ الْبِدْعَةَ طَرِيقَةٌ تُضَاهِي الْمَشْرُوعَةَ; مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ.

وَكَوْنُ الشَّارِعِ يَسْتَحْسِنُهَا دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا، إِذْ لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: الْمُحْدَثَةُ الْفُلَانِيَّةُ حَسَنَةٌ; لَصَارَتْ مَشْرُوعَةً; كَمَا أَشَارُوا إِلَيْهِ فِي الِاسْتِحْسَانِ حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَمَّا ثَبَتَ ذَمُّهَا، ثَبَتَ ذَمُّ صَاحِبِهَا; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَذْمُومَةٍ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا فَقَطْ، بَلْ مِنْ حَيْثُ اتَّصَفَ بِهَا الْمُتَّصِفُ، فَهُوَ إذًا الْمَذْمُومُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالذَّمُّ خَاصُّ التَّأْثِيمِ، فَالْمُبْتَدِعُ مَذْمُومٌ آثِمٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ; إِنْ جَاءَتْ فِيهِمْ نَصًّا; فَظَاهِرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي». . . . الْحَدِيثَ، إِلَى سَائِرِ مَا نُصَّ فِيهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ نَصًّا فِي الْبِدْعَةِ; فَرَاجِعَةُ الْمَعْنَى إِلَى الْمُبْتَدِعِ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، وَإِذَا رَجَعَ الْجَمِيعُ إِلَى ذَمِّهِمْ، رَجَعَ الْجَمِيعُ إِلَى تَأْثِيمِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْهَوَى هُوَ الْمُتَّبَعُ الْأَوَّلُ فِي الْبِدَعِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ السَّابِقُ فِي حَقِّهِمْ، وَدَلِيلُ الشَّرْعِ كَالتَّبَعِ فِي حَقِّهِمْ، وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ يَتَأَوَّلُونَ كُلَّ دَلِيلٍ خَالَفَ هَوَاهُمْ، وَيَتَّبِعُونَ كُلَّ شُبْهَةٍ وَافَقَتْ

أَغْرَاضَهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: («فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ»)، فَأَثْبَتَ لَهُمُ الزَّيْغَ أَوَّلًا، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الصَّوَابِ، ثُمَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمُحْكَمِ الْوَاضِحِ الْمَعْنَى، الَّذِي هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ وَمُعْظَمُهُ. وَمُتَشَابِهُهُ عَلَى هَذَا قَلِيلٌ، فَتَرَكُوا اتِّبَاعَ الْمُعْظَمِ إِلَى اتِّبَاعِ الْأَقَلِّ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُعْطِي مَفْهُومًا وَاضِحًا; ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَطَلَبًا لِمَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَلَيْسَ إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى الْمُحْكَمِ وَلَمْ يَفْعَلِ الْمُبْتَدِعَةُ ذَلِكَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ أَوَّلًا فِي مُطَالَبَةِ الشَّرْعِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} [الأنعام: 159] الْآيَةَ، فَنَسَبَ إِلَيْهِمُ التَّفْرِيقَ، وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ مِنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ; لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَيْهِمْ، وَلَا أَتَى بِهِ فِيمَعْرِضِ الذَّمِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، فَجَعَلَ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاضِحًا مُسْتَقِيمًا، وَنَهَى عَنِ الْبُنَيَّاتِ، وَالْوَاضِحُ مِنَ الطُّرُقِ وَالْبُنَيَّاتُ; كُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ، فَإِذَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهَا بِطَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ الْبُنَيَّاتِ فِي الشَّرْعِ، فَوَاضِحٌ أَيْضًا، فَمَنْ تَرَكَ الْوَاضِحَ وَاتَّبَعَ غَيْرَهُ، فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ لَا لِلشَّرْعِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]

فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَجِيءِ الْبَيَانِ الشَّافِي، وَأَنَّ التَّفَرُّقَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ لَا مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ، فَهُوَ إذًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى بِعَيْنِهِ. وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ، تُشِيرُ أَوْ تُصَرِّحُ بِأَنَّ كُلَّ مُبْتَدِعٍ إِنَّمَا يَتَّبِعُ هَوَاهُ، وَإِذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ كَانَ مَذْمُومًا وَآثِمًا، وَالْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ أَيْضًا كَثِيرَةٌ: كَقَوْلِهِ (: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. وَقَوْلِهِ:) {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [ص: 26]. وَقَوْلِهِ:) {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف: 28]. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِذًا كُلُّ مُبْتَدِعٍ مَذْمُومٌ آثِمٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَامَّةَ الْمُبْتَدِعَةِ قَائِلَةٌ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ [الْعَقْلِيِّ]، فَهُوَ عُمْدَتُهُمُ الْأُولَى، وَقَاعِدَتُهُمُ الَّتِي يَبْنُونَ عَلَيْهَا الشَّرْعَ، فَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي نِحَلِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَتَّهِمُونَ الْعَقْلَ، وَقَدْ يَتَّهِمُونَ الْأَدِلَّةَ إِذَا لَمْ تُوَافِقْهُمْ فِي الظَّاهِرِ، حَتَّى يَرُدُّوا كَثِيرًا مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا النَّاظِرُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ يَكُونُ حَقًّا، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَرْتَضُونَ الْيَوْمَ مَذْهَبًا، وَيَرْجِعُونَ عَنْهُ غَدًا، ثُمَّ يَصِيرُونَ بَعْدَ غَدٍ

إِلَى رَأْيٍ ثَالِثٍ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَقْضِي بِهِ حَقًّا; لَكَفَى فِي إِصْلَاحِ مَعَاشِ الْخَلْقِ وَمَعَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِبَعْثَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَائِدَةٌ، وَلَكَانَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُعَدُّ الرِّسَالَةُ عَبَثًا لَا مَعْنَى لَهُ، وَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُمْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ عَلَى الشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ سُمُّوا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَفِي إِشَارَةِ الْقُرْآنِ: أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ، وَاشْتِهَارِهِ فِيهِمْ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ بِالْمُشْتَقِّ إِنَّمَا يُطْلَقُ إِطْلَاقَ اللَّقَبِ إِذَا غَلَبَ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ عَلَى الْمُسَمَّى بِهَا. فَإِذًا تَأْثِيمُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ظَاهِرٌ; لِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى اتِّبَاعِ الرَّأْيِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى الْمَذْكُورِ آنِفًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ رَاسِخٍ لَا يَبْتَدِعُ أَبَدًا، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِابْتِدَاعُ مِمَّنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي ابْتَدَعَ فِيهِ، حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ، فَإِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِ جُهَّالِهِمُ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَاجْتِهَادُ مَنِ اجْتَهَدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْعُمُومِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَامِّيُّ حَرَامًا عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي الْأَدِلَّةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، كَانَ الْمُخَضْرَمُ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَالَاتِ مِثْلَهُ فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالنَّظَرِ الْمَعْمُولِ بِهِ، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَى مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ; كَانَ آثِمًا بِإِطْلَاقٍ. وَبِهَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَخِيرَةِ; ظَهَرَ وَجْهُ تَأْثِيمِهِ، وَتَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ فِي اجْتِهَادِهِ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَقْرِيرٌ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

فصل أقسام المنسوبين إلى البدعة

وَحَاصِلُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ كُلَّ مُبْتَدِعٍ آثِمٌ، وَلَوْ فُرِضَ عَامِلًا بِالْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ إِنْ ثَبَتَ فِيهَا كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ، لِأَنَّهُ إِمَّا مُسْتَنْبِطٌ لَهَا، فَاسْتِنْبَاطُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِمَّا نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهَا، مُنَاضِلٌ عَنْهُ فِيهَا بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْتَنْبِطِ الْأَوَّلِ لَهَا، فَهُوَ آثِمٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. لَكِنْ يَبْقَى هُنَا نَظَرٌ فِي الْمُبْتَدِعِ وَصَاحِبِ الْهَوَى; بِحَيْثُ يَتَنَزَّلُ دَلِيلُ الشَّرْعِ عَلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ فِي الْعُرْفِ الَّذِي وَقَعَ التَّخَاطُبُ بِهِ، إِذْ يَقَعُ الْغَلَطُ أَوِ التَّسَاهُلُ، فَيُسَمَّى مَنْ لَيْسَ بِمُبْتَدِعٍ مُبْتَدِعًا، وَبِالْعَكْسِ إِنْ تُصُوِّرَ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَضْلِ اعْتِنَاءٍ بِهَذَا الْمَطْلَبِ حَتَّى يَتَّضِحَ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَلْنُفْرِدُهُ فِي فَصْلٍ، فَنَقُولُ: [فَصْلٌ أَقْسَامُ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْبِدْعَةِ] لَا يَخْلُو الْمَنْسُوبُ إِلَى الْبِدْعَةِ أَنْ يَكُونَ: مُجْتَهِدًا فِيهَا، أَوْ مُقَلِّدًا. وَالْمُقَلِّدُ: إِمَّا مُقَلِّدٌ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي زَعَمَهُ الْمُجْتَهِدُ دَلِيلًا وَالْأَخْذُ فِيهِ بِالنَّظَرِ، وَإِمَّا مُقَلِّدٌ لَهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، كَالْعَامِّيِّ الصِّرْفِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصِحَّ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا، فَالِابْتِدَاعُ مِنْهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فَلْتَةً وَبِالْعَرَضِ لَا بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا تُسَمَّى غَلْطَةً أَوْ زَلَّةً; لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَقْصِدْ

اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ; أَيْ: لَمْ يَتَّبِعْ هَوَاهُ، وَلَا جَعَلَهُ عُمْدَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ; أَذْعَنَ لَهُ وَأَقَرَّ بِهِ. وَمِثَالُهُ مَا يُذْكَرُ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ: " وَأَوَّلُ مَا أُفَارِقُ غَيْرَ شَاكٍّ أُفَارِقُ مَا يَقُولُ الْمُرْجِئُونَ ". وَذَكَر مُسْلِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ صُهَيْبٍ الْفَقِيرِ; قَالَ: " كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ، فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ، ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ ". قَالَ: " فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ [وَهُوَ] جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: " وَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ ". قَالَ: " فَقُلْتُ لَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ! مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، وَ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ؟! قَالَ: فَقَالَ: " أَفَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ يَعْنِي: الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ ". قَالَ: " ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ وَمُرُرَ النَّاسِ عَلَيْهِ ". قَالَ: " وَأَخَافُ أَلَّا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَلِكَ ". قَالَ: " غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا ". قَالَ: " يَعْنِي: فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ، فَيَدْخُلُونَ نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ، فَرَجَعْنَا، وَقُلْنَا: وَيْحَكُمْ! أَتَرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فَرَجَعْنَا، فَلَا وَاللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ "، أَوْ كَمَا قَالَ. وَيَزِيدُ الْفَقِيرُ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: " صَدُوقٌ "، وَخَرَّجَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ. وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ كَانَ مِنْ ثِقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ ; إِلَّا أَنَّ النَّاسَ رَمَوْهُ بِالْبِدْعَةِ بِسَبَبِ قَوْلٍ حُكِيَ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ مُصِيبٌ، حَتَّى كَفَّرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ. وَحَكَى الْقُتَيْبِيُّ عَنْهُ: كَانَ يَقُولُ: " إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ، فَالْقَوْلُ بِالْقَدَرِ صَحِيحٌ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ، وَالْقَوْلُ بِالْإِجْبَارِ صَحِيحٌ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَهُوَ مُصِيبٌ; لِأَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ رُبَّمَا دَلَّتْ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ". وَسُئِلَ يَوْمًا عَنْ أَهْلِ الْقَدَرِ وَأَهْلِ الْإِجْبَارِ؟ قَالَ: " كُلٌّ مُصِيبٌ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ نَزَّهُوا اللَّهَ ".

قَالَ: " وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأَسْمَاءِ، فَكَلُّ مَنْ سَمَّى الزَّانِيَ مُؤْمِنًا، فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ سَمَّاهُ كَافِرًا; فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ هُوَ فَاسِقٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ هُوَ كَافِرٌ وَلَيْسَ بِمُشْرِكٍ; فَقَدْ أَصَابَ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي ". قَالَ: " وَكَذَلِكَ السُّنَنُ الْمُخْتَلِفَةُ، كَالْقَوْلِ بِالْقُرْعَةِ وَخِلَافِهِ، وَالْقَوْلِ بِالسِّعَايَةِ وَخِلَافِهِ، وَقَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَبِأَيِّ ذَلِكَ أَخَذَ الْفَقِيهُ فَهُوَ مُصِيبٌ ". قَالَ: " وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْقَاتِلَ فِي النَّارِ، كَانَ مُصِيبًا، وَلَوْ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ، كَانَ مُصِيبًا، وَلَوْ وَقَفَ وَأَرْجَأَ أَمْرَهُ; كَانَ مُصِيبًا، إِذَا كَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَبَّدَهُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِلْمُ الْغَيْبِ ". قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْن أَبِي شَيْخٍ، قَالَ: " كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْحَرِيقِ الْعَنْبَرِيِّ الْبَصْرِيِّ اتُّهِمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ كَلَامٌ رَدِيءٌ ". قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْخٍ عَنْهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ، وَقَالَ: " إِذًا أَرْجِعُ وَأَنَا مِنَ الْأَصَاغِرِ، وَلِأَنْ أَكُونَ ذَنَبًا فِي الْحَقِّ، أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ رَأْسًا فِي الْبَاطِلِ ". اهـ. فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ مَا قِيلَ فِيهِ; فَهُوَ عَلَى جِهَةِ الزَّلَّةِ مِنَ الْعَالِمِ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهَا رُجُوعَ الْأَفَاضِلِ إِلَى الْحَقِّ; لِأَنَّهُ بِحَسَبِ ظَاهِرِ حَالِهِ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ إِنَّمَا اتَّبَعَ ظَوَاهِرَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَتَّبِعْ عَقْلَهُ، وَلَا صَادَمَ الشَّرْعَ بِنَظَرِهِ، فَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَمِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَاللَّهُ

أَعْلَمُ وُفِّقَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ. وَكَذَلِكَ يَزِيدُ الْفَقِيرُ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ، لَا كَمَا عَارَضَ الْخَوَارِجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ طَالَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُخَاصِمُوهُ; فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]، فَرَجَّحُوا الْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَنَاصَبُوا بِالْخِلَافِ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ. [الثَّانِي:] وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَصِحَّ بِمِسْبَارِ الْعِلْمِ أَنَّهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ ; فَهُوَ الْحَرِيُّ بِاسْتِنْبَاطِ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ كَمَا تَقَدَّمَ، إِذْ قَدِ اجْتَمَعَ لَهُ مَعَ الْجَهْلِ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْهَوَى الْبَاعِثُ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ، إِذْ قَدْ تَحْصُلُ لَهُ مَرْتَبَةُ الْإِمَامَةِ وَالِاقْتِدَاءِ، وَلِلنَّفْسِ فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَعْسُرُ خُرُوجُ حُبِّ الرِّئَاسَةِ مِنَ الْقَلْبِ إِذَا انْفَرَدَ، حَتَّى قَالَ الصُّوفِيَّةُ: حُبُّ الرِّئَاسَةِ آخِرُ مَا يَخْرُجُ مِنْ قُلُوبِ الصِّدِّيقِينَ! فَكَيْفَ إِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ الْهَوَى مِنْ أَصْلٍ، وَانْضَافَ إِلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ دَلِيلٌ فِي ظَنِّهِ شَرْعِيٌّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ؟! فَيَتَمَكَّنُ الْهَوَى مِنْ قَلْبِهِ تَمَكُّنًا لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ، وَجَرَى مِنْهُ مَجْرَى الْكَلْبِ مِنْ صَاحِبِهِ; كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ، فَهَذَا النَّوْعُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ آثِمٌ فِي ابْتِدَاعِهِ إِثْمَ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنَّ الْإِمَامِيَّةَ مِنَ الشِّيعَةِ تَذْهَبُ إِلَى وَضْعِ خَلِيفَةٍ دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَزَعُمُ أَنَّهُ مِثْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِصْمَةِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُتَوَهَّمٍ، فَوَضَعُوهُ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَبَدًا مُفْتَقِرَةٌ إِلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ لِجَمِيعِ

الْمُكَلَّفِينَ، إِمَّا بِالْمُشَافَهَةِ، أَوْ بِالنَّقْلِ مِمَّنْ شَافَهَ الْمَعْصُومَ، وَإِنَّمَا وَضَعُوا ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا نَقْلِيٍّ، بَلْ بِشُبْهَةٍ زَعَمُوا أَنَّهَا عَقْلِيَّةٌ، وَشُبَهٍ مِنَ النَّقْلِ بَاطِلَةٍ، إِمَّا فِي أَصْلِهَا، وَإِمَّا فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِهَا. وَتَحْقِيقُ مَا يَدَّعُونَ وَمَا يُرُدُّ عَلَيْهِمْ بِهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ يَرْجِعُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى دَعَاوٍ، وَإِذَا طُولِبُوا بِالدَّلِيلِ عَلَيْهَا; سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، إِذْ لَا بُرْهَانَ لَهُمْ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ. وَأَقْوَى شُبَهِهِمْ مَسْأَلَةُ اخْتِلَافِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَاحِدٍ يَرْتَفِعُ بِهِ الْخِلَافُ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119]، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا أُعْطِيَ الْعِصْمَةَ كَمَا أُعْطِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ وَارِثٌ، وَإِلَّا فَكَلُّ مُحِقٍّ أَوْ مُبْطِلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ الْمَرْحُومُ، وَأَنَّهُ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الْحَقِّ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، فَإِنْ طُولِبُوا بِالدَّلِيلِ عَلَى الْعِصْمَةِ; لَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ. غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ مَذْهَبًا يُخْفُونَهُ وَلَا يُظْهِرُونَهُ إِلَّا لِخَوَاصِّهِمْ، لِأَنَّهُ كُفْرٌ مَحْضٌ وَدَعْوَى بِغَيْرِ بُرْهَانٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ " الْعَوَاصِمِ ": " خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي عَلَى الْفِطْرَةِ، فَلَمْ أَلْقَ فِي طَرِيقِي إِلَّا مُهْتَدِيًا، حَيْثُ بَلَغْتُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ يَعْنِي: الْإِمَامِيَّةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ مِنْ فِرَقِ الشِّيعَةِ فَهِيَ أَوَّلُ بِدْعَةٍ لَقِيتُ، وَلَوْ فَجَأَتْنِي بِدْعَةٌ مُشْبِهَةٌ، كَالْقَوْلِ بِالْمَخْلُوقِ، أَوْ نَفْيِ

الصِّفَاتِ، أَوِ الْإِرْجَاءِ; لَمْ آمَنْ، فَلَمَّا رَأَيْتُ حَمَاقَاتِهِمْ أَقَمْتُ عَلَى حَذَرٍ، وَتَرَدَّدْتُ فِيهَا عَلَى أَقْوَامٍ أَهْلِ عَقَائِدَ سَلِيمَةٍ، وَلَبِثْتُ بَيْنَهُمْ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ، فَوَرَدْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَلْفَيْتُ فِيهَا ثَمَانِيَ وَعِشْرِينَ حَلْقَةً وَمَدْرَسَتَيْنِ مَدْرَسَةِ الشَّافِعِيَّةِ بِبَابِ الْأَسْبَاطِ، وَأُخْرَى لِلْحَنَفِيَّةِ وَكَانَ فِيهَا مِنْ رُءُوسِ الْعُلَمَاءِ وَرُءُوسِ الْمُبْتَدِعَةِ وَمِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَثِيرٌ، فَوَعَيْتُ الْعِلْمَ وَنَاظَرْتُ كُلَّ طَائِفَةٍ بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا أَبِي بَكْرٍ الْفِهْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. ثُمَّ نَزَلْتُ إِلَى السَّاحِلِ لِأَغْرَاضٍ، وَكَانَ مَمْلُوءًا مِنْ هَذِهِ النِّحَلِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ، فَطُفْتُ فِي مُدُنِ السَّاحِلِ لِتِلْكَ الْأَغْرَاضِ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَنَزَلْتُ عَكَّا، وَكَانَ رَأْسَ الْإِمَامِيَّةِ بِهَا حِينَئِذٍ أَبُو الْفَتْحِ الْعَكِّيُّ، وَبِهَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ شَيْخٌ يُقَالُ لَهُ الْفَقِيهُ الدَّيِبقِيُّ. فَاجْتَمَعْتُ بِأَبِي الْفَتْحِ فِي مَجْلِسِهِ وَأَنَا ابْنُ الْعِشْرِينَ، فَلَمَّا رَآنِي صَغِيرَ السِّنِّ كَثِيرَ الْعِلْمِ مُتَدَرِّبًا، وَلِعَ بِي، وَفِيهِمْ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ انْطِبَاعٌ وَإِنْصَافٌ وَإِقْرَارٌ بِالْفَضْلِ إِذَا ظَهَرَ، فَكَانَ لَا يُفَارِقُنِي، وَيُسَاوِمُنِي الْجِدَالَ، وَلَا يُفَاتِرُنِي، فَتَكَلَّمْتُ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ وَالْقَوْلِ بِالتَّعْمِيمِ مِنَ الْمَعْصُومِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ أَسْرَارًا وَأَحْكَامًا، وَالْعَقْلُ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهَا، فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ إِمَامٍ مَعْصُومٍ! فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَاتَ الْإِمَامُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ لِأَوَّلِ مَا أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ أَمْ هُوَ مُخَلَّدٌ؟ فَقَالَ

لِي: مَاتَ وَلَيْسَ هَذَا بِمَذْهَبِهِ، وَلَكِنَّهُ تَسَتَّرَ مَعِي. فَقُلْتُ: هَلْ خَلَفَهُ أَحَدٌ؟ فَقَالَ: خَلَفَهُ وَصِيُّهُ عَلِيٌّ، قُلْتُ: فَهَلْ قَضَى بِالْحَقِّ وَأَنْفَذَهُ؟ قَالَ: لَمْ يَتَمَكَّنْ لِغَلَبَةِ الْمُعَانِدِ، قُلْتُ: فَهَلْ أَنْفَذَهُ حِينَ قَدَرَ؟ قَالَ: مَنَعَتْهُ التَّقِيَّةُ وَلَمْ تُفَارِقْهُ إِلَى الْمَوْتِ; إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَقْوَى تَارَةً وَتَضْعُفُ أُخْرَى، فَلَمْ يُمْكِنْ إِلَّا الْمُدَارَةُ; لِئَلَّا تَنْفَتِحَ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الِاخْتِلَالِ، قُلْتُ: وَهَذِهِ الْمُدَارَةُ حَقٌّ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: بَاطِلٌ أَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ، قُلْتُ: فَأَيْنَ الْعِصْمَةُ؟ [قَالَ:] إِنَّمَا تُغْنِي الْعِصْمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ. قُلْتُ: فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى الْآنَ وَجَدُوا الْقُدْرَةَ أَمْ لَا؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَالدِّينُ مُهْمَلٌ، وَالْحَقُّ مَجْهُولٌ مُخْمَلٌ؟ قَالَ: سَيَظْهَرُ. قُلْتُ: بِمَنْ؟ قَالَ: بِالْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ الدَّجَّالُ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا ضَحِكَ. وَقَطَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى غَرَضٍ مِنِّي; لِأَنِّي خِفْتُ أَنْ أُلْجِمَهُ فَيَنْتَقِمُ مِنِّي فِي بِلَادِهِ. ثُمَّ قُلْتُ: وَمِنْ أَعْجَبِ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَوْعَزَ إِلَى مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ; فَقَدْ ضَيَّعَ; فَلَا عِصْمَةَ لَهُ. وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى عَلَى مَذْهَبِهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إِلَّا بِمُعَلِّمٍ، وَأَرْسَلَهُ عَاجِزًا مُضْطَرِبًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ مَا عَلِمَ، فَكَأَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ وَمَا بَعَثَهُ. وَهَذَا عَجْزٌ مِنْهُ وَجَوْرٌ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ!. فَرَأَوْا مِنَ الْكَلَامِ مَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُومُوا مَعَهُ بِقَائِمَةٍ. وَشَاعَ الْحَدِيثُ، فَرَأَى رَئِيسُ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُسَمَّيْنَ بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعِي، فَجَاءَنِي أَبُو الْفَتْحِ إِلَى مَجْلِسِ الْفَقِيهِ الدَّيِبقِيُّ، وَقَالَ: إِنَّ

رَئِيسَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ رَغِبَ فِي الْكَلَامِ مَعَكَ، فَقُلْتُ: أَنَا مَشْغُولٌ. فَقَالَ: هُنَا مَوْضِعٌ مُرَتَّبٌ قَدْ جَاءَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَحْرَسُ الطَّبَرَانِيِّينَ، مَسْجِدٌ فِي قَصْرٍ عَلَى الْبَحْرِ، وَتَحَامَلَ عَلَيَّ، فَقُمْتُ مَا بَيْنَ حِشْمَةٍ وَحِسْبَةٍ، وَدَخَلْتُ قَصْرَ الْمَحْرَسِ، وَطَلَعْنَا إِلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي زَاوِيَةِ الْمَحْرَسِ الشَّرْقِيَّةِ، فَرَأَيْتُ النُّكْرَ فِي وُجُوهِهِمْ، فَسَلَّمْتُ ثُمَّ قَصَدْتُ جِهَةَ الْمِحْرَابِ، فَرَكَعْتُ عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ لَا عَمَلَ لِي فِيهِمَا إِلَّا تَدْبِيرُ الْقَوْلِ مَعَهُمْ وَالْخَلَاصُ مِنْهُمْ. فَلَعَمْرُ الَّذِي قَضَى عَلَيَّ بِالْإِقْبَالِ إِلَى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، إِنْ كُنْتُ رَجَوْتُ الْخُرُوجَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَبَدًا، وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ فِي الْبَحْرِ يَضْرِبُ فِي حِجَارَةٍ سُودٍ مُحَدَّدَةٍ تَحْتَ طَاقَاتِ الْمَحْرَسِ، فَأَقُولُ: هَذَا قَبْرِي الَّذِي يَدْفِنُونِي فِيهِ، وَأُنْشِدُ فِي سِرِّي: أَلَا هَلْ إِلَى الدُّنْيَا مَعَادٌ وَهَلْ لَنَا ... سِوَى الْبَحْرِ قَبْرٌ أَوْ سِوَى الْمَاءِ أَكْفَانُ وَهِيَ كَانَتِ الشِّدَّةَ الرَّابِعَةَ مِنْ شَدَائِدِ عُمْرِي الَّذِي أَنْقَذَنِي اللَّهُ مِنْهَا. فَلَمَّا سَلَّمْتُ، اسْتَقْبَلْتُهُمْ، وَسَأَلْتُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ عَادَةً، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَقُلْتُ: أَشْرَفُ مِيتَةٍ فِي أَشْرَفِ مَوْطِنٍ أُنَاضِلُ فِيهِ عَنِ الدِّينِ. فَقَالَ لِي أَبُو الْفَتْحِ وَأَشَارَ إِلَى فَتًى حَسَنِ الْوَجْهِ: هَذَا سَيِّدُ الطَّائِفَةِ وَمُقَدَّمُهَا، فَدَعَوْتُ لَهُ، فَسَكَتَ، فَبَادَرَنِي وَقَالَ: قَدْ بَلَغَتْنِي مَجَالِسُكَ وَأُنْهِيَ إِلَيَّ كَلَامُكَ، وَأَنْتَ تَقُولُ: قَالَ اللَّهُ وَفَعَلَ! فَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ؟! أَخْبِرْنِي وَاخْرُجْ عَنْ هَذِهِ الْمَخْرَقَةِ الَّتِي جَازَتْ لَكَ عَلَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ الضَّعِيفَةِ، وَقَدِ احْتَدَّ نَفْسًا، وَامْتَلَأَ غَيْظًا، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهُ

لَا يُتِمُّ الْكَلَامَ إِلَّا وَقَدِ اخْتَطَفَنِي أَصْحَابُهُ قَبْلَ الْجَوَابِ. فَعَمَدْتُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِلَى كِنَانَتِي، وَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا سَهْمًا أَصَابَ حَبَّةَ قَلْبِهِ، فَسَقَطَ لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ. وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّ الْحَافِظَ الْجُرْجَانِيَّ قَالَ: كُنْتُ أُبَغِّضُ النَّاسَ فِيمَنْ يَقْرَأُ عِلْمَ الْكَلَامِ، فَدَخَلْتُ يَوْمًا إِلَى الرَّيِّ، وَدَخَلْتُ جَامِعَهَا أَوَّلَ دُخُولِي، وَاسْتَقْبَلْتُ سَارِيَةً أَرْكَعُ عِنْدَهَا، وَإِذَا بِجِوَارِي رَجُلَانِ يَتَذَاكَرَانِ عِلْمَ الْكَلَامِ، فَتَطَيَّرْتُ بِهِمَا، وَقُلْتُ: أَوَّلَ مَا دَخَلْتُ هَذَا الْبَلَدَ سَمِعْتُ فِيهِ مَا أَكْرَهُ، وَجَعَلْتُ أُخَفِّفُ الصَّلَاةَ حَتَّى أَبْعُدَ عَنْهُمَا، فَعَلِقَ بِي مِنْ قَوْلِهِمَا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةَ أَسْخَفُ خَلْقِ اللَّهِ عُقُولًا، وَيَنْبَغِي لِلنِّحْرِيرِ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ لَهُمْ دَلِيلًا، وَلَكِنْ يُطَالِبُهُمْ بِـ " لِمَ "، فَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا، وَسَلَّمْتُ مُسْرِعًا. وَشَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ كَشَفَ رَجُلٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْقِنَاعَ فِي الْإِلْحَادِ، وَجَعَلَ يُكَاتِبُ وَشْمَكِيرَ الْأَمِيرَ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي لَا أَقْبَلُ دِينَ مُحَمَّدٍ إِلَّا بِالْمُعْجِزَةِ، فَإِنْ أَظْهَرْتُمُوهَا; رَجَعْنَا إِلَيْكُمْ. وَانْجَرَّتِ الْحَالُ إِلَى أَنِ اخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلًا لَهُ دَهَاءٌ وَمِنَّةٌ، فَوَرَدَ عَلَى وَشْمَكِيرَ رَسُولًا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ أَمِيرٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ أَنْ تَتَخَصَّصَ عَنِ الْعَوَامِّ وَلَا تُقَلِّدَ فِي عَقِيدَتِهَا، وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ أَنْ يُفْصِحُوا عَنِ الْبَرَاهِينِ.

فَقَالَ وَشْمَكِيرُ: اخْتَرْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِي، وَلَا أُنْتَدَبُ لِلْمُنَاظَرَةِ بِنَفْسِي، فَيُنَاظِرُكَ بَيْنَ يَدَيَّ. فَقَالَ لَهُ الْمُلْحِدُ: أَخْتاَرُ أَبَا بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيَّ. لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا كَانَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ كَانَ وَشْمَكِيرُ بِعَامِّيَّةٍ فِيهِ (يَعْتَقِدُ) أَنَّهُ أَعْلَمُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ فَقَالَ وَشْمَكِيرُ: ذَلِكَ مُرَادِي، فَإِنَّهُ رَجُلٌ جَيِّدٌ. فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِجُرْجَانَ لِيَرْحَلَ إِلَيْهِ إِلَى غَزْنَةَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَحَدٌ إِلَّا يَئِسَ مِنَ الدِّينِ، وَقَالَ: سَيَبْهَتُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْكَافِرُ مَذْهَبًا الْإِسْمَاعِيلِيَّ الْحَافِظَ مَذْهَبًا، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلْمَلِكِ: إِنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ; لِئَلَّا يَتَّهِمَهُمْ، فَلَجَئُوا إِلَى اللَّهِ فِي نَصْرِ دِينِهِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَافِظُ: فَلَمَّا جَاءَنِي الْبَرِيدُ، وَأَخَذْتُ فِي الْمَسِيرِ، وَتَدَانَتْ لِيَ الدَّارُ; قُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ، وَكَيْفَ أُنَاظِرُ فِيمَا لَا أَدْرِي؟! هَلْ أَتَبَرَّأُ عِنْدَ الْمَلِكِ وَأُرْشِدُهُ إِلَى مَنْ يُحْسِنُ الْجَدَلَ وَيَعْلَمُ بِحُجَجِ اللَّهِ عَلَى دِينِهِ؟! نَدِمْتُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ عُمْرِي إِذْ لَمْ أَنْظُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ. ثُمَّ أَذْكَرَنِي اللَّهُ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ بِجَامِعِ الرَّيِّ، فَقَوِيَتْ نَفْسِي، وَعَوَّلْتُ عَلَى أَنْ أَجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَتِي، وَبَلَغْتُ الْبَلَدَ، فَتَلَقَّانِي الْمَلِكُ، ثُمَّ جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَحَضَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْمَذْهَبِ مَعَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ النَّسَبِ، وَقَالَ الْمَلِكُ لِلْبَاطِنِيِّ: أُذْكُرْ قَوْلَكَ يَسْمَعُهُ الْإِمَامُ، فَلَمَّا أَخَذَ فِي ذِكْرِهِ وَاسْتَوْفَاهُ; قَالَ لَهُ الْحَافِظُ: لِمَ؟ سَمِعَهَا الْمُلْحِدُ; قَالَ: هَذَا إِمَامٌ قَدْ عَرَفَ مَقَالَتِي; فَبُهِتَ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَمَرْتُ بِقِرَاءَةِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ عُمْدَةٌ مِنْ عُمَدِ الْإِسْلَامِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: " وَحِينَ انْتَهَى بِهِ الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ; قُلْتُ: إِنْ كَانَ فِي الْأَجَلِ نَفَسٌ، فَهَذَا شَبِيهٌ بِيَوْمِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ. فَوَجَّهْتُ إِلَى أَبِي الْفَتْحِ الْإِمَامِ، وَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ كُنْتُ فِي لَا شَيْءَ، وَلَوْ خَرَجْتُ مِنْ عَكَّا قَبْلَ أَنْ أَجْتَمِعَ بِهَذَا الْعَالِمِ; مَا رَحَلْتُ إِلَّا عَرِيًّا عَنْ نَادِرَةِ الْأَيَّامِ; وَانْظُرْ إِلَى حِذْقِهِ بِالْكَلَامِ وَمَعْرِفَتِهِ، حَيْثُ قَالَ لِي: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ؟ وَلَا يَسْأَلُ بِمِثْلِ هَذَا إِلَّا مِثْلُهُ، وَلَكِنْ بَقِيَتْ هَاهُنَا نُكْتَةٌ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ نَأْخُذَهَا الْيَوْمَ عَنْهُ، وَتَكُونُ ضِيَافَتُنَا عِنْدَهُ: لِمَ قُلْتَ: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ، فَاقْتَصَرْتَ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى أَيِّ، وَتَرَكْتَ الْهَمْزَةَ وَهَلْ وَكَيْفَ وَأَنَّى وَكَمْ وَمَا، هِيَ أَيْضًا مِنْ ثَوَانِي حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَعَدَلْتَ عَنِ اللَّامِ مِنْ حُرُوفِهِ؟! وَهَذَا سُؤَالٌ ثَانٍ عَنْ حِكْمَةٍ ثَانِيَةٍ، وَهُوَ أَنَّ لِـ " أَيِّ " مَعْنَيَيْنِ فِي الِاسْتِفْهَامِ، فَأَيَّ الْمَعْنَيَيْنِ قَصَدْتَ بِهَا؟ وَلِمَ سَأَلْتَ بِحَرْفٍ مُحْتَمِلٍ؟ وَلَمْ تَسْأَلْ بِحَرْفٍ مُصَرِّحٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ؟ هَلْ وَقَعَ ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدِ حِكْمَةٍ؟ أَمْ بِقَصْدِ حِكْمَةٍ؟ فَبَيِّنْهَا لَنَا. فَمَا هُوَ إِلَّا أَنِ افْتَتَحْتُ هَذَا الْكَلَامَ، وَانْبَسَطْتُ فِيهِ، وَهُوَ يَتَغَيَّرُ; حَتَّى اصْفَرَّ آخِرًا مِنَ الْوَجَلِ، كَمَا اسْوَدَّ أَوَّلًا مِنَ الْحِقْدِ. وَرَجَعَ أَحَدُ أَصْحَابِهِ الَّذِي كَانَ عَنْ يَمِينِهِ إِلَى آخَرَ كَانَ بِجَانِبِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الصَّبِيُّ إِلَّا بَحْرٌ زَاخِرٌ مِنَ الْعِلْمِ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ قَطُّ، وَهُمْ مَا رَأَوْا وَاحِدًا بِهِ رَمَقٌ (إِلَّا أَهْلَكُوهُ)، لِأَنَّ الدَّوْلَةَ لَهُمْ، وَلَوْلَا مَكَانُنَا مِنْ رِفْعَةِ دَوْلَةِ مَلِكِ الشَّامِ وَأَنَّ وَالِيَ عَكَّا كَانَ يَحْضُرُنَا; مَا تَخَلَّصْتُ مِنْهُمْ فِي الْعَادَةِ أَبَدًا.

وَحِينَ سَمِعْتُ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مِنْ إِعْظَامِي، قُلْتُ: هَذَا مَجْلِسٌ عَظِيمٌ، وَكَلَامٌ طَوِيلٌ، يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْصِيلٍ، وَلَكِنْ نَتَوَاعَدُ إِلَى يَوْمٍ آخَرَ، وَقُمْتُ وَخَرَجْتُ، فَقَامُوا كُلُّهُمْ مَعِي، وَقَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ تَبْقَى قَلِيلًا. فَقُلْتُ: لَا. وَأَسْرَعْتُ حَافِيًا، وَخَرَجْتُ عَلَى الْبَابِ أَعْدُو، حَتَّى أَشْرَفْتُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَبَقِيتُ هُنَاكَ مُبَشِّرًا نَفْسِي بِالْحَيَاةِ، حَتَّى خَرَجُوا بَعْدِي، وَأَخْرَجُوا لِي (لَايَكِي)، وَلَبِسْتُهَا، وَمَشَيْتُ مَعَهُمْ مُتَضَاحِكًا، وَوَعَدُونِي بِمَجْلِسٍ آخَرَ، فَلَمْ أُوَفِّ لَهُمْ، وَخِفْتُ وَفَاتِي فِي وَفَائِي ". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: " وَقَدْ قَالَ لِي أَصْحَابُنَا النَّصْرِيَّةُ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: إِنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْفَتْحِ نَصْرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيَّ اجْتَمَعَ بِرَئِيسٍ مِنَ الشِّيعَةِ، فَشَكَا إِلَيْهِ فَسَادَ الْخَلْقِ، وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِخُرُوجِ الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ، فَقَالَ نَصْرٌ: هَلْ لِخُرُوجِهِ مِيقَاتٌ أَمْ لَا؟ قَالَ الشِّيعِيُّ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ أَبُو الْفَتْحِ: وَمَعْلُومٌ هُوَ أَوْ مَجْهُولٌ؟ قَالَ: مَعْلُومٌ. قَالَ نَصْرٌ: وَمَتَى يَكُونُ؟ قَالَ: إِذَا فَسَدَ الْخَلْقُ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فَهَلْ تَحْبِسُونَهُ عَنِ الْخَلْقِ وَقَدْ فَسَدَ جَمِيعُهُمْ إِلَّا أَنْتُمْ، فَلَوْ فَسَدْتُمْ لَخَرَجَ; فَأَسْرِعُوا بِهِ وَأَطْلِقُوهُ مِنْ سِجْنِهِ وَعَجِّلُوا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَذْهَبِنَا; فَبُهِتَ. وَأَظُنُّهُ سَمِعَهَا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْفَتْحِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ الرَّازِيِّ الزَّاهِدِ. انْتَهَى مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ غُنْيَةٌ لِمَنْ عَرَّجَ عَنْ تَعَرُّفِ أُصُولِهِمْ، وَفِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: يَتَنَوَّعُ أَيْضًا:

وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَسْتَنْبِطْ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا اتَّبَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُسْتَنْبِطِينَ، لَكِنْ بِحَيْثُ أَقَرَّ بِالشُّبْهَةِ وَاسْتَصْوَبَهَا، وَقَامَ بِالدَّعْوَةِ بِهَا مَقَامَ مَتْبُوعِهِ; لِانْقِدَاحِهَا فِي قَلْبِهِ، فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ إِلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَلَكِنَّهُ تَمَكَّنَ حُبُّ الْمَذْهَبِ مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى عَادَى عَلَيْهِ وَوَالَى. وَصَاحِبُ هَذَا الْقِسْمِ لَا يَخْلُو مِنِ اسْتِدْلَالٍ، وَلَوْ عَلَى أَعَمِّ مَا يَكُونُ، فَقَدْ يَلْحَقُ بِمَنْ نَظَرَ فِي الشُّبْهَةِ وَإِنْ كَانَ عَامِيًّا، لِأَنَّهُ عَرَضَ لِلِاسْتِدْلَالِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ النَّظَرَ وَلَا مَا يَنْظُرُ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ; فَلَا يَبْلُغُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِالدَّلِيلِ الْجُمْلِيِّ مَبْلَغَ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى التَّفْصِيلِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي التَّمْثِيلِ. إِنَّ الْأَوَّلَ: أَخَذَ شُبُهَاتٍ مُبْتَدَعَةً، فَوَقَفَ وَرَاءَهَا، حَتَّى إِذَا طُولِبَ فِيهَا بِالْجَرَيَانِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ، تَبَلَّدَ وَانْقَطَعَ، أَوْ خَرَجَ إِلَى مَا لَا يُعْقَلُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَحَسَّنَ الظَّنَّ بِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ، فَتَبِعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى التَّفْصِيلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ، إِلَّا تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْمُبْتَدِعِ خَاصَّةً، وَهَذَا الْقِسْمُ فِي الْعَوَامِّ كَثِيرٌ. فَمِثَالُ الْأَوَّلِ حَالُ حَمْدَانَ بْنِ قَرْمَطٍ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ الْقَرَامِطَةُ، إِذْ كَانَ أَحَدَ دُعَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ جَمَاعَةٌ نُسِبُوا إِلَيْهِ. وَكَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَائِلًا إِلَى الزُّهْدِ، فَصَادَفَهُ أَحَدُ دُعَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى قَرْيَتِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَقَرٌ يَسُوقُهُ، فَقَالَ لَهُ حَمْدَانُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ: أَرَاكَ سَافَرْتَ عَنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ فَأَيْنَ مَقْصِدُكَ؟ فَذَكَرَ مَوْضِعًا هُوَ قَرْيَةُ حَمْدَانَ، فَقَالَ لَهُ حَمْدَانُ: ارْكَبْ بَقَرَةً مِنْ هَذَا الْبَقَرِ لِتَسْتَرِيحَ

بِهِ عَنْ تَعَبِ الْمَشْيِ، فَلَمَّا رَآهُ مَائِلًا إِلَى الدِّيَانَةِ، أَتَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ، وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: وَكَأَنَّكَ لَا تَعْمَلُ إِلَّا بِأَمْرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ حَمْدَانُ: وَبِأَمْرِ مَنْ تَعْمَلُ؟ قَالَ: بِأَمْرِ مَالِكِي وَمَالِكِكَ وَمَنْ لَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، قَالَ: ذَلِكَ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: صَدَقْتَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهَبُ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ. قَالَ: وَمَا غَرَضُكَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أَنْتَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهَا؟ فَقَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أَدْعُوَ أَهْلَهَا مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ، وَمِنَ الضَّلَالِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الشَّقَاوَةِ إِلَى السَّعَادَةِ، وَأَنْ أَسْتَنْقِذَهُمْ مِنْ وَرَطَاتِ الذُّلِّ وَالْفَقْرِ، وَأُمَلِّكَهُمْ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنِ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ، فَقَالَ لَهُ حَمْدَانُ: أَنْقِذْنِي أَنْقَذَكَ اللَّهُ، وَأَفِضْ عَلَيَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا تُحْيِينِي، فَمَا أَشَدَّ احْتِيَاجِي لِمِثْلِ مَا ذَكَرْتَهُ! فَقَالَ لَهُ: وَمَا أُمِرْتُ أَنْ أُخْرِجَ السِّرَّ الْمَكْنُونَ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ الثِّقَةِ بِهِ وَالْعَهْدِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: فَمَا عَهْدُكَ؟ فَاذْكُرْهُ فَإِنِّي مُلْتَزِمٌ لَهُ. فَقَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِي وَلِلْإِمَامِ عَهْدَ اللَّهِ عَلَى نَفْسِكَ وَمِيثَاقَهُ أَلَّا تُخْرِجَ سِرَّ الْإِمَامِ الَّذِي أُلْقِيهِ إِلَيْكَ وَلَا تُفْشِي سِرِّي أَيْضًا. فَالْتَزَمَ حَمْدَانُ عَهْدَهُ، ثُمَّ انْدَفَعَ الدَّاعِي فِي تَعْلِيمِهِ فُنُونَ جَهْلِهِ، حَتَّى اسْتَدْرَجَهُ وَاسْتَغْوَاهُ، وَاسْتَجَابَ لَهُ فِي جَمِيعِ مَا ادَّعَاهُ، ثُمَّ انْتُدِبَ لِلدَّعْوَةِ، وَصَارَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، فَسُمِّيَ أَتْبَاعُهُ الْقَرَامِطَةَ. وَمِثَالُ الثَّانِي مَا حَكَاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104]، الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:) {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ - أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ - قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72 - 74].

وَحَكَى الْمَسْعُودِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي أَعْلَى صَعِيدِ مِصْرَ رَجُلٌ مِنَ الْقِبْطِ مِمَّنْ يُظْهِرُ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَكَانَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ، فَاسْتَحْضَرَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ أَمَرَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَقَدْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ لِيَسْأَلَهُ عَنِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: دَلِيلِي عَلَى صِحَّتِهَا وُجُودُ إِيَّاهَا مُتَنَاقِضَةً مُتَنَافِيَةً، تَدْفَعُهَا الْعُقُولُ، وَتَنْفِرُ مِنْهَا النُّفُوسُ، لِتَبَايُنِهَا وَتَضَادِّهَا، لَا نَظَرَ يُقَوِّيهَا، وَلَا جَدَلَ يُصَحِّحُهَا، وَلَا بُرْهَانَ يُعَضِّدُهَا مِنَ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ عِنْدَ أَهْلِ التَّأَمُّلِ لَهَا وَالْفَحْصِ عَنْهَا، وَرَأَيْتُ مَعَ ذَلِكَ أُمَمًا كَثِيرَةً وَمُلُوكًا عَظِيمَةً ذَوِي مَعْرِفَةٍ وَحُسْنِ سِيَاسَةٍ وَعُقُولٍ رَاجِحَةٍ قَدِ انْقَادُوا إِلَيْهَا وَتَدَيَّنُوا بِهَا، مَعَ مَا ذَكَرْتُ مِنْ تَنَاقُضِهَا فِي الْعَقْلِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوهَا وَلَا تَدَيَّنُوا بِهَا، إِلَّا بِدَلَائِلَ شَاهَدُوهَا وَآيَاتٍ وَمُعْجِزَاتٍ عَرَفُوهَا، أَوْجَبَ انْقِيَادَهُمْ إِلَيْهَا وَالتَّدَيُّنَ بِهَا. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: وَمَا التَّضَادُّ الَّذِي فِيهَا؟ فَقَالَ: وَهَلْ يُدْرَكُ ذَلِكَ أَوْ تُعْلَمُ غَايَتُهُ؟ مِنْهَا قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ. وَوَصْفُهُمْ لِلْأَقَانِيمِ وَالْجَوْهَرِ، وَهُوَ الثَّالُوثِيُّ، وَهَلِ الْأَقَانِيمُ فِي أَنْفُسِهَا قَادِرَةٌ عَالِمَةٌ أَمْ لَا؟ وَفِي اتِّحَادِ رَبِّهِمُ الْقَدِيمِ بِالْإِنْسَانِ الْمُحْدَثِ، وَمَا جَرَى فِي وِلَادَتِهِ وَصَلْبِهِ وَقَتْلِهِ، وَهَلْ فِي التَّشْنِيعِ أَكْبَرُ وَأَفْحَشُ مِنْ إِلَهٍ صُلِبَ، وَبُصِقَ فِي وَجْهِهِ، وَوُضِعَ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلُ الشَّوْكِ، وَضُرِبَ رَأْسُهُ

بِالْقَضِيبِ؟ وَسُمِّرَتْ قَدَمَاهُ، وَنُخِزَ بِالْأَسِنَّةِ وَالْخَشَبِ جَنْبَاهُ؟ وَطَلَبَ (الْمَاءَ) فَسُقِيَ الْخَلَّ مِنْ بِطِّيخِ الْحَنْظَلِ؟ فَأَمْسَكُوا عَنْ مُنَاظَرَتِهِ، لِمَا قَدْ أَعْطَاهُمْ مِنْ تَنَاقُضِ مَذْهَبِهِ وَفَسَادِهِ. اهـ. وَالشَّاهِدُ مِنَ الْحِكَايَةِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الشُّيُوخِ وَالْآبَاءِ مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: يَتَنَوَّعُ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي قَلَّدَ غَيْرَهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَلَا يَخْلُو: أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْهُ، بِنَاءً عَلَى التَّسَامُعِ الْجَارِي بَيْنَ الْخَلْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمِّ الْغَفِيرِ إِلَيْهِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ مِنْ عَالِمٍ وَغَيْرِهِ، وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ بِخِلَافِ الْغَيْرِ. أَوْ لَا يَكُونُ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، لَكِنْ لَيْسَ فِي إِقْبَالِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ مَا يَبْلُغُ تِلْكَ الرُّتْبَةَ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مُنْتَصِبُونَ، فَتَرَكَهُمْ هَذَا الْمُقَلِّدُ وَقَلَّدَ غَيْرَهُمْ; فَهُوَ آثِمٌ إِذْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى مَنْ أُمِرَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، بَلْ تَرَكَهُ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِأَخْسَرِ الصَّفْقَتَيْنِ، فَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ، إِذْ قَلَّدَ فِي دِينِهِ مَنْ لَيْسَ بِعَارِفٍ بِالدِّينِ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، فَعَمِلَ بِالْبِدْعَةِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَهَذَا حَالُ مَنْ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ تَرَكُوا دِينَهُمُ الْحَقَّ وَرَجَعُوا إِلَى بَاطِلِ آبَائِهِمْ، وَلَمْ يَنْظُرُوا نَظَرَ الْمُسْتَبْصِرِ حَتَّى لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَغَطَّى الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ دُونَ أَنْ يُبْصِرُوا الطَّرِيقَ، فَكَذَلِكَ

أَهْلُ هَذَا النَّوْعِ. وَقَلَّمَا تَجِدُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ; إِلَّا وَهُوَ يُوَالِي فِيمَا ارْتَكَبَ وَيُعَادِي بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ. خَرَّجَ الْبَغْوِيُّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ الْكِنَانِيِّ أَنَّ رَجُلًا وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَأَخَذَ بِجَبْهَتِهِ، فَنَبَتَتْ شَعْرَةٌ بِجَبْهَتِهِ كَأَنَّهَا هُلْبَةُ فَرَسٍ. قَالَ: فَشَبَّ الْغُلَامُ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الْخَوَارِجِ; أَجَابَهُمْ، فَسَقَطَتِ الشَّعْرَةُ عَنْ جَبْهَتِهِ، فَأَخَذَهُ أَبُوهُ، فَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ، قَالَ: فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَوَعَظْنَا [هُ] وَقُلْنَا لَهُ: أَلَمْ تَرَ بَرَكَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَتْ؟ قَالَ: فَلَمْ نَزَلْ بِهِ حَتَّى رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِمْ، قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الشَّعْرَةَ فِي جَبْهَتِهِ إِذْ تَابَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُنْتَصِبُونَ إِلَى هَذَا الْمُقَلِّدِ الْخَامِلِ بَيْنَ النَّاسِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ مَنْصِبَ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَفِي تَأْثِيمِهِ نَظَرٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ آثِمٌ. وَنَظِيرُهُ مَسْأَلَةُ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ الْعَامِلِينَ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ، وَاسْتِقَامَةً لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِمْ، مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ; لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ فِي حُكْمِهِمْ: إِنَّهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ غَابَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ، وَلَمْ يَدْرِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَقَفَ عَنِ الْعَمَلِ بِكُلِّ مَا يَتَوَهَّمُهُ الْعَقْلُ أَنَّهُ يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ، وَرَأَى مَا أَهْلُ عَصْرِهِ عَامِلُونَ بِهِ مِمَّا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ مُسْتَنَدٌ إِلَّا اسْتِحْسَانُهُمْ، فَلَمْ يَسْتَفِزَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْوُقُوفِ عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الدَّاخِلُونَ حَقِيقَةً تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:

) {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وَقِسْمٌ لَابَسَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِالرَّأْيِ وَوَافَقُوهُمْ فِي اعْتِقَادِ مَا اعْتَقَدُوا مِنَ الْبَاطِلِ، فَهَؤُلَاءِ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْذُورِينَ، مُشَارِكُونَ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ فِي الْمُؤَاخَذَةِ، لِأَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ فِي الْعَمَلِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ عَلَى تِلْكَ الشِّرْعَةِ، فَصَارُ [وا] مِنْ أَهْلِهَا. فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُطْلِقُ الْعِبَارَةَ وَيَقُولُ: كَيْفَمَا كَانَ؛ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ الرُّسُلِ وَعَدَمِ الْقَبُولِ مِنْهُمْ. وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ قَوْلًا هَكَذَا، فَنَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَأْتِيَ عَالِمٌ أَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْتَصِبِ يُبَيِّنُ السُّنَّةَ مِنَ الْبِدْعَةِ، فَإِنْ رَاجَعَهُ هَذَا الْمُقَلِّدُ فِي أَحْكَامِ دِينِهِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْأَوَّلِ، فَقَدْ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْعُقَلَاءِ وَرَجَاءَ السَّلَامَةِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ ظَهَرَ عِنَادُهُ، لِأَنَّهُ مَعَ هَذَا الْفَرْضِ لَمْ يَرْضَ بِهَذَا الطَّارِئِ، وَإِذَا لَمْ يَرْضَهُ; كَانَ ذَلِكَ لِهَوًى دَاخَلَهُ، وَتَعَصُّبٍ جَرَى فِي قَلْبِهِ مَجْرَى الْكَلْبِ فِي صَاحِبِهِ، وَهُوَ إِذَا بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ; لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَنْتَصِرَ لِمَذْهَبِ صَاحِبِهِ، وَيُحَسِّنَهُ، وَيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي عُمُومِيَّتِهِ، وَحُكْمُهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ قَبْلَهُ. فَأَنْتَ تَرَى صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بُعِثَ إِلَى أَصْحَابِ أَهْوَاءٍ وَبِدَعٍ، وَقَدِ اسْتَنَدُوا إِلَى آبَائِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ فِيهَا، وَرَدُّوا مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَطَّى عَلَى قُلُوبِهِمْ رَيْنُ الْهَوَى، حَتَّى الْتَبَسَتْ عَلَيْهِمُ الْمُعْجِزَاتُ بِغَيْرِهَا;

فصل لفظ أهل الأهواء وأهل البدع

كَيْفَ صَارَتْ شَرِيعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَصَارَ الْمَيِّتُ مِنْهُمْ مَسُوقًا إِلَى النَّارِ عَلَى الْعُمُومِ، مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمُعَانِدِ صَرَاحًا وَغَيْرِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، بِمُجَرَّدِ بَعْثَتِهِ وَإِرْسَالِهِ لَهُمْ مُبَيِّنًا لِلْحَقِّ الَّذِي خَالَفُوهُ. فَمَسْأَلَتُنَا شَبِيهَةٌ بِذَلِكَ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْحَزْمِ، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَمَنْ تَابَعَ الْهَوَى خِيفَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ. [فَصْلٌ لَفْظُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ] وَلْنَزِدْ هَذَا الْمَوْضِعَ شَيْئًا مِنَ الْبَيَانِ; فَإِنَّهُ أَكِيدٌ، لِأَنَّهُ تَحْقِيقُ مَنَاطِ الْكِتَابِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ، فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِنَّ لَفْظَ: " أَهْلِ الْأَهْوَاءِ "، وَعِبَارَةَ: " أَهْلِ الْبِدَعِ " ; إِنَّمَا تُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى الَّذِينَ ابْتَدَعُوهَا، وَقَدَّمُوا فِيهَا شَرِيعَةَ الْهَوَى; بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَالنَّصْرِ لَهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّتِهَا فِي زَعْمِهِمْ، حَتَّى عُدَّ خِلَافُهُمْ خِلَافًا، وَشُبَهُهُمْ مَنْظُورًا فِيهَا، وَمُحْتَاجًا إِلَى رَدِّهَا وَالْجَوَابِ عَنْهَا; كَمَا نَقُولُ فِي أَلْقَابِ الْفِرَقِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ بِأَنَّهَا أَلْقَابٌ لِمَنْ قَامَ بِتِلْكَ النِّحَلِ مَا بَيْنَ مُسْتَنْبِطٍ لَهَا وَنَاصِرٍ لَهَا وَذَابٍّ عَنْهَا; كَلَفْظِ: " أَهْلِ السُّنَّةِ " ; إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى نَاصِرِيهَا، وَعَلَى مَنِ اسْتَنْبَطَ عَلَى وَفْقِهَا، وَالْحَامِينَ لِذِمَارِهَا. وَيُرَشِّحُ (ذَلِكَ) أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:) {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] ; يُشْعِرُ بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ

التَّفْرِيقُ، وَلَيْسَ إِلَّا الْمُخْتَرِعُ أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]. وَقَوْلُهُ:) {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ مُخْتَصٌّ بِمَنِ انْتَصَبَ مَنْصِبَ الْمُجْتَهِدِ لَا بِغَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ; اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عَلَمٍ»، لِأَنَّهُمْ أَقَامُوا أَنْفُسَهُمْ مَقَامَ الْمُسْتَنْبِطِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِ فِيهَا. بِخِلَافِ الْعَوَامِّ، فَإِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ لِأَنَّهُ فَرْضُهُمْ، فَلَيْسُوا بِمُتَّبِعِينَ لِلْمُتَشَابِهِ حَقِيقَةً، وَلَا هُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا يُقَالُ لَهُمْ كَائِنًا مَا كَانَ، فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْعَوَامِّ لَفْظُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ حَتَّى يَخُوضُوا بِأَنْظَارِهِمْ فِيهَا وَيُحَسِّنُوا بِنَظَرِهِمْ وَيُقَبِّحُوا. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ لِلَفْظِ " أَهْلِ الْأَهْوَاءِ " وَ " أَهْلِ الْبِدَعِ " مَدْلُولٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ: أَنَّهُ مَنِ انْتَصَبَ لِلِابْتِدَاعِ وَلِتَرْجِيحِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْغَفْلَةِ عَنْ ذَلِكَ، وَالسَّالِكُونَ سُبُلَ رُؤَسَائِهِمْ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ; فَلَا. فَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا تَحْتَوِي عَلَى قِسْمَيْنِ: مُبْتَدِعٍ وَمُقْتَدٍ بِهِ. فَالْمُقْتَدِي بِهِ; كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعِبَارَةِ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِدَاءِ; لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُتَّبِعِ. وَالْمُبْتَدِعُ هُوَ الْمُخْتَرِعُ، أَوِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الِاخْتِرَاعِ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ قَبِيلِ الْخَاصِّ بِالنَّظَرِ فِي الْعِلْمِ، أَوْ كَانَ

مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ الْعَامِّيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ أَقْوَامًا قَالُوا:) {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، فَكَأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا إِلَى دَلِيلٍ جُمْلِيٍّ، وَهُوَ الْآبَاءُ إِذْ كَانُوا عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَقْلِ، وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَلَيْسَ إِلَّا لِأَنَّهُ صَوَابٌ، فَنَحْنُ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَطَأً، لَمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ الْبِدْعَةِ بِعَمَلِ الشُّيُوخِ وَمَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالصَّلَاحِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، وَلَا كَوْنِهِ يَعْمَلُ بِعِلْمٍ أَوْ بِجَهْلٍ. وَلَكِنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ اسْتِدْلَالًا فِي الْجُمْلَةِ; مِنْ حَيْثُ جُعِلَ عُمْدَةً فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى وَاطِّرَاحِ مَا سِوَاهُ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ، فَهُوَ آخِذٌ بِالْبِدْعَةِ بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ، وَدَخَلَ فِي مُسَمَّى أَهْلِ (الِابْتِدَاعِ)، إِذْ كَانَ مِنْ حَقِّ مَنْ كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْحَقِّ إِنْ جَاءَهُ، وَيَبْحَثَ، وَيَتَأَنَّى، وَيَسْأَلَ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ لَهُ فَيَتَّبِعَهُ، أَوِ الْبَاطِلُ فَيَجْتَنِبَهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَى الْمُحْتَجِّينَ بِمَا تَقَدَّمَ:) {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24]، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]، فَقَالَ تَعَالَى:) {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:) {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21]، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

وَعَلَامَةُ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ أَنْ يَرُدَّ خِلَافَ مَذْهَبِهِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ أَوْ إِجْمَالِيٍّ، وَيَتَعَصَّبُ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ; غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ عَيْنُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَهُوَ الْمَذْمُومُ حَقًّا. وَعَلَيْهِ يَحْصُلُ الْإِثْمُ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ مُسْتَرْشِدًا; مَالَ إِلَى الْحَقِّ حَيْثُ وَجَدَهُ، وَلَمْ يَرُدَّهُ، وَهُوَ الْمُعْتَادُ فِي طَالِبِ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ بَادَرَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سِوَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنِ الْبِدْعَةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَ الْمُتَعَاصِينَ، لَكِنَّهُ عَمِلَ بِهَا: فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ مُعَذَّبُونَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِذَا اتَّبَعُوا مَنِ اخْتَرَعَ مِنْهُمْ، فَالْمُتَّبِعُونَ لِلْمُبْتَدَعِ إِذَا لَمْ يَجِدُوا مُحِقًّا مُؤَاخَذُونَ أَيْضًا. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُبْعَثَ لَهُمُ الرَّسُولُ وَإِنْ عَمِلُوا بِالْكُفْرِ فَهَؤُلَاءِ لَا يُؤْخَذُونَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحِقٌّ، فَإِذْ ذَاكَ يُؤَاخَذُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ مَعَهُ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَّبِعُوهُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ فَيَتْرُكُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَّبِعُوهُ فَلَا بُدَّ مِنْ عِنَادٍ مَا وَتَعَصُّبٍ فَيَدْخُلُونَ إِذْ ذَاكَ تَحْتَ عِبَارَةِ (أَهْلِ الْأَهْوَاءِ) فَيَأْثَمُونَ. وَكُلُّ مَنِ اتَّبَعَ بَيَانَ سَمْعَانَ فِي بِدْعَتِهِ الَّتِي اشْتُهِرَتْ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ; مُقَلِّدًا فِيهَا عَلَى حُكْمِ الرِّضَاءِ بِهَا وَرَدَّ مَا سِوَاهَا; فَهُوَ فِي الْإِثْمِ مَعَ مَنِ اتَّبَعَ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مَعْبُودَهُ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّهُ يَهْلِكُ كُلُّهُ إِلَّا وَجْهَهُ، ثُمَّ زَعَمَ

فصل إثم المبتدعين ليس على رتبة واحدة

أَنَّ رُوحَ الْإِلَهِ حَلَّ فِي عَلِيٍّ ثُمَّ فِي فُلَانٍ، ثُمَّ فِي فُلَانٍ. . . . . ثُمَّ فِي بَيَانِ نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ مَنِ اتَّبَعَ الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ الْعِجْلِيَّ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ مُدَّةً وَزَعَمَ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَأَنَّ لِمَعْبُودِهِ أَعْضَاءً عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ، عَلَى كَيْفِيَّةٍ يَشْمَئِزُّ مِنْهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ. . . . . . إِلَى إِلْحَادَاتٍ أُخَرَ. وَكَذَلِكَ مَنِ اتَّبَعَ الْمَهْدِيَّ الْمَغْرِبِيَّ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ بِدَعِ الْمَغْرِبِ، فَهُوَ فِي الْإِثْمِ وَالتَّسْمِيَةِ مَعَ مَنِ اتَّبَعَ إِذَا انْتَصَبَ نَاصِرًا لَهَا وَمُحْتَجًّا عَلَيْهَا. وَقَانَا اللَّهُ شَرَّ التَّعَصُّبِ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنَ الْحَقِّ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. [فَصْلٌ إِثْمُ الْمُبْتَدِعِينَ لَيْسَ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ] [الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَمِنْ جِهَةِ الْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ] إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ آثِمٌ; فَلَيْسَ الْوَاقِعُ عَلَيْهِ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ عَلَى مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ، وَاخْتِلَافُهَا يَقَعُ مِنْ جِهَاتٍ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ، فَيَخْتَلِفُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ صَاحِبِهَا مُدَّعِيًا لِلِاجْتِهَادِ أَوْ مُقَلِّدًا، وَمِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ أَوْ غَيْرِهَا، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ صَاحِبِهَا مُسْتَتِرًا بِهَا أَوْ مُعْلِنًا، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعَ الدُّعَاءِ إِلَيْهَا خَارِجًا عَلَى غَيْرِهِ أَوْ غَيْرَ خَارِجٍ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ حَقِيقِيَّةً أَوْ إِضَافِيَّةً، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا بَيِّنَةً أَوْ مُشْكِلَةً، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كُفْرًا أَوْ غَيْرَ كُفْرٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَوْ عَدَمِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يُقْطَعُ مَعَهَا بِالتَّفَاوُتِ فِي عِظَمِ الْإِثْمِ وَعَدَمِهِ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْعَالِمِ بِالْأُصُولِ; فَلَا يَنْبَغِي أَنْ

يُتْرَكَ التَّنْبِيهُ عَلَى وَجْهِ التَّفَاوُتِ بِقَوْلٍ جَمْلِيٍّ، فَهُوَ الْأَوْلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ. فَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ صَاحِبِهَا مُدَّعِيًا لِلِاجْتِهَادِ أَوْ مُقَلِّدًا: فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ الزَّيْغَ فِي قَلْبِ النَّاظِرِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهَا أَمْكَنُ مِنْهُ فِي قَلْبِ الْمُقَلِّدِ، وَإِنِ ادَّعَى النَّظَرَ أَيْضًا; لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ النَّاظِرَ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِنَادِهِ إِلَى مُقَلَّدِهِ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا، أَوِ الْمُقَلَّدِ قَدِ انْفَرَدَ بِهَا دُونَهُ، فَهُوَ آخِذٌ بِخَظٍّ مَا لَمْ يَأْخُذْ فِيهِ الْآخَرُ; إِلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُقَلِّدُ نَاظِرًا لِنَفْسِهِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَدَّعِي رُتْبَةَ التَّقْلِيدِ، فَصَارَ فِي دَرَجَةِ الْأَوَّلِ، وَزَادَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا. وَهَذَا الثَّانِي مِمَّنْ عَمِلَ بِهَا، فَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ إِثْمِهِ مَا عَيَّنَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، فَوِزْرُهُ أَعْظَمُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَالثَّانِي دُونَهُ; لِأَنَّهُ إِنْ نَظَرَ وَعَانَدَ الْحَقَّ وَاحْتَجَّ لِرَأْيهِ، فَلَيْسَ لَهُ [إِلَّا] النَّظَرُ فِي أَدِلَّةٍ جُمْلِيَّةٍ لَا تَفْصِيلِيَّةٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ; فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ التَّفْصِيلِيَّةَ أَبْلَغُ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْجُمْلِيَّةِ، فَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوِزْرِ بِمِقْدَارِ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ أَوْ غَيْرِهَا: فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ سَتَأْتِي عِنْدَ التَّكَلُّمِ عَلَى أَحْكَامِ الْبِدَعِ. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ الْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ: فَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُسِرَّ بِهَا ضَرَرُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَعَلَى

الاختلاف من جهة الدعوة إليها وعدمها

أَيِّ صُورَةٍ فُرِضَتِ الْبِدْعَةُ مِنْ كَوْنِهَا كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَكْرُوهَةً، هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ حُكْمِهَا. فَإِذَا أَعْلَنَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَدْعُ إِلَيْهَا فَإِعْلَانُهُ بِهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ. وَسَيَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ أَنَّ الذَّرِيعَةَ قَدْ تَجْرِي مَجْرَى الْمُتَذَرِّعِ إِلَيْهِ أَوْ تُفَارِقُهُ، فَانْضَمَّ إِلَى وِزْرِ الْعَمَلِ بِهَا وِزْرُ نَصْبِهَا لِمَنْ يَقْتَدِي بِهِ فِيهَا، وَالْوِزْرُ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ بِلَا إِشْكَالٍ. وَمِثَالُهُ مَا حَكَى الطَّرْطُوشِيُّ فِي أَصْلِ الْقِيَامِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيِّ: قَالَ: " لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ هَذِهِ الَّتِي تُصَلَّى فِي رَجَبَ وَشَعْبَانَ، وَأَوَّلُ مَا أُحْدِثَتْ عِنْدَنَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، قَدِمَ عَلَيْنَا رَجُلٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي الْحَمْرَاءِ، وَكَانَ حَسَنَ التِّلَاوَةِ، فَقَامَ، فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ انْضَافَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ وَرَابِعٌ، فَمَا خَتَمَهَا إِلَّا وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ كَبِيرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، فَصَلَّى مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَشَاعَتْ فِي الْمَسْجِدِ، وَانْتَشَرَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَبُيُوتِ النَّاسِ وَمَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ اسْتَمَرَّتْ كَأَنَّهَا سُنَّةٌ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا ". فَقُلْتُ لَهُ: فَرَأَيْتُكَ تُصَلِّيهَا فِي جَمَاعَةٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ! وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا ". [الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا وَعَدَمِهَا] وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا وَعَدَمِهَا: فَظَاهَرٌ أَيْضًا; لِأَنَّ غَيْرَ الدَّاعِي وَإِنْ كَانَ عُرْضَةً بِالِاقْتِدَاءِ فَقَدْ لَا

الاختلاف من جهة كونه خارجا على أهل السنة أو غير خارج

يُقْتَدَى بِهِ، وَيَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ خَامِلَ الذِّكْرِ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَهِرًا وَلَا يُقْتَدَى بِهِ، لِشُهْرَةِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ النَّاسِ مَنْزِلَةً مِنْهُ. وَأَمَّا إِذَا دَعَا إِلَيْهَا; فَمَظِنَّةُ الِاقْتِدَاءِ أَقْوَى وَأَظْهَرُ، وَلَا سِيَّمَا الْمُبْتَدَعِ اللَّسِنِ الْفَصِيحِ الْآخِذِ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، إِذَا أَخَذَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَأَدْلَى بِشُبْهَتِهِ الَّتِي تُدَاخِلُ الْقَلْبَ بِزُخْرُفِهَا، كَمَا كَانَ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ، وَيَلْوِي بِلِسَانِهِ نِسْبَتَهُ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. فَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: " أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَأَجَابَ فِيهَا، وَقَالَ: هُوَ مِنْ رَأْيِ الْحَسَنِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّهُمْ يَرْوُونَ عَنِ الْحَسَنِ خِلَافَ هَذَا. فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ لَكَ هَذَا مِنْ رَأْيِي الْحَسَنِ ; يُرِيدُ نَفْسَهُ ". وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: " كَانَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ; قَالَ: هَذَا مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ، فَيُوهِمُ أَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ ". [الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَارِجًا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ غَيْرَ خَارِجٍ] وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَارِجًا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ غَيْرَ خَارِجٍ؛: فَلِأَنَّ غَيْرَ الْخَارِجِ لَمْ يَزِدْ عَلَى الدَّعْوَةِ مَفْسَدَةً أُخْرَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِثْمٌ، وَالْخَارِجُ زَادَ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ، وَالسَّعْيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَإِثَارَةَ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ، إِلَى حُصُولِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أُولَئِكَ

الْفِرَقِ، فَلَهُ مِنَ الْإِثْمِ الْعَظِيمِ أَوْفَرُ حَظٍّ. وَمِثَالُهُ قِصَّةُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، وَأَخْبَارُهُمْ شَهِيرَةٌ. وَقَدْ لَا يَخْرُجُونَ هَذَا الْخُرُوجَ، بَلْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى الدَّعْوَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ أَدْعَى إِلَى الْإِجَابَةِ، لِأَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنَ الْإِكْرَاهِ وَالْإِخَافَةِ، فَلَا هُوَ مُجَرَّدُ دَعْوَةٍ، وَلَا هُوَ شَقُّ الْعَصَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى دَعْوَةٍ بِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْوُلَاةِ وَالسَّلَاطِينِ; فَإِنَّ الِاقْتِدَاءَ هُنَا أَقْوَى بِسَبَبِ خَوْفِ الْوُلَاةِ فِي الْإِيقَاعِ بِالْآبِي سِجْنًا أَوْ ضَرْبًا أَوْ قَتْلًا، كَمَا اتَّفَقَ لِبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ، وَلِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادَ فِي خِلَافَةِ الْوَاثِقِ، وَكَمَا اتَّفَقَ لِعُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْأَنْدَلُسِ، إِذْ صَارَتْ وِلَايَتُهَا لِلْمَهْدِيِّينَ، فَمَزَّقُوا كُتُبَ الْمَالِكِيَّةِ، وَسَمَّوْهَا كُتُبَ الرَّأْيِ، وَنَكَّلُوا بِجُمْلَةٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ بِسَبَبِ أَخْذِهِمْ فِي الشَّرِيعَةِ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ. وَكَانُوا هُمْ مُرْتَكِبِينَ لِلظَّاهِرِيَّةِ الْمَحْضَةِ، الَّتِي هِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَيَا لَيْتَهُمْ وَافَقُوا مَذْهَبَ دَاوُدَ وَأَصْحَابِهِ! لَكِنَّهُمْ تَعَدَّوْا ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالُوا بِرَأْيِهِمْ، وَوَضَعُوا لِلنَّاسِ مَذَاهِبَ لَا عَهْدَ (لَهُمْ) بِهَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَحَمَلُوهُمْ عَلَيْهَا طَوْعًا أَوْ كُرْهًا، حَتَّى عَمَّ دَاؤُهَا فِي النَّاسِ، وَثَبَتَتْ زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ ذَهَبَ مِنْهَا جُمْلَةٌ وَبَقِيَتْ أُخْرَى إِلَى الْيَوْمِ، وَلَعَلَّ الزَّمَانَ يَتَّسِعُ إِلَى ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِنْهَا فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهِ. فَهَذَا الْوَجْهُ، الْوِزْرُ فِيهِ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الاختلاف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية

الْأَوَّلُ: الْإِخَافَةُ وَالْإِكْرَاهُ بِالْإِسْلَامِ وَالْقَتْلِ. وَالْآخَرُ: كَثْرَةُ الدَّاخِلِينَ فِي الدَّعْوَةِ; لِأَنَّ الْإِعْذَارَ وَالْإِنْذَارَ الْأُخْرَوِيَّ قَدْ لَا يَقُومُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النُّفُوسِ، بِخِلَافِ الدُّنْيَوِيِّ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ شُرِعَتِ الْحُدُودُ وَالزَّوَاجِرُ فِي الشَّرْعِ، وَ " إِنَّ (اللَّهَ) يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُهُ بِالْقُرْآنِ "، فَالْمُبْتَدِعُ إِذَا لَمْ يَنْتَصِرْ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ الَّذِي يَعِظُ (بِهِ)، حَاوَلَ الِانْتِهَاضَ بِأُولِي الْأَمْرِ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحْرَى بِالْإِجَابَةِ. [الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ حَقِيقِيَّةً أَوْ إِضَافِيَّةً] وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ حَقِيقِيَّةً أَوْ إِضَافِيَّةً: فَإِنَّ الْحَقِيقِيَّةَ أَعْظَمُ وِزْرًا، لِأَنَّهَا الَّتِي بَاشَرَهَا الْمُنْتَهِي بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلِأَنَّهَا مُخَالَفَةٌ مَحْضَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ السُّنَّةِ ظَاهِرٌ، كَالْقَوْلِ بِالْقَدَرِ، وَالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَالْقَوْلِ بِإِنْكَارِ خَبَرِ الِوَاحِدِ، وَإِنْكَارِ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْكَارِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَالْقَوْلِ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَإِذَا فُرِضَتْ إِضَافِيَّةً; فَمَعْنَى الْإِضَافِيَّةِ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ مِنْ وَجْهٍ وَرَأْيٍ مُجَرَّدٍ مِنْ وَجْهٍ، إِذْ يَدْخُلُهَا مِنْ جِهَةِ الْمُخْتَرِعِ رَأْيٌ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا، فَلَمْ تُنَافِ الْأَدِلَّةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. هَذَا، وَإِنْ كَانَتْ تَجْرِي مَجْرَى الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِحَسَبِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ يَخْتَلِفُ الْوِزْرُ. وَمِثَالُهُ جَعْلُ الْمَصَاحِفِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقِرَاءَةِ إِثْرَ الصَّلَاةِ فِيهَا. قَالَ مَالِكٌ: " أَوَّلُ مَنْ جَعَلَ مُصْحَفًا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ ".

الاختلاف من جهة كون البدعة ظاهرة المأخذ أو مشكلة

يُرِيدُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ رَتَّبَ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ إِثْرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: " مِثْلَ مَا يُصْنَعُ عِنْدَنَا إِلَى الْيَوْمِ ". فَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ أَعْنِي: وَضْعَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْمَسْجِدِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ مَعْمُولٌ بِهَا; إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَسْجِدِ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ هُوَ الْمُحْدَثُ. وَمِثْلُهُ وَضْعُ الْمَصَاحِفِ فِي زَمَانِنَا لِلْقِرَاءَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَتَحْبِيسُهَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ. [الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ ظَاهِرَةَ الْمَأْخَذِ أَوْ مُشْكِلَةً] وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا ظَاهِرَةَ الْمَأْخَذِ أَوْ مُشْكِلَةً: فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا مَحْضُ مُخَالَفَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُشْكِلَةً; فَلَيْسَتْ بِمَحْضِ مُخَالَفَةٍ; لِإِمْكَانِ أَنْ لَا تَكُونَ بِدْعَةً، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمُحْتَمَلِ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الظَّاهِرِ. وَلِذَلِكَ عَدَّ الْعُلَمَاءُ تَرْكَ الْمُتَشَابِهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَنَبَّهَ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمُتَشَابِهِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْحَرَامِ، فَهُوَ حِمًى لَهُ، وَأَنَّ وَاقِعَ الْمُتَشَابِهِ وَاقِعٌ فِي الْحَرَامِ، وَلَيْسَ تَرْكُ الْحَرَامِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْوَاجِبِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْفِعْلِ الْمُشْتَبَهِ فِي الْبِدْعَةِ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ تَرْكَ الْمُتَشَابِهِ مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ، وَإِنَّ مُوَاقَعَتَهُ مِنْ بَابِ الْمَكْرُوهِ; فَالِاخْتِلَافُ أَيْضًا وَاقِعٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ; فَإِنَّ الْإِثْمَ فِي الْمُحَرَّمَةِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهَةِ; فَلَا إِثْمَ فِيهَا فِي الْجُمْلَةِ; مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا مَا

الاختلاف بحسب الإصرار على البدعة أو عدمه

يُوجِبُهَا، كَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، إِذِ الْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ يُصَيِّرُهَا كَبِيرَةً، فَكَذَلِكَ الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَكْرُوهِ، فَقَدْ يُصَيِّرُهُ صَغِيرَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ فِي مُطْلَقِ التَّأْثِيمِ، وَإِنْ حَصَلَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى; بِخِلَافِ الْمَكْرُوهِ مَعَ الصَّغِيرَةِ. وَالشَّأْنُ فِي الْبِدَعِ وَإِنْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً (فِي) الدَّوَامِ عَلَيْهَا وَإِظْهَارِهَا مِنَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ وَفِي الْمَسَاجِدِ، فَقَلَّمَا تَقَعُ مِنْهُمْ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْكَرَاهِيَةِ إِلَّا وَيَقْتَرِنُ بِهَا مَا يُدْخِلُهَا فِي مُطْلَقِ التَّأْثِيمِ; مِنْ إِصْرَارٍ، أَوْ تَعْلِيمٍ، أَوْ إِشَاعَةٍ، أَوْ تَعَصُّبٍ لَهَا. . . . أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبِدَعِ بِحَسَبِ الْوُقُوعِ مَكْرُوهٌ لَا زَائِدَ فِيهِ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ الْإِصْرَارِ عَلَى الْبِدْعَةِ أَوْ عَدَمِهِ] وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَوْ عَدَمِهِ: فَلِأَنَّ الذَّنْبَ قَدْ يَكُونُ صَغِيرًا فَيَعْظُمُ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ الْبِدْعَةُ تَكُونُ صَغِيرَةً فَتَعْظُمُ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً; فَهِيَ أَهْوَنُ مِنْهَا إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا. وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِذَا تَهَاوَنَ بِهَا الْمُبْتَدِعُ وَسَهَّلَ أَمْرَهَا; نَظِيرَ الذَّنْبِ إِذَا تَهَاوَنَ بِهِ، فَالْمُتَهَاوِنُ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ غَيْرِهِ. [الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ كُفْرًا وَعَدَمَهُ] وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كُفْرًا وَعَدَمَهُ: فَظَاهِرٌ أَيْضًا; لِأَنَّ مَا هُوَ كُفْرٌ جَزَاؤُهُ التَّخْلِيدُ فِي الْعَذَابِ - عَافَانَا اللَّهُ - وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَهُ; حُكْمُ سَائِرِ الْكَبَائِرِ مَعَ الْكُفْرِ فِي الْمَعَاصِي، فَلَا بِدْعَةَ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ بِدْعَةٍ تُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّهُ لَا ذَنْبَ أَعْظَمُ

فصل أنواع الأحكام التي يقام على أهل البدع بها

مِنْ ذَنْبٍ يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبِدْعَةُ الْبَاطِنِيَّةِ وَالزَّنَادِقَةِ لَيْسَ كَبِدْعَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ. وَوُجُوهُ التَّفَاوُتِ كَثِيرَةٌ، وَلِظُهُورِهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ; لَمْ نَبْسُطِ الْكَلَامَ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ بِفَضْلِهِ. [فَصْلٌ أَنْوَاعُ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ بِهَا] وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي الْقِيَامِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْخَاصَّةِ أَوِ الْعَامَّةِ. وَهَذَا بَابٌ كَبِيرٌ فِي الْفِقْهِ تَعَلَّقَ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ جِنَايَتِهِمْ عَلَى الدِّينِ، وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ جَادَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَى بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وَهُوَ فَصْلٌ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ عَلَى التَّأْثِيمِ، لَكِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى النَّظَرِ فِي شُعَبٍ كَثِيرَةٍ; مِنْهَا مَا تَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَدَثَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَهْلِ الْحِمَايَةِ لِلدِّينِ، فَهُوَ بَابٌ يَكْثُرُ التَّفْرِيعُ فِيهِ بِحَيْثُ يَسْتَدْعِي تَأْلِيفًا مُسْتَقِلًّا. فَرَأَيْنَا أَنَّ بَسْطَ ذَلِكَ يَطُولُ، مَعَ أَنَّ الْعَنَاءَ فِيهِ قَلِيلُ الْجَدْوَى فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ; لِتَكَاسُلِ الْخَاصَّةِ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يُصْلِحُ الْعَامَّةَ، وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَى الْعَامَّةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، بَلْ قَدِ انْقَلَبَ الْحَالُ إِلَى أَنْ عَادَتِ السُّنَّةَ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، فَقَامُوا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقِيَامِ،

وَاسْتَقَامُوا إِلَى غَيْرِ مُسْتَقَامٍ، فَعَمَّ الدَّاءُ، وَعُدِمَ الْأَطِبَّاءُ، حَسْبَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ. فَرَأَيْنَا أَنْ لَا نُفْرِدَ هَذَا الْمَعْنَى بِبَابٍ يَخُصُّهُ، وَأَنْ لَا نَبْسُطَ الْقَوْلَ فِيهِ، وَأَنْ نَقْتَصِرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى لَمْحَةٍ تَكُونُ خَاتِمَةً لِهَذَا الْبَابِ، فِي الْإِشَارَةِ إِلَى أَنْوَاعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُقَامُ عَلَيْهِمْ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي التَّفْصِيلِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَنَقُولُ: إِنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهِمْ: بِالتَّثْرِيبِ، أَوِ التَّنْكِيلِ، أَوِ الطَّرْدِ، أَوِ الْإِبْعَادِ، أَوِ الْإِنْكَارِ; هُوَ بِحَسَبِ حَالِ الْبِدْعَةِ فِي نَفْسِهَا; مِنْ كَوْنِهَا: عَظِيمَةَ الْمَفْسَدَةِ فِي الدِّينِ، أَوْ لَا، وَكَوْنِ صَاحِبِهَا مُشْتَهِرًا بِهَا أَوْ لَا، وَدَاعِيًا إِلَيْهَا أَوْ لَا، وَمُسْتَظْهِرًا بِالْأَتْبَاعِ أَوْ لَا، وَخَارِجًا عَنِ النَّاسِ أَوْ لَا، وَكَوْنِهِ عَامِلًا بِهَا عَلَى جِهَةِ الْجَهْلِ أَوْ لَا. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لَهُ حُكْمٌ اجْتِهَادِيٌّ يَخُصُّهُ، إِذْ لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ فِي الْبِدْعَةِ حَدٌّ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، كَمَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي; كَالسَّرِقَةِ، وَالْحِرَابَةِ، وَالْقَتْلِ، وَالْقَذْفِ، وَالْجِرَاحِ، وَالْخَمْرِ. . . . وَغَيْرِ ذَلِكَ. لَا جَرَمَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأُمَّةِ نَظَرُوا فِيهَا بِحَسَبِ النَّوَازِلِ، وَحَكَمُوا بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ; تَفْرِيعًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ فِي بَعْضِهَا مِنَ النَّصِّ; كَمَا جَاءَ فِي الْخَوَارِجِ مِنَ الْأَثَرِ بِقَتْلِهِمْ، وَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَبِيغٍ الْعِرَاقِيِّ. فَخَرَجَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: الْإِرْشَادُ، وَالتَّعْلِيمُ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ ; كَمَسْأَلَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ

حِينَ ذَهَبَ إِلَى الْخَوَارِجِ، فَكَلَّمَهُمْ، حَتَّى رَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَمَسْأَلَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ غَيْلَانَ، وَشِبْهُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: الْهُجْرَانُ، وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ; حَسْبَمَا تَقَدَّمَ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ السَّلَفِ فِي هُجْرَانِهِمْ لِمَنْ تَلَبَّسَ بِبِدْعَةٍ، وَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قِصَّةِ صَبِيغٍ. وَالثَّالِثُ: كَمَا غَرَّبَ عُمَرُ صَبِيغًا، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ السَّجْنُ، وَهُوَ: الرَّابِعُ: كَمَا سَجَنُوا الْحَلَّاجَ قَبْلَ قَتْلِهِ سِنِينَ عِدَّةً. وَالْخَامِسُ: ذِكْرُهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِشَاعَةُ بِدْعَتِهِمْ ; كَيْ يُحْذَرُوا; وَلِئَلَّا يُغْتَرَّ بِكَلَامِهِمْ; كَمَا جَاءَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ. السَّادِسُ: الْقَتْلُ إِذَا نَاصَبُوا الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ ; كَمَا قَاتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَوَارِجَ وَغَيْرُهُ مِنْ خُلَفَاءِ السُّنَّةِ. وَالسَّابِعُ: الْقَتْلُ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا مِنَ الِاسْتِتَابَةِ، وَهُوَ قَدْ أَظْهَرَ بِدْعَتَهُ، وَأَمَّا مَنْ أَسَرَّهَا وَكَانَتْ كُفْرًا أَوْ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ; فَالْقَتْلُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ، وَهُوَ الثَّامِنُ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النِّفَاقِ، كَالزَّنَادِقَةِ. وَالتَّاسِعُ: تَكْفِيرُ مَنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كُفْرِهِ ; كَمَا إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ صَرِيحَةً فِي الْكُفْرِ; كَالْإِبَاحِيَّةِ، وَالْقَائِلِينَ بِالْحُلُولِ; كَالْبَاطِنِيَّةِ، أَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ، فَذَهَبَ الْمُجْتَهِدُ إِلَى التَّكْفِيرِ; كَابْنِ الطَّيِّبِ فِي تَكْفِيرِهِ جُمْلَةً مِنَ الْفِرَقِ، فَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ: الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرِثُهُمْ وَرَثَتُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَرِثُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَلَا يُغَسَّلُونَ إِذَا مَاتُوا، وَلَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ

فصل شبه المبتدعة والرد عليهم

الْمُسْلِمِينَ; مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَتِرًا; فَإِنَّ الْمُسْتَتِرَ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، وَوَرَثَتُهُ أَعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِيرَاثِ. وَالْحَادِي عَشَرَ: الْأَمْرُ بِأَنْ لَا يُنَاكَحُوا، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْهُجْرَانِ، وَعَدَمِ الْمُوَاصَلَةِ. وَالثَّانِي عَشَرَ: تَجْرِيحُهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَلَا رِوَايَتُهُمْ، وَلَا يَكُونُونَ وَالِينَ وَلَا قُضَاةً، وَلَا يُنَصَّبُونَ فِي مَنَاصِبِ الْعَدَالَةِ مِنْ إِمَامَةٍ أَوْ خَطَابَةٍ; إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ السَّلَفِ رِوَايَةُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ لِيَرْجِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثَ عَشَرَ: تَرْكُ عِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ. وَالرَّابِعَ عَشَرَ: تَرْكُ شُهُودِ جَنَائِزِهِمْ كَذَلِكَ. وَالْخَامِسَ عَشَرَ: الضَّرْبُ كَمَا ضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبِيغًا. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَائِلِ بِالْمَخْلُوقِ: " أَنَّهُ يُوجَعُ ضَرْبًا وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ ". وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ تَوَارِيخِ بَغْدَادَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: " حُكِمَ فِي أَصْحَابِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرَائِدِ، وَيُحْمَلُوا عَلَى الْإِبِلِ، وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ، وَيُقَالَ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَأَخَذَ فِي الْكَلَامِ; يَعْنِي: أَهْلَ الْبِدَعِ ". [فَصْلٌ شُبَهُ الْمُبْتَدِعَةِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ] [الرَّدُّ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَهُوَ خَيْرٌ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ] فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ تِلْكَ

الْعُمُومَاتِ، وَتَقْيِيدِ تِلْكَ الْمُطْلَقَاتِ، وَفَرَّعَ الْعُلَمَاءُ مِنْهَا كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ، وَأَصَّلُوا مِنْهَا أُصُولًا يُحْتَذَى حَذْوُهَا عَلَى وَفْقِ مَا ثَبَتَ نَقْلُهُ، إِذِ الظَّوَاهِرُ تَخْرُجُ عَلَى مُقْتَضَى ظُهُورِهَا بِالِاجْتِهَادِ، وَبِالْحَرِيِّ إِنْ كَانَ مَا يُسْتَنْبَطُ بِالِاجْتِهَادِ مَقِيسًا عَلَى مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، فَلِذَلِكَ قَسَّمَ النَّاسُ الْبِدَعَ، وَلَمْ يَقُولُوا بِذَمِّهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؟ وَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَا فِي الصَّحِيحِ: مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً; كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً; كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا». وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ; فَلَهُ أَجْرُ فَاعِلِهِ». وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ; قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ، فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا، فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ، فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا; كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» " ; حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ; فَذَلِكَ خَيْرٌ.

وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِيمَنِ ابْتَدَعَ " «مَنْ سَنَّ» "، فَنُسِبَ الِاسْتِنَانُ إِلَى الْمُكَلَّفِ دُونَ الشَّارِعِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ: " مَنْ عَمِلَ سُنَّةً ثَابِتَةً فِي الشَّرْعِ " ; لَمَا قَالَ: " «مَنْ سَنَّ» ". وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا «مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»، فَـ " «سَنَّ» " هَاهُنَا عَلَى حَقِيقَتِهِ; لِأَنَّهُ اخْتِرَاعُ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلُ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ وُجُودِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً» ; أَيْ: مَنِ اخْتَرَعَهَا مِنْ نَفْسِهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ حَسَنَةً، فَلَهُ مِنَ الْأَجْرِ مَا ذُكِرَ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ: مَنْ عَمِلَ سُنَّةً ثَابِتَةً، وَإِنَّمَا الْعِبَارَةُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ: «مَنْ عَمِلَ بِسُنَّتِي أَوْ سُنَّةٍ مِنْ سُنَّتِي». . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ; كَمَا خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ: " «اعْلَمْ» "، قَالَ: أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " «اعْلَمْ يَا بِلَالُ»، قَالَ: أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " «إِنَّهُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي; فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ; كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ إِثْمِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِ النَّاسِ شَيْئًا» " ; حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ; قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «يَا بُنَيَّ! إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ» "، ثُمَّ قَالَ لِي:

" «يَا بُنَيَّ! وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي; فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي; كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ» ; حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَقَوْلُهُ: «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي» ; وَاضِحٌ فِي الْعَمَلِ بِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي; فَقَدْ أَحَبَّنِي» ; ظَاهِرٌ فِي السُّنَنِ الثَّابِتَةِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: " «مَنْ سَنَّ كَذَا» " ; فَإِنَّهُ فِي الِاخْتِرَاعِ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي السُّنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ: «وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً» ; فَظَاهَرٌ أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا تُذَمُّ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ ضَلَالَةً، وَأَنْ تَكُونَ لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَاقْتَضَى (هَذَا كُلُّهُ) أَنَّ الْبِدْعَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ; لَمْ يَلْحَقْهَا ذَمٌّ، وَلَا تَبِعَ صَاحِبَهَا وِزْرٌ، فَعَادَتْ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ حَسَنَةٌ، وَدَخَلَتْ تَحْتَ الْوَعْدِ بِالْأَجْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَعْلَاهُمُ الصَّحَابَةُ قَدْ عَمِلُوا بِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ مِمَّا رَأَوْهُ حَسَنًا وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَجْتَمِعُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَإِنَّمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى هُدًى وَمَا هُوَ حَسَنٌ. فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَمْعِ الْقُرْآنِ وَكَتْبِهِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَعَلَى جَمْعِ النَّاسِ عَلَى الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَاطِّرَاحِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ قَصْرٌ وَلَا حَصْرٌ.

ثُمَّ اقْتَفَى النَّاسُ أَثَرَهُمْ فِي ذَلِكَ الرَّأْيِ الْحَسَنِ، فَجَمَعُوا الْعِلْمَ وَدَوَّنُوهُ وَكَتَبُوهُ، وَمَنْ سَبَقَهُمْ فِي ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمُ اتِّبَاعًا وَأَبْعَدِهِمْ مِنَ الِابْتِدَاعِ. هَذَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ كَرَاهِيَةُ كَتْبِ الْعِلْمِ مِنَ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ; فَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ إِمَّا عَلَى الْخَوْفِ مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَى الْكُتُبِ اسْتِغْنَاءً بِهَا عَنِ الْحِفْظِ وَالتَّحْصِيلِ، وَإِمَّا عَلَى مَا كَانَ رَأْيًا دُونَ مَا كَانَ نَقْلًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. ثُمَّ اتَّفَقَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى تَدْوِينِ الْجَمِيعِ لَمَّا ضَعُفَ الْأَمْرُ، وَقَلَّ الْمُجْتَهِدُونَ فِي التَّحْصِيلِ، فَخَافُوا عَلَى الدِّينِ الدُّرُوسَ جُمْلَةً. قَالَ اللَّخْمِيُّ لَمَّا ذُكِرَ كَلَامُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي كَرَاهِيَةِ بَيْعِ كُتُبِ الْعِلْمِ وَالْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِهِ، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ الْإِجَارَةَ عَلَى كُتُبِهِ، وَحَكَى الْخِلَافَ ; وَقَالَ: " لَا أَرَى الْيَوْمَ أَنْ يُخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ جَائِزٌ; لِأَنَّ حِفْظَ النَّاسِ وَأَفْهَامَهُمْ قَدْ نَقَصَتْ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ لَيْسَتْ لَهُمْ كُتُبٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاسِمِ وَلَا لِسَعِيدٍ كُتُبٌ، وَمَا كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَحَدٍ يَكْتُبُ فِي هَذِهِ الْأَلْوَاحِ، وَلَقَدْ قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ: أَكُنْتَ تَكْتُبُ الْعِلْمَ؟ فَقَالَ: لَا، فَقُلْتُ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ يُقَيِّدُوا عَلَيْكَ الْحَدِيثَ؟ فَقَالَ: لَا. فَهَذَا كَانَ شَأْنُ النَّاسِ، فَلَوْ سَارَ النَّاسُ لِسِيرَتِهِمْ، لَضَاعَ الْعِلْمُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا مِنْهُ رَسْمُهُ، وَهَكَذَا النَّاسُ الْيَوْمَ يَقْرَءُونَ كُتُبَهُمْ، ثُمَّ هُمْ فِي التَّقْصِيرِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ ". وَأَيْضًا; فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَنَا فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ: أَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ وَاجِبٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ; كَانَ إِهْمَالُ كُتُبِهَا وَبَيْعِهَا يُؤَدِّي

إِلَى التَّقْصِيرِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَأَنْ لَا يُوضَعَ مَوَاضِعَهُ; لِأَنَّ فِي مَعْرِفَةِ أَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ قُوَّةً وَزِيَادَةٌ فِي وَضْعِ الِاجْتِهَادِ مَوَاضِعَهُ. انْتَهَى مَا قَالَهُ اللَّخْمِيُّ، وَفِيهِ إِجَازَةُ الْعَمَلِ بِمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا، فَكَذَلِكَ نَقُولُ: كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ; فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ، وَصَاحِبُهُ الَّذِي سَنَّهُ مَمْدُوحٌ، فَأَيْنَ ذَمُّهَا بِإِطْلَاقٍ أَوْ عَلَى الْعُمُومِ؟! وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: " تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ "، فَأَجَازَ كَمَا تَرَى إِحْدَاثَ الْأَقْضِيَةِ وَاخْتِرَاعَهَا عَلَى قَدْرِ اخْتِرَاعِ الْفُجَّارِ لِلْفُجُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِتِلْكَ الْمُحْدَثَاتِ أَصْلٌ. وَقَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَأَخَذَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، وَلَمْ يَأْتِ لَهُ فِي الْمُوَطَّأِ بِأَصْلٍ سَمَاعِيٍّ، وَإِنَّمَا عُلِّلَ بِأَمْرٍ مُصْطَلَحِيٍّ، وَفِي مَذْهَبِهِ مِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مَعَ أَنَّهُ مُخْتَرَعٌ; فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَصَالِحُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْجُمْلَةِ؟! وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ جَائِزًا; فَلِمَ اجْتَمَعُوا عَلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا، وَفَرَّعَ غَيْرُهُمْ عَلَى بَعْضِهَا؟! وَلَا يَبْقَى إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ يُتَابِعُونَ عَلَى مَا عَمِلَ هَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنِ اجْتَمَعَا

فِي الْعِلَّةِ الْمُسَوِّغَةِ لِلْقِيَاسِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الِاقْتِصَارُ تَحَكُّمًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ. فَالْجَوَابُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، أَنْ نَقُولَ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ; فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً»، الْحَدِيثَ. فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الِاخْتِرَاعَ أَلْبَتَّةَ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، إِنْ زَعَمَ مُورِدُ السُّؤَالِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الدَّلِيلِ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَظْنُونٌ; فَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَيَلْزَمُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ، وَالِاتِّفَاقُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى تَقْدِيمِ الْقَطْعِيِّ. وَلَكِنْ فِيهِ النَّظَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، إِذْ تَقَدَّمَ أَوَّلًا أَنَّ أَدِلَّةَ الذَّمِّ تَكَرَّرَ عُمُومُهَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَإِذَا تَعَاضَدَتْ أَدِلَّةُ الْعُمُومِ مِنْ [غَيْرِ] تَخْصِيصٍ; لَمْ يُقْبَلْ بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْصِيصُ. وَالثَّانِي: عَلَى التَّنَزُّلِ لِفَقْدِ التَّعَارُضِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الِاسْتِنَانَ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ بِمَا ثَبَتَ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي جَاءَ لِأَجْلِهِ الْحَدِيثُ هُوَ الصَّدَقَةُ الْمَشْرُوعَةُ; بِدَلِيلِ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:

قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مُضَرُ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ. فَقَمَصَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَآهُمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلَالًا، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1]. . . . . وَالْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]». " وَبَعْدُ: تَصَدَّقَ رَجُلٌ; مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ " حَتَّى قَالَ: " وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ". قَالَ: «فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ. قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً; فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً; كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ». فَتَأَمَّلُوا أَيْنَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً» "، وَ " «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً» "، تَجِدُوا ذَلِكَ فِيمَنْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، حَتَّى بِتِلْكَ الصُّرَّةِ، فَانْفَتَحَ بِسَبَبِهِ بَابُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَبْلَغِ،

فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ: «مَن سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً. .». . . الْحَدِيثَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ هَاهُنَا مِثْلُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ سُنَّةً، وَأَنَّ الْحَدِيثَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بِعْدِي» الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ «وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً»، فَجَعَلَ مُقَابِلَ تِلْكَ السُّنَّةِ الِابْتِدَاعَ، فَظَهَرَ أَنَّ السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ لَيْسَتْ بِمُبْتَدَعَةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي.» وَوَجْهُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَضَى عَلَى الصَّدَقَةِ أَوَّلًا ثُمَّ جَاءَ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيُّ بِمَا جَاءَ بِهِ فَانْثَالَ بَعْدَهُ الْعَطَاءُ إِلَى الْكِفَايَةِ، فَكَأَنَّهَا كَانَتْ سُنَّةً أَيْقَظَهَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِفِعْلِهِ، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ: مَنِ اخْتَرَعَ سُنَّةً وَابْتَدَعَهَا وَلَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً. وَنَحْوَ (هَذَا) الْحَدِيثِ فِي " رَقَائِقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ " مِمَّا يُوضِّحُ مَعْنَاهُ عَنْ حُذَيْفَةَ: قَالَ: «قَامَ سَائِلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا أَعْطَاهُ، فَأَعْطَاهُ الْقَوْمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنِ اسْتَنَّ خَيْرًا فَاسْتُنَّ بِهِ; فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ غَيْرَ مُنْتَقِصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ اسْتَنَّ شَرًّا فَاسْتُنَّ بِهِ; فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ تَبِعَهُ غَيْرَ مُنْتَقِصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا.»

فَإِذًا; قَوْلُهُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً» ; مَعْنَاهُ: مَنْ عَمِلَ بِسُنَّةٍ، لَا مَنِ اخْتَرَعَ سُنَّةً. وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيِ الْجَوَابِ: أَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً ; لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ مِنْ أَصْلٍ; لِأَنَّ كَوْنَهَا حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ; لِأَنَّ التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ مُخْتَصٌّ بِالشَّرْعِ لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِنَّمَا يَقُولُ بِهِ الْمُبْتَدِعَةُ أَعْنِي: التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ بِالْعَقْلِ فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ فِي الْحَدِيثِ إِمَّا حَسَنَةً فِي الشَّرْعِ وَإِمَّا قَبِيحَةً بِالشَّرْعِ، فَلَا يَصْدُقُ إِلَّا عَلَى مِثْلِ الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ، وَتَبْقَى السُّنَّةُ السَّيِّئَةُ مُنَزَّلَةٌ عَلَى الْمَعَاصِي الَّتِي ثَبَتَ بِالشَّرْعِ كَوْنُهَا مَعَاصِيَ; كَالْقَتْلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ آدَمَ، حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، وَعَلَى الْبِدَعِ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ ذَمُّهَا وَالنَّهْيُ عَنْهَا بِالشَّرْعِ; كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً»، فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ; لِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِيثِ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ; كَالْعُمُومَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ لَهَا أَسْبَابٌ. وَيَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً ; أَيْ: مَنِ اخْتَرَعَهَا، وَشَمَلَ مَا كَانَ مِنْهَا مُخْتَرَعًا ابْتِدَاءً مِنَ الْمَعَاصِي; كَالْقَتْلِ مِنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ، وَمَا كَانَ مُخْتَرَعًا بِحُكْمِ الْحَالِ، إِذْ كَانَتْ قَبْلُ مُهْمَلَةً مُتَنَاسَاةً، فَأَثَارَهَا عَمَلُ هَذَا الْعَامِلِ.

فَقَدْ عَادَ الْحَدِيثُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ جِهَةِ لَفْظِهِ، وَشَرْحِ الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ لَهُ. وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً، وَأَنَّ تَقْيِيدَ الْبِدْعَةِ بِالضَّلَالَةِ يُفِيدُ مَفْهُومًا، وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ لَمْ تُفِدْ مَفْهُومًا; وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَفْهُومِ عَلَى رَأْيِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ; فَإِنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى تَعْطِيلِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ; كَمَا دَلَّ دَلِيلُ تَحْرِيمِ الرِّبَا قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عَلَى تَعْطِيلِ الْمَفْهُومِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، وَلِأَنَّ الضَّلَالَةَ لَازِمَةٌ لِلْبِدْعَةِ بِإِطْلَاقٍ، بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا مَفْهُومَ أَيْضًا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْبِدْعَةِ الْمُحْدَثَةِ، وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَهِيَ مِنَ الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ الثَّابِتَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَهُمْ، وَلَكِنْ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ قَدْحًا عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ. أَمَّا جَمْعُ الْمُصْحَفِ وَقَصْرُ النَّاسِ عَلَيْهِ ; فَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، إِذْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، كُلُّهُا شَافٍ كَافٍ; تَسْهِيلًا عَلَى الْعَرَبِ الْمُخْتَلِفَاتِ اللُّغَاتِ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةً. إِلَّا أَنَّهُ عَرَضَ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ بَعْدَ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحٌ لِبَابِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ، حَيْثُ اخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ حَسْبَمَا يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ

تَعَالَى، فَخَافَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمُ اخْتِلَافَ الْأُمَّةِ فِي يَنْبُوعِ الْمِلَّةِ، فَقَصَرُوا النَّاسَ عَلَى مَا ثَبَتَ مِنْهَا فِي مَصَاحِفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاطَّرَحُوا مَا سِوَى ذَلِكَ، عِلْمًا بِأَنَّ مَا اطَّرَحُوهُ مُضَمَّنٌ فِيمَا أَثْبَتُوهُ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي يُؤَدَّى بِهَا الْقُرْآنُ. ثُمَّ ضَبَطُوا ذَلِكَ بِالرِّوَايَةِ حِينَ فَسَدَتِ الْأَلْسِنَةُ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَهْلُ الْعُجْمَةِ; خَوْفًا مِنْ فَتْحِ بَابٍ آخَرَ مِنَ الْفَسَادِ، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَ أَهْلُ الْإِلْحَادِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي الْقِرَاءَاتِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ فِي بَثِّ إِلْحَادِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنُهُمُ الدُّخُولُ مِنْ هَذَا الْبَابِ; دَخَلُوا مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالدَّعْوَى فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ حَسْبَمَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؟ فَحَقٌّ مَا فَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ لَهُ أصْلًا يَشْهَدُ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ لَا خِلَافَ فِيهِ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، وَأُمَّتُهُ مِثْلُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ»، وَأَشْبَاهِهِ. وَالتَّبْلِيغُ كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِكَيْفِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ; لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْكَنَ مِنَ الْحِفْظِ وَالتَّلْقِينِ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَتَقَيَّدُ حِفْظُهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالزَّيْغِ بِكَيْفِيَّةٍ دُونَ أُخْرَى، إِذَا لَمْ يَعُدْ عَلَى الْأَصْلِ [بِـ] الْإِبْطَالِ; كَمَسْأَلَةِ الْمُصْحَفِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ.

وَأَمَّا مَا سِوَى الْمُصْحَفِ; فَالْأَمْرُ فِيهِ أَسْهَلُ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ كِتَابَةُ الْعِلْمِ: فَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ حَدِيثًا مِنِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو; فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَكُنْتُ لَا أَكْتُبُ ". وَذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتَّابٌ يَكْتُبُونَ لَهُ الْوَحْيَ وَغَيْرَهُ; مِنْهُمْ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَمُعَاوِيَةُ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَيْضًا; فَإِنَّ الْكِتَابَةَ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ إِذَا تَعَيَّنَ لِضَعْفِ الْحِفْظِ وَخَوْفِ انْدِرَاسِ الْعِلْمِ، كَمَا خِيفَ دُرُوسُهُ حِينَئِذٍ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ اللَّخْمِيُّ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنَّمَا كَرِهَ الْمُتَقَدِّمُونَ كَتْبَ الْعِلْمِ لِأَمْرٍ آخَرَ لَا لِكَوْنِهِ بِدْعَةً، فَكُلُّ مِنْ سَمَّى كَتْبَ الْعِلْمِ بِدْعَةً; فَإِمَّا مُتَجَوِّزٌ، وَإِمَّا غَيْرُ عَارِفٍ بِمَوْضِعِ لَفْظِ الْبِدْعَةِ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالْبِدَعِ. وَإِنْ تَعَلَّقُ [وا] بِمَا وَرَدَ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا (غَيْرُ) صَحِيحٍ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ; فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُصْحَفِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهَا فِي صُورَةٍ; ثَبَتَ

اعْتِبَارُهَا مُطْلَقًا، وَلَا يَبْقَى بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ نِزَاعٌ إِلَّا فِي الْفُرُوعِ. وَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ; تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ». فَأَعْطَى الْحَدِيثُ كَمَا تَرَى أَنَّ مَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ لَاحِقٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ مَا سَنُّوهُ لَا يَعْدُو أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ; فَذَلِكَ سُنَّةٌ لَا بِدْعَةٌ، وَإِمَّا بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِهِ سُنَّةً، إِذْ قَدْ أَثْبَتَهُ كَذَلِكَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ، فَدَلِيلُهُمْ مِنَ الشَّرْعِ ثَابِتٌ، فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ اتِّبَاعَهُمْ بِالنَّهْيِ عَنِ الْبِدَعِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَوْ كَانَ عَمَلُهُمْ ذَلِكَ بِدْعَةً; لَوَقَعَ فِي الْحَدِيثِ التَّدَافُعُ. وَبِذَلِكَ يُجَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ; لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. (وَتَضْمِينُ الصُّنَّاعِ)، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ; فَلَمْ أَرَهُ ثَابِتًا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ سُلِّمَ; فَرَاجِعٌ إِمَّا لِأَصْلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ إِنْ لَمْ نَقُلْ: إِنَّ أَصْلَهُ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ مَقُولٌ بِهَا عِنْدَ السَّلَفِ مَعَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَا يَذُمُّونَ الْبِدَعَ وَأَهْلَهَا وَيَتَبَرَّؤُنَّ مِنْهُمْ; دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ

فصل الرد على زعمهم أن البدعة تنقسم خمسة أقسام

مُبَايِنَةٌ لَهَا، وَلَيْسَتْ مِنْهَا فِي شَيْءٍ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَابٌ تُذْكَرُ فِيهِ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى زَعْمِهِمْ أَنَّ الْبِدْعَةَ تَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ] وَمِمَّا يُورَدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَسَّمُوا الْبِدَعَ بِأَقْسَامِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْخَمْسَةِ، وَلَمْ يَعُدُّوهَا قِسْمًا وَاحِدًا مَذْمُومًا، فَجَعَلُوا مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ. وَبَسَطَ ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ بَسْطًا شَافِيًا وَأَصْلُ مَا أَتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْخُهُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَهَا أَنَا آتِي بِهِ عَلَى نَصِّهِ، فَقَالَ: " اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ فِيمَا رَأَيْتُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِنْكَارِ الْبِدَعِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَغَيْرُهُ، وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ وَأَنَّهَا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ وَاجِبٌ: وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْوُجُوبِ وَأَدِلَّتُهُ مِنَ الشَّرْعِ; كَتَدْوِينِ الْقُرْآنِ وَالشَّرَائِعِ إِذَا خِيفَ عَلَيْهَا الضَّيَاعُ، فَإِنَّ التَّبْلِيغَ لِمَنْ بَعْدَنَا مِنَ الْقُرُونِ وَاجِبٌ إِجْمَاعًا، وَإِهْمَالُ ذَلِكَ حَرَامٌ إِجْمَاعًا، فَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي وُجُوبِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي الْمُحَرَّمُ: وَهُوَ كُلُّ بِدْعَةٍ تَنَاوَلَتْهَا قَوَاعِدُ التَّحْرِيمِ وَأَدِلَّتُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، كَالْمُكُوسِ، وَالْمُحْدَثَاتِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَالْمُحْدَثَاتِ الْمُنَافِيَةِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ; كَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَتَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْ لَا يَصْلُحُ بِطَرِيقِ التَّوْرِيثِ، وَجَعْلِ الْمُسْتَنَدِ فِي ذَلِكَ كَوْنَ الْمَنْصِبِ كَانَ لِأَبِيهِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِأَهْلٍ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنَّ مِنَ الْبِدَعِ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ: وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ النَّدْبِ وَأَدِلَّتُهُ; كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، وَلِإِقَامَةِ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ; بِسَبَبِ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِعَظَمَةِ الْوُلَاةِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُعْظَمُ تَعْظِيمِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ وَسَبْقِ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ اخْتَلَّ النِّظَامُ، وَذَهَبَ ذَلِكَ الْقَرْنُ، وَجَدَّ قَرْنٌ آخَرُ لَا يُعَظِّمُونَ إِلَّا بِالصُّوَرِ، فَتَعَيَّنَ تَفْخِيمُ الصُّوَرِ حَتَّى تَحْصُلَ الْمَصَالِحُ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ، وَيَفْرِضُ لِعَامِلِهِ نِصْفَ شَاةٍ كُلَّ يَوْمٍ; لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهِ لَوْ عَمِلَهَا غَيْرُهُ لَهَانَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ وَلَمْ يَحْتَرِمُوهُ، وَتَجَاسَرُوا عَلَيْهِ بِالْمُخَالَفَةِ، فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَضَعَ غَيْرَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى تَحْفَظُ النِّظَامَ. وَلِذَلِكَ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ; وَجَدَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَدِ اتَّخَذَ الْحُجَّابَ، وَاتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ النَّفِيسَةَ وَالثِّيَابَ الْهَائِلَةَ الْعَلِيَّةَ، وَسَلَكَ مَا سَلَكَهُ الْمُلُوكُ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: " إِنَّا بِأَرْضٍ نَحْنُ فِيهَا مُحْتَاجُونَ لِهَذَا ". فَقَالَ لَهُ: " لَا آمُرُكَ وَلَا أَنْهَاكَ "، وَمَعْنَاهُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِحَالِكَ: هَلْ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَى هَذَا فَيَكُونُ، أَوْ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرُونِ وَأَحْوَالِ أَهْلِهَا، فَكَذَلِكَ يُحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ زَخَارِفَ وَسِيَاسَاتٍ لَمْ تَكُنْ قَدِيمَةً، وَرُبَّمَا وَجَبَتْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ: وَهِيَ مَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا; كَتَخْصِيصِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ أَوْ غَيْرِهَا بِنَوْعٍ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ [شَاهِدٌ] خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ، أَوْ لَيْلَةٍ بِقِيَامٍ.» وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ الْمَحْدُودَاتِ; كَمَا وَرَدَ فِي التَّسْبِيحِ عَقِبَ الْفَرِيضَةِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتَفْعَلُ مِائَةً، وَوَرَدَ صَاعٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَيَجْعَلُ - عَشَرَةَ أَصْوُعٍ ; بِسَبَبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا إِظْهَارُ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى الشَّارِعِ، وَقِلَّةُ أَدَبٍ مَعَهُ، بَلْ شَأْنُ الْعُظَمَاءِ إِذَا حَدَّدُوا شَيْئًا; وُقِفَ عِنْدَهُ وَعُدَّ الْخُرُوجُ عَنْهُ قِلَّةَ أَدَبٍ. وَالزِّيَادَةُ فِي الْوَاجِبِ أَوْ عَلَيْهِ أَشَدُّ فِي الْمَنْعِ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ. وَلِذَلِكَ نَهَى مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ إِيصَالِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ; لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّهَا مِنْ رَمَضَانَ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ فِي " مُسْنَدِهِ ": أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى الْفَرْضَ، وَقَامَ لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، «فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اجْلِسْ حَتَّى تَفْصِلَ بَيْنَ فَرْضِكَ وَنَفْلِكَ، فَهَكَذَا مَنْ قَبْلَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَابَ اللَّهُ بِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ; يُرِيدُ عُمَرَ: إِنَّ مَنْ قَبْلَنَا وَصَلُوُا النَّوَافِلَ بِالْفَرَائِضِ، وَاعْتَقَدُوا الْجَمِيعَ وَاجِبًا، وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ

لِلشَّرَائِعِ، وَهُوَ حَرَامٌ إِجْمَاعًا». الْقِسْمُ الْخَامِسُ: الْبِدَعُ الْمُبَاحَةُ: وَهِيَ مَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ الْإِبَاحَةِ وَقَوَاعِدُهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ، كَاتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ، فَفِي الْآثَارِ: أَوَّلُ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّخَاذُ الْمَنَاخِلِ ; لِأَنَّ تَلْيِينَ الْعَيْشِ وَإِصْلَاحَهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، فَوَسَائِلُهُ مُبَاحَةٌ. فَالْبِدْعَةُ إِذَا عُرِضَتْ تُعْرَضُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَأَدِلَّتِهِ، فَأَيُّ شَيْءٍ تَنَاوَلَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْقَوَاعِدِ أُلْحِقَتْ بِهِ، مِنْ إِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنْ نُظِرَ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهَا بِدْعَةً مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ فِيمَا يَتَقَاضَاهَا; كُرِهَتْ; فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي الِابْتِدَاعِ انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ. وَذَكَرَ شَيْخُهُ فِي " قَوَاعِدِهِ " فِي فَصْلِ الْبِدَعِ مِنْهَا بَعْدَمَا قَسَّمَ أَحْكَامَهَا إِلَى الْخَمْسَةِ: أَنَّ الطَّرِيقَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ; فَهِيَ وَاجِبَةٌ. . . . . . . إِلَى أَنْ قَالَ: " وَلِلْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ أَمْثِلَةٌ: (أَحَدُهَا): الِاشْتِغَالُ [بِـ] الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامُ رَسُولِهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ; لِأَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ. (وَالثَّانِي): حِفْظُ غَرِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ اللُّغَةِ. (وَالثَّالِثُ): تَدْوِينُ أُصُولِ الْفِقْهِ. (وَالرَّابِعُ): الْكَلَامُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنَ السَّقِيمِ.

ثُمَّ قَالَ: " وَلِلْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ أَمْثَالٌ: (مِنْهَا): مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ وَمَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ، وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ. قَالَ: وَلِلْمَنْدُوبِ أَمْثِلَةٌ: (مِنْهَا:) إِحْدَاثُ الرُّبَطِ وَالْمَدَارِسِ وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ، (وَمِنْهَا:) كُلُّ إِحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، (وَمِنْهَا) الْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامُ فِي الْجَدَلِ. (وَمِنْهَا) جَمْعُ الْمَحَافِلِ، لِلِاسْتِدْلَالِ فِي الْمَسَائِلِ، إِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ وَجْهُهُ تَعَالَى. قَالَ: وَلِلْمَكْرُوهَةِ؛ أَمْثِلَةٌ: (وَمِنْهَا:) زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ، وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ، وَأَمَّا تَلْحِينُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ أَلْفَاظُهُ عَنِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ. قَالَ: " وَلِلْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ أَمْثِلَةٌ: (وَمِنْهَا:) الْمُصَافَحَةُ عَقِبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، (وَمِنْهَا:) التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَلِبْسِ الطَّيَالِسَةِ وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، فَجَعَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنِ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ، وَجَعَلَهُ آخَرُونَ مِنَ السُّنَنِ الْمَفْعُولَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا بَعْدَهُ; كَالِاسْتِعَاذَةِ وَالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ "، انْتَهَى مَحْصُولُ مَا قَالَ. وَهُوَ يُصَرِّحُ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِأَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ بِأَقْسَامِ الشَّرِيعَةِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُحْمَلَ أَدِلَّةُ ذَمِّ الْبِدَعِ عَلَى الْعُمُومِ، بَلْ لَهَا مُخَصَّصَاتٌ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ أَمْرٌ مُخْتَرَعٌ، لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ هُوَ نَفْسُهُ مُتَدَافِعٌ; لِأَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ; لَا مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ قَوَاعِدِهِ. إِذْ لَوْ كَانَ هُنَالِكَ مَا يَدُلُّ مِنَ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ; لَمَا كَانَ ثَمَّ بِدْعَةٌ، وَلَكَانَ الْعَمَلُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا أَوِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا، فَالْجَمْعُ بَيْنَ [كَوْنِ] تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِدَعًا، وَبَيْنَ كَوْنِ الْأَدِلَّةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا أَوْ نَدْبِهَا أَوْ إِبَاحَتِهَا جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ. أَمَّا الْمَكْرُوهُ مِنْهَا وَالْمُحَرَّمُ; فَمُسَلَّمٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا بِدَعًا لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذْ لَوْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ أَمْرٍ أَوْ كَرَاهَتِهِ; لَمْ يُثْبِتْ بِذَلِكَ كَوْنَهُ بِدْعَةً; لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً; كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهَا، فَلَا بِدْعَةَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا ذَلِكَ التَّقْسِيمُ أَلْبَتَّةَ، إِلَّا الْكَرَاهِيَةَ وَالتَّحْرِيمَ حَسْبَمَا يُذْكَرُ فِي بَابِهِ. فَمَا ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى إِنْكَارِ الْبِدَعِ صَحِيحٌ، وَمَا قَسَّمَهُ فِيهَا غَيْرُ صَحِيحٍ. وَمِنَ الْعَجَبِ حِكَايَةُ الِاتِّفَاقِ مَعَ الْمُصَادَمَةِ بِالْخِلَافِ وَمَعَ مَعْرِفَتِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي خَرْقِ الْإِجْمَاعِ. وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا اتَّبَعَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ شَيْخَهُ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ; فَإِنَّ كَلَامَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ظَاهِرٌ مِنْهُ أَنَّهُ سَمَّى الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ بِدَعًا; بِنَاءً وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ أَعْيَانُهَا تَحْتَ النُّصُوصِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تُلَائِمُ قَوَاعِدَ

الشَّرْعِ فَمِنْ هُنَالِكَ جَعَلَ الْقَوَاعِدَ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى اسْتِحْسَانِهَا بِتَسْمِيَةٍ لَهَا بِلَفْظِ " الْبِدَعِ "، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ فُقْدَانِ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَاسْتِحْسَانِهَا مِنْ حَيْثُ دُخُولِهَا تَحْتَ الْقَوَاعِدِ، وَلَمَّا بَنَى عَلَى اعْتِمَادِ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ; اسْتَوَتْ عِنْدَهُ مَعَ الْأَعْمَالِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ النُّصُوصِ الْمُعَيَّنَةِ، وَصَارَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَسَمَّاهَا بِدَعًا فِي اللَّفْظِ; كَمَا سَمَّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْجَمْعَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةً، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا الْقَرَافِيُّ; فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي نَقْلِ تِلْكَ الْأَقْسَامِ عَلَى غَيْرِ مُرَادِ شَيْخِهِ، وَلَا عَلَى مُرَادِ النَّاسِ; لِأَنَّهُ خَالَفَ الْكُلَّ فِي ذَلِكَ التَّقْسِيمِ، فَصَارَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ. ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا قِسْمُ الْوَاجِبِ; فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ آنِفًا، فَلَا نُعِيدُهُ. وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْرِيمِ; فَلَيْسَ فِيهِ مَا هُوَ بِدْعَةٌ هَكَذَا بِإِطْلَاقٍ، بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ مُخَالَفَةٌ لِلْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْضُوعًا عَلَى مِيزَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اللَّازِمَةِ; كَالزَّكَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالنَّفَقَاتِ الْمُقَدَّرَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْهُ طَرَفٌ. فَإِذًا; لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ أَنْ يُقَسَّمَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَأَمَّا قِسْمُ الْمَنْدُوبِ; فَلَيْسَ مِنِ الْبِدَعِ بِحَالٍ:

وَتَبَيَّنَ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي مَثَّلَ لَهَا بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي رَمَضَانَ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقَدْ قَامَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ. فَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ; قَالَ: «صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ; لَمْ يَقُمْ بِنَا; فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ; قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ قَالَ: فَقَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ "، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ; لَمْ يَقُمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السَّحُورُ». ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ. وَنَحْوُهُ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ فِيهِ حَسَنٌ صَحِيحٌ. لَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا خَافَ افْتِرَاضَهُ عَلَى الْأُمَّةِ; أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى الْقَابِلَةَ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ أَوِ الرَّابِعَةَ; فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ; قَالَ: " قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَّا أَنِّي

خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ»، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. وَخَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. فَتَأَمَّلُوا; فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا سُنَّةً; فَإِنَّ قِيَامَهُ أَوَّلًا بِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَامِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً فِي رَمَضَانَ، وَامْتِنَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْخُرُوجِ خَشْيَةَ الِافْتِرَاضِ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ مُطْلَقًا; لِأَنَّ زَمَانَهُ كَانَ زَمَانَ وَحْيٍ وَتَشْرِيعٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ إِذَا عَمِلَ بِهِ النَّاسُ بِالْإِلْزَامِ، فَلَمَّا زَالَتْ عِلَّةُ التَّشْرِيعِ بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; رَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْجَوَازُ فَلَا نَاسِخَ لَهُ. وَإِنَّمَا لَمْ يُقِمْ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ قِيَامَ النَّاسِ آخِرَ اللَّيْلِ وَمَا هُمْ بِهِ عَلَيْهِ كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَهُ مِنْ جَمْعِهِمْ عَلَى إِمَامٍ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ذَكَرَهُ الطَّرْطُوشِيُّ، وَإِمَّا لِضِيقِ زَمَانِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ، مَعَ شُغْلِهِ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ آكَدُ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ. فَلَمَّا تَمَهَّدَ الْإِسْلَامُ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَأَى النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْزَاعًا كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ قَالَ: لَوْ جُمِعَتِ النَّاسُ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، فَلَمَّا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ; نَبَّهَ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُمْ آخِرَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ. ثُمَّ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ وَإِقْرَارِهِ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ.

وَقَدْ نَصَّ الْأُصُولِيُّونَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَمَّاهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدْعَةً وَحَسَّنَهَا بِقَوْلِهِ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَإِذَا ثَبَتَتْ بِدْعَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الشَّرْعِ; ثَبَتَ مُطْلَقُ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْبِدَعِ. فَالْجَوَابُ: إِنَّمَا سَمَّاهَا بِدْعَةً بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْحَالِ; مِنْ حَيْثُ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقَ أَنْ لَمْ تَقَعْ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَمَنْ سَمَّاهَا بِدْعَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ; فَلَا مُشَاحَةَ فِي الْأَسَامِي، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى جَوَازِ الِابْتِدَاعِ بِالْمَعْنَى الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ; لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ: فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ; خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ» ". وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ; رَحْمَةً بِالْأُمَّةِ; وَقَالَ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي»، وَوَاصَلَ النَّاسُ بَعْدَهُ; لِعِلْمِهِمْ بِوَجْهِ عِلَّةِ النَّهْيِ حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْثِلَةِ إِقَامَةُ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ. . . . إِلَخْ مَا قَالَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ بِسَبِيلٍ: أَمَّا أَوَّلًا; فَإِنَّ التَّجَمُّلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَالْمَنَاصِبِ الرَّفِيعَةِ مَطْلُوبٌ، وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةٌ يَتَجَمَّلُ بِهَا لِلْوُفُودِ، وَمِنَ الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ أَهْيَبُ وَأَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ التَّعْظِيمَ فِي الصُّدُورِ،

وَمِثْلُهُ التَّجَمُّلُ لِلِقَاءِ الْعُظَمَاءِ; كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ. وَأَمَّا ثَانِيًا; فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ; فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الشَّرْعِ. وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَيَفْرِضُ لِعَامِلِهِ نِصْفَ شَاةٍ; فَلَيْسَ فِيهِ تَفْخِيمُ صُورَةِ الْإِمَامِ وَلَا عَدَمُهُ، بَلْ فَرَضَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ خَاصَّةً، وَإِلَّا فَنِصْفُ شَاةٍ لِبَعْضِ الْعُمَّالِ قَدْ لَا يَكْفِيهِ; لِكَثْرَةِ عِيَالٍ، وَطُرُوقِ ضَيْفٍ، وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ لِبَاسٍ وَرُكُوبٍ وَغَيْرِهِمَا، فَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ أَكْلِ الشَّعِيرِ فِي الْمَعْنَى. وَأَيْضًا; فَإِنَّ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لَا تَجَمُّلَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظُّهُورِ لِلنَّاسِ. وَقَوْلُهُ: " فَكَذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَجْدِيدِ زَخَارِفَ وَسِيَاسَاتٍ لَمْ تَكُنْ قَدِيمَةً، وَرُبَّمَا وَجَبَتْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ " ; مُفْتَقِرٌ إِلَى التَّأَمُّلِ، فَفِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْفَصْلِ: " الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي الِابْتِدَاعِ "، مَعَ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَهُ. فَهَذَا كَلَامٌ يَقْتَضِي أَنَّ الِابْتِدَاعَ شَرٌّ كُلُّهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ فَرْضِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَجِبُ، وَإِذَا وَجَبَتْ; لَزِمَ الْعَمَلُ بِهَا، وَهِيَ لَمَّا فَاتَتْ ضِمْنَ الشَّرِّ كُلِّهِ; فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا الْأَمْرُ بِهَا وَالْأَمْرُ بِتَرْكِهَا، وَلَا يُمْكِنُ فِيهِمَا الِانْفِكَاكُ وَإِنْ كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ ; لِأَنَّ الْوُقُوعَ يَسْتَلْزِمُ الِاجْتِمَاعَ، وَلَيْسَا كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ; لِأَنَّ الِانْفِكَاكَ فِي

الْوُقُوعِ مُمْكِنٌ، وَهَاهُنَا إِذَا وَجَبَتْ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْخُصُوصِ، وَقَدْ فَرَضَ أَنَّ الشَّرَّ فِيهَا عَلَى الْخُصُوصِ; فَلَزِمَ التَّنَاقُضَ، وَأَمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ; فَإِنَّ تَجْدِيدَ الزَّخَارِفِ فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ مَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا السِّيَاسَاتُ; فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ; فَلَيْسَتْ بِبِدَعٍ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ; فَكَيْفَ يُنْدَبُ إِلَيْهَا؟ وَهِيَ مَسْأَلَةُ النِّزَاعِ. وَذَكَرَ فِي قِسْمِ الْمَكْرُوهِ أَشْيَاءَ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا كَلَامَ فِيهَا، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ أَنْ لَا يُزَادَ فِيهَا وَلَا يُنْقَصَ مِنْهَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا وَالنُّقْصَانَ مِنْهَا بِدَعٌ مُنْكَرَةٌ، فَحَالَتُهَا وَذَرَائِعُهَا يُحْتَاطُ بِهَا فِي جَانِبِ النَّهْيِ. وَذَكَرَ فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ مَسْأَلَةَ الْمَنَاخِلِ، وَلَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْبِدَعِ، بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ التَّنَعُّمِ، وَلَا يُقَالُ فِيمَنْ تَنَعَّمَ بِمُبَاحٍ: إِنَّهُ قَدِ ابْتَدَعَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إِذَا اعْتُبِرَ إِلَى جِهَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَأْكُولِ; لِأَنَّ الْإِسْرَافَ كَمَا يَكُونُ فِي جِهَةِ الْكَمِّيَّةِ، كَذَلِكَ يَكُونُ فِي جِهَةِ الْكَيْفِيَّةِ، فَالْمَنَاخِلُ لَا تَعْدُو الْقِسْمَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْإِسْرَافُ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ كُرِهَ، وَإِلَّا اغْتُفِرَ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ. وَمِمَّا يَحْكِيهِ أَهْلُ التَّذْكِيرِ مِنَ الْآثَارِ أَنَّ أَوَّلَ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: الْمَنَاخِلُ، وَالشِّبَعُ، وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ بِالْأُشْنَانِ بَعْدَ الطَّعَامِ، وَالْأَكْلُ عَلَى الْمَوَائِدِ. وَهَذَا كُلُّهُ إِنْ ثَبَتَ نَقْلًا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ

فصل الرد على ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام في تقسيم البدعة

وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ؛ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ، بَلْ هِيَ ضَلَالَةٌ، وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِذَلِكَ. [فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ] فَصْلٌ وَأَمَّا مَا قَالَهُ عِزُّ الدِّينِ؛ فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ: فَأَمْثِلَةُ الْوَاجِبِ مِنْهَا مِنْ قِبَلِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ كَمَا قَالَ ـ فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّلَفِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَا مِنَ الْبِدَعِ. أَمَّا هَذَا الثَّانِي فَقَدْ تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ لَوْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَسِيرُ إِلَى فَرِيضَةِ الْحَجِّ طَيَرَانًا فِي الْهَوَاءِ، أَوْ مَشْيًا عَلَى الْمَاءِ؛ لَمْ يُعَدَّ مُبْتَدِعًا بِمَشْيِهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَقَدْ حَصَلَ عَلَى الْكَمَالِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. عَلَى أَنَّ هَذِهِ أَشْيَاءُ قَدْ ذَمَّهَا بَعْضُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ، وَعَدَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا ابْتَدَعَ النَّاسُ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ إِجْمَاعُ النَّاسِ قَبْلَهُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ. عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ: أَنَّهُ ذُكِرَتِ الْعَرَبِيَّةُ، فَقَالَ: " أَوَّلُهَا كِبْرٌ، وَآخِرُهَا بَغْيٌ ". وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ قَالَ: " النَّحْوُ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ مِنَ الْقَلْبِ،

(وَ) مَنْ أَرَادَ أَنْ يَزْدَرِيَ النَّاسَ كُلَّهُمْ؛ فَلْيَنْظُرْ فِي النَّحْوِ ". وَنَقَلَ نَحْوًا مِنْ هَذِهِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى الذَّمِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذَمَّ النَّحْوُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بِدْعَةٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ أَمْرٌ زَائِدٌ؛ كَمَا يُذَمُّ سَائِرُ عُلَمَاءِ السُّوءِ؛ لَا لِأَجْلِ عُلُومِهِمْ، بَلْ لِأَجْلِ مَا يَحْدُثُ لَهُمْ بِالْعَرَضِ مِنَ الْكِبْرِ بِهِ وَالْعُجْبِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْعِلْمِ بِدْعَةً. فَتَسْمِيَةُ الْعُلُومِ الَّتِي يُكْتَسَبُ بِهَا أَمْرٌ مَذْمُومٌ بِدَعًا إِمَّا عَلَى الْمَجَازِ الْمَحْضِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهَا أَوَّلًا ثُمَّ احْتِيجَ بَعْدُ، أَوْ مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِمَوْضُوعِ الْبِدْعَةِ، إِذْ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُدَاخِلُ صَاحِبَهَا الْكِبْرُ وَالزَّهْوُ وَغَيْرُهُمَا، وَلَا يَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِذَمٍّ. وَمِمَّا حَكَى بَعْضُ هَذِهِ الْمُتَصَوِّفَةِ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ قَالَ: " الْعُلُومُ تِسْعَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا سُنَّةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَخَمْسَةٌ مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ فِيمَا سَلَفَ، فَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْمَعْرُوفَةُ: فَعِلْمُ الْإِيمَانِ، وَعِلْمُ الْقُرْآنِ، وَعِلْمُ الْآثَارِ، وَالْفَتَاوَى، وَأَمَّا الْخَمْسَةُ الْمُحْدَثَةُ: فَالنَّحْوُ، وَالْعَرُوضُ، وَعِلْمُ الْمَقَايِيسِ، وَالْجَدَلِ فِي الْفِقْهِ، وَعِلْمُ الْمَعْقُولِ بِالنَّظَرِ ". انْتَهَى. وَهَذَا ـ إِنْ صَحَّ نَقْلُهُ ـ فَلَيْسَ أَوَّلًا كَمَا قَالَ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَحْكُونَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بِوَضْعِ شَيْءٍ فِي النَّحْوِ حِينَ سَمِعَ أَعْرَابِيًّا قَارِئًا يَقْرَأُ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ـ؛ بِالْجَرِّ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مُلَيْكَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ أَنْ لَا يَقْرَأَ الْقُرْآنَ إِلَّا عَالِمٌ بِاللُّغَةِ، وَأَمَرَ أَبَا الْأَسْوَدِ، فَوَضَعَ النَّحْوَ. وَالْعَرُوضُ مِنْ جِنْسِ النَّحْوِ. وَإِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ صَارَ النَّحْوُ وَالنَّظَرُ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَقَاعِدَةُ الْمَصَالِحِ تَعُمُّ عُلُومَ الْعَرَبِيَّةِ، (أَيْ: تَكُونُ مِنْ) قَبِيلِ الْمَشْرُوعِ، فَهِيَ مِنْ جِنْسِ كَتْبِ الْمُصْحَفِ وَتَدْوِينِ الشَّرَائِعِ. وَمَا ذُكِرَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى ثَعْلَبًا، قَالَ: " كَانَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي الدِّينِ يَعِيبُ النَّحْوَ، وَيَقُولُ: أَوَّلُ تَعَلُّمِهِ شُغْلٌ، وَآخِرُهُ بَغْيٌ، يُزْدَرَى بِهِ النَّاسُ، فَقَرَأَ يَوْمًا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ؛ (بِرَفْعِ اللَّهِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ) فَقِيلَ لَهُ: كَفَرْتَ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ تَجْعَلُ اللَّهَ يَخْشَى الْعُلَمَاءَ؟ فَقَالَ: لَا طَعَنْتُ عَنْ عِلْمٍ يَؤُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا أَبَدًا. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ: " الْإِمَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى هُوَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ ". قَالَ: " وَقَدْ جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كَلَامٌ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَنْتَقِصُ النَّحْوِيِّينَ، فَاجْتَمَعَا فِي جِنَازَةٍ، فَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ؛ بِرَفْعِ اسْمِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ

ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: كَفَرْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ تَعِيبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ كِتَابَ اللَّهِ؟ فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ؛ فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ". وَأَمَّا عِلْمُ الْمَقَايِيسِ فَأَصْلُهُ فِي السُّنَّةِ، ثُمَّ فِي عِلْمِ السَّلَفِ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ قَدْ جَاءَ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ أَشْيَاءُ حَمَلُوهَا عَلَى الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَهُوَ عُمْدَةُ كُلِّ مُبْتَدَعٍ. - وَأَمَّا الْجَدَلُ فِي الْفِقْهِ؛ فَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَجْتَمِعُونَ لِلنَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا لِلتَّعَاوُنِ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ قَبِيلِ الْمُشَاوَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، فَكِلَاهُمَا مَأْمُورٌ بِهِ. - وَأَمَّا عِلْمُ الْمَعْقُولِ بِالنَّظَرِ؛ فَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى احْتَجَّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لِدِينِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ؛ كَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم: 40]، وَقَوْلُهُ: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [فاطر: 40] وَحَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحَاجَّتَهُ لِلْكَفَّارِ بِقَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] إِلَخْ.

وَفِي الْحَدِيثِ حِينَ ذُكِرَتِ الْعَدْوَى: «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟ ".» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ؟ - وَقَوْلُ عِزِّ الدِّينِ: " إِنَّ الرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَكَذَا (غَيْرُهُمْ) مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ "، غَيْرُ جَارٍ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، وَلَوْ سُلِّمَ؛ فَهُوَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ؛ فَظَاهِرَةٌ. وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْمَنْدُوبَةِ؛ فَذَكَرَ مِنْهَا إِحْدَاثَ الرُّبْطِ وَالْمَدَارِسِ: - فَإِنْ عَنَى بِالرُّبْطِ مَا بُنِيَ مِنَ الْحُصُونِ وَالْقُصُورِ قَصْدًا لِلرِّبَاطِ فِيهَا؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ بِشَرْعِيَّةِ الرِّبَاطِ وَلَا بِدْعَةَ فِيهِ. وَإِنْ عَنَى بِالرُّبْطِ مَا بُنِيَ لِالْتِزَامِ سُكْنَاهَا قَصْدَ الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ إِحْدَاثَ الرُّبْطِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُبْنَى تَدَيُّنًا لِلْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ - فِي زَعْمِ الْمُحْدَثِينَ - وَيُوقَفُ عَلَيْهَا أَوْقَافٌ يَجْرِي مِنْهَا عَلَى الْمُلَازِمِينَ لَهَا مَا يَقُومُ بِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ مِنْ طَعَامٍ أَوْ لِبَاسٍ وَغَيْرِهِمَا؛ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلٌ؛ دَخَلَتْ فِي الْحُكْمِ تَحْتَ قَاعِدَةِ الْبِدَعِ الَّتِي هِيَ ضَلَالَاتٌ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُنْدُوبًا إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ؛ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ، فَإِدْخَالُهَا تَحْتَ جِنْسِ الْبِدَعِ غَيْرُ صَحِيحٍ.

ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّصَوُّفِ تَعَلَّقُوا بِالصُّفَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهَا فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف: 28] الْآيَةَ، فَوَصَفَهُمْ (اللَّهُ) بِالتَّعَبُّدِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ قَصْدًا لِلَّهِ خَالِصًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ انْقَطَعُوا لِعِبَادَةِ اللَّهِ، لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ شَاغِلٌ، فَنَحْنُ إِنَّمَا صَنَعْنَا صُفَّةً مِثْلَهَا أَوْ تُقَارِبُهَا، يَجْتَمِعُ فِيهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْقَطِعَ إِلَى اللَّهِ وَيَلْتَزِمَ الْعِبَادَةَ، وَيَتَجَرَّدَ عَنِ الدُّنْيَا وَالشُّغْلِ بِهَا، وَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَنْقَطِعُوا عَنِ النَّاسِ، وَيَشْتَغِلُوا بِإِصْلَاحِ بَوَاطِنِهِمْ، وَيُوَلُّوا وُجُوهَهُمْ شَطْرَ الْحَقِّ، فَهُمْ عَلَى سِيرَةِ مَنْ تَقَدَّمَ. وَإِنَّمَا يُسَمَّى ذَلِكَ بِدْعَةً بِاعْتِبَارٍ مَا، بَلْ هِيَ سُنَّةٌ، وَأَهْلُهَا مُتَّبِعُونَ لِلسُّنَّةِ، فَهِيَ طَرِيقَةٌ خَاصَّةٌ لِأُنَاسٍ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: فِي كَمْ تَجِبُ الزَّكَاةُ؟ قَالَ: عَلَى مَذْهَبِنَا أَمْ عَلَى مَذْهَبِكُمْ؟ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا؛ فَالْكُلُّ لِلَّهِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِكُمْ؛ فَكَذَا وَكَذَا، أَوْ كَمَا قَالَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي جَرَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ هَكَذَا؛ غَيْرَ مُحَقَّقَةٍ، وَلَا مُنَزَّلَةٍ عَلَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا عَلَى أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَلَا بُدَّ مِنْ بَسْطِ طَرْفٍ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - بِحَوْلِ اللَّهِ - حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ فِيهَا لِمَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يُغَالِطْ نَفْسَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ احْتَالَ عَلَى نَفْسِهِ، فَهَاجَرَ بِمَالِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَاسْتَعَانَ بِهِ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي حِرْفَتِهِ الَّتِي كَانَ يَحْتَرِفُ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا - كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ هَاجَرَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَكَانَ خَمْسَةَ آلَافٍ -، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِخْلَاصِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ صِفْرَ الْيَدَيْنِ. وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْعَمَلَ فِي حَوَائِطِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ مَعَهُمْ كَبِيرُ فَضْلٍ فِي الْعَمَلِ. وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ أَشْرَكَهُمُ الْأَنْصَارُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ؛ بِدَلِيلِ قِصَّةِ بَنِي النَّضِيرِ؛ فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: «لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِيَ النَّضِيرِ؛ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: " إِنْ شِئْتُمْ قَسَّمْتُهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَتَرَكْتُمْ نَصِيبَكُمْ فِيهَا وَخَلَّى الْمُهَاجِرُونَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ دُورِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؛ فَإِنَّهُمْ عِيَالٌ عَلَيْكُمْ "، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ غَيْرَ أَنَّهُ أَعْطَى أَبَا دُجَانَةَ» وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ فَقُرَاءُ. وَقَدْ قَالَ الْمُهَاجِرُونَ أَيْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ، وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ؛ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ - يَعْنِي: الْأَنْصَارَ -؛ لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ، حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا؛ مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ».

(وَمِنْهُمْ) مَنْ كَانَ يَلْتَقِطُ نَوَى التَّمْرِ، فَيَرُضُّهَا، وَيَبِيعُهَا عَلَفًا لِلْإِبِلِ، وَيَتَقَوَّتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ. (وَمِنْهُمْ) مَنْ لَمْ يَجِدْ وَجْهًا يَكْتَسِبُ بِهِ لِقُوتٍ وَلَا لِسُكْنَى، فَجَمَعَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُفَّةٍ كَانَتْ فِي مَسْجِدِهِ، وَهِيَ سَقِيفَةٌ كَانَتْ مِنْ جُمْلَتِهِ، إِلَيْهَا يَأْوُونَ، وَفِيهَا يَقْعُدُونَ، إِذْ لَمْ يَجِدُوا مَالًا وَلَا أَهْلًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُضُّ النَّاسَ عَلَى إِعَانَتِهِمْ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ وَصَفَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَهُوَ أَعْرَفُ النَّاسِ بِهِمْ؛ قَالَ فِي الصَّحِيحِ: " وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ، لَا يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةٌ؛ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَا يَتَنَاوَلُ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ؛ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَأَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا ". فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ، وَحَكَمَ لَهُمْ - كَمَا تَرَى - بِحُكْمِ الْأَضْيَافِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الضِّيَافَةُ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ نَزَلَ بِالْبَادِيَةِ؛ لَا يَجِدُ مَنْزِلًا وَلَا طَعَامًا لِشِرَاءٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْوَبَرِ أَسْوَاقٌ يَنَالُ مِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ يُشْتَرَى، وَلَا خَانَاتٌ يُأْوَى إِلَيْهَا، فَصَارَ الضَّيْفُ مُضْطَرًّا وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ، فَوَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْمَوْضِعِ (ضِيَافَتُهُ وَإِيوَاؤُهُ) حَتَّى يَرْتَحِلَ، فَإِنْ كَانَ لَا مَالَ لَهُ؛ فَذَلِكَ أَحْرَى. فَكَذَلِكَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَمَّا لَمْ يَجِدُوا مَنْزِلًا آوَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَجِدُوا، كَمَا أَنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَجِدُوا مَا يَقُوتُهُمْ نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِعَانَتِهِمْ.

وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] إِلَى قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] الْآيَةَ. فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَوْصَافٍ؛ مِنْهَا: أَنَّهُمْ أَحُصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ أَيْ: مُنِعُوا وَحُبِسُوا حِينَ قَصَدُوا الْجِهَادَ مَعَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّ الْعُذْرَ أَحْصَرَهُمْ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ؛ لِاتِّخَاذِ الْمَسْكَنِ وَلَا لِلْمَعَاشِ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ كَانَ أَحَاطَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَا هُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى يَكْسِبُوا مِنْ غَنَائِمِهِ، وَلَا هُمْ يَتَفَرَّغُونَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا لِخَوْفِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلِضَعْفِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَلَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا لِلْكَسْبِ أَصْلًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 273] أَنَّهُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارُوا زَمْنَى. وَفِيهِمْ أَيْضًا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8]. أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ: أُخْرِجُوا، وَلَمْ يَقُلْ: خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ؟! فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجُوا اخْتِيَارًا، فَبَانَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَرَجُوا اضْطِرَارًا، وَلَوْ وَجَدُوا سَبِيلًا (أَنْ) لَا يَخْرُجُوا؛ لَفَعَلُوا؟ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَالِ اخْتِيَارًا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ.

فَلِأَجْلٍ ذَلِكَ بَوَّأَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّفَّةَ، فَكَانُوا فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا بَيْنَ طَالِبٍ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ - كَأَبِي هُرَيْرَةَ؛ فَإِنَّهُ قَصَرَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: " وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا؟ -، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَفَرَّغُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ غَزَا مَعَهُ، وَإِذَا أَقَامَ؛ أَقَامَ مَعَهُ. حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَصَارُوا إِلَى مَا صَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ وَمَالٌ مِنْ طَلَبِ الْمَعَاشِ وَاتِّخَاذِ الْمَسْكَنِ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي حَبَسَهُمْ فِي الصُّفَّةِ قَدْ زَالَ، فَرَجَعُوا إِلَى الْأَصْلِ لَمَّا زَالَ الْعَارِضُ. فَالَّذِي حَصَلَ: أَنَّ الْقُعُودَ فِي الصُّفَّةِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ، وَلَا بِنَاءَ الصُّفَّةِ لِلْفُقَرَاءِ مَقْصُودًا؛ بِحَيْثُ يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَا هِيَ رُتْبَةٌ شَرْعِيَّةٌ تُطْلَبُ؛ بِحَيْثُ يُقَالُ: إِنَّ تَرْكَ الِاكْتِسَابِ وَالْخُرُوجَ عَنِ الْمَالِ وَالِانْقِطَاعَ إِلَى الزَّوَايَا يُشْبِهُ حَالَةَ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَهِيَ الرُّتْبَةُ الْعُلْيَا؛ لِأَنَّهَا تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ صُفَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52]. . . الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف: 28] الْآيَةَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ، بَلْ كَانَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصُّفَّةِ لَمْ يَدُمْ، وَلَمْ يُثَابِرْ أَهْلُهَا وَلَا غَيْرُهُمْ عَلَى الْبَقَاءِ فِيهَا، وَلَا عُمِّرَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ ثُبُوتُ تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لَكَانُوا هُمْ أَحَقَّ بِفَهْمِهَا أَوَّلًا، ثُمَّ بِإِقَامَتِهَا وَالْمُكْثِ فِيهَا عَنْ كُلِّ شُغْلٍ، وَأَوْلَى بِتَجْدِيدِ مَعَاهِدِهَا، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ. فَالتَّشَبُّهُ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ إِذًا فِي إِقَامَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَاتِّخَاذِ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ لَا يَصِحُّ، فَلْيَفْهَمِ الْمُوَفَّقُ هَذَا الْمَوْضِعَ؛ فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ قَدَمٍ لِمَنْ لَمْ يَأْخُذْ دِينَهُ عَنِ السَّلَفِ الْأَقْدَمِينَ وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ. وَلَا يَظُنُّ الْعَاقِلُ أَنَّ الْقُعُودَ عَنِ الْكَسْبِ وَلُزُومَ الرَّبْطِ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ أَوْ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، وَلَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا. وَيَكْفِي الْمِسْكِينَ الْمُغْتَرَّ بِعَمَلِ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ صُدُورَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ - الْمُتَّسِمِينَ بِالصُّوفِيَّةِ - لَمْ يَتَّخِذُوا رِبَاطًا وَلَا زَاوِيَةً، وَلَا بَنَوْا بِنَاءً يُضَاهُونَ بِهِ الصُّفَّةَ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى التَّعَبُّدِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا؛ كَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَالْجُنَيْدِ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ، وَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ، وَالشِّبْلِيِّ. . . وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَابَقَ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ. وَإِنَّمَا مَحْصُولُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ خَالَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَالَفُوا السَّلَفَ الصَّالِحَ، وَخَالَفُوا شُيُوخَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي انْتَسَبُوا إِلَيْهَا، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ. - وَأَمَّا الْمَدَارِسُ؛ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ يُقَالُ فِي مِثْلِهِ: بِدْعَةٌ؛

إِلَّا عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْرَأَ الْعِلْمُ إِلَّا بِالْمَسَاجِدِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ، بَلِ الْعِلْمُ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ يُبَثُّ بِكُلِّ مَكَانٍ؛ مِنْ مَسْجِدٍ، أَوْ مَنْزِلٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ حَضَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى فِي الْأَسْوَاقِ، فَإِذَا أَعَدَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مَدْرَسَةً يُعِينُ بِإِعْدَادِهَا الطَّلَبَةَ؛ فَلَا يَزِيدُ ذَلِكَ عَلَى إِعْدَادِهَا لَهَا مَنْزِلًا مِنْ مَنَازِلِهِ، أَوْ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَأَيْنَ مَدْخَلُ الْبِدْعَةِ هُاهُنَا؟! وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْبِدْعَةَ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالتَّخْصِيصُ هَاهُنَا لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ تَعْبُدِيٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْيِينٌ بِالْحَبْسِ؛ كَمَا تَتَعَيَّنُ سَائِرُ الْأَمْوَالِ الْمُحْبَسَةِ، وَتَخْصِيصُهَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ. بِخِلَافِ الرُّبْطِ؛ فَإِنَّهَا خُصَّتْ تَشْبِيهًا بِالصُّفَّةِ بِهِمَا لِلتَّعَبُّدِ، فَصَارَتْ تَعَبُّدِيَّةً بِالْقَصْدِ وَالْعُرْفِ، حَتَّى إِنَّ سَاكِنِيهَا مُبَايِنُونَ لِغَيْرِهِمْ فِي النِّحْلَةِ وَالْمَذْهَبِ وَالزِّيِّ وَالِاعْتِقَادِ. - وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ؛ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى إِصْلَاحِ الطُّرُقِ، وَإِزَالَةِ الْمَشَقَّةِ عَنْ سَالِكِيهَا، وَلَهُ أَصْلٌ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ فِي الْبِدَعِ بِحَالٍ. - وَقَوْلُهُ: " وَكُلُّ إِحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ " فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَلَا يَخْلُو الْإِحْسَانُ الْمَفْرُوضُ أَنْ يُفْهَمَ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ تَعَبُّدِيٍّ أَوَّلًا. فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالتَّعَبُّدِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ؛ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ.

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي أَصْلِ التَّشْرِيعِ بِأَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ؛ فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ غَيْرُ بِدْعَةٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ؛ إِلَّا عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَخْرُجَ أَصْلًا شَرْعِيًّا مِثْلَ الْإِحْسَانِ الْمُتْبَعِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَالصَّدَقَةِ مِنَ الْمِدْيَانِ الْمَضْرُوبِ عَلَى يَدِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، (وَ) يَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَعْصِيَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَلْتَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَعَدَّى؛ بِحَيْثُ يَفْهَمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِالْتِزَامُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِدْعَةً مَذْمُومَةً وَضَلَالَةً، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا تَكُونُ إِذًا مُسْتَحَبَّةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْرِيَ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى وَغَيْرَهُ بِدْعَةً مَذْمُومَةً؛ كَمَنْ كَرِهَ تَنْخِيلَ الدَّقِيقِ فِي الْعَقِيقَةِ، فَلَا تَكُونُ عِنْدَهُ الْبِدْعَةُ مُبَاحَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً. - وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا. - وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي دَقَائِقَ التَّصَوُّفِ؛ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا هُوَ مِمَّا صَحَّ بِالدَّلِيلِ بِإِطْلَاقٍ، بَلِ الْأَمْرُ يَنْقَسِمُ. وَلَفْظُ التَّصَوُّفِ لَا بُدَّ مِنْ شَرْحِهِ أَوَّلًا حَتَّى يَقَعَ الْحُكْمُ عَلَى أَمْرٍ مَفْهُومٍ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُجْمَلٌ عِنْدِ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا قَالَ فِيهِ الْمُتَقَدِّمُونَ. وَحَاصِلُ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ لَفْظُ التَّصَوُّفِ عِنْدَهُمْ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: التَّخَلُّقُ بِكُلِّ خُلُقٍ سَنِيٍّ، وَالتَّجَرُّدُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيٍّ.

وَالْآخَرُ: أَنَّهُ الْفَنَاءُ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْبَقَاءُ لِرَبِّهِ. وَهُمَا فِي التَّحْقِيقِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ؛ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَصْلُحُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنِ الْبِدَايَةِ وَالْآخِرَ يَصْلُحُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنِ النِّهَايَةِ، وَكِلَاهُمَا اتِّصَافٌ؛ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يُلْزِمُهُ الْحَالُ وَالثَّانِي يُلْزِمُهُ الْحَالُ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ فِيهِمَا بِلَفْظٍ آخَرَ؛ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ عَمَلًا تَكْلِيفِيًّا وَالثَّانِي نَتِيجَتَهُ، وَيَكُونُ الْأَوَّلُ اتِّصَافَ الظَّاهِرِ وَالثَّانِي اتِّصَافَ الْبَاطِنِ، وَمَجْمُوعُهُمَا هُوَ التَّصَوُّفُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَالتَّصَوُّفُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا بِدْعَةَ فِي الْكَلَامِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى تَفَقُّهٍ يَنْبَنِي عَلَيْهِ: الْعَمَلُ، وَتَفْصِيلُ آفَاتِهِ وَعَوَارِضِهِ، وَأَوْجُهِ تَلَافِي الْفَسَادِ الْوَاقِعِ فِيهِ بِالْإِصْلَاحِ، وَهُوَ فِقْهٌ صَحِيحٌ، وَأُصُولُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَاهِرَةٌ، فَلَا يُقَالُ فِي مَثَلِهِ: بِدْعَةٌ؛ إِلَّا إِذَا أَطْلَقَ عَلَى فُرُوعِ الْفِقْهِ الَّتِي لَمْ يُلْفَ مِثْلُهَا فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ: أَنَّهَا بِدْعَةٌ؛ كَفُرُوعِ أَبْوَابِ السَّلَمِ، وَالْإِجَارَاتِ، وَالْجِرَاحِ، وَمَسَائِلِ السَّهْوِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَاتِ، وَبُيُوعِ الْآجَالِ. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُلَمَاءِ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْبِدْعَةِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِيمَا سَلَفَ، وَإِنْ دَقَّتْ مَسَائِلُهَا، فَكَذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى دَقَائِقَ فُرُوعِ الْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: أَنَّهَا بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَرْجِعُ إِلَى أُصُولٍ شَرْعِيَّةٍ. وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي؛ فَهُوَ عَلَى أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: يَرْجِعُ إِلَى الْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ عَلَى السَّالِكِينَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ نُورُ التَّوْحِيدِ الْوِجْدَانِيُّ، فَيُتَكَلَّمُ فِيهَا بِحَسَبَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي النَّازِلَةِ الْخَاصَّةِ؛ رُجُوعًا إِلَى الشَّيْخِ الْمُرَبِّي، وَمَا بَيَّنَ لَهُ فِي تَحْقِيقِ

مَنَاطِهَا بِفِرَاسَتِهِ الصَّادِقَةِ فِي السَّالِكِ بِحَسَبِهِ وَبِحَسَبِ الْعَارِضِ، فَيُدَاوِيهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ بِإِصْلَاحِ مَقْصِدِهِ إِنْ عَرَضَ فِيهِ الْعَارِضُ، فَقَلَّمَا يَطْرَأُ الْعَارِضُ إِلَّا عِنْدَ الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بُنِي عَلَيْهَا فِي بِدَايَتِهِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّمَا حُرِمُوا الْوُصُولَ بِتَضْيِيعِهِمُ الْأُصُولَ. فَمِثْلُ هَذَا لَا بِدْعَةَ فِيهِ؛ لِرُجُوعِهِ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ: فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا الشَّيْءَ يَعْظُمُ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهِ - أَوِ الْكَلَامُ بِهِ - مَا نُحِبُّ أَنَّ لَنَا وَأَنَّا تَكَلَّمْنَا بِهِ. قَالَ: " أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: " ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يَعْرِضُ بِالشَّيْءِ لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؟ فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ".» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مِثْلِهِ: «إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَقُلْ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ». . . إِلَى أَشْبَاهِ

ذَلِكَ، وَهُوَ صَحِيحٌ مَلِيحٌ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي الْكَرَامَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِمَّا هُوَ خَارِقٌ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ غَيْرُ خَارِقٍ، وَمَا هُوَ مِنْهَا يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ نَفْسِيٍّ أَوْ شَيْطَانِيٍّ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا. . . فَهَذَا النَّظَرُ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ النَّظَرُ فِي الْمُعْجِزَاتِ وَشُرُوطِهَا، وَالْفَرْقِ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالْمُتَنَبِّي، وَهُوَ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ. وَالثَّالِثُ: مَا يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي مُدْرَكَاتِ النُّفُوسِ؛ مِنَ الْعَالِمِ الْغَائِبِ، وَأَحْكَامِ التَّجْرِيدِ النَّفْسِيِّ، وَالْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَالنُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَهُوَ بِلَا شَكٍّ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ إِنْ وَقَعَ النَّظَرُ فِيهِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ بِقَصْدِ جَعْلِهِ عِلْمًا يُنْظَرُ فِيهِ وَفَنًّا يُشْتَغَلُ بِتَحْصِيلِهِ بِتَعَلُّمٍ أَوْ رِيَاضَةٍ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَظَرٌ فَلْسَفِيٌّ، إِنَّمَا يَشْتَغِلُ بِاسْتِجْلَابِهِ وَالرِّيَاضَةِ لِاسْتِفَادَتِهِ أَهْلُ الْفَلْسَفَةِ، الْخَارِجُونَ عَنِ السُّنَّةِ، الْمَعْدُودُونَ فِي الْفَرْقِ الضَّالَّةِ، فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ مُبَاحًا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ. نَعَمْ؛ قَدْ يَعْرِضُ مِثْلُهُ لِلسَّالِكِ، فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ مَعَ الْمُرَبِّي، حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْ طَرِيقِهِ، وَيُبْعِدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَرِيقِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِمَالَةِ مَقْصِدِ السَّالِكِ إِلَى أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ؛ زِيَادَةً إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ بِتَتَبُّعِهِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، إِذِ الطَّرِيقُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِخْلَاصِ التَّامِّ بِالتَّوَجُّهِ الصَّادِقِ، وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ عَنْ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَغْيَارِ، وَفَتْحِ بَابِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الضَّرْبِ مُضَادٌّ لِذَلْكِ كُلِّهِ.

وَالرَّابِعُ: يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي حَقِيقَةِ الْفَنَاءِ مِنْ حَيْثُ الدُّخُولُ فِيهِ، وَالِاتِّصَافُ بِأَوْصَافِهِ، وَقَطْعُ أَطْمَاعِ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ جِهَةٍ تُوَصِّلُ إِلَى غَيْرِ الْمَطْلُوبِ وَإِنْ دَقَّتْ؛ فَإِنَّ أَهْوَاءَ النُّفُوسِ تَدُقُّ وَتَسْرِي مَعَ السَّالِكِ فِي الْمَقَامَاتِ، فَلَا يَقْطَعُهَا إِلَّا مَنْ حَسَمَ مَادَّتَهَا وَبَتَّ طَلَاقَهَا، وَهُوَ بَابُ الْفَنَاءِ الْمَذْكُورِ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِقْهِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ الْبِدَعِ؛ لِدُخُولِهِ تَحْتَ جِنْسِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ - وَإِنْ دَقَّ - رَاجِعٌ إِلَى مَا جَلَّ مِنَ الْفِقْهِ، وَدِقَّتُهُ وَجِلَّتُهُ إِضَافِيَّانِ، وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ. وَثَمَّ أَقْسَامٌ أُخَرُ؛ جَمِيعُهَا إِمَّا يَرْجِعُ إِلَى فِقْهِ شَرْعِيٍّ حَسَنٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِمَّا إِلَى ابْتِدَاعٍ لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ وَهُوَ قَبِيحٌ فِي الشَّرْعِ. وَأَمَّا الْجَدَلُ وَجَمْعُ الْمَحَافِلِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَسَائِلِ؛ فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ. وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ؛ فَعُدَّ مِنْهَا: زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ، وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ، وَتَلْحِينُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ أَلْفَاظُهُ عَنِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ، فَإِنْ أَرَادَ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ أَمْرٍ آخَرَ؛ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنْ أَرَادَ مَعَ اقْتِرَانِ قَصْدِ التَّشْرِيعِ؛ فَصَحِيحٌ مَا قَالَ، إِذِ الْبِدْعَةُ لَا تَكُونُ بِدْعَةً إِلَّا مَعَ اقْتِرَانِ هَذَا الْقَصْدِ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ؛ فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا غَيْرُ بِدَعٍ. وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ؛ فَعُدَّ مِنْهَا الْمُصَافَحَةُ عَقِبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، أَمَّا أَنَّهَا بِدَعٌ؛ فَمُسَلَّمٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا مُبَاحَةٌ؛ فَمَمْنُوعٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِهَا، بَلْ هِيَ مَكْرُوهَةٌ، إِذْ يُخَافُ

فصل الرد على قولهم أن الصوفية هم المشهورون باتباع السنة المقتدون بأفعال السلف

بِدَوَامِهَا إِلْحَاقُهَا [بِـ] الصَّلَوَاتِ الْمَذْكُورَةِ؛ كَمَا خَافَ مَالِكٌ وَصْلَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بِرَمَضَانَ لِإِمْكَانِ أَنْ يَعُدَّهَا مِنْ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ. فَقَدْ قَالَ الْقَرَافِيُّ: " قَالَ لِي الشَّيْخُ زَكِيُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَظِيمِ الْمُحَدِّثُ: إِنَّ الَّذِي خَشِيَ مِنْهُ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ وَقَعَ بِالْعَجَمِ، فَصَارُوا يَتْرُكُونَ الْمُسَحِّرِينَ عَلَى عَادَاتِهِمْ وَالْبَوَّاقِينَ وَشَعَائِرَ رَمَضَانَ إِلَى آخَرِ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ، فَحِينَئِذٍ يُظْهِرُونَ شَعَائِرَ الْعِيدِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ شَاعَ عِنْدَ عَامَّةِ مِصْرَ أَنَّ الصُّبْحَ رَكْعَتَانِ؛ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةَ؛ فَإِنَّهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِمَامَ يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةِ السَّجْدَةِ يَوْمَ الْجُمْعَةَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَيَسْجُدُ، فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ تِلْكَ رَكْعَةٌ أُخْرَى وَاجِبَةٌ. قَالَ: " وَسَدُّ هَذِهِ الذَّرَائِعِ مُتَعَيَّنٌ فِي الدِّينِ، وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ شَدِيدَ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا ". وَعَدَّ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ التَّوَسُّعَ فِي الْمَلْذُوذَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. وَالْحَاصِلُ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِيهِ قَدْ وَضَحَ مِنْهُ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَنْقَسِمُ إِلَى ذَلِكَ الِانْقِسَامِ، بَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ: إِمَّا كَرَاهَةً، وَإِمَّا تَحْرِيمًا؛ حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُمُ الْمَشْهُورُونَ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ الْمُقْتَدُونَ بِأَفْعَالِ السَّلَفِ] فَصْلٌ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّفِينَ: أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُمُ الْمَشْهُورُونَ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، الْمُقْتَدُونَ بِأَفْعَالِ السَّلَفِ، الْمُثَابِرُونَ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ

عَلَى الِاقْتِدَاءِ التَّامِّ وَالْفِرَارِ عَمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا طَرِيقَتَهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَى: أَكْلِ الْحَلَالِ، وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْإِخْلَاصِ. وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَكِنَّهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ يَسْتَحْسِنُونَ أَشْيَاءَ؛ لَمْ تَأْتِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا عَمِلَ بِأَمْثَالِهَا السَّلَفُ، فَيَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهَا، وَيُثَابِرُونَ عَلَيْهَا، وَيُحَكِّمُونَهَا طَرِيقًا لَهُمْ مَهِيعًا وَسُنَّةً لَا تُخْلَفُ، بَلْ رُبَّمَا أَوْجَبُوهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَلَوْلَا أَنَّ فِي ذَلِكَ رُخْصَةً؛ لَمْ يَصِحَّ لَهُمْ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْتَمِدُونَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى: الْكَشْفِ، وَالْمُعَايَنَةِ، وَخَرْقِ الْعَادَةِ، فَيَحْكُمُونَ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَيُثْبِتُونَ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْدَامَ وَالْإِحْجَامَ: كَمَا يُحْكَى عَنِ الْمُحَاسَبِيِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَنَاوَلَ طَعَامًا فِي شُبْهَةٍ؛ يَنْبِضُ لَهُ عِرْقٌ فِي إِصْبَعِهِ، فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ: " اعْتَقَدْتُ وَقْتًا أَنْ لَا آكُلَ إِلَّا مِنْ حَلَالٍ، فَكُنْتُ أَدُورُ فِي الْبَرَارِيِّ، فَرَأَيْتُ شَجَرَةَ تِينٍ، فَمَدَدْتُ يَدَيْ إِلَيْهَا لِآكُلَ، فَنَادَتْنِي الشَّجَرَةُ: احْفَظْ عَلَيْكَ عَهْدَكَ، لَا تَأْكُلْ مِنِّي؛ فَإِنِّي لِيَهُودِيٍّ ". وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ: " دَخَلْتُ خَرِبَةً فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ بِاللَّيْلِ، فَإِذَا فِيهَا سَبْعٌ عَظِيمٌ، فَخِفْتُ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: اثْبُتْ! فَإِنَّ حَوْلَكَ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلِكٍ يَحْفَظُونَكَ ". فَمِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِذَا عُرِضَتْ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ؛ ظَهَرَ عَدَمُ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا، إِذِ الْمُكَاشَفَةُ أَوِ الْهَاتِفُ الْمَجْهُولُ أَوْ تَحْرِيكُ بَعْضِ الْعُرُوقِ لَا يَدُلُّ

عَلَى التَّحْلِيلِ وَلَا التَّحْرِيمِ؛ لِإِمْكَانِهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِلَّا؛ لَوْ حَضَرَ ذَلِكَ حَاكِمٌ أَوْ غَيْرُهُ؛ لَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يَنْدُبُ الْبَحْثُ عَنْهُ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنْ يَدِ وَاضِعِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ، وَلَوْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِأَنَّ فُلَانًا قَتَلَ الْمَقْتُولَ الْفُلَانِيَّ، أَخَذَ مَالَ فُلَانٍ، أَوْ زَنَى، أَوْ سَرَقَ؛ أَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ؟ وَيَكُونُ شَاهِدًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ؟ بَلْ لَوْ تَكَلَّمَتِ شَجْرَةٌ أَوْ حَجُرٌ بِذَلِكَ أَكَانَ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِهِ أَوْ يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؟! هَذَا مِمَّا لَا يُعْهَدُ فِي الشَّرْعِ مِثْلُهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَوْ أَنَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ادَّعَى الرِّسَالَةَ، وَقَالَ: إِنَّنِي إِنْ أَدْعُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتُكَلِّمَنِي، ثُمَّ دَعَاهَا، فَأَتَتْ وَكَلَّمَتْهُ وَقَالَتْ: إِنَّكَ كَاذِبٌ؛ لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ، لَا دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحَدَّى بِأَمْرٍ جَاءَهُ عَلَى وَفْقِ مَا ادَّعَاهُ، وَكَوْنُ الْكَلَامِ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الدَّعْوَى لَا حُكْمٌ لَهُ. فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ انْقِبَاضَ الْعِرْقِ لَازِمٌ لِكَوْنِ الطَّعَامِ حَرَامًا؛ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ مَعْلُومٌ، فَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْخَوَاصِّ؛ فَإِنَّ التَّوَقِّيَ مِنْ مَظَانِّ الْمُهْلِكَاتِ مَشْرُوعٌ، فَخِلَافُهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ مُعْتَادٌ فِي أَهْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّجَرَةِ لِلشِّبْلِيِّ مِنْ جُمْلَةِ الْخَوَارِقِ، وَبِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْهُودٍ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ طَرِيقَهُمْ عَلَى اجْتِنَابِ الرُّخَصِ جُمْلَةً، حَتَّى إِنَّ شَيْخَهُمُ الَّذِي مَهَّدَ لَهُمُ الطَّرِيقَةَ أَبَا الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيَّ قَالَ فِي بَابِ وَصِيَّةِ الْمُرِيدِينَ مِنْ رِسَالَتِهِ:

" إِنِ اخْتَلَفَ عَلَى الْمُرِيدِ فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ؛ يَأْخُذُ بِالْأَحْوَطِ، وَيَقْصِدُ أَبَدًا الْخُرُوجَ عَنِ الْخِلَافِ؛ فَإِنَّ الرُّخَصَ فِي الشَّرِيعَةِ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَصْحَابِ الْحَوَائِجِ وَالْأَشْغَالِ، وَهَؤُلَاءِ الطَّائِفَةُ ـ يَعْنِي: الصُّوفِيَّةَ ـ لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ سِوَى الْقِيَامِ بِحَقِّهِ سُبْحَانَهُ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِذَا انْحَطَّ الْفَقِيرُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَقِيقَةِ إِلَى رُخْصَةِ الشَّرِيعَةِ؛ فَقَدْ فَسَخَ عَقْدَهُ مَعَ اللَّهِ، وَنَقَضَ عَهْدَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ". فَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمُ التَّرَخُّصُ فِي مَوَاطِنِ التَّرَخُّصِ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. . . . فَالْتِزَامُ الْعَزَائِمِ مَعَ وُجُودِ مَظَانِّ الرُّخَصِ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ»، فِيهِ مَا فِيهِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ بِدْعَةٌ اسْتَحْسَنُوهَا قَمْعًا لِلنَّفْسِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْمَيْلِ إِلَى الرَّاحَةِ، وَإِيثَارًا إِلَى مَا يُبْنَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقُشَيْرِيَّ جَعَلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَبْنِي عَلَيْهِ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي طَرِيقِهِمْ: " الْخُرُوجَ عَنِ الْمَالِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الَّذِي يَمِيلُ إِلَيْهِ بِهِ عَنِ الْحَقِّ، وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَمَعَهُ عَلَاقَةٌ مِنَ الدُّنْيَا؛ إِلَّا جَرَّتْهُ تِلْكَ لِعَلَاقَةٍ عَنْ قَرِيبٍ إِلَى مَا مِنْهُ خَرَجَ. . . " إِلَى آخَرِ مَا قَالَ. وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ مَعَ ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّا نَعْرِضُ ذَلِكَ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَفِي حَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، إِذْ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالْخُرُوجِ عَنْ مَالِهِ، وَلَا أَمَرَ صَاحِبَ صَنْعَةٍ بِالْخُرُوجِ عَنْ صَنْعَتِهِ، وَلَا

صَاحِبَ تِجَارَةٍ بِتَرْكِ تِجَارَتِهِ، وَهُمْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ حَقًّا، وَالطَّالِبُونَ لِسُلُوكِ طَرِيقِ الْحَقِّ صِدْقًا، وَإِنْ سَلَكَ مَنْ بَعْدَهُمْ أَلْفَ سُنَّةٍ؛ لَمْ يَبْلُغْ شَأْوَهُمْ، وَلَمْ يَبْلُغْ هُدَاهُمْ. ثُمَّ إِنَّهُ كَمَا يَكُونُ الْمَالُ شَاغِلًا فِي الطَّرِيقِ عَنْ بُلُوغِ الْمُرَادِ؛ فَكَذَلِكَ يَكُونُ فَرَاغُ الْيَدِ مِنْهُ جُمْلَةً شَاغِلًا عَنْهُ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْعَارِضِينَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنَ الْآخَرِ. فَأَنْتَ تَرَى كَيْفَ جُعِلَ هَذَا النَّوْعُ - الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِي السَّلَفِ عَهْدُهُ - أَصْلًا فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ - كَمَا تَرَى - مُحْدَثٌ، فَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الصُّوفِيَّةَ اسْتَحْسَنُوهُ؛ لِأَنَّهُ بِلِسَانِ جَمِيعِهِمْ يَنْطِقُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلشُّيُوخِ التَّجَاوُزُ عَنْ زَلَّاتِ الْمُرِيدِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَضْيِيعٌ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا النَّفْيُ الْعَامُ يُسْتَنْكَرُ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: " «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَكُنْ حَدَّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» "؟ فَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ غَيْرَ صَحِيحٍ؛ لَكَانَ مُخَالِفًا لِهَذَا الدَّلِيلِ، وَلَمَا جَاءَ مِنْ فَضْلِ الْعَفْوِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَرْضَى بِهِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الرِّفْقِ شَرْعِيَّةُ التَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ، إِذِ الْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَلَّةٍ وَتَقْصِيرٍ، وَلَا مَعْصُومَ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. -[وَ] مِنْ ذَلِكَ أَخْذُهُمْ عَلَى الْمُرِيدِ أَنْ يُقَلِّلَ مِنْ غِذَائِهِ، لَكِنْ

بِالتَّدْرِيجِ؛ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَنْ يُدِيمَ الْجُوعَ وَالصِّيَامَ، وَأَنْ يَتْرَكَ التَّزْوِيجَ مَا دَامَ فِي سُلُوكِهِ بَعْدُ. وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ مُشْكِلَاتِ التَّشْرِيعِ، بَلْ هُوَ شَبِيهٌ بِالتَّبَتُّلِ الَّذِي رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، حَتَّى قَالَ: " «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» ". وَإِذَا تَأَمَّلَ [الْمَرْءُ] مَا ذَكَرُوهُ فِي شَأْنِ التَّدْرِيجِ فِي تَرْكِ الْغِذَاءِ؛ وَجَدَهُ غَيْرَ مَعْهُودٍ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَالْقَرْنِ الْأَفْضَلِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ أَلْزَمُوهَا الْمُرِيدَ حَالَةَ السَّمَاعِ؛ مِنْ طَرْحِ الْخَرْقِ، وَأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ خَرَجَ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ؛ إِلَّا أَنْ يُشِيرَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ بِالرُّجُوعِ فِيهِ، فَلْيَأْخُذْهُ عَلَى نِيَّةِ الْعَارِيَّةِ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوحِشَ قَلْبَ الشَّيْخِ. . . إِلَى أَشْيَاءَ اخْتَرَعُوهَا فِي ذَلِكَ، لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ مِنْ نَتَائِجِ مَجَالِسِ السَّمَاعِ الَّذِي اعْتَمَدُوهُ. وَالسَّمَاعُ فِي طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ لَيْسَ مِنْهَا؛ لَا بِالْأَصْلِ وَلَا بِالتَّبَعِ، وَلَا اسْتَعْمَلَهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ مِمَّنْ يُشَارُ إِلَيْهِ حَاذِيًا فِي طَرِيقِ الْخَيْرِ، وَإِنَّمَا رَأَيْتُهُ مَأْخُوذًا بِهِ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ الْآخِذَةِ لِلتَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ بِالتَّبَعِ. وَلَوْ تُتُبِّعَ هَذَا الْبَابُ؛ لَكَثُرَتْ مَسَائِلُهُ وَانْتَشَرَتْ، وَظَاهِرُهَا أَنَّهَا اسْتِحْسَانَاتٌ اتُّخِذَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَالْقَوْمُ - كَمَا تَرَى - مُسْتَمْسِكُونَ بِالشَّرْعِ، فَلَوْلَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَاحِقٌ بِالْمَشْرُوعَاتِ؛ لَكَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ

مِنْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنَ الْبِدَعِ مَا لَيْسَ بِمَذْمُومٍ، بَلْ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَمْدُوحٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالْجَوَابُ: - أَنْ نَقُولَ أَوَّلًا: كُلُّ مَا عَمِلَ بِهِ الْمُتَصَوِّفَةُ الْمُعْتَبَرُونَ فِي هَذَا الشَّأْنِ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا ثَبَتَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَمْ لَا: فَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ؛ فَهُمْ خُلَقَاءُ بِهِ؛ كَمَا أَنَّ السَّلَفَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ خُلَقَاءُ بِذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ؛ فَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَمَلُ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ حُجَّةً عَلَى السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ مَعْصُومَةٌ عَنِ الْخَطَأِ وَصَاحِبَهَا مَعْصُومٌ، وَسَائِرُ الْأُمَّةِ لَمْ تَثْبُتْ لَهُمْ عِصْمَةٌ؛ إِلَّا مَعَ إِجْمَاعِهِمْ خَاصَّةً، وَإِذَا اجْتَمَعُوا؛ تَضَمَّنَ اجْتِمَاعُهُمْ دَلِيلًا شَرْعَيًّا كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. فَالصُّوفِيَّةُ كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ الْعِصْمَةُ، فَيَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْمَعْصِيَةُ كَبِيرَتُهَا وَصَغِيرَتُهَا، فَأَعْمَالُهُمْ لَا تَعْدُو الْأَمْرَيْنِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ كَلَامٍ مِنْهُ مَأْخُوذٌ أَوْ مَتْرُوكٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ الْقُشَيْرِيُّ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ، فَقَالَ: " فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَكُونُ الْوَلِيُّ مَعْصُومًا (حَتَّى لَا يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ)؟ قِيلَ: أَمَّا وُجُوبًا كَمَا يُقَالُ فِي الْأَنْبِيَاءِ؛ فَلَا، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا حَتَّى لَا يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ - وَإِنْ حَصَلَتْ مِنْهُمْ آفَاتٌ أَوْ زَلَاتٌ -؛ فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي وَصْفِهِمْ ".

قَالَ: " لَقَدْ قِيلَ لِلْجُنَيْدِ: الْعَارِفُ بِرَبِّهِ يَزْنِي؟ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. فَهَذَا كَلَامُ مُنْصِفٍ، فَكَمَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمُ الْمَعَاصِي بِالِابْتِدَاعِ وَغَيْرِهِ؛ كَذَلِكَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ. فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ مَعَ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، وَنَقِفُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ إِذَا ظَهَرَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ إِشْكَالٌ، بَلْ نَعْرِضُ مَا جَاءَ عَنِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا قَبِلَاهُ؛ قَبِلْنَاهُ، وَمَا لَمْ يَقْبَلَاهُ؛ تَرَكْنَاهُ وَلَا عَلَيْنَا، إِذْ قَامَ لَنَا الدَّلِيلُ عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَقُمْ لَنَا دَلِيلٌ عَلَى اتِّبَاعِ أَقْوَالِ الصُّوفِيَّةِ وَأَعْمَالِهِمْ إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا، وَبِذَلِكَ وَصَّى شُيُوخُهُمْ، وَإِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ صَاحِبُ الْوَجْدِ وَالذَّوْقِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْعُلُومِ وَالْفُهُومِ؛ فَلْيَعْرِضْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ قَبِلَاهُ؛ صَحَّ، وَإِلَّا؛ لَمْ يَصِحَّ، فَكَذَلِكَ مَا رَسَمُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَأَوْجُهِ الْمُجَاهِدَاتِ وَأَنْوَاعِ الِالْتِزَامَاتِ. - ثُمَّ نَقُولُ ثَانِيًا: إِذَا نَظَرْنَا فِي رُسُومِهِمُ الَّتِي حَدُّوا، وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَنْ غَيْرِهِمْ بِحَسَبِ تَحْسِينِ الظَّنِّ وَالتَّمَاسِّ أَحْسَنِ الْمَخَارِجَ وَلَمْ نَعْرِفْ لَهَا مَخْرَجًا؛ فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا التَّوَقُّفُ عَنْ الِاقْتِدَاءِ وَالْعَمَلِ [بِهَا]، وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِنْسِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ، لَا رَدًّا لَهُمْ وَاعْتِرَاضًا، بَلْ لِأَنَّا لَمْ نَفْهَمْ وَجْهَ رُجُوعِهِ إِلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ؛ كَمَا فَهِمْنَا غَيْرَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَتَوَقَّفُ عَنِ الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي يُشْكِلُ عَلَيْنَا وَجْهُ الْفِقْهِ فِيهَا؟ فَإِنْ سَنَحَ بَعْدَ ذَلِكَ

لِلْعَمَلِ بِهَا وَجْهٌ جَارٍ عَلَى الْأَدِلَّةِ قَبِلْنَاهُ، وَإِلَّا؛ فَلَسْنَا بِمَطْلُوبِينَ بِذَلِكَ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِي التَّوَقُّفِ؛ لِأَنَّهُ تَوَقُّفُ مُسْتَرْشِدٍ، لَا تَوَقُّفُ رَادٍّ مُطَّرِحٍ، فَالتَّوَقُّفُ هُنَا بِتَرْكِ الْعَمَلِ أَوْلَى وَأَحْرَى. ثُمَّ نَقُولُ ثَالِثًا: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَأَشْبَاهَهَا قَدْ صَارَتْ مَعَ ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ كَالْمُتَدَافِعَةِ، فَيُحْمَلُ كَلَامُ الصُّوفِيَّةِ وَأَعْمَالُهُمْ مَثَلًا عَلَى أَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى دَلَائِلَ شَرْعِيَّةٍ؛ إِلَّا أَنَّهُ عَارَضَهَا فِي النَّقْلِ أَدِلَّةٌ أَوْضَحُ فِي أَفْهَامِ الْمُتَفَقِّهِينَ وَأَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَجْرَى عَلَى الْمَعْهُودِ فِي سَائِرِ أَصْنَافِ الْعُلَمَاءِ، وَأَنْظُرُ فِي أَلْفَاظِ الشَّارِعِ مِمَّا ظَنَنَّاهُ مُسْتَنَدَ الْقَوْمِ، وَإِذَا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي بَعْضِهَا نَسْخٌ؛ فَالْوَاجِبُ التَّرْجِيحُ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَوْ كَالْإِجْمَاعِ، وَفِي مَذْهَبِ الْقَوْمِ الْعَمَلُ بِالِاحْتِيَاطِ هُوَ الْوَاجِبُ - كَمَا أَنَّهُ مَذْهَبُ غَيْرِهِمْ -، فَوَجَبَ بِحَسْبَ الْجَرَيَانِ عَلَى آرَائِهِمْ فِي السُّلُوكِ أَنْ لَا يُعْمَلَ بِمَا رَسَمُوهُ مِمَّا فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَنَكُونُ فِي ذَلِكَ مُتَّبِعِينَ لِآثَارِهِمْ، مُهْتَدِينَ بِأَنْوَارِهِمْ؛ خِلَافًا لِمَنْ يُعْرِضُ عَنِ الْأَدِلَّةِ، وَيُصَمِّمُ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ فِيمَا لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُمْ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، فَالْأَدِلَّةُ وَالْأَنْظَارُ الْفِقْهِيَّةُ وَالرُّسُومُ الصُّوفِيَّةُ تَرُدُّهُ وَتَذُمُّهُ، وَتَحْمَدُ مَنْ تَحَرَّى وَاحْتَاطَ وَتَوَقَّفَ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَاسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ. وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى أَعْيَانِ مَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ، وَمَا يَتَنَزَّلُ مِنْهَا عَلَى مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَكَيْفَ وَجْهُ تَنْزِيلِهَا؟ [وَ] لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا فِي كِتَابِ " الْمُوَافَقَاتِ "، وَإِنْ فَسَحَ اللَّهُ فِي الْمُدَّةِ، وَأَعَانَ بِفَضْلِهِ؛ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِ مَذْهَبِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ، وَبَيَانِ مَا أُدْخِلَ فِيهِ مِمَّا لَيْسَ

بِطَرِيقٍ لَهُمْ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنْ لَا دَلِيلَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ عَلَى بِدْعَتِهِمْ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، انْتَهَى.

الباب الرابع في مأخذ أهل البدع بالاستدلال

[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي مَأْخَذِ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالِاسْتِدْلَالِ] [الرَّاسِخِينَ لَهُمْ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهَا فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالزَّائِغِينَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقِهِمْ] كُلُّ خَارِجٍ عَنِ السُّنَّةِ مِمَّنْ يَدَّعِي الدُّخُولَ فِيهَا وَالْكَوْنَ مَنْ أَهْلِهَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَكَلُّفٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَدِلَّتِهَا عَلَى خُصُومَاتِ مَسَائِلِهِمْ، وَإِلَّا كَذَّبَ اطِّرَاحُهَا دَعْوَاهُمْ. بَلْ كُلُّ مُبْتَدِعٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ: إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ السُّنَّةِ دُونَ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْفِرَقِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إِلَى التَّعَلُّقِ بِشُبَهِهَا، وَإِذَا رَجَعَ إِلَيْهَا؛ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الِاسْتِدْلَالَ مَأْخَذَ أَهْلِهِ الْعَارِفِينَ بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدِهَا؛ كَمَا كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ يَأْخُذُونَهَا. إِلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ ـ كَمَا يَتَبَيَّنُ بَعْدُ ـ لَمْ يَبْلُغُوا مَبْلَغَ النَّاظِرِينَ فِيهَا بِإِطْلَاقٍ: إِمَّا لِعَدَمِ الرُّسُوخِ فِي مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْعِلْمِ بِمَقَاصِدِهَا، وَإِمَّا لِعَدَمِ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بِقَوَاعِدَ الْأُصُولِ الَّتِي مِنْ جِهَتِهَا تُسْتَنْبَطُ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَإِمَّا لِعَدَمِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ تَصِيرَ مَآخِذُهُمْ لِلْأَدِلَّةِ مُخَالَفَةً لِمَأْخَذِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ لِلْأَمْرَيْنِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى تِلْكَ الْمَآخِذِ؛ لِكَيْ تُحْذَرَ وَتُتَّقَى؛ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، فَنَقُولُ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]

وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَمَلَتْ قِسْمَيْنِ هُمَا أَصْلُ الْمَشْيِ عَلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ أَوْ عَلَى طَرِيقِ الْخَطَأِ: أَحَدُهُمَا: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَهُمُ الثَّابِتُو الْأَقْدَامِ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُتَعَذِّرًا إِلَّا عَلَى مَنْ حَصَّلَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ؛ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِهِمَا مَعًا عَلَى حَسَبِ مَا تُعْطِيهِ الْمِنَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، وَإِذْ ذَاكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ (أَنَّهُ رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ) وَمُقْتَضَى الْآيَةُ مَدْحُهُ، فَهُوَ إِذًا أَهْلٌ لِلْهِدَايَةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ. وَحِينَ خَصَّ أَهْلَ الزَّيْغِ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ؛ دَلَّ التَّخْصِيصُ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَتْبَعُونَهُ، فَإِذًا؛ لَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الْمُحْكَمَ، وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ وَمُعْظَمُهُ. فَكُلُّ دَلِيلٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ شَهِدَ لَهُ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ؛ فَهُوَ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ، وَمَا سِوَاهُ فَاسِدٌ، إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَاسِطَةٌ فِي الْأَدِلَّةِ يُسْتَنَدُ إِلَيْهَا، وَإِذْ لَوْ كَانَ ثَمَّ ثَالِثٌ، لَنَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ. ثُمَّ لَمَّا خَصَّ الزَّائِغُونَ بِكَوْنِهِمْ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ أَيْضًا؛ عَلِمَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَتْبَعُونَهُ: فَإِنْ تَأَوَّلُوهُ؛ فَبِالرَّدِّ إِلَى الْمُحْكَمِ؛ بِأَنْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُحْكَمِ بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ، فَهَذَا الْمُتَشَابِهُ الْإِضَافِيُّ لَا الْحَقِيقِيُّ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى حُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاسِخِينَ، فَلْيَرْجِعْ عِنْدَهُمْ إِلَى الْمُحْكَمِ

الَّذِي هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ. وَإِنْ لَمْ يَتَأَوَّلُوهُ؛ فَبِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُتَشَابِهٌ حَقِيقِيٌّ، فَيُقَابِلُونَهُ بِالتَّسْلِيمِ وَقَوْلِهِمْ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي أَهْلِ الزَّيْغِ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ، فَهُمْ يَطْلُبُونَ بِهِ أَهْوَاءَهُمْ؛ لِحُصُولِ الْفِتْنَةِ، فَلَيْسَ فِي نَظَرِهِمْ إِذًا فِي الدَّلِيلِ نَظَرُ الْمُسْتَبْصِرِ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَحْتَ حُكْمِهِ، بَلْ نَظَرُ مَنْ حَكَمَ بِالْهَوَى، ثُمَّ أَتَى بِالدَّلِيلِ كَالشَّاهِدِ لَهُ، وَلَمْ يَذَكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الرَّاسِخِينَ، فَهُمْ إِذَنْ بِضِدِّ هَؤُلَاءِ، حَيْثُ وَقَفُوا فِي الْمُتَشَابِهِ، فَلَمْ يَحْكُمُوا فِيهِ وَلَا عَلَيْهِ سِوَى التَّسْلِيمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى خَاصٌّ بِمَنْ طَلَبَ الْحَقَّ مِنَ الْأَدِلَّةِ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ طَلَبَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يُصَحِّحُ هَوَاهُ السَّابِقَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ لَيْسَ بِرَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ الزَّائِغُ، فَحَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَصْفَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالنَّصِّ، وَهُوَ الزَّيْغُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] وَالزَّيْغُ: هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ ذَمٌّ لَهُمْ. وَالثَّانِي: بِالْمَعْنَى الَّذِي أَعْطَاهُ التَّقْسِيمُ، وَهُوَ عَدَمُ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ، وَكُلٌّ مَنْفِيٌّ عَنْهُ الرُّسُوخُ؛ فَإِلَى الْجَهْلِ مَا هُوَ (مَائِلٌ)، وَمِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ حَصَلَ لَهُ الزَّيْغُ؛ لِأَنَّ مِنْ نُفِيَ عَنْهُ طَرِيقُ الِاسْتِنْبَاطِ وَاتِّبَاعُ الْأَدِلَّةِ لِبَعْضِ الْجَهَالَاتِ؛ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَ الْأَدِلَّةَ الْمُحْكَمَةَ وَلَا الْمُتَشَابِهَةَ. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ يَتْبَعُ الْمُحْكَمَ؛ لَمْ يَكُنْ اتِّبَاعُهُ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ؛ لِإِمْكَانِ

أَنْ يَتْبَعَهُ عَلَى وَجْهٍ وَاضِحِ الْبُطْلَانِ أَوْ مُتَشَابِهٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذَا اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ؟!. ثُمَّ اتِّبَاعُهُ لِلْمُتَشَابِهِ ـ وَلَوْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِرْشَادِ بِهِ لَا لِلْفِتْنَةِ بِهِ ـ؛ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودًا عَلَى حَالٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذَا اتَّبَعَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ؟!. وَهَكَذَا الْمُحْكَمُ إِذَا اتَّبَعَهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ بِهِ، فَكَثِيرًا مَا تَرَى الْجُهَّالَ يَحْتَجُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَدِلَّةٍ فَاسِدَةٍ وَبِأَدِلَّةٍ صَحِيحَةٍ؛ اقْتِصَارًا بِالنَّظَرِ عَلَى دَلِيلٍ مَا، وَاطِّرَاحًا لِلنَّظَرِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ الْعَاضِدَةِ لِنَظَرِهِ أَوِ الْمُعَارَضَةِ لَهُ. وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ يَتَّخِذُ هَذَا الطَّرِيقَ مَسْلَكًا، وَرُبَّمَا أَفْتَى بِمُقْتَضَاهُ وَعَمِلَ عَلَى وَفْقِهِ إِذَا كَانَ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ. وَأَعْرَضَ مَنْ عَرَضَ لَهُ غَرَضٌ فِي الْفُتْيَا بِجَوَازِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ الْجَيْشَ جَمِيعَ مَا غَنِمُوا عَلَى طَرِيقَةِ " مَنْ عَزَّ بَزَّ " لَا طَرِيقَةَ الشَّرْعِ؛ بِنَاءً عَلَى نَقْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: " أَنَّهُ يَجُوزُ تَنْفِيلُ السَّرِيَّةِ جَمِيعَ مَا غَنِمَتْ "، ثُمَّ عَزَا ذَلِكَ ـ وَهُوَ مَالِكِيُّ الْمَذْهَبِ ـ إِلَى مَالِكٍ، حَيْثُ قَالَ فِي كَلَامٍ رُوِيَ عَنْهُ: " مَا نَفَلَ الْإِمَامُ فَهُوَ جَائِزٌ "، فَأَخَذَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ نَصًّا عَلَى جَوَازِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ الْجَيْشَ جَمِيعَ مَا غَنِمَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ فِي النَّفْلِ إِلَى أَنَّ السَّرِيَّةَ هِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْجَيْشِ الْمُدَاخِلِ لِبِلَادِ الْعَدُوِّ لِتُغِيرَ عَلَى الْعَدُوِّ ثُمَّ تَرْجِعَ إِلَى الْجَيْشِ، لَا أَنَّ السَّرِيَّةَ هِيَ الْجَيْشُ بِعَيْنِهِ، وَلَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ أَيْضًا إِلَى أَنَّ النَّفْلَ عِنْدَ مَالِكٍ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ، لَا اخْتِلَافَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَعْلَمُهُ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمَا نَفَلَ الْإِمَامُ مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ.

فصل وجوه مخالفة طريق الحق

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا الْهَوَى أَوَّلًا ثُمَّ يَطْلُبُ لَهَا الْمَخْرَجَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَوْ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ أَبَدًا؛ لِاتِّسَاعِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَثِيرَةٌ، لَكِنْ يَعْلَمُ الرَّاسِخُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ؛ مِنْ أَوَّلِهِ، وَآخِرِهِ، وَفَحْوَاهُ، أَوْ بِسَاطِ حَالِهِ، أَوْ قَرَائِنِهِ، فَمَنْ لَا يَعْتَبِرُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ وَيَعْتِبَرُ مَا ابْتَنَى عَلَيْهِ؛ زَلَّ فِي فَهْمِهِ، وَهُوَ شَأْنُ مَنْ يَأْخُذُ الْأَدِلَّةَ مِنْ أَطْرَافِ الْعِبَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَنْظُرُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَيُوشِكُ أَنْ يَزِلَّ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الرَّاسِخِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ شَأْنِ مَنِ اسْتَعْجَلَ؛ طَلَبًا لِلْمَخْرَجِ فِي دَعْوَاهُ. فَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الزَّيْغَ لَا يَجْرِي عَلَى طَرِيقِ الرَّاسِخِ بِغَيْرِ حُكْمِ الِاتِّفَاقِ، وَأَنَّ الرَّاسِخَ لَا زَيْغَ مَعَهُ بِالْقَصْدِ أَلْبَتَّةَ. [فَصْلٌ وُجُوهُ مُخَالِفَةِ طَرِيقِ الْحَقِّ] [اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ وَالْمَكْذُوبَةِ] فَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ رَجَعْنَا مِنْهُ إِلَى مَعْنَى آخَرَ، فَنَقُولُ: إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ لِلرَّاسِخِينَ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهَا فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَأَنَّ الزَّائِغِينَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقِهِمْ، فَاحْتَجْنَا إِلَى بَيَانِ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكَهَا هَؤُلَاءِ لِنَتَجَنَّبَها، كَمَا نُبَيِّنُ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكَهَا الرَّاسِخُونَ لِنَسْلُكَهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِيهِ، وَلَمْ يَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي طَرِيقِ الزَّائِغِينَ، فَهَلْ يُمْكِنُ حَصْرُ مَآخِذِهَا أَوْ لَا؟ فَنَظَرْنَا فِي آيَةٍ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِهِمْ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّاسِخِينَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]

فَأَفَادَتِ الْآيَةُ أَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ لِلْبَاطِلِ طُرُقًا مُتَعَدِّدَةً لَا وَاحِدَةً، وَتَعَدُّدُهَا لَمْ يُحْصَ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ. وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الْمُفَسِّرُ لِلْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًا، فَقَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا خُطُوطٌ مُتَعَدِّدَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ بِعَدَدٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إِلَى حَصْرِ عَدَدِهَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَا لَنَا أَيْضًا سَبِيلٌ إِلَى حَصْرِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَوْ الِاسْتِقْرَاءِ. أَمَّا الْعَقْلُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي بِعَدَدٍ دُونَ آخَرٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى أَمْرٍ مَحْصُورٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّيْغَ رَاجِعٌ إِلَى الْجَهَالَاتِ؟ وَوُجُوهُ الْجَهْلِ لَا تَنْحَصِرُ، فَصَارَ طَلَبُ حَصْرِهَا عَنَاءً مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. وَأَمَّا الِاسْتِقْرَاءُ؛ فَغَيْرُ نَافِعٍ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَطْلَبِ؛ لِأَنَّا لَمَّا نَظَرْنَا فِي طُرُقِ الْبِدَعِ مِنْ حِينِ نَبَتَتْ؛ وَجَدْنَاهَا تَزْدَادُ عَلَى الْأَيَّامِ، وَلَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا وَغَرِيبَةٌ مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِنْبَاطِ تَحْدُثُ، إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ بَعْدَ زَمَانِنَا اسْتِدْلَالَاتٌ أُخَرُ لَا عَهْدَ لَنَا بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَثْرَةِ الْجَهْلِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ، وَبُعْدِ النَّاظِرِينَ فِيهِ عَنْ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يُمْكِنُ إِذًا حَصْرُهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مُخَالَفَةِ طَرِيقِ الْحَقِّ؛ فَإِنَّ وُجُوهَ الْمُخَالَفَاتِ

لَا تَنْحَصِرُ أَيْضًا، فَثَبَتَ أَنَّ تَتَبُّعَ هَذَا الْوَجْهِ عَنَاءٌ، لَكِنَّا نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ أَوْجُهًا كُلِّيَّةً يُقَاسُ عَلَيْهَا مَا سِوَاهَا. فَمِنْهَا: اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ الضَّعِيفَةِ وَالْمَكْذُوبِ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّتِي لَا يَقْبَلُهَا أَهْلُ صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ فِي الْبِنَاءِ عَلَيْهَا: كَحَدِيثِ الِاكْتِحَالِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَإِكْرَامِ الدِّيكِ الْأَبْيَضِ، وَأَكْلِ الْبَاذِنْجَانِ بِنْيَةٍ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاجَدَ وَاهْتَزَّ عِنْدَ السَّمَاعِ حَتَّى سَقَطَ الرِّدَاءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَإِنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ـ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ ـ لَا يُبْنَى عَلَيْهَا حُكْمٌ، وَلَا تُجْعَلُ أَصْلًا فِي التَّشْرِيعِ أَبَدًا، وَمَنْ جَعَلَهَا كَذَلِكَ؛ فَهُوَ جَاهِلٌ أَوْ مُخْطِئٌ فِي نَقْلِ الْعِلْمِ، فَلَمْ يُنْقُلِ الْأَخْذُ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَمَّنْ يُعْتَمَدُ بِهِ (فِي) طَرِيقَةِ الْعِلْمِ وَلَا طَرِيقَةِ السُّلُوكِ. وَإِنَّمَا أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ الْحَسَنِ؛ لِإِلْحَاقِهِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ بِالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ سَنَدَهُ لَيْسَ فِيهِ مَنْ يُعَابُ بِجُرْحِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ أَخَذَ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ بِالْمُرْسَلِ لَيْسَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ أُلْحِقَ بِالصَّحِيحِ فِي أَنَّ الْمَتْرُوكَ ذِكْرُهُ كَالْمَذْكُورِ وَالْمُعَدَّلِ، فَأَمَّا مَا دُونُ ذَلِكَ؛ فَلَا يُؤْخَذُ بِهِ بِحَالٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ. وَلَوْ كَانَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الذَّابِّينَ عَنْهُ الْأَخْذُ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ؛ لَمْ يَكُنْ لِانْتِصَابِهِمْ لِلتَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ مَعْنًى،

مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا كَانَ لِطَلَبِ الْإِسْنَادِ مَعْنًى يَتَحَصَّلُ، فَلِذَلِكَ جَعَلُوا الْإِسْنَادَ مِنَ الدِّينِ، وَلَا يَعْنُونَ: " حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ " مُجَرَّدًا، بَلْ يُرِيدُونَ ذَلِكَ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُحَدِّثُ عَنْهُمْ، حَتَّى لَا يُسْنِدَ عَنْ مَجْهُولٍ وَلَا مَجْرُوحٍ وَلَا مِنْهُمْ؛ إِلَّا عَمَّنْ تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِرِوَايَتِهِ؛ لِأَنَّ رُوحَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ قَدْ قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِنَعْتَمِدَ عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَنُسْنِدَ إِلَيْهِ الْأَحْكَامَ. وَالْأَحَادِيثُ الضَّعِيفَةُ الْإِسْنَادِ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهَا حُكْمٌ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَعْرُوفَةِ الْكَذِبِ؟! نَعَمْ؛ الْحَامِلُ عَلَى اعْتِمَادِهَا فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْهَوَى الْمُتَّبَعِ. وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى فَرْضِ أَنْ لَا يُعَارِضَ الْحَدِيثَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ مُعَارَضٌ؛ فَأَحْرَى أَنْ لَا يُؤْخَذَ بِهِ؛ فَهُوَ هَدْمٌ لِأَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى مَنْعِهِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا فِي الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْوَهْمِ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَوِ الْغَلَطِ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ أَوِ النِّسْيَانِ، فَمَا الظَّنُّ بِهِ إِذَا لَمْ يَصِحَّ؟ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهُ قَالَ: " الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ خَيْرٌ مِنَ الْقِيَاسِ "، وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ غَيْرِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَهُ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَعْمُولِ (بِهِ) عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هُوَ إِجْمَاعُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ أَعْلَى رُتْبَةٍ مِنَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّهُ كَلَامُ مُجْتَهِدٍ يَحْتَمِلُ اجْتِهَادُهُ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ، إِذْ لَيْسَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَإِنْ سُلِّمَ؛ فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ؛ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى طَرْحِ الضَّعِيفِ الْإِسْنَادِ، فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْحَسَنَ السَّنَدِ وَمَا دَارَ بِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِإِعْمَالِهِ، أَوْ أَرَادَ: خَيْرٌ مِنَ الْقِيَاسِ لَوْ كَانَ مَأْخُوذًا بِهِ، فَكَأَنَّهُ يَرُدُّ الْقِيَاسَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ مُبَالَغَةً فِي مُعَارَضَةِ مَنِ اعْتَمَدَهُ أَصْلًا حَتَّى رَدَّ بِهِ الْأَحَادِيثَ، وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَمِيلُ إِلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: " مَا زِلْنَا نَلْعَنُ أَهْلَ الرَّأْيِ وَيَلْعَنُونَا حَتَّى جَاءَ الشَّافِعِيُّ فَخَرَجَ بَيْنَنَا "، أَوْ أَرَادَ بِالْقِيَاسِ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ الَّذِي لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، فَفَضَّلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَأَيْضًا؛ فَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ عَلَى مَا يُسَوَّغُ؛ لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي مُعَارَضَةِ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا كُلُّهُ رَدٌّ عَلَى الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ اعْتَمَدُوا عَلَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ؛ فَإِنَّهُمْ كَمَا نَصُّوا عَلَى اشْتِرَاطِ صِحَّةِ الْإِسْنَادِ؛ كَذَلِكَ نَصُّوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَا يُشْتَرَطُ فِي نَقْلِهَا لِلِاعْتِمَادِ صِحَّةُ الْإِسْنَادِ، بَلْ إِنَّ كَانَ ذَلِكَ؛ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِلَّا؛ فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ نَقَلَهَا وَاسْتَنَدَ إِلَيْهَا، فَقَدْ فَعَلَهُ الْأَئِمَّةُ كَـ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ فِي " رَقَائِقِهِ "، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي " رَقَائِقِهِ "، وَسُفْيَانَ فِي " جَامِعِ الْخَيْرِ "، وَغَيْرِهِمْ. فَكُلُّ مَا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ رَاجِعٌ إِلَى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَإِذَا جَازَ اعْتِمَادُ مِثْلِهِ؛ جَازَ فِيمَا كَانَ نَحْوَهُ مِمَّا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، كَصَلَاةِ الرَّغَائِبِ،

وَالْمِعْرَاجِ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةِ أَوَّلِ جُمْعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَصَلَاةِ الْإِيمَانِ، وَالْأُسْبُوعِ، وَصَلَاةِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَصِيَامِ رَجَبٍ، وَالسَّابِعِ وَعِشْرِينَ مِنْهُ. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ جَمِيعَهَا رَاجِعٌ إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَالصَّلَاةُ عَلَى الْجُمْلَةِ ثَابِتٌ أَصْلُهَا، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ وَقِيَامُ اللَّيْلِ؛ كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى خَيْرٍ نُقِلَتْ فَضِيلَتُهُ عَلَى الْخُصُوصِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَكُلُّ مَا نُقِلَتْ فَضِيلَتُهُ فِي الْأَحَادِيثِ؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ، فَلَا يَلْزَمُ فِيهِ شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِصِحَّةِ الْإِسْنَادِ؛ بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ. فَإِذَا؛ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ طَرِيقِ الرَّاسِخِينَ لَا مِنْ طَرِيقِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ فَاشْتَرَطُوا فِيهَا الصِّحَّةَ، وَبَيْنَ أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهَا ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَا يَنْتَظِمُ مَعَ مَسْأَلَتِنَا الْمَفْرُوضَةِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَى أَصْلِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، أَوْ لَا يَكُونُ

مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا، أَوْ يَكُونُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا. فَالْأَوَّلُ: لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ؛ كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَالنَّوَافِلِ الْمُرَتِّبَةِ لِأَسْبَابٍ وَغَيْرِ أَسْبَابٍ، وَكَالصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ أَوِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ؛ إِذَا فُعِلَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ؛ كَصِيَامِ عَاشُورَاءَ، أَوْ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالْوَتَرِ بَعْدَ نَوَافِلَ اللَّيْلِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ. فَالنَّصُّ جَاءَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ صَحِيحًا عَلَى مَا شَرَطُوا، فَثَبَتَتْ أَحْكَامُهَا مِنَ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِحْبَابِ، فَإِذَا وَرَدَ فِي مَثَلِهَا أَحَادِيثُ تَرْغِيبٍ فِيهَا أَوْ تَحْذِيرٍ مِنْ تَرْكِ الْفَرْضِ مِنْهَا، وَلَيْسَتْ بَالِغَةً مَبْلَغَ الصِّحَّةِ، وَلَا هِيَ أَيْضًا مِنَ الضَّعْفِ بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُهَا أَحَدٌ أَوْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً لَا يَصِحُّ الِاسْتِشْهَادُ بِهَا؛ فَلَا بَأْسَ بِذِكْرِهَا، وَالتَّحْذِيرِ بِهَا وَالتَّرْغِيبِ؛ بَعْدَ ثُبُوتِ أَصْلِهَا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ. وَالثَّانِي: ظَاهِرٌ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْهَوَى، وَهُوَ أَبْدَعُ الْبِدَعِ وَأَفْحَشُهَا؛ كَالرَّهْبَانِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالْخِصَاءِ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ، وَالتَّعَبُّدِ بِالْقِيَامِ فِي الشَّمْسِ، أَوْ بِالصَّمْتِ مِنْ غَيْرِ كَلَامِ أَحَدٍ، فَالتَّرْغِيبُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَصِحُّ، إِذْ لَا يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ يُرَغِّبُ فِي مِثْلِهِ، أَوْ يُحَذِّرُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ. وَالثَّالِثُ: رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ كَالْأَوَّلِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَصْلُ عِبَادَةٍ فِي الْجُمْلَةِ؛ فَيَسْهُلُ فِي التَّفْصِيلِ نَقْلُهُ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُشْتَرِطِ الصِّحَّةِ، فَمُطْلَقُ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ مَشْرُوعٌ، فَإِذَا جَاءَ تَرْغِيبٌ فِي صَلَاةِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ

شَعْبَانَ؛ فَقَدْ عَضَّدَهُ أَصْلُ التَّرْغِيبِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ أَصْلُ صِيَامٍ؛ ثَبَتَ صِيَامُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمُوا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِذَا ثَبَتَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَلْزَمُ إِثْبَاتُهُ فِي التَّفْصِيلِ، فَإِذَا ثَبَتَ مُطْلَقُ الصَّلَاةِ؛ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَوِ الْوَتَرِ أَوْ غَيْرِهَا حَتَّى يُنَصَّ عَلَيْهَا عَلَى الْخُصُوصِ، وَكَذَلِكَ إِذَا ثَبَتَ مُطْلَقُ الصِّيَامِ؛ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ صَوْمِ رَمَضَانَ أَوْ عَاشُورَاءَ أَوْ شَعْبَانَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى يُثْبَتَ بِالتَّفْصِيلِ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، ثُمَّ يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ الْخَاصِّ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ الصَّحِيحِ. وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ ثُبُوتِ التَّنَفُّلِ اللَّيْلِيِّ وَالنَّهَارِيِّ فِي الْجُمْلَةِ وَبَيْنَ قِيَامِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِكَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةِ مِنْهَا بِسُورَةِ كَذَا عَلَى الْخُصُوصِ كَذَا وَكَذَا مَرَّةٍ، وَمَثْلُهُ صِيَامُ الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ مِنَ الشَّهْرِ الْفُلَانِيِّ، حَتَّى تَصِيرَ تِلْكَ الْعِبَادَةُ مَقْصُودَةً عَلَى الْخُصُوصِ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ شَرْعِيَّةِ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ أَوِ الصِّيَامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ تَفْضِيلَ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ أَوْ زَمَانٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ بِعِبَادَةٍ مَا يَتَضَمَّنُ حُكْمًا شَرْعَيًّا فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَمَا ثَبَتَ لِعَاشُورَاءَ ـ مَثَلًا ـ أَوْ لِعَرَفَةَ أَوْ لِشَعْبَانَ مَزِيَّةٌ عَلَى مُطْلَقِ التَّنَفُّلِ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى الصِّيَامِ فِي مُطْلَقِ الْأَيَّامِ؛ فَتِلْكَ الْمَزِيَّةُ اقْتَضَتْ مَرْتَبَةً فِي الْأَحْكَامِ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهَا، بِحَيْثُ لَا تَفْهَمُ مِنْ مُطْلَقِ مَشْرُوعِيَّةِ صِيَامِ النَّافِلَةِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْمَشْرُوعِيَّةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، فَهُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ

عَلَى مُطْلَقِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَمَسَاقُهُ يُفِيدُ لَهُ مَزِيَّةً فِي الرُّتْبَةِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ. فَإِذًا؛ هَذَا التَّرْغِيبُ الْخَاصُّ يَقْتَضِي مَرْتَبَةً فِي نَوْعٍ مِنَ الْمَنْدُوبِ خَاصَّةً، فَلَا بُدَّ مِنْ رُجُوعِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ إِلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ: " إِنَّ الْأَحْكَامَ لَا تُثْبَتُ إِلَّا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ "، وَالْبِدَعُ الْمُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِغَيْرِ الصَّحِيحِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوعَاتِ؛ كَالتَّقْيِيدِ بِزَمَانٍ أَوْ عَدَدٍ أَوْ كَيْفِيَّةٍ مَا، فَلْيَلْزَمْ أَنْ تَكُونَ أَحْكَامُ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ ثَابِتَةً بِغَيْرِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ نَاقِضٌ لِمَا أَسَّسَهُ الْعُلَمَاءُ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَحْكَامَ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ فَقَطْ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، بَلِ الْأَحْكَامُ خَمْسَةٌ، فَكَمَا لَا يُثْبَتُ الْوُجُوبُ إِلَّا بِالصَّحِيحِ؛ [فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ النَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ إِلَّا بِالصَّحِيحِ]، فَإِذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ فَاسْتَسْهِلْ أَنْ يَثْبُتَ فِي أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَا عَلَيْكَ. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: كُلُّ مَا رَغِبَ فِيهِ؛ إِنْ ثَبَتَ حُكْمُهُ وَمَرْتَبَتُهُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ؛ فَالتَّرْغِيبُ فِيهِ بِغَيْرِ الصَّحِيحِ مُغْتَفَرٌ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ التَّرْغِيبِ؛ فَاشْتَرِطِ الصِّحَّةَ أَبَدًا، وَإِلَّا؛ خَرَجْتَ عَنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ الْمَعْدُودِينَ فِي أَهْلِ الرُّسُوخِ، فَلَقَدْ غَلِطَ فِي الْمَكَانِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْفِقْهِ، وَيَتَخَصَّصُ عَنِ الْعَوَامِّ بِدَعْوَى رُتْبَةِ الْخَوَاصِّ، وَأَصْلُ هَذَا الْغَلَطِ عَدَمُ فَهْمِ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فصل ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم

[فَصْلٌ رَدُّهُمْ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي جَرَتْ غَيْرَ مُوَافِقَةٍ لِأَغْرَاضِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ] فَصْلٌ وَمِنْهَا ضِدُّ هَذَا، وَهُوَ رَدُّهُمْ لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي جَرَتْ غَيْرَ مُوَافِقَةٍ لِأَغْرَاضِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْقُولِ، وَغَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَيَجِبُ رَدُّهَا: كَالْمُنْكِرِينَ لِعَذَابِ الْقَبْرِ، وَالصِّرَاطِ، وَالْمِيزَانِ، وَرُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الذُّبَابِ وَقَتْلِهِ، وَأَنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وَأَنَّهُ يُقَدِّمُ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ، وَحَدِيثُ الَّذِي أَخَذَ أَخَاهُ بَطْنُهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَقْيِهِ الْعَسَلَ. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَنْقُولَةِ نَقْلَ الْعُدُولِ. [وَ] رُبَّمَا قَدَحُوا فِي الرُّوَاةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَمَنِ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَإِمَامَتِهِمْ؛ كُلُّ ذَلِكَ لِيَرُدُّوا بِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الْمَذْهَبِ. وَرُبَّمَا رَدُّوا فَتَاوِيَهُمْ وَقَبَّحُوهَا فِي أَسْمَاعِ الْعَامَّةِ؛ لِيُنَفِّرُوا الْأُمَّةَ عَنْ أَتْبَاعِ السُّنَّةِ وَأَهْلِهَا؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ (أَبِي) بَكْرِ بْنِ حَمْدَانَ: قَالَ: قَالَ: " عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: لَا يُعْفَى عَنِ اللِّصِّ دُونَ السُّلْطَانِ ". قَالَ: " فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ قَالَ: «فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ»، قَالَ: أَتَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ؟ قُلْتُ: أَفَتَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهُ؟ فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ عَوْنٍ ـ قَالَ ـ فَلَمَّا عَظُمَتِ الْحَلْقَةُ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْ ".

وَقَدْ جَعَلُوا الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ قَوْلًا بِمَا لَا يُعْقَلُ. وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُهُمْ: هَلْ يَكْفُرُ مَنْ قَالَ بِرُؤْيَةِ الْبَارِي فِي الْآخِرَةِ؟ فَقَالَ: " لَا يَكْفُرُ لِأَنَّهُ قَالَ مَا لَا يَعْقِلُ، وَمَنْ قَالَ مَا لَا يَعْقِلُ؛ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ "!. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى نَفْيِ أَخْبَارِ الْآحَادِ جُمْلَةً، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا اسْتَحْسَنَتْهُ عُقُولُهُمْ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، حَتَّى أَبَاحُوا الْخَمْرَ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ. فَفِي هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا أُلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ»، وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ تَضَمَّنَهُ النَّهْيُ لَاحِقٌ بِمَنِ ارْتَكَبَ رَدَّ السُّنَّةِ. وَلَمَّا رَدُّوهَا بِتَحَكُّمِ الْعُقُولِ؛ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ رَاجِعًا إِلَى أَصْلِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ، وَسَيَأْتِي لَهُ بَيَانٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ النَّضْرِ: " سُئِلَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ يَوْمًا عَنْ شَيْءٍ ـ وَأَنَا عِنْدَهُ ـ فَأَجَابَ فِيهِ، فَقُلْتُ لَهُ: لَيْسَ هَكَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا، قَالَ: وَمَنْ أَصْحَابُكَ لَا أَبًا لَكَ؟ قُلْتُ: أَيُّوبُ، وَيُونُسُ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَالتَّمِيمِيُّ، قَالَ: أُولَئِكَ أَنْجَاسٌ أَرْجَاسٌ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ".

وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: حَدَّثَنِي الْيَسَعُ؛ قَالَ: تَكَلَّمَ وَاصِلٌ (يَعْنِي: ابْنَ عَطَاءٍ) يَوْمًا، قَالَ: فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: أَلَا تَسْمَعُونَ؟ مَا كَلَامُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ إِلَّا خِرْقَةَ حَيْضَةٍ مُلْقَاةٍ. كَانَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الِاعْتِزَالِ، فَدَخَلَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، فَأُعْجِبَ بِهِ، فَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ، وَقَالَ (لَهَا): زَوَّجْتُكِ بِرَجُلٍ مَا يَصْلُحُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً، ثُمَّ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ حَتَّى رَدُّوا الْقُرْآنَ بِالتَّلْوِيحِ وَالتَّصْرِيحِ لِرَأْيِهِمُ السُّوءِ. فَحَكَى عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ: أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ـ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى دُكَّانِ عُثْمَانَ الطَّوِيلِ ـ فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عُثْمَانَ! مَا سَمِعْتُ مِنَ الْحَسَنِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]؟ قَالَ: تُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ بِرَأْيٍ حَسَنٍ. قَالَ: لَا أُرِيدُ إِلَّا مَا سَمِعْتَ مِنَ الْحَسَنِ. قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَى قَوْمٍ الْقَتْلَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا قَتْلًا، وَكَتَبَ عَلَى قَوْمٍ الْهَدْمَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا هَدْمًا، وَكَتَبَ عَلَى قَوْمٍ الْغَرَقَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا غَرَقًا، وَكَتَبَ عَلَى قَوْمٍ الْحَرِيقَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا حَرْقًا، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ الطَّوِيلُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ! لَيْسَ هَذَا قَوْلَنَا، قَالَ عَمْرٌو: قَدْ قُلْتُ أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ بِرَأْيِ الْحَسَنِ، فَأَنَا أَكْذِبُ عَلَى الْحَسَنِ. وَعَنِ الْأَثْرَمِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؛ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ؛ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، فَجَاءَهُ عُثْمَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عُثْمَانَ! سَمِعْتُ ـ وَاللَّهِ ـ بِالْكُفْرِ. قَالَ: مَا هُوَ؟ لَا تَعْجَلْ بِالْكُفْرِ. قَالَ: هَاشِمٌ الْأَوْقَصُ، زَعَمَ

أَنَّ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] وَقَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11]؛ لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {حم - وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1 - 4]، فَمَا الْكُفْرُ إِلَّا هَذَا؟ فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ تَكَلَّمَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ؛ مَا كَانَ عَلَى أَبِي لَهَبٍ مِنْ لَوْمٍ، وَلَا كَانَ عَلَى الْوَحِيدِ مِنْ لَوْمٍ. قَالَ عُثْمَانُ ـ فِي مَجْلِسِهِ ـ: هَذَا وَاللَّهِ الدِّينُ، قَالَ مُعَاذٌ: ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَذَكَرْتُهُ لِوَكِيعٍ، فَقَالَ: يُسْتَتَابُ قَائِلُهَا فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَمِثْلُ هَذَا مَحْكِيٌّ، لَكِنْ (عَنْ) بَعْضِ الْمَرْمُوقِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنِ الْمُؤَمَّلِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ وَهْبٍ الْجُمَحِيِّ؛ قَالَ: " الَّذِي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ خَاصٌّ، فَانْطَلَقَ بِأَهْلِهِ إِلَى بِئْرِ مَيْمُونٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ: أَنِ ائْتِنِي، فَأَتَيْتُهُ عَشِيَّةً، فَبِتُّ عِنْدَهُ "، قَالَ: فَهُوَ فِي فُسْطَاطٍ وَأَنَا فِي فُسْطَاطٍ آخَرَ، فَجَعَلْتُ أَسْمَعُ صَوْتَهُ اللَّيْلَ كُلَّهُ كَأَنَّهُ دَوِيُّ النَّحْلِ، قَالَ: " فَلَمَّا أَصْبَحْنَا؛ جَاءَ بِغَدَائِهِ، فَتَغَدَّيْنَا "، قَالَ: " ثُمَّ ذَكَرَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْإِخَاءِ وَالْحَقِّ ". قَالَ: فَقَالَ لِي: أَدْعُوكَ إِلَى رَأْيِ الْحَسَنِ. قَالَ: وَفَتَحَ لِي شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ. قَالَ: فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ فَمَا كَلَّمْتُهُ بِكَلِمَةٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ. قَالَ: " فَأَنَا يَوْمًا خَارِجٌ مِنَ الطَّرِيقِ فِي الطَّوَافِ وَهُوَ دَاخِلٌ، أَوْ أَنَا دَاخِلٌ وَهُوَ خَارِجٌ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَرَ! حَتَّى مَتَى؟ حَتَّى

مَتَى؟ قَالَ: " فَلَمْ أُكَلِّمْهُ "، فَقَالَ: " مَا لِي؟ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: " إِنَّ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ " لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ؛ مَا كُنْتَ تَقُولُ لَهُ؟ "، قَالَ: " فَنَزَعْتُ يَدِي مِنْ يَدِهِ ". قَالَ عَلِيٌّ: " قَالَ مُؤَمَّلٌ: فَحَدَّثْتُ بِهِ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، فَقَالَ لِي: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ بَلَغَ هَذَا كُلَّهُ ". قَالَ عَلِيٌّ: " وَسَمِعْتُهُ أَنَا وَأَحْمَدُ بْنُ. قَالَ: حَدَّثْتُ أَنَا سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ مُعَلَّى الطَّحَّانِ بِبَعْضِ حَدِيثِهِ، فَقَالَ: مَا أَحْوَجَ صَاحِبَ هَذَا الرَّأْيِ إِلَى أَنْ يُقْتَلَ!. فَانْظُرُوا إِلَى تَجَاسُرِهِمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! كُلُّ ذَلِكَ تَرْجِيحٌ لِمَذَاهِبِهِمْ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ، وَأَقَرَبُهُمْ إِلَى هَيْبَةِ الشَّرِيعَةِ مَنْ يَتَطَلَّبُ بِهَا الْمَخْرَجَ، فَيَتَأَوَّلُ لَهَا الْوَاضِحَاتِ، وَيَتَّبِعُ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَسَيَأْتِي، وَالْجَمِيعُ دَاخِلُونَ تَحْتَ ذَمِّهَا. وَرُبَّمَا احْتَجَّ طَائِفَةٌ مِنْ نَابِتَةِ الْمُبْتَدَعَةِ عَلَى رَدِّ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّهَا إِنَّمَا تُفِيدُ الظَّنَّ، وَقَدْ ذُمَّ الظَّنُّ فِي الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23]، وَقَالَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]،. . . . . وَمَا جَاءَ فِي مَعْنَاهُ، حَتَّى أَحَلُّوا أَشْيَاءَ مِمَّا حَرَمَهَا اللَّهُ

تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ تَحْرِيمُهَا فِي الْقُرْآنِ نَصًّا، وَإِنَّمَا قَصَدُوا مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ مِنْ أَنْظَارِ عُقُولِهِمْ مَا اسْتَحْسَنُوا. وَالظَّنُّ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا غَيْرُ مَا زَعَمُوا، وَقَدْ وَجَدْنَا لَهُ مَحَالًّا ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: الظَّنُّ فِي أُصُولِ الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُغْنِي عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ لِاحْتِمَالِهِ النَّقِيضَ عِنْدَ الظَّانِّ؛ بِخِلَافِ الظَّنِّ فِي الْفُرُوعِ؛ فَإِنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ؛ لِلدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عَمَلِهِ، فَكَانَ الظَّنُّ مَذْمُومًا إِلَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْفُرُوعِ مِنْهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الظَّنَّ هُنَا هُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُرَجِّحٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَذْمُومٌ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مِنَ التَّحَكُّمِ، وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ فِي الْآيَةِ بِهَوَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فَكَأَنَّهُمْ مَالُوا إِلَى أَمْرٍ بِمُجَرَّدِ الْغَرَضِ وَالْهَوَى، لَا بِاتِّبَاعِ الْهُدَى الْمُنَبِّهِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ ذَمَّهُ؛ بِخِلَافِ الظَّنِّ الَّذِي أَثَارَهُ دَلِيلٌ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَذْمُومٍ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَلِذَلِكَ أُثْبِتَ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ حَيْثُ يَلِيقُ الْعَمَلُ بِمِثْلِهِ؛ كَالْفُرُوعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الظَّنَّ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ظَنٌّ يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ، وَهَذِهِ هِيَ الظُّنُونُ الْمَعْمُولُ بِهَا فِي الشَّرِيعَةِ أَيْنَمَا وَقَعَتْ؛ لِأَنَّهَا اسْتَنَدَتْ إِلَى أَصْلٍ مَعْلُومٍ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْلُومِ جِنْسُهُ.

وَظَنٌّ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى قَطْعِيٍّ، بَلْ إِمَّا مُسْتَنِدٌ إِلَى غَيْرِ شَيْءٍ أَصْلًا، وَهُوَ مَذْمُومٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ، وَإِمَّا مُسْتَنِدٌ إِلَى ظَنٍّ مِثْلِهِ، فَلِذَلِكَ الظَّنُّ إِنِ اسْتَنَدَ أَيْضًا إِلَى قَطْعِيٍّ؛ فَكَالْأَوَّلِ، أَوْ إِلَى ظَنِيٍّ، رَجَعْنَا إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى قَطْعِيٍّ، وَهُوَ مَحْمُودٌ، أَوْ إِلَى غَيْرِ شَيْءٍ، وَهُوَ مَذْمُومٌ. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ كُلُّ خَبَرِ وَاحِدٍ صَحَّ سَنَدُهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِنَادِهِ إِلَى أَصْلٍ فِي الشَّرِيعَةِ قَطْعِيٍّ، فَيَجِبُ قَبُولُهُ، وَمِنْ هُنَا قَبِلْنَاهُ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ ظُنُونَ الْكُفَّارِ غَيْرُ مُسْتَنِدَةٍ إِلَى شَيْءٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا وَعَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ الْأَخِيرُ مُسْتَمَدٌّ مَنْ أَصْلٍ وَقَعَ بَسْطُهُ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلَقَدْ بَالَغَ بَعْضُ الضَّالِّينَ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ، وَرَدِّ قَوْلِ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا فِيهَا، حَتَّى عَدُّوا الْقَوْلَ بِهِ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ، وَالْقَائِلَ بِهِ مَعْدُودًا فِي الْمَجَانِينِ. فَحَكَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِ مَنْ لَقِيَ بِالْمَشْرِقِ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِلرُّؤْيَةِ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ بِإِثْبَاتِ رُؤْيَةِ الْبَارِي أَمْ لَا؟ فَقَالَ: " لَا! لِأَنَّهُ قَالَ بِمَا لَا يَعْقِلُ، وَمَنْ قَالَ بِمَا لَا يَعْقِلُ؛ لَا يَكْفُرُ "! قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: " فَهَذِهِ مَنْزِلَتُنَا عِنْدَهُمْ، فَلِيَعْتَبِرِ الْمُوَفَّقُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اتِّبَاعُ الْهَوَى، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ ". وَزَلَّ بَعْضُ الْمَرْمُوقِينَ فِي زَمَانِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَزَعَمَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ كُلَّهُ زَعْمٌ، وَهُوَ مَا حُكِيَ فِي الْأَثَرِ: بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا،

فصل تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العرو عن علم العربية

وَالْأَثَرُ الْآخَرُ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ»، وَهَذِهِ مِنْ كَلَامِ هَذَا الْمُتَأَخِّرِ وَهْلَةٌ، عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. [فَصْلٌ تَخَرُّصُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْعَرَبِيَّيْنِ مَعَ الْعُرُوِّ عَنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ] فَصْلٌ وَمِنْهَا: تَخَرُّصُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْعَرَبِيَّيْنِ مَعَ الْعُرُوِّ عَنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: فَيَفْتَاتُونَ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِمَا فَهِمُوا، وَيَدِينُونَ بِهِ، وَيُخَالِفُونَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا دَخَلُوا ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ: كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117]؟ فَقَالَ: " هُوَ هَذَا الصَّرْصَرُ "؛ يَعْنِي صِرَارَ اللَّيْلِ. وَعَنِ النَّظَّامِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " إِذَا آلَى (الْمَرْءُ) بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا؛ قَالَ: " لِأَنَّ الْإِيلَاءَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ اللَّهِ ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، " لِكَثْرَةِ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجْرَةِ "، يَذْهَبُونَ إِلَى قَوْلِ الْعَرَبِ، غَوَى الْفَصِيلُ إِذَا أَكْثَرَ مِنَ اللَّبَنِ حَتَّى بَشِمَ، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: غَوَى، وَإِنَّمَا غَوَى مِنَ الْغَيِّ. وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179]؛ أَيْ: " أَلْقَيْنَا فِيهَا "؛ كَأَنَّهُ

عِنْدَهُمْ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: ذَرَّتُهُ الرِّيحُ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَرَأْنَا مَهْمُوزٌ، وَذَرَتْهُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنْ: أَذَرَّتْهُ الدَّابَّةُ عَنْ ظَهْرِهَا؛ لِعَدَمِ الْهَمْزَةِ، وَلَكِنَّهُ رُبَاعِيٌّ، وَذَرَأْنَا ثُلَاثِيٌّ. وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةِ عَنْ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: قَضَى اللَّهُ لَكُمُ الْحَوَائِجَ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَهْيَئِهَا، فَسَمِعَ قَاسِمٌ التَّمَّارُ قَوْمًا يَضْحَكُونَ، فَقَالَ: هَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهُ يَكْلُوهَا ... ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزُوهَا وَبِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ رَأْسٌ فِي الرَّأْيِ، وَقَاسِمٌ التَّمَّارُ رَأَسٌ فِي أَصْحَابِ الْكَلَامِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: " وَاحْتِجَاجُهُ لِبِشْرٍ أَعْجَبُ مِنْ لَحْنِ بِشْرٍ ". وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ [عَلَى] تَحْلِيلِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [البقرة: 173]، فَاقْتَصَرَ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّحْمِ دُونَ غَيْرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ! وَرُبَّمَا سَلَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَا قَالُوا، وَزَعَمَ أَنَّ الشَّحْمَ إِنَّمَا حَرُمَ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَمْرُ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّحْمَ يُطْلَقُ عَلَى الشَّحْمِ وَغَيْرِهِ حَقِيقَةً، حَتَّى إِذَا خُصَّ بِالذِّكْرِ؛ قِيلَ: شَحْمٌ؛ كَمَا يُقَالُ: عِرْقٌ، وَعَصَبٌ، وَجِلْدٌ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوا؛ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونُ الْعِرْقُ وَالْعَصَبُ وَلَا الْجِلْدُ وَلَا الْمُخُّ وَلَا النُّخَاعُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا خُصَّ بِالِاسْمِ مُحَرَّمًا، وَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ

الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَفِيِّ هَذَا الْبَابِ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ فِي زَعْمِهِمْ أَنْ لَا تَحْكِيمَ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]؛ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ، فَلَا يَلْحَقُهُ تَخْصِيصٌ، فَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، وَقَوْلِهِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]. وَإِلَّا؛ فَلَوْ عَلِمُوا تَحْقِيقًا قَاعِدَةَ الْعَرَبِ فِي أَنَّ الْعُمُومَ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ؛ لَمْ يُسْرِعُوا إِلَى الْإِنْكَارِ، وَلَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: هَلْ هَذَا الْعَامُّ مَخْصُوصٌ؟ فَيَتَأَوَّلُونَ. وَفِي الْوَضْعِ وَجْهٌ آخَرُ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا. وَكَثِيرًا مَا يُوقِعُ الْجَهْلُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَجَازٍ لَا يَرْضَى بِهَا عَاقِلٌ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالْعَمَلِ بِهِ بِفَضْلِهِ. فَمِثْلُ هَذِهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ لَا يُعْبَأُ بِهَا، وَتَسْقُطُ مُكَالَمَةُ أَهْلِهَا، وَلَا يُعَدُّ خِلَافُ أَمْثَالِهِمْ، وَمَا اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفُرُوعِيَّةِ أَوِ الْأُصُولِيَّةِ؛ فَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ، إِذْ هُوَ خُرُوجٌ عَنْ طَرِيقَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى. فَحَقٌّ مَا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَيْثُ قَالَ:

فصل انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف

" إِنَّمَا هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامٌ، فَضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ، وَلَا تَتَّبِعُوا بِهِ أَهْوَاءَكُمْ "؛ أَيْ: فَضَعُوهُ عَلَى مَوَاضِعِ الْكَلَامِ، وَلَا تُخْرِجُوهُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ طَرِيقِهِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى. وَعَنْهُ أَيْضًا: " إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ تَأَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَرَجُلٌ يُنْفِسُ الْمَالَ عَلَى أَخِيهِ ". وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ لِيُقِيمَ بِهَا لِسَانَهُ وَيُقِيمَ بِهَا مَنْطِقَهُ؟ قَالَ: " نَعَمْ، فَلْيَتَعَلَّمْهَا؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقْرَأُ بِالْآيَةِ، (فَيَعْيَاهُ تَوْجِيهُهَا)، فَيَهْلَكُ. وَعَنْهُ أَيْضًا؛ قَالَ: " أَهْلَكَتْهُمُ الْعُجْمَةُ، يَتَأَوَّلُونَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ ". [فَصْلٌ انْحِرَافُهُمْ عَنِ الْأُصُولِ الْوَاضِحَةِ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لِلْعُقُولِ فِيهَا مَوَاقِفُ] فَصْلٌ وَمِنْهَا: انْحِرَافُهُمْ عَنِ الْأُصُولِ الْوَاضِحَةِ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لِلْعُقُولِ فِيهَا مَوَاقِفُ، وَطَلَبُ الْأَخْذِ بِهَا تَأْوِيلًا: كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ـ إِشَارَةً إِلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ بِالثَّالُوثِيِّ بِقَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. وَقَدْ عَلِمَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ فِيهِ اشْتِبَاهٌ وَإِشْكَالٌ لَيْسَ بِدَلِيلٍ فِي الْحَقِيقَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَعْنَاهُ وَيَظْهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا

يُعَارِضَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ مَعْنَاهُ لِإِجْمَالٍ أَوِ اشْتِرَاكٍ، أَوْ عَارَضَهُ قَطْعِيٌّ؛ كَظُهُورِ تَشْبِيهٍ؛ فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الدَّلِيلِ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِي نَفْسِهِ، وَدَالًّا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا؛ احْتِيجَ إِلَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ؛ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُعَارِضَ الْفُرُوعُ الْجُزْئِيَّةُ الْأُصُولَ الْكُلِّيَّةَ؛ لِأَنَّ الْفُرُوعَ الْجُزْئِيَّةَ إِنْ لَمْ تَقْتَضِ عَمَلًا؛ فَهِيَ فِي مَحَلِّ التَّوَقُّفِ، وَإِنِ اقْتَضَتْ عَمَلًا؛ فَالرُّجُوعُ إِلَى الْأُصُولِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَيُتَأَوَّلُ الْجُزْئِيَّاتُ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْكُلِّيَّاتِ، فَمَنْ عَكْسَ الْأَمْرَ؛ حَاوَلَ شَطَطًا، وَدَخَلَ فِي حُكْمِ الذَّمِّ؛ لِأَنَّ مُتَّبِعَ الشُّبُهَاتِ مَذْمُومٌ، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِالْمُتَشَابِهَاتِ دَلِيلًا؟ أَوْ يُبْنَى عَلَيْهَا حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ؟ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلِيلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَجَعْلُهَا دَلِيلًا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ هُوَ الْحَقُّ. وَمِثَالُهُ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ مَذَاهِبُ الظَّاهِرِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَوَارِحِ لِلرَّبِّ ـ الْمُنَزَّهِ عَنِ النَّقَائِصِ ـ؛ مِنَ الْعَيْنِ، وَالْيَدِ، وَالرِّجْلِ، وَالْوَجْهِ، وَالْمَحْسُوسَاتِ، وَالْجِهَةِ. . . . . . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الثَّابِتِ لِلْمُحْدَثَاتِ. وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ أَيْضًا أَنَّ جَمَاعَةً زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ تَعَلُّقًا بِالْمُتَشَابِهِ، وَالْمُتَشَابُهُ الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: عَقْلِيٌّ ـ فِي زَعْمِهِمْ ـ وَسَمْعِيٌّ.

فَالْعَقْلِيُّ: أَنَّ صِفَةَ الْكَلَامِ مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ، وَذَاتُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ بِرَئِيَّةٌ مِنَ التَّرْكِيبِ جُمْلَةً، وَإِثْبَاتُ صِفَاتِ الذَّاتِ قَوْلٌ بِتَرْكِيبِ الذَّاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِهِ، كَمَا لَا يَكُونُ قَادِرًا بِقُدْرَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ، أَوْ عَالِمًا بِعِلْمٍ قَائِمٍ بِهِ. . . . إِلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ. وَأَيْضًا؛ فَالْكَلَامُ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِأَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، وَالْبَارِي مُنَزَّهٌ عَنْهَا. وَبَعْدَ هَذَا الْأَصْلِ يَرْجِعُونَ إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وَأَشْبَاهِهِ. وَأَمَّا السَّمْعِيُّ؛ فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، وَالْقُرْآنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا، أَوْ لَا شَيْءَ، وَلَا شَيْءٌ عَدَمٌ، وَالْقُرْآنُ ثَابِتٌ، هَذَا خِلْفٌ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا؛ فَقَدْ شَمِلَتْهُ الْآيَةُ، فَهُوَ إِذًا مَخْلُوقٌ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمَرِيسِيُّ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهَاتَانِ الشُّبْهَتَانِ أَخْذٌ فِي التَّعَلُّقِ بِالْمُتَشَابِهَاتِ؛ فَإِنَّهُمْ قَاسُوا الْبَارِي عَلَى الْبَرِيَّةِ، وَلَمْ يَعْقِلُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَتَرَكُوا مَعَانِيَ الْخِطَابِ وَقَاعِدَةَ الْعُقُولِ. أَمَّا تَرْكُهُمْ لِلْقَاعِدَةِ؛ فَلَمْ يَنْظُرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَقْلِيَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْمُشَابِهَ لِلْمَخْلُوقِ فِي وَجْهٍ مَا

مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ، إِذْ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ؛ وَجَبَ لِمَثْلِهِ، فَكَمَا تَكُونُ الْآيَةُ دَلِيلًا عَلَى الْمُشَبِّهَةِ؛ تَكُونُ دَلِيلًا لِهَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ عَامَلُوهُ فِي التَّنْزِيهِ مُعَامَلَةَ الْمَخْلُوقِ، حَيْثُ تَوَهَّمُوا أَنَّ اتِّصَافَ ذَاتِهِ بِالصِّفَاتِ يَقْتَضِي التَّرْكِيبَ فِي الذَّاتِ. وَأَمَّا (تَرْكُهُمْ) لِمَعَانِي الْخِطَابِ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أَوِ الْقَدِيرُ،. . . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَهُ سَمْعٌ وَبَصَرٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ اتَّصَفَ بِهَا، فَإِخْرَاجُهَا عَنْ حَقَائِقِ مَعَانِيهَا الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا خُرُوجٌ عَنْ أُمِّ الْكِتَابِ إِلَى اتِّبَاعِ مَا تَشَابَهُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. وَحَيْثُ رَدُّوا هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ الْعَالِمِيَّةُ وَالْقَادِرِيَّةُ، فَمَا أَلْزَمُوهُ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لَازِمٌ لَهُمْ فِي الْعَالِمِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا مَوْجُودَةٌ؛ فَيَلْزَمُ التَّرْكِيبُ، أَوْ مَعْدُومَةٌ؛ وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ هُوَ الْأَصْوَاتُ وَالْحُرُوفُ؛ فَبِنَاءً عَلَى عَدَمِ النَّظَرِ فِي الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ السَّمْعِيَّةُ؛ فَكَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ بِالتَّبَعِ؛ لِأَنَّ الْعُقُولَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْمُعْتَمِدَةُ؛ وَلَكِنَّهُمْ يُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ الدَّلِيلُ مِثْلُ مَا فَرُّوا مِنْهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى عُمُومِهِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ شَيْءٌ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ عَلَى عُمُومِهِ؛ فَتَخْصِيصُهُ إِمَّا بِغَيْرِ دَلِيلٍ؛ وَهُوَ التَّحَكُّمُ، وَإِمَّا بِدَلِيلٍ؛ فَأَبْرَزُوهُ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ، وَيَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْإِرَادَةِ إِنْ رَدُّوا الْكَلَامَ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ

غَيْرُهَا مِنَ الصِّفَاتِ إِنْ أَقَرُّوا بِهَا، أَوِ الْأَحْوَالِ إِنْ أَنْكَرُوهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ مَعَهُمْ بِحَسَبِ الْوَقْتِ. وَالَّذِي يَلِيقُ بِالْمَسْأَلَةِ أَنْوَاعٌ أُخَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْتَضِي كَوْنَ هَذَا الْمَذْهَبِ بِدْعَةً لَا يُلَائِمُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ. وَمِنْ أَغْرَبِ مَا يُوضَعُ هَاهُنَا مَا حَكَاهُ الْمَسْعُودِيُّ وَذَكَرَهُ الْآجُرِّيُّ ـ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ ـ بِأَبْسَطِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيُّ، وَاللَّفْظُ هُنَا لِلْمَسْعُودِيِّ مَعَ إِصْلَاحِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، قَالَ: " ذَكَرَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ؛ قَالَ: حَضَرْتُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ جُلُوسَ الْمُهْتَدِي لِلْمَظَالِمِ، فَرَأَيْتُ مِنْ سُهُولَةِ الْوُصُولِ وَنُفُوذِ الْكُتُبِ عَنْهُ إِلَى النَّوَاحِي فِيمَا يُتَظَلَّمُ بِهِ إِلَيْهِ مَا اسْتَحْسَنْتُهُ، فَأَقْبَلْتُ أَرْمُقُهُ بِبَصَرِي إِذَا نَظَرَ فِي الْقَصَصِ، فَإِذَا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَيَّ؛ أَطْرَقْتُ. فَكَأَنَّهُ عَلِمَ مَا فِي نَفْسِي، فَقَالَ لِي: يَا صَالِحُ! أَحْسَبُ أَنَّ فِي نَفْسِكِ شَيْئًا تُحِبُّ أَنْ تَذْكُرَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ!. فَأَمْسَكَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ جُلُوسِهِ؛ أَمَرَ أَنْ لَا أَبْرَحَ، وَنَهَضَ، فَجَلَسْتُ جُلُوسًا طَوِيلًا، فَقُمْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى حَصِيرِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لِي: يَا صَالِحُ! أَتُحَدِّثُنِي بِمَا فِي نَفْسِكَ أَمْ أُحَدِّثُكَ؟ فَقُلْتُ: بَلْ هُوَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَحْسَنُ. فَقَالَ: كَأَنَّنِي بِكَ وَقَدِ اسْتَحْسَنْتَ مِنْ مَجْلِسِنَا، فَقُلْتُ: أَيُّ خَلِيفَةٍ خَلِيفَتُنَا إِنْ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ بِقَوْلِ أَبِيهِ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ!. فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ عَلَى ذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى الْوَاثِقِ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ مِنْ (أَذَنَةَ) مِنَ الثَّغْرِ الشَّامِيِّ مُقَيَّدًا، طِوَالًا،

حَسَنَ الشَّيْبَةِ، فَسَلَّمَ غَيْرَ هَائِبٍ، وَدَعَا فَأَوْجَزَ، فَرَأَيْتُ الْحَيَاءَ مِنْهُ فِي حَمَالِيقِ عَيْنَيِ الْوَاثِقِ وَالرَّحْمَةَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: يَا شَيْخُ! أَجِبْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ عَمَّا يَسْأَلُكَ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَحْمَدُ يَصْغُرُ وَيَضْعُفُ وَيَقِلُّ عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ. فَرَأَيْتُ الْوَاثِقَ وَقَدْ صَارَ مَكَانَ الرَّحْمَةِ غَضَبًا، فَقَالَ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَصْغُرُ وَيَضْعُفُ وَيَقِلُّ عِنْدَ مُنَاظَرَتِكَ؟! فَقَالَ: هَوِّنْ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَتَأْذَنُ لِي فِي كَلَامِهِ؟ فَقَالَ لَهُ الْوَاثِقُ: قَدْ أَذِنْتُ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ الشَّيْخُ عَلَى أَحْمَدَ، فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ! إِلَامَ دَعَوْتَ النَّاسَ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: مَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَيْهَا مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ؛ أَدَاخِلَةٌ فِي الدِّينِ فَلَا يَكُونُ الدِّينُ تَامًّا إِلَّا بِالْقَوْلِ بِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الشَّيْخُ: فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا أَمْ تَرَكَهُمْ؟، قَالَ: لَا. قَالَ لَهُ: يَعْلَمُهَا أَمْ لَمْ يَعْلَمْهَا؟ قَالَ: عَلِمَهَا، قَالَ: فَلِمَ دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَى مَا لَمْ يَدْعُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ وَتَرَكَهُمْ مِنْهُ؟ فَأَمْسَكَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! هَذِهِ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي يَا أَحْمَدُ! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فَقُلْتَ أَنْتَ: الدِّينُ لَا يَكُونُ تَامًّا إِلَّا بِمَقَالَتِكَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَاللَّهُ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ أَصْدَقُ فِي تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ أَمْ أَنْتَ فِي نُقْصَانِكَ؟! فَأَمْسَكَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَهَذِهِ ثَانِيَةٌ!. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَاعَةٍ: أَخْبِرْنِي يَا أَحْمَدُ!، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:

{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، فَمَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَيْهَا فِيمَا بَلَّغَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأُمَّةِ أَمْ لَا؟ فَأَمْسَكَ، فَقَالَ (الشَّيْخُ): يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ!، وَهَذِهِ ثَالِثَةٌ!. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَاعَةٍ: أَخْبِرْنِي يَا أَحْمَدُ!. لَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَكَ هَذِهِ الَّتِي دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَيْهَا؛ اتَّسَعَ لَهُ عَنْ أَنْ أَمْسَكَ عَنْهُمْ أَمْ لَا؟ قَالَ أَحْمَدُ: بَلِ اتَّسَعَ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ الشَّيْخُ: وَكَذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَكَذَلِكَ لِعُمَرَ، وَكَذَلِكَ لِعُثْمَانَ، وَكَذَلِكَ لَعَلِّيٍّ، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَصَرَفَ وَجْهَهُ إِلَى الْوَاثِقِ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِذَا لَمْ يَتَّسِعْ لَنَا مَا اتَّسَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَلِأَصْحَابِهِ؛ فَلَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْنَا، قَالَ الْوَاثِقُ: نَعَمْ؛ لَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْنَا إِذَا لَمْ يَتَّسِعْ لَنَا مَا اتَّسَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ. ثُمَّ قَالَ الْوَاثِقُ: اقْطَعُوا قُيُودَهُ. فَلَمَّا فُكَّتْ؛ جَاذَبَ عَلَيْهَا. فَقَالَ الْوَاثِقُ: دَعُوهُ. ثُمَّ قَالَ: يَا شَيْخُ! لِمَ جَاذَبْتَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: لِأَنِّي عَقَدْتُ فِي نِيَّتِي أَنْ أُجَاذِبَ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَخَذْتُهَا؛ أَوْصَيْتُ أَنْ تُجْعَلَ بَيْنَ يَدِي وَكَفَنِي حَتَّى أَقُولَ: يَا رَبِّي! سَلْ عَبْدَكَ: لِمَ قَيَّدَنِي ظُلْمًا وَارْتَاعَ فِيَّ أَهْلِي؟ فَبَكَى الْوَاثِقُ وَبَكَى الشَّيْخُ وَكُلُّ مَنْ حَضَرَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ الْوَاثِقُ: يَا شَيْخُ! اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا خَرَجْتُ مِنْ مَنْزِلِي حَتَّى جَعَلْتُكَ فِي حِلٍّ إِعْظَامًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِقَرَابَتِكَ مِنْهُ. فَتَهَلَّلَ وَجْهُ الْوَاثِقِ، وَسُرَّ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقِمْ عِنْدِي آنَسُ بِكَ، فَقَالَ لَهُ:

مَكَانِي فِي ذَلِكَ الثَّغْرِ أَنْفَعُ، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَلِي حَاجَةٌ. قَالَ: سَلْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ: يَأْذَنُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي رُجُوعِي إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخْرَجَنِي مِنْهُ هَذَا الظَّالِمُ. قَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ. وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا. فَرَجَعْتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَأَحْسَبُ أَيْضًا أَنِ الْوَاثِقَ رَجَعَ عَنْهَا. فَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الْحِكَايَةَ، فَفِيهَا عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَانْظُرُوا كَيْفَ مَأْخَذُ الْخُصُومِ فِي إِفْحَامِهِمْ لِخُصُومِهِمْ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَدَارُ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْفَصْلِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ، وَعَدَمِ ضَمِّ أَطْرَافِهِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ؛ فَإِنَّ مَأْخَذَ الْأَدِلَّةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الرَّاسِخِينَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَنْ تُؤْخَذَ الشَّرِيعَةُ كَالصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ بِحَسْبِ مَا ثَبَتَ مِنْ كُلِّيَّاتِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا الْمُرَتَّبَةِ عَلَيْهَا، وَعَامِّهَا الْمُرَتَّبِ عَلَى خَاصِّهَا، وَمُطْلَقِهَا الْمَحْمُولِ عَلَى مُقَيَّدِهَا، وَمُجْمَلِهَا الْمُفَسَّرِ بِبَيِّنِهَا. . . . إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ مَنَاحِيهَا، فَإِذَا حَصَلَ لِلنَّاظِرِ مِنْ جُمْلَتِهَا حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ؛ فَذَلِكَ الَّذِي نَظُمَتْ بِهِ حِينَ اسْتُنْبِطَتْ. وَمَا مِثْلُهَا إِلَّا مَثَلُ الْإِنْسَانِ الصَّحِيحِ السَّوِيِّ، فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ إِنْسَانًا (حَتَّى) يُسْتَنْطَقَ فَلَا يَنْطِقُ؛ لَا بِالْيَدِ وَحْدَهَا، وَلَا بِالرِّجْلِ وَحْدَهَا، وَلَا بِالرَّأْسِ وَحْدَهُ، وَلَا بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، بَلْ بِجُمْلَتِهِ الَّتِي سُمِّيَ بِهَا إِنْسَانًا. كَذَلِكَ الشَّرِيعَةُ لَا يُطْلَبُ مِنْهَا الْحُكْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِنْبَاطِ إِلَّا بِجُمْلَتِهَا، لَا مِنْ دَلِيلٍ مِنْهَا أَيِّ دَلِيلٍ كَانَ، وَإِنْ ظَهَرَ لِبَادِي الرَّأْيِ نُطْقُ ذَلِكَ

فصل الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها

الدَّلِيلِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ تَوَهُّمِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ؛ كَالْيَدِ إِذَا اسْتُنْطِقَتْ فَإِنَّمَا تَنْطِقُ تَوَهُّمًا لَا حَقِيقَةً؛ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتَ أَنَّهَا يَدُ إِنْسَانٍ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إِنْسَانٌ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ. فَشَأْنُ الرَّاسِخِينَ تَصَوُّرُ الشَّرِيعَةِ صُورَةً وَاحِدَةً يَخْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَأَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ إِذَا صُوِّرَتْ صُورَةً مُتَّحِدَةً. وَشَأْنُ مُتَّبِعِي الْمُتَشَابِهَاتِ أَخْذُ دَلِيلٍ مَا ـ أَيِّ دَلِيلٍ كَانَ ـ عَفْوًا وَأَخْذًا أَوَّلِيًّا، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَا يُعَارِضُهُ مِنْ كُلِّيٍّ أَوْ جُزْئِيٍّ، فَكَأَنَّ الْعُضْوَ الْوَاحِدَ لَا يُعْطَى فِي مَفْهُومِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ حُكْمًا حَقِيقَيًّا، فَمُتَّبِعُهُ مُتَّبِعُ مُتَشَابِهٍ، وَلَا يَتْبَعُهُ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ، كَمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]؟. [فَصْلٌ الْأَخْذُ بِالْمُطْلَقَاتِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي مُقَيِّدَاتِهَا] فَصْلٌ وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: مِنَ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْأَخْذُ بِالْمُطْلَقَاتِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي مُقَيِّدَاتِهَا أَوْ فِي الْعُمُومَاتِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ؛ هَلْ لَهَا مُخَصَّصَاتٌ أَمْ لَا؟ وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ؛ بِأَنْ يَكُونَ النَّصُّ مُقَيَّدًا فَيُطْلَقُ، أَوْ خَاصًّا فَيَعُمُّ بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ سِوَاهُ: فَإِنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ رَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، وَاتِّبَاعٌ لِلْهَوَى فِي الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُطْلَقَ الْمَنْصُوصَ عَلَى تَقْيِيدِهِ مُشْتَبِهٌ إِذَا لَمْ يُقَيَّدْ، فَإِذَا قُيِّدَ؛ صَارَ وَاضِحًا، كَمَا أَنَّ إِطْلَاقَ الْمُقَيَّدِ رَأْيٌ فِي ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ مُعَارِضٌ لِلنَّصِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.

فَمِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ وَرَدَ طَلَبُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَلَا يَرْفَعُهَا عُذْرٌ إِلَّا الْعُذْرُ الرَّافِعُ لِلْخِطَابِ رَأْسًا، وَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ، فَلَوْ بَلَغَ الْمُكَلَّفُ فِي مَرَاتِبِ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ إِلَى أَيِّ رُتْبَةٍ بَلَغَ؛ بَقِيَ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ. وَلَا رُتْبَةَ لِأَحَدٍ يَبْلُغُهَا فِي الدِّينِ كَرُتْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رُتْبَةِ أَصْحَابِهِ الْبَرَرَةِ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ مِنَ التَّكْلِيفِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ؛ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآحَادِ؛ كَالزَّمِنِ؛ لَا يُطَالَبُ بِالْجِهَادِ، وَالْمُقْعَدِ؛ لَا يُطَالَبُ بِالصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ، وَالْحَائِضِ؛ لَا تُطَالَبُ بِالصَّلَاةِ الْمُخَاطَبِ بِهَا فِي حَالِ حَيْضِهَا. . . . وَلَا مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَمَنْ رَأَى أَنَّ التَّكْلِيفَ قَدْ يَرْفَعُهُ الْبُلُوغُ إِلَى مَرْتَبَةٍ مَا مِنْ مَرَاتِبِ الدِّينِ ـ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِبَاحَةِ ـ؛ كَانَ قَوْلُهُ بِدَعَةً مُخْرِجَةً عَنِ الدِّينِ. وَمِنْهُ دَعَاوَى أَهْلِ الْبِدَعِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ؛ مُنَاقَضَتُهَا لِلْقُرْآنِ، أَوْ مُنَاقِضَةُ بَعْضِهَا بَعْضًا، وَفَسَادُ مَعَانِيهَا، أَوْ مُخَالَفَتُهَا لِلْعُقُولِ؛ كَمَا حَكَمُوا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَحَاكِمَيْنِ إِلَيْهِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: مِئَةُ الشَّاةِ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِئَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذِهِ الرَّجْمُ، وَاغَدُ يَا أَنِيسُ عَلَى امْرَأَةٍ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ؛ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا». قَالُوا: هَذَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِالرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ، وَلَيْسَ لِلرَّجْمِ وَلَا لِلتَّغْرِيبِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ذَكَرَ، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ بَاطِلًا؛ فَهُوَ مَا

أَرَدْنَا، وَإِنْ كَانَ حَقًا؛ فَقَدْ نَاقَضَ كِتَابَ اللَّهِ بِزِيَادَةِ الرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ. فَهَذَا اتِّبَاعٌ لِلْمُتَشَابِهِ، لِأَنَّ الْكِتَابَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَفِي الشَّرْعِ عَلَى وُجُوهٍ؛ مِنْهَا: الْحُكْمُ وَالْفَرْضُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وَقَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النساء: 77]، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي شُرِّعَ لَنَا، كَمَا أَنَّ الْكِتَابَ يُطْلَقُ عَلَى الْقُرْآنِ، فَتَخْصِيصِهِمُ الْكِتَابَ بِأَحَدِ الْمَحَامِلِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ اتِّبَاعٌ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ أُمَّتِي كَمَطَرٍ؛ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ؟»؛ قَالُوا: فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لِأَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَضْلٌ عَلَى الْخُصُوصِ دُونَ آخِرِهَا وَلَا الْعَكْسُ. ثُمَّ نُقِلَ: «أَنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، فَهَذَا يَقْتَضِي تَفْضِيلَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ عَلَى الْوَسَطِ. ثُمَّ نُقِلَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، فَاقْتَضَى أَنَّ الْأَوَّلِينَ أَفْضَلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

قَالُوا: فَهَذَا تَنَاقُضٌ! وَكَذَبُوا؛ لَيْسَ ثَمَّ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّعَارُضَ إِذَا ظَهَرَ لِبَادِيَ الرَّأْيِ فِي الْمَقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ: فَإِمَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَصْلًا، وَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ: فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ؛ فَهَذَا الْفَرْضُ بَيْنَ قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ، أَوْ بَيْنَ ظَنِّيَّيْنِ، فَأَمَّا بَيْنَ قَطْعِيَّيْنِ؛ فَلَا يَقَعُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ؛ لِأَنَّ تَعَارُضَ الْقَطْعِيَّيْنِ مُحَالٌ. فَإِنْ وَقْعَ بَيْنَ قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ؛ بَطُلَ الظَّنِّيُّ. وَإِنَّ وَقْعَ بَيْنَ ظَنِيَّيْنِ؛ فَهَاهُنَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ التَّرْجِيحُ، وَالْعَمَلُ بِالْأَرْجَحِ مُتَعَيَّنٌ. ، وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ؛ فَقَدِ اتَّفَقَ النُّظَّارُ عَلَى إِعْمَالِ وَجْهِ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ وَجْهًا ضَعِيفًا، فَإِنَّ الْجَمْعَ أَوْلَى عِنْدَهُمْ، وَإِعْمَالَ الْأَدِلَّةِ أَوْلَى مِنْ إِهْمَالِ بَعْضِهَا. فَهَؤُلَاءِ الْمُبْتَدَعَةُ لَمْ يَرْفَعُوا بِهَذَا الْأَصْلِ رَأْسًا؛ إِمَّا جَهْلًا بِهِ، أَوْ عِنَادًا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَقَوْلُهُ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي»، هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ، فَلَا يَبْلُغُ أَحَدُنَا (مَبْلَغَ) الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمَا سِوَاهُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ عَلَى حَالٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»؛ لَا نَصَّ فِيهِ عَلَى التَّفْضِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَزَاءٍ حَسَنٍ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي كَوْنِهِمْ مِثْلَ جَزَاءِ الصَّحَابَةِ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ مُحْتَمَلٌ، فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ الْأَصْلَ وَلَا إِشْكَالَ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِالتَّنَاقُضِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنَ مَتَّى» "، وَ " «لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَيْنِي»، وَقَوْلِهِ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ. وَمِنْهُ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ؛ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُفْسِدُ آخِرُهُ أَوَّلَهُ؛ فَإِنَّ أَوَّلَهُ صَحِيحٌ لَوْلَا

فصل تحريف الأدلة عن مواضعها

قَوْلُهُ: فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي كَذَا. . . . "، فَمَا مَنَّا أَحَدٌ إِلَّا دَرَى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ، وَأَشُدُّ الْأُمُورِ أَنْ يَكُونَ مَسَّ بِهَا فَرْجَهُ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ؛ لَمَا طُلِبَ بِغَسْلِ يَدِهِ، فَكَيْفَ يُطْلَبُ بِالْغَسْلِ وَلَا يَدْرِي هَلْ مَسَّ فَرْجَهُ أَمْ لَا؟! وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنَ النَّمَطِ (الَّذِي) قَبْلَهُ، إِذِ النَّائِمُ قَدْ يَمَسُّ فَرْجَهُ فَيُصِيبُهُ شَيْءٌ مِنْ نَجَاسَةٍ فِي الْمَحَلِّ لِعَدَمِ اسْتِنْجَاءٍ تَقَدَّمَ النَّوْمَ، أَوْ يَكُونُ اسْتَجْمَرَ فَوْقَ مَوْضِعِ الِاسْتِجْمَارِ، وَهُوَ لَوْ كَانَ يَقْظَانَ فَمَسَّ لَعَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ إِذَا عَلِقَتْ بِيَدِهِ، فَيَغْسِلُهَا فِي الْإِنَاءِ؛ لِئَلَّا يُفْسِدَ الْمَاءَ، وَإِذَا أَمْكَنَ هَذَا؛ لَمْ يَتَوَجَّهْ الِاعْتِرَاضُ. فَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ رَاجِعٌ إِلَى إِسْقَاطِ الْأَحَادِيثِ بِالرَّأْيِ الْمَذْمُومِ الَّذِي تَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ. [فَصْلٌ تَحْرِيفُ الْأَدِلَّةِ عَنْ مَوَاضِعِهَا] فَصْلٌ وَمِنْهَا: تَحْرِيفُ الْأَدِلَّةِ عَنْ مَوَاضِعِهَا: بِأَنْ يَرِدَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنَاطٍ، فَيُصْرَفُ عَنْ ذَلِكَ الْمَنَاطِ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ؛ مُوهِمًا أَنَّ الْمَنَاطَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ خَفِيَّاتِ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ، وَ [بِأَنَّهُ] يَذُمُّ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ؛ لَا يَلْجَأُ إِلَيْهِ صُرَاحًا؛ إِلَّا مَعَ اشْتِبَاهٍ يَعْرِضُ لَهُ، أَوْ جَهْلٍ يَصُدُّهُ عَنِ الْحَقِّ، مَعَ هَوَىً يَعْمِيهِ عَنْ أَخْذِ الدَّلِيلِ مَأْخَذَهُ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ السَّبَبِ مُبْتَدَعًا.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ إِذَا اقْتَضَى أَمْرًا فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ مَثَلًا، فَأَتَى بِهِ الْمُكَلَّفُ فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا، كَذِكْرِ اللَّهِ وَالدُّعَاءِ وَالنَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا يُعْلَمُ مِنَ الشَّارِعِ فِيهَا التَّوْسِعَةُ؛ كَانَ الدَّلِيلُ عَاضِدًا لِعِلْمِهِ مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ مَعْنَاهُ، وَمِنْ جِهَةِ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِهِ. فَإِنْ أَتَى الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَانٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مُقَارِنًا لِعِبَادِةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْتَزَمَ ذَلِكَ بِحَيْثُ صَارَ مُتَخَيَّلًا أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ، أَوِ الزَّمَانَ أَوِ الْمَكَانَ مَقْصُودٌ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؛ كَانَ الدَّلِيلُ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ. فَإِذَا نَدَبَ الشَّرْعُ مَثَلًا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَالْتَزَمَ قَوْمٌ الِاجْتِمَاعَ عَلَيْهِ عَلَى لِسَانٍ وَاحِدٍ وَبِصَوْتٍ، أَوْ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ مَخْصُوصٍ عَنْ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ؛ لَمْ يَكُنْ فِي نَدْبِ الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ الْمُلْتَزَمِ، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْأُمُورِ غَيْرِ اللَّازِمَةِ شَرْعًا شَأْنُهَا أَنَّ تُفْهِمَ التَّشْرِيعَ، وَخُصُوصًا مَعَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ كَالْمَسَاجِدِ؛ فَإِنَّهَا إِذَا ظَهَرَتْ هَذَا الْإِظْهَارَ وَوُضِعَتْ فِي الْمَسَاجِدِ كَسَائِرِ الشَّعَائِرِ الَّتِي وَضَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسَاجِدِ وَمَا أَشْبَهَهَا كَالْأَذَانِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ ـ؛ فُهِمَ مِنْهَا بِلَا شَكٍّ أَنَّهَا سُنَنٌ، إِذَا لَمْ تُفْهَمْ مِنْهَا الْفَرْضِيَّةُ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يَتَنَاوَلَهَا الدَّلِيلُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ، فَصَارَتْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بِدَعًا مُحْدَثَةً بِذَلِكَ. (وَ) عَلَى ذَلِكَ تَرْكُ الْتِزَامِ السَّلَفِ لِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَوْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهَا، وَهُمْ كَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا لَوْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً عَلَى مُقْتَضَى

الْقَوَاعِدِ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ قَدْ نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ نَدْبًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ فِي تَكْثِيرِ عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا طَلَبَ مِنَ التَّكْثِيرِ مِنَ الذِّكْرِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]؛ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءُ؛ فَإِنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَلْتَزِمُوا فِيهِ كَيْفِيَّاتٍ، وَلَا قَيَّدُوهُ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ ـ بِحَيْثُ تَشْعُرُ بِاخْتِصَاصِ التَّعَبُّدِ بِتِلْكَ الْأَوْقَاتِ، إِلَّا مَا عَيَّنَهُ الدَّلِيلُ؛ كَالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. وَلَا أَظْهَرُوا مِنْهُ إِلَّا مَا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى إِظْهَارِهِ؛ كَالذِّكْرِ فِي الْعِيدَيْنِ وَشِبَهِهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَكَانُوا مُثَابِرِينَ عَلَى إِخْفَائِهِ وَسِرِّهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ [النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] حِينَ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ: «أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا»، وَأَشْبَاهُهُ، وَلِمَ يُظْهِرُوهُ فِي الْجَمَاعَاتِ. فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ هَذَا الْأَصْلَ؛ فَقَدْ خَالَفَ إِطْلَاقَ الدَّلِيلِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ فِيهِ بِالرَّأْيِ، وَخَالَفَ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ مِنْهُ بِالشَّرِيعَةِ ـ وَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ، بَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَوْفًا أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ.

وَفِي فَصْلٍ مِنَ الْمُوَافَقَاتِ جُمْلَةٌ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مَزَلَّةُ قَدَمٍ، فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ إِطْلَاقَ اللَّفْظِ يُشْعِرُ بِجَوَازِ كُلِّ مَا يُمْكِنُ فِي مَدْلُولِهِ وُقُوعًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ خُصُوصًا فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّعَبُّدِ عَلَى حَسَبِ مَا تَلَّقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ؛ كَالصَّلَوَاتِ حِينَ وُضِعَتْ بَعِيدَةً عَنْ مَدَارِكِ الْعُقُولِ فِي أَرْكَانِهَا وَتَرْتِيبِهَا وَأَزْمَانِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا وَمَقَادِيرِهَا، وَسَائِرِ مَا كَانَ مِثْلَهَا ـ حَسْبَمَا يُذْكَرُ فِي بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ، فَلَا يَدْخُلُ الْعِبَادَاتِ الرَّأْيُ وَالِاسْتِحْسَانُ هَكَذَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ كَالْمُنَافِي لِوَضْعِهَا، وَلِأَنَّ الْعُقُولَ لَا تُدْرِكُ مَعَانِيَهَا عَلَى التَّفْصِيلِ. وَكَذَلِكَ حَافَظَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَرْكِ إِجْرَاءِ الْقِيَاسِ فِيهَا؛ كَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ حَافَظَ عَلَى طَرْحِ الرَّأْيِ جِدًّا، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ إِلَّا قِيَاسَ نَفْيِ الْفَارِقِ، حَيْثُ اضْطُرَّ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ ـ وَإِنْ تَفَاوَتُوا ـ فَهُمْ مُحَافِظُونَ جَمِيعًا فِي الْعِبَادَاتِ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِنُصُوصِهَا وَمَنْقُولَاتِهَا؛ بِخِلَافِ غَيْرِهَا، فَبِحَسْبِهَا لَا مُطْلَقًا؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ أُمِرَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ ـ مَثَلًا ـ. فَالْمُخَصِّصُ كَالْمُخَالِفِ لِمَفْهُومِ التَّوْسِعَةِ، وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مِنْ ذَلِكَ تَوَسُّعُهُ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى أَصْلِ الْوَقْفِ مِنَ الْمَنْقُولِ؛ لِأَنَّا إِنْ خَرَجْنَا عَنْهُ؛ شَكَكْنَا فِي كَوْنِ الْعِبَادَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مَشْرُوعَةً؛ أَوْ قَطَعْنَا بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ، عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ، فَيَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَنْقُولِ وُقُوفًا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.

فصل بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل

ثُمَّ إِذَا فَهِمْنَا التَّوْسِعَةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِحَيْثُ لَا يُوهِمُ التَّخْصِيصُ زَمَانًا دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ مَكَانًا دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ كَيْفِيَّةٍ دُونَ غَيْرِهَا، أَوْ يُوهِمُ انْتِقَالَ الْحُكْمِ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ ـ مَثَلًا ـ إِلَى السُّنَّةِ أَوِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مَا ـ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ أَوْ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ـ مُوهِمًا لِكَوْنِهِ سُنَّةً أَوْ فَرْضًا. . . . بَلْ هُوَ كَذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَا أَظْهَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ؛ إِذَا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا؛ فَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ بِخِلَافِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَسَائِرِ النَّوَافِلِ؛ فَإِنَّهَا مُسْتَحِبَّاتٌ، وَنَدَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِخْفَائِهَا، وَإِنَّمَا يَضُرُّ إِذَا كَانَتْ تُشَاعُ وَيُعْلَنُ بِهَا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْأَصْلِ الْتِزَامُ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ بِالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مُعْلَنًا بِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ بِنَاءُ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تَأْوِيلَاتٍ لَا تُعْقَلُ] فَصْلٌ وَمِنْهَا بِنَاءُ طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تَأْوِيلَاتٍ لَا تُعْقَلُ يَدَّعُونَ فِيهَا أَنَّهَا (هِيَ) الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ، لَا مَا يَفْهَمُ الْعَرَبِيُّ مِنْهَا ـ مُسْنَدَةً عِنْدَهُمْ إِلَى أَصْلٍ لَا يُعْقَلُ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ ـ فِيمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ ـ قَوْمٌ أَرَادُوا إِبْطَالَ الشَّرِيعَةِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَإِلْقَاءَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ؛ لِيَنْحَلَّ الدِّينُ فِي أَيْدِيهِمْ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ إِلْقَاءُ ذَلِكَ صَرَاحًا؛ فَيُرَدُّ ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ وَتَمْتَدُّ إِلَيْهِمْ أَيْدِي

الْحُكَّامِ، فَصَرَفُوا أَعْنَاقَهُمْ إِلَى التَّحَيُّلِ عَلَى مَا قَصَدُوا بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ، مِنْ جُمْلَتِهَا صَرْفُ الْهَمِّ مِنَ الظَّوَاهِرِ؛ إِحَالَةً عَلَى أَنَّ لَهَا بَوَاطِنَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَأَنَّ الظَّوَاهِرَ غَيْرُ مُرَادَةٍ. فَقَالُوا: كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِنَ الظَّوَاهِرِ فِي التَّكَالِيفِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ؛ فَهِيَ أَمْثِلَةٌ وَرُمُوزٌ إِلَى بَوَاطِنَ. فَمِمَّا زَعَمُوا فِي الشَّرْعِيَّاتِ: أَنَّ الْجَنَابَةَ مُبَادَرَةُ الدَّاعِي لِلْمُسْتَجِيبِ بِإِفْشَاءِ سِرٍّ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَنَالَ رُتْبَةَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَعْنَى الْغُسْلِ تَجْدِيدُ الْعَهْدِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى مُجَامَعَةِ الْبَهِيمَةِ مُقَابَحَةُ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ النَّجْوَى ـ وَهُوَ مِئَةٌ وَتِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِنْدَهُمْ ـ؛ قَالُوا: فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الشَّرْعُ الْقَتْلَ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا، وَإِلَّا؛ فَالْبَهِيمَةُ مَتَى يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَيْهَا؟! وَالِاحْتِلَامُ أَنْ يَسْبِقَ لِسَانُهُ إِلَى إِفْشَاءِ السِّرِّ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ؛ أَيْ: تَجْدِيدُ الْمُعَاهَدَةِ، وَالطُّهْرُ هُوَ التَّبَرُّؤُ مِنَ اعْتِقَادِ كُلِّ مَذْهَبٍ سِوَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَالتَّيَمُّمُ الْأَخْذُ مِنَ الْمَأْذُونِ إِلَى أَنْ يَسْعَدَ بِمُشَاهَدَةِ الدَّاعِي وَالْإِمَامِ، وَالصِّيَامُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ كَشْفِ السِّرِّ. وَلَهُمْ مِنْ هَذَا الْإِفْكِ كَثِيرٌ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَأُمُورِ التَّكْلِيفِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَكُلُّهُ حَوْمٌ عَلَى إِبْطَالِ الشَّرِيعَةِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، إِذْ هُمْ ثِنْوِيَّةٌ وَدَهْرِيَّةٌ وَإِبَاحِيَّةٌ، مُنْكِرُونَ لِلنُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمَلَائِكَةِ، بَلْ هُمْ مُنْكِرُونَ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَهُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِالْبَاطِنِيَّةِ. وَرُبَّمَا تَمَسَّكُوا بِالْحُرُوفِ وَالْأَعْدَادِ: بِأَنَّ الثُّقُبَ فِي رَأْسِ الْآدَمِيِّ

سَبْعٌ، وَالْكَوَاكِبَ السَّيَّارَةَ سَبْعٌ، وَأَيَّامَ الْأُسْبُوعِ سَبْعٌ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُورَ الْأَئِمَّةِ سَبْعَةٌ، وَبِهِ يُتَمُّ. وَأَنَّ الطَّبَائِعَ أَرْبَعٌ، وَفُصُولُ السَّنَةِ أَرْبَعٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أُصُولَ الْأَرْبَعَةِ هِيَ السَّابِقُ وَالتَّالِي الْإِلَهَانِ ـ عِنْدَهُمْ ـ وَالنَّاطِقُ وَالْأَسَاسُ ـ وَهُمَا الْإِمَامَانِ ـ وَالْبُرُوجُ اثْنَا عَشَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُجَجَ اثْنَا عَشَرَ، وَهُمُ الدُّعَاةُ. . . . إِلَى أَنْوَاعٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَجَمِيعُهَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُقَابَلُ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ ـ سِوَى هَؤُلَاءِ ـ رُبَّمَا يَتَمَسَّكُونَ بِشُبْهَةٍ تَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا مَعَهُمْ، أَمَّا هَؤُلَاءِ؛ فَقَدْ خَلَعُوا فِي الْهَذَيَانِ الرِّبْقَةَ، وَصَارُوا عُرْضَةً لِلَّمْزِ، وَضُحْكَةً لِلْعَالِمِينَ، وَإِنَّمَا يَنْسِبُونَ هَذِهِ الْأَبَاطِيلَ إِلَى الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الَّذِي زَعَمُوهُ، وَإِبْطَالُ الْإِمَامَةِ مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ مُخْتَصَرَةٍ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ: إِمَّا مِنْ جِهَةِ دَعْوَى الضَّرُورَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ (هُوَ) مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ عِلْمًا وَإِدْرَاكًا، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ؛ فَسَمَاعُهُمْ مِنْهُ لِتِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ. (فَنَقُولُ) لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ: مَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى تَصْدِيقِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ دُونَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْمُعْجِزَةِ وَلَيْسَ لِإِمَامِكَ مُعْجِزَةٌ؟! فَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ظَاهِرُهُ، لَا مَا زَعَمْتَ. فَإِنْ قَالَ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ رُمُوزٌ إِلَى بَوَاطِنَ فَهِمَهَا الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ وَلَمْ يَفْهَمْهَا فَتَعَلَّمْنَاهَا مِنْهُ. قِيلَ لَهُمْ: مِنْ أَيِّ جِهَةٍ تَعَلَّمْتُمُوهَا مِنْهُ؟

أَبِمُشَاهَدَةِ قَلْبِهِ بِالْعَيْنِ؟ أَوْ بِسَمَاعٍ مِنْهُ؟ وَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِنَادِ إِلَى السَّمَاعِ بِالْأُذُنِ، فَيُقَالُ: فَلَعَلَّ لَفْظَهُ ظَاهِرٌ لَهُ بَاطِنٌ لَمْ تَفْهَمْهُ وَلَمْ يُطْلِعْكَ عَلَيْهِ، فَلَا يُوثَقُ بِمَا فَهِمْتَ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِهِ! فَإِنْ قَالَ: صَرَّحَ بِالْمَعْنَى، وَقَالَ: مَا ذَكَرْتُهُ ظَاهِرٌ لَا رَمْزَ فِيهِ، أَوْ وَالْمُرَادُ ظَاهِرُهُ. قِيلَ لَهُ: وَبِمَاذَا عَرَفْتَ قَوْلَهُ لَكَ: أَنَّهُ ظَاهِرٌ؛ [أَنَّهُ] لَا رَمْزَ فِيهِ، بَلْ أَنَّهُ كَمَا قَالَ، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَاطِنٌ لَمْ تَفْهَمْهُ أَيْضًا، فَلَا يَزَالُ الْإِمَامُ يُصَرِّحُ بِاللَّفْظِ وَالْمَذْهَبُ يَدْعُو إِلَى أَنَّ لَهُ فِيهِ رَمْزًا. وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَنْكَرَ الْبَاطِنَ؛ فَلَعَلَّ تَحْتَ إِنْكَارِهِ رَمْزًا لَمْ تَفْهَمْهُ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الظَّاهِرَ؛ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِي طَلَاقِهِ رَمْزٌ وَهُوَ بَاطِنُهُ وَلَيْسَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. فَإِنْ قَالَ: ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى حَسْمِ بَابِ التَّفْهِيمِ، قِيلَ لَهُ: فَأَنْتُمْ حَسَمْتُمُوهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ دَائِرٌ عَلَى تَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالْحَشْرِ، وَالنَّشْرِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْوَحْيِ، وَالْمَلَائِكَةِ؛ مُؤَكَّدًا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْقَسَمِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّ تَحْتَهُ رَمْزًا! فَإِنَّ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَصْلَحَةٍ وَسِرٍّ لَهُ فِي الرَّمْزِ؛ جَازَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَعْصُومِكُمْ أَنْ يَظْهَرَ لَكُمْ خِلَافُ مَا يُضْمِرُهُ لِمَصْلَحَةٍ وَسِرٍّ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " يَنْبَغِي أَنَّ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّ رُتْبَةَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ هِيَ أَخَسُّ مِنْ رُتْبَةِ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْ فِرَقِ الضَّلَالِ؛ إِذْ لَا تَجِدُ فِرْقَةً تَنْقُضُ مَذْهَبَهَا بِنَفْسِ الْمَذْهَبِ سِوَى هَذِهِ الَّتِي هِيَ الْبَاطِنِيَّةُ، إِذْ مَذْهَبُهَا إِبْطَالُ النَّظَرِ وَتَغْيِيرُ الْأَلْفَاظِ عَنْ مَوْضُوعِهَا بِدَعْوَى الرَّمْزِ، وَكُلُّ مَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَنْطِقَ بِهِ

أَلْسِنَتُهُمْ، فَإِمَّا نَظَرٌ أَوْ نَقْلٌ، أَمَّا النَّظَرُ؛ فَقَدْ جَوَّزُوا أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ غَيْرُ مَوْضُوعِهِ، فَلَا يَبْقَى لَهُمْ مُعْتَصِمٌ، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " الْعَوَاصِمِ " مَأْخَذًا آخَرَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَسْهَلَ مِنْ هَذَا ـ وَقَالَ: " إِنَّهُمْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ " ـ، وَهُوَ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يَدْعُونَهُ السُّؤَالَ بِـ " لِمَ "؟ خَاصَّةً، فَكُلُّ مَنْ وَجَّهْتَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ؛ سَقَطَ فِي يَدِهِ، وَحَكَى فِي ذَلِكَ حِكَايَةً ظَرِيفَةً يَحْسُنُ مَوْقِعُهَا هَاهُنَا. وَتَصَوُّرُ الْمَذْهَبِ كَافٍ فِي ظُهُورِ بُطْلَانِهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الشَّرْعِ قَدِ اعْتَمَدَهُ طَوَائِفُ وَبَنَوْا عَلَيْهِ بِدَعًا فَاحِشَةً؛ (مِنْهَا) مَذْهَبُ الْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ؛ فَإِنَّهُ عَدَّ نَفْسَهُ الْإِمَامَ الْمُنْتَظَرَ، وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ، حَتَّى أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي عِصْمَتِهِ، أَوْ فِي أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ؛ كَافِرٌ. وَقَدْ زَعَمَ ذَوُوهُ أَنَّهُ أَلَّفَ فِي الْإِمَامَةِ كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَفَ آدَمَ وَنُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَأَنْ مُدَّةَ الْخِلَافَةِ ثَلَاثُونَ سُنَّةً، وَبَعْدَ ذَلِكَ فِرَقٌ وَأَهْوَاءٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوَى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَالْبَاطِلُ ظَاهِرٌ، وَالْحَقُّ كَامِنٌ، وَالْعِلْمُ مَرْفُوعٌ ـ كَمَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ، الْجَهْلُ ظَاهِرٌ، وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِمَامِ، فَأَعَادَ بِهِ الدِّينَ؛ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». وَقَالَ: إِنَّ طَائِفَتَهُ هُمُ الْغُرَبَاءُ؛ زَعْمًا مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ زَائِدٍ عَلَى الدَّعْوَى.

وَقَالَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ: جَاءَ اللَّهُ بِالْمَهْدِيِّ، وَطَاعَتُهُ صَافِيَةٌ نَقِيَّةٌ، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، وَأَنَّ بِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ بِهِ تَقُومُ، وَلَا ضِدَّ لَهُ وَلَا مِثْلَ وَلَا نِدَّ وَلَا كَذِبَ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ وَهَذَا ـ، كَمَا نَزَّلَ أَحَادِيثَ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ فِي الْفَاطِمِيِّ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ بِلَا شَكٍّ. وَأَوَّلُ إِظْهَارِهِ لِذَلِكَ أَنَّهُ قَامَ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، الْقَاضِي لِمَا يَشَاءُ، لَا رَادَّ لِأَمْرِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ الْمُبَشِّرِ بِالْمَهْدِيِّ يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا، كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ إِذَا نُسِخَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَأُزِيلَ الْعَدْلُ بِالْجَوْرِ، مَكَانُهُ بِالْمَغْرِبِ الْأَقْصَى، وَزَمَانُهُ آخِرُ الْأَزْمَانِ، وَاسْمُهُ اسْمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَسَبَهُ نَسَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ظَهَرَ جَوْرُ الْأُمَرَاءِ، وَامْتَلَأَتِ الْأَرْضُ بِالْفَسَادِ، وَهَذَا آخِرُ الزَّمَانِ، وَالِاسْمُ الِاسْمُ، وَالنَّسَبُ النَّسَبُ وَالْفِعْلُ الْفِعْلُ. يُشِيرُ إِلَى مَا جَاءَ فِي أَحَادِيثِ الْفَاطِمِيِّ. فَلَمَّا فَرَغَ؛ بَادَرَ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ عَشَرَةٌ، فَقَالُوا: هَذِهِ الصِّفَةُ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيكَ، فَأَنْتَ الْمَهْدِيُّ، فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَحْدَثَ فِي دِينِ اللَّهِ أَحْدَاثًا كَثِيرَةً؛ زِيَادَةً إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الْمَعْلُومُ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْعِصْمَةِ، ثُمَّ وَضَعَ ذَلِكَ فِي الْخُطَبِ، وَضَرَبَ فِي السِّكَكِ، بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ عِنْدَهُمْ ثَالِثَةَ الشَّهَادَةِ، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا؛ فَهُوَ كَافِرٌ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ، وَشَرَعَ الْقَتْلَ فِي مَوَاضِعَ لَمْ يَضَعْهُ الشَّرْعُ فِيهَا، وَهِيَ نَحْوٌ مَنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا؛ كَتَرْكِ امْتِثَالِ أَمْرِ مَنْ يَسْتَمِعُ أَمْرَهُ،

وَتَرْكِ حُضُورِ مَوَاعِظِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْمُدَاهَنَةُ إِذَا ظَهَرَتْ فِي أَحَدٍ قُتِلَ. . . . . وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ. وَكَانَ مَذْهَبُهُ (الْبِدْعَةَ) الظَّاهِرِيَّةَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَابْتَدَعَ أَشْيَاءَ؛ كَوُجُوهٍ مِنَ التَّثْوِيبِ، إِذْ كَانُوا يُنَادُونَ عِنْدَ الصَّلَاةِ " بتاصاليت الْإِسْلَام " وَ " بِقِيَامِ تاصاليت "، " سودرين "، وَ " بَارِدِي " وَ " وَأَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ". . . . وَغَيْرِهِ، فَجَرَى الْعَمَلُ بِجَمِيعِهَا فِي زَمَانِ الْمُوَحِّدِينَ، وَبَقِيَ أَكْثَرُهَا بَعْدَمَا انْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ حَتَّى إِنِّي أَدْرَكْتُ بِنَفْسِي فِي جَامِعِ غَرْنَاطَةَ الْأَعْظَمِ الرِّضَى عَنِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمَهْدِيِّ الْمَعْلُومِ، إِلَى أَنْ أُزِيلَتْ وَبَقِيَتْ أَشْيَاءُ مُثِيرَةٌ غُفِلَ عَنْهَا أَوْ أُغْفِلَتْ. وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ أَبُو الْعَلَاءِ إِدْرِيسُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْهُمْ ظَهَرَ لَهُ قُبْحُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْابْتِدَاعَاتِ، فَأَمَرَ ـ حِينَ اسْتَقَرَّ بِمَرَاكِشَ ـ خَلِيفَتَهُ بِإِزَالَةِ جَمِيعِ مَا ابْتُدِعَ مِنْ قِبَلِهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ رِسَالَةً إِلَى الْأَقْطَارِ يَأْمُرُ فِيهَا بِتَغْيِيرِ تِلْكَ السُّنَّةِ، وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَدْ نَبَذَ الْبَاطِلَ وَأَظْهَرَ الْحَقَّ، وَأَنْ لَا مَهْدِيَ إِلَّا عِيسَى، وَأَنَّ مَا ادَّعَوْهُ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ بِدْعَةٌ أَزَالَهَا وَأَسْقَطَ اسْمَ مَنْ لَا تُثْبِتُ عِصْمَتُهُ. وَذَكَرَ أَنْ أَبَاهُ الْمَنْصُورَ هَمَّ بِأَنْ يَصْدَعَ بِمَا بِهِ صَدْعَ، وَأَنْ يُرَقِّعَ الْحَرْفَ الَّذِي رَقَعَ، فَلَمْ يُسَاعِدْهُ الْأَجَلُ لِذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ وَاسْتُخْلِفَ ابْنُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَقَّبُ بِالرَّشِيدِ؛ وَفَدَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْمُتَّسِمِينَ بِالْمُوَحِّدِينَ، فَقَبِلُوا مِنْهُ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ، وَضَمِنُوا عَلَى

أَنْفُسِهِمُ الدُّخُولَ تَحْتَ طَاعَتِهِ، وَالْوُقُوفَ عَلَى قَدَمِ الْخِدْمَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْمُدَافَعَةَ عَنْهُ بِمَا اسْتَطَاعُوا، لَكِنْ عَلَى شَرْطِ ذِكْرِ الْمَهْدِيِّ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعِصْمَةِ فِي الْخُطْبَةِ وَالْمُخَاطَبَاتِ، وَنَقْشِ اسْمِهِ الْخَاصِّ فِي السِّكَكِ، وَإِعَادَةِ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَالنِّدَاءِ عَلَيْهَا " بتاصاليت الْإِسْلَام " عِنْدَ كَمَالِ الْأَذَانِ، وَبتقام تاصاليت "، وَهِيَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ " سودرين "، وَ " باوري " وَ " أَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ". . . . وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ الرَّشِيدُ اسْتَمِرَّ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا رَسَمَ أَبُوهُ مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَمَّا انْتَدَبَ " الْمُوَحِّدُونَ " إِلَى الطَّاعَةِ؛ اشْتَرَطُوا إِعَادَتَهُ مَا تَرَكَ، فَأَسْعَفُوا فِيهِ، فَلَمَّا احْتَلُّوا مَنَازِلَهُمْ أَيَّامًا، وَلَمْ يَعُدْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ؛ سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ، وَتَوَقَّعُوا انْقِطَاعَ مَا هُوَ عُمْدَتُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّشِيدَ، فَجَدَّدَ تَأْنِيسَهُمْ بِإِعَادَتِهَا. قَالَ الْمُؤَرِّخُ: فَيَا لَلَّهِ! مَاذَا بَلَغَ مِنْ سُرُورِهِمْ وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الِارْتِيَاحِ لِسَمَاعِ تِلْكَ الْأُمُورِ، وَانْطَلَقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالدُّعَاءِ لِخَلِيفَتِهِمْ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَشَمَلَتِ الْأَفْرَاحُ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ، وَهَذَا شَأْنُ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ أَبَدًا، فَلَنْ يُسَرَّ بِأَعْظَمَ مِنَ انْتِشَارِ بِدَعَتِهِ وَإِظْهَارِهَا، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]، وَهَذَا كُلُّهُ دَائِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالْإِمَامَةِ وَالْعِصْمَةِ الَّذِي هُوَ رَأْيُ الشِّيعَةِ.

فصل المغالاة في تعظيم الشيوخ

[فَصْلٌ الْمُغَالَاةُ فِي تَعْظِيمِ الشُّيُوخِ] فَصْلٌ وَمِنْهَا: رَأْيُ قَوْمٍ تَغَالَوْا فِي تَعْظِيمِ شُيُوخِهِمْ، حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ: فَالْمُقْتَصِدُ فِيهِمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لِلَّهِ أَعْظَمَ مِنْ فُلَانٍ، وَرُبَّمَا أَغْلَقُوا بَابَ الْوِلَايَةِ دُونَ سَائِرِ الْأُمَّةِ إِلَّا هَذَا الْمَذْكُورَ. وَهُوَ بَاطِلٌ مَحْضٌ، وَبِدْعَةٌ فَاحِشَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْلُغَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَبَدًا مَبَالِغَ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَخَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَهَكَذَا يَكُونُ الْأَمْرُ أَبَدًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، فَأَقْوَى مَا كَانَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي دِينِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَيَقِينِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ لَا زَالَ يَنْقُصُ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى آخَرِ الدُّنْيَا. لَكِنْ لَا يَذْهَبُ الْحَقُّ جُمْلَةً، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَائِفَةٍ تَقُومُ بِهِ وَتَعْتَقِدُهُ، وَتَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ عَلَى حَسْبِهِمْ فِي إِيمَانِهِمْ، لَا مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِأَنَّهُ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَزْنَ أُحُدٍ ذَهَبًا؛ مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَصِيفَهُ؛ حَسْبَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَالِ؛ فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ شُعَبِ الْإِيمَانِ؛ بِشَهَادَةِ التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ. وَلِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ الدِّينُ فِي نَقْصٍ؛ فَهُوَ ـ أَصْلًا ـ لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَكَيْفَ يَعْتَقِدُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّهُ وَلِيُّ أَهْلِ الْأَرْضِ؟! وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ وَلِيٌّ غَيْرُهُ!! لَكِنَّ الْجَهْلَ الْغَالِبَ، وَالْغُلُوَّ فِي التَّعْظِيمِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلنِّحَلِ، يُؤَدِّي إِلَى مِثْلِهِ أَوْ أَعْظَمَ مِنْهُ. وَالْمُتَوَسِّطُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسَاوٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَأْتِيهِ الْوَحْيُ.

بَلَغَنِي هَذَا عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْغَالِينَ فِي شَيْخِهِمْ، الْحَامِلِينَ لِطَرِيقَتِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ؛ نَظِيرَ مَا ادَّعَاهُ بَعْضُ تَلَامِذَةِ الْحَلَّاجِ فِي شَيْخِهِمْ عَلَى الِاقْتِصَادِ مِنْهُمْ فِيهِ. وَالْغَالِي يَزْعُمُ فِيهِ أَشْنَعَ مِنْ هَذَا، كَمَا ادَّعَى أَصْحَابُ الْحَلَّاجِ فِي الْحَلَّاجِ. وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الشُّيُوخِ أَهْلُ الْعَدَالَةِ وَالصِّدْقِ فِي النَّقْلِ أَنَّهُ قَالَ: " أَقَمْتُ زَمَانًا فِي بَعْضِ الْقُرَى الْبَادِيَةِ، وَفِيهَا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا كَثِيرٌ ". قَالَ: " فَخَرَجْتُ يَوْمًا مِنْ مَنْزِلِي لِبَعْضِ شَأْنِي، فَرَأَيْتُ رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ قَاعِدَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ، فَاتَّهَمْتُ أَنَّهُمَا يَتَحَدَّثَانِ فِي بَعْضِ فُرُوعِ طَرِيقَتِهِمْ، فَقَرُبْتُ مِنْهُمَا عَلَى اسْتِخْفَاءٍ لِأَسْمَعَ مِنْ كَلَامِهِمْ ـ إِذْ مِنَ شَأْنِهِمْ الِاسْتِخْفَاءُ بِأَسْرَارِهِمْ ـ، فَتَحَدَّثَا فِي شَيْخِهِمْ وَعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ فِي الدُّنْيَا مِثْلَهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: أَتُحِبُّ الْحَقَّ؟ هُوَ النَّبِيُّ، قَالَ: نَعَمْ، وَطَرِبَا لِهَذِهِ الْمُقَابَلَةِ طَرَبًا عَظِيمًا، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: أَتُحِبُّ الْحَقَّ؟ هُوَ كَذَا، قَالَ: نَعَمْ، هَذَا هُوَ الْحَقُّ ". قَالَ الْمُخْبِرُ لِي: " فَقُمْتُ مِنْ ذَلِكَ (الْمَكَانَ) فَارًّا أَنْ يُصِيبَنِي مَعَهُمْ قَارِعَةٌ. وَهَذَا نَمَطُ الشِّيعَةِ الْإِمَامِيَّةِ، وَلَوْلَا الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ، وَالتَّكَالُبُ عَلَى نَصْرِ الْمَذْهَبِ، وَالتَّهَالُكِ فِي مَحَبَّةِ الْمُبْتَدَعِ؛ لَمَا وَسِعَ ذَلِكَ عَقْلُ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا

فصل أخذ الأعمال إلى المنامات

بِذِرَاعٍ» الْحَدِيثَ. فَهَؤُلَاءِ غَلَوْا كَمَا غَلَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ قَالُوا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، وَفِي الْحَدِيثِ: «وَلَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَلَكِنْ قُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ». وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ؛ وَجَدَ لَهَا مِنَ الْبِدَعِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ إِذَا دَخَلَتْ فِي الْأَصْلِ؛ سَهُلَتْ مُدَاخَلَتُهَا الْفُرُوعَ. [فَصْلٌ أَخْذُ الْأَعْمَالِ إِلَى الْمَنَامَاتِ] فَصْلٌ وَأَضْعَفُ هَؤُلَاءِ احْتِجَاجًا قَوْمٌ اسْتَنَدُوا فِي أَخْذِ الْأَعْمَالِ إِلَى الْمَنَامَاتِ، وَأَقْبَلُوا وَأَعْرَضُوا بِسَبَبِهَا: فَيَقُولُونَ: رَأَيْنَا فُلَانًا الرَّجُلَ الصَّالِحَ، فَقَالَ لَنَا: اتْرُكُوا كَذَا، وَاعْمَلُوا كَذَا. وَيَتَّفِقُ هَذَا كَثِيرًا [لِـ] الْمُتَرَسِّمِينَ بِرَسْمِ التَّصَوُّفِ، وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لِي كَذَا، وَأَمَرَنِي بِكَذَا، فَيَعْمَلُ بِهَا وَيَتْرُكُ بِهَا؛ مُعْرِضًا عَنِ الْحُدُودِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ.

وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُحْكَمُ بِهَا شَرْعًا عَلَى حَالٍ؛ إِلَّا أَنْ تُعْرَضَ عَلَى مَا فِي أَيْدِينَا مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنْ سَوَّغَتْهَا عُمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِلَّا؛ وَجَبَ تَرْكُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا الْبِشَارَةُ أَوِ النِّذَارَةُ خَاصَّةً، وَأَمَّا اسْتِفَادَةُ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا. كَمَا يُحْكَى عَنِ الْكَتَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ قَالَ: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا يُمِيتَ قَلْبِي، فَقَالَ: قُلْ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ مَرَّةً: يَا حَيُّ! يَا قَيُّومُ! لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ". فَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَكَوْنُ الذِّكْرِ يُحْيِي الْقَلْبَ صَحِيحٌ شَرْعًا، وَفَائِدَةُ الرُّؤْيَا التَّنْبِيهُ عَلَى الْخَيْرِ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبِشَارَةِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْكَلَامُ فِي التَّحْدِيدِ بِالْأَرْبَعِينَ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدُ عَلَى اللُّزُومِ اسْتَقَامَ. وَعَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ؛ قَالَ: رَأَيْتُ رَبِّي فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: اتْرُكْ نَفْسَكَ وَتَعَالَى ". وَشَأْنُ هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الشَّرْعِ مَوْجُودٌ، فَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ كَالتَّنْبِيهِ لِمَوْضِعِ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ النَّفْسِ مَعْنَاهُ تَرْكُ هَوَاهَا بِإِطْلَاقِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40 - 41]،. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَلَوْ رَأَى فِي النَّوْمِ قَائِلًا يَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا سَرَقَ فَاقْطَعْهُ، أَوْ عَالِمٌ

فَاسْأَلْهُ، أَوِ اعْمَلْ بِمَا يَقُولُ لَكَ، أَوْ فُلَانٌ زَنَى فَحُدَّهُ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْعَمَلُ، حَتَّى يَقُومَ لَهُ الشَّاهِدُ فِي الْيَقَظَةِ، وَإِلَّا؛ كَانَ عَامِلًا بِغَيْرِ شَرِيعَةٍ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ. وَلَا يُقَالُ: إِنِ الرُّؤْيَا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُهْمَلَ، وَأَيْضًا؛ إِنَّ الْمُخْبِرَ فِي الْمَنَامِ قَدْ يَكُونُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَدْ قَالَ: «مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ؛ فَقَدْ رَآنِي حَقًا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي»، وَإِذَا كَانَ. . . فَإِخْبَارُهُ فِي النَّوْمِ كَإِخْبَارِهِ فِي الْيَقَظَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ؛ فَلَيْسَتْ إِلَيْنَا مِنْ كَمَالِ الْوَحْيِ، بَلْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَالْجُزْءُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ، بَلْ إِنَّمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ صُرِفَتْ إِلَى جِهَةِ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَفِيهَا كَافٌ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ جُزْءٌ مِنْ (أَجْزَاءِ) النُّبُوَّةِ؛ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَحُصُولُ الشُّرُوطِ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَقَدْ تَتَوَفَّرُ وَقَدْ لَا تَتَوَفَّرُ. وَأَيْضًا؛ فَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْحُلْمِ ـ وَهُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ ـ، وَإِلَى حَدِيثِ النَّفْسِ، وَقَدْ تَكُونُ سَبَبَ هَيَجَانِ بَعْضِ أَخْلَاطٍ، فَمَتَى تَتَعَيَّنُ الصَّالِحَةُ حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا وَنَتْرُكُ غَيْرَ الصَّالِحَةِ؟!. وَيَلْزَمُ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَجْدِيدَ وَحْيٍ بِحُكْمٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ.

" يُحْكَى أَنَّ شَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي دَخَلَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَلَمَّا رَآهُ؛ قَالَ: عَلَيَّ بِالسَّيْفِ وَالنَّطْعِ، قَالَ: وَلِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّكَ تَطَأُ بِسَاطِي وَأَنْتَ مُعْرِضٌ عَنِّي، فَقَصَصْتُ رُؤْيَايَ عَلَى مَنْ عَبَرَهَا، فَقَالَ لِي: يُظْهِرُ لَكَ طَاعَةً وَيُضْمِرُ مَعْصِيَةً. فَقَالَ لَهُ شَرِيكٌ: وَاللَّهِ مَا رُؤْيَاكَ بِرُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا أَنَّ مُعَبِّرَكَ بِيُوسُفَ الصِّدِّيقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَبِالْأَحْلَامِ الْكَاذِبَةِ تَضْرِبُ أَعْنَاقَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَاسْتَحْيَا الْمَهْدِيُّ، وَقَالَ: اخْرُجْ عَنِّي، ثُمَّ صَرَفَهُ وَأَبْعَدَهُ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ: " أَنَّهُ أَفْتَى بِوُجُوبِ قَتْلِ رَجُلٍ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَرُوجِعَ فِيهِ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ رَجُلًا رَأَى فِي مَنَامِهِ إِبْلِيسَ قَدِ اجْتَازَ بِبَابِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَدْخُلْهَا؟ فَقِيلَ: هَلْ دَخَلْتَهَا؟ فَقَالَ: أَغْنَانِي عَنْ دُخُولِهَا رَجُلٌ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: لَوْ أَفْتَى إِبْلِيسُ بِوُجُوبِ قَتْلِي فِي الْيَقَظَةِ؛ هَلْ تُقَلِّدُونَهُ فِي فَتْوَاهُ؟ فَقَالُوا: لَا! فَقَالَ: قَوْلُهُ فِي الْمَنَامِ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْيَقَظَةِ ". وَأَمَّا الرُّؤْيَا الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّائِي بِالْحُكْمِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ بِحُكْمٍ مُوَافِقٍ لِشَرِيعَتِهِ؛ فَالْحُكْمُ بِمَا اسْتَقَرَّ، وَإِنْ أَخْبَرَ بِمُخَالِفٍ؛ فَمُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَنْسَخُ بَعْدَ مَوْتِهِ شَرِيعَتَهُ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَتَوَقَّفُ اسْتِقْرَارُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى حُصُولِ الْمَرَائِي النَّوْمِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ رُؤْيَاهُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، إِذْ لَوْ رَآهُ حَقًّا؛ لَمْ يُخْبِرْهُ بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ. لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدَ

رَآنِي» وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ، إِذْ سُئِلَ عَنْ حَاكِمٍ شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مَشْهُورَانِ بِالْعَدَالَةِ فِي قَضِيَّةٍ، فَلَمَّا نَامَ الْحَاكِمُ؛ ذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: تَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ؟! فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ؟. فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِالرُّؤْيَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَقَدَ، إِذْ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ مِنْ نَاحِيَتِهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ رُؤْيَاهُمْ وَحْيٌ، وَمَنْ سِوَاهُمْ؛ إِنَّمَا رُؤْيَاهُمْ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي حَقًّا»، أَنَّ كُلَّ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ رَآهُ فَقَدْ رَآهُ حَقِيقَةً، بِدَلِيلٍ أَنَّ الرَّائِيَ قَدْ يَرَاهُ مَرَّاتٍ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَيَرَاهُ الرَّائِي عَلَى صِفَةٍ، وَغَيْرِهِ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ صُوَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا صِفَاتُهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ: مَنْ رَآنِي عَلَى صُورَتَيِ الَّتِي خُلِقْتُ عَلَيْهَا. فَقَدْ رَآنِي، إِذْ لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي، إِذْ لَمْ يَقُلْ: مَنْ رَأَى أَنَّهُ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي؛ وَإِنَّمَا قَالَ: «مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي»، وَأَنَّى لِهَذَا الرَّائِي الَّذِي رَأَى أَنَّهُ رَآهُ عَلَى صُورَةٍ أَنَّهُ رَآهُ عَلَيْهَا؟، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ رَآهُ، مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ صُورَتُهُ بِعَيْنِهَا؟!، وَهَذَا مَا لَا طَرِيقَ لِأَحَدٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. فَهَذَا مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمَرْئِيَّ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنِ اعْتَقَدَ الرَّائِي أَنَّهُ هُوَ. الثَّانِي: يَقُولُهُ عُلَمَاءُ التَّعْبِيرِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَأْتِي النَّائِمَ فِي صُورَةٍ

فصل الاجتماع في بعض الليالي والأخذ بالذكر الجهري على صوت واحد

مَا مِنْ مَعَارِفِ الرَّائِي وَغَيْرِهِمْ، فَيُشِيرُ لَهُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ: هَذَا فُلَانٌ النَّبِيُّ، وَهَذَا الْمِلْكُ الْفُلَانِيُّ، أَوْ مَنْ أَشْبَهَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِهِ، فَيُوقِفُ اللَّبْسَ عَلَى الرَّائِي بِذَلِكَ، وَلَهُ عَلَامَةٌ عِنْدَهُمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ أَمْكَنَ أَنْ يُكَلِّمَهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ غَيْرِ الْمُوَافِقَيْنِ لِلشَّرْعِ، فَيَظُنُّ الرَّائِي أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَلَا يُوثِقُ بِمَا يَقُولُ لَهُ أَوْ يَأْمُرُ أَوْ يَنْهَى. وَمَا أَحْرَى هَذَا الضَّرْبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ فِيهِ مُخَالِفًا لِكَمَالِ الْأَوَّلِ، [وَهُوَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] حَقِيقًا بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ مُوَافِقًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ. نَعَمْ؛ لَا يَحْكُمُ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَا حَتَّى يَعْرِضَهَا عَلَى الْعِلْمِ؛ لِإِمْكَانِ اخْتِلَاطِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ بِالْآخَرِ وَعَلَى الْجُمْلَةِ، فَلَا يَسْتَدِلُّ (بِالرُّؤْيَا) فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا ضَعِيفُ الْمِنَّةِ. نَعَمْ؛ يَأْتِي الْمَرْئِيَّ تَأْنِيسًا وَبِشَارَةً وَنِذَارَةً خَاصَّةً، بِحَيْثُ لَا يَقْطَعُونَ بِمُقْتَضَاهَا حُكْمًا، وَلَا يَبْنُونَ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَهُوَ الِاعْتِدَالُ فِي أَخْذِهَا، حَسْبَمَا فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الِاجْتِمَاعُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي وَالْأَخْذُ بِالذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ] فَصْلٌ وَقَدْ رَأَيْنَا أَنْ نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي الْبَابِ بِفَصْلٍ جَمَعَ جُمْلَةً مِنْ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَغَيْرِهَا فِي مَعْنَاهَا، وَفِيهِ مِنْ نُكَتِ هَذَا الْكِتَابِ جُمْلَةٌ أُخْرَى، فَهُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِحَسْبَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ

طُولٌ، وَلَكِنَّهُ يَخْدِمُ مَا نَحْنُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ قَوْمٍ يَتَسَمَّوْنَ بِالْفُقَرَاءِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ سَلَكُوا طَرِيقَ الصُّوفِيَّةِ، فَيَجْتَمِعُونَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، وَيَأْخُذُونَ فِي الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ فِي الْغَنَاءِ وَالرَّقْصِ إِلَى آخَرَ اللَّيْلِ، وَيَحْضُرُ مَعَهُمْ بَعْضُ الْمُتَسَمِّينَ بِالْفُقَهَاءِ، يَتَرَسَّمُونَ بِرَسْمِ الشُّيُوخِ الْهُدَاةِ إِلَى سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ؛ هَلْ هَذَا الْعَمَلُ صَحِيحٌ فِي الشَّرْعِ أَمْ لَا؟ فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، الْمُخَالَفَةِ طَرِيقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقَةَ أَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَنَفَعَ بِذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْجَوَابَ وَصَلَ إِلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ، فَقَامَتْ عَلَى الْعَامِلِينَ بِتِلْكَ الْبِدَعِ، وَخَافُوا انْدِرَاسَ طَرِيقَتِهِمْ وَانْقِطَاعَ أَكْلِهِمْ بِهَا، فَأَرَادُوا الِانْتِصَارَ لِأَنْفُسِهِمْ، بَعْدَ أَنْ رَامُوا ذَلِكَ بِالِانْتِسَابِ بِالسُّنَّةِ إِلَى شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ فَضِيلَتُهُمْ وَاشْتُهِرَتْ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ وَالْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ طَرِيقَتُهُمْ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُمْ الِاسْتِدْلَالُ؛ لِكَوْنِهِمْ عَلَى ضِدِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا بَنَوْا نِحْلَتَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ: الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَكْلِ الْحَلَالِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ خَالَفُوهُمْ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ، فَلَا يُمْكِنُهُمُ الدُّخُولُ تَحْتَ تَرْجَمَتِهِمْ. وَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ سَأَلَ بَعْضَ شُيُوخِ الْوَقْتِ فِي مَسْأَلَةٍ تُشْبِهُ هَذِهِ، لَكِنْ حَسَّنَ ظَاهِرَهَا بِحَيْثُ يَكَادُ بَاطِنُهَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ الْمُتَأَمِّلِ، فَأَجَابَ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا؛ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ إِلَى مَا

هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ. وَلَمَّا سَمِعَ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ؛ أَرْسَلَ بِهِ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى، فَأَتَى بِهِ، فَرَحَلَ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، وَشَهَرَ فِي شِيعَتِهِ أَنَّ بِيَدِهِ حُجَّةً لِطَرِيقَتِهِمْ تَقْهَرُ كُلَّ حُجَّةٍ، وَأَنَّهُ طَالِبٌ لِلْمُنَاظَرَةِ فِيهَا، فَدُعِيَ لِذَلِكَ، فَلَمْ يَقُمْ فِيهِ وَلَا قَعَدَ؛ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ) هَذِهِ حُجَّتِي، وَأَلْقَى بِالْبِطَاقَةِ الَّتِي بِخَطِّ الْمُجِيبِ، وَكَانَ هُوَ وَمُحِبُّهُ وَأَشْيَاعُهُ يَطِيرُونَ بِهَا فَرَحًا. فَوَصَلَتِ الْمَسْأَلَةُ إِلَى غَرْنَاطَةَ، وَطُلِبَ مِنَ الْجَمِيعِ النَّظَرُ فِيهَا، فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا لَهُ قُوَّةٌ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا؛ إِلَّا أَنْ يُظْهِرَ وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا الَّذِي يُدَانُ اللَّهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدِّينُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَنَصُّ خُلَاصَةِ السُّؤَالِ: مَا يَقُولُ الشَّيْخُ فُلَانٌ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ يَجْتَمِعُونَ فِي رِبَاطٍ عَلَى ضَفَّةِ الْبَحْرِ فِي اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ، يَقْرَؤُنَ جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كُتُبِ الْوَعْظِ وَالرَّقَائِقِ مَا أَمْكَنَ فِي الْوَقْتِ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ بِأَنْوَاعِ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ بَيْنِهِمْ قَوَّالٌ يَذْكُرُ شَيْئًا فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُلْقِي مِنَ السَّمَاعِ مَا تَتُوقُ النَّفْسُ إِلَيْهِ وَتَشْتَاقُ سَمَاعَهُ مِنْ صِفَاتِ الصَّالِحِينَ، وَذِكْرِ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَيُشَوِّقُهُمْ بِذِكْرِ الْمَنَازِلِ الْحِجَازِيَّةِ وَالْمَعَاهِدِ النَّبَوِيَّةِ، فَيَتَوَاجَدُونَ اشْتِيَاقًا لِذَلِكَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ مَا حَضَرَ مِنَ الطَّعَامِ، وَيَحْمَدُونَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَيُرَدِّدُونَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَبْتَهِلُونَ بِالْأَدْعِيَةِ إِلَى اللَّهِ فِي صَلَاحِ أُمُورِهِمْ، وَيَدْعُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِإِمَامِهِمْ، وَيَفْتَرِقُونَ؛ فَهَلْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ؟ أَمْ يَمْنَعُونَ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمْ؟ وَمَنْ دَعَاهُمْ مِنَ الْمُحِبِّينَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِقَصْدِ التَّبَرُّكِ؛ هَلْ يُجِيبُونَ دَعْوَتَهُ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ بِمَا مَحْصُولُهُ: مَجَالِسُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ هِيَ رِيَاضُ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَتَى بِالشَّوَاهِدِ عَلَى طَلَبِ ذِكْرِ اللَّهِ. وَأَمَّا الْإِنْشَادَاتُ الشِّعْرِيَّةُ؛ فَإِنَّمَا الشِّعْرُ كَلَامٌ؛ حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَفِي الْقُرْآنِ فِي شُعَرَاءِ الْإِسْلَامِ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الشعراء: 227]، وَذَلِكَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَكَعْبًا لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]؛ بَكَوْا عِنْدَ سَمَاعِهَا، فَنَزَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَقَدْ أُنْشِدَ الشِّعْرُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَقَّتْ نَفْسُهُ الْكَرِيمَةُ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ لِأَبْيَاتِ أُخْتِ النَّضْرِ؛ لِمَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَأَمَّا التَّوَاجُدُ عِنْدَ السَّمَاعِ؛ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ رَقْدُ النَّفْسِ، وَاضْطِرَابُ الْقَلْبِ فَيَتَأَثَّرُ الظَّاهِرُ بِتَأَثُّرِ الْبَاطِنِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]؛ أَيِ: اضْطَرَبَتْ رَغَبًا أَوْ رَهَبًا، وَعَنِ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ يَحْصُلُ اضْطِرَابُ الْجِسْمِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} [الكهف: 18] الْآيَةَ، وَقَالَ: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]. فَإِنَّمَا التَّوَاجُدُ رِقَّةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَهَزَّةٌ قَلْبِيَّةٌ، وَنَهْضَةٌ رُوحَانِيَّةٌ، وَهَذَا هُوَ

التَّوَاجُدُ عَنْ وَجْدٍ، وَلَا يُسْمَعُ فِيهِ نَكِيرٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَذَكَرَ السُّلَمِيُّ أَنَّهُ كَانَ يُسْتَدَلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَرَكَةِ الْوَجْدِ فِي وَقْتِ السَّمَاعِ، (وَهِيَ): {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا} [الكهف: 14] الْآيَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْقُلُوبَ مَرْبُوطَةٌ بِالْمَلَكُوتِ، حَرَّكَتْهَا أَنْوَارُ الْأَذْكَارِ، وَمَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنْ فُنُونِ السَّمَاعِ. وَوَرَاءَ هَذَا تَوَاجُدٌ لَا عَنْ وَجْدٍ، فَهُوَ مَنَاطُ الذَّمِّ؛ لِمُخَالَفَةِ مَا ظَهَرَ لِمَا بَطَنَ، وَقَدْ يَعْزُبُ فِيهِ الْأَمْرُ عِنْدَ الْقَصْدِ إِلَى اسْتِنْهَاضِ الْعَزَائِمِ وَإِعْمَالِ الْحَرَكَةِ فِي يَقَظَةِ الْقَلْبِ النَّائِمِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا؛ فَتَبَاكُوا». وَلَكِنْ شَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلَى مَنْزِلِهِ؛ فَتُجَابُ دَعْوَتُهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ قَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ. فَهَذَا مَا ظَهَرَ تَقْيِيدُهُ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، انْتَهَى مَا قَيَّدَهُ. فَكَانَ مِمَّا ظَهَرَ لِي فِي هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ الصَّحِيحِ إِذَا كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِتُدَارِسِ الْقُرْآنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَتَعَلَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَأْخُذَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الَّتِي جَاءَ فِي مِثْلِهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ

كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ كَلَامِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الذِّكْرِ؛ فَإِنَّهُ اجْتِمَاعٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ؛ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ». . . . الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، لَا الِاجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى التَّذَكُّرِ لِنِعَمِ اللَّهِ، أَوِ التَّذَاكُرِ فِي الْعِلْمِ ـ إِنْ كَانُوا عُلَمَاءَ ـ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ عَالِمٌ فَجَلَسَ إِلَيْهِ مُتَعَلِّمُونَ، أَوِ اجْتَمَعُوا يُذَكِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالْبُعْدِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَعْمَلُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ، وَعَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ؛ فَهَذِهِ الْمَجَالِسُ كُلُّهَا مَجَالِسُ ذِكْرٍ، وَهِيَ الَّتِي جَاءَ فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ مَا جَاءَ. كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقَصَصِ، فَقَالَ: " أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُونَ وَيُحَدِّثُ هَذَا بِمَا سَمِعَ وَهَذَا بِمَا سَمِعَ، فَأَمَّا أَنْ يُجْلِسُوا خَطِيبًا؛ فَلَا ". وَكَالَّذِي نَرَاهُ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ اجْتِمَاعِ الطَّلَبَةِ عَلَى مُعَلِّمٍ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، أَوْ عِلْمًا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ تَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْعَامَّةُ، فَيُعَلِّمُهُمْ أَمْرَ دِينِهِمْ، وَيُذَكِّرُهُمْ بِاللَّهِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ لِيَعْمَلُوا بِهَا، وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي هِيَ ضَلَالَةٌ لِيَحَذَرُوا مِنْهَا، وَيَتَجَنَّبُوا مَوَاطِنَهَا وَالْعَمَلَ بِهَا.

فَهَذِهِ مَجَالِسُ الذِّكْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ الَّتِي حَرَمَهَا اللَّهُ أَهْلَ الْبِدَعِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ سَلَكُوا طَرِيقَ التَّصَوُّفِ. فَقَلَّمَا تَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُحْسِنُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا عَلَى اللَّحْنِ؛ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، وَلَا يَعْرِفُ كَيْفَ يَتَعَبَّدُ، وَلَا كَيْفَ يَسْتَنْجِي، أَوْ يَتَوَضَّأُ، أَوْ يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكَيْفَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَهُمْ قَدْ حُرِمُوا مَجَالِسَ الذِّكْرِ الَّتِي تَغْشَاهَا الرَّحْمَةُ، وَتَنْزِلُ فِيهَا السَّكِينَةُ، وَتَحُفُّ بِهَا الْمَلَائِكَةُ؟!. فَبِانْطِمَاسِ هَذَا النُّورِ عَنْهُمْ ضَلُّوا، فَاقْتَدَوْا بِجُهَّالٍ أَمْثَالِهِمْ، وَأَخَذُوا يَقْرَؤُنَ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ فَيُنْزِلُونَهَا عَلَى آرَائِهِمْ لَا عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا، فَخَرَجُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا وَيَقْرَأَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ يَكُونُ حَسَنَ الصَّوْتِ طَيِّبَ النَّغْمَةِ جَيِّدَ التَّلْحِينِ تُشْبِهُ قِرَاءَتُهُ الْغَنَاءَ الْمَذْمُومَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: تَعَالَوْا نَذْكُرُ اللَّهَ، فَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ؛ يُمْشُونَ ذَلِكَ الذِّكْرَ مُدَاوَلَةً، طَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ، وَطَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ أُخْرَى، عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ يُشْبِهُ الْغِنَاءَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهَا. وَكَذَبُوا؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَقًّا؛ لَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَوْلَى بِإِدْرَاكِهِ وَفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِلَّا؛ فَأَيْنَ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ الِاجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ عَالِيًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]؟!. وَالْمُعْتَدُونَ - فِي التَّفْسِيرِ - هُمُ الرَّافِعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى؛ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا؛ إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُكَبِّرُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ؛ لِيَكُونُوا مُمْتَثِلِينَ لِلْآيَةِ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ السَّلَفِ أَيْضًا النَّهْيُ عَنِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدِعُونَ، وَجَاءَ عَنْهُمُ النَّهْيُ عَنِ الْمَسَاجِدِ الْمُتَّخَذَةِ لِذَلِكَ، وَهِيَ الرُّبْطُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بِالصُّفَّةِ. ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ وَضَّاحٍ وَغَيْرُهُمَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ حَسَّنُوا الظَّنَّ بِأَنَّهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ (مُصِيبُونَ)، وَأَسَاءُوا الظَّنَّ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ أَهْلِ الْعَمَلِ الرَّاجِحِ الصَّرِيحِ وَأَهْلِ الدِّينِ الصَّحِيحِ، ثُمَّ لَمَّا طَالَبَهُمْ لِسَانُ الْحَالِ بِالْحُجَّةِ؛ أَخَذُوا كَلَامَ الْمُجِيبِ وَهُمْ لَا يَعْمَلُونَ، وَقَوَّلُوهُ مَا لَا يَرْضَى بِهِ الْعُلَمَاءُ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ آخَرَ؛ إِذْ سُئِلَ عَنْ ذِكْرِ فُقَرَاءِ زَمَانِنَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ مَجَالِسَ الذِّكْرِ الْمَذْكُورَةَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ؛ أَنَّهَا هِيَ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا الْقُرْآنُ، وَالَّتِي يُتَعَلَّمُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالدِّينُ، وَالَّتِي تَعْمُرُ بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ بِالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ كَمَجَالِسِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَضْرَابِهِمْ. أَمَّا مَجَالِسُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ فَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِي حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ السَّيَّاحِينَ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَهْرًا بِالْكَلِمَاتِ، وَلَا رَفْعَ أَصْوَاتٍ، وَكَذَلِكَ

غَيْرُهُ، لَكِنَّ الْأَصْلَ الْمَشْرُوعَ إِعْلَانُ الْفَرَائِضِ وَإِخْفَاءُ النَّوَافِلِ، وَأَتَى بِالْآيَةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] وَبِحَدِيثِ: «أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ». قَالَ: وَفُقَرَاءُ الْوَقْتِ قَدْ تَخَيَّرُوا أَوْقَاتًا وَتَمَيَّزُوا بِأَصْوَاتٍ هِيَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى الِاقْتِدَاءِ، وَطَرِيقَتُهُمْ إِلَى اتِّخَاذِهَا مَأْكَلَةً وَصِنَاعَةً أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى اعْتِدَادِهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً. انْتَهَى مَعْنَاهُ عَلَى اخْتِصَارِ أَكْثَرِ الشَّوَاهِدِ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَتْوَاهُ الْمُحْتَجَّ بِهَا لَيْسَ مَعْنَاهَا مَا رَامَ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَدَعَةُ؛ فَإِنَّهُ سُئِلَ فِي هَذِهِ عَنْ فُقَرَاءِ الْوَقْتِ، فَأَجَابَ بِذَمِّهِمْ، وَأَنَّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَاوَلُ عَمَلَهُمْ، وَفِي الْأُولَى إِنَّمَا سُئِلَ عَنْ قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَهَذَا السُّؤَالُ يَصْدُقُ عَلَى قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ مَثَلًا فِي الْمَسْجِدِ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ، أَوْ يَتْلُو الْقُرْآنَ لِنَفْسَهُ؛ كَمَا يَصْدُقُ عَلَى مَجَالِسِ الْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَسَعُهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ مَحَاسِنَ ذَلِكَ وَالثَّوَابَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ؛ بَيَّنَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ (الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ).

وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِنْشَادَاتِ الشِّعْرِيَّةِ؛ فَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ الَّذِي لَا رَفَثَ فِيهِ وَلَا يُذَكِّرُ بِمَعْصِيَةٍ، وَأَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِهِ إِذَا أُنْشِدَ، عَلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ يُنْشَدُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ عَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَنْشُدُ وَيُسْمَعُ لِفَوَائِدَ: مِنْهَا: الْمُنَافَحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلِذَلِكَ «كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ نُصِبَ لَهُ مِنْبَرٌ فِي الْمَسْجِدِ يُنْشِدُ عَلَيْهِ إِذَا وَفَدَتِ الْوُفُودُ، حَتَّى يَقُولُوا: خَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَيَقُولُ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ» وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ فَضْلِهِ فِي غِنَائِهِمْ بِالشِّعْرِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِحَاجَاتِهِمْ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِتَقْدِيمِ الْأَبْيَاتِ بَيْنَ يَدَيْ طَلَبَاتِهِمْ؛ كَمَا فَعَلَ ابْنُ زُهَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأُخْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ؛ وَمِثْلُ مَا يَفْعَلُ الشُّعَرَاءُ مَعَ الْكُبَرَاءِ؛ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الشِّعْرِ ذِكْرُ مَا لَا يَجُوزُ، وَنَظِيرُهُ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ تَقْدِيمُ الشُّعَرَاءِ لِلْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ قِطَعًا مِنْ أَشْعَارِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ حَاجَاتِهِمْ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ فَقُرَاءُ الْوَقْتِ الْمُجَرَّدُونَ لِلسِّعَايَةِ عَلَى النَّاسِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ»، فَإِنَّهُمْ

يُنْشِدُونَ الْأَشْعَارَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ رَسُولِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَيَتَمَنْدَلُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ آلَةَ الْأَخْذِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، لَكِنْ بِأَصْوَاتٍ مُطْرِبَةٍ؛ يُخَافُ بِسَبَبِهَا عَلَى النِّسَاءِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ رُبَّمَا أَنْشَدُوا الشِّعْرَ فِي الْأَسْفَارِ الْجِهَادِيَّةِ؛ تَنْشِيطًا لَكِلَالِ النُّفُوسِ، وَتَنْبِيهًا لِلرَّوَاحِلِ أَنْ تَنْهَضَ فِي أَثْقَالِهَا، وَهَذَا حَسَنٌ. لَكِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ تَحْسِينِ النَّغَمَاتِ مَا يَجْرِي مَجْرَى مَا النَّاسُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، بَلْ كَانُوا يُنْشِدُونَ الشِّعْرَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَتَعَلَّمُوا هَذِهِ التَّرْجِيعَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ بِعَدَهُمْ، بَلْ كَانُوا يُرَقِّقُونَ الصَّوْتَ وَيَمُطِّطُونَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلِيقُ بِأُمِّيَّةِ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا صَنَائِعَ الْمُوسِيقَى، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلْذَاذٌ وَلَا إِطْرَابٌ يُلْهِي، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ النَّشَاطِ؛ كَمَا «كَانَ الْحَبَشَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَحْدُوَانِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ يَقُولُونَ عِنْدَ حَفْرِ الْخَنْدَقِ: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا فَيُجِيبُهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِقَوْلِهِ): اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ. فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ». وَمِنْهَا: أَنْ يَتَمَثَّلَ الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ أَوِ الْأَبْيَاتِ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي نَفْسِهِ؛

لِيَعِظَ نَفْسَهُ أَوْ يُنَشِّطَهَا أَوْ يُحَرِّكَهَا لِمُقْتَضَى مَعْنَى الشِّعْرِ، أَوْ يَذَكِّرَهَا ذِكْرًا مُطْلَقًا: كَمَا حَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيُّ الصُّوفِيُّ عَنِ الْحَسَنِ: " أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ لَنَا إِمَامًا إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ تَغَنَّى، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ هُوَ؟ فَذُكِرَ لَهُ الرَّجُلُ. فَقَالَ: قُومُوا بِنَا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّا إِنْ وَجَّهْنَا إِلَيْهِ يَظُنُّ أَنَّا تَجَسَّسْنَا عَلَيْهِ أَمْرَهُ. قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَوُا الرَّجُلَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَنْ نَظَرَ إِلَى عُمَرَ قَامَ فَاسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا حَاجَتُكَ؟ وَمَا جَاءَ بِكَ؟ إِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ لَنَا؛ كُنَّا أَحَقَّ بِذَلِكَ مِنْكَ أَنْ نَأْتِيَكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ لَكَ؛ فَأَحَقُّ مَنْ عَظَّمْنَاهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ عُمَرُ: وَيَحَكَ! بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ سَاءَنِي، قَالَ: وَمَا هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: أَتَتَمَجَّنُ فِي عِبَادَتِكَ؟ قَالَ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّهَا عِظَةٌ أَعِظُ بِهَا نَفْسِي. قَالَ عُمَرُ: قُلْهَا، فَإِنْ كَانَ كَلَامًا حَسَنًا قُلْتُهُ مَعَكَ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا نَهَيْتُكَ عَنْهُ. فَقَالَ: وَفُؤَادٍ كُلَّمَا عَاتَبْتُهُ ... فِي مَدَى الْهِجْرَانِ يَبْغِي تَعَبِي لَا أَرَاهُ الدَّهْرَ إِلَّا لَاهِيًا ... فِي تَمَادِيهِ فَقَدْ بَرَّحَ بِي يَا قَرِينَ السُّوءِ مَا هَذَا الصِّبَا ... فَنِيَ الْعُمْرُ كَذَا فِي اللَّعِبِ وَشَبَابٌ بَانَ عَنِّي فَمَضَى ... قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ مِنْهُ أَرَبِي مَا أُرَجِّي بَعْدَهُ إِلَّا الْفَنَا ... ضَيَّقَ الشَّيْبُ عَلَيَّ مَطْلَبِي وَيْحَ نَفْسِي لَا أَرَاهَا أَبَدًا ... فِي جَمِيلٍ لَا وَلَا فِي أَدَبِ نَفْسُ لَا كُنْتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى ... رَاقِبِي الْمَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي

قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ رِضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَفْسُ لَا كُنْتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى ... رَاقِبِي الْمَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: " عَلَى هَذَا فَلْيُغَنِّ مَنْ غَنَّى ". فَتَأَمَّلُوا قَوْلَهُ: " بَلَغَنِي أَمْرٌ سَاءَنِي "، مَعَ قَوْلِهِ: أَتَتَمَجَّنُ فِي عِبَادَتِكَ؛ فَهُوَ مِنْ أَشَدِّ مَا يَكُونُ فِي الْإِنْكَارِ، حَتَّى أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يُرَدِّدُ لِسَانُهُ أَبْيَاتَ حِكْمَةٍ فِيهَا عِظَةٌ، فَحِينَئِذٍ أَقَرَّهُ وَسَلَّمَ لَهُ. هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ كَانَ فِعْلَ الْقَوْمِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَقْتَصِرُوا فِي التَّنْشِيطِ لِلنُّفُوسِ وَلَا الْوَعْظِ عَلَى مُجَرَّدِ الشِّعْرِ، بَلْ وَعَظُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُلِّ مَوْعِظَةٍ، وَلَا كَانُوا يَسْتَحْضِرُونَ لِذِكْرِ الْأَشْعَارِ الْمُغَنِّينَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ طَلَبَاتِهِمْ، وَلَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْغِنَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَزَمَانِنَا شَيْءٌ، وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَهُمْ حِينَ خَالَطَ الْعَجَمُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيُّ فَقَالَ: " إِنَّ الْمَاضِينَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا يُلَحِّنُونَ الْأَشْعَارَ وَلَا يُنَغِّمُونَهَا بِأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّغَمِ؛ إِلَّا مِنْ وَجْهِ إِرْسَالِ الشِّعْرِ وَاتِّصَالِ الْقَوَافِي، فَإِنْ كَانَ صَوْتُ أَحَدِهِمْ أَشْجَنَ مِنْ صَاحِبِهِ؛ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا إِلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ، لَا يَتَصَنَّعُونَ وَلَا يَتَكَلَّفُونَ ". هَذَا مَا قَالَ، فَلِذَلِكَ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ، وَحَتَّى سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْغِنَاءِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: " إِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْفُسَّاقُ ". وَلَا كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ أَيْضًا يَعُدُّونَ الْغِنَاءَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ طَرِيقَةِ التَّعَبُّدِ

وَطَلَبِ رِقَّةِ النُّفُوسِ وَخُشُوعِ الْقُلُوبِ، حَتَّى يَقْصِدُونَهُ قَصْدًا، وَيَتَعَمَّدُوا اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ فَيَجْتَمِعُوا لِأَجَلِ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ وَالشَّطْحِ وَالرَّقْصِ وَالتَّغَاشِي وَالصِّيَاحِ وَضَرْبِ الْأَقْدَامِ عَلَى وَزْنِ إِيقَاعِ الْكَفِّ أَوِ الْآلَاتِ وَمُوَافَقَةِ النَّغَمَاتِ. هَلْ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَنْهُ وَعَمَلِهِ الْمَنْقُولِ فِي الصِّحَاحِ أَوْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَوْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ [فِي] ذَلِكَ أَثَرٌ؟ أَوْ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ مَا يُصَرِّحُ بِجَوَازِ مِثْلِ هَذَا؟! بَلْ سُئِلَ عَنْ إِنْشَادِ الْأَشْعَارِ بِالصَّوَامِعِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُؤَذِّنُونَ الْيَوْمَ فِي الدُّعَاءِ بِالْأَسْحَارِ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى بِدْعَةٍ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ بِالصَّوَامِعِ بِدْعَةٌ، وَإِنْشَادَ (الشِّعْرِ) وَالْقَصَائِدِ بِدْعَةٌ أُخْرَى، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِ السَّلَفِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ. كَمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ أَمَامَ الْجِنَازَةِ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ السُّنَّةَ فِي اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ الصَّمْتُ وَالتَّفَكُّرُ وَالِاعْتِبَارُ، وَأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ السَّلَفِ، وَاتِّبَاعُهُمْ سُنَّةٌ، وَمُخَالَفَتُهُمْ بِدْعَةٌ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَنْ يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ فِي التَّوَاجُدِ عِنْدَ السَّمَاعِ؛ مِنْ أَنَّهُ أَثَرُ رِقَّةِ النَّفْسِ وَاضْطِرَابِ الْقَلْبِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ الْأَثَرَ مَا هُوَ؛ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَعْنَى الرِّقَّةِ، وَلَا عَرَجَ عَلَيْهَا بِتَفْسِيرٍ يُرْشِدُ إِلَى فَهْمِ التَّوَاجُدِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وَإِنَّمَا فِي كَلَامِهِ أَنَّ ثَمَّ أَثَرًا ظَاهِرًا يَظْهَرُ عَلَى جِسْمِ الْمُتَوَاجِدِ، وَذَلِكَ الْأَثَرُ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، ثُمَّ التَّوَاجُدُ (يَحْتَاجُ) إِلَى شَرْحٍ بِحَسَبَ مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ فِيهِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي التَّوَاجُدِ مَا كَانَ يَبْدُو عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْبُكَاءُ وَاقْشِعْرَارُ الْجِلْدِ التَّابِعِ لِلْخَوْفِ الْآخِذِ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، وَبِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، حَيْثُ قَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]. وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4]. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَيْرِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: " «انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ» (يَعْنِي: مِنَ الْبُكَاءِ) وَالْأَزِيزُ صَوْتٌ يُشْبِهُ (صَوْتَ) غَلَيَانِ الْقِدْرِ. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ - مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7 - 8]، فَرَبَى لَهَا رَبْوَةٌ عِيدَ مِنْهَا عِشْرِينَ

يَوْمًا. وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ؛ قَالَ: " صَلَّى بِنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) صَلَاةَ الْفَجْرَ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ يُوسُفَ، فَقَرَأَهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]؛ بَكَى حَتَّى انْقَطَعَ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " لِمَا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]؛ بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ؛ قَالَ: " لَمَّا قَدِمَ أَهْلُ الْيَمَنِ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ سَمِعُوا الْقُرْآنَ، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتْ قُلُوبُنَا ". وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: " أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ مَرْيَمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، فَسَجَدَ بِهَا، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ؛ قَالَ: هَذِهِ السَّجْدَةُ قَدْ سَجَدْنَاهَا، فَأَيْنَ الْبُكَاءُ؟. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ أَثَرَ الْمَوْعِظَةِ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ تَصَنُّعٍ إِنَّمَا هُوَ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَمِثْلُهُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 14]؛ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ:

وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ حَضَرُوا عِنْدَ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسَ الْكَافِرِ، فَتَحَرَّكَتْ فَأْرَةٌ أَوْ هِرَّةٌ خَافَ لِأَجْلِهَا الْمَلِكُ، فَنَظَرَ الْفِتْيَةُ إِلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ قَامُوا مُصَرِّحِينَ بِالتَّوْحِيدِ، مُعْلِنِينَ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، مُنْكِرِينَ عَلَى الْمَلِكِ نِحْلَةَ الْكُفْرِ، بَاذِلِينَ أَنْفُسَهُمْ فِي ذَاتِ اللَّهِ، فَأَوْعَدَهُمْ ثُمَّ أَخْلَفَهُمْ، فَتَوَاعَدُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْغَارِ. . . إِلَى أَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ صَعْقٌ وَلَا صِيَاحٌ وَلَا شَطْحٌ وَلَا تَغَاشٌ مُسْتَعْمَلٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ شَأْنُ فُقَرَائِنَا الْيَوْمَ. وَخَرَّجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ قَالَ: " قُلْتُ لِجَدَّتِي أَسْمَاءَ: كَيْفَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَرَؤُوا الْقُرْآنَ؟ قَالَتْ: كَانُوا كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ: تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ، وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ. قُلْتُ: إِنَّ نَاسًا هَاهُنَا إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ تَأْخُذُهُمْ عَلَيْهِ غَشْيَةٌ. فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ". وَخَرَّجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي حَازِمٍ؛ قَالَ: " مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَاقِطٌ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوْ سَمِعَ اللَّهَ يُذْكَرُ؛ خَرَّ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنَخْشَى اللَّهَ وَلَا نَسْقُطُ! وَهَذَا إِنْكَارٌ. وَقِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ قَوْمًا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ يُغْشَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَتْ: " إِنَّ الْقُرْآنَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تَنْزِفَ عَنْهُ عُقُولُ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقَوْمِ يُقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فَيَصْعَقُونَ؟ فَقَالَ: " ذَلِكَ فِعْلُ الْخَوَارِجِ "!. وَخَرَّجَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (أَنَّ) ابْنَ الزُّبَيْرِ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) قَالَ: " جِئْتُ أَبِي، فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ؟، فَقُلْتُ: وَجَدْتُ أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَيَرْعَدُ أَحَدُهُمْ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَقَعَدْتُ مَعَهُمْ، فَقَالَ: لَا تَقْعُدْ بَعْدَهَا. فَرَآنِي كَأَنِّي لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ فِيَّ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَتْلُوَانِ الْقُرْآنَ، فَلَا يُصِيبُهُمْ هَذَا، أَفَتَرَاهُمْ أَخْشَعَ لِلَّهِ مَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟! فَرَأَيْتُ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَرَكْتُهُمْ ". وَهَذَا يَشْعُرُ بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَعَمُّلٌ وَتَكَلُّفٌ لَا يَرْضَى بِهِ أَهْلُ الدِّينِ. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنِ الرَّجُلِ يُقَرَأُ عِنْدَهُ فَيَصْعَقُ؟، فَقَالَ: " مِيعَادُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى حَائِطٍ، ثُمَّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنْ وَقَعَ؛ فَهُوَ كَمَا قَالَ ". وَهَذَا الْكَلَامُ حَسَنٌ فِي الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ عِنْدَ الْخَوَارِجِ نَوْعًا مِنَ الْقِحَّةِ فِي النُّفُوسِ الْمَائِلَةِ عَنِ الصَّوَابِ، وَقَدْ تُغَالِطُ النَّفْسُ فِيهِ فَتَظُنُّهُ انْفِعَالًا صَحِيحًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا هُوَ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ، فَإِنَّ مَبْنَاهُمْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ، فَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَعْمِلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ هَذِهِ اللُّعَبَ الْقَبِيحَةَ الْمُسْقِطَةَ لِلْأَدَبِ

وَالْمُرُوءَةِ. نَعَمْ؛ قَدْ (لَا) يُنْكِرُ اتِّفَاقُ الْغَشْيِ وَنَحْوِهِ أَوِ الْمَوْتِ لِمَنْ سَمِعَ الْمَوْعِظَةَ بِحَقٍّ، فَضَعُفَ عَنْ مُصَابَرَةِ الرِّقَّةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِهَا، فَجَعَلَ ابْنُ سِيرِينَ ذَلِكَ الضَّابِطَ مِيزَانًا لِلْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْقِحَّةَ لَا تَبْقَى مَعَ خَوْفِ السُّقُوطِ (مِنَ الْحَائِطِ)، فَقَدِ اتَّفَقَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ النَّوَادِرِ، وَظَهَرَ فِيهَا عُذْرُ التَّوَاجُدِ. فَحُكِيَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ؛ قَالَ: " خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَعَنَا الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، فَمَرَرْنَا عَلَى حَدَّادٍ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَنْظُرُ إِلَى حَدِيدَةٍ فِي النَّارِ، فَنَظَرَ الرَّبِيعُ إِلَيْهَا، فَتَمَايَلَ لِيَسْقُطَ، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَضَى كَمَا هُوَ حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ عَلَى أَتُونٍ، فَلَمَّا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّارُ تَلْتَهِبُ فِي جَوْفِهِ، قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12]، إِلَى قَوْلِهِ: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان: 13]، فَصَعِقَ الرَّبِيعُ؛ يَعْنِي: غُشِيَ عَلَيْهِ، فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَأَتَيْنَا بِهِ أَهْلَهُ. قَالَ: " وَرَابَطَهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الظُّهْرِ فَلَمْ يَفِقْ، فَرَابَطَهُ إِلَى الْمَغْرِبِ فَأَفَاقَ، وَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِهِ ". فَهَذِهِ حَالَاتٌ طَرَأَتْ لِوَاحِدٍ مَنْ أَفَاضِلِ التَّابِعِينَ بِمَحْضَرِ صَحَابِيٍّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ طَاقَتِهِ، فَصَارَ بِتِلْكَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا حَرَجَ إِذًا. وَحُكِيَ أَنْ شَابًّا كَانَ يَصْحَبُ الْجُنَيْدَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) إِمَامَ الصُّوفِيَّةِ

فِي وَقْتِهِ، فَكَانَ الشَّابُّ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الذِّكْرِ يَزْعَقُ، فَقَالَ لَهُ الْجُنَيْدُ يَوْمًا: " إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تَصْحَبْنِي "، فَكَانَ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا يَتَغَيَّرُ وَيَضْبِطُ نَفْسَهُ حَتَّى كَانَ يَقْطُرُ (الْعَرَقُ مِنْهُ) بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ بَدَنِهِ قَطْرَةً، فَيَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ صَاحَ صَيْحَةً تَلِفَتْ نَفْسُهُ. فَهَذَا الشَّابُّ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ مِصْدَاقُ مَا قَالَهُ السَّلَفُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ صَيْحَتُهُ الْأَوْلَى غَلَبَتْهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ بِشِدَّةٍ، كَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، وَعَلَيْهِ أَدَّبَهُ الشَّيْخُ حِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَوَعَدَهُ بِالْفُرْقَةِ، إِذْ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ تِلْكَ الزَّعْقَةَ مِنْ بَقَايَا رُعُونَةِ النَّفْسِ، فَلَمَّا خَرَجَ الْأَمْرُ عَنْ كَسْبِهِ ـ بِدَلِيلِ مَوْتِهِ ـ؛ كَانَتْ صَيْحَتُهُ عَفْوًا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَمْ يَشُمُّوا مِنْ أَوْصَافِ الْفُضَلَاءِ رَائِحَةً، فَأَخَذُوا بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، فَأَبْرَزَ لَهُمْ هَوَاهُمُ التَّشَبُّهَ بِالْخَوَارِجِ، وَيَا لَيْتَهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ الْمَذْمُومِ، وَلَكِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الرَّقْصَ وَالزَّمْرَ وَالدَّوَرَانَ وَالضَّرْبَ عَلَى الصُّدُورِ، وَبَعْضُهُمْ يَضْرِبُ عَلَى رَأْسِهِ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ الْمُضْحِكِ لِلْحَمْقَى؛ لِكَوْنِهِ مِنْ أَعْمَالِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، الْمُبْكِي لِلْعُقَلَاءِ رَحْمَةً لَهُمْ، وَلَمْ يُتَّخَذْ مِثْلُ هَذَا طَرِيقًا إِلَى اللَّهِ وَتَشَبُّهًا بِالصَّالِحِينَ. وَقَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً؛ ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ». . .، الْحَدِيثَ.

فَقَالَ الْإِمَامُ الْآجُرِّيُّ الْعَالِمُ السُّنِّيُّ أَبُو بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): " مَيِّزُوا هَذَا الْكَلَامَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: صَرَخْنَا مِنْ مَوْعِظَةٍ، وَلَا زَعَقْنَا، وَلَا طَرَقْنَا عَلَى رَؤُوسِنَا، وَلَا ضَرَبْنَا عَلَى صُدُورِنَا، وَلَا زَفَنَّا، وَلَا رَقَصْنَا "؛ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ؛ يَصْرُخُونَ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ وَيَزْعَقُونَ وَيَتَغَاشَوْنَ. قَالَ: " وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ يَلْعَبُ بِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَيُقَالُ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا: اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْدَقُ النَّاسِ مَوْعِظَةً، وَأَنْصَحُ النَّاسَ لِأُمَّتِهِ، وَأَرِقُّ النَّاسِ قَلْبًا، وَخَيْرَ النَّاسِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ ـ لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ ـ؛ مَا صَرَخُوا عِنْدَ مَوْعِظَتِهِ وَلَا زَعَقُوا وَلَا رَقَصُوا وَلَا زَفَنُوا، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا؛ لَكَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا أَنْ يَفْعَلُوهُ بَيْنَ يَدَيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ، فَاعْلَمْ ذَلِكَ ". انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي الْأَمْرِ (كُلِّهِ) الْمُوجِبِ لِلتَّأَثُّرِ الظَّاهِرِ فِي السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُدَّعِينَ، فَوَجَدْنَا الْأَوَّلِينَ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْأَثَرُ بِسَبَبِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَبِسَبَبِ سَمَاعِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَبِسَبَبِ رُؤْيَةٍ اعْتِبَارِيَّةٍ؛ كَمَا فِي قِصَّةِ الرَّبِيعِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لِلْحَدَّادِ وَالْأَتُونِ وَهُوَ مَوْقَدُ النَّارِ، وَلِسَبَبِ قِرَاءَةٍ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ ـ فِيمَا نَقَلَ الْعُلَمَاءُ ـ يَسْتَعْمِلُونَ التَّرَنُّمَ بِالْأَشْعَارِ لِتَرِقَّ نُفُوسُهُمْ فَتَتَأَثَّرُ ظَوَاهِرُهُمْ، وَطَائِفَةُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الضِّدِّ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْوَعْظَ وَالتَّذْكِيرَ، فَلَا تَتَأَثَّرُ ظَوَاهِرُهُمْ، فَإِذَا قَامَ الْمُزَمِّرُ؛ تَسَابَقُوا إِلَى حَرَكَاتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ، فَبِالْحَرِيِّ أَلَّا يَتَأَثَّرُوا عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمَكْرُوهَةِ الْمُبْتَدَعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يُنْتِجُ إِلَّا حَقًّا؛ كَمَا أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُنْتِجُ إِلَّا بَاطِلًا.

وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَنْبَنِي النَّظَرُ فِي حَقِيقَةُ الرِّقَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِلظَّاهِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّقَّةَ ضِدُّ الْغِلَظِ، فَنَقُولُ: هَذَا رَقِيقٌ لَيْسَ بِغَلِيظٍ، وَمَكَانٌ رَقِيقٌ إِذَا كَانَ لَيِّنَ التُّرَابِ، وَضِدُّهُ الْغَلِيظُ، فَإِذَا وُصِفَ بِذَلِكَ الْقَلْبُ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى لِينِهِ وَتَأَثُّرِهِ، ضِدُّ الْقَسْوَةِ. وَيَشْعُرُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ الرَّقِيقَ؛ إِذَا أُورِدَتْ عَلَيْهِ الْمَوْعِظَةُ؛ خَضَعَ لَهَا وَلَانَ وَانْقَادَ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]. فَإِنَّ الْوَجَلَ تَأَثُّرٌ وَلِينٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ الْمَوْعِظَةِ، فَتَرَى الْجِلْدَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَقْشَعِرُّ، وَالْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَاللِّينُ إِذَا حَلَّ بِالْقَلْبِ ـ وَهُوَ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ ـ حَلَّ بِالْجِلْدِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ ـ وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِنْسَانِ ـ؛ فَقَدْ حَلَّ الِانْفِعَالُ بِمَجْمُوعِ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي السُّكُونَ لَا الْحَرَكَةَ، وَالِانْزِعَاجَ وَالسُّكُونَ لَا الصِّيَاحَ، وَهِيَ حَالَةُ السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ. فَإِذَا رَأَيْتَ أَحَدًا سَمِعَ مَوْعِظَةً أَيَّ مَوْعِظَةٍ كَانَتْ؛ فَيَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَثَرِ مَا ظَهَرَ عَلَى السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ عَلِمْتَ أَنَّهَا رِقَّةٌ هِيَ أَوَّلُ الْوَجْدِ، وَأَنَّهَا صَحِيحَةٌ لَا اعْتِرَاضَ فِيهَا. وَإِذَا رَأَيْتَ أَحَدًا سَمِعَ مَوْعِظَةً قُرْآنِيَّةً أَوْ سُنِّيَّةً أَوْ حِكْمِيَّةً؛ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شَيْءٌ، حَتَّى يَسْمَعَ شِعْرًا مُرَنَّمًا أَوْ غِنَاءً مُطْرِبًا فَتَأَثَّرَ؛ فَإِنَّهُ

لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ انْزِعَاجٌ بِقِيَامٍ أَوْ دَوَرَانٍ أَوْ شَطْحٍ أَوْ صِيَاحٍ أَوْ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَسَبَبُهُ أَنِ الَّذِي حَلَّ بِبَاطِنِهِ لَيْسَ بِالرِّقَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا، بَلْ هُوَ الطَّرَبُ الَّذِي يُنَاسِبُ الْغِنَاءَ؛ لِأَنَّ الرِّقَّةَ ضِدُّ الْقَسْوَةِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ وَالطَّرَبُ ضِدُّ الْخُشُوعِ ـ كَمَا يَقُولُهُ الصُّوفِيَّةُ ـ؛ وَالطَّرَبُ مُنَاسِبٌ لِلْحَرَكَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَوَرَانُ الطِّبَاعِ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَكَ فِيهِ مَعَ الْإِنْسَانِ الْحَيَوَانُ؛ كَالْإِبِلِ وَالنَّحْلِ، وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الْأَطْفَالِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالْخُشُوعُ ضِدُّهُ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى السُّكُونِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ لُغَةً؛ كَمَا فُسِّرَ الطَّرَبُ بِأَنَّهُ خِفَّةٌ تَصْحَبُ الْإِنْسَانَ مِنْ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ. قَالَ الشَّاعِرُ: طَرَبَ الْوَالِهِ أَوْ كَالْمُخْتَبَلِ وَالتَّطْرِيبُ: مَدُّ الصَّوْتِ وَتَحْسِينُهُ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ الشِّعْرَ الْمُغَنَّى بِهِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا فِيهِ (مِنَ) الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْقُلُوبِ، فَفِيهَا تَعْمَلُ، وَبِهَا تَنْفَعِلُ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُنْسَبُ السَّمَاعُ إِلَى الْأَرْوَاحِ. وَالثَّانِي: مَا فِيهِ مِنَ النَّغَمَاتِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى النِّسَبِ التَّلْحِينِيَّةِ، وَهُوَ

الْمُؤَثِّرُ فِي الطِّبَاعِ، فَيُهَيِّجُهَا إِلَى مَا يُنَاسِبُهَا، وَهِيَ الْحَرَكَاتُ عَلَى اخْتِلَافِهَا. فَكُلُّ تَأَثُّرٍ فِي الْقَلْبِ مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ تَحْصُلُ عَنْهُ آثَارُ الْكَوْنِ وَالْخُضُوعِ؛ فَهُوَ رِقَّةٌ، وَهُوَ التَّوَاجُدُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ كَلَامُ الْمُجِيبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَحْمُودٌ. وَكُلُّ تَأَثُّرٍ يَحْصُلُ عَنْهُ ضِدُّ السُّكُونِ؛ فَهُوَ طَرَبٌ لَا رِقَّةَ فِيهِ وَلَا تَوَاجُدَ، وَلَا هُوَ عِنْدَ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَحْمُودٌ. لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ التَّوَاجُدِ - فِي الْغَالِبِ - إِلَّا الثَّانِي الْمَذْمُومَ، فَهُمْ إِذًا مُتَوَاجِدُونَ بِالنَّغَمِ وَاللُّحُونِ، لَا يُدْرِكُونَ مِنْ مَعَانِي الْحِكْمَةِ شَيْئًا، فَقَدْ بَاؤُوا إِذًا بِأَخْسَرِ الصَّفْقَتَيْنِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ. وَإِنَّمَا جَاءَهُمُ الْغَلَطُ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَاطِ الْمَنَاطَيْنِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]، وَقَوْلُهُ: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} [الكهف: 18]؛ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعَالَى): {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا} [الكهف: 14]؛ أَيْنَ فِيهِ أَنَّهُمْ قَامُوا يَرْقُصُونَ أَوْ يَزْفِنُونَ أَوْ يَدُورُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ؟ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ الدَّاخِلِ تَحْتَ هَذَا الْجَوَابِ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ لَفْظُ السَّمَاعِ غَيْرَ مُفَسَّرٍ، [فَـ] فَهِمَ مِنْهُ الْمُحْتَجُّ أَنَّهُ الْغِنَاءُ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ شِيعَتُهُ، وَهُوَ فَهْمُ عُمُومِ النَّاسِ، لَا فَهْمُ الصُّوفِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ صَوْتٍ أَفَادَ حِكْمَةً يَخْضَعُ لَهَا الْقَلْبُ،

وَيَلِينُ لَهَا الْجِلْدُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَاجَدُونَ عِنْدَهُ التَّوَاجُدَ الْمَحْمُودَ، فَسَمَاعُ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ سَمَاعٌ، وَكَذَلِكَ سَمَاعُ السُّنَّةِ وَكَلَامُ الْحُكَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ حَتَّى أَصْوَاتُ الطَّيْرِ وَخَرِيرُ الْمَاءِ وَصَرِيرُ الْبَابِ، وَمِنْهُ سَمَاعُ الْمَنْظُورِ أَيْضًا إِذَا أَعْطَى حِكْمَةً، وَلَا يَسْتَمِعُونَ هَذَا الْأَخِيرَ إِلَّا فِي الْفَرَطِ بَعْدَ الْفَرَطِ، وَعَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ، وَعَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِلْذَاذِ وَالْإِطْرَابِ، وَلَا هُمْ مِمَّنْ يَدُومُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَّخِذُهُ عَادَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ قَادِحٌ فِي مَقَاصِدِهِمُ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ الْجُنَيْدُ: " إِذَا رَأَيْتَ الْمُرِيدَ يُحِبُّ السَّمَاعَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ فِيهِ بَقِيَّةً مِنَ الْبِطَالَةِ ". وَإِنَّمَا لَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ ـ إِنِ اتَّفَقَ ـ وَجْهُ الْحِكْمَةِ ـ إِنْ كَانَ فِيهِ حِكْمَةٌ ـ، فَاسْتَوَى عِنْدَهُمُ النَّظْمُ وَالنَّثْرُ، وَإِنْ أَطْلَقَ أَحَدٌ مِنْهُمُ السَّمَاعَ عَلَى الصَّوْتِ الْحَسَنِ الْمُضَافِ إِلَى شِعْرٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ فَمِنْ حَيْثُ فَهِمَ الْحِكْمَةَ لَا مِنْ حَيْثُ يُلَائِمُ الطِّبَاعَ؛ لِأَنَّ مَنْ سَمْعِهِ مِنْ حَيْثُ يَسْتَحْسِنُهُ؛ فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلْفِتْنَةِ، فَيَصِيرُ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ السَّمَاعُ الْمُلِذُّ الْمُطْرِبُ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ: مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ ادَّعَى السَّمَاعَ وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَ الطَّيْرِ وَصَرِيرَ الْبَابِ وَتَصْفِيقَ الرِّيَاحِ؛ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ ". وَقَالَ الْحُصَرِيٌّ: " أَيْشٍ أَعْمَلُ بِسَمَاعٍ يَنْقَطِعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْهُ؟ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَمَاعُكَ سَمَاعًا مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ ". وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَالِمٍ؛ قَالَ: " خَدَمْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيَّ سِنِينَ، فَمَا رَأَيْتُهُ تَغَيَّرَ عِنْدَ سَمَاعِ شَيْءٍ يَسْمَعُهُ مِنَ الذِّكْرِ أَوِ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ،

فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ؛ قُرِئَ بَيْنَ يَدَيْهِ: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15]، تَغَيَّرَ وَارْتَعَدَ وَكَادَ يَسْقُطُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى حَالِ صَحْوِهِ؛ سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: يَا حَبِيبِي ضَعُفْنَا ". وَقَالَ السُّلَمِيُّ: " دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ وَوَاحِدٌ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ عَلَى بَكْرَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! تَدْرِي أَيْشٍ تَقُولُ هَذِهِ الْبَكْرَةُ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: تَقُولُ اللَّهُ، اللَّهُ. فَهَذِهِ الْحِكَايَاتُ وَأَشْبَاهُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْثِرُونَ سَمَاعَ الْأَشْعَارِ عَلَى غَيْرِهَا؛ فَضْلًا عَلَى أَنْ يَتَصَنَّعُوا فِيهَا بِالْأَغَانِي الْمُطْرِبَةِ. وَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ، وَبَعُدُوا عَنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ أَخَذَ الْهَوَى فِي التَّفْرِيعِ فِي السَّمَاعِ، حَتَّى صَارَ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ الْمَصْنُوعُ عَلَى قَانُونِ الْأَلْحَانِ، فَتَعَشَّقَتْ بِهِ الطِّبَاعُ، وَكَثُرَ الْعَمَلُ بِهِ وَدَامَ ـ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بِهِ الرَّاحَةَ فَقَطْ ـ؛ فَصَارَ قَذًى فِي طَرِيقِ سُلُوكِهِمْ، فَرَجَعُوا بِهِ الْقَهْقَرَى، ثُمَّ طَالَ الْأَمَدُ حَتَّى اعْتَقَدَهُ الْجُهَّالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا قَارَبَهُ أَنَّهُ قُرْبَةٌ، وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ، وَهُوَ الْأَدْهَى. وَقَوْلُ الْمُجِيبِ: " وَأَمَّا مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلَى مَنْزِلِهِ؛ فَتُجَابُ دَعْوَتُهُ، وَلَهُ (فِي دَعْوَتِهِ) قَصْدُهُ "؛ مُطَابِقٌ بِحَسَبِ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا: بِأَنَّ مَنْ دَعَا قَوْمًا إِلَى مَنْزِلِهِ لِتَعَلُّمِ آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مُذَاكَرَةٍ فِي عِلْمٍ أَوْ فِي نِعَمِ اللَّهِ، أَوْ مُؤَانَسَةٍ فِي شِعْرٍ فِيهِ حِكْمَةٌ لَيْسَ فِيهِ غِنَاءٌ مَكْرُوهٌ وَلَا صَحِبَهُ شَطْحٌ وَلَا زِفْنٌ وَلَا صِيَاحٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، ثُمَّ أَلْقَى

إِلَيْهِمْ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّكَلُّفِ وَالْمُبَاهَاةِ، وَلَمْ يَقْصَدْ بِذَلِكَ بِدْعَةً وَلَا امْتِيَازًا؛ لِفِرْقَةٍ تَخْرُجُ بِأَفْعَالِهَا وَأَقْوَالِهَا عَنِ السُّنَّةِ؛ فَلَا شَكَّ فِي اسْتِحْسَانِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْمَأْدُبَةِ الْمَقْصُودِ بِهَا حُسْنُ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الْجِيرَانِ وَالْإِخْوَانِ، وَالتَّوَدُّدِ بَيْنَ الْأَصْحَابِ، وَهِيَ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا تَذَاكُرٌ فِي عِلْمٍ أَوْ نَحْوِهِ؛ فَهِيَ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ. وَمِثَالُ مَا يُحْكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُنَيْفٍ؛ قَالَ: " دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْقَاضِي عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ أَيُّهَا الْقَاضِي، قَالَ: هَاهُنَا (أَحْكِي) لَكُمْ حِكَايَةً تَحْتَاجُ (أَنْ) تَكْتُبَهَا بِمَاءِ الذَّهَبِ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْقَاضِي! أَمَّا الذَّهَبُ؛ فَلَا أَجِدُهُ، وَلَكِنِّي أَكْتُبُهَا بِالْحِبْرِ الْجَيِّدِ. فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إِنَّ الْحَارِثَ الْمُحَاسَبِيَّ يَتَكَلَّمُ فِي عُلُومِ الصُّوفِيَّةِ وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالْآيِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ كَلَامَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَجْمَعُكَ مَعَهُ، فَاتَّخَذَ دَعْوَةً، وَدَعَا الْحَارِثَ وَأَصْحَابَهُ وَدَعَا أَحْمَدَ، فَجَلَسَ بِحَيْثُ يَرَى الْحَارِثَ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَتَقَدَّمَ وَصَلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ، وَأَحْضَرَ الطَّعَامَ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ، فَقَالَ أَحْمَدُ: هَذَا مِنَ السُّنَّةِ. فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ وَغَسَلُوا أَيْدِيَهُمْ؛ جَلَسَ الْحَارِثُ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْأَلَ شَيْئًا؛ فَلْيَسْأَلْ، فَسُئِلَ عَنِ الْإِخْلَاصِ، وَعَنِ الرِّيَاءِ، وَمَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، فَاسْتَشْهَدَ بِالْآيِ وَالْحَدِيثِ، وَأَحْمَدُ يَسْمَعُ لَا يُنْكِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

فَلَمَّا مَضَى هَدْيٌ مِنَ اللَّيْلِ؛ أَمْرَ الْحَارِثُ قَارِئًا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الْحَدْوِ، فَقَرَأَ، فَبَكَى بَعْضُهُمْ، وَانْتَخَبَ آخَرُونَ، ثُمَّ سَكَتَ الْقَارِئُ، فَدَعَا الْحَارِثُ بِدَعَوَاتٍ خِفَافٍ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا؛ قَالَ أَحْمَدُ: قَدْ كَانَ بَلَغَنِي أَنَّ هَاهُنَا مَجَالِسَ لِلذِّكْرِ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْمَجَالِسِ؛ فَلَا أُنْكِرُ مِنْهَا شَيْئًا. فَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَنَّ أَحْوَالَ الصُّوفِيَّةِ تُوزَنُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، وَأَنَّ مَجَالِسَ الذِّكْرِ لَيْسَتْ مَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ، بَلْ مَا تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُهُ، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا اعْتَادُوهُ؛ فَهُوَ مِمَّا يُنْكَرُ. وَالْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ. فَإِذًا؛ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ، إِذْ بَايَنُوا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَالْأَمْثِلَةُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ، لَوْ تُتُبِّعَتْ؛ لَخَرَجْنَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا أَمْثِلَةً تُبَيِّنُ مِنَ اسْتِدْلَالَاتِهِمُ الْوَاهِيَةِ مَا يُضَاهِيهَا، وَحَاصِلُهَا الْخُرُوجُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْضَحَهُ الْعُلَمَاءُ، وَبَيَّنَهُ الْأَئِمَّةُ، وَحَصَرَ أَنْوَاعَهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى طُرُقِ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ؛ عَرَفَ أَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ؛ لِأَنَّهَا سَيَّالَةٌ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وَعَلَى (كُلِّ) وَجْهٍ يَصِحُّ لِكُلِّ زَائِغٍ وَكَافِرٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى زَيْغِهِ وَكُفْرِهِ حَتَّى يَنْسِبَ النِّحْلَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا إِلَى الشَّرِيعَةِ. فَقَدْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ،

كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى تَشْرِيكِ عِيسَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]. وَاسْتَدَلَّ عَلَى (أَنَّ الْكَفَّارَ مِنْ) أَهْلِ الْجَنَّةِ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 62]، الْآيَةَ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْيَهُودِ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47]. وَبَعْضُ الْحُلُولِيَّةِ اسْتَدَلَّ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]. وَالتَّنَاسُخِيُّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَاتِ، أَوْ حَرَّفَ الْمَنَاطَاتِ، أَوْ حَمَّلَ الْآيَاتِ مَا لَا تَحَمَلُهُ عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَوْ تَمَسَّكَ بِالْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ، أَوْ أَخَذَ الْأَدِلَّةَ بِبَادِيَ الرَّأْيِ، (لَهُ) أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ وَافَقَ غَرَضَهُ بِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ لَا يَفُوزُ بِذَلِكَ أَصْلًا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالُ كُلِّ فِرْقَةٍ شُهِرَتْ بِالْبِدْعَةِ عَلَى بِدْعَتِهَا بِآيَةٍ أَوْ

حَدِيثٍ؛ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ـ وَسَيَأْتِي لَهُ نَظَائِرُ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَمَنْ طَلَبَ خَلَاصَ نَفْسِهِ؛ تَثَبَّتَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الطَّرِيقُ، وَمَنْ تَسَاهَلَ؛ رَمَتْهُ أَيْدِي الْهَوَى فِي مَعَاطِبَ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ.

الباب الخامس في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما

[الْبَابُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا] [مَعْنَى الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْبِدْعَةِ الْإِضَافِيَّةِ] الْبَابُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهَا وَلَا بُدَّ قَبْلَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِ الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِنَّ الْبِدْعَةَ الْحَقِيقِيَّةَ: هِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ؛ لَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا اسْتِدْلَالٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لَا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا فِي التَّفْصِيلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِدْعَةً - كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ -؛ لِأَنَّهَا شَىْءٌ مُخْتَرَعٌ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدِعُ يَأْبَى أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنِ الشَّرْعِ، إِذْ هُوَ مُدَّعٍ أَنَّهُ دَاخِلٌ بِمَا اسْتَنْبَطَ تَحْتَ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، لَكِنَّ تِلْكَ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ، لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، أَمَّا بِحَسَبَ نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَبِالْعَرْضِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ؛ فَإِنَّ أَدِلَّتَهُ شُبَهٌ لَيْسَتْ بِأَدِلَّةٍ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ. وَأَمَّا الْبِدْعَةُ الْإِضَافِيَّةُ؛ فَهِيَ الَّتِي لَهَا شَائِبَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ مُتَعَلِّقٌ، فَلَا تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِدْعَةً. وَالْأُخْرَى: لَيْسَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ إِلَّا مِثْلَ مَا لِلْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

أقسام الإضافية ما يقرب من الحقيقة وما يبعد عنها

فَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ الَّذِي لَهُ شَائِبَتَانِ لَمْ يَتَخَلَّصْ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ؛ وَضَعْنَا لَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ، وَهِيَ " الْبِدْعَةُ الْإِضَافِيَّةُ ". أَيْ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى دَلِيلٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى شُبْهَةٍ لَا إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ غَيْرِ مُسْتَنِدَةٍ إِلَى شَيْءٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ قَائِمٌ، وَمِنْ جِهَةِ الْكَيْفِيَّاتِ أَوِ الْأَحْوَالِ أَوِ التَّفَاصِيلِ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُهَا فِي التَّعَبُدِيَّاتِ لَا فِي الْعَادِيَّاتِ الْمَحْضَةِ؛ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [أَقْسَامُ الْإِضَافِيَّةِ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَمَا يَبْعُدُ عَنْهَا] ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ هَذَا: إِنَّ الْحَقِيقِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ أَكْثَرَ وَأَعَمَّ وَأَشْهَرَ فِي النَّاسِ ذِكْرًا، وَافْتَرَقَتِ الْفِرَقُ، وَكَانَ النَّاسُ شِيَعًا، وَجَرَى مِنْ أَمْثِلَتِهَا مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ، وَهِيَ أَسْبَقُ فِي فَهْمِ الْعُلَمَاءِ؛ تَرَكْنَا الْكَلَامَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَلَّمَا تَخْتَصُّ بِحُكْمٍ دُونَ الْإِضَافِيَّةِ، بَلْ هُمَا مَعًا يَشْتَرِكَانِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ تُشْرَحَ فِيهِ؛ بِخِلَافِ الْإِضَافِيَّةِ، فَإِنَّ لَهَا أَحْكَامًا خَاصَّةً وَشَرْحًا خَاصًّا ـ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ إِلَّا أَنَّ الْإِضَافِيَّةَ أَوَّلًا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ، حَتَّى تَكَادَ الْبِدْعَةُ تُعَدُّ حَقِيقِيَّةً. وَالْآخَرُ: يَبْعُدُ مِنْهَا حَتَّى (يَكَادَ) يُعَدُّ سُنَّةً مَحْضَةً. وَلَمَّا انْقَسَمَتْ هَذَا الِانْقِسَامَ؛ صَارَ مِنَ الْأَكِيدِ عَلَى كُلِّ قِسْمٍ

عَلَى حِدَتِهِ، فَلْنَعْقِدْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فُصُولًا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَصْلٌ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي شَأْنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]. فَخَرَّجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ تَدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعْلَمَ؟ ". قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ، وَهَلَكَ سَائِرُهَا: فِرْقَةٌ آزَتِ الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُؤَازَاةِ الْمُلُوكِ، فَأَقَامُوا عَلَى دِينِ اللَّهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَأَخَذَتْهُمُ الْمُلُوكُ، فَقَتَلَتْهُمْ وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُؤَازَاةِ الْمُلُوكِ وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ

وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ، وَتَرَهَّبُوا فِيهَا، هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (فِيهِمْ): {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]. فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَصَدَّقُوا بِي وَالْفَاسِقُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا وَحَجَدُوا». وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحَادِيثِ الْكُوفِيِّينَ. وَالرَّهْبَانِيَّةُ فِيهِ بِمَعْنَى اعْتِزَالِ الْخَلْقِ فِي السِّيَاحَةِ، وَاطِّرَاحِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ لُزُومُ الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ ـ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّصَارَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ ـ مَعَ الْتِزَامِ الْعِبَادَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ (تَعَالَى): {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27]، مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا: فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى الِاتِّصَالِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ بِهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِمَّا كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ ـ أَيْ: مِمَّا شُرِعَتْ لَهُمْ ـ لَكِنْ بِشَرْطِ قَصْدِ الرِّضْوَانِ. {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]؛ يُرِيدُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا رِعَايَتَهَا حِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الرِّضْوَانِ إِذَا كَانَ

شَرْطًا فِي الْعَمَلِ بِمَا شُرِعَ لَهُمْ؛ فَمِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا ذَلِكَ الْقَصْدَ، فَإِلَى أَيْنَ سَارَ بِهِمْ؛ سَارُوا، وَإِنَّمَا شَرَعَ لَهُمْ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ إِذَا نُسِخَ بِغَيْرِهِ؛ رَجَعُوا إِلَى مَا أَحْكَمَ وَتَرَكُوا مَا نُسِخَ، وَهُوَ مَعْنَى ابْتِغَاءَ الرِّضْوَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا وَأَصَرُّوا عَلَى الْأَوَّلِ؛ كَانَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، لَا اتِّبَاعًا لِلْمَشْرُوعِ، وَاتِّبَاعُ الْمَشْرُوعِ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ الرِّضْوَانُ، وَقَصْدُ الرِّضْوَانَ بِذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]، فَالَّذِينَ آمِنُوا هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَالْفَاسِقُونَ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الدُّخُولِ فِيهَا بِشَرْطِهَا، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَشْرُوعَ لَهُمْ يُسَمَّى ابْتِدَاعًا، وَهُوَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدُّ الْبِدْعَةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يُسَمَّى بِدْعَةً مِنْ حَيْثُ أَخَلُّوا بِشَرْطِ الْمَشْرُوعِ، إِذْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقُومُوا بِهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ مَشْرُوطَةً بِشَرْطٍ، فَيَعْمَلُ بِهَا دُونَ شَرْطِهَا؛ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً عَلَى وَجْهِهَا، وَصَارَتْ بِدْعَةً؛ كَالْمُخِلِّ قَصْدًا بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ؛ مِثْلَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوِ الطَّهَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَحَيْثُ عَرَفَ بِذَلِكَ وَعَلِمَهُ؛ فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَدَأَبَ عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ شَرْطِهَا؛ فَذَلِكَ الْعَمَلُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ، فَيَكُونُ تَرَهُّبُ النَّصَارَى صَحِيحًا قَبْلَ بَعْثِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بُعِثَ؛ وَجَبَ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى مِلَّتِهِ، فَالْبَقَاءُ عَلَيْهِ مَعَ نَسْخِهِ بَقَاءً عَلَى مَا هُوَ بَاطِلٌ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ.

وَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ قَوْلُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ؛ فَالْمَعْنَى: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا بِشَرْطِهَا، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِدْعَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ حَدِّ الْبِدْعَةِ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ إِضَافِيَّةٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَذْمُومَةً فِي حَقِّهِمْ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لِأَنَّهُمْ أَخَلُّوا بِشَرْطِهَا، فَمَنْ لَمْ يُخِلَّ مِنْهُمْ بِشَرْطِهَا، وَعَمَلِ بِهَا قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَصَلَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؛ حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} [الحديد: 27]؛ أَيْ: أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِهَا فِي وَقْتِهَا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَعْثِهِ؛ وَفَّيْنَاهُ أَجْرَهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا فِي هَذَا الْوَجْهِ إِضَافِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً؛ لَخَالَفُوا بِهَا شَرْعَهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الْبِدْعَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهَا أَجْرٌ، بَلْ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ؛ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِأَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا كَانَ جَائِزًا لَهُمْ فِعْلُهُ، فَلَا تَكُونُ بِدْعَتُهُمْ حَقِيقِيَّةً، لَكِنَّهُ يُنْظَرُ عَلَى أَيِّ مَعْنَى أُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْبِدْعَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْدُ بِحَوْلِ اللَّهِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهُ حُكْمٌ؛ لِأَنَّهُ

نُسِخَ فِي شَرِيعَتِنَا، فَلَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». عَلَى أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ نَقَلَ فِي الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ رَفْضُ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْمَنْسُوخُ فِي شَرْعِنَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ لِلْعُزْلَةِ. وَالرَّابِعُ: السِّيَاحَةُ. قَالَ: " وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي دِينِنَا عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ ". وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ تَرَهَّبُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِرَارًا مِنْهُمْ بِدِينِهِمْ، وَسُمِّيَتْ بِدْعَةً، وَالنَّدْبُ إِلَيْهَا يَقْتَضِي أَنْ لَا ابْتِدَاعَ فِيهَا، فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ؟! وَلَكِنْ لِلْمَسْأَلَةِ فِقْهُ يُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]؛ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْحَقَّ، وَأَكَلُوا لُحُومَ الْخَنَازِيرِ، وَشَرِبُوا الْخَمْرَ، وَلَمْ يَغْتَسِلُوا مِنْ جَنَابَةٍ، وَتَرَكُوا الْخِتَانَ، {فَمَا رَعَوْهَا} [الحديد: 27]؛ يَعْنِي: الطَّاعَةَ وَالْمِلَّةَ {حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]، فَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الْمِلَّةُ الْمَفْهُومُ مَعْنَاهَا مِنْ قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27]؛ لِأَنَّهُ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ ثَمَّ مِلَّةٌ

مُتَّبَعَةٌ، كَمَا دَلَّ قَوْلُهُ: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ} [ص: 31] عَلَى الشَّمْسِ حَتَّى عَادَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، وَكَانَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلُوهُ، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ، فَالْبِدْعَةُ فِيهِ إِذًا حَقِيقِيَّةٌ لَا إِضَافِيَّةٌ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، فَلَا نَظَرَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَخَرَّجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إِذْ فَعَلْتُمُوهُ وَلَا تَتْرُكُوهُ؛ فَإِنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمُ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ، فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا، فَقَالَ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]، الْآيَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ: " فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]، إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]؛ يُرِيدُ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِيهَا وَلَمْ يَدُومُوا عَلَيْهَا. قَالَ بَعْضُ نَقْلَةِ التَّفْسِيرِ: " وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ لُزُومُ الْإِتْمَامِ لِكُلِّ مَنْ بَدَأَ بِتَطَوُّعٍ وَنَفْلٍ، وَأَنْ يَرْعَوْهُ حَقَّ رَعْيِهِ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: " وَقَدْ زَاغَ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا رَهْبَانِيَّةٌ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنِ الْتَزَمُوهَا ". قَالَ: وَلَيْسَ يَخْرُجُ هَذَا عَنْ مَضْمُونِ الْكَلَامِ، وَلَا يُعْطِيهِ أُسْلُوبُهُ وَلَا مَعْنَاهُ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ إِلَّا بِشَرْعٍ أَوْ نَذْرٍ. قَالَ: وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْقَوْلُ مُحْتَاجٌ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ إِذَا بَنَيْنَا الْعَمَلَ عَلَى وَفْقِهِ، إِذْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ لَا بِدْعَةَ فِيهَا، وَلَا تَحْتَمِلُ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِابْتِدَاعِ بِحَالٍ؛ لِلْقَطْعِ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ـ، فَالْأَصْلُ أَنْ يُتْبَعَ الدَّلِيلُ، وَلَا عَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَا نُخَلِّي ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ قَوْلَ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ نَظَرٍ صَحِيحٍ عَلَى وِفْقِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ بُعْدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَدَّ عَمَلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمْعِ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي رَمَضَانَ بِدْعَةً لِقَوْلِهِ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ يُصَلُّونَ: " نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ ". وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ إِنَّمَا سَمَّاهَا بِاعْتِبَارٍ مَا، وَأَنَّ قِيَامَ الْإِمَامِ بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ سُنَّةٌ عَمِلَ بِهَا صَاحِبُ السُّنَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ الِافْتِرَاضِ، فَلَمَّا انْقَضَى زَمَنُ الْوَحْيِ؛ زَالَتِ الْعِلَّةُ فَعَادَ الْعَمَلُ بِهَا إِلَى نِصَابِهِ؛ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَأَتَّ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَمَانَ خِلَافَتِهِ؛ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ صَدْرُ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى تَأَتَّى النَّظَرُ، فَوَقَعَ مِنْهُ، لَكِنَّهُ صَارَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ

يَجْرِ بِهِ عَمَلُ مَنْ تَقَدَّمَهُ دَائِمًا، فَسَمَّاهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ، لَا أَنَّهُ أَمْرٌ عَلَى خِلَافِ مَا ثَبَتَ مِنَ السُّنَّةِ. فَكَأَنَّ أَبَا أُمَامَةَ اعْتَبَرَ فِيهِ نَظَرَ ذَلِكَ الْعَمَلِ بِهِ، فَسَمَّاهُ إِحْدَاثًا؛ مُوَافَقَةً لِتَسْمِيَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَا فَهِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ تَرْكَ الرِّعَايَةِ هُوَ تُرْكُ دَوَامِهِمْ عَلَى الْتِزَامِ عَمَلٍ لَيْسَ بِمَكْتُوبٍ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ، فَلَمْ يُوفُوا بِمُقْتَضَى مَا الْتَزَمُوهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي التَّطَوُعَاتِ غَيْرِ اللَّازِمَةِ، وَلَا السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تُؤْخَذَ عَلَى أَصْلِهَا فِيمَا اسْتَطَاعَ الْإِنْسَانُ، فَتَارَةً يَنْشَطُ لَهَا وَتَارَةً لَا يَنْشَطُ، أَوْ يُمْكِنُهُ تَارَةً بِحَسْبِ الْعَادَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ أُخْرَى لِمُزَاحَمَةِ أَشْغَالٍ وَنَحْوِهَا. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ كَالرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الْيَوْمَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيَتَصَدَّقُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ غَدًا، أَوْ يَكُونُ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْشَطُ لِلْعَطَاءِ، أَوْ يَرَى إِمْسَاكَهُ أَصْلَحَ فِي عَادَتِهِ الْجَارِيَةِ لَهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الطَّارِئَةِ لِلْإِنْسَانِ. فَهَذَا الْوَجْهُ لَا حَرَجَ عَلَى أَحَدٍ تَرَكَ التَّطَوُعَاتِ كُلَّهَا، وَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ، إِذْ لَوْ كَانَ ثَمَّ لَوْمٌ أَوْ عُتْبٌ؛ لَمْ يَكُنْ تَطَوُّعًا، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَأْخُذَ مَأْخَذَ الْمُلْتَزِمَاتِ؛ كَالرَّجُلِ يَتَّخِذُ لِنَفْسِهِ وَظِيفَةً رَاتِبَةً مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، كَالْتِزَامِ قِيَامِ حَظٍّ مِنَ اللَّيْلِ مَثَلًا، وَصِيَامِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ لِفَضْلٍ ثَبَتَ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَعَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ، أَوْ يَتَّخِذُ وَظِيفَةً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَهَذَا الْوَجْهُ أَخَذَتْ فِيهِ التَّطَوُعَاتُ مَأْخَذَ الْوَاجِبَاتِ مِنْ وَجْهٍ؛ أَنَّهُ لَمَّا

نَوَى الدَّؤُبَ عَلَيْهَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ؛ أَشْبَهَتِ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنَ الرَّاتِبَةَ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْإِيجَابُ غَيْرَ لَازِمٍ بِالشَّرْعِ؛ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا؛ إِذْ تَرْكُهُ أَصْلًا لَا حَرَجَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ أَعْنِي: تَرْكَ الِالْتِزَامِ، وَنَظِيرُهُ عِنْدَنَا النَّوَافِلُ الرَّاتِبَةُ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ؛ فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْأَصْلِ، وَمِنْ حَيْثُ صَارَتْ رَوَاتِبَ؛ أَشْبَهَتِ السُّنَنَ وَالْوَاجِبَاتِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حِينَ صَلَّاهُمَا فَسُئِلَ عَنْهُمَا فَقَالَ: «يَا ابْنَةَ أَبِي أُمَيَّةَ! سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ؟ أَتَى نَاسٌ مِنْ عَبَدَ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ»؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاتِهِ لَهُمَا بَعْدَ مَا نَهَى عَنْهُمَا، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ كَالنَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ، فَإِمَّا فَاتَتَاهُ؛ صَلَّاهُمَا بَعْدَ وَقْتِهِمَا كَالْقَضَاءِ لَهُمَا حَسْبَمَا يَقْضِي الْوَاجِبُ. فَصَارَ حِينَئِذٍ لِهَذَا النَّوْعِ حَالَةٌ مِنَ التَّطَوُّعِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ؛ إِلَّا أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ بِحَسَبَ مَا فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ فَهِمْنَا مِنْ مَقْصُودِ الشَّرْعِ أَيْضًا الْأَخْذَ بِالرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ، وَأَنْ لَا يُلْزَمَ الْمُكَلَّفُ مَا لَعَلَّهُ يَعْجِزُ عَنْهُ، أَوْ يَحْرَجُ بِالْتِزَامِهِ، فَإِنْ الِالْتِزَامَ؛ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْقَدْرِ الَّذِي يُكْرَهُ ابْتِدَاءً؛ فَهُوَ يَقْرُبُ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، (وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَصَارَ الْإِخْلَالُ بِهِ مَكْرُوهًا).

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْأَخْذِ بِالرِّفْقِ، وَأَنَّهُ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ـ وَإِنْ كَانَ الدَّوَامُ عَلَى الْعَمَلِ أَيْضًا مَطْلُوبًا عَتِيدًا ـ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]، عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَمْرِ وَاقِعٌ فِي التَّكَالِيفِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَعْنَى لَعَنِتُّمْ لَحَرَجْتُمْ، وَلَدَخَلَتْ عَلَيْكُمُ الْمَشَقَّةُ، وَدِينُ اللَّهِ لَا حَرَجَ فِيهِ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} [الحجرات: 7]؛ بِالتَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ، {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] الْآيَةَ. وَإِنَّمَا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]. وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى الْأَخْذَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ اعْتِدَاءً، فَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]. وَمِنَ الْأَحَادِيثِ كَثِيرٌ. ؛ كَمَسْأَلَةِ الْوِصَالِ، فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: " إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» «. وَعَنْ» أَنَسٍ؛ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَوَاصَلَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: " لَوْ مُدَّ لَنَا شَهْرٌ لَوَاصَلْنَا وِصَالًا حَتَّى يَدَعَ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ»، وَهَذَا إِنْكَارٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟! إِنِّي أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ؛ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ: " لَوْ تَأَخَّرَ الشَّهْرُ لَزِدْتُكُمْ» "؛ كَالْمُنَكِّلِ، حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. وَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ قِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ؛ فَإِنَّهُ تَرَكَهُ مَخَافَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ، فَكَانَ ذَلِكَ رِفْقًا مِنْهُ بِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ: " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ وَاصَلَ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؛ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ ". وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: " «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعَ

الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضُ عَلَيْهِمْ». وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ». قَالَ الْمُهَلَّبُ: " وَجْهُهُ: خَشِيتُ أَنْ يُسْتَمَرَّ عَلَيْهِ فَيُفْرَضَ ". وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَجْتَمِعُ النَّهْيُ مَعَ قَوْلِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّأِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ إِشْكَالٌ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْحَوْلَاءِ بِنْتِ تُوَيْتٍ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ، فَقَالَ: " مَنْ هَذِهِ؟ "، فَقُلْتُ: امْرَأَةٌ لَا تَنَامُ تُصَلِّي، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَنَامُ اللَّيْلَ! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا. فَأَعَادَ لَفْظَ " لَا تَنَامُ " مُنْكِرًا عَلَيْهَا» ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ، غَيْرَ رَاضٍ فِعْلَهَا؛ لِمَا خَافَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْكَلَلِ وَالسَّآمَةِ أَوْ تَعْطِيلِ حَقٍّ آكَدٍ. وَنَحْوُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ ـ وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ ـ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ "، قَالُوا: حَبْلٌ لِزَيْنَبَ تُصَلِّي، فَإِذَا كَسَلَتْ أَوْ فَتَرَتْ؛ أَمْسَكَتْ بِهِ، فَقَالَ: " حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسَلَ أَوْ فَتَرَ؛ قَعَدَ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَا، حُلُّوهُ».

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: «بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَصُومُ أُسْرِدُ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ، فَقَالَ: " أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ لَا تُفْطِرُ وَتَصِلِي اللَّيْلَ؟! فَلَا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ لِعَيْنِكَ حَظًّا، وَلِنَفْسِكِ حَظًّا، وَلِأَهْلِكَ حَظًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ. . .»، الْحَدِيثَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ؛ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ؛ قَالَ: «كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَإِمَّا ذُكِرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: " أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟!، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ، قَالَ: " فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، أَوْ قَالَ: كَذَلِكَ)؛ فَحَسْبُكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ "، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: " فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزُوَّارِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا "، قَالَ: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ "، قَالَ: فَقَلَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ـ وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَالَ: " كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا "، قَالَ: " وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ "، قَالَ: فَقَلَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: " فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزُوَّارِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكِ عَلَيْكَ حَقًّا، قَالَ: فَشَدَّدْتُ فَشَدَّدَ (اللَّهُ) عَلَيَّ، قَالَ: وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ "، قَالَ: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَبِرْتُ؛ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ

قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِيَ» وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: «ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ، وَذُكِرَ عِنْدِهِ آخَرٌ بِرِعَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يُعْدَلُ بِالرِّعَةِ»، وَالرِّعَةُ: الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الرِّفْقُ وَالتَّيْسِيرُ. قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا؛ كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَقَدْ غَفَرَ (اللَّهُ) لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟! فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا؛ فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنِّي أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: إِنِّي أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟! أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».

فصل الأخذ في التسهيل والتيسير مع الالتزام على جهة ما لا يشق الدوام

وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَهِيَ بِجُمْلَتِهَا تَدُلُّ عَلَى الْأَخْذِ فِي التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ عَدَمِ الِالْتِزَامِ، وَإِنْ تُصُوِّرَ مَعَ الِالْتِزَامِ؛ فَعَلَى جِهَةِ مَا لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ فِيهِ حَسْبَمَا نُفَسِّرُهُ الْآنَ. [فَصْلٌ الْأَخْذُ فِي التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ مَعَ الِالْتِزَامِ عَلَى جِهَةِ مَا لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ] فَصْلٌ فَأَمَّا إِنِ الْتَزَمَ أَحَدٌ ذَلِكَ الْتِزَامًا؛ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا عَلَى جِهَةِ النَّذْرِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً: أَلَا تَرَى إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يَنْهَانَا عَنِ النَّذْرِ؛ يَقُولُ: " إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الشَّحِيحِ». ـ وَفِي رِوَايَةٍ: «النَّذْرُ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَنْذُرُوا؛ فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ». وَإِنَّمَا وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ تَنْبِيهًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي أَنَّهَا كَانَتْ تَنْذُرُ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي؛ فَعَلَيَّ صَوْمُ كَذَا، وَإِنْ قَدِمَ غَائِبِي، أَوْ إِنْ أَغْنَانِيَ اللَّهُ؛ فَعَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا، فَيَقُولُ: لَا يُغْنِي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا، بَلْ مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ الصِّحَّةَ أَوِ الْمَرَضَ أَوِ الْغِنَى أَوِ الْفَقْرَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَالنَّذْرُ لَمْ

يُوضَعْ سَبَبًا لِذَلِكَ، كَمَا وُضِعَتْ صِلَةُ الرَّحِمِ سَبَبًا فِي الزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ مَثَلًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ، بَلِ النَّذْرُ وَعَدَمُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ؛ بِشَرْعِيَّةِ الْوَفَاءِ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ»، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَوَجْهُ النَّهْيِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ عَلَى كَرَاهَتِهِ. وَإِمَّا عَلَى جِهَةِ الِالْتِزَامِ غَيْرِ النَّذْرِيِّ؛ فَكَأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْوَعْدِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مَطْلُوبٌ، فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، فَهُوَ تَشْدِيدٌ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ يَأْتِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ، حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَتَوْا يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِمْ: أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . . إِلَخْ؟!، وَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَفْعَلُ كَذَا. . . . إِلَخْ. وَنَحْوُهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: لَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلَأَصُومَنَّ النَّهَارَ مَا عِشْتُ»، وَلَيْسَ بِمَعْنَى النَّذْرِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَقُلْ لَهُ: صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، صُمْ كَذَا، وَلَقَالَ لَهُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ». فَأَمَّا الِالْتِزَامُ بِالْمَعْنَى النَّذْرِيِّ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ بِهِ وُجُوبًا لَا نَدْبًا،

عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ، وَجَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَلَا نُطِيلُ بِهِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي؛ فَالْأَدِلَّةُ تَقْتَضِي الْوَفَاءَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ الْعِتَابِ عَلَى التَّرْكِ ـ حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ فِي مَأْخَذِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْقِيَامِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً ـ؛ كَانَ ذَلِكَ بِصُورَةِ النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلدَّوَامِ فِي الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَأَمَرَهُمْ بِالدَّوَامِ حَتَّى لَا يَكُونُوا كَمَنْ عَاهَدَ ثُمَّ لَمْ يُوفِ بِعَهْدِهِ، فَيَصِيرَ مُعَاتَبًا، لَكِنَّ هَذَا الْقَسَمَ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَا يُطَاقُ، أَوْ مِمَّا فِيهِ حَرَجٌ أَوْ مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ، أَوْ يُؤَدِّي إِلَى تَضْيِيعِ مَا هُوَ أَوْلَى؛ فَهَذِهِ هِيَ الرَّهْبَانِيَّةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي»، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِي الدُّخُولِ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَلَا حَرَجٌ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الدَّوَامِ عَلَيْهِ تَلْحَقُ بِسَبَبِهِ الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ، أَوْ تَضْيِيعُ مَا هُوَ آكَدُ، فَهَاهُنَا أَيْضًا يَقَعُ النَّهْيُ ابْتِدَاءً، وَعَلَيْهِ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ. وَجَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ تَفْسِيرُ ذَلِكَ، حَيْثُ قَالَ: " «فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ "، " وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ». فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ اعْتُبِرَ فِي الْتِزَامِ مَا لَا يُلْزَمُ ابْتِدَاءً أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَشُقُّ

فصل الدخول في عمل على نية الالتزام له

الدَّوَامُ عَلَيْهِ إِلَى الْمَوْتِ! قَالَ: " «فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَبِرْتُ؛ وَدِدْتُ أَنِّي قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَعَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: " وَيُطِيقُ أَحَدٌ ذَلِكَ؟! "، ثُمَّ قَالَ فِي صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ: " وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ "، فَمَعْنَاهُ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا؛ فَقَدْ كَانَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ وَيَقُولُ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي». وَفِي الصَّحِيحِ: «كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ». [فَصْلٌ الدُّخُولُ فِي عَمَلٍ عَلَى نِيَّةِ الِالْتِزَامِ لَهُ] فَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَالدُّخُولُ فِي عَمَلٍ عَلَى نِيَّةِ الِالْتِزَامِ لَهُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالدُّخُولُ فِي عَمَلٍ عَلَى نِيَّةِ الِالْتِزَامِ لَهُ إِنْ كَانَ فِي الْمُعْتَادِ، بِحَيْثُ إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهِ؛ أَوْرَثَ مَلَلًا، يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا

الِالْتِزَامَ مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً، إِذْ هُوَ مُؤَدٍّ إِلَى أُمُورِ جَمِيعُهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَهْدَى فِي هَذَا الدِّينِ التَّسْهِيلَ وَالتَّيْسِيرَ، وَهَذَا الْمُلْتَزِمَ يُشْبِهُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ هَدِيَّتَهُ، وَذَلِكَ يُضَاهِي رَدَّهَا عَلَى مُهْدِيهَا، وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْمَمْلُوكِ مَعَ سَيِّدِهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ؟! وَالثَّانِي: خَوْفُ التَّقْصِيرِ أَوِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا هُوَ أَوْلَى وَآكَدُ فِي الشَّرْعِ. «وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِخْبَارًا عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا»، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى؛ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُضْعِفْهُ الصِّيَامُ عَنْ لِقَاءٍ لِعَدُوٍّ فَيَفِرُّ وَيَتْرُكُ الْجِهَادَ فِي مَوَاطِنَ تُكَبِّدُهُ بِسَبَبِ ضَعْفِهِ. وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكَ لَتُقِلُّ الصَّوْمَ، فَقَالَ: " إِنَّهُ يَشْغَلُنِي عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ ". وَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ إِحْيَاءَ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَقَالَ: " لَعَلَّهُ يُصْبِحُ مَغْلُوبًا، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ "، ثُمَّ قَالَ: " لَا بَأْسَ بِهِ؛ مَا لَمْ يَضُرَّ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ ". وَقَدْ جَاءَ فِي: صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ سَنْتَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِفْطَارَ فِيهِ لِلْحَاجِّ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ قُوَّةٌ عَلَى الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ، وَلِابْنِ وَهْبٍ فِي ذَلِكَ حِكَايَةٌ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزُوَّارِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفَسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»، فَإِذَا انْقَطَعَ إِلَى عِبَادَةٍ لَا تَلْزَمُهُ فِي الْأَصْلِ؛ فَرُبَّمَا

أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ. وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ)؛ قَالَ: «آخَرُ مَا آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ مُتَبَذِّلَةً؟ قَالَتْ: إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؛ قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ؛ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ؛ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ؛ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، فَقَامَا فَصَلَّيَا، فَقَالَ (سَلْمَانُ): إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: صَدَقَ سَلْمَانُ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ جَمَعَ التَّنْبِيهَ عَلَى حَقِّ الْأَهْلِ بِالْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَالضَّيْفِ بِالْخِدْمَةِ وَالتَّأْنِيسِ وَالْمُؤَاكَلَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْوَلَدِ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِمْ بِالِاكْتِسَابِ وَالْخِدْمَةِ، وَالنَّفْسِ بِتَرْكِ إِدْخَالِ الْمَشَقَّاتِ عَلَيْهَا، وَحَقِّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَبِوَظَائِفَ أُخَرَ فَرَائِضَ وَنَوَافِلَ آكَدَ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْطِي لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. وَإِذَا الْتَزَمَ الْإِنْسَانُ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْدُوبَةِ أَوْ أَمْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً؛ فَقَدْ يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنِ الْقِيَامِ بِغَيْرِهَا، أَوْ عَنْ كَمَالِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَيَكُونُ مَلُومًا.

(وَالثَّالِثُ): خَوْفُ كَرَاهِيَةِ النَّفْسِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ الْمُلْتَزَمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فُرِضَ مِنْ جِنْسِ مَا يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَيْهِ، فَتَدْخُلُ الْمَشَقَّةُ، (بِحَيْثُ) لَا يُقَرِّبُ مِنْ وَقْتِ الْعَمَلِ؛ إِلَّا وَالنَّفْسُ تَشْمَئِزُّ مِنْهُ، وَتَوَدُّ لَوْ لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَمَنَّى لَوْ لَمْ تَلْتَزِمْ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضُوا لِأَنْفُسِكُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهَرًا أَبْقَى».

فَشَبَّهَ الْمُوغِلَ بِالْعُنْفِ بِالْمُنْبَتِّ، وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ؛ [لِأَنَّهُ عَنَّفَ فِي أَوَّلِهِ] تَعْنِيفًا عَلَى الظَّهْرِ ـ وَهُوَ الْمَرْكُوبُ ـ حَتَّى وَقَفَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السَّيْرِ، وَلَوْ رَفَقَ بِدَابَتِهِ؛ لَوَصَلَ إِلَى رَأْسِ الْمَسَافَةِ. فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ؛ عُمُرُهُ مَسَافَةٌ، وَالْغَايَةُ الْمَوْتُ، وَدَابَّتُهُ نَفْسُهُ، فَكَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالرِّفْقِ عَلَى الدَّابَّةِ حَتَّى يَصِلَ بِهَا؛ فَكَذَلِكَ هُوَ مَطْلُوبٌ بِالرِّفْقِ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهَا قَطْعُ مَسَافَةِ الْعُمُرِ بِحِمْلِ التَّكْلِيفِ، فَنَهَى فِي الْحَدِيثِ عَنِ التَّسَبُّبِ فِي تَبْغِيضِ الْعِبَادَةِ لِلنَّفْسِ، وَمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ لَا يَكُونُ حَسَنًا. وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46]، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا، فَقَالَ: " انْطَلِقَا فَبَشِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا؛ فَإِنِّي أُنْزِلَتْ عَلَيَّ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا». وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: " بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرًا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا».

وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ؛ قَالَ: " بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا». وَهَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّعْسِيرِ الَّذِي الْتِزَامُ الْحَرَجِ فِي التَّعَبُّدِ نَوْعٌ مِنْهُ. وَفِي الطَّبَرِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي عَلَى صَخْرَةٍ بِمَكَّةَ، فَأَتَى نَاحِيَةَ مَكَّةَ، فَمَكَثَ مَلِيًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَجَدَ الرَّجُلَ يُصَلِّي عَلَى حَالِهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ وَالْقِسْطِ ـ ثَلَاثًاـ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا». وَعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي، فَقَالَ: " مَنْ

هَذَا؟، فَقُلْتُ: هَذَا فُلَانٌ، فَذَكَرْتُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ، فَقَالَ: " إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ». وَهَذَا يُشْعِرُ بِعَدَمِ الرِّضَا بِتِلْكَ الْحَالَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَخَافَةَ الْكَرَاهِيَةِ لِلْعَمَلِ، وَكَرَاهِيَةُ الْعَمَلِ مَظِنَّةٌ لِلتَّرْكِ الَّذِي هُوَ مَكْرُوهٌ لِمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِ نَقْضِ الْعَهْدِ، (وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ). وَقَدْ مَرَّ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطْعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» "، وَمَعَ قَوْلِهِ: " «وَلَا تُبَغِّضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمُ الْعِبَادَةَ»؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُغْضَ الْعَمَلِ وَكَرَاهِيَتَهُ مَظِنَّةُ الِانْقِطَاعِ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمُنْبَتِّ، وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْمَسَافَةِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]، عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ. (وَالْخَامِسُ): الْخَوْفُ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّ الْغُلُوَّ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْأَمْرِ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِيهِ إِلَى حَيِّزِ الْإِسْرَافِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ أَشْيَاءُ: حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ». . . .

الْحَدِيثَ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171]. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ: " اجْمَعْ لِي حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ "، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ؛ قَالَ: " بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ؛ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ». فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْغُلُوِّ يَشْتَمِلُ مَعْنَاهَا عَلَى كُلِّ مَا هُوَ غُلُوٌّ وَإِفْرَاطٌ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُقَيَّدَةِ آنِفًا خَرَّجَهَا الطَّبَرِيُّ. وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ؛ قَالَ: " كَانَ يُقَالُ: اعْمَلْ وَأَنْتَ مُشْفِقٌ، وَدَعِ الْعَمَلَ وَأَنْتَ تُحِبُّهُ: عَمَلٌ دَائِمٌ وَإِنَّ قَلَّ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ مُنْقَطِعٍ ". وَأَتَى مُعَاذًا رَجُلٌ، فَقَالَ: أَوْصِنِي. قَالَ: " أَمُطِيعِي أَنْتَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " صَلِّ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَاكْتَسِبْ وَلَا تَأْتِ اللَّهَ إِلَّا وَأَنْتَ مُسْلِمٌ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ.

وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُوَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ بْنِ مُطَرِّفٍ: " «يَا عَبْدَ اللَّهِ! الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ». وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ «الْحَسَنَةَ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ»: أَنَّ الْحَسَنَةَ هِيَ الْقَصْدُ وَالْعَدْلُ، وَالسَّيِّئَتَيْنِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالتَّقْصِيرُ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] الْآيَةَ. وَمَعْنَى الْحَقْحَقَةِ: أَرْفَعُ السَّيْرِ، وَإِتْعَابُ الظَّهْرِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْغُلُوِّ وَالْإِفْرَاطِ. وَنَحْوُهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُرَّةَ الْجُعْفِيِّ؛ قَالَ: " «الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ» ". وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ: " «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ؛ فَلَا تُبَغِّضْ إِلَيْكَ دِينَ اللَّهِ، وَأَوْغِلْ بِرِفْقٍ؛ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَمْ يَقْطَعْ بُعْدًا وَلَمْ يَسْبِقْ ظَهْرًا، وَاعْمَلْ عَمَلَ الْمَرْءِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ لَا يَمُوتُ إِلَّا يَوْمًا، وَاحْذَرْ حَذَرَ الْمَرْءِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ

يَمُوتُ غَدًا». وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ نَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَخْذِ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَقْتَضِي الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ إِسْحَاقَ؛ قَالَ: " أَدْرَكْتُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِمَّنْ سَبَقَنِي مِنْهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَيْسَرَ سِيرَةً وَلَا أَقَلَّ تَشْدِيدًا مِنْهُمْ ". وَقَالَ الْحَسَنُ: " دِينُ اللَّهِ وُضِعَ فَوْقَ التَّقْصِيرِ وَدُونَ الْغُلُوِّ ". وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، جَمِيعُهَا رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي الدِّينِ. وَالْحَرَجُ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَرَجِ الْحَالِيِّ ـ كَالشُّرُوعِ فِي عِبَادَةٍ شَاقَّةٍ فِي نَفْسِهَا ـ كَذَلِكَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَرَجِ الْمَآلِي، إِذْ كَانَ الْحَرَجُ لَازِمًا مَعَ الدَّوَامِ؛ كَقِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ ـ مِمَّا تَقَدَّمَ ـ، مَعَ أَنَّ الدَّوَامَ مَطْلُوبٌ حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ» وَإِنَّ قَلَّ، فَلِذَلِكَ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، حَتَّى قَضَى رَكْعَتَيْ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ.

هَذَا؛ إِنْ كَانَ الْعَامِلُ لَا يَنْوِي الدَّوَامَ فِيهِ، فَكَيْفَ إِذَا عَقَدَ فِي نِيَّتِهِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُ؟! فَهُوَ أَحْرَى بِطَلَبِ الدَّوَامِ. فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: " «يَا عَبْدَ اللَّهِ! لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَنَهَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ فُلَانٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي كَرَاهِيَةِ التَّرْكِ مِنْ ذَلِكَ الْفُلَانِ وَغَيْرِهِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الَّذِي هُوَ مَظَنَّةٌ لِلْمَشَقَّةِ عِنْدَ الدَّوَامِ مَطْلُوبُ التَّرْكِ لِعِلَّةٍ أَكْثَرِيَّةٍ، فَفُهِمَ عِنْدَ تَقْرِيرِهِ أَنَّهُ إِذَا فُقِدَتْ؛ زَالَ طَلَبُ التَّرْكِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ طَلَبُ التَّرْكِ؛ رَجَعَ إِلَى أَصْلِ الْعَمَلِ، وَهُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ. فَالدَّاخِلُ فِيهِ عَلَى الْتِزَامِ شَرْطِهَ دَاخِلٌ فِي مَكْرُوهٍ ابْتِدَاءً مِنْ وَجْهٍ؛ لِإِمْكَانِ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ، وَفِي الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ؛ حَمْلًا عَلَى ظَاهِرِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الْوَفَاءِ، فَمِنْ حَيْثُ النَّدْبُ؛ أَمَرَهُ الشَّارِعُ بِالْوَفَاءِ، وَمِنْ حَيْثُ الْكَرَاهِيَةُ؛ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ. وَحِينَ صَارَتِ الْكَرَاهَةُ هِيَ الْمُقَدَّمَةَ؛ كَانَ دُخُولُهُ فِي الْعَمَلِ لِقَصْدِ الْقُرْبَةِ يُشْبِهُ الدُّخُولَ فِيهِ بِغَيْرِ أَمْرٍ، فَأَشْبَهَ الْمُبْتَدِعَ الدَّاخِلَ فِي عِبَادَةٍ غَيْرِ مَأْمُورٍ بِهَا، فَقَدْ يُسْتَسْهَلُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِطْلَاقُ الْبِدْعَةِ عَلَيْهَا كَمَا اسْتَسْهَلَهُ أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْعَمَلُ مَأْمُورًا بِهِ ابْتِدَاءً قَبْلَ النَّظَرِ فِي الْمَآلِ، أَوْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَشَقَّةِ، أَوْ مَعَ اعْتِقَادِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ؛ أَشْبَهَ صَاحِبُهُ مَنْ دَخَلَ

فِي نَافِلَةٍ قَصْدًا لِلتَّعَبُّدِ بِهَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى أَدِلَّةِ النَّدْبِ. وَلِذَلِكَ أُمِرَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ بِالْوَفَاءِ، كَانَ نَذْرًا أَوِ الْتِزَامًا بِالْقَلْبِ غَيْرَ نَذْرٍ، وَلَوْ كَانَ بِدْعَةً دَاخِلَةً فِي حَدِّ الْبِدْعَةِ؛ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْوَفَاءِ، وَلَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: " مَا بَالُ هَذَا؟ "، فَقَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَجْلِسَ وَيَصُومَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ». فَأَنْتَ تَرَى كَيْفَ أَبْطَلَ عَلَيْهِ التَّبَدُّعَ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَرَهُ بِالْوَفَاءِ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الْأَصْلِ، فَلَوْلَا [أَنَّ] لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَعْنًى؛ لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مَعْنًى مَفْهُومٌ. وَأَيْضًا؛ فَإِذَا كَانَ الدَّاخِلُ مَأْمُورًا بِالدَّوَامِ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الدُّخُولُ طَاعَةً، بَلْ لَا بُدَّ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ ـ فَضْلًا عَنِ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ ـ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَلَا نَظِيرَ لِذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ. وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ». وَلِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ مَنْ أَوْفَى بِنَذْرِهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ.

فصل الرد على إشكال أن الأدلة على كراهية الالتزامات التي يشق دوامها معارض بما دل على خلافه

وَفِي آيَةِ الْحَدِيدِ: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} [الحديد: 27]، وَلَا يَكُونُ الْأَجْرُ إِلَّا عَلَى مَطْلُوبٍ شَرْعًا. فَتَأَمَّلُوا هَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَبِهِ يَرْتَفِعُ إِشْكَالُ التَّعَارُضِ الظَّاهِرِ لِبَادِيَ الرَّأْيِ، حَتَّى تَنْتَظِمَ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَسِيَرُ مَنْ تَقَدَّمَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَهَا إِشْكَالَانِ قَوِيَّانِ، وَبِالنَّظَرِ فِي الْجَوَابِ عَنْهُمَا يَنْتَظِمُ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ عَلَى تَمَامِهِ، فَنَعْقِدُ فِي كُلِّ إِشْكَالٍ فَصْلًا. [فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى إِشْكَالِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ عَلَى كَرَاهِيَةِ الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي يَشُقُّ دَوَامُهَا مُعَارَضٌ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ] فَصْلٌ (الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ): إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي يَشُقُّ دَوَامُهَا مُعَارَضٌ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ: فَقَدَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: أَوْ لَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَيَقُولُ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!». «وَيَظَلُّ الْيَوْمَ الطَّوِيلَ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ صَائِمًا». «وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ وَيَبِيتُ عِنْدَ رَبِّهِ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ». . . . . وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ اجْتِهَادِهِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ. وَفِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالتَّأَسِّي.

فَإِنَّ أَبَيْتُمْ هَذَا الدَّلِيلَ بِسَبَبِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ ـ وَلِذَلِكَ كَانَ رَبُّهُ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ ـ وَكَانَ يُطِيقُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا تُطِيقُهُ أُمَّتُهُ؛ فَمَا قَوْلُكُمْ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْعَارِفِينَ بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَا عَلَى الْكَرَاهِيَةِ: حَتَّى أَنْ بَعْضَهُمْ قَعَدَ مِنْ رِجْلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ التَّبَتُّلِ. وَصَارَتْ جَبْهَةُ بَعْضِهِمْ كَرُكْبَةِ الْبَعِيرِ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ؟ وَجَاءَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنَ كُلَّهُ ". وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ صَلَّى الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ كَذَا كَذَا سَنَةً، وَسَرَدَ الصِّيَامَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، وَكَانُوا هُمُ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ، لَا يَمِيلُونَ عَنْهَا لَحْظَةً. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُمَا كَانَا يُوَاصِلَانِ الصِّيَامَ. وَأَجَازَ مَالِكٌ ـ وَهُوَ إِمَامٌ فِي الِاقْتِدَاءِ ـ صِيَامَ الدَّهْرِ؛ يَعْنِي: إِذَا أَفْطَرَ أَيَّامَ الْعِيدِ. وَمِمَّا يُحْكَى عَنْ أُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَقُولُ: " بَلَغَنِي أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا سُجُودًا أَبَدًا. . . "؛ يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَنَفَّلُ بِالصَّلَاةِ، فَتَارَةً يُطَوِّلُ فِيهَا الْقِيَامَ، وَتَارَةً الرُّكُوعَ، وَتَارَةً السُّجُودَ. وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ كَانَ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الصَّوْمِ وَالْعِبَادَةِ حَتَّى يَخْضَرَّ جَسَدُهُ وَيَصْفَرَّ، فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ لَهُ: وَيْحَكَ! لِمَ تُعَذِّبْ هَذَا الْجَسَدَ؟ فَيَقُولُ: " إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ، إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ ". وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ امْرَأَةَ مَسْرُوقٍ قَالَتْ: " كَانَ يُصَلِّي حَتَّى

تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَرُبَّمَا جَلَسْتُ خَلْفَهُ أَبْكِي مِمَّا أَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَفْسِهِ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ؛ قَالَ: " غُشِيَ عَلَى مَسْرُوقٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ: أَفْطِرْ، قَالَ: مَا أَرَدْتِ بِي؟ قَالَتْ: الرِّفْقَ، قَالَ: يَا بُنْيَةُ! إِنَّمَا طَلَبْتُ الرِّفْقَ لِتَعَبِي فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ". وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ: أَنَّهُ قَالَ: " أَتَيْتُ أُوَيْسًا الْقَرْنِيَّ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ وَقَعَدَ، فَقُلْتُ: لَا أَشْغَلُهُ عَنِ التَّسْبِيحِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتَ الصَّلَاةِ؛ قَامَ فَصَلَّى إِلَى الظُّهْرِ، فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ، صَلَّى إِلَى الْعَصْرِ، فَلَمَّا صَلَّى الْعَصْرَ؛ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا صَلَّى الْمَغْرِبَ؛ صَلَّى إِلَى الْعِشَاءِ، فَلَمَّا صَلَّى الْعِشَاءَ؛ صَلَّى إِلَى الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ؛ جَلَسَ، فَأَخَذَتْهُ عَيْنُهُ، ثُمَّ انْتَبَهَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَيْنٍ نَوَّامَةٍ، وَبَطْنٍ لَا تَشْبَعُ ". وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ عَنِ الْأَوَّلِينَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْأَخْذِ بِمَا هُوَ شَاقٌّ فِي الدَّوَامِ، وَلَمْ يَعُدَّهُمْ أَحَدٌ بِذَلِكَ مُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ، بَلْ عَدُّوهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَنِ الْعِبَادَةِ الْمَطْلُوبَةِ، بَلْ هُوَ عَنِ الْغُلُوِّ فِيهَا غُلُوًا يُدْخِلُ الْمَشَقَّةَ عَلَى الْعَامِلِ، فَإِذَا فَرَضْنَا مَنْ فُقِدَتْ فِي حَقِّهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ؛ فَلَا يَنْتَهِضُ النَّهْيُ فِي حَقِّهِ؛ كَمَا إِذَا قَالَ الشَّارِعُ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ، وَكَانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ؛ اطَّرَدَ النَّهْيُ مَعَ كُلِّ مُشَوِّشٍ، وَانْتَفَى عِنْدَ انْتِفَائِهِ، حَتَّى إِنَّهُ مُنْتَفٍ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ، وَهَذَا صَحِيحٌ جَارٍ عَلَى الْأُصُولِ.

وَحَالُ مَنْ فُقِدَتْ فِي حَقِّهِ الْعِلَّةُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَوِ الرَّجَاءِ أَوِ الْمَحَبَّةِ؛ فَإِنَّ الْخَوْفَ سَوْطٌ سَائِقٌ، وَالرَّجَاءَ حَادٍ قَائِدٌ، وَالْمَحَبَّةَ سَبِيلٌ حَامِلٌ، فَالْخَائِفُ إِنْ وَجَدَ الْمَشَقَّةَ؛ فَالْخَوْفُ مِمَّا هُوَ أَشَقُّ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ مَا هُوَ أَهْوَنُ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ شَاقًّا، وَالرَّاجِي يَعْمَلُ وَإِنْ وَجَدَ الْمَشَقَّةَ؛ لِأَنَّ رَجَاءَ الرَّاحَةِ التَّامَّةِ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى بَعْضِ التَّعَبِ، وَالْمُحِبُّ يَعْمَلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ؛ شَوْقًا إِلَى الْمَحْبُوبِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الصَّعْبُ، وَيَقْرُبُ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ، فَيُوهِنُ الْقُوَى، وَلَا يَرَى أَنَّهُ أَوْفَى بِعَهْدِ الْمَحَبَّةِ وَلَا قَامَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَيَعْصِرُ الْأَنْفَاسَ وَلَا يَرَى أَنَّهُ قَضَى نَهْمَتَهُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ صَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَجَازَ الدُّخُولُ فِي الْعَمَلِ الْتِزَامًا مَعَ الْإِيغَالِ فِيهِ: إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا مَعَ ظَنِّ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ دَخَلَتِ الْمَشَقَّةُ فِيمَا بَعْدُ؛ إِذَا صَحَّ مَعَ الْعَامِلِ الدَّوَامُ عَلَى الْعَمَلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ وَعَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ النَّهْيِ صَحِيحٌ صَرِيحٌ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَوَّلِينَ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُحْمَلَ [عَلَى] أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَمِلُوا عَلَى التَّوَسُّطِ الَّذِي هُوَ مَظَنَّةُ الدَّوَامِ، فَلَمْ يُلْزِمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا لَعَلَّهُ يُدْخِلُ عَلَيْهِمُ الْمَشَقَّةَ حَتَّى يَتْرُكُوا بِسَبَبِهِ مَا هُوَ أَوْلَى، أَوْ يَتْرُكُوا الْعَمَلَ، أَوْ يُبَغِّضُوهُ لِثِقَلِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، بَلِ الْتَزَمُوا مَا كَانَ عَلَى النُّفُوسِ سَهْلًا فِي حَقِّهِمْ، فَإِنَّمَا طَلَبُوا الْيُسْرَ لَا الْعُسْرَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَالَ مَنْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَمِلُوا بِمَحْضِ السُّنَّةِ وَالطَّرِيقَةِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الطَّبَرِيِّ فِي الْجَوَابِ.

وَمَا تَقَدَّمَ فِي السُّؤَالِ مِمَّا يَظْهَرُ مِنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ؛ فَقَضَايَا أَحْوَالٍ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَامِلَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ. (وَالثَّانِي): يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا، لَكِنْ لَا عَلَى جِهَةِ الِالْتِزَامِ، لَا بِنَذْرٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَقَدْ يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ فِي أَعْمَالٍ يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَيْهَا وَلَا يَشُقُّ فِي الْحَالِ، فَيَغْتَنِمُ نَشَاطَهُ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ؛ غَيْرَ نَاظِرٍ فِيهَا فِيمَا يَأْتِي، وَيَكُونُ جَارِيًا فِيهِ عَلَى أَصْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ؛ تَرَكَهُ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ لَا حَرَجَ فِي تَرْكِهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَيُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُهُ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ». . .، الْحَدِيثَ. فَتَأَمَّلُوا وَجْهَ اعْتِبَارِ النَّشَاطِ، وَالْفَرَاغِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ، أَوِ الْقُوَّةِ فِي الْأَعْمَالِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي صِيَامِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ: " لَيْتَنِي طُوِّقْتُ ذَلِكَ "؛ إِنَّمَا يُرِيدُ الْمُدَاوَمَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُوَالِي الصِّيَامَ حَتَّى يَقُولُوا لَا يُفْطِرُ. وَلَا يُعْتَرَضُ [عَلَى] هَذَا الْمَأْخَذِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنَّ قَلَّ»، وَأَنَّـ[ـهُ] «كَانَ عَمَلُهُ دَائِمًا»؛ لِأَنَّهُ

مَحْمُولٌ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَشُقُّ فِيهِ الدَّوَامُ. وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْهُمْ إِدَامَةُ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ وَقِيَامُ جَمِيعِ اللَّيْلِ، وَصِيَامُ الدَّهْرِ. . . وَنَحْوُهُ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ حَالًا يَغْتَنِمُ نَشَاطَهُ، فَإِذَا أَتَى زَمَانٌ آخَرُ وَجَدَ فِيهِ النَّشَاطَ أَيْضًا وَإِذَا لَمْ يُخِلَّ بِمَا هُوَ أَوْلَى؛ عَمِلَ كَذَلِكَ، فَيَتَّفِقُ أَنْ يَدُومَ لَهُ هَذَا النَّشَاطُ زَمَانًا طَوِيلًا، وَفِي كُلِّ حَالَةٍ هُوَ فِي فُسْحَةِ التَّرْكِ، لَكِنَّهُ يَنْتَهِزُ الْفُرْصَةَ مَعَ الْأَوْقَاتِ، فَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يَصْحَبَهُ النَّشَاطُ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ، فَيَظُنُّهُ الظَّانُّ الْتِزَامًا وَلَيْسَ بِالْتِزَامٍ. وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ سَائِقِ الْخَوْفِ أَوْ حَادِي الرَّجَاءِ أَوْ حَامِلِ الْمَحَبَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»، فَلِذَلِكَ «قَامَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ،» وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2]، الْآيَةَ. (وَالثَّالِثُ): أَنَّ دُخُولَ الْمَشَقَّةِ وَعَدَمَهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الدَّوَامِ أَوْ غَيْرِهِ لَيْسَ أَمْرًا مُنْضَبِطًا، بَلْ هُوَ إِضَافِيٌّ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي قُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ، أَوْ فِي قُوَّةِ عَزَائِمِهِمْ، أَوْ فِي قُوَّةَ يَقِينِهِمْ. . . . أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ أَجْسَامِهِمْ وَأَنَفَاسِهِمْ، فَقَدْ يَخْتَلِفُ الْعَمَلُ الْوَاحِدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَقْوَى جِسْمًا، أَوْ أَقْوَى عَزِيمَةً، أَوْ يَقِينًا بِالْمَوْعِدِ، وَالْمَشَقَّةُ قَدْ تَضْعُفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُوَّةِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَأَشْبَاهِهَا، وَتَقْوَى مَعَ

ضَعْفِهَا. فَنَحْنُ نَقُولُ: كُلُّ عَمَلٍ يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَى مِثْلِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَيْدٍ؛ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَا يَشُقُّ عَلَى عُمَرَ؛ فَلَا يُنْهَى عَنْهُ. فَنَحْنُ نَحْمِلُ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَاقًّا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ شَاقًّا عَلَيْنَا، فَلَيْسَ عَمَلُ مِثْلِهِمْ بِمَا عَمِلُوا بِهِ حُجَّةً لَنَا أَنْ نَدْخُلَ فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ؛ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَمْتَدَّ مَنَاطُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَى مِثْلِهِ. وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي هَذَا لِمُشَاهَدَةِ الْجَمِيعِ، فَإِنَّ التَّوَسُّطَ وَالْأَخْذَ بِالرِّفْقِ هُوَ (الْأَوْلَى) وَالْأَحْرَى بِالْجَمِيعِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ؛ دُونَ الْإِيغَالِ الَّذِي لَا يَسْهُلُ مِثْلُهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَلَا أَكْثَرِهِمْ؛ إِلَّا عَلَى الْقَلِيلِ النَّادِرِ مِنْهُمْ. وَالشَّاهِدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي»؛ يُرِيدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْوِصَالُ، وَلَا يَمْنَعُهُ عَنْ قَضَاءِ حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ. فَعَلَى هَذَا؛ مَنْ رُزِقَ أُنْمُوذَجًا مِمَّا أُعْطِيَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَصَارَ يُوغِلُ فِي الْعَمَلِ مَعَ قُوَّتِهِ وَنَشَاطِهِ وَخِفَّةِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ؛ فَلَا حَرَجَ. وَأَمَّا رَدُّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَهِدَ بِأَنَّهُ لَا يُطِيقُ الدَّوَامَ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ لَهُ مَا كَانَ مُتَوَقَّعًا، حَتَّى قَالَ: " لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".

فصل النظر في تعليل النهي وأنه يقتضي انتفاءه عند العلة

وَيَكُونُ عَمَلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا فِي الْوِصَالِ جَارِيًا عَلَى أَنَّهَمْ أُعْطُوا حَظًّا مِمَّا أُعْطِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مَذْكُورٍ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَمَلِ الْمَنْقُولِ عَنِ السَّلَفِ مُخَالَفَةٌ لِمَا سَبَقَ. [فَصْلٌ النَّظَرُ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ عِنْدَ الْعِلَّةِ] فَصْلٌ لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ عِنْدَ الْعِلَّةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِيهِ صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِيهِ فِي التَّفْصِيلِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْخَوْفُ مِنْ الِانْقِطَاعِ وَالتَّرْكِ إِذَا الْتُزِمَ فِيمَا يَشُقُّ فِيهِ الدَّوَامُ. وَالْآخَرُ: الْخَوْفُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِيمَا هُوَ الْآكَدُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ. أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَصَّلَ فِيهِ أَصْلًا رَاجِعًا إِلَى قَاعِدَةٍ مَعْلُومَةٍ لَا مَظْنُونَةٍ، وَهِيَ بَيَانُ أَنَّ الْعَمَلَ الْمُوَرِّثَ لِلْحَرَجِ عِنْدَ الدَّوَامِ مَنْفِيٌّ عَنِ الشَّرِيعَةِ؛ كَمَا أَنْ أَصْلَ الْحَرَجِ مَنْفِيٌّ عَنْهَا، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَلَا سَمَاحَ مَعَ دُخُولِ الْحَرَجِ؛ فَكُلُّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ مَا يَلْقَى فِيهِ الْحَرَجَ؛ فَقَدْ يَخْرُجُ عَنْ الِاعْتِدَالِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَصَارَ إِدْخَالُهُ لِلْحَرَجِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ لَا مِنَ الشَّارِعِ؛ فَإِنْ دَخَلَ فِي الْعَمَلِ عَلَى شَرْطِ الْوَفَاءِ؛ فَإِنْ وَفَّى؛ فَحَسَنٌ بَعْدَ الْوُقُوعِ، إِذْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ: إِمَّا غَيْرُ شَاقٍّ؛

لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِهِ بِشَرْطِهِ، وَإِمَّا شَاقٌّ صَبَرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُوفِ النَّفْسَ حَقَّهَا مِنَ الرِّفْقِ، وَسَيَأْتِي، وَإِنْ لَمْ يُوفِّ؛ فَكَأَنَّهُ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ، وَهُوَ شَدِيدٌ، فَلَوْ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ الِالْتِزَامِ؛ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ مَا يَتَّقِي مِنْهُ. لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ النَّهْيَ هَاهُنَا مُعَلَّقٌ بِالرِّفْقِ الرَّاجِعِ إِلَى الْعَامِلِ؛ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ»، فَكَأَنَّهُ قَدِ اعْتَبَرَ حَظَّ النَّفْسِ فِي التَّعَبُّدِ، فَقِيلَ لَهُ: افْعَلْ وَاتْرُكْ؛ أَيْ: لَا تَتَكَلَّفْ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ، كَمَا لَا تَتَكَلَّفُ فِي الْفَرَائِضِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا وَضَعَ الْفَرَائِضَ عَلَى الْعِبَادِ عَلَى وَجْهٍ مِنَ التَّيْسِيرِ مُشْتَرَكٍ لِلْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْضُ الْفَرَائِضِ يُدْخِلُ الْحَرَجَ عَلَى الْمُكَلَّفِ؛ يَسْقُطُ عَنْهُ جُمْلَةً، أَوْ عُوِّضَ عَنْهُ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ، كَذَلِكَ النَّوَافِلُ الْمُتَكَلَّمُ فِيهَا. وَإِذَا رُوعِيَ حَظُّ النَّفْسِ؛ فَقَدْ صَارَ الْأَمْرُ فِي الْإِيغَالِ إِلَى الْعَامِلِ، فَلَهُ أَنْ لَا يُمَكِّنَهَا مِنْ حَظِّهَا، وَأَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا قَدْ يَشُقُّ عَلَيْهَا بِالدَّوَامِ؛ بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُؤَصَّلَةِ فِي أُصُولِ الْمُوَافَقَاتِ فِي إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، فَلَا يَكُونُ إِذًا مَنْهِيًّا ـ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ ـ، فَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ مَا دَامَ طَالِبًا لَهُ، وَلَهُ الْخَيَرَةُ فِي تَرْكِ الطَّلَبِ بِهِ، فَيَرْتَفِعُ الْوُجُوبُ؛ كَذَلِكَ جَاءَ النَّهْيُ حِفْظًا عَلَى حُظُوظِ النَّفْسِ، فَإِذَا أَسْقَطَهَا صَاحِبُهَا؛ زَالَ النَّهْيُ، وَرَجَعَ الْعَمَلُ إِلَى أَصْلِ النَّدْبِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ حُظُوظَ النُّفُوسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّلَبِ بِهَا قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَلَا يَنْهَضُ

مَا قُلْتُمْ، إِذْ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ خِيَرَةٌ فِيهِ. فَكَمَا أَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِالرِّفْقِ بِغَيْرِهِ؛ كَذَلِكَ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالرِّفْقِ بِنَفْسِهِ: وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. . .» إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ، فَقَرَنَ حَقَّ النَّفْسِ بِحَقِّ الْغَيْرِ فِي الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ: «فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ»، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ حَقًّا مِنَ الْحُقُوقِ، وَلَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ إِلَّا عَلَى مَا كَانَ لَازِمًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُبِيحَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ دَمَهُ، وَلَا قَطْعَ طَرْفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ، وَلَا إِيلَامَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْآلَامِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ أَثِمَ وَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَرَاجِعٌ إِلَى خِيَرَتِهِ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَةً مِنْ حَقِّ اللَّهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ـ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ـ أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِلَى خِيَرَتِنَا بِإِطْلَاقٍ؛ لَمْ يَقَعِ النَّهْيُ فِيهِ عَلَيْنَا، بَلْ كُنَّا نُخَيَّرُ فِيهِ ابْتِدَاءً، وَإِلَى ذَلِكَ [يُشِيرُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ؛ فَلْيُطِعْهُ»]؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ بِخِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ مَحْضًا؛ لَجَازَ لِلنَّاذِرِ الْعِبَادَةَ أَنْ يَتْرُكَهَا مَتَى شَاءَ، وَيَفْعَلَهَا مَتَى شَاءَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، فَيَجْرِي مَا أَشْبَهَ مَجْرَاهُ. وَأَيْضًا؛ فَقَدْ فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ أَنَّهُ حَبَّبَ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِنَا،

وَمِنْ جُمْلَةِ التَّزْيِينِ تَشْرِيعُهُ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَحْسَنُ الدُّخُولُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مَعَ شَرْعِيَّةِ الْمَشَقَّاتِ، وَإِذَا كَانَ الْإِيغَالُ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ شَأْنِهِ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُورِثَ الْكَلَلَ وَالْكَرَاهِيَةَ وَالِانْقِطَاعَ ـ الَّذِي هُوَ كَالضِّدِّ لِتَحْبِيبِ الْإِيمَانِ وَتَزْيِينِهِ ـ فِي الْقُلُوبِ؛ كَانَ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ، فَلَمْ يَنْبَغِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّ الْحُقُوقَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمُكَلَّفِ عَلَى أَصْنَافٍ كَثِيرَةٍ، وَأَحْكَامُهَا تَخْتَلِفُ حَسْبَمَا تُعْطِيهِ أُصُولُ الْأَدِلَّةِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَقَّانِ، وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ مَا هُوَ آكَدُ فِي مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَلَوْ تَعَارَضَ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ؛ لَقَدَّمَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَنْدُوبِ، وَصَارَ الْمَنْدُوبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرَ مَنْدُوبٍ، بَلْ صَارَ وَاجِبَ التَّرْكِ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، مِنْ " بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ "، وَإِذَا صَارَ وَاجِبَ التَّرْكِ؛ فَكَيْفَ يَصِيرُ الْعَامِلُ بِهِ إِذْ ذَاكَ مُتَعَبِّدًا لِلَّهِ بِهِ؟! بَلْ هُوَ مُتَعَبِّدٌ بِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي أُصُولِ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ النَّدْبِ عَتِيدٌ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا التَّعَبُّدِ مَانِعٌ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ حُضُورُ الْوَاجِبِ، فَإِنْ عَمِلَ بِالْوَاجِبِ؛ فَلَا حَرَجَ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُخْلِصٍ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الِالْتِزَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ، وَإِنْ عَمِلَ بِالْمَنْدُوبِ؛ عَصَى بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي الْمَنْدُوبِ: هَلْ وَقَعَ مَوْقِعَهُ فِي النَّدْبِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ هُنَا وَاجِبٌ عَقْلًا؛ فَقَدْ يَنْهَضُ الْمَنْدُوبُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا؛ بَعُدَ مِنَ انْتِهَاضِهِ سَبَبًا لِلثَّوَابِ؛ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مَا، وَفِيهِ أَيْضًا مَا فِيهِ.

فَأَنْتَ تَرَى مَا فِي الْتِزَامِ النَّوَافِلِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ [مِنَ الْإِخْلَالِ بِالْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ، وَمِنْ هُنَا يُصْبِحُ تَرْكُهُ] فَرْضًا إِذَا كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْحَرَجِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الِالْتِزَامُ صَادًّا عَنِ الْوَفَاءِ بِالْوَاجِبَاتِ مُبَاشَرَةً، قَصْدًا أَوْ غَيْرَ قَصْدٍ. وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إِذْ كَانَ الْتِزَامُ قِيَامِ اللَّيْلِ مَانِعًا لَهُ مِنْ أَدَاءِ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ وَكَذَلِكَ الْتِزَامُ صِيَامِ النَّهَارِ. وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ الْتِزَامُ صَلَاةِ الضُّحَى أَوْ غَيْرِهَا مِنَ النَّوَافِلِ مُخِلًّا بِقِيَامِهِ عَلَى مَرِيضِهِ الْمُشْرِفِ وَالْقِيَامِ عَلَى إِغَاثَةِ أَهْلِهِ بِالْقُوتِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَيَجْرِي مَجْرَاهُ ـ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي رُتْبَتِهِ ـ أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الِالْتِزَامُ يُفْضِي بِهِ إِلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ، أَوْ نَهْكِ قُوَاهُ، حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الِاكْتِسَابِ لِأَهْلِهِ، أَوْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ عَلَى وَجْهِهَا، أَوِ الْجِهَادِ، أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ؛ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ: " «كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ (يَوْمًا)، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى». وَقَدْ جَاءَ فِي مَفْرُوضِ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ مِنَ التَّخْيِيرِ مَا جَاءَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ عَامَ الْفَتْحِ: إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " «فَأَصْبَحْنَا مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ ". قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا، فَنَزَلْنَا مَنْزَلًا، فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُصَبِّحُونَ عَدُوَّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا».

فصل الرد على إشكال أن التزام النوافل التي يشق التزامها مخالفة للدليل

قَالَ: فَكَانَتْ عَزِيمَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصِّيَامَ رُبَّمَا أَضْعَفَ عَنْ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ وَعَمَلِ الْجِهَادِ، فَصِيَامُ النَّفْلِ أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ. وَعَنْ جَابِرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُظَلَّلُ عَلَيْهِ وَالزِّحَامُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ؛» يَعْنِي: أَنَّ الصِّيَامَ فِي السَّفَرِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا ـ لَيْسَ بِرًّا فِي السَّفَرِ إِذَا بَلَغَ بِهِ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ الْحَدَّ، مَعَ وُجُودِ الرُّخْصَةِ، فَالرُّخْصَةُ إِذًا مَطْلُوبَةٌ فِي مِثْلِهِ، بِحَيْثُ تَصِيرُ بِهِ آكَدَ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي أَصْلِهِ أَوْلَى. فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ شَيْئًا يَشُقُّ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يَأْتِ طَرِيقَ الْبِرِّ عَلَى حَدِّهِ. [فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى إِشْكَالِ أَنَّ الْتِزَامَ النَّوَافِلِ الَّتِي يَشُقُّ الْتِزَامُهَا مُخَالَفَةٌ لِلدَّلِيلِ] فَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ مَا تَقَدَّمَ؛ وَرَدَ الْإِشْكَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْتِزَامَ النَّوَافِلِ الَّتِي يَشُقُّ الْتِزَامُهَا مُخَالَفَةٌ لِلدَّلِيلِ، وَإِذَا خَالَفَتْ؛ فَالْمُتَعَبِّدُ بِهَا ـ عَلَى ذَاكَ التَّقْدِيرِ ـ مُتَعَبِّدٌ بِمَا لَمْ يُشْرَعْ، وَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ، فَإِمَّا أَنْ تَنْتَظِمَهَا أَدِلَّةُ ذَمِّ الْبِدْعَةِ أَوْ لَا: فَإِنِ انْتَظَمَتْهَا أَدِلَّةُ الذَّمِّ؛ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَمْرَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا): أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَرِهَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَا كَرِهَ، وَقَالَ لَهُ: «إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ»؛ تَرَكَهُ بَعْدُ عَلَى الْتِزَامِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ فَهِمَ مِنْهُ بَعْدَ نَهْيِهِ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ؛ لَمَا الْتَزَمَهُ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ: لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّهَا بِدْعَةٌ ـ وَقَدْ ذُمَّ كُلُّ بِدْعَةٍ عَلَى الْعُمُومِ ـ؛ لَكَانَ مُقِرًّا لَهُ عَلَى خَطَأٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِي الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا لِلتَّعَبُّدِ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ، فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ وِصَالِ الصِّيَامِ وَأَشْبَاهِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ. (الثَّانِي): أَنَّ الْعَامِلَ بِهَا دَائِمًا بِشَرْطِ الْوَفَاءِ؛ إِنِ الْتَزَمَ الشَّرْطَ، فَأَدَّاهَا عَلَى وَجْهِهَا؛ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَارْتَفَعَ النَّهْيُ إِذًا، فَلَا مُخَالَفَةَ لِلدَّلِيلِ، فَلَا ابْتِدَاعَ إِذًا. وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ أَدَاءَهَا، فَإِنْ كَانَ بِاخْتِيَارٍ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ كَالنَّاذِرِ يَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَا يُسَمَّى تَرْكُهُ بِدْعَةً، وَلَا عَمَلُهُ فِي وَقْتِ الْعَمَلِ بِدْعَةً، وَلَا يُسَمَّى بِالْمَجْمُوعِ مُبْتَدِعًا، وَإِنْ كَانَ لِعَارِضِ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْذَارِ؛ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ؛ كَمَا لَا [يَكُونُ] مُخَالِفًا فِي الْوَاجِبِ إِذَا عَارَضَهُ فِيهِ عَارِضٌ، كَالصِّيَامِ لِلْمَرِيضِ، وَالْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، فَلَا ابْتِدَاعَ إِذًا.

وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَنْتَظِمْهَا أَدِلَّةُ الذَّمِّ؛ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مِنْ أَقْسَامِ الْبِدَعِ مَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُتَعَبَّدُ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَلَا غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ أَصْلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَحِينَئِذٍ يَشْمَلُ هَذَا الْأَصْلُ كُلَّ مُلْتَزَمٍ تَعَبُّدِيٍّ كَانَ لَهُ أَصْلٌ أَمْ لَا؟ لَكِنْ فَحَيْثُ يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ؛ كَتَخْصِيصِ لَيْلَةِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِيَامِ فِيهَا، وَيَوْمِهِ بِالصِّيَامِ، أَوْ بِرَكَعَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقِيَامِ لَيْلَةِ أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَالْتِزَامِ الدُّعَاءِ جَهْرًا بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ مَعَ انْتِصَابِ الْإِمَامِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ أَصْلٌ جَلِيٌّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْخَرِمُ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ تَأْصِيلُهُ. وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِقْرَارَ صَحِيحٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ النَّهْيِ الْإِرْشَادُ لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ خَلَلٍ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ، وَلَا فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ أَمْرٍ مُتَوَقَّعٍ؛ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: " إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْوِصَالِ إِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً لِلْأُمَّةِ "، وَقَدْ وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ تَبِعَهُ فِي الْوِصَالِ كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ، وَلَوْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ لَمَا فَعَلَ. فَانْظُرْ كَيْفَ اجْتَمَعَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ كَوْنُهُ عِبَادَةً وَمَنْهِيًّا عَنْهُ، لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْفِقْهِيَّاتِ مَا يَقُولُهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ؛ فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْهُ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَيْعًا، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ، فَيُجِيزُونَ الْبَيْعَ بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَيَجْعَلُونَهُ فَاسِدًا، وَإِنْ وُجِدَ

التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ فِيهِ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلَى نَفْسِ الْبَيْعِ، بَلْ إِلَى أَمْرٍ يُجَاوِرُهُ، وَبِذَلِكَ يُعَلِّلُ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ قَالَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ زَجْرٌ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، لَا لِأَجْلِ النَّهْيِ عَنْهُ، فَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ أَيْضًا، وَلَا النَّهْيُ رَاجِعٌ إِلَى نَفْسِ الْبَيْعِ. فَالْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ شَيْءٌ، وَكَوْنُ الْمُكَلَّفِ يُوفِي بِهَا أَوْ لَا شَيْءٌ آخَرُ، فَإِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَمْرٍو عَلَى مَا الْتَزَمَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا الْتَزَمَ، وَنَهْيُهُ إِيَّاهُ ابْتِدَاءً لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّدَافُعُ، وَهُوَ مُحَالٌ. إِلَّا أَنَّ هَاهُنَا نَظَرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَالْمُرْشِدِ لِلْمُكَلَّفِ وَكَالْمُتَبَرِّعِ بِالنَّصِيحَةِ عِنْدَ وُجُودِ مَظِنَّةِ الِاسْتِنْصَاحِ، فَلَمَّا اتَّكَلَّ الْمُكَلَّفُ عَلَى اجْتِهَادِهِ دُونَ نَصِيحَةِ النَّاصِحِ الْأَعْرَفِ بِعَوَارِضِ النُّفُوسِ؛ صَارَ كَالْمُتَّبِعِ لِرَأْيِهِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ، فَإِنْ سُمِّيَ فِي اللَّفْظِ بِدْعَةً؛ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِلَّا؛ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ الْمَنْصُوصِ مِنْ صَاحِبِ النَّصِيحَةِ، وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ. وَمِنْ هُنَا قِيلَ فِيهَا: إِنَّهَا بِدْعَةٌ إِضَافِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا إِضَافِيَّةً: أَنَّ الدَّلِيلَ فِيهَا مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الدَّوَامُ عَلَيْهَا، وَرَاجِحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ وَفَّى بِشَرْطِهَا، وَلِذَلِكَ وَفَّى بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو بَعْدَمَا ضَعُفَ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِيهَا بَعْضُ الْحَرَجِ حَتَّى تَمَنَّى قَبُولَ الرُّخْصَةِ؛ بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مَفْقُودٌ حَقِيقَةً؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا. فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ خَطَأِ الْمُجْتَهِدِ، فَالْقَوْلُ فِيهِمَا مُتَقَارِبٌ،

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. - وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ فِي الْإِشْكَالِ: " إِنِ الْتَزَمَ الشَّرْطَ فَأَدَّى الْعِبَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا. . . " إِلَى آخِرِهِ؛ فَصَحِيحٌ؛ إِلَّا قَوْلَهُ: " فَإِنْ تَرَكَهَا لِعَارِضٍ؛ فَلَا حَرَجَ؛ كَالْمَرِيضِ "؛ فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ثَمَّ قِسْمٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَهَا بِسَبَبٍ تَسَبَّبَ هُوَ فِيهِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ مِنْ سَبَبِهِ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ ـ مَثَلًا ـ بِاخْتِيَارِهِ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَتَرْكَهُ لِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ، فَإِنْ عَمِلَ فِي سَبَبٍ يُلْحِقُهُ عَادَةً بِالْمَرِيضِ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْجِهَادِ؛ فَهَذِهِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَمِنْ حَيْثُ تَسَبُّبُهُ فِي الْمَانِعِ لَا يَكُونُ مَحْمُودًا عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْإِيغَالِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ فِي كَرَاهِيَةِ الْعَمَلِ أَوْ فِي التَّقْصِيرِ عَلَى الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْمُكَلَّفُ قَدْ خَالَفَ النَّهْيَ، وَمِنْ حَيْثُ وَقَعَ لَهُ الْحَرَجُ الْمَانِعُ فِي الْعِبَادَةِ مِنْ أَدَائِهَا عَلَى وَجْهِهَا؛ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا، فَصَارَ هُنَا نَظَرٌ بَيْنَ نَظَرَيْنِ، لَا يَتَخَلَّصُ مَعَهُ الْعَمَلُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " ثَبَتَ أَنَّ مِنْ أَقْسَامِ الْبِدَعِ مَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ "، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَذَاكَ أَنَّ الْمَنْدُوبَ هُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْدُوبٌ يُشْبِهُ الْوَاجِبَ مِنْ جِهَةِ مُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَيُشْبِهُ الْمُبَاحَ مِنْ جِهَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى التَّارِكِ، فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، لَا يَتَخَلَّى إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ إِلَّا أَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ شَرَطَتْ فِي نَاحِيَةِ الْعَمَلِ شَرْطًا كَمَا شَرَطَتْ فِي نَاحِيَةِ تَرْكِهِ شَرْطًا: فَشَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ: أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ مُدْخَلًا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْحَرَجِ الْمُؤَدِّي إِلَى انْخِرَامِ النَّدْبِ فِيهِ رَأْسًا، أَوِ انْخِرَامِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَمَا وَرَاءَ هَذَا مَوْكُولٌ إِلَى خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ.

فَإِذَا دَخَلَ فِيهِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عَلَى قَصْدِ انْخِرَامِ الشَّرْطِ أَوْ لَا: فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ الْقِسْمُ الَّذِي يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الشَّارِعَ طَالَبَهُ بِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَهُوَ يُطَالِبُ نَفْسَهُ بِوَضْعِهِ وَإِدْخَالِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَتَكْلِيفِهَا مَا لَا يُسْتَطَاعُ، مَعَ زِيَادَةِ الْإِخْلَالِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِمَّا دَخَلَ فِيهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ. وَإِنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْقَصْدِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَجْرِيَ الْمَنْدُوبُ عَلَى مَجْرَاهُ أَوْ لَا: فَإِنْ أَجْرَاهُ كَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَ مِنْهُ مَا اسْتَطَاعَ إِذَا وَجَدَ نَشَاطًا وَلَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَوْلَى (مِمَّا دَخَلَ فِيهِ)؛ فَهُوَ مَحْضُ السُّنَّةِ الَّتِي لَا مَقَالَ فِيهَا؛ لِاجْتِمَاعِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، إِذْ قَدْ أُمِرَ فَهُوَ غَيْرُ تَارِكٍ، وَنُهِيَ عَنِ الْإِيغَالِ وَإِدْخَالِ الْحَرَجِ فَهُوَ مُتَحَرِّزٌ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَهُوَ كَانَ شَأْنَ (السَّلَفِ) الْأُوَلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَإِنْ لَمْ يُجْرِهِ عَلَى مَجْرَاهُ، وَلَكِنَّهُ أَدْخَلَ فِيهِ رَأْيَ الِالْتِزَامِ وَالدَّوَامِ؛ فَذَلِكَ الرَّأْيُ مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً، لَكِنْ فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْوَفَاءَ ـ إِنْ حَصَلَ ـ فَهُوَ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ كَفَّارَةُ النَّهْيِ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَعْنَى الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ الْمُوفِينَ بِالنَّذْرِ وَالْمُوفِينَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْوَفَاءُ؛ تَمَحَّضَ وَجْهُ النَّهْيِ، وَرُبَّمَا أَثِمَ فِي الِالْتِزَامِ غَيْرِ النَّذْرِيِّ. وَلِأَجْلِ احْتِمَالِ عَدَمِ الْوَفَاءِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْبِدْعَةِ، لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ عَمَلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَائِمٌ.

وَلِذَلِكَ؛ إِذَا الْتَزَمَ الْإِنْسَانُ بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الدَّوَامَ فِيهَا لَا يُوقِعُ فِي حَرَجٍ أَصْلًا، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا، لَمْ يَقَعْ فِي نَهْيٍ، بَلْ فِي مَحْضِ الْمَنْدُوبَاتِ؛ كَالنَّوَافِلِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الصَّلَوَاتِ، وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ فِي آثَارِهَا، وَالذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ الْمُلْتَزَمِ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُخِلُّ بِمَا هُوَ أَوْلَى، وَلَا يُدْخِلُ حَرَجًا بِنَفْسِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ. وَفِي هَذَا الْقِسْمِ جَاءَ التَّحْرِيضُ عَلَى الدَّوَامِ صَرِيحًا، وَمِنْهُ كَانَ جَمْعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا سُنَّةً ثَابِتَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ أَقَامَ لِلنَّاسِ بِمَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ وَمُحِبِّينَ فِيهِ، وَفِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مِنَ السَّنَةِ لَا دَائِمًا، وَمَوْكُولًا إِلَى اخْتِيَارِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ "، وَقَدْ فَهِمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، فَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَنْصَرِفُونَ فَيَقُومُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ: " نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ "، فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا لَفْظَ الْبِدْعَةِ ـ كَمَا تَرَى ـ نَظَرًا ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ إِلَى اعْتِبَارِ الدَّوَامِ، وَإِنْ كَانَ شَهْرًا فِي السَّنَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيمَنْ قَبْلَهُ عَمَلًا دَائِمًا، أَوْ أَنَّهُ أَظْهَرَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مُخَالِفًا لِسَائِرِ النَّوَافِلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَصْلِهِ وَاقِعًا كَذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ عَلَى الْخُصُوصِ وَاضِحًا؛ قَالَ: " نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ "، فَحَسَّنَهَا بِصِيغَةِ " نِعْمَ " الَّتِي تَقْتَضِي مِنَ الْمَدْحِ مَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ التَّعَجُّبِ لَوْ قَالَ: مَا أَحْسَنَهَا مِنْ بِدْعَةٍ! وَذَلِكَ يُخْرِجُهَا قَطْعًا عَنْ كَوْنِهَا بِدْعَةً. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَرَى كَلَامُ أَبِي أُمَامَةَ مُسْتَشْهِدًا بِالْآيَةِ، حَيْثُ

فصل تحريم ما أحل الله من الطيبات تدينا أو شبه التدين

قَالَ: " أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ رَمَضَانَ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ "؛ إِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ: " فَدُومُوا عَلَيْهِ "، وَلَوْ كَانَ بِدْعَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لَنَهَى عَنْهُ. وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَجْرَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا نَهَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ مِنَ التَّعَبُّدِ الْمُخَوِّفِ الْحَرَجَ فِي الْمَآلِ، وَاسْتَسْهَلْنَا وَضْعَ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ؛ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِهَا وَوَضْعِهَا فِي الشَّرْعِ مَوَاضِعَهَا، حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهَا مُغْتَرٌّ، فَيَأْخُذَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَيَحْتَجَّ بِهَا عَلَى الْعَمَلِ بِالْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ قِيَاسًا عَلَيْهَا، وَلَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَجَشَّمْنَا إِطْلَاقَ اللَّفْظِ هُنَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْعَلَ لَوْلَا الضَّرُورَةُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ تَدَيُّنًا أَوْ شِبْهَ التَّدَيُّنِ] فَصْلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ - وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 87 - 88]. رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَخْبَارٌ جُمْلَتُهَا تَدُورُ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ؛ تَدَيُّنًا أَوْ شِبْهَ التَّدَيُّنِ، وَاللَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ اعْتِدَاءً، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، ثُمَّ قَرَّرَ الْإِبَاحَةَ تَقْرِيرًا زَائِدَةً عَلَى مَا تَقَرَّرَ بِقَوْلِهِ: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 88]، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ خَارِجٌ عَنْ دَرَجَةِ التَّقْوَى. فَخَرَّجَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ؛ قَالَ: «أَرَادَ نَاسٌ مِنْ

أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَتَرَكُوا النِّسَاءَ وَتَرَهَّبُوا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَلَّظَ فِيهِمُ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ، اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا، وَاسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ بِكُمْ. قَالَ: نَزَلَتْ فِيهِمْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]». وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي إِذَا أَصَبْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ، وَأَخَذَتْنِي شَهْوَتِي فَحَرَّمْتُ عَلَيَّ اللَّحْمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ». حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ،

اجْتَمَعُوا فِي دَارِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيِّ، فَتَوَافَقُوا أَنْ يَجُبُّوا أَنْفُسَهُمْ؛ بِأَنْ يَعْتَزِلُوا النِّسَاءَ، وَلَا يَأْكُلُوا لَحْمًا وَلَا دَسَمًا، وَأَنْ يَلْبَسُوا الْمُسُوحَ، وَلَا يَأْكُلُوا مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا قُوتًا، وَأَنْ يَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الرُّهْبَانِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَأَتَى عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فِي مَنْزِلِهِ، فَلَمْ يَجِدْهُ فِيهِ وَلَا إِيَّاهُمْ، فَقَالَ لِامْرَأَةِ عُثْمَانَ أُمِّ حَكِيمٍ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ حَارِثَةَ السُّلَمِيِّ: " أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْ زَوْجِكِ وَأَصْحَابِهِ؟ ". قَالَتْ: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَخْبَرَهَا، فَكَرِهَتْ أَنْ لَا تُحَدِّثَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَرِهَتْ أَنْ تُبْدِيَ عَلَى زَوْجِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ كَانَ أَخْبَرَكَ عُثْمَانُ فَقَدْ صَدَقَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولِي لِزَوْجِكِ وَأَصْحَابِهِ إِذَا رَجَعُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي آكُلُ وَأَشْرَبُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ وَالدَّسَمَ، وَأَنَامُ وَآتِي النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي. فَلَمَّا رَجَعَ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ أَخْبَرَتْهُمُ امْرَأَتُهُ بِمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: لَقَدْ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرُنَا فَمَا أَعْجَبَهُ، فَذَرُوا مَا كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَزَلَ فِيهَا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]»

قَالَ: مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ، {وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]، قَالَ: فِي قَطْعِ الْمَذَاكِيرِ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]؛ قَالَ: الْحَلَالُ إِلَى الْحَرَامِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ؛ قَالَ: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلَا نَخْتَصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ نَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِالثَّوْبِ (إِلَى أَجَلٍ)؛ يَعْنِي ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ: نِكَاحَ الْمُتْعَةِ الْمَنْسُوخَ. ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]» وَذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ: «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ هَمَّ بِالسِّيَاحَةِ وَهُوَ يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ امْرَأَةً عَطِرَةً، فَتَرَكَتِ الْكُحْلَ وَالْخِضَابَ، فَقَالَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشَهِيدٌ أَنْتِ أَمْ مَغِيبٌ؟ فَقَالَتْ: بَلْ شَهِيدٌ؛ غَيْرَ أَنَّ عُثْمَانَ لَا يُرِيدُ النِّسَاءَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: " أَتُؤْمِنُ بِمَا نُؤْمِنُ بِهِ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: " فَاصْنَعْ مِثْلَ مَا نَصْنَعُ، {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]». . . الْآيَةَ. وَخَرَّجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ خُضَيْرٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ؛ قَالَ: " نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابِهِ، كَانُوا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ كَثِيرًا مِنَ الطَّعَامِ وَالنِّسَاءِ، وَهَمَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْطَعَ ذَكَرَهُ، فَأَنْزَلَ (اللَّهُ تَعَالَى): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا} [المائدة: 87] الْآيَةَ.

وَعَنْ قَتَادَةَ؛ قَالَ: " نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادُوا أَنْ يَتَخَلَّوْا عَنِ الدُّنْيَا، وَتَرَكُوا النِّسَاءَ، وَتَرَهَّبُوا؛ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ". وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ائْذَنْ لِي فِي الِاخْتِصَاءِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَصَى وَلَا اخْتَصَى؛ إِنَّ اخْتِصَاءَ أُمَّتِي الصِّيَامُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ. قَالَ: إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي فِي التَّرَهُّبِ. قَالَ: إِنَّ تَرَهُّبَ أُمَّتِي الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ». وَفِي الصَّحِيحِ: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ؛ لَاخْتَصَيْنَا».

وَهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْرِيمٌ لِمَا هُوَ حَلَالٌ فِي الشَّرْعِ، وَإِهْمَالٌ لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ إِعْمَالَهُ ـ وَإِنْ كَانَ يَقْصِدُ سُلُوكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ ـ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. وَإِلَى مَنْعِ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ ذَهَبَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ غَيْرَ مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ؛ فَلَا كَفَّارَةَ، وَإِنْ كَانَ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ؛ فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَيَعْمَلُ الْحَالِفُ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ مَعْقِلِ بْنِ مُقَرِّنٍ: " أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: إِنِّي حَلَفْتُ أَنْ لَا أَنَامَ عَلَى فِرَاشِي سَنَةً، فَتَلَا عَبْدُ اللَّهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا} [المائدة: 87] الْآيَةَ، (ادْنُ فَكُلْ) وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَنَمْ عَلَى فِرَاشِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: " كَانَ مَعْقِلٌ يُكْثِرُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْآيَةَ. وَعَنِ الْمُغِيرَةِ؛ قَالَ: " قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، أَهُوَ الرَّجُلُ يُحَرِّمُ الشَّيْءَ مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَعَنْ مَسْرُوقٍ؛ قَالَ: " أُتِيَ عَبْدُ اللَّهِ بِضَرْعٍ، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوَا، فَأَخَذُوا يَطْعَمُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنِّي حَرَّمْتُ الضَّرْعَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذَا

(مِنْ) خُطُوَاتِ الشيْطَانِ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، ادْنُ فَكُلْ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ. وَعَلَى ذَلِكَ جَرَّتِ الْفُتْيَا فِي الْإِسْلَامِ؛ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ؛ لَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ بِشَيْءٍ؛ فَلْيَأْكُلْ إِنْ كَانَ مَأْكُولًا، وَلْيَشْرَبْ إِنْ كَانَ مَشْرُوبًا، وَلْيَلْبَسْ إِنْ كَانَ مَلْبُوسًا، وَلْيَمْلِكْ إِنْ كَانَ مَمْلُوكًا، وَكَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ مَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجَةِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ التَّحْرِيمَ طَلَاقٌ كَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ شَهِدَ بِكَوْنِهِ اعْتِدَاءً، حَتَّى إِنَّهُ إِنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ وَطْءَ أَمَةِ غَيْرِهِ قَاصِدًا بِهِ الْعِتْقَ؛ فَوَطْؤُهَا حَلَالٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ وَالصَّمْتِ وَالِاسْتِظْلَالِ وَالِاسْتِضْحَاءِ. . . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي النَّاذِرِ لِلصَّوْمِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ سَاكِتًا؛ فَإِنَّهُ تَحْرِيمٌ لِلْجُلُوسِ وَالِاسْتِظْلَالِ وَالْكَلَامِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ وَالتَّكَلُّمِ وَالِاسْتِظْلَالِ. قَالَ مَالِكٌ: " أَمَرَهُ لِيُتِمَّ مَا كَانَ لَهُ فِيهِ طَاعَةٌ، وَيَتْرُكْ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ ". فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ جَعَلَ مَالِكٌ تَرْكَ الْحَلَالِ مَعْصِيَةً! وَهُوَ مُقْتَضَى الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] الْآيَةَ، وَمُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصَاحِبِ الضَّرْعِ: " هَذَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ". وَقَدْ ضَعَّفَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ الِاسْتِدْلَالَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْحَدِيثِ،

فصل تحريم الحلال وما أشبه ذلك يتصور في أوجه

وَتَفْسِيرَ مَالِكٍ لَهُ، وَذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ: " وَيَتْرُكْ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ " لَيْسَ بِالظَّاهِرِ أَنَّ تَرْكَ الْكَلَامِ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ نَذْرُ مَرْيَمَ. قَالَ: " وَكَذَلِكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ لِلشَّمْسِ لَيْسَ مَعْصِيَةً؛ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ جِهَةِ تَعَبِ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ، وَقَدْ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ، فَإِنْ قِيلَ: فِيهِ مَعْصِيَةٌ؛ فَالْقِيَاسُ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ التَّعَبِ لَا بِالنَّصِّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ ". وَمَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَلَمْ يَقُلْ مَالِكٌ فِي الْحَدِيثِ مَا قَالَ اسْتِنْبَاطًا مِنْهُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهَا، وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَيْهَا، فَتَرْكُ الْكَلَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي الشَّرَائِعِ الْأُولَى مَشْرُوعًا؛ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ عَمَلٌ فِي مَشْرُوعٍ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ فِي الشَّمْسِ زِيَادَةٌ مِنْ بَابِ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَإِنِ اسْتُحِبَّ فِي مَوْضِعٍ؛ فَلَا يَلْزَمُ اسْتِحْبَابُهُ فِي آخَرَ. [فَصْلٌ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يُتَصَوُّرُ فِي أَوْجُهٍ] فَصْلٌ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يُتَصَوُّرُ فِي أَوْجُهٍ: (الْأَوَّلُ): التَّحْرِيمُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ الْوَاقِعُ مِنَ الْكُفَّارِ؛ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي، وَجَمِيعِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تَحْرِيمَهُ عَنِ الْكَفَّارِ بِالرَّأْيِ الْمَحْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ التَّحْرِيمِ

الْوَاقِعِ فِي الْإِسْلَامِ رَأْيًا مُجَرَّدًا. (الثَّانِي): أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدَ تَرْكٍ، لَا لِغَرَضٍ، بَلْ لِأَنَّ النَّفْسَ تَكْرَهُهُ بِطَبْعِهَا، أَوْ لَا تَكْرَهُهُ حَتَّى تَسْتَعْمِلَهُ، أَوْ لَا تَجِدُ ثَمَنَهُ، أَوْ تَشْتَغِلُ بِمَا هُوَ آكَدُ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَمِنْهُ تَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَكْلِ الضَّبِّ؛ لِقَوْلِهِ فِيهِ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ»، وَلَا يُسَمَّى مِثْلُ هَذَا تَحْرِيمًا؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ إِلَيْهِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. (الثَّالِثُ): أَنْ يَمْتَنِعَ لِنَذْرِهِ التَّحْرِيمَ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى النَّذْرِ مِنَ الْعَزِيمَةِ الْقَاطِعَةِ لِلْعُذْرِ؛ كَتَحْرِيمِ النَّوْمِ عَلَى الْفِرَاشِ سَنَةً، وَتَحْرِيمِ الضَّرْعِ وَتَحْرِيمِ الِادِّخَارِ لِغَدٍ، وَتَحْرِيمِ اللَّيِّنِ مِنَ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، وَتَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَالِاسْتِلْذَاذِ بِالنِّسَاءِ فِي الْجُمْلَةِ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (الرَّابِعُ): أَنْ يَحْلِفَ عَلَى بَعْضِ الْحَلَالِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَمِثْلُهُ قَدْ يُسَمَّى تَحْرِيمًا. قَالَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي: " إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَمَتِهِ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ؛ فَقَدْ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْيَمِينِ، فَإِذَا غَشِيَهَا، وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ "، وَأَتَى بِمَسْأَلَةِ ابْنِ مُقَرِّنٍ فِي سُؤَالِهِ ابْنَ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)؛ إِذْ قَالَ: " إِنِّي حَلَفْتُ أَنْ لَا أَنَامَ عَلَى فِرَاشِي سَنَةً. . . قَالَ: فَتَلَا عَبْدُ اللَّهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الْآيَةَ، (وَقَالَ لَهُ): كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَنَمْ عَلَى فِرَاشِكَ.

فَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، وَأَنْ يُكَفِّرَ مِنْ أَجْلِ الْيَمِينِ. فَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّحْرِيمِ، وَلَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ، فَقَدْ أَشَارَ إِسْمَاعِيلُ إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، حَتَّى نَزَلَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَلِأَجْلِ مَا كَانَ قَبْلُ مِنَ التَّحْرِيمِ وَلَمَّا وَرَدَتِ الْكَفَّارَةُ؛ سُمِّيَ تَحْرِيمًا، وَمِنْ ثَمَّ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ سُمِّيَتْ كَفَّارَةً. (الثَّانِيَةُ): أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا يَنْظُرُ فِيهَا عَلَى أَيِّ مَعْنًى يُطْلَقُ التَّحْرِيمُ مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا مَدْخَلَ لَهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ تَشْرِيعٌ كَالتَّحْلِيلِ، وَالتَّشْرِيعُ لَيْسَ إِلَّا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُدْخِلَ مُبْتَدِعٌ رَأْيًا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ؛ فَهَذَا أَمْرٌ آخَرُ يَجِلُّ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَنْ مِثْلِهِ، فَضْلًا عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُصُوصِ. وَقَدْ وَقَعَ لِلْمُهَلَّبِ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مَا قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ التَّحْرِيمُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَقَالَ: " التَّحْرِيمُ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ شَيْئًا، وَقَدْ وَبَّخَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الِاعْتِدَاءِ، وَقَالَ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]؛ قَالَ: فَهَذَا كُلُّهُ حُجَّةٌ فِي أَنَّ تَحْرِيمَ النَّاسِ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَمَا قَالَهُ الْمُهَلَّبُ يَرُدُّهُ السَّبَبُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ كَمَا تَقَرَّرَ، وَلِذَلِكَ

لَمْ يُعَدِّ الْمُحَرِّمُ الْحُكْمَ لِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ التَّحْرِيمِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَى الْمُحَرِّمِ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا التَّحْرِيمُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي؛ فَلَا حَرَجَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ بَوَاعِثَ النُّفُوسِ عَلَى الشَّيْءِ أَوْ صَوَارِفَهَا عَنْهُ لَا تَنْضَبِطُ بِقَانُونٍ مَعْلُومٍ، فَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْحَلَالِ لِأَمْرٍ يَجِدُهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ، كَكَثِيرٍ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ مِنْ شُرْبِ الْعَسَلِ لِوَجَعٍ يَعْتَرِيهِ بِهِ، حَتَّى يُحَرِّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، لَا بِمَعْنَى التَّحْرِيمِ الْأَوَّلِ، وَلَا الثَّالِثِ، بَلْ بِمَعْنَى التَّوَقِّي مِنْهُ؛ كَمَا تُتَوَقَّى سَائِرُ الْمُؤْلِمَاتِ. وَيَدْخُلُ هَاهُنَا بِالْمَعْنَى امْتِنَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَكْلِ الثُّومِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُنَاجِي الْمَلَائِكَةَ، وَهِيَ تَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهَا، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تُكْرَهُ رَائِحَتُهُ. وَلَعَلَّ هَذَا الْمَحَلَّ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الثُّومَ وَنَحْوَهُ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى الْمُخْتَصِّ بِالشَّارِعِ. وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَأَمَّا التَّحْرِيمُ بِالْمَعْنَى [الثَّالِثِ وَ] الرَّابِعِ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَدْخُلَ فِي عِبَارَةِ التَّحْرِيمِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ (تَعَالَى): {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، قَدْ شَمِلَ التَّحْرِيمَ بِالنَّذْرِ وَالتَّحْرِيمَ بِالْيَمِينِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُ

الْكَفَّارَةِ بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]. . . إِلَخْ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ تَحْرِيمًا مُجَرَّدًا قَبْلَ نُزُولِ الْكَفَّارَةِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]: إِنَّ التَّحْرِيمَ كَانَ بِالْيَمِينِ حِينَ حَلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَشْرَبَ الْعَسَلَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَكُونُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنِّي إِذَا أَصَبْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ». . . الْحَدِيثَ؛ مِنْ قَبِيلِ التَّحْرِيمِ الثَّانِي لَا مِنَ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُحَرِّمُ الشَّيْءَ لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّهُ لَيْسَ بِتَحْرِيمٍ فِي الْحَقِيقَةِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَا يُرِيدُ بِالتَّحْرِيمِ النَّذْرَ، بَلْ يُرِيدُ بِهِ التَّوَقِّيَ، أَيْ: إِنِّي أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ هُوَ مَقْصُودَ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ وَقْتَمَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا؛ يُمْكِنُهُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ، وَالتَّارِكُ لِأَمْرٍ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مُحَرِّمًا لَهُ، فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ تَرَكَ الطَّعَامَ الْفُلَانِيَّ أَوِ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّهُ فِي [ذَلِكَ] الْوَقْتِ لَا يَشْتَهِيهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ، حَتَّى إِذَا زَالَ عُذْرُهُ؛ تَنَاوُلَ مِنْهُ، وَقَدْ تَرَكَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْلَ الضَّبِّ، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِتَحْرِيمِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيمِ الظَّاهِرُ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ، فَلَوْ كَانَ وُجُودُ مِثْلِ تِلْكَ الْأَعْذَارِ مُبِيحًا لِلتَّحْرِيمِ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ؛ لَوَقَعَ التَّفْصِيلُ فِي الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ حَرَّمَ لِعُذْرٍ

أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الِانْتِشَارَ لِلنِّسَاءِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ». . . الْحَدِيثَ، فَإِذَا أَحَبَّ الْإِنْسَانُ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ؛ تَزَوَّجَ فَحَصَلَ لَهُ مَا فِي الْحَدِيثِ؛ زِيَادَةً إِلَى النَّسْلِ الْمَطْلُوبِ فِي الْمِلَّةِ، فَكَأَنَّ مُحَرِّمَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِانْتِشَارُ سَاعٍ فِي التَّشَبُّهِ بِالرَّهْبَانِيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُنْتَفِيًا عَنِ الْإِسْلَامِ كَسَائِرِ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ. (وَالثَّالِثَةُ): أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يُشْكِلُ مَعْنَاهَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93] الْآيَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ حَلَالًا، فَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ مِثْلِهِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ يُقَرِّرُ: أَنْ لَا تَحْرِيمَ فِي الْإِسْلَامِ، فَيَبْقَى مَا كَانَ شَرْعًا لِغَيْرِنَا مَنْفِيًّا عَنْ شَرْعِنَا؛ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. خَرَّجَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا): " أَنَّ إِسْرَائِيلَ النَّبِيَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَهُ عِرْقُ النَّسَا، فَكَانَ يَبِيتُ وَعَلَيْهِ زِقٌّ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ إِنْ شَفَاهُ اللَّهُ؛ لَيُحَرِّمَنَّ الْعُرُوقَ، وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ ". قَالُوا: " فَلِذَلِكَ نَسْلُ الْيَهُودِ لَا يَأْكُلُونَهَا ". وَفِي رِوَايَةٍ: " جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ لُحُومَ الْإِبِلِ "؛ قَالَ:

فَحَرَّمَتْهُ الْيَهُودُ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " إِنِ اللَّهُ شَفَانِي لَأُحَرِّمَنَّ أَطْيَبَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ـ أَوْ قَالَ: ـ أَحَبَّ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ إِلَيَّ، فَحَرَّمَ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا " قَالَ الْقَاضِي: " الَّذِي نَحْسَبُ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ أَنَّ إِسْرَائِيلَ حِينَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْحَلَالِ مَا حَرَّمَ؛ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ حَتَّى نَزَلَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وَالْحَالِفُ إِذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ كَانَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَكَفَّرَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ. قَالَ: " وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ يَكُونُ فِيهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، فَكَانَ النَّاسِخُ فِي هَذَا قَوْلُهُ (تَعَالَى): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]. قَالَ: " فَلَمَّا وَقَعَ النَّهْيُ؛ لَمْ يَجُزْ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَ: الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْحَلَالِ، فَإِنْ قَالَ إِنْسَانٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ كَانَ قَوْلُهُ بَاطِلًا، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِاللَّهِ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ ".

(الرَّابِعَةُ): أَنْ نَقُولَ: مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، الْآيَةَ؛ فَإِنَّ فِيهَا إِخْبَارًا بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]، وَمِثْلُ هَذَا يُجَلُّ (مَقَامُ) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَأْتِيهِ، حَتَّى يُقَالَ لَهُ فِيهِ: لِمَ تَفْعَلْ؟ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَصَارِفِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ آيَةَ التَّحْرِيمِ إِنْ كَانَتْ هِيَ السَّابِقَةَ عَلَى آيَةِ الْعُقُودِ؛ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذْ لَوْ أُرِيدَ الْأُمَّةُ ـ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ ـ؛ لَقَالَ: لِمَ تُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ؟ كَمَا قَالَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]. . .، الْآيَةَ، وَهُوَ بَيِّنٌ؛ لِأَنَّ سُورَةَ التَّحْرِيمِ قَبْلَ آيَةِ الْأَحْزَابِ، لِذَلِكَ لَمَّا آلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا بِسَبَبِ هَذِهِ الْقِصَّةِ؛ نَزَلَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ} [الأحزاب: 28]. . . .، إِلَخْ. وَأَيْضًا فَيُحْتَمَلُ التَّحْرِيمُ بِمَعْنَى الْحَلِفِ عَلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَالْحَلِفُ إِذَا وَقَعَ؛ فَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ

وَيُكَفِّرَ، وَقَدْ جَاءَ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَمِينًا حَلَفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّحْرِيمِ: فَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ [مَا] كَانَ تَحْرِيمًا لِأُمِّ وَلَدِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِهَا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْحَسَنُ وَقَتَاَدَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ. أَوْ كَانَ تَحْرِيمًا لِعَسَلِ زَيْنَبَ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّمَا كَانَ تَحْرِيمًا بِيَمِينٍ. قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ: " يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهَا ـ يَعْنِي: جَارِيَتَهُ ـ بِيَمِينِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ؛ فَقَدْ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْيَمِينِ، فَإِذَا غَشِيَهَا؛ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ "، ثُمَّ أَتَى بِمَسْأَلَةِ ابْنِ مُقَرِّنٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ شُرْبَ الْعَسَلِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ فِيهِ: " شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ، فَلَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا "، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَارِيَةِ وَالْعَسَلِ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْجَارِيَةِ كَيْفَ (مَا) كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيمِ مَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ. وَأَمَّا إِنْ فَرَضْنَا أَنَّ آيَةَ الْعُقُودِ هِيَ السَّابِقَةُ عَلَى آيَةِ التَّحْرِيمِ؛

فصل العمل بغير شريعة أو العمل بشرع منسوخ

فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ كَالْأَوَّلِ: (أَحَدُهُمَا): أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ بِمَعْنَى الْحَلِفِ. (وَالثَّانِي): أَنْ تَكُونَ آيَةُ الْعُقُودِ غَيْرَ مُتَنَاوِلَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا} [المائدة: 87] لَا يَدْخُلُ فِيهِ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي الْقَضِيَّةِ مَا يُنْظَرُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُحْتَجِّ بِالْآيَةِ مُتَعَلَّقٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ الْعَمَلُ بِغَيْرِ شَرِيعَةٍ أَوِ الْعَمَلُ بِشَرْعٍ مَنْسُوخٍ] فَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ؛ فَعَمَلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ: إِمَّا بِغَيْرِ شَرِيعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّبِعْ أَدِلَّتَهَا، وَإِمَّا عَامِلٌ بِشَرْعٍ مَنْسُوخٍ، وَالْعَمَلُ بِالْمَنْسُوخِ مَعَ الْعِلْمِ بِالنَّاسِخِ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ التَّرَهُّبَ وَالِامْتِنَاعَ مِنَ اللَّذَّاتِ وَالنِّسَاءِ. . . وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ إِنْ كَانَ مَشْرُوعًا؛ فَفِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، وَهُوَ مَعْنَى الْبِدْعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ نَقْلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ أَنَّهَا السِّيَاحَةُ وَاتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ لِلْعُزْلَةِ؛ قَالَ: " وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي دِينِنَا عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ ".

وَقَدْ بَسَطَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي " الْإِحْيَاءِ " عِنْدَ ذِكْرِ الْعُزْلَةِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ آدَابِ النِّكَاحِ مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ، بَلْ هُوَ الْأَوْلَى عِنْدَ عُرُوضِ الْعَوَارِضِ، وَعِنْدَمَا يَصِيرُ النِّكَاحُ وَمُخَالَطَةُ النَّاسِ وَبَالًا عَلَى الْإِنْسَانِ، وَمُؤَدِّيًا إِلَى اكْتِسَابِ الْحَرَامِ وَالدُّخُولِ فِيمَا لَا يَجُوزُ؛ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ». . . وَسَائِرُ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، وَالتَّبَتُّلُ ـ عَلَى مَا قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ـ رَفْضُ الدُّنْيَا؛ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَتَلْتُ الْحَبْلَ بَتْلًا؛ إِذَا قَطَعْتُهُ، وَمَعْنَاهُ: الْقَطْعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ: " بَتَّلَ إِلَيْهِ نَفْسَهُ وَاجْتَهَدَ ". وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: " تَفَرَّغَ لِعِبَادَتِهِ ". هَذَا إِلَى مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الِانْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَفْضِ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَالتَّخَلِّي عَنِ الْحَوَاضِرِ إِلَى الْبَوَادِي، وَاتِّخَاذِ الْخَلَوَاتِ فِي الْجِبَالِ وَالْبَرَارِيِّ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْجِبَالِ الشَّامِيَّةِ قَدْ خَصَّهَا اللَّهُ بِالْأَوْلِيَاءِ وَالْمُنْقَطِعِينَ إِلَى لُبْنَانَ وَنَحْوِهِ. فَمَا وَجْهُ ذَلِكَ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ إِنْ كَانَتْ بِالْمَعْنَى الْمُقَرَّرِ فِي شَرَائِعِ الْأُوَلِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا فِي شَرْعِنَا؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى نَسْخِهَا، كَانَتْ لِعَارِضٍ أَوْ لِغَيْرٍ عَارِضٍ، إِذْ لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ رَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ حَسْبَمَا شَرَعَ وَعَلَى حَدِّ مَا انْقَطَعَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَحْنُ فِي تَقْرِيرِهِ، وَأَنَّهُ السُّنَّةُ الْمُتَّبَعَةُ وَالْهَدْيُ الصَّالِحُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِ فِي مَعْنَى التَّبَتُّلِ مَا يُنَاقِضُ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ رَفْضَ الدُّنْيَا لَيْسَ بِمَعْنَى طَرْحِ اتِّخَاذِهَا جُمْلَةً وَتَرْكِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، بَلْ بِمَعْنَى تَرْكِ الشُّغْلِ بِهَا عَمَّا كُلِّفَ الْإِنْسَانُ بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ. وَاجْعَلْ سِيَرَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِرْآةً لَكَ تَنْظُرُ فِيهَا مَعْنَى التَّبَتُّلِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقَدْ كَانُوا (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ) مُكْتَسِبِينَ لِلْمَالِ بِهِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُمْ، مُنْفِقِينَ لَهُ حَيْثُ نُدِبُوا، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقُلُوبِهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ، إِذَا عَنَّ لَهُمْ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ، بَلْ قَدَّمُوا أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ عَلَى حُظُوظِ أَنْفُسِهِمُ الْعَاجِلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَخْلُ بِحُظُوظِهِمْ فِيهِ، وَهُوَ التَّوَسُّطُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. ثُمَّ نَدَبَهُمُ الشَّارِعُ إِلَى اتِّخَاذِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، فَبَادَرُوا إِلَى الِامْتِثَالِ، وَلَمْ يَقُولُوا: هُوَ شَاغِلٌ لَنَا عَمَّا أُمِرْنَا بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُشْعِرٌ بِالْغَفْلَةِ عَنْ مَعْنَى التَّكْلِيفِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ الشَّرْعِيَّ أَنَّ كُلَّ مَطْلُوبٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتَعَبَّدُ بِهِ

إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ، فَالْعِبَادَاتُ الْمَحْضَةُ ظَاهِرٌ فِيهَا ذَلِكَ، وَالْعَادَاتُ كُلُّهَا إِذَا قُصِدَ بِهَا امْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ عِبَادَاتٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَا ذَلِكَ الْقَصْدُ، وَيَجِيءُ بِهَا نَحْوَ الْحَظِّ مُجَرَّدًا، فَإِذْ ذَاكَ؛ لَا تَقَعُ مُتَعَبَّدًا بِهَا، وَلَا مُثَابًا عَلَيْهَا، وَإِنْ صَحَّ وُقُوعُهَا شَرْعًا. فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَدْ فَهِمُوا هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يُمْكِنُ مَعَ فَهْمِهِ أَنْ تَتَعَارَضَ الْأَوَامِرُ فِي حَقِّهِمْ وَلَا فِي حَقٍّ مَنْ فَهِمَ مِنْهَا مَا فَهِمُوا (مِنْهَا). فَالتَّبَتُّلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحِيحٌ أَصِيلٌ فِي الْجَرَيَانِ عَلَى السُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ صَحِيحٌ إِذَا أَخَذَ هَذَا الْمَأْخَذَ؛ أَيِ: اتَّبَعِ الْهُدَى وَاتَّبِعْ أَمْرَ رَبِّكَ؛ فَإِنَّهُ الْعَلِيمُ بِمَا يَصْلُحُ لَكَ، وَالْقَائِمُ عَلَى تَدْبِيرِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَى أَثَرِهَا: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9]؛ أَيْ: فَكَمَا أَنَّهُ وَكِيلٌ لَكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِكَ؛ فَكَذَلِكَ هُوَ وَكِيلٌ عَلَى مَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ كَسْبِكَ، مِمَّا هُوَ تَكْلِيفٌ فِي حَقِّكَ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَوَكَّلَ لَكَ فِيهِ أَنْ لَا تُدْخِلَ نَفْسَكَ فِي عَمَلٍ تُحْرَجُ بِسَبَبِهِ حَالًا وَمَآلًا. وَقَدْ فَسَّرَ التَّبَتُّلَ بِأَنَّهُ الْإِخْلَاصُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: " أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ وَالدَّعْوَةَ ". فَعَلَى هَذَا؛ لَا مُتَعَلَّقَ فِيهَا لِمَوْرِدِ السُّؤَالِ.

فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا؛ فَالْفِرَارُ مِنَ الْعَوَارِضِ بِالسِّيَاحَةِ، وَاتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ، وَسُكْنَى الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ؛ إِنْ كَانَ عَلَى شَرْطِ أَنْ لَا يُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي حَرَّمَهَا الرُّهْبَانُ، بَلْ عَلَى حَدِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْحَوَاضِرِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ؛ لَا يُشَدِّدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمِقْدَارِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةِ؛ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تُسَمَّى رَهْبَانِيَّةً إِلَّا بِنَوْعٍ مِنَ الْمَجَازِ، أَوِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ الَّذِي لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مُعْتَادُ اللُّغَةِ، فَلَا تَدْخُلُ فِي مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]؛ لَا فِي الِاسْمِ وَلَا فِي الْمَعْنَى. وَإِنَّ كَانَ عَلَى الْتِزَامِ مَا الْتَزَمَهُ الرُّهْبَانُ؛ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَا مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ كَالشَّرْعِ بِغَيْرِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَنْتَظِمُهُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي». وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ تَفْضِيلِهِ الْعُزْلَةَ عَلَى الْمُخَالَطَةِ، وَتَرْجِيحِ الْغُرْبَةِ عَلَى اتِّخَاذِ أَهْلٍ؛ عِنْدَ اعْتِوَارِ الْعَوَارِضِ؛ فَذَلِكَ يَسْتَمِدُّ مَنْ أَصْلٍ آخَرَ لَا مِنْ هُنَا. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ قَادِرًا عَلَى الِامْتِثَالِ فِيهَا مَعَ سَلَامَتِهِ عِنْدَ الْعَمَلِ لَهَا مِنْ وُقُوعِهِ فِي مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ لَا: فَإِنْ كَانَ قَادِرًا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ بِحَيْثُ لَا يُعَارِضُهُ مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي كَوْنِ الطَّلَبِ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ عَلَى حَدِّ مَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِتَنِ.

وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِوُقُوعِهِ فِي مَكْرُوهٍ أَوْ مُحَرَّمٍ؛ فَفِي بَقَاءِ الطَّلَبِ هُنَا تَفْصِيلٌ ـ بِحَسْبَ مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ (تَعَالَى) ـ، إِذْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ مَنْدُوبًا، لَكِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا بِوُقُوعِهِ فِي مَمْنُوعٍ: فَالْمَنْدُوبُ سَاقِطٌ عَنْهُ بِلَا إِشْكَالٍ؛ كَالْمَنْدُوبِ لِلصَّدَقَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِ لَا (مَالَ) بِيَدِهِ إِلَّا مَالُ الْغَيْرِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِالنَّدْبِ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِسَبَبِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لَا يَجُوزُ، فَهُوَ كَالْفَاقِدِ لِمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَكَالْقَادِمِ عَلَى مَرِيضِهِ الْمُشْرِفِ، أَوْ دَفْنِ مَيِّتٍ يَخَافُ تَغْيِيرَهُ بِتَرْكِهِ، ثُمَّ يَقُومُ يُصَلِّي نَافِلَةً، وَالْمُتَزَوِّجُ لَا يَجِدُ إِلَّا مَالًا حَرَامًا. . . وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ وَاجِبًا؛ إِلَّا أَنَّ وُقُوعَهُ فِيهِ يُدْخِلُهُ فِي مَكْرُوهٍ، وَهَذَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْوَاجِبِ آكَدُ، أَوْ يُوقِعُهُ فِي مَمْنُوعٍ؛ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَارَضُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. إِلَّا أَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَيْسَتْ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُوَازَنَةِ؛ فَإِنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْوَاجِبِ؛ صَارَ الْمُحَرَّمُ فِي حُكْمِ الْعَفْوِ، أَوْ حُكْمِ التَّلَافِي إِنْ كَانَ مِمَّا تُتَلَافَى مَفْسَدَتُهُ ـ، وَإِنْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْمُحَرَّمِ؛ سَقَطَ حُكْمُ الْوَاجِبِ أَوْ طُلِبَ بِالتَّلَافِي، وَإِنَّ تَعَادَلَا فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فَهُوَ مَجَالُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْأَوْلَى ـ عِنْدَ جَمَاعَةٍ ـ رِعَايَةُ جَانِبِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ آكَدُ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ. فَإِذَا كَانَتِ الْعُزْلَةُ مُؤَدِّيَةً إِلَى السَّلَامَةِ؛ فَهِيَ الْأَوْلَى فِي أَزْمِنَةِ الْفِتَنِ، وَالْفِتَنُ لَا تَخْتَصُّ بِفِتَنِ الْحُرُوبِ فَقَطْ، فَهِيَ جَارِيَةٌ فِي الْجَاهِ وَالْمَالُ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مُكْتَسِبَاتِ الدُّنْيَا، وَضَابِطُهَا مَا صَدَّ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ.

وَمِثْلُ هَذَا مَا يَجْرِي بَيْنَ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَبَيْنَ الْمَكْرُوهِينَ. وَإِنْ كَانَتِ الْعُزْلَةُ مُؤَدِّيَةً إِلَى تَرْكِ الْجُمُعَاتِ، وَالْجَمَاعَاتِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الطَّاعَاتِ. . . وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا [مُوقِعَةٌ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ جِهَةٍ، وَ] أَيْضًا سَلَامَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَيَقَعُ التَّوَازُنُ بَيْنَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ. وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ، إِذَا أَدَّى إِلَى الْعَمَلِ بِالْمَعَاصِي، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهِ مَعْصِيَةٌ؛ كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ ـ غَيْرَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ ـ مَا ذَكَرَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ بِسَنَدِهِ إِلَى حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ: أَنَّهُ قَالَ لِـ مَعْنِ بْنِ ثَوْرٍ: هَلْ تَدْرِي لِمَ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الدِّيَارَاتِ؟ قَالَ مَعْنٌ: وَلِمَ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَمَّا أَحْدَثَ الْمُلُوكُ الْبِدَعَ، وَضَيَّعُوا أَمْرَ النَّبِيِّينَ، وَأَكَلُوا الْخَنَازِيرَ؛ اعْتَزَلُوهُمْ فِي الدِّيَارَاتِ، وَتَرَكُوهُمْ وَمَا ابْتَدَعُوا، فَتَخَلَّوْا لِلْعِبَادَةِ، قَالَ حَبِيبٌ لِـ مَعْنٍ: فَهَلْ لَكَ؟ قَالَ: لَيْسَ بِيَوْمِ ذَلِكَ. فَاقْتَضَى أَنَّ مِثْلَ مَا فَعَلَتْهُ النَّصَارَى مَشْرُوعٌ فِي دِينِنَا كَذَلِكَ، وَمُرَادُهُ أَنَّ اعْتِزَالَ النَّاسِ عِنْدَ اشْتِهَارِهِمْ بِالْبِدَعِ وَغَلَبَةِ الْأَهْوَاءِ عَلَى حَدِّ مَا شُرِعَ فِي دِينِنَا مَشْرُوعٌ، لَا أَنَّ نَفْسَ مَا فَعَلَتِ النَّصَارَى فِي رَهْبَانِيَّتِهَا مَشْرُوعٌ لَنَا؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ نَسَخِهِ. فَعَلَى هَذِهِ الْأَحْرُفِ جَرَى كَلَامُ الْإِمَامِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ نَقَلَ هُوَ عَنْهُمْ وَاحْتَجَّ بِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُمُ التَّرْغِيبُ فِي الْعُزْلَةِ كَانُوا مُتَزَوِّجِينَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنَ الْبَقَاءِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ؛ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى التَّحَرِّي فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَا يَلْحَقُهُمْ بِسَبَبِ التَّزَوُّجِ. فَلَا إِشْكَالَ إِذًا عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّنْ سَلَكَ

فصل الخروج عن السنة إلى البدعة الحقيقية أو الإضافية

مَسْلَكَهُ؛ لِأَنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ فِي الشَّرْعِ، مُحْكَمٍ لَا يَنْسَخُهُ شَيْءٌ، وَلَيْسَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا بِسَبِيلٍ. وَلَكِنْ ثَمَّ تَحْقِيقٌ زَائِدٌ لَا يَسَعُ إِيرَادُهُ هَاهُنَا، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ مَنْ تَمَرَّنَ فِيهِ حَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى التَّمَامِ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْفَصْلِ يَقْتَضِي أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى الرَّهْبَانِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي الْآيَةِ بِدْعَةٌ مِنَ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا الْإِضَافِيَّةِ، لِرَدِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا أَصْلًا وَفَرْعًا. [فَصْلٌ الْخُرُوجُ عَنِ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الْإِضَافِيَّةِ] فَصْلٌ ثَبَتَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ آنِفًا أَنَّ الْحَرَجَ مَنْفِيٌّ عَنِ الدِّينِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا ـ وَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْبُرْهَانِ أَبْلَغَ ـ؛ فَلْنَبْنِ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: قَدْ فَهِمَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَأَهْلِ الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ مِمَّنْ ثَبَتَ وِلَايَتُهُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُشَدِّدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيُلْزِمُونَ غَيْرَهُمُ الشِّدَّةَ أَيْضًا وَالْتِزَامَ الْحَرَجِ دَيْدَنًا فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَعَدُّوا مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الِالْتِزَامِ مُقَصِّرًا مَطْرُودًا وَمَحْرُومًا، وَرُبَّمَا فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْإِطْلَاقَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَرَشَّحُوا بِذَلِكَ مَا الْتَزَمُوهُ، فَأَفْضَى الْأَمْرُ بِهِمْ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الْإِضَافِيَّةِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُكَلَّفِ طَرِيقَانِ فِي سُلُوكِهِ لِلْآخِرَةِ: أَحَدُهُمَا سَهْلٌ، وَالْآخِرُ صَعْبٌ، وَكِلَاهُمَا فِي التَّوَصُّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ،

فَيَأْخُذُ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ بِالطَّرِيقِ الْأَصْعَبِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِثْلِهِ، وَيَتْرُكُ الطَّرِيقَ الْأَسْهَلَ؛ بِنَاءً عَلَى التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ. كَالَّذِي يَجِدُ لِلطَّهَارَةِ مَاءَيْنِ: سُخْنًا وَبَارِدًا فَيَتَحَرَّى الْبَارِدَ الشَّاقَّ اسْتِعْمَالُهُ، وَيَتْرُكُ الْآخَرَ، فَهَذَا لَمْ يُعْطِ النَّفْسَ حَقَّهَا الَّذِي طَلَبَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ، وَخَالَفَ دَلِيلَ رَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى زَائِدٍ، فَالشَّارِعُ لَمْ يَرْضَ بِشَرْعِيَّةِ مِثْلِهِ، وَقَدْ قَالَ (اللَّهُ) تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، فَصَارَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ. وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ». . . الْحَدِيثَ؛ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْإِسْبَاغُ مَعَ كَرَاهِيَةِ النَّفْسِ سَبَبًا لِمَحْوِ الْخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْأَجْرِ بِإِكْرَاهِ النَّفْسِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِتَحَرِّي إِدْخَالِ الْكَرَاهِيَةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا قُلْتُمْ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الْإِسْبَاغَ مَعَ وُجُودِ الْكَرَاهِيَةِ، فَفِيهِ أَمْرٌ زَائِدٌ؛ كَالرَّجُلِ يَجِدُ مَاءً بَارِدًا فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ وَلَا يَجِدُهُ سُخْنًا فَلَا يَمْنَعُهُ شِدَّةُ بَرْدِهِ عَنْ كَمَالِ الْإِسْبَاغِ، وَأَمَّا الْقَصْدُ إِلَى الْكَرَاهِيَةِ؛ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِيهِ، بَلْ فِي الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَنِ الْعِبَادِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِيهِ؛ لَكَانَتْ أَدِلَّةُ رَفْعِ الْحَرَجِ تَعَارُضُهُ، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنِهِمَا؛ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى تَقْدِيمِ الْقَطْعِيِّ.

وَمِثْلُ الْحَدِيثِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ} [التوبة: 120]. . .، الْآيَةَ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ مِنَ الْمَأْكُولِ عَلَى أَخْشَنِهِ وَأَفْظَعِهِ لِمُجَرَّدِ التَّشْدِيدِ لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ، فَهُوَ مِنَ النَّمَطِ الْمَذْكُورِ فَوْقَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى تَعْذِيبِ النَّفْسِ فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْكُلُ الطَّيِّبَ إِذَا وَجَدَهُ، وَكَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ، وَيُعْجِبُهُ لَحْمُ الذِّرَاعِ، وَيُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ، فَأَيْنَ التَّشْدِيدُ مِنْ هَذَا؟. وَلَا يَدْخُلُ الِاسْتِعْمَالُ الْمُبَاحُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِسْرَافُ الْخَارِجُ عَنْ حَدِّ الْمُبَاحِ؛ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ. فَإِذًا؛ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَشِيعِ فِي الْمَأْكَلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ تَنَطُّعٌ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الْآيَةَ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ فِي الْمَلْبَسِ عَلَى الْخَشِنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ التَّشْدِيدِ وَالتَّنَطُّعِ الْمَذْمُومِ، وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ قَصْدِ الشُّهْرَةِ مَا فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ الْحَارِثِيِّ: " أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اغْدُ بِي عَلَى أَخِي عَاصِمٍ، قَالَ: مَا بَالَهُ؟ قَالَ: لَبِسَ الْعَبَاءَ يُرِيدُ النَّسْكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَيَّ بِهِ. فَأُتِيَ بِهِ مُؤْتَزِرًا بِعَبَاءَةٍ، مُرْتَدِيًا بِالْأُخْرَى، شَعْثَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَعَبَسَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: وَيْحَكَ! أَمَا اسْتَحْيَيْتَ مِنْ أَهْلِكَ؟ أَمَا رَحِمْتَ وَلَدَكَ؟ أَتَرَى اللَّهَ أَبَاحَ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَنَالَ مِنْهَا شَيْئًا؟ بَلْ أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10]. . . . إِلَى قَوْلِهِ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]؟، أَفْتَرَى اللَّهُ أَبَاحَ هَذِهِ لِعِبَادِهِ إِلَّا لِيَبْتَذِلُوهُ وَيَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَيُثَبِّتُهُمْ عَلَيْهِ؟ وَإِنَّ ابْتِذَالَكَ نِعَمَ اللَّهِ بِالْفِعْلِ خَيْرٌ مِنْهُ بِالْقَوْلِ. قَالَ عَاصِمٌ: فَمَا بَالَكَ فِي خُشُونَةِ مَأْكِلِكَ وَخُشُونَةِ مَلْبَسِكَ، قَالَ: وَيْحَكَ! إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْحَقِّ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعْفَةِ النَّاسِ. فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ لَمْ يُطَالِبِ اللَّهُ الْعِبَادَ بِتَرْكِ الْمَلْذُوذَاتِ! وَإِنَّمَا طَالَبَهُمْ بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا إِذَا تَنَاوَلُوهَا، فَالْمُتَحَرِّي لِلِامْتِنَاعِ مَنْ تَنَاوَلَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ مُفْتَاتٍ عَلَى الشَّارِعِ. وَكُلُّ مَا جَاءَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الِامْتِنَاعِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَنَاوَلَاتِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنْهُ لِعَارِضٍ شَرْعِيٍّ يَشْهَدُ الدَّلِيلُ بِاعْتِبَارِهِ؛ كَالِامْتِنَاعِ مِنَ التَّوَسُّعِ لِضِيقِ الْحَالِ فِي يَدِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُتَنَاوَلَ ذَرِيعَةٌ إِلَى مَا يُكْرَهُ أَوْ يُمْنَعُ، أَوْ لِأَنَّ فِي الْمُتَنَاوَلِ وَجْهُ شُبْهَةٍ تَفَطَّنَ إِلَيْهِ التَّارِكُ وَلَمْ يَتَفَطَّنْ إِلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ عَلِمَ بِامْتِنَاعِهِ، وَقَضَايَا الْأَحْوَالِ لَا تُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ بِمُجَرَّدِهَا؛

لِاحْتِمَالِهَا فِي أَنْفُسِهَا. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ عَلَى وَجْهِهَا فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ عَلَى مَا يُخَالِفُ مَحَبَّةَ النُّفُوسِ وَحَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ. فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْدِيدِ، أَلَّا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ أَشْيَاءَ مِمَّا فِيهِ قَضَاءُ نَهْمَةِ النَّفْسِ وَتَمَتُّعِهَا وَاسْتِلْذَاذِهَا؟ فَلَوْ كَانَتْ مُخَالَفَتُهَا بِرًّا؛ لَشَرَعَ، وَلَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى تَرْكِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُبَاحًا، بَلْ مَنْدُوبَ التَّرْكِ أَوْ مَكْرُوهَ الْفِعْلِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ فِي الْأُمُورِ الْمُتَنَاوَلَةِ إِيجَابًا أَوْ نَدْبًا أَشْيَاءَ مِنَ الْمُسْتَلَذَّاتِ الْحَامِلَةِ عَلَى تَنَاوُلِ تِلْكَ الْأُمُورِ؛ لِتَكُونَ تِلْكَ اللَّذَّاتِ كَالْحَادِيَ إِلَى الْقِيَامِ بِتِلْكَ الْأُمُورِ؛ كَمَا جَعَلَ فِي الْأَوَامِرِ إِذَا امْتُثِلَتْ وَفِي النَّوَاهِي إِذَا اجْتُنِبَتْ أُجُورًا مُنْتَظَرَةً، وَلَوْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وَجَعَلَ فِي الْأَوَامِرِ إِذَا تُرِكَتْ وَالنَّوَاهِي إِذَا ارْتُكِبَتْ جَزَاءً عَلَى خِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِيَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُنْهِضًا لِعَزَائِمِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الِامْتِثَالِ، حَتَّى إِنَّهُ وَضَعَ لِأَهْلِ الِامْتِثَالِ الْمُثَابِرِينَ عَلَى الْمُبَايَعَةِ فِي أَنْفُسِ التَّكَالِيفِ أَنْوَاعًا مِنَ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْأَنْوَارِ الشَّارِحَةِ لِلصُّدُورِ مَا لَا يَعْدِلُهُ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ سَبَبًا لِاسْتِلْذَاذِ الطَّاعَةِ وَالْفِرَارِ إِلَيْهَا وَتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا، فَيَخِفُّ عَلَى الْعَامِلِ الْعَمَلُ، حَتَّى يَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا قَبْلُ (عَلَى) تَحَمُّلِهِ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، فَإِذَا سَقَطَتْ؛ سَقَطَ النَّهْيُ. بَلْ تَأَمَّلُوا كَيْفَ وَضَعَ لِلْأَطْعِمَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا لَذَّاتٍ مُخْتَلِفَاتِ الْأَلْوَانِ، وَلِلْأَشْرِبَةِ كَذَلِكَ، وَلِلْوِقَاعِ الْمَوْضُوعِ سَبَبًا لِاكْتِسَابِ الْعِيَالِ ـ وَهُوَ

فصل أصل العمل مشروعا ولكنه يصير جاريا مجرى البدعة

أَشَدُّ تَعَبًا عَنِ النَّفْسِ ـ لَذَّةً أَعْلَى مِنْ لَذَّةِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ. . . . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ عَنْ نَفْسِ الْمُتَنَاوَلِ؛ كَوَضْعِ الْقَبُولِ فِي الْأَرْضِ، وَتَرْفِيعِ الْمَنَازِلِ، وَالتَّقَدُّمِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ فِي الْأُمُورِ الْعَظَائِمِ، وَهِيَ أَيْضًا تَقْتَضِي لَذَّاتٍ تُسْتَصْغَرُ جَنْبَهَا لَذَّاتُ الدُّنْيَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَأَيْنَ هَذَا الْمَوْضُوعُ الْكَرِيمُ مِنَ الرَّبِّ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؟! فَمَنْ يَأْتِي مُتَعَبِّدًا ـ بِزَعْمِهِ ـ بِخِلَافِ مَا وَضَعَ الشَّارِعُ لَهُ مِنَ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ وَالْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَحَبَّتِهِ، فَيَأْخُذُ بِالْأَشَقِّ وَالْأَصْعَبِ، وَيَجْعَلُهُ هُوَ السُّلَّمَ الْمُوصِلَ وَالطَّرِيقَ الْأَخَصَّ؛ هَلْ هَذَا كُلُّهُ إِلَّا غَايَةٌ فِي الْجَهَالَةِ، وَتَلَفٌ فِي تِيهِ الضَّلَالَةِ؟ عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحِكَايَةٍ تَقْتَضِي تَشْدِيدًا عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، أَوْ يَظْهَرُ مِنْهَا تَنَطُّعٌ أَوْ تَكَلُّفٌ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا مِمَّنْ يُعْتَبَرُ؛ كَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ وَلَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ لِبَادِيَ الرَّأْيِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ؛ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي الْمُقْتَدِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذِهِ خَمْسَةٌ فِي التَّشْدِيدِ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ يُقَاسُ عَلَيْهَا مَا سِوَاهَا. [فَصْلٌ أَصْلُ الْعَمَلِ مَشْرُوعًا وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ جَارِيًا مَجْرَى الْبِدْعَةِ] فَصْلٌ قَدْ يَكُونُ أَصْلُ الْعَمَلِ مَشْرُوعًا، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ جَارِيًا مَجْرَى الْبِدْعَةِ مِنْ

بَابِ الذَّرَائِعِ، وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي فَرَغْنَا مِنْ ذِكْرِهِ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ ـ مَثَلًا ـ، فَيَعْمَلُ بِهِ الْعَامِلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ عَلَى وَضْعِهِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّدْبِيَّةِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ الْعَامِلُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ إِذَا دَامَ عَلَيْهِ فِي خَاصِّيَّتِهِ غَيْرَ مُظْهِرٍ لَهُ دَائِمًا، بَلْ إِذَا أَظْهَرَهُ لَمْ يُظْهِرْهُ عَلَى حُكْمِ الْمُلْتَزَمَاتِ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَالْفَرَائِضِ اللَّوَازِمِ، فَهَذَا صَحِيحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَصْلُهُ نَدْبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِخْفَاءِ النَّوَافِلِ وَالْعَمَلِ بِهَا فِي الْبُيُوتِ، وَقَوْلُهُ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاتُكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ»، فَاقْتَصَرَ فِي الْإِظْهَارِ عَلَى الْمَكْتُوبَاتِ ـ كَمَا تَرَى ـ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ (فِي) مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ النَّافِلَةَ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي أَحَدِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَجَرَى مَجْرَى الْفَرَائِضِ فِي الْإِظْهَارِ السُّنَنُ؛ كَالْعِيدَيْنِ، وَالْخُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ. . . . وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَبَقِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ حُكْمُهُ الْإِخْفَاءُ، وَمِنْ هُنَا ثَابَرَ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى إِخْفَاءِ الْأَعْمَالِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا أَوْ خَفَّ عَلَيْهِمْ الِاقْتِدَاءُ بِالْحَدِيثِ وَبِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ الْقُدْوَةُ وَالْأُسْوَةُ. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا إِذَا عَمِلَ بِهَا فِي الْبُيُوتِ دَائِمًا أَنْ يُقَامَ جَمَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ أَلْبَتَّةَ، مَا عَدَا رَمَضَانَ ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ـ وَلَا فِي الْبُيُوتِ دَائِمًا، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ فِي الْفَرْطِ؛ كَقِيَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قُومُوا فَلَأُصَلِّ لَكُمْ»، وَمَا فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ صَلَاةِ يَرْفَأَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقْتَ الضُّحَى. فَمِنْ فِعْلِهِ فِي بَيْتِهِ وَقْتًا مَا؛ فَلَا حَرَجَ، وَنَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِهَذَا الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ الْجَوَازُ قَدْ وَقَعَ فِي " الْمُدَوَّنَةِ " مُطْلَقًا، فَمَا ذَكَرَهُ تَقْيِيدٌ لَهُ، وَأَظُنُّ ابْنَ حَبِيبٍ نَقَلَ [ـهُ] عَنْ مَالِكٍ مُقَيَّدًا. فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي النَّافِلَةِ أَنْ يَلْتَزِمَ السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ إِمَّا دَائِمًا وَإِمَّا فِي أَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ وَعَلَى وَجْهٍ مَحْدُودٍ، وَأُقِيمَتْ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْفَرَائِضُ، أَوِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ؛ فَذَلِكَ ابْتِدَاعٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِعْلُ هَذَا الْمَجْمُوعِ هَكَذَا مَجْمُوعًا، وَإِنْ أَتَى مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تِلْكَ التَّقْيِيدَاتِ، مَشْرُوعًا فِي التَّقْيِيدِ فِي الْمُطْلَقَاتِ الَّتِي لَمْ تَثَبُتْ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ تَقْيِيدَهَا رَأْيٌ فِي التَّشْرِيعِ، فَكَيْفَ إِذَا عَارَضَهُ الدَّلِيلُ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِإِخْفَاءِ النَّوَافِلِ مَثَلًا؟!. وَوَجْهُ دُخُولِ الِابْتِدَاعِ هُنَا: أَنَّ كُلَّ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّوَافِلِ وَأَظْهَرَهُ فِي الْجَمَاعَاتِ؛ فَهُوَ سُنَّةٌ، فَالْعَمَلُ بِالنَّافِلَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ عَلَى طَرِيقِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ إِخْرَاجٌ لِلنَّافِلَةِ عَنْ مَكَانِهَا الْمَخْصُوصِ بِهَا شَرْعًا،

ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اعْتِقَادُ الْعَوَامِّ فِيهَا وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَهَذَا فَسَادٌ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَ مَا لَيْسَ بِسُنَّةٍ سُنَّةً، وَالْعَمَلَ بِهَا عَلَى حَدِّ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ؛ نَحْوٌ مِنْ تَبْدِيلِ الشَّرِيعَةِ؛ كَمَا لَوِ اعْتَقَدَ فِي الْفَرْضِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، أَوْ بِمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ أَنَّهُ فَرْضٌ، ثُمَّ عَمِلَ وَفْقَ اعْتِقَادِهِ؛ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ، فَهَبِ الْعَمَلَ فِي الْأَصْلِ صَحِيحًا؛ فَإِخْرَاجُهُ عَنْ بَابِهِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا مِنْ بَابِ إِفْسَادِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمِنْ هُنَا ظَهَرَ عُذْرُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي تَرْكِهِمْ سُنَنًا قَصْدًا؛ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ الْجَاهِلُ أَنَّهَا مِنَ الْفَرَائِضِ؛ كَالْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا؛ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَلِأَجْلِهِ أَيْضًا نَهَى أَكْثَرُهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْآثَارِ؛ كَمَا خَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ وَضَّاحٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ مَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ الْأَسَدِيِّ؛ قَالَ: " وَافَيْتُ الْمَوْسِمَ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ؛ انْصَرَفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا صَلَّى لَنَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ فَقَرَأَ فِيهَا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل: 1]، وَ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]، ثُمَّ رَأَى نَاسًا يَذْهَبُونَ مَذْهَبًا، فَقَالَ: أَيْنَ يَذْهَبُ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: يَأْتُونَ مَسْجِدًا هَاهُنَا صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا؛ يَتَّبِعُونَ آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَاتَّخَذُوهَا كَنَائِسَ وَبِيَعًا، مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلْيُصَلِّ فِيهَا، وَإِلَّا؛ فَلَا يَتَعَمَّدْهَا. وَقَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: " سَمِعْتُ عِيسَى بْنَ يُونُسَ مُفْتِي أَهْلِ طَرَسُوسَ

يَقُولُ: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَطْعِ الشَّجَرَةِ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَطَعَهَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَذْهَبُونَ فَيُصَلُّونَ تَحْتَهَا، فَخَافَ عَلَيْهِمُ الْفِتْنَةَ. قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: " وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ يَكْرَهُونَ إِتْيَانَ تِلْكَ الْمَسَاجِدِ وَتِلْكَ الْآثَارِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَدَا قُبَاءَ وَحْدَهُ ". وَقَالَ: " وَسَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَ أَنَّ سُفْيَانَ دَخَلَ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّى فِيهِ، وَلَمْ يَتَّبِعْ تِلْكَ الْآثَارَ وَلَا الصَّلَاةَ فِيهَا، وَكَذَلِكَ فَعَلَ غَيْرُهُ أَيْضًا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَقَدِمَ وَكِيعٌ أَيْضًا مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَمْ يَعْدُ فِعْلَ سُفْيَانَ. قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: " فَعَلَيْكُمْ بِالِاتِّبَاعِ لِأَئِمَّةِ الْهُدَى الْمَعْرُوفِينَ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ مَضَى: كَمْ مِنْ أَمْرٍ هُوَ الْيَوْمَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ كَانَ مُنْكَرًا عِنْدَ مَنْ مَضَى؟ ". وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ كُلَّ بِدْعَةٍ وَإِنْ كَانَتْ فِي خَيْرٍ. وَجَمِيعُ هَذَا ذَرِيعَةٌ لِئَلَّا يُتَّخَذَ سُنَّةً مَا لَيْسَ بِسُنَّةٍ، أَوْ يُعَدَّ مَشْرُوعًا مَا لَيْسَ مَعْرُوفًا. وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْمَجِيءَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ خِيفَةَ أَنْ يُتَّخَذَ ذَلِكَ سُنَّةً، وَكَانَ يَكْرَهُ مَجِيءَ قُبُورِ الشُّهَدَاءِ، وَيَكْرَهُ مَجِيءَ قُبَاءٍ؛ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ، مَعَ مَا جَاءَ فِي الْآثَارِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِيهِ، وَلَكِنْ؛ لَمَّا خَافَ الْعُلَمَاءُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ؛ تَرَكُوهُ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ وَأَشْهَبُ: " سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ لَمَّا أَتَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي

وَقَّاصٍ قَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ رِجْلِي تَكَسَّرَتْ وَأَنِّي لَمْ أَفْعَلْ ". وَسُئِلَ ابْنُ كِنَانَةَ عَنِ الْآثَارِ الَّتِي تَرَكُوا بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: " أَثْبَتُ مَا فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا قُبَاءٌ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَكْرَهُ مَجِيئَهَا، خَوْفًا مِنْ أَنْ يُتَّخَذَ سُنَّةً ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ حَسَّانَ: " كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى ابْنِ نَافِعٍ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِحَدِيثِ التَّوْسِعَةِ لَيْلَةَ عَاشُورَاءَ؛ قَالَ لِي: حَرِّقْ عَلَيْهِ، قُلْتُ: وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: خَوْفًا مِنْ أَنْ يُتَّخَذَ سُنَّةً ". فَهَذِهِ أُمُورٌ جَائِزَةٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّهُمْ كَرِهُوا فِعْلَهَا خَوْفًا مِنَ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَهَا سُنَّةً إِنَّمَا هُوَ بِأَنْ يُوَاظِبَ النَّاسُ عَلَيْهَا مُظْهِرِينَ لَهَا، وَهَذَا شَأْنُ السُّنَّةِ، وَإِذَا جَرَتْ مَجْرَى السُّنَنِ؛ صَارَتْ مِنَ الْبِدَعِ بِلَا شَكٍّ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ صَارَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ وَالظَّاهِرُ مِنْهَا أَنَّهَا بِدَعٌ حَقِيقِيَّةٌ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ إِذَا عَمِلَ بِهَا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهَا سُنَّةٌ فَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ، إِذْ لَمْ يَضَعْهَا صَاحِبُ السُّنَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَصَارَتْ مِثْلَ مَا إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَاعْتَقَدَهَا عِبَادَةً؛ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، هَذَا إِذَا نَظَرْنَا إِلَيْهَا بِمَآلِهَا، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَيْهَا أَوَّلًا؛ فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ إِلَى بِدْعَةٍ أَصْلًا؟!. فَالْجَوَابُ: أَنَّ السُّؤَالَ صَحِيحٌ؛ إِلَّا أَنَّ لِوَضْعِهَا أَوَّلًا نَظَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشْرُوعَةٌ، فَلَا كَلَامَ فِيهَا. وَالثَّانِي: مِنْ حَيْثُ صَارَتْ كَالسَّبَبِ الْمَوْضُوعِ لِاعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ أَوْ

لِلْعَمَلِ بِهَا عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ؛ فَهِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْأَسْبَابِ لِلشَّارِعِ لَا لِلْمُكَلَّفِ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَضَعِ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ـ مَثَلًاـ سَبَبًا لِأَنْ تُتَّخَذَ سُنَّةً، فَوَضْعُ الْمُكَلَّفِ لَهَا كَذَلِكَ رَأْيٌ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إِلَى الشَّرْعِ، فَكَانَ ابْتِدَاعًا. وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهَا بِدْعَةً إِضَافِيَّةً، أَمَّا إِذَا اسْتَقَرَّ السَّبَبُ، وَظَهَرَ عَنْهُ مُسَبِّبُهُ الَّذِي هُوَ اعْتِقَادُ الْعَمَلِ سُنَّةً وَالْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهِ؛ فَذَلِكَ بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا إِضَافِيَّةٌ. وَلِهَذَا الْأَصْلِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّكْرَارِ. وَإِذَا ثَبَتَ فِي الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ أَنَّهَا قَدْ تُعَدُّ بِدَعًا بِالْإِضَافَةِ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِالْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا قَدْ تَجْتَمِعُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً وَإِضَافِيَّةً مَعًا، لَكِنْ مِنْ جِهَتَيْنِ؟! فَإِذًا بِدْعَةُ " أُصْبِحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ " فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ ظَاهِرَةٌ، ثُمَّ لَمَّا عَمِلَ بِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ مُوَاظِبًا عَلَيْهَا لَا تُتْرَكُ كَمَا لَا تُتْرَكُ الْوَاجِبَاتُ وَمَا أَشْبَهَهَا؛ كَانَ تَشْرِيعًا أَوَّلًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ الْوُجُوبَ أَوِ السُّنَّةَ، وَهَذَا ابْتِدَاعٌ ثَانٍ إِضَافِيٌّ، ثُمَّ إِذَا اعْتَقَدَ فِيهَا ثَانِيًا السُّنِّيَّةَ أَوِ الْفَرْضِيَّةَ؛ صَارَتْ بِدْعَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. وَمِثْلُهُ يَلْزَمُ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ أُظْهِرَتْ وَالْتُزِمَتْ، وَأَمَّا إِذَا خَفِيَتْ وَاخْتُصَّ بِهَا صَاحِبُهَا؛ فَالْأَمْرُ عَلَيْهِ أَخَفُّ، فَيَا لَلَّهِ وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ! مَاذَا يَجْنِي الْمُبْتَدِعُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَكُونُ فِي حِسَابِهِ؟ وَقَانَا اللَّهُ شُرُورَ أَنْفُسِنَا بِفَضْلِهِ.

فصل الدعاء بإثر الصلاة بهيئة الاجتماع دائما

[فَصْلٌ الدُّعَاءُ بِإِثْرِ الصَّلَاةِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ دَائِمًا] فَصْلٌ مِنْ تَمَامِ مَا قَبْلَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَتْ نَازِلَةٌ: إِمَامُ مَسْجِدٍ تَرَكَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ بِالْأَنْدَلُسِ مِنَ الدُّعَاءِ لِلنَّاسِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ بِالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَلَى الدَّوَامِ، وَهُوَ أَيْضًا مَعْهُودٌ فِي أَكْثَرِ الْبِلَادِ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ يَدْعُو لِلنَّاسِ وَيُؤَمِّنُ الْحَاضِرُونَ، وَزَعَمَ التَّارِكُ أَنَّ تَرْكَهُ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِعْلِ الْأَئِمَّةِ حَسْبَمَا نَقَلَهُ الْعُلَمَاءُ فِي دَوَاوِينِهِمْ عَنِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ. أَمَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَاهِرٌ: لِأَنَّ حَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ مَكْتُوبَاتٍ أَوْ نَوَافِلَ كَانَتْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرًا هُوَ فِي الْعُرْفِ غَيْرُ دُعَاءٍ؛ فَلَيْسَ لِلْجَمَاعَةِ مِنْهُ حَظٌّ؛ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِ أَوْ نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ؛ كَمَا فِي غَيْرِ أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ: كَمَا جَاءَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَتْ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ». وَقَوْلُهُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ يَا ذَا

الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ». وَقَوْلُهُ: «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ». . .، وَنَحْوَ ذَلِكَ. . . . فَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ [ـهُ] فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، فَمَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ؛ فَحَسَنٌ، وَلَا يُمْكِنُ فِي هَذَا كُلِّهِ هَيْئَةُ اجْتِمَاعٍ. وَإِنْ كَانَ دَعَا؛ فَعَامَّةُ مَا جَاءَ مِنْ دَعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الصَّلَاةِ مِمَّا سُمِعَ مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ يَخُصُّ بِهِ نَفْسَهُ دُونَ الْحَاضِرِينَ: كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ». . الْحَدِيثَ، إِلَى قَوْلِهِ: «وَيَقُولُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»، حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتَ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا

وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ! أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهَمْ إِخْوَةٌ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ! اجْعَلْنِي مُخْلَصًا لَكَ وَأَهْلِي فِي كُلِّ سَاعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ! اسْمَعْ وَاسْتَجِبْ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ». وَلِـ أَبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ: «رَبِّ أَعْنِي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَأَمْكِنْ لِي وَلَا تُمَكِّنْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيُسِرْ هُدَايَ إِلَيَّ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلِيَّ». . . إِلَى آخَرَ الْحَدِيثِ. وَفِي النَّسَائِيِّ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الْفَجْرِ إِذَا صَلَّى: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا». وَعَنْ بَعْضِ الْأَنْصَارِ؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ: «اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ، حَتَّى يَبْلُغَ مِائَةَ مَرَّةٍ». وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ كَانَتْ صَلَاةَ الضُّحَى. فَتَأَمَّلُوا سِيَاقَ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ كُلِّهَا مَسَاقَ تَخْصِيصِ نَفْسِهِ بِهَا دُونَ النَّاسِ! فَيَكُونُ مِثْلَ هَذَا حُجَّةً لِفِعْلِ النَّاسِ الْيَوْمَ؟!

إِلَّا أَنْ يُقَالَ: قَدْ جَاءَ الدُّعَاءُ لِلنَّاسِ فِي مَوَاطِنَ؛ كَمَا فِي الْخُطْبَةِ الَّتِي اسْتَسْقَى فِيهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَيُقَالُ: نَعَمْ؛ فَأَيْنَ الْتِزَامُ ذَلِكَ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ؟!. ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ فِي مِثْلِ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ الْوَارِدِ عَلَى أَثَرِ الصَّلَاةِ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، لَا سُنَّةٌ وَلَا وَاجِبٌ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ عَلَيْهِ وَالسَّلَامَ عَلَى الدَّوَامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا دَائِمًا، وَلَا يُظْهِرُهَا لِلنَّاسِ فِي غَيْرِ مُوَاطِنِ التَّعْلِيمِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ عَلَى الدَّوَامِ وَعَلَى الْإِظْهَارِ؛ لَكَانَتْ سُنَّةً، وَلَمْ يَسَعِ الْعُلَمَاءَ أَنْ يَقُولُوا فِيهَا بِغَيْرِ السُّنَّةِ، إِذْ خَاصِّيَّتُهُ ـ حَسْبَمَا ذَكَرُوهُ ـ الدَّوَامُ وَالْإِظْهَارُ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ. وَلَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ دُعَاؤُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سِرًّا؛ لَمْ يُؤْخَذْ عَنْهُ. لِأَنَّا نَقُولُ: مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الْإِسْرَارَ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ [الْجَهْرُ] وَلَوْ مَرَّةً، إِمَّا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، [وَإِمَّا] بِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى التَّشْرِيعِ. فَإِنْ قِيلَ: ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ [حَاصِلٌ]؛ بِقَوْلِ الرُّوَاةِ: " كَانَ يَفْعَلُ "؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ؛ كَقَوْلِهِمْ: " كَانَ حَاتِمٌ يُكْرِمُ الضِّيفَانِ ". قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الدَّوَامِ وَعَلَى الْكَثِيرِ وَالتَّكْرَارِ عَلَى الْجُمْلَةِ: كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:

كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ؛ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ». وَرَوَتْ أَيْضًا أَنَّهُ: «كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً». بَلْ قَدْ يَأْتِي فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: " كَانَ يَفْعَلُ " فِيمَا لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، نَصَّ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ. وَلَوْ كَانَ يُدَاوِمُ الْمُدَاوَمَةَ التَّامَّةَ؛ لَلَحِقَ بِالسُّنَنِ؛ كَالْوَتْرِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ؛ فَأَيْنَ هَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِ؟. فَقَدْ حَصَلَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ دَائِمًا لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَمَا لَمْ يَكُنْ [مِنْ] قَوْلِهِ وَلَا إِقْرَارِهِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: " «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَمْكُثُ إِذَا سَلَّمَ يَسِيرًا». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: " حَتَّى يَنْصَرِفَ النَّاسُ فِيمَا نَرَى ". وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا): «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ إِذَا سَلَّمَ؛ لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ! أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكَتْ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ». وَأَمَّا فِعْلُ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ:

فَقَدْ نَقَلَ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي غَيْرِ كُتُبِ الصَّحِيحِ: " «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَانَ إِذَا سَلَّمَ يَقُومُ، وَصَلَّيْتُ خَلَفَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ فَكَانَ إِذَا سَلَّمَ وَثَبَ كَأَنَّهُ عَلَى رَضْفَةٍ» (يَعْنِي: الْحَجَرَ الْمُحَمَّى). وَنَقَلَ ابْنُ يُونُسَ الصَّقَلِّيُّ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ خَارِجَةَ: " أَنَّهُ كَانَ يَعِيبُ عَلَى الْأَئِمَّةِ قُعُودَهُمْ بَعْدَ السَّلَامِ، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَتِ الْأَئِمَّةُ سَاعَةَ تُسَلِّمُ تَقُومُ ". وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: " جُلُوسُهُ بِدْعَةٌ ". وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)؛ قَالَ: " لَأَنْ يَجْلِسَ عَلَى الرَّضْفِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ ". وَقَالَ مَالِكٌ فِي " الْمُدَوَّنَةِ ": " إِذَا سَلَّمَ؛ فَلْيَقُمْ، وَلَا يَقْعُدْ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي سَفَرٍ أَوْ فِي فِنَائِهِ ". وَعَدَّ الْفُقَهَاءُ إِسْرَاعَ الْقِيَامِ سَاعَةَ يُسَلِّمُ مِنْ فَضَائِلِ الصَّلَاةِ، وَوَجَّهُوا ذَلِكَ بِأَنَّ جُلُوسَهُ هُنَالِكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِيهِ كِبَرٌ وَتَرَفُّعٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَانْفِرَادُهُ بِمَوْضُوعٍ عَنْهُمْ يَرَى بِهِ الدَّاخِلُ أَنَّهُ إِمَامُهُمْ، وَأَمَّا انْفِرَادُهُ بِهِ حَالَ الصَّلَاةِ؛ فَضَرُورِيٌّ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا الَّذِينَ اسْتَفَدْنَا بِهِمْ: " وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي انْفِرَادِهِ فِي

الْمَوْضِعِ، فَكَيْفَ بِمَا انْضَافَ إِلَيْهِ مِنْ تَقَدُّمِهِ أَمَامَهُمْ فِي التَّوَسُّلِ بِهِ بِالدُّعَاءِ وَالرَّغْبَةِ وَتَأْمِينِهِمْ عَلَى دُعَائِهِ جَهْرًا؟! قَالَ: " وَلَوْ كَانَ هَذَا حَسَنًا؛ لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ)، وَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مَعَ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى نَقْلِ جَمِيعِ أُمُورِهِ، حَتَّى: هَلْ كَانَ يَنْصَرِفُ مِنَ الصَّلَاةِ عَنِ الْيَمِينِ أَوْ عَنِ الشِّمَالِ؟! وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ إِنْكَارَ ذَلِكَ وَالتَّشْدِيدَ فِيهِ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ". هَذَا مَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ بَعْدَ أَنْ جَعَلَ الدُّعَاءَ بِإِثْرِ الصَّلَاةِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ دَائِمًا بِدْعَةً قَبِيحَةً، وَاسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ بِسُرْعَةِ الْقِيَامِ وَالِانْصِرَافِ؛ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلدُّعَاءِ لَهُمْ وَتَأْمِينِهِمْ عَلَى دُعَائِهِ؛ بِخِلَافِ الذِّكْرِ وَدُعَاءِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّ الِانْصِرَافَ وَذَهَابَ الْإِنْسَانِ لِحَاجَتِهِ غَيْرُ مُنَافٍ لَهُمَا. فَبَلَغَتِ الْكَائِنَةُ بَعْضَ شُيُوخِ الْعَصْرِ، فَرَدَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامِ رَدًّا أَقْذَعَ فِيهِ عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ الرَّاسِخُونَ، وَبَلَغَ مِنَ الرَّدِّ ـ بِزَعْمِهِ ـ إِلَى أَقْصَى غَايَةِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ بِأُمُورٍ إِذَا تَأَمَّلَهَا الْفَطِنُ؛ عَرَفَ مَا فِيهَا: كَالْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ إِثْرَ الصَّلَاةِ قُرْآنًا وَسُنَّةً، وَهُوَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ لَا دَلِيلَ فِيهِ. ثُمَّ ضَمَّ إِلَى ذَلِكَ جَوَازَ الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ؛

إِلَّا فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ أَيْضًا ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ لِاخْتِلَافِ الْمُتَأَصِّلِينَ. وَأَمَّا فِي التَّفْصِيلِ؛ فَزَعَمَ أَنَّهُ مَا زَالَ مَعْمُولًا بِهِ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ أَوْ فِي جُلِّهَا مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ إِلَّا نَكِيرَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَارُونِيِّ، ثُمَّ أَخَذَ فِي ذَمِّهِ. وَهَذَا النَّقْلُ تَهَوُّرٌ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّهُ نَقْلُ إِجْمَاعٍ يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ فِيهِ وَالْمُحْتَجِّ بِهِ قَبْلَ الْتِزَامِ عُهْدَتِهِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُ بَحْثَ أَصْلٍ عَنِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّقْلِ عَنْ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) إِلَى الْآنِ، هَذَا أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِجْمَاعِ الْعَوَامِّ، وَإِنِ ادَّعَوُا الْإِمَامَةَ. وَقَوْلُهُ: " مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ " تَجَوُّزٌ، بَلْ مَا زَالَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَقَدْ نَقَلَ الطَّرْطُوشِيُّ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءَ تَخْدِمُ الْمَسْأَلَةَ، فَحَصَلَ إِنْكَارُ مَالِكٍ لَهَا فِي زَمَانِهِ، وَإِنْكَارُ الْإِمَامِ الطَّرْطُوشِيِّ فِي زَمَانِهِ، وَاتَّبَعَ هَذَا أَصْحَابُهُ وَهَذَا أَصْحَابُهُ، ثُمَّ الْقَرَافِيُّ قَدْ عَدَّ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَهْلُ زَمَانِهِ ـ فِيمَا نَعْلَمُهُ ـ مَعَ زَعْمِهِ أَنَّ مِنَ الْبِدَعِ مَا هُوَ حَسَنٌ، ثُمَّ الشُّيُوخُ الَّذِينَ كَانُوا بِالْأَنْدَلُسِ حِينَ دَخَلَتْهَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ ـ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ وَقَدْ أَنْكَرُوهَا، وَكَانَ مِنْ مُعْتَقَدِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَتِلْمِيذُهُ أَبُو عَمْرَانَ المِيرَتُلِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مُلْتَزِمَيْنِ لِتَرْكِهَا، حَتَّى اتَّفَقَ لِلشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا رَادًّا عَلَى بَعْضِ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْعَمَلَ [قَائِلًا:] فَإِنَّا

قَدْ شَاهَدْنَا الْأَئِمَّةَ الْفُقَهَاءَ الصُّلَحَاءَ الْمُتَّبِعِينَ لِلسُّنَّةِ الْمُتَحَفِّظِينَ بِأُمُورِ دِينِهِمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ أَئِمَّةً وَمَأْمُومِينَ، وَلَمْ نَرَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ؛ إِلَّا مَنْ شَذَّ فِي أَحْوَالِهِ. فَقَالَ: " وَأَمَّا احْتِجَاجُ مُنْكِرِ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ؛ فَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ النَّاسَ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ ". قَالَ: " وَلَمَّا كَانَتِ الْبِدَعُ وَالْمُخَالَفَاتُ وَتَوَاطُؤُ النَّاسِ عَلَيْهَا؛ صَارَ الْجَاهِلُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا مُنْكَرًا؛ لَمَا فَعَلَهُ النَّاسُ ". ثُمَّ حَكَى أَثَرَ الْمُوَطَّأِ: " مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ". قَالَ: " فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي عَهْدِ التَّابِعِينَ يَقُولُ: كَثُرَتِ الْإِحْدَاثَاتِ؛ فَكَيْفَ بِزَمَانِنَا؟!. ثُمَّ هَذَا الْإِجْمَاعُ لَوْ ثَبَتَ؛ لَزِمَ مِنْهُ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا نُقِلَ عَنِ الْأَوَّلِينَ مِنْ تَرْكِهِ، فَصَارَ نَسْخُ إِجْمَاعِ بِإِجْمَاعٍ، وَهَذَا مُحَالٌ فِي الْأُصُولِ. وَأَيْضًا؛ فَلَا تَكُونُ مُخَالَفَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ لِإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى سُنَّةٍ حُجَّةً عَلَى تِلْكَ السُّنَّةِ أَبَدًا. فَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا حُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ بِشَاذَانَ بِسَنَدٍ يَرْفَعُهُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: " كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ ـ يَعْنِي: ابْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ يُكْثِرُ الْجُلُوسَ إِلَى رَبِيعَةَ، فَتَذَاكَرُوا يَوْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ

فِي الْمَجْلِسِ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَثُرَ الْجُهَّالُ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الْحُكَّامَ، أَفْهُمُ الْحُجَّةُ عَلَى السُّنَّةِ؟ فَقَالَ رَبِيعَةُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا كَلَامُ أَبْنَاءِ الْأَنْبِيَاءِ " انْتَهَى. إِلَّا أَنِّي أَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَثُرَ الْمُقَلِّدُونَ ثُمَّ أَحْدَثُوا بِآرَائِهِمْ فَحَكَمُوا بِهَا، أَفَهُمُ الْحُجَّةُ عَلَى السُّنَّةِ؟ وَلَا كَرَامَةَ. ثُمَّ عَضَّدَ مَا ادَّعَاهُ بِأَشْيَاءَ مِنْ جُمْلَتِهَا قَوْلُهُ: " وَمِنْ أَمْثَالِ النَّاسِ: أَخْطِئْ مَعَ النَّاسِ وَلَا تُصِبْ وَحْدَكَ؛ أَيْ: أَنَّ خَطَأَهُمْ هُوَ الصَّوَابُ، وَصَوَابَكَ هُوَ الْخَطَأُ ". قَالَ: " وَمَعْنَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ: «عَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ [الذِّئْبُ مِنَ الْغَنَمِ] الْقَاصِيَةَ». فَجَعَلَ تَارِكَ الدُّعَاءِ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ كَمَا تَرَى، وَحَضَّ عَلَى اتِّبَاعِ النَّاسِ وَتَرْكِ الْمُخَالَفَةِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ»، وَكُلُّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِجْمَاعِ الَّذِي ذَكَرُوا أَنَّ الْجَمَاعَةَ هُمْ جَمَاعَةُ النَّاسِ كَيْفَ كَانُوا!!.

وَسَيَأْتِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ، وَأَنَّهَا الْمُتَّبِعَةُ لِلسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ رَجُلًا وَاحِدًا فِي الْعَالَمِ. قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: " لَا تَعْبَأْ بِمَا يُعْرَضُ مِنَ الْمَسَائِلِ وَيُدَّعَى فِيهَا الصِّحَّةُ بِمُجَرَّدِ التَّهْوِيلِ أَوْ بِدَعْوَى أَنْ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَقَائِلُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِيهَا بِالصِّحَّةِ؛ فَضْلًا عَنْ نَفْيِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا مِنَ الْجَلِيَّاتِ الَّتِي لَا يُعْذَرُ الْمُخَالِفُ ". قَالَ: " وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنِ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ، وَإِنَّمَا هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ وَابْنِ عُلَيَّةَ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبْطِلُوا السُّنَنَ بِذَلِكَ؛ يَعْنِي أَحْمَدُ: أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ؛ إِذَا نَاظَرْتَهُمْ بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ؛ قَالُوا: هَذَا خِلَافُ (الْإِجْمَاعِ)، وَذَلِكَ الْقَوْلُ الَّذِي يُخَالِفُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَا يَحْفَظُونَهُ إِلَّا عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ أَوْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ مَثَلًا، فَيَدَّعُونَ الْإِجْمَاعَ مِنْ قِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِأَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ، وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى رَدِّ السُّنَنِ بِالْآرَاءِ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يُسْرَدُ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ؛ فَلَا يَجِدُ لَهَا مُعْتَصِمًا إِلَّا أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ إِلَّا [أَنَّ] أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ؛ لَرَأَى مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا ". فَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِرْشَادٌ لِمَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْقَلَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِهِ وَالتَّثَبُّتِ؛ لِأَنَّهُ مُخْبِرٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ، فَإِيَّاكُمْ وَالتَّسَاهُلَ؛ فَإِنَّهُ مَظَنَّةُ الْخُرُوجِ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَى السَّيِّئَاتِ.

ثُمَّ عَدَّ مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي مُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ: أَنَّهُ يَرْمِيهِمْ بِالتَّجْهِيلِ وَالتَّضْلِيلِ، وَهَذَا دَعْوَى مَنْ خَالَفَهُ فِيمَا قَالَ، وَعَلَى تَسْلِيمِهَا؛ فَلَيْسَتْ بِمَفْسَدَةٍ عَلَى فَرْضِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الْحَضُّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْحَقِّ وَعَدَمِ الِاسْتِيحَاشِ مِنْ قِلَّةِ أَهْلِهِ. وَأَيْضًا؛ فَمَنْ شَنَّعَ عَلَى الْمُبْتَدَعِ بِلَفْظِ الِابْتِدَاعِ، فَأَطْلَقَ الْعِبَارَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَمَعِينَ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ لِلدُّعَاءِ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ. . . . إِلَى نَظَائِرِهَا؛ فَتَشْنِيعُهُ حَقٌّ كَمَا يَقُولُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَمَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَلَا يَدْخُلُ بِذَلِكَ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ فِي حَدِيثِ: «مَنْ قَالَ: هَلَكَ النَّاسُ؛ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ»؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ تَرَفُّعًا عَلَى النَّاسِ وَاسْتِحْقَارًا، وَأَمَّا إِنْ قَالَهُ تَحَزُّنًا وَتَحَسُّرًا؛ فَلَا بَأْسَ. قَالَ [ـهُ] بَعْضُهُمْ. وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ نُعَرِّجَ عَلَى ذَلِكَ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِهِ. وَعُدَّ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْخَوْفُ مِنْ فَسَادِ نِيَّتِهِ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُجْبِ وَالشُّهْرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا!! فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: اتْرُكْ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِي زَمَانِ الْغُرْبَةِ خَوْفَ الشُّهْرَةِ وَدُخُولِ الْعُجْبِ!!. وَهَذَا شَدِيدٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ مُعَارِضٌ بِمِثْلِهِ؛ فَإِنَّ انْتِصَابَهُ لِأَنْ يَكُونُ دَاعِيًا لِلنَّاسِ بِأَثَرِ صَلَوَاتِهِمْ دَائِمًا مَظِنَّةً لِفَسَادِ نِيَّتِهِ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُجْبِ وَالشُّهْرَةِ، وَهُوَ تَعْلِيلُ الْقَرَافِيِّ، وَهُوَ أَوْلَى؛ فِي طَرِيقِ الِاتِّبَاعِ، فَصَارَ تَرْكُهُ لِلدُّعَاءِ لَهُمْ مَقْرُونًا بِالِاقْتِدَاءِ بِخِلَافِ الدَّاعِي؛ فَإِنَّهُ فِي غَيْرِ طَرِيقِ مَنْ تَقَدَّمَ، فَهُوَ أَقْرَبُ

إِلَى فَسَادِ النِّيَّةِ. وَعُدَّ مِنْهَا مَا يُظَنُّ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ بِرَأْيِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الدُّعَاءَ غَيْرُ نَافِعٍ، وَهَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لِلنَّاسِ: اتْرُكُوا اتِّبَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ؛ لِئَلَّا يُظَنَّ بِكُ [ـمُ] الِابْتِدَاعُ، وَهَذَا كَمَا تَرَى. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: " وَلَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَتَفْعَلُهُ الشِّيعَةُ ". قَالَ: " فَحَضَرَ عِنْدِي يَوْمًا فِي مَحْرَسِ أَبِي الشُّعَرَاءِ بِالثَّغْرِ مَوْضِعِ تَدْرِيسِي عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنَ الْمَحْرَسِ الْمَذْكُورِ، فَتَقَدَّمَ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَأَنَا فِي مُؤَخِّرِهِ قَاعِدٌ عَلَى طَاقَاتِ الْبَحْرِ أَتَنَسَّمُ الرِّيحَ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَعِي فِي صَفٍّ وَاحِدٍ أَبُو ثَمَنَةَ رَئِيسُ الْبَحْرِ وَقَائِدُهُ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ وَيَتَطَلَّعُ عَلَى مَرَاكِبَ الْمَنَارِ، فَلَمَّا رَفَعَ الشَّيْخُ الْفِهْرِيُّ يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْهُ؛ قَالَ أَبُو ثَمَنَةَ وَأَصْحَابُهُ: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى هَذَا الْمَشْرِقِيِّ كَيْفَ دَخَلَ مَسْجِدَنَا؟ قُومُوا إِلَيْهِ فَاقْتُلُوهُ وَارْمُوا بِهِ فِي الْبَحْرِ فَلَا يَرَاكُمْ أَحَدٌ، فَطَارَ قَلْبِي مِنْ بَيْنِ جَوَانِحِي، وَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! هَذَا الطَّرْطُوشِيُّ فَقِيهُ الْوَقْتِ! فَقَالُوا لِي: وَلِمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ؟ فَقُلْتُ: كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَجَعَلْتُ أُسَكِّنُهُمْ وَأُسَكِّنُهُمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ، وَقُمْتُ مَعَهُ إِلَى الْمَسْكَنِ مِنَ الْمَحْرَسِ، وَرَأَى تَغَيُّرَ وَجْهِي فَأَنْكَرَ، وَسَأَلَنِي فَأَعْلَمْتُهُ فَضَحِكَ، وَقَالَ: مَنْ أَيْنَ لِي أَنْ أَقْتُلَ عَلَى سُنَّةٍ؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَيَحِلُّ لَكَ هَذَا؛ فَإِنَّكَ بَيْنَ قَوْمٍ إِنْ

فصل سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما

قُمْتُ بِهَا قَامُوا عَلَيْكَ، وَرُبَّمَا ذَهَبَ دَمُكَ؟! فَقَالَ: دَعْ هَذَا الْكَلَامَ وَخُذْ فِي غَيْرِهِ ". فَتَأَمَّلُوا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَفِيهَا الشِّفَاءُ، إِذْ لَا مَفْسَدَةَ فِي الدُّنْيَا تُوَازِي مَفْسَدَةَ إِمَاتَةِ السُّنَّةِ، وَقَدْ حَصَلَتِ النِّسْبَةُ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَلَكِنَّ الطَّرْطُوشِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ [كَانَ لَا] يَرَى ذَلِكَ شَيْئًا. فَكَلَامُهُ لِلِاتِّبَاعِ أَوْلَى مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّادِّ، إِذْ بَيْنَهُمَا فِي الْعِلْمِ مَا بَيْنَهُمَا. وَأَيْضًا؛ فَلَوِ اعْتَبَرَ مَا قَالَ؛ لَزِمَ اعْتِبَارُهُ بِمِثْلِهِ فِي كُلِّ مَنْ أَنْكَرَ الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ، وَمِنْهُمْ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ السَّلَفِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ لَازِمٍ؛ فَمَسْأَلَتُنَا كَذَلِكَ. ثُمَّ خَتَمَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الْإِجْمَاعِيَّ بِقَوْلِهِ: وَقَدِ اجْتَمَعَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَفِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ عَلَى الدُّعَاءِ أَدْبَارَ الصَّلَاةِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَدْخُلَ ذَلِكَ مَدْخَلَ حُجَّةٍ إِجْمَاعِيَّةٍ عَصْرِيَّةٍ. فَإِنْ أَرَادَ الدُّعَاءَ عَلَى هَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ دَائِمًا لَا يُتْرَكُ كَمَا يُفْعَلُ بِالسُّنَنِ، وَهِيَ مَسْأَلَتُنَا الْمَفْرُوضَةُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. [فَصْلٌ سُكُوتُ الشَّارِعِ عَنِ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ مَا] فَصْلٌ ثُمَّ أَتَى بِمَأْخَذٍ آخَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةٍ مَا زَعَمَ، وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ نَهْيٌ عَنْهُ، مَعَ وُجُودِ التَّرْغِيبِ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَوُجُودِ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ؛ فَالتَّرْكُ لَيْسَ

بِمُوجِبٍ لِحُكْمٍ فِي الْمَتْرُوكِ؛ إِلَّا جَوَازَ التَّرْكِ وَانْتِفَاءَ الْحَرَجِ خَاصَّةً، لَا تَحْرِيمَ وَلَا كَرَاهِيَةَ. وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ، وَخُصُوصًا فِي الْعِبَادَاتِ ـ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَتُنَا ـ، إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَخْتَرِعَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ رَأْيِهِ أَمْرًا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْهَا دَلِيلٌ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْبِدْعَةِ، وَهَذَا كَذَلِكَ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى اتِّخَاذِ الدُّعَاءِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا، عَلَى حَدِّ مَا تُقَامُ السُّنَنُ، بِحَيْثُ يُعَدُّ الْخَارِجُ عَنْهُ خَارِجًا عَنْ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، مُتَحَيِّزًا وَمُتَمَيِّزًا. . . إِلَى سَائِرِ مَا ذَكَرَ، وَكُلُّ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَهُوَ الْبِدْعَةُ. وَإِلَى هَذَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ يُوهِمُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُقَلِّدِينَ خَيْرٌ مِنَ اتِّبَاعِ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّلَفِ! وَلَوْ كَانَ [هَذَا] فِي أَحَدِ جَائِزَيْنِ [لَمَا قُبِلَ]؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مُتَيَقَّنٌ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَالْآخِرُ مَشْكُوكٌ فِيهِ؟ فَيُتَّبَعُ الْمَشْكُوكُ فِي صِحَّتِهِ، وَيُتْرَكُ مَا لَا مِرْيَةَ فِي صِحَّتِهِ، وَيُؤَلَّبُ مَنْ يَتَّبِعُهُ؟!. ثُمَّ إِطْلَاقُهُ الْقَوْلَ بِأَنَّ التَّرْكَ لَا يُوجِبُ حُكْمًا فِي الْمَتْرُوكِ إِلَّا جَوَازَ التَّرْكِ، غَيْرَ جَارٍ عَلَى أُصُولِ الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ. فَنَقُولُ إِنَّ هُنَا أَصْلًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُ بِهِ مَنْ أَنْصَفَ فِي نَفْسِهِ: وَذَلِكَ أَنَّ سُكُوتَ الشَّارِعِ عَنِ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ أَوْ تَرْكِهِ لِأَمْرٍ مَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: - أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ أَوْ يَتْرُكَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ، وَلَا مُوجِبَ يُقَرَّرُ لِأَجْلِهِ، وَلَا وَقَعَ سَبَبُ تَقْرِيرِهِ؛ كَالنَّوَازِلِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ سَكَتَ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاحْتَاجَ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا وَإِجْرَائِهَا عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي كَمُلَ بِهَا الدِّينُ. وَإِلَى هَذَا الضَّرْبِ يَرْجِعُ جَمِيعُ مَا نَظَرَ فِيهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِمَّا لَمْ يَسُنُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُصُوصِ مِمَّا هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى؛ كَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَمَسْأَلَةِ الْحَرَامِ، وَالْجَدِّ مَعَ الْأِخْوَةِ، وَعَوْلِ الْفَرَائِضِ، وَمِنْهُ جَمْعُ الْمُصْحَفِ، ثُمَّ تَدْوِينُ الشَّرَائِعِ. . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَحْتَجْ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تَقْرِيرِهِ، لِتَقْدِيمِ كُلِّيَّاتِهِ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ (بِهَا) مِنْهَا إِذَا لَمْ تَقَعْ أَسْبَابُ الْحُكْمِ فِيهَا وَلَا الْفَتْوَى بِهَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ. فَهَذَا الضَّرْبُ إِذَا حَدَثَتْ أَسْبَابُهُ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ وَإِجْرَائِهِ عَلَى أُصُولِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْعَادِيَّاتِ أَوْ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مَا سُمِعَ؛ كَمَسَائِلِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فِي أَجْزَاءِ الْعِبَادَاتِ. وَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا الضَّرْبِ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ عَتِيدَةٌ، وَأَسْبَابَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ، فَالسُّكُوتُ عَنْهَا عَلَى الْخُصُوصِ لَيْسَ بِحُكْمٍ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّرْكِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ إِذَا عُرِضَتِ النَّوَازِلُ؛ رُوجِعَ بِهَا أُصُولُهَا، فَوُجِدَتْ فِيهَا، وَلَا يَجِدُهَا مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ، وَإِنَّمَا يَجِدُهَا الْمُجْتَهِدُونَ الْمَوْصُوفُونَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْكُتَ الشَّارِعُ عَنِ الْحُكْمِ الْخَاصِّ أَوْ يَتْرُكَ أَمْرًا مَا مِنَ الْأُمُورِ وَمُوجِبُهُ الْمُقْتَضَى لَهُ قَائِمٌ وَسَبَبُهُ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مَوْجُودٌ ثَابِتٌ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَدَّدْ فِيهِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْحُكْمِ الْعَامِّ فِي أَمْثَالِهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِشَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ الْخَاصِّ مَوْجُودًا، ثُمَّ لَمْ يُشْرَعْ وَلَا نُبِّهَ عَلَى السِّبْطَا؛ كَانَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا ثَبَتَ هُنَالِكَ بِدْعَةٌ زَائِدَةٌ وَمُخَالِفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، إِذْ فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّ هُنَالِكَ لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ. وَلِذَلِكَ مِثَالٌ فِيمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ هُوَ غَايَةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ الْكَرَاهِيَةُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَعَلَيْهِ بَنَى كَلَامَهُ. قَالَ فِي " الْعُتْبِيَّةِ ": " وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ يُحِبُّهُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرًا؟ فَقَالَ: لَا يُفْعَلُ هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، قِيلَ لَهُ: إِنْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ـ فِيمَا يَذْكُرُونَ ـ سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ، أَفَسَمِعْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ، وَأَنَا أَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ الشَّيْءَ فَيَقُولُ: هَذَا لَمْ تَسْمَعْهُ مِنِّي، قَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ، أَفَسَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا؟ إِذْ مَا قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ؛ سُمِعَ عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ، فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ مَنْ أَمْرِ النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ، فَهَلْ سَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ؟ فَهَذَا إِجْمَاعٌ، وَإِذَا جَاءَكَ أَمْرٌ لَا تَعْرِفُهُ؛ فَدَعْهُ. . . تَمَامَ الرِّوَايَةِ.

وَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى فَرْضِ سُؤَالٍ وَالْجَوَابُ بِمَا تَقَدَّمَ. وَتَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَنْ يُقَالَ فِي الْبِدْعَةِ ـ مَثَلًا ـ: إِنَّهَا فِعْلٌ سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ حُكْمِهِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ عَلَى الْخُصُوصِ، فَالْأَصْلُ جَوَازُ فِعْلِهِ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ تَرْكِهِ، إِذْ هُوَ مَعْنَى الْجَائِزِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ جُمْلِيٌّ، فَأَحْرَى أَنْ يَجُوزَ فِعْلُهُ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَيْسَ هُنَا مُخَالَفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَلَا ثَمَّ دَلِيلٌ خَالَفَهُ هَذَا النَّظَرُ، بَلْ حَقِيقَةُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنَّهُ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ عِنْدَ الشَّارِعِ، وَالسُّكُوتُ عِنْدَ الشَّارِعِ لَا يَقْتَضِي مُخَالَفَةً وَلَا مُوَافَقَةً، وَلَا يُعَيِّنُ الشَّارِعُ قَصْدًا مَا دُونَ ضِدِّهِ وَخِلَافِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَالْعَمَلُ بِهِ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ إِذْ لَمْ يَثْبُتُ فِي الشَّرِيعَةِ نَهْيٌ عَنْهُ. وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ هُنَا ـ إِذَا وُجِدَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهُ ـ إِجْمَاعٌ مِنْ كُلِّ سَاكِتٍ عَلَى أَنْ لَا زَائِدَ عَلَى مَا كَانَ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَائِقًا شَرْعًا أَوْ سَائِغًا؛ لَفَعَلُوهُ، فَهُمْ كَانُوا أَحَقَّ بِإِدْرَاكِهِ وَالسَّبْقِ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَذَلِكَ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأَحْدَاثِ مَصْلَحَةٌ أَوْ لَا، وَالثَّانِي لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ، وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ الْحَادِثَةُ آكَدَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَانِ التَّكْلِيفِ أَوْ لَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ [آكَدَ] مَعَ كَوْنِ الْمُحْدَثَةِ زِيَادَةَ تَكْلِيفٍ وَنَقْصُهُ عَنِ الْمُكَلَّفِ أَحْرَى بِالْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ؛ لِمَا يُعْلَمُ مِنْ قُصُورِ الْهِمَمِ وَاسْتِيلَاءِ الْكَسَلِ، وَلِأَنَّهُ خِلَافُ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ فِي تَكْلِيفِ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْعَادَاتِ أَمْرٌ آخَرُ ـ كَمَا سَيَأْتِي وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ ـ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ

تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الظَّاهِرَةُ الْآنَ مُسَاوِيَةً لِلْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ أَوْ أَضْعَفَ مِنْهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ الْأَحْدَاثُ عَبْثًا أَوِ اسْتِدْرَاكًا عَلَى الشَّارِعِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ؛ إِنْ حَصَلَتْ لِلْأَوَّلِينَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْإِحْدَاثِ؛ [فَالْإِحْدَاثُ] إِذًا عَبَثٌ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنَّ يَحْصُلَ لِلْأَوَّلِينَ دُونَ الْآخَرِينَ، فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَشْرِيعًا بَعْدَ الشَّارِعِ بِسَبَبٍ لِلْآخِرِينَ مَا فَاتَ الْأَوَّلِينَ، فَلَمْ يَكْمُلِ الدِّينُ إِذًا دُونَهَا، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْمَأْخَذِ. وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَنَّ تَرْكَ الْأَوَّلِينَ لِأَمْرٍ مَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنُوا فِيهِ وَجْهًا مَعَ احْتِمَالِهِ فِي الْأَدِلَّةِ الْجُمَلِيَّةِ وَوُجُودِ الْمَظَنَّةِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِهِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي " شَرْحِ مَسْأَلَةِ الْعُتْبِيَّةِ ": " الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ ـ يَعْنِي: سُجُودَ الشُّكْرِ ـ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا، إِذْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فَعَلَهُ، وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ، وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا مَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ ". قَالَ: " وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ، بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ: صَحِيحٌ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَتَوَفَّرَ الدَّوَاعِي عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعَ الدِّينِ، وَقَدْ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ ". قَالَ: " وَهَذَا أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ، وَعَلَيْهِ يَأْتِي إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ مِنَ الْخُضَرِ وَالْبُقُولِ، مَعَ وُجُودِ الزَّكَاةِ فِيهَا، لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَا سَقْتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ»، لِأَنَّا نَزَّلْنَا تَرْكَ

نَقْلِ أَخْذِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الزَّكَاةَ مِنْهَا كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا، فَكَذَلِكَ نَزَلَ تَرْكُ نَقْلِ السُّجُودِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا سُجُودَ فِيهَا "، ثُمَّ حَكَى خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامَ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ تَوْجِيهُ مَالِكٍ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بِدْعَةٌ، لَا تَوْجِيهُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ جَرَى بَعْضُهُمْ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ؛ مِنْ حَيْثُ وُجِدَ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ لِلزَّوْجَيْنِ بِإِجَازَةِ التَّحْلِيلِ لِيَتَرَاجَعَا كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ، مَعَ حِرْصِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ عَلَى رُجُوعِهَا إِلَيْهِ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا. وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ، إِذَا اعْتُبِرَ وَضَحَ بِهِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدُّعَاءِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا شَرْعًا أَوْ جَائِزًا؛ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ. وَقَدْ عَلَّلَ الْمُنْكِرُ هَذَا الْمَوْضِعَ بِعِلَلٍ تَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ، وَبَنَى عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مَا يُخَالِفُهُ، وَأَنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ فِي كُلِّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ. أَمَّا أَنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ؛ فَيَمْتَنِعُ؛ لِأَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَنْعِ دُونَ الْإِبَاحَةِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ مِنَ الْجَوَازِ؟ وَإِنْ سَلَّمَنَا لَهُ مَا قَالَ؛ فَهَلْ هُوَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَمْ لَا؟ أَمَّا فِي الْعَادِيَّاتِ

فَمُسَلَّمٌ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْعَادِيَّاتِ، بَلْ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيمَا فِيهِ تَعْبُدٌ: إِنَّهُ مُخْتَلِفٌ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: هَلْ هُوَ عَلَى الْمَنْعِ أَمْ هُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ؟ بَلْ هُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ التَّعَبُدِيَّاتِ إِنَّمَا وَضْعُهَا لِلشَّارِعِ، فَلَا يُقَالُ فِي صَلَاةٍ سَادِسَةٍ ـ مَثَلًا ـ إِنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَلِلْمُكَلَّفِ وَضْعُهَا ـ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ـ لِيَتَعَبَّدَ بِهَا لِلَّهِ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ مُبْتَدَعٍ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ عَلَى الشَّارِعِ. وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْعَادِيَّاتِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ؛ فَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَتَرْكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُ عَلَى تَوَالِي أَزْمِنَتِهِمْ؛ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ نَصٌّ فِي التَّرْكِ، وَإِجْمَاعٌ مِنْ كُلِّ مَنْ تَرَكَ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْإِجْمَاعِ كَنَصِّهِ؛ كَمَا أَشَارَ مَالِكٌ فِي كَلَامِهِ. وَأَيْضًا؛ فَمَا يُعَلِّلُ لَهُ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ: وَقَدْ أَتَى الرَّادُّ بِأَوْجَهٍ مِنْهُ: (أَحَدُهَا): أَنَّ الدُّعَاءَ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ لِيُظْهِرَ وَجْهَ التَّشْرِيعِ فِي الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ مَطْلُوبٌ: وَمَا قَالَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ سُنَّةً بِسَبَبِ الدَّوَامِ وَالْإِظْهَارِ فِي الْجَمَاعَاتِ وَالْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ اتِّفَاقًا مِنَّا وَمِنْهُ، فَانْقَلَبَ إِذًا وَجْهُ التَّشْرِيعِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ إِظْهَارَ التَّشْرِيعِ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى، فَكَانَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ الْمُتَكَلَّمُ فِيهَا أَوْلَى لِلْإِظْهَارِ، وَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ دَلَّ عَلَى تَرْكٍ مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي، فَلَا يُمْكِنُ بَعْدَ زَمَانِهِ فِي تِلْكَ

الْكَيْفِيَّةِ إِلَّا التَّرْكُ. (وَالثَّانِي): أَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ لِيَكُونَ بِاجْتِمَاعِهِمْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ كَانَتْ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَسْرَعَ إِجَابَةً لِدُعَائِهِ مِنْهُ، إِذْ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ بِلَا إِشْكَالٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُهُ فِي الدِّينِ؛ فَلَا يَبْلُغُ رُتْبَتَهُ، فَهُوَ كَانَ أَحَقَّ بِأَنْ يَزِيدَهُمُ الدُّعَاءَ لَهُمْ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ زِيَادَةً إِلَى دُعَائِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ قَصْدَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدُّعَاءِ لَا يَكُونُ بَعْدَ زَمَانِهِ أَبْلَغَ فِي الْبَرَكَةِ مِنَ اجْتِمَاعٍ يَكُونُ فِيهِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَكَانُوا بِالتَّنْبِيهِ لِهَذِهِ الْمَنَقَبَةِ أَوْلَى. (وَالثَّالِثُ): قَصْدُ التَّعْلِيمِ لِلدُّعَاءِ لِيَأْخُذُوا مِنْ دُعَائِهِ مَا يَدْعُونَ بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ لِئَلَّا يَدْعُوَا بِمَا لَا يَجُوزُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا: وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَنْهَضُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْمُعَلِّمَ الْأَوَّلَ، وَمِنْهُ تَلَقِّينَا أَلْفَاظَ الْأَدْعِيَةِ وَمَعَانِيهَا، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْهَلُ قَدْرَ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَقُولُ: رَبَّ الْعِبَادِ مَا لَنَا وَمَا لَكَ ... أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ لَا أَبَا لَكَ وَقَالَ الْآخَرُ: لَاهُمَّ إِنْ كُنْتَ الَّذِي بِعَهْدِي ... وَلَمْ تُغَيِّرْكَ الْأُمُورُ بَعْدِي وَقَالَ الْآخَرُ:

أَبْنِيَّ لَيْتِي لَا أُحِبُّكُمْ ... وَجَدَ الْإِلَهُ بِكُمْ كَمَا أَجِدْ وَهِيَ أَلْفَاظٌ يَفْتَقِرُ أَصْحَابُهَا إِلَى التَّعْلِيمِ، وَكَانُوا أَقْرَبَ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ تُعَامِلُ الْأَصْنَامَ مُعَامَلَةَ الرَّبِّ الْوَاحِدِ سُبْحَانَهُ وَلَا تُنَزِّهُهُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَلَمْ يُشْرِعْ لَهُمْ دُعَاءً بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا لِيُعَلِّمَهُمْ أَوْ يُعِينَهُمْ عَلَى التَّعَلُّمِ إِذَا صَلَّوْا مَعَهُ، بَلْ عَلَّمَ فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ إِثْرَ الصَّلَاةِ حِينَ بَدَا لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِذْ ذَاكَ إِلَى النَّظَرِ لِلْجَمَاعَةِ، وَهُوَ كَانَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِذَلِكَ. (وَالرَّابِعُ): أَنَّ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدُّعَاءِ تَعَاوُنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ. وَهَذَا الِاجْتِمَاعُ ضَعِيفٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وَكَذَلِكَ فَعَلَ، وَلَوْ كَانَ الِاجْتِمَاعُ لِلدُّعَاءِ إِثْرَ الصَّلَاةِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ لَكَانَ أَوَّلَ سَابِقٍ إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَصْلًا، وَلَا أَحَدٌ بَعْدَهُ، حَتَّى حَدَثَ مَا حَدَثَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بِرٌّ وَلَا تَقْوَى. (وَالْخَامِسُ): أَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَرُبَّمَا لَحَنَ، فَيَكُونُ اللَّحْنُ سَبَبَ عَدَمِ الْإِجَابَةِ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ فِي ذَلِكَ حِكَايَةٌ شِعْرِيَّةٌ لَا فِقْهِيَّةٌ. وَهَذَا الِاجْتِمَاعُ إِلَى اللَّعِبِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الْجَدِّ، وَأَقْرَبُ مَا فِيهِ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ لَا يُلْحِنَ؛ كَمَا يَشْتَرِطُ الْإِخْلَاصَ؛

فصل الرد على قوله عمل السلف بما لم يعمل به من قبلهم

وَصِدْقَ التَّوْجِيهِ؛ وَعَزْمَ الْمَسْأَلَةِ. . . . وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ. وَتَعَلُّمَ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لِإِصْلَاحِ الْأَلْفَاظِ فِي الدُّعَاءِ ـ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَعْرَفَ بِهِ ـ هُوَ كَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ مُسْتَحَبًّا؛ فَالْقِرَاءَةُ وَاجِبَةٌ، وَالْفِقْهُ فِي الصَّلَاةِ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ تَعْلِيمُ الدُّعَاءِ إِثْرَ الصَّلَاةِ مَطْلُوبًا؛ فَتَعْلِيمُ فِقْهِ الصَّلَاةِ آكَدُ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ وَظَائِفِ آثَارِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ بِمُوجِبِهِ فِي الْمُحَرَّفِ الْمُتَعَارَفِ؛ فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَجْتَثُّ أَصْلَهُ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا أَحَقَّ بِالسَّبْقِ إِلَى فَضْلِهِ؛ لِجَمِيعِ مَا ذَكَرَ فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِيهَا: " أَتَرَى النَّاسَ الْيَوْمَ كَانُوا أَرْغَبَ فِي الْخَيْرِ مِمَّنْ مَضَى؟ "، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى لِلْإِحْدَاثِ ـ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ ـ كَانَ أَتَمَّ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ؛ فَكُلُّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ إِثْرَ الصَّلَاةِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ مِنْهَا جُمْلَةً كَافِيَةً وَلَمْ يُعَلِّمْ مِنْهَا شَيْئًا إِثْرَ الصَّلَاةِ، وَلَا تَرَكَهُمْ دُونَ تَعْلِيمٍ لِيَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، أَوْ لِيَسْتَغْنُوا بِدُعَائِهِ عَنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ، وَمَعَ أَنَّ الْحَاضِرِينَ لِلدُّعَاءِ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ شَيْءٍ، وَإِنْ حَصَلَ فَلِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ دُونَ مَنْ بَعُدَ. [فَصْلٌ الرَّدُّ عَلَى قَوْلِهِ عَمِلَ السَّلَفُ بِمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ] فَصْلٌ ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُسْتَنْصِرُ بِالْقِيَاسِ، فَقَالَ: وَإِنْ صَحَّ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ

يَعْمَلُوا بِهِ؛ فَقَدَ عَمِلَ السَّلَفُ بِمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِمَّا هُوَ خَيْرٌ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ، فَكَذَلِكَ تَحْدُثُ لَهُمْ مُرَغِّبَاتٌ فِي الْخَيْرِ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُتُورِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ غَيْرُ جَارٍ عَلَى الْأُصُولِ: أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةِ الْعُتْبِيَّةِ، فَذَلِكَ مِنْ بَابِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ. وَأَمَا ثَانِيًا: فَإِنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى نَصٍّ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ مِنْ طَرِيقٍ مَرْضِيٍّ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَا ثَالِثًا: فَإِنَّ كَلَامَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرْعٌ اجْتِهَادِيٌّ جَاءَ عَنْ رَجُلٍ مُجْتَهِدٍ يُمْكِنُ أَنْ يُخْطِئَ فِيهِ كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُصِيبَ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْأَصْلِ أَنْ يَأْتِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا لَيْسَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَأَمَا رَابِعًا: فَإِنَّهُ قِيَاسُ بِغَيْرِ مَعْنًى جَامِعٍ، أَوْ بِمَعْنَى جَامِعٍ غَيْرِ طَرْدِيٍّ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالْبِدَعِ. وَقَوْلُهُ: " إِنَّ السَّلَفَ عَمِلُوا بِمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ "؛ حَاشَ لِلَّهِ أَنَّ يَكُونُوا مِمَّنْ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. وَقَوْلُهُ: " مِمَّا هُوَ خَيْرٌ "؛ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّلَفِ فَمَا عَمِلُوا خَيْرٌ، وَأَمَّا فَرْعُهُ الْمَقِيسُ [عَلَيْهِ]؛ فَكَوْنُهُ خَيْرًا دَعْوَى؛ لِأَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ خَيْرًا أَوْ شَرًّا لَا

يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَمَّا الْعَقْلُ؛ فَبِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ، فَلْيَثْبُتْ أَوَّلًا لِأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ خَيْرٌ شَرْعًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى قَوْلِهِ: " تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ "؛ فَمِمَّا تَقَدَّمَ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ إِحْدَاثَ الْعِبَادَاتِ جَائِزٌ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا كَلَامُ عُمَرَ ـ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ ـ فِي مَعْنًى عَادِيٍّ يَخْتَلِفُ فِيهِ مَنَاطُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ كَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، أَوِ الظِّنَّةِ فِي تَوْجِيهِ الْأَيْمَانِ؛ دُونَ مُجَرَّدِ الدَّعَاوَى. فَيَقُولُ: إِنِ الْأَوَّلِينَ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْأَحْكَامِ؛ لِصِحَّةِ الْأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ وَالْفَضِيلَةِ، فَلَمَّا حَدَثَتْ أَضْدَادُهَا؛ اخْتَلَفَ الْمَنَاطُ، فَوَجَبَ اخْتِلَافُ الْحُكْمِ، وَهُوَ حُكْمٌ رَادِعٌ أَهْلَ الْبَاطِلِ عَنْ بَاطِلِهِمْ. فَأَثَرُ هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرٌ مُنَاسِبٌ؛ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ إِذَا وَقَعَ فِيهِمُ الْفُتُورُ عَنِ الْفَرَائِضِ فَضْلًا عَنِ النَّوَافِلِ ـ وَهِيَ مَا هِيَ مِنَ الْقِلَّةِ وَالسُّهُولَةِ ـ؛ فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ إِذَا زِيدَ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءُ أُخَرُ يَرْغَبُونَ فِيهَا وَيُرَخِّصُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَظَائِفَ تَتَكَاثَرُ، حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَى أَعْظَمِ مِنَ الْكَسَلِ الْأَوَّلِ، وَإِلَى تَرْكِ الْجَمِيعِ، فَإِنْ حَدَثَ لِلْعَامِلِ بِالْبِدْعَةِ هُوَ فِي بِدْعَتِهِ أَوْ لِمَنْ شَايَعَهُ فِيهَا؛ فَلَا بُدَّ مِنْ كَسَلِهِ مِمَّا هُوَ أَوْلَى. فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ سَاهِرَ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ الْمُحْدَثَةِ لَا يَأْتِيهِ الصُّبْحُ إِلَّا وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ فِي غَايَةِ الْكَسَلِ، فَيُخِلُّ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ،

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُحْدَثَاتِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَائِدَةً عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا بِالْإِبْطَالِ أَوِ الْإِخْلَالِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ مَا مِنْ بِدْعَةٍ تُحْدَثُ إِلَّا وَيَمُوتُ مِنَ السُّنَّةِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مُخَالِفٌ لِأَصْلٍ شَرْعِيٍّ ـ وَهُوَ طَلَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّهُولَةَ وَالرِّفْقَ وَالتَّيْسِيرَ وَعَدَمَ التَّشْدِيدِ ـ، وَزِيَادَةُ وَظِيفَةٍ لَمْ تُشْرَعْ فَتَظْهَرُ وَيُعْمَلُ بِهَا دَائِمًا فِي مَوَاطِنِ السُّنَنِ؛ فَهُوَ تَشْدِيدٌ بِلَا شَكٍّ. وَإِنْ سَلَّمْنَا مَا قَالَ؛ فَقَدْ وَجَدَ كُلُّ مُبْتَدَعٍ مِنَ الْعَامَّةِ السَّبِيلَ إِلَى إِحْدَاثِ الْبِدَعِ، وَأَخْذِ هَذَا الْكَلَامِ بِيَدِهِ حُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ مَا يُحْدِثُهُ كَائِنًا مَا كَانَ، وَهُوَ مَرْمًى بَعِيدٌ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ إِثْرَ الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ [هَذَا] مَحَلَّ النِّزَاعِ، بَلْ جَعَلَ الْأَدِلَّةَ شَامِلَةً لِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ وَعَمَلُ النَّاسِ وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَمَا قَدْ ظَهَرَ "، قَالَ: " وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الْإِمَامَ فِي الصَّلَوَاتِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَخُصَّ نَفْسَهُ بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ، إِذْ قَدْ جَاءَ مِنْ سُنَّتِهِ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَؤُمَّ قَوْمًا إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَلَا يَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ». فَتَأَمَّلُوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ! فَإِنَّ عَامَّةَ النُّصُوصِ فِيمَا سُمِعَ مِنْ أَدْعِيَتِهِ

فصل من البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة أم غير بدعة

فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ إِنَّمَا كَانَ دُعَاءً لِنَفْسِهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ، اللَّهَ نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ. وَإِنَّمَا حَمَلَ النَّاسُ الْحَدِيثَ عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ مِنَ السُّجُودِ وَغَيْرِهِ، لَا فِيمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ هَذَا الْمُتَأَوِّلُ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ عِنْدَ مَالِكٍ؛ أَجَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ الْمَأْمُومِينَ، ذَكَرَهُ فِي " النَّوَادِرِ ". وَلَمَّا اعْتَرَضَهُ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ وَكَلَامُ السَّلَفِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ أَخَذَ يَتَأَوَّلُ وَيُوَجِّهُ كَلَامَهُمْ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمُرْتَبِكَةِ، وَوَقَعَ لَهُ فِي [ذَلِكَ] كَلَامٌ عَلَى غَيْرِ تَأَمُّلٍ لَا يَسْلَمُ ظَاهِرُهُ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالتَّدَافُعِ لِوُضُوحِ أَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي نَقَلَهَا، لَكِنْ تَرَكْتُ هُنَا اسْتِيفَاءَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا لِطُولِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ. [فَصْلٌ مِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ كُلُّ عَمَلٍ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَهُوَ بِدْعَةٌ أَمْ غَيْرُ بِدْعَةٍ] فَصْلٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ كُلُّ عَمَلٍ اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ: أَهُوَ بِدْعَةٌ فَيُنْهَى عَنْهُ؟ أَمْ غَيْرُ بِدْعَةٍ فَيُعْمَلُ بِهِ؟ فَإِنَّا إِذَا اخْتَبَرْنَاهُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ وَجَدْنَاهُ مِنَ الْمُشْتَبِهَاتِ الَّتِي قَدْ نُدِبْنَا إِلَى تَرْكِهَا؛ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ، وَالْمَحْظُورُ هُنَا هُوَ الْعَمَلُ بِالْبِدْعَةِ، فَإِذَا؛ الْعَامِلُ بِهِ لَا يَقْطَعُ أَنَّهُ عَمِلَ بِبِدْعَةٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ أَنَّهُ عَمِلَ بِسُنَّةٍ، فَصَارَ مِنْ جِهَةِ هَذَا التَّرَدُّدِ غَيْرَ عَامِلٍ بِبِدْعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا: إِنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْعَمَلِ بِهَا جُمْلَةً. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ إِنَّمَا هُوَ حِمَايَةٌ أَنْ يَقَعَ فِي

ذَلِكَ الْمَمْنُوعِ الْوَاقِعِ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ: فَإِذَا اخْتَلَطَتِ الْمَيْتَةُ بِالذَّكِيَّةِ؛ نَهَيْنَاهُ عَنِ الْإِقْدَامِ، فَإِنْ أَقْدَمَ؛ أَمْكَنَ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ آكِلًا لِلْمَيْتَةِ فِي الِاشْتِبَاهِ، فَالنَّهْيُ الْأَخَفُّ إِذًا مُنْصَرِفٌ نَحْوَ الْمَيْتَةِ فِي الِاشْتِبَاهِ؛ كَمَا انْصَرَفَ إِلَيْهَا النَّهْيُ الْأَشَدُّ فِي التَّحَقُّقِ. وَكَذَلِكَ اخْتِلَاطُ الرَّضِيعَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ؛ النَّهْيُ فِي الِاشْتِبَاهِ مُنْصَرِفٌ إِلَى الرَّضِيعَةِ؛ كَمَا انْصَرَفَ إِلَيْهَا فِي التَّحَقُّقِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُشْتَبِهَاتِ؛ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ نَهْيُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُشْتَبَهِ إِلَى خُصُوصِ الْمَمْنُوعِ الْمُشْتَبَهِ. فَإِذًا؛ الْفِعْلُ الدَّائِرُ بَيْنَ كَوْنِهِ سُنَّةً أَوْ بِدْعَةً؛ إِذَا نُهِيَ عَنْهُ فِي بَابِ الِاشْتِبَاهِ؛ نُهِيَ عَنِ الْبِدْعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَمَنْ أَقْدَمَ عَنِ الْعَمَلِ، فَقَدْ أَقْدَمَ عَلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ فِي بَابِ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ بِدْعَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْعَامِلِ بِالْبِدْعَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْبِدْعَةَ الْإِضَافِيَّةَ هِيَ الْوَاقِعَةُ ذَاتُ وَجْهَيْنِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقِسْمَ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ. وَلِهَذَا النَّوْعِ أَمْثِلَةٌ: (أَحَدُهُمَا): إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي أَنَّ الْعَمَلَ الْفُلَانِيَّ مَشْرُوعٌ يُتَعَبَّدُ بِهِ أَوْ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يُتَعَبَّدُ بِهِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، أَوْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا بِنَسْخٍ أَوْ تَرْجِيحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ فَرْضَهُ التَّوَقُّفَ، فَلَوْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى دَلِيلِ التَّشْرِيعِ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ؛ لَكَانَ عَامِلًا بِمُتَشَابِهٍ؛ لِإِمْكَانِ صِحَّةِ الدَّلِيلِ بِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ،

فَالصَّوَابُ الْوُقُوفُ عَنِ الْحُكْمِ رَأْسًا، وَهُوَ الْفَرْضُ فِي حَقِّهِ. (وَالثَّانِي): إِذَا تَعَارَضَتِ الْأَقْوَالُ عَلَى الْمُقَلِّدِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَكُونُ الْعَمَلُ بِدْعَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْأَرْجَحُ مِنَ الْعَالِمِينَ بِأَعْلَمِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ فَحَقُّهُ الْوُقُوفُ وَالسُّؤَالُ عَنْهُمَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الْأَرْجَحُ، فَيَمِيلُ إِلَى تَقْلِيدِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى تَقْلِيدِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ؛ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْعَمَلِ بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، فَالْمِثَالَانِ فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ. (وَالثَّالِثُ): أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [كَانُوا] يَتَبَرَّكُونَ بِأَشْيَاءَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ. . . الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: " كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ» ". وَعَنِ الْمِسْوَرِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فِي حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ: «وَمَا انْتَخَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً؛ إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ». وَخَرَّجَ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي التَّبَرُّكِ بِشِعْرِهِ وَثَوْبِهِ وَغَيْرِهِمَا، حَتَّى

أَنَّهُ مَسَّ بِإِصْبَعِهِ أَحَدَهُمْ بِيَدِهِ، فَلَمْ يَحْلِقْ ذَلِكَ الشَّعْرَ الَّذِي مَسَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى مَاتَ. وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ، حَتَّى شَرِبَ دَمَ حِجَامَتِهِ. . . إِلَى أَشْيَاءَ كَهَذَا كَثِيرَةٍ. فَالظَّاهِرُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقٍّ مَنْ ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ وَاتِّبَاعُهُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يُتَبَرَّكَ بِفَضْلِ وَضُوئِهِ، وَيُتَدَلَّكَ بِنُخَامَتِهِ، وَيُسْتَشْفَى بِآثَارِهِ كُلِّهَا، وَيُرْجَى نَحْوُ مِمَّا كَانَ فِي آثَارِ الْمَتْبُوعِ الْأَعْظَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِلَّا أَنَّهُ عَارَضَنَا فِي ذَلِكَ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي مَتْنِهِ، مُشْكِلٌ فِي تَنْزِيلِهِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ لَمْ يَقَعْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَلَّفَهُ، إِذْ لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ فِي الْأُمَّةِ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، فَهُوَ كَانَ خَلِيفَتَهُ، وَلَمْ يُفْعَلْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، وَهُوَ كَانَ فِي الْأُمَّةِ بَعْدَهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، ثُمَّ سَائِرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَا أَحَدَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِي الْأُمَّةِ، ثُمَّ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ مَعْرُوفٍ أَنَّ مُتَبَرِّكًا تَبَرَّكَ بِهِ عَلَى أَحَدٍ تِلْكَ الْوُجُوهِ أَوْ نَحْوِهَا، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِالْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالسِّيَرِ الَّتِي اتَّبَعُوا فِيهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ إِذًا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.

وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي وَجْهِ تَرْكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا): أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ الِاخْتِصَاصَ، وَأَنَّ مَرْتَبَةَ النُّبُوَّةِ يَسَعُ فِيهَا ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِلْقَطْعِ بِوُجُودِ مَا الْتَمَسُوا مِنَ الْبَرْكَةِ وَالْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نُورًا كُلُّهُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، فَمَنِ الْتَمَسَ مِنْهُ نُورًا؛ وَجَدَهُ عَلَى أَيِّ جِهَةٍ الْتَمَسَهُ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ؛ فَإِنَّهُ ـ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ نُورِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ ـ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَهُ عَلَى حَالٍ تُوَازِيهِ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَلَا يُقَارِبُهُ فَصَارَ هَذَا النَّوْعُ مُخْتَصًّا بِهِ؛ كَاخْتِصَاصِهِ بِنِكَاحِ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَإِحْلَالِ بُضْعِ الْوَاهِبَةِ نَفْسَهَا لَهُ، وَعَدَمِ وُجُوبِ الْقَسَمِ عَلَى الزَّوْجَاتِ. . . وَشِبْهِ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ؛ لَا يَصِحُّ لِمَنْ بَعْدَهُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي التَّبَرُّكِ عَلَى أَحَدِ تِلْكَ الْوُجُوهِ وَنَحْوِهَا، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِ كَانَ اقْتِدَاؤُهُ بِدْعَةً، كَمَا كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِدْعَةً. (الثَّانِي): أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا الِاخْتِصَاصَ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ؛ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً؛ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي اتِّبَاعِ الْآثَارِ وَالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا تَقْتَصِرُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدٍّ، بَلْ تَتَجَاوَزُ فِيهِ الْحُدُودَ، وَتُبَالِغُ بِجَهْلِهَا فِي الْتِمَاسِ الْبَرَكَةِ، حَتَّى يُدَاخِلَهَا لِلْمُتَبَرَّكِ بِهِ تَعْظِيمٌ يَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْحَدِّ، فَرُبَّمَا اعْتَقَدَ فِي الْمُتَبَرَّكِ بِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَهَذَا التَّبَرُّكُ هُوَ أَصْلُ الْعِبَادَةِ، وَلِأَجَلِهِ قَطَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّجَرَةَ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هُوَ كَانَ أَصْلَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ ـ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ ـ، فَخَافَ عُمَرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنْ يَتَمَادَى الْحَالُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ حَتَّى تُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ يَتَّفِقُ عِنْدَ التَّوَغُّلِ

فِي التَّعْظِيمِ. وَلَقَدْ حَكَى الْفَرْغَانِيُّ مُذَيِّلُ " تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ " عَنِ الْحَلَّاجِ: أَنَّ أَصْحَابَهُ بَالَغُوا فِي التَّبَرُّكِ بِهِ، حَتَّى كَانُوا يَتَمَسَّحُونَ بِبَوْلِهِ، وَيَتَبَخَّرُونَ بِعَذْرَتِهِ، حَتَّى ادَّعَوْا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ؛ وَإِنْ ظَهَرَ لَهَا فِي الظَّاهِرِ آثَارٌ؛ فَقَدْ يَخْفَى أَمْرُهَا؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرٍ بَاطِنٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَرُبَّمَا ادُّعِيَتِ الْوِلَايَةُ لِمَنْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ، أَوِ ادَّعَاهَا هُوَ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَظْهَرَ خَارِقَةً مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ هِيَ مِنْ بَابِ الشَّعْوَذَةِ لَا مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ، أَوْ مِنْ بَابِ السِّحْرِ، أَوِ الْخَوَاصِّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْجُمْهُورُ لَا يَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالسِّحْرِ، فَيُعَظِّمُونَ مَنْ لَيْسَ بِعَظِيمٍ، وَيَقْتَدُونَ بِمَنْ لَا قُدْوَةَ فِيهِ، وَهُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا تَقَدَّمَ ـ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ ـ؛ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ. وَقَدْ يَظْهَرُ بِأَوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَرْجَحُ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ الْعِلْمِيَّةِ: أَنَّ كُلَّ مَزِيَّةٍ أُعْطِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ لِأُمَّتِهِ أُنْمُوذَجًا مِنْهَا، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. إِلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ رَاجِحٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ إِطْبَاقُهُمْ عَلَى التَّرْكِ، إِذْ لَوْ كَانَ اعْتِقَادُهُمُ التَّشْرِيعَ؛ لَعَمِلَ بَعْضُهُمْ بَعْدَهُ، أَوْ عَمِلُوا بِهِ ـ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ: إِمَّا وُقُوفًا مَعَ أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَإِمَّا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلِامْتِنَاعِ.

فصل من البدع الإضافية إخراج العبادة عن حدها الشرعي

وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ فِي " جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ؛ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ أَوْ تَنَخَّمَ؛ ابْتَدَرَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَضُوءَهُ وَنُخَامَتَهُ، فَشَرِبُوهُ، وَمَسَحُوا بِهِ جُلُودَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ؛ سَأَلَهُمْ: " لِمَ تَفْعَلُونَ هَذَا؟ "، قَالُوا: نَلْتَمِسُ الطُّهُورَ وَالْبَرَكَةَ بِذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ فَلْيَصْدُقِ الْحَدِيثَ، وَلْيُؤَدِّ الْأَمَانَةَ، وَلَا يُؤْذِ جَارَهُ». فَإِنْ صَحَّ هَذَا النَّقْلُ؛ فَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْأَوْلَى تَرْكَهُ، وَأَنْ يَتَحَرَّى مَا هُوَ الْآكَدُ وَالْأَحْرَى مِنْ وَظَائِفِ التَّكْلِيفِ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ. وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الرُّقْيَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا، أَوْ دُعَاءِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ سَيَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ. فَقَدْ صَارَتِ الْمَسْأَلَةُ مَنْ أَصْلِهَا دَائِرَةً بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وَأَنْ تَكُونَ بِدْعَةً، فَدَخَلَتْ تَحْتَ حُكْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [فَصْلٌ مِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ إِخْرَاجُ الْعِبَادَةِ عَنْ حَدِّهَا الشَّرْعِيِّ] فَصْلٌ وَمِنَ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ الَّتِي تَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ: أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْعِبَادَةِ

مَشْرُوعًا؛ إِلَّا أَنَّهَا تُخْرَجُ عَنْ أَصْلِ شَرْعِيَّتِهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ تَوَهُّمًا أَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا تَحْتَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَيَّدَ إِطْلَاقُهَا بِالرَّأْيِ، أَوْ يُطْلَقَ تَقْيِيدُهَا، وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّهَا الَّذِي حُدَّ لَهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الصَّوْمَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؛ لَمْ يَخُصَّهُ الشَّارِعُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا حَدٍّ فِيهِ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ، مَا عَدَّا مَا نُهِيَ عَنْ صِيَامِهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَالْعِيدَيْنِ، وَنُدِبَ إِلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ بِقَوْلٍ، فَإِذَا خَصَّ مِنْهُ يَوْمًا مِنَ الْجُمْعَةِ بِعَيْنِهِ، أَوْ أَيَّامًا مِنَ الشَّهْرِ بِأَعْيَانِهَا ـ لَا مِنْ جِهَةِ مَا عَيَّنَهُ الشَّارِعُ ـ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ بِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ؛ كَيَوْمِ الْأَرْبِعَاءَ مَثَلًا فِي الْجُمْعَةِ، وَالسَّابِعِ وَالثَّامِنِ فِي الشَّهْرِ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ بِحَيْثُ لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ وَجْهًا بِعَيْنِهِ مِمَّا لَا يَنْثَنِي عَنْهُ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: لِمَ خَصَّصَتْ تِلْكَ الْأَيَّامَ دُونَ غَيْرِهَا؟ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِذَلِكَ حُجَّةٌ غَيْرَ التَّصْمِيمِ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّ الشَّيْخَ الْفُلَانِيَّ مَاتَ فِيهِ. . . أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ رَأْيٌ مَحْضٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، ضَاهَى بِهِ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ أَيَّامًا بِأَعْيَانِهَا دُونَ غَيْرِهَا، فَصَارَ التَّخْصِيصُ مِنَ الْمُكَلَّفِ بِدْعَةً، إِذْ هِيَ تَشْرِيعٌ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ. وَمِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ لَهَا تَخْصِيصًا؛ كَتَخْصِيصِ الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الرَّكَعَاتِ، أَوْ بِصَدَقَةِ كَذَا وَكَذَا، أَوِ اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ بِقِيَامِ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ، أَوْ بِخَتْمِ الْقُرْآنِ فِيهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ وَالْعَمَلَ بِهِ؛ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِحُكْمِ الْوِفَاقِ، أَوْ بِقَصْدٍ يَقْصِدُ مِثْلَهُ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالْفَرَاغِ وَالنَّشَاطِ؛ كَانَ تَشْرِيعًا زَائِدًا.

وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ: إِنَّ هَذَا الزَّمَانَ ثَبَتَ فَضْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَحْسُنُ فِيهِ إِيقَاعُ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا الْحَسَنُ؛ هَلْ ثَبَتَ لَهُ أَصْلٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ ثَبَتَ فَمَسْأَلَتُنَا؛ كَمَا ثَبَتَ الْفَضْلُ فِي قِيَامِ لَيَالِي رَمَضَانَ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصِيَامِ الْاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ؛ فَمَا مُسْتَنَدُكَ فِيهِ وَالْعَقْلُ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، وَلَا شَرْعَ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ؟ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ ابْتِدَاعٌ فِي التَّخْصِيصِ؛ كَإِحْدَاثِ الْخُطَبِ، وَتَحَرِّي خَتْمِ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ. وَمِنْ ذَلِكَ التَّحَدُّثُ مَعَ الْعَوَامِّ بِمَا لَا تَفْهَمُهُ وَلَا تَعْقِلُ مَغْزَاهُ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ وَضْعِ الْحِكْمَةِ غَيْرَ مَوْضِعِهَا، فَسَامِعُهَا؛ إِمَّا أَنْ يَفْهَمَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَهُوَ الْغَالِبُ، وَهُوَ فِتْنَةٌ تُؤَدِّي إِلَى التَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، وَإِلَى الْعَمَلِ بِالْبَاطِلِ، وَإِمَّا لَا يَفْهَمُ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ أَسْلَمُ، وَلَكِنَّ الْمُحْدِثَ لَمْ يُعْطِ الْحِكْمَةَ حَقَّهَا مِنَ الصَّوْنِ، بَلْ صَارَ التَّحَدُّثُ بِهَا كَالْعَابِثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنْ أَلْقَاهَا لِمَنْ لَا يَعْقِلُهَا فِي مَعْرَضِ الِانْتِفَاعِ بَعْدَ تَعَقُّلِهَا؛ كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، فَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ، قَالُوا: وَهِيَ صِعَابُ الْمَسَائِلِ، أَوْ شِرَارُ

الْمَسَائِلِ». وَفِي التِّرْمِذِيِّ ـ أَوْ غَيْرِهِ ـ: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " مَا صَنَعْتَ فِي رَأْسِ الْعِلْمِ؟ " قَالَ: وَمَا رَأْسُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: " هَلْ عَرَفْتَ الرَّبَّ؟ " قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ فِي حَقِّهِ؟ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ فَأَحْكِمْ مَا هُنَالِكَ، ثُمَّ تَعَالَ أُعَلِّمْكَ مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ». وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، لَا تَعَلَّمِ الْغَرَائِبُ إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ

الْأُصُولِ، وَإِلَّا دَخَلَتِ الْفِتْنَةُ. وَقَدْ قَالُوا فِي الْعَالِمِ الرَّبَّانِيِّ: إِنَّهُ الَّذِي يُرَبِّي بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ شَاهِدُهَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَشْهُورٌ، وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ، فَقَالَ: بَابُ: مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا. ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ: حَدِّثُوا (النَّاسَ) بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ مُعَاذٍ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ إِلَّا عِنْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِمَا خَشِيَ مِنْ تَنْزِيلِهِ غَيْرَ مَنْزِلَتِهِ، وَعَلَّمَهُ مُعَاذًا لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)؛ قَالَ: " مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ؛ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ". قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَذَلِكَ أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ غَيْرَ تَأْوِيلِهِ، وَيَحْمِلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ. وَخَرَّجَ شُعْبَةُ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ فِي عِلْمِكَ حَقًّا كَمَا أَنَّ عَلَيْكَ فِي مَالِكِ حَقًّا، لَا تُحَدِّثْ بِالْعِلْمِ غَيْرَ أَهْلِهِ فَتَجْهَلُ، وَلَا تَمْنَعِ الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَتَأْثَمُ، وَلَا تُحَدِّثْ بِالْحِكْمَةِ عِنْدَ السُّفَهَاءِ فَيُكَذِّبُوكَ، وَلَا

تُحَدِّثْ بِالْبَاطِلِ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ فَيَمْقَتُوكَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُتُبِهِمْ، وَبَسَطُوهُ بَسْطًا شَافِيًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا نَبَّهَنَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا يُقَدِّرُ قَدَرَ هَذَا الْمَوْضِعِ يَزِلُّ فِيهِ فَيُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي فَضْلِ السُّنَّةِ الَّتِي يَكُونُ الْعَمَلُ بِهَا ذَرِيعَةً إِلَى الْبِدْعَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا عُمِلَ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَمِنْهُ تَكْرَارُ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي التِّلَاوَةِ أَوْ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ؛ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ لَمْ تُشْرَعْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَلَا أَنْ يُخَصَّ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ؛ لَا فِي صَلَاةٍ، وَلَا فِي غَيْرِهَا، فَصَارَ الْمُخَصِّصُ لَهَا عَامِلًا بِرَأْيِهِ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ. وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ مُصْعَبٍ، قَالَ: سُئِلَ سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ يُكْثِرُ قِرَاءَةَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]؛ لَا يَقْرَأُ غَيْرَهَا كَمَا يَقْرَؤُهَا؟ فَكَرِهَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَنْتُمْ مُتَّبِعُونَ، فَاتَّبِعُوا الْأَوَّلِينَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ نَحْوُ هَذَا، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِيُقْرَأَ، وَلَا يُخَصُّ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ. وَخَرَّجَ أَيْضًا ـ وَهُوَ فِي " الْعُتْبِيَّةِ " مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ ـ عَنْ مَالِكٍ (رَحِمَهُ اللَّهُ) أَنَّهُ سُئِلَ عَلَى قِرَاءَةٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، مِرَارًا فِي الرَّكْعَةِ

الْوَاحِدَةِ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي أَحْدَثُوا. وَمَحْمَلُ هَذَا عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ مِنْ بَابِ الذَّرِيعَةِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ عَنِ السَّلَفِ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ـ كَمَا فِي الصَّحِيحِ ـ وَهُوَ صَحِيحٌ؛ فَتَأَمَّلْهُ فِي الشَّرْحِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّكْرَارَ كَذَلِكَ عَمَلٌ مُحْدَثٌ فِي مَشْرُوعِ الْأَصْلِ؛ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي الْمَسْجِدِ لِلدُّعَاءِ تَشَبُّهًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ. وَنَقْلُ الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ مِنَ الْمَنَارِ وَجَعْلُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ. فَفِي " سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ "، وَسُئِلَ عَنِ الْقُرَى الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا إِمَامٌ إِذَا صَلَّى بِهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمُ الْجُمْعَةَ: أَيُخْطَبُ بِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ! لَا تَكُونُ الْجُمْعَةُ إِلَّا بِخِطْبَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: أَفَيُؤَذِّنُ قُدَّامَهُ؟ قَالَ: لَا، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الْأَذَانُ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ فِي الْجُمْعَةِ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ. قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَإِنَّمَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَخَرَجَ؛ رَقَى الْمِنْبَرَ، فَإِذَا رَآهُ الْمُؤَذِّنُونُ ـ وَكَانُوا ثَلَاثَةً ـ؛ قَامُوا، وَأَذَّنُوا فِي الْمَشْرَفَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ كَمَا يُؤَذَّنُ فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ، فَإِذَا فَرَغُوا؛ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ»، ثُمَّ تَلَاهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، فَزَادَهُ عُثْمَانُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) ـ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ ـ أَذَانًا بِالزَّوْرَاءِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، يُؤْذَنُ النَّاسُ فِيهِ بِذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ حَضَرَتْ، وَتَرَكَ الْأَذَانَ فِي الْمَشْرَفَةِ بَعْدَ جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى زَمَانِ هِشَامٍ، فَنَقَلَ الْأَذَانَ الَّذِي كَانَ بِالزَّوْرَاءِ إِلَى الْمَشْرَفَةِ، وَنَقَلَ الْأَذَانَ الَّذِي كَانَ بِالْمَشْرَفَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنَّ يُؤَذِّنُوا صَفًّا، وَتَلَاهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهُوَ بِدْعَةٌ. قَالَ: وَالَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ هُوَ السُّنَّةُ. وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ مَا كَانَ فِعْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِعْلَ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ، وَكَأَنَّهُ نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ، وَذَكَرَ قِصَّةَ هِشَامٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ السَّنَّةُ، وَقَدْ حَدَّثَنِي أَسَدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " «أَفْضَلُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ". . وَمَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَنَّ الْأَذَانَ عِنْدَ صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَانَ بَاقِيًا فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُوَافِقٌ لِمَا نَقَلَهُ أَرْبَابُ النَّقْلِ الصَّحِيحِ،

وَأَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ إِلَّا الْأَذَانَ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَصَارَ إِذًا نَقْلُ هِشَامٍ الْأَذَانَ الْمَشْرُوعَ فِي الْمَنَارِ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِدْعَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَشْرُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَذَلِكَ أَذَانُ الزَّوْرَاءِ مُحْدَثٌ أَيْضًا، بَلْ هُوَ مُحْدَثٌ مِنْ أَصْلِهِ، غَيْرُ مَنْقُولٍ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَالَّذِي يُقَالُ هُنَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي أَذَانِ هِشَامٍ، بَلْ هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَذَانَ الزَّوْرَاءِ وُضِعَ هُنَالِكَ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْإِعْلَامِ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَجَعَلَهُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُسْمَعَ إِذَا وُضِعَ بِالْمَسْجِدِ كَمَا كَانَ فِي زَمَانِ مَنْ قَبْلَهُ، فَصَارَتْ كَائِنَةً أُخْرَى لَمْ تَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَاجْتَهَدَ لَهَا كَسَائِرِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَحِينَ كَانَ مَقْصُودَ الْأَذَانِ الْإِعْلَامُ؛ فَهُوَ بَاقٍ كَمَا كَانَ، فَلَيْسَ وَضْعُهُ هُنَالِكَ بِمُنَافٍ، إِذْ لَمْ تُخْتَرَعْ فِيهِ أَقَاوِيلُ مُحْدَثَةٌ، وَلَا ثَبْتَ أَنَّ الْأَذَانَ بِالْمَنَارِ أَوْ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ تَعَبُّدٌ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَهُوَ الْمُلَائِمُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ؛ بِخِلَافِ نَقْلِهِ مِنَ الْمَنَارِ إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ بِذَلِكَ أَوَّلًا عَنْ أَصْلِهِ مِنَ الْإِعْلَامِ، إِذْ لَمْ يُشْرَعْ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ إِعْلَامٌ بِالصَّلَاةِ إِلَّا بِالْإِقَامَةِ، وَأَذَانُ جَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَحَلِّهِ، ثُمَّ أَذَانُهُمْ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ زِيَادَةٌ فِي الْكَيْفِيَّةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَاضِحٌ، وَلَا اعْتِرَاضَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فِي الْعِيدَيْنِ؛ فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنْ لَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ فِيهِمَا، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَسْنُونَاتِ وَالنَّوَافِلِ، وَإِنَّمَا الْأَذَانُ لِلْمَكْتُوبَاتِ، وَعَلَى هَذَا مَضَى عَمَلُ الْخُلَفَاءِ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ فِي

الْعِيدَيْنِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ ـ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَرَادَ أَنْ يُؤْذِنَ النَّاسَ بِالْأَذَانِ بِمَجِيءِ الْإِمَامِ، ثُمَّ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَمَا بَدَأَ بِهَا مَرْوَانُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِقَامَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ؛ لِيُؤْذِنَ النَّاسَ بِفَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ وَدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِبُعْدِهِمْ عَنْهُ. (قَالَ): وَلَمْ يَرِدْ مَرْوَانُ وَهِشَامٌ [إِلَّا] الِاجْتِهَادَ فِيمَا رَأَيَا؛ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اجْتِهَادٌ فِي خِلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (قَالَ): وَقَدْ حَدَّثَنِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ: أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ: مِنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا؛ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا؛ فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الَّذِي أَحْدَثَ الْأَذَانَ مُعَاوِيَةُ، وَقِيلَ: زِيَادٌ، وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَعَلَهُ آخِرَ إِمَارَتِهِ، وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّقْلِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْأَذَانَ هَنَا نَظِيرُ أَذَانِ الزَّوْرَاءِ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَا تَقَدَّمَ فِيهِ مِنَ التَّوْجِيهِ الِاجْتِهَادِيِّ جَارٍ هُنَا، وَلَا يَكُونُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ هِشَامٍ نَازِلَةٌ لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إِعْلَامٌ بِمَجِيءِ الْإِمَامِ؛ لِخَفَاءِ مَجِيئِهِ عَنِ النَّاسِ؛ لِبُعْدِهِمْ عَنْهُ، ثُمَّ الْإِقَامَةَ لِلْإِعْلَامِ بِالصَّلَاةِ، إِذْ لَوْلَا هِيَ؛ لَمْ يَعْرِفُوا دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْهُ؛ كَأَذَانِ الزَّوْرَاءِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَجِيءَ الْإِمَامِ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ الْأَذَانُ، وَإِنْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ؛ لِبُعْدِهِ بِكَثْرَةِ النَّاسِ؛ فَكَذَلِكَ لَا يُشْرَعُ فِيمَا بَعْدُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً، ثُمَّ لَمْ تُشْرَعْ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ثُمَّ تَصِيرُ مُؤَثِّرَةً. وَأَيْضًا؛ فَإِحْدَاثُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ انْبَنَى عَلَى إِحْدَاثِ تَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمَا انْبَنَى عَلَى الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُشْرَعْ فِي النَّوَافِلِ أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ عَلَى حَالٍ؛ فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ؛ لِئَلَّا تَكُونَ النَّوَافِلُ كَالْفَرَائِضِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهَا، فَكَانَ إِحْدَاثُ الدُّعَاءِ إِلَى النَّوَافِلِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا. وَبِهَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَذَانِ الزَّوْرَاءِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ أَنَّ يُقَاسَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْأَمْثِلَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَمِنْ نَوَادِرِهَا الَّتِي لَا يَنْبَغِي أَنْ تُغْفَلَ مَا جَرَى بِهِ عَمَلُ جُمْلَةٍ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى طَرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ تَرَبُّصِهِمْ بِبَعْضِ الْعِبَادَاتِ أَوْقَاتًا مَخْصُوصَةً غَيْرَ مَا وَقَّتَهُ الشَّرْعُ فِيهَا، فَيَضَعُونَ نَوْعًا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي زَمَنِ الرَّبِيعِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ الْخَرِيفِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ. . . . وَرُبَّمَا وَضَعُوا لِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ لِبَاسًا مَخْصُوصًا وَطِيبًا مَخْصُوصًا. . . . وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْضَاعِ الْفَلْسَفِيَّةِ يَضَعُونَهَا [عَلَى مَقَاصِدَ] شَرْعِيَّةٍ؛ أَيْ: مُتَقَرَّبًا بِهَا إِلَى الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي زَعْمِهِمْ، وَرُبَّمَا وَضَعُوهَا عَلَى مَقَاصِدَ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ؛ كَأَهْلِ التَّصْرِيفِ بِالْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ؛ لِيَسْتَجْلِبُوا

بِهَا الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْحَظْوَةِ وَرِفْعَةِ الْمَنْزِلَةِ، بَلْ لِيَقْتُلُوا بِهَا إِنْ شَاؤُوا أَوْ يُمْرِضُوا أَوْ يَتَصَرَّفُوا وَفْقَ أَغْرَاضِهِمْ. فَهَذِهِ كُلُّهَا بِدَعٌ مُحْدَثَاتٌ، بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ؛ لِبُعْدِ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ عَنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ مُبَرَّأَةً عَنْ مَقَاصِدِ الْمُتَخَرِّصِينَ، مُطَهَّرَةً لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا عَنْ أَوَضَارِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، إِذْ كُلُّ مُتَدَيِّنٍ بِهَا عَارِفٌ بِمَقَاصِدِهَا يُنَزِّهُهَا عَنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْوَاهِيَةِ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى بُطْلَانِ دَعَاوِيهِمْ فِيهَا مِنْ بَابِ شُغْلِ الزَّمَانِ بِغَيْرِ مَا هُوَ أَوْلَى، وَقَدْ تَقَرَّرَ ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ فِي أَصْلِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُ هَذَا النَّمَطِ وَالْبُرْهَانِ عَلَى بُطْلَانِهِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ مُفِيدٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَهَذَا كُلُّهُ إِنْ فَرَضْنَا أَصْلَ الْعِبَادَةِ مَشْرُوعًا، فَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ؛ فَهِيَ بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ؛ كَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ [الَّتِي] يَزْعُمُ الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى عِلْمِ الْحُرُوفِ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَنَى بِهِ الْبَوْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ حَذَا حَذْوَهُ أَوْ قَارَبَهُ. فَإِنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ فَلْسَفَةٌ أَلْطَفُ مِنْ فَلْسَفَةِ مُعَلِّمِهِمُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَرِسْطَا طَالِيسَ، فَرَدُّوهَا إِلَى أَوْضَاعِ الْحُرُوفَ، وَجَعَلُوهَا هِيَ الْحَاكِمَةَ فِي الْعَالَمِ، وَرُبَّمَا أَشَارُوا عِنْدَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأَذْكَارِ وَمَا قُصِدَ بِهَا إِلَى تَحَرِّي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمُلَائِمَةِ لِطَبَائِعِ الْكَوَاكِبِ؛ لِيَحْصُلَ التَّأْثِيرُ عِنْدَهُمْ وَحْيًا. فَحَكَّمُوا الْعُقُولَ وَالطَّبَائِعَ ـ كَمَا تَرَى ـ، وَتَوَجَّهُوا شَطْرَهَا، وَأَعْرَضُوا عَنْ رَبِّ الْعَقْلِ وَالطَّبَائِعِ، وَإِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَهُ اعْتِقَادًا فِي اسْتِدْلَالِهِمْ لِصِحَّةِ مَا انْتَحَلُوا عَلَى وُقُوعِ الْأَمْرِ وَفْقَ مَا يَقْصِدُونَ، فَإِذَا تَوَجَّهُوا بِالذِّكْرِ

وَالدُّعَاءِ الْمَفْرُوضِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ حَصَلَ، سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَنَفْعًا (كَانَ) أَوْ ضُرًّا، وَخَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا، وَيَبْنُونَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَ بُلُوغِ النِّهَايَةِ فِي إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، أَوْ حَصَلَ نَوْعٌ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، كَلَّا! لَيْسَ طَرِيقُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ مِنْ مُرَادِهِمْ، وَلَا كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ مِنْ نَتَائِجِ أَوْرَادِهِمْ، فَلَا تَلَاقِي بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ النَّارِ وَالْمَاءِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ يَحْصُلُ التَّأْثِيرُ حَسْبَمَا قَصَدُوا؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ مِنْ قَبِيلِ الْفِتْنَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا فِي الْخَلْقِ: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]، فَالنَّظَرُ إِلَى وَضْعِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ أَحْكَامٌ وَضَعَهَا الْبَارِي تَعَالَى فِي النُّفُوسِ، يَظْهَرُ عِنْدَهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ التَّأْثِيرَاتِ، عَلَى نَحْوِ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْمَعِينِ عِنْدَ الْإِصَابَةِ، وَعَلَى الْمَسْحُورِ عِنْدَ عَمَلِ السِّحْرِ، بَلْ هُوَ بِالسِّحْرِ أَشْبَهُ؛ لِاسْتِمْدَادِهِمَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ. وَشَاهِدُهُ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي (وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ»، وَشَرْحُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لَا يَلِيقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ وَضْعَ الْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، لَكِنْ تَارَةً تَكُونُ الْبِدْعَةُ فِيهَا إِضَافِيَّةً، بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ،

فصل البدع الإضافية هل يعتد بها عبادات يتقرب بها إلى الله

وَتَارَةً تَكُونُ حَقِيقِيَّةً. [فَصْلٌ الْبِدَعُ الْإِضَافِيَّةُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهَا عِبَادَاتٍ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ] فَصْلٌ فَإِنْ قِيلَ: فَالْبِدَعُ الْإِضَافِيَّةُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهَا عِبَادَاتٍ حَتَّى تَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مُتَقَرَّبًا بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا تَكُونُ كَذَلِكَ؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ فَلَا تَأْثِيرَ إِذًا لِكَوْنِهَا بِدْعَةً، وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ، إِذْ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ بِجِهَةِ الِابْتِدَاعِ فِي الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَتَقَعُ مَشْرُوعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا، فَتَصِيرُ جِهَةَ الِابْتِدَاعِ مُغْتَفِرَةً، فَلَا عَلَى الْمُبْتَدَعِ فِيهَا أَنْ يَبْتَدِعَ، وَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِجِهَةِ الِابْتِدَاعِ؛ فَقَدْ صَارَ لِلِابْتِدَاعِ أَثَرٌ فِي تَرَتُّبِ الثَّوَابِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ عُمُومِ الذَّمِّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَقَدِ اتَّحَدَتِ الْبِدْعَةُ الْإِضَافِيَّةُ مَعَ الْحَقِيقِيَّةِ بِالتَّقْسِيمِ الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ الْبَابُ الَّذِي نَحْنُ فِي شَرْحِهِ، [وَ] وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ حَاصِلَ الْبِدْعَةِ الْإِضَافِيَّةِ أَنَّهَا لَا تَنْحَازُ إِلَى جَانِبٍ مَخْصُوصٍ فِي الْجُمْلَةِ، بَلْ يَنْحَازُ بِهَا الْأَصْلَانِ ـ أَصْلُ السُّنَّةِ وَأَصْلُ الْبِدْعَةِ ـ، لَكِنْ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ اقْتَضَى النَّظَرُ السَّابِقُ لِلذِّهْنِ أَنْ يُثَابَ الْعَامِلُ بِهَا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ، وَيُعَاتَبُ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّظَرَ لَا يَتَحَصَّلُ؛ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي جِهَةِ الْبِدْعَةِ فِي الْعَمَلِ: لَا يَخْلُو أَنْ تَنْفَرِدَ أَوْ تَلْتَصِقَ، وَإِنِ الْتَصَقَتْ؛ فَلَا تَخْلُو: أَنْ تَصِيرَ وَصْفًا لِلْمَشْرُوعِ غَيْرَ مُنْفَكٍّ ـ إِمَّا بِالْقَصْدِ أَوْ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ الْعَادِيِّ ـ أَوْ لَا تَصِيرُ وَصْفًا، وَإِنْ لَمْ تَصِرْ وَصْفًا؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَضْعُهَا

إِلَى أَنْ تَصِيرَ وَصْفًا أَوْ لَا. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَطْلُوبِ بِحَوْلِ اللَّهِ: فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَنْفَرِدَ الْبِدْعَةُ عَنِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ ـ؛ فَالْكَلَامُ فِيهِ ظَاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ إِلَّا أَنَّهُ [إِنْ] كَانَ وَضْعُهُ عَلَى جِهَةِ التَّعَبُّدِ؛ فَبِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ فِعْلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ، لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَالْعِبَادَةُ سَالِمَةٌ، وَالْعَمَلُ الْعَادِيُّ خَارِجٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. مِثَالُهُ: الرَّجُلُ يُرِيدُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَيَتَنَحْنَحُ مَثَلًا، أَوْ يَتَمَخَّطُ، أَوْ يَمْشِي خُطُوَاتٍ، أَوْ يَفْعَلُ شَيْئًا، وَلَا يَقْصِدُ بِذَا وَجْهًا رَاجِعًا إِلَى الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عَادَةً أَوْ تَقَزُّزًا؛ فَمِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ فِي نَفْسِهِ وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَادَاتِ الْجَائِزَةِ؛ إِلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْضِمَامُ إِلَى الصَّلَاةِ عَمَلًا أَوْ قَصْدًا؛ فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَصِيرُ بِدْعَةً، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ إِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا قَصْدَ التَّقَرُّبِ مِمَّا لَمْ يُشْرَعْ أَصْلًا، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَمْ يَقْصِدْ فِعْلَهُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَلَا كَانَ مَظَنَّةً لِأَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ انْضِمَامُهُ إِلَيْهَا، فَلَا يَقْدَحُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الذَّمُّ فِيهِ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ. وَمِثْلُهُ لَوْ أَرَادَ الْقِيَامَ إِلَى الْعِبَادَةِ، فَفَعَلَ عِبَادَةً مَشْرُوعَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الِانْضِمَامِ، وَلَا جَعَلَهُ عُرْضَةً لِقَصْدِ انْضِمَامِهِ، فَتِلْكَ الْعِبَادَتَانِ عَلَى

أَصَالَتِهِمَا. وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ الْعِتْقِ: اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ، عَلَى غَيْرِ الْتِزَامٍ وَلَا قَصْدِ الِانْضِمَامِ. وَكَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ لَا بِقَصْدِ الطَّوَافِ وَلَا عَلَى الِالْتِزَامِ. فَكُلُّ عِبَادَةٍ هُنَا مُنْفَرِدَةٌ عَنْ صَاحِبَتِهَا؛ فَلَا حَرَجَ فِيهَا. وَعَلَى ذَلِكَ نَقُولُ: لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ وَقَعَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِلْأَمْرِ يَحْدُثُ عَنْ قَحْطٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ مُلِمٍّ؛ لَكَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، إِذْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يُخَافُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ الِانْضِمَامِ، وَلَا كَوْنُهُ سُنَّةً تُقَامُ فِي الْجَمَاعَاتِ وَيُعْلَنُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ؛ كَمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُعَاءَ الِاسْتِسْقَاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ وَهُوَ يَخْطُبُ، وَكَمَا أَنَّهُ دَعَا أَيْضًا فِي غَيْرِ أَعْقَابِ الصَّلَوَاتِ عَلَى هَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ، لَكِنْ فِي الْفَرَطِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ؛ كَسَائِرِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الَّتِي لَا يَتَرَبَّصُ بِهَا وَقْتًا بِعَيْنِهِ وَكَيْفِيَّةً بِعَيْنِهَا. وَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أُسَيْدٍ. . . قَالَ: كَانَ عُمَرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ؛ أَخْرَجَ النَّاسَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَتَخَلَّفَ لَيْلَةً مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَأَتَى عَلَيْهِمْ، فَعَرَفَهُمْ، فَأَلْقَى دُرَّتَهُ وَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا فُلَانُ! ادْعُ اللَّهَ لَنَا، يَا فُلَانُ! ادْعُ اللَّهَ لَنَا، حَتَّى صَارَ الدُّعَاءُ إِلَى غَيْرٍ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: عُمَرُ فَظٌّ غَلِيظٌ! فَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ تِلْكَ السَّاعَةَ أَرَقَّ مِنْ عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) لَا ثَكْلَى وَلَا أَحَدًا. وَعَنْ سَلْمٍ الْعَلَوِيِّ؛ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِأَنَسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) يَوْمًا: يَا

أَبَا حَمْزَةَ! لَوْ دَعَوْتَ لَنَا بِدَعَوَاتٍ. . . فَقَالَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، قَالَ: فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثَلَاثًا، فَقَالَ يَا أَبَا حَمْزَةَ! لَوْ دَعَوْتَ. . . فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا؛ فَلَا إِنْكَارَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ فِيهِ أَمْرٌ زَائِدٌ؛ صَارَ الدُّعَاءُ (فِيهِ) بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ الْكَرَاهِيَةُ عَنِ السَّلَفِ، لَا عَلَى حُكْمِ الْأَصَالَةِ، بَلْ بِسَبَبِ مَا يَنْضَمُّ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُخْرِجَةِ عَنِ الْأَصْلِ، وَلِنَذْكُرَهُ هُنَا لِاجْتِمَاعِ أَطْرَافِ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ دَائِمًا. فَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ مُدْرِكِ بْنِ عِمْرَانَ؛ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): فَادْعُ اللَّهَ لِي، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنِّي لَسْتُ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنْ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ؛ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِذَنْبِكَ. فَإِبَايَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَصْلِ الدُّعَاءِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَإِلَّا تَعَارَضَ كَلَامُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ، فَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنَ السَّائِلِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: لَسْتُ بِنَبِيٍّ. وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ؛ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرٌ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلَا لِذَاكَ، أَنَبِيٌّ أَنَا؟! فَهَذَا أَوْضَحُ فِي أَنَّهُ فَهِمَ مِنَ السَّائِلِ أَمْرًا زَائِدًا، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ مِثْلُ النَّبِيِّ، أَوْ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ سُنَّةٌ تُلْزَمُ، أَوْ يَجْرِي فِي النَّاسِ مَجْرَى السُّنَنِ الْمُلْتَزِمَةِ.

وَنَحْوُهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا يَذْهَبُ إِلَى نِسَائِهِ، فَيَقُولُ: اسْتَغْفَرَ لِي حُذَيْفَةُ، أَتَرْضَيْنَ أَنْ أَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ تَكُنَّ مِثْلَ حُذَيْفَةَ؟ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَمْرٌ زَائِدٌ يَكُونُ الدُّعَاءُ لَهُ ذَرِيعَةً حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ أَصْلِهِ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ مَا دَعَا عَلَى الرَّجُلِ: هَذَا يَذْهَبُ إِلَى نِسَائِهِ فَيَقُولُ كَذَا؛ أَيْ: فَيَأْتِي نِسَاؤُهُ لِمِثْلِهَا، وَيَشْتَهِرُ الْأَمْرُ حَتَّى يُتَّخَذَ سُنَّةً، وَيُعْتَقَدَ فِي حُذَيْفَةَ مَا لَا يُحِبُّهُ هُوَ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَخْرُجُ الْمَشْرُوعُ عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا، وَيُؤَدِّي إِلَى التَّشَيُّعِ وَاعْتِقَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَقَدْ تَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ؛ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عِمْرَانَ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَنِي، فِكْرَهَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ، وَقَطَّبَ، وَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى حُذَيْفَةَ، فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، فَتَنَحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ قَالَ: فَأَدْخَلَكَ اللَّهُ مَدْخَلَ حُذَيْفَةَ، أَقَدْ رَضِيتَ؟ الْآنَ يَأْتِي أَحَدُكُمُ الرَّجُلَ كَأَنَّهُ قَدْ أَحْصَرَ شَأْنَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ السُّنَّةَ فَرَغَّبَ فِيهَا، وَذَكَرَ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ فَكَرِهَهُ. وَرَوَى مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ قَالَ: كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فَيَتَذَاكَرُونَ فَلَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اسْتَغْفِرْ لَنَا. . . فَتَأَمَّلُوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ هَذِهِ الضَّمَائِمِ الْمُنْضَمَّةِ إِلَى الدُّعَاءِ، حَتَّى كَرِهُوا الدُّعَاءَ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَقِسْ بِعَقْلِكَ مَاذَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي دُعَائِنَا بِآثَارِ الصَّلَاةِ، بَلْ فِي كَثِيرٍ مِنْ

الْمُوَاطِنِ، وَانْظُرُوا إِلَى اسْتِنَارَةِ إِبْرَاهِيمَ تَرْغِيبَهُ فِي السُّنَّةِ وَكَرَاهِيَةِ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ، بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذِهِ الْآثَارُ مِنْ تَخْرِيجِ الطَّبَرِيِّ فِي " تَهْذِيبِ الْآثَارِ " لَهُ. وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَبَّهَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَأْمُرُونَكَ أَنْ تَدْعُوَ لَهُمْ وَتُوصِيَهُمْ، فَقَالَ: اقْرَءُوا عَلَيْهِمُ السَّلَامَ، وَمُرُوهُمْ أَنْ يُعْطُوا الْقُرْآنَ حَقَّهُ؛ فَإِنَّهُ يَحْمِلُهُمْ ـ أَوْ يَأْخُذُ بِهِمْ ـ عَلَى الْقَصْدِ وَالسُّهُولَةِ، وَيُجَنِّبُهُمُ الْجَوْرَ وَالْحُزُونَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ الْعَادِيُّ أَوْ غَيْرُهُ كَالْوَصْفِ لِلْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ؛ إِلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوعَ لَمْ يَتَّصِفْ فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ: فَظَاهِرُ الْأَمْرِ انْقِلَابُ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ». وَهَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ اتِّصَافِهِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ عَمَلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهُوَ إِذًا رَدٌّ؛ كَصَلَاةِ الْفَرْضِ ـ مَثَلًا ـ إِذَا صَلَّاهَا الْقَادِرُ الصَّحِيحُ قَاعِدًا، أَوْ سَبَّحَ فِي مَوْضِعِ الْقِرَاءَةِ، أَوْ قَرَأَ فِي مَوْضِعِ التَّسْبِيحِ. . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ، وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، فَبَالَغَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْمِيمِ النَّهْيِ، حَتَّى عَدُّوا صَلَاةَ الْفَرْضِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ، فَبَاشَرَ النَّهْيَ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ اتِّصَافِهَا بِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، كَمَا اعْتَبَرَ فِيهَا الزَّمَانَ بِاتِّفَاقٍ فِي الْفَرْضِ؛ فَلَا تُصَلَّى الظُّهْرُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا الْمَغْرِبُ قَبْلَ الْغُرُوبِ. وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ صِيَامِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى بُطْلَانِ الْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. فَكُلُّ مَنْ تَعَبَّدَ لِلَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي غَيْرِ أَزْمَانِهَا؛ تَعَبَّدَ بِبِدْعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ لَا إِضَافِيَّةٍ، فَلَا جِهَةَ لَهَا إِلَى الْمَشْرُوعِ، بَلْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا جِهَةُ الِابْتِدَاعِ، فَلَا ثَوَابَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ. فَلَوْ فَرَضْنَا قَائِلًا يَقُولُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ فِي وَقْتِ الْكَرَاهِيَةِ، أَوْ صِحَّةِ الصَّوْمِ الْوَاقِعِ يَوْمَ الْعِيدِ؛ فَعَلَى فَرْضِ أَنَّ النَّهْيَ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرٍ لَمْ يَصِرْ لِلْعِبَادَةِ كَالْوَصْفِ، بَلِ الْأَمْرُ مُنْفَكٌّ مُنْفَرِدٌ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ بِحَوْلِ اللَّهِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي بَعْضِ النَّاسِ؛ كَالَّذِي حَكَى الْقَرَافِيُّ عَنِ الْعَجَمِ فِي اعْتِقَادِ كَوْنِ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ سُورَةِ السَّجْدَةِ لَمَّا الْتُزِمَتْ فِيهَا وَحُوفِظَ عَلَيْهَا؛ اعْتَقَدُوا فِيهَا الرُّكْنِيَّةَ، فَعَدُّوهَا رَكْعَةً ثَالِثَةً، فَصَارَتِ السَّجْدَةُ إِذًا وَصْفًا لَازِمًا وَجُزْءًا مِنْ صَلَاةِ صُبْحِ الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ.

وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَنْبَغِي أَنْ تَجْرِيَ الْعِبَادَاتُ الْمَشْرُوعَةُ إِذَا خُصَّتْ بِأَزْمَانٍ مَخْصُوصَةٍ بِالرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ، مِنْ حَيْثُ فَهِمْنَا تَلَبُّسًا بِالْأَعْمَالِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَصَيْرُورَةُ ذَلِكَ الزَّائِدِ وَصْفًا فِيهِ مُخْرِجٌ لَهُ عَنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صِفَةٌ لَهُ لَا تُفَارِقُهُ هِيَ مِنْ جُمْلَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الصِّفَةَ هِيَ عَيْنُ الْمَوْصُوفِ إِذَا كَانَتْ لَازِمَةً لَهُ حَقِيقَةً أَوِ اعْتِبَارًا، وَلَوْ فَرَضْنَا ارْتِفَاعَهَا عَنْهُ؛ لَارْتَفَعَ الْمَوْصُوفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهَا؛ كَارْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِارْتِفَاعِ النَّاطِقِ أَوِ الضَّاحِكِ، فَإِذَا كَانَتِ الصِّفَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْمَشْرُوعِ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ؛ صَارَ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، فَارْتَفَعَ اعْتِبَارُ الْمَشْرُوعِ الْأَصْلِيِّ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَيْضًا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالْإِدَارَةِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْهَيْئَةَ زَائِدَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِرَاءَةِ، وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ الَّذِي اعْتَادَهُ أَرْبَابُ الزَّوَايَا. وَرُبَّمَا لَطُفَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ، فَيَشُكُّ فِي بُطْلَانِ الْمَشْرُوعِيَّةِ؛ كَمَا وَقَعَ فِي " الْعُتْبِيَّةِ " عَنْ مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةِ الِاعْتِمَادِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُحَرِّكُ رِجْلَيْهِ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُ رَجُلٌ قَدْ عُرِفَ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ مُسَاءً (أَيْ: يُسَاءُ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ)، فَقِيلَ لَهُ: أَفَعَيْبٌ؟ قَالَ: قَدْ عِيبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ مِنَ الْفِعْلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَنَّ الصَّلَاةَ بَاطِلَةٌ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ وَصْفِ الِاعْتِمَادِ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الصَّلَاةِ، وَلُطْفِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ هَيْئَتِهَا. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اتِّصَافِ الْعَمَلِ بِمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ أَوْ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، فَإِذَا غَلَبَ الْوَصْفُ عَلَى الْعَمَلِ؛ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْفَسَادِ، وَإِذَا لَمْ يَغْلِبْ؛ لَمْ يَكُنْ أَقْرَبَ، وَبَقِيَ فِي حُكْمِ النَّظَرِ، فَيَدْخُلُ

هَاهُنَا نَظَرُ الِاحْتِيَاطِ لِلْعِبَادَةِ إِذَا صَارَ الْعَمَلُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّ الْعَمَلَ الزَّائِدَ عَلَى الْمَشْرُوعِ يَصِيرُ وَصْفًا لَهَا أَوْ كَالْوَصْفِ؛ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا بِالْقَصْدِ، وَإِمَّا بِالْعَادَةِ، وَإِمَّا بِالشَّرْعِ. أَمَّا بِالْقَصْدِ فَظَاهِرٌ؛ بَلْ هُوَ أَصْلُ التَّشْرِيعِ فِي الْمَشْرُوعَاتِ بِالزِّيَادَةِ أَوِ النُّقْصَانِ. وَأَمَّا بِالْعَادَةِ؛ فَكَالْجَهْرِ وَالِاجْتِمَاعِ فِي الذِّكْرِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ مُتَصَوِّفَةِ الزَّمَانِ؛ فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ بَوْنًا بَعِيدًا، إِذْ هُمَا كَالْمُتَضَادَّيْنِ عَادَةً، وَكَالَّذِي حَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، قَالَ: مَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بِرَجُلٍ يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ: سَبِّحُوا عَشْرًا، وَهَلِّلُوا عَشْرًا: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّكُمْ لَأَهْدَى مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَضَلُّ، بَلْ هَذِهِ (يَعْنِي أَضَلَّ)، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَنْ رَجُلًا كَانَ يَجْمَعُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ: فَيَقُولُ الْقَوْمُ، وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً الْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: فَيَقُولُ الْقَوْمُ، قَالَ: فَمَرَّ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، فَقَالَ لَهُمْ: هُدِيتُمْ لِمَا لَمْ يُهْدَ نَبِيُّكُمْ! وَإِنَّكُمْ لِتُمْسِكُونِ بِذَنَبِ ضَلَالَةٍ. وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ نَاسًا بِالْكُوفَةِ يُسَبِّحُونَ بِالْحَصَى فِي الْمَسْجِدِ، فَأَتَاهُمْ وَقَدْ كَوَّمَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَوْمًا مِنْ حَصَى؛ قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَحْصَبَهُمْ بِالْحَصَى حَتَّى أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيَقُولُ: لَقَدْ أَحْدَثْتُمْ بِدْعَةً وَظُلْمًا، وَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا.

فَهَذِهِ أُمُورٌ أَخْرَجَتِ الذِّكْرَ [عَنْ وَصْفِهِ] الْمَشْرُوعِ؛ كَالَّذِي تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، أَوِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ إِذَا صُلِّيَتْ قَبْلَ أَوْقَاتِهَا؛ فَإِنَّا قَدْ فَهِمَنَا مِنَ الشَّرْعِ الْقَصْدَ إِلَى النَّهْيِ عَنْهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يَكُونُ مُتَعَبَّدًا [بِهِ]، وَكَذَلِكَ صِيَامُ يَوْمِ الْعِيدِ. وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَبَّاسٍ؛ قَالَ: لَقِيتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: قَوْمٌ مِنْ إِخْوَانِكَ مِنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا يَطْعَنُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا وَفِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، وَيَجْتَمِعُونَ يَوْمَ النَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ، وَيَصُومُونَهَا، فَقَالَ طَلْحَةُ: بِدْعَةٌ مِنْ أَشَدِّ الْبِدَعِ، وَاللَّهِ لَهُمْ أَشَدُّ تَعْظِيمًا لِلنَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ مِنْ عِيدِهِمْ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، فَرَقِيتُ إِلَيْهِ، وَسَأَلْتُهُ كَمَا سَأَلْتُ طَلْحَةَ، فَرَدَّ عَلَيَّ مِثْلَ قَوْلِ طَلْحَةَ؛ كَأَنَّهُمَا كَانَ عَلَى مِيعَادٍ، فَجَعَلَ صَوْمَ تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ تَعْظِيمِ مَا تُعَظِّمُهُ النَّصَارَى، وَذَاكَ الْقَصْدُ لَوْ كَانَ أَفْسَدَ لِلْعِبَادَةِ؛ فَكَذَلِكَ مَا كَانَ نَحْوَهُ. وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَنْ رَجُلًا قَالَ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ! مَا تَرَى فِي مَجْلِسِنَا هَذَا؟ قَوْمٌ مِنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَطْعَنُونَ عَلَى أَحَدٍ، نَجْتَمِعُ فِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، وَفِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، فَنَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ، وَنَدْعُو لِأَنْفُسِنَا وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَنَهَى الْحَسَنُ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ. وَالنَّقْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، فَلَوْ لَمْ يَبْلُغِ الْعَمَلُ الزَّائِدُ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ؛ كَانَ أَخَفَّ، وَانْفَرَدَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهِ وَالْعَمَلُ الْمَشْرُوعِ بِحُكْمِهِ؛ كَمَا حَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ؛ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْأَسْوَدِ بْنِ

سَرِيعٍ، وَكَانَ مَجْلِسُهُ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى بَلَغَ: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، فَرَفَعَ أَصْوَاتَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ جُلُوسًا، فَجَاءَ مُجَالِدُ بْنُ مَسْعُودٍ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَاهُ، فَلَمَّا رَآهُ الْقَوْمُ؛ قَالُوا: مَرْحَبًا، اجْلِسْ، قَالَ: مَا كُنْتُ لِأَجْلِسَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَجْلِسُكُمْ حَسَنًا، وَلَكِنَّكُمْ صَنَعْتُمْ قِبَلِي شَيْئًا أَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا أَنْكَرَ الْمُسْلِمُونَ. فَتَحْسِينُهُ الْمَجْلِسَ كَانَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ؛ فَكَانَ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَى الْعَمَلِ الْحَسَنِ، حَتَّى إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ؛ صَارَ الْمَجْمُوعُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ. وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي " سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ جَمِيعًا، فَيَقْرَءُونَ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ. وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ؟ فَحَكَى الْكَرَاهِيَةَ عَنْ مَالِكٍ، وَنَهَى عَنْهَا، وَرَآهَا بِدْعَةً. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ: وَسُئِلَ عَنِ الْقِرَاءَةِ بِالْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ بِالْأَمْرِ الْقَدِيمِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أُحْدِثَ، وَلَمْ يَأْتِ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا، وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: يُرِيدُ الْتِزَامَ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِإِثْرِ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَلَى وَجْهٍ مَا مَخْصُوصٌ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ كُلُّهُ سُنَّةً؛ مِثْلَ مَا بِجَامِعِ قُرْطُبَةَ إِثْرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، قَالَ: فَرَأَى ذَلِكَ بِدْعَةً.

فَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ: " وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ "؛ يَحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَجَعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُنْفَصِلٌ لَا يَقْدَحُ فِي حُسْنِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمَلُ ـ وَهُوَ الظَّاهِرُ ـ أَنَّهُ يَقُولُ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ حَسَنٌ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: مَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ وَالْمَسَاجِدِ، لَا فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ، فَيُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ إِلَّا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ السَّلَفُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْإِدَارَةِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُ، فَلَا تُفْعَلُ أَصْلًا، وَتَحَرَّزَ بِقَوْلِهِ: " وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ "؛ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ يَكْرَهُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، فَلَا يَكُونُ فِي كَلَامِ مَالِكٍ دَلِيلٌ عَلَى انْفِكَاكِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْوَصْفُ عُرْضَةً لِأَنْ يَنْضَمَّ إِلَى الْعِبَادَةِ، حَتَّى يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَوْصَافِهَا أَوْ جُزْءٌ مِنْهَا: فَهَذَا الْقِسْمُ يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ عَنِ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ إِنْ كَانَ فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفِقًا عَلَيْهِ؛ فَفِيهِ فِي التَّفْصِيلِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى مَمْنُوعٍ يُمْنَعُ؛ بِدَلِيلِ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ وَمَا كَانَ نَحْوَهَا؛ غَيْرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيَّ يَحْكِي الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا النَّوْعِ اسْتِقْرَاءً مِنْ مَسَائِلَ وَقَعَتْ لِلْعُلَمَاءِ مَنَعُوهَا سَدًا لِلذَّرِيعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْخِلَافُ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ؛ لَمْ يُنْكَرْ أَنْ يَقُولَ بِهِ قَائِلٌ فِي بَعْضِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلْنُمَثِّلْهُ أَوَّلًا ثُمَّ نَتَكَلَّمْ عَلَى حُكْمِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ مِنْ «نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَقَدَّمَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ»، وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَخَافَةَ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ

مِنْ جُمْلَةِ رَمَضَانَ. وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ لَا يُقْصِرُ فِي السَّفَرِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَلَسْتَ قَصَرْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى! وَلَكِنِّي إِمَامُ النَّاسِ فَيَنْظُرُ إِلَيَّ الْأَعْرَابُ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ، فَيَقُولُ: هَكَذَا فُرِضَتْ، فَالْقَصْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَكَهُ؛ خَوْفَ أَنْ يُتَذَرَّعَ بِهِ لِأَمْرٍ حَادِثٍ فِي الدِّينِ غَيْرِ مَشْرُوعٍ. وَمِنْهُ قِصَّةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي غُسْلِهِ مِنْ الِاحْتِلَامِ حَتَّى أَسْفَرَ، وَقَوْلُهُ لِمَنْ رَاجَعَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَثْوَابِهِمْ مَا يُصَلِّي بِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ عَلَى السِّعَةِ: لَوْ فَعَلْتُهُ؛ لَكَانَتْ سُنَّةً، بَلْ أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ، وَأَنْضَحُ مَا لَمْ أَرَ. وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ: شَهِدْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، وَكَانَا لَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) قَالَ: إِنِّي لَأَتْرُكَ أُضْحِيَتِي ـ وَإِنِّي لِمَنْ أَيْسَرِكُمْ ـ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَظُنَّ الْجِيرَانُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ إِتْبَاعَ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَوَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: لَا أَسْتَحِبُّهَا، مَعَ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَأَخْبَرَ

مَالِكٌ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَصُومُونَهَا وَيَخَافُونَ بِدَعَتَهَا. وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي اتِّبَاعِ الْآثَارِ؛ كَمَجِيءِ قُبَاءَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَكُلُّ عَمَلٍ أَصْلُهُ ثَابِتٌ شَرْعًا؛ إِلَّا أَنَّ فِي إِظْهَارِ الْعَمَلِ بِهِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ مَا يُخَافُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ سُنَّةٌ؛ فَتَرْكُهُ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ. وَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ دُعَاءَ التَّوَجُّهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَكَرِهَ غَسْلَ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ جَعَلَ ثَوْبَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَمَامَهُ فِي الصَّفِّ. وَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ. فَاعْلَمُوا أَنَّهُ إِنْ ذَهَبَ مُجْتَهِدٌ إِلَى عَدَمِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ مِمَّا يَتَضَمَّنُهُ هَذَا الْبَابُ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَمَلَ الْوَاقِعَ عِنْدَهُ مَشْرُوعٌ، وَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَجْرُهُ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى سَدِّهَا ـ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ ـ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مَمْنُوعٌ، وَمَنْعُهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنَّهُ مَلُومٌ عَلَيْهِ، وَمُوجِبٌ لِلذَّمِّ؛ إِلَّا أَنْ يُذْهَبَ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرٍ مُجَاوِرٍ؛ فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاشْتِبَاهٍ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ انْفِكَاكُ الْأَمْرَيْنِ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ جِهَةِ مَآلِهِ. وَلَنَا فِيهِ مَسْلَكَانِ: (أَحَدُهُمَا): التَّمَسُّكُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104]

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَهَى عَنْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُتَفَرِّقِ، وَيُفَرَّقَ الْمُجْتَمَعُ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَنَهَى عَنْ بَيْعِ السَّلَفِ»، وَعَلَّلَهُ الْعُلَمَاءُ بِالرِّبَا الْمُتَذَرِّعِ إِلَيْهِ فِي ضِمْنِ السَّلَفِ ـ، «وَنَهَى عَنِ الْخُلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّاتِ»، وَعَنْ «سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ»، وَأَمَرَ النِّسَاءَ بِالِاحْتِجَابِ عَنْ أَبْصَارِ الرِّجَالِ، وَالرِّجَالَ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ. . . . إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّلُوا الْأَمْرَ فِيهِ وَالنَّهْيَ بِالتَّذَرُّعِ لَا بِغَيْرِهِ. وَالنَّهْيُ أَصْلُهُ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُعَلَّلًا، وَصَرْفُهُ إِلَى أَمْرٍ مُجَاوِرٍ خِلَافُ أَصْلِ الدَّلِيلِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنِ الْأَصْلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَكُلُّ عِبَادَةٍ نُهِيَ عَنْهَا؛ فَلَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ عِبَادَةً؛ لَمْ يُنْهَ عَنْهَا، فَالْعَامِلُ بِهَا عَامِلٌ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَإِذَا اعْتَقَدَ فِيهَا التَّعَبُّدَ مَعَ هَذَا النَّهْيِ؛ كَانَ مُبْتَدِعًا بِهَا. لَا يُقَالُ: إِنَّ نَفْسَ التَّعْلِيلِ يُشْعِرُ بِالْمُجَاوَرَةِ، وَإِنَّ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ غَيْرُ

الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَانْفِكَاكُهُمَا مُتَصَوَّرٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُجَاوِرَ؛ إِذَا صَارَ كَالْوَصْفِ اللَّازِمِ؛ انْتَهَضَ النَّهْيُ عَنِ الْجُمْلَةِ لَا عَنْ نَفْسِ الْوَصْفِ بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي. (الْمَسْلَكُ الثَّانِي): مَا دَلَّ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ عَلَى أَنَّ الذَّرَائِعَ فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَذَرَّعِ إِلَيْهِ. وَمِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! قَالَ: " نَعَمْ؛ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَأُمَّهُ»، فَجَعَلَ سَبَّ الرَّجُلِ لِوَالِدَيْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ سَبِّهِ لِوَالِدَيْهِ نَفْسِهِ، حَتَّى تَرْجَمَهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ، وَلَمْ يَقُلْ: أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْ مَنْ يَسُبُّ وَالِدَيْهِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَهُوَ غَايَةُ مَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) مَعَ أُمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، وَقَوْلُهَا: أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ فِيمَنْ فَعَلَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ. . . . .

لَا مِمَّا فِعْلُهُ كَبِيرَةٌ حَتَّى نَزَعْتَ آخِرًا بِالْآيَةِ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، وَهِيَ نَازِلَةٌ فِي غَيْرِ الْعَمَلِ بِالرِّبَا، فَعَدَّتِ الْعَمَلَ بِمَا يُتَذَرَّعُ بِهِ إِلَى الرِّبَا بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالرِّبَا، مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ وَأُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يَقْصِدُوا قَصْدَ الرِّبَا، كَمَا لَا يُمْكِنُ ذَا عَقْلٍ أَنْ يَقْصِدَ وَالِدَيْهِ بِالسَّبِّ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الذَّرَائِعِ؛ ثَبَتَ فِي الْجَمِيعِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِيمَا لَمْ يَدَعْ مِمَّا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ، إِلَّا أُلْزِمَ الْخَصْمُ مِثْلَهُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَلَا عِبَادَةَ أَوْ مُبَاحًا يُتَصَوَّرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى غَيْرِ جَائِزٍ؛ إِلَّا وَهُوَ غَيْرُ عِبَادَةٍ وَلَا مُبَاحٍ. لَكِنَّ هَذَا الْقِسْمَ إِنَّمَا يَكُونُ النَّهْيُ [فِيهِ] بِحَسَبِ مَا يَصِيرُ وَسِيلَةً إِلَيْهِ فِي مَرَاتِبِ النَّهْيِ، [فَـ] إِنْ كَانَتِ الْبِدْعَةُ مِنْ قَبِيلِ الْكَبَائِرِ؛ فَالْوَسِيلَةُ كَذَلِكَ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الصَّغَائِرِ؛ فَهِيَ كَذَلِكَ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَّسِعُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ كَافِيَةٌ فِيهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

الباب السادس في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة

[الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ] [أَحْكَامُ الْبِدَعِ] اعْلَمْ أَنَّا إِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ فَلَا إِشْكَالَ فِي اخْتِلَافِ رُتْبَتِهَا، لِأَنَّ النَّهْيَ مِنْ جِهَةِ انْقِسَامِهِ إِلَى نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ، وَنَهْيِ التَّحْرِيمِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَشَدُّ فِي النَّهْيِ مِنَ الْآخَرِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِمَا قِسْمُ الْإِبَاحَةِ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَقْسَامِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْهَا قِسْمُ النَّدْبِ وَقِسْمُ الْوُجُوبِ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا أَوْضَحَ ـ وَقَدْ مَرَّ مِنْ أَمْثِلَتِهَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ ـ لَكِنَّا لَا نَبْسُطُ الْقَوْلَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ وَلَا بَيَانِ رُتَبِهِ بِالْأَشَدِّ وَالْأَضْعَفِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا فَالْكَلَامُ فِيهِ عَنَاءٌ، وَإِنْ كَانَ (غَيْرَ) حَقِيقِيٍّ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّفْرِيعِ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ، وَإِنْ عَرَضَ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ أَوْ تَفْرِيعٌ فَإِنَّمَا يُذْكَرُ بِحُكْمِ التَّبَعِ بِحَوْلِ (اللَّهِ). فَإِذَا خَرَجَ عَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمُ الْوُجُوبِ، وَقِسْمُ النَّدْبِ، وَقِسْمُ الْإِبَاحَةِ، انْحَصَرَ النَّظَرُ فِيمَا بَقِيَ وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ مِنَ التَّقْسِيمِ، غَيْرَ أَنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الضَّلَالَةِ وَاحِدَةٌ، فِي قَوْلِهِ: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ،

فَيَقَعُ السُّؤَالُ: هَلْ لَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ: ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ خَمْسَةٌ، نُخْرِجُ عَنْهَا الثَّلَاثَةُ، فَيَبْقَى حُكْمُ الْكَرَاهِيَةِ وَحُكْمُ التَّحْرِيمِ، فَاقْتَضَى النَّظَرُ انْقِسَامَ الْبِدَعِ إِلَى الْقِسْمَيْنِ، فَمِنْهَا بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَمِنْهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسِ الْمَنْهِيَّاتِ وَهِيَ لَا تَعْدُو الْكَرَاهَةَ وَالتَّحْرِيمَ، فَالْبِدَعُ كَذَلِكَ، هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ: أَنَّ الْبِدَعَ إِذَا تُؤُمِّلَ مَعْقُولُهَا وُجِدَتْ رُتْبَتُهَا مُتَفَاوِتَةً، فَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ اتَّخَذُوا الدِّينَ ذَرِيعَةً لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُشَكُّ أَنَّهُ كُفْرٌ صُرَاحٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بِكُفْرٍ أَوْ يُخْتَلَفُ؛ هَلْ هِيَ كُفْرٌ أَمْ لَا؟ كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ. - وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَيُتَّفَقُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَتْ بِكُفْرٍ كَبِدْعَةِ التَّبَتُّلَ،

وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَالْخِصَاءِ بِقَصْدِ قَطْعِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ. - وَمِنْهَا، مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ فِي إِتْبَاعِ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْإِدَارَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ لِلدُّعَاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَذِكْرُ السَّلَاطِينِ فِي خُطْبَةِ الْجُمْعَةَ ـ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيُّ ـ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، هُوَ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، أَوِ التَّحْرِيمُ فَقَطْ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْهَا صَغَائِرُ وَمِنْهَا كَبَائِرُ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي الضَّرُورِيَّاتِ أَوِ الْحَاجِيَّاتِ أَوِ التَّكْمِيلِيَّاتِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الضَّرُورِيَّاتِ فَهِيَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي التَّحْسِينَاتِ فَهِيَ أَدْنَى رُتْبَةٍ بِلَا إِشْكَالٍ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْحَاجِيَّاتِ فَمُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ كُلَّ رُتْبَةٍ مِنْ هَذِهِ الرُّتَبِ لَهَا مُكَمِّلٌ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْمُكَمِّلِ أَنْ يَكُونَ فِي رُتْبَةِ الْمُكَمَّلِ، فَإِنَّ (الْمُكَمِّلَ مَعَ الْمُكَمَّلِ) فِي نِسْبَةِ الْوَسِيلَةِ مَعَ الْمَقْصِدِ، وَلَا تَبْلُغُ الْوَسِيلَةُ رُتْبَةَ الْمَقْصِدِ، فَقَدْ ظَهَرَ تَفَاوُتُ رُتَبِ الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ إِذَا تُؤُمِّلَتْ وُجِدَتْ عَلَى مَرَاتِبَ فِي التَّأْكِيدِ وَعَدَمِهِ: فَلَيْسَتْ مَرْتَبَةُ النَّفْسِ كَمَرْتَبَةِ الدِّينِ، وَلَيْسَ تُسْتَصْغَرُ حُرْمَةُ النَّفْسِ فِي جَنْبِ حُرْمَةِ الدِّينِ، فَيُبِيحُ الْكُفْرُ الدَّمَ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الدِّينِ مُبِيحٌ لِتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ، فِي الْأَمْرِ بِمُجَاهَدَةِ الْكُفَّارِ وَالْمَارِقِينَ عَنِ الدِّينِ.

فصل تفاوت البدع

وَمَرْتَبَةُ الْعَقْلِ وَالْمَالِ لَيْسَتْ كَمَرْتَبَةِ النَّفْسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ مُبِيحٌ لِلْقِصَّاصِ؟ فَالْقَتْلُ بِخِلَافِ الْعَقْلِ وَالْمَالِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا بَقِيَ. وَإِذَا نَظَرْتَ فِي مَرْتَبَةِ النَّفْسِ تَبَايَنَتِ الْمَرَاتِبُ، فَلَيْسَ قَطْعُ الْعُضْوِ كَالذَّبْحِ، وَلَا الْخَدْشُ كَقَطْعِ الْعُضْوِ وَهَذَا كُلُّهُ مَحَلُّ بَيَانِهِ الْأُصُولُ. [فَصْلٌ تَفَاوَتُ الْبِدَعِ] [مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي الدِّينِ] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْبِدَعُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي، وَقَدْ ثَبَتَ التَّفَاوُتُ فِي الْمَعَاصِي، فَكَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ مِثْلُهُ فِي الْبِدَعِ. فَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ (أَيْ أَنَّهُ إِخْلَالٌ بِهَا)، وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الْحَاجِيَّاتِ، وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ التَّحْسِينِاتِ، وَمَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ، مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الدِّينِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ النَّسْلِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ. فَمِثَالُ وُقُوعِهِ فِي الدِّينِ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِرَاعِ الْكُفَّارِ وَتَغْيِيرِهِمْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103] فَرُوِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَفِيهَا عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ الْبَحِيرَةَ مِنَ الْإِبِلِ هِيَ الَّتِي يُمْنَحُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ، وَالسَّائِبَةُ هِيَ الَّتِي يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ، وَالْوَصِيلَةُ هِيَ النَّاقَةُ تُبَكِّرُ بِالْأُنْثَى ثُمَّ تُثَنِّي بِالْأُنْثَى، يَقُولُونَ: وَصَلَتْ أُنْثَيَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ، فَيَجْدَعُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ، وَالْحَامِي هُوَ الْفَحْلُ مِنَ الْإِبِلِ كَانَ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَةَ، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ قَالُوا:

حَمِيَ ظَهْرُهُ، فَيُتْرَكُ فَيُسَمُّونَهُ الْحَامِيَ. وَرَوَى إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لِأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَأَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ عَهْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ: قَالُوا: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ أَبُو بَنِي كَعْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ، يُؤْذِي رِيحُهُ أَهْلَ النَّارِ، وَإِنِّي لِأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ بَحَرَ الْبَحَائِرَ، قَالُوا: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَكَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ، فَجَدَعَ أُذُنَيْهِمَا وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا، ثُمَّ شَرِبَ أَلْبَانَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ هُوَ وَهُمَا يَعُضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا وَيَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا». وَحَاصِلُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ بِهِ إِلَيْهِ، مَعَ كَوْنِهِ حَلَالًا بِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَقَدْ هَمَّ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمْ بِذَلِكَ الِانْقِطَاعُ إِلَى اللَّهِ عَنِ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا وَشَوَاغِلِهَا، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87].

فصل مثال لوقوع البدع في النفس

وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ـ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ـ وَإِنْ كَانَ بِقَصْدِ سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ ـ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الشَّرْعِ، وَلَا تَغْيِيرٌ لَهُ، وَلَا قُصِدَ فِيهِ الِابْتِدَاعُ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ كَمَا فَعَلَ الْكُفَّارُ، أَوْ قُصِدَ فِيهِ الِابْتِدَاعُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَتَمْهِيدُ سَبِيلِ الضَّلَالَةِ؟! [فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي النَّفْسِ] وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ: مَا ذُكِرَ مِنْ نِحَلِ الْهِنْدِ فِي تَعْذِيبِهَا أَنْفُسِهَا بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الشَّنِيعِ، وَالتَّمْثِيلِ، وَالْقَتْلِ بِالْأَصْنَافِ الَّتِي تَفْزَعُ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى ـ فِي زَعْمِهِمْ ـ وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الْأَكْمَلِ، بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْعَاجِلَةِ، وَمَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ لَهُمْ فَاسِدَةٍ اعْتَقَدُوهَا وَبَنَوْا عَلَيْهَا أَعْمَالَهُمْ. حَكَى الْمَسْعُودِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ فَطَالَعَهَا مِنْ هُنَالِكَ. وَقَدْ وَقَعَ الْقَتْلُ فِي الْعَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَهُوَ قَتْلُ الْأَوْلَادِ لِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا خَوْفُ الْإِمْلَاقِ. وَالْآخِرُ دَفْعُ الْعَارِ الَّذِي كَانَ لَاحِقًا لَهُمْ بِوِلَادَةِ الْإِنَاثِ. حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8].

{بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 9]. وَقَوْلَهُ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58] الْآيَةَ. وَهَذَا الْقَتْلُ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ دِينًا وَشِرْعَةً ابْتَدَعُوهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَادَةً تَعَوَّدُوهَا، بِحَيْثُ لَمْ يَتَّخِذُوهَا شِرْعَةً، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّهُمْ عَلَيْهَا فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِالْبِدْعَةِ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْمَعْصِيَةِ، فَنَظَرْنَا هَلْ نَجِدُ لِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ عَاضِدًا يَكُونُ هُوَ الْأَوْلَى فِي حَمْلِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ؟ فَوَجَدْنَا قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: 137] فَإِنَّ الْآيَةَ صَرَّحَتْ أَنَّ لِهَذَا التَّزْيِينِ سَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْإِرْدَاءُ وَهُوَ الْإِهْلَاكُ. وَالْآخَرُ لَبْسُ الدِّينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: 137] وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَغْيِيرِهِ وَتَبْدِيلِهِ أَوِ الزِّيَادَةِ فِيهِ أَوِ النُّقْصَانِ مِنْهُ، وَهُوَ الِابْتِدَاعُ بِلَا إِشْكَالٍ، وَإِنَّمَا كَانَ دِينُهُمْ أَوَّلًا دِينَ أَبِيهِمْ (إِبْرَاهِيمَ) فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا بَدَّلُوا فِيهِ، كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَصْبِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا، حَتَّى عُدَّ مِنْ جُمْلَةِ دِينِهِمُ الَّذِي يَدِينُونَ بِهِ. وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] فَنَسَبَهُمْ إِلَى الِافْتِرَاءِ ـ كَمَا تَرَى ـ وَالْعِصْيَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِصْيَانٌ لَا يَكُونُ افْتِرَاءً، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِافْتِرَاءُ فِي نَفْسِ التَّشْرِيعِ فِي أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا جَاءَ مِنَ الدِّينِ.

وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا} [الأنعام: 140] فَجَعَلَ قَتْلَ الْأَوْلَادِ مَعَ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الِافْتِرَاءِ، ثُمَّ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: (قَدْ ضَلُّوا) وَهَذِهِ خَاصِّيَّةُ الْبِدْعَةِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ فَإِذَا مَا فَعَلَتِ الْهِنْدُ نَحْوَ مَا فَعَلَتِ الْجَاهِلِيَّةُ، وَسَيَأْتِي مَذْهَبُ الْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ فِي شَرْعِيَّةِ الْقَتْلِ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] أَنَّهُ قَتْلُ الْأَوْلَادِ عَلَى جِهَةِ النَّذْرِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلَى اللَّهِ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا الْقَتْلُ قَدْ يُشْكِلُ، إِذْ يُقَالُ لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اقْتَدَوْا فِيهِ بِأَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِذَبْحِ ابْنِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اخْتِرَاعًا وَافْتِرَاءً لِرُجُوعِهَا إِلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ وَهُوَ عَمَلُ أَبِيهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ وَتُؤُوِّلَ فِعْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَرِيعَةً لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ طَرِيقَتِهِ فَوَجْهُ اخْتِرَاعِهِ دِينًا ظَاهِرٌ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ عُرُوضِ شُبْهَةِ الذَّبْحِ، وَهُوَ شَأْنُ أَهْلِ الْبِدَعِ، إِذْ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ شُبْهَةٍ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا ـ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَكَوْنُ مَا تَفْعَلُ أَهْلُ الْهِنْدِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ظَاهِرٌ جِدًّا. وَيَجْرِي مَجْرَى إِتْلَافِ النَّفْسِ إِتْلَافَ بَعْضِهَا، كَقَطْعِ عُضْوٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ، أَوْ تَعْطِيلِ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِهِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْبِدَعِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ حَيْثُ قَالَ: «رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ

فصل مثال لوقوع البدع في النسل

عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَلَوْ أُذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا»، فَالْخَصَاءُ بِقَصْدِ التَّبَتُّلِ وَتَرْكِ الْاشْتِغَالِ بِمْلَابَسَةِ النِّسَاءِ وَاكْتِسَابِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ مَرْدُودٌ مَذْمُومٌ، وَصَاحِبُهُ مُعْتَدٍ غَيْرُ مَحْبُوبٍ عِنْدَ اللَّهِ، حَسْبَمَا نَبَّهَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] وَكَذَلِكَ فَقْءُ الْعَيْنِ لِئَلَّا يَنْظُرَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ. [فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي النَّسْلِ] وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي النَّسْلِ: مَا ذُكِرَ مِنْ أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَعْهُودَةً فِيهَا وَمَعْمُولًا بِهَا، وَمُتَّخَذَةً فِيهَا كَالدِّينِ الْمُنْتَسِبِ وَالْمِلَّةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَا اخْتَرَعُوا وَابْتَدَعُوا، وَهُوَ عَلَى أَنْوَاعٍ: فَجَاءَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءَ: الْأَوَّلُ مِنْهَا: نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا. وَالثَّانِي: نِكَاحُ الِاسْتِبْضَاعِ، كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مَنْ طَمَثِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ. وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا

أَبَدًا حَتَّى حَمْلِهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي يَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْتَمِعَ الرَّهْطُ مَا دُونُ الْعَشَرَةِ فَيُدِلُّونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّتْ لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، تَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مَنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانٌ، فَتُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ الرَّجُلُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ الْكَثِيرُونَ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ مَنْ جَاءَهَا وَهُنَّ الْبَغَايَا، كُنْ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جَمَعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهَا الْقَافَةَ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ، فَالْتَاطَ بِهِ وَدُعِيَ ابْنَهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ مَذْكُورٌ. وَكَانَ لَهُمْ أَيْضًا سُنَنٌ أُخَرُ فِي النِّكَاحِ خَارِجَةٌ عَنِ الْمَشْرُوعِ كَوِرَاثَةِ النِّسَاءِ كُرْهًا، وَكَنِكَاحِ مَا نَكَحَ الْأَبُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، جَاهِلِيَّةٌ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْمَشْرُوعَاتِ عِنْدَهُمْ، فَمَحَا الْإِسْلَامُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

ثُمَّ أَتَى بَعْضُ مَنْ نُسِبَ إِلَى الْفِرَقِ مِمَّنْ حَرَّفَ التَّأْوِيلَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَأَجَازَ نِكَاحَ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، إِمَّا اقْتِدَاءً ـ فِي زَعْمِهِ ـ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَحَلَّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِمَّا تَحْرِيفًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. فَأَجَازَ الْجَمْعَ بَيْنَ تِسْعِ نِسْوَةٍ، ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْهَمِ الْمُرَادَ مِنَ الرَّاوِي وَلَا مِنْ قَوْلِهِ: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فَأَتَى بِبِدْعَةٍ أَجْرَاهَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَلَا مُسْتَنَدَ فِيهَا. وَيُحْكَى عَنِ الشِّيعَةِ أَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْقَطَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَنْ دَانَ بِحُبِّهِمْ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ إِلَّا بِمَا تَطَوَّعُوا، وَأَنَّ الْمَحْظُورَاتِ مُبَاحَةٌ لَهُمْ كَالْخِنْزِيرِ وَالزِّنَا وَالْخَمْرِ وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ، وَعِنْدَهُمْ نِسَاءٌ يُسَمَّيْنَ النَّوَّابَاتِ يَتَصَدَّقْنَ بِفُرُوجِهِنَّ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ، وَيَنْكِحُونَ مَا شَاءُوا مِنَ الْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ، لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ وَلَا فِي تَكْثِيرِ النِّسَاءِ. وَهَؤُلَاءِ الْعُبَيْدِيَّةُ الَّذِينَ مَلَكُوا مِصْرَ وَإِفْرِيقِيَّةَ. وَمِمَّا يُحْكَى عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَزْوَاجٍ وَأَكْثَرُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ يَسْتَدِلُّونَهَا وَتَنْسُبُ الْوَلَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَهْنَأُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، كَمَا الْتَزَمَتِ الْإِبَاحِيَّةُ خَرْقَ هَذَا الْحِجَابَ بِإِطْلَاقٍ، وَزَعَمَتْ أَنَّ

فصل مثال لوقوع البدع في العقل

الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ خَاصَّةٌ بِالْعَوَّامِّ، وَأَمَّا الْخَوَاصُّ مِنْهُمْ فَقَدْ تَرَقَّوْا عَنْ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ، فَالنِّسَاءُ بِإِطْلَاقٍ حَلَّالٌ لَهُمْ، كَمَا أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ حَلَالٌ لَهُمْ أَيْضًا، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِخُرَافَاتِ عَجَائِزَ لَا يَرْضَاهَا ذُو عَقْلٍ: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] فَصَارُوا أَضَرَّ عَلَى الدِّينِ مِنْ مَتْبُوعِهِمْ إِبْلِيسُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ: وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ فَانْتَهَى ... بِيَ الْفِسْقُ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي! فَلَوْ مَاتَ قَبْلِي كُنْتُ أُحْسِنُ بَعْدَهُ ... طَرَائِقَ فِسْقٍ لَيْسَ يُحْسِنُهَا بَعْدِي! [فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي الْعَقْلِ] وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي الْعَقْلِ، أَنَّ الشَّرِيعَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ فِي دِينِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] وَقَالَ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ.

فَخَرَجَتْ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ فِرْقَةٌ زَعَمَتْ أَنَّ الْعَقْلَ لَهُ مَجَالٌ فِي التَّشْرِيعِ، وَأَنَّهُ مُحَسِّنٌ وَمُقَبِّحٌ، فَابْتَدَعُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمَتْ، وَنَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ ـ فِي شَأْنِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَهُوَ وَيَشْرَبُهَا ـ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]. الْآيَةَ. تَأَوَّلَهَا قَوْمٌ ـ فِيمَا ذُكِرَ ـ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ، وَأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: فِيمَا طَعِمُوا. فَذَكَرَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ، قَالَ: شَرِبَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ الْخَمْرَ وَعَلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالُوا: هِيَ لَنَا حَلَالٌ. وَتَأَوَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 93] الْآيَةَ. قَالَ فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ. قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِ: أَنِ ابْعَثْ بِهِمْ إِلَيَّ قَبْلَ أَنْ يُفْسِدُوا مَنْ قِبَلَكَ، فَلَمَّا قَدِمُوا إِلَى عُمَرَ اسْتَشَارَ فِيهِمُ النَّاسَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! نَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَشَرَعُوا فِي دِينِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَعَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ سَاكِتٌ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ؟ فَقَالَ: أَرَى أَنْ تَسْتَتِيبَهُمْ فَإِنْ تَابُوا جَلَدْتَهُمْ ثَمَانِينَ لِشُرْبِهِمُ الْخَمْرَ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا ضَرَبْتَ أَعْنَاقَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَشَرَعُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ. فَهَؤُلَاءِ اسْتَحَلُّوا بِالتَّأْوِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَشَهِدَ فِيهِمْ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ، وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، بِأَنَّهُمْ شَرَعُوا فِي دِينِ اللَّهِ، وَهَذِهِ هِيَ

فصل مثال لوقوع البدع في المال

الْبِدْعَةُ بِعَيْنِهَا، فَهَذَا وَجْهٌ. وَأَيْضًا ; فَإِنَّ بَعْضَ الْفَلَاسِفَةِ الْإِسْلَامِيِّينَ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ هَذَا، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَشْرَبُهَا لِلنَّفْعِ لَا لِلَّهْوِ، وَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، فَكَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَدْوِيَةِ أَوْ غِذَاءٌ صَالِحٌ يَصْلُحُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ. وَيُحْكَى هَذَا الْعَهْدُ عَنِ ابْنِ سِينَا. وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ كَلَامِ النَّاسِ مِمَّنْ عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِينُ فِي سَهَرِهِ لِلْعِلْمِ وَالتَّصْنِيفِ وَالنَّظَرِ بِالْخَمْرِ، فَإِذَا رَأَى مِنْ نَفْسِهِ كَسَلًا أَوْ فِتْرَةً شَرِبَ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُنَشِّطُهُ وَيَنْفِي عَنْهُ الْكَسَلَ، بَلْ ذَكَرُوا فِيهَا أَنَّ لَهَا حَرَارَةً خَاصَّةً تَفْعَلُ أَفْعَالًا كَثِيرَةً تُطَيِّبُ النَّفْسَ، وَتُصَيِّرُ الْإِنْسَانَ مُحِبًّا لِلْحِكْمَةِ، وَتَجْعَلُهُ حَسَنَ الْحَرَكَةِ، وَالذِّهْنِ، وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَهَا عَلَى الِاعْتِدَالِ عَرَفَ الْأَشْيَاءَ، وَفَهِمَهَا، وَتَذَكَّرَهَا بَعْدَ النِّسْيَانِ. فَلِهَذَا ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ كَانَ ابْنُ سِينَا لَا يَتْرُكُ اسْتِعْمَالَهَا ـ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْهُ ـ وَهُوَ كُلُّهُ ضَلَالٌ مُبِينٌ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا دَاخِلٌ تَحْتِ مَسْأَلَةِ التَّدَاوِي بِهَا. وَفِيهَا خِلَافٌ شَهِيرٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ سِينَا أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا اسْتِعْمَالَ الْأُمُورِ الْمُنَشِّطَةِ مِنَ الْكَسَلِ وَالْحِفْظِ لِلصِّحَّةِ، وَالْقُوَّةِ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْأَعْمَالِ، أَوْ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، لَا فِي الْأَمْرَاضِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَجْسَامِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الْأَمْرَاضِ لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مُتَقَوِّلُونَ عَلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ مُبْتَدِعُونَ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ رَأْيُ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ فِي الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ. [فَصْلٌ مِثَالٌ لِوُقُوعِ الْبِدَعِ فِي الْمَالِ] وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي الْمَالِ:

أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَإِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَحَلُّوا الْعَمَلَ بِهِ وَاحْتَجُّوا بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ، فَقَالُوا: إِذَا فَسَخَ الْعَشَرَةَ الَّتِي اشْتَرَى بِهَا إِلَى شَهْرٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى شَهْرَيْنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى شَهْرَيْنِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] أَيْ: لَيْسَ الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ أَخَذُوا بِهَا مُسْتَنِدِينَ إِلَى رَأْيٍ فَاسِدٍ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحْدَثَاتِ، كَسَائِرِ مَا أَحْدَثُوا فِي الْبُيُوعِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمُ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْخَطَرِ وَالْغَرَرِ. وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ قَدْ شَرَعَتْ أَيْضًا أَشْيَاءَ فِي الْأَمْوَالِ كَالْحُظُوظِ الَّتِي كَانُوا يُخْرِجُونَهَا لِلْأَمِيرِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، حَتَّى قَالَ شَاعِرُهُمْ: لَكَ الْمِرْبَاعُ فِيهَا وَالصَّفَايَا ... وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ فَالْمِرْبَاعُ: رُبْعُ الْمَغْنَمِ يَأْخُذُهُ الرَّئِيسُ. وَالصَّفَايَا: جَمْعُ صَفِيٍّ. وَهُوَ مَا يَصْطَفِيهِ الرَّئِيسُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَالنَّشِيطَةُ: مَا يَغْنَمُهُ الْغُزَاةُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَصَدُوهُ، فَكَانَ يَخْتَصُّ بِهِ الرَّئِيسُ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْفُضُولُ: مَا يَفْضُلُ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ. وَكَانَتْ تَتَّخِذُ الْأَرَضِينَ تَحْمِيهَا عَنِ النَّاسِ أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا وَلَا يَرْعَوْهَا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِقِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ، ارْتَفَعَ حُكْمُ هَذِهِ الْبِدْعَةِ إِلَّا بَعْضُ مَنْ جَرَى فِي الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَعَمِلَ بِأَحْكَامِ الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ عَلَى

فصل كل بدعة ضلالة

الْعَمَلِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا حِمَى إِلَّا حِمَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ثُمَّ جَرَى بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ آثَرَ الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، عَلَى سَبِيلِ حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] وَلَكِنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا أَثْبَتُ أَصْلًا فِي الشَّرِيعَةِ مُطَّرِدًا لَا يَنْخَرِمُ، وَعَامًّا لَا يُتَخَصَّصُ، وَمُطْلَقًا لَا يَتَقَيَّدُ. وَهُوَ أَنَّ الصَّغِيرَ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ وَالْكَبِيرَ، وَالشَّرِيفَ وَالدَّنِيءَ، وَالرَّفِيعَ وَالْوَضِيعَ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ سَوَاءٌ، فَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ خَرَجَ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الِاسْتِقَامَةِ إِلَى الِاعْوِجَاجِ. وَتَحْتَ هَذَا الرَّمْزِ تَفَاصِيلُ عَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ، لَعَلَّهَا تُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا. [فَصْلٌ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ] إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي الذَّمِّ وَلَا فِي النَّهْيِ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، كَمَا أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، فَوَصْفُ الضَّلَالَةِ لَازِمٌ لَهَا وَشَامِلٌ لِأَنْوَاعِهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». لَكِنْ يَبْقَى هَاهُنَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الضَّلَالَةَ ضِدَّ الْهُدَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] وَقَوْلِهِ

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ - وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 36 - 37] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا قُوبِلَ فِيهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ. فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا ضِدَّانِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ تُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ الْمَكْرُوهَةَ خُرُوجٌ عَنِ الْهُدَى. وَنَظِيرِهِ فِي الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِبِدَعٍ، الْمَكْرُوهَةُ مِنَ الْأَفْعَالِ، كَالِالْتِفَاتِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَالصَّلَاةِ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَنَظِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ: «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا» فَالْمُرْتَكِبُ لِلْمَكْرُوهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مُخَالِفٌ وَلَا عَاصٍ، مَعَ أَنَّ الطَّاعَةَ ضِدُّهَا الْمَعْصِيَةُ. وَفَاعِلُ الْمَنْدُوبِ مُطِيعٌ لِأَنَّهُ فَاعِلُ أَمْرٍ بِهِ. فَإِذَا اعْتَبَرْتَ الضِّدَّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا لِأَنَّهُ فَاعِلٌ مَا نُهِيَ عَنْهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عَاصٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ فَاعِلُ الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ ضَالًّا، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اعْتِبَارِ الضِّدِّ فِي الطَّاعَةِ وَاعْتِبَارِهِ فِي الْهُدَى، فَكَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ فَكَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ،

وَإِلَّا فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ، كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ. إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عُمُومُ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ، فَلْيَعُمَّ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ لِكُلِّ فِعْلٍ مَكْرُوهٍ، لَكِنَّ هَذَا بَاطِلٌ، فَمَا لَزِمَ عَنْهُ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ عُمُومَ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ وَالْجَوَابُ: أَنَّ عُمُومَ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ ثَابِتٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ ـ وَمَا الْتَزَمْتُمْ فِي الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي الْأَفْعَالِ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الضِّدِّيَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ، وَلِمَا اسْتَقْرَيْنَا مَوَارِدَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَجَدْنَا لِلطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَاسِطَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا أَوْ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَهِيَ الْمُبَاحُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَاعَةٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ. فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ضِدَّانِ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّخْيِيرُ. وَإِذَا تَأَمَّلْنَا الْمَكْرُوهَ ـ حَسْبَمَا قَرَّرَهُ الْأُصُولِيُّونَ ـ وَجَدْنَاهُ ذَا طَرَفَيْنِ: طَرَفٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَيَسْتَوِي مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَقِ النَّهْيِ، فَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ مُخَالَفَةَ نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ مَعْصِيَةً مِنْ حَيْثُ اشْتَرَكَ مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ. غَيْرَ أَنَّهُ يَصُدُّ عَنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ الطَّرَفَ الْآخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَاعِلِهِ ذَمٌّ شَرْعِيٌّ وَلَا إِثْمٌ وَلَا عِقَابٌ، فَخَالَفَ الْمُحَرَّمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَشَارَكَ الْمُبَاحَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا ذَمَّ عَلَى فَاعِلِهِ وَلَا إِثْمَ وَلَا عِقَابَ، فَتَحَامَوْا أَنْ يُطْلِقُوا عَلَى مَا هَذَا شَأْنُهُ عِبَارَةَ الْمَعْصِيَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَوَجَدْنَا بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَاسِطَةً يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهَا الْمَكْرُوهُ مِنَ الْبِدَعِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] فَلَيْسَ إِلَّا حَقٌّ، وَهُوَ الْهُدَى، وَضَلَالٌ وَهُوَ الْبَاطِلُ، فَالْبِدَعُ

الْمَكْرُوهَةُ ضَلَالٌ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَإِنَّ إِثْبَاتَ قَسْمِ الْكَرَاهَةِ فِي الْبِدَعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَلَا يَغْتَرُّ الْمُغْتَرُّ بِإِطْلَاقِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَفْظُ الْمَكْرُوهِ عَلَى بَعْضِ الْبِدَعِ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْبِدَعَ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الذَّمِّ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ـ وَأَمَّا تَعْيِينُ الْكَرَاهَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا نَفْيُ إِثْمِ فَاعِلِهَا وَارْتِفَاعُ الْحَرَجِ الْبَتَّةَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ الشَّرْعِ وَلَا مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ. أَمَّا الشَّرْعُ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: «أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ اللَّيْلَ وَلَا أَنَامُ»، وَقَالَ الْآخَرُ: «أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْكِحُ النِّسَاءَ» إِلَى آخِرِ مَا قَالُوا، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَشَدُّ شَيْءٍ فِي الْإِنْكَارِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا الْتَزَمُوا إِلَّا فِعْلَ مَنْدُوبٍ أَوْ تَرْكَ مَنْدُوبٍ إِلَى فِعْلِ مَنْدُوبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَجْلِسُ وَيَصُومَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهُ فَلْيَجْلِسْ وَلِيَسْتَظِلَّ وَلِيُتِمَّ صَوْمَهُ» قَالَ مَالِكٌ: أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ طَاعَةٌ، وَيَتْرُكُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ. وَيُعَضِّدُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ،

قَالَ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمُسَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ فَرَآهَا لَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: مَا لَهَا فَقَالَ حَجَّتْ مُصْمَتَةً قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَكَلَّمَتِ الْحَدِيثَ إِلَخْ. وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» إِنَّ ذَلِكَ أَنْ يَنْذُرَ الرَّجُلُ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى الشَّامِ وَإِلَى مِصْرَ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ طَاعَةٌ، أَوْ أَنْ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إِنْ هُوَ كَلَّمَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ طَاعَةٌ، وَإِنَّمَا يُوفِي لِلَّهِ بِكُلِّ نَذْرٍ فِيهِ طَاعَةٌ مِنْ مَشْيٍ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ صَلَاةٍ، فَكُلُّ مَا لِلَّهِ فِيهِ طَاعَةٌ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ نَذَرَهُ. فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ الْقِيَامَ فِي الشَّمْسِ وَتَرَكَ الْكَلَامَ وَنَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الشَّامِ أَوْ مِصْرَ مَعَاصِيَ، حَتَّى فَسَّرَ فِيهَا الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ، مَعَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا أَشْيَاءَ مُبَاحَاتٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا أَجْرَاهَا مَجْرَى مَا يَتَشَرَّعُ بِهِ وَيُدَانُ لِلَّهِ بِهِ صَارَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَعَاصِيَ لِلَّهِ، وَكُلِّيَةُ قَوْلِهِ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْجَمِيعُ يَقْتَضِي التَّأْثِيمَ وَالتَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَهِيَ خَاصِّيَّةُ الْمُحَرَّمِ. وَقَدْ مَرَّ مَا «رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بِكَّارٍ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! مَنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ: فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ. قَالَ: غَنِيٌّ أُرِيدَ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا، قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّكَ سُبِقْتَ إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ

تَعَالَى يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]». فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ خَشِيَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ مَوْضِعٍ فَاضِلٍ لَا بُقْعَةَ أَشْرَفَ مِنْهُ، وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ، لَكِنَّهُ أُبْعِدَ مِنَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي التَّعَبِ قَصْدًا لِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ مَا اسْتَسْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْيَسِيرِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ يَخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ الْفِتْنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ. فَكُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ ـ عِنْدَ مَالِكٍ ـ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَأَيْنَ كَرَاهِيَةُ التَّنْزِيهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَظْهَرُ بِأَوَّلِ النَّظَرِ أَنَّهَا سَهْلَةٌ وَيَسِيرَةٌ؟. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ: التَّثْوِيبُ ضَلَالٌ؟ قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الدِّينَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، لَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا. وَإِنَّمَا التَّثْوِيبُ الَّذِي كَرِهَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ كَانَ إِذَا أَذَّنَ فَأَبْطَأَ النَّاسُ قَالَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ التَّثْوِيبُ الْمُحْدَثُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ لَمَّا نَقَلَ هَذَا عَنْ سَحْنُونَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَ إِسْحَاقُ هُوَ التَّثْوِيبُ الَّذِي قَدْ كَرِهَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَالَّذِي أَحْدَثُوهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا

اعْتُبِرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَسْتَسْهِلُّهُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى التَّذْكِيرِ بِالصَّلَاةِ. وَقِصَّةُ صَبِيغٍ الْعِرَاقِيِّ ظَاهِرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: جَعَلَ صَبِيغٌ يَطُوفُ بِكِتَابِ اللَّهِ مَعَهُ، وَيَقُولُ: مَنْ يَتَفَقَّهْ يُفَقِّهْهُ اللَّهُ، مَنْ يَتَعَلَّمْ يُعَلِّمْهُ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فَضَرَبَهُ بِالْجَرِيدِ الرَّطِبِ، ثُمَّ سَجَنَهُ حَتَّى إِذَا خَفَّ الَّذِي بِهِ أَخْرَجَهُ فَضَرَبَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَأَجْهِزْ عَلَيَّ، وَإِلَّا فَقَدْ شَفَيْتَنِي شَفَاكَ اللَّهُ فَخَلَّاهُ عُمَرُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ، وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ صَبِيغًا حِينَ بَلَغَهُ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ اهـ. وَهَذَا الضَّرْبُ إِنَّمَا كَانَ لِسُؤَالِهِ عَنْ أُمُورٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ وَرُبَّمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ عَنِ السَّابِحَاتِ سَبْحًا، وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَالضَّرْبُ إِنَّمَا يَكُونُ لِجِنَايَةٍ أَرْبَتْ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ، إِذْ لَا يُسْتَبَاحُ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَلَا عِرْضُهُ بِمَكْرُوهٍ كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ، ضَرْبُهُ إِيَّاهُ خَوَّفَ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ أَنْ يَشْتَغِلَ مِنْهُ بِمَا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً، لِئَلَّا يَبْحَثَ عَنِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَلِذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] قَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ، فَمَا الْأَبُّ! ثُمَّ قَالَ: مَا أُمِرْنَا بِهَذَا.

وَفِي رِوَايَةٍ: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ. وَجَاءَ فِي قِصَّةِ صَبِيغٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّهُ ضَرَبَهُ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ لَهُ صَبِيغٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِي فَقَدْ وَاللَّهِ بَرِئْتُ. فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبَى مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ أَنْ قَدْ حَسُنَتْ سَيِّئَتُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمَرُ أَنْ يَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ. وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَيِّنَ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْبِدَعِ شَدِيدٌ وَلَيْسَ بِهَيِّنٍ {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]. وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَطْلَقُوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقِبْلَتَيْنِ. فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَيَخُصُّونَ كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] وَحَكَى مَالِكٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ هَذَا الْمَعْنَى. فَإِذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَوْ غَيْرِهَا: أَكْرَهُ هَذَا، وَلَا

أُحِبُّ هَذَا، وَهَذَا مَكْرُوهٌ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ، فَإِنَّهُ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِي جَمِيعِ الْبِدَعِ عَلَى أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمِنْ أَيْنَ يُعَدُّ فِيهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ؟ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُطْلِقُوا لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُ أَمْرٌ آخَرُ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ فَيُكْرَهُ لِأَجْلِهِ، لَا لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا ثَالِثًا: فَإِنَّا إِذَا تَأَمَّلْنَا حَقِيقَةَ الْبِدْعَةِ ـ دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ ـ وَجَدْنَاهَا مُخَالِفَةً لِلْمَكْرُوهِ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ الْمُخَالَفَةَ التَّامَّةَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَكْرُوهِ إِنَّمَا قَصْدُهُ نَيْلُ غَرَضِهِ وَشَهْوَتِهِ الْعَاجِلَةِ مُتَّكِلًا عَلَى الْعَفْوِ اللَّازِمِ فِيهِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ الثَّابِتِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ إِلَى الطَّمَعِ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ أَقْرَبُ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ عَقَدُهُ الْإِيمَانِيُّ بِمُتَزَحْزِحٍ، لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ الْمَكْرُوهَ مَكْرُوهًا كَمَا يَعْتَقِدُ الْحَرَامَ حَرَامًا وَإِنِ ارْتَكَبَهُ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ وَيَرْجُوهُ، وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ شُعْبَتَانِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ. فَكَذَلِكَ مُرْتَكِبُ الْمَكْرُوهِ يَرَى أَنَّ التُّرْكَ أَوْلَى فِي حَقِّهِ مِنَ الْفِعْلِ، وَأَنَّ نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ زَيَّنَتْ لَهُ الدُّخُولَ فِيهِ. وَيَوَدُّ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ، وَأَيْضًا فَلَا يَزَالُ ـ إِذَا تَذَكَّرَ ـ مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ طَامِعًا فِي الْإِقْلَاعِ سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَخَذَ فِي أَسْبَابِ الْإِقْلَاعِ أَمْ لَا. وَمُرْتَكِبُ أَدْنَى الْبِدَعِ يَكَادُ يَكُونُ عَلَى ضِدِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّهُ يَعُدُّ مَا دَخَلَ فِيهِ حَسَنًا، بَلْ يَرَاهُ أَوْلَى بِمَا حَدَّ لَهُ الشَّارِعُ، فَأَيْنَ مَعَ هَذِهِ خَوْفُهُ أَوْ رَجَاؤُهُ؟ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ طَرِيقَهُ أَهْدَى سَبِيلًا، وَنِحْلَتَهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ.

فصل هل في البدع صغائر وكبائر

هَذَا وَإِنْ كَانَ زَعْمُهُ شُبْهَةً عَرَضَتْ فَقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى. وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ تَقْرِيرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الثَّانِي تَقْرِيرٌ لِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُعَظِّمُ أَمْرَ الْبِدَعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَكَذَلِكَ مَرَّ فِي آخِرِ الْبَابِ أَيْضًا أُمُورٌ ظَاهِرَةٌ فِي بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَرَاجِعْهَا هُنَالِكَ يَتَبَيَّنْ لَكَ مِصْدَاقَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ هَاهُنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَبَيْنَ أَدْنَى الْبِدَعِ بَعِيدُ الْمُلْتَمَسِ. [فَصْلٌ هَلْ فِي الْبِدَعِ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ] إِذَا ثَبَتَ هَذَا انْتَقَلْنَا مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ الْمُحْرِمَ يَنْقَسِمُ فِي الشَّرْعِ إِلَى مَا هُوَ صَغِيرَةٌ وَإِلَى مَا هُوَ كَبِيرَةٌ ـ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ ـ فَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ: إِنَّهَا تَنْقَسِمُ إِلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ اعْتِبَارًا بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِهَا ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ. وَلَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَوْجُهٍ وَجَمِيعُ مَا قَالُوهُ لَعَلَّهُ لَا يُوفِي بِذَلِكَ الْمَقْصُودِ عَلَى الْكَمَالِ فَلْنَتْرُكِ التَّفْرِيعَ عَلَيْهِ. وَأَقْرَبُ وَجْهٍ يُلْتَمَسُ لِهَذَا الْمَطْلَبِ مَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْمُوَافِقَاتِ أَنَّ الْكَبَائِرَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْإِخْلَالِ بِالضَّرُورِيَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ. وَهِيَ الدِّينُ وَالنَّفْسُ وَالنَّسْلُ وَالْعَقْلُ وَالْمَالُ، وَكُلُّ مَا نُصَّ عَلَيْهِ رَاجِعٌ إِلَيْهَا، وَمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ جَرَتْ فِي الِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ مَجْرَاهَا، وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ

أَشْتَاتَ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ وَمَا لَمْ يَذْكُرُوهُ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ. فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي كَبَائِرَ الْبِدَعَ: مَا أَخَلَّ مِنْهَا بِأَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، وَمَا لَا، فَهُوَ صَغِيرَةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لِذَلِكَ أَمْثِلَةُ أَوَّلِ الْبَابِ. فَكَمَا انْحَصَرَتْ كَبَائِرُ الْمَعَاصِي أَحْسَنَ انْحِصَارٍ ـ حَسْبَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ ـ كَذَلِكَ تَنْحَصِرُ كَبَائِرُ الْبِدَعِ أَيْضًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْتَرِضُ فِي الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ عَظِيمٌ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ يَعْسُرُ التَّخَلُّصُ عَنْهُ فِي إِثْبَاتِ الصَّغَائِرِ فِيهَا. وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْبِدَعِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِخْلَالِ بِالدِّينِ إِمَّا أَصْلًا وَإِمَّا فَرْعًا، لِأَنَّهَا إِنَّمَا أُحْدِثَتْ لِتُلْحِقَ بِالْمَشْرُوعِ زِيَادَةً فِيهِ أَوْ نُقْصَانًا مِنْهُ أَوْ تَغْيِيرًا لِقَوَافِيهِ، أَوْ مَا يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُخْتَصٍّ بِالْعِبَادَاتِ دُونَ الْعَادَاتِ، وَإِنْ قُلْنَا بِدُخُولِهَا فِي الْعَادَاتِ، بَلْ تُمْنَعُ فِي الْجَمِيعِ. وَإِذَا كَانَتْ بِكُلِّيَّتِهَا إِخْلَالًا بِالدِّينِ فَهِيَ إِذًا إِخْلَالٌ بِأَوَّلِ الضَّرُورِيَّاتِ وَهُوَ الدِّينُ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ «أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، وَقَالَ فِي الْفِرَقِ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةٌ» وَهَذَا وَعِيدٌ أَيْضًا لِلْجَمِيعِ عَلَى التَّفْصِيلِ. وَهَذَا وَإِنْ تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُهَا فِي الْإِخْلَالِ بِالدِّينِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُخْرِجٍ لَهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ كَبَائِرَ، كَمَا أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْخَمْسَ أَرْكَانُ الدِّينِ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي التَّرْتِيبِ، فَلَيْسَ الْإِخْلَالُ بِالشَّهَادَتَيْنِ كَالْإِخْلَالِ بِالصَّلَاةِ، وَلَا الْإِخْلَالُ بِالصَّلَاةِ كَالْإِخْلَالِ بِالزَّكَاةِ، وَلَا الْإِخْلَالُ بِالزَّكَاةِ كَالْإِخْلَالِ بِرَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا مَعَ الْإِخْلَالِ، فَكُلٌّ مِنْهَا كَبِيرَةٌ. فَقَدْ آلَ النَّظَرُ إِلَى أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ كَبِيرَةٌ.

وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا النَّظَرَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، فَفِي النَّظَرِ مَا يَدُلُّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عَلَى إِثْبَاتِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّا نَقُولُ: الْإِخْلَالُ بِضَرُورَةِ النَّفْسِ كَبِيرَةٌ بِلَا إِشْكَالٍ، وَلَكِنَّهَا عَلَى مَرَاتِبَ أَدْنَاهَا لَا يُسَمَّى كَبِيرَةً، فَالْقَتْلُ كَبِيرَةٌ، وَقَطْعُ الْأَعْضَاءِ مِنْ غَيْرِ إِجْهَازِ كَبِيرَةٌ دُونَهَا، وَقَطْعُ عُضْوٍ وَاحِدٍ كَبِيرَةٌ دُونَهَا، وَهَلُمَّ جَرَّا إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى اللَّطْمَةِ، ثُمَّ إِلَى أَقَلِّ خَدْشٍ يُتَصَوَّرُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي مَثَلِهِ كَبِيرَةٌ، كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّرِقَةِ: إِنَّهَا كَبِيرَةٌ لِأَنَّهَا إِخْلَالٌ بِضَرُورَةِ الْمَالِ. فَإِنْ كَانَتِ السَّرِقَةُ فِي لُقْمَةٍ أَوْ تَطْفِيفٍ بِحَبَّةٍ فَقَدْ عَدُّوهُ مِنَ الصَّغَائِرِ. وَهَذَا فِي ضَرُورَةِ الدِّينِ أَيْضًا. فَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَنْ حُذَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: «أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةَ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةَ، وَلَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِيمَانِ عُرْوَةً عُرْوَةً، وَلِيُصَلِّيَنَّ نِسَاءٌ وَهُنَّ حُيَّضٌ ـ ثُمَّ قَالَ ـ حَتَّى تَبْقَى فِرْقَتَانِ مِنْ فِرَقٍ كَثِيرَةٍ تَقُولُ إِحْدَاهُمَا: مَا بَالُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؟ لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] لَا تُصَلُّنَّ إِلَّا ثَلَاثًا. وَتَقُولُ أُخْرَى: إِنَّا لِنُؤْمِنُ بِاللَّهِ إِيمَانَ الْمَلَائِكَةِ، مَا فِينَا كَافِرٌ، حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْشُرَهُمَا مَعَ الدَّجَّالِ»

فَهَذَا الْأَثَرُ ـ وَإِنْ لَمْ تُلْتَزَمْ عُهْدَةُ صِحَّتِهِ ـ مِثَالٌ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَسْأَلَةِ. فَقَدْ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ يَرَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ ثَلَاثٌ لَا خَمْسٌ، وَبَيَّنَ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ يُصَلِّينَ وَهُنَّ حُيَّضٌ. كَأَنَّهُ يُعْنَى بِسَبَبِ التَّعَمُّقِ وَطَلَبِ الِاحْتِيَاطِ بِالْوَسَاوِسِ الْخَارِجِ عَنِ السُّنَّةِ. فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ دُونَ الْأُولَى. وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ زَعَمَ أَنَّ الظُّهْرَ خَمْسُ رَكْعَاتٍ لَا أَرْبَعُ رَكْعَاتٍ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْعُتْبِيَّةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الِاعْتِمَادَ فِي الصَّلَاةِ ـ حَتَّى لَا يُحَرِّكَ رِجْلَيْهِ ـ رَجُلٌ قَدْ عُرِفَ وَسُمِّيَ إِلَّا أَنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَقَدْ كَانَ مُسَاءً (أَيْ يُسَاءُ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ) قَالَ: قَدْ عِيبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ مِنَ الْفِعْلِ. قَالُوا: وَمُسَاءً أَيْ يُسَاءُ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يُرَوِّحَ الرَّجُلُ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ أَنْ يُقْرِنَهُمَا حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ عَلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُدُودِ الصَّلَاةِ إِذْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ الْمَرْضِيِّينَ، وَهُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ انْتَهَى. فَمِثْلُ هَذَا ـ إِنْ كَانَ يَعُدُّهُ فَاعِلُهُ مِنْ مَحَاسِنِ الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ أَثَرٌ ـ فَيُقَالُ فِي مِثْلِهِ: إِنَّهُ مِنْ كِبَارِ الْبِدَعِ. كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ

الْخَامِسَةِ فِي الظُّهْرِ وَنَحْوِهَا، بَلْ إِنَّمَا يُعَدُّ مِثْلُهُ مِنْ صَغَائِرِ الْبِدَعِ إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ فِيهِ مَا يُرَادُ بِهِ التَّنْزِيهُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ فِي قَاعِدَةِ الدِّينِ، فَمِثْلُهُ يُتَصَوَّرُ فِي سَائِرِ الْبِدَعِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَرَاتِبِ، فَالصَّغَائِرُ فِي الْبِدَعِ ثَابِتَةٌ كَمَا أَنَّهَا فِي الْمَعَاصِي ثَابِتَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا هِيَ كُلِّيَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَإِلَى جُزْئِيَّةٍ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْخَلَلُ الْوَاقِعُ بِسَبَبِ الْبِدْعَةِ كُلِّيًّا فِي الشَّرِيعَةِ، كَبِدْعَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ، وَبِدْعَةِ إِنْكَارِ الْأَخْبَارِ السُّنِّيَّةِ اقْتِصَارًا عَلَى الْقُرْآنِ، وَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ فَرْعًا مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ دُونَ فَرْعٍ، بَلْ سَتَجِدُهَا تَنْتَظِمُ مَا لَا يَنْحَصِرُ مِنَ الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ الْخَلَلُ الْوَاقِعُ جُزْئِيًّا إِنَّمَا يَأْتِي فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ دُونَ بَعْضٍ كَبِدْعَةِ التَّثْوِيبِ بِالصَّلَاةِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ: التَّثْوِيبُ ضَلَالٌ، وَبِدْعَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَبِدْعَةِ الِاعْتِمَادِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَهَذَا الْقِسْمُ لَا تَتَعَدَّى فِيهِ الْبِدْعَةُ مَحَلَّهَا، وَلَا تَنْتَظِمُ تَحْتَهَا غَيْرُهَا حَتَّى تَكُونَ أَصْلًا لَهَا. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ إِذَا عُدَّ مِنَ الْكَبَائِرِ اتَّضَحَ مَغْزَاهُ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُنْحَصِرًا دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَيَكُونُ الْوَعِيدُ الْآتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَخْصُوصًا بِهِ لَا عَامًّا فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَيَكُونُ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ اللَّمَمِ الْمَرْجُوِّ فِيهِ الْعَفْوُ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ إِلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى أَنْ جَمِيعَهَا مِنْ وَاحِدٍ، وَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ انْقِسَامِهَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعَاصِيَ قَدْ ثَبَتَ انْقِسَامُهَا إِلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبِدَعَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي ـ عَلَى مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ـ وَنَوْعٌ

مِنْ أَنْوَاعِهَا، فَاقْتَضَى إِطْلَاقُ التَّقْسِيمِ أَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ أَيْضًا، وَلَا يُخَصِّصُ وُجُوهًا بِتَعْمِيمِ الدُّخُولِ فِي الْكَبَائِرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّصٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا لَاسْتُثْنِيَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِالتَّقْسِيمِ، قِسْمُ الْبِدَعِ، فَكَانُوا يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ مَا عَدَّا الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ إِلَى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَأَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِالِانْقِسَامِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إِثْبَاتِ الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا تَتَفَاضَلُ، فَمِنْهَا ثَقِيلٌ وَأَثْقَلُ وَمِنْهَا خَفِيفٌ وَأَخَفُّ، وَالْخِفَّةُ هَلْ تَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ تُعَدَّ الْبِدْعَةُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ اللَّمَمِ؟ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فِي الْمَعَاصِي غَيْرِ الْبِدَعِ. وَأَمَّا فِي الْبِدَعِ فَثَبَتَ لَهَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُضَادَّةٌ لِلشَّارِعِ وَمُرَاغَمَةٌ لَهُ، حَيْثُ نَصَّبَ الْمُبْتَدِعُ نَفْسَهُ نَصْبَ الْمُسْتَدْرِكِ عَلَى الشَّرِيعَةِ، لَا نَصْبَ الْمُكْتَفِي بِمَا حُدَّ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ـ وَإِنْ قُلْتَ ـ تَشْرِيعٌ زَائِدٌ أَوْ نَاقِصٌ، أَوْ تَغْيِيرٌ لِلْأَصْلِ الصَّحِيحِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَقَدْ يَكُونُ مُلْحَقًا بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ، فَيَكُونُ قَادِحًا فِي الْمَشْرُوعِ. وَلَوْ فَعَلَ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا فِي نَفْسِ الشَّرِيعَةِ عَامِدًا الْكُفْرَ، إِذِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا أَوِ التَّغْيِيرُ ـ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ـ كُفْرٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَلَّ مِنْهُ وَمَا كَثُرَ. فَمَنْ فَعَلَ مِثْلِ ذَلِكَ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ أَوْ

بِرَأْيٍ غَالِطٍ رَآهُ، أَوْ أَلْحَقَهُ بِالْمَشْرُوعِ إِذَا لَمْ تُكَفِّرُهُ لَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِهِ فَرْقٌ بَيْنَ مَا قَلَّ مِنْهُ وَمَا كَثُرَ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ جِنَايَةٌ لَا تَحْمِلُهَا الشَّرِيعَةُ بِقَلِيلٍ وَلَا بِكَثِيرٍ. وَيُعَضِّدُ هَذَا النَّظَرَ عُمُومُ الْأَدِلَّةِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ بِدْعَةٍ جُزْئِيَّةٍ وَبِدَعَةٍ كُلِّيَّةٍ، وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الذَّمِّ فِيهَا. وَظَهَرَ أَنَّهَا مَعَ الْمَعَاصِي لَا تَنْقَسِمُ ذَلِكَ الِانْقِسَامَ، بَلْ إِنَّمَا يَنْقَسِمُ مَا سِوَاهَا مِنَ الْمَعَاصِي. وَاعْتَبِرْ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي يَتَبَيَّنْ لَكَ عَدَمُ الْفَرْقِ فِيهَا. وَأَقْرَبُ مِنْهَا عِبَارَةً تُنَاسِبُ هَذَا التَّقْرِيرَ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ بِدْعَةٍ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُجَاوَزَةِ حُدُودِ اللَّهِ بِالتَّشْرِيعِ، إِلَّا أَنَّهَا وَإِنْ عَظُمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِذَا نُسِبَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ تَفَاوَتَتْ رُتْبَتُهَا فَيَكُونُ مِنْهَا صِغَارٌ وَكِبَارٌ، إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ بَعْضٍ، فَالْأَشَدُّ عِقَابًا أَكْبَرُ مِمَّا دُونَهُ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ فَوْتِ الْمَطْلُوبِ فِي الْمَفْسَدَةِ، فَكَمَا انْقَسَمَتِ الطَّاعَةُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ إِلَى الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ، لِانْقِسَامِ مَصَالِحِهَا إِلَى الْكَامِلِ وَالْأَكْمَلِ، انْقَسَمَتِ الْبِدَعُ لِانْقِسَامِ مَفَاسِدِهَا إِلَى الرَّذْلِ وَالْأَرْذَلِ، وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، مِنْ بَابِ النَّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ كَبِيرًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ صَغِيرٌ بِالنِّسْبَةِ

إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ قَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ لَكِنْ فِي انْقِسَامِ الْمَعَاصِي إِلَى الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ فَقَالَ: الْمَرَضِيُّ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ ذَنَبٍ كَبِيرٌ وَعَظِيمٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: مَعْصِيَةُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَعْصِيَةِ الْعِبَادِ، قَوْلًا مُطْلَقًا، إِلَّا أَنَّهَا وَإِنْ عَظُمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِذَا نُسِبَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ تَفَاوَتَتْ رُتَبُهَا. ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنًى مَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ عَلَى مَا قَالَ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ فِي النَّظَرِ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمُوَافِقَاتِ. وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ يَأْبَى ذَلِكَ ـ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ ـ وَالظَّوَاهِرُ فِي الْبِدَعِ لَا تَأْبَى كَلَامَ الْإِمَامِ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهَا ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ـ فَصَارَ اعْتِقَادُ الصَّغَائِرِ فِيهَا يَكَادُ يَكُونُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، كَمَا صَارَ اعْتِقَادُ نَفْيِ الْكَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهُ عَنْهَا مِنَ الْوَاضِحَاتِ. فَلْيَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ أَشَدَّ التَّأَمُّلِ وَيُعْطِ مِنَ الْإِنْصَافِ حَقَّهُ، وَلَا يَنْظُرْ إِلَى خِفَّةِ الْأَمْرِ فِي الْبِدْعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صُورَتِهَا وَإِنْ دَقَّتْ، بَلْ يَنْظُرُ إِلَى مُصَادَمَتِهَا لِلشَّرِيعَةِ وَرَمْيِهَا لَهَا بِالنَّقْصِ وَالِاسْتِدْرَاكِ، وَأَنَّهَا لَمْ تُكَمَّلْ بَعْدُ حَتَّى يُوضَعَ فِيهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنَّهَا لَا تَعُودُ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِتَنْقِيصٍ وَلَا غَضٍّ مِنْ جَانِبِهَا، بَلْ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ مُتَنَصِّلٌ مِنْهَا، مُقِرٌّ لِلَّهِ بِمُخَالَفَتِهِ لِحُكْمِهَا. وَحَاصِلُ الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُعْتَقَدُ صِحَّتَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ. وَالْبِدْعَةُ حَاصِلُهَا مُخَالَفَةٌ فِي اعْتِقَادِ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ

مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: مِنْ أَحْدَثِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. وَمِثْلُهَا جَوَابُهُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَقَالَ: أَيُّ فِتْنَةٍ فِيهَا؟ إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا. فَقَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّكَ فَعَلْتَ فِعْلًا قَصَّرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَيْضًا، فَإِذَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْبِدَعِ مَا هُوَ صَغِيرَةٌ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ بِطَرِيقَةٍ يُظْهِرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهَا تَحْقِيقٌ فِي تَشْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ. وَغَيْرُ الْعَالِمِ بِكَوْنِهَا بِدْعَةً عَلَى ضَرْبَيْنِ، وَهُمَا الْمُجْتَهِدُ فِي اسْتِنْبَاطِهَا وَتَشْرِيعِهَا، وَالْمُقَلِّدُ لَهُ فِيهَا. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالتَّأْوِيلُ يُصَاحِبُهُ فِيهَا وَلَا يُفَارِقُهُ إِذَا حَكَمْنَا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلشَّارِعِ مُرَاغَمٌ لِلشَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ أَوِ النُّقْصَانِ مِنْهُ أَوِ التَّحْرِيفِ لَهُ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ كَقَوْلِهِ: هِيَ بِدْعَةٌ وَلَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ أَوْ يَقُولُ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ وَلَكِنِّي رَأَيْتُ فُلَانًا الْفَاضِلَ يَعْمَلُ بِهَا أَوْ يُقِرُّ بِهَا وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُهَا لِحَظٍّ عَاجِلٍ، كَفَاعِلِ الذَّنْبِ لِقَضَاءِ حَظِّهِ الْعَاجِلِ خَوْفًا عَلَى حَظِّهِ، أَوْ فِرَارًا مِنْ خَوْفٍ عَلَى حَظِّهِ، أَوْ فِرَارًا مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ،

كَمَا هُوَ الشَّأْنُ الْيَوْمَ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ يُشَارُ إِلَيْهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا غَيْرُ الْعَالِمِ وَهُوَ الْوَاضِعُ لَهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَهَا بِدَعَةً، بَلْ هِيَ عِنْدَهُ مِمَّا يَلْحَقُ الْمَشْرُوعَاتِ، كَقَوْلِ مِنْ جَعْلِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ يُصَامُ لِأَنَّهُ يَوْمُ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعْلَ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مُلْحَقًا بِأَيَّامِ الْأَعْيَادِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُلِدَ فِيهِ، وَكَمَنَ عَدَّ السَّمَاعَ وَالْغَنَاءَ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجْلِبُ الْأَحْوَالَ السُّنِّيَّةَ، أَوْ رَغِبَ فِي الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا بِنَاءً عَلَى مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ حَالَةُ الْوَاحِدَةِ، أَوْ زَادَ فِي الشَّرِيعَةِ أَحَادِيثَ مَكْذُوبَةً لِيَنْصُرَ فِي زَعْمِهِ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَكْذِبُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ: «مِنْ كَذَبَ عَلِيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» قَالَ: لَمْ أَكْذِبْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَذَبْتُ لَهُ. أَوْ نَقَّصَ مِنْهَا تَأْوِيلًا عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] فَأَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْأَحَادِيثِ الْمَنْقُولَةِ بِالْآحَادِ لِذَلِكَ وَلِمَا أَشْبَهَ، لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ قِبَلِ التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَقُولُ: فُلَانٌ الْمُقْتَدَى بِهِ يَعْمَلُ بِهَذَا الْعَمَلِ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، كَاتِّخَاذِ الْغِنَاءِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ شُيُوخَ التَّصَوُّفِ قَدْ سَمِعُوهُ وَتَوَاجَدُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ بِسَبَبِهِ، وَكَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ عِنْدَ التَّوَاجُدِ بِالرَّقْصِ وَسِوَاهُ لِأَنَّهُمْ قَدْ فَعَلُوهُ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ مِثْلَ هَذَا فِي هَؤُلَاءِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى التَّصَوُّفِ. وَرُبَّمَا احْتَجُّوا عَلَى بِدْعَتِهِمْ بِالْجُنَيْدِ وَالْبَسْطَامِيِّ وَالشِّبْلِيِّ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا صَحَّ عِنْدَهُمْ أَوْ لَمْ يَصِحَّ، وَيَتْرُكُونَ أَنْ يَحْتَجُّوا بِسُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهِيَ الَّتِي

لَا شَائِبَةَ فِيهَا إِذَا نَقَلَهَا الْعُدُولُ وَفَسَّرَهَا أَهْلُهَا الْمُكِبُّونَ عَلَى فَهْمِهَا وَتَعَلُّمِهَا. وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقِرُّونَ بِالْخِلَافِ لِلسَّنَةِ بَحْثًا، بَلْ يَدْخُلُونَ تَحْتَ أَذْيَالِ التَّأْوِيلِ، إِذْ لَا يَرْضَى مُنْتَمٍ إِلَى الْإِسْلَامِ بِإِبْدَاءِ صَفْحَةِ الْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ أَصْلًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ مَالِكٍ: مَنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ. وَقَوْلُهُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ: أَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّكَ سَبَقْتَ إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ، إِنَّهَا إِلْزَامٌ لِلْخَصْمِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ النَّظَرِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَلْزَمُكَ فِي هَذَا الْقَوْلِ كَذَا. لِأَنَّهُ يَقُولُ: قَصَدْتُ إِلَيْهِ قَصْدًا، لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ إِلَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ، وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ: هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَمْ لَا؟ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَالَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ شُيُوخُنَا الْبِجَائِيُّونَ وَالْمَغْرِبِيُّونَ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ أَيْضًا: أَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، فَلِذَلِكَ إِذَا قُرِّرَ عَلَى الْخَصْمِ أَنْكَرَهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، فَإِذًا اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَى التَّحْقِيقِ لَا يَنْهَضُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَسْتَوِي الْبِدْعَةُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ صَغَائِرٌ وَكَبَائِرٌ، فَكَذَلِكَ الْبِدَعُ. ثُمَّ إِنَّ الْبِدَعَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: كُلِّيَّةٌ وَجُزْئِيَّةٌ، فَأَمَّا الْكُلِّيَّةُ فَهِيَ السَّارِيَةُ فِيمَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَمِثَالُهَا بِدَعُ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْكُلِّيَّاتِ مِنْهَا دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ،

حَسْبَمَا يَتَبَيَّنُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا الْجُزْئِيَّةُ فَهِيَ الْوَاقِعَةُ فِي الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ دُخُولُ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبِدَعِ تَحْتَ الْوَعِيدِ بِالنَّارِ، وَإِنْ دَخَلَتْ تَحْتَ الْوَصْفِ بِالضَّلَالِ، كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي سَرِقَةِ لِقِمَّةٍ أَوِ التَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ وَصْفِ السَّرِقَةِ، بَلِ الْمُتَحَقِّقُ دُخُولُ عَظَائِمِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا كَالنِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ وَاضِحَةُ الشُّمُولِ لَهَا، أَلَّا تَرَى أَنَّ خَوَاصَّ الْبِدَعِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ الْجُزْئِيَّةِ غَالِبًا كَالْفِرْقَةِ، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْجُزْئِيَّاتُ فِي الْغَالِبِ كَالزَّلَّةِ، وَالْفَلْتَةِ وَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِيهَا مَعَ حُصُولِ التَّأْوِيلِ فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْفُرُوعِ، وَلَا الْمَفْسَدَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْجُزْئِيَّةِ كَالْمُفْسِدَةِ الْحَاصِلَةِ بِالْكُلِّيَّةِ. فَعَلَى هَذَا ; إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْبِدْعَةِ وَصْفَانِ، كَوْنُهَا جُزْئِيَّةً، وَكَوْنُهَا بِالتَّأْوِيلِ صَحَّ أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ وَمِثَالُهُ، مَسْأَلَةُ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ قَائِمًا لَا يَجْلِسُ، وَضَاحِيًا يَسْتَظِلُّ، وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ مِنَ النَّوْمِ أَوْ لَذِيذِ الطَّعَامِ أَوِ النِّسَاءِ أَوِ الْأَكْلِ بِالنَّهَارِ. . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَيَأْتِي. غَيْرَ أَنَّ الْكُلِّيَّةَ وَالْجُزْئِيَّةَ قَدْ تَكُونُ ظَاهِرَةً، وَقَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً كَمَا أَنَّ التَّأْوِيلَ قَدْ يُقَرِّبُ مَأْخَذَهُ، وَقَدْ يُبَعِّدُ فَيَقَعُ الْإِشْكَالُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْفَصْلِ فَيَعُدُّ كَبِيرَةً مَا هُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَبِالْعَكْسِ فَيُوكَلُ النَّظَرُ فِيهِ إِلَى الِاجْتِهَادِ

فصل شروط كون البدعة صغيرة

[فَصْلٌ شُرُوطُ كَوْنِ الْبِدْعَةِ صَغِيرَةً] [أَنْ لَا يُدَاوِمَ عَلَى الْبِدْعَةِ] وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ مِنَ الْبِدَعِ مَا يَكُونُ صَغِيرَةً، فَذَلِكَ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ مِنَ الْمَعَاصِي لِمَنْ دَاوَمَ عَلَيْهَا تَكْبُرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَاشِئٌ عَنِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ يُصَيِّرُهَا كَبِيرَةً، وَلِذَلِكَ قَالُوا: " لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ " فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، إِلَّا أَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ شَأْنِهَا فِي الْوَاقِعِ أَنَّهَا قَدْ يُصِرُّ عَلَيْهَا، وَقَدْ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا، وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي طَرْحُ الشَّهَادَةِ وَسُخْطَةُ الشَّاهِدِ بِهَا أَوْ عَدَمُهُ، بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ فَإِنَّ شَأْنَهَا فِي الْمُدَاوَمَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى أَنْ لَا تُزَالَ مِنْ مَوْضِعِهَا وَأَنْ تَقُومَ عَلَى تَارِكِهَا الْقِيَامَةُ، وَتَنْطَلِقَ عَلَيْهِ أَلْسِنَةُ الْمَلَامَةِ، وَيُرْمَى بِالتَّسْفِيهِ وَالتَّجْهِيلِ، وَيُنْبَزُ بِالتَّبْدِيعِ وَالتَّضْلِيلِ، ضِدَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ

أن لا يدعو إلى البدعة

الْأُمَّةِ، وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ وَالنَّقْلُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمِ الْقِيَامُ بِالنَّكِيرِ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ إِنْ كَانَ لَهُمْ عُصْبَةٌ، أَوْ لَصَقُوا بِسُلْطَانٍ تَجْرِي أَحْكَامُهُ فِي النَّاسِ وَتَنْفُذُ أَوَامِرُهُ فِي الْأَقْطَارِ، وَمَنْ طَالَعَ سَيْرَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا النَّقْلُ، فَمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ مِنْ أَنَّ الْبِدْعَةَ إِذَا أُحْدِثَتْ لَا تَزِيدُ إِلَّا مُضِيًّا، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ الْمَعَاصِي، فَقَدْ يَتُوبُ صَاحِبُهَا وَيُنِيبُ إِلَى اللَّهِ، بَلْ قَدْ جَاءَ مَا يَشُدُّ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ، حَيْثُ جَاءَ فِي بَعْضُ الرِّوَايَاتِ: تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ وَمِنْ هُنَا جَزَمَ السَّلَفُ بِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا تَوْبَةَ لَهُ مِنْهَا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ. [أَنْ لَا يَدْعُوَ إِلَى الْبِدْعَةِ] وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَدْعُوَ إِلَيْهَا، فَإِنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ صَغِيرَةً بِالْإِضَافَةِ، ثُمَّ يَدْعُو مُبْتَدِعُهَا إِلَى الْقَوْلِ بِهَا وَالْعَمَلِ عَلَى مُقْتَضَاهَا فَيَكُونُ إِثْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ الَّذِي أَثَارَهَا، وَسَبَبُ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَدْ أَثْبَتَ: «أَنَّ كُلَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» وَالصَّغِيرَةُ مَعَ الْكَبِيرَةِ إِنَّمَا تَفَاوُتُهَا بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْإِثْمِ وَقِلَّتِهِ، فَرُبَّمَا تُسَاوِي الصَّغِيرَةُ ـ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ـ الْكَبِيرَةَ أَوْ تُرْبِي عَلَيْهَا.

أن لا تفعل البدعة في مجتمعات الناس أو في مواضع إقامة السنن

فَمِنْ حَقِّ الْمُبْتَدِعِ إِذَا ابْتُلِيَ بِالْبِدْعَةِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَحْمِلَ مَعَ وِزْرِهِ وَزَرَ غَيْرِهِ. وَفِي هَذَا الْوَجْهِ قَدْ يَتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ فِيمَا بَيْنُ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ يَرْجُو فِيهَا مِنَ التَّوْبَةِ وَالْغُفْرَانِ مَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعَ الدُّعَاءِ إِلَيْهَا، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ ذَمِّ الْبِدَعِ وَبَاقِي الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [أَنْ لَا تَفْعَلَ الْبِدْعَةَ فِي مُجْتَمَعَاتِ النَّاسِ أَوْ فِي مَوَاضِعِ إِقَامَةِ السُّنَنِ] وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَفْعَلُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعَاتُ النَّاسِ، أَوِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ، وَتُظْهَرُ فِيهَا أَعْلَامُ الشَّرِيعَةِ، فَأَمَّا إِظْهَارُهَا فِي الْمُجْتَمَعَاتِ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَوْ بِمَنْ يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ فَذَلِكَ مِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى سُنَّةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهَا لَا تَعْدُو أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُقْتَدَى بِصَاحِبِهَا فِيهَا، فَإِنَّ الْعَوَامَّ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، لَا سِيَّمَا الْبِدَعَ الَّتِي وُكِلَ الشَّيْطَانُ بِتَحْسِينِهَا لِلنَّاسِ، وَالَّتِي لِلنُّفُوسِ فِي تَحْسِينِهَا هَوًى، وَإِذَا اقْتُدِيَ بِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ الصَّغِيرَةِ كَبُرَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، فَعَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ الْأَتْبَاعِ يَعْظُمُ عَلَيْهِ الْوِزْرُ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي صَغَائِرَ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ الْعَالِمَ مَثَلًا إِذَا أَظْهَرَ الْمَعْصِيَةَ ـ وَإِنْ صَغُرَتْ ـ سَهُلَ عَلَى النَّاسِ ارْتِكَابُهَا، فَإِنَّ الْجَاهِلَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ كَمَا قَالَ مِنْ أَنَّهُ ذَنْبٌ، لَمْ يَرْتَكِبْهُ، وَإِنَّمَا ارْتَكَبَهُ لِأَمْرٍ عَلِمَهُ دُونَنَا. فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ إِذَا أَظْهَرَهَا الْعَالِمُ الْمُقْتَدَى فِيهَا، لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّهَا فِي مَظِنَّةِ التَّقَرُّبِ فِي ظَنِّ الْجَاهِلِ، لِأَنَّ الْعَالِمَ يَفْعَلُهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، بَلِ الْبِدْعَةُ أَشَدُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِذِ الذَّنْبُ قَدْ لَا يُتْبِعُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ

فَلَا يَتَحَاشَى أَحَدٌ عَنِ اتِّبَاعِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهَا بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ فِي دَرَجَةِ الذَّنْبِ، فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ صَارَتْ كَبِيرَةً بِلَا شَكٍّ، فَإِنْ كَانَ دَاعِيًا إِلَيْهَا فَهُوَ أَشَدُّ، وَإِنْ كَانَ الْإِظْهَارُ بَاعِثًا عَلَى الِاتِّبَاعِ، فَبِالدُّعَاءِ يَصِيرُ أَدْعَى إِلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَدَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا فَاتُّبِعَ، وَأَنَّهُ لَمَّا عَرَفَ ذَنْبَهُ عَمِدَ إِلَى تَرْقُوَتِهِ فَنَقَبَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا حَلْقَةً ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا سِلْسِلَةً ثُمَّ أَوْثَقَهَا فِي شَجَرَةٍ فَيَجْعَلُ يَبْكِي وَيَعِجُّ إِلَى رَبِّهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّ تِلْكَ الْأُمَّةِ أَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ الَّذِي أَصَابَ. فَكَيْفَ بِمَنْ ضَلَّ فَصَارَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ فَهُوَ كَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا بِالتَّصْرِيحِ، لِأَنَّ عَمَلَ إِظْهَارِ الشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُوهِمُ أَنَّ كُلَّ مَا أَظْهَرَ فِيهَا فَهُوَ مِنَ الشَّعَائِرِ، فَكَأَنَّ الْمَظْهَرَ لَهَا يَقُولُ: هَذِهِ سُنَّةٌ فَاتَّبِعُوهَا. قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ: قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ فَصَلَّى وَوَضَعَ رِدَاءَهُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ رَمَقَهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ وَرَمَقُوا مَالِكًا ـ وَكَانَ قَدْ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ ـ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْحَرَسِ؟ فَجَاءَهُ نَفْسَانِ فَقَالَ: خُذَا صَاحِبَ هَذَا الثَّوْبِ فَاحْبِسَاهُ: فَحُبِسَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: مَا خِفْتَ اللَّهَ وَاتَّقَيْتَهُ أَنْ وَضَعْتَ ثَوْبَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ فِي الصَّفِّ، وَشَغَلْتَ الْمُصَلِّينَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَأَحْدَثْتَ فِي مَسْجِدِنَا شَيْئًا مَا كُنَّا نَعْرِفُهُ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي مَسْجِدِنَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فَبَكَى ابْنُ مَهْدِيٍّ وَآلَى عَلَى نَفْسِهِ

أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! تُصَلِّي مُسْتَلِبًا؟ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ يَوْمًا حَارًّا ـ كَمَا رَأَيْتَ، فَثَقُلَ رِدَائِي عَلَيَّ. فَقَالَ: آللَّهُ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ الطَّعْنَ عَلَى مَنْ مَضَى وَالْخِلَافَ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: آللَّهُ، قَالَ: خَلِّيَاهُ. وَحَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ قَالَ: ثَوَّبَ الْمُؤَذِّنُ بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ مَالِكٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فَجَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: مَا هَذَا الَّذِي تَفْعَلُ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَعْرِفَ النَّاسُ طُلُوعَ الْفَجْرِ فَيَقُومُونَ. فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: لَا تَفْعَلْ، لَا تُحْدِثْ فِي بَلَدِنَا شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْبَلَدِ عَشْرَ سِنِينَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَلَمْ يَفْعَلُوا هَذَا، فَلَا تُحْدِثْ فِي بَلَدِنَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَكَفَّ الْمُؤَذِّنُ عَنْ ذَلِكَ وَأَقَامَ زَمَانًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَنَحْنَحَ فِي الْمَنَارَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي تَفْعَلُ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَعْرِفَ النَّاسُ طُلُوعَ الْفَجْرِ. فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ أَنْهَكَ أَنْ لَا تُحْدِثَ عِنْدِنَا مَا لَمْ يَكُنْ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا نَهَيْتَنِي عَنِ التَّثْوِيبِ. فَقَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ. فَكَفَّ زَمَانًا. ثُمَّ جَعَلَ يَضْرِبُ الْأَبْوَابَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَالِكٌ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي تَفْعَلُ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَعْرِفَ النَّاسُ طُلُوعَ الْفَجْرِ. فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: لَا تَفْعَلْ، لَا تُحْدِثْ فِي بَلَدِنَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ. قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ التَّثْوِيبَ ـ قَالَ ـ وَإِنَّمَا أَحْدَثَ هَذَا بِالْعِرَاقِ. قِيلَ لـ ابْنِ وَضَّاحٍ: فَهَلْ كَانَ يَعْمَلُ بِهِ بِمَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ مِصْرَ أَوْ

غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْصَارِ؟ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُهُ إِلَّا عِنْدَ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ وَالْإِبَاضِيِّينَ. فَتَأَمَّلْ كَيْفَ مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ إِحْدَاثِ أَمْرٍ يَخِفُّ شَأْنُهُ عِنْدَ النَّاظِرِ فِيهِ بِبَادِئِ الرَّأْيِ وَجَعْلِهِ أَمْرًا مُحْدَثًا، وَقَدْ قَالَ فِي التَّثْوِيبِ: إِنَّهُ ضَلَالٌ، وَهُوَ بَيِّنٌ، لِأَنَّ: «كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَلَمْ يُسَامِحْ لِلْمُؤَذِّنِ فِي التَّنَحْنُحِ وَلَا فِي ضَرْبِ الْأَبْوَابِ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَّخَذَ سُنَّةً، كَمَا مَنَعَ مِنْ وَضْعِ رِدَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ خَوَّفَ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا أَحْدَثَهُ. وَقَدْ أَحْدَثَ بِالْمَغْرِبِ الْمُتَسَمَّى بِالْمَهْدِيِّ تَثْوِيبًا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ أَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ إِشْعَارًا بِأَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ، لِإِلْزَامِ الطَّاعَةِ، وَلِحُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وَلِلْغَدِ وَلِكُلِّ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ. فَيَخُصُّهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ تَثْوِيبًا بِالصَّلَاةِ كَالْأَذَانِ. وَنَقَلَ أَيْضًا إِلَى أَهْلِ الْمَغْرِبِ الْحِزْبَ الْمُحْدَثَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَهُوَ الْمُعْتَادُ فِي جَوَامِعِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا، فَصَارَ ذَلِكَ كُلُّهُ سَنَةً فِي الْمَسَاجِدِ إِلَى الْآنَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ فَسَّرَ التَّثْوِيبَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ بِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ كَانَ إِذَا أَذَّنَ فَأَبْطَأَ النَّاسُ قَالَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ عِنْدَنَا: الصَّلَاةُ ـ رَحِمَكُمُ اللَّهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُ دَخَلَ مَسْجِدًا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَثَوَّبَ الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: اخْرُجْ بِنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدَعِ وَلَمْ يَصُلِّ فِيهِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا نَحْوٌ مِمَّا كَانَ يَفْعَلُ عِنْدَنَا بِجَامِعِ قُرْطُبَةَ مِنْ أَنْ

أن لا يستصغر البدعة ولا يستحقرها

يُفْرِدُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ أَذَانِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ النِّدَاءَ عِنْدَ الْفَجْرِ بِقَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ: ثُمَّ ـ قَالَ ـ وَقِيلَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَ الْمُؤَذِّنِ فِي أَذَانِهِ: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ. لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ زَادَهَا فِي الْأَذَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ مِنَ الشِّيعَةِ. وَوَقَعَ فِي الْمَجْمُوعَةِ أَنَّ مَنْ سَمِعَ التَّثْوِيبَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ عَنْهُ، كَفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ، الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّثْوِيبُ الْمَكْرُوهُ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ: إِنَّهُ ضَلَالٌ، وَالْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ أَنْ تَكُونَ فِي مَوَاضِعِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْمَشْرُوعَاتِ أَشَدَّ الْمُحَافَظَةِ، لِأَنَّهَا إِذَا أُقِيمَتْ هُنَالِكَ أَخَذَهَا النَّاسُ وَعَمِلُوا بِهَا، فَكَانَ وِزْرُ ذَلِكَ عَائِدًا عَلَى الْفَاعِلِ أَوَّلًا، فَيَكْثُرُ وِزْرُهُ وَيَعْظُمُ خَطَرُ بِدْعَتِهِ. [أَنْ لَا يَسْتَصْغِرَ الْبِدْعَةَ وَلَا يَسْتَحْقِرَهَا] وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَسْتَصْغِرَهَا وَلَا يَسْتَحْقِرُهَا ـ وَإِنْ فَرَضْنَاهَا صَغِيرَةً ـ فَإِنَّ ذَلِكَ اسْتِهَانَةٌ بِهَا، وَالِاسْتِهَانَةُ بِالذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعِظَمِ مَا هُوَ صَغِيرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الذَّنْبَ لَهُ نَظَرَانِ: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ رُتْبَتِهِ فِي الشَّرْطِ، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَةِ الرَّبِّ الْعَظِيمُ بِهِ، فَأَمَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ فَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ يُعَدُّ صَغِيرًا إِذَا فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ أَنَّهُ صَغِيرٌ، لِأَنَّا نَضَعُهُ حَيْثُ وَضَعَهُ الشَّرْعُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى اعْتِقَادِنَا فِي الْعَمَلِ بِهِ حَيْثُ نَسْتَحْرِمُ جِهَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْمُخَالَفَةِ، وَالَّذِي كَانَ يَجِبُ فِي حَقِّنَا أَنْ نَسْتَعْظِمَ

ذَلِكَ جِدًّا، إِذْ لَا فَرْقَ فِي التَّحْقِيقِ بَيْنَ الْمُوَاجَهَتَيْنِ ـ الْمُوَاجَهَةُ بِالْكَبِيرَةِ، وَالْمُوَاجَهَةُ بِالصَّغِيرَةِ. وَالْمَعْصِيَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ لَا يُفَارِقُهَا النَّظَرَانِ فِي الْوَاقِعِ أَصْلًا، لِأَنَّ تَصَوُّرَهَا مَوْقُوفٌ عَلَيْهِمَا، فَالِاسْتِعْظَامُ لِوُقُوعِهَا مَعَ كَوْنِهَا يُعْتَقَدُ فِيهَا أَنَّهَا صَغِيرَةٌ لَا يَتَنَافَيَانِ، لِأَنَّهُمَا اعْتِبَارَانِ مِنْ جِهَتَيْنِ: فَالْعَاصِي وَإِنْ كَانَ يَعْمَلُ الْمَعْصِيَةَ لَمْ يَقْصِدْ بِتَعَمُّدِهِ الِاسْتِهَانَةَ بِالْجَانِبِ الْعَلِيِّ الرَّبَّانِيِّ، وَإِنَّمَا قَصَدَ اتِّبَاعِ شَهْوَتِهِ مَثَلًا فِيمَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، فَيَقَعُ الْإِثْمُ عَلَى حَسَبِهِ، كَمَا أَنَّ الْبِدْعَةَ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا صَاحِبُهَا مُنَازَعَةَ الشَّارِعِ وَلَا التَّهَاوُنَ بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْجَرْيَ عَلَى مُقْتَضَاهُ، لَكِنْ بِتَأْوِيلٍ زَادَهُ وَرَجَّحَهُ عَلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَهَاوَنَ بِصِغَرِهَا فِي الشَّرْعِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا تَهَاوَنَ بِمُخَالَفَةِ الْمَلِكِ الْحَقِّ، لِأَنَّ النَّهْيَ حَاصِلٌ وَمُخَالَفَتُهُ حَاصِلَةٌ، وَالتَّهَاوُنُ بِهَا عَظِيمٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَانْظُرْ إِلَى عَظَمَةِ مَنْ وَاجَهْتَهُ بِهَا. وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرُ، قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمُكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا، وَلَا تَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَسَيَرْضَى بِهِ»، فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَسَيَرْضَى بِهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ الْخَطْبِ فِيمَا

يُسْتَحْقَرُ. وَهَذَا الشَّرْطُ مِمَّا اعْتَبَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الصَّغِيرَةُ أَنْ يَسْتَصْغِرَهَا. (قَالَ): فَإِنَّ الذَّنْبَ كُلَّمَا اسْتَعْظَمَهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ صَغُرَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكُلَّمَا اسْتَصْغَرَهُ كَبُرَ عِنْدَ اللَّهِ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ وَبَسَطَهُ. فَإِذَا تَحَصَّلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فَإِذْ ذَاكَ يُرْجَى أَنْ تَكُونَ صَغِيرَتُهَا صَغِيرَةً، فَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرُ صَارَتْ كَبِيرَةً، أَوْ خِيفَ أَنْ تَصِيرَ كَبِيرَةً، كَمَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ كَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب السابع في الابتداع هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبادية

[الْبَابُ السَّابِعُ فِي الِابْتِدَاعِ هَلْ يَدْخُلُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ أَمْ يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ] [الِابْتِدَاعُ فِي الْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ] قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِّ الْبِدْعَةِ مَا يَقْتَضِي الْخِلَافَ فِيهِ: هَلْ يَدْخُلُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ أَمْ لَا؟ أَمَّا الْعِبَادِيَّةُ فَلَا إِشْكَالَ فِي دُخُولِهِ فِيهَا، وَهِيَ عَامَّةُ الْبَابِ، إِذِ الْأُمُورُ الْعِبَادِيَّةُ إِمَّا أَعْمَالٌ قَلْبِيَّةٌ وَأُمُورٌ اعْتِقَادِيَّةٌ، وَإِمَّا أَعْمَالُ جَوَارِحَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ قَدْ دَخَلَ فِيهِ الِابْتِدَاعُ كَمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ، وَالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الْإِبَاحَةِ وَاخْتِرَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ وَلَا أَصْلٍ مَرْجُوعٍ إِلَيْهِ. [الِابْتِدَاعُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ] وَأَمَّا الْعَادِيَّةُ فَاقْتَضَى النَّظَرُ وُقُوعَ الْخِلَافِ فِيهَا وَأَمْثِلَتُهَا ظَاهِرَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَقْسِيمِ الْبِدَعِ، كَالْمُكُوسِ، وَالْمُحْدَثَةِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي الْوِلَايَاتِ الْعِلْمِيَّةِ، وَتَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ الشَّرِيفَةِ مَنْ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ بِطْرِيقِ الْوِرَاثَةِ، وَإِقَامَةِ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْقُضَاةِ، وَاتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ وَغَسْلِ الْيَدِ بِالْأُشْنَانِ وَلُبْسِ الطَّيَالِسِ وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ. . . وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي الزَّمَنِ الْفَاضِلِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ؛ فَإِنَّهَا أُمُورٌ جَرَتْ فِي النَّاسِ وَكَثُرَ الْعَمَلُ بِهَا، وَشَاعَتْ وَذَاعَتْ؛ فَلَحِقَتْ بِالْبِدَعِ، وَصَارَتْ كَالْعِبَادَاتِ الْمُخْتَرَعَةِ

الْجَارِيَةِ فِي الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَإِلَيْهِ مَالَ الْقَرَافِيُّ وَشَيْخُهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ. فَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ ـ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الطُّوسِيُّ ـ فَقَالَ لِي: اشْتَرِ كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ، وَدَفَعَ إِلَيَّ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَيْتُ لَهُ، وَأَعْطَانِي عَشَرَةً أُخْرَى، وَقَالَ لِي: اشْتَرِ بِهَا دَقِيقًا وَلَا تَنْخُلْهُ وَاخْبِزْهُ، قَالَ: فَنَخَلْتُ الدَّقِيقَ وَخَبَزْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ، فَقَالَ: نَخَلْتَ هَذَا؟ وَأَعْطَانِي عَشَرَةً أُخْرَى وَقَالَ: اشْتَرِ بِهِ دَقِيقًا وَلَا تَنْخُلْهُ وَاخْبِزْهُ. فَخَبَزْتُهُ وَحَمَلْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ، وَنَخْلُ الدَّقِيقِ بِدْعَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي السُّنَّةِ بِدْعَةٌ، وَلَمْ أُحِبَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخُبْزُ فِي بَيْتِي بَعْدَ أَنْ كَانَ بِدْعَةً. وَمُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ هَذَا هُوَ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْحَدِيثَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ حَيْثُ سُئِلَ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَصْحَابُهُ، حَسْبَمَا يَأْتِي ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. - وَأَيْضًا، فَإِنْ تُصُوِّرَ فِي الْعِبَادَاتِ وُقُوعُ الِابْتِدَاعِ وَقَعَ فِي الْعَادَاتِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَالْأُمُورُ الْمَشْرُوعَةُ تَارَةً تَكُونُ عِبَادِيَّةً وَتَارَةً عَادِيَّةً، فَكِلَاهُمَا مَشْرُوعٌ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ، فَكَمَا تَقَعُ الْمُخَالَفَةُ بِالِابْتِدَاعِ فِي أَحَدِهِمَا تَقَعُ فِي الْآخَرِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِالْوَعْدِ بِأَشْيَاءَ تَكُونُ فِي آخِرِ

الزَّمَانِ هِيَ خَارِجَةً عَنْ سُنَّتِهِ، فَتَدْخُلُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ، لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا. قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ»، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ» وَفِي رِوَايَةٍ «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: «إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ». وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرَجُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّمَا هُوَ؟ قَالَ: الْقَتْلُ الْقَتْلُ». وَعَنْ أَبِي مُوسَى ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ

لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرَجُ، وَالْهَرَجُ الْقَتْلُ». وَعَنْ حُذَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ. قَالَ: «حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ. حَدَّثَنَا: أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جُدُرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا ثُمَّ قَالَ: يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رَجْلِكَ فَنُفِضَ فَتَرَاهُ يَنْتَثِرُ وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ. فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فَلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» الْحَدِيثَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ: دَعَوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولٌ، وَحَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، ثُمَّ قَالَ: وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.» وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضِ الدُّنْيَا» ، وَفَسَّرَ ذَلِكَ الْحَسَنُ قَالَ: يُصْبِحُ مُحَرِّمًا لِدَمِ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ، وَيُمْسِي مُسْتَحِلًّا لَهُ، كَأَنَّهُ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ. «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَفْشُوَ الزِّنَا، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِلْخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمٌ وَاحِدٌ».

وَمِنْ غَرِيبِ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ. قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا صَارَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَعَقَّ أُمَّهُ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ، وَجَفَا أَبَاهُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ، وَلُبِسَ الْحَرِيرُ، وَاتُّخِذَتِ الْقِيَانُ وَالْمَعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا. فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ، وَزَلْزَلَةً وَخَسْفًا، أَوْ مَسْخًا وَقَذْفًا». وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا. وَفِيهِ: «سَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ» وَفِيهِ: «ظَهَرَتِ الْقِيَانُ وَالْمَعَازِفُ»، وَفِي آخِرِهِ: «فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ، وَزَلْزَلَةً، وَخَسْفًا، وَمَسْخًا، وَقَذْفًا، وَآيَاتٍ تَتَابَعُ، كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ». فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَهُ إِنَّمَا هُوَ ـ فِي الْحَقِيقَةِ ـ تَبْدِيلُ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانُوا أَحَقَّ بِالْعَمَلِ بِهَا،

فَلَمَّا عُوِّضُوا مِنْهَا غَيْرَهَا، وَفَشَا فِيهَا كَأَنَّهُ مِنَ الْمَعْمُولِ بِهِ تَشْرِيعًا، كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ الطَّارِئَةِ عَلَى نَحْوِ مَا بُيِّنَ فِي الْعِبَادَاتِ. وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْعِبَادَاتِ لَا يُسَلِّمُونَ جَمِيعَ الْأَوَّلُونَ. أَمَّا مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْقَرَافِيِّ وَشَيْخِهِ، فَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ، فَإِنَّهَا مَعَاصٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَمُخَالَفَاتٌ لِلْمَشْرُوعِ، كَالْمُكُوسِ وَالْمَظَالِمِ وَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ. . . وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمُبَاحُ مِنْهَا كَالْمَنَاخِلِ، إِنْ فُرِضَ مُبَاحًا ـ كَمَا قَالُوا ـ فَإِنَّمَا إِبَاحَتُهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَا ابْتِدَاعَ فِيهِ. وَإِنْ فُرِضَ مَكْرُوهًا ـ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ ـ فَوَجْهُ الْكَرَاهِيَةِ عِنْدَهُ كَوْنُهَا عُدَّتْ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ، إِذْ فِي الْأَمْرِ: أَوَّلُ مَا أُحْدِثَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنَاخِلُ ـ أَوْ كَمَا قَالَ ـ فَأَخَذَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ مَنْ أَخَذَ بِهِ، كَمُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّرَفِ وَالتَّنَعُّمِ الَّذِي أَشَارَ إِلَى كَرَاهِيَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] الْآيَةَ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ. وَقَوْلُهُمْ: كَمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ يُتَصَوَّرُ فِي الْعَادَاتِ مُسَلَّمٌ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْوُقُوعِ، وَفِيهِ

النِّزَاعُ. - وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ فَلَيْسَ فِيهَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ وَاحِدٌ، إِذْ لَمْ يُنَصَّ عَلَى أَنَّهَا بِدَعٌ أَوْ مُحْدَثَاتٌ، أَوْ مَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى. - وَأَيْضًا إِنْ عَدُّوا كُلَّ مُحْدَثِ الْعَادَاتِ بِدَعَةً، فَلْيَعُدُّوا جَمِيعَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْكَلَامِ وَالْمَسَائِلِ النَّازِلَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ بِدْعًا، وَهَذَا شَنِيعٌ، فَإِنَّ مِنَ الْعَوَائِدِ مَا تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَزْمَانِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالِاسْمِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ خَالَفَ الْعَرَبَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الصَّحَابَةَ وَاعْتَادُوا مِثْلَ عَوَائِدِهِمْ غَيْرَ مُتَّبِعِينَ لَهُمْ، هَذَا مِنَ الْمُسْتَنْكَرِ جِدًّا. نَعَمْ؛ لَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ فِي الْعَوَائِدِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْجَارِيَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. - وَأَيْضًا، فَقَدْ يَكُونُ الْتِزَامُ الزِّيِّ الْوَاحِدِ وَالْحَالَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الْعَادَةِ الْوَاحِدَةِ تَعَبًا وَمَشَقَّةً لِاخْتِلَافِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ، وَالشَّرِيعَةُ تَأْبَى التَّضْيِيقَ وَالْحَرَجَ فِيمَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى جَوَازِهِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مُعَارِضٌ. وَإِنَّمَا جَعَلَ الشَّارِعُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ لِظُهُورِهَا وَفُحْشِهَا (بِالنِّسْبَةِ) إِلَى مُتَقَدَّمِ الزَّمَانِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ كَانَ أَظْهَرَ، وَالشَّرَّ كَانَ أَخْفَى وَأَقَلَّ، بِخِلَافِ آخِرِ الزَّمَانِ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ عَلَى الْعَكْسِ، وَالشَّرُّ فِيهِ أَظْهَرُ وَالْخَيْرُ أَخْفَى وَأَقَلُّ. وَأَمَّا كَوْنُ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ بِدَعًا؛ فَغَيْرُ مَفْهُومٍ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ فِي حَدِّ

فصل أفعال المكلفين التي تكون من قبيل العادات هل يدخل فيها البدع

الْبِدْعَةِ، فَرَاجِعِ النَّظَرَ فِيهَا تَجِدْهُ كَذَلِكَ. وَالصَّوَابُ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ تَجْمَعُ شَتَاتَ النَّظَرَيْنِ، وَتُحَقِّقُ الْمَقْصُودَ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ تَرْجَمَةُ هَذَا الْبَابِ، فَلْنُفْرِدْهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَتِهِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. [فَصْلٌ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ الَّتِي تَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ هَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْبِدَعُ] أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ ـ بِحَسَبِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ فِيهَا ـ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَبُّدَاتِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا نَظَرَ فِيهِ هَاهُنَا. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الْعَادِيُّ فَظَاهِرُ النَّقْلِ عَنِ السَّلَفِ الْأَوَّلِينَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَخْتَلِفُ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْشِدُ كَلَامُهُ إِلَى أَنَّ الْعَادِيَّاتِ كَالْعِبَادِيَّاتِ، فَكَمَا أَنَّا مَأْمُورُونَ فِي الْعِبَادَاتِ بِأَنْ لَا نُحْدِثَ فِيهَا، فَكَذَلِكَ الْعَادِيَّاتُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ، حَيْثُ كَرِهَ فِي سُنَّةِ الْعَقِيقَةِ مُخَالَفَةَ مَنْ قَبِلَهُ فِي أَمْرٍ عَادِيٍّ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْمَنَاخِلِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى نَظَرًا مِنْهُ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ الْأَوَّلِينَ عَلَى الْعُمُومِ غَلَبَ عَلَيْهِ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، وَيَظْهَرُ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ مَنْ قَالَ: أَوَّلُ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنَاخِلُ. وَيُحْكَى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ مَنْ كَانَ قَبْلِي لَكَانَتِ الْجَبَّانَةُ مَسْكَنِي إِلَى أَنْ أَمُوتَ. وَالسُّكْنَى أَمْرٌ عَادِيٌّ بِلَا إِشْكَالٍ.

وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَكُونُ قِسْمُ الْعَادِيَّاتِ دَاخِلًا فِي قِسْمِ الْعِبَادَيَّاتِ، فَدُخُولُ الِابْتِدَاعِ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِ هَذَا. وَعَلَيْهِ نَبْنِي الْكَلَامَ فَنَقُولُ: ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَادِيٍّ مِنْ شَائِبَةِ التَّعَبُّدِ، لِأَنَّ مَا لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّعَبُّدِيِّ، وَمَا عُقِلَ مَعْنَاهُ وَعُرِفَتْ مَصْلَحَتُهُ أَوْ مَفْسَدَتُهُ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْعَادِيِّ، فَالطَّهَارَاتُ وَالصَّلَوَاتُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ كُلُّهَا تَعَبُّدِيٌّ، وَالْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَالشِّرَاءُ وَالطَّلَاقُ وَالْإِجَارَاتُ وَالْجِنَايَاتُ كُلُّهَا عَادِيٌّ، لِأَنَّ أَحْكَامَهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّعَبُّدِ، إِذْ هِيَ مُقَيَّدَةٌ بِأُمُورٍ شَرْعِيَّةٍ لَا خِيرَةَ لِلْمُكَلَّفِ فِيهَا؛ كَانَتِ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِي التَّعَبُّدَاتِ إِلْزَامٌ، كَمَا أَنَّ الِاقْتِضَاءَ إِلْزَامٌ ـ حَسْبَمَا تَقَرَّرَ بُرْهَانُهُ فِي كِتَابِ " الْمُوَافَقَاتِ " ـ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ - فَقَدْ ظَهَرَ اشْتِرَاكُ الْقِسْمَيْنِ فِي مَعْنَى التَّعَبُّدِ، فَإِنْ جَاءَ الِابْتِدَاعُ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ؛ صَحَّ دُخُولُهُ فِي الْعَادِيَّاتِ كَالْعِبَادِيَّاتِ، وَإِلَّا فَلَا. وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْبَابِ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِالْأَمْثِلَةِ: فَمِمَّا أَتَى بِهِ الْقَرَافِيُّ وَضْعُ الْمُكُوسِ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، فَلَا يَخْلُو هَذَا الْوَضْعُ الْمُحَرَّمُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ حَجْرِ التَّصَرُّفَاتِ وَقْتًا مَا، أَوْ فِي حَالَةٍ مَا، لِنَيْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا، عَلَى هَئْيَةِ غَصْبِ الْغَاصِبِ، وَسَرِقَةِ السَّارِقِ، وَقَطْعِ الْقَاطِعِ لِلطَّرِيقِ. . .، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ عَلَى قَصْدِ وَضْعِهِ عَلَى النَّاس؛ كَالدِّينِ الْمَوْضُوعِ وَالْأَمْرِ الْمَحْتُومِ عَلَيْهِمْ دَائِمًا، أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مَحْدُودَةٍ، عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مَضْرُوبَةٍ، بِحَيْثُ تُضَاهِي الْمَشْرُوعَ الدَّائِمَ

الَّذِي يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَيُؤْخَذُونَ بِهِ وَتُوَجَّهُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ، كَمَا فِي أَخْذِ زَكَاةِ الْمَوَاشِي وَالْحَرْثِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَأَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرٌ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، إِذْ هُوَ تَشْرِيعُ زَائِدٌ، وَإِلْزَامٌ لِلْمُكَلَّفِينَ يُضَاهِي إِلْزَامَهُمُ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَالدِّيَاتِ الْمَضْرُوبَةَ، وَالْغَرَامَاتِ الْمَحْكُومِ بِهَا فِي أَمْوَالِ الْغُصَّابِ وَالْمُعْتَدِينَ، بَلْ صَارَ فِي حَقِّهِمْ كَالْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَاللَّوَازِمِ الْمَحْتُومَةِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَصِيرُ بِدْعَةً بِلَا شَكٍّ، لِأَنَّهُ شَرْعٌ مُسْتَدْرَكٌ وَسُنَنٌ فِي التَّكْلِيفِ مَهِيعٌ. فَتَصِيرُ الْمُكُوسُ - عَلَى هَذَا الْفَرْضِ - لَهَا نَظَرَانِ: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَى الْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَهَا كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا اخْتِرَاعًا لِتَشْرِيعٍ يُؤْخَذُ بِهِ النَّاسُ إِلَى الْمَوْتِ كَمَا يُؤْخَذُونَ بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ، فَاجْتَمَعَ فِيهَا نَهْيَانِ: نَهْيٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَنَهْيٌ عَنِ الْبِدْعَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْبِدَعِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ بِهِ النَّهْيُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا تَشْرِيعًا مَوْضُوعًا عَلَى النَّاسِ أَمْرَ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ جِهَةٌ أُخْرَى يَكُونُ بِهَا مَعْصِيَةً، بَلْ نَفْسُ التَّشْرِيعِ هُوَ نَفْسُ الْمَمْنُوعِ. - وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَتَوْلِيَةُ الْمَنَاصِبِ الشَّرِيفَةِ مَنْ لَا يَصْلُحُ بِطَرِيقِ التَّوْرِيثِ، هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ جَعْلَ الْجَاهِلِ فِي مَوْضِعِ الْعَالِمِ حَتَّى يَصِيرَ مُفْتِيًا فِي الدِّينِ، وَمَعْمُولًا بِقَوْلِهِ فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَغَيْرِهَا، مُحَرَّمٌ فِي الدِّينِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ يُتَّخَذُ دَيْدَنًا حَتَّى يَصِيرَ الِابْنُ مُسْتَحِقًّا لِرُتْبَةِ الْأَبِ ـ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الْأَبِ فِي ذَلِكَ الْمَنْصِبِ ـ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ يَشِيعُ هَذَا الْعَمَلُ وَيَطَّرِدُ وَيَرِدُهُ النَّاسُ؛ كَالشَّرْعِ الَّذِي لَا يُخَالَفُ؛ بِدَعَةً بِلَا إِشْكَالٍ، زِيَادَةً إِلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ غَيْرِ

الْجَارِي عَلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ بِدْعَةٌ أَوْ سَبَبُ الْبِدْعَةِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَإِنَّمَا ضَلُّوا لِأَنَّهُمْ أَفْتَوْا بِالرَّأْيِ إِذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ. وَأَمَّا إِقَامَةُ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا تُتَصَوَّرُ هُنَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، فَإِنْ تَكَلَّفَ أَحَدٌ فِيهَا ذَلِكَ فَيَبْعُدُ جِدًّا، وَذَلِكَ بِفَرْضِ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ أَنَّهُ مِمَّا يَطْلُبُ بِهِ الْأَئِمَّةُ عَلَى الْخُصُوصِ تَشْرِيعًا خَارِجًا عَنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ مِنَ الدِّينِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمَطْلُوبُونَ بِهِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ خَاصًّا بِالْأَئِمَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ: أَنَّ خَاتَمَ

الذَّهَبِ جَائِزٌ لِذَوِي السُّلْطَانِ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّ الْحَرِيرَ جَائِزٌ لَهُمْ لُبْسُهُ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْأَوَّلِ فِي تَصَوُّرِ الْبِدْعَةِ فِي حَقِّ هَذَا الْقِسْمِ. وَيُشْبِهُهُ عَلَى قُرْبٍ زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ تَرْفِيعِ بُيُوتِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الثُّرَيَّاتِ الْخَطِيرَةِ الْأَثْمَانِ، حَتَّى يُعَدَّ الْإِنْفَاقُ فِي ذَلِكَ إِنْفَاقًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اعْتَقَدَ فِي زَخَارِفِ الْمُلُوكِ وَإِقَامَةِ صُوَرِهِمْ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ تَرْفِيعِ الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارِ مَعَالِمِهِ وَشَعَائِرِهِ، أَوْ قَصَدَ ذَلِكَ فِي فِعْلِهِ أَوَّلًا بِأَنَّهُ تَرْفِيعٌ لِلْإِسْلَامِ لِمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، وَلَيْسَ مَا حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ مِنْ قَبِيلِ هَذِهِ الزَّخَارِفِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْتَادِ فِي اللِّبَاسِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي الْحِجَابِ مَخَافَةً مِنِ انْخِرَاقِ خَرْقٍ يَتَّسِعُ فَلَا يُرْفَعُ ـ هَذَا إِنْ صَحَّ مَا قَالَ، وَإِلَّا، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى نَقْلِ الْمُؤَرِّخِينَ وَمَنْ لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ، وَأَحْرَى أَلَّا يَنْبَنِيَ عَلَيْهِ حُكْمٌ. - وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَنَاخِلِ فَقَدْ مَرَّ مَا فِيهَا، وَالْمُعْتَادُ فِيهَا أَنَّهُ لَا يُلْحِقُهَا أَحَدٌ بِالدِّينِ، وَلَا بِتَدْبِيرِ الدُّنْيَا بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ كَالتَّشْرِيعِ، فَلَا نَطُولُ بِهِ. وَعَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ يُنْظَرُ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، فَتَبَيَّنْ مَجَالَ الْبِدْعَةِ فِي الْعَادِيَّاتِ مِنْ مَجَالِ غَيْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا فِيهَا كَلَامٌ فَرَاجِعْهُ إِنِ احْتَجْتَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا وَجْهُ النَّظَرِ فِي أَمْثِلَةِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ مِنْ أَوْجُهِ دُخُولِ الِابْتِدَاعِ فِي

الْعَادَاتِ عَلَى مَا أُرِيدَ تَحْقِيقُهُ، فَنَقُولُ: إِنَّ مَدَارِكَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ عَلَى بِضْعَ عَشْرَةَ خَصْلَةً، يُمْكِنُ رَدُّهَا إِلَى أُصُولٍ هِيَ كُلُّهَا أَوْ غَالِبُهَا بِدَعٌ، وَهِيَ قِلَّةُ الْعِلْمِ وَظُهُورُ الْجَهْلِ، وَالشُّحُّ وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ، وَتَحْلِيلُ الدِّمَاءِ وَالزِّنَا وَالْحَرِيرُ وَالْغِنَاءُ وَالرِّبَا وَالْخَمْرُ، وَكَوْنُ الْمَغْنَمِ دُوَلًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَتَقْدِيمُ الْأَحْدَاثِ، وَلَعْنُ آخِرِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا، وَخُرُوجُ الدَّجَّالِينَ، وَمُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ. - أَمَّا قِلَّةُ الْعِلْمِ وَظُهُورُ الْجَهْلِ فَبِسَبَبِ التَّفَقُّهِ لِلدُّنْيَا، وَهَذَا إِخْبَارٌ بِمُقْدِمَةٍ أَنْتَجَتْهَا الْفُتْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ ـ حَسْبَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ» إِلَى آخِرِهِ ـ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ قَائِدٍ يَقُودُهُمْ فِي الدِّينِ بِجَرَائِمِهِمْ، وَإِلَّا؛ وَقَعَ الْهَرَجُ وَفَسَدَ النِّظَامُ، فَيُضْطَرُّونَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى مَنِ انْتَصَبَ لَهُمْ مَنْصِبَ الْهِدَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عَالِمًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى رَأْيِهِ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ جَاهِلٌ، فَيُضِلُّهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ كَمَا أَنَّهُ ضَالٌّ عَنْهُ، وَهَذَا عَيْنُ الِابْتِدَاعِ، لِأَنَّهُ التَّشْرِيعُ بِغَيْرِ أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ مِنْ قِبَلِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا يُؤْتُونَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ عُلَمَاؤُهُمْ أَفْتَى مَنْ لَيْسَ بِعَالَمٍ فَيُؤْتَى النَّاسُ مَنْ قِبَلِهِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى بَسْطٌ أَوْسَعُ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَمَّا الشُّحُّ؛ فَإِنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِبِدْعَةِ الِاحْتِيَالِ عَلَى تَحْلِيلِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَشُحُّونَ بِأَمْوَالِهِمْ فَلَا يَسْمَحُونَ بِتَصْرِيفِهَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ؛ كَالْإِحْسَانِ بِالصَّدَقَاتِ وَالْهِبَاتِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْإِيثَارِ

عَلَى النَّفْسِ. وَيَلِيهِ أَنْوَاعُ الْقَرْضِ الْجَائِزِ، وَيَلِيهِ التَّجَاوُزُ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، وَبِالْإِسْقَاطِ كَمَا قَالَ: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]، وَهَذَا كَانَ شَأْنَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ. ثُمَّ نَقَصَ الْإِحْسَانُ بِالْوُجُوهِ الْأُوَلِ. فَتَسَامَحَ النَّاسُ بِالْقَرْضِ. ثُمَّ نَقَصَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْمُوسِرُ لَا يَسْمَحُ بِمَا فِي يَدَيْهِ فَيُضْطَرُّ الْمُعْسِرُ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ وَبَاطِنُهَا الْمَنْعُ؛ كَالرِّبَا وَالسَّلَفِ الَّذِي يَجُرُّ النَّفْعَ، فَيَجْعَلُ بَيْعًا فِي الظَّاهِرِ، وَيَجْرِي فِي النَّاسِ شَرْعًا شَائِعًا، وَيَدِينُ بِهِ الْعَامَّةُ، وَيَنْصِبُونَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مَتَاجِرَ، وَأَصْلُهَا الشُّحُّ بِالْأَمْوَالِ وَحَبُّ الزَّخَارِفِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْحَرِيُّ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ ابْتِدَاعًا فِي الدِّينِ، وَأَنْ يُجْعَلَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا انْتِجَاعٌ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَتَكَلُّفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنَ الشَّرْعِ لَمَا قِيلَ بِهِ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً فَلَا يَرْفَعُهُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ». وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَقَالَ فِيهِ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْتَزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ.»

فَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَرَنَ التَّبَايُعَ بِالْعِينَةِ بِضِنَّةِ النَّاسِ، فَأَشْعَرَ بِأَنَّ التَّبَايُعَ بِالْعِينَةِ يَكُونُ عَنِ الشُّحِّ بِالْأَمْوَالِ، وَهُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَتَبَايَعُ أَبَدًا هَذَا التَّبَايُعَ وَهُوَ يَجِدُ مَنْ يُسْلِفُهُ أَوْ مَنْ يُعِينُهُ فِي حَاجَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَفِيهًا لَا عَقْلَ لَهُ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى مَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وَيَنْهدُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرٍّ، أَلَا إِنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّ حَرَامٌ ; الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخُونُهُ، إِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيكَ وَلَا تَزِدْهُ هَلَاكًا إِلَى هَلَاكِهِ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ ـ وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُهَا لَيْسَتْ هُنَاكَ ـ مِمَّا يُعَضِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهُوَ خَبَرٌ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ يَشْهَدُ لَهُ الْوَاقِعُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: عَامَّةُ الْعِينَةِ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ رَجُلٍ يُضْطَرُّ إِلَى نَفَقَةٍ يَضِنُّ

عَلَيْهِ الْمُوسِرِ بِالْقَرْضِ إِلَى أَنْ يُرْبِحَهُ فِي الْمِائَةِ مَا أَحَبَّ، فَيَبِيعُهَا ثَمَنُ الْمِائَةِ بِضَعْفِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَفَسَّرَ بَيْعُ الْمُضْطَرِّ بِبَيْعِ الْعِينَةِ، وَبَيْعُ الْعِينَةِ إِنَّمَا هُوَ الْعَيْنُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا إِلَى أَجَلٍ ـ حَسْبَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْفِقْهِيَّاتِ ـ فَقَدْ صَارَ الشُّحُّ إِذًا سَبَبًا فِي دُخُولِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ فِي الْبُيُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُنَا فِي الْبِدْعَةِ فِي فَسَادِ الْمَعْصِيَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بُيُوعٌ فَاسِدَةٌ فَصَارَتْ مِنْ بَابٍ آخَرَ لَا كَلَامَ لَنَا فِيهِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَدْخَلَ الْبِدْعَةِ هَاهُنَا مِنْ بَابِ الِاحْتِيَالِ الَّذِي أَجَازَهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَقَدْ عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابٍ وُضِعَ فِي الْحِيَلِ: مَنْ وَضَعَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَمِعَ بِهِ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ كُورَةٍ إِلَى كُورَةٍ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ الِاحْتِيَالَاتُ بِأَشْيَاءَ مُنْكَرَةٍ، حَتَّى احْتَالَ عَلَى فِرَاقِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا بِأَنْ تَرْتَدَّ. وَقَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: أَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكَ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ أَبِي رَوْحٍ حَيْثُ أُمِرَتْ بِالِارْتِدَادِ، وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ أَبِي غَسَّانَ: فَذَكَرَ شَيْئًا. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغَضَّبٌ: أَحْدَثُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَانَ أَمَرَ بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ. وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ لِيَأْمُرَ به أَوْ صَوَّبَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ المُبَارَكٍ: مَا أَرَى الشَّيْطَانَ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ فَأَفَادَهَا مِنْهُمْ فَأَشَاعَهَا حِينَئِذٍ، وَلَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُمْضِيهَا فِيهِمْ، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ. وَإِنَّمَا وُضِعَ هَذَا الْكِتَابُ وَأَمْثَالُهُ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى زَعْمِهِمْ فِي أَنْ يَحْتَالُوا لِلْحَرَامِ حَتَّى يَصِيرَ حَلَالًا، وَلِلْوَاجِبِ حَتَّى يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَمَا

أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ نِظَامِ الدِّينِ، كَمَا أَجَازُوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ، وَهُوَ احْتِيَالٌ عَلَى رَدِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِمَنْ طَلَّقَهَا، وَأَجَازُوا إِسْقَاطَ فَرْضِ الزَّكَاةِ بِالْهِبَةِ الْمُسْتَعَارَةِ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ الْإِشَارَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمَذْكُورِ فِيهَا الشُّحُّ، وَأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ ابْتِدَاعًا كَمَا تَتَضَمَّنُ مَعَاصِيَ جَمَّةً. وَأَمَّا قَبْضُ الْأَمَانَةِ فَعِبَارَةٌ عَنْ شُيُوعِ الْخِيَانَةِ، وَهِيَ مِنْ سِمَاتِ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَلَكِنْ قَدْ صَارَ فِي النَّاسِ بَعْضُ أَنْوَاعِهَا تَشْرِيعًا، وَحُكِيَتْ عَنْ قَوْمٍ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْعِلْمِ كَمَا حُكِيَتْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحِيَلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ إِنَّمَا بَنَوْا فِي بَيْعِ الْعِينَةِ عَلَى إِخْفَاءِ مَا لَوْ أَظْهَرُوهُ لَكَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، فَأَخْفَوْهُ لِتَظْهَرَ صِحَّتُهُ، فَإِنَّ بَيْعَهُ الثَّوْبَ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ إِلَى أَجَلٍ، لَكِنَّهُمَا أَظْهَرَا وَسَاطَةَ الثَّوْبِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَبِيعُ وَالْمُشْتَرَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ الْوَاقِعِ. وَكَذَلِكَ يَهَبُ مَالَهُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ قَائِلًا بِلِسَانِ حَالِهِ وَمَقَالِهِ: أَنَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنِّي، ثُمَّ يَهَبُهُ، فَإِذَا جَاءَ الْحَوْلُ الْآخَرُ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْوَاهِبِ مِثْلَ الْمَقَالَةِ الْأُولَى، وَالْجَمِيعُ فِي الْحَالَيْنِ، - بَلْ فِي الْحَوْلَيْنِ - فِي تَصْرِيفِ الْمَالِ سَوَاءٌ، أَلَيْسَ هَذَا خِلَافَ الْأَمَانَةِ؟! وَالتَّكْلِيفُ مَنْ أَصْلِهِ أَمَانَةٌ فِيمَا بَيْنُ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، فَالْعَمَلُ بِخِلَافِهِ خِيَانَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ يَحْقِرُ الزِّينَةَ وَيَرُدُّ مِنَ الْكَذِبِ، وَمَعْنَى الزِّينَةِ التَّدْلِيسُ بِالْعُيُوبِ، وَهَذَا خِلَافُ الْأَمَانَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَرَاءِ يَحْتَاجُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ اعْتِقَادًا مِنْهُمْ أَنَّهَا لَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ نَوْعًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ الْمَأْخُوذَةَ

عَنْوَةً مِنَ الْكُفَّارِ، فَيَجْعَلُونَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيَحْرِمُونَ الْغَانِمِينَ مِنْ حُظُوظِهِمْ مِنْهَا تَأْوِيلًا عَلَى الشَّرِيعَةِ بِالْعُقُولِ. فَوَجْهُ الْبِدْعَةِ هَا هَنَا ظَاهِرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَمْثِيلِ الْبِدَعِ الدَّاخِلَةِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ فِي الْبَابِ قَبْلَ هَذَا. وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا النَّمَطِ كَوْنُ الْغَنَائِمِ تَصِيرُ دُوَلًا، وَقَوْلُهُ: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمَرَاءَ تُنْكِرُونَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ.» وَأَمَّا تَحْلِيلُ الدِّمَاءِ وَالرِّبَا وَالْحَرِيرِ وَالْغِنَاءِ وَالْخَمْرِ، فَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَشَرْبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا» ـ زَادَ ابْنُ مَاجَهْ ـ «يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْقَيْنَاتِ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ»

وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ وَأَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ فِيهِ: «لِيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلِيَنْزِلنَ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَةٌ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ رَجُلٌ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعِلْمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.» وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخِزَّ وَالْحَرِيرَ» ـ وَقَالَ فِي آخِرِهِ ـ «يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». وَالْخَزُّ هُنَا نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ لَيْسَ الْخَزُّ الْمَأْذُونُ فِيهَا الْمَنْسُوجُ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «وَلِيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ» يَعْنِي ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِلِّينَ، وَالْمَعْنَى إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَحِلِّينَ يَنْزِلُ مِنْهُمْ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، وَهُوَ الْجَبَلُ، فَيُوَاعِدُهُمْ إِلَى الْغَدِ، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ ـ وَهُوَ أَخْذُ الْعَذَابِ لَيْلًا ـ وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ: «يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ». وَكَأَنَّ الْخَسْفَ هَاهُنَا التَّبْيِيتُ الْمَذْكُورَ فِي الْآخَرِ.

وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا هَذِهِ الْمَحَارِمَ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فِيهَا حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الشَّرَابَ الَّذِي شَرِبُوهُ لَيْسَ هُوَ الْخَمْرُ، وَإِنَّمَا لَهُ اسْمٌ آخَرُ، إِمَّا النَّبِيذُ أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا الْخَمْرُ عَصِيرُ الْعِنَبِ النَّيِّءِ، وَهَذَا رَأْيُ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنَّمَا أَتَى عَلَى هَؤُلَاءِ حَيْثُ اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَاتِ بِمَا ظَنُّوهُ مِنِ انْتِفَاءِ الِاسِمِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمِ وَثُبُوتِهِ. قَالَ: وَهَذِهِ بِعَيْنِهَا شُبْهَةُ الْيَهُودِ فِي اسْتِحْلَالِهِمْ أَخْذَ الْحِيتَانِ يَوْمَ الْأَحَدِ بِمَا أَوْقَعُوهَا بِهِ يَوْمَ السَّبْتِ فِي الشُّبَّاكِ وَالْحَفَائِرِ مِنْ فِعْلِهِمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ هَذَا بِصَيْدٍ وَلَا عَمَلٍ يَوْمَ السَّبْتِ، وَلَيْسَ هَذَا بِاسْتِبَاحَةِ السَّبْتِ. بَلِ الَّذِي يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ زَاعِمًا (أَنَّهُ) لَيْسَ خَمْرًا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ الْخَمْرَ وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ الْخَمْرُ، أَفْسَدَ تَأْوِيلًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ قِيَاسًا، فَلَئِنْ كَانَ مِنَ الْقِيَاسِ مَا هُوَ حَقٌّ، فَإِنَّ قِيَاسَ الْخَمْرِ الْمَنْبُوذَةِ عَلَى الْخَمْرِ الْعَصِيرَةِ مِنَ الْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ. وَهُوَ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ. إِذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي التَّحْرِيمِ. فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا شَرِبُوا الْخَمْرَ اسْتِحْلَالًا لَهَا لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مُجَرَّدُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَظَنُّوا أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيِّءِ فَشُبْهَتُهُمْ فِي اسْتِحْلَالِ الْحَرِيرِ وَالْمَعَازِفِ أَظْهَرُ بِأَنَّهُ أُبِيحَ الْحَرِيرُ لِلنِّسَاءِ مُطْلَقًا، وَلِلرِّجَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَكَذَلِكَ الْغِنَاءُ وَالدُّفُّ قَدْ أُبِيحُ فِي الْعُرْسِ وَنَحْوِهِ، وَأُبِيحَ مِنْهُ

الْحُدَاءُ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ دَلَائِلِ التَّحْرِيمِ مَا فِي الْخَمْرِ، فَظَهَرَ ذَمُّ الَّذِينَ يُخْسَفُ بِهِمْ وَيُمْسَخُونَ، إِنَّمَا فُعِلَ ذَلِكَ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ الَّذِي اسْتَحَلُّوا بِهِ الْمَحَارِمَ بِطَرِيقِ الْحِيلَةِ وَأَعْرَضُوا عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَحِكْمَتِهِ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ بَطَّةَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ فِيهِ الرِّبَا بِالْبَيْعِ» قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْعِينَةَ. وَرُوِيَ فِي اسْتِحْلَالِ الرِّبَا حَدِيثٌ رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ دِينِكُمْ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ وَجَبْرِيَّةٌ، ثُمَّ مُلْكٌ عَضُوضٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ الْحَرِيرُ وَالْحِرُّ» يُرِيدُ اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ الْحَرَامِ، وَالْحِرُّ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ الْفَرْجُ، قَالُوا: وَيُشْبِهُ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ ظُهُورُ اسْتِحْلَالِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ الْمُحَرَّمَةِ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَمْ يَسْتَحِلَّ أَحَدٌ مِنْهَا الزِّنَا الصَّرِيحَ، وَلَمْ يُرِدْ بِالِاسْتِحْلَالِ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَزَلْ مَعْمُولًا فِي النَّاسِ، ثُمَّ لَفْظُ الِاسْتِحْلَالِ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَصْلِ فِيمَنِ اعْتَقَدَ الشَّيْءَ حَلَالًا، وَالْوَاقِعُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمُلْكَ الْعَضُوضَ

الَّذِي كَانَ بَعْدَ الْمُلْكِ وَالْجَبْرِيَّةِ قَدْ كَانَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ التَّابِعِينَ، فِي تِلْكَ الْأَزْمَانِ صَارَ فِي أُولِي الْأَمْرِ مَنْ يُفْتِي بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ يُفْتِي بِهِ أَصْلًا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ الْمَشْهُورِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ». وَرَوَى أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ» فَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّحْلِيلَ مِنَ الزِّنَا، كَمَا يُشْعِرُ أَنَّ الْعِينَةَ مِنَ الرِّبَا. وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ مَوْقُوفًا قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسْتَحَلُّ فِيهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: يَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِأَسْمَاءٍ يُسَمُّونَهَا بِهَا، وَالسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ، وَالْقَتْلَ بِالرَّهْبَةِ، وَالزِّنَا بِالنِّكَاحِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ، فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ أَوَّلًا قَدْ سُنَّتْ، وَأَمَّا السُّحْتُ الَّذِي هُوَ الْعَطِيَّةُ لِلْوَالِي وَالْحَاكِمِ وَنَحْوِهِمَا بِاسْمِ الْهَدِيَّةِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَاسْتِحْلَالُ الْقَتْلِ بِاسْمِ الْإِرْهَابِ الَّذِي يُسَمِّيهِ وُلَاةُ الظُّلْمِ سِيَاسَةَ وَأُبَّهَةَ الْمُلْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ شَرِيعَةِ الْقَتْلِ الْمُخْتَرَعَةِ.

وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْخِصَالِ فَقَالَ: «إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يَتَجَاوَزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ». وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ الْمُرَادُونَ بُقُولُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: «يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا» الْحَدِيثَ. يَدُلُّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ قَالَ: يُصْبِحُ مُحَرِّمًا لِدَمِ أَخِيهِ وَعِرْضِهِ وَيُمْسِي مُسْتَحِلًّا، إِلَى آخِرِهِ. وَقَدْ وَضَعَ الْقَتْلَ شَرْعًا مَعْمُولًا بِهِ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُتَسَمِّي بِالْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ، فَجَعَلَ الْقَتْلَ عِقَابًا فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ صِنْفًا، ذَكَرُوا مِنْهَا: الْكَذِبَ، وَالْمُدَاهَنَةَ، وَأَخَذَهُمْ أَيْضًا بِالْقَتْلِ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ أَمْرِ مَنْ يُسْتَمَعُ أَمْرُهُ وَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَعِظُهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيُذَكِّرُهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ أُدِّبَ، فَإِنْ تَمَادَى قُتِلَ، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ بِمَا أُدِّبَ بِهِ ضُرِبَ بِالسَّوْطِ الْمَرَّةَ وَالْمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ عِنَادٌ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ قُتِلَ، وَمَنْ دَاهَنَ عَلَى أَخِيهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ مَنْ يَكْرُمُ عَلَيْهِ أَوِ الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِ قُتِلَ. وَكُلُّ مَنْ شَكَّ فِي عِصْمَتِهِ قُتِلَ أَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ أَمْرُهُ، أَمْرَ الصَّحَابَةِ

فَعَرَّوْهُ، فَكَانَ أَكْثَرَ تَأْدِيبِهِ الْقَتْلُ ـ كَمَا تَرَى ـ. كَمَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ خَلَفَ إِمَامٍ أَوْ خَطِيبٍ يَأْخُذُ أَجْرًا عَلَى الْإِمَامَةِ أَوِ الْخَطَابَةِ، وَكَذَلِكَ لُبْسُ الثِّيَابِ الرَّفِيعَةِ ـ وَإِنْ كَانَتْ حَلَالًا ـ فَقَدْ حَكَوْا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَفْحِلَ أَمْرُهُ أَنَّهُ تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَ خَطِيبِ أَغِمَاتٍ بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَقَدِمَ خَطِيبٌ آخَرُ فِي ثِيَابٍ حَفِيلَةٍ تُبَايِنُ التَّوَاضُعَ ـ بِزَعْمِهِمْ ـ فَتَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ. وَكَانَ مِنْ رَأْيِهِ تَرْكُ الرَّأْيِ وَاتِّبَاعُ مَذَاهِبِ الظَّاهِرِيَّةِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهُوَ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ فِي الشَّرِيعَةِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَمِنْ رَأْيِهِ أَنَّ التَّمَادِيَ عَلَى ذَرَّةٍ مِنَ الْبَاطِلِ كَالتَّمَادِي عَلَى الْبَاطِلِ كُلِّهِ. وَذَكَرَ فِي كِتَابِ " الْإِمَامَةِ " أَنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ، وَأَصْحَابُهُ هُمُ الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: جَاءَ اللَّهُ بِالْمَهْدِيِّ، وَطَاعَتُهُ صَافِيَةٌ نَقِيَّةٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، وَأَنَّ بِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَبِهِ تَقُومُ، وَلَا ضِدَّ لَهُ وَلَا مِثْلَ وَلَا نِدَّ، انْتَهَى. وَكَذَبَ، فَالْمَهْدِيُّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِلُزُومِ الْحِزْبِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ، فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنِينَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ أَنْ يُنَادُوا: " أَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ " إِشْعَارًا ـ زَعَمُوا ـ بِأَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ لِإِلْزَامِ الطَّاعَةِ، وَلِحُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وَلِلْغُدُوِّ لِكُلِّ مَا يُؤَمَرُونَ بِهِ.

وَلَهُ اخْتِرَاعَاتٌ وَابْتِدَاعَاتٌ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَجَمِيعُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ قَائِلٌ بِرَأْيِهِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، مَعَ زَعْمِهِ أَنَّهُ قَائِلٌ بِالرَّأْيِ. وَهُوَ التَّنَاقُضُ بِعَيْنِهِ. فَقَدْ ظَهَرَ إِذَنْ جَرَيَانُ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الِابْتِدَاعِ. وَأَمَّا كَوْنُ الزَّكَاةِ مَغْرَمًا، فَالْمَغْرَمُ مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ مِنَ الدُّيُونِ وَالْغَرَامَاتِ، كَانَ الْوُلَاةُ يُلْزِمُونَهَا النَّاسَ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى قِلَّةِ مَالِ الزَّكَاةِ أَوْ كَثْرَتِهِ أَوْ قُصُورِهِ عَنِ النِّصَابِ أَوْ عَدَمِ قُصُورِهِ، بَلْ يَأْخُذُونَهُمْ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَى الْمَوْتِ، وَكَوْنُ هَذَا بِدَعَةً، ظَاهِرٌ. وَأَمَّا ارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ فَنَاشِئٌ عَنْ بِدْعَةِ الْجِدَالِ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ قِرَاءَةِ الْعِلْمِ وَإِقْرَائِهِ وَسَمَاعِهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ لَا تُرْفَعَ فِيهِ الْأَصْوَاتُ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ؟ فَالْجِدَالُ فِيهِ زِيَادَةُ الْهَوَى، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الْأَصْلِ. فَقَدْ جَعَلَ الْعُلَمَاءُ مِنْ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ تَرْكَ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ فِي الدِّينِ. وَهُوَ الْكَلَامُ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ فِي الْكَلَامِ فِيهِ. كَالْكَلَامِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَغَيْرِهِمَا. وَكَمُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ أَنَّهَا قَالَتْ: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] قَالَ: فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ»

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ»، وَجَاءَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُمَارُوا فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْمِرَاءَ فِيهِ كُفْرٌ» وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الْقُرْآنَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضِ مَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَاقْبَلُوهُ وَمَا لَمْ تَعْلَمُوهُ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ»، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ. فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَقُومُوا عَنْهُ»، وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْخُصُومَاتِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهَا تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ. وَقَالَ النَّخْعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 64] قَالَ: الْجِدَالَ وَالْخُصُومَاتِ فِي الدِّينِ. وَقَالَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى: انْصَرَفَ مَالِكٌ يَوْمًا إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ

عَلَى يَدِي، فَلَحِقَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْجَدِيرَةِ يُتَّهَمُ بِالْإِرْجَاءِ. فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! اسْمَعْ مِنِّي شَيْئًا أُكَلِّمُكَ بِهِ وَأُحَاجُّكَ بِرَأْيِي. فَقَالَ لَهُ: احْذَرْ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْكَ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُرِيدَ إِلَّا الْحَقَّ، اسْمَعْ مِنِّي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَقُلْ بِهِ أَوْ فَتَكَلَّمْ. قَالَ: فَإِنْ غَلَبَتْنِي؟ قَالَ: اتَّبَعَنِي. قَالَ: فَإِنْ غَلَبْتُكَ؟ قَالَ: اتَّبَعْتُكَ. قَالَ: فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ فَكَلَّمْنَاهُ فَغَلَبْنَاهُ؟ قَالَ: اتَّبَعَنَا. فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا بِدِينٍ وَاحِدٍ وَأَرَاكَ تَنْتَقِلُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ جَعَلَ دِينَهُ عَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الْجِدَالُ فِي الدِّينِ بِشَيْءٍ. وَالْكَلَامُ فِي ذَمِّ الْجِدَالِ كَثِيرٌ. فَإِذَا كَانَ مَذْمُومًا فَمَنْ جَعَلَهُ مَحْمُودًا وَعَدَّهُ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ بِإِطْلَاقٍ فَقَدِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ. وَلَمَّا كَانَ اتِّبَاعُ الْهَوَى أَصْلَ الِابْتِدَاعِ لَمْ يَعْدَمْ صَاحِبُ الْجِدَالِ أَنْ يُمَارِيَ وَيَطْلُبَ الْغَلَبَةَ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: عَدَدْتَ رَفْعَ الْأَصْوَاتِ مِنْ فُرُوعِ الْجِدَالِ وَخَوَاصِّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَرَفْعُ الْأَصْوَاتِ قَدْ يَكُونُ فِي الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ كُرِهَ رَفْعُ الْأَصْوَاتِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْعِلْمِ أَوْ فِي غَيْرِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَبْسُوطِ: رَأَيْتُ مَالِكًا يَعِيبُ عَلَى أَصْحَابِهِ رَفْعَ أَصْوَاتِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ. وَعَلَّلَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بِعِلَّتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُنَزِّهَ الْمَسْجِدَ عَنْ مِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُ أُمِرَ

بِتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَأْتِيَهَا وَعَلَيْنَا السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَأَنْ يُلْزَمَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهَا الْمُتَّخَذِ لَهَا أَوْلَى. وَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ بَنَى رَحْبَةً بَيْنَ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ تُسَمَّى الْبُطَيْحَاءَ وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَلْغَطَ أَوْ يُنْشِدَ شِعْرًا أَوْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ فَلْيَخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ ذَمُّ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى الْجَدَلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ مِنْ خَوَاصِّ الْجَدَلِ الْمَذْمُومِ، أَعْنِي: فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ دُونَ الْفَلَتَاتِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ وَالْخُرُوجَ عَنِ الِاعْتِدَالِ فِيهِ نَاشِئٌ عَنِ الْهَوَى فِي الشَّيْءِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ، وَأَقْرَبُ الْكَلَامِ الْخَاصِّ بِالْمَسْجِدِ إِلَى رَفْعِ الصَّوْتِ، الْكَلَامُ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ، وَهُوَ الْجِدَالُ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ. وَأَيْضًا؛ لَمْ يَكْثُرِ الْكَلَامُ جِدًّا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ إِلَّا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَإِلَى غَرَضِهِ تَصَوَّبَتْ سِهَامُ النَّقْدِ وَالذَّمِّ، فَهُوَ إِذًا هَوًى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَيْرَةَ بْنِ أَبِي نَاجِيَةَ الْمِصْرِيِّ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يَتَعَارُّونَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ قَدْ مَلُّوا الْعِبَادَةَ، وَأَقْبَلُوا

عَلَى الْكَلَامِ، اللَّهُمَّ أَمِتْ عُمَيْرَةَ، فَمَاتَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ، فَرَأَى رَجُلٌ فِي النَّوْمِ قَائِلًا يَقُولُ: مَاتَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ نِصْفُ النَّاسِ فَعَرَفْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَجَاءَ مَوْتُ عُمَيْرَةَ هَذَا. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ مُجَرَّدَ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا لَكَانَ أَيْضًا مِنَ الْبِدَعِ إِذَا عُدَّ كَأَنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ فَصَارَ مَعْمُولًا بِهِ لَا نَفْيَ وَلَا يَكُفُّ عَنْهُ فَجَرَى مَجْرَى الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَحْدَاثِ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمِنْ قَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِي كَثْرَةِ الْجُهَّالِ وَقِلَّةِ الْعِلْمِ، كَانَ ذَلِكَ التَّقْدِيمُ فِي رَيْبِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْحَدَثَ أَبَدًا أَوْ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ غِرٌّ لَمْ يَتَحَنَّكْ، وَلَمْ يَرْتَضْ فِي صِنَاعَةِ رِيَاضَةٍ تُبْلِغُهُ مَبَالِغَ الرَّاسِخِينَ الْأَقْدَامَ فِي تِلْكَ الصِّنَاعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي الْمَثَلِ: وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لَزَّ فِي قَرْنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةِ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ هَذَا إِنْ حَمْلَنَا عَلَى حَدَاثَةِ السِّنِّ، وَهُوَ نَصٌّ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى حَدَثَانِ الْعَهْدِ بِالصِّنَاعَةِ، وَيَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ: «وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ» وَقَوْلُهُ: «وَسَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ» وَقَوْلُهُ: «إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ» فَالْمَعْنَى فِيهَا وَاحِدٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْعَهْدَ بِالشَّيْءِ لَا يَبْلُغُ مَبَالِغَ الْقَدِيمِ الْعَهْدِ فِيهِ. وَلِذَلِكَ يُحْكَى عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَحْدَاثِ الَّذِينَ نَهَى شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ عَنْهُمْ، فَقَالَ: الْحَدَثُ الَّذِي لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْأَمْرَ بَعْدُ،

وَإِنْ كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ سَنَةً. فَإِذَا تَقْدِيمُ الْأَحْدَاثِ عَلَى غَيْرِهِمْ، مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: سُفَهَاءَ الْأَحْلَامِ وَقَالَ: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ» إِلَى آخِرِهِ، وَهُوَ مُنَزَّلٌ عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الْخَوَارِجِ: «إِنَّ مِنْ ضَئْضَئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَقَّهُوا فِيهِ، فَهُوَ فِي أَلْسِنَتِهِمْ لَا فِي قُلُوبِهِمْ. وَأَمَّا لَعْنُ آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ عَنْ بَعْضِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ، فَإِنَّ الْكَامِلِيَّةَ مَنَ الشِّيعَةِ كَفَّرَتِ الصَّحَابَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ، حِينَ لَمْ يَصْرِفُوا الْخِلَافَةَ إِلَى عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَفَّرَتْ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ حِينَ لَمْ يَأْخُذْ بِحَقِّهِ فِيهَا. قَالَ مُصْعَبُ الزُّبَيْرِيِّ وَابْنُ نَافِعٍ: دَخَلَ هَارُونُ (يَعْنِي الرَّشِيدَ) الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ، ثُمَّ أَتَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتَى مَجْلِسَ مَالِكٍ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ قَالَ لـ مَالِكٍ: هَلْ لِمَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَيْءِ حَقٌّ؟ قَالَ: لَا! وَلَا كَرَامَةَ وَلَا مَسَرَّةَ، قَالَ: مَنْ أَيْنَ قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] فَمَنْ عَابَهُمْ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا حَقَّ لِكَافِرٍ فِي الْفَيْءِ.

وَاحْتَجَّ مَرَّةً أُخْرَى فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ قَالَ: فِيهِمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَهُ، وَأَنْصَارُهُ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10] فَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، وَفِي فِعْلِ خَوَاصِّ الْفَرْقِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ. وَأَمَّا بَعْثُ الدَّجَّالِينَ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ جُمْلَةً، مِنْهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ فِي زَمَانِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَعْدٌ مِنَ الْعُبَيْدِيَةِ الَّذِينَ مَلَكُوا إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَدَ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ مَعْدًا رَسُولَ اللَّهِ، عِوَضًا مِنْ كَلِمَةِ الْحَقِّ أَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِقَتْلِهِ ثُمَّ رَفَعُوهُ إِلَى مَعْدٍ لِيَرَوْا هَلْ هَذَا عَنْ أَمْرِهِ؟ فَلَمَّا انْتَهَى كَلَامُهُمْ إِلَيْهِ، قَالَ: أُرْدُدْ عَلَيْهِمْ أَذَانَهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَمَنْ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ الْعِصْمَةَ، فَهُوَ شِبْهُ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ، وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ بِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَقَدْ جَاوَزَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الْمَغْرِبِيُّ الْمُتَسَمَّى بِالْمَهْدِيِّ. وَقَدْ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْقَرِيبِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْفَازَازِيَّ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهَا بِأُمُورٍ مُوهِمَةٍ لِلْكَرَامَاتِ، وَالْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ، وَمُخَيَّلَةٍ

لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، تَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْعَوَامِّ جُمْلَةً، وَلَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ طَلَبَةِ ذَلِكَ الْبَلَدَ الَّذِي احْتَلَّهُ هَذَا الْبَائِسُ ـ وَهُوَ مَالِقَةُ ـ آخِذًا يَنْظُرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وَهَلْ يُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ؟ وَجَعَلَ يَطْرُقُ إِلَيْهِ الِاحْتِمَالَاتِ، لِيُسَوِّغَ إِمْكَانَ بَعْثِ نَبِيٍّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَقْتَلُ هَذَا الْمُفْتَرِي عَلَى يَدِ شَيْخِ شُيُوخِنَا أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَقَدْ حَكَى بَعْضُ مُؤَلِّفِي الْوَقْتِ قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنِ الْجَيَّابِ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ بِالتَّأَهُّبِ يَوْمَ قَتْلِهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ إِلَى مَصْرَعِهِ جَهَرَ بِتِلَاوَةِ سُورَةِ يس، فَقَالَ أَحَدُ الزَّعْرَةِ مِمَّنْ جَمَعَ السِّجْنُ بَيْنَهُمَا: اقْرَأْ قُرْآنَكَ، لِأَيِّ شَيْءٍ تَنْفَصِلُ عَلَى قُرْآنِنَا الْيَوْمَ؟ أَوْ فِي مَعْنَى هَذَا، فَتَرَكَهَا مَثَلًا بِلَوْذَعِيَّتِهِ. وَأَمَّا مُفَارَقَةُ الْجَمَاعَةِ، فَبِدْعَتُهَا ظَاهِرَةٌ، وَلِذَلِكَ يُجَازِي مُفَارَقَتَهَا بِالْمِيتَةِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَقَدْ ظَهَرَ فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ كَالْعُبَيْدِيَّةِ وَأَشْبَاهِهِمْ. فَهَذِهِ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحَادِيثُ. وَبَاقِي الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ عَائِدٌ إِلَى نَحْوٍ آخَرَ، كَكَثْرَةِ النِّسَاءِ وَقِلَّةِ الرِّجَالِ، وَتَطَاوُلِ النَّاسِ فِي الْبُنْيَانِ، وَتَقَارُبِ الزَّمَانِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَ الْحَوَادِثِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهَا تَقَعُ وَتَظْهَرُ وَتَنْتَشِرُ أُمُورٌ مُبْتَدَعَةٌ عَلَى مُضَاهَاةِ التَّشْرِيعِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ التَّعَبُّدِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا عَادِيَّةً، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ بِدْعَةٌ،

فصل فشو المعاصي والمنكرات والمكروهات والعمل بها هل يعد بدعة

وَالْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ. وَأَنَّ الْعَادِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عَادِيَّةٌ لَا بِدْعَةَ فِيهَا، وَمِنْ حَيْثُ يَتَعَبَّدُ بِهَا أَوْ تُوضَعُ وَضْعَ التَّعَبُّدِ تَدْخُلُهَا الْبِدْعَةُ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ اتِّفَاقُ الْقَوْلَيْنِ، وَصَارَ الْمَذْهَبَانِ مَذْهَبًا وَاحِدًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ فُشْوُ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكِرَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَالْعَمَلُ بِهَا هَلْ يُعَدُّ بِدْعَةً] فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الِابْتِدَاعُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّشْرِيعِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ فِي الْعَادِيَاتِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَوْقِيتٌ مَعْلُومٌ مَعْقُولٌ، فَإِيجَابُهُ أَوْ إِجَازَتُهُ بِالرَّأْيِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثِلَةِ بِدَعِ الْخَوَارِجِ وَمَنْ دَانَاهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الْخَارِجِيَّةِ عَنِ الْجَادَّةِ ـ فَظَاهَرَ. وَمِنْ ذَلِكَ، الْقَوْلُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَالْقَوْلِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ قَدْ تَبَيَّنَ وَجْهُهُ وَاتَّضَحَ مَغْزَاهُ، وَإِنَّمَا يَبْقَى وَجْهٌ آخَرُ يُشْبِهُهُ وَلَيْسَ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكِرَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ قَدْ تَظْهَرُ وَتَفْشُو، وَيَجْرِي الْعَمَلُ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ لَهَا إِنْكَارٌ مِنْ خَاصٍّ وَلَا عَامٍّ، فَمَا كَانَ مِنْهَا هَذَا شَأْنُهُ: هَلْ يُعَدُّ مِثْلُهُ بِدَعَةً أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَهَا نَظَرَانِ: أَحَدُهُمَا: نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ وُقُوعِهَا وَاعْتِقَادًا فِي الْأَصْلِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا مُخَالَفَةٌ لَا بِدْعَةٌ، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْمَمْنُوعِ وَالْمَكْرُوهِ غَيْرَ بِدْعَةٍ أَنْ لَا يَنْشُرَهَا وَلَا يُظْهِرُهَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ أَنْ تُنْشَرَ، بَلْ لَا تَزُولُ الْمُخَالَفَةُ ظَهَرَتْ أَوْ لَا، وَاشْتُهِرَتْ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ دَوَامُ الْعَمَلِ أَوْ عَدَمِ دَوَامِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَالْمُبْتَدَعُ قَدْ يُقَامُ عَنْ بِدْعَةٍ، وَالْمُخَالِفُ قَدْ يَدُومُ عَلَى

مُخَالَفَتِهِ إِلَى الْمَوْتِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ. وَالثَّانِي: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ خَارِجٍ، فَالْقَرَائِنُ قَدْ تَقْتَرِنُ، فَتَكُونُ سَبَبًا فِي مَفْسَدَةٍ حَالِيَّةٍ، وَفِي مَفْسَدَةٍ مَالِيَّةٍ، كِلَاهُمَا رَاجِعٌ إِلَى اعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ. أَمَّا الْحَالِيَّةُ فَبِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْمَلَ بِهَا الْخَوَاصُّ مِنَ النَّاسِ عُمُومًا، وَخَاصَّةً الْعُلَمَاءَ خُصُوصًا، وَتَظْهَرُ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ فِي الْإِسْلَامِ يَنْشَأُ عَنْهَا عَادَةً مِنْ جِهَةِ الْعَوَامِّ اسْتِسْهَالِهَا وَاسْتِجَازَتِهَا، لِأَنَّ الْعَالِمَ الْمُنْتَصِبَ مُفْتِيًا لِلنَّاسِ بِعَمَلِهِ كَمَا هُوَ مُفْتٍ بِقَوْلِهِ. فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ يَعْمَلُ مَا يَأْمُرُ هُوَ بِمُخَالَفَتِهِ حَصَلَ فِي اعْتِقَادِهِمْ جَوَازُهُ، وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا أَوْ مَكْرُوهًا لَامْتَنَعَ مِنْهُ الْعَالَمُ. هَذَا، وَإِنْ نَصَّ عَلَى مَنْعِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ، فَإِنَّ عَمَلَهُ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ الْعَامِّيُّ: إِنَّ الْعَالِمَ خَالَفَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُمْ عُقَلَاءُ النَّاسُ، وَهُمُ الْأَقَلُّونَ. وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: أَنَّهُ وَجَدَ فِيهِ رُخْصَةً، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَيُرَجِّحُ بَيْنَ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. وَالْفِعْلُ أَغْلَبُ مِنَ الْقَوْلِ فِي جِهَةِ التَّأَسِّي ـ كَمَا تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ " الْمُوَافَقَاتِ " ـ فَيَعْمَلُ الْعَامِّيُّ بِعَمَلِ الْعَالِمِ، تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، فَيَعْتَقِدُهُ جَائِزًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْأَكْثَرُونَ. فَقَدْ صَارَ عَمَلُ الْعَالِمِ عِنْدَ الْعَامِّيِّ حُجَّةً، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ فِي الْفُتْيَا، فَاجْتَمَعَ عَلَى الْعَامِّيِّ الْعَمَلُ مَعَ اعْتِقَادِ الْجَوَازِ بِشُبْهَةِ دَلِيلٍ، وَهَذَا عَيْنُ الْبِدْعَةِ.

بَلْ لَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا فِي طَائِفَةٍ مِمَّنْ تَتَمَيَّزُ عَنِ الْعَامَّةِ بِانْتِصَابٍ فِي رُتْبَةِ الْعُلَمَاءِ، فَجَعَلُوا الْعَمَلَ بِبِدْعَةِ الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ، وَقِرَاءَةِ الْحِزْبِ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْبِدَعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ ارْتَسَمَ فِي طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ فَأَجَازَ التَّعَبُّدَ لِلَّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَاحْتَجَّ بِالْحِزْبِ وَالدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَا عَمِلَ بِهِ إِلَّا لِمُسْتَنَدٍ، فَوَضَعَهُ فِي كِتَابٍ وَجَعَلَهُ فِقْهًا كَبَعْضِ أَمَارِيدِ الرَّسِّ مِمَّنْ قَيَّدَ عَلَى الْأُمَّةِ ابْنَ زَيْدٍ. وَأَصِلُ جَمِيعَ ذَلِكَ سُكُوتُ الْخَوَاصِّ عَنِ الْبَيَانِ، وَالْعَمَلِ بِهِ عَلَى الْغَفْلَةِ، وَمِنْ هُنَا تُسْتَشْنَعُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، فَقَدْ قَالُوا: ثَلَاثٌ تَهْدُمُ الدِّينَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ ضَالُّونَ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَائِدٌ وَبَالُهُ عَلَى الْعَالَمِ، وَزَلَلُهُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: زَلَلُهُ فِي النَّظَرِ حَتَّى يُفْتِيَ بِمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَيُتَابِعُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ الْفُتْيَا بِالْقَوْلِ.

وَالثَّانِي مِنْ قِسْمَيِ الْمُفْسِدَةِ الْحَالِيَّةِ: أَنْ يَعْمَلَ بِهَا الْعَوَّامُّ وَتُشِيعَ فِيهِمْ وَتَظْهَرَ فَلَا يُنْكِرُهَا الْخَوَاصُّ وَلَا يَرْفَعُونَ لَهَا رُءُوسَهُمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الْإِنْكَارِ فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَالْعَامِّيُّ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا رَأَى أَمْرًا يَجْهَلُ حُكْمَهُ يَعْمَلُ الْعَامِلُ بِهِ فَلَا يُنْكِرُهَا عَلَيْهِ، اعْتَقِدُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَأَنَّهُ حَسَنٌ، أَوْ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَيْبٌ، أَوْ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٌ، أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ فِعْلِ الْمُسْلِمِينَ. هَذَا أَمْرٌ يَلْزَمُ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِالشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ الْخَوَاصَّ وَالْعُلَمَاءَ فِي الْجَائِزِ أَوْ غَيْرِ الْجَائِزِ. فَإِذَا عَدِمَ الْإِنْكَارَ مِمَّنْ شَأْنُهُ الْإِنْكَارُ، مَعَ ظُهُورِ الْعَمَلِ وَانْتِشَارِهِ وَعَدَمِ خَوْفِ الْمُنْكِرِ وَوُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، دَلَّ عِنْدَ الْعَوَامِّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ جَائِزٌ لَا حَرَجَ فِيهِ، فَنَشَأَ فِيهِ هَذَا الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ بِتَأْوِيلٍ يَقْنَعُ بِمِثْلِهِ مَنْ كَانَ مِنَ الْعَوَامِّ فَصَارَتِ الْمُخَالَفَةُ بِدَعَةً، كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعَالِمَ فِي النَّاسِ قَائِمٌ مَقَامَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ، كَذَلِكَ وَارِثُهُ يَدُلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ. وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا أَحْدَثَ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فَلَمْ يُنْكِرْهَا الْعُلَمَاءُ، أَوْ عَمِلُوا بِهَا فَصَارَتْ بَعْدُ سُنَنًا وَمَشْرُوعَاتِ، كَزِيَادَتِهِمْ مَعَ الْآذَانِ: أَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَالْوُضُوءُ لِلصَّلَاةِ

وَتَأَهَّبُوا، وَدُعَاءُ الْمُؤَذِّنِينَ بِاللَّيْلِ فِي الصَّوَامِعِ، وَرُبَّمَا احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَبِمَا وُضِعَ فِي نَوَازِلِ ابْنِ سَهْلٍ غَفْلَةً عَمَّا أُخِذَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَقَدْ قَيَّدْنَا فِي ذَلِكَ جُزْءًا مُفْرَدًا فَمَنْ أَرَادَ الشِّفَاءَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَعَلَيْهِ بِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ [أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ]: «اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا، فَقِيلَ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَإِذَا رَأَوْهَا أَذِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ ـ قَالَ ـ فَذَكَرَ لَهُ الْقِنْعَ، يَعْنِي الشَّبُّورَ، وَفِي رِوَايَةٍ شَبُّورَ الْيَهُودِ فَلَمْ يُعْجِبْهُ، وَقَالَ: هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ، قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ، فَقَالَ: هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى، فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبَدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُرِيَ الْأَذَانَ فِي مَنَامِهِ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «ذَكَرُوا أَنْ يُعَلِّمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ، فَذَكَرُوا أَنْ يُنَوِّرُوا نَارًا، أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوَتِرَ الْإِقَامَةَ». وَالْقَنْعُ وَالشَّبُّورُ ـ هُوَ الْبُوقُ ـ وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِي وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ. فَأَنْتَ تَرَى كَيْفَ كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنَ الْكُفَّارِ فَلَمْ يَعْمَلْ عَلَى مُوَافَقَتِهِ. فَكَانَ يَنْبَغِي لِمَنِ اتَّسَمَ بِسِمَةِ الْعِلْمِ أَنْ يُنْكِرَ مَا أَحْدَثَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ إِعْلَامًا بِالْأَوْقَاتِ أَوْ غَيْرَ إِعْلَامٍ بِهَا،

أَمَّا الرَّايَةُ فَقَدْ وُضِعَتْ إِعْلَامًا بِالْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، حَتَّى إِنَّ الْأَذَانَ مَعَهَا قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ التَّبَعِ. وَأَمَّا الْبُوقُ، فَهُوَ الْعَلَمُ فِي رَمَضَانَ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَدُخُولِ وَقْتِ الْإِفْطَارِ، ثُمَّ هُوَ عَلَمٌ أَيْضًا بِالْمَغْرِبِ وَالْأَنْدَلُسِ عَلَى وَقْتِ السُّحُورِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَالْحَدِيثُ قَدْ جُعِلَ عَلَمًا لِانْتِهَاءِ نِدَاءِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ. وَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ نِدَاءُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ لِيُرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ» الْحَدِيثَ. فَقَدْ جَعَلَ أَذَانَ بِلَالٍ لِأَنْ يَنْتَبِهَ النَّائِمُ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ سَحُورِهِ وَغَيْرِهِ، فَالْبُوقُ، مَا شَأْنُهُ؟ وَقَدْ كَرِهَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمِثْلُهُ النَّارُ الَّتِي تُرْفَعُ دَائِمًا فِي أَوْقَاتِ اللَّيْلِ وَبِالْعَشَاءِ وَالصُّبْحِ فِي رَمَضَانَ أَيْضًا، إِعْلَامًا بِدُخُولِهِ، فَتُوقَدُ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ فِي وَقْتِ السُّحُورِ، ثُمَّ تُرْفَعُ فِي الْمَنَارِ إِعْلَامًا بِالْوَقْتِ، وَالنَّارُ شِعَارُ الْمَجُوسِ فِي الْأَصْلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْبَخُورَ فِي الْمَسْجِدِ بَنُو بَرْمَكَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ ـ مَلَّكَهُمَا الْوَالِي أَمْرَ الدِّينِ فَكَانَ

مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَاجِبًا وَيَحْيَى وَزِيرًا ثُمَّ ابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى ـ قَالَ ـ وَكَانُوا بَاطِنِيَّةً يَعْتَقِدُونَ آرَاءَ الْفَلَاسِفَةِ، فَأَحْيَوُا الْمَجُوسِيَّةَ، وَاتَّخَذُوا الْبَخُورَ فِي الْمَسَاجِدِ ـ وَإِنَّمَا تَطِيبُ بِالْخَلُوقِ ـ فَزَادُوا التَّجْمِيرَ وَيُعَمِّرُونَهَا بِالنَّارِ مَنْقُولَةً حَتَّى يَجْعَلُوهَا عِنْدَ الْأَنْدَلُسِ بِبَخُورِهَا ثَابِتَةً. انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّارَ لَيْسَ إِيقَادُهَا فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ شَأْنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَلَا كَانَتْ مِمَّا تُزَيَّنُ بِهَا الْمَسَاجِدُ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ أُحْدِثَ التَّزْيِينُ بِهَا حَتَّى صَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُعَظَّمُ بِهِ رَمَضَانُ، وَاعْتَقَدَ الْعَامَّةُ هَذَا كَمَا اعْتَقَدُوا طَلَبَ الْبُوقِ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ، حَتَّى لَقَدْ سَأَلَ بَعْضٌ عَنْهُ: أَهُوَ سُنَّةٌ أَمْ لَا؟ وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ غَالِبَ الْعَوَامِّ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ تَرْكِ الْخَوَاصِّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمَّا لَمْ يُتَّخَذِ النَّاقُوسُ لِلْإِعْلَامِ، حَاوَلَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِمَكِيدَةٍ أُخْرَى فَعُلِّقَ بِالْمَسَاجِدِ وَاعْتُدَّ بِهِ فِي جُمْلَةِ الْالَآتِ الَّتِي تُوقَدُ عَلَيْهَا النِّيرَانَ وَتُزَخْرَفُ بِهَا الْمَسَاجِدُ، زِيَادَةً إِلَى زَخْرَفَتِهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا تُزَخْرَفُ الْكَنَائِسُ وَالْبِيَعُ. وَمِثْلُهُ إِيقَادُ الشَّمْعِ بِعَرَفَةَ لَيْلَةَ الثَّامِنِ، ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهَا مِنَ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ، وَأَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَاحِشَةٌ جُمِعَ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْقَبَائِحِ. مِنْهَا إِضَاعَةُ الْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ، وَمِنْهَا إِظْهَارُ شَعَائِرِ الْمَجُوسِ، وَمِنْهَا اخْتِلَاطُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالشَّمْعُ بَيْنَهُمْ وَوُجُوهُهُمْ بَارِزَةٌ، وَمِنْهَا تَقْدِيمُ دُخُولِ عَرَفَةَ قَبْلَ وَقْتِهَا الْمَشْرُوعِ. اهـ.

وَقَدْ ذَكَرَ الطَّرْطُوشِيُّ فِي إِيقَادِ الْمَسَاجِدِ فِي رَمَضَانَ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَذَكَرَ أَيْضًا قَبَائِحَ سِوَاهَا. فَأَيْنَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ إِنْكَارِ مَالِكٍ لِتَنَحْنُحِ الْمُؤَذِّنِ أَوْ ضَرْبِهِ الْبَابَ لِيُعْلِمَ بِالْفَجْرِ، أَوْ وَضْعِ الرِّدَاءِ؟ وَهُوَ أَقْرَبُ مَرَامًا وَأَيْسَرُ خَطْبًا مِنْ أَنْ تُنْشَأَ بِدَعٌ مُحْدَثَاتٌ، يَعْتَقِدُهَا الْعَوَامُّ سُنَنًا بِسَبَبِ سُكُوتِ الْعُلَمَاءِ وَالْخَوَاصِّ عَنِ الْإِنْكَارِ وَسَبَبِ عَمَلِهِمْ بِهَا.؟! وَأَمَّا الْمَفْسَدَةُ الْمَالِيَّةُ فَهِيَ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ عَامِلِينَ بِحُكْمِ الْمُخَالَفَةِ، وَأَنَّهَا قَدْ يَنْشَأُ الصَّغِيرُ عَلَى رُؤْيَتِهَا وَظُهُورِهَا، وَيَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ أَحَدٌ مِمَّنْ يَرَاهَا شَائِعَةً ذَائِعَةً فَيَعْتَقِدُونَهَا جَائِزَةً أَوْ مَشْرُوعَةً. لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ إِذَا فَشَا فِي النَّاسِ فِعْلُهَا مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجَاهِلِ بِهَا فَرْقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ أَوِ الطَّاعَاتِ. وَعِنْدَنَا كَرَاهِيَةُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ صَيَارِفَةً فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ لِعَمَلِهِمْ بِالرِّبَا، فَكُلُّ مَنْ يَرَاهُمْ مِنَ الْعَامَّةِ صَيَارِفَ وَتُجَّارًا فِي أَسْوَاقِنَا مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ كَذَلِكَ. وَأَنْتَ تَرَى مَذْهَبَ مَالِكٍ الْمَعْرُوفَ فِي بِلَادِنَا أَنَّ الْحُلِيَّ الْمَصْنُوعَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ إِلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيمَةِ الصِّيَاغَةِ أَصْلًا، وَالصَّاغَةُ عِنْدَنَا كُلُّهُمْ أَوْ غَالِبُهُمْ يَتَبَايَعُونَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَسْتَفْضِلُوا قِيمَةَ الصِّيَاغَةِ أَوْ إِجَارَتَهَا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ‍!

وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَتَحَفَّظُونَ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، حَتَّى كَانُوا يَتْرُكُونَ السُّنَنَ، خَوْفًا مِنِ اعْتِقَادِ الْعَوَامِّ أَمْرًا هُوَ أَشَدُّ مِنْ تَرْكِ السُّنَنِ، وَأَوْلَى أَنْ يَتْرُكُوا الْمُبَاحَاتِ أَنْ لَا يُعْتَقَدَ فِيهَا أَمْرٌ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ الْبَيَانِ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ. فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ كَانَ لَا يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ فَيُقَالُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ قَصَرْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى وَلَكِنِّي إِمَامُ النَّاسِ فَيَنْظُرُ إِلَيَّ الْأَعْرَابُ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَيَقُولُونَ: هَكَذَا فُرِضَتْ. قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ: تَأَمَّلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ! فَإِنَّ فِي الْقَصْرِ قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فَرِيضَةٌ، وَمَنْ أَتَمَّ فَإِنَّمَا يُتِمُّ وَيُعِيدُ أَبَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سُنَّةٌ، يُعِيدُ مَنْ أَتَمَّ فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ اقْتَحَمَ عُثْمَانُ تَرْكَ الْفَرْضِ أَوِ السُّنَّةِ لَمَّا خَافَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ أَنَّ الْفَرْضَ رَكْعَتَانِ. وَكَانَ الصَّحَابَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ لَا يُضَحُّونَ (يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ الْأُضْحِيَّةَ). قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسَدٍ: شَهِدْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ لَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَقَالَ بِلَالٌ: لَا أُبَالِي أَنْ أُضَحِّيَ بِكَبْشَيْنِ أَوْ بِدِيكٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي لَحْمًا بِدِرْهَمٍ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَقُولُ لِعِكْرِمَةَ: مَنْ سَأَلَكَ فَقُلْ هَذِهِ أُضْحِيَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنِّي لَأَتْرُكُ أُضْحِيَّتِي ـ وَإِنِّي لَمِنْ أَيْسَرِكُمْ ـ مَخَافَةَ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ.

وَقَالَ طَاوُسٌ: مَا رَأَيْتُ بَيْتًا أَكْثَرَ لَحْمًا وَخُبْزًا وَعِلْمًا مِنْ بَيْتِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ، ثُمَّ لَا يَذْبَحُ يَوْمَ الْعِيدِ. وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ. وَكَانَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ. قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ: وَالْقَوْلُ فِي هَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنَّ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ قَوْلَيْنِ فِي الْأُضْحِيَّةِ. أَحَدُهُمَا سُنَّةٌ، وَالثَّانِي وَاجِبَةٌ، ثُمَّ اقْتَحَمَتِ الصَّحَابَةُ تَرْكَ السُّنَّةِ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَضَعَ النَّاسُ الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ فَيَعْتَقِدُونَهَا فَرِيضَةً. قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ فِي صِيَامِ سِتَّةٍ بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ: أَنَّهُ لَمْ يَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا. قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وَأَنْ يُلْحِقَ أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ لَوْ رَأَوْا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرَأَوْهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ. فَكَلَامُ مَالِكٍ هُنَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ، بَلْ لَعَلَّ كَلَامَهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ يَعْلَمُهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَرَ الْعَمَلَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا فِي الْأَصْلِ، لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً لِمَا قَالَ، كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ مَا هُوَ أَغْرَبُ مِنْ هَذَا وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ، فَذَكَرَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا إِذَا صَلَّوْا فِي الصَّحْنِ مِنْ جَامِعِ الْبَصْرَةِ أَوِ الطُّرْقَةِ وَرَفَعُوا مِنَ السُّجُودِ مَسَحُوا جِبَاهَهُمْ مِنَ التُّرَابِ، لِأَنَّهُ كَانَ مَفْرُوشًا، فَأَمَرَ زِيَادٌ بِإِلْقَاءِ الْحَصَا فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: لَسْتُ آمَنُ مِنْ أَنْ يَطُولَ

نشوء البدع

الزَّمَانُ فَيَظُنُّ الصَّغِيرُ إِذَا نَشَأَ أَنَّ مَسْحَ الْجَبْهَةِ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا فِي مُبَاحٍ، فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَكْرُوهِ أَوِ الْمَمْنُوعِ؟ وَلَقَدْ بَلَغَنِي فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ بَعْضِ مَنْ هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْخَمْرِ: لَيْسَتْ بِحَرَامٍ وَلَا عَيْبَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا مَا لَا يَصْلُحُ كَالْقَتْلِ وَشِبْهِهِ. وَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَوْ كَانَ مِمَّنْ نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ كُفْرًا، لِأَنَّهُ إِنْكَارٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ ضَرُورَةً. وَسَبَبُ ذَلِكَ تَرْكُ الْإِنْكَارِ مِنَ الْوُلَاةِ عَلَى شَارِبِهَا، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اقْتِنَائِهَا، وَشُهْرَتُهُ بِحَارَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهَا، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَلَا مَعْنَى لِلْبِدْعَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي اعْتِقَادِ الْمُبْتَدِعِ مَشْرُوعًا وَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ. وَهَذَا الْحَالُ مُتَوَقَّعٌ أَوْ وَاقِعٌ، فَقَدْ حَكَى الْقَرَافِيُّ عَنِ الْعَجَمِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ السِّتَّةَ الْأَيَّامِ مِنْ شَوَّالٍ مُلْحَقَةٌ عِنْدَهُمْ بِرَمَضَانَ، لِإِبْقَائِهِمْ حَالَةَ رَمَضَانَ الْخَاصَّةَ بِهِ كَمَا هِيَ إِلَى تَمَامِ السِّتَّةِ الْأَيَّامَ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ عِنْدَنَا مِثْلُهُ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ. وَجَمِيعُ هَذَا مَنُوطٌ إِثْمُهُ بِمَنْ يَتْرُكُ الْإِنْكَارَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ، أَوْ مَنْ يَعْمَلُ بِبَعْضِهَا بِمَرْأَى مِنَ النَّاسِ أَوْ فِي مَوَاقِعِهِمْ، فَإِنَّهُمُ الْأَصْلُ فِي انْتِشَارِ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ فِي الْمَعَاصِي أَوْ غَيْرِهَا. [نُشُوءُ الْبِدَعِ] وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْبِدْعَةُ تَنْشَأُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ.

أَحَدُهَا: وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْسَامِ ـ أَنْ يَخْتَرِعَهَا الْمُبْتَدِعُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْمَلَ بِهَا الْعَالِمُ عَلَى وَجْهِ الْمُخَالَفَةِ، فَيَفْهَمَهَا الْجَاهِلُ مَشْرُوعَةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْمَلَ بِهَا الْجَاهِلُ مَعَ سُكُوتِ الْعَالِمِ عَنِ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَيَفْهَمَ الْجَاهِلُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُخَالَفَةٍ. وَالرَّابِعُ: مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِي أَصْلِهِ مَعْرُوفًا، إِلَّا أَنَّهُ يَتَبَدَّلُ الِاعْتِقَادُ فِيهِ مَعَ طُولِ الْعَهْدِ بِالذِّكْرَى. إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ لَيْسَتْ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْبِدْعَةِ عَلَيْهَا بِالتَّوَاطُؤِ، بَلْ هِيَ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ عَلَى تَفَاوُتٍ: - فَالْأَوَّلُ هُوَ الْحَقِيقُ بِاسْمِ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ عِلَّةً بِالنَّصِّ عَلَيْهَا. - وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الثَّانِي، فَإِنَّ الْعَمَلَ يُشْبِهُهُ التَّنْصِيصُ بِالْقَوْلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ ـ كَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأُصُولِ ـ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ هَاهُنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَنْزِلَةَ الدَّلِيلِ، إِذِ الْعَالِمُ قَدْ يَعْمَلُ وَيَنُصُّ عَلَى قُبْحِ عَمَلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: لَا تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الْعَالِمِ، وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ أَوْ غَيْرُهُ: اعْمَلْ بِعِلْمِي وَلَا تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِي يَنْفَعْكَ عِلْمِي وَلَا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَإِنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ ـ مَعَ أَنَّ رُتْبَةَ الْمُنْكِرِ رُتْبَةُ مَنْ يُعَدُّ ذَلِكَ مِنْهُ إِقْرَارًا ـ يَقْتَضِي أَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُنْكَرٍ، وَلَكِنْ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الصَّوَارِفَ لِلْقُدْرَةِ كَثِيرَةٌ، قَدْ يَكُونُ التَّرْكُ لِعُذْرٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ فِي فِعْلِ الْإِنْسَانِ بِالْمُخَالَفَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ مُخَالَفَةً.

وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الرَّابِعُ، لِأَنَّ الْمَحْظُورَ الْحَالِيَّ فِيمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِيهِ بِالْعَرْضِ، فَلَا تَبْلُغُ الْمَفْسَدَةُ الْمُتَوَقَّعَةُ أَنْ تَعَدَّى رُتْبَةَ الْوَاقِعَةِ أَصْلًا، فَلِذَلِكَ كَانَتْ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ، فَهِيَ إِذًا لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تَكُونَ فِي الْحَالِ بِدْعَةً، فَلَا تَدْخُلُ بِهَذَا النَّظَرِ تَحْتَ حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ؛ فَالْمُخَالَفَةُ فِيهِ بِالذَّاتِ، وَالْبِدْعَةُ مِنْ خَارِجٍ، إِلَّا أَنَّهَا لَازِمَةٌ لُزُومًا عَادِيًّا، وَلُزُومُ الثَّانِي أَقْوَى مِنْ لُزُومِ الثَّالِثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الباب الثامن في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان

[الْبَابُ الثَّامِنُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِدَعِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ] [كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَدُّوا أَكْثَرَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِدَعًا وَنَسَبُوهَا إِلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ] هَذَا الْبَابُ يُضْطَرُّ إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيمَا هُوَ بِدْعَةٌ وَمَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَدُّوا أَكْثَرَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِدَعًا، وَنَسَبُوهَا إِلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجَعَلُوهَا حُجَّةً فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ اخْتِرَاعِ الْعِبَادَاتِ. وَقَوْمٌ جَعَلُوا الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ بِأَقْسَامِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، فَقَالُوا: إِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ، وَعَدُّوا مِنَ الْوَاجِبِ كَتْبَ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ، وَمِنَ الْمَنْدُوبِ الِاجْتِمَاعُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى اعْتِبَارِ الْمُنَاسِبِ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَى هَذَا شَاهِدٌ شَرْعِيٌّ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلَا كَوْنُهُ قِيَاسًا بِحَيْثُ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْبِدَعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أُمُورٍ فِي الدِّينِ مَصْلَحِيَّةٍ ـ فِي زَعْمِ وَاضِعِيهَا ـ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخُصُوصِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ حَقًّا، فَاعْتِبَارُ الْبِدَعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ حَقٌّ، لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ الْبِدَعِ

حَقًّا، لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، بَلْ قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْأُصُولِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ. فَذَهَبَ الْقَاضِي وَطَائِفَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى رَدِّهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَصْلٍ. وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ، وَبَنَى الْأَحْكَامَ عَلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْمَعْنَى الَّذِي لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ، لَكِنْ بِشَرْطِ قُرْبِهِ مِنْ مَعَانِي الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ هَذَا مَا حَكَى الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ. وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ إِنْ وَقَعَ فِي رُتْبَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ لَمْ يُعْتَبَرْ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ، وَإِنْ وَقَعَ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيِّ فَمَيْلُهُ إِلَى قَبُولِهِ، لَكِنْ بِشَرْطٍ. قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الرُّتْبَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ، وَهِيَ رُتْبَةُ الْحَاجِيِّ، فَرَدَّهُ فِي " الْمُسْتَصْفَى " وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْهِ، وَقَبِلَهُ فِي " شِفَاءِ الْعَلِيلِ " كَمَا قَبِلَ مَا قَبْلَهُ. وَإِذَا اعْتُبِرَ مِنَ الْغَزَالِيِّ اخْتِلَافُ قَوْلِهِ، فَالْأَقْوَالُ خَمْسَةٌ، فَإِذًا الرَّادُّ لِاعْتِبَارِهَا لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْوَقَائِعِ الصَّحَابِيَّةِ مُسْتَنَدٌ إِلَّا أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ ـ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فِي الِاجْتِمَاعِ

أقسام المعنى المناسب الذي يربط به الحكم

لِقِيَامِ رَمَضَانَ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ ـ إِذْ لَا يُمْكِنُهُمْ رَدُّهَا، لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الِاسْتِحْسَانِ؛ فَإِنَّهُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُونَ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَالنَّافِي لَهُ لَا يَعُدُّ الِاسْتِحْسَانَ سَبَبًا؛ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَحْكَامِ أَلْبَتَّةَ، فَصَارَ كَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ إِذَا قِيلَ بِرَدِّهَا. فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مَزَلَّةَ قَدَمٍ، لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى بِدْعَتِهِمْ مِنْ جِهَتِهِ؛ كَانَ الْحَقُّ الْمُتَعَيَّنُ النَّظَرَ فِي مَنَاطِ الْغَلَطِ الْوَاقِعِ لِهَؤُلَاءِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْبِدَعِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ، بِحَوْلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. فَنَقُولُ: [أَقْسَامُ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ الْحُكْمُ] الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ الْحُكْمُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدَ الشَّرْعُ بِقَبُولِهِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي إِعْمَالِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُنَاقَضَةً لِلشَّرِيعَةِ، كَشَرِيعَةِ الْقِصَاصِ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَغَيْرِهَا. وَالثَّانِي: مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِرَدِّهِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى قَبُولِهِ، إِذِ الْمُنَاسَبَةُ لَا تَقْتَضِي الْحُكْمَ لِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ التَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ، بَلْ إِذَا ظَهَرَ الْمَعْنَى وَفَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ اعْتِبَارَهُ فِي اقْتِضَاءِ الْأَحْكَامِ، فَحِينَئِذٍ نَقْبَلُهُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَصْلَحَةِ عِنْدَنَا مَا فُهِمَ رِعَايَتُهُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِدَرْكِهِ عَلَى حَالٍ، فَإِذَا لَمْ يَشْهَدِ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، بَلْ [شَهِدَ] بِرَدِّهِ، كَانَ مَرْدُودًا بِاتِّفَاقِ

الْمُسْلِمِينَ. وَمِثَالُ [ذَلِكَ] مَا حَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ السَّلَاطِينِ فَسَأَلَهُ عَنِ الْوِقَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: عَلَيْكَ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَلَمَّا خَرَجَ رَاجَعَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا لَهُ: الْقَادِرُ عَلَى إِعْتَاقِ الرَّقَبَةِ كَيْفَ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى الصَّوْمِ وَالصَّوْمُ وَظِيفَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَهَذَا الْمَلِكُ يَمْلِكُ عَبِيدًا غَيْرَ مَحْصُورِينَ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ قُلْتُ لَهُ عَلَيْكَ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ لَاسْتَحْقَرَ ذَلِكَ وَأَعْتَقَ عَبِيدًا مِرَارًا، فَلَا يَزْجُرُهُ إِعْتَاقُ الرَّقَبَةِ وَيَزْجُرُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَهَذَا الْمَعْنَى مُنَاسِبٌ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ، مَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنْهَا الزَّجْرُ، وَالْمَلِكُ لَا يَزْجُرُهُ الْإِعْتَاقُ وَيَزْجُرُهُ الصِّيَامُ. وَهَذِهِ الْفُتْيَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ بَيْنَ قَائِلَيْنِ: قَائِلٌ بِالتَّخْيِيرِ، وَقَائِلٌ بِالتَّرْتِيبِ، فَيُقَدِّمُ الْعِتْقَ عَلَى الصِّيَامِ، فَتَقْدِيمُ الصِّيَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَنِيِّ لَا قَائِلَ بِهِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ شَيْءٌ يُشْبِهُ هَذَا، لَكِنَّهُ عَلَى صَرِيحِ الْفِقْهِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ: حَنَثَ الرَّشِيدُ فِي يَمِينٍ فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ فَأَجْمَعُوا أَنَّ عَلَيْهِ عِتْقَ رَقَبَةٍ. فَسَأَلَ مَالِكًا. فَقَالَ: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ. حَكَى ابْنُ بِشْكُوَالَ أَنَّ الْحَكَمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرْسَلَ فِي الْفُقَهَاءِ وَشَاوَرَهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ نَزَلَتْ بِهِ، فَذَكَرَ لَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ عَمَدَ إِلَى إِحْدَى كَرَائِمِهِ وَوَطِئَهَا فِي رَمَضَانَ، فَأَفْتَوْا بِالْإِطْعَامِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَاكِتٌ.

فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: مَا يَقُولُ الشَّيْخُ فِي فَتْوَى أَصْحَابِهِ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، وَأَقُولُ بِالصِّيَامِ. فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ مَذْهَبُ مَالِكٍ الْإِطْعَامُ؟ فَقَالَ لَهُمْ: تَحْفَظُونَ مَذْهَبَ مَالِكٍ، إِلَا إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ مُصَانَعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. إِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِطْعَامِ لِمَنْ لَهُ مَالٌ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا مَالَ لَهُ، إِنَّمَا هُوَ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَشَكَرَ لَهُ عَلَيْهِ اهـ. وَهَذَا صَحِيحٌ. نَعَمْ ـ حَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّهُ اتَّفَقَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ مِثْلُ هَذَا فِي رَمَضَانَ، فَسَأَلَ الْفُقَهَاءَ عَنْ تَوْبَتِهِ مِنْ ذَلِكَ وَكَفَّارَتِهِ. فَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: يُكَفِّرُ ذَلِكَ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَلَمَّا بَرَزَ ذَلِكَ مِنْ يَحْيَى سَكَتَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالُوا لِيَحْيَى: مَا لَكَ لَمْ تُفْتِهِ بِمَذْهَبِنَا عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّعَامِ وَالصِّيَامِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ فَتَحْنَا لَهُ هَذَا الْبَابَ سَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ كُلَّ يَوْمٍ وَيُعْتِقَ رَقَبَةً، وَلَكِنْ حَمَلْتُهُ عَلَى أَصْعَبِ الْأُمُورِ لِئَلَّا يَعُودَ. فَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ كَلَامُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، كَانَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ. (الثَّالِثُ): مَا سَكَتَتْ عَنْهُ الشَّوَاهِدُ الْخَاصَّةُ، فَلَمْ تَشْهَدْ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا بِإِلْغَائِهِ. فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرِدَ نَصٌّ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، كَتَعْلِيلِ مَنْعِ الْقَتْلِ لِلْمِيرَاثِ، فَالْمُعَامَلَةُ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى وَفْقِهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ لَا عَهْدَ بِهَا فِي تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ بِالْفَرْضِ وَلَا بِمُلَائِمِهَا بِحَيْثُ يُوجَدُ لَهَا جِنْسٌ مُعْتَبَرٌ، فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهَا، وَلَا بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقٍ،

أمثلة توضح الوجه العملي في المصالح المرسلة

وَمِثْلُ هَذَا تَشْرِيعٌ مِنَ الْقَائِلِ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ قَبُولُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يُلَائِمَ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى جِنْسٌ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ الْمُرْسَلُ، الْمُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ بَسْطِهِ بِالْأَمْثِلَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَجْهُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ. [أَمْثِلَةٌ تُوَضِّحُ الْوَجْهَ الْعَمَلِيَّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ] [جَمْعُ الْقُرْآنِ] وَلِنَقْتَصِرِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْثِلَةٍ لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَحَدُهَا: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّفَقُوا عَلَى جَمْعِ الْمُصْحَفِ، وَلَيْسَ ثَمَّ نَصٌّ عَلَى جَمْعِهِ وَكَتْبِهِ أَيْضًا، بَلْ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ نَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ مَقْتَلَ (أَهْلِ) الْيَمَامَةِ، وَإِذَا عِنْدَهُ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: (إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ): إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ لِي: هُوَ ـ وَاللَّهِ ـ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لَهُ، وَرَأَيْتُ فِيهِ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قَالَ زَيْدٌ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. قَالَ زَيْدٌ: فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ

مِنْ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ صَدْرَيْهِمَا فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاقِ وَالْعُسُبِ وَاللِّخَافِ، وَمِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ. فَهَذَا عَمَلٌ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ خِلَافٌ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ كَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ وَأَهْلَ الْعِرَاقِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، فَأَفْزَعَهُ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَرْسِلِي إِلَيَّ بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا عَلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ حَفْصَةُ بِهَا إِلَى عُثْمَانَ، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. قَالَ: فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ، بَعَثَ عُثْمَانُ فِي كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِنْ تِلْكَ الْمَصَاحِفِ الَّتِي نَسَخُوهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ. فَهَذَا أَيْضًا إِجْمَاعٌ آخَرُ فِي كَتْبِهِ وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَى قِرَاءَةٍ لَمْ يَحْصُلْ

فِيهَا فِي الْغَالِبِ اخْتِلَافٌ. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا فِي الْقِرَاءَاتِ ـ حَسْبَمَا نَقَلَهُ الْعُلَمَاءُ الْمُعْتَنُونَ بِهَذَا الشَّأْنِ ـ فَلَمْ يُخَالِفْ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ طَرْحِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَصَاحِفِ عُثْمَانَ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ! وَيَا أَهْلَ الْكُوفَةِ: اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] وَأَلْقَوْا إِلَيْهِ بِالْمَصَاحِفِ. فَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي جَمْعِهِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ أَمْرًا آخَرَ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا صَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْهُ مَصْلَحَةً تُنَاسِبُ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ قَطْعًا، فَإِنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَالْأَمْرُ بِحِفْظِهَا مَعْلُومٌ، وَإِلَى مَنْعِ الذَّرِيعَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِهَا الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ عُلِمَ النَّهْيُ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. وَإِذَا اسْتَقَامَ هَذَا الْأَصْلُ فَاحْمِلْ عَلَيْهِ كَتْبَ الْعِلْمِ مِنَ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا، إِذَا خِيفَ عَلَيْهَا الِانْدِرَاسُ، زِيَادَةً عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنَ الْأَمْرِ بِكَتْبِ الْعِلْمِ. وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ كَتْبُ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي وَضَعْتُ يَدِي فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنِّي رَأَيْتُ بَابَ الْبِدَعِ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ مُغْفَلًا جِدًّا؛ إِلَّا مِنَ النَّقْلِ

اتفاق الصحابة على حد شارب الخمر

الْجَلِيِّ؛ كَمَا نَقَلَ ابْنُ وَضَّاحٍ، أَوْ يُؤْتَى بِأَطْرَافٍ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ بِالتَّفَقُّهِ فِيهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَلَمْ أَجِدْ عَلَى شِدَّةِ بَحْثِي عَنْهُ إِلَّا مَا وَضَعَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ، وَهُوَ يَسِيرُ فِي جَنْبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَإِلَّا مَا وَضَعَ النَّاسُ فِي الْفِرَقِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، وَهُوَ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْبَابِ وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَأَخَذْتُ نَفْسِي بِالْعَنَاءِ فِيهِ، عَسَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ وَاضِعُهُ، وَقَارِؤُهُ، وَنَاشِرُهُ، وَكَاتِبُهُ، وَالْمُنْتَفِعُ بِهِ، وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ. إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَمُسْدِيهِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ. [اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ] الْمِثَالُ الثَّانِي: اتِّفَاقُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ اتَّفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، وَإِنَّمَا مُسْتَنَدُهُمْ فِيهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَصَالِحِ وَالتَّمَسُّكُ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمْ يَكُنْ فِيهِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا جَرَى الزَّجْرُ فِيهِ مَجْرَى التَّعْزِيرِ، وَلَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَرَّرَهُ عَلَى طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَرْبَعِينَ، ثُمَّ انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فَتَتَابَعَ النَّاسُ فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: مَنْ سَكِرَ هَذَى وَمَنْ هَذَى افْتَرَى، فَأَرَى عَلَيْهِ حَدَّ الْمُفْتَرِي. وَوَجْهُ إِجْرَاءِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَوِ الشَّرْعَ يُقِيمُ الْأَسْبَابَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَقَامَ الْمُسَبَّبَاتِ، وَالْمَظِنَّةَ مَقَامَ الْحِكْمَةِ، فَقَدْ جَعَلَ الْإِيلَاجَ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ يَجْرِي مَجْرَى الْإِنْزَالِ، وَجَعَلَ الْحَافِرَ لِلْبِئْرِ فِي مَحَلِّ الْعُدْوَانِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مُرْدًى كَالْمُرْدِي نَفْسَهُ،

قضاء الخلفاء الراشدين بتضمين الصناع

وَحَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ حَذَرًا مِنَ الذَّرِيعَةِ إِلَى الْفَسَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ، فَرَأَوُا الشُّرْبَ ذَرِيعَةً إِلَى الِافْتِرَاءِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ كَثْرَةُ الْهَذَيَانِ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ سَابِقٍ إِلَى السَّكْرَانِ ـ قَالُوا ـ فَهَذَا مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِسْنَادِ الْأَحْكَامِ إِلَى الْمَعَانِي الَّتِي لَا أَصُولُ لَهَا (يَعْنِي: عَلَى الْخُصُوصِ بِهِ) وَهُوَ مَقْطُوعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ. [قَضَاءُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ] الْمِثَالُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَضَوْا بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ إِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَضَوْا بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ. قَالَ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا ذَاكَ، وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ لَهُمْ حَاجَةٌ إِلَى الصُّنَّاعِ، وَهُمْ يَغِيبُونَ عَنِ الْأَمْتِعَةِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَغْلَبُ عَلَيْهِمُ التَّفْرِيطُ وَتَرْكُ الْحِفْظَ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ تَضْمِينُهُمْ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِهِمْ لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَرْكُ الِاسْتِصْنَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى الْخَلْقِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْمَلُوا وَلَا يُضَمَّنُوا ذَلِكَ بِدَعْوَاهُمُ الْهَلَاكَ وَالضَّيَاعَ، فَتَضِيعُ الْأَمْوَالُ، وَيَقِلُّ الِاحْتِرَازُ، وَتَتَطَرَّقُ الْخِيَانَةُ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ التَّضْمِينَ. هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا ذَاكَ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنَ الْفَسَادِ وَهُوَ تَضْمِينُ الْبَرِيءِ. إِذْ لَعَلَّهُ مَا أَفْسَدَ، وَلَا فَرَّطَ، فَالتَّضْمِينُ مَعَ ذَلِكَ كَانَ نَوْعًا مِنَ الْفَسَادِ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِذَا تَقَابَلَتِ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَضَرَّةُ فَشَأْنُ الْعُقَلَاءِ النَّظَرُ إِلَى التَّفَاوُتِ وَوَقْعُ التَّلَفِ مِنَ الصُّنَّاعِ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبٍ وَلَا تَفْرِيطٍ بَعِيدٌ، وَالْغَالِبُ الْفَوْتِ فَوْتُ الْأَمْوَالِ، وَأَنَّهَا لَا تَسْتَنِدُ إِلَى التَّلَفِ السَّمَاوِيِّ، بَلْ تَرْجِعُ إِلَى صُنْعِ الْعِبَادِ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّفْرِيطِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»

اختلاف العلماء في الضرب بالتهم

تَشْهَدُ لَهُ الْأُصُولُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى (عَنْ) أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ»، وَقَالَ: «دَعِ النَّاسَ يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ» وَقَالَ: «لَا تَلْقَوُا الرُّكْبَانَ بِالْبَيْعِ حَتَّى يُهْبَطَ بِالسِّلَعِ (إِلَى) الْأَسْوَاقِ» وَهُوَ مِنْ بَابِ تَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ، فَتَضْمِينُ الصُّنَّاعِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ. [اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي الضَّرْبِ بِالتُّهَمِ] الْمِثَالُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الضَّرْبِ بِالتُّهَمِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الضَّرْبِ بِالتُّهَمِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ السَّجْنِ فِي التُّهَمِ، وَإِنْ كَانَ السَّجْنُ نَوْعًا مِنَ الْعَذَابِ، وَنَصَّ أَصْحَابُهُ عَلَى جَوَازِ الضَّرْبِ، وَهُوَ عِنْدَ الشُّيُوخِ مِنْ قَبِيلِ تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الضَّرْبُ وَالسَّجْنُ بِالتُّهَمِ لَتَعَذَّرَ اسْتِخْلَاصُ الْأَمْوَالِ مِنْ أَيْدِي السُّرَّاقِ وَالْغُصَّابِ، إِذْ قَدْ يَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي التَّعْذِيبِ وَسِيلَةً إِلَى التَّحْصِيلِ بِالتَّعْيِينِ وَالْإِقْرَارِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَتْحُ بَابِ تَّعْذِيبِ الْبَرِيءِ! قِيلَ: فَفِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ إِبْطَالُ اسْتِرْجَاعِ الْأَمْوَالِ. بَلِ الْإِضْرَابُ عَنِ التَّعْذِيبِ أَشَدُّ ضَرَرًا، إِذْ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ لِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، بَلْ مَعَ اقْتِرَانِ قَرِينَةٍ تَحِيكُ فِي النَّفْسِ، وَتُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ نَوْعًا مِنَ الظَّنِّ. فَالتَّعْذِيبُ فِي الْغَالِبِ لَا يُصَادِفُ الْبَرِيءَ، وَإِنْ أَمْكَنَ مُصَادَفَتُهُ فَتُغْتَفَرُ؛ كَمَا اغْتُفِرَتْ فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَا فَائِدَةَ فِي الضَّرْبِ، وَهُوَ لَوْ أَقَرَّ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. فَالْجَوَابُ إِنَّ لَهُ فَائِدَتَيْنِ: (إِحْدَاهُمَا): أَنْ يُعَيِّنَ الْمَتَاعَ فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لِرَبِّهِ، وَهِيَ فَائِدَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يَزْدَجِرُ حَتَّى لَا يَكْثُرَ الْإِقْدَامُ. فَتَقِلَّ أَنْوَاعُ هَذَا الْفَسَادِ. وَقَدْ عَدَّ لَهُ سَحْنُونُ فَائِدَةً ثَالِثَةً وَهُوَ الْإِقْرَارُ حَالَةَ التَّعْذِيبِ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ عِنْدَهُ بِمَا أَقَرَّ فِي تِلْكَ الْحَالِ. قَالُوا: وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] وَلَكِنْ نَزَّلَهُ سَحْنُونُ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ، أَمَّا إِذَا أُكْرِهَ بِطْرِيقٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ. فَالْكَافِرُ يُسْلِمُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهِ، وَقَدْ تَتَّفِقُ لَهُ بِهَذِهِ الْفَائِدَةِ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِ سَحْنُونَ إِذَا أَقَرَّ حَالَةَ التَّعْذِيبِ ثُمَّ تَمَادَى عَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَ أَمْنِهِ فَيُؤْخَذُ بِهِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ بَعْدَمَا حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. قَالَ: وَلَسْنَا نَحْكُمُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى الْقَطْعِ، فَإِذَا وَقَعَ النَّظَرُ فِي تَعَارُضِ الْمَصَالِحِ، كَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنَ النَّظَرِ فِي تَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ الْمُؤَثِّرَةِ.

توظيف الإمام على الأغنياء عند الحاجة

[تَوْظِيفُ الْإِمَامِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ عِنْدَ الْحَاجَةِ] الْمِثَالُ الْخَامِسُ: إِنَّا إِذَا قَرَّرْنَا إِمَامًا مُطَاعًا مُفْتَقِرًا إِلَى تَكْثِيرِ الْجُنُودِ لِسَدِّ الثُّغُورِ وَحِمَايَةِ الْمُلْكِ الْمُتَّسِعِ الْأَقْطَارِ، وَخَلَا بَيْتُ الْمَالِ وَارْتَفَعَتْ حَاجَاتُ الْجُنْدِ إِلَى مَا لَا يَكْفِيهِمْ، فَلِلْإِمَامِ - إِذَا كَانَ عَدْلًا - أَنْ يُوَظِّفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مَا يَرَاهُ كَافِيًا لَهُمْ فِي الْحَالِ، إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ إِلَيْهِ النَّظَرُ فِي تَوْظِيفِ ذَلِكَ عَلَى الْغَلَّاتِ وَالثِّمَارِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَيْلَا يُؤَدِّيَ تَخْصِيصُ النَّاسِ بِهِ (إِلَى) إِيحَاشِ الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ يَقَعُ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ بِحَيْثُ لَا يُحْجِفُ بِأَحَدٍ وَيَحْصُلُ الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ. وَإِنَّمَا لَمْ يُنْقَلْ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْأَوَّلِينَ لِاتِّسَاعِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فِي زَمَانِهِمْ بِخِلَافِ زَمَانِنَا، فَإِنَّ الْقَضِيَّةَ فِيهِ أَحْرَى، وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ هَنَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلِ الْإِمَامُ ذَلِكَ النِّظَامَ بَطَلَتْ شَوْكَةُ الْإِمَامِ، وَصَارَتْ دِيَارُنَا عُرْضَةً لِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ. وَإِنَّمَا نِظَامُ ذَلِكَ كُلِّهِ شَوْكَةُ الْإِمَامِ بِعَدْلِهِ، فَالَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ الدَّوَاهِي لَوِ انْقَطَعَ عَنْهُمُ الشَّوْكَةُ، يَسْتَحْقِرُونَ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهَا أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا، فَضْلًا عَنِ الْيَسِيرِ مِنْهَا. فَإِذَا عُورِضَ هَذَا الضَّرَرُ الْعَظِيمُ بِالضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهُمْ بِأَخْذِ الْبَعْضِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلَا يُتَمَارَى فِي تَرْجِيحِ الثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ. وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ مَقْصُودِ الشَّرْعِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي الشَّوَاهِدِ. وَالْمُلَاءَمَةُ الْأُخْرَى، أَنَّ الْأَبَ فِي طِفْلِهِ، أَوِ الْوَصِيَّ فِي يَتِيمِهِ، أَوِ الْكَافِلَ فِيمَنْ يَكْفُلُهُ، مَأْمُورٌ بِرِعَايَةِ الْأَصْلَحِ لَهُ، وَهُوَ يَصْرِفُ مَالَهُ إِلَى وُجُوهٍ مِنَ النَّفَقَاتِ أَوِ الْمُؤَنِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا. وَكُلُّ مَا يَرَاهُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ مَالِهِ أَوْ حِرَاسَتِهِ مِنَ التَّلَفِ جَازَ لَهُ بَذْلُ الْمَالِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَمَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَامَّةٌ لَا

تَتَقَاصَرُ عَنْ مَصْلَحَةِ طِفْلٍ، وَلَا نَظَرُ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ يَتَقَاعَدُ عَنْ نَظَرِ وَاحِدٍ مِنَ الْآحَادِ فِي حَقِّ مَحْجُورِهِ. وَلَوْ وَطِئَ الْكُفَّارُ أَرْضَ الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ الْقِيَامُ بِالنُّصْرَةِ، وَإِذَا دَعَاهُمُ الْإِمَامُ وَجَبَتِ الْإِجَابَةُ، وَفِيهِ إِتْعَابُ النُّفُوسِ وَتَعْرِيضُهَا إِلَى الْهَلَكَةِ، زِيَادَةً إِلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِحِمَايَةِ الدِّينِ، وَمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا قَدَّرْنَا هُجُومَهُمْ وَاسْتَشْعَرَ الْإِمَامُ فِي الشَّوْكَةِ ضَعْفًا وَجَبَ عَلَى الْكَافَّةِ إِمْدَادُهُمْ، كَيْفَ وَالْجِهَادُ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاجِبٌ عَلَى الْخَلْقِ؟! وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِاشْتِغَالِ الْمُرْتَزَقَةِ بِهِ، فَلَا يُتَمَارَى فِي بَذْلِ الْمَالِ لِمِثْلِ ذَلِكَ. وَإِذَا قَدَّرْنَا انْعِدَامَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُخَافُ مِنْ جِهَتِهِمْ، فَلَا يُؤْمَنُ (مِنَ) انْفِتَاحِ بَابِ الْفِتَنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا كَمَا كَانَتْ، وَتَوَقُّعُ الْفَسَادِ عَتِيدٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْحُرَّاسِ. فَهَذِهِ مُلَاءَمَةٌ صَحِيحَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا فِي مَحَلِّ ضَرُورَةٍ، فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْحُكْمُ إِلَّا مَعَ وُجُودِهَا. وَالِاسْتِقْرَاضُ فِي الْأَزَمَاتِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يُرْجَى لِبَيْتِ الْمَالِ دَخْلٌ يُنْتَظَرُ أَوْ يُرْتَجَى، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُنْتَظَرْ شَيْءٌ وَضَعُفَتْ وُجُوهُ الدَّخْلِ بِحَيْثُ لَا يُغْنِي كَبِيرُ شَيْءٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِ التَّوْظِيفِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَصَّ عَلَيْهَا الْغَزَالِيُّ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، وَتَلَاهُ فِي تَصْحِيحِهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لَهُ "، وَشَرْطُ جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَهُمْ عَدَالَةُ الْإِمَامِ، وَإِيقَاعُ التَّصَرُّفِ فِي أَخْذِ الْمَالِ وَإِعْطَائِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ.

معاقبة الإمام بأخذ المال على بعض الجنايات

[مُعَاقَبَةُ الْإِمَامِ بِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى بَعْضِ الْجِنَايَاتِ] الْمِثَالُ السَّادِسُ: أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُعَاقِبَ بِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى بَعْضِ الْجِنَايَاتِ [فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؟] فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ. عَلَى أَنَّ الطَّحَاوِيَّ حَكَى، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِهِ. فَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْغَرِيبِ الَّذِي لَا عَهْدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يُلَائِمُ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الْخَاصَّةَ لَمْ تَتَعَيَّنْ، لِشَرْعِيَّةِ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِالسِّجْنِ وَالضَّرْبِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) شَاطَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي مَالِهِ، حَتَّى أَخَذَ رَسُولُهُ فَرْدَ نَعْلِهِ وَشَطْرَ عِمَامَتِهِ. قُلْنَا: الْمَظْنُونُ مِنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِعِ الْعِقَابَ بِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى خِلَافِ الْمَأْلُوفِ مِنَ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِعَلَمِ عُمَرَ بِاخْتِلَاطِ مَالِهِ بِالْمَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْوِلَايَةِ وَإِحَاطَتِهِ بِتَوْسِعَتِهِ، فَلَعَلَّهُ ضَمِنَ الْمَالِ فَرَأَى شَطْرَ مَالِهِ مِنْ فَوَائِدَ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ اسْتِرْجَاعًا لِلْحَقِّ لَا عُقُوبَةً فِي الْمَالِ، لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْغَرِيبِ الَّذِي لَا يُلَائِمُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ. هَذَا مَا قَالَهُ. وَلِمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجْهٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا، وَلَكِنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ. وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ فِي الْمَالِ عِنْدَهُ ضَرْبَانِ: (أَحَدُهُمَا): كَمَا صَوَّرَهُ الْغَزَالِيُّ، فَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، عَلَى أَنَّ ابْنَ الْعَطَّارِ فِي " رَقَائِقِهِ " صَغَى إِلَى إِجَازَةِ ذَلِكَ، فَقَالَ: فِي

إِجَازَةِ أَعْوَانِ الْقَاضِي إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ. إِنَّهَا عَلَى الطَّالِبِ، فَإِنْ أَدَّى الْمَطْلُوبَ كَانَتِ الْإِجَازَةُ عَلَيْهِ. وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ. وَرَدَّهُ عَلَيْهِ ابْنُ النَّجَّارِ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى حَالٍ. (وَالثَّانِي): أَنْ تَكُونَ جِنَايَةُ الْجَانِي فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْمَالِ أَوْ فِي عِوَضِهِ، فَالْعُقُوبَةُ فِيهِ عِنْدَهُ ثَابِتَةٌ. فَإِنَّهُ قَالَ فِي الزَّعْفَرَانِ الْمَغْشُوشِ إِذَا وُجِدَ بِيَدِ الَّذِي غَشَّهُ: إِنَّهُ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ إِلَى أَنَّهُ يُتَصَدَّقُ بِمَا قَلَّ مِنْهُ دُونَ مَا كَثُرَ، وَذَلِكَ مَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، وَأَنَّهُ أَرَاقَ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ بِالْمَاءِ، وَوَجَّهَ ذَلِكَ التَّأْدِيبَ لِلْغَاشِّ. وَهَذَا التَّأْدِيبُ لَا نَصَّ يَشْهَدُ لَهُ لَكِنَّهُ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ عَلَى الْخَاصَّةِ لِأَجْلِ الْعَامَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَةِ تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ. عَلَى أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ اللَّخْمِيَّ قَدْ وَضَعَ لَهُ أَصْلًا شَرْعِيًّا، وَذَلِكَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي أُغْلِيَتْ بِلُحُومِ الْحُمُرِ قَبْلَ أَنْ تُقَسَّمَ»، وَحَدِيثُ الْعِتْقِ بِالْمُثْلَةِ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْ مَسَائِلِ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ: إِذَا اشْتَرَى مُسْلِمٌ مَنْ نَصَّرَانِيٍّ خَمْرًا فَإِنَّهُ يُكْسَرُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيُتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ أَدَبًا لِلنَّصْرَانِيِّ إِنْ كَانَ النَّصْرَانِيُّ لَمْ يَقْبِضْهُ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَرَّعَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ كُلُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ، إِلَّا أَنَّ وَجْهَهُ مَا تَقَدَّمَ.

طبق الحرام الأرض وانسدت طرق المكاسب الطيبة ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق

[طَبَّقَ الْحَرَامُ الْأَرْضَ وَانْسَدَّتْ طُرُقُ الْمَكَاسِبِ الطَّيِّبَةِ وَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ] الْمِثَالُ السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ طَبَّقَ الْحَرَامُ الْأَرْضَ، أَوْ نَاحِيَةً مِنَ الْأَرْضِ يَعْسُرُ الِانْتِقَالُ مِنْهَا وَانْسَدَّتْ طُرُقُ الْمَكَاسِبِ الطَّيِّبَةِ، وَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ فَإِنَّ ذَلِكَ سَائِغٌ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَيَرْتَقِيَ إِلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي الْقُوتِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ، إِذْ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ لَتَعَطَّلَتِ الْمَكَاسِبُ وَالْأَشْغَالُ، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ فِي مُقَاسَاةِ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَهْلِكُوا، وَفِي ذَلِكَ خَرَابُ الدِّينِ. لَكِنَّهُ لَا يَنْتَهِي إِلَى التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ، كَمَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مِقْدَارِ الضَّرُورَةِ. وَهَذَا مُلَائِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى عَيْنِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَجَازَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ. . . وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ الشِّبَعِ عِنْدَ تَوَالِي الْمَخْمَصَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ تَتَوَالَ. هَلْ يَجُوزُ لَهُ الشِّبَعُ أَمْ لَا؟ وَأَيْضًا فَقَدَ أَجَازُوا أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَيْضًا. فَمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ بَسَطَ الْغَزَالِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي " الْإِحْيَاءِ " بَسْطًا شَافِيًا جِدًّا، وَذَكَرَهَا فِي كُتُبِهِ الْأُصُولِيَّةِ كـ " الْمَنْخُولِ " وَ " شِفَاءِ الْغَلِيلِ ". [قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ] الْمِثَالُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ. وَالْمُسْتَنَدُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ، إِذْ لَا نَصَّ عَلَى عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ أَنَّ [دَمَ] الْقَتِيلِ مَعْصُومٌ، وَقَدْ قُتِلَ عَمْدًا، فَإِهْدَارُهُ دَاعٍ أَنَّهُ إِلَى خَرْمِ أَصْلِ الْقَصَاصِ، وَاتِّخَاذِ الِاسْتِعَانَةِ وَالِاشِتِرَاكَ ذَرِيعَةً إِلَى

خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس والحاجة إلى إمام يقدم لجريان الأحكام

السَّعْيِ بِالْقَتْلِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا قَصَاصَ فِيهِ. وَلَيْسَ أَصْلُهُ قَتْلَ الْمُنْفَرِدِ فَإِنَّهُ قَاتِلٌ تَحْقِيقًا، وَالْمُشْتَرِكُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ تَحْقِيقًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا أَمْرٌ بَدِيعٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ قَتْلُ غَيْرِ الْقَاتِلِ، قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَمْ يُقْتَلُ إِلَّا الْقَاتِلُ، وَهُمْ الْجَمَاعَةُ مِنْ حَيْثُ الِاجْتِمَاعُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِمْ تَحْقِيقًا إِضَافَتُهُ إِلَى الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ فِي تَنْزِيلِ الْأَشْخَاصِ مَنْزِلَةَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ دَعَتْ إِلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ فَلَمْ يَكُنْ مُبْتَدِعًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ فِي حَقْنِ الدِّمَاءِ. وَعَلَيْهِ يَجْرِي عِنْدَ مَالِكٍ قَطْعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ، وَقَطْعُ الْأَيْدِي فِي النِّصَابِ الْوَاجِبِ. [خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ يَظْهَرُ بَيْنَ النَّاسِ وَالْحَاجَةُ إِلَى إِمَامٍ يَقْدُمُ لِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ] الْمِثَالُ التَّاسِعُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ نَقَلُوا الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا لِمَنْ نَالَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى فِي عُلُومِ الشَّرْعِ، كَمَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا أَيْضًا ـ أَوْ كَادُوا أَنْ يَتَّفِقُوا ـ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بَيْنَ النَّاسِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ رَقِيَ (فِي) رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ. وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ إِذَا فُرِضَ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ يَظْهَرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَافْتَقَرُوا إِلَى إِمَامٍ يُقَدِّمُونَهُ لِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ وَتَسْكِينِ ثَوْرَةِ الثَّائِرِينَ، وَالْحِيَاطَةِ عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْأَمْثَلِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ، لِأَنَّا بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُتْرَكَ النَّاسُ فَوْضًى، وَهُوَ عَيْنُ الْفَسَادِ وَالْهَرَجِ. وَإِمَّا أَنْ يُقَدِّمُوهُ فَيَزُولُ الْفَسَادُ بَتَّةً، وَلَا يَبْقَى إِلَّا فَوْتُ الِاجْتِهَادِ، وَالتَّقْلِيدُ كَافٍ بِحَسَبِهِ

إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن تقع فتنة وما لا يصلح فالمصلحة في الترك

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ نَظَرٌ مَصْلَحِيٌّ يَشْهَدُ لَهُ وَضْعُ أَصْلِ الْإِمَامَةِ، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَفْتَقِرُ فِي صِحَّتِهِ وَمُلَاءَمَتِهِ إِلَى شَاهِدٍ. هَذَا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُخَالِفًا، لِمَا نَقَلُوا مِنَ الْإِجْمَاعِ فِي الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا انْعَقَدَ عَلَى فَرْضِ أَنْ لَا يَخْلُوَ الزَّمَانُ مِنْ مُجْتَهِدٍ، فَصَارَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، فَصَحَّ الِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ. [إِذَا خِيفَ عِنْدَ خَلْعِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ وَإِقَامَةِ الْمُسْتَحِقِّ أَنْ تَقَعَ فِتْنَةٌ وَمَا لَا يَصْلُحُ فَالْمَصْلَحَةُ فِي التَّرْكِ] الْمِثَالُ الْعَاشِرُ: إِنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ فِي بَيْعَةِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ: إِنْ رَدَدْنَا فِي مَبْدَأِ التَّوْلِيَةِ بَيْنَ مُجْتَهِدٍ فِي عُلُومِ الشَّرَائِعِ وَبَيْنَ مُتَقَاصِرٍ عَنْهَا، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُ الْمُجْتَهِدِ. لِأَنَّ اتِّبَاعَ النَّاظِرِ عِلْمُ نَفْسِهِ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى اتِّبَاعِ عِلْمِ غَيْرِهِ بِالتَّقْلِيدِ وَالْمَزَايَا لَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مُرَاعَاتِهَا. أَمَّا إِذَا انْعَقَدَتِ الْإِمَامَةُ بِالْبَيْعَةِ أَوْ تَوْلِيَةِ الْعَهْدِ لِمُنْفَكٍّ عَنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، وَقَامَتْ لَهُ الشَّوْكَةُ، وَأَذْعَنَتْ لَهُ الرِّقَابُ، بِأَنْ خَلَا الزَّمَانُ عَنْ قُرَشِيٍّ مُجْتَهِدٍ مُسْتَجْمِعٍ جَمِيعَ الشَّرَائِطِ، وَجَبَ الِاسْتِمْرَارُ. وَإِنْ قُدِّرَ حُضُورُ قُرَشِيٍّ مُجْتَهِدٍ مُسْتَجْمِعٍ لِلْفُرُوعِ وَالْكِفَايَةِ، وَجَمِيعِ شَرَائِطِ الْإِمَامَةِ وَاحْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ فِي خَلْعِ الْأَوَّلِ إِلَى تَعَرُّضِهِ لِإِثَارَةِ فِتَنٍ وَاضْطِرَابِ أُمُورٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُمْ خَلْعُهُ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ، بَلْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الطَّاعَةُ لَهُ، وَالْحُكْمُ بِنُفُوذِ وِلَايَتِهِ، وَصِحَّةِ إِمَامَتِهِ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ مَزِيَّةٌ رُوعِيَتْ فِي الْإِمَامَةِ تَحْصِيلًا لِمَزِيدِ الْمَصْلَحَةِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّقْلِيدِ، وَأَنَّ الثَّمَرَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنَ الْإِمَامِ تُطْفِئُةُ الْفِتَنُ الثَّائِرَةُ مِنْ تَفَرُّقِ الْآرَاءِ الْمُتَنَافِرَةِ، فَكَيْفَ يَسْتَجِيزُ الْعَاقِلُ تَحْرِيكَ الْفِتْنَةِ، وَتَشْوِيشَ النِّظَامِ، وَتَفْوِيتَ

أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْحَالِ؟ تَشَوُّفًا إِلَى مَزِيدِ دَقِيقَةٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّظَرِ وَالتَّقْلِيدِ. قَالَ: وَعِنْدَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِيسَ الْإِنْسَانُ مَا يَنَالُ الْخَلْقَ مِنَ الضَّرَرِ بِسَبَبِ عُدُولِ الْإِمَامِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى التَّقْلِيدِ، بِمَا يَنَالُهُمْ لَوْ تَعَرَّضُوا لِخَلْعِهِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِ، أَوْ حَكَمُوا بِأَنَّ إِمَامَتَهُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ. هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ بِحَسَبَ النَّظَرِ الْمَصْلَحِيِّ، وَهُوَ مُلَائِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يُعَضِّدْهُ نَصٌّ عَلَى التَّعْيِينِ. وَمَا قَرَّرَهُ هُوَ أَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. : قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ يَحْيَى: الْبَيْعَةُ مَكْرُوهَةٌ؟ قَالَ: لَا. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانُوا أَئِمَّةَ جَوْرٍ؟ فَقَالَ: قَدْ بَايَعَ ابْنُ عُمَرَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَبِالسَّيْفِ أَخَذَ الْمُلْكَ. أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مَالِكٌ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ وَأَمَرَ لَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ. قَالَ يَحْيَى: وَالْبَيْعَةُ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ. قَالَ: وَلَقَدْ أَتَى مَالِكًا الْعُمَرِيَّ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، بَايَعَنِي أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ، وَأَنْتَ تَرَى سِيرَةَ أَبِي جَعْفَرٍ، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: أَتَدْرِي مَا الَّذِي مَنَعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا صَالِحًا؟ فَقَالَ الْعُمَرِيُّ: لَا أَدْرِي، قَالَ مَالِكٌ لَكِنِّي أَنَا أَدْرِي، إِنَّمَا كَانَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ بَعْدَهُ، فَخَافَ عُمَرُ إِنْ وَلَّى رَجُلًا صَالِحًا أَنْ لَا يَكُونَ لِيَزِيدَ بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ، فَتَقُومُ هَجْمَةٌ فَيَفْسَدُ مَا لَا يُصْلَحُ، فَصَدَرَ رَأْيُ هَذَا الْعُمَرِيِّ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ.

فصل الأمور المعتبرة في المصالح المرسلة

فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إِذَا خِيفَ عِنْدَ خَلْعِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ وَإِقَامَةِ الْمُسْتَحِقِّ أَنْ تَقَعَ فِتْنَةٌ وَمَا لَا يَصْلُحُ؛ فَالْمَصْلَحَةُ التَّرْكُ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلْعَهُ وَلَا تَابَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْخَيَّاطِ: إِنَّ بَيْعَةَ عَبْدِ اللَّهِ لِيَزِيدَ كَانَتْ كُرْهًا، وَأَيْنَ يَزِيدُ مَنِ ابْنِ عُمَرَ؟ وَلَكِنْ رَأَى بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ التَّسْلِيمَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْفِرَارَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِفِتْنَةٍ فِيهَا مِنْ ذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ مَا لَا يَخْفَى. فَخَلْعُ يَزِيدَ ـ لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْأَمْرَ يَعُودُ فِي نِصَابِهِ ـ[فِيهِ تَعَرُّضٌ لِفِتْنَةٍ عَظِيمَةٍ] فَكَيْفَ وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ؟ وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فَتَفَهَّمُوهُ وَالْزَمُوهُ تَرْشُدُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [فَصْلٌ الْأُمُورُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ] فَصْلٌ فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ عَشَرَةٌ تُوَضِّحُ لَكَ الْوَجْهَ الْعَمَلِيَّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَتُبَيِّنُ لَكَ اعْتِبَارَ أُمُورٍ: (أَحَدُهَا): الْمُلَاءَمَةُ لِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ بِحَيْثُ لَا تُنَافِي أَصْلًا مِنْ أُصُولِهِ وَلَا دَلِيلًا مِنْ دَلَائِلِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَامَّةَ النَّظَرِ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا غُفِلَ مَعْنَاهُ وَجَرَى عَلَى

ذَوْقِ الْمُنَاسِبَاتِ الْمَعْقُولَةِ الَّتِي إِذَا عُرِضَتْ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّعَبُّدَاتِ، وَلَا مَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ عَامَّةَ التَّعَبُّدَاتِ لَا يُعْقَلُ لَهَا مَعْنًى عَلَى التَّفْصِيلِ، كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْحَجِّ. . . وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَيَتَأَمَّلُ النَّاظِرُ الْمُوَفَّقُ كَيْفَ وُضِعَتْ عَلَى التَّحَكُّمِ الْمَحْضِ الْمُنَافِي لِلْمُنَاسَبَاتِ التَّفْصِيلِيَّةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّهَارَاتِ ـ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا ـ قَدِ اخْتَصَّ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا بِتَعَبُّدٍ مُخَالِفٍ جِدًا لِمَا يَظْهَرُ لِبَادِي الرَّأْيِ؟ فَإِنَّ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ خَارِجَانِ نَجِسَانِ يَجِبُ بِهِمَا تَطْهِيرُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ دُونَ الْمَخْرَجَيْنِ فَقَطْ، وَدُونَ جَمِيعِ الْجَسَدِ، فَإِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ أَوْ دَمُ الْحَيْضِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْجَسَدِ دُونَ دَمِ الْمَخْرَجِ فَقَطْ، وَدُونَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ. ثُمَّ إِنَّ التَّطْهِيرَ وَاجِبٌ مَعَ نَظَافَةِ الْأَعْضَاءِ [إِذَا أَحْدَثَ]، وَغَيْرُ وَاجِبٍ مَعَ قَذَارَتِهَا بِالْأَوْسَاخِ وَالْأَدْرَانِ إِذَا فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ. ثُمَّ التُّرَابُ ـ وَمِنْ شَأْنِهِ التَّلْوِيثُ ـ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ التَّنْظِيفُ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا مُنَاسَبَةً لِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا، لِاسْتِوَاءِ الْأَوْقَاتِ فِي ذَلِكَ. وَشُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِهَا أَذْكَارٌ مَخْصُوصَةٌ لَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا، فَإِذَا أُقِيمَتِ ابْتَدَأَتْ إِقَامَتُهَا بِأَذْكَارٍ أَيْضًا،

ثُمَّ شُرِعَتْ رَكَعَاتُهَا مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَكُلُّ رَكْعَةٍ لَهَا رُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسُجُودَانِ دُونَ الْعَكْسِ، إِلَّا صَلَاةَ خُسُوفِ الشَّمْسِ فَإِنَّهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَتْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ دُونَ أَرْبَعٍ أَوْ سِتٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْدَادِ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُتَطَهِّرُ الْمَسْجِدَ أُمِرَ بِتَحِيَّتِهِ بِرَكْعَتَيْنِ دُونَ وَاحِدَةٍ كَالْمُوتِرِ، أَوْ أَرْبَعٍ كَالظُّهْرِ، فَإِذَا سَهَا فِي صَلَاةٍ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ دُونَ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا قَرَأَ [آيَةَ] سَجْدَةٍ سَجَدَ وَاحِدَةً دُونَ اثْنَتَيْنِ. ثُمَّ أُمِرَ بِصَلَاةِ النَّوَافِلِ وَنُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَعَلَّلَ النَّهْيَ بِأَمْرٍ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى. ثُمَّ شُرِعَتِ الْجَمَاعَةُ فِي بَعْضِ النَّوَافِلِ كَالْعِيدَيْنِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، دُونَ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَرَوَاتِبِ النَّوَافِلِ. فَإِذَا صِرْنَا إِلَى غُسْلِ الْمَيِّتِ وَجَدْنَاهُ لَا مَعْنَى لَهُ مَعْقُولًا، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، ثُمَّ أُمِرْنَا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِالتَّكْبِيرِ دُونَ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ تَشَهُّدٍ، وَالتَّكْبِيرُ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ دُونَ اثْنَتَيْنِ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْدَادِ. فَإِذَا صِرْنَا إِلَى الصِّيَامِ وَجَدْنَا فِيهِ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ غَيْرِ الْمَعْقُولَةِ كَثِيرًا كَإِمْسَاكِ النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، وَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، دُونَ الْمَلْبُوسَاتِ وَالْمَرْكُوبَاتِ، وَالنَّظَرِ وَالْمَشْيِ وَالْكَلَامِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَكَانَ الْجِمَاعُ ـ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْإِخْرَاجِ ـ كَالْمَأْكُولِ ـ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الضِّدِّ،

وَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ ـ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ـ وَلَمْ يَكُنْ أَيَّامَ الْجُمَعِ، وَإِنْ كَانَتْ خَيْرَ أَيَّامٍ طَلَعَتْ عَلَيْهَا الشَّمْسُ، أَوْ كَانَ الصِّيَامُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ. ثُمَّ الْحَجُّ أَكْثَرَ تَعَبُّدًا مِنَ الْجَمِيعِ. وَهَكَذَا تَجِدُ عَامَّةَ التَّعَبُّدَاتِ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ. فَاعْلَمُوا أَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ مَعْنًى يُعْلَمُ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ أَنَّهُ قَصَدَ قَصْدَهُ وَنَحَا نَحْوَهُ وَاعْتُبِرَتْ جِهَتُهُ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ التَّكَالِيفِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ أَنْ يُوقِفَ عِنْدَهُ وَيَعْزِلَ عَنْهُ النَّظَرَ الِاجْتِهَادِيَّ جُمْلَةً، وَأَنْ يُوكَلَ إِلَى وَاضِعِهِ وَيُسَلَّمَ لَهُ فِيهِ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّ التَّكَالِيفَ مُعَلَّلَةٌ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، أَمْ لَمْ نَقُلْهُ: اللَّهُمَّ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ مَسَائِلِهَا ظَهَرَ فِيهَا مَعْنًى فَهِمْنَاهُ مِنَ الشَّرْعِ فَاعْتَبَرْنَا بِهِ أَوْ شَهِدْنَا فِي بَعْضِهَا بِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ، فَلَا حَرَجَ حِينَئِذٍ فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ، فَهُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى لِلْمُتَفَقِّهِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْوِزْرِ الْأَحْمَى. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ حُذَيْفَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَعَبَّدُوهَا فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلْآخِرِ مَقَالًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، وَخُذُوا بِطَرِيقِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَنَحْوِهُ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَلِذَلِكَ الْتَزَمَ مَالِكٌ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي وَإِنْ

ظَهَرَتْ لِبَادِي الرَّأْيِ، وُقُوفًا مَعَ مَا فُهِمَ مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ فِي إِزَالَةِ الْأَخْبَاثِ، وَرَفْعِ الْأَحْدَاثِ، إِلَى مُطْلَقِ النَّظَافَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا غَيْرُهُ، حَتَّى اشْتَرَطَ فِي رَفْعِ الْأَحْدَاثِ النِّيَّةَ، وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُ الْمَاءِ مَقَامَهُ عِنْدَهُ ـ وَإِنْ حَصَلَتِ النَّظَافَةُ ـ حَتَّى يَكُونَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَامْتَنَعَ مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَقَامَهَا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَالْإِجْزَاءِ، وَمَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، وَاقْتَصَرَ فِي الْكَفَّارَاتِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْعَدَدِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَدَوَرَانِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْوُقُوفِ مَعَ مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ ـ إِنْ تَصَوَّرَ ـ لِقِلَّةِ ذَلِكَ فِي التَّعَبُّدَاتِ وَنُدُورِهِ، بِخِلَافِ قِسْمِ الْعَادَاتِ الَّذِي هُوَ جَارٍ عَلَى الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ الظَّاهِرِ لِلْعُقُولِ، فَإِنَّهُ اسْتَرْسَلَ فِيهِ اسْتِرْسَالَ الْمُدِلِّ الْعَرِيقِ فِي فَهْمِ الْمَعَانِي الْمَصْلَحِيَّةِ، نَعَمْ مَعَ مُرَاعَاةِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهُ وَلَا يُنَاقِضَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِهِ، حَتَّى لَقَدِ اسْتَشْنَعَ الْعُلَمَاءُ كَثِيرًا مِنْ وُجُوهِ اسْتِرْسَالِهِ زَاعِمِينَ أَنَّهُ خَلَعَ الرِّبْقَةَ، وَفَتَحَ بَابَ التَّشْرِيعِ، وَهَيْهَاتَ مَا أَبْعَدَهُ مِنْ ذَلِكَ! رَحِمَهُ اللَّهُ، بَلْ هُوَ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ فِي فِقْهِهِ بِالِاتِّبَاعِ، بِحَيْثُ يُخَيَّلُ لِبَعْضٍ أَنَّهُ مُقَلِّدٌ لِمَنْ قَبْلُهُ، بَلْ هُوَ صَاحِبُ الْبَصِيرَةِ فِي دِينِ اللَّهِ ـ حَسْبَمَا بَيَّنَ أَصْحَابُهُ فِي كِتَابِ سِيَرِهِ ـ. بَلْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يُبْغِضُ مَالِكًا فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ، وَهَذِهِ غَايَةٌ فِي الشَّهَادَةِ بِالِاتِّبَاعِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَخْشَى عَلَيْهِ الْبِدْعَةَ (يَعْنِي الْمُبْغِضَ لـ مَالِكٍ).

وَقَالَ ابْنُ الْمَهْدِيِّ: إِذَا رَأَيْتَ الْحِجَازِيَّ يُحِبُّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ، وَإِذَا رَأَيْتَ أَحَدًا يَتَنَاوَلُهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ هِشَامٍ: مَا سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ لَعَنَ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: رَجُلٌ ذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ لَعَنَ مَالِكًا، وَالْآخَرُ: بِشْرُ الْمُرَيْسِيُّ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَغَيْرُ مَالِكٍ أَيْضًا مُوَافِقٌ لَهُ فِي أَنَّ أَصْلَ الْعِبَادَاتِ عَدَمُ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ، فَالْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأُمَّةِ، مَا عَدَّا الظَّاهِرِيَّةَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، بَلِ الْكُلُّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَهُمْ أَحْرَى بِأَنْ لَا يَقُولُوا بِأَصلِ الْمَصَالِحِ فَضلًا عَنْ أَنْ يَعْتَقِدُوا الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَاصِلَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ، وَرَفْعِ حَرَجٍ لَازِمٍ فِي الدِّينِ، وَأَيْضًا مَرْجِعُهَا إِلَى حِفْظِ الضَّرُورِيِّ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ. . . فَهِيَ إِذًا مِنَ الْوَسَائِلِ لَا مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَرُجُوعُهَا إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ رَاجِعٌ إِلَى بَابِ التَّخْفِيفِ لَا إِلَى التَّشْدِيدِ. أَمَّا رُجُوعُهَا إِلَى ضَرُورِيٍّ فَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَكَذَلِكَ رُجُوعُهَا إِلَى رَفْعِ حَرَجٍ لَازِمٍ، وَهُوَ إِمَّا لَاحِقٌ بِالضَّرُورِيِّ، وَإِمَّا مِنَ الْحَاجِيِّ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى التَّقْبِيحِ وَالتَّزْيِينِ الْبَتَّةَ، فَإِنْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ: فَإِمَّا مِنْ بَابٍ آخَرَ مِنْهَا، كَقِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ـ وَإِمَّا مَعْدُودٌ

مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ الَّتِي أَنْكَرَهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ ـ كَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَالتَّثْوِيبِ بِالصَّلَاةِ ـ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُلَائِمُ. وَأَمَّا كَوْنُهَا فِي الضَّرُورِيِّ مِنْ قَبِيلِ الْوَسَائِلِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ: إِنْ نُصَّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ، فَهُوَ شَرْطٌ شَرْعِيٌّ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ نَصَّ الشَّارِعِ فِيهِ قَدْ كَفَانَا مُؤْنَةَ النَّظَرِ فِيهِ. وَإِنْ لَمْ يُنَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فَهُوَ إِمَّا عَقْلِيٌّ أَوْ عَادِيٌّ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا، كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ، فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا حِفْظَ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمَ بِغَيْرِ كَتْبٍ عَادِيًّا مُطَّرِدًا؛ لَصَحَّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ يَصِحُّ لَنَا حِفْظُهَا، كَمَا أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا حُصُولَ مَصْلَحَةِ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى بِغَيْرِ إِمَامٍ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ النَّصِّ بِهَا لَصَحَّ ذَلِكَ،، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ ـ إِذَا ثَبَتَ هَذَا ـ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ بَابِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِوَسَائِلَ. وَأَمَّا كَوْنُهَا فِي الْحَاجِيِّ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ الرَّافِعِ لِلْحَرَجِ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَشْدِيدٍ وَلَا زِيَادَةِ تَكْلِيفٍ، وَالْأَمْثِلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِهَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا. إِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ عُلِمَ أَنَّ الْبِدَعَ كَالْمُضَادَّةِ لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ: لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مَا عُقِلَ مَعْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَالتَّعَبُّدَاتُ مِنْ حَقِيقَتِهَا أَنْ لَا يُعْقَلَ مَعْنَاهَا عَلَى التَّفْصِيلِ. وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْعَادَاتِ إِذَا دَخَلَ فِيهَا الِابْتِدَاعُ فَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا مِنْ جِهَةٍ مَا

فِيهَا مِنَ التَّعَبُّدِ لَا بِإِطْلَاقٍ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْبِدَعَ فِي عَامَّةِ أَمْرِهَا لَا تُلَائِمُ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ. بَلْ إِنَّمَا تُتَصَوَّرُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا مُنَاقِضَةً لِمَقْصُودِهِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفْتِي لِلْمَلِكِ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ـ وَإِمَّا مَسْكُوتًا عَنْهَا فِيهِ؛ كَحِرْمَانِ الْقَاتِلِ وَمُعَامَلَتِهِ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ النَّصِّ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى اطِّرَاحِ الْقِسْمَيْنِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ يَلْحَقُ بِالْمَأْذُونِ فِيهِ. إِذْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ؛ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ. وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْعَادَاتِ فِي أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ، إِنْ قِيلَ بِذَلِكَ، فَهِيَ تُفَارِقُهَا. إِذْ لَا يُقْدَمُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ عِبَادَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِحُكْمِ الْإِذْنِ الْمُصَرَّحِ بِهِ؛ بِخِلَافِ الْعَادَاتِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنِ اهْتِدَاءِ الْعُقُولِ لِلْعَادِيَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ. وَعَدَمِ اهْتِدَائِهَا لِوُجُوهِ التَّقَرُّبَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الْمُوَافِقَاتِ وَإِلَى هَذَا. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ ضَرُورِيٍّ مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ أَوْ إِلَى التَّخْفِيفِ، فَلَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ الْبِدَعِ مِنْ جِهَتِهَا وَلَا الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ، لِأَنَّ الْبِدَعَ مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَبَّدٌ بِهَا بِالْفَرْضِ. وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي التَّكْلِيفِ وَهُوَ مُضَادَّةٌ لِلتَّخْفِيفِ. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ لَا تَعَلُّقَ لِلْمُبْتَدِعِ بِبَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا الْقِسْمَ الْمُلْغَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَحَسْبُكَ بِهِ مُتَعَلِّقًا. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَبِذَلِكَ كُلِّهِ يُعْلَمُ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ أَنَّهُ لَمْ يَكِلْ شَيْئًا مِنَ التَّعَبُّدَاتِ إِلَى

فصل الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن وهو إما العقل أو الشرع

آرَاءِ الْعِبَادِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّهُ. وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ، كَمَا أَنَّ النُّقْصَانَ مِنْهُ بِدْعَةٌ. وَقَدْ مَرَّ لَهُمَا أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ وَسَيَأْتِي أَخِيرًا فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهِ. [فَصْلٌ الِاسْتِحْسَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُسْتَحْسِنٍ وَهُوَ إِمَّا الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ] وَأَمَّا الِاسْتِحْسَانُ، فَلِأَنَّ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَيْضًا تَعَلُّقًا بِهِ، فَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمُسْتَحْسِنٍ، وَهُوَ إِمَّا الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ. أَمَّا الشَّرْعُ فَاسْتِحْسَانُهُ وَاسْتِقْبَاحُهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ اقْتَضَتْ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ لِتَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَلَا لِوَضْعِ تَرْجَمَةٍ لَهُ زَائِدَةٍ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْلُ هُوَ الْمُسْتَحْسِنُ، فَإِنْ كَانَ بِدَلِيلٍ فَلَا فَائِدَةَ لِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ؛ لِرُجُوعِهِ إِلَى الْأَدِلَّةِ لَا إِلَى غَيْرِهَا. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَذَلِكَ هُوَ الْبِدْعَةُ الَّتِي تُسْتَحْسَنُ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ. قَالُوا: وَهُوَ عِنْدُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ مَا يُسْتَحْسَنُ فِي الْعَوَائِدِ، وَتَمِيلُ إِلَيْهِ الطِّبَاعُ فَيَجُوزُ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ إِذَا لَمْ يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ مَا يُنَافِي هَذَا الْكَلَامُ مَا بَيَّنَ أَنَّ ثَمَّ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ مَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالْبِدْعَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ اسْتِحْسَانٍ حَقًّا.

وَأَيْضًا، فَقَدْ يَجْرِي عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي لِلْأُصُولِيِّينَ فِي الِاسْتِحْسَانِ. وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ لَا تُسَاعِدُهُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِهِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ؛ فَالِاسْتِحْسَانُ يُسَاعِدُهُ لِبُعْدِهِ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ أَنْ يَبْتَدِعَ أَحَدٌ بِدْعَةً مِنْ غَيْرِ شُبْهَةِ دَلِيلٍ يَنْقَدِحُ لَهُ. بَلْ عَامَّةُ الْبِدَعِ لَا بُدَّ لِصَاحِبِهَا مِنْ مُتَعَلِّقِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. لَكِنْ قَدْ يُمْكِنُهُ إِظْهَارُهُ وَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ ـ وَهُوَ الْأَغْلَبُ ـ فَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ. وَرُبَّمَا يَنْقَدِحُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَجْهٌ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا أَهْلُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلُونَ، وَقَدْ أَتَوْا بِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17] هُوَ مَا تَسْتَحْسِنُهُ عُقُولُهُمْ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ مَا رَأَوْهُ بِعُقُولِهِمْ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ حُسْنُهُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لَمْ يَكُنْ مِنْ حُسْنِ مَا يَرَوْنَ، إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي التَّشْرِيعِ عَلَى

مَا زَعَمْتُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَدِيثِ فَائِدَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا رَأَوْهُ بِرَأْيِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأُمَّةَ قَدِ اسْتَحْسَنَتْ دُخُولَ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ وَلَا تَقْدِيرِ مُدَّةِ اللَّبْثِ وَلَا تَقْدِيرِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلَا سَبَبَ لِذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْمُشَاحَّةَ فِي مِثْلِهِ قَبِيحَةٌ فِي الْعَادَةِ، فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ تَرْكَهُ، مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ الْإِجَارَةَ الْمَجْهُولَةَ، أَوْ مُدَّةَ الِاسْتِئْجَارِ أَوْ مِقْدَارَ الْمُشْتَرَى إِذَا جُهِلَ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ، وَقَدِ اسْتُحْسِنْتَ إِجَارَتُهُ مَعَ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، فَأَوْلَى أَنْ يُجَوَّزَ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ دَلِيلًا. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مَزَلَّةُ قَدَمٍ أَيْضًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَدِعَ، فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنِ اسْتَحْسَنْتُ كَذَا وَكَذَا فَغَيْرِي مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِ اسْتَحْسَنَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ فَضْلِ اعْتِنَاءٍ بِهَذَا الْفَصْلِ، حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهِ جَاهِلٌ أَوْ زَاعِمٌ أَنَّهُ عَالَمٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، فَنَقُولُ: إِنَّ الِاسْتِحْسَانَ يَرَاهُ مُعْتَبَرًا فِي الْأَحْكَامِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ جِدًّا حَتَّى قَالَ: مَنِ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ. وَالَّذِي يُسْتَقْرَأُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَمَلِ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ. هَكَذَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ـ قَالَ ـ فَالْعُمُومُ إِذَا اسْتَمَرَّ، وَالْقِيَاسُ إِذَا اطَّرَدَ، فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ مَعْنَى ـ قَالَ ـ وَيَسْتَحْسِنُ مَالِكٌ أَنْ يَخُصَّ بِالْمَصْلِحَةِ، وَيَسْتَحْسِنُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَخُصَّ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ الْوَارِدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ـ

قَالَ ـ وَيَرَيَانِ مَعًا تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ وَنَقْصَ الْعِلَّةِ، وَلَا يَرَى الشَّافِعِيُّ لِعِلَّةِ الشَّرْعِ ـ إِذَا ثَبَتَ ـ تَخْصِيصًا. هَذَا مَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَيُشْعِرُ بِذَلِكَ تَفْسِيرُ الْكَرْخِيِّ لِلِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ الْعُدُولُ عَنِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِحُكْمِ نَظَائِرِهَا إِلَى خِلَافِهِ لِوَجْهٍ أَقْوَى. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ الْقِيَاسُ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ كَانَتْ عِلَّةً بِأَثَرِهَا: سَمَّوْا الضَّعِيفَ الْأَثَرِ قِيَاسًا وَالْقَوِيَّ الْأَثَرِ اسْتِحْسَانًا، أَيْ قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا، وَكَأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعَمَلِ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ، وَهُوَ يَظْهَرُ مِنِ اسْتِقْرَاءِ مَسَائِلِهِمْ فِي الِاسْتِحْسَانِ بِحَسَبِ النَّوَازِلِ الْفِقْهِيَّةِ. بَلْ قَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ. رَوَاهُ أَصْبُغُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ أَصْبُغُ فِي الِاسْتِحْسَانِ: قَدْ يَكُونُ أَغْلَبَ مِنَ الْقِيَاسِ. وَجَاءَ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّ الْمُفَرِّقَ فِي الْقِيَاسِ يَكَادُ يُفَارِقُ السُّنَّةَ. وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلُ، وَأَنَّهُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ، أَوْ أَنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ؛ تَعَسُرُ عِبَارَتُهُ عَنْهُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْعِلْمِ، وَلَا أَغْلَبَ مِنَ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الِاسْتِحْسَانُ إِيثَارُ تَرْكِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّرَخُّصِ، لِمُعَارَضَةِ مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ. وَقَسَّمَهُ أَقْسَامًا عَدَّ مِنْهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامِ، وَهِيَ تَرْكُ الدَّلِيلِ لِلْعُرْفِ، وَتَرْكُهُ لِلْمَصْلَحَةِ، وَتَرْكُهُ لِلْيَسِيرِ، وَتَرْكُهُ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ، وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ.

وَحَدَّهُ غَيْرُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ: اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ ـ قَالَ ـ فَهُوَ تَقْدِيمُ الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ. وَعَرَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ فَقَالَ: الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ حَتَّى يَكُونَ أَعَمَّ مِنَ الْقِيَاسِ ـ هُوَ أَنْ يَكُونَ طَرْدًا لِقِيَاسٍ يُؤَدِّي إِلَى غُلُوٍّ فِي الْحُكْمِ وَمُبَالَغَةٍ فِيهِ، فَيُعْدَلَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَعْنًى يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ. وَهَذِهِ تَعْرِيفَاتٌ، قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَلَيْسَ بِخَارِجٍ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْبَتَّةَ، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ يُقَيِّدُ بَعْضُهَا وَيُخَصِّصُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَمَا فِي الْأَدِلَّةِ السُّنِّيَّةِ مَعَ الْقُرْآنِيَّةِ. وَلَا يَرُدُّ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ هَذَا أَصْلًا. فَلَا حُجَّةَ فِي تَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا لِمُبْتَدَعٍ عَلَى حَالٍ. وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِأَمْثِلَةٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَنَقْتَصِرُ عَلَى عَشَرَةِ أَمْثِلَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْدَلَ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا بِدَلِيلِ الْكِتَابِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فَظَاهِرُ اللَّفْظِ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ مَا يُتَمَوَّلُ بِهِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي الشَّرْعِ بِالْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ خَاصَّةً، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا لِي صَدَقَةٌ. فَظَاهِرُ لَفْظِهِ يَعُمُّ كُلَّ مَالٍ، وَلَكِنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى مَالِ الزَّكَاةِ، لِكَوْنِهِ ثَبَتَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَكَأَنَّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِعَادَةِ فَهْمِ خِطَابِ الْقُرْآنِ. وَهَذَا الْمِثَالُ أَوْرَدَهُ الْكَرْخِيُّ تَمْثِيلًا لِمَا قَالَهُ فِي الِاسْتِحْسَانِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ نَجِسٌ، قِيَاسًا عَلَى سِبَاعِ الْبَهَائِمِ. وَهَذَا ظَاهِرُ الْأَثَرِ، وَلَكِنَّهُ ظَاهِرٌ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ السَّبْعَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ لِضَرُورَةِ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ، فَثَبَتَتْ نَجَاسَتُهُ بِمُجَاوَرَةِ رُطُوبَاتِ لُعَابِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَارَقَهُ الطَّيْرُ؛ لِأَنَّهُ يَشْرَبُ بِمِنْقَارِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ سُؤْرِهِ، لِأَنَّ هَذَا أَثَرٌ قَوِيٌّ وَإِنْ خَفِيَ، فَتَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ أَمْرُهُ جَلِيًّا، وَالْأَخْذُ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَلَكِنْ عَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ غَيْرَ الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا (الْآخَرُ)، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدَّ، وَلَكِنِ اسْتُحْسِنَ حَدُّهُ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إِلَّا مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ، فَإِذَا عَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ دَارًا، فَلَمْ يَأْتِ عَلَى كُلِّ مَرْتَبَةٍ بِأَرْبَعَةٍ. لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِذَا عَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ زَاوِيَةً فَالظَّاهِرُ تَعَدُّدُ الْفِعْلِ، وَيُمْكِنُ التَّزَاحُفُ. فَإِذَا قَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدَّ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعِ الْأَرْبَعَةُ عَلَى زِنًا وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ يُؤَوَّلُ فِي الْمَصِيرِ إِلَى الْأَمْرِ الظَّاهِرِ تَفْسِيقُ الْعُدُولِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا صَارَ الشُّهُودُ فَسَقَةً، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ

مَا وَجَدْنَا إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُ سَبِيلًا فَيَكُونُ حَمْلُ الشُّهُودِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَدَالَةِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ يَجُرُّ ذَلِكَ الْإِمْكَانَ الْبَعِيدَ، فَلَيْسَ هَذَا حُكْمًا بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمَسُّكٌ بِاحْتِمَالِ تَلَقِّي الْحُكْمِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهَذَا يَرْجِعُ ـ فِي الْحَقِيقَةِ ـ إِلَى تَحْقِيقِ مَنَاطِهِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنْ يَتْرُكَ الدَّلِيلَ لِلْعُرْفِ، فَإِنَّهُ رَدَّ الْأَيْمَانَ إِلَى الْعُرْفِ، مَعَ أَنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي فِي أَلْفَاظِهَا غَيْرَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ مَعَ فُلَانٍ بَيْتًا: فَهُوَ يَحْنَثُ بِدُخُولِ كُلِّ مَوْضِعٍ يُسَمَّى بَيْتًا فِي اللُّغَةِ، وَالْمَسْجِدِ يُسَمَّى بَيْتًا فَيَحْنَثُ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ عُرْفَ النَّاسِ أَنْ لَا يُطْلِقُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ بِالْعُرْفِ عَنْ مُقْتَضَى اللَّفْظِ فَلَا يَحْنَثُ. وَالْخَامِسُ: تَرْكُ الدَّلِيلِ لِمَصْلَحَةٍ، كَمَا فِي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَانِعًا، فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَتَضْمِينِ صَاحِبِ الْحَمَّامِ الثِّيَابَ، وَتَضْمِينِ صَاحِبِ السَّفِينَةِ، وَتَضْمِينِ السَّمَاسِرَةِ الْمُشْتَرِكِينَ، وَكَذَلِكَ حَمَّالُ الطَّعَامِ ـ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ ـ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ، وَلَاحِقٌ عِنْدَهُ بِالصُّنَّاعِ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ السَّبَبِ فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَا مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ، قُلْنَا: نَعَمْ! إِلَّا أَنَّهُمْ صَوَّرُوا الِاسْتِحْسَانَ بِصُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْقَوَاعِدِ. بِخِلَافِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي مَسْأَلَةِ التَّضْمِينِ. فَإِنَّ الْأُجَرَاءَ مُؤْتَمَنُونَ بِالدَّلِيلِ لَا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. فَصَارَ تَضْمِينُهُمْ فِي حَيِّزِ

الْمُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ. فَدَخَلَتْ تَحْتَ مَعْنَى الِاسْتِحْسَانَ بِذَلِكَ النَّظَرِ. وَالسَّادِسُ: أَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى إِيجَابِ الْغَرْمِ عَلَى مَنْ قَطَعَ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي. يُرِيدُونَ غَرْمَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ لَا قِيمَةَ النَّقْصِ الْحَاصِلِ فِيهَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ. فَإِنَّ بَغْلَةَ الْقَاضِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا إِلَّا لِلرُّكُوبِ. وَقَدِ امْتَنَعَ رُكُوبُهُ لَهَا بِسَبَبِ فُحْشِ ذَلِكَ الْعَيْبِ. حَتَّى صَارَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رُكُوبِ مِثْلِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ. فَأَلْزَمُوا الْفَاعِلَ غَرْمَ قِيمَةِ الْجَمِيعِ. وَهُوَ مُتَّجِهٌ بِحَسَبِ الْغَرَضِ الْخَاصِّ. وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَغْرَمَ إِلَّا قِيمَةَ مَا نَقَّصَهَا الْقَطْعُ خَاصَّةً. لَكِنِ اسْتَحْسَنُوا مَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ. فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْأَشْهَرَ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ مَا تَقَدَّمَ حَسْبَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ. وَالسَّابِعُ: تَرْكُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي الْيَسِيرِ لِتَفَاهَتِهِ وَنَزَارَتِهِ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ. وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْخَلْقِ. فَقَدْ أَجَازُوا التَّفَاضُلَ الْيَسِيرَ فِي الْمُرَاطِلَةِ الْكَثِيرَةِ. وَأَجَازُوا الْبَيْعَ بِالصَّرْفِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ. وَأَجَازُوا بَدَلَ الدِّرْهَمِ النَّاقِصِ بِالْوَازِنِ لِنَزَارَةِ مَا بَيْنَهُمَا. وَالْأَصْلُ الْمَنْعُ فِي الْجَمِيعِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبَ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَلِأَنَّ مَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ التَّافِهَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، وَلِذَلِكَ لَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْأَغْرَاضُ فِي الْغَالِبِ، وَأَنَّ الْمَشَاحَّةَ فِي الْيَسِيرِ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَهُمَا مَرْفُوعَانِ عَنِ الْمُكَلَّفِ.

وَالثَّامِنُ: أَنَّ فِي " الْعُتْبِيَّةِ " مِنْ سَمَاعِ أَصْبُغَ فِي الشَّرِيكَيْنِ يَطَآنِ الْأَمَةَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَتَأْتِي بِوَلَدٍ فَيُنْكِرُ أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ دُونَ الْآخَرِ، أَنَّهُ يَكْشِفُ مُنْكِرَ الْوَلَدِ عَنْ وَطْئِهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ؛ فَإِنْ كَانَ فِي صِفَتِهِ مَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْإِنْزَالُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَكَانَ كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي الْعَزْلَ مِنَ الْوَطْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ، فَقَالَ أَصْبُغُ: إِنِّي أَسْتَحْسِنُ هَاهُنَا أَنْ أُلْحِقَهُ بِالْآخَرِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً، فَلَعَلَّهُ غَلَبَ وَلَا يَدْرِي. وَقَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي نَحْوِ هَذَا: إِنَّ الْوِكَاءَ قَدْ يَنْقَلِبُ. قَالَ: وَالِاسْتِحْسَانُ هَاهُنَا أَنْ أُلْحِقَهُ بِالْآخَرِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَا فِي الْعِلْمِ، قَدْ يَكُونُ أَغْلَبَ مِنَ الْقِيَاسِ. ـ ثُمَّ حَكَى عَنْ مَالِكٍ مَا تَقَدَّمَ. وَوَجَّهَ ذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ الْأَصْلَ: مَنْ وَطِئَ أَمَتَهُ فَعَزَلَ عَنْهَا وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مُنْكِرًا، وَجَبَ عَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَطِئَاهَا جَمِيعًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَعَزَلَ أَحَدُهُمَا عَنْهَا فَأَنْكَرَ الْوَلَدَ وَادَّعَاهُ الْآخَرُ الَّذِي لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا كَانَا جَمِيعًا يَعْزِلَانِ أَوْ يُنْزِلَانِ. وَالِاسْتِحْسَانُ ـ كَمَا قَالَ ـ أَنْ يَلْحَقَ الْوَلَدُ بِالَّذِي ادَّعَاهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ يُنْزِلُ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُ الَّذِي أَنْكَرَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مَعَ الْإِنْزَالِ غَالِبًا وَلَا يَكُونُ مَعَ الْعَزْلِ إِلَّا نَادِرًا، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّذِي ادَّعَاهُ وَكَانَ يُنْزِلُ، لَا الَّذِي أَنْكَرَهُ وَهُوَ يَعْزِلُ، وَالْحُكْمُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ أَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ تَأْثِيرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ اسْتِحْسَانًا ـ كَمَا قَالَ أَصْبُغُ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.

وَالتَّاسِعُ: مَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْأُمَّةَ اسْتَسْحَنَتْ دُخُولَ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ وَلَا تَقْدِيرِ مُدَّةِ اللَّبْثِ وَلَا تَقْدِيرِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْمَنْعُ إِلَّا أَنَّهُمْ أَجَازُوا، لَا كَمَا قَالَ الْمُحْتَجُّونَ عَلَى الْبِدَعِ، بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنِ الْأَدِلَّةِ. فَأَمَّا تَقْدِيرُ الْعِوَضِ فَالْعُرْفُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ. وَأَمَّا مُدَّةُ اللَّبْثِ وَقَدْرُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقَدَّرًا بِالْعُرْفِ أَيْضًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ لِلضَّرُورَةِ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ لِقَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ نَفْيَ جَمِيعِ الْغَرَرِ فِي الْعُقُودِ لَا يُقَدَرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُضَيِّقُ أَبْوَابَ الْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ تَحْسِيمُ أَبْوَابِ الْمُفَاوَضَاتِ، وَنَفْيُ الضَّرَرِ إِنَّمَا يَطْلُبُ تَكْمِيلًا وَرَفْعًا لِمَا عَسَى أَنْ يَقَعَ مِنْ نِزَاعٍ، فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُكَمِّلَةِ، وَالتَّكْمِيلَاتِ إِذَا أَفْضَى اعْتِبَارُهَا إِلَى إِبْطَالِ الْمُكَمِّلَاتِ سَقَطَتْ جُمْلَةً، تَحْصِيلًا لِلْمُهِمِّ ـ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأُصُولِ ـ فَوَجَبَ أَنْ يُسَامِحَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا، إِذْ يَشُقُّ طَلَبُ الِانْفِكَاكِ عَنْهَا، فَسُومِحَ الْمُكَلَّفُ بِيَسِيرِ الْغَرَرِ، لِضِيقِ الِاحْتِرَازِ مَعَ تَفَاهَةِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْغَرَرِ، وَلَمْ يُسَامَحْ فِي كَثِيرِهِ إِذْ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَلِعَظِيمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَرِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِهِ مِمَّا يَعْظُمُ فِيهِ الْغَرَرُ، فَجُعِلَتْ أُصُولًا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُ الْقَلِيلِ أَصْلًا فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ وَفِي الْجَوَازِ، وَصَارَ الْكَثِيرُ فِي حُكْمِ الْمَنْعِ وَدَارَ فِي الْأَصْلَيْنِ فُرُوعٌ يَتَجَاذَبُ الْعُلَمَاءُ النَّظَرَ فِيهَا، فَإِذَا

قَلَّ الْغَرَرُ وَسَهُلَ الْأَمْرُ وَقَلَّ النِّزَاعُ وَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمُسَامَحَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِهَا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَسْأَلَةُ التَّقْدِيرِ فِي مَاءِ الْحَمَّامِ وَمُدَّةِ اللَّبْثِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَقَدْ بَالَغَ مَالِكٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَمْعَنَ فِيهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَجِيرَ بِطَعَامِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْضَبِطُ مِقْدَارُ أَكْلِهِ لِيَسَارِ أَمْرِهِ وَخِفَّةِ خَطْبِهِ وَعَدَمِ الْمُشَاحَّةِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ تَطَرُّقٍ يَسِيرِ الْغَرَرِ إِلَى الْأَجَلِ فَأَجَازَهُ، وَبَيْنَ تَطَرُّقِهِ لِلثَّمَنِ فَمَنَعَهُ، فَقَالَ: يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً إِلَى الْحَصَادِ أَوْ إِلَى الْجَذَاذِ، وَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ بِعَيْنِهِ لَا يَنْضَبِطُ، وَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِدِرْهَمٍ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ لَمْ يَجُزْ، وَالسَّبَبُ فِي التَّفْرِقَةِ، الْمُضَايَقَةُ فِي تَعْيِينِ الْأَثْمَانِ وَتَقْدِيرِهَا لَيْسَتْ فِي الْعُرْفِ، وَلَا مُضَايَقَةً فِي الْأَجَلِ. إِذْ قَدْ يُسَامِحُ الْبَائِعُ فِي التَّقَاضِي الْأَيَّامَ. وَلَا يُسَامِحُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ عَلَى حَالٍ. وَيُعَضِّدُهُ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِشِرَاءِ الْإِبِلِ إِلَى خُرُوجِ الْمُصَدِّقِ». وَذَلِكَ لَا يَضْبُطُ يَوْمَهُ وَلَا يُعَيِّنُ سَاعَتَهُ. وَلَكِنَّهُ عَلَى التَّقْرِيبِ وَالتَّسْهِيلِ. فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ وَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ بِالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ. وَأَيْنَ هَذَا مِنْ زَعْمِ الزَّاعِمِ أَنَّهُ اسْتِحْسَانُ الْعَقْلِ بِحَسَبِ الْعَوَائِدِ فَقَطْ؟ فَتَبَيَّنَ لَكَ بَوْنُ مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الِاسْتِحْسَانِ مُرَاعَاةَ خِلَافِ

الْعُلَمَاءِ. وَهُوَ أَصْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ يَنْبَنِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا: أَنَّ الْمَاءَ الْيَسِيرَ إِذَا حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْيَسِيرَةُ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ أَنَّهُ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ بَلْ يَتَيَمَّمُ وَيَتْرُكُهُ. فَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى أَعَادَ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ. وَلَمْ يُعِدْ بَعْدَ الْوَقْتِ. وَإِنَّمَا قَالَ: " يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ " مُرَاعَاةً لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، وَيُرْوَى جَوَازُ الْوُضُوءِ بِهِ ابْتِدَاءً. وَكَانَ قِيَاسُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُعِيدَ أَبَدًا. إِذْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلَّا بِمَاءٍ يَصِحُّ لَهُ تَرْكُهُ وَالِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَى التَّيَمُّمِ. وَمِنْهَا: قَوْلُهُمْ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَجِبُ فَسْخُهُ: إِنْ لَمْ يُتَّفَقْ عَلَى فَسَادِهِ فَيُفْسَخُ بِطَلَاقٍ. وَيَكُونُ فِيهِ الْمِيرَاثُ. وَيَلْزَمُ فِيهِ الطَّلَاقُ عَلَى حَدِّهِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ. فَإِنِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى فَسَادِهِ فُسِخَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ. وَلَا يَكُونُ فِيهِ مِيرَاثٌ وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ طَلَاقٌ. وَمِنْهَا: مَسْأَلَةُ مِنْ نَسِيَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَكَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَكَانَ مَعَ الْإِمَامِ وَجَبَ أَنْ يَتَمَادَى. لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ. فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَعَادَ هَذَا الْمَأْمُومُ. وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْمَذْهَبِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ رَاعَى دَلِيلَ الْمُخَالِفِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ فِي بَعْضِهَا فَلَمْ يُرَاعِهِ. وَلَقَدْ كَتَبْتُ فِي مَسْأَلَةِ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَإِلَى بِلَادِ أَفْرِيقِيَّةَ لِإِشْكَالٍ عَرَضَ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِمَّا يَخُصُّ هَذَا الْمَوْضِعَ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهَا، وَهُوَ: مَا

أَصْلُهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ؟ وَعَلَامَ تُبْنَى مِنْ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ؟ فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ الْآنَ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الْمُتَّبَعُ فَحَيْثُمَا صَارَ صِيرَ إِلَيْهِ، وَمَتَى رَجَحَ لِلْمُجْتَهِدِ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ـ وَلَوْ بِأَدْنَى وُجُوهِ التَّرْجِيحِ ـ وَجَبَ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَإِلْغَاءُ مَا سِوَاهُ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، فَإِذَا رُجُوعُهُ ـ أَعْنِي الْمُجْتَهِدَ ـ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ إِعْمَالٌ لِدَلِيلِهِ الْمَرْجُوحِ عِنْدَهُ، وَإِهْمَالٌ لِلدَّلِيلِ الرَّاجِحِ عِنْدَهُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ. فَأَجَابَنِي بَعْضُهُمْ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ، إِلَّا أَنِّي رَاجَعْتُ بَعْضَهُمْ بِالْبَحْثِ، وَهُوَ أَخِي وَمُفِيدِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقِبَابِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ بِمَا نَصُّهُ: وَتَضَمَّنَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ عَوْدَةَ السُّؤَالِ فِي مَسْأَلَةِ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ، وَقُلْتُمْ إِنَّ رُجْحَانَ إِحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى أَنَّ تَقْدِيمَهَا عَلَى الْأُخْرَى اقْتَضَى ذَلِكَ عَدَمَ الْمَرْجُوحَةِ مُطْلَقًا، وَاسْتَشْنَعْتُمْ أَنْ يَقُولَ الْمُفْتِي هَذَا لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً، وَبَعْدَ الْوُقُوعِ يَقُولُ بِجَوَازِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَمْنُوعُ إِذَا فُعِلَ جَائِزًا. وَقُلْتُمْ: أَنَّهُ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْجَمْعُ فِي هَذَا النَّحْوِ فِي مَنْعِ التَّنْزِيهِ لَا مَنْعِ التَّحْرِيمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَوْرَدْتُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَكُلُّهَا إِيرَادَاتٌ شَدِيدَةٌ صَادِرَةٌ عَنْ قَرِيحَةٍ قِيَاسِيَّةٍ مُنْكِرَةٍ لِطَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ، وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَيْلُ فَحَوْلٍ مَنِ الْأَئِمَّةِ وَالنُّظَّارِ، حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ: مَنِ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ. وَلَقَدْ ضَاقَتِ الْعِبَارَةُ عَنْ مَعْنَى أَصْلِ الِاسْتِحْسَانِ ـ كَمَا فِي عِلْمِكُمْ ـ حَتَّى قَالُوا: أَصَحُّ عِبَارَةٍ فِيهِ أَنَّهُ مَعْنًى يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَعْسُرُ الْعِبَارَةُ

عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلُهُ الَّذِي تَرْجِعُ فَرُوعُهُ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْعِبَارَةُ عَنْهَا أَضْيَقَ. وَلَقَدْ كُنْتُ أَقُولُ بِمِثْلِ مَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَعْلَامُ فِي طَرْحِ الِاسْتِحْسَانِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ، لَوْلَا أَنَّهُ اعْتَضَدَ وَتَقَوَّى لِوِجْدَانِهِ كَثِيرًا فِي فَتَاوَى الْخُلَفَاءِ وَأَعْلَامِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِهِمْ مَعَ عَدَمِ النَّكِيرِ، فَتُقَوِّي ذَلِكَ عِنْدِي غَايَةً. وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَانْشَرَحَ إِلَيْهِ الصَّدْرُ، وَوَثِقَ بِهِ الْقَلْبُ، لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ. فَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَتَزَوَّجُهَا رَجُلَانِ وَلَا يَعْلَمُ الْآخَرُ بِتَقَدُّمِ نِكَاحِ غَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ الْبِنَاءِ، فَأَبَانَهَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ عُمَرُ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ. وَكُلُّ مَا أَوْرَدْتُمْ فِي قَضِيَّةِ السُّؤَالِ وَارِدٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبِنِ هُوَ الْأَوَّلُ، فَدُخُولُ الثَّانِي بِهَا دُخُولٌ بِزَوْجِ غَيْرِهِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ غَلَطُهُ عَلَى زَوْجِ غَيْرِهِ مُبِيحًا عَلَى الدَّوَامِ، وَمُصَحِّحًا لِعَقْدِهِ الَّذِي لَمْ يُصَادِفْ مُحِلًّا، وَمُبْطِلًا لِعَقْدِ نِكَاحٍ مُجْمَعٍ عَلَى صِحَّتِهِ، لِوُقُوعِهِ عَلَى وَفْقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؟ وَإِنَّمَا الْمُنَاسِبُ أَنَّ الْغَلَطَ يَرْفَعُ عَنِ الْغَالِطِ الْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ. لَا إِبَاحَةَ زَوْجِ غَيْرِهِ دَائِمًا، وَمَنْعَ زَوْجِهَا مِنْهَا. وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْأَلَةِ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: أَنَّهُ إِنْ قَدِمَ الْمَفْقُودُ قَبْلَ نِكَاحِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ نِكَاحِهَا وَالدُّخُولِ بِهَا بَانَتْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْبِنَاءِ فَقَوْلَانِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: الْحُكْمُ لَهَا بِالْعِدَّةِ مِنَ الْأَوَّلِ إِنْ كَانَ قَطْعًا لِعِصْمَتِهِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، وَلَوْ قَدِمَ قَبْلَ تَزَوُّجِهَا، أَوْ لَيْسَ بِقَاطِعٍ لِلْعِصْمَةِ، فَكَيْفَ تُبَاحُ لِغَيْرِهِ فِي عِصْمَةِ الْمَفْقُودِ؟

وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ أَغْرَبُ وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا قَدِمَ الْمَفْقُودُ يُخَيَّرُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ أَوْ صَدَاقِهَا، فَإِنِ اخْتَارَ صَدَاقَهَا بَقِيَتْ لِلثَّانِي، فَأَيْنَ هَذَا مِنَ الْقِيَاسِ؟ وَقَدْ صَحَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا النَّقْلَ عَنِ الْخَلِيفَتَيْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ، وَنَقَلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، أَوْ أَمْضَى الْحُكْمَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَشْهَرُ عَنْهُ خِلَافُهُ. وَمِثْلُهُ فِي قَضَايَا الصَّحَابَةِ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ: قَالَ ابْنُ الْمُعَدَّلِ لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ حَضَرَهُمَا وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَقَامَ أَحَدُهُمَا فَأَوْقَعَ الصَّلَاةَ بِثَوْبٍ نَجِسٍ مجانًا، وَقَعَدَ الْآخَرُ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ وَلَا يُقَارِبُهُ، مَعَ نَقْلِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْيَاخِ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ النَّجَاسَةِ عَامِدًا جَمْعَ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يُسَاوِي مُؤَخِّرَهَا عَلَى وُجُوبِ النَّجَاسَةِ حَالَ الصَّلَاةِ، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ اللَّخْمِيُّ، وَالْمَازِرِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْبَاجِيُّ، وَعَلَيْهِ مَضَى عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي تَلْقِينِهِ. وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَوْرَدْتُمْ، أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ ابْتِدَاءً غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ـ أَحْرَى بِكَوْنِ أَمْرِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِعَكْسِ مَا قَالَ ابْنُ الْمُعَدَّلِ، لِأَنَّ الَّذِي صَلَّى بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَى مَا فَرَّطَ فِيهِ، وَالْآخَرُ لَمْ يَعْمَلْ كَمَا أُمِرَ، وَلَا قَضَى شَيْئًا. وَلَيْسَ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ابْتِدَاءً غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَعْدَ وُقُوعِهِ.

وَقَدْ صَحَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا»

وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَالْمَهْرُ لَهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا». فَحَكَمَ أَوَّلًا بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، وَأَكَّدَهُ بِالتَّكْرَارِ ثَلَاثًا، وَسَمَّاهُ زِنًا. وَأَقَلُّ مُقْتَضَيَاتِهِ عَدَمُ اعْتِبَارِ هَذَا الْعَقْدِ جُمْلَةً. لَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّبَهُ بِمَا اقْتَضَى اعْتِبَارَهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ بِقَوْلِهِ: وَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا وَمَهْرُ الْبَغِيِّ حَرَامٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2]. فَعَلَّلَ النَّهْيَ عَنِ اسْتِحْلَالِهِ بِابْتِغَائِهِمْ فَضْلَ اللَّهِ وَرِضْوَانَهُ مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى، الَّذِي لَا يَصِحُّ مَعَهُ عِبَادَةٌ، وَلَا يُقْبَلُ عَمَلٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ الْآنَ مَنْسُوخًا، فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: وَسَتَجِدُ أَقْوَامًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ

فصل رد حجج المبتدعة في الاستحسان

حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ. وَلِهَذَا لَا يُسْبَى الرَّاهِبُ وَيُتْرَكُ مَالُهُ أَوْ مَا قَلَّ مِنْهُ، عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ يُسْبَى وَيُمْلَكُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَا زَعَمَ أَنَّهُ حَبَسَ نَفْسَهُ لَهُ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ عِبَادَتُهُ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ اعْتِبَارُ عِبَادَةِ مُسْلِمٍ عَلَى وَفْقِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يُقْطَعُ بِخَطَأٍ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ ذَلِكَ ظَنًّا. وَتَتَبُّعُ مِثْلِ هَذَا يَطُولُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا تَحَقَّقَ فِيهِ نَهْيٌ مِنَ الشَّارِعِ: هَلْ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؟ وَفِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، فَكَيْفَ بِهَذَا؟. وَإِذَا خَرَجَتِ الْمَسْأَلَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا إِلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّرْجِيحُ لِبَعْضِ تِلْكَ الْمَذاهِبِ، وَيُرَجِّحُ كُلُّ أَحَدٍ مَا ظَهَرَ لَهُ بِحَسَبِ مَا وُفِّقَ لَهُ. وَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. انْتَهَى مَا كَتَبَ لِي بِهِ وَهُوَ بَسْطُ أَدِلَّةٍ شَاهِدَةٍ لِأَصْلِ الِاسْتِحْسَانِ، فَلَا يُمْكِنُ مَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ كُلِّهِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْسِنَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ أَصْلًا. [فَصْلٌ رَدُّ حُجَجِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الِاسْتِحْسَانِ] فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا احْتَجُّوا بِهِ أَوَّلًا: فَأَمَّا مَنْ حَدَّ الِاسْتِحْسَانَ بِأَنَّهُ: مَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ هَذَا النَّوْعَ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ، وَلَا شَكَّ

أَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعَ بِذَلِكَ، بَلْ يُجَوِّزُ أَنْ يَرِدَ بِأَنَّ مَا سَبَقَ إِلَى أَوْهَامِ الْعَوَامِّ ـ مَثَلًا ـ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَيَلْزَمُهُمُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا وَلَمْ يُعْرَفِ التَّعَبُّدُ بِهِ لَا بِضَرُورَةٍ وَلَا بِنَظَرٍ وَلَا بِدَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ قَاطِعٍ وَلَا مَظْنُونٍ، فَلَا يَجُوزُ إِسْنَادُهُ لِحُكْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ تَشْرِيعٍ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ. وَأَيْضًا؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ حَصَرُوا نَظَرَهُمْ فِي الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَالرَّدِّ إِلَى مَا فَهِمُوهُ مِنَ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ: إِنِّي حَكَمْتُ فِي هَذَا بِكَذَا لِأَنَّ طَبْعِي مَالَ إِلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ مَحَبَّتِي وَرِضَائِي، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَاشْتَدَّ عَلَيْهِ النَّكِيرُ، وَقِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنْ تَحْكُمَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ بِمَحْضِ مَيْلِ النَّفْسِ وَهَوَى الْقَلْبِ؟ هَذَا مَقْطُوعٌ بِبُطْلَانِهِ. بَلْ كَانُوا يَتَنَاظَرُونَ وَيَعْتَرِضُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى مَأْخَذِ بَعْضِ، وَيَنْحَصِرُونَ إِلَى ضَوَابِطِ الشَّرْعِ. وَأَيْضًا، فَلَوْ رَجَعَ الْحُكْمُ إِلَى مُجَرَّدِ الِاسْتِحْسَانِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُنَاظَرَةِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَخْتَلِفُ أَهْوَاؤُهُمْ وَأَغْرَاضُهُمْ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى مُنَاظَرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا: لِمَ كَانَ هَذَا الْمَاءُ أَشْهَى عِنْدَكَ مِنَ الْآخَرِ؟ وَالشَّرِيعَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. عَلَى أَنَّ أَرْبَابَ الْبِدَعِ الْعَمَلِيَّةِ أَكْثَرُهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ يُنَاظِرُوا أَحَدًا. وَلَا يُفَاتِحُونَ عَالِمًا وَلَا غَيْرَهُ فِيمَا يَتَّبِعُونَ، خَوْفًا مِنَ الْفَضِيحَةِ أَنْ لَا يَجِدُوا مُسْتَنَدًا شَرْعِيًّا، وَإِنَّمَا شَأْنُهُمْ إِذَا وَجَدُوا عَالِمًا أَوْ لَقَوْهُ أَنْ يُصَانِعُوا، وَإِذَا وَجَدُوا جَاهِلًا

عَامِّيًّا أَلْقَوْا عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ الطَّاهِرَةِ إِشْكَالَاتٍ، حَتَّى يُزَلْزِلُوهُمْ وَيُخَلِّطُوا عَلَيْهِمْ، وَيَلْبِسُوا دِينَهُمْ، فَإِذَا عَرَفُوا مِنْهُمُ الْحَيْرَةَ وَالِالْتِبَاسَ. أَلْقَوْا إِلَيْهِمْ مِنْ بِدَعِهِمْ عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَذَمُّوا أَهْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا الْمُكِبُّونُ عَلَيْهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ. وَرُبَّمَا أَوْرَدُوا عَلَيْهِمْ مِنْ كَلَامِ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ شَوَاهِدَ عَلَى مَا يُلْقُونَ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَهْوُوا بِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا أَنْ يَأْتُوا الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ وَيُنَاظِرُوا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ فَلَا. وَتَأَمَّلْ مَا نَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي اسْتِدْرَاجِ الْبَاطِنِيَّةِ غَيْرَهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِمْ، تَجِدُهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ إِلَّا عَلَى خَدِيعَةِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ تَقْرِيرِ عِلْمٍ، وَالتَّحَيُّلِ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ، حَتَّى يُخْرِجُوهُمْ مِنَ السُّنَّةِ، أَوْ عَنِ الدِّينِ جُمْلَةً. وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ لَأَتَيْتُ بِكَلَامِهِ، فَطَالِعْهُ فِي كِتَابِ " فَضَائِحُ الْبَاطِنِيَّةِ ". وَأَمَّا الْحَدُّ الثَّانِي، فَقَدْ رَدَّ بِأَنَّهُ لَوْ فَتَحَ هَذَا الْبَابَ لَبَطَلَتِ الْحُجَجُ وَادَّعَى كُلُّ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ، وَاكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، فَأَلْجَأَ الْخَصْمَ إِلَى الْإِبْطَالِ. وَهَذَا يَجُرُّ فَسَادًا لَا خَفَاءَ لَهُ. وَإِنْ سَلَّمَ فَذَلِكَ الدَّلِيلُ إِنْ كَانَ فَاسِدًا فَلَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ. - وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ، فَلَا مُتَعَلِّقَ بِهِ، فَإِنَّ أَحْسَنَ الِاتِّبَاعِ إِلَيْنَا اتِّبَاعُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَخُصُوصًا الْقُرْآنَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] الْآيَةَ، وَجَاءَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ ـ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ»

فَيَفْتَقِرُ أَصْحَابُ الدَّلِيلِ أَنْ يُبَيِّنُوا أَنَّ مَيْلَ الطِّبَاعِ أَوْ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ مِنْ أَحْسَنِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] الْآيَةَ. يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ مَيْلَ النُّفُوسِ يُسَمَّى قَوْلًا. وَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ إِلَى كَوْنِهِ أَحْسَنَ الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ. ثُمَّ إِنَّا نُعَارِضُ هَذَا الِاسْتِحْسَانَ بِأَنَّ عُقُولَنَا تَمِيلُ إِلَى إِبْطَالِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَلَقَّاةُ مِنَ الشَّرْعِ. وَأَيْضًا، فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانُ الْعَوَامِّ وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، إِذَا فَرَضَ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَّبِعُ مُجَرَّدَ مَيْلِ النُّفُوسِ وَهَوَى الطِّبَاعِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُضَادٌّ لِلشَّرِيعَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَدِلَّتِهَا. وَأَمَّا الدَّلِيلُ الثَّانِي، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ»، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى بَاطِلٍ. فَاجْتِمَاعُهُمْ عَلَى حُسْنِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِهِ شَرْعًا، لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ يَتَضَمَّنُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، فَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ فَلَا يُسْمَعُ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُرَدْ بِهِ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ وَأُرِيدَ بَعْضُهُمْ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانُ الْعَوَامِّ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ اسْتِحْسَانُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ.

فصل رد شبهة استفتاء القلب

ثُمَّ إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الْمُسْتَحْسَنَ بِالْفَرْضِ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْأَدِلَّةِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ حَذَرًا مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَعْرِفُهَا. قِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ اسْتِحْسَانٌ يَنْشَأُ عَنِ الْأَدِلَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ قَصَرُوا أَحْكَامَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ وَفَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ. فَالْحَاصِلُ أنَّ تَعَلُّقَ الْمُبْتَدِعَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ تَعَلُّقٌ بِمَا لَا يُغْنِيهِمْ وَلَا يَنْفَعُهُمُ الْبَتَّةَ، لَكِنْ رُبَّمَا يَتَعَلَّقُونَ فِي آحَادِ بِدْعَتِهِمْ بِآحَادٍ شُبَهٍ سَتُذْكَرُ فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا قَدْ مَضَى. [فَصْلٌ رَدُّ شُبْهَةِ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ] فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيِسَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ وَيَحِيكُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَا غَيْرُ صَرِيحٍ؟ فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ، إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ». وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَيْهِ»، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ

مَا الْإِيمَانُ؟. . . . . . . قَالَ: إِذَا حَاكَ شَيْءٌ فِي صَدْرِكَ فَدَعْهُ». وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»، وَعَنْ وَابِصَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: يَا وَابِصَةُ! اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» وَخَرَّجَ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا يَحِلُّ لِي مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَسْكُتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: ـ وَنَقَرَ

بِإِصْبَعِهِ ـ: مَا أَنْكَرَ قَلْبُكَ فَدَعْهُ». وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الْإِثْمُ حُوَازُّ الْقُلُوبِ، فَمَا حَاكَ مِنْ شَيْءٍ فِي قَلْبِكَ فَدَعْهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهِ نَظْرَةٌ فَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ مَطْمَعًا، وَقَالَ أَيْضًا: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ»، «فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: أَنَّ الْخَيْرَ طُمَأْنِينَةٌ، وَأَنَّ الشَّرَّ رِيبَةٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، وَقَالَ شُرَيْحٌ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى لَا مَا يَرِيبُكَ، فَوَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ. فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ ظَهَرَ مِنْ مَعْنَاهَا الرُّجُوعُ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى مَا يَقَعُ بِالْقَلْبِ وَيَهْجِسُ بِالنَّفْسِ وَيَعْرِضُ بِالْخَاطِرِ، وَأَنَّهُ إِذَا اطْمَأَنَّتِ النَّفْسُ إِلَيْهِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ، وَإِذَا تَوَقَّفَتْ أَوِ ارْتَابَتْ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ، وَهُوَ عَيْنُ مَا وَقَعَ إِنْكَارُهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي يَقَعُ بِالْقَلْبِ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الْخَاطِرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَالِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ أَوْ كَانَ هَذَا التَّقْرِيرُ مُقَيَّدًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَحِلَّ بِهِ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ وَلَا عَلَى مَا يَقَعُ بِالْقُلُوبِ، مَعَ أَنَّهُ عِنْدَكُمْ عَبَثٌ وَغَيْرُ مُفِيدٍ، كَمَنْ يُحِيلُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْأُمُورِ الْوِفَاقِيَّةِ، أَوِ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِاسْتِحْسَانِ الْعُقُولِ

وَمَيْلِ النُّفُوسِ أَثَرًا فِي شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا قَدْ زَعَمَ الطَّبَرِيُّ فِي " تَهْذِيبِ الْآثَارِ " أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ قَالُوا بِتَصْحِيحِهَا، وَالْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهَا. وَأَتَى بِالْآثَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ آخَرِينَ الْقَوْلَ بِتَوْهِينِهَا وَتَضْعِيفِهَا وَإِحَالَةِ مَعَانِيهَا. وَكَلَامُهُ وَتَرْتِيبُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ لَائِقٌ أَنْ يُؤْتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ عَلَى تَحَرِّي مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ لِطُولِهِ، فَحَكَى عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا شَيْءَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَصٍّ عَلَيْهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ حَلَالًا فَعَلَى الْعَامِلِ بِهِ إِذَا كَانَ عَالِمًا تَحْلِيلُهُ، أَوْ حَرَامًا فَعَلَيْهِ تَحْرِيمُهُ، أَوْ مَكْرُوهًا غَيْرَ حَرَامٍ فَعَلَيْهِ اعْتِقَادُ التَّحْلِيلِ أَوِ التَّرْكِ تَنْزِيهًا. فَأَمَّا الْعَامِلُ بِحَدِيثِ النَّفْسِ وَالْعَارِضِ فِي الْقَلْبِ فَلَا، فَإِنَّ اللَّهَ حَظَرَ ذَلِكَ عَلَى نَبِيِّهِ فَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] فَأَمَرَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ لَا بِمَا رَآهُ وَحَدَّثَتْهُ بِهِ نَفْسُهُ، فَغَيْرُهُ مِنَ الشِّرْكِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ جَاهِلًا فَعَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْعُلَمَاءِ دُونَ مَا حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ. وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ فَهُوَ كَذَلِكَ، وَمَا سُكِتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُتَّبَعَ آثَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَلَا يُتَّبَعَ الرَّأْيُ، فَإِنَّهُ مَتَى مَا اتَّبَعَ الرَّأْيَ جَاءَهُ رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى فِي الرَّأْيِ مِنْهُ فَاتَّبَعَهُ، فَكُلَّمَا غَلَبَهُ رَجُلٌ اتَّبَعَهُ، أَرَى أَنَّ هَذَا بَعْدُ لَمْ يَتِمَّ. وَاعْمَلُوا مِنَ الْآثَارِ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي إِذَا اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الْحَوْضِ». وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ [شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ]ـ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الْقُرْآنِ، فَخَرَجَ وَوَجْهُهُ أَحْمَرُ كَالدَّمِ فَقَالَ: يَا قَوْمُ! عَلَى هَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ جَادَلُوا فِي الْقُرْآنِ وَضَرَبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَمَا كَانَ مِنْ حَلَالٍ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَرَامٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ، وَمَا كَانَ مِنْ مُتَشَابِهٍ فَآمِنُوا بِهِ». وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ يَرْفَعُهُ قَالَ: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فِيهِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهَ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ

نَسِيًّا} [مريم: 64]». قَالُوا: فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَرَدَتْ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْعَامِلَ بِهِ لَنْ يَضِلَّ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ فِي الْعَمَلِ بِمَعْنًى ثَالِثٍ غَيْرِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ ثَمَّ ثَالِثٌ لَمْ يَدَعْ بَيَانَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا ثَالِثَ، وَمَنِ ادَّعَاهُ فَهُوَ مُبْطِلٌ. قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَنَّ لِأُمَّتِهِ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ قَوْلُهُ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ» وَقَوْلُهُ: «الْإِثْمُ حُوَّازُ الْقُلُوبِ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، قُلْنَا: لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ لَكَانَ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِأَمْرِهِ بِالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِذْ صَحَّا مَعًا، لِأَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ تَرِدْ بِمَا اسْتَحْسَنَتْهُ النُّفُوسُ وَاسْتَقْبَحَتْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ وَجْهًا ثَالِثًا لَوْ خَرَجَ شَيْءٌ مِنَ الدِّينِ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ بِخَارِجٍ، فَلَا ثَالِثَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ» وَنَحْوَهُ أَمْرًا لِمَنْ لَيْسَ فِي مَسْأَلَتِهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ، فَيُعَدُّ وَجْهًا ثَالِثًا. قُلْنَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأُمُورٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِعَيْنِهِ قَدْ نُصِبَتْ عَلَى حُكْمِهِ دَلَالَةٌ، فَلَوْ كَانَ فَتْوَى الْقَلْبِ وَنَحْوِهِ دَلِيلًا لَمْ يَكُنْ لِنَصْبِ الدَّلَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ مَعْنًى، فَيَكُونُ عَبَثًا، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. فَأَمَرَ الْمُتَنَازِعِينَ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ دُونَ حَدِيثِ النُّفُوسِ وَفُتْيَا الْقُلُوبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. فَأَمَرَهُمْ بِمَسْأَلَةِ أَهْلِ الذِّكْرِ لِيُخْبِرُوهُمْ بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَسْتَفْتُوا فِي ذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ احْتِجَاجًا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَحْدَانِيَّتَهُ: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]. إِلَى آخِرِهَا. فَأَمَرَهُمْ بِالِاعْتِبَارِ بِعِبْرَتِهِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِأَدِلَّتِهِ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَسْتَفْتُوا فِيهِ نُفُوسَهُمْ، وَيَصُدُّوا عَمَّا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ قُلُوبُهُمْ، وَقَدْ وَضَعَ الْأَعْلَامَ وَالْأَدِلَّةَ، فَالْوَاجِبُ فِي كُلِّ مَا وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ الدَّلَالَةَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِأَدِلَّتِهِ عَلَى مَا دَلَّتْ، دُونَ فَتْوَى النُّفُوسِ وَسُكُونِ الْقُلُوبِ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ. وَهَذَا مَا حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَمَّنْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ اخْتَارَ إِعْمَالَ تِلْكَ

الْأَحَادِيثِ، إِمَّا لِأَنَّهَا صَحَّتْ عِنْدَهُ أَوْ صَحَّ مِنْهَا عِنْدَهُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَانِيهَا، كَحَدِيثِ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ الْإِمَامَانِ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهَا فِي كُلٍّ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي تَشْرِيعِ الْأَعْمَالِ وَإِحْدَاثِ التَّعَبُّدَاتِ، فَلَا يُقَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَاثِ الْأَعْمَالِ: إِذَا اطْمَأَنَّتْ نَفْسُكَ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ فَهُوَ بِرٌّ، أَوِ: اسْتَفْتِ قَلْبِكَ فِي إِحْدَاثِ هَذَا الْعَمَلِ، فَإِنِ اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ نَفْسُكَ فَاعْمَلْ بِهِ وَإِلَّا فَلَا. وَكَذَلِكَ فِي النِّسْبَةِ إِلَى التَّشْرِيعِ التُّرْكِيِّ، لَا يَتَأَتَّى تَنْزِيلُ مَعَانِي الْأَحَادِيثِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُقَالَ: إِنِ اطْمَأَنَّتْ نَفْسُكَ إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ الْفُلَانِيِّ فَاتْرُكْهُ، وَإِلَّا فَدَعْهُ. أَيْ فَدَعِ التَّرْكَ وَاعْمَلْ بِهِ. وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِعْمَالُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا أَعْمَلَ فِيهِ قَوْلَهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ.» الْحَدِيثَ. وَمَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَمِنْهُ مَا هُوَ بَيِّنُ الْحِلِّيَّةِ وَمَا هُوَ بَيِّنُ التَّحْرِيمِ، وَمَا فِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُشْتَبَهُ الَّذِي لَا يُدْرَى أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ؟ فَإِنَّ تَرْكَ الْإِقْدَامِ أَوْلَى مِنَ الْإِقْدَامِ مَعَ جَهَلَةٍ بِحَالِهِ، نَظِيرَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنِّي لِأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَلَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا»، فَهَذِهِ التَّمْرَةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ إِحْدَى الْحَالَيْنِ: إِمَّا مِنَ الصَّدَقَةِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ حَلَالٌ لَهُ، فَتَرَكَ أَكْلَهَا حَذَرًا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَكَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فِي سَعَةٌ مِنْ تَرْكِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، أَوْ مِمَّا هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ ـ أَنْ يَدَعَ مَا يُرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يُرِيبُهُ، إِذْ يَزُولُ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ الشَّكُّ، كَمَنْ يُرِيدُ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَتُخْبِرُهُ امْرَأَةٌ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْهُ وَإِيَّاهَا وَلَا يَعْلَمُ صِدْقَهَا مَنْ كَذِبِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا أَزَالَ عَنْ نَفْسِهِ الرِّيبَةَ اللَّاحِقَةَ لَهُ بِسَبَبِ إِخْبَارِ الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ تَزَوُّجُهُ إِيَّاهَا بِوَاجِبٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقْدَمَ، فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَى حِلِّيَّةِ تِلْكَ الزَّوْجَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْبُيُوعِ فَلَمْ يَدْرِ أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ؟ فَفِي تَرْكِهِ سُكُونُ النَّفْسِ وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ، كَمَا فِي الْإِقْدَامِ شَكٌّ: هَلْ هُوَ آثِمٌ أَمْ لَا؟ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّوَّاسِ وَوَابِصَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الْمُشْتَبِهَاتِ، لَا مَا ظَنَّ أُولَئِكَ مِنْ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلْجُهَّالِ أَنْ يَعْلَمُوا بِمَا رَأَتْهُ أَنْفُسُهُمْ، وَيَتْرُكُوا مَا اسْتَقْبَحُوهُ دُونَ أَنْ يَسْأَلُوا عُلَمَاءَهُمْ. قَالَ الطَّبَرِيُّ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتَ عَلِيَّ حَرَامٌ. فَسَأَلَ الْعُلَمَاءَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ بَانَتْ مِنْكَ بِالثَّلَاثِ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا حَلَالٌ غَيْرَ أَنَّ عَلَيْكَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ إِلَى نِيَّتِهِ إِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ. أَوِ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ. أَوْ يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ: أَيَكُونُ هَذَا اخْتِلَافًا فِي الْحُكْمِ كَإِخْبَارِ الْمَرْأَةِ بِالرِّضَاعِ فَيُؤْمَرُ هُنَا بِالْفِرَاقِ، كَمَا يُؤْمَرُ هُنَاكَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ أَوْ لَا؟ قِيلَ: حُكْمُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ ثُمَّ يُقَلِّدُ الْأَرْجَحَ. فَهَذَا مُمْكِنٌ، وَالْحَزَّازَةُ مُرْتَفِعَةٌ بِهَذَا الْبَحْثِ.

فصل فتاوى القلوب وما اطمأنت إليه النفوس هل هي معتبرة في الأحكام الشرعية

بِخِلَافِ مَا إِذَا بَحَثَ مَثَلًا عَنْ أَحْوَالِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ الْحَزَّازَةَ لَا تَزُولُ وَإِنْ أَظْهَرَ الْبَحْثُ أَنَّ أَحْوَالَهَا غَيْرُ حَمِيدَةٍ، فَهُمَا عَلَى هَذَا مُخْتَلِفَانِ. وَقَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْحُكْمِ إِذَا بَحَثَ عَنِ الْعُلَمَاءِ فَاسْتَوَتْ أَحْوَالُهُمْ عِنْدَهُ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ تَرْجِيحٌ لِأَحَدِهِمْ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ الِاجْتِنَابِ كَالْمَعْمُولِ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُخْبِرَةِ بِالرَّضَاعِ سَوَاءٌ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. انْتَهَى مَعْنَى كَلَامِ الطَّبَرِيِّ. وَقَدْ أَثْبَتَ فِي مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنَّهُ غَيْرُ مُخَيَّرٍ، بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ مَنِ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَلَمْ يَدْرِ أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ؟ فَلَا خَلَاصَ لَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ إِلَّا بِاتِّبَاعِ أَفْضَلِهَا وَالْعَمَلُ بِمَا أَفْتَى بِهِ. وَإِلَّا فَالتُّرْكُ. إِذْ لَا تَطْمَئِنُّ النَّفْسُ إِلَّا بِذَلِكَ حَسْبَمَا اقْتَضَتْهُ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ. [فَصْلٌ فَتَاوَى الْقُلُوبِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ هَلْ هِيَ مُعْتَبِرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ] ثُمَّ يَبْقَى فِي هَذَا الْفَصْلِ الَّذِي فَرَغْنَا مِنْهُ إِشْكَالٌ عَلَى كُلِّ مَنِ اخْتَارَ اسْتِفْتَاءَ الْقَلْبِ مُطْلَقًا أَوْ بِقَيْدٍ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ الطَّبَرِيُّ. وَذَكِّ أَنَّ حَاصِلَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي أَنَّ فَتَاوَى الْقُلُوبِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ التَّشْرِيعُ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ الْقَلْبُ مُجَرَّدًا عَنِ الدَّلِيلِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً أَوْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً فَهُوَ خِلَافُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَخْبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فَقَدْ صَارَ ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَا نَفَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تُعْتَبَرُ فِي الْإِحْجَامِ دُونَ الْإِقْدَامِ. لَمْ تَخْرُجْ تِلْكَ عَنْ

الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فِعْلٌ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ، وَقَدْ عُلِّقَ ذَلِكَ بِطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ عَدَمِ طُمَأْنِينَتِهَا. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٌ، فَهُوَ ذَلِكَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ، بَاقٍ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ. وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي تَحْقِيقِهِ. فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ تَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرَيْنِ: نَظَرٍ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ، وَنَظَرٍ فِي مَنَاطِهِ، فَأَمَّا النَّظَرُ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمَا مِنْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَلَا نَفْيُ رَيْبِ الْقَلْبِ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ اعْتِقَادِ كَوْنِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا أَوْ غَيْرَ دَلِيلٍ. وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ (غَيْرَ ذَلِكَ) إِلَّا أَهْلَ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَسْتَحْسِنُونَ الْأَمْرَ بِأَشْيَاءَ لَا دَلِيلَ (عَلَيْهَا)، أَوْ يَسْتَقْبِحُونَ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ إِلَّا طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا زَعَمُوا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. أ وَأَمَّا النَّظَرُ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْمَنَاطَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَقَطْ، بَلْ يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بُلُوغَ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ فَضْلًا: عَنْ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا سَأَلَ عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ إِذَا فَعَلَهُ الْمُصَلِّي: هَلْ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْعَامِّيُّ: إِنْ كَانَ يَسِيرًا فَمُغْتَفَرٌ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَمُبْطِلٌ، لَمْ يُغْتَفَرْ فِي السَيْرِ إِلَى أَنْ يُحَقِّقَهُ لَهُ الْعَالِمُ. بَلِ الْعَاقِلُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفِعْلِ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ. فَقَدِ انْبَنَى هَاهُنَا الْحُكْمُ ـ وَهُوَ الْبُطْلَانُ أَوْ عَدَمُهُ ـ عَلَى مَا يَقَعُ بِنَفْسٍ الْعَامِّيُّ، وَلَيْسَ وَاحِدًا

مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَا وَقَعَ بِقَلْبِهِ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ لَهُ الْمَنَاطُ بِأَيِّ وَجْهٍ تَحَقَّقَ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَيَقَعُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِدَلِيلِهِ الشَّرْعِيِّ. وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْفَوْرِ فِي الطَّهَارَةِ، وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ فِي التَّفْرِيقِ الْحَاصِلِ أَثْنَاءَ الطَّهَارَةِ، فَقَدْ يَكْتَفِي الْعَامِّيُّ بِذَلِكَ حَسْبَمَا يَشْهَدُ قَلْبُهُ فِي الْيَسِيرِ أَوِ الْكَثِيرِ، فَتَبْطُلُ طَهَارَتَهُ أَوْ تَصِحُّ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْوَاقِعِ فِي الْقَلْبِ، لِأَنَّهُ نَظَرَ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ مَلَكَ لَحْمَ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ حِلِّيَّتَهُ ظَاهِرَةٌ عِنْدَهُ إِذَا حَصَلَ لَهُ شَرْطُ الْحِلِّيَّةِ لِتَحْقِيقِ مَنَاطِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ: أَوْ مَلَكَ لَحْمَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ فَقْدِهِ شَرْطَ الْحِلِّيَّةِ، فَتَحَقَّقَ مَنَاطُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَنَاطَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَقَعَ بِقَلْبِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، لَا بِحَسَبِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّحْمَ قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَيَعْتَقِدُ وَاحِدٌ حِلِّيَّتَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَحَقَّقَ لَهُ مِنْ مَنَاطِهِ بِحَسَبِهِ، وَيَعْتَقِدُ آخَرُ تَحْرِيمَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَحَقَّقَ لَهُ مِنْ مَنَاطِهِ بِحَسَبِهِ، فَيَأْكُلُ أَحَدُهُمَا حَلَالًا وَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِ الِاجْتِنَابُ، لِأَنَّهُ حَرَامٌ؟ وَلَوْ كَانَ مَا يَقَعُ بِالْقَلْبِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمِثَالُ وَكَانَ مُحَالًا، لِأَنَّ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ أَبَدًا. فَإِذَا فَرَضْنَا لَحْمًا أَشْكَلَ عَلَى الْمَالِكِ تَحْقِيقُ مَنَاطِهِ لَمْ يَنْصَرِفْ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ، كَاخْتِلَاطِ الْمَيِّتَةِ بِالذَّكِيَّةِ، وَاخْتِلَاطِ الزَّوْجَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ. فَهَاهُنَا قَدْ وَقَعَ الرَّيْبُ وَالشَّكُّ وَالْإِشْكَالُ وَالشُّبْهَةُ. وَهَذَا الْمَنَاطُ مُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يُبَيِّنُ حُكْمَهُ، وَهِيَ تِلْكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ، كَقَوْلِهِ:

«دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَقَوْلُهُ: «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ» كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِذَا اعْتَبَرْنَا بِاصْطِلَاحِنَا مَا تَحَقَّقْتَ مَنَاطَهُ فِي الْحِلِّيَّةِ أَوِ الْحُرْمَةِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ بَيِّنٌ. وَمَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ تَحْقِيقُهُ فَاتْرُكْهُ وَإِيَّاكَ وَالتَّلَبُّسَ بِهِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ـ إِنْ صَحَّ ـ: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ» فَإِنَّ تَحْقِيقَكَ لِمَنَاطِ مَسْأَلَتِكَ أَخَصُّ بِكَ مِنْ تَحْقِيقِ غَيْرِكَ لَهُ إِذَا كَانَ مِثْلَكَ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ الْمَنَاطُ وَلَمْ يُشْكِلْ عَلَى غَيْرِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ مَا عَرَضَ لَكَ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «وَإِنْ أَفْتَوْكَ» أَيْ إِنْ نَقَلُوا إِلَيْكَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فَاتْرُكْهُ وَانْظُرْ مَا يُفْتِيكَ بِهِ قَلْبُكَ، فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ، وَتَقَوُّلٌ عَلَى التَّشْرِيعِ الْحَقِّ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ. نَعَمْ قَدْ لَا يَكُونُ لَكَ دُرْبَةٌ أَوْ أُنْسٌ لَكَ فَيُحَقِّقُهُ لَكَ غَيْرُكَ، وَتَقَلِّدُهُ فِيهِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَدِيثِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَلَى تَعْرِيفِ الشَّارِعِ، كَحَدِّ الْغِنَى الْمُوجِبِ لِلزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَحَقَّقَهُ الشَّارِعُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ هُنَا فِيمَا وُكِلَ تَحْقِيقُهُ إِلَى الْمُكَلَّفِ. فَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِاقْتِنَاصِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ مَيْلِ الْقَلْبِ كَمَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ الْمُسْتَشْكِلُ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ بَالِغٌ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنَعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ.

الباب التاسع في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين

[الْبَابُ التَّاسِعُ فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ افْتَرَقَتْ فِرَقُ الْمُبْتَدَعَةِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ] [سَبَبُ الِاخْتِلَافِ إِمَّا رَاجِعٌ لِسَابِقِ الْقَدَرِ وَإِمَّا كَسْبِيٌّ] فَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ وَكَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ أَشْعَرَتْ بِوَصْفٍ لِأَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَهُوَ الْفِرْقَةُ الْحَاصِلَةُ، حَتَّى يَكُونُوا بِسَبَبِهَا شِيَعًا مُتَفَرِّقَةً، لَا يَنْتَظِمُ شَمْلَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَحَكَمَ لَهُمْ بِحُكْمِهِ. أَلَّا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم: 31] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَصْفِ التَّفَرُّقِ؟ وَفِي الْحَدِيثِ: «وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» وَالتَّفَرُّقُ نَاشِئٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ؛ إِنْ جَعْلَنَا التَّفَرُّقَ مَعْنَاهُ بِالْأَبْدَانِ ـ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ ـ وَإِنْ جَعْلَنَا مَعْنَى التَّفَرُّقِ فِي الْمَذَاهِبِ، فَهُوَ

الِاخْتِلَافُ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105]. لِلِاخْتِلَافِ سَبَبَانِ: كَسْبِيٌّ، وَغَيْرُ كَسْبِيٍّ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا سَبَبُهُ؟ وَلَهُ سَبَبَانِ: (أَحَدُهُمَا): لَا كَسْبَ لِلْعِبَادَةِ فِيهِ، وَهُوَ الرَّاجِعُ إِلَى سَابِقِ الْقَدَرِ، وَالْآخَرُ هُوَ الْكَسْبِيُّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ، إِلَّا أَنْ نَجْعَلَ السَّبَبَ الْأَوَّلَ مُقَدِّمَةً، فَإِنَّ فِيهَا مَعْنًى أَصِيلًا يَجِبُ التَّثَبُّتُ لَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّفَقُّهَ فِي الْبِدَعِ. فَنَقُولُ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ أَبَدًا، مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مُتَّفِقِينَ لَكَانَ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا لَكِنْ سَبَقَ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] مَعْنَاهُ: وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: خَلَقَهُمْ لِيَكُونُوا فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي السَّعِيرِ. وَنَحْوَهُ عَنِ الْحَسَنِ فَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُمْ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ إِلَّا مَا سَبَقَ فِي الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا الِاخْتِلَافُ فِي الصُّوَرِ كَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ

من أسباب الخلاف الاختلاف في أصل النحلة

وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَلَا فِي الْأَلْوَانِ كَالْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَلَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالتَّامِّ الْخَلْقِ وَالنَّاقِصِ الْخَلْقِ وَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، وَالْأَصَمِّ وَالسَّمِيعِ، وَلَا فِي الْخُلُقِ كَالشُّجَاعِ وَالْجَبَانِ، وَالْجَوَادِ وَالْبَخِيلِ، وَلَا فِيمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ اخْتِلَافٌ آخَرُ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ لِيَحْكُمُوا فِيهِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} [البقرة: 213] الْآيَةَ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي الْآرَاءِ وَالنِّحَلِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا يَسْعَدُ الْإِنْسَانُ بِهِ أَوْ يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا. [مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ النِّحْلَةِ] هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الْخَلْقِ، أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ النِّحْلَةِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ قَالَ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118] قَالَ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، وَالْحَنِيفِيَّةُ ـ وَهُمُ الَّذِينَ رَحِمَ رَبُّكَ ـ الْحَنِيفِيَّةُ، خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لِبَادِيِ الرَّأْيِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ هُوَ فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّوَجُّهُ لِلْوَاحِدِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ لَهُمْ مُدَبِّرًا يُدَبِّرُهُمْ وَخَالِقًا

أَوَجَدَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ عَلَى آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ. مِنْ قَائِلٍ بِالِاثْنَيْنِ وَبِالْخَمْسَةِ، وَبِالطَّبِيعَةِ أَوِ الدَّهْرِ، أَوْ بِالْكَوَاكِبِ، إِلَى أَنْ قَالُوا بِالْآدَمِيِّينَ وَالشَّجَرِ وَالْحِجَارَةِ وَمَا يَنْحِتُونَ بِأَيْدِيهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ الْحَقِّ لَكِنْ عَلَى آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ أَيْضًا. إِلَى أَنْ بَعْثَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ مُبَيِّنِينَ لِأُمَمِهِمْ حَقَّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَاطِلِهِ، فَعَرَفُوا بِالْحَقِّ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَنَزَّهُوا رَبَّ الْأَرْبَابِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنْ نِسْبَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَإِضَافَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ، فَأَقَرَّ بِذَلِكَ مَنْ أَقَرَّ بِهِ، وَهُمُ الدَّاخِلُونَ تَحْتَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] وَأَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ، فَصَارَ إِلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] وَإِنَّمَا دَخَلَ الْأَوَّلُونَ تَحْتَ وَصْفِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ وَصْفِ الِاخْتِلَافِ إِلَى وَصْفِ الْوِفَاقِ وَالْأُلْفَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 119] خَلَقَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا. وَهُوَ مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَطَاوُسَ فِي جَامِعِهِ، وَبَقِيَ الْآخَرُونَ عَلَى وَصْفِ الِاخْتِلَافِ، إِذْ خَالَفُوا الْحَقَّ الصَّرِيحَ، وَنَبَذُوا الدِّينَ الصَّحِيحَ. وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا قَالَ: الَّذِينَ رَحِمَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]

إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] وَمَعْنَى ذَلِكَ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ فَأَخْبَرَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَتَّفِقُوا، فَبَعَثَ النَّبِيِّينَ لِيَحْكُمُوا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «نَحْنُ الْآخَرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مَنْ قَبِلْنَا وَأُوتِينَاهُ مَنْ بَعْدِهِمْ، هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ». وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] فَهَذَا يَوْمُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213]. وَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةَ فَاتَّخَذَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ وَاتَّخَذَ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَوْمِ الْجُمْعَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِبْلَةِ فَاسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ، وَاسْتَقْبَلَتِ الْيَهُودُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهَدَى اللَّهُ أَمَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقِبْلَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَعُ وَلَا يَسْجُدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ

وَلَا يَرْكَعُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي، وَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى نَصْرَانِيًّا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ حَنِيفًا مُسْلِمًا، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَفَرَتْ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لِأُمِّهِ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا وَوَلَدًا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ رَوْحَهُ وَكَلِمَتَهُ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ. وَالثَّانِي ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَّفِقِينَ قَدْ يَعْرِضُ لَهُمُ الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ الْقَصْدِ الثَّانِي لَا الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكِيمٌ بِحِكْمَتِهِ أَنْ تَكُونَ فُرُوعُ هَذِهِ الْمِلَّةِ قَابِلَةً لِلْأَنْظَارِ وَمَجَالًا لِلظُّنُونِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ النُّظَّارِ أَنَّ النَّظَرِيَّاتِ لَا يُمْكِنُ الِاتِّفَاقُ فِيهَا عَادَةً، فَالظَّنِّيَّاتُ عَرِيقَةٌ فِي إِمْكَانِ الِاخْتِلَافِ، لَكِنْ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ وَفِي الْجُزْئِيَّاتِ دُونَ الْكُلِّيَّاتِ، فَلِذَلِكَ لَا يَضُرُّ هَذَا الِاخْتِلَافُ. وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا يَضُرُّهُمْ. يَعْنِي لِأَنَّهُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا بِقَطْعِ الْعُذْرِ، بَلْ لَهُمْ فِيهِ أَعْظَمُ الْعُذْرِ، وَمَعَ أَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَاقِعٌ،

أَتَى فِيهِ بِأَصْلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الْآيَةَ، فَكُلُّ اخْتِلَافٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ رَدُّهُ إِلَى كِتَابِهِ، وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ رَدُّهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ حَيًّا وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْعُلَمَاءُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ. إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَلْ هُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] أَمْ لَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ مُقْتَضَاهَا أَهْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ أَنَّ أَهْلَ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِينَ مُبَايِنُونَ لِأَهْلِ الرَّحْمَةِ لِقَوْلِهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118] فَإِنَّهَا اقْتَضَتْ قِسْمَيْنِ: أَهْلُ الِاخْتِلَافِ، وَالْمَرْحُومِينَ، فَظَاهِرُ التَّقْسِيمِ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ وَإِلَّا كَانَ قَسْمُ الشَّيْءِ قَسِيمًا لَهُ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ وَصْفَ الِاخْتِلَافِ لَازِمٌ لَهُمْ، حَتَّى أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُشْعِرِ بِالثُّبُوتِ، وَأَهْلُ الرَّحْمَةِ مُبَرَّءُونَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ وَصْفَ الرَّحْمَةِ يُنَافِي الثُّبُوتَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، بَلْ إِنْ خَالَفَ أَحَدُهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ فَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهَا تَحَرِّيًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِيهَا رَاجَعَ نَفْسَهُ وَتَلَافَى

أَمْرَهُ، فَخِلَافُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالْعَرْضِ لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَكُنْ وَصْفُ الِاخْتِلَافِ لَازِمًا وَلَا ثَابِتًا، فَكَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي الْعِلَاجَ وَالِانْقِطَاعَ أَلْيَقَ فِي الْمَوْضِعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَا نَقْطَعُ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَاقِعٌ مِمَّنْ حَصَلَ لَهُ مَحْضُ الرَّحْمَةِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ إِدْخَالُهُمْ فِي قِسْمِ الْمُخْتَلِفِينَ بِوَجْهٍ، فَلَوْ كَانَ الْمُخَالِفُ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَعْدُودًا مَنْ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ ـ وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا ـ لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ: أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ. وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَعَلُوا اخْتِلَافَ الْأُمَّةِ فِي الْفُرُوعِ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الرَّحْمَةِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ خَارِجًا مَنْ قِسْمِ أَهْلِ الرَّحْمَةِ. وَبَيَانُ كَوْنِ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ رَحْمَةً مَا رُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: لَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَمَلِ، لَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ بِعَمَلِ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَّا رَأَى أَنَّهُ فِي سَعَةٍ. وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَجَاءَ قَالَ: اجْتَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ فَجَعَلَا يَتَذَاكَرَانِ الْحَدِيثَ ـ قَالَ ـ فَجَعَلَ عُمَرُ يَجِيءُ بِالشَّيْءِ يُخَالِفُ فِيهِ الْقَاسِمَ ـ قَالَ ـ وَجَعَلَ الْقَاسِمُ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا تَفْعَلُ! فَمَا يَسُرُّنِي بِاخْتِلَافِهِمْ حُمْرُ النَّعَمِ.

وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا قَالَ: لَقَدْ أَعْجَبَنِي قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا أَحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْتَلِفُونَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلًا وَاحِدًا لَكَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ، وَإِنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، فَلَوْ أَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ كَانَ سِعَةً. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ فَتَحُوا لِلنَّاسِ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَفْتَحُوهُ لَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي ضِيقٍ، لِأَنَّ مَجَالَ الِاجْتِهَادِ وَمَجَالَاتِ الظُّنُونِ لَا تَتَّفِقُ عَادَةً ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ فَيَصِيرُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ مَعَ تَكْلِيفِهِمْ بِاتِّبَاعِ مَا غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ مُكَلَّفِينَ بِاتِّبَاعِ خِلَافِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الضِّيقِ. فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَّةِ بِوُجُودِ الْخِلَافِ الْفُرُوعِي فِيهِمْ، فَكَانَ فَتْحُ بَابِ لِلْأُمَّةِ لِلدُّخُولِ فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُونَ فِي قِسْمِ مَنْ (رَحِمَ رَبُّكَ)؟! فَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْفُرُوعِ كَاتِّفَاقِهِمْ فِيهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَبَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَاسِطَةٌ أَدْنَى مِنَ الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَأَعْلَى مِنَ الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَيَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي بَعْضِ قَوَاعِدِهِ الْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّفَرُّقِ شِيَعًا. فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَنْتَظِمُ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ أُمَّتَهُ تَفْتَرِقُ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً»، وَأَخْبَرَ: «أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَتَّبِعُ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ»، وَشَمِلَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ فِي الْأُمَمِ قَبِلْنَا، وَيُرَشِّحُهُ وَصْفُ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالضَّلَالَةِ وَإِيعَادُهُمْ بِالنَّارِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْ

تَمَامِ الرَّحْمَةِ. وَلَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرِيصًا عَلَى أُلْفَتِنَا وَهِدَايَتِنَا، حَتَّى ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ ـ فَقَالَ: «هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَمَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا كَثُرَ اللَّغَطُ وَالِاخْتِلَافُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُومُوا عَنِّي فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ». فَكَانَ ذَلِكَ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ كَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لَمْ يَضِلُّوا بَعْدَهُ الْبَتَّةَ، فَتَخْرُجُ الْأُمَّةُ عَنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] بِدُخُولِهَا تَحْتَ قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمَهُ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ كَمَا اخْتَلَفَ غَيْرُهُمْ. رَضِيَنَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُمِيتَنَا عَلَى ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخْتَلِفِينَ فِي الْآيَةِ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَأَنَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أَهْلُ السُّنَّةِ،

وَلَكِنْ لِهَذَا الْكِتَابِ أَصْلٌ يَرْجِعُ إِلَى سَابِقِ الْقَدَرِ لَا مُطْلَقًا، بَلْ مَعَ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُحْتَمِلُ الْعِبَارَةِ لِلتَّأْوِيلِ، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْ بَسْطِهِ. فَاعْلَمُوا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي بَعْضِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لَا يَقَعُ فِي الْعَادِيَّاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْمُتَبَحِّرِينَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ الْخَائِضِينَ فِي لُجَّتِهَا الْعُظْمَى، الْعَالِمَيْنِ بِمَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَعَامَّةُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِسْمِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ آنِفًا، بَلْ كُلٌّ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ أَسْبَابٌ ثَلَاثَةٌ قَدْ تَجْتَمِعُ وَقَدْ تَفْتَرِقُ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ ـ وَلَمْ يَبْلُغْ تِلْكَ الدَّرَجَةَ ـ فَيَعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَعُدُّ رَأْيَهُ رَأْيًا وَخِلَافُهُ خِلَافًا، وَلَكِنْ تَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ فِي جُزْئِيٍّ وَفَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ـ كَانَ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ أَوْ مِنَ الْأُصُولِ الْعَمَلِيَّةِ ـ فَتَارَةً آخِذًا بِبَعْضِ جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ فِي هَدْمِ كُلِّيَّاتِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مِنْهَا مَا ظَهَرَ لَهُ بَادِيَ رَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ بِمَعَانِيهَا وَلَا رُسُوخٍ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُبْتَدَعُ، وَعَلَيْهِ نَبَّهَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَقْبِضُ اللَّهُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا

فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا». قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَقْدِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ مِنْ قِبَلِ عُلَمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا يُؤْتَوْنَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ عُلَمَاؤُهُمْ أَفْتَى مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ. فَيُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِهِ، وَقَدْ صُرِّفَ هَذَا الْمَعْنَى تَصْرِيفًا، فَقِيلَ: مَا خَانَ أَمِينٌ قَطُّ وَلَكِنَّهُ ائْتَمَنَ غَيْرَ أَمِينٍ فَخَانَ. قَالَ وَنَحْنُ نَقُولُ: مَا ابْتَدَعَ عَالِمٌ قَطُّ، وَلَكِنَّهُ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ. قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: بَكَى رَبِيعَةُ يَوْمًا بُكَاءً شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ: مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِكَ؟ فَقَالَ لَا! وَلَكِنِ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَبْلَ السَّاعَةِ سِنُونَ خِدَاعًا، يُصَدَّقُ فِيهِنَّ الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهِنَّ الصَّادِقُ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ، وَيَنْطِقُ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ»

قَالُوا: هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الْحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ الْعَامَّةِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ الْعَامَّةِ فَيَتَكَلَّمُ.

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ مَتَى يَهْلِكُ النَّاسُ! إِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قَبِلَ الصَّغِيرِ اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَإِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قِبَلِ الْكَبِيرِ تَابَعَهُ الصَّغِيرُ فَاهْتَدَيَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَرَادَ عُمَرُ بِالصِّغَارِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ، لِأَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ أَصَاغِرُ فِي الْعِلْمِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَارُوا أَهْلَ بِدَعٍ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَصَاغِرُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَسْتَشِيرُ الصِّغَارَ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَهْلُ مُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا وَشُبَّانًا. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَصَاغِرِ مَنْ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا حَالَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَبْذِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ. فَأَمَّا مَنِ الْتَزَمَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْمُوَ أَمْرُهُ، وَيَعْظُمُ قَدْرُهُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ بِسَنَدٍ مَقْطُوعٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَالْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ، فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ طَلَبًا لَا يَضُرُّ بِتَرْكِ الْعِبَادَةِ، فَاطْلُبُوا الْعِبَادَةَ طَلَبًا لَا يَضُرُّ بِتَرْكِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْعِبَادَةَ وَتَرَكُوا الْعِلْمَ

من أسباب الخلاف اتباع الهوى

حَتَّى خَرَجُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لَمْ يَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا ـ يَعْنِي الْخَوَارِجَ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَنَّهُمْ قَرَؤُوا الْقُرْآنَ وَلَمْ يَتَفَقَّهُوا فِيهِ حَسْبَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ. «يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ». وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ قَالَ: تَفَقُّهُ الرِّعَاعِ فَسَادُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَتَفَقُّهُ السَّفَلَةِ فَسَادُ الدِّينِ. وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ النَّبْطَ يَكْتُبُونَ الْعِلْمَ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! أَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَ هَؤُلَاءِ يَكْتُبُونَ الْعِلْمَ يَشْتَدُّ عَلَيْكَ. قَالَ: كَانَ الْعِلْمُ فِي الْعَرَبِ وَفِي سَادَاتِ النَّاسِ، وَإِذَا خَرَجَ عَنْهُمْ وَصَارَ إِلَى هَؤُلَاءِ النَّبْطِ وَالسَّفَلَةِ غُيِّرَ الدِّينُ. وَهَذِهِ الْآثَارُ أَيْضًا إِذَا حُمِلَتْ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ اشْتَدَّتْ وَاسْتَقَامَتْ، لِأَنَّ ظَوَاهِرَهَا مُشَكَّلَةٌ، وَلَعَلَّكَ إِذَا اسْتَقْرَيْتَ أَهْلَ الْبِدَعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَوْ أَكْثَرَهُمْ وَجَدْتَهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ سَبَايَا الْأُمَمِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ أَصَالَةٌ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَعَمَّا قَرِيبٍ يُفْهَمُ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ فَهِمَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا. [مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ اتِّبَاعُ الْهَوَى] وَالثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَهْلُ الْبِدَعِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَلَمْ يَأْخُذُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْهَا، بَلْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى آرَائِهِمْ، ثُمَّ جَعَلُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْظُورًا فِيهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ،

وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَمِنْ مَالَ إِلَى الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي غِمَارِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَخْشَى السَّلَاطِينَ لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُمْ، أَوْ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَمِيلَ مَعَ النَّاسِ بِهَوَاهُمْ، وَيَتَأَوَّلَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَرَادُوا، حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ وَنَقَلَهُ مِنْ مُصَاحِبِي السَّلَاطِينُ. فَالْأَوَّلُونَ رَدُّوا كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِعُقُولِهِمِ، وَأَسَاؤُوا الظَّنَّ بِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَسَّنُوا ظَنَّهُمْ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، حَتَّى رَدُّوا كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا مِنَ الصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ، وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ، وَالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ الْجِسْمِيَّيْنِ، وَأَنْكَرُوا رُؤْيَةَ الْبَارِي، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، بَلْ صَيَّرُوا الْعَقْلَ شَارِعًا جَاءَ الشَّرْعُ أَوْ لَا، بَلْ إِنْ جَاءَ فَهُوَ كَاشِفٌ لِمُقْتَضَى مَا حَكَمَ بِهِ الْعَقْلُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّنَاعَاتِ. وَالْآخَرُونَ خَرَجُوا عَنِ الْجَادَّةِ إِلَى الْبَنِيَّاتِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِطَلَبِ الشَّرِيعَةِ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَغْلِبَ عَدْوُهُ، أَوْ يُفِيدَ وَلِيَّهُ، أَوْ يَجُرَّ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، كَمَا ذَكَرُوا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ لُبَابَةَ أَخِي الشَّيْخِ ابْنِ لُبَابَةَ الْمَشْهُورِ، فَإِنَّهُ عُزِلَ عَنِ قَضَاءِ الْبِيرَةِ ثُمَّ عُزِلَ عَنِ الشُّورَى لِأَشْيَاءَ نُقِمَتْ عَلَيْهِ، وَسَجَّلَ بِسَخْطَتِهِ الْقَاضِي حَبِيبُ بْنُ زِيَادَةَ، وَأَمَرَ بِإِسْقَاطِ عَدَالَتِهِ وَإِلْزَامِهِ بَيْتَهُ، وَأَنْ لَا يُفْتِيَ أَحَدًا. ثُمَّ إِنَّ النَّاصِرَ احْتَاجَ إِلَى شِرَاءِ مُجَشِّرٍ مِنْ أَحْبَاسِ الْمَرْضَى بِقُرْطُبَةَ بِعَدْوَةِ النَّهْرِ، فَشَكَا إِلَى الْقَاضِي ابْنِ بَقِيٍّ ضَرُورَتَهُ إِلَيْهِ لِمُقَابَلَتِهِمْ مَنْزَهَهُ،

وَتَأَذِّيهِ بِرُؤْيَتِهِمْ أَوَانَ تَطَلُّعِهِ مِنْ عَلَالِيهِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ بَقِيٍّ: لَا حِيلَةَ عِنْدِي فِيهِ، وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُحَاطَ بِحُرْمَةِ الْحَبْسِ فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ مَعَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَعَرِّفْهُمْ رَغْبَتِي، وَمَا أَجْزَلَهُ مِنْ أَضْعَافِ الْقِيمَةِ فِيهِ. فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَجِدُوا لِي فِي ذَلِكَ رُخْصَةً. فَتَكَلَّمَ ابْنُ بَقِيٍّ مَعَهُمْ فَلَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَغَضِبَ النَّاصِرُ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ الْوُزَرَاءَ بِالتَّوْجِيهِ فِيهِمْ إِلَى الْقَصْرِ، وَتَوْبِيخِهِمْ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ الْوُزَرَاءِ مُكَالَمَةٌ، وَلَمْ يَصِلِ النَّاصِرُ مَعَهُمْ إِلَى مَقْصُودِهِ. وَبَلَغَ ابْنَ لُبَابَةَ هَذَا الْخَبَرُ فَدَفَعَ إِلَى النَّاصِرِ بَعْضًا مِنْ أَصْحَابِهِ الْفُقَهَاءِ وَيَقُولُ: إِنَّهُمْ حَجَرُوا عَلَيْهِ وَاسِعًا. وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا لَأَفْتَاهُ بِجَوَازِ الْمُعَارَضَةِ، وَتَقَلَّدَ حَقًّا وَنَاظَرَ أَصْحَابَهُ فِيهَا. فَوَقَعَ الْأَمْرُ بِنَفْسِ النَّاصِرِ، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ مُحَمَّدِ بْنِ لُبَابَةَ إِلَى الشُّورَى عَلَى حَالَتِهِ الْأَوْلَى، ثُمَّ أَمَرَ الْقَاضِي بِإِعَادَةِ الْمَشُورَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَاجْتَمَعَ الْقَاضِي وَالْفُقَهَاءُ وَجَاءَ ابْنُ لَبَابَةَ آخِرَهُمْ. وَعَرَّفَهُمُ الْقَاضِي ابْنُ بَقِيٍّ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَمَعَهُمْ مِنْ أَجْلِهَا وَغِبْطَةِ الْمُعَاوَضَةِ فِيهَا. فَقَالَ جَمِيعُهُمْ بِقَوْلِهِمُ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ تَغْيِيرِ الْحَبْسِ عَنْ وَجْهِهِ ـ وَابْنِ لُبَابَةَ سَاكِتٌ ـ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: مَا تَقُولُ أَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَمَّا قَوْلُ إِمَامِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فَالَّذِي قَالَهُ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ الْحَبْسَ أَصْلًا، وَهُمْ عُلَمَاءُ أَعْلَامٌ يَقْتَدِي بِهِمْ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ، وَإِذَا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا الْمُجَشِّرِ مَا بِهِ، فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ عَنْهُ، وَلَهُ فِي السُّنَّةِ فُسْحَةٌ، وَأَنَا أَقُولُ بِقَوْلِ أَهَّلِ الْعِرَاقِ، وَأَتَقَلَّدُ ذَلِكَ رَأْيًا. فَقَالَ لَهُ الْفُقَهَاءُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَتْرُكُ قَوْلَ مَالِكٍ الَّذِي أَفْتَى بِهِ أَسْلَافَنَا وَمَضَوْا عَلَيْهِ وَاعْتَقَدْنَاهُ بَعْدَهُمْ وَأَفْتَيْنَا بِهِ لَا نَحِيدُ عَنْهُمْ بِوَجْهٍ، وَهُوَ رَأْيُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ

وَرَأْيُ الْأَئِمَّةِ آبَائِهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: نَاشَدْتُكُمُ اللَّهَ الْعَظِيمَ! أَلَمْ تَنْزِلْ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ مَلَمَّةٌ بَلَغَتْ بِكُمْ أَنْ أَخَذْتُمْ فِيهَا بِغَيْرِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِكُمْ. وَأَرْخَصْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فِي ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى! قَالَ: فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَخُذُوا بِهِ مَأْخَذَكُمْ، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ مَنْ يُوَافِقُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَكُلُّهُمْ قُدْوَةٌ. فَسَكَتُوا. فَقَالَ لِلْقَاضِي: أَنْهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فُتْيَايَ. فَكَتَبَ الْقَاضِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِصُورَةِ الْمَجْلِسِ، وَبَقِيَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِمَكَانِهِمْ إِلَى أَنْ أَتَى الْجَوَابُ بِأَنْ يُؤْخَذَ لَهُ بِفُتْيَا مُحَمَّدِ بْنِ لُبَابَةَ، وَيُنَفَّذَ ذَلِكَ وَيُعَوَّضَ الْمَرْضَى مِنْ هَذَا الْمِجْشَرِ بِأَمْلَاكٍ ثَمِينَةٍ عَجَبٍ، وَكَانَتْ عَظِيمَةَ الْقَدْرِ جِدًّا، تَزِيدُ أَضْعَافًا عَلَى الْمِجْشَرِ. ثُمَّ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ إِلَى ابْنِ لُبَابَةٍ بِوِلَايَةِ خُطَّةِ الْوَثَائِقِ لِيَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِعَقْدِ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ، فَهَنِئَ بِالْوِلَايَةِ، وَأَمْضَى الْقَاضِي الْحُكْمَ بِفَتْوَاهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ وَانْصَرَفُوا، فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ لُبَابَةَ يَتَقَلَّدُ خُطَّةَ الْوَثَائِقِ وَالشُّورَى إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ 336 سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَاكَرْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا مَرَّةً بِهَذَا الْخَبَرِ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي حَلَّ سِجِلَّ السُّخْطَةِ إِلَى سِجِلِّ السُّخْطَةِ، فَهُوَ أَوْلَى وَأَشَدُّ فِي السُّخْطَةِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ ـ أَوْ كَمَا قَالَ. فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَأَوْلَى أَنْ يَنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ فَشَأْنُ مِثْلِ هَذَا لَا يَحُلُّ أَصْلًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَذْهَبُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ لَا يُبْطِلُونَ الْإِحْبَاسَ هَكَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَنْ حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ، فَإِمَّا عَلَى

غَيْرِ تَثْبِيتٍ، وَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ قَوْلًا لَهُمْ رَجَعُوا عَنْهُ، بَلْ مَذْهَبُهُمْ يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ سَلَّمَنَا صِحَّتَهُ فَلَا يَصِحُّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَرْجِعَ فِي حُكْمِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالصُّحْبَةِ وَالْإِمَارَةِ أَوْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، إِنَّمَا التَّرْجِيحُ بِالْوُجُوهِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَكُلُّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى تَقْلِيدِ قَوْلٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ، أَوْ رَجَّحَ بِغَيْرِ مَعْنَى مُعْتَبَرٍ فَقَدْ خَلَعَ الرِّبْقَةَ وَاسْتَنَدَ إِلَى غَيْرِ شَرْعٍ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي الْفُتْيَا مِنْ جُمْلَةِ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ تَحْكِيمَ الْعَقْلِ عَلَى الدِّينِ مُطْلَقًا مُحْدَثٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا وَجْهُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ أَصْلُ الزَّيْغِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7]ـ أَيْ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ ـ {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْآيَةِ، فَمِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا الْوَاضِحَ وَيَتَّبِعُوا الْمُتَشَابِهَ، عَكْسَ مَا عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ وَذُكِرَتِ الْخَوَارِجُ عِنْدَهُ وَمَا يُلْقُونَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: يُؤْمِنُونَ بِمُحَكِّمِهِ، وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ، وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآيَةَ. خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ.

من أسباب الخلاف التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت

وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذِمَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] الْآيَةَ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْهَوَى إِلَّا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ. حَكَى ابْنُ وَهَبٍ عَنْ طَاوُسَ أَنَّهُ قَالَ: مَا ذَكَرَ اللَّهُ هَوًى فِي الْقُرْآنِ إِلَّا ذَمَّهُ، وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَحَكَى أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ عَنِ الْأَهْوَاءِ: أَيُّهَا خَيْرٌ؟ فَقَالَ: مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَمَا هِيَ إِلَّا زِينَةُ الشَّيْطَانِ وَمَا الْأَمْرُ إِلَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ. يَعْنِي مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ. وَخَرَّجَ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ، فَقَالَ: أَنَا عَلَى هَوَاكَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَوَى كُلُّهُ ضَلَالَةٌ: أَيُّ شَيْءٍ أَنَا عَلَى هَوَاكَ؟. [مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ التَّصْمِيمُ عَلَى اتِّبَاعِ الْعَوَائِدِ وَإِنْ فَسَدَتْ] وَالثَّالِثُ مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ التَّصْمِيمُ عَلَى اتِّبَاعِ الْعَوَائِدِ وَإِنْ فَسَدَتْ أَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلْحَقِّ وَهُوَ اتِّبَاعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَالْأَشْيَاخُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَهُوَ التَّقْلِيدُ الْمَذْمُومُ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 24]

وَقَوْلُهُ: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 72] فَنَبَّهَهُمْ عَلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَاسْتَمْسَكُوا بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، فَقَالُوا: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74] وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: «اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا» إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الِاسْتِنَانِ بِالرِّجَالِ كَيْفَ كَانَ. وَفِيمَا يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ، فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ. فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عَمَلِ أَحَدٍ الْبَتَّةَ، حَتَّى يَثْبُتَ فِيهِ وَيَسْأَلَ عَنْ حُكْمِهِ، إِذْ لَعَلَّ الْمُعْتَمِدَ عَلَى عَمَلِهِ يَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَا تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الْعَالِمِ. وَلَكِنَّ سَلْهُ يَصْدُقْكَ. وَقَالُوا: ضَعْفُ الرَّوِيَّةِ أَنْ يَكُونَ رَأَى فُلَانًا يَعْمَلُ مِثْلَهُ. وَلَعَلَّهُ فَعَلَهُ سَاهِيًا. وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ دَلِيلٌ ثَابِتٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.

فصل أسباب الخلاف راجعة إلى الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت

وَقَوْلُ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ نُكْتَةٌ فِي الْمَوْضِعِ. يَعْنِي الصَّحَابَةَ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ مِمَّنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فَتْوَاهُ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَحُلَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ فَلَا. كَأَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ رَجُلًا يَحْسُنُ اعْتِقَادُهُ فِيهِ يَفْعَلُ فِعْلًا مُحْتَمَلًا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَيَقْتَدِي بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي التَّعَبُّدِ. وَيَجْعَلُهُ حُجَّةً فِي دِينِ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الضَّلَالُ بِعَيْنِهِ. وَمَا لَمْ يُتَثَبَّتْ بِالسُّؤَالِ وَالْبَحْثِ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُ الْفَتْوَى. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي مَالَ بِأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عَوَامِّ الْمُبْتَدِعَةِ، إِذَا اتَّفَقَ أَنْ يَنْضَافَ إِلَى شَيْخٍ جَاهِلٍ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْعُلَمَاءِ، فَيَرَاهُ يَعْمَلُ عَمَلًا فَيَظُنُّهُ عِبَادَةً فَيَقْتَدِي بِهِ. كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ. مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ أَوْ مُخَالِفًا. وَيَحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ يُرْشِدُهُ وَيَقُولُ: كَانَ الشَّيْخُ فُلَانٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَكَانَ يَفْعَلُهُ وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الظَّاهِرِ. فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى تَقْلِيدِ مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ فِيهِ أَخْطَأَ أَوْ أَصَابَ. كَالَّذِينِ قَلَّدُوا آبَاءَهُمْ سَوَاءً. وَإِنَّمَا قُصَارَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ آبَاءَنَا أَوْ شُيُوخَنَا لَمْ يَكُونُوا يَنْتَحِلُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ سُدًى. وَمَا هِيَ إِلَّا مَقْصُودَةٌ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ مَعَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ وَيَرَوْنَ أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَلَا بُرْهَانَ يَقُودُ إِلَى الْقَوْلِ بِهَا. [فَصْلُ أَسْبَابِ الْخِلَافِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْجَهْلِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّخَرُّصِ عَلَى مَعَانِيهَا بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ] هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ رَاجِعَةٌ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّخَرُّصِ عَلَى مَعَانِيهَا بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ، أَوِ الْأَخْذِ فِيهَا بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ.

أَلَّا تَرَى إِلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ كَيْفَ خَرَجُوا عَنِ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الصَّيْدِ الْمَرْمِيِّ؟ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَهُمْ: «بِأَنَّهُمْ يَقْرَؤُنَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ»، يَعْنِي ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ أَنَّهُمْ لَا يَتَفَقَّهُونَ بِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ الْفَهْمَ رَاجِعٌ إِلَى الْقَلْبِ، فَإِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْقَلْبِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ فَهْمٌ عَلَى حَالٍ، وَإِنَّمَا يَقِفُ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ فَقَطْ، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ مَنْ يَفْهَمُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ، وَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعَلَمَ انْتِزَاعًا» إِلَى آخِرِهِ. وَقَدْ وَقَعَ لِابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَخَرَّجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيِّ قَالَ: خَلَا عُمَرُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ ذَاتَ يَوْمٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ؟ فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ فَقَالَ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ ـ زَادَ سَعِيدٌ وَكِتَابُهَا وَاحِدٌ ـ قَالَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ فَقَرَأْنَاهُ، وَعَلِمْنَا فِيمَا أُنْزِلَ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَنَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يَدْرُونَ فِيمَا نَزَلَ، فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا، وَقَالَ سَعِيدٌ: فَيَكُونُ لِكُلِّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا، وَقَالَ سَعِيدٌ فَيَكُونُ لَكُلِّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقْتَتَلُوا. قَالَ: فَزَجَرَهُ عُمَرُ وَانْتَهَرَهُ عَلِيٌّ فَانْصَرَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَنَظَرَ عُمَرُ فِيمَا قَالَ فَعَرَفَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ مَا قُلْتَهُ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَعَرَفَ عُمَرُ قَوْلَهُ وَأَعْجَبَهُ.

وَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّهُ إِذَا عَرَفَ الرَّجُلَ فِيمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ أَوِ السُّورَةُ عَرَفَ مَخْرَجَهَا وَتَأْوِيلَهَا وَمَا قُصِدَ بِهَا، فَلَمْ يَتَعَدَّ ذَلِكَ فِيهَا، وَإِذَا جَهِلَ فِيمَا أُنْزِلَتِ احْتَمَلَ النَّظَرُ فِيهَا أَوْجُهًا. فَذَهَبَ كُلُّ إِنْسَانٍ مَذْهَبًا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْآخَرُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ مَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الصَّوَابِ، أَوْ يَقِفُ بِهِمْ دُونَ اقْتِحَامِ حِمَى الْمُشْكِلَاتِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْأَخْذِ بِبَادِيِ الرَّأْيِ، أَوِ التَّأْوِيلِ بِالتَّخَرُّصِ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ بُكَيْرٍ أَنَّهُ سَأَلَ نَافِعًا: كَيْفَ رَأْيُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَرُورِيَّةِ؟ قَالَ: يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ أُنْزِلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. فَسَّرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مِمَّا يَتَّبِعُ الْحَرُورِيَّةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وَيَقْرِنُونَ مَعَهَا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] فَإِذَا رَأَوُا الْإِمَامَ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ قَالُوا: قَدْ كَفَرَ، وَمِنْ كَفَرَ عَدَلَ بِرَبِّهِ وَمِنْ عَدَلَ بِرَبِّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَهَذِهِ الْأُمَّةُ مُشْرِكُونَ فَيَخْرُجُونَ فَيَقْتُلُونَ مَا رَأَيْتُ، لِأَنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ. فَهَذَا مَعْنَى الرَّأْيِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ النَّاشِئُ عَنِ الْجَهْلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِ. وَقَالَ نَافِعٌ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْحَرُورِيَّةِ؟ قَالَ: يُكَفِّرُونَ

الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَيَنْكِحُونَ النِّسَاءَ فِي عِدَدِهِنَّ، وَتَأْتِيهِمُ الْمَرْأَةُ فَيَنْكِحُهَا الرَّجُلُ مِنْهُمْ وَلَهَا زَوْجٌ، فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِالْقِتَالِ مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَرَضْتُ الِاخْتِلَافَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ فِي وَاسِطَةٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ. فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تُرَدِّدَ النَّظَرَ فِيهِ عَلَيْهِمَا. فَلَمْ تَفْعَلْ. بَلْ رَدَدْتُهُ إِلَى الطَّرَفِ الْأَوَّلِ فِي الذَّمِّ وَالضَّلَالِ. وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ بِجَانِبِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُضِيرُ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ. فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَاسِطَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ إِلَّا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا. أَمَّا الْجِهَةُ الْأُخْرَى، فَإِنَّ عَدَمَ ذِكْرِهِمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِدْخَالِهِمْ فِيهَا أَوْضَحَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مُلْحِقًا لَهُمْ بِهِ لَمْ يَقَعْ فِي الْأُمَّةِ اخْتِلَافٌ وَلَا فُرْقَةَ. وَلَا أَخْبَرَ الشَّارِعَ بِهِ. وَلَا نَبَّهَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيْهِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَا اتِّفَاقَ الْخَلْقِ عَلَى الْمِلَّةِ بَعْدَ [مَا] كَانُوا مُفَارِقِينَ لَهَا لَمْ نَقُلْ: اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ بَعْدَ اخْتِلَافِهَا. كَذَلِكَ لَا نَقُولُ: اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ أَوِ افْتَرَقَتِ الْأُمَّةُ بَعْدَ اتِّفَاقِهَا. أَوْ خَرَجَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْكَفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَإِنَّمَا يُقَالُ: افْتَرَقَتْ وَتَفْتَرِقُ الْأُمَّةُ. إِذَا كَانَ الِافْتِرَاقُ وَاقِعًا فِيهَا مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْأُمَّةِ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ. وَلِذَلِكَ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ: يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» ثُمَّ قَالَ: «وَتَتَمَارَى فِي الْفُوَقِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ: هَلْ عَلِقَ بِهَا مَنِ الدَّمِ

شَيْءٌ» وَالتَّمَارِي فِي الْفُوَقِ فِيهِ هَلْ فِيهِ فَرْثٌ وَدَمٌ أَمْ لَا؟ شَكٌّ بِحَسَبِ التَّمْثِيلِ: هَلْ خَرَجُوا مِنَ الْإِسْلَامِ حَقِيقَةً؟ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لَا يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّنْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالِارْتِدَادِ مَثَلًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ أَصْحَابِ الْبِدَعِ الْعُظْمَى. وَلَكِنَّ الَّذِي يَقْوَى فِي النَّظَرِ وَبِحَسَبِ الْأَثَرِ عَدَمُ الْقَطْعِ بِتَكْفِيرِهِمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيهِمْ، أَلَّا تَرَى إِلَى صُنْعِ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فِي الْخَوَارِجِ؟ وَكَوْنِهِ عَامَلَهُمْ فِي قِتَالِهِمْ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، فَإِنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحَرُورِيَّةُ وَفَارَقَتِ الْجَمَاعَةَ لَمْ يُهَيِّجْهُمْ عَلِيٌّ وَلَا قَاتَلَهُمْ، وَلَوْ كَانُوا بِخُرُوجِهِمْ مُرْتَدِينَ لَمْ يَتْرُكْهُمْ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مِنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ،» وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ خَرَجَ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ مَا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَأَيْضًا، فَحِينَ ظَهَرَ مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُمْ إِلَّا الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْهِجْرَانُ، وَلَوْ كَانُوا خَرَجُوا إِلَى كُفْرٍ مَحْضٍ لَأَقَامُوا عَلَيْهِمُ الْحَدَّ الْمُقَامَ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ. وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا لَمَّا خَرَجَ فِي زَمَانِهِ الْحَرُورِيَّةُ بِالْمَوْصِلِ أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ عَلَى حَدِّ مَا أَمَرَ بِهِ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ، وَلَمْ يُعَامِلْهُمْ

مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّينَ. وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى! إِنَّا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى، وَلِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى بِإِطْلَاقٍ، وَلَا مُتَّبِعِينَ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُمْ كَذَلِكَ لَكَانُوا كُفَّارًا، إِذْ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا مَعَ رَدِّ مُحْكَمَاتِهَا عِنَادًا، وَهُوَ كُفْرٌ. وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِالشَّرِيعَةَ وَمَنْ جَاءَ بِهَا، وَبَلَغَ فِيهَا مَبْلَغًا يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ بِمِثْلِهِ، لَا يُقَالُ: أَنَّهُ صَاحِبُ هَوًى بِإِطْلَاقٍ. بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ فِي نَظَرِهِ لَكِنْ بِحَيْثُ يُمَازِجُهُ الْهَوَى فِي مَطَالِبِهِ مِنْ جِهَةِ إِدْخَالِ الشَّبَهِ فِي الْمُحَكَّمَاتِ بِسَبَبِ اعْتِبَارِ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَشَارَكَ أَهْلُ الْهَوَى فِي دُخُولِ الْهَوَى فِي نِحْلَتِهِ، وَشَارَكَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَأَيْضًا، فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اتِّحَادُ الْقَصْدِ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ مَطْلَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى الشَّرِيعَةِ. وَمِنْ أَشَدِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ـ مَثَلًا ـ مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَقَاصِدَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَائِمًا حَوْلَ حِمَى التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْأَدِلَّةِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا، فَحَصَلَ فِي هَذَا الْخِلَافِ أَشْبَهَ الْوَاقِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي الْفُرُوعِ؟ وَأَيْضًا، فَقَدْ يُعْرَضُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُخَالِفِ مِنْهُمْ فَيَرْجِعُ إِلَى الْوِفَاقِ لِظُهُورِهِ عِنْدَهُ، كَمَا رَجَعَ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ الْخَارِجِينَ عَلَى عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَلْفَانِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَدَمَ الرُّجُوعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَنَّ الْمُبْتَدِعَ

ليس له توبة. حكى ابن عبد البر بسند يرفعه إلى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا اجتمعت (الحرورية يخرجون على علي، قال) جعل يأتيه الرجل فيقول: يا أمير المؤمنين (إن) القوم خارجون عليك، قال: (دعهم) حتى يخرجوا. فلما كان ذات (يوم) قلت: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم ـ قال ـ فدخلت عليهم وهم قائلون، فإذا هم مُسهمة / وجوههم من السهر، قد أثر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفن الإبل، عليهم قمص مرحَّضة فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ (قال): قلت: ما تعيبون من ذلك؟ فلقد رَأَيْتُ (رَسُولَ) اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وعليه حلة) أحسن ما يكون من (الثياب اليمنية) ـ قال ـ/ ثم قرأت هذه الآية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، فقالوا: ما جاء بك؟ (قلت): جئتكم من عند (أصحاب) رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله، (جئت) لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} فقال بعضهم: بلى (فلنكلمه). قال: فكلمني منهم رجلان، أو ثلاثة، قال: قلت: ماذا نقمتم عليه؟ قالوا: ثلاثاً. فقلت: ما هن؟ قالوا: حكَّم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}، قال: (قلت): هذه واحدة، وماذا

أيضاً؟ / قالوا: فإنه قاتل فلم يَسْبِ ولم يغنم، (فلئن) كانوا مؤمنين ما حل قتالهم، (ولئن) كانوا كافرين لقد حلَّ/ قتالهم (وسبيهم)، قال: قلت: وماذا أيضاً؟ قالوا: ومحا نفسه من إمرة المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين قال: قلت: أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله بما ينقض قولكم/ هذا، أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟ قال: قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فإن الله قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} فصيَّر الله ذلك إلى حكم الرجال، فناشدتكم (الله) أتعلمون (أن) حكم الرجال في (حقن) دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم أفضل أو في (دم أرنب ثمنه) ربع درهم؟ وفي (بضع) امرأة؟ قالوا: (بل)، هذا أفضل. قال: (أخرجتم) من هذه؟ قالوا: نعم! قال: وأما/ قولكم: قاتل (ولم يسب) ولم يغنم (أتسبون) أمكم عائشة؟ فإن قلتم:/ نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، (وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم)، فأنتم (ترددون) بين/ ضلالتين، (أخرجتم) من هذه؟ قالوا: بلى، (قال): وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو،

فصل مسائل في حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة

«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، يَا عَلِيُّ اكْتُبْ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو سُفْيَانَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ فَخَرَجُوا فَقُتِلُوا أَجْمَعُونَ». [فَصْلٌ مَسَائِلُ فِي حَدِيثِ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً] [حَقِيقَةُ افْتِرَاقِ الْأُمَّةِ] حَدِيثُ تَفَرُّقِ الْأُمَّةِ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ هَكَذَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: «افْتَرَقَ الْيَهُودُ 73 عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَفُرِّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً». وَفِي التِّرْمِذِيِّ تَفْسِيرُ هَذَا، وَلَكِنْ بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ فِي حَدِيثٍ: «وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى اثْنَتَيْنِ

وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي». وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: «وَأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، اثْنَتَانِ وَسَبْعِينَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» وَهِيَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا أَنَّ هُنَا زِيَادَةً فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «وَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ». وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ أَبِي غَالِبٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَزِيدُ عَلَيْهِمْ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ وَفِي رِوَايَةٍ مَرْفُوعًا: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ». وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ قَدَحَ فِيهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَنَّ ابْنَ

مَعِينٍ قَالَ: إِنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ شُبِّهَ فِيهِ عَلَى نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الثِّقَاتِ، ثُمَّ تُكُلِّمَ فِي إِسْنَادِهِ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِسْنَادُهُ فِي الظَّاهِرِ جَيِّدٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ - يَعْنِي ابْنَ مَعِينٍ - قَدِ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى عِلَّةٍ خَفِيَّةٍ. وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ رِوَايَةٌ رَأَيْتُهَا فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ. «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ مِلَّةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ مِلَّةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: - الْجَمَاعَةُ». فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَصَدَّى النَّظَرُ فِي الْحَدِيثِ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي حَقِيقَةِ هَذَا الِافْتِرَاقِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ افْتِرَاقًا عَلَى مَا يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ زِيَادَةِ قَيْدٍ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ بِإِطْلَاقِهِ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ، كَمَا كَانَ لَفْظُ الرَّقَبَةِ بِمُطْلَقِهَا لَا يُشْعِرُ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً أَوْ غَيْرَ مُؤْمِنَةٍ، لَكِنَّ اللَّفْظَ يَقْبَلُهُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ الِافْتِرَاقِ، بِحَيْثُ يُطْلَقُ صُوَرُ لَفْظِ الِاخْتِلَافِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ دَاخِلِينَ تَحْتَ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ مِنْ زَمَانِ الصَّحَابَةِ إِلَى الْآنَ وَاقِعٌ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي زَمَانِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ التَّابِعِينَ وَلَمْ يَعِبْ أَحَدٌ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَبِالصَّحَابَةِ اقْتَدَى مَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَوْسِيعِ الْخِلَافِ. فَكَيْفَ أَنْ يَكُونَ الِافْتِرَاقُ فِي الْمَذَاهِبِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ؟!

وَإِنَّمَا يُرَادُ افْتِرَاقٌ مُقَيَّدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ نَصٌّ عَلَيْهِ، فَفِي الْآيَاتِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وَمَا أَشْبَهَ تِلْكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى التَّفَرُّقِ الَّذِي صَارُوا بِهِ شِيَعًا، وَمَعْنَى صَارُوا شِيَعًا أَيْ جَمَاعَاتٍ بَعْضُهُمْ قَدْ فَارَقَ الْبَعْضَ، لَيْسُوا عَلَى تَآلُفٍ وَلَا تَعَاضُدٍ وَلَا تَنَاصُرٍ، بَلْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَاحِدٌ وَأَمْرُهُ وَاحِدٌ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ عَلَى الِائْتِلَافِ التَّامِّ لَا عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ مُشْعِرَةٌ بِتَفَرُّقِ الْقُلُوبِ الْمُشْعِرِ بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] فَبَيَّنَ أَنَّ التَّأْلِيفَ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ الِائْتِلَافِ عَلَى التَّعَلُّقِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَمَّا إِذَا تَعَلَّقَتْ كُلُّ شِيعَةٍ بِحَبْلٍ غَيْرِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأُخْرَى فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَرُّقِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا نَزَلَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ وَاسْتَقَامَ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

سبب الفرقة قد يكون راجعا إلى معصية

[سَبَبُ الْفُرْقَةِ قَدْ يَكُونُ رَاجِعًا إِلَى مَعْصِيَةٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنْ كَانَتِ افْتَرَقَتْ بِسَبَبٍ مُوقِعٍ فِي الْعَدَوَاةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى أَمْرٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ بِدْعَةٍ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ افْتِرَاقٌ بِسَبَبٍ دُنْيَوِيٍّ، كَمَا يَخْتَلِفُ مَثَلًا أَهْلُ قَرْيَةٍ مَعَ قَرْيَةٍ أُخْرَى بِسَبَبِ تَعَدٍّ فِي مَالٍ أَوْ دَمٍ، حَتَّى تَقَعَ بَيْنَهُمُ الْعَدَوَاةُ فَيَصِيرُوا حِزْبَيْنِ، أَوْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَقْدِيمِ وَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَفْتَرِقُونَ، وَمِثْلُ هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ يُشْعَرُ بِهِ. مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا بُويِعَ الْخَلِيفَتَانِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا» وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَأَمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَمْرٍ هُوَ بِدْعَةٌ، كَمَا افْتَرَقَ الْخَوَارِجُ مِنَ الْأُمَّةِ بِبِدَعِهِمُ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا فِي الْفِرْقَةِ، وَكَالْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ الْخَارِجِ عَنِ الْأُمَّةِ نَصْرًا لِلْحَقِّ فِي زَعْمِهِ، فَابْتَدَعَ أُمُورًا سِيَاسِيَّةً وَغَيْرَهَا خَرَجَ بِهَا عَنِ السُّنَّةِ - كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَبْلُ - وَهَذَا هُوَ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَالْأَحَادِيثُ، لِمُطَابَقَتِهَا لِمَعْنَى الْحَدِيثِ. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ مَعًا.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَلَا أَعْلَمُ قَائِلًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ، إِذْ لَمْ أَرَ أَحَدًا خَصَّ هَذِهِ بِمَا إِذَا افْتَرَقَتِ الْأُمَّةُ بِسَبَبِ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لَا بِسَبَبِ بِدْعَةٍ، وَلَيْسَ ثَمَّ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ» الْحَدِيثَ، لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَكَذَلِكَ: «إِذْ بُويِعَ الْخَلِيفَتَانِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا»، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْفِرَقُ فِي الْمُرَادِ بِالْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ حَسْبَمَا يَأْتِي، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ قَائِلٌ بِأَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُضَادَّةَ لِلْجَمَاعَةِ هِيَ فِرْقَةُ الْمَعَاصِي غَيْرُ الْبِدَعِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ مَعًا، فَذَلِكَ أَيْضًا مُمْكِنٌ، إِذِ الْفِرْقَةُ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهَا قَدْ تَحْصُلُ بِسَبَبِ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْبِدَعِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعَاصٍ وَمُخَالَفَاتٌ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُرْشِدُ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْجَمَاعَةِ - حَسْبَمَا يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ - وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ» (؟) فَجَعَلَ الْغَايَةَ فِي اتِّبَاعِهِمْ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ كَمَا تَرَى. وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ» فَجَعَلَ الْغَايَةَ مَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ.

وَفِي مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَعَاذَكَ اللَّهُ يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ - قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ - قَالَ أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي لَا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَا يَرِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَيَرِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ» الْحَدِيثَ. وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِهَدْيِهِ وَلَا يَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِ فَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ. فَلَا اخْتِصَاصَ بِأَحَدِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي نَقْلِ أَرْبَابِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ الِابْتِدَاعِ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَعَلَى ذَلِكَ حُمِلَ الْحَدِيثُ

هذه الفرق يحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة

مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَعُدُّوا مِنْهَا الْمُفْتَرِقِينِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بِدَعًا، وَعَلَى ذَلِكَ يَقَعُ التَّفْرِيعُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [هَذِهِ الْفِرَقُ يَحْتَمِلُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنْ يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْمِلَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ يَحْتَمِلُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنْ يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْمِلَّةِ بِسَبَبِ مَا أَحْدَثُوا. فَهُمْ قَدْ فَارَقُوا أَهْلَ الْإِسْلَامِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِكُفْرٍ، إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ تُتَصَوَّرُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ ظَوَاهِرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وَهِيَ آيَةٌ نَزَلَتْ - عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ - فِي أَهْلِ الْبِدَعِ، وَيُوَضِّحُهُ مَنْ قَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} [الأنعام: 159] وَالْمُفَارَقَةُ لِلدِّينِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إِنَّمَا هِيَ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] الْآيَةَ وَهِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مُنَزَّلَةٌ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَهَذَا كَالنَّصِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»

وَهَذَا نَصٌّ فِي كُفْرِ مَنْ قِيلَ ذَلِكَ فِيهِ، وَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ «وَيُصْبِحُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَاَفِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَاَفِرًا» الْحَدِيثَ، «وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَوَارِجِ: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى نَضِيِّهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ - وَهُوَ الْقَدَحُ - ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ» فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ فَهُوَ الشَّاهِدُ عَلَى أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، إِنَّمَا هِيَ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْآيَاتِ.

وَأَيْضًا، فَالْآيَاتُ إِنْ دَلَّتْ بِصِيَغِ عُمُومِهَا فَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ بِمَعَانِيهَا لِاجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ فِي الْعِلَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحُكْمُ بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ رَاجِعٌ إِلَى حُكْمِ الْآخِرَةِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَجْرِي فِيهَا. فَالْجَوَابُ: إِنَّ كَلَامَنَا فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَلْ يُحْكَمُ لَهُمْ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّينَ أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا أَمْرُ الْآخِرَةِ لِلَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159]. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا عَنْ جُمْلَةٍ مِنْ شَرَائِعِهِ وَأُصُولِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ فَارَقَ الْإِسْلَامَ لَكِنَّ مَقَالَتَهُ كُفْرٌ وَتُؤَدِّي مَعْنَى الْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُفَارِقْهُ، بَلِ انْسَحَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ عَظُمَ مَقَالُهُ وَشُنِّعَ مَذْهَبُهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ مَبْلَغَ الْخُرُوجِ إِلَى الْكُفْرِ الْمَحْضِ وَالتَّبْدِيلِ الصَّرِيحِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الدَّلِيلُ بِحَسْبِ كُلِّ نَازِلَةٍ، وَبِحَسْبِ كُلِّ بِدْعَةٍ، إِذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْبِدَعَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ كَاتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ كَالْقَوْلِ بِالْجِهَةِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ وَإِنْكَارِ الْإِجْمَاعِ وَإِنْكَارِ الْقِيَاسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَلَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي التَّكْفِيرِ تَفْصِيلًا فِي هَذِهِ الْفِرَقِ، فَقَالَ: مَا كَانَ مِنَ الْبِدَعِ رَاجِعًا إِلَى اعْتِقَادِ وُجُودِ إِلَهٍ مَعَ اللَّهِ، كَقَوْلِ السَّبَئِيَّةِ فِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إِلَهٌ، أَوْ خَلْقُ الْإِلَهِ فِي بَعْضِ أَشْخَاصِ النَّاسِ كَقَوْلِ الْجَنَاحِيَّةِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ رُوحٌ يَحُلُّ فِي بَعْضِ بَنِي آدَمَ، وَيَتَوَارَثُ، أَوْ إِنْكَارِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِ الْغُرَابِيَّةِ: إِنَّ جِبْرِيلَ غَلِطَ فِي الرِّسَالَةِ فَأَدَّاهَا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ كَانَ صَاحِبَهَا، أَوِ اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ، وَإِنْكَارِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَأَكْثَرِ الْغُلَاةِ مِنَ الشِّيعَةِ، مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَقَالَاتِ فَلَا يَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقِدُهَا غَيْرَ كَافِرٍ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا وَلَكِنَّ الَّذِي كُنَّا نَسْمَعُهُ مِنَ الشُّيُوخِ أَنَّ مَذْهَبَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْكُفْرَ بِالْمَآلِ، لَيْسَ بِكُفْرٍ فِي الْحَالِ، كَيْفَ وَالْكَافِرُ يُنْكِرُ ذَلِكَ الْمَآلَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَيَرْمِي مُخَالِفَهُ بِهِ، [وَلَوْ] تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ لُزُومِ الْكُفْرِ مِنْ مَقَالَتِهِ لَمْ يَقُلْ بِهَا عَلَى حَالٍ. وَإِذَا تَقَرَّرَ نَقْلُ الْخِلَافِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ. أَمَّا مَا صَحَّ مِنْهُ فَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَعْدِيدُ الْفِرَقِ الْخَاصَّةِ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ مَنْ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» فَإِنَّمَا

تخصيص الفرق المذكورة بالمبتدعة، وإشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص

يَقْتَضِي إِنْفَاذَ الْوَعِيدِ ظَاهِرًا، وَيَبْقَى الْخُلُودُ وَعَدَمُهُ مَسْكُوتًا عَنْهُ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا أَرَدْنَا، إِذِ الْوَعِيدُ بِالنَّارِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْكُفَّارِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ تَبَايَنَا فِي التَّخْلِيدِ وَعَدَمِهِ. [تَخْصِيصُ الْفِرَقِ الْمَذْكُورَةِ بِالْمُبْتَدِعَةِ، وَإِشَارَةُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْفِرَقَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمُبْتَدِعَةُ فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ عَلَى الْخُصُوصِ، كَالْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ. فَإِنَّ إِشَارَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِ، وَهُوَ رَأْيُ الطَّرْطُوشِيِّ، أَفَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] وَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا تَشَابَهَ} [آل عمران: 7] لَا تُعْطِي خُصُوصًا فِي اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ لَا فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، بَلِ الصِّيغَةُ تَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] فَجَعَلَ ذَلِكَ التَّفْرِيقَ فِي الدِّينِ، وَلَفْظُ الدِّينِ يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَغَيْرَهَا، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الشَّرِيعَةُ عَلَى الْعُمُومِ، وَشِبْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ

الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ، وَإِيجَابِ الزَّكَاةِ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَبْدَعِ نَظْمِ وَأَحْسَنِ سِيَاقٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] فَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَغَيْرِهَا، فَابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عَنِ الِاشْتِرَاكِ، ثُمَّ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ عَنِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، ثُمَّ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِإِطْلَاقٍ، ثُمَّ عَنْ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، ثُمَّ الْأَمْرِ بِتَوْفِيَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، ثُمَّ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ، ثُمَّ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]. فَأَشَارَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا الضَّرُورِيَّةِ، وَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِالْعَقَائِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الْحَدِيثِ لَا تَخْتَصُّ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا. وَفِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ ذَمَّهُمْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَعْمَالَهُمْ، وَقَالَ فِي جُمْلَةِ مَا ذَمَّهُمْ بِهِ: «يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» فَذَمَّهُمْ بِتَرْكِ التَّدَبُّرِ وَالْأَخْذِ بِظَوَاهِرِ الْمُتَشَابِهَاتِ، كَمَا قَالُوا: حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]. وَقَالَ أَيْضًا: «وَيَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ» فَذَمَّهُمْ بِعَكْسِ مَا عَلَيْهِ الشَّرْعُ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالْعَقَائِدِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْعُمُومِ لَا عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا رَوَاهُ نُعَيْمُ بْنُ

حَمَّادٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ لَا يَخْتَصُّ بِمَا قَالُوا مِنَ الْعَقَائِدِ. وَاسْتَدَلَّ الطَّرْطُوشِيُّ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَخْتَصُّ بِالْعَقَائِدِ بِمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَارَ الْعُلَمَاءُ مِنْ تَسْمِيَتِهِمُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ بِدَعًا إِذَا خَالَفَتِ الشَّرِيعَةَ، ثُمَّ أَتَى بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ كَالَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ يَعْنِي بِالنَّاسِ الصَّحَابَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَكْثَرَ أَفْعَالِ عَصْرِهِ، وَرَآهَا مُخَالِفَةً لِأَفْعَالِ الصَّحَابَةِ. وَكَذَلِكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا هَلْ يُنْكِرُ شَيْئًا مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ؟ فَغَضِبَ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَهَلْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ؟ وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مُغْضَبًا فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْهُمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. وَذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ فِي الْأَفْعَالِ قَدْ ظَهَرَتْ. وَفِي مُسْلِمٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُسْتَنِدٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقُلْنَا: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: بِدْعَةٌ.

الفرق إنما تصير فرقا لخلافها للفرقة الناجية

قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ: فَحَمَلَهُ عِنْدَنَا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، وَإِمَّا أَفْذَاذًا عَلَى هَيْئَةِ النَّوَافِلِ فِي أَعْقَابِ الْفَرَائِضِ. وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الْبِدَعِ الْقَوْلِيَّةِ مِمَّا نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا بِدَعٌ. فَصَحَّ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَخْتَصُّ بِالْعَقَائِدِ. وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ التَّقْرِيرِ. [الْفِرَقُ إِنَّمَا تَصِيرُ فِرَقًا لِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ] نَعَمْ ثَمَّ مَعْنًى آخَرُ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ هُنَا. وَهُوَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنَّمَا تَصِيرُ فِرَقًا بِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ فِي الدِّينِ وَقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، لَا فِي جُزْئِيٍّ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، إِذِ الْجُزْئِيُّ وَالْفَرْعُ الشَّاذُّ لَا يَنْشَأُ عَنْهُ مُخَالَفَةٌ يَقَعُ بِسَبَبِهَا التَّفَرُّقُ شِيَعًا، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ التَّفَرُّقُ عِنْدَ وُقُوعِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّ الْكُلِّيَّاتِ تَقْتَضِي عَدَدًا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ غَيْرَ قَلِيلٍ، وَشَاذُّهَا فِي الْغَالِبِ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِمَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ وَلَا بِبَابٍ دُونَ بَابٍ. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ فِيهَا أَنْشَأَتْ بَيْنَ الْمُخَالِفِينَ خِلَافًا فِي فُرُوعٍ لَا تَنْحَصِرُ، مَا بَيْنَ فُرُوعِ عَقَائِدَ وَفُرُوعِ أَعْمَالٍ. وَيَجْرِي مَجْرَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ كَثْرَةُ الْجُزْئِيَّاتِ، فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَ إِذَا أَكْثَرَ مِنْ إِنْشَاءِ الْفُرُوعِ الْمُخْتَرَعَةِ عَادَ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ بِالْمُعَارَضَةِ، كَمَا تَصِيرُ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ مُعَارَضَةً أَيْضًا، وَأَمَّا الْجُزْئِيُّ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ، بَلْ يُعَدُّ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنَ الْمُبْتَدِعِ لَهُ

كَالزَّلَّةِ وَالْفَلْتَةِ، وَإِنْ كَانَتْ زَلَّةُ الْعَالِمِ مِمَّا يَهْدِمُ الدِّينَ، حَيْثُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ. وَلَكِنْ إِذَا قَرُبَ مُوقِعُ الزَّلَّةِ لَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبِهَا تَفَرُّقٌ فِي الْغَالِبِ وَلَا هَدْمٌ لِلدِّينِ. بِخِلَافِ الْكُلِّيَّاتِ. فَأَنْتَ تَرَى مُوقِعُ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ كَيْفَ هُوَ فِي الدِّينِ إِذَا كَانَ اتِّبَاعًا مُخِلًّا بِالْوَاضِحَاتِ. وَهِيَ أُمُّ الْكِتَابِ. وَكَذَلِكَ عَدَمُ تَفَهُّمِ الْقُرْآنِ مُوقِعٌ فِي الْإِخْلَالِ بِكُلِّيَّاتِهِ وَجُزْئِيَّاتِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا لِلْكُفَّارِ بِدَعٌ فَرْعِيَّةٌ. وَلَكِنَّهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا قَارَبَهَا. كَجَعْلِهِمْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا وَلِشُرَكَائِهِمْ نَصِيبًا، ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَيْهِ أَنَّ مَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَمَا كَانَ لِلَّهِ وَصَلَ إِلَى شُرَكَائِهِمْ. وَتَحْرِيمِهِمُ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَقَتْلِهِمْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَتَرْكِ الْعَدْلِ فِي الْقِصَاصِ وَالْمِيرَاثِ، وَالْحَيْفِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْحِيَلِ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ، حَتَّى صَارَ التَّشْرِيعُ دَيْدَنًا لَهُمْ، وَتَغْيِيرُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَهْلًا عَلَيْهِمْ، فَأَنْشَأَ ذَلِكَ أَصْلًا مُضَافًا إِلَيْهِمْ وَقَاعِدَةً رَضُوا بِهَا، وَهِيَ التَّشْرِيعُ الْمُطْلَقُ لَا الْهَوَى، وَلِذَلِكَ لَمَّا نَبِّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] قَالَ فِيهَا: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143] فَطَالَبَهُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ لَا يُشَرِّعَ إِلَّا حَقًّا وَهُوَ عِلْمُ

إذا قلنا هذه الفرق كفار فكيف يعدون من الأمة

الشَّرِيعَةِ لَا غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144] تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا شَرَعَهُ فِي مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ: ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144] فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنَّمَا افْتَرَقَتْ بِحَسْبِ أُمُورٍ كُلِّيَّةٍ اخْتَلَفُوا فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [إِذَا قُلْنَا هَذِهِ الْفِرَقُ كُفَّارٌ فَكَيْفَ يُعَدُّونَ مِنَ الْأُمَّةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إِنَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ كُفَّارٌ - عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِهِ - أَوْ يَنْقَسِمُونَ إِلَى كَافِرٍ وَغَيْرِهِ فَكَيْفَ يُعَدُّونَ مِنَ الْأُمَّةِ؟ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الِافْتِرَاقَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَلَوْ خَرَجُوا مِنَ الْأُمَّةِ إِلَى الْكُفْرِ لَمْ يُعَدُّوا مِنْهَا أَلْبَتَّةَ - كَمَا تَبَيَّنَ: - وَكَذَلِكَ الظَّاهِرُ فِي فِرَقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَنَّ التَّفَرُّقَ فِيهِمْ حَاصِلٌ مَعَ كَوْنِهِمْ هُودًا وَنَصَارَى؟ فَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا نَأْخُذُ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَمَنْ قِيلَ بِكُفْرِهِ مِنْهُمْ، فَإِمَّا أَنَّ يَسْلَمَ فِيهِمْ هَذَا الْقَوْلُ فَلَا يَجْعَلُهُمْ مِنَ الْأُمَّةِ أَصْلًا وَلَا

أَنَّهُمْ مِمَّا يُعَدُّونَ فِي الْفِرَقِ، وَإِنَّمَا نَعُدُّ مِنْهُمْ مَنْ لَا تُخْرِجُهُ بِدَعَتُهُ إِلَى كُفْرٍ، فَإِنْ قَالَ بِتَكْفِيرِهِمْ جَمِيعًا، فَلَا يَسْلَمُ أَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ بِالْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الدَّاخِلَةِ فِي الْحَدِيثِ، بَلْ نَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ فِرَقٌ لَا تُخْرِجُهُمْ بِدَعُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلْيُبْحَثْ عَنْهُمْ. وَإِمَّا أَنْ لَا نَتَّبِعَ الْمُكَفِّرَ فِي إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ، وَنُفَصِّلَ الْأَمْرَ إِلَى نَحْوٍ مِمَّا فَصَّلَهُ صَاحِبُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَيَخْرُجُ مِنَ الْعَدَدِ مِنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ إِلَّا مَا سَوَّاهُ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي تِلْكَ الْعُدَّةِ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ نَعُدَّهُمْ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى طَرِيقَةٍ لَعَلَّهَا تَتَمَشَّى فِي الْمَوَاضِعِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تَدَّعِي الشَّرِيعَةَ، وَأَنَّهَا عَلَى صَوَابِهَا، وَأَنَّهَا الْمُتَّبِعَةُ لِلْمُتَّبِعَةِ لَهَا، وَتَتَمَسَّكُ بِأَدِلَّتِهَا، وَتَعْمَلُ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهَا مِنْ طَرِيقِهَا! وَهِيَ تُنَاصِبُ الْعَدَاوَةَ مِنْ نِسْبَتِهَا إِلَى الْخُرُوجِ عَنْهَا، وَتُرْمَى بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ مِنْ نَاقِضِهَا. لِأَنَّهَا تَدَّعِي أَنَّ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ دُونَ غَيْرِهِ. وَبِذَلِكَ يُخَالِفُونَ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى الِارْتِدَادِ أَقَرَّ بِهِ وَرَضِيَهُ وَلَمْ يَسْخَطْهُ، وَلَمْ يُعَادِلْ لِتِلْكَ النِّسْبَةِ، كَسَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَرْبَابِ النِّحَلِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ. بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ فَإِنَّهُمْ مُدَّعُونَ الْمُوَالَفَةَ لِلشَّارِعِ وَالرُّسُوخَ فِي اتِّبَاعِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِسَبَبِ ادِّعَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ الْخُرُوجَ عَنِ السُّنَّةِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ مُبَالِغِينَ فِي الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ، حَتَّى بَعْضُ أَشَدِّ النَّاسِ عِبَادَةً مَفْتُونٌ.

وَالشَّاهِدُ لِهَذَا كُلِّهِ - مَعَ اعْتِبَارِ الْوَاقِعِ - حَدِيثُ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَتْ قِرَاءَتُكُمْ مِنْ قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلَا صَلَاتُكُمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ» وَهَذِهِ شِدَّةُ الْمُثَابَرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ كَيْفَ يُحَكِّمُ الرِّجَالَ وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]؟ فَفِي ظَنِّهِمْ أَنَّ الرِّجَالَ لَا يُحَكَّمُونَ بِهَذَا الدَّلِيلِ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيهِمْ». فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَاضِحٌ فِيمَا قُلْنَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ اتِّبَاعَهُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَلِيَكُونَ حُجَّةً لَهُمْ، فَحِينَ ابْتَغَوْا تَأْوِيلَهُ وَخَرَجُوا عَنِ الْجَادَّةِ كَانَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ. وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وَإِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ وَالتَّعَمُّقَ، عَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ فَقَوْلُهُ: يَزْعُمُونَ كَذَا. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الشَّرْعِ فِيمَا يَزْعُمُونَ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ! وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ - قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِأَحَدِكُمْ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ! أَلَا هَلُمَّ! فَيُقَالُ، قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا». فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْلَهُ: «فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي» إِلَى قَوْلِهِ: «أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ» مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ. وَأَنَّهُ عَرَفَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُمْ يُعْرَفُونَ بِالْغُرَرِ وَالتَّحْجِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ وَقَدْ كَانُوا بَدَّلُوا ذَوُو غُرَرٍ وَتَحْجِيلٍ، وَذَلِكَ مِنْ خَاصِّيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَبَانَ أَنَّهُمْ مَعُدُودُونَ مِنَ الْأُمَّةِ، وَلَوْ حُكِمَ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يَعْرِفْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ أَوْ تَحْجِيلٍ لِعَدَمِهِ عِنْدَهُمْ. وَلَا عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّهُمْ خَرَجُوا بِبِدْعَتِهِمْ عَنِ الْأُمَّةِ أَوْ لَا، إِذْ أَثْبَتْنَا لَهُمْ وَصْفَ الِانْحِيَاشِ إِلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «فَيُؤْخَذُ بِقَوْمٍ مِنْكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي! قَالَ: فَيُقَالُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] إِلَى قَوْلِهِ:

تعيين هذه الفرق

{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]- قَالَ - فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ». فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالصَّحَابَةِ الْأُمَّةَ، فَالْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِمَا قَبْلَهُ: «بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ» فَلَابُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْحَابَ يَعْنِي بِهِمْ مَنْ آمَنَ بِي فِي حَيَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ، وَيَصْدُقُ لَفْظُ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ مَانِعِي الزَّكَاةِ تَأْوِيلًا عَلَى أَنَّ أَخْذَهَا إِنَّمَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ عَامَّةَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ رَأَوْهُ وَأَخَذُوا عَنْهُ بَرَاءَةٌ مِنْ ذَلِكَ. [تَعْيِينُ هَذِهِ الْفِرَقِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْفِرَقِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ - كَمَا قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ - طَاشَتْ فِيهَا أَحْلَامُ الْخَلْقِ، فَكَثِيرٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَيَّنُوهَا، لَكِنْ فِي الطَّوَائِفِ الَّتِي خَالَفَتْ فِي مَسَائِلِ الْعَقَائِدِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّ أُصُولَهَا ثَمَانِيَةً، فَقَالَ: كِبَارُ الْفِرَقِ الْإِسْلَامِيَّةِ ثَمَانِيَةٌ: (1) الْمُعْتَزِلَةُ وَ (2) الشِّيعَةُ، وَ (3) الْخَوَارِجُ، وَ (4) الْمُرْجِئَةُ، وَ (5) النَّجَّارِيَّةُ، وَ (6) الْجَبْرِيَّةُ وَ (7) الْمُشَبِّهَةُ، وَ (8) النَّاجِيَةُ. فَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَافْتَرَقُوا إِلَى عِشْرِينَ فِرْقَةً وَهُمُ: الْوَاصِلِيَّةُ،

وَالْعَمْرِيَّةُ، وَالْهُذَيْلِيَّةُ، وَالنَّظَامِيَّةُ، وَالْأَسْوَارِيَّةُ، وَالْإِسْكَافِيَّةُ، وَالْجَعْفَرِيَّةُ، وَالْبِشْرِيَّةُ، وَالْمُزْدَارِيَّةُ، وَالْهِشَامِيَّةُ، وَالصَّالِحِيَّةُ، وَالْخَطَّابِيَّةُ، وَالْحَدَبِيَّةُ، وَالْمَعْمَرِيَّةُ، وَالثُّمَامِيَّةُ، وَالْخَيَّاطِيَّةُ، وَالْجَاحِظِيَّةُ، وَالْكَعْبِيَّةُ، وَالْجُبَّائِيَّةُ، وَالْبَهْشَمِيَّةُ. وَأَمَّا الشِّيعَةُ فَانْقَسَمُوا أَوَّلًا ثَلَاثَ فِرَقٍ: غُلَاةٌ. وَزَيْدِيَّةٌ، وَإِمَامِيَّةٌ. فَالْغُلَاةُ ثَمَانَ عَشْرَةَ فِرْقَةً وَهُمْ: السَّبَئِيَّةُ، وَالْكَامِلِيَّةُ، وَالْبَيَانِيَّةُ، وَالْمُغِيرِيَّةُ، وَالْجَنَاحِيَّةُ، وَالْمَنْصُورِيَّةُ، وَالْخَطَّابِيَّةُ، وَالْغُرَابِيَّةُ، وَالذِّمِّيَّةُ، وَالْهِشَامِيَّةُ، وَالزُّرَارِيَّةُ، وَالْيُونُسِيَّةُ، وَالشَّيْطَانِيَّةُ، وَالرِّزَامِيَّةُ، وَالْمُفَوِّضَةُ، وَالْبَدَائِيَّةُ، وَالنُّصَيْرِيَّةُ، وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةُ وَهُمُ: الْبَاطِنِيَّةُ، وَالْقَرْمَطِيَّةُ، وَالْخُرَّمِيَّةُ، وَالسَّبْعِيَّةُ، وَالْبَابَكِيَّةُ، وَالْحَمْدِيَّةُ. وَأَمَّا الزَّيْدِيَّةُ فَهُمْ ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْجَارُودِيَّةُ، وَالسُّلَيْمَانِيَّةُ، وَالْبُتَيْرِيَّةُ. وَأَمَّا الْإِمَامِيَّةُ فَفِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَالْجَمِيعُ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ فِرْقَةً. وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَسَبْعُ فِرَقٍ، وَهُمُ: الْمُحَكِّمَةُ، وَالْبَيْهَسِيَّةُ، وَالْأَزَارِقَةُ، وَالنَّجَدَاتُ. وَالْعَبْدِيَّةُ، وَالِإِبَاضِيَّةُ وَهُمْ أَرْبَعُ فِرَقٍ: الْحَفْصِيَّةُ، وَالْيَزِيدِيَّةُ، وَالْحَارِثِيَّةُ، وَالْمُطِيعِيَّةُ. وَأَمَّا الْعَجَارِدَةُ فَإِحْدَى عَشْرَةَ فِرْقَةً وَهُمُ: الْمَيْمُونَةُ، وَالشُّعَيْبِيَّةُ، وَالْحَازِمِيَّةُ، وَالْحَمْزِيَّةُ، وَالْمَعْلُومِيَّةُ، وَالْمَجْهُولِيَّةُ، وَالصَّلْتِيَّةُ، وَالثَّعْلَبِيَّةُ أَرْبَعُ فِرَقٍ وَهُمُ: الْأَخْنَسِيَّةُ، وَالْمَعْبَدِيَّةُ، وَالشَّيْبَانِيَّةُ، وَالْمُكْرَمِيَّةُ، فَالْجَمِيعُ اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ. وَأَمَّا الْمُرْجِئَةُ فَخَمْسٌ وَهُمُ: الْعُبَيْدِيَّةُ، وَالْيُونُسِيَّةُ، وَالْغَسَّانِيَّةُ،

وَالثَّوْبَانِيَّةُ، وَالتُّومَنِيَّةُ. وَأَمَّا النَّجَّارِيَّةُ فَثَلَاثُ فِرَقٍ وَهُمُ: الْبُرْغُوثِيَّةُ، وَالزَّعْفَرَانِيَّةُ، وَالْمُسْتَدْرِكَةُ. وَأَمَّا الْجَبْرِيَّةُ فَفِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمُشَبِّهَةُ. فَالْجَمِيعُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً، فَإِذَا أَضِيفَتِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ إِلَى عَدَدِ الْفِرَقِ صَارَ الْجَمِيعُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. وَهَذَا التَّعْدِيدُ بِحَسَبِ مَا أَعْطَتْهُ الْمِنَّةُ فِي تَكْلِيفِ الْمُطَابَقَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، لَا عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ، إِذْ لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا دَلَّ الْعَقْلُ أَيْضًا عَلَى انْحِصَارِ مَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى اخْتِصَاصِ تِلْكَ الْبِدَعِ بِالْعَقَائِدِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أُصُولُ الْبِدَعِ أَرْبَعَةٌ، وَسَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً عَنْ هَؤُلَاءِ تَفَرَّقُوا، وَهُمُ: الْخَوَارِجُ، وَالرَّوَافِضُ، وَالْقَدَرِيَّةُ، وَالْمُرْجِئَةُ. قَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ: ثُمَّ تَشَعَّبَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ ثَمَانَ عَشْرَةَ فِرْقَةً: فَتِلْكَ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً، وَالثَّالِثَةُ وَالسَّبْعُونَ هِيَ النَّاجِيَةُ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ نَحْوُ الْأَوَّلِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْكَالِ مَا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ. فَشَرَحَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْحًا يُقَرِّبُ الْأَمْرَ، فَقَالَ: لَمْ يُرِدْ عُلَمَاؤُنَا بِهَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ أَصْلَ كُلِّ بِدْعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ

تَفَرَّقَتْ وَتَشَعَّبَتْ عَلَى مُقْتَضَى أَصْلِ الْبِدَعِ حَتَّى تَحَمَّلَتْ تِلْكَ الْعِدَّةُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَعَلَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ إِلَى الْآنِ. قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ لَا تَكَادُ تُوجَدُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ فَرْعًا لِلْأُولَى وَلَا شُعْبَةً مِنْ شُعَبِهَا، بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأُولَى بِسَبِيلٍ. ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِالْمِثَالِ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْبِدَعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُهُ فِي مَسَائِلَ مِنْ شُعَبِ الْقَدَرِ، وَفِي مَسَائِلَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْقَدَرِ، فَجَمِيعُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الْقَدَرِ. فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يَكُونُ فِعْلٌ بَيْنَ فِعْلَيْنِ مَخْلُوقَيْنِ عَلَى التَّوَلُّدِ، وَأَحَالَ مِثْلَهُ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يَعُودُ إِلَى الْقَدَرِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ. كَاخْتِلَافِهِمْ فِي الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ: فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِعْلُ الصَّلَاحِ لِعِبَادِهِ فِي دِينِهِمْ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءَ الْخَلْقِ الَّذِينَ عَلِمَ أَنَّهُ يُكَلِّفُهُمْ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِكْمَالُ عُقُولِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ وَإِزَاحَةُ عِلَلِهِمْ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ مِنْهُمْ: لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ إِكْمَالُ عُقُولِهِمْ وَلَا أَنْ يُؤْتِيَهُمْ أَسْبَابَ التَّكْلِيفِ. وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ - عِقَابُ

الْعُصَاةِ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا، وَالْمَغْفِرَةُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ سَفَهٌ مِنَ الْغَافِرِ. وَأَمَّا الْمِصْرِيُّونَ مِنْهُمْ ذَلِكَ. وَابْتَدَعَ جَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ مَنِ اسْتَصَرَّ امْرَأَةً لِيَتَزَوَّجَهَا فَوَثَبَ عَلَيْهَا فَوَطِئَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَلَا رِضًى وَلَا عَقْدٍ حَلَّ لَهُ ذَلِكَ. وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفُهُ. وَقَالَ ثُمَامَةُ بْنُ أَشْرَسَ: إِنَّ اللَّهَ يُصَيِّرُ الْكُفَّارَ وَالْمُلْحِدِينَ وَأَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمَجَانِينَ تُرَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُعَذِّبُهُمْ وَلَا يُرْضِيهِمْ. وَهَكَذَا ابْتَدَعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ بِدَعًا تَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ بِدْعَتِهَا الَّتِي هِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَا. وَبِدَعًا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَا. فَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِتَفَرُّقِ أُمَّتِهِ أُصُولَ الْبِدَعِ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الْأَجْنَاسِ لِلْأَنْوَاعِ. وَالْمَعَاقِدِ لِلْفُرُوعِ لَعَلَّهُمْ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - مَا بَلَغُوا هَذَا الْعَدَدَ إِلَى الْآنَ. غَيْرَ أَنَّ الزَّمَانَ بَاقٍ وَالتَّكْلِيفَ قَائِمٌ وَالْخَطَرَاتِ مُتَوَقَّعَةٌ. وَهَلْ قَرْنٌ أَوْ عَصْرٌ يَخْلُو إِلَّا وَتَحْدُثُ فِيهِ الْبِدَعُ؟ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالتَّفَرُّقِ كُلَّ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مِمَّا لَا يُلَائِمُ أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَلَا تَقْبَلُهَا قَوَاعِدُهُ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَتِ الْبِدَعُ أَنْوَاعًا لِأَجْنَاسٍ، أَوْ كَانَتْ مُتَغَايِرَةَ الْأُصُولِ وَالْمَبَانِي. فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - فَقَدْ وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ. وَوَجْهُ تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا، أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْحِسَابِ غُلَاةُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَلَا يُعَدُّونَ مِنَ الْأُمَّةِ وَلَا فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ، كَنُفَاةِ الْأَعْرَاضِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ

لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ إِلَّا بِثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ، وَكَالْحُلُولِيَّةِ وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الْغُلَاةِ. هَذَا مَا قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ حَسَنٌ مِنَ التَّقْرِيرِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى لِلنَّظَرِ فِي كَلَامِهِ مَجَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا اخْتَارَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْأَجْنَاسَ ; فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَعْيَانَ الْبِدَعِ وَقَدِ ارْتَضَى اعْتِبَارَ الْبِدَعِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ ; فَمُشْكِلٌ، لِأَنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا كُلَّ بِدْعَةٍ دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ فَكُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدَعًا كَيْفَ كَانَتْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا فِرْقَةً، فَلَا تَقِفُ فِي مِائَةٍ وَلَا مِائَتَيْنِ، فَضْلًا عَنْ وُقُوعِهَا فِي اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَأَنَّ الْبِدَعَ - كَمَا قَالَ - لَا تَزَالُ تَحْدُثُ مَعَ مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقَدْ مَرَّ مِنَ النَّقْلِ مَا يُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا وَالنَّاسُ يُحْيُونَ فِيهِ بِدْعَةً وَيُمِيتُونَ فِيهِ سُنَّةً، حَتَّى تَحْيَا الْبِدَعُ وَتَمُوتَ السُّنَنُ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْوَاقِعِ، فَإِنَّ الْبِدَعَ قَدْ نَشَأَتْ إِلَى الْآنَ وَلَا تَزَالُ تَكْثُرُ، وَإِنْ فَرَضْنَا إِزَالَةَ بِدَعِ الزَّائِغِينَ فِي الْعَقَائِدِ كُلِّهَا لَكَانَ الَّذِي يَبْقَى أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فَمَا قَالَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - غَيْرُ مُخَلَّصٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِ أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ لَمْ تَتَعَيَّنْ بَعْدُ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَصَحُّ فِي النَّظَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّعْيِينَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَالْعَقْلُ لَا يَقْتَضِيهِ. وَأَيْضًا فَالْمُنَازِعَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الَّتِي بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ

فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ فِرَقًا يُسَمِّيهَا وَيُبَرِّئُ نَفْسَهُ وَفِرْقَتَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَحْظُورِ. فَالْأَوْلَى مَا قَالَهُ مِنْ عَدَمِ التَّعْيِينِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّلِيلَ قَامَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي التَّعْيِينُ. أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ فَهِمْنَا مِنْهَا أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى أَوْصَافِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ لِيُحْذَرَ مِنْهَا، وَيَبْقَى الْأَمْرُ فِي تَعْيِينِ الدَّاخِلِينَ فِي مُقْتَضَى الْحَدِيثِ مُرَجَّى، وَإِنَّمَا وَرَدَ التَّعْيِينُ فِي النَّادِرِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَوَارِجِ: «إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» الْحَدِيثَ، مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُمْ مِمَّنْ شَمِلَهُمْ حَدِيثُ الْفِرَقِ. وَهَذَا الْفَصْلُ مَبْسُوطٌ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَزَمَ لِيَكُونَ سِتْرًا عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا سُتِرَتْ عَلَيْهِمْ قَبَائِحُهُمْ فَلَمْ يُفْضَحُوا فِي الدُّنْيَا فِي الْغَالِبِ، وَأَمَرَنَا بِالسَّتْرِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا لَمْ تُبْدَ لَنَا صَفْحَةُ الْخِلَافِ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَذْنَبَ أَحَدُهُمْ لَيْلًا أَصْبَحَ وَعَلَى بَابِهِ مَعْصِيَةٌ مَكْتُوبَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي شَأْنِ قُرْبَانِهِمْ: فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَرَّبُوا لِلَّهِ قُرْبَانًا فَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ نَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ تَأْكُلْهُ النَّارُ، وَفِي ذَلِكَ افْتِضَاحُ الْمُذْنِبِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ أَيْضًا، فَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ خُصَّتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالسَّتْرِ فِيهَا. وَأَيْضًا، فَلِلسَّتْرِ حِكْمَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهَا لَوْ أُظْهِرَتْ مَعَ أَنَّ أَصْحَابَهَا مِنَ الْأُمَّةِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ دَاعٍ إِلَى الْفُرْقَةِ وَعَدَمِ الْأُلْفَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ

بِهَا، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»، «وَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ»، وَأَخْبَرَ أَنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ الَّتِي تَحْلِقُ الدِّينَ. فَإِذَا كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنَّ التَّعْرِيفَ بِهِمْ عَلَى التَّعْيِينِ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ وَالْفُرْقَةَ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْبِدْعَةُ فَاحِشَةً جِدًّا كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، وَذَكَرَهُمْ بِعَلَامَتِهِمْ حَتَّى يُعْرَفُوا، وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الشَّنَاعَةِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ بِحَسْبِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَالسُّكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قُرَّةَ قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ فَكَانَ يَذْكُرُ أَشْيَاءَ قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ لِأُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْغَضَبِ، فَيَنْطَلِقُ نَاسٌ مِمَّنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ حُذَيْفَةَ فَيَأْتُونَ سَلْمَانَ فَيَذْكُرُونَ لَهُ قَوْلَ حُذَيْفَةَ فَيَقُولُ سَلْمَانُ: حُذَيْفَةُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ فَيَرْجِعُونَ إِلَى حُذَيْفَةَ

فَيَقُولُونَ لَهُ: قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَكَ إِلَى سَلْمَانَ فَمَا صَدَّقَكَ وَلَا كَذَّبَكَ. فَأَتَى حُذَيْفَةُ سَلْمَانَ وَهُوَ فِي مَبْقَلَةٍ فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ! مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَدِّقَنِي بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْضَبُ فَيَقُولُ لِنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَيَرْضَى فَيَقُولُ فِي الرِّضَى: أَمَا تَنْتَهِي حَتَّى تُورِثَ رِجَالًا حُبَّ رِجَالٍ وَرِجَالًا بُغْضَ رِجَالٍ. وَحَتَّى تُوقِعَ اخْتِلَافًا وَفُرْقَةً؟ وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَقَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ سَبَبْتُهُ سُبَّةً أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً فِي غَضَبِي فَإِنَّمَا أَنَا مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُونَ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أَجْعَلُهَا عَلَيْهِمْ صَلَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فَوَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ أَوْ أَكْتُبَنَّ إِلَى عُمَرَ. فَتَأَمَّلُوا مَا أَحْسَنَ هَذَا الْفِقْهَ مِنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -! وَهُوَ جَارٍ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَمِنْ هُنَا لَا يَنْبَغِي لِلرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ: هَؤُلَاءِ الْفِرَقُ هُمْ بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فُلَانٍ! وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُمْ بِعَلَامَتِهِمْ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا فِي مَوْطِنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَيْثُ نَبَّهَ الشَّرْعُ عَلَى تَعْيِينِهِمْ كَالْخَوَارِجِ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ مِنِ اسْتِقْرَائِهِ أَنَّهُمْ مُتَمَكِّنُونَ تَحْتَ حَدِيثِ الْفِرَقِ، وَيَجْرِي مَجْرَاهُمْ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، فَإِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ شِيعَةُ الْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ فِيهِمُ

الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ عَرَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا فِي الْخَوَارِجِ مِنْ أَنَّهُمْ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَإِقْرَائِهِ حَتَّى ابْتَدَعُوا فِيهِ ثُمَّ لَمْ يَتَفَقَّهُوا فِيهِ، وَلَا عَرَفُوا مَقَاصِدَهُ. وَلِذَلِكَ طَرَحُوا كُتُبَ الْعُلَمَاءِ وَسَمَّوْهَا كُتُبَ الرَّأْيِ وَخَرَقُوهَا وَمَزَّقُوا أُدُمَهَا، مَعَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنُوا فِي كُتُبِهِمْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، وَأَخَذُوا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ، زَعَمُوا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُجَسِّمُونَ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوَحِّدِينَ، وَتَرَكُوا الِانْفِرَادَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ مِنَ النَّصَارَى وَالْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ وَغَيْرِهِمْ. فَقَدِ اشْتُهِرَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ مَا كَانَ مِنْ خُرُوجِهِمْ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى لَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ خَرَّجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ «أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ قُرْطٍ غَزَا فَمَكَثَ فِي غَزَاتِهِ تِلْكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مُنْذُ زَمَانٍ فَقَصَدَ نَحْوَ الْأَذَانِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَإِذَا هُوَ بِالْأَزَارَقَةِ - صِنْفٌ مِنَ الْخَوَارِجِ - فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنْتُمْ يَا إِخْوَتِي؟ قَالُوا: أَنْتَ أَخُو الشَّيْطَانِ، لَنَقْتُلَنَّكَ. قَالَ. مَا تَرْضَوْنَ مِنِّي بِمَا رَضِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: وَأَيُّ شَيْءٍ رَضِيَ بِهِ مِنْكَ؟ قَالَ: أَتَيْتُهُ وَأَنَا كَافِرٌ فَشَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَخَلَّى عَنِّي - قَالَ - فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ». وَأَمَّا عَدَمُ فَهْمِهِمْ لِلْقُرْآنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقَدَرِيَّةِ حَدِيثٌ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ

مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ». وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا قَدَرَ، مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلَا تَشْهَدُوا جِنَازَتَهُ وَمَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ فَلَا تَعُودُوهُ، وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: لَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ. نَعَمْ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْقَدَرِ قَدْ ظَهَرَ: إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ - صَحِيحٌ لَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ. خَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ وَلَا تُفَاتِحُوهُمْ»

وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا. وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَا سَهْمَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ»، وَ «عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرِهِ يَرْفَعُهُ قَالَ: لُعِنَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا آخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وَعَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِي قَدَرِيَّةٌ وَزِنْدِيقِيَّةٌ أُولَئِكَ مَجُوسٌ». وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَعُودُهُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ - لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ - فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تَقْرَأَنَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي مَسْخٌ وَخَسْفٌ وَهُوَ فِي الزِّنْدِيقِيَّةِ». وَعَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْنَا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي لَعَلَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ مِنْ قَلْبِي فَقَالَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ

اللَّهِ مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ. قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: «لَا تَكَلَّمُوا فِي الْقَدَرِ فَإِنَّهُ سِرُّ اللَّهِ» وَهَذَا كُلُّهُ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ. وَجَاءَ فِي الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ شَيْءٌ لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَعْدِيلَ عَلَيْهِ. نَعَمْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48] نَزَلَ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ. فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «أَتَى مُشْرِكُوا قُرَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمُونَهُ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ». وَرَوَى مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ، وَلَكِنْ إِنْ صَحَّ فَفِيهِ دَلِيلٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُعَيِّنُ أَنَّهُمْ مِنَ الْفِرَقِ، وَكَلَامُنَا فِيهِ. وَالثَّانِي: حَيْثُ تَكُونُ الْفِرْقَةُ تَدْعُو إِلَى ضَلَالَتِهَا وَتَزْيِينِهَا فِي قُلُوبِ الْعَوَامِّ وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ، فَإِنَّ ضَرَرَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَضَرَرِ إِبْلِيسَ،

وَهُمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، فَلَابُدَّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَنِسْبَتُهُمْ إِلَى الْفِرَقِ إِذَا قَامَتْ لَهُ الشُّهُودُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْهُمْ. كَمَا اشْتُهِرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ. فَرَوَى عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ. قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَذَكَرَ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ فَوَقَعَ فِيهِ وَنَالَ مِنْهُ. فَقُلْتُ: أَبَا الْخَطَّابِ: أَلَا أَرَى الْعُلَمَاءَ يَقَعُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ فَقَالَ: يَا أَحْوَلُ أَوَلَا تَدْرِي أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ابْتَدَعَ بِدَعَةً فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُذْكَرَ حَتَّى تُحْذَرَ؟ فَجِئْتُ مِنْ عِنْدِ قَتَادَةَ وَأَنَا مُغْتَمٌّ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ قَتَادَةَ فِي عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَمَا رَأَيْتُ مَنْ نَسُكِهِ وَهَدْيِهِ، فَوَضَعْتُ رَأْسِي نِصْفَ النَّهَارِ وَإِذَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَالْمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يَحُكُّ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَحُكُّ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ إِنِّي سَأُعِيدُهَا. قَالَ: فَتَرَكْتُهُ حَتَّى حَكَّهَا. فَقُلْتُ لَهُ: أَعِدْهَا. فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَابُدَّ مِنْ ذِكْرِهِمْ وَالتَّشْرِيدِ بِهِمْ، لِأَنَّ مَا يَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ضَرَرِهِمْ إِذَا تُرِكُوا، أَعْظَمُ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِذِكْرِهِمْ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُمْ إِذَا كَانَ سَبَبُ تَرْكِ التَّعْيِينِ الْخَوْفُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالْعَدَوَاةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الدَّاعِينَ لِلْبِدْعَةِ وَحْدَهُمْ - إِذَا أُقِيمَ - عَلَيْهِمْ أَسْهَلُ مِنَ التَّفَرُّقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الدَّاعِينَ وَمَنْ شَايَعَهُمْ وَاتَّبَعَهُمْ، وَإِذَا تَعَارَضَ الضَّرَرَانِ يُرْتَكَبُ أَخَفُّهُمَا وَأَسْهَلُهُمَا، وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ جَمِيعِهِ، كَقَطْعِ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ، إِتْلَافُهَا أَسْهَلُ مِنْ إِتْلَافِ النَّفْسِ. وَهَذَا شَأْنُ الشَّرْعِ أَبَدًا: يَطْرَحُ حُكْمَ الْأَخَفِّ وِقَايَةً مِنَ الْأَثْقَلِ. فَإِذَا فُقِدَ الْأَمْرَانِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرُوا وَلَا أَنْ يُعَيَّنُوا إِنْ وُجِدُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مُثِيرٍ لِلشَّرِّ وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَمَتَى حَصَلَ بِالْيَدِ مِنْهُمْ أَحَدٌ

العلامات والخواص التي تعرف بها هذه الفرق

ذَاكَرَهُ بِرِفْقٍ، وَلَمْ يُرِهِ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ السُّنَّةِ، بَلْ يُرِيهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَأَنَّ الصَّوَابَ الْمُوَافِقَ لِلسُّنَّةِ كَذَا وَكَذَا. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَعَصُّبٍ وَلَا إِظْهَارِ غَلَبَةٍ فَهُوَ الْحَجُّ، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ دُعِيَ الْخَلْقُ أَوَّلًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى [إِذَا] عَانَدُوا وَأَشَاعُوا الْخِلَافَ وَأَظْهَرُوا الْفُرْقَةَ قُوبِلُوا بِحَسَبِ ذَلِكَ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: أَكْثَرُ الْجَهَالَاتِ إِنَّمَا رَسَخَتْ فِي قُلُوبِ الْعَوَامِّ بِتَعَصُّبِ جَمَاعَةٍ مِنْ جُهَّالِ أَهْلِ الْحَقِّ، أَظْهَرُوا الْحَقَّ فِي مَعْرِضِ التَّحَدِّي وَالْإِدْلَالِ وَنَظَرُوا إِلَى ضُعَفَاءِ الْخُصُومِ بِعَيْنِ التَّحْقِيرِ وَالِازْدِرَاءِ، فَثَارَتْ مِنْ بَوَاطِنِهِمْ دَوَاعِي الْمُعَانَدَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَرَسَخَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الِاعْتِقَادَاتُ الْبَاطِلَةُ، وَتَعَذَّرَ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْمُتَلَطِّفِينَ مَحْوُهَا مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهَا، حَتَّى انْتَهَى التَّعَصُّبُ بِطَائِفَةٍ إِلَى أَنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي نَطَقُوا بِهَا فِي الْحَالِ بَعْدَ السُّكُوتِ عَنْهَا طُولَ الْعُمُرِ قَدِيمَةٌ. وَلَوْلَا اسْتِيلَاءُ الشَّيْطَانِ بِوَاسِطَةِ الْعِنَادِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْأَهْوَاءِ، لَمَا وُجِدَ مِثْلُ هَذَا الِاعْتِقَادِ مُسْتَنْفَرًا فِي قَلْبِ مَجْنُونٍ فَضْلًا عَنْ قَلْبِ عَاقِلٍ. هَذَا مَا قَالَ. وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ فَالْوَاجِبُ تَسْكِينُ الثَّائِرَةِ مَا قُدِرَ عَلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْعَلَامَاتُ وَالْخَوَاصُّ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا هَذِهِ الْفِرَقُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ فَلَهُمْ خَوَاصُّ وَعَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: عَلَامَاتٌ إِجْمَالِيَّةٌ، وَعَلَامَاتٌ تَفْصِيلِيَّةٌ. فَأَمَّا الْعَلَامَاتُ الْإِجْمَالِيَّةُ فَثَلَاثَةٌ.

إِحْدَاهَا: الْفُرْقَةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 64] رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الْجِدَالُ وَالْخُصُومَاتُ فِي الدِّينِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَصِدْقَ الْحَدِيثِ». وَهَذَا التَّفْرِيقُ - كَمَا تَقَدَّمَ - إِنَّمَا هُوَ الَّذِي يُصَيِّرُ الْفِرْقَةَ الْوَاحِدَةَ فِرَقًا وَالشِّيعَةَ الْوَاحِدَةَ شِيَعًا. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: صَارُوا فِرَقًا لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ. وَبِمُفَارَقَةِ الدِّينِ تَشَتَّتَ أَهْوَاؤُهُمْ فَافْتَرَقُوا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] ثُمَّ بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] وَهُمْ

أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَأَصْحَابُ الضَّلَالَاتِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ وَلَا رَسُولُهُ. قَالَ: وَوَجَدْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَلَمْ يَتَفَرَّقُوا، وَلَا صَارُوا شِيَعًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوا الدِّينَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا أُذِنَ لَهُمْ مِنِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا لَمْ يَجِدُوا فِيهِ نَصًّا، وَاخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ فَصَارُوا مَحْمُودِينَ لِأَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِيمَا أُمِرُوا بِهِ كَاخْتِلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَزَيْدٍ فِي الْجَدِّ مَعَ الْأُمِّ، وَقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَخِلَافِهِمْ فِي الْفَرِيضَةِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَخِلَافِهِمْ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَفِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَكَانُوا مَعَ هَذَا أَهْلَ مَوَدَّةٍ وَتَنَاصُحٍ، وَأُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِمَةٌ، فَلَمَّا حَدَثَتِ الْأَهْوَاءُ الْمُرْدِيَةُ، الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَهَرَتِ الْعَدَاوَاتُ وَتَحَزَّبَ أَهْلُهَا فَصَارُوا شِيَعًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَى أَفْوَاهِ أَوْلِيَائِهِ. قَالَ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا وَلَمْ يُورِثْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةً وَلَا بَغْضَاءَ وَلَا فُرْقَةً، عَلِمْنَا أَنَّهَا مِنْ مَسَائِلِ الْإِسْلَامِ. وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ حَدَثَتْ وَطَرَأَتْ فَأَوْجَبَتِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَالتَّدَابُرَ وَالْقَطِيعَةَ، عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّهَا الَّتِي عَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَائِشَةُ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] مَنْ هُمْ؟ -

قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» الْحَدِيثَ الَّذِي تَقَدَّمُ ذِكْرُهُ. قَالَ: فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ وَدِينٍ أَنْ يَجْتَنِبَهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] فَإِذَا اخْتَلَفُوا وَتَعَاطَوْا ذَلِكَ، كَانَ لِحَدَثٍ أَحْدَثُوهُ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى. هَذَا مَا قَالَهُ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو إِلَى الْأُلْفَةِ وَالتَّحَابِّ وَالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ، فَكُلُّ رَأْيٍ أَدَّى إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَخَارِجٌ عَنِ الدِّينِ. وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ الْمُتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ فِرْقَةٍ مِنَ الْفِرَقِ الْمُتَضَمِّنَةِ فِي الْحَدِيثِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْخَوَارِجِ الَّذِينَ أَخْبَرَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ»: وَأَيُّ فُرْقَةٍ تُوَازِي هَذِهِ الْفُرْقَةَ الَّتِي بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ؟ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي سَائِرِ مَنْ عُرِفَ مِنَ الْفِرَقِ أَوِ ادُّعِيَ ذَلِكَ فِيهِمْ، إِلَّا أَنَّ الْفِرْقَةَ لَا تَعْتَبِرُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ، لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. وَحَيْثُ ثَبَتَ أَنَّ مُخَالَفَةَ هَذِهِ الْفِرَقِ فِي الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، فَإِنَّ الْفُرْقَةَ لَابُدَّ أَضْعَفُ، فَيَجِبُ النَّظَرُ فِي هَذَا كُلِّهِ. وَالْخَاصِّيَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ} [آل عمران: 7] الْآيَةَ

هِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] الْآيَةَ. فَبَيَّنَتِ الْآيَةُ أَنَّ أَهْلَ الزَّيْغِ يَتَّبِعُونَ مُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِ، وَجَعَلُوا مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَتَّبِعَ الْمُتَشَابِهَ لَا الْمُحْكَمَ. وَمَعْنَى الْمُتَشَابِهِ: مَا أُشْكِلَ مَعْنَاهُ، وَلَمْ يُبَيَّنْ مَغْزَاهُ، سَوَاءً كَانَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْحَقِيقِيِّ - كَالْمُجْمَلِ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَمَا يَظْهَرُ مِنَ التَّشْبِيهِ - أَوْ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ مَا يَحْتَاجُ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ ظَاهِرَ الْمَعْنَى لِبَادِي الرَّأْيِ، كَاسْتِشْهَادِ الْخَوَارِجِ عَلَى إِبْطَالِ التَّحْكِيمِ بِقَوْلِهِ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ صَحِيحٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى الْبَيَانِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ لِلَّهِ تَارَةً بِغَيْرِ تَحْكِيمٍ لِأَنَّهُ إِذَا أَمَرَنَا بِالتَّحْكِيمِ فَالْحُكْمُ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: " قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ " فَإِنَّهُمْ حَصَرُوا التَّحْكِيمَ فِي الْقِسْمَيْنِ وَتَرَكُوا قِسْمًا ثَالِثًا وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] الْآيَةَ. فَهَذَا قِتَالٌ مِنْ غَيْرِ سَبْيٍ، لَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نَبَّهَهُمْ عَلَى وَجْهٍ أَظْهَرَ وَهُوَ أَنَّ السِّبَاءَ إِذَا حَصَلَ فَلَابُدَّ مِنْ وُقُوعِ بَعْضِ الْمُقَاتِلِينَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمُ السَّبَايَا فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا كَالسَّبَايَا، فَيُخَالِفُونَ الْقُرْآنَ الَّذِي ادَّعَوُا التَّمَسُّكَ بِهِ.

وَكَذَلِكَ فِي مَحْوِ الِاسْمِ مِنْ إِمَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ، اقْتَضَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِثْبَاتٌ لِإِمَارَةِ الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ نَفْيَ الِاسْمِ مِنْهَا لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَمَّى. وَأَيْضًا: فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَمَّى لَمْ يَقْتَضِ إِثْبَاتَ إِمَارَةٍ أُخْرَى. فَعَارَضَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَحْوِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ الرِّسَالَةِ مِنَ الصَّحِيفَةِ مُعَارَضَةً لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا. وَلِذَلِكَ رَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ - أَوْ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ -. فَتَأَمَّلُوا وَجْهَ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَكَيْفَ أَدَّى إِلَى الضَّلَالِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِي يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ». وَالْخَاصِّيَّةُ الثَّالِثَةُ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] وَالزَّيْغُ هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] وَقَوْلُهُ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ وَلَا عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا. إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةَ رَاجِعَةٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهَا إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ فَلَا يَعْرِفُهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ إِذَا لَمْ يُغَالِطْ نَفْسَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ خَارِجِيٌّ.

وَقَدْ مَرَّ أَنَّ أَصْلَ حُدُوثِ الْفِرَقِ إِنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ بِمَوَاقِعِ السُّنَّةِ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ: «اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا». فَكُلُّ أَحَدٍ عَالِمٌ بِنَفْسِهِ هَلْ بَلَغَ فِي الْعِلْمِ مَبْلَغَ الْمُفْتِينَ أَمْ لَا؟ وَعَالِمٌ [إِذَا] رَاجَعَ النَّظَرَ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ: هَلْ هُوَ قَائِلٌ بِعِلْمٍ وَاضِحٍ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ أَمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ؟ أَمْ هُوَ عَلَى شَكٍّ فِيهِ؟ وَالْعَالِمُ إِذَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الْعُلَمَاءُ فَهُوَ فِي الْحُكْمِ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ حَتَّى يَشْهَدَ فِيهِ غَيْرُهُ وَيَعْلَمَ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ مَا شَهِدَ لَهُ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ أَوْ عَلَى شَكٍّ، فَاخْتِيَارُ الْإِقْدَامِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْإِحْجَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى. إِذْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يُقَدَّمَ إِلَّا أَنْ يُقَدِّمَهُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا. قَالَ الْعُقَلَاءُ: رَأْيُ الْمُسْتَشَارِ أَنْفَعُ لِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الْهَوَى، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُسْتَشَرْ فَإِنَّهُ غَيْرُ بَرِيءٍ، وَلَاسِيَّمَا فِي الدُّخُولِ فِي الْمَنَاصِبِ الْعَلِيَّةِ وَالرُّتَبِ الشَّرْعِيَّةِ كَرُتَبِ الْعِلْمِ. فَهَذَا أُنْمُوذَجٌ يُنَبِّهُ صَاحِبَ الْهَوَى فِي هَوَاهُ وَيَضْبِطُهُ إِلَى أَصْلٍ يَعْرِفُ بِهِ؛ هَلْ هُوَ فِي تَصَدُّرِهِ إِلَى فَتْوَى النَّاسِ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى، أَمْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ؟. وَأَمَّا الْخَاصِّيَّةُ الثَّانِيَةُ فَرَاجِعَةٌ إِلَى الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ يَعْرِفُونَهَا وَيَعْرِفُونَ أَهْلَهَا، فَهُمُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِمْ فِي بَيَانِ مَنْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلْمُحْكَمِ فَيُقَلَّدُ فِي الدِّينِ، وَمَنْ هُوَ الْمُتَّبِعُ لِلْمُتَشَابِهِ فَلَا يُقَلَّدُ أَصْلًا.

وَلَكِنْ لَهُ عَلَامَةٌ ظَاهِرَةٌ أَيْضًا نَبَّهَ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ الَّذِي فُسِّرَتِ الْآيَةُ بِهِ، قَالَ فِيهِ: فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ، خَرَّجَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ. فَجَعَلَ مِنْ شَأْنِ الْمُتَّبِعِ لِلْمُتَشَابِهِ أَنَّهُ يُجَادِلُ فِيهِ وَيُقِيمُ النِّزَاعَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّائِغَ الْمُتَّبِعَ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الدَّلِيلِ لَا يَزَالُ فِي رَيْبٍ وَشَكٍّ، إِذِ الْمُتَشَابِهُ لَا يُعْطَى بَيَانًا شَافِيًا، وَلَا يَقِفُ مِنْهُ مُتَّبِعُهُ عَلَى حَقِيقَةٍ، فَاتِّبَاعُ الْهَوَى يُلْجِئُهُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِهِ، وَالنَّظَرُ فِيهِ لَا يَتَخَلَّصُ لَهُ، فَهُوَ عَلَى شَكٍّ أَبَدًا، وَبِذَلِكَ يُفَارِقُ الرَّاسِخَ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّ جِدَالَهُ إِنِ افْتُقِرَ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي مَوَاقِعِ الْإِشْكَالِ الْعَارِضِ طَلَبًا لِإِزَالَتِهِ، فَسُرْعَانَ مَا يَزُولُ إِذَا بَيَّنَ لَهُ مَوْضِعَ النَّظَرِ. وَأَمَّا ذُو الزَّيْغِ فَإِنَّ هَوَاهُ لَا يُخَلِّيهِ إِلَى طَرْحِ الْمُتَشَابِهِ. فَلَا يَزَالُ فِي جِدَالٍ عَلَيْهِ وَطَلَبٍ لِتَأْوِيلِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَقَصْدِهِمْ أَنْ يُنَاظِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَنَّهُ اللَّهُ، أَوْ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، مُسْتَدِلِّينَ بِأُمُورٍ مُتَشَابِهَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: فَعَلْنَا وَخَلَقْنَا وَهَذَا كَلَامُ جَمَاعَةٍ. وَمِنْ أَنَّهُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ كَلَامُ طَائِفَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى أَصْلِهِ وَنَشْأَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَكَوْنِهِ كَسَائِرِ بَنِي آدَمَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَتَلْحَقُهُ الْآفَاتُ وَالْأَمْرَاضُ. وَالْخَبَرُ مَذْكُورٌ فِي السِّيَرِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَتَوْا لِمُنَاظَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُجَادَلَتِهِ لَا

يَقْصِدُوا اتِّبَاعَ الْحَقِّ. وَالْجِدَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَنْقَطِعُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا بَيَّنَ لَهُمُ الْحَقَّ وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْهُ دُعُوا إِلَى أَمْرٍ آخَرَ خَافُوا مِنْهُ الْهِلْكَةَ فَكَفُّوا عَنْهُ؛ وَهُوَ الْمُبَاهَلَةُ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران: 61]. الْآيَةَ، وَشَأْنُ هَذَا الْجِدَالِ أَنَّهُ شَاغِلٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، كَالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: جَلَسَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَشَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ لَيْلَةً يَتَخَاصَمُونَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ. قَالَ: فَلَمَّا صَلَّوْا جَعَلَ عَمْرٌو يَقُولُ: هِيهِ أَبَا مَعْمَرٍ! هِيهِ أَبَا مَعْمَرٍ! فَإِذَا رَأَيْتُمْ أَحَدًا شَأْنُهُ أَبَدًا الْجِدَالُ فِي الْمَسَائِلِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ وَلَا يَرْعَوِي، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ زَائِغُ الْقَلْبِ مُتَّبِعٌ لِلْمُتَشَابِهِ فَاحْذَرُوهُ. وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ لِلْأَوَّلِ فَعَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ التَّوَاصُلَ وَالتَّقَاطُعَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَبِمَعْرِفَتِهِ يُعْرَفُ أَهْلُهُ. وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْفِرَقِ إِذْ أَشَارَ إِلَى الِافْتِرَاقِ شِيَعًا بِقَوْلِهِ: «وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى كَذَا» وَلَكِنَّ هَذَا الِافْتِرَاقَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بَعْدَ الْمُلَابَسَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَلَهُ عَلَامَاتٌ تَتَضَمَّنُ الدَّلَالَةَ عَلَى التَّفَرُّقِ، أَوَّلًا: مُفَاتَحَةُ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ إِلْقَاءُ الْمُخَالِفِ لِمَنْ لَقِيَهُ ذَمَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِمَّنِ اشْتَهَرَ عِلْمُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ وَاقْتِدَاءُ الْخَلَفِ بِهِمْ،

وَيَخْتَصُّ بِالْمَدْحِ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ شَاذٍّ مُخَالِفٍ لَهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْعَلَامَةِ فِي الِاعْتِبَارِ تَكْفِيرُ الْخَوَارِجِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُمْ ذَمُّوا مَنْ مَدَحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى مَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَمَدَحُوا مَنِ اتَّفَقَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى ذَمِّهِ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُلْجِمٍ قَاتِلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَصَوَّبُوا قَتْلَهُ إِيَّاهُ، وَقَالُوا: إِنَّ فِي شَأْنِهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207] وَأَمَّا الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204]، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَذَبُوا - قَاتَلَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ فِي مَدْحِهِ لِابْنِ مُلْجِمٍ. يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانًا إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ ... أَوْفَى الْبَرِّيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانًا. وَكَذَبَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ يَجْرِي عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، فَهُوَ مِنَ الْفِرَقِ الْمُخَالَفَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَرُوِيَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْيَسَعَ، قَالَ: تَكَلَّمَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ يَوْمًا - يَعْنِي الْمُعْتَزِلِيَّ - فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: أَلَا تَسْمَعُونَ؟ مَا كَلَامُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ - عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ - إِلَّا خِرْقَةُ حَيْضٍ مُلْقَاةٌ.

التوفيق بين روايات حديث الفرق

وَرُوِيَ أَنَّ زَعِيمًا مِنْ زُعَمَاءِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ كَانَ يُرِيدُ تَفْضِيلَ الْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ، فَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ عِلْمَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، جُمْلَتُهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ سَرَاوِيلِ امْرَأَةٍ. هَذَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ الزَّائِغِينَ، قَاتَلَهُمُ اللَّهُ. وَ [أَمَّا] الْعَلَامَةُ التَّفْصِيلِيَّةُ فِي كُلِّ فِرْقَةٍ فَقَدْ نَبِّهَ عَلَيْهَا وَأُشِيرَ إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفِي ظَنِّي أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَجَدَهَا مُنَبَّهًا عَلَيْهَا وَمُشَارًا إِلَيْهَا، وَلَوْلَا أَنَّا فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ السَّتْرَ عَلَيْهَا لَكَانَ فِي الْكَلَامِ فِي تَعْيِينِهَا مَجَالٌ مُتَّسِعٌ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ كُنَّا هَمَمْنَا بِذَلِكَ فِي مَاضِي الزَّمَانِ. فَغَلَبَنَا عَلَيْهِ مَا دَلَّنَا عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى خِلَافُ ذَلِكَ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي تَعْرَّضْنَا لِشَرْحِهِ لَمْ يُعَيِّنْ فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ وَاحِدَةً مِنْهَا، لِهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَإِنَّمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ لِتُحْذَرَ مَظَانُّهَا، وَعَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَهِيَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ لِيَتَحَرَّاهَا الْمُكَلَّفُ، وَسَكَتَ عَنْ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، لِأَنَّ ذِكْرَهَا فِي الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْأُمَّةَ الْخَوْفَ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا، وَذَكَرَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِرْقَةً مِنِ الْفِرَقِ الْهَالِكَةِ لِأَنَّهَا - كَمَا قَالَ - أَشَدُّ الْفِرَقِ عَلَى الْأُمَّةِ. وَبَيَانُ كَوْنِهَا أَشَدَّ فِتْنَةً مِنْ غَيْرِهَا سَيَأْتِي آخِرًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. [التَّوْفِيقُ بَيْنَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْفِرَقِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ افْتِرَاقَ الْيَهُودِ كَافْتِرَاقِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ،

وَهِيَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَلَى الشَّكِّ! إِحْدَى وَسَبْعِينَ؟ أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَيْنِ؟ وَأُثْبِتَ فِي التِّرْمِذِيِّ فِي الرِّوَايَةِ الْغَرِيبَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ افْتِرَاقَ النَّصَارَى، وَذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَجْلِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَجْرَى فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَطْ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ. وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي» الْحَدِيثَ. وَفِي أَبِي دَاوُدَ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مَعًا إِثْبَاتُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ. وَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَافْتَرَقَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً. فَإِنْ بَنِينَا عَلَى إِثْبَاتِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَلَا إِشْكَالَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْإِحْدَى وَالسَّبْعِينَ تَزِيدُ هَذِهِ الْأُمَّةَ فِرْقَتَيْنِ، وَعَلَى رِوَايَةِ الِاثْنَتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ تَزِيدُ فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَثَبَتَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْكَلَامِ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْيَهُودَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ، وَأَنَّ النَّصَارَى افْتَرَقَتْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِيْنَ فِرْقَةً، وَوَافَقَتْ سَائِرَ

التوفيق بين روايات حديث الفرق

الرِّوَايَاتِ فِي افْتِرَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هَكَذَا فِيْمَا رَأَيْتُهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيْثِ، إِلَّا مَا وَقَعَ فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ مِنْ حَدِيْثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَيَأْتِي. وَإِنْ بَنَيْنَا عَلَى إِعْمَالِ الرِّوَايَاتِ. فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْإِحْدَى وَالسَّبْعِينَ وَقْتَ أُعْلِمَ بِذَلِكَ، ثُمُّ أُعْلِمَ بِزِيَادَةِ فِرْقَةٍ، إِمَّا أَنَّهَا كَانَتْ فِيهِمْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [إِلَّا] فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُوْنَ جُمْلَةُ الْفِرَقِ فِي الْمِلَّتَيْنِ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ فَأُخْبِرَ بِهِ، ثُمَّ حَدَثَتِ الثَّانِيَةُ وَالسَّبْعُونَ فِيهِمَا فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ التَّعْرِيفِ بِهَا أَوِ الْحُدُوثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ. [التَّوْفِيقُ بَيْنَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْفِرَقِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: هَذِهِ الْأُمَّةُ ظَهَرَ أَنَّ فِيهَا فِرْقَةً زَائِدَةً عَلَى الْفِرَقِ الْأُخْرَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَالثِّنْتَانِ وَالسَّبْعُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ الْمُتَوَعَّدِينَ بِالنَّارِ، وَالْوَاحِدَةُ فِي الْجَنَّةِ. فَإِذَا انْقَسَمَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِحَسَبِ هَذَا الِافْتِرَاقِ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ فِي النَّارِ، وَقِسْمٌ فِي الْجَنَّةِ، وَلَمْ يُبَيَّنْ ذَلِكَ فِي فِرَقِ الْيَهُودِ وَلَا فِي فِرَقِ النَّصَارَى، إِذْ لَمْ يُبَيِّنِ الْحَدِيثُ أَنْ لَا تَقْسِيمَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَيَبْقَى النَّظَرُ: هَلْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ أَمْ لَا؟ وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ نَظَرَانِ: هَلْ زَادَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِرْقَةً هَالِكَةً: أَمْ لَا؟

وَهَذَا النَّظَرُ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ. . . وَلَكِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْحَدِيثِ. فَظَاهِرُ النَّقْلِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَابُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا مَنْ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَعَمِلَ بِسُنَّتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْسُقْ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} [المائدة: 66] وَهَذَا كَالنَّصِّ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ» فَهَذَا يَدُلُّ بِإِشَارَتِهِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُ. وَخَرَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ: - قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ - أَتَدْرِي أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟ - قَالَ - قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: الْوِلَايَةُ فِي اللَّهِ، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِيهِ - ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ! - قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ! ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ - أَتَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ - فَإِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ أَفْضَلُهُمْ عَمَلًا إِذَا فَقُهُوا فِي دِينِهِمْ - ثُمَّ قَالَ - يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ! - قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ - هَلْ تَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ لِلْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً نَجَا مِنْهُمْ ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا، فِرْقَةٌ آذَتِ الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُؤَاذَاةِ الْمُلُوكِ، فَأَقَامُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَأَخَذَتْهُمُ الْمُلُوكُ وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُؤَاذَاةِ الْمُلُوكِ وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ وَهَرَبُوا فِيهَا، فَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]. فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَصَدَّقُوا بِي، وَالْفَاسِقُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِي وَجَحَدُوا بِي،»

فَأَخْبَرَ أَنْ فِرَقًا ثَلَاثًا نَجَتْ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ الْمَعْدُودَةِ وَالْبَاقِيَةُ هَلَكَتْ. وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَعَا رَأْسَ الْجَالُوتِ وَأَسْقُفَ النَّصَارَى فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمَا عَنْ أَمْرٍ وَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمَا فَلَا تَكْتُمَا،

يَا رَأْسَ جَالُوتٍ! أَنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَأَطْعَمَكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَضَرَبَ لَكُمْ فِي الْبَحْرِ طَرِيقًا يَبَسًا، وَجَعَلَ لَكُمُ الْحَجَرَ الطُّورِيَّ يَخْرُجُ لَكُمْ مِنْهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَيْنٌ! إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَلَى كَمِ افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ مِنْ فِرْقَةٍ بَعْدَ مُوسَى؟ فَقَالَ لَهُ: وَلَا فِرْقَةً وَاحِدَةً. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَقَدِ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً. ثُمَّ دَعَا الْأَسْقُفَ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَجَعَلَ عَلَى رِجْلِهِ الْبَرَكَةَ، وَأَرَاكُمُ الْعِبْرَةَ، فَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأَحْيَا الْمَوْتَى، وَصَنَعَ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ طُيُورًا وَأَنْبَأَكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ. فَقَالَ: دُونَ هَذَا الصِّدْقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. كَمِ افْتَرَقَتِ النَّصَارَى بَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ فِرْقَةٍ؟ قَالَ: لَا. وَاللَّهِ وَلَا فِرْقَةً. فَقَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. لَقَدِ افْتَرَقَتْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ يَا يَهُودِيُّ! فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] فَهِيَ الَّتِي تَنْجُو، وَأَمَّا نَحْنُ فَيَقُولُ اللَّهُ فِينَا: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181] فَهَذِهِ الَّتِي تَنْجُو مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

فَفِي هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ. وَخَرَجَّهُ الْآجُرِّيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ بِمَعْنَى حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّ وَاحِدَةً مِنْ فِرَقِ الْيَهُودِ وَمِنْ فِرَقِ النَّصَارَى فِي الْجَنَّةِ. وَخَرَّجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمُ اخْتَرَعُوا كِتَابًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمُ اسْتَهْوَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَحَلَّتْهُ أَلْسِنَتُهُمْ، وَكَانَ الْحَقُّ يَحُولُ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ، حَتَّى نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَقَالُوا: اعْرِضُوا هَذَا الْكِتَابَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنْ تَابَعُوكُمْ فَاتْرُكُوهُمْ، وَإِنْ خَالَفُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، قَالُوا: لَا! بَلْ أَرْسِلُوا إِلَى فُلَانٍ - رَجُلٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ - فَاعْرِضُوا عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابَ فَإِنْ تَابَعَكُمْ فَلَنْ يُخَالِفَكُمْ أَحَدٌ بَعْدَهُ، وَإِنْ خَالَفَكُمْ فَاقْتُلُوهُ؛ فَلَنْ يَخْتَلِفَ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَحَدٌ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأَخَذَ وَرَقَةً فَكَتَبَ فِيهَا الْكِتَابَ ثُمَّ جَعَلَهَا فِي قَرْنِهِ، ثُمَّ عَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ لَبِسَ عَلَيْهَا الثِّيَابَ، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَقَالُوا: أَتُؤْمِنُ بِهَذَا؟ فَأَوْمَأَ إِلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: آمَنْتُ بِهَذَا، وَمَا لِيَ لَا أُومِنُ بِهَذَا؟ (يَعْنِي الْكِتَابَ الَّذِي فِي الْقَرْنِ) فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، وَكَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَغْشَوْنَهُ، فَلَمَّا مَاتَ نَبَشُوهُ فَوَجَدُوا الْقَرْنَ وَوَجَدُوا الْكِتَابَ، فَقَالُوا: أَلَا تَرَوْنَ قَوْلَهُ: آمَنْتُ بِهَذَا، وَمَا لِي لَا أُومِنُ بِهَذَا؟ وَإِنَّمَا عَنَى هَذَا الْكِتَابَ. فَاخْتَلَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَخَيْرُ مِلَلِهِمْ أَصْحَابُ ذَلِكَ الْقَرْنِ - قَالَ عَبْدُ اللَّهِ -: وَإِنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ سَيَرَى مُنْكَرًا بِحَسَبِ أَمْرِهِ، يَرَى

اتباع الأمة سنن من قبلها

مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ خَيْرًا كَاره. فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِرْقَةً كَانَتْ عَلَى الْحَقِّ الصَّرِيحِ فِي زَمَانِهِمْ، لَكِنْ لَا أَضْمَنُ عُهْدَةَ صِحَّتِهِ وَلَا صِحَّةَ مَا قَبْلَهُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَرِقَّةٌ نَاجِيَةٌ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى رِوَايَةِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، أَوْ فِرْقَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ الْإِحْدَى وَالسَّبْعِينَ، فَيَكُونُ لَهَا نَوْعٌ مِنَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ أَثْبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَبْعَثُ مَنْ قَبْلَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي أَعْيَانِ مُخَالَفَتِهَا، فَثَبَتَ أَنَّهَا تَبِعَتْهَا فِي أَمْثَالِ بِدْعَتِهَا، وَهَذِهِ هِيَ: [اتِّبَاعُ الْأُمَّةِ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهَا] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ - قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ - قَالَ فَمَنْ؟» زِيَادَةٌ إِلَى حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الْغَرِيبِ، فَدَلَّ ضَرْبُ الْمِثَالِ فِي التَّعْيِينِ عَلَى أَنَّ الِاتِّبَاعَ فِي أَعْيَانِ أَفْعَالِهِمْ.

وَفِي الصَّحِيحِ «عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللِّيثِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ خَيْبَرَ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ، وَلِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ حَوْلَهَا وَيَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» وَصَارَ حَدِيثُ الْفِرَقِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ صَادِقًا عَلَى أَمْثَالِ الْبِدَعِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَبْتَدِعُ فِي دِينِ اللَّهِ مِثْلَ تِلْكَ الْبِدَعِ وَتَزِيدُ عَلَيْهَا بِبِدْعَةٍ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا وَاحِدَةٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ الزَّائِدَةَ إِنَّمَا تُعْرَفُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْبِدَعِ الْأُخَرِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ، أَوْ لَا يُسَوَّغُ التَّعْرِيفُ بِهِ وَإِنْ عُرِفَ، فَكَذَلِكَ لَا تَتَعَيَّنُ الْبِدْعَةُ الزَّائِدَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِمَا أَخَذَ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَمَا فَعَلَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: وَهَلِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ» وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرْبُ مَثَلٍ، فَقَوْلُهُ: «حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِمَا أَخَذَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِهَا» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَأْخُذُ بِمِثْلِ مَا أَخَذُوا بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ أَعْيَانُ بِدَعِهِمْ، بَلْ قَدْ تَتَّبِعُهَا فِي أَعْيَانِهَا وَتَتَّبِعُهَا فِي أَشْبَاهِهَا،

كفر الفرق وفسقها ونفوذ الوعيد أو جعله في المشيئة

فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ» الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: «حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ خَرِبٍ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ». وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ: «فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا». . . " الْحَدِيثَ. فَإِنَّ اتِّخَاذَ ذَاتِ أَنْوَاطٍ يُشْبِهُ اتِّخَاذَ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَا أَنَّهُ هُوَ بِنَفْسِهِ فَلِذَلِكَ لَا يَلْزَمُ الِاعْتِبَارُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [كُفْرُ الْفِرَقِ وَفِسْقُهَا وَنُفُوذُ الْوَعِيدِ أَوْ جَعْلُهُ فِي الْمَشِيئَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ أَنَّهَا «كُلَّهَا فِي النَّارِ»، وَهَذَا وَعِيدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْفِرَقَ قَدِ ارْتَكَبَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَعْصِيَةً كَبِيرَةً أَوْ ذَنْبًا عَظِيمًا، إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مَا يُتَوَعَّدُ الشَّرُّ عَلَيْهِ فَخُصُوصِيَّتُهُ كَبِيرَةٌ. إِذْ لَمْ يَقُلْ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ». إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ (الَّذِي) افْتَرَقَتْ بِسَبَبِهِ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَعَنْ جَمَاعَتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا [لِ] لْبِدْعَةِ الْمُفَرِّقَةِ. إِلَّا أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ؛ هَلْ هُوَ أَبَدِيٌّ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ أَبَدِيٍّ: هَلْ هُوَ نَافِذٌ أَمْ فِي الْمَشِيئَةِ. أَمَّا الْمَطْلَبُ الْأَوَّلُ: فَيَنْبَنِي عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْبِدَعِ مُخْرِجَةٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ لَيْسَتْ مُخْرِجَةً، وَالْخِلَافُ فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُخَالِفِينَ فِي الْعَقَائِدِ مَوْجُودٌ - وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذِهِ - فَحَيْثُ نَقُولُ بِالتَّكْفِيرِ لَزِمَ مِنْهُ تَأْبِيدُ التَّحْرِيمِ عَلَى الْقَاعِدَةِ إِنَّ

الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. يَحْتَمِلُ عَدَمَ التَّكْفِيرِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا نُفُوذُ الْوَعِيدِ وَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ فَيَحْتَمِلُ - عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ - أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نُفُوذُ الْوَعِيدِ مِنْ غَيْرِ غُفْرَانٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ. وَقَوْلُهُ هُنَا: «كُلُّهَا فِي النَّارِ» أَيْ مُسْتَقِرَّةٌ ثَابِتَةٌ فِيهَا. وَالْأَمْرُ الثَّانِي مِنِ احْتِمَالِ التَّكْفِيرِ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِالْمَشِيئَةِ فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ إِنْفَاذُ الْوَعِيدِ بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. قِيلَ: بَلَى؛ قَدْ قَالَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْكَبَائِرِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ دَلَّهُمُ الدَّلِيلُ فِي خُصُوصِ كَبَائِرَ عَلَى أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَابُدَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُتَّبَعَ هُوَ الدَّلِيلُ، فَكَمَا دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي الْمَشِيئَةِ، كَذَلِكَ دَلَّهُمْ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]. فَأَخْبَرَ أَوَّلًا أَنَّ جَزَاءَهُ جَهَنَّمُ، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " {خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] " عِبَارَةٌ عَنْ طُولِ الْمُكْثِ فِيهَا، ثُمَّ عَطَفَ بِالْغَضَبِ، ثُمَّ بِلَعْنَتِهِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] وَالْإِعْدَادُ قَبْلَ الْبُلُوغِ إِلَى الْمُعَدِّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِهِ لِلْمُعَدِّ لَهُ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ تَحَلُّلُهُمْ أَوْ رَدُّ التِّبَاعَاتِ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَاتِلِ إِلَيْهِ إِلَّا بِأَنْ يُدْرِكَ الْمَقْتُولَ حَيًّا فَيَعْفُوَ

عَنْهُ بِطِيبِ نَفْسِهِ. وَأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنْ نَقُولَ: وَمِنْ شَرْطِ خُرُوجِهِ مِنْ تِبَاعَةِ الْقَتْلِ مَعَ التَّوْبَةِ اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ: إِمَّا بِبَذْلِ الْقِيمَةِ لَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ بَعْدَ فَوْتِ الْمَقْتُولِ. فَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِي صَاحِبِ الْبِدْعَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَدِلَّةِ، فَرَاجِعْ مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الثَّانِي تَجِدُ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْمُخَوِّفِ جِدًّا. وَانْظُرْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] فَهَذَا وَعِيدٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] وَتَسْوِيدُ الْوُجُوهِ عَلَامَةُ الْخِزْيِ وَدُخُولِ النَّارِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] وَهُوَ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} [آل عمران: 106] وَهُوَ تَأْكِيدٌ آخَرُ. وَكُلُّ هَذَا التَّقْرِيرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ أَهْلُ الْقِبْلَةِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ. لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ إِذَا اتُّبِعَ فِي بِدْعَتِهِ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّلَافِي - غَالِبًا - فِيهَا، وَلَمْ يَزَلْ أَثَرُهَا فِي الْأَرْضِ يَسْتَطِيلُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِسَبَبِهِ، فَهِيَ أَدْهَى مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ. قَالَ مَالِكٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِنَّ الْعَبْدَ لَوِ ارْتَكَبَ جَمِيعَ الْكَبَائِرِ بَعْدَ أَنْ لَا يُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَجَبَتْ لَهُ أَرْفَعُ الْمَنَازِلِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَنَبٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ هُوَ مِنْهُ عَلَى رَجَاءٍ، وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَيْسَ هُوَ مِنْهَا عَلَى رَجَاءٍ، إِنَّمَا يُهْوَى بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَهَذَا مِنْهُ نَصٌّ فِي إِنْفَاذِ الْوَعِيدِ.

قوله عليه الصلاة والسلام " إلا واحدة " أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِأَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِصْلَاءَهُمْ فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا حُمِلَ قَوْلُهُ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ» أَيْ هِيَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ، كَمَا قَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] أَيْ ذَلِكَ جَزَاؤُهُ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَلَهُ الْعَفْوُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فَكَمَا ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَاتِلَ فِي الْمَشِيئَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِدْرَاكُ، كَذَلِكَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هُنَا بِمِثْلِهِ. [قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " إِلَّا وَاحِدَةً " أَعْطَى بِنَصِّهِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ إِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِلَّا وَاحِدَةً قَدْ أَعْطَى بِنَصِّهِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ، إِذْ لَوْ كَانَ لِلْحَقِّ فِرَقٌ أَيْضًا لَمْ يَقُلْ إِلَّا وَاحِدَةً وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَنْفِيٌّ عَنِ الشَّرِيعَةِ بِإِطْلَاقٍ، لِأَنَّهَا الْحَاكِمَةُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] إِذْ رَدُّ التَّنَازُعِ إِلَى الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تَقْتَضِي الْخِلَافَ لَمْ يَكُنْ فِي الرَّدِّ إِلَيْهَا فَائِدَةٌ. وَقَوْلُهُ: فِي شَيْءٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، فَهِيَ صِيغَةٌ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. فَتَنْتَظِمُ كُلُّ تَنَازُعٍ عَلَى الْعُمُومِ، فَالرَّدُّ فِيهَا لَا يَكُونُ إِلَّا لِأَمْرٍ وَاحِدٍ فَلَا يَسَعُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْحَقِّ فِرَقًا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]

وَهُوَ نَصٌّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ السَّبِيلَ الْوَاحِدَ لَا يَقْتَضِي الِافْتِرَاقَ، بِخِلَافِ السُّبُلِ الْمُخْتَلِفَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعَاشِرَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، فَلَوْ لَزِمَ مَا قُلْتَ لَمْ يَجْعَلْ أُولَئِكَ الْفِرَقَ ثَلَاثًا، وَكَانُوا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَحِينَ بَيَّنُوا ظَهَرَ كُلُّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ. فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفِرَقُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَوْلَا أَنَّ الْحَدِيثَ أَخْبَرَ أَنَّ النَّاجِيَةَ وَاحِدَةٌ. فَالْجَوَابُ أَوَّلًا: أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَمْ نَشْتَرِطِ الصِّحَّةَ فِي نَقْلِهِ، إِذْ لَمْ نَجِدُهُ فِي الْكُتُبِ الَّتِي لَدَيْنَا الْمُشْتَرَطُ فِيهَا الصِّحَّةُ. وَثَانِيًا: أَنَّ تِلْكَ الْفِرَقَ إِنْ عُدَّتْ هُنَا ثَلَاثًا فَإِنَّمَا عُدَّتْ هُنَاكَ وَاحِدَةً لِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي أَصْلِ الِاتِّبَاعِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ عَدَمِهَا، وَفِي كَيْفِيَّةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ خَاصَّةً. فَهَذِهِ الْفِرَقُ لَا تُنَافِي صِحَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ فِي مِلَّتِنَا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَرَاتِبَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِالْيَدِ وَهُمُ الْمُلُوكُ وَالْحُكَّامُ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ بِاللِّسَانِ كَالْعُلَمَاءِ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ إِلَّا بِالْقَلْبِ -

إِمَّا مَعَ الْبَقَاءِ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ إِذْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ أَوْ مَعَ الْهِجْرَةِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا - وَجَمِيعُ ذَلِكَ خُطَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنِ الْإِيمَانِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ». فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَضُرُّنَا عَدُّ النَّاجِيَةِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثًا بِاعْتِبَارٍ، وَعَدُّهَا وَاحِدَةً بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي عَدِّهَا اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، فَتَصِيرُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ سَبْعِينَ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِهَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ فِرَقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِرَقِ غَيْرِهَا، مَعَ قَوْلِهِ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ». وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَوَابِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُتْرَكَ الْكَلَامُ فِي هَذَا رَأْسًا إِذَا خَالَفَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِيهِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَيْنِ. وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ الَّتِي نَجَتْ لَيْسَتْ فِرَقًا ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا هِيَ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ انْقَسَمَتْ إِلَى الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْوَاقِعَةَ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ هِيَ قَوْلُهُ نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ وَلَمْ يُفَسِّرْهَا بِثَلَاثِ فِرَقٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ ظَاهِرَ الْمَسَاقِ. وَلَكِنِّ قَصْدَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَمَعَانِي الْحَدِيثِ أَلْجَأَ إِلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ رَسُولَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ،

النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة

وَفَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: «ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ» وَهَذَا نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. [النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَيِّنْ مِنَ الْفِرَقِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَيِّنْ مِنَ الْفِرَقِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِعَدِّهَا خَاصَّةً، وَأَشَارَ إِلَى الْفِرَقِ النَّاجِيَةِ حِينَ سُئِلَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَعْيِينَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ هُوَ الْآكَدُ فِي الْبَيَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعَبُّدِ الْمُكَلَّفِ وَالْأَحَقِّ بِالذِّكْرِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ الْفِرَقِ الْبَاقِيَةِ إِذَا عُيِّنَتِ الْوَاحِدَةُ. وَأَيْضًا لَوْ عُيِّنَتِ الْفِرَقُ كُلُّهَا إِلَّا هَذِهِ الْأُمَّةَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَيَانِهَا، لَأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا يَقْتَضِي تَرْكَ أُمُورٍ، وَهِيَ الْبِدَعُ. وَالتَّرْكُ لِلشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي فِعْلَ شَيْءٍ آخَرَ لَا ضِدًّا وَلَا خِلَافًا، فَذِكْرُ الْوَاحِدَةِ هُوَ الْمُفِيدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. أَسْبَابُ تَعْيِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ فَقَطْ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا أَنَّ تَعْيِينَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ هُوَ الْآكَدُ فِي الْبَيَانِ وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ أَوْجَزُ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ أَوْجَزُ لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَتْ نِحْلَةُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ عُلِمَ عَلَى الْبَدِيهَةِ أَنَّ مَا سِوَاهَا مِمَّا يُخَالِفُهَا لَيْسَ بِنَاجٍ، وَحَصَلَ التَّعْيِينُ بِالِاجْتِهَادِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذُكِرَتِ الْفِرَقُ إِلَّا النَّاجِيَةَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي شَرْحًا كَثِيرًا، وَلَا يَقْتَضِي فِي الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ اجْتِهَادٌ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَكُونُ مُخَالَفَتُهَا بِدَعًا لَا حَظَّ لِلْعَقْلِ فِي الِاجْتِهَادِ فِيهَا. السَّبَبُ الثَّانِي أَنَّهُ أَحْرَى بِالسَّتْرِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ أَحْرَى بِالسَّتْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْفِرَقِ، وَلَوْ فُسِّرَتْ لَنَاقَضَ ذَلِكَ قَصْدَ السَّتْرِ، فَفَسَّرَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَتَرَكَ مَا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْمُخَالَفَةِ، فَلِلْعَقْلِ وَرَاءَ ذَلِكَ مَرْمَى تَحْتَ أَذْيَالِ

السَّتْرِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي، وَوَقَعَ ذَلِكَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الَّذِي سَأَلُوهُ إِذْ قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ مَنِ اتَّصَفَ بِأَوْصَافِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَوْصَافِ أَصْحَابِهِ. وَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ غَيْرَ خَفِيٍّ فَاكْتَفَوْا بِهِ. وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَ تِلْكَ الْأَزْمَانِ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِهِ مُهْتَدِينَ بِهَدْيِهِ، وَقَدْ جَاءَ مَدْحُهُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَثْنَى عَلَى مَتْبُوعِهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا خُلُقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] فَالْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ الْمَتْبُوعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةً لَهُ، فَالْمُتَّبِعُ لِلسُّنَّةِ مُتَّبِعٌ لِلْقُرْآنِ. وَالصَّحَابَةُ كَانُوا أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ، فَكُلُّ مَنِ اقْتَدَى بِهِمْ فَهُوَ مِنَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الدَّاخِلَةِ لِلْجَنَّةِ بِفَضْلِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي. الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُمَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَغَيْرُهُمَا تَابِعٌ لَهُمَا فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهِ فَنَاشِئٌ عَنْهُمَا، هَذَا هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَعْنَى مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ قَوْلِهِ: وَهِيَ الْجَمَاعَةُ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي وَقْتِ الْإِخْبَارِ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ، إِلَّا أَنَّ فِي لَفْظِ الْجَمَاعَةِ مَعْنًى تَرَاهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ إِنَّ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ نَظَرًا لَابُدَّ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ

" كُلَّ " دَاخِلٍ تَحْتَ رَايَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ سُنِّيٍّ أَوْ مُبْتَدِعٍ مُدَّعٍ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَالَ رُتْبَةَ النَّجَاةِ وَدَخَلَ فِي غِمَارِ تِلْكَ الْفِرْقَةِ، إِذْ لَا يَدَّعِي (خِلَافَ) ذَلِكَ إِلَّا مَنْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ، وَانْحَازَ إِلَى فِئَةِ الْكُفْرِ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَفِي مَعْنَاهُمْ مَنْ دَخَلَ بِظَاهِرِهِ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ غَيْرَهُ كَالْمُنَافِقِينَ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرْضَ لِنَفْسِهِ إِلَّا بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ وَقَاتَلَ سَائِرَ الْمِلَلِ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِأَخَسِّ مَرَاتِبِهَا - وَهُوَ مُدَّعٍ أَحْسَنَهَا - وَهُوَ الْمُعَلِّمُ فَلَوْ عَلِمَ الْمُبْتَدِعُ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ لَمْ يَبْقَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَلَمْ يُصَاحِبْ أَهْلَهَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَّخِذَهَا دِينًا يَدِينُ بِهِ لِلَّهِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطْرَةِ لَا يُخَالِفُ فِيهِ عَاقِلٌ. تَنَازُعُ الْفِرَقِ وَتَعْبِيرُ كُلٍّ مِنْهَا عَنْ نَفْسِهَا فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ فِرْقَةٍ تُنَازِعُ صَاحِبَتَهَا فِي فِرْقَةِ النَّجَاةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُبْتَدِعَ آخِذٌ أَبَدًا فِي تَحْسِينِ حَالَتَيْهِ شَرْعًا وَتَقْبِيحِ حَالَةِ غَيْرِهِ؟ فَالظَّاهِرُ يَدَّعِي أَنَّهُ الْمُتَّبِعُ لِلسُّنَّةِ. وَالْغَاشُّ يَدَّعِي أَنَّهُ الَّذِي فَهِمَ الشَّرِيعَةَ، وَصَاحِبُ نَفْيِ الصِّفَاتِ يَدَّعِي أَنَّهُ الْمُوَحِّدُ. وَالْقَائِلُ بِاسْتِقْلَالِ الْعَبْدِ [يَدَّعِي] أَنَّهُ صَاحِبُ الْعَدْلِ، وَكَذَلِكَ سَمَّى الْمُعْتَزِلَةُ أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ. وَالْمُشَبِّهُ يَدَّعِي أَنَّهُ الْمُثْبِتُ لِذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ، لِأَنَّ نَفْيَ التَّشْبِيهِ عِنْدَهُ نَفْيٌ مَحْضٌ، وَهُوَ الْعَدَمُ. وَكَذَلِكَ كَلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّوَائِفِ الَّتِي ثَبَتَ لَهَا اتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا. وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى الِاسْتِدْلَالَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَوِ السُّنِّيَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ أَيْضًا.

فَالْخَوَارِجُ تَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَضُرُّهُمْ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ». وَالْقَاعِدُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» وَقَوْلِهِ: «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ

الْقَاتِلَ». وَالْمُرْجِئُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ». وَالْمُخَالِفُ لَهُ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ». وَالْقَدَرِيُّ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] وَبِحَدِيثِ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» الْحَدِيثَ. وَالْمُفَوِّضُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7] وَبِحَدِيثِ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ».

وَالرَّافِضَةُ تَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيَرِدَنَّ الْحَوْضَ أَقْوَامٌ ثُمَّ لَيَتَخَلَّفُنَّ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي! فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ» وَيَحْتَجُّونَ فِي تَقْدِيمِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِ: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» وَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» وَمُخَالِفُوهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِقَوْلِهِ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ» إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَاهُ. وَالْجَمِيعُ مَحُومُونَ - فِي زَعْمِهِمْ - عَلَى الِانْتِظَامِ فِي سِلْكِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَشْكَلَ عَلَى الْمُبْتَدِعِ فِي النَّظَرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمْ مُقْتَضَى هَذِهِ الظَّوَاهِرِ، فَإِنَّهَا مُتَدَافِعَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ. وَإِنَّمَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِيهَا إِذَا جُعِلَ بَعْضُهَا أَصْلًا. فَيَرُدُّ الْبَعْضَ الْآخَرَ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بِالتَّأْوِيلِ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ تَسْتَمْسِكُ بِبَعْضِ تِلْكَ

هل يدخل في الهالكة المبتدع في الجزيئات كالمبتدع في الكليات

الْأَدِلَّةِ وَتَرُدُّ مَا سِوَاهَا إِلَيْهَا، أَوْ تُهْمِلُ اعْتِبَارَهَا بِالتَّرْجِيحِ، إِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مِنَ الظَّنِّيَّاتِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا التَّرْجِيحُ، أَوْ تَدَّعِي أَنَّ أَصْلَهَا الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيْهِ قَطْعِيٌّ وَالْمُعَارِضَ لَهُ ظَنِّيٌّ فَلَا يَتَعَارَضَانِ. وَإِنَّمَا كَانَتْ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ ظَاهِرَةٌ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَمَا وَقَدِ اسْتَقَرَّتْ مَآخِذُ الْخِلَافِ فَمُحَالٌ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118]. فَتَأَمَّلُوا - رَحِمَكُمُ اللَّهُ - كَيْفَ صَارَ الِاتِّفَاقُ مُحَالًا فِي الْعَادَةِ لِيُصَدِّقَ الْعَقْلُ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ. وَالْحَاصِلُ، أَنَّ تَعْيِينَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي مِثْلِ زَمَانِنَا صَعْبٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَابُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ، وَهُوَ نُكْتَةُ هَذَا الْكِتَابِ، فَلْيَقَعْ بِهِ فَضْلُ اعْتِنَاءِ مَا هَيَّأَهُ اللَّهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي كَلَامًا كَثِيرًا أَرْجَأْنَا الْقَوْلَ فِيهِ إِلَى بَابٍ آخَرَ، وَذِكْرَهُ فِيهِ عَلَى حِدَتِهِ، إِذْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. [هَلْ يَدْخُلُ فِي الْهَالِكَةِ الْمُبْتَدِعُ فِي الْجُزَيْئَاتِ كَالْمُبْتَدِعُ فِي الْكُلِّيَّاتِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» وَحَتَّمَ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنَ الْفِرَقِ إِلَّا الْمُخَالِفَ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ وَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، وَلَمْ يَنْتَظِمِ الْحَدِيثُ - عَلَى الْخُصُوصِ - إِلَّا أَهْلَ الْبِدَعِ الْمُخَالِفِينَ لِلْقَوَاعِدِ، وَأَمَّا مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ لَكِنَّهُ لَمْ يَبْتَدِعْ مَا يَنْقُضُ أَمْرًا كُلِّيًّا، أَوْ يَخْرِمُ أَصْلًا مِنَ

الشَّرْعِ عَامًّا، فَلَا دُخُولَ لَهُ فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ، فَيُنْظَرُ فِي حُكْمِهِ: هَلْ يَلْحَقُ بِمَنْ ذُكِرَ أَوْ لَا؟. وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِتِلْكَ الْوَاسِطَةِ بِلَفْظٍ وَلَا مَعْنًى، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَقَوْلِهِ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَإِمَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ دَلَالَةٌ، فَفِي مَعْنَاهُ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ تَعَرَّضَ لِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ. أَحَدُهُمَا: طَرَفُ السَّلَامَةِ وَالنَّجْدَةِ مِنْ غَيْرِ دَاخِلَةِ شُبْهَةٍ وَلَا إِلْمَامِ بِدْعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي. وَالثَّانِي: طَرَفُ الْإِغْرَاقِ فِي الْبِدْعَةِ، وَهُوَ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الْبِدْعَةُ كُلِّيَّةً أَوْ تَخْرِمُ أَصْلًا كُلِّيًّا، جَرْيًا عَلَى عَادَةِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ الْخَيْرِ وَأَهْلَ الشَّرِّ ذَكَرَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِأَعْلَى مَا يَحْمِلُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، لِيَبْقَى الْمُؤْمِنُ فِيهَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ خَائِفًا رَاجِيًا، إِذْ جَعَلَ التَّنْبِيهَ بِالطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ عَلَى مَرَاتِبَ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَالشَّرُّ عَلَى مَرَاتِبَ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا ذُكِرَ أَهْلُ الْخَيْرِ الَّذِينَ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ خَافَ أَهْلُ الْخَيْرِ الَّذِينَ دُونَهُمْ أَنْ لَا يَلْحَقُوا بِهِمْ، أَوْ رَجَوْا أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ، وَإِذَا ذُكِرَ أَهْلُ الشَّرِّ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِ الْمَرَاتِبِ خَافَ أَهْلُ الشَّرِّ الَّذِينَ دُونَهُمْ أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ، أَوْ رَجَوْا أَنْ لَا يَلْحَقُوا بِهِمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْلُومٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءُ - إِذْ تَمَّ - يَدُلُّ عَلَى

قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ النَّاسُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عُمَرَ قَالُوا: مَاذَا يَقُولُ لِرَبِّهِ إِذَا لَقِيَهُ؟ اسْتَخْلَفَ عَلَيْنَا فَظًّا غَلِيظًا وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَكَيْفَ لَوْ قَدَرَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: أَبِرَبِّي تُخَوِّفُونِي؟ أَقُولُ: اسْتَخْلَفْتُ خَيْرَ خَلْقِكَ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ. إِنَّ لِلَّهِ عَمَلًا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَعَمَلًا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ! وَذَلِكَ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ حَسَنَةً فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: عَمَلِي خَيْرٌ مِنْ هَذَا، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ لِكَيْ يَرْغَبَ الْمُؤْمِنُ فَيَعْمَلُ وَيَرْهَبُ، فَلَا يُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ وَتَرْكِهِمُ الْبَاطِلَ فَثَقُلَ عَمَلُهُمْ؟ وَحَقُّ الْمِيزَانِ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا حُقَّ أَنْ يَثْقُلَ؟ أَلَمْ تَرَ أَنَّمَا خَفَّتْ مَوَزِاينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ؟ وَحَقُّ الْمِيزَانِ لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا الْبَاطِلُ أَنْ يَخِفَّ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنْ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ، وَأَنْتَ لَابُدَّ لَاقِيهِ، وَإِنْ ضَيَّعْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَبْغَضُ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ وَلَا تُعْجِزُهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ لِمَنْ تَتَبَّعَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ،

من روى في تفسير الفرق الناجية هي الجماعة محتاجة إلى التفسير

وَيَشْهَدُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودُ اسْتِشْهَادِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمِثْلِهِ، إِذْ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ وَقَدِ اشْتَرَى لَحْمًا بِدِرْهَمٍ: أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]. وَالْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ} [الأحقاف: 20] الْآيَةَ إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20] وَلَمْ يَمْنَعْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنْزَالُهَا فِي الْكُفَّارِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِهَا فِي مَوَاضِعَ اعْتِبَارًا بِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَصْلٌ شَرْعِيٌّ تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ. فَالْحَاصِلُ، أَنَّ مَنْ عَدَّ الْفِرَقَ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ الِابْتِدَاعَ الْجُزْئِيَّ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْكُلِّيَّاتِ، فِي الذَّمِّ وَالتَّصْرِيحِ بِالْوَعِيدِ بِالنَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ اشْتَرَكُوا فِي الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلذَّمِّ وَالْوَعِيدِ، كَمَا اشْتَرَكَ فِي اللَّفْظِ صَاحِبُ اللَّحْمِ - حِينَ تَنَاوَلَ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى وَجْهٍ فِيهِ كَرَاهِيَةُ مَا فِي اجْتِهَادِ عُمَرَ - مَعَ مَنْ أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبَوْنِ الْبَعِيدِ، وَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ مِنَ الْعَارِفِ الْمَذْمُومِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ لِلْمُجْتَهِدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. [مَنْ رَوَى فِي تَفْسِيرِ الْفِرَقِ النَّاجِيَةِ هِيَ الْجَمَاعَةُ مُحْتَاجَةٌ إِلَى التَّفْسِيرِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى فِي تَفْسِيرِ الْفِرَقِ النَّاجِيَةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ مُحْتَاجَةٌ إِلَى التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ بَيِّنًا مِنْ جِهَةِ تَفْسِيرِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى -

وَهِيَ قَوْلُهُ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي - فَمَعْنَى لَفْظِ: الْجَمَاعَةِ مِنْ حَيْثُ الْمُرَادُ بِهِ فِي إِطْلَاقِ الشَّرْعِ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّفْسِيرِ. فَقَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْحَدِيثُ الَّذِي نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَمِنْهَا مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شَيْئًا فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً». وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ «حُذَيْفَةَ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ: دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ». وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرِيُّ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا. فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثُهُمَا الشَّيْطَانُ، الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، وَمَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ هُوَ الْمُؤْمِنُ». وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ»،

وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ». وَعَنْ عَرْفَجَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ». فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ الْمُرَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ الْمُرَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنَّهَا السَّوَادُ الْأَعْظَمُ أَحَدُهَا: أَنَّهَا السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَبِي غَالِبٍ: إِنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ هُمُ النَّاجُونَ مِنَ الْفِرَقِ، فَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، سَوَاءٌ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَوْ فِي إِمَامِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ وَابْنُ مَسْعُودٍ، فَرَوَى أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ سُئِلَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَاصْبِرْ حَتَّى تَسْتَرِيحَ أَوْ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ. وَقَالَ: إِيَّاكَ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ هِيَ الضَّلَالَةُ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ

بِهِ. ثُمَّ قَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنَ الَّذِينَ تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ. وَعَنِ الْحُسَيْنِ قِيلَ لَهُ: أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَيْ وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَدْخُلُ فِي الْجَمَاعَةِ مُجْتَهِدُو الْأُمَّةِ وَعُلَمَاؤُهَا وَأَهْلُ الشَّرِيعَةِ الْعَامِلُونَ بِهَا، وَمَنْ سِوَاهُمْ دَاخِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ تَابِعُونَ لَهُمْ وَمُقْتَدُونَ بِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ فَهُمُ الَّذِينَ شَذُّوا وَهُمْ نُهْبَةُ الشَّيْطَانِ وَيَدْخُلُ فِي هَؤُلَاءِ جَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ لِأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَّةِ، لَمْ يَدْخُلُوا فِي سَوَادِهِمْ بِحَالٍ. الثَّانِي أَنَّهَا جَمَاعَةُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهَا جَمَاعَةُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ خَرَجَ مِمَّا عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، لِأَنَّ جَمَاعَةَ اللَّهِ الْعُلَمَاءُ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ حُجَّةً عَلَى الْعَالَمِينَ، وَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ لَنْ يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامَّةَ عَنْهَا تَأْخُذُ دِينَهَا، وَإِلَيْهَا تَفْزَعُ مِنَ النَّوَازِلِ، وَهِيَ تَبَعٌ لَهَا. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي لَنْ يَجْتَمِعَ عُلَمَاءُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ، فَقِيلَ لِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: مَنِ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - فَلَمْ يَزَلْ يَحْسِبُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ - فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ مَاتُوا: فَمَنِ الْأَحْيَاءُ؟ قَالَ أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ.

وَعَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: كَانُوا إِذَا جَاءَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقَضَاءِ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ سَمَّوْهُ " صَوَافِي الْأُمَرَاءِ " فَجَمَعُوا لَهُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَمَا أَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ نَحْوٌ مِمَّا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا مَدْخَلَ فِي السُّؤَالِ لِمَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ مُجْتَهِدٍ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي أَهْلِ التَّقْلِيدِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِمَا يُخَالِفُهُمْ فَهُوَ صَاحِبُ الْمِيتَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ أَيْضًا أَحَدٌ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ، لِأَنَّ الْعَالِمَ أَوَّلًا لَا يَبْتَدِعُ، وَإِنَّمَا يَبْتَدِعُ مَنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ الْعِلْمَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ أَخْرَجَتْهُ عَنْ نَمَطِ مَنْ يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ قِيلَ بِالِاعْتِدَادِ بِهِ فِيهِ فَفِي غَيْرِ مَسْأَلَةِ الَّتِي ابْتَدَعَ فِيهَا، لِأَنَّهُمْ فِي نَفْسِ الْبِدْعَةِ مُخَالِفُونَ لِلْإِجْمَاعِ: وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الصَّحَابَةُ عَلَى الْخُصُوصِ، فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ أَقَامُوا عِمَادَ الدِّينِ وَأَرْسَوْا أَوْتَادَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ أَصْلًا، وَقَدْ يُمْكِنُ فِيمَنْ سِوَاهُمْ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ» وَقَوْلَهُ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شَرَارِ النَّاسِ»، فَقَدْ أَخْبَرَ عَلَيْهِ

السَّلَامُ أَنَّ مِنَ الْأَزْمَانِ أَزْمَانًا يَجْتَمِعُونَ فِيهَا عَلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ. قَالُوا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا، الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ تَبْدِيلُهَا وَلَا تَغْيِيرُهَا، وَلَا النَّظَرُ فِيهَا! مَنِ اهْتَدَى بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَافَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. فَقَالَ مَالِكٌ: فَأَعْجَبَنِي عَزْمُ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَفْظُ الْجَمَاعَةِ مُطَابِقٌ لِلرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي فَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا قَالُوهُ وَمَا سَنُّوهُ، وَمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِشَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِذَلِكَ خُصُوصًا فِي قَوْلِهِ: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» وَأَشْبَاهِهِ، أَوْ لِأَنَّهُمُ الْمُتَقَلِّدُونَ لِكَلَامِ النُّبُوَّةِ، الْمُهْتَدُونَ لِلشَّرِيعَةِ، الَّذِينَ فَهِمُوا أَمْرَ دِينِ اللَّهِ بِالتَّلَقِّي مِنْ نَبِيِّهِ مُشَافَهَةً، عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ بِمَوَاطِنِ التَّشْرِيعِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ: فَإِذًا كُلُّ مَا سَنُّوهُ فَهُوَ سُنَّةٌ مِنْ غَيْرِ نَظِيرٍ فِيهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِ لِأَهْلِ الِاجْتِهَادِ مَجَالًا لِلنَّظَرِ رَدًّا وَقَبُولًا، فَأَهْلُ الْبِدَعِ إِذًا غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي الْجَمَاعَةِ قَطْعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَمْرٍ فَوَاجِبٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ اتِّبَاعُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ ضَمِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ لَا يَجْمَعَهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَإِنْ وَقَعَ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ

فَوَاجِبٌ تَعَرُّفُ الصَّوَابِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْجَمَاعَةُ لَا تَكُونُ فِيهَا غَفْلَةٌ عَنْ مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةٍ وَلَا قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْغَفْلَةُ فِي الْفُرْقَةِ. وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَرْجِعُ إِلَى الثَّانِي وَهُوَ يَقْتَضِي أَيْضًا مَا يَقْتَضِيهِ، أَوْ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَفِيهِ مِنَ الْمَعْنَى مَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِدْعَةٌ أَصْلًا، فَهُمْ - إِذًا - الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ. وَالْخَامِسُ: مَا اخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّ الْجَمَاعَةَ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى أَمِيرٍ، فَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِلُزُومِهِ وَنَهَى عَنْ فِرَاقِ الْأُمَّةِ فِيمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ فِرَاقَهُمْ لَا يَعْدُو إِحْدَى حَالَتَيْنِ، إِمَّا لِلنَّكِيرِ عَلَيْهِمْ فِي طَاعَةِ أَمِيرِهِمْ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ فِي سِيرَتِهِ الْمَرْضِيَّةِ لِغَيْرِ مُوجِبٍ، بَلْ بِالتَّأْوِيلِ فِي إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ فِي الدِّينِ، كَالْحَرُورِيَّةِ الَّتِي أُمِرَتِ الْأُمَّةُ بِقِتَالِهَا وَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَارِقَةً مِنَ الدِّينِ، وَإِمَّا لِطَلَبِ إِمَارَةٍ مِنِ انْعِقَادِ الْبَيْعَةِ لِأَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهُ نَكْثُ عَهْدٍ وَنَقْضُ عَهْدٍ بَعْدَ وُجُوبِهِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَاءَ إِلَى أُمَّتِي لِيُفَرِّقَ جَمَاعَتَهُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ». قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَهَذَا مَعْنَى الْأَمْرِ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ: وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الَّتِي إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى الرِّضَى بِتَقْدِيمِ أَمِيرٍ كَانَ الْمُفَارِقُ لَهَا مَيِّتًا مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، فَهِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي وَصَفَهَا أَبُو مَسْعُودٍ

الْأَنْصَارِيُّ، وَهُمْ مُعْظَمُ النَّاسِ وَكَافَّتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ. قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ حِينَ طُعِنَ لِصُهَيْبٍ: صَلِّ بِالنَّاسِ ثَلَاثًا وَلْيَدْخُلْ عَلَيَّ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَلْيَدْخُلِ ابْنُ عُمَرَ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَقُمْ يَا صُهَيْبُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ بِالسَّيْفِ فَإِنْ بَايَعَ خَمْسَةٌ وَنَكَصَ وَاحِدٌ فَاجْلِدْ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ بَايَعَ أَرْبَعَةٌ وَنَكَصَ رَجُلَانِ فَاجْلِدْ رَأْسَيْهِمَا حَتَّى يَسْتَوْثِقُوا عَلَى رَجُلٍ. قَالَ: فَالْجَمَاعَةُ الَّتِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُزُومِهَا وَسَمَّى الْمُنْفَرِدَ عَنْهَا مُفَارِقًا لَهَا نَظِيرُ الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَوْجَبَ عُمَرُ الْخِلَافَةَ لِمَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ صُهَيْبًا بِضَرْبِ رَأْسِ الْمُنْفَرِدِ عَنْهُمْ بِالسَّيْفِ. فَهُمْ فِي مَعْنَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ الْمُجْتَمِعِ عَلَى بَيْعَتِهِ وَقِلَّةِ الْعَدَدِ الْمُنْفَرِدِ عَنْهُمْ. قَالَ: وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنْ لَا تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَمَعْنَاهُ أَنْ لَا يَجْمَعَهُمْ عَلَى إِضْلَالِ الْحَقِّ فِيمَا نَابَهُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ حَتَّى يَضِلَّ جَمِيعُهُمْ عَنِ الْعِلْمِ وَيُخْطِئُوهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْأُمَّةِ. هَذَا تَمَامُ كَلَامِهِ وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالْمَعْنَى وَتَحَرٍّ فِي أَكْثَرِ اللَّفْظِ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْإِمَامِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى غَيْرِ سُنَّةٍ خَارِجٌ عَنْ مَعْنَى الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ، كَالْخَوَارِجِ وَمَنْ جَرَى

الاعتبار بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم

مُجْرَاهُمْ. [الِاعْتِبَارُ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِ اجْتِهَادُهُمْ] فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ دَائِرَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ، وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ بِالْأَحَادِيثِ، فَلْنَأْخُذْ ذَلِكَ أَصْلًا وَيُبْنَى عَلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَمِيعَ اتَّفَقُوا عَلَى اعْتِبَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ، سَوَاءٌ ضَمُّوا إِلَيْهِمُ الْعَوَامَّ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَضُمُّوا إِلَيْهِمْ فَلَا إِشْكَالَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ إِنَّمَا هُوَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِ اجْتِهَادُهُمْ، فَمَنْ شَذَّ عَنْهُمْ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، وَإِنْ ضَمُّوا إِلَيْهِمُ الْعَوَامَّ فَبِحُكْمِ التَّبَعِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ عَارِفِينَ بِالشَّرِيعَةِ، فَلَابُدَّ مِنْ رُجُوعِهِمْ فِي دِينِهِمْ إِلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ تَمَالَئُوا عَلَى مُخَالَفَةِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا حَدُّوا لَهُمْ لَكَانُوا هُمُ الْغَالِبَ وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، لِقِلَّةِ الْعُلَمَاءِ وَكَثْرَةِ الْجُهَّالِ، فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّ اتِّبَاعَ جَمَاعَةِ الْعَوَامِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الْمُفَارِقُونَ لِلْجَمَاعَةِ وَالْمَذْمُومُونَ فِي الْحَدِيثِ. بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ وَإِنْ قَلُّوا، وَالْعَوَامُّ هُمُ الْمُفَارِقُونَ لِلْجَمَاعَةِ إِنْ خَالَفُوا، فَإِنْ وَافَقُوا فَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ. وَمِنْ هُنَا لَمَّا سُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ أَجَابَ بِأَنْ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - قَالَ - فَلَمْ يَزَلْ يَحْسِبُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قِيلَ: فَهَؤُلَاءِ مَاتُوا! فَمَنِ الْأَحْيَاءُ؟ قَالَ: أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ الْمَرْوَزِيُّ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَوَامُّ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي بِإِطْلَاقٍ،

وَعَلَى هَذَا لَوْ فَرَضْنَا خُلُوَّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ لَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ الْعَوَامِّ لِأَمْثَالِهِمْ، وَلَا عَدُّ سَوَادِهِمْ أَنَّهُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَنْ خَالَفَهُ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، بَلْ يَتَنَزَّلُ النَّقْلُ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ مَنْزِلَةَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَالَّذِي يَلْزَمُ الْعَوَامُّ مَعَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ أَهْلَ الزَّمَانِ الْمَفْرُوضِ الْخَالِي عَنِ الْمُجْتَهِدِ. وَأَيْضًا، فَاتِّبَاعُ نَظَرِ مَنْ لَا نَظَرَ لَهُ وَاجْتِهَادِ مَنْ لَا اجْتِهَادَ لَهُ مَحْضُ ضَلَالَةٍ، وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا» الْحَدِيثَ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الطُّوسِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ وَذَكَرَ فِي حَدِيثٍ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الِاخْتِلَافَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ»، فَقَالَ رَجُلٌ يَا أَبَا يَعْقُوبَ! مَنِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَصْحَابُهُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ الْمُبَارَكِ: مَنِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؟ قَالَ: أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ، ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ (يَعْنِي أَبَا حَمْزَةَ) وَفِي زَمَانِنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَنْ تَبِعَهُ، ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: لَوْ سَأَلْتَ الْجُهَّالَ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ لَقَالُوا: جَمَاعَةُ النَّاسِ. وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ عَالِمٌ مُتَمَسِّكٌ بِأَثَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقِهِ، فَمَنْ

معنى قوله صلى الله عليه وسلم " وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء. . . "

كَانَ مَعَهُ وَتَبِعَهُ فَهُوَ الْجَمَاعَةُ، ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: لَمْ أَسْمَعْ عَالِمًا مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً كَانَ أَشَدَّ تَمَسُّكًا بِأَثَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ. فَانْظُرْ فِي حِكَايَتِهِ تَتَبَيَّنْ غَلَطَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عَالِمٌ، وَهُوَ وَهْمُ الْعَوَامِّ، لَا فَهْمُ الْعُلَمَاءِ. فَلْيَثْبُتِ الْمُوَفَّقُ فِي هَذِهِ الْمَزَلَّةِ قَدَمَهُ لِئَلَّا يَضِلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ. [مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ. . . "] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ فِي بَيَانِ مَعْنَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ». وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ بِمَا سَيَكُونُ فِي أُمَّتِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي افْتَرَقُوا فِيهَا إِلَى تِلْكَ الْفِرَقِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِيهِمْ أَقْوَامٌ تُدَاخِلُ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ قُلُوبَهُمْ حَتَّى لَا يُمْكِنَ فِي الْعَادَةِ انْفِصَالُهَا عَنْهَا وَتَوْبَتُهُمْ مِنْهَا، عَلَى حَدِّ مَا يُدَاخِلُ دَاءُ الْكَلْبِ جِسْمَ صَاحِبِهِ فَلَا يَبْقَى مِنْ ذَلِكَ الْجِسْمِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ وَلَا مَفْصِلٌ وَلَا غَيْرُهُمَا إِلَّا دَخَلَهُ ذَلِكَ الدَّاءُ، وَهُوَ جَرَيَانٌ لَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ وَلَا يَنْفَعُ فِيهِ الدَّوَاءُ، فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْهَوَى إِذَا دَخَلَ قَلْبَهُ، وَأُشْرِبَ حُبَّهُ، لَا تَعْمَلُ فِيهِ الْمَوْعِظَةُ وَلَا يَقْبَلُ الْبُرْهَانَ، وَلَا يَكْتَرِثُ بِمَنْ خَالَفَهُ.

وَاعْتَبِرْ ذَلِكَ بِالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ كَمَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَسِوَاهُمَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا حَيْثُ لُقُوا مَطْرُودِينَ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، مَحْجُوبِينَ عَنْ كُلِّ لِسَانٍ، مُبْعَدِينَ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَزْدَادُوا إِلَّا تَمَادِيًا عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَمُدَاوَمَةً عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]. وَحَاصِلُ مَا عَوَّلُوا عَلَيْهِ تَحْكِيمُ الْعُقُولِ الْمُجَرَّدَةِ، فَشَرَّكُوهَا مَعَ الشَّرْعِ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ. ثُمَّ قَصَرُوا أَفْعَالَ اللَّهِ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُمْ وَوَجَّهُوا عَلَيْهَا أَحْكَامَ الْعَقْلِ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ كَذَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا. فَجَعَلُوهُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْمِقْدَارَ، بَلِ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا يَفْعَلُهُ وَاسْتَقْبَحَ آخَرَ وَأَلْحَقَهَا بِالْمَشْرُوعَاتِ، وَلَكِنَّ الْجَمِيعَ بَقُوا عَلَى تَحْكِيمِ الْعُقُولِ، وَلَوْ وَقَفُوا هُنَالِكَ لَكَانَتِ الدَّاهِيَةُ عَلَى عِظَمِهَا أَيْسَرَ، وَلَكِنَّهُمْ تَجَاوَزُوا هَذِهِ الْحُدُودَ كُلَّهَا إِلَى أَنْ نَصَبُوا الْمُحَارَبَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، بِاعْتِرَاضِهِمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِمَا مِنَ التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ وَمُنَافَاةِ الْعُقُولِ وَفَسَادِ النُّظُمِ مَا هُمْ لَهُ أَهْلٌ. قَالَ الْعُتْبِيُّ: وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّعْنِ مُلْحِدُونَ، وَلَغُوا وَهَجَرُوا، وَاتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، بِأَفْهَامٍ كَلَيْلَةٍ، وَأَبْصَارٍ عَلِيلَةٍ، وَنَظَرٍ مَدْخُولٍ، فَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَعَدَلُوا بِهِ عَنْ سَبِيلِهِ، ثُمَّ قَضُوا عَلَيْهِ بِالتَّنَاقُضِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَاللَّحْنِ، وَفَسَادِ النَّظْمِ وَالِاخْتِلَافِ، وَأَدْلَوْا بِذَلِكَ بِعِلَلٍ رُبَّمَا أَمَالَتِ الضَّعِيفَ الْغُمْرَ، وَالْحَدِيثَ الْغِرَّ،

وَاعْتَرَضَتْ بِالشُّبْهَةِ فِي الْقُلُوبِ، وَقَدَحَتْ بِالشُّكُوكِ فِي الصُّدُورِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ مَا لَحَنُوا إِلَيْهِ عَلَى تَقْرِيرِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ لَسَبَقَ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ مَنْ لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجُّ بِالْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، وَيَجْعَلُهُ عَلَمَ نَبُّوتِهِ، وَالدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ، وَيَتَحَدَّاهُمْ فِي مُوَاطِنَ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَهُمُ الْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ، وَالْخُطَبَاءُ وَالشُّعَرَاءُ، وَالْمَخْصُوصُونَ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَبِالْأَلْسِنَةِ الْحِدَادِ وَاللَّدَدِ فِي الْخِصَامِ، مَعَ اللُّبِّ وَالنُّهَى وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ. فَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ مَرَّةً: هُوَ سِحْرٌ، وَمَرَّةً: هُوَ شِعْرٌ، وَمَرَّةً: هُوَ قَوْلُ الْكَهَنَةِ، وَمَرَّةً: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَلَمْ يَحْكِ اللَّهُ عَنْهُمُ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْأَحَادِيثِ وَدَعْوَى التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَحُكِيَ عَنْهُمْ، لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَدْحُ فِي خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَهُمُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَاتَّبَعُوهُمْ بِالْحَدْسِ قَالُوا مَا شَانَ، أَوْ جَرَوْا فِي الطَّعْنِ عَلَى الْحَدِيثِ جَرْيَ مَنْ لَا يَرَى عَلَيْهِ مُحْتَسِبًا فِي الدُّنْيَا وَلَا مُحَاسِبًا فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَالْجَوَابِ عَمَّا اعْتَرَضُوا فِيهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابَيْنِ صَنَّفَهُمَا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُمَا مِنْ مَحَاسِنِ كُتُبِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.

قوله تتجارى بهم تلك الأهواء فيه الإشارة بتلك فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ولا محال بها

وَلَمْ أُرِدْ قَصَّ تِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتِ تَعْزِيزًا لِلْمُعْتَرِضِ فِيهِ، لَمْ أَعْنِ بِرَدِّهَا لِأَنَّ غَيْرِي - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ - قَدْ تَجَرَّدَ لَهُ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ بِالْحِكَايَةِ عَنْهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ بَيَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «تُجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ» وَقَبْلُ وَبَعْدُ فَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ إِذَا اسْتَحْكَمَتْ فِيهِمْ أَهْوَاؤُهُمْ لَمْ يُبَالُوا بِشَيْءٍ، وَلَمْ يُعِدُّوا خِلَافَ أَنْظَارِهِمْ شَيْئًا، وَلَا رَاجَعُوا عُقُولَهُمْ مُرَاجَعَةَ مَنْ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ وَيَتَوَقَّفُ فِي مَوَارِدِ الْإِشْكَالِ (وَهُوَ شَأْنُ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ) وَهَؤُلَاءِ صِنْفٌ مِنْ أَصْنَافِ مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، وَلَمْ يَعْبَأْ بِعَذَلِ الْعَاذِلِ فِيهِ، ثُمَّ [هُنَاكَ] أَصْنَافٌ أُخَرُ تَجْمَعُهُمْ مَعَ هَؤُلَاءِ إِشْرَابُ الْهَوَى فِي قُلُوبِهِمْ، حَتَّى لَا يُبَالُوا بِغَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالتَّمْثِيلِ، صِرْنَا مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهِيَ [قَوْلُهُ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ فِيهِ الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ فَلَا تَكُونُ إِشَارَةً إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ وَلَا مُحَالٍ بِهَا] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ إِنَّ قَوْلَهُ: «تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ» فِيهِ الْإِشَارَةُ بِـ " تِلْكَ " فَلَا تَكُونُ إِشَارَةً إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَلَا مُحَالًا بِهَا عَلَى غَيْرِ مَعْلُومٍ، بَلْ لَابُدَّ لَهَا مِنْ مُتَقَدِّمٍ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ إِلَّا الْأَحْوَالُ الَّتِي كَانَتِ السَّبَبَ فِي الِافْتِرَاقِ، فَجَاءَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْحَدِيثِ مُبَيِّنَةً أَنَّهَا الْأَهْوَاءُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: «تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ خَارِجٍ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ إِنَّمَا خَرَجَ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى عَنِ الشَّرْعِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذَا قَبْلُ فَلَا نُعِيدُهُ.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام " أنه سيخرج من أمتي أقوام على وصف كذا "

[مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ عَلَى وَصْفِ كَذَا "] الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ» عَلَى وَصْفِ كَذَا، يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَنْ يَجْرِي فِيهِ هَوَاهُ مَجْرَى الْكَلْبِ بِصَاحِبِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَنْهُ. وَالثَّانِي: مَنْ يَكُونُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي الْبِدْعَةِ مُشْرَبَ الْقَلْبِ بِهَا إِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ» عَلَى وَصْفِ كَذَا، يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ مِنْ أُمَّتِهِ فِي هَوًى مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَاءِ وَرَآهَا وَذَهَبَ إِلَيْهَا، فَإِنَّ هَوَاهُ يَجْرِي فِيهِ مَجْرَى الْكَلْبِ بِصَاحِبِهِ فَلَا يَرْجِعُ أَبَدًا عَنْ هَوَاهُ وَلَا يَتُوبُ مِنْ بِدْعَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ أَنَّ أُمَّتَهُ مَنْ يَكُونُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي الْبِدْعَةِ مُشْرَبَ الْقَلْبِ بِهَا فَلَا يُمْكِنُهُ التَّوْبَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَيُمْكِنُهُ التَّوْبَةُ مِنْهَا وَالرُّجُوعُ عَنْهَا. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْأَوَّلِ هُوَ النَّقْلُ الْمُقْتَضِي الْحَجْرَ لِلتَّوْبَةِ عَنْ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ عَلَى الْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ عَلَى فُوْقِهِ» وَقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوْبَةَ عَنْ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ»، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْوَاقِعُ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ ارْتَضَاهَا لِنَفْسِهِ يَخْرُجُ عَنْهَا أَوْ يَتُوبُ مِنْهَا، بَلْ هُوَ يَزْدَادُ بِضَلَالَتِهَا بَصِيرَةً. رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ مَثَلُ الْمَجْنُونِ الَّذِي عُولِجَ حَتَّى بَرِئَ، فَأَعْقَلَ مَا يَكُونُ قَدْ هَاجَ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الثَّانِي أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّقْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا تَوْبَةَ

لَهُ أَصْلًا، لِأَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، وَالشَّرْعَ إِنْ يَشَأْ عَلَى مَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فَعُمُومُهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ عَادِيًّا، وَالْعَادَةُ إِنَّمَا تَقْتَضِي فِي الْعُمُومِ الْأَكْثَرِيَّةَ، لَا نَحْتَاجُ الشُّمُولَ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ الْعَقْلُ إِلَّا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ، وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّا وَجَدْنَا مَنْ كَانَ عَامِلًا بِبِدَعٍ ثُمَّ تَابَ مِنْهَا وَرَاجَعَ نَفْسَهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا، كَمَا رَجَعَ مِنَ الْخَوَارِجِ مَنْ رَجَعَ حِينَ نَاظَرَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَكَمَا رَجَعَ الْمُهْتَدِي وَالْوَاثِقُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنِ السُّنَّةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، وَإِذَا جُعِلَ تَخْصِيصٌ بِفَرْدٍ لَمْ يَبْقَ اللَّفْظُّ عَامًّا وَحَصَلَ الِانْقِسَامُ. وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ أَعْطَى أَوَّلُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ ذَلِكَ الِافْتِرَاقَ مِنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ بِإِشْرَابٍ أَوْ عَدَمِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ فِي أُمَّتِهِ الْمُفْتَرِقِينِ عَنِ الْجَمَاعَةِ مِنْ يُشْرَبُ تِلْكَ الْأَهْوَاءَ، فَدَلَّ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يُشْرَبُهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا. وَيَبْعَدُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ فِي مُطْلَقِ الْأُمَّةِ مَنْ يُشْرَبُ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ، إِذْ كَانَ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ نَوْعٌ مِنَ التَّدَاخُلِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَإِذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَخْرُجُ فِي الْأُمَّةِ الْمُفْتَرِقَةِ بِسَبَبِ الْهَوَى مَنْ يَتَجَارَى بِهِ ذَلِكَ الْهَوَى اسْتَقَامَ الْكَلَامُ وَاتَّسَقَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ الِانْقِسَامُ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ فِي الْفِرْقَةِ مَنْ يَتَجَارَى بِهِ الْهَوَى كَتَجَارِي الْكَلْبِ، وَمَنْ لَا يَتَجَارَى بِهِ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَخْتَلِفَ التَّجَارِي، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِي الْغَايَةِ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْكُفْرِ أَوْ يَكَادُ، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. فَمِنَ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ الْخَوَارِجُ بِشَهَادَةِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، وَمِنْهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُغِرِقُوا فِي الْبِدْعَةِ حَتَّى اعْتَرَضُوا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَهُمْ بِالتَّكْفِيرِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَهُمْ. وَمِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي أَهْلُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ عَلَى الْجُمْلَةِ، إِذَا لَمْ يُؤَدِّهِمْ عَقْلُهُمْ إِلَى مَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الظَّاهِرِيَّةُ - عَلَى رَأْيِ مَنْ عَدَّهَا مِنِ الْبِدَعِ - وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ: مَنْ خَرَجَ عَنِ الْفِرَقِ بِبِدْعَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ جُزْئِيَّةً فَلَا يَخْلُو صَاحِبُهَا مِنْ تَجَارِيهَا فِي قَلْبِهِ وَإِشْرَابِهَا لَهُ، لَكِنْ عَلَى قَدْرِهَا، وَبِذَلِكَ أَيْضًا تَدْخُلُ تَحْتَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ، لَكِنَّ التَّجَارِيَ الْمُشَبَّهَ بِالْكَلْبِ لَا يَبْلُغُهُ كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى وَجْهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ أُشْرِبَ قَلْبُهُ بِدْعَةً مِنِ الْبِدَعِ ذَلِكَ الْإِشْرَابَ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِمَّنْ هُوَ مَعْدُودٌ فِي الْفِرَقِ، فَإِنَّ الْجَمِيعَ مُتَّصِفُونَ بِوَصْفِ الْفِرْقَةِ الَّتِي هِيَ نَتِيجَةُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. وَسَبَبُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَمْرَانِ: إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي أُشْرِبَهَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى بِدْعَتِهِ، فَيُظْهِرُ بِسَبَبِهَا الْمُعَادَاةَ، وَالَّذِي لَمْ يُشْرِبْهَا لَا يَدْعُو إِلَيْهَا وَلَا يَنْتَصِبُ لِلدُّعَاءِ إِلَيْهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدْعُ إِلَيْهَا إِلَّا وَهِيَ وَقَدْ بَلَغَتْ مِنْ قَلْبِهِ مَبْلَغًا عَظِيمًا بِحَيْثُ يَطْرَحُ مَا سِوَاهَا فِي جَنْبِهَا، حَتَّى صَارَ ذَا بَصِيرَةٍ فِيهَا لَا يَنْثَنِي عَنْهَا، وَقَدْ أَعْمَتْ بَصَرَهُ وَأَصَمَّتْ سَمْعَهُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَى كُلِّيَّتِهِ وَهِيَ غَايَةُ

الْمَحَبَّةِ. وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالَى بِسَبَبِهِ وَعَادَى، وَلَمْ يُبَالِ بِمَا لَقِيَ فِي طَرِيقِهِ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ، فَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ حَصَّلَهَا، وَنُكْتَةٍ اهْتَدَى إِلَيْهَا فَهِيَ مُدَّخَرَةٌ فِي خِزَانَةِ حِفْظِهِ يَحْكُمُ بِهَا عَلَى مَنْ وَافَقَ وَخَالَفَ، لَكِنْ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِ نَفْسِهِ عَنِ الْإِظْهَارِ مَخَافَةَ النَّكَالِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْإِضْرَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَاهَنَ عَلَى نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِظْهَارِهِ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَبْلَغَ الِاسْتِيلَاءِ، فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ إِذَا اسْتَخْفَى بِهَا صَاحِبُهَا. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ أُشْرِبَهَا نَاصِبٌ عَلَيْهَا بِالدَّعْوَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، وَهِيَ الْخَاصِّيَّةُ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي الْخَوَارِجِ وَسَائِرِ مَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ. وَمِثْلُ مَا حَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَوَاصِمِ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ: أَنَّهُ وَرَدَ بِهَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هُورَانَ الْقُشَيْرِيُّ الصُّوفِيُّ مِنْ نَيْسَابُورَ فَعَقَدَ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ، وَحَضَرَ فِيهِ كَافَّةُ الْخَلْقِ، وَقَرَأَ الْقَارِئُ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قَالَ لِي أَخَصُّهُمْ: مَنْ أَنْتَ - يَعْنِي الْحَنَابِلَةَ - يَقُومُونَ فِي أَثْنَاءِ الْمَجْلِسِ وَيَقُولُونَ قَاعِدٌ! قَاعِدٌ! بِأَرْفَعِ صَوْتٍ وَأَبْعَدِهِ مَدًى، وَثَارَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْقُشَيْرِيِّ وَمِنْ أَهْلِ الْحَضْرَةِ، وَتَثَاوَرَ الْفِئَتَانِ وَغَلَبَتِ الْعَامَّةُ، فَأَحْجَرُوهُمْ إِلَى مَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ وَحَصَرُوهُمْ فِيهَا وَرَمَوْهُمْ بِالنِّشَابِ، فَمَاتَ مِنْهُمْ قَوْمٌ، وَرَكِبَ زَعِيمُ الْكُفَاةِ وَبَعْضُ الدَّارِيَّةِ فَسَكَنُوا ثَوْرَتَهُمْ.

الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص

فَهَذَا أَيْضًا مِمَّنْ أُشْرِبَ قَلْبُهُ حُبَّ الْبِدْعَةِ حَتَّى أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْقَتْلِ، فَكُلُّ مَنْ بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ حَقِيقٌ أَنْ يُوصَفَ بِالْوَصْفِ الَّذِي وُصِفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ بَلَغَ مِنْ ذَلِكَ الْحَرْبَ. وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَاخَلُوا الْمُلُوكَ فَأَدْلَوْا إِلَيْهِمْ بِالْحُجَّةِ الْوَاهِيَةِ، وَصَغَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَمَلَةَ السُّنَّةِ وَحُمَاةَ الْمِلَّةِ، حَتَّى وَقَفُوهُمْ مَوَاقِفَ الْبَلْوَى، وَأَذَاقُوهُمْ مَرَارَةَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَانْتَهَى بِأَقْوَامٍ إِلَى الْقَتْلِ، حَسْبَمَا وَقَعَتِ الْمِحْنَةُ بِهِ زَمَانَ بِشْرٍ الْمَرِّيسِيِّ فِي حَضْرَةِ الْمَأْمُونِ وَابْنِ أَبِي دُؤَادٍ وَغَيْرِهِمَا. فَإِنْ لَمْ تَبْلُغِ الْبِدْعَةُ بِصَاحِبِهَا هَذِهِ الْمُنَاصَبَةَ فَهُوَ غَيْرُ مُشْرَبٍ حُبَّهَا فِي قَلْبِهِ كَالْمِثَالِ فِي الْحَدِيثِ، وَكَمْ مِنْ أَهْلِ بِدْعَةٍ لَمْ يَقُومُوا بِبِدْعَتِهِمْ قِيَامَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، بَلِ اسْتَتَرُوا بِهَا جِدًّا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلدُّعَاءِ إِلَيْهَا جِهَارًا، كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَدُّ فِي الْعُلَمَاءِ وَالرُّوَاةِ وَأَهْلِ الْعَدَالَةِ بِسَبَبِ عَدَمِ شُهْرَتِهِمْ بِمَا انْتَحَلُوهُ. فَهَذَا الْوَجْهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ أَوْلَى الْوُجُوهِ بِالصَّوَابِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [الْإِشْرَابُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هَلْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْبِدَعِ دُونَ بَعْضٍ أَمْ لَا يَخْتَصُّ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ أَنَّ هَذَا الْإِشْرَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هَلْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْبِدَعِ دُونَ بَعْضٍ أَمْ لَا يَخْتَصُّ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ بَعْضَ الْبِدَعِ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُشْرِبَ قَلْبَ صَاحِبِهَا جِدًّا، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَالْبِدْعَةُ الْفُلَانِيَّةُ مَثَلًا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَجَارَى بِصَاحِبِهَا كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ وَالْبِدْعَةُ الْفُلَانِيَّةُ لَيْسَتْ

كَذَلِكَ، فَبِدْعَةُ الْخَوَارِجِ مَثَلًا فِي طَرَفِ الْإِشْرَابِ كَبِدْعَةِ الْمُنْكِرِينَ لِلْقِيَاسِ فِي الْفُرُوعِ الْمُلْتَزِمِينَ الظَّاهِرَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَجَارَى ذَلِكَ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ عَلَى الْعُمُومِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِهَا مَنْ تَجَارَتْ بِهِ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، كَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ بِسَبَبِ الْقَوْلِ بِهِ سُورَةَ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ الْحَالُ إِلَى هَذَا النَّحْوِ كَجُمْلَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْفَارِسِيِّ النَّحْوِيِّ وَابْنِ جِنِّي. وَالثَّانِي: بِدْعَةُ الظَّاهِرِيَّةِ فَإِنَّهَا تَجَارَتْ بِقَوْمٍ حَتَّى قَالُوا عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قَاعِدٌ! قَاعِدٌ! وَأَعْلَنُوا بِذَلِكَ وَتَقَاتَلُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ بِقَوْمٍ آخَرِينَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ، كَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ فِي الْفُرُوعِ وَأَشْبَاهِهِ. وَالثَّالِثُ: بِدْعَةُ الْتِزَامِ الدُّعَاءِ بِإِثْرِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا عَلَى الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَإِنَّهَا بَلَغَتْ بِأَصْحَابِهَا إِلَى أَنْ كَانَ التَّرْكُ لَهَا مُوجِبًا لِلْقَتْلِ عِنْدَهُ، فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ خَلِيلٍ حِكَايَةً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ الْعَابِدِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ عُظَمَاءِ الدَّوْلَةِ وَأَهْلِ الْوَجَاهَةِ فِيهَا - وَكَانَ مَوْصُوفًا بِشِدَّةِ السَّطْوِ وَبَسْطِ الْيَدِ - نَزَلَ فِي جِوَارِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَصَلَّى فِي مَسْجِدِهِ الَّذِي كَانَ يَؤُمُّ فِيهِ، وَكَانَ لَا يَدْعُو فِي أُخْرَيَاتِ الصَّلَوَاتِ تَصْمِيمًا فِي ذَلِكَ

عَلَى الْمَذْهَبِ (يَعْنِي مَذْهَبَ مَالِكٍ) لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي مَذْهَبِهِ. وَكَانَ ابْنُ مُجَاهِدٍ مُحَافِظًا عَلَيْهِ. فَكَرِهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْهُ تَرْكَ الدُّعَاءِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ فَأَبَى، وَبَقِيَ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَرْكِهِ فِي أَعْقَابِ الصَّلَوَاتِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي صَلَّى ذَلِكَ الرَّجُلُ الْعَتَمَةَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا انْقَضَتْ وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى دَارِهِ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ: قَدْ قُلْنَا لِهَذَا الرَّجُلِ يَدْعُو إِثْرَ الصَّلَوَاتِ فَأَبَى، فَإِذَا كَانَ فِي غَدْوَةِ غَدٍ أَضْرِبُ رَقَبَتَهُ بِهَذَا السَّيْفِ وَأَشَارَ فِي يَدِهِ فَخَافُوا عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ مِنْ قَوْلِهِ لَمَّا عَلِمُوا مِنْهُ، فَرَجَعَتِ الْجَمَاعَةُ بِجُمْلَتِهَا إِلَى دَارِ ابْنِ مُجَاهِدٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ خِفْنَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَقَدِ اشْتَدَّ الْآنَ غَضَبُهُ عَلَيْكَ فِي تَرْكِكَ الدُّعَاءَ. فَقَالَ لَهُمْ: لَا أَخْرُجُ عَنْ عَادَتِي، فَأَخْبَرُوهُ بِالْقِصَّةِ. فَقَالَ لَهُمْ - وَهُوَ مُبْتَسِمٌ -: انْصَرِفُوا وَلَا تَخَافُوا فَهُوَ الَّذِي تُضْرَبُ رَقَبَتُهُ فِي غَدْوَةِ غَدٍ بِذَلِكَ السَّيْفِ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَدَخَلَ دَارَهُ، وَانْصَرَفَتِ الْجَمَاعَةُ عَلَى ذُعْرٍ مِنْ قَوْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ. فَلَمَّا كَانَ مَعَ الصُّبْحِ وَصَلَ إِلَى دَارِ الرَّجُلِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَمَنْ عَلِمَ حَالَ الْبَارِحَةِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَيْهِ إِلَى دَارِ الْإِمَامَةِ بِبَابِ جَوْهَرٍ مِنْ إِشْبِيلِيَّةَ، وَهُنَاكَ أَمَرَ بِضَرْبِ رَقَبَتِهِ بِسَيْفِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِلْإِجَابَةِ وَإِثْبَاتًا لِلْكَرَامَةِ. وَقَدْ رَوَى بَعْضُ الْإِشْبِيلِييِّنَ الْحِكَايَةَ بِمَعْنَى هَذِهِ لَكِنْ عَلَى نَحْوٍ آخَرَ. وَلَمَّا رَدَّ وَلَدُ ابْنِ الصَّقْرِ عَلَى الْخَطِيبِ فِي خُطْبَتِهِ وَذَلِكَ حِينَ فَاهَ بِاسْمِ الْمَهْدِيِّ وَعِصْمَتِهِ، أَرَادَ الْمُرْتَضَى مِنْ ذُرِّيَّةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ - وَهُوَ إِذْ ذَاكَ

داء الكلب فيه ما يشبه العدوى وكذلك البدع

خَلِيفَةٌ - أَنْ يَسْجُنَهُ عَلَى قَوْلِهِ، فَأَبَى الْأَشْيَاخُ وَالْوُزَرَاءُ مِنْ فِرْقَةِ الْمُوَحِّدِينَ إِلَّا قَتْلَهُ، فَغَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِ فَقَتَلُوهُ خَوْفًا أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ غَيْرُهُ. فَتَخْتَلُّ عَلَيْهِمُ الْقَاعِدَةُ الَّتِي بَنَوْا دِينَهُمْ عَلَيْهَا. وَقَدْ لَا تَبْلُغُ الْبِدْعَةُ فِي الْإِشْرَابِ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ فَلَا يَتَّفِقُ الْخِلَافُ فِيهَا بِمَا يُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ بَيَّنَتْ بِالْوَاقِعِ مُرَادَ الْحَدِيثِ - عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ - فَإِنَّ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَكُونُ ابْتِنَاءً عَلَى وَفْقِ مُخْبِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّفٍ أَلْبَتَّةَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ اسْتِقْرَاءُ أَحْوَالِ الْخَلْقِ مِنِ انْقِسَامِهَا إِلَى الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى وَالْأَوْسَطِ، كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَالشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ، وَالْعَدْلِ وَالْجَوْرِ، وَالْجُودِ وَالْبُخْلِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْصَافِ، فَإِنَّهَا تَتَرَدَّدُ مَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ: فَعَالِمٌ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ، وَآخَرُ فِي أَدْنَى دَرَجَاتِهِ، وَجَاهِلٌ كَذَلِكَ، وَشُجَاعٌ كَذَلِكَ، إِلَى سَائِرِهَا. فَكَذَلِكَ سُقُوطُ الْبِدَعِ بِالنُّفُوسِ، إِلَّا أَنَّ فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا فَائِدَةً أُخْرَى، وَهِيَ التَّحْذِيرُ مِنْ مُقَارَبَتِهَا وَمُقَارَبَةِ أَصْحَابِهَا وَهِيَ: [دَاءُ الْكَلْبِ فِيهِ مَا يُشْبِهُ الْعَدْوَى وَكَذَلِكَ الْبِدَعُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ أَنَّ دَاءَ الْكَلْبِ فِيهِ مَا يُشْبِهُ الْعَدْوَى وَكَذَلِكَ الْبِدَعُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ دَاءَ الْكَلْبِ فِيهِ مَا يُشْبِهُ الْعَدْوَى، فَإِنَّ أَصْلَ الْكَلْبِ وَاقِعٌ بِالْكَلْبِ. ثُمَّ إِذَا عَضَّ ذَلِكَ الْكَلْبُ أَحَدًا صَارَ مِثْلَهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْفِصَالِ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِالْهَلَكَةِ، فَكَذَلِكَ الْمُبْتَدِعُ إِذَا أَوْرَدَ عَلَى أَحَدٍ رَأْيَهُ وَإِشْكَالَهُ فَقَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ

غَائِلَتِهِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَقَعَ مَعَهُ فِي مَذْهَبِهِ وَيَصِيرَ مِنْ شِيعَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُثْبِتَ فِي قَلْبِهِ شَكًّا يَطْمَعُ فِي الِانْفِصَالِ عَنْهُ فَلَا يَقْدِرُ. هَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنَّ صَاحِبَهَا لَا يُضَارُّهُ وَلَا يُدْخِلُهُ فِيهَا غَالِبًا إِلَّا مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالِاعْتِيَادِ لِحُضُورِ مَعْصِيَتِهِ. وَقَدْ أَتَى فِي الْآثَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ نَهَوْا عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ وَكَلَامِ مُكَالِمِهِمْ، وَأَغْلَظُوا فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي آثَارٌ جَمَّةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْرِمَ دِينَهُ فَلْيَعْتَزِلْ مُخَالَطَةَ الشَّيْطَانِ وَمُجَالَسَةَ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُمْ أَلْصَقُ مِنَ الْجَرَبِ. وَعَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ قَالَ: قَدِمَ غَيْلَانُ مَكَّةَ يُجَاوِرُ بِهَا، فَأَتَى غَيْلَانُ مُجَاهِدًا فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَجَّاجِ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَنْهَى النَّاسَ عَنِّي وَتَذْكُرُنِي، وَأَنَّهُ بَلَغَكَ عَنِّي شَيْءٌ لَا أَقُولُهُ؟ إِنَّمَا أَقُولُ كَذَا، فَجَاءَ بِشَيْءٍ لَا يُنْكَرُ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُجَالِسُوهُ فَإِنَّهُ قَدَرِيٌّ. قَالَ حُمَيْدٌ: فَإِنِّي لَمَّا كُنْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي الطَّوَافِ لَحِقَنِي غَيْلَانُ مِنْ خَلْفِي يَجْذِبُ رِدَائِي، فَالْتَفَتُّ فَقَالَ: كَيْفَ يَقُولُ مُجَاهِدٌ خَرِفَ وَكَذَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَمَشَى مَعِي، فَبَصُرَ بِي مُجَاهِدٌ مَعَهُ، فَأَتَيْتُهُ فَجَعَلْتُ أُكَلِّمُهُ فَلَا يَرُدُّ عَلَيَّ، وَأَسْأَلُهُ فَلَا يُجِيبُنِي

فَقَالَ - فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْحَجَّاجِ! أَبَلَغَكَ عَنِّي شَيْءٌ؟ مَا أَحْدَثْتُ حَدَثًا، مَا لِي! قَالَ: أَلَمْ أَرَكَ مَعَ غَيْلَانَ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُكَلِّمُوهُ أَوْ تُجَالِسُوهُ؟ قَالَ، قُلْتُ: يَا أَبَا الْحَجَّاجِ مَا أَنْكَرْتُ قَوْلَكَ، وَمَا بَدَأْتُهُ، وَهُوَ بَدَأَنِي. قَالَ: وَاللَّهِ يَا حُمَيْدُ لَوْلَا أَنَّكَ عِنْدِي مُصَدَّقٌ مَا نَظَرْتَ لِي فِي وَجْهٍ مُنْبَسِطٍ مَا عِشْتُ، وَلَئِنْ عُدْتَ لَا تَنْظُرُ لِي فِي وَجْهٍ مُنْبَسِطٍ مَا عِشْتُ. وَعَنْ أَيُّوبَ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَدَخَلَ فَلَمَّا جَلَسَ وَضَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهُ فِي بَطْنِهِ وَقَامَ، فَقُلْتُ لِعَمْرٍو: انْطَلِقْ بِنَا - قَالَ - فَخَرَجْنَا فَلَمَّا مَضَى عَمْرٌو رَجَعْتُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ؟ قَدْ فَطِنْتُ إِلَى مَا صَنَعْتَ. قَالَ: أَقَدْ فَطِنْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَضُمَّنِي مَعَهُ سَقْفُ بَيْتٍ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَرَآنِي ابْنُ عَوْنٍ فَأَعْرَضَ عَنِّي. وَقِيلَ: دَخَلَ ابْنُ عُبَيْدٍ دَارَ ابْنِ عَوْنٍ فَسَكَتَ ابْنُ عَوْنٍ لَمَّا رَآهُ، وَسَكَتَ عَمْرٌو عَنْهُ فَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ - فَمَكَثْتُ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: بِمَ اسْتَحَلَّ أَنْ دَخَلَ دَارِي بِغَيْرِ إِذْنِي؟ - مِرَارًا يُرَدِّدُهَا - أَمَا إِنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ. . . وَعَنْ مُؤَمَّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: مَا لَكَ لَمْ تَرْوِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا؟ قَالَ: مَا أَتَيْتُهُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَا سَاقَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ أَيُّوبَ عَلِمَ بِإِتْيَانِي إِلَيْهِ وَأَنَّ لِي كَذَا

وَكَذَا، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ لَوْ عَلِمَ لَكَانَتِ الْفَيْصَلُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ قَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ: لَا تَقْرَبَنَّا مَا دُمْتَ عَلَى رَأْيِكَ هَذَا. وَكَانَ مُرْجِئًا. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَقِيَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَلَمْ أَرَكَ مَعَ طَلْقٍ؟ قُلْتُ: بَلَى! فَمَا لَهُ؟ قَالَ: لَا تُجَالِسْهُ فَإِنَّهُ مُرْجِئٌ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ قَالَ: رَأَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ مُحْرِزٍ وَقَرِيبٌ مِنْهُ شَيْبَةُ، فَرَآهُمَا يَتَجَادَلَانِ، فَرَأَيْتُهُ قَائِمًا يَنْفُضُ ثِيَابَهُ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَنْتُمْ جُرْبٌ. وَعَنْ أَيُّوبَ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ! أَقْرَأُ عَلَيْكَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا أَزِيدُ أَنْ أَقْرَأَهَا ثُمَّ أَخْرُجُ؟ فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا إِلَّا خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِي - قَالَ - فَقَالَ - يَا أَبَا بَكْرٍ! لَا أَزِيدُ عَلَى أَنْ أَقْرَأَ (آيَةً) ثُمَّ أَخْرُجُ. فَقَامَ لِإِزَارِهِ يَشُدُّهُ وَتَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ فَأَقْبَلْنَا عَلَى الرَّجُلِ، فَقُلْنَا: قَدْ عَزَمَ عَلَيْكَ إِلَّا خَرَجْتَ، أَفَيَحِلُّ لَكَ أَنْ تُخْرِجَ رَجُلًا مِنْ بَيْتِهِ؟ قَالَ: فَخَرَجَ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا عَلَيْكَ لَوْ قَرَأَ آيَةً ثُمَّ خَرَجَ؟ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ قَلْبِي يَثْبُتُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مَا بَالَيْتُ أَنْ يَقْرَأَ، وَلَكِنْ خِفْتُ أَنْ يُلْقِي فِي قَلْبِي شَيْئًا أَجْهَدُ فِي إِخْرَاجِهِ مِنْ قَلْبِي فَلَا أَسْتَطِيعُ. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: لَا تُكَلِّمُوا صَاحِبَ بِدْعَةٍ مِنْ جَدَلٍ فَيُورِثَ قُلُوبَكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ. فَهَذِهِ آثَارٌ تُنَبِّهُكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَتْ إِشَارَةُ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مَقْصُودًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

التنبيه على السبب في بعد صاحب البدعة عن التوبة

تَأْثِيرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ فِي الْقُلُوبِ مَعْلُومٌ. [التَّنْبِيهُ عَلَى السَّبَبِ فِي بُعْدِ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ عَنِ التَّوْبَةِ] وَثَمَّ مَعْنًى آخَرُ قَدْ يَكُونُ مِنْ فَوَائِدِ تَنْبِيهِ الْحَدِيثِ بِمِثَالِ دَاءِ الْكَلْبِ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى السَّبَبِ فِي بُعْدِ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ عَنِ التَّوْبَةِ، إِذْ كَانَ مَثَلُ الْمَعَاصِي الْوَاقِعَةِ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوِ اعْتِقَادًا، كَمَثَلِ الْأَمْرَاضِ النَّازِلَةِ بِجِسْمِهِ أَوْ رُوحِهِ، فَأَدْوِيَةُ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ مَعْلُومَةٌ، وَأَدْوِيَةُ الْأَمْرَاضِ الْعَمَلِيَّةِ التَّوْبَةُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَكَمَا أَنَّ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّدَاوِي، وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّدَاوِي أَوْ يَعْسُرُ، كَذَلِكَ الْكَلْبُ الَّذِي فِي أَمْرَاضِ الْأَعْمَالِ، فَمِنْهَا مَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّوْبَةُ عَادَةً، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ. فَالْمَعَاصِي كُلُّهَا - غَيْرُ الْبِدَعِ - يُمْكِنُ فِيهَا التَّوْبَةُ مِنْ أَعْلَاهَا، وَهِيَ الْكَبَائِرُ - إِلَى أَدْنَاهَا - وَهِيَ اللَّمَمُ - وَالْبِدَعُ أَخْبَرْنَا فِيهَا إِخْبَارَيْنِ كِلَاهُمَا يُفِيدُ أَنْ لَا تَوْبَةَ مِنْهَا. الْإِخْبَارُ الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا تَوْبَةَ لَهُ، مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَالْآخَرُ: مَا نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الْبِدَعِ بِمَا لَا نُجْحَ فِيهِ مِنَ الْأَمْرَاضِ كَالْكَلْبِ، فَأَفَادَ أَنْ لَا نُجْحَ مِنْ ذَنْبِ الْبِدَعِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءِ عُمُومٍ، بَلِ اقْتَضَى أَنَّ عَدَمَ التَّوْبَةِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ تُجَارَى بِهِ الْهَوَى كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ يَتَجَارَى بِهِ الْهَوَى عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَتَبَيَّنَ الشَّاهِدَ عَلَيْهِ. وَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى زَائِدٌ هُوَ مِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ، وَهِيَ:

من تلك الفرق من لا يشرب هوى البدعة ذلك الإشراب

[مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ مَنْ لَا يُشْرَبُ هَوَى الْبِدْعَةِ ذَلِكَ الْإِشْرَابَ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ وَهُوَ أَنَّ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ مَنْ لَا يُشْرَبُ هَوَى الْبِدْعَةِ ذَلِكَ الْإِشْرَابَ، فَإِذًا يُمْكِنُ فِيهِ التَّوْبَةُ، وَإِذَا أَمْكَنَ فِي أَهْلِ الْفِرَقِ أَمْكَنَ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ الْجُزْئِيَّةِ. فَإِمَّا أَنْ يُرَجَّحَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي إِسْنَادِهَا شَيْءٌ، وَأَعْلَى مَا يُجْرَى فِي الْحِسَانِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ مَا هُوَ صَحِيحٌ، كَقَوْلِهِ: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ كَمَا يَعُودُ السَّهْمُ عَلَى فُوْقِهِ» وَمَا أَشْبَهَ. وَأَمَّا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَتَجْعَلُ النَّقْلَ الْأَوَّلَ عُمْدَةً فِي عُمُومِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَيَكُونُ هَذَا الْإِخْبَارُ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ لَا يَتَنَافَيَانِ بِسَبَبِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْبِدَعِ مُصَاحِبَةَ الْهَوَى، وَغَلَبَةُ الْهَوَى لِلْإِنْسَانِ فِي الشَّيْءِ الْمَفْعُولِ أَوِ الْمَتْرُوكِ لَهُ أَبَدًا أَثَرٌ فِيهِ، وَالْبِدَعُ كُلُّهَا تُصَاحِبُ الْهَوَى، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَصْحَابُهَا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، فَوَقَعَتِ التَّسْمِيَةُ بِهَا، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ، إِذْ يُصَاحِبُهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْهَوَى مَعَ شُبْهَةِ دَلِيلٍ، لَا عَنِ الدَّلِيلِ بِالْعَرْضِ فَصَارَ هَوًى يُصَاحِبُهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فِي الظَّاهِرِ، فَكَانَ أَجْرَى فِي الْبِدَعِ مِنَ الْقَلْبِ مَوْقِعَ السُّوَيْدَاءِ فَأُشْرِبَ حُبَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَفَاوَتُ، إِذْ لَيْسَ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهُ تَشْرِيعٌ كُلُّهُ، وَاسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ أَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ، عَافَانَا اللَّهُ مِنَ النَّارِ بِفَضْلِهِ وَمَنِّهِ. وَإِمَّا أَنَّ يَعْمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ مَعَ الْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ - عَلَى فَرْضِ الْعَمَلِ بِهِ - وَنَقُولُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَامَّةٌ، وَهَذَا يُفِيدُ الْخُصُوصَ كَمَا تُفِيدُهُ، أَوْ يُفِيدُ مَعْنًى يُفْهَمُ مِنْهُ الْخُصُوصُ، وَهُوَ الْإِشْرَابُ فِي أَعْلَى

جاء في بعض روايات الحديث " أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم "

الْمَرَاتِبِ مَسُوقًا مَسَاقَ التَّبْغِيضِ، لِقَوْلِهِ: «وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ» إِلَى آخِرِهِ، فَدَلَّ أَنَّ ثَمَّ أَقْوَامًا أُخَرَ لَا تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ عَلَى مَا قَالَ، بَلْ هِيَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا تَتَجَارَى بِهِمْ ذَلِكَ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ بِحَسَبِ مَا أَعْطَاهُ الْمَوْضِعُ، وَتَمَامُ الْمَسْأَلَةِ قَدْ مَرَّ فِي الْبَابِ الثَّانِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِي الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا تَخْصِيصٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ " أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ "] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: «أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» فَجَعَلَ أَعْظَمَ تِلْكَ الْفِرَقِ فِتْنَةً عَلَى الْأُمَّةِ أَهْلَ الْقِيَاسِ، وَلَا كُلَّ قِيَاسٍ، بَلِ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، فَإِنَّ أَهْلَ الْقِيَاسِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ يَصِحُّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ مُعْتَبَرٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ أَصْلٌ - وَهُوَ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ - فَهُوَ الَّذِي لَا يَصِحُّ أَنْ يُوضَعَ فِي الدِّينِ - فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ وَأَنْ يَصِيرَ الْحَلَالُ بِالشَّرْعِ حَرَامًا بِذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَالْحَرَامُ حَلَالًا، فَإِنَّ الرَّأْيَ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَأْيٌ لَا يَنْضَبِطُ إِلَى قَانُونٍ شَرْعِيٍّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّ الْعُقُولَ تَسْتَحْسِنُ مَا لَا يُسْتَحْسَنُ شَرْعًا، وَتَسْتَقْبِحُ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ شَرْعًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلِ فِتْنَةً عَلَى النَّاسِ. ثُمَّ أَخْبَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُعَلِّمِينَ لِهَذَا الْقِيَاسِ أَضَرُّ عَلَى النَّاسِ مِنْ

سَائِرِ أَهْلِ الْفِرَقِ، وَأَشَدُّ فِتْنَةً. وَبَيَانُهُ أَنَّ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَدِ اشْتَهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرُدُّهَا وَاسْتَفَاضَتْ، وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ مَقْمُوعُونَ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، بِخِلَافِ الْفُتْيَا، فَإِنَّ أَدِلَّتَهَا مِنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْأَفْرَادُ، وَلَا يُمَيِّزُ ضَعِيفَهَا مِنْ قَوِيِّهَا إِلَّا الْخَاصَّةُ، وَقَدْ يَنْتَصِبُ لَلْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ مِمَّنْ يُخَالِفُهَا كَثِيرٌ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ مَعْنَاهُ مَحْفُوظًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ لَا أَقُولُ: عَامٌ أَمْطَرُ مِنْ عَامٍ، وَعَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ. وَلَكِنْ: ذَهَابُ خِيَارِكُمْ وَعُلَمَائِكُمْ ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُهْدَمُ الْإِسْلَامُ وَيُثْلَمُ. وَهَذَا الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْجُودٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَلَكِنْ يَنْزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ بِرَأْيِهِمْ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ». وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالتَّابِعِينَ تَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالرَّأْيِ يُحِلُّ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُ الْحَلَالَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الذَّامَّةَ لِلرَّأْيِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهَا ذَمَّ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْأُصُولِ فِي نَازِلَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، مِمَّنْ يَعْرِفُ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ، وَيَفْهَمُ مَعَانِيَ الْأَحْكَامِ فَيَقِيسُ قِيَاسَ تَشْبِيهٍ وَتَعْلِيلٍ، قَيِاسًا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ

وَلَا الْعَكْسُ، وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ الْهَادِمُ مَا عَارَضَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، أَوْ مَا عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، أَوْ مَعَانِيهَا الْمُعْتَبَرَةَ. ثُمَّ إِنَّ مُخَالَفَةَ هَذِهِ الْأُصُولِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِفَ أَصْلًا مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً مِنْ غَيْرِ اسْتِمْسَاكٍ بِأَصْلٍ آخَرَ، فَهَذَا لَا يَقَعُ مِنْ مُفْتٍ مَشْهُورٍ؛ إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَصْلُ لَمْ يَبْلُغْهُ، كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ بَعْضُ السُّنَنِ فَخَالَفُوهَا خَطَأً، وَأَمَّا الْأُصُولُ الْمَشْهُورَةُ فَلَا يُخَالِفُهَا مُسْلِمٌ خِلَافًا ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ بِأَصْلٍ آخَرَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُخَالِفَهَا بَعْضُ الْمَشْهُورِينَ بِالْفُتْيَا. الثَّانِي أَنْ يُخَالِفَ الْأَصْلَ بِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالثَّانِي: أَنْ يُخَالِفَ الْأَصْلَ بِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ هُوَ فِيهِ مُخْطِئٌ، بِأَنْ يَضَعَ الِاسْمَ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوْ عَلَى بَعْضِ مَوَاضِعِهِ، أَوْ يُرَاعِيَ فِيهِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ دُونَ اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْوِيلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَنَّ تَحْلِيلَ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا فَحَرَّمَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلِ، أَوِ التَّحْرِيمَ مَشْهُورًا فَحَلَّلَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ كَانَ كُفْرًا وَعِنَادًا، وَمِثْلُ هَذَا لَا تَتَّخِذُهُ الْأُمَّةُ رَأْسًا قَطُّ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ قَدْ كَفَرَتْ، وَالْأُمَّةُ لَا تَكْفُرُ أَبَدًا. وَإِذَا بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ. وَإِذَا كَانَ التَّحْلِيلُ أَوِ التَّحْرِيمُ غَيْرَ مَشْهُورٍ فَخَالَفَهُ مُخَالِفٌ لَمْ يَبْلُغْهُ دَلِيلُهُ، فَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا مِنْ لَدُنْ زَمَانِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ، فَلَا تَضِلُّ الْأُمَّةُ وَلَا يَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ وَلَا يُقَالُ لِهَذَا: إِنَّهُ مُحْدَثٌ عِنْدَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ.

جواب النبي عن الفرقة الناجية فيه انصراف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع وهو ما كان عليه هو وأصحابه

فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَهُ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ، وَهَذَا بَيِّنٌ فِي الْمُبْتَدِعَةِ الَّذِينَ تَرَكُوا مُعْظَمَ الْكِتَابِ وَالَّذِي تَضَافَرَتْ عَلَيْهِ أَدِلَّتُهُ، وَتَوَاطَأَتْ عَلَى مَعْنَاهُ شَوَاهِدُهُ، وَأَخَذُوا فِي اتِّبَاعِ بَعْضِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَتَرْكِ أُمِّ الْكِتَابِ. فَإِذًا هَذَا - كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - «زَيْغٌ وَمَيْلٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ»، فَإِنْ تَقَدَّمَ أَئِمَّةٌ يُفْتُونَ وَيُقْتَدَى بِهِمْ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ سَكَنَتْ إِلَيْهِمُ الدَّهْمَاءُ ظَنًّا أَنَّهُمْ بَالَغُوا لَهُمْ فِي الِاحْتِيَاطِ عَلَى الدِّينِ، وَهُمْ يَضِلُّونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَا شَيْءَ أَعْظَمُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ دَاهِيَةٍ تَقَعُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ طَرِيقَهَا لَتَوَقَّاهَا مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا جَاءَتْهُ عَلَى غِرَّةٍ فَهِيَ أَدْهَى وَأَعْظَمُ عَلَى مَنْ وَقَعَتْ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ إِذَا جَاءَتِ الْعَامِّيَّ مِنْ طَرِيقِ الْفُتْيَا، لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ ظَهَرَ فِي رُتْبَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَيَضِلُّ مِنْ حَيْثُ يَطْلُبُ الْهِدَايَةَ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. [جَوَابُ النَّبِيِّ عَنِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِيهِ انْصِرَافُ الْقَصْدِ إِلَى تَعْيِينِ الْوَصْفِ الضَّابِطِ لِلْجَمِيعِ وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ إِنَّ هَاهُنَا نَظَرًا لَفْظِيًّا فِي الْحَدِيثِ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرَةُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، فَجَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى السُّؤَالُ عَنْهَا - سُؤَالُ التَّعْيِينِ - فَقَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَصْلُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: أَنَا وَأَصْحَابِي، وَمَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِنَا. أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْطِي تَعْيِينَ الْفِرْقَةِ، إِمَّا بِالْإِشَارَةِ أَوْ بِوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا. إِلَّا أَنَّ

ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي الْجَوَابِ تَعْيِينُ الْوَصْفِ لَا تَعْيِينُ الْمَوْصُوفِ، فَلِذَلِكَ أَتَى بِمَا أَتَى، فَظَاهَرُهَا الْوُقُوعُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ مِنَ الْأَوْصَافِ وَغَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوْصَافُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَمْ يُطَابِقِ السُّؤَالُ الْجَوَابَ فِي اللَّفْظِ. وَالْعُذْرُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَلْتَزِمُ ذَلِكَ النَّوْعَ إِذَا فُهِمَ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بَيَّنَ لَهُمُ الْوَصْفَ الَّذِي بِهِ صَارَتْ نَاجِيَةً، فَقَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي». وَمِمَّا جَاءَ غَيْرَ مُطَابِقٍ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُطَابِقٌ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران: 15]؟ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَعْنَاهُ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا؟ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: نَعَمْ! أَخْبِرْنَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 15] الْآيَةَ. أَيْ لِلَّذِينِ اتَّقَوُا اسْتَقَرَّ لَهُمْ {عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 15] الْآيَةَ. فَأَعْطَى مَضْمُونُ الْكَلَامِ مَعْنَى الْجَوَابِ عَلَى غَيْرِ لَفْظِهِ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ} [محمد: 15] الْآيَةَ. فَقَوْلُهُ: مَثَلُ الْجَنَّةِ يَقْتَضِي الْمَثَلَ لَا الْمُمَثَّلُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] وَلِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُمَثَّلَ جَاءَ بِهِ بِعَيْنِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ الْفِرَقَ وَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا فِرْقَةً نَاجِيَةً، كَانَ الْأَوْلَى السُّؤَالَ عَنْ أَعْمَالِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، لَا عَنْ نَفْسِ الْفِرْقَةِ.

لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَعْمَالِهَا الَّتِي نَجَتْ بِهَا. فَالْمُتَقَدِّمُ فِي الِاعْتِبَارِ هُوَ الْعَمَلُ لَا الْعَامِلُ، فَلَوْ سَأَلُوا: مَا وَصْفُهَا؟ أَوْ مَا عَمَلُهَا؟ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكَانَ أَشَدَّ مُطَابَقَةً فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، فَلَمَّا فَهِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُمْ مَا قَصَدُوا أَجَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَنَقُولُ: لَمَّا تَرَكُوا السُّؤَالَ عَمَّا كَانَ الْأَوْلَى فِي حَقِّهِمْ، أَتَى بِهِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ، حِرْصًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى تَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ تَعَلُّمُهُ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا سَأَلُوا عَنْهُ لَا يَتَعَيَّنُ، إِذْ لَا تَخْتَصُّ النَّجَاةُ بِمَنْ تَقَدَّمَ دُونَ مَنْ تَأَخَّرَ، إِذْ كَانُوا قَدِ اتَّصَفُوا بِوَصْفِ التَّأْخِيرِ. وَمِنْ شَأْنِ هَذَا السُّؤَالِ التَّعْيِينُ، وَعَدَمُ انْحِصَارِهِمْ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ لَا يَقْتَضِي التَّعْيِينَ، وَانْصَرَفَ الْقَصْدُ إِلَى تَعْيِينِ الْوَصْفِ الضَّابِطِ لِلْجَمِيعِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. وَهَذَا الْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا كَالْمُبْهَمِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّائِلِ مُعَيَّنٌ، لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ لِلْحَاضِرِينَ مَعَهُمْ رَأْيَ عَيْنٍ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ غَايَةُ التَّعْيِينِ اللَّائِقِ بِمَنْ حَضَرَ، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْ أَحْوَالَهُمْ وَلَمْ يَنْظُرْ أَعْمَالَهُمْ فَلَيْسَ مِثْلَهُمْ، وَلَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ بِذَلِكَ عَنِ التَّعْيِينِ الْمَقْصُودِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى.

الباب العاشر بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الابتداع

[الْبَابُ الْعَاشِرُ بَيَانُ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عَنْهُ سُبُلُ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ] [التَّعْيِينُ لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ اجْتِهَادِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ الْخِلَافُ فِيهِ] فِي بَيَانِ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عَنْهُ سُبُلُ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ فَضَلَّتْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ الْبَيَانِ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ وَكُلَّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَنَّ مَا سِوَاهَا مُنْحَرِفٌ عَنِ الْجَادَّةِ وَرَاكِبٌ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ. فَوَقَعَ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ إِذًا فِي تَعْيِينِهِ وَبَيَانِهِ، حَتَّى أَشْكَلَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ نَظَرَ فِيهَا، حَتَّى قَالَ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ أَوِ النَّقْلِيَّاتِ مُصِيبٌ. فَعَدَدُ الْأَقْوَالِ فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَطْلَبِ عَلَى عَدَدِ الْفِرَقِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الِاخْتِلَافِ، إِذْ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِي الشَّرِيعَةِ مَسْأَلَةً يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ قَوْلًا إِلَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَتَحْرِيرُ النَّظَرِ حَتَّى تَتَّضِحَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَغْمَضِ الْمَسَائِلِ. وَوَجْهٌ ثَانٍ: أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لَوْ تَعَيَّنَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَقَعِ اخْتِلَافٌ أَصْلًا، لَأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَعَ تَعْيِينِ مَحَلِّهِ مُحَالٌ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ بِقَصْدِ الْعِنَادِ، لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُخْرِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَكَلَامُنَا فِي الْفِرَقِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَقَعُ مِنْ رَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي أَدِلَّتِهَا. وَالشَّهَادَةُ

بِأَنَّ فُلَانًا رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ وَفُلَانًا غَيْرُ رَاسِخٍ، فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ وَانْحَازَ إِلَى فِرْقَةٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ الرَّاسِخُ، وَغَيْرُ قَاصِرِ النَّظَرِ، فَإِنْ فُرِضَ عَلَى ذَلِكَ الْمَطْلَبِ عَلَامَةٌ وَقَعَ النِّزَاعُ إِمَّا فِي الْعَلَامَةِ، وَإِمَّا فِي مَنَاطِهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ عَلَامَةَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةُ الْمُنَبِّهُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105] وَالْفُرْقَةُ - بِشَهَادَةِ الْجَمِيعِ -[حَقِيقِيَّةٌ] وإِضَافِيَّةٌ فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَزْعُمُ أَنَّهَا هِيَ الْجَمَاعَةُ وَمَنْ سِوَاهَا مُفَارِقٌ لِلْجَمَاعَةِ. وَمِنَ الْعَلَامَاتِ اتِّبَاعُ مَا تَشَابَهَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَرْمِي صَاحِبَتَهَا بِذَلِكَ وَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي اتَّبَعَتْ أُمَّ الْكِتَابِ دُونَ الْأُخْرَى فَتَجْعَلُ دَلِيلَهَا عُمْدَةً وَتَرُدُّ إِلَيْهِ سَائِرَ الْمَوَاضِعِ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى عَكْسِ الْأُخْرَى. وَمِنْهَا اتِّبَاعُ الْهَوَى الَّذِي تَرْمِي بِهِ كُلُّ فِرْقَةٍ صَاحِبَتَهَا وَتُبَرِّئُ نَفْسَهَا مِنْهُ، فَلَا يُمْكِنُ فِي الظَّاهِرِ مَعَ هَذَا أَنَّ يَتَّفِقُوا عَلَى مَنَاطِ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَيْهَا لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُمْ بِهَا بِحَيْثُ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْعَلَامَاتِ، وَأَنَّهُمْ فِي التَّحْصِيلِ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا، وَبِذَلِكَ صَارَتْ عَلَامَاتٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَنَاطِ الضَّبْطُ بِالْعَلَامَاتِ. وَوَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ مَا تَقْدَمُ مِنْ فَهْمِنَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ فِي السَّتْرِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِنْ حَصَلَ التَّعْيِينُ بِالِاجْتِهَادِ، فَالِاجْتِهَادُ لَا يَقْتَضِي الِاتِّفَاقَ عَلَى مَحَلِّهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ جَزَمُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّظَرَيْنِ لَا يُمْكِنُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِمَا

عَادَةً؟ فَلَوْ تَعَيَّنُوا بِالنَّصِّ لَمْ يَبْقَ إِشْكَالٌ. بَلْ أَمْرُ الْخَوَارِجِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَيَّنَهُمْ وَعَيَّنَ عَلَامَتَهُمْ فِي الْمُخْدَجِ حَيْثُ قَالَ: «آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، وَمِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ» الْحَدِيثَ. وَهُمُ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إِذْ لَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَهُوا، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ فِي الْقَتْلِ تَعْيِينٌ؟ وَوَجْهٌ خَامِسٌ: وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118] الْآيَةَ - يُشْعَرُ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَرْتَفِعُ، مَعَ مَا يُعَضِّدُهُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فَرَغْنَا مِنْ بَيَانِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ الْفِرَقِ إِذِ الْآيَةُ لَا تُشْعِرُ بِخُصُوصِ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَبْقَى الْخِلَافُ فِي الْأَدْيَانِ دُونَ دِينِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ بَيَّنَ أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الْأُمَّةِ أَيْضًا، فَانْتَظَمَتْهُ الْآيَةُ بِلَا إِشْكَالٍ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ظَهَرَ بِهِ أَنَّ التَّعْيِينَ لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا اجْتِهَادِيٌّ لَا يَنْقَطِعُ الْخِلَافُ فِيهِ، وَإِنِ ادُّعِيَ فِيهِ الْقَطْعُ دُونَ الظَّنِّ فَهُوَ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ، وَلَكُنَّا مَعَ ذَلِكَ نَسْلُكُ فِي الْمَسْأَلَةِ - بِحَوْلِ اللَّهِ - مَسْلَكًا وَسَطًا يُذْعِنُ إِلَى قَبُولِهِ عَقْلُ الْمُوَفَّقِ، وَيُقِرُّ بِصَحْنِهِ الْعَالِمُ بِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

فصل إن الله عز وجل أنزل القرآن وجاء في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب

فَنَقُولُ: لَابُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَطْلُوبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِحْدَاثَ فِي الشَّرِيعَةِ إِنَّمَا يَقَعُ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَهَذَا الْحَصْرُ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ مَرَّ فِي ذَلِكَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَوَاهِدُ الْمَسْأَلَةِ، إِلَّا أَنَّ الْجِهَاتِ الثَّلَاثَ قَدْ تَنْفَرِدُ وَقَدْ تَجْتَمِعُ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ فَتَارَةً تَجْتَمِعُ مِنْهَا اثْنَتَانِ وَتَارَةً تَجْتَمِعُ الثَّلَاثُ، فَأَمَّا جِهَةُ الْجَهْلِ فَتَارَةً تَتَعَلَّقُ بِالْأَدَوَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْهَمُ الْمَقَاصِدُ، وَتَارَةً تَتَعَلَّقُ بِالْمَقَاصِدِ، وَأَمَّا جِهَةُ تَحْسِينِ الظَّنِّ فَتَارَةً يُشْرَكُ فِي التَّشْرِيعِ مَعَ الشَّرْعِ، وَتَارَةً يُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا جِهَةُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْلِبَ الْفَهْمُ حَتَّى يَغْلِبَ صَاحِبُهُ الْأَدِلَّةَ أَوْ يَسْتَنِدَ إِلَى غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: وَهِيَ الْجَهْلُ بِأَدَوَاتِ الْفَهْمِ، وَالْجَهْلُ بِالْمَقَاصِدِ، وَتَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى. فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. [فَصْلٌ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ وَجَاءَ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ] النَّوْعُ الْأَوَّلُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا لَا عُجْمَةَ فِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ جَاءَ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]

وَقَالَ تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193] وَكَانَ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا أَفْصَحَ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ عَرَبًا أَيْضًا، فَجَرَى الْخِطَابُ بِهِ عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي لِسَانِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي إِلَّا وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ، وَلَمْ يُدَاخِلْهُ شَيْءٌ بَلْ نَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]. وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44]. هَذَا وَإِنْ كَانَ بُعِثَ لِلنَّاسِ كَافَّةً فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ جَمِيعَ الْأُمَمِ وَعَامَّةَ الْأَلْسِنَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ تَبَعًا لِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُفْهَمُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ اعْتِبَارُ أَلْفَاظِهَا وَمَعَانِيهَا وَأَسَالِيبِهَا.

أَمَّا أَلْفَاظُهَا فَظَاهِرَةٌ لِلْعِيَانِ، وَأَمَّا مَعَانِيهَا وَأَسَالِيبُهَا فَكَانَ مِمَّا يُعْرَفُ مِنْ مَعَانِيهَا اتِّسَاعُ لِسَانِهَا، وَأَنْ تُخَاطِبَ بِالشَّيْءِ مِنْهُ عَامًّا ظَاهِرًا يُرَادُ بِهِ الظَّاهِرُ، وَيُسْتَغْنَى بِأَوَّلِهِ عَنْ آخِرِهِ، وَعَامًّا ظَاهِرًّا يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ وَيَدْخُلُهُ الْخَاصُّ، وَيُسْتَدَلُّ إِلَى هَذَا بِبَعْضِ الْكَلَامِ، وَعَامًّا ظَاهِرًا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ، وَظَاهِرًا يُعْرَفُ فِي سِيَاقِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ الظَّاهِرِ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا كُلِّهِ مَوْجُودٌ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ. وَتَبْتِدِئُ الشَّيْءَ مِنْ كَلَامِهَا بَيْنَ أَوَّلِ اللَّفْظِ فِيهِ عَنْ آخِرِهِ، أَوْ بَيْنَ آخِرِهِ عَنْ أَوَّلِهِ، وَيُتَكَلَّمُ بِالشَّيْءِ تَعْرِفُهُ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَمَا تَعْرِفُ بِالْإِشَارَةِ، وَهَذَا عِنْدَهَا مِنْ أَفْصَحِ كَلَامِهَا، لِانْفِرَادِهَا بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهَا مِمَّنْ يَجْهَلُهُ، وَتُسَمِّي الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِالْأَسْمَاءِ الْكَثِيرَةِ، وَتُوقِعُ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا مَعْرُوفَةٌ عِنْدَهَا وَتُسْتَنْكَرُ عِنْدَ غَيْرِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مَنْ زَاوَلَ كَلَامَهُمْ وَكَانَتْ لَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ، وَثَبَتَ رُسُوخُهُ فِي عِلْمِ ذَلِكَ. فَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءِ وَكِيلٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الظَّاهِرِ الَّذِي لَا خُصُوصَ فِيهِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ وَذِي رُوحٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاللَّهُ خَالِقُهُ، وَكُلُّ دَابَّةٍ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا، {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120]

فَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] إِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ مَنْ أَطَاقَ وَمَنْ لَمْ يُطِقْ فَهُوَ عَامُّ الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: {وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] عَامٌّ فِيمَنْ أَطَاقَ وَمَنْ لَمْ يُطِقْ، فَهُوَ عَامُّ الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77] فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخَاصُّ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَطْعَمَا جَمِيعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] فَهَذَا عَامٌّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ إِثْرَ هَذَا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فَهَذَا خَاصٌّ، لِأَنَّ التَّقْوَى إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَنْ عَقَلَهَا مِنَ الْبَالِغِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الثَّانِي الْخُصُوصُ لَا الْعُمُومُ. وَإِلَّا فَالْمَجْمُوعُ لَهُمُ النَّاسُ نَاسٌ أَيْضًا وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا. لَكِنَّ لَفْظَ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ. وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَعَلَى مَا بَيْنَ ذَلِكَ. فَيَصِحُّ أَنْ

يُقَالُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. وَالنَّاسُ الْأُوَلُ الْقَائِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج: 73] فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ إِلَهًا، دُونَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف: 163] فَظَاهِرُ السُّؤَالِ عَنِ الْقَرْيَةِ نَفْسِهَا، وَسِيَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: 163] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تَعْدُو وَلَا تَفْسُقُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] الْآيَةَ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ كَانَتْ ظَالِمَةً دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] الْآيَةَ، فَالْمَعْنَى بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَرْيَةَ وَالْعِيرَ لَا يُخْبِرَانِ بِصِدْقِهِمْ. هَذَا كُلُّهُ مَعْنَى تَقْرِيرِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الثَّابِتَةِ لِلْعَرَبِ وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ مُبِيِّنٌ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُفْهَمُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَتَى الشَّافِعِيُّ بِالنَّوْعِ الْأَغْمَضِ مِنْ طَرَائِقِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ بَسَطَهَا أَهْلُهَا، وَهُمْ أَهْلُ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَأَهْلُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَأَهْلُ

الِاشْتِقَاقِ وَشَرْحِ مُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ، وَأَهْلُ الْأَخْبَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنِ الْعَرَبِ لِمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ، فَجَمِيعُهُ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ عِبَارَةَ الْعَرَبِيِّ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَعَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْمُتَكَلِّمِ فِيهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ عَرَبِيًّا أَوْ كَالْعَرَبِيِّ فِي كَوْنِهِ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، بَالِغًا فِيهِ مَبَالِغَ الْعَرَبِ. أَوْ مَبَالِغَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ وَدَانَاهُمْ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا كَحِفْظِهِمْ وَجَامِعًا كَجَمْعِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَصِيرَ فَهْمُهُ عَرَبِيًّا فِي الْجُمْلَةِ. وَبِذَلِكَ امْتَازَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ. إِذْ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَارُوا أَئِمَّةً، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَحَسْبُهُ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ التَّقْلِيدُ، وَلَا يَحْسُنُ ظَنُّهُ بِفَهْمِهِ دُونَ أَنْ يَسْأَلَ فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ بِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا قَرَّرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ: فَمَنْ جَهِلَ هَذَا مِنْ لِسَانِهَا يَعْنِي لِسَانَ الْعَرَبِ - وَبِلِسَانِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِهِ - فَتَكَلَّفَ الْقَوْلَ فِي عِلْمِهَا تَكَلُّفَ مَا يَجْهَلُ لَفْظَهُ، وَمَنْ تَكَلَّفَ مَا جَهِلَ وَمَا لَمْ يُثْبِتْهُ مَعْرِفَةٌ، كَانَتْ مُوَافَقَتُهُ لِلصَّوَابِ - إِنْ وَافَقَهُ - مِنْ حَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ غَيْرَ مَحْمُودَةٍ، وَكَانَ فِي تَخْطِئَتِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ، إِذْ نَظَرَ فِيمَا لَا يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَإِ فِيهِ. وَمَا قَالَهُ حَقٌّ، فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ تَكَلُّفٌ - وَقَدْ نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ - وَدُخُولٌ تَحْتَ مَعْنَى الْحَدِيثِ، حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ: «حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا» الْحَدِيثَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ رَجَعَ الْأَعْجَمِيُّ إِلَى فَهْمِهِ وَعَقْلِهِ الْمُجَرَّدِ عَنِ التَّمَسُّكِ بِدَلِيلٍ يَضِلُّ عَنِ الْجَادَّةِ. وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ لِيُقِيمَ بِهَا لِسَانَهُ، وَيُصْلِحَ بِهَا مَنْطِقَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ! فَلْيَتَعَلَّمْهَا، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقْرَأُ فَيَعِيَا بِوَجْهِهَا فَيَهْلِكُ. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَهْلَكَتْهُمُ الْعُجْمَةُ، يَتَأَوَّلُونَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ. . وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ لَفْظٌ أَوْ مَعْنًى فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَوْلِ فِيهِ دُونَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقَدْ يَكُونُ إِمَامًا فِيهَا، وَلَكِنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. فَالْأَوْلَى فِي حَقِّهِ الِاحْتِيَاطُ، إِذْ قَدْ يَذْهَبُ عَلَى الْعَرَبِيِّ الْمَحْضِ بَعْضُ الْمَعَانِي الْخَاصَّةِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهَا. . . وَقَدْ نُقِلَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. . . عَنِ الصَّحَابَةِ - وَهُمُ الْعَرَبُ - فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ. نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا. أَيْ أَنَا ابْتَدَأْتُهَا. وَفِيمَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَأَلَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47] فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ

أَنَّ التَّخَوُّفَ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّنَقُّصُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ وَخَفَاءِ بَعْضِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى بَعْضِ الْعَرَبِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا. قَالَ: وَلَا نَعْلَمُهُ يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ إِنْسَانٌ غَيْرُ نَبِيٍّ. وَلَكِنَّهُ لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى عَامَّتِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهَا مَنْ يَعْرِفُهُ - قَالَ - وَالْعِلْمُ بِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ كَالْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا نَعْلَمُ رَجُلًا جَمَعَ السُّنَنَ فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِذَا جَمَعَ (عِلْمَ) عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا أَتَى عَلَى السُّنَنِ، وَإِذَا فَرَّقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَهَبَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْهَا، ثُمَّ كَانَ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَوْجُودًا عِنْدَ غَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ فِي طَبَقَتِهِ وَأَهْلِ عِلْمِهِ قَالَ: وَهَكَذَا لِسَانُ الْعَرَبِ عِنْدَ خَاصَّتِهَا وَعَامَّتِهَا لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَيْهَا وَلَا يُطْلَبُ عِنْدَ غَيْرِهَا، وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ نَقَلَهُ عَنْهَا، وَلَا يُشْرِكُهَا فِيهِ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهَا فِي تَعَلُّمِهِ مِنْهَا، وَمَنْ قَبِلَهُ مِنْهَا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ لِسَانِهَا، وَإِنَّمَا صَارَ غَيْرُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ لِتَرْكِهِ، فَإِذَا صَارَ إِلَيْهِ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ. هَذَا مَا قَالَ وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا لَزِمَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْكَلَامَ الَّذِي بِهِ أُدِّيَتْ، وَأَنْ لَا يَحْسُنَ ظَنُّهُ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ لَهُ مِنْ أَهْلِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، وَأَنْ لَا يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ الَّتِي لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمُهُ دُونَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى هَذِهِ الْوَصَاةِ كَانَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مُوَافِقًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الْكِرَامُ.

رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. مَنْ خَيْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: ذُو الْقَلْبِ الْمَهْمُومِ، وَاللِّسَانِ الصَّادِقِ، قُلْنَا: قَدْ عَرَفْنَا اللِّسَانَ الصَّادِقَ، فَمَا ذُو الْقَلْبِ الْمَهْمُومِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا حَسَدَ، قُلْنَا فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَنْسَى الدُّنْيَا وَيُحِبُّ الْآخِرَةَ. قُلْنَا: مَا نَعْرِفُ هَذَا فِينَا إِلَّا رَافِعًا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْنَا: فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي خُلُقٍ حَسَنٍ، قُلْنَا: أَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ فِينَا.» وَيُرْوَى: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُدَالِكُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَانَ مُلْفَجًا فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا قُلْتُ وَمَا قَالَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: قَالَ: أَيُمَاطِلُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا رَأَيْتُ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ مِنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: كَيْفَ لَا وَأَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ؟». فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ اللُّغَةِ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ بَعْضِ الْعَرَبِ، فَالْوَاجِبُ السُّؤَالُ كَمَا سَأَلُوا فَيَكُونُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَإِلَّا زَلَّ فَقَالَ فِي الشَّرِيعَةِ بِرَأْيِهِ لَا بِلِسَانِهَا.

وَلْنَذْكُرْ لِذَلِكَ سِتَّةَ أَمْثِلَةٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80] أَنَّ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَجِئْ بَعْدُ - وَكَذَبَ - فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَذْهَبَ الرَّافِضَةِ، فَإِنَّهَا تَقُولُ إِنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ فَلَا يَخْرُجُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مِنْ وَلَدِهِ حَتَّى يُنَادِيَ عَلِيٌّ مِنَ السَّمَاءِ: اخْرُجُوا مَعَ فُلَانٍ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80] الْآيَةَ، عِنْدَ جَابِرٍ حَسْبَمَا فَسَّرَهُ سُفْيَانُ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يَجِئْ بَعْدُ. بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِ مُسْلِمٍ، وَمَنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ فَلَا يَرْتَابُ فِي أَنَّ سِيَاقَ الْقُرْآنِ دَالٌّ عَلَى مَا قَالَ سُفْيَانُ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ جَابِرٌ لَا يَنْسَاقُ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ نِكَاحُ تِسْعٍ مِنَ الْحَلَائِلِ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] لِأَنَّ أَرْبَعًا إِلَى ثَلَاثٍ إِلَى اثْنَتَيْنِ تِسْعٌ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِمَعْنَى فُعَالٍ وَمَفْعَلٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ، فَانْكِحُوا إِنْ شِئْتُمُ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا عَلَى التَّفْصِيلِ لَا عَلَى مَا قَالُوا. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الْخِنْزِيرِ إِنَّمَا هُوَ اللَّحْمُ، وَأَمَّا الشَّحْمُ فَحَلَالٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّحْمَ دُونَ الشَّحْمِ، وَلَوْ عَرَفَ أَنَّ اللَّحْمَ يُطْلَقُ عَلَى الشَّحْمِ أَيْضًا بِخِلَافِ الشَّحْمِ فَإِنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى

اللَّحْمِ لَمْ يَقُلْ مَا قَالَ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءً فَانٍ حَتَّى ذَاتِ الْبَارِي - تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - مَا عَدَا الْوَجْهَ، بِدَلِيلِ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ هُنَا غَيْرُ مَا قَالَ، فَإِنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ تَأْوِيلَاتٌ، وَقَصْدُ هَذَا الْقَائِلِ مَا لَا يَتَّجِهُ لُغَةً وَلَا مَعْنًى. وَأَقْرَبُ قَوْلٍ لِقَصْدِ هَذَا الْمِسْكِينِ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذُو الْوَجْهِ كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ هَذَا لِوَجْهِ فُلَانٍ: أَيْ لِفُلَانٍ، فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا هُوَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26]. وَالْخَامِسُ: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَنْبًا، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] وَهَذَا لَا مَعْنَى لِلْجَنْبِ فِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: هَذَا الْأَمْرُ يَصْغُرُ فِي جَنْبِ هَذَا، أَيْ يَصْغُرُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى آخَرَ، فَكَذَلِكَ الْآيَةُ مَعْنَاهَا: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أَيْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ، إِذْ أَضَفْتُ تَفْرِيطِي إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ إِيَّايَ. وَالسَّادِسُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» إِنَّ هَذَا الَّذِي فِي الْحَدِيثِ هُوَ مَذْهَبُ الدَّهْرِيَّةِ، وَلَمْ

يَعْرِفْ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ إِذَا أَصَابَتْكُمُ الْمَصَائِبَ، وَلَا تَنْسُبُوهَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَصَابَكُمْ بِذَلِكَ لَا الدَّهْرُ، فَإِنَّكُمْ إِذَا سَبَبْتُمُ الدَّهْرَ وَقَعَ السَّبُّ عَلَى الْفَاعِلِ لَا عَلَى الدَّهْرِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَ مِنْ عَادَتِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ تَنْسُبَ الْأَفْعَالَ إِلَى الدَّهْرِ فَتَقُولُ: أَصَابَهُ الدَّهْرُ فِي مَالِهِ، وَنَابَتْهُ قَوَارِعُ الدَّهْرِ وَمَصَائِبِهِ. فَيَنْسُبُونَ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ تَجْرِي بِهِ أَقْدَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ إِلَى الدَّهْرِ، فَيَقُولُونَ: لَعَنَ اللَّهُ الدَّهْرَ، وَمَحَا اللَّهُ الدَّهْرَ. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَسُبُّونَهُ لِأَجْلِ الْفِعَالِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَبُّوا الْفَاعِلَ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ، فَكَأَنَّهُمْ يَسُبُّونَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ كَيْفَ يَقَعُ الْخَطَأُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بُرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ. لِأَنَّهُمْ عَرَبٌ لَمْ يَحْتَاجُوا فِي فَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَدَوَاتٍ وَلَا تَعَلُّمٍ، ثُمَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِعَرَبِيِّ اللِّسَانِ تَكَلَّفَ ذَلِكَ حَتَّى عَلِمَهُ، وَحِينَئِذٍ دَاخَلَ الْقَوْمَ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ وَتَنْزِيلِهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي فِيهَا كَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِ، فَكُلُّ مَنِ اقْتَدَى بِهِمْ فِي تَنْزِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ - إِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنْ

فصل الله تعالى أنزل الشريعة فيها تبيان كل شيء

أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - دَاخِلٌ فِي سَوَادِهِمُ الْأَعْظَمِ، كَائِنٌ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَانْتَظَمَ فِي سِلْكِ النَّاجِيَةِ. [فَصْلٌ اللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ الشَّرِيعَةَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ] فَصْلٌ (النَّوْعُ الثَّانِي) إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الشَّرِيعَةَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ فِي تَكَالِيفِهِمُ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا، وَتَعَبُّدَاتِهِمُ الَّتِي طَوَّقُوهَا فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَلَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَمُلَ الدِّينُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ؛ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] فَكُلُّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الدِّينِ شَيْءٌ لَمْ يَكْمُلْ فَقَدْ كَذَبَ بِقَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. فَلَا يُقَالُ: قَدْ وَجَدْنَا مِنَ النَّوَازِلِ وَالْوَقَائِعِ الْمُتَجَدِّدَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ نَصٌّ عَلَيْهِ، وَلَا عُمُومٌ يَنْتَظِمُهُ، وَأَنَّ مَسَائِلَ الْجَدِّ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْحَرَامِ فِي الطَّلَاقِ، وَمَسْأَلَةَ السَّاقِطِ عَلَى جَرِيحٍ مَحْفُوفٍ بِجَرْحَى، وَسَائِرَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَأَيْنَ الْكَلَامُ فِيهَا؟ فَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ: أَوَّلًا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] إِنِ اعْتُبِرَتْ فِيهَا الْجُزْئِيَّاتُ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالنَّوَازِلِ فَهُوَ كَمَا أَوْرَدْتُمْ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ كُلِّيَّاتُهَا، فَلَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ قَاعِدَةٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ أَوِ التَّكْمِيلِيَّاتِ إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَتْ غَايَةَ الْبَيَانِ،

نَعَمْ يَبْقَى تَنْزِيلُ الْجُزْئِيَّاتِ عَلَى تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ مَوْكُولًا إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنَّ قَاعِدَةَ الِاجْتِهَادِ أَيْضًا ثَابِتَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلَابُدَّ مِنْ إِعْمَالِهَا. وَلَا يَسْعُ النَّاسَ تَرَكُهَا، وَإِذَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ أَشْعَرَتْ بِأَنَّ ثَمَّ مَجَالًا لِلِاجْتِهَادِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكَمَالَ بِحَسَبِ تَحْصِيلِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالْفِعْلِ، فَالْجُزْئِيَّاتُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلَا تَنْحَصِرُ بِمَرْسُومٍ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْكَمَالُ بِحَسَبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ النَّوَازِلِ. ثُمَّ نَقُولُ ثَانِيًا: إِنَّ النَّظَرَ فِي كَمَالِهَا بِحَسَبِ خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ يُؤَدِّي إِلَى الْإِشْكَالِ وَالِالْتِبَاسِ، وَإِلَّا فَهُوَ الَّذِي أَدَّى إِلَى إِيرَادِ هَذَا السُّؤَالِ، إِذْ لَوْ نَظَرَ السَّائِلُ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي وُضِعَتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ، وَهِيَ حَالَةُ الْكُلِّيَّةِ لَمْ يُورِدْ سُؤَالَهُ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْأَبَدِيَّةِ، وَإِنْ وُضِعَتِ الدُّنْيَا عَلَى الزَّوَالِ وَالنِّهَايَةِ. وَأَمَّا الْجُزْئِيَّةُ فَمَوْضُوعَةٌ عَلَى النِّهَايَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْحَصْرِ فِي التَّفْصِيلِ، وَإِذْ ذَاكَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَمْ تَكْمُلْ فَيَكُونُ خِلَافًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] الْآيَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الصَّادِقُ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ الْمُخَالِفُ. فَظَاهِرٌ إِذْ ذَاكَ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى عُمُومِهَا وَإِطْلَاقِهَا، وَأَنَّ النَّوَازِلَ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْكَمَالِ لِأَنَّهَا إِمَّا مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا وَإِمَّا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَهِيَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ

الْجَارِيَةُ عَلَى الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَأَحْكَامُهَا قَدْ تَقَدَّمَتْ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْظَرُ الْمُجْتَهِدِ إِلَى أَيِّ دَلِيلٍ يَسْتَنِدُ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهَا، فَهِيَ الْبِدَعُ الْمُحْدَثَاتُ، إِذْ لَوْ كَانَتْ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا لَمَا سَكَتَ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا بِالْفَرْضِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَيْسَتْ بِمُحْتَاجٍ إِلَيْهَا. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ قَدْ كَمُلَ الدِّينُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أَنَّهُمْ لَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ قَطُّ إِيرَادُ ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: لِمَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ؟ وَعَلَى حُكْمِ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلِيَّ حَرَامٌ؟ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَجِدُوا فِيهِ عَنِ الشَّارِعِ نَصًّا، بَلْ قَالُوا فِيهَا وَحَكَمُوا بِالِاجْتِهَادِ، وَاعْتَبَرُوا بِمَعَانٍ شَرْعِيَّةٍ تَرْجِعُ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالنَّصِّ فَإِنَّهُ بِالْمَعْنَى. فَقَدْ ظَهَرَ إِذًا وَجْهُ كَمَالِ الدِّينِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ. وَنَنْتَقِلُ مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ مُبَرَّأً عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّضَادِّ، لِيَحْصُلَ فِيهِ كَمَالُ التَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فَدَلَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَهُوَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُعَضِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. فَأَمَّا جِهَةُ اللَّفْظِ فَإِنَّ الْفَصَاحَةَ فِيهِ مُتَوَاتِرَةٌ مُطَّرِدَةٌ بِخِلَافِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ. فَإِنَّكَ تَرَاهُ إِلَى الِاخْتِلَافِ مَا هُوَ فَيَأْتِي بِالْفَصْلِ مِنَ الْكَلَامِ

الْجَزْلِ الْفَصِيحِ فَلَا يَكَادُ يَخْتِمُهُ إِلَّا وَقَدْ عَرَضَ لَهُ فِي أَثْنَائِهِ مَا نَقَصَ مِنْ مَنْصِبِ فَصَاحَتِهِ، وَهَكَذَا تَجِدُ الْقَصِيدَةَ الْوَاحِدَةَ، مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَى نَسَقِ الْفَصَاحَةِ اللَّائِقَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. وَأَمَّا جِهَةُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ عَلَى كَثْرَتِهَا أَوْ عَلَى تَكْرَارِهَا بِحَسَبِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ عَلَى حِفْظِ وَبُلُوغِ غَايَةٍ فِي إِيصَالِهَا إِلَى غَايَتِهَا، مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا تَضَادٍّ وَلَا تَعَارُضٍ، عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ إِلَى الْبَشَرِ أَنْ يُدَانُوهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَمِعَتْهُ أَهْلُ الْبَلَاغَةِ الْأُولَى وَالْفَصَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ - وَهُمُ الْعَرَبُ - لَمْ يُعَارِضُوهُ، وَلَمْ يُغَيِّرُوا فِي وَجْهِ إِعْجَازِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَهُمْ أَحْرَصُ مَا كَانُوا عَلَى الِاعْتِرَاضِ فِيهِ وَالْغَضِّ مِنْ جَانِبِهِ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمُوا وَعَايَنُوا مَعَانِيَهُ وَتَفَكَّرُوا فِي غَرَائِبِهِ، لَمْ يَزِدْهُمُ الْبَحْثُ إِلَّا بَصِيرَةً فِي أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَعَارُضَ، وَالَّذِي نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ يَسِيرٌ تَوَقَّفُوا فِيهِ تَوَقُّفَ الْمُسْتَرْشِدِ حَتَّى يُرْشَدُوا إِلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، أَوْ تَوَقُّفَ الْمُتَثَبِّتِ فِي الطَّرِيقِ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ سَهْلَ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ يَوْمَ صِفِّينَ وَحُكْمِ الْحَكَمَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْنَاهُ، وَايْمُ اللَّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا مِنْ عَلَى عَوَاتِقِنَا مُنْذُ أَسْلَمْنَا لِأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلَنَّ بِنَا أَمْرٌ نَعْرِفُهُ الْحَدِيثَ. فَوَجْهُ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَمْرَانِ: قَوْلُهُ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَإِنَّ مُعَارَضَةُ الظَّوَاهِرِ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ رَأْيٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى أَصْلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ - وَهُوَ النُّكْتَةُ فِي الْبَابِ -: «وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا» إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ فِي شَرْعِ اللَّهِ مِمَّا يُصَادِمُ الرَّأْيَ فَإِنَّهُ حَقٌّ يَتَبَيَّنُ عَلَى التَّدْرِيجِ حَتَّى يَظْهَرَ فَسَادُ ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَأَنَّهُ كَانَ شُبْهَةً عَرَضَتْ وَإِشْكَالًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ، بَلْ يُتَّهَمُ أَوَّلًا وَيُعْتَمَدُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَبَيَّنِ الْيَوْمَ تَبَيَّنَ غَدًا، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ أَبَدًا فَلَا حَرَجَ، فَإِنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ أَسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَصَبَرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبَتْهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟. . . فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلْهُ. اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ - ثُمَّ قَالَ - اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ - كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ». وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِنَّمَا هِيَ إِشْكَالٌ وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي نَقْلِ الشَّرْعِ بَيَّنَ لَهُمْ جَوَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا، فَإِنَّ

الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ أَوْ مَسَائِلِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَفْسُهُ اخْتِلَافٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي النُّبُوَّاتِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّاتِ. وَاخْتَلَفَتْ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ عُلُومِ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُهُمْ دَلِيلًا عَلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَحَّ مِنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَى هَذَا مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ تَنَزُّهُهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ، صَحَّ أَنْ يَكُونَ حَكَمًا بَيْنَ جَمِيعِ الْمُخْتَلِفِينَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَرِّرُ مَعْنًى هُوَ الْحَقُّ، وَالْحَقُّ لَا يَخْتَلِفُ فِي نَفْسِهِ، فَكُلُّ اخْتِلَافٍ صَدَرَ مِنْ مُكَلَّفٍ فَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] فَهَذِهِ الْآيَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا صَرِيحَةٌ فِي الرَّدِّ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ بَيَانُ الْكِتَابِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيهِ وَاضِحٌ، وَأَنَّ الْبَيَانَ فِيهِ شَافٍ، لَا شَيْءَ بَعْدَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَهَكَذَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ رَدُّوهَا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَضَايَاهُمْ شَاهِدَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، لَا يَجْهَلُهَا مَنْ زَاوَلَ الْفِقْهَ، فَلَا فَائِدَةَ فِي جَلْبِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ لِشُهْرَتِهَا، فَهُوَ إِذًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ.

فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَعَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ بِحَسَبِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْكَمَالِ لَا بِعَيْنِ النُّقْصَانِ، وَيَعْتَبِرَهَا اعْتِبَارًا كُلِّيًّا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَلَا يَخْرُجَ عَنْهَا الْبَتَّةَ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا تِيهٌ وَضَلَالٌ وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ كَمَالُهَا وَتَمَامُهَا؟ فَالزَّائِدُ وَالنَّاقِصُ فِي جِهَتِهَا هُوَ الْمُبْتَدِعُ بِإِطْلَاقٍ، وَالْمُنْحَرِفُ عَنِ الْجَادَّةِ إِلَى بُنَيَّاتِ الطُّرُقِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوقِنَ أَنَّهُ لَا تَضَادَّ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَلَا بَيْنَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَلَا بَيْنَ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ، بَلِ الْجَمِيعُ جَارٍ عَلَى مَهْيَعٍ وَاحِدٍ وَمُنْتَظِمٍ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِذَا أَدَّاهُ بَادِئَ الرَّأْيِ إِلَى ظَاهِرِ اخْتِلَافٍ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ انْتِفَاءَ الِاخْتِلَافِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ شَهِدَ لَهُ أَنْ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ. فَلْيَقِفْ وُقُوفَ الْمُضْطَرِّ السَّائِلِ عَنْ وَجْهِ الْجَمْعِ، أَوِ الْمُسَلِّمِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ عَمَلِيٌّ فَلْيَلْتَمِسِ الْمَخْرَجَ حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْحَقِّ الْيَقِينِ، أَوْ لِيَبْقَ بَاحِثًا إِلَى الْمَوْتِ وَلَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا اتَّضَحَ لَهُ الْمَغْزَى وَتَبَيَّنَتْ لَهُ الْوَاضِحَةُ. فَلَابُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهَا حَاكِمَةً فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا. وَيَضَعَهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ فِي كُلِّ مَطْلَبٍ دِينِيٍّ، كَمَا فَعَلَ مَنْ تَقَدَّمَنَا مِمَّنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَأَمَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الَّذِي أَغْفَلَهُ الْمُبْتَدِعُونَ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاكُ عَلَى الشَّرْعِ، وَإِلَيْهِ مَالَ كُلُّ مَنْ كَانَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَحْذَرُ مَا فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ. فَيَقُولُ:

لَمْ أَكْذِبْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَذَبْتُ لَهُ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَعْرُوفِ بِالْأُرْدُنِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ حَسَنًا لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ أَجْعَلَ لَهُ إِسْنَادًا. فَلِذَلِكَ كَانَ يُحَدِّثُ بِالْمَوْضُوعَاتِ، وَقَدْ قُتِلَ فِي الزَّنْدَقَةِ وَصُلِبَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الْقِسْمِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَإِنَّ قَوْمًا أَغْفَلُوهُ أَيْضًا وَلَمْ يُمْعِنُوا النَّظَرَ حَتَّى اخْتَلَفَ عَلَيْهِمُ الْفَهْمُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَأَحَالُوا بِالِاخْتِلَافِ عَلَيْهَا تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَالِ الْخَوَارِجِ حَيْثُ قَالَ: «يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» فَوَصَفَهُمْ بِعَدَمِ الْفَهْمِ لِلْقُرْآنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، إِذْ قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَقَدْ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُمْ حَبْرُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] عَلَى وَجْهٍ أَذْعَنَ بِسَبَبِهِ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، أَوْ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَتَمَادَى الْبَاقُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، اعْتِقَادًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَا تُنَاظِرُوهُ وَلَا تُخَاصِمُوهُ فَإِنَّهُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]. فَتَأَمَّلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ كَيْفَ كَانَ فَهْمُهُمْ فِي الْقُرْآنِ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ هَذَا الْإِشْكَالُ يَعْتَرِي أَقْوَامًا حَتَّى اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ، وَتَدَافَعَتْ عَلَى أَفْهَامِهِمْ فَجَعْجَعُوا بِهِ قَبْلَ إِمْعَانِ النَّظَرِ. عَشَرَةُ أَمْثِلَةٍ لِمَنِ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فَظَنُّوا أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ تَنَاقُضًا أَحَدُهَا تَنَاقُضُ آيَةِ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ آيَةِ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ

وَلْنَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَمْثِلَةٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] يَتَنَاقَضُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39] مُضَادٌّ لِقَوْلِهِ: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93]. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 11] إِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَرْضَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 27] فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْأَرْضَ مَخْلُوقَةٌ بَعْدَ السَّمَاءِ.

وَمِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ مَا أَوْرَدَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ - أَوْ غَيْرُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْمُعَلَّقَاتِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] إِلَى قَوْلِهِ {طَائِعِينَ} [فصلت: 11] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَقَالَ:

{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا - عَزِيزًا حَكِيمًا - سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 96 - 58] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى فَقَالَ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ - وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 23 - 42] فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُولُ: لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ. فَخَتَمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيَهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ، {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} [النساء: 42]. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ - ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 9 - 29] فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا

الْأَرْضَ، وَدَحْوُهَا أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى. وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: دَحَاهَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] فَخُلِقَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ (قَوْلُهُ) أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» قَالُوا بَلَى الْحَدِيثَ كَمَا وَقَعَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]! فَالْحَدِيثُ أَنَّهُ أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وَالْكِتَابُ يُخْبِرُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ، وَهَذَا إِذَا تُؤُمِّلَ لَا خِلَافَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ يَخْرُجُوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى وَجْهٍ لَوْ خَرَجُوا عَلَى التَّرْتِيبِ كَمَا أُخْرِجُوا إِلَى الدُّنْيَا، وَلَا مُحَالَ فِي هَذَا بِأَنْ يَتَفَطَّرَ فِي تِلْكَ الْآخِذَةِ الْأَبْنَاءُ عَنِ الْأَبْنَاءِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبِ زَمَانٍ، وَتَكُونُ النِّسْبَتَانِ مَعًا

صَحِيحَتَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ. وَالْخَامِسُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ فِيمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنْ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَشَدْتُكَ اللَّهَ! إِلَّا مَا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ خَصْمُهُ - وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ -: صَدَقَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَائْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ، ثُمَّ أَتَى بِالْحَدِيثِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ هَذَا جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمُ إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. هُوَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ حَسْبَمَا سَأَلَهُ السَّائِلُ، ثُمَّ قَضَى بِالرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ»، وَلَيْسَ لَهُمَا ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ. الْجَوَابُ: إِنَّ الَّذِي أَوْجَبَ الْإِشْكَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَكَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْقُرْآنِ يُطْلَقُ عَلَى مَا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ مِمَّا هُوَ حُكْمُهُ وَفَرْضُهُ عَلَى الْعِبَادِ، كَانَ مَسْطُورًا فِي الْقُرْآنِ أَوَّلًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] أَيْ حُكْمَ اللَّهِ فَرَضَهُ، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] فَمَعْنَاهُ فَرَضَهُ وَحَكَمَ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ يُوجَدَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ. وَالسَّادِسُ: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ:

{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] لَا يُعْقَلُ مَعَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ وَرَجَمَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الرَّجْمَ يَنْتَصِفُ وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ نِصْفُهُ عَلَى الْإِمَاءِ؟ ذَهَابًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ هُنَّ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْمُرَادُ بِهِنَّ الْحَرَائِرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْآيَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا إِلَّا الْحَرَائِرَ، لِأَنَّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ لَا تُنْكَحُ. وَالسَّابِعُ: قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْحَدِيثَ: «جَاءَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكَحُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يَذْكُرْ مِنَ الرِّضَاعِ إِلَّا الْأُمَّ وَالْأُخْتَ، وَمِنَ الْجَمْعِ إِلَّا الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فَاقْتَضَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى عَمَّتِهَا وَعَلَى خَالَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ رِضَاعَتُهُ سِوَى الْأُمِّ وَالْأُخْتِ حَلَالًا. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ لَا تَعَارُضَ فِيهِ عَلَى حَالٍ. وَالثَّامِنُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» مُخَالِفٌ. لِقَوْلِهِ: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ

الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ». وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ هُنَا التَّأْكِيدُ خَاصَّةً، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْفَرْضِ، وَبِهِ يَتَّفِقُ مَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ فَلَا اخْتِلَافَ. وَالتَّاسِعُ: قَوْلُهُمْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ الْعُمُرَ» وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] فَكَيْفَ تَزِيدُ صِلَةُ الرَّحِمِ فِي أَجْلٍ لَا يُؤَخَّرُ وَلَا يُقَدَّمُ أَلْبَتَّةَ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ. (مِنْهَا): أَنْ يَكُونَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَإِلَّا عَاشَ ثَمَانِينَ سَنَةً، مَعَ أَنَّ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِلَا بُدٍّ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ أَصْلًا. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُ لَا يَسْتَأْخِرُ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُ. قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْقِرَافِيُّ. وَالْعَاشِرُ: قَالَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ»، ثُمَّ فِيهِ: «كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً»، وَهَذَا تَدَافُعٌ

فصل أن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه

وَالْحَدِيثَانِ مَعًا لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَالْجَوَابُ سَهْلٌ؛ فَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مُوَسَّعٌ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، وَفَعَلَ الْآخَرَ أَيْضًا وَأَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ " كَانَ يَفْعَلُ " حَصَلَ مِنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ وَيَتْرُكُ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُسْتَحَبِّ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا. فَهَذِهِ عَشَرَةُ أَمْثِلَةٍ تُبَيِّنُ لَكَ مَوَاقِعَ الْإِشْكَالِ، وَإِنِّي رَتَّبْتُهَا مَعَ ثَلْجِ الْيَقِينِ، فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ كُلُّ مُوقِنٍ بِالشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِيهَا وَلَا اخْتِلَافَ. فَمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ فِيهَا فَهُوَ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ وَلَا أَعْطَى وَحْيَ اللَّهِ حَقَّهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82] فَحَضَّهُمْ عَلَى التَّدَبُّرِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَعْقَبَهُ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَأَنَّ التَّدَبُّرَ يُعِينُ عَلَى تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ. [فَصْلُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ] النَّوْعُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا سَبِيلًا إِلَى الْإِدْرَاكِ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ. وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاسْتَوَتْ مَعَ الْبَارِي تَعَالَى فِي إِدْرَاكِ جَمِيعِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ، إِذْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، فَمَعْلُومَاتُ اللَّهِ لَا تَتَنَاهَى. وَمَعْلُومَاتُ الْعَبْدِ مُتَنَاهِيَةٌ. وَالْمُتَنَاهِي لَا يُسَاوِي مَا لَا يَتَنَاهَى.

وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ ذَوَاتُ الْأَشْيَاءِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَصِفَاتُهَا وَأَحْوَالُهَا وَأَفْعَالُهَا وَأَحْكَامُهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، فَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ يَعْلَمُهُ الْبَارِي تَعَالَى عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، بِحَيْثُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَحْوَالِهِ وَلَا فِي أَحْكَامِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ قَاصِرٌ نَاقِصٌ، سَوَاءً كَانَ فِي تَعَقُّلِ ذَاتِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَحْوَالِهِ أَوْ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ فِي الْإِنْسَانِ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ عَاقِلٌ تُخْرِجُهُ التَّجْرِبَةُ إِذَا اعْتَبَرَهَا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ. وَأَيْضًا: فَأَنْتَ تَرَى الْمَعْلُومَاتِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ ضَرُورِيٌّ لَا يُمْكِنُ التَّشْكِيكُ فِيهِ، كَعِلْمِ الْإِنْسَانِ بِوُجُودِهِ، وَعِلْمِهِ بِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَقِسْمٌ لَا يَعْلَمُهُ أَلْبَتَّةَ، إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ بِهِ أَوْ يُجْعَلَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَذَلِكَ كَعِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْهُ، كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْتَادُ عَلِمَ الْعَبْدُ بِهِ أَوْ لَا، كَعِلْمِهِ بِمَا تَحْتَ رِجْلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ مُغَيَّبٌ عَنْهُ تَحْتَ الْأَرْضِ بِمِقْدَارِ شِبْرٍ. وَعِلْمِهِ بِالْبَلَدِ الْقَاصِي عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ بِهِ عَهْدٌ. فَضْلًا عَنْ عِلْمِهِ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْبِحَارِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ عَلَى التَّفْصِيلِ. فَعِلْمُهُ لِمَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَقَسَمٌ نَظَرِيٌّ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَعْلَمَ بِهِ - وَهِيَ

النَّظَرِيَّاتُ - وَذَلِكَ الْقِسْمُ النَّظَرِيُّ هُوَ الْمُمْكِنَاتُ الَّتِي تُعْلَمُ بِوَاسِطَةٍ لَا بِأَنْفُسِهَا. إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهَا إِخْبَارًا. وَقَدْ زَعَمَ أَهْلُ الْعُقُولِ أَنَّ النَّظَرِيَّاتِ لَا يُمْكِنُ الِاتِّفَاقُ فِيهَا عَادَةً لِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْأَنْظَارِ. فَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مُخْبِرٍ بِحَقِيقَتِهَا فِي أَنْفُسِهَا إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى الْإِخْبَارِ لَمْ يَصِحَّ الْعِلْمُ بِهَا لَأَنَّ الْمَعْلُومَاتِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَنْظَارِ لِأَنِّهَا حَقَائِقُ فِي أَنْفُسِهَا. فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبًا - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ - وَإِنَّمَا الْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ. وَهُوَ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ. وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ. فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ دَلِيلٌ حَقِيقَةً. وَالْآخَرُ شُبْهَةٌ وَلَا يُعَيَّنُ. فَلَابُدَّ مِنْ إِخْبَارٍ بِالتَّعْيِينِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ: لِأَنَّا نَقُولُ: بَلْ هُوَ يُلْزِمُ الْجَمِيعَ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْمَعْصُومِ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ نَصًّا يَقْطَعُ الْعُذْرَ. فَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِهِ نَظَرِيٌّ، فَهُوَ مِمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ. فَكَيْفَ يَخْرُجُ عَنِ الْخِلَافِ بِأَمْرٍ فِيهِ خِلَافٌ؟ هَذَا لَا يُمْكِنُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا رَجَعْنَا إِلَى مَسْأَلَتِنَا فَنَقُولُ: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ حَيْثُ تَقَعُ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ. وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ فَلْنَتَحَاشَهَا. وَنَرْجِعُ إِلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْأَقْسَامِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا فِي الْجُمْلَةِ - أَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالتَّشْرِيعِ الْعَقْلِيِّ - أَنَّ مِنْهُ نَظَرِيًّا، وَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ بِضَرُورَةٍ وَلَا نَظَرٍ، وَهُمَا الْقِسْمَانِ الْبَاقِيَانِ مِمَّا لَا يُعْلَمُ لَهُ أَصْلٌ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ، فَلَابُدَّ فِيهِ

مِنِ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ فِيهِ، وَهَذَا إِذَا رَاعَيْنَا قَوْلَهُمْ وَسَاعَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّا إِنْ لَمْ نَلْتَزِمْ ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَعِنْدَنَا أَنْ لَا نُحَكِّمَ الْعَقْلَ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ قِسْمٌ لَا حُكْمَ لَهُ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ حُكْمٍ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ نَقُولُ: لَابُدَّ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى الْخَبَرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْعَقْلُ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِالتَّفْرِيعِ. فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ مُسْتَقِلٌّ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَقْضِ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا فِيهِ بِالْوَقْفِ - كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِهِمْ - أَوْ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَظْرِ أَوِ الْإِبَاحَةِ - كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ آخَرُونَ. فَإِنْ قَالُوا: بِالثَّانِي فَهُوَ مُسْتَقِلٌّ، وَإِنْ قَالُوا بِالْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ اسْتِقْلَالُهُ بِالْبَعْضِ فَافْتِقَارُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهِ مُطْلَقًا. قُلْنَا: بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ اعْتَرَفُوا بِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ فِي الْبَعْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ الِافْتِقَارُ فِي صُورَةٍ، ثَبَتَ مُطْلَقًا، إِذْ مَا وَقَفَ فِيهِ الْعَقْلُ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يَقِفْ فِيهِ فَإِنَّهُ نَظَرِيٌّ: فَيُرْجَعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ فِي النَّظَرِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ حُكْمٍ وَلَا يُمْكِنُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْوَقْفِ فَرَاجِعَةٌ أَقْوَالُهُمْ أَيْضًا إِلَيْهِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ نَظَرِيَّةٌ فَلَابُدَّ مِنِ الْإِخْبَارِ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَقْلِ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَدِّقُ لِلْعَقْلِ أَوِ الْمُكَذِّبُ لَهُ. فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ ثَبَتَ قِسْمٌ ضَرُورِيٌّ فَيَثْبُتُ الِاسْتِقْلَالُ. قُلْنَا: إِنْ سَاعَدْنَاكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّنَا فِي دَعْوَى الِافْتِقَارِ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ تَأْتِي بِمَا يُدْرِكُهُ الْإِنْسَانُ بِعَقْلِهِ تَنْبِيهًا لِغَافِلٍ أَوْ إِرْشَادًا لِقَاصِرٍ،

أَوْ إِيقَاظًا لِمَغْمُورٍ بِالْعَوَائِدِ يَغْفُلُ عَنْ كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا، فَهُوَ إِذًا مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَلَابُدَّ لِلْعَقْلِ مِنَ التَّنْبِيهِ مِنْ خَارِجٍ. وَهِيَ فَائِدَةُ بَعْثِ الرُّسُلِ، فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ حُسْنَ الصِّدْقِ النَّافِعِ وَالْإِيمَانِ، وَقُبْحَ الْكَذِبِ أَيْضًا وَالْكُفْرَانِ، مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِمَدْحِ هَذَا وَذَمِّ ذَلِكَ. وَأَمَرَ بِهَذَا وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ. فَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إِلَى التَّنْبِيهِ لَزِمَ الْمُحَالُ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لَكِنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ فَدَلَّنَا عَلَى أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَمْرٍ يَفْتَقِرُ الْعَقْلُ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْعَقْلَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ قَاصِرُ الْإِدْرَاكِ فِي عِلْمِهِ، فَمَا ادَّعَى عِلْمَهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي زَعَمَ أَنَّهُ أَدْرَكَهَا، لِإِمْكَانِ أَنْ يُدْرِكَهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَعَلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَالْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ أَحْوَالُ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ، فَإِنَّهُمْ وَضَعُوا أَحْكَامًا عَلَى الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى السِّيَاسَاتِ لَا تَجِدُ فِيهَا أَصْلًا مُنْتَظِمًا وَقَاعِدَةً مُطَّرِدَةً عَلَى الشَّرْعِ بَعْدَ مَا جَاءَ، بَلِ اسْتَحْسَنُوا أُمُورًا تَجِدُ الْعُقُولَ بَعْدَ تَنْوِيرِهَا بِالشَّرْعِ تُنْكِرُهَا، وَتَرْمِيهَا بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْبُهْتَانِ وَالْحُمْقِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا بِعُقُولِهِمْ أَشْيَاءَ قَدْ وَافَقَتْ وَجَاءَ الشَّرْعُ بِإِقْرَارِهَا وَتَصْحِيحِهَا، وَمَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عُقُولٍ بَاهِرَةٍ وَأَنْظَارٍ صَافِيَةٍ وَتَدْبِيرَاتٍ لِدُنْيَاهُمْ غَامِضَةٍ، لَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُصِيبُوا فِيهِ قَلِيلَةٌ، فَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ وَقَعَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ، وَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالنِّعْمَةُ السَّابِغَةُ. فَالْإِنْسَانُ وَإِنْ زَعَمَ فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ وَقَتَلَهُ عِلْمًا - لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ إِلَّا وَقَدْ عَقَلَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَقَلَ، وَأَدْرَكَ مِنْ عِلْمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ أَدْرَكَ

قَبْلَ ذَلِكَ، كُلُّ أَحَدٍ يُشَاهِدُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ عِيَانًا، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَعْلُومٍ دُونَ مَعْلُومٍ، وَلَا بِذَاتٍ دُونَ ذَاتٍ وَلَا بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ، وَلَا فِعْلٍ دُونَ حُكْمٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِلْمُ الْعَبْدِ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يَسْتَظْهِرَ فِي مَسْأَلَتِهِ بِالشَّرْعِ - إِنَّ كَانَتْ شَرْعِيَّةً - لِأَنَّ أَوْصَافَ الشَّارِعِ لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَلَا قُصُورَ وَلَا نَقْصَ، بَلْ مَبَادِئُهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى وَفْقِ الْغَايَاتِ، وَهِيَ مِنِ الْحِكْمَةِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ مَا نَدَّعِي عِلْمَهُ فِي الْحَيَاةِ يَنْقَسِمُ - كَمَا تَقَدَّمَ - إِلَى الْبَدِيهِيِّ الضَّرُورِيِّ وَغَيْرِهِ، إِلَّا مِنْ طَرِيقٍ ضَرُورِيٍّ إِمَّا بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، إِذْ قَدِ اعْتَرَفَ الْجَمِيعُ أَنَّ الْعُلُومَ الْمُكْتَسَبَةَ لَابُدَّ فِي تَحْصِيلِهَا مِنْ تَوْسِيطِ مُقَدِّمَتَيْنِ مُعْتَرَفٍ بِهِمَا، فَإِنْ كَانَتَا ضَرُورِيَّتَيْنِ فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْتَسَبَتَيْنِ فَلَابُدَّ فِي اكْتِسَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، وَيُنْظَرُ فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً ضَرُورِيَّةً وَأُخْرَى مُكْتَسِبَةً فَلَابُدَّ لِلْمُكْتَسَبَةِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، فَإِنِ انْتَهَيْنَا إِلَى ضَرُورِيَّتَيْنِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ أَوِ الدَّوْرُ، وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ، فَإِذًا لَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْرِفَ غَيْرَ الضَّرُورِيِّ إِلَّا بِالضَّرُورِيِّ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَابُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا بِمُقَدِّمَتَيْنِ، حَصَلَتْ لَنَا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِمَّا عَقَلْنَاهُ وَعَلِمْنَاهُ مِنْ مَشَاهِدَ بَاطِنَةٍ، كَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ أَوْ بِدِيهِيٍّ لِلْعَقْلِ كَعِلْمِنَا بِوُجُودِنَا وَبِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْوَاحِدِ، وَبِأَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ لَنَا مُعْتَادٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا عِلْمٌ إِلَّا بِمَا هُوَ مُعْتَادٌ فِي هَذَا الدَّارِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فَقَبْلَ

النُّبُوَّاتِ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا بِهِ مَعْرِفَةٌ، فَلَوْ بَقِينَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ نَحُلْ مَا لَمْ نَعْرِفْ إِلَّا عَلَى مَا عَرَفْنَا، وَأَنْكَرْنَا مَنِ ادَّعَى جَوَازَ قَلْبِ الشَّجَرِ حَيَوَانًا وَالْحَيَوَانِ حَجَرًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي نَعْرِفُهُ مِنَ الْمُعْتَادَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ خِلَافُ هَذِهِ الدَّعْوَى. فَلِمَا جَاءَتِ النُّبُوَّاتُ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَنْكَرَهَا مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَاعْتَقَدَهَا سِحْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَقَلْبِ الْعَصَا ثُعْبَانًا، وَفَرْقِ الْبَحْرِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَتَكْلِيمِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ تِلْكَ الْعَوَائِدَ اللَّازِمَةَ فِي الْعَادَاتِ لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهَا، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَتَخَلَّفَ، كَمَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ، كَمَا خَرَجَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. فَمَجَارِي الْعَادَاتِ إِذًا يُمْكِنُ عَقْلًا تَخَلُّفِهَا. إِذْ لَوْ كَانَ عَدَمُ التَّخَلُّفِ لَهَا عَقْلِيًّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَتَخَلَّفَ لَا لِنَبِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدَّعِ أَحَدُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَلَا تَحَدَّى أَحَدًا بِكَوْنِ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدِ، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ فَعْلُ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَإِذَا أَمْكَنَ فِي الْعَصَا وَالْبَحْرِ وَالْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَصَابِعِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَمْكَنَ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ وَجَبَ لِمِثْلِهِ. وَأَيْضًا، فَقَدْ جَاءَنَا الشَّرْعُ بِأَوْصَافٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ خَارِجَةٍ عَنِ الْمُعْتَادِ الَّذِي عِنْدَنَا،

فَإِنَّ كَوْنَ الْإِنْسَانِ فِي الْجَنَّةِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ثُمَّ لَا يَغُوطُ وَلَا يَبُولُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ عَرَقِهِ كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الْأَزْوَاجِ مُطَهَّرَةً مِنَ الْحَيْضِ مَعَ كَوْنِهِنَّ فِي حَالَةِ الصِّبَا وَسِنِّ مَنْ يَحِيضُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الْإِنْسَانِ فِيهَا لَا يَنَامُ وَلَا يُصِيبُهُ جُوعٌ وَلَا عَطَشٌ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ أَبَدَ الدَّهْرِ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الثَّمَرِ فِيهَا إِذَا قُطِفَ أُخْلِفَ فِي الْحَالِ وَيَتَدَانَى إِلَى يَدِ الْقَاطِفِ إِذَا اشْتَهَاهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ فِيهَا أَنْهَارًا مِنْ غَيْرِ حُلَابٍ وَلَا عَصْرٍ وَلَا نَحْلٍ، وَكَوْنَ الْخَمْرِ لَا تُسْكِرُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِحَيْثُ لَوِ اسْتَعْمَلَهُ الْإِنْسَانُ دَائِمًا لَا يَمْتَلِئُ وَلَا يُصِيبُهُ كِظَّةٌ وَلَا تُخَمَةٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ جَسَدِهِ لَا مِنْ أُذُنِهِ وَلَا أَنْفِهِ وَلَا أَرْفَاغِهِ وَلَا سَائِرِ جَسَدِهِ أَوْسَاخٌ وَلَا أَقْذَارٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَهْرَمُ وَلَا يَشِيخُ وَلَا يَمُوتُ وَلَا يَمْرَضُ غَيْرُ مُعْتَادٍ. وَكَذَلِكَ إِذَا نَظَرْتَ أَهْلَ النَّارِ - عِيَاذًا بِاللَّهِ - وَجَدْتَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، كَكَوْنِ النَّارِ لَا تَأْتِي عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} [طه: 74] وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، كُلُّهَا خَارِقٌ لِلْعَادَةِ. فَهَذَانَ نَوْعَانِ شَاهِدَانِ لِتِلْكَ الْعَوَائِدِ وَأَشْبَاهِهَا بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ وَضْعِيَّةٌ يُمْكِنُ تَخَلُّفُهَا. وَإِنَّمَا لَمْ نَحْتَجَّ بِالْكَرَامَاتِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمُعْتَزِلَةِ يُنْكِرُونَهَا رَأْسًا وَقَدْ أَقَرَّ بِهَا بَعْضُهُمْ. وَإِنْ مِلْنَا إِلَى التَّعْرِيفِ فَلَوِ اعْتَبَرَ النَّاظِرُ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَوَجَدَ لِذَلِكَ نَظَائِرَ جَارِيَةً عَلَى غَيْرِ مُعْتَادٍ. وَاسْمَعْ فِي ذَلِكَ أَثَرًا غَرِيبًا حَكَاهُ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَشِيطٍ: قَالَ: سَمِعْتُ شُعَيْبَ بْنَ أَبِي سَعِيدٍ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَاهِبًا كَانَ بِالشَّامِ

مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَكَانَ يَنْزِلُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ فَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الرُّهْبَانُ لِيُعَلِّمَهُمْ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ دِينِهِمْ فَأَتَاهُ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِيمَنْ جَاءَهُ. فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَمِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنْتَ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي. قَالَ الرَّاهِبُ: أَلَيْسَ تَقُولُونَ: إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ فِي الْجَنَّةِ وَتَشْرَبُونَ ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَذًى؟ قَالَ خَالِدٌ: بَلَى! قَالَ الرَّاهِبُ: أَفَلِهَذَا مَثَلٌ تَعْرِفُونَهُ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: نَعَمْ! الصَّبِيُّ يَأْكُلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ طَعَامِهَا. وَيَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهَا ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ أَذًى. قَالَ الرَّاهِبُ لِخَالِدٍ: أَلَيْسَ تَقُولُ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي: قَالَ: أَفَلَيْسَ تَقُولُونَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ فَوَاكِهَ تَأْكُلُونَ مِنْهَا لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ؟ قَالَ خَالِدٌ: بَلَى! أَفَلِهَذَا مَثَلٌ فِي الدُّنْيَا تَعْرِفُونَهُ؟ قَالَ خَالِدٌ: نَعَمْ! الْكِتَابُ يَكْتُبُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ أَحَدٌ ثُمَّ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَ الرَّاهِبُ: أَلَيْسَ تَقُولُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي. قَالَ خَالِدٌ: فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا مِنْ أُمَّةٍ بُسِطَ لَهَا فِي الْحَسَنَاتِ مَا لَمْ يُبْسَطْ لِأَحَدٍ. انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ. وَهُوَ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ لَهُ أَصْلٌ فِي الْمُعْتَادِ، وَهُوَ تَنَزُّلٌ لِلْمُنْكِرِ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلَكِنَّهُ مُقَرِّبٌ لِفَهْمِ مَنْ قَصُرَ فَهْمُهُ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ الْوَاضِحَاتِ. فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ قَضَاءُ الْعَقْلِ فِي عَادِيٍّ بِانْخِرَاقِهِ، مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْعَادِيِّ عَادِيًّا مُطَّرِدًا غَيْرَ صَحِيحٍ أَيْضًا، فَكُلُّ عَادِيٍّ يَفْرِضُ الْعَقْلُ فِيهِ خَرْقَ الْعَادَةِ فَلَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهِ إِنْكَارٌ، إِذْ قَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي اخْتُصَّ الْبَارِي بِاخْتِرَاعِهَا، وَالْعَقْلُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ خَلْقٍ وَخَلْقٍ، فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ

الِاعْتِبَارِ: سُبْحَانَ مَنْ رَبَطَ الْأَسْبَابَ بِمُسَبَّبَاتِهَا وَخَرَقَ الْعَوَائِدَ لِيَتَفَطَّنَ الْعَارِفُونَ تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْمُقَرَّرِ. فَهُوَ أَصْلٌ اقْتَضَى لِلْعَاقِلِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُجْعَلَ الْعَقْلُ حَاكِمًا بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ وَهُوَ الشَّرْعُ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدَّمَ مَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ - وَهُوَ الشَّرْعُ - وَيُؤَخِّرُ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ - وَهُوَ نَظَرُ الْعَقْلِ - لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ النَّاقِصِ حَاكِمًا عَلَى الْكَامِلِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، بَلْ ضِدُّ الْقَضِيَّةِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأَدِلَّةِ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ: اجْعَلِ الشَّرْعَ فِي يَمِينِكَ وَالْعَقْلَ فِي يَسَارِكَ، تَنْبِيهًا عَلَى تَقَدُّمِ الشَّرْعِ عَلَى الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا تَقْتَضِي ظَاهِرًا خَرْقَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْإِنْكَارَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لَهُ سَعَةٌ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] يَعْنِي الْوَاضِحَ الْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَوْ لَزِمَ الْعِلْمُ بِهِ لَجُعِلَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ. وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ إِنْكَارٌ لِخَرْقِ الْعَادَةِ فِيهِ.

وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجْرِي حُكْمُ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ الْبَارِي بِهَا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَنْ نَفَاهَا نَفَى شِبْهَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَبَقِيَ الْخِلَافُ فِي نَفْيِ عَيْنِ الصِّفَةِ أَوْ إِثْبَاتِهَا، فَالْمُثْبِتُ أَثْبَتَهَا عَلَى شَرْطِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَالْمُنْكِرُ لِأَنْ يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مُنْكِرٌ لِأَنْ يَثْبُتَ أَمْرٌ إِلَّا عَلَى وَفْقِ الْمُعْتَادِ. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا لَازِمٌ فِيمَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ بَدِيهَةً، كَقَوْلِهِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتَكْرَهُوا عَلَيْهِ»، فَإِنَّ الْجَمِيعَ أَنْكَرُوا ظَاهِرَهُ، إِذِ الْعَقْلُ وَالْحِسُّ يَشْهَدَانِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ، وَأَنْتَ تَقُولُ: اعْتَقَدُوا أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ، وَتَأَوَّلُوا الْكَلَامَ. قِيلَ: لَمْ نَعْنِ مَا هُوَ مُنْكَرٌ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ، وَإِنَّمَا عَنَيْنَا مَا لِلنَّظَرِ فِيهِ شَكٌّ وَارْتِيَابٌ، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الصِّرَاطَ ثَابِتٌ، وَالْجَوَازَ عَلَيْهِ قَدْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِهِ، فَنَحْنُ نُصَدِّقُ بِهِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ كَحَدِّ السَّيْفِ وَشِبْهِهِ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فَوْقَهُ عَادَةً فَكَيْفَ يَمْشِي عَلَيْهِ؟ فَالْعَادَةُ قَدْ تُخْرَقُ حَتَّى يُمْكِنَ الْمَشْيُ وَالِاسْتِقْرَارُ، وَالَّذِينَ يُنْكِرُونَهُ يَقِفُونَ مَعَ الْعَوَائِدِ وَيُنْكِرُونَ أَصْلَ الصِّرَاطِ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى إِمْكَانِ انْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ، فَإِنْ فَرَّقُوا صَارَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا. لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ فِي أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ عَقْلِيٍّ، وَقَدْ صَادَفَهُمُ النَّقْلُ، فَالْحَقُّ الْإِقْرَارُ دُونَ الْإِنْكَارِ. وَلْنَشْرَحْ هَذَا الْمَطْلَبَ بِأَمْثِلَةٍ عَشْرَةٍ: (أَحَدُهَا) مَسْأَلَةُ الصِّرَاطِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ

وَالثَّانِي: مَسْأَلَةُ الْمِيزَانِ، إِذْ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ مِيزَانًا صَحِيحًا عَلَى مَا يَلِيقُ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتُوزَنُ فِيهِ الْأَعْمَالُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ عَادِيٍّ، نَعَمْ يُقِرُّ الْعَقْلُ بِأَنَّ أَنْفُسَ الْأَعْرَاضِ - وَهِيَ الْأَعْمَالُ - لَا تُوزَنُ وَزْنَ الْمَوْزُونَاتِ عِنْدَنَا فِي الْعَادَاتِ - وَهِيَ الْأَجْسَامُ، وَلَمْ يَأْتِ فِي النَّقْلِ مَا يُعَيِّنَ أَنَّهُ كَمِيزَانِنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الثِّقْلِ أَوْ أَنْفُسُ الْأَعْمَالِ تُوزَنُ بِعَيْنِهَا. فَالْأَخْلَقُ الْحَمْلُ إِمَّا عَلَى التَّسْلِيمِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، إِذْ لَمْ يَثْبُتُ عَنْهُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ نَفْسِ الْمِيزَانِ أَوْ كَيْفِيَّةِ الْوَزْنِ. كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ فِي الصِّرَاطِ إِلَّا مَا ثَبَتَ عَنْهُمْ فِي الْمِيزَانِ. فَعَلَيْكَ بِهِ فَهُوَ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّأْوِيلُ إِذًا خَارِجٌ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ، فَأَصْحَابُ التَّأْوِيلِ عَلَى هَذَا مِنَ الْفِرَقِ الْخَارِجَةِ. قِيلَ: لَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ: التَّسْلِيمُ مَحْضًا، أَوْ مَعَ التَّأْوِيلِ نَظَرٌ لَا يَبْعُدُ: إِذْ قَدْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، بِخِلَافِ مَنْ جَعَلَ أَصْلَهُ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ التَّكْذِيبَ بِهَا؛ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ. سَلَكَ فِي الْأَحَادِيثِ مَسْلَكَ التَّأْوِيلِ أَوَّلًا، فَالتَّأْوِيلُ أَوْ عَدَمُهُ لَا أَثَرَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ عَلَى كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ أَسْلَمُ. وَالثَّالِثُ: مَسْأَلَةُ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَهِيَ أَسْهَلُ. وَلَا بُعْدَ وَلَا نَكِيرَ فِي كَوْنِ الْمَيِّتِ يُعَذَّبُ بِرَدِّ الرُّوحِ إِلَيْهِ عَارِيَةً. ثُمَّ تَعْذِيبُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ

عَلَى رُؤْيَتِهِ كَذَلِكَ وَلَا سَمَاعِهِ، فَنَحْنُ نَرَى الْمَيِّتَ يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَيُخْبِرُ بِآلَامٍ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا. وَلَا نَرَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَثَرًا. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْأَمْرَاضِ الْمُؤْلِمَةِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِثْلُهَا. فَلِمَاذَا يُجْعَلُ اسْتِبْعَادُ الْعَقْلِ صَادًّا فِي وَجْهِ التَّصْدِيقِ بِأَقْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَالرَّابِعُ: مَسْأَلَةُ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ لِلْمَيِّتِ وَإِقْعَادِهِ فِي قَبْرِهِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُشْكِلُ إِذَا حَكَّمْنَا الْمُعْتَادَ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَحْكِيمَهُ بِإِطْلَاقٍ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقُصُورِهِ، وَإِمْكَانِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ، إِمَّا بِفَتْحِ الْقَبْرِ حَتَّى يُمْكِنَ إِقْعَادُهُ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُحِيطُ بِمَعْرِفَتِهَا الْعُقُولُ. وَالْخَامِسُ: مَسْأَلَةُ تَطَايُرِ الصُّحُفِ وَقِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ قَطُّ، وَقِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ خَلْفَ ظَهْرِهِ، كُلُّ ذَلِكَ يُمْكِنُ فِيهِ خَرْقُ الْعَوَائِدِ، فَيَتَصَوَّرُهُ الْعَقْلُ عَلَى وَجْهٍ مِنْهَا. وَالسَّادِسُ: مَسْأَلَةُ إِنْطَاقِ الْجَوَارِحِ شَاهِدَةً عَلَى صَاحِبِهَا لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ الَّتِي شَهِدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ. وَالسَّابِعُ: رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ جَائِزَةٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رُؤْيَةَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ عِنْدَنَا، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ تَصِحَّ الرُّؤْيَةُ عَلَى أَوْجُهٍ صَحِيحَةٍ لَيْسَ فِيهَا اتِّصَالُ أَشِعَّةٍ وَلَا مُقَابَلَةٌ وَلَا تَصَوُّرُ جِهَةٍ وَلَا فَضْلُ جِسْمٍ شَفَّافٍ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْعَقْلُ لَا يَجْزِمُ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ بَدِيهَةً، وَهُوَ إِلَى الْقُصُورِ فِي النَّظَرِ أَمْيَلُ، وَالشَّرْعُ قَدْ جَاءَ بِإِثْبَاتِهَا فَلَا مَعْدِلَ عَنِ التَّصْدِيقِ. وَالثَّامِنُ: كَلَامُ الْبَارِي تَعَالَى إِنَّمَا نَفَاهُ مَنْ نَفَاهُ وُقُوفًا مَعَ الْكَلَامِ

الْمُلَازِمِ لِلصَّوْتِ وَالْحَرْفِ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْبَارِي مُحَالٌ، وَلَمْ يَقِفْ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ تَعَالَى خَارِجًا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُعْتَادِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ لَائِقٍ بِالرَّبِّ، إِذْ لَا يَنْحَصِرُ الْكَلَامُ فِيهِ عَقْلًا، وَلَا يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ مُحَالٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ الْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ الْأَخْبَارِ مُجَرَّدًا. وَالتَّاسِعُ: إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ كَالْكَلَامِ، إِنَّمَا نَفَاهُ مَنْ نَفَاهُ لِلُزُومِ التَّرْكِيبِ عِنْدَهُ فِي ذَاتِ الْبَارِي تَعَالَى - عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا - فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مَعَ إِثْبَاتِهَا. وَهَذَا قَطْعٌ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي ثَبَتَ قُصُورُ إِدْرَاكِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فَكَيْفَ لَا يَثْبُتُ قُصُورُهُ فِي إِدْرَاكِهِ إِذَا دُعِيَ مِنَ التَّرْكِيبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَاتِ الْبَارِي؟ فَكَانَ مِنَ الصَّوَابِ فِي حَقِّهِ أَنْ يُثْبِتَ مِنَ الصِّفَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ، وَيُقِرُّ مَعَ ذَلِكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ. وَالْعَاشِرُ: تَحْكِيمُ الْعَقْلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ يَقُولُ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْثَةُ الرُّسُلِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاحُ وَالْأَصْلَحُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ اللُّطْفُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا - إِلَى آخِرِ مَا يُنْطَقُ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ - وَهَذَا إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ الِاعْتِيَادُ فِي الْإِيجَابِ عَلَى الْعِبَادِ. وَمَنْ أَجَلَّ الْبَارِي وَعَظَّمَهُ لَمْ يَجْتَرِئْ عَلَى إِطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَلَا أَلَمَّ بِمَعْنَاهَا فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَادَ إِنَّمَا حَسَنٌ فِي الْمَخْلُوقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ مَحْصُورٌ مَمْنُوعٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَا يَمْنَعُهُ شَيْءٌ، وَلَا يُعَارِضُ أَحْكَامَهُ حُكْمٌ، فَالْوَاجِبُ الْوُقُوفُ مَعَ قَوْلِهِ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ - وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ - ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 1 - 15]. فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَقْلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ مِنَ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَكُونُ مُلَبِّيًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ. ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ لِلصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَلَيْهِ دَأَبُوا، وَإِيَّاهُ اتَّخَذُوا طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ فَوَصَلُوا. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ سَيْرِهِمْ أَشْيَاءُ: مِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ أَقَرُّوا وَأَذْعَنُوا لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُصَادِمُوهُ وَلَا عَارَضُوهُ بِإِشْكَالٍ. وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ إِلَيْنَا كَمَا نُقِلَ إِلَيْنَا سَائِرُ سِيَرِهِمْ وَمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْقَضَايَا وَالْمُنَاظَرَاتِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ وَأَقَرُّوهُ، كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا نَظَرٍ. كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: الْكَلَامُ فِي الدِّينِ أَكْرَهُهُ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ بَلَدِنَا يَكْرَهُونَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، نَحْوَ الْكَلَامِ فِي رَأْيٍ جَهْمٍ وَالْقَدَرِ، وَكُلِّ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَلَا أُحِبُّ الْكَلَامَ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ. فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الدِّينِ وَفِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَالسُّكُوتُ أَحَبُّ إِلَيَّ، لِأَنِّي رَأَيْتُ أَهْلَ بَلَدِنَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الدِّينِ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ بَيَّنَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ هُوَ مُبَاحٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَهْلِ بَلَدِهِ - يَعْنِي الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الدِّينِ نَحْوَ الْقَوْلِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ، وَضَرَبَ مَثَلًا نَحْوَ رَأْيِ جَهْمٍ وَالْقَدَرِ - قَالَ - وَالَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفَتْوَى، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ - وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَعَلَى مَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ. إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ أَحَدٌ إِلَى الْكَلَامِ، فَلَا يَسَعُهُ السُّكُوتُ إِذَا طَمِعَ فِي دَرْءِ الْبَاطِلِ وَصَرْفِ صَاحِبِهِ عَنْ مَذْهَبِهِ، وَخَشِيَ ضَلَالَةً عَامَّةً، أَوْ نَحْوَ هَذَا. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَوْمَ نَاظَرَهُ حَفْصٌ الْفَرْدُ قَالَ لِي: يَا أَبَا مُوسَى! لِأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ، لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ حَفْصٍ كَلَامًا لَا أَقْدِرُ أَنْ أَحْكِيَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يُفْلِحُ صَاحِبُ الْكَلَامِ أَبَدًا وَلَا تَكَادُ تَرَى أَحَدًا نَظَرَ فِي الْمَسَائِلِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ دَغَلٌ. (وَقَالَ) عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُئِيِّ - وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ فِي زُفَرَ بْنِ

الْهُذَيْلِ - أَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَحْمَقَكَ! مَا أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا زُفَرَ وَأَبَا يُوسُفَ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَمَنْ جَالَسَنَا وَأَخَذْنَا عَنْهُمْ - هَمَّهُمْ غَيْرُ الْفِقْهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْآثَارِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ أَهْلُ بِدَعٍ وَزَيْغٍ، وَلَا يُعَدُّونَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ طَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ أَهْلُ الْأَثَرِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ وَيَتَفَاضَلُونَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ وَالْمَيْزِ وَالْفَهْمِ. وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّهُ قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنَّا لَنَلْتَقِطُ السُّنَنَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالثِّقَةِ، وَنَتَعَلَّمُهَا شَبِيهًا بِتَعَلُّمِنَا آيَ الْقُرْآنِ، وَمَا بَرِحَ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْفَضْلِ مِنْ خِيَارِ أَوَّلِيَّةِ النَّاسِ، يَعِيبُونَ أَهْلَ الْجَدَلِ وَالتَّنْقِيبِ وَالْأَخْذِ بِالرَّأْيِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ لِقَائِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَيُحَذِّرُونَنَا مُقَارَبَتَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَيُخْبِرُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ وَتَحْرِيفٍ لِتَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَنِ رَسُولِهِ، وَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَنَاحِيَةَ التَّنْقِيبِ وَالْبَحْثِ وَزَجَرَ عَنْ ذَلِكَ، وَحَذَّرَهُ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ حَتَّى كَانَ مِنْ قَوْلِهِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ فِي دِينِكُمْ. قَالَ سَحْنُونٌ: يَعْنِي الِانْتِهَاءَ عَنِ الْجَدَلِ فِيهِ،

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا: إِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئِلُوا أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ فَعَارَضُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: أَهْلُ الرَّأْيِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ. وَهُوَ الْقَائِلُ فِي قَصِيدَتِهِ فِي السُّنَّةِ: وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلَهُمْ ... فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ أَزْكَى وَأَشْرَحُ وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَشَعَّبَتْ بِهِمُ السُّبُلُ، وَحَادُوا عَنِ الطَّرِيقِ، فَتَرَكُوا الْآثَارَ وَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: مَنْ رَغِبَ بِرَأْيِهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ يَضِلُّ. وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: السُّنَنَ السُّنَنَ، إِنَّ السُّنَنَ قِوَامُ الدِّينِ، وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ مُعْتَدِلًا حَتَّى نَشَأَ فِيهِمْ مُوَلَّدُونَ أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فَأَخَذُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. فَهَذِهِ الْآثَارُ وَأَشْبَاهُهَا تُشِيرُ إِلَى ذَمِّ إِيثَارِ نَظَرِ الْعَقْلِ عَلَى آثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّأْيِ الْمَذْمُومِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْبِدَعُ الْمُحْدَثَةُ فِي الِاعْتِقَادِ. كَرَأْيِ جَهْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ. لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ اسْتَعْمَلُوا قِيَاسَهُمْ وَآرَاءَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ. فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ

يُرَى اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ} [الأنعام: 103] الْآيَةَ. فَرَدُّوا قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22] وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] فَرَدُّوا الْأَحَادِيثَ الْمُتَوَاتِرَةَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ، وَرَدُّوا الْأَحَادِيثَ فِي الشَّفَاعَةِ عَلَى تَوَاتُرِهَا، وَقَالُوا: لَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ دَخَلَ فِيهَا: وَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ حَوْضًا وَلَا مِيزَانًا، وَلَا نَعْقِلُ مَا هَذَا. وَرَدُّوا السُّنَنَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ - بِرَأْيِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ - إِلَى أَشْيَاءَ يَطُولُ ذِكْرُهَا مِنْ كَلَامِهِمْ فِي صِفَةِ الْبَارِي، وَقَالُوا: الْعِلْمُ مُحْدَثٌ فِي حَالِ حُدُوثِ الْمَعْلُومِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عِلْمٌ إِلَّا عَلَى مَعْلُومٍ، فِرَارًا مِنْ قِدَمِ الْعَالَمِ - فِي زَعْمِهِمْ -. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ الْمُرَادُ بِهِ الرَّأْيُ الْمُبْتَدَعُ وَشِبْهُهُ مِنْ ضُرُوبِ الْبِدَعِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ بِالِاعْتِقَادِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعَمَلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ - قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُمُ الْجُمْهُورُ - إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ

الْقَوْلُ فِي الشَّرْعِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالِ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ، وَرَدِّ الْفُرُوعِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ دُونِ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ، قَالُوا: وَفِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا تَعْطِيلُ السُّنَنِ وَالتَّذَرُّعُ إِلَى جَهْلِهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ خَارِجٍ عَمَّا تَقَدَّمَ. وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِلذَّرِيعَةِ إِلَى الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ. وَهُوَ مُعَارَضَةُ الْمَنْصُوصِ. لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْحَثْ عَنِ السُّنَنِ جَهِلَهَا فَاحْتَاجَ إِلَى الرَّأْيِ. فَلَحِقَ بِالْأَوَّلِينَ الَّذِينَ عَارَضُوا السُّنَنَ حَقِيقَةً. فَجَمِيعُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَهُوَ إِعْمَالُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ مَعَ طَرْحِ السُّنَنِ. إِمَّا قَصْدًا أَوْ غَلَطًا وَجَهْلًا، وَالرَّأْيُ إِذَا عَارَضَ السُّنَّةَ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ. فَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يُعَارِضُوا مَا جَاءَ فِي السُّنَنِ بِآرَائِهِمْ، عَلِمُوا مَعْنَاهُ أَوْ جَهِلُوهُ، جَرَى لَهُمْ عَلَى مَعْهُودِهِمْ أَوْ لَا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ نَقْلِهِ، وَلْيَعْتَبِرْ فِيهِ مَنْ قَدَّمَ النَّاقِصَ - وَهُوَ الْعَقْلُ - عَلَى الْكَامِلِ - وَهُوَ الشَّرْعُ - وَرَحِمَ اللَّهُ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ حَيْثُ يَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! مَا عَلَّمَكَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ عِلْمٍ فَاحْمَدِ اللَّهَ، وَمَا اسْتَأْثَرَ عَلَيْكَ بِهِ مِنْ عِلْمٍ فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ، لَا تَتَكَلَّفْ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]. وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،

قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِمَ عِلْمًا عَلَّمَهُ الْعِبَادَ، وَعَلِمَ عِلْمًا لَمْ يُعَلِّمْهُ الْعِبَادَ، فَمَنْ تَكَلَّفَ الْعِلْمَ الَّذِي لَمْ يُعَلِّمْهُ الْعِبَادَ لَمْ يَزْدَدْ مِنْهُ إِلَّا بُعْدًا. قَالَ: وَالْقَدَرُ مِنْهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ يَقُولَانِ: أَمِرُّوا هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كَمَا جَاءَتْ وَلَا تَتَنَاظَرُوا فِيهَا: وَمِثْلُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، فِي الْأَحَادِيثِ فِي الصِّفَاتِ أَنَّهُمْ أَمَرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ. . . . نَحْوَ حَدِيثِ النُّزُولِ، وَخَلْقِ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، وَشِبْهِهِمَا، وَحَدِيثُ مَالِكٍ فِي السُّؤَالِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ مَشْهُورٌ. وَجَمِيعُ مَا قَالُوهُ مُسْتَمَدٌّ مِنْ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، فَإِنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي الْفَهْمِ مُتَشَابِهٌ، فَالْوُقُوفُ عَنْهُ هُوَ الْأَحْرَى بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الْمُتَّبِعُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمُ اتِّبَاعُ الرَّأْيِ لَمْ يَذُمُّوهُ وَلَمْ يَنْهَوْا عَنْهُ، لَأَنَّ أَحَدًا لَا يَرْتَضِي طَرِيقًا ثُمَّ يَنْهَى عَنْ سُلُوكِهِ. كَيْفَ وَهَمَ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ!.

فصل اتباع الهوى

وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ فِي مَجْلِسٍ فَذُكِرَ فِيهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ، فَإِنَّهُمْ - وَرَبِّ الْكَعْبَةِ - عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ وَخُذُوا طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَعَمْرِي لَئِنِ اتَّبَعْتُمُوهُ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ يِمِينًا أَوْ شِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، وَأَقْوَمُهَا هَدْيًا، وَأَحْسَنُهَا خِلَالًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ. وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاتِّبَاعِ لِطَرِيقِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ طَرِيقُ النَّجَاةِ حَسْبَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْفِرَقِ فِي قَوْلِهِ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي». [فَصْلٌ اتِّبَاعُ الْهَوَى] النَّوْعُ الرَّابِعُ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ. وَهَذَا أَصْلٌ قَدْ تَقَرَّرَ فِي قِسْمِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ. لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ يَلِيقُ بِالْأُصُولِ. فَمَنْ أَرَادَ الْإِطْلَاعَ عَلَيْهِ فَلْيُطَالِعْهُ مِنْ هُنَالِكَ.

وَلَمَّا كَانَتْ طَرْقُ الْحَقِّ مُتَشَعِّبَةً لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُؤْتَى عَلَيْهَا بِالِاسْتِيفَاءِ. فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا شُعْبَةً وَاحِدَةً تَكُونُ كَالطَّرِيقِ لِمَعْرِفَةِ مَا سِوَاهَا. فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ كَبِيرِهِمْ وَصَغِيرِهِمْ مُطِيعِهِمْ وَعَاصِيهِمْ. بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ. لَمْ يَخْتَصَّ بِهَا أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشَّرَائِعِ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِتَكُونَ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ الَّتِي تَنْزِلُ فِيهِمْ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ. حَتَّى إِنَّ الْمُرْسَلِينَ بِهَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ أَحْكَامِهَا. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطَبٌ بِهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ. مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ. أَوْ كَانَ عَامًّا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 50] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إِلَى سَائِرِ التَّكَالِيفِ الَّتِي وَرَدَتْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَالنَّبِيُّ فِيهِمْ. فَالشَّرِيعَةُ هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ

الْمُكَلَّفِينَ. وَهِيَ الطَّرِيقُ الْمُوصِلُ وَالْهَادِي الْأَعْظَمُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ. ثُمَّ مَنِ اتَّبَعَهُ فِيهِ. وَالْكِتَابُ هُوَ الْهَادِي. وَالْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ مُرْشِدٌ وَمُبَيِّنٌ لِذَلِكَ الْهَدْيِ، وَالْخَلْقُ مُهْتَدُونَ بِالْجَمِيعِ. وَلَمَّا اسْتَنَارَ قَلْبُهُ وَجَوَارِحُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ بِنُورِ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا، صَارَ هُوَ الْهَادِيَ الْأَوَّلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْمُرْشِدَ الْأَعْظَمَ، حَيْثُ خَصَّهُ اللَّهُ دُونَ الْخَلْقِ بِإِنْزَالِ ذَلِكَ النُّورِ عَلَيْهِ، وَاصْطَفَاهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَانَ مِثْلُهُ فِي الْخِلْقَةِ الْبَشَرِيَّةِ اصْطِفَاءً أَوَّلِيًّا، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَشَرًا عَاقِلًا - مَثَلًا - لِاشْتِرَاكِهِ مَعَ غَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَلَا لِكَوْنِهِ مِنْ قُرَيْشٍ - مَثَلًا - دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا لَزِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ قُرَشِيٍّ، وَلَا لِكَوْنِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَا لِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ مِنْ جِهَةِ اخْتِصَاصِهِ بِالْوَحْيِ الَّذِي اسْتَنَارَ بِهِ قَلْبُهُ وَجَوَارِحُهُ فَصَارَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، حَتَّى نَزَلَ فِيهِ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وَإِنَّمَا «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» لِأَنَّهُ حَكَّمَ الْوَحْيَ عَلَى نَفْسِهِ. حَتَّى صَارَ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى وَفْقِهِ. فَكَانَ الْوَحْيُ حَاكِمًا وَافِقًا قَائِلًا، وَكَانَ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُذْعِنًا مُلَبِّيًا نِدَاءَهُ وَاقِفًا عِنْدَ حُكْمِهِ، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ. إِذْ قَدْ جَاءَ بِالْأَمْرِ وَهُوَ مُؤْتَمَرٌ. وَبِالنَّهْيِ وَهُوَ مُنْتَهٍ. وَبِالْوَعْظِ وَهُوَ مُتَّعِظٌ

وَبِالتَّخْوِيفِ وَهُوَ أَوَّلُ الْخَائِفِينَ. وَبِالتَّرْجِيَةِ وَهُوَ سَائِقٌ دَابَّةَ الرَّاجِينَ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ جَعْلُهُ الشَّرِيعَةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِ حُجَّةً حَاكِمَةً عَلَيْهِ وَدَلَالَةً لَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلِذَلِكَ صَارَ عَبْدَ اللَّهِ حَقًّا. وَهُوَ أَشْرَفُ اسْمٍ تَسَمَّى بِهِ الْعِبَادُ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا - تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ - وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 1 - 23] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي وَقَعَ مَدْحُهُ فِيهَا بِصِحَّةِ عُبُودِيَّتِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَسَائِرُ الْخَلْقِ حَرِيُّونَ بِأَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ حُجَّةً حَاكِمَةً عَلَيْهِمْ وَمَنَارًا يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ، وَشَرَفُهُمْ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِحَسَبِ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَحْكَامِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا قَوْلًا وَاعْتِقَادًا وَعَمَلًا، لَا بِحَسَبِ عُقُولِهِمْ فَقَطْ، وَلَا بِحَسَبِ شَرَفِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ فَقَطْ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَثْبَتَ الشَّرَفَ لَا غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فَمَنْ كَانَ أَشَدَّ مُحَافَظَةً عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالشَّرَفِ وَالْكَرَمِ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَبْلُغَ فِي الشَّرَفِ مَبْلَغَ الْأَعْلَى فِي اتِّبَاعِهَا، فَالشَّرَفُ إِذًا إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْمُبَالِغَةِ فِي تَحْكِيمِ الشَّرِيعَةِ. تَفْضِيلُ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ عَلَى سَائِرِ الْعُلُومِ ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ هَذَا: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَّفَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَرَفَعَ

أَقْدَارَهُمْ، وَعَظَّمَ مِقْدَارَهُمْ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، بَلْ قَدِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّهُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ شَرَفَ الْمَنَازِلِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى أَنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ أَفْضَلُ الْعُلُومِ وَأَعْظَمُهَا أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا عَلَيْنَا أَسَامَحَنَا بَعْضُ الْفِرَقِ فِي تَعْيِينِ الْعُلُومِ - أَعْنِي الْعُلُومَ الَّتِي نَبَّهَ الشَّارِعُ عَلَى مَزِيَّتِهَا وَفَضِيلَتِهَا - أَمْ لَمْ نُسَامِحْهُمْ، بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ، وَإِثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ؟. وَأَيْضًا، فَإِنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ مِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَسَائِلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَقَاصِدِ، وَالَّذِي يَجْرِي مِنْهَا مَجْرَى الْمَقَاصِدِ أَعْلَى مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ - بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَيْضًا - كَعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ كَالْوَسِيلَةِ، فَعِلْمُ الْفِقْهِ أَعْلَى. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَأَهْلُ الْعِلْمِ أَشْرَفُ النَّاسِ وَأَعْظَمُ مَنْزِلَةً بِلَا إِشْكَالٍ وَلَا نِزَاعٍ وَإِنَّمَا وَقَعَ الثَّنَاءُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافِهِمْ بِالْعِلْمِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ وُقُوعُ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ مُقَيَّدًا بِالِاتِّصَافِ بِهِ، فَهُوَ إِذًا الْعِلَّةُ فِي الثَّنَاءِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ الِاتِّصَافُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ،

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ الْعُلَمَاءُ حُكَّامًا عَلَى الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ قَضَاءً أَوْ فُتْيَا أَوْ إِرْشَادًا، لِأَنَّهُمُ اتَّصَفُوا بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ، فَلَيْسُوا بِحُكَّامٍ مِنْ جِهَةِ مَا اتَّصَفُوا بِوَصْفٍ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِمْ كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِذْ لَا مَزِيَّةَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِيهَا، وَإِنَّمَا صَارُوا حُكَّامًا عَلَى الْخَلْقِ مَرْجُوعًا إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ حَمْلِهِمْ لِلْعِلْمِ الْحَاكِمِ، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ حُكَّامًا عَلَى الْخَلْقِ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُمْ مَمْدُوحُونَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفُوا بِوَصْفِ الْحُكْمِ مَعَ فَرْضِ خُرُوجِهِمْ عَنْ صَوْتِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ، إِذْ لَيْسُوا حُجَّةً إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا خَرَجُوا عَنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونُوا حُكَّامًا؟ هَذَا مُحَالٌ. وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْعَالِمِ بِالْعَرَبِيَّةِ: مُهَنْدِسٌ، وَلَا فِي الْعَالِمِ بِالْهَنْدَسَةِ: عَرَبِيٌّ، فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي الزَّائِغِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ: حَاكِمٌ بِالشَّرْعِ، بَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِعَقْلِهِ أَوْ بِرَأْيِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً فِي الْعِلْمِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاكِمَ يُكَذِّبُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ. ثُمَّ نَصِيرُ مِنْ هَذَا إِلَى مَعْنًى آخَرَ مُرَتَّبٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّرِيعَةِ إِذَا اتُّبَعَ فِي قَوْلِهِ، وَانْقَادَ إِلَيْهِ النَّاسُ فِي حُكْمِهِ، فَإِنَّمَا اتُّبِعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ وَحَاكِمٌ بِهَا وَحَاكِمٌ بِمُقْتَضَاهَا، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُبَلِّغٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَتَلَقَّى مِنْهُ مَا بَلَّغَ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ بَلَّغَ، أَوْ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ بَلَّغَ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُنْتَصِبٌ لِلْحُكْمِ مُطْلَقًا، إِذْ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَإِنَّمَا هُوَ

ثَابِتٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَثَبَتَ ذَلِكَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحْدَهُ دُونَ الْخَلْقِ مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الْعِصْمَةِ. وَالْبُرْهَانُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَقُولُهُ أَوْ يَفْعَلُهُ حَقٌّ. فَإِنَّ الرِّسَالَةَ الْمُقْتَرِنَةَ بِالْمُعْجِزَةِ عَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ. فَغَيْرُهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عِصْمَةٌ بِالْمُعْجِزَةِ بِحَيْثُ يَحْكُمُ بِمُقْتَضَاهَا حَتَّى يُسَاوِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِانْتِصَابِ لِلْحُكْمِ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ إِنَّمَا يَكُونُ مَنْتَصِبًا عَلَى شَرْطِ الْحُكْمِ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ. بِحَيْثُ إِذَا وُجِدَ الْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَا حَكَمَ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا. إِذَ كَانَ - بِالْفَرْضِ - خَارِجًا عَنْ مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ الْحَاكِمَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَلِكَ إِذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَجَبَ رَدُّهَا إِلَى الشَّرِيعَةِ حَيْثُ يَثْبُتُ الْحَقُّ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الْآيَةَ. فَإِذًا؛ الْمُكَلَّفُ بِأَحْكَامِهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهَا، فَحُكْمُهُ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فِيهَا، لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَتْ دَلَالَتُهَا وَاضِحَةً إِنَّمَا يَقَعُ مَوْقِعَهُ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ لَهُ هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى قَصْدِ الشَّارِعِ وَالْأَوْلَى بِأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ؛ دُونَ مَا ظَهَرَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا هُوَ الْأَقْرَبُ. بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ فِيمَا اتَّضَحَ فِيهِ الدَّلِيلُ إِلَّا اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ، دُونَ مَا

أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَيُعَدُّ مَا ظَهَرَ لَهُ لَغْوًا كَالْعَدَمِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صَوْبِ الشَّرِيعَةِ الْحَاكِمَةِ. فَإِذًا؛ لَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْحُكْمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا صِرْفًا خَلِيًّا مِنَ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ جُمْلَةً. فَلَابُدَّ لَهُ مِنْ قَائِدٍ يَقُودُهُ. وَحَاكِمٍ يَحْكُمُ عَلَيْهِ. وَعَالِمٍ يَقْتَدِي بِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقْتَدَى بِهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ الْحَاكِمِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ اتِّبَاعُهُ وَلَا الِانْقِيَادُ لِحُكْمِهِ. بَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَخْطُرَ بِخَاطِرِ الْعَامِّيِّ وَلَا غَيْرِهِ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ فِي أَمْرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْأَمْرِ. كَمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَرِيضُ نَفْسَهُ إِلَى أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَبِيبٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَاقِدَ الْعَقْلِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّمَا يَنْقَادُ إِلَى الْمُفْتِي مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَجِبُ الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ. لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ فُلَانًا أَيْضًا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَيْضًا لَا يَسْعُ الْخِلَافُ فِيهَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بَالِغٍ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ. لَكِنَّهُ يَفْهَمُ الدَّلِيلَ وَمَوْقِعَهُ. وَيَصْلُحُ فَهْمُهُ لِلتَّرْجِيحِ بِالْمُرَجِّحَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَنَحْوِهِ. فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ تَرْجِيحُهُ أَوْ نَظَرُهُ، أَوْ لَا فَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُ صَارَ مِثْلَ الْمُجْتَهِدِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَالْمُجْتَهِدُ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ الْحَاكِمِ نَاظِرٌ نَحْوَهُ. مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ: فَالَّذِي يُشْبِهُهُ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ نَعْتَبِرْهُ فَلَابُدَّ مِنْ رُجُوعِهِ إِلَى دَرَجَةِ الْعَامِّيِّ. وَالْعَامِّيُّ إِنَّمَا اتَّبَعَ الْمُجْتَهِدَ مِنْ جِهَةِ تَوَجُّهِهِ إِلَى صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ. فَكَذَلِكَ مَنْ نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ.

ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ: أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتِّبَاعُهُ لِلْوَحْيِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. وَأَمَّا أَصْحَابُهُ فَاتِّبَاعُهُمْ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِمُؤَالِفٍ أَوْ مُخَالِفٍ شَهِيرٍ عَنْهُمْ، فَلَا نُطِيلُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَتَّبِعُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ الشَّرِيعَةِ، قَائِمٌ بِحُجَّتِهَا، حَاكِمٌ بِأَحْكَامِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَأَنَّهُ مَنْ وُجِدَ مُتَوَجِّهًا غَيْرَ تِلْكَ الْوُجْهَةِ فِي جُزْئِيَّةٍ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ أَوْ فَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ يَكُونَ مُقْتَدًى بِهِ فِيمَا حَادَ فِيهِ عَنْ صَوْبِ الشَّرِيعَةِ أَلْبَتَّةَ. فَيَجِبُ إِذًا عَلَى النَّاظِرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَمْرَانِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَّبِعَ الْعَالِمَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ طَرِيقٌ إِلَى اسْتِفَادَةِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، إِذْ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ إِلَّا كَوْنُهُ مُودَعًا لَهُ، وَمَأْخُوذًا بِأَدَاءِ تِلْكَ الْأَمَانَةِ، حَتَّى إِذَا عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِيمَا يُلْقِي، أَوْ تَارِكٌ لِإِلْقَاءِ تِلْكَ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، أَوْ مُنْحَرِفٌ عَنْ صَوْبِهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِانْحِرَافِ، تَوَقَّفَ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الِاتِّبَاعِ إِلَّا بَعْدَ التَّبْيِينِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يُلْقِيهِ الْعَالِمُ يَكُونُ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِإِمْكَانِ الزَّلَلِ وَالْخَطَإِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا كَانَ هَذَا الْمُتَّبِعُ نَاظِرًا فِي الْعِلْمِ وَمُتَبَصِّرًا فِيمَا يُلْقِي إِلَيْهِ كَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ تَوَصُّلَهُ إِلَى الْحَقِّ سَهْلٌ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْكُتُبِ إِمَّا تَحْتَ حِفْظِهِ، وَإِمَّا مُعَدَّةٌ لِأَنْ يُحَقِّقَهَا بِالْمُطَالَعَةِ أَوِ الْمُذَاكَرَةِ. اجْتِهَادُ الْعَامِّيِّ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يُقَلِّدُ وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَامِّيًّا صِرْفًا فَيَظْهَرُ لَهُ الْإِشْكَالُ عِنْدَمَا يَرَى الِاخْتِلَافَ

بَيْنَ النَّاقِلِينَ لِلشَّرِيعَةِ، فَلَابُدَّ لَهُ هَاهُنَا مِنَ الرُّجُوعِ آخِرًا إِلَى تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ، إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ تَقْلِيدُ مُخْتَلِفِينَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ وَخَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يُمْكِنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ بِهِمَا كَانَ عَمَلُهُ بِهِمَا مَعًا مُحَالًا، وَإِنْ أَمْكَنَهُ صَارَ عَمَلُهُ لَيْسَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. بَلْ هُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَا قَائِلَ بِهِ. وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا نَجِدُ صُورَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ مَعُمُولًا بِهَا فِي الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ إِلَّا وَاحِدًا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ صَاحِبِهِ، وَلِذَلِكَ خَالَفَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُخَالِفْهُ، وَالْعَامِّيُّ جَاهِلٌ بِمَوَاقِعِ الِاجْتِهَادِ، فَلَابُدَّ لَهُ مِمَّنْ يُرْشِدُهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمَا. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْعَامِّيِّ بِطَرِيقٍ إِجْمَالِيٍّ، وَهُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْأَعْلَمِيَّةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَالطَّالِبُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَعْلَمِيَّةَ تَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّ صَاحِبَهَا أَقْرَبُ إِلَى صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِذًا؛ لَا يُقَلِّدُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَاكِمًا بِالْعِلْمِ الْحَاكِمِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُصَمِّمَ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِي تَقْلِيدِهِ الْخَطَأُ شَرْعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامِّيَّ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُ قَدْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ أَرْجَحَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ عِنْدَ أَهْلِ قُطْرِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَهْلُ قُطْرِهِ فِي التَّفَقُّهِ فِي مَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ غَيْرِهِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ فِي بَعْضِ مَسَائِلَ مُتَنَوِّعَةٍ الْخَطَأُ وَالْخُرُوجُ عَنْ صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ فَلَا يَتَعَصَّبُ لِمَتْبُوعِهِ بِالتَّمَادِي عَلَى

اتِّبَاعِهِ فِيمَا ظَهَرَ فِيهِ خَطَؤُهُ، لِأَنَّ تَعَصُّبَهُ يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِلَى مُخَالَفَةِ مَتْبُوعِهِ، أَمَّا خِلَافُهُ لِلشَّرْعِ فَبِالْعَرْضِ، وَأَمَّا خِلَافُهُ لِمَتْبُوعِهِ فَلِخُرُوجِهِ عَنْ شَرْطِ الِاتِّبَاعِ، لِأَنَّ كُلَّ عَالِمٍ يُصَرِّحُ أَوْ يُعَرِّضُ بِأَنَّ اتِّبَاعَهُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِالشَّرِيعَةِ لَا بِغَيْرِهَا، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِخِلَافِ الشَّرِيعَةِ خَرَجَ عَنْ شَرْطِ مَتْبُوعِهِ بِالتَّصْمِيمِ عَلَى تَقْلِيدِهِ. وَمِنْ مَعْنَى كَلَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا كَانَ مِنْ كَلَامِي مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَخُذُوا بِهِ، وَمَا لَمْ يُوَافِقْ فَاتْرُكُوهُ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ دُونَ لَفْظِهِ. وَمِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَدِيثُ مَذْهَبِي فَمَا خَالَفَهُ فَاضْرِبُوا بِهِ الْحَائِطَ أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذَا لِسَانُ حَالِ الْجَمِيعِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ عَلَى تَحَرٍّ أَنَّهُ طَابَقَ الشَّرِيعَةَ الْحَاكِمَةَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَا لَا فَلَيْسَ بِمَنْسُوبٍ إِلَى الشَّرِيعَةِ وَلَا هُمْ أَيْضًا مِمَّنْ يُرْضَى أَنْ تُنْسَبَ إِلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهَا. لَكِنْ يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَجْهَانِ: أَنْ يَكُونَ الْمَتْبُوعُ مُجْتَهِدًا، فَالرُّجُوعُ فِي التَّخْطِئَةِ وَالتَّصْوِيبِ إِلَى مَا اجْتَهَدَ فِيهِ، وَهُوَ الشَّرِيعَةُ، وَأَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، كَالْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ تَقْلِيدُ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالنَّقْلِ مِنْ كُتُبِهِمْ وَالتَّفَقُّهِ فِي مَذَاهِبِهِمْ، فَالرُّجُوعُ فِي التَّخْطِئَةِ

وَالتَّصْوِيبُ إِلَى صِحَّةِ النَّقْلِ عَمَّنْ نَقَلُوا عَنْهُ وَمُوَافَقَتُهُمْ لِمَنْ قَلَّدُوا، أَوْ خِلَافَ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُقَلِّدُونَ بِالْعَرْضِ، فَلَا يَسَعُهُمُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، إِذْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَهُ، فَلَا يَصِحُّ تَعَرُّضُهُمْ لِلِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ قُصُورِهِمْ عَنْ دَرَجَتِهِ. فَإِنْ فُرِضَ انْتِصَابُهُ لِلِاجْتِهَادِ فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ، أَصَابَ أَمْ لَمْ يُصِبْ؛ لِأَنَّهُ أَتَى الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ، وَانْتَهَكَ حُرْمَةَ الدَّرَجَةِ وَقَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَإِصَابَتُهُ - إِنْ أَصَابَ - مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَخَطَؤُهُ هُوَ الْمُعْتَادُ، فَلَا يَصِحُّ اتِّبَاعُهُ كَسَائِرِ الْعَوَامِّ إِذَا رَامُوا الِاجْتِهَادَ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاجْتِهَادِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَامِّيِّ كَالْعَدَمِ، وَأَنَّهُ فِي مُخَالَفَتِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ آثِمٌ مُخْطِئٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ - مَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ - تَقْلِيدُ غَيْرِ مُجْتَهِدٍ فِي مَسْأَلَةٍ أَتَى فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ؟ وَلَقَدْ زَلَّ - بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلِيلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الرِّجَالِ - أَقْوَامٌ خَرَجُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ جَادَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. وَلْنَذْكُرْ عَشَرَةَ أَمْثِلَةً: أَحَدُهَا: وَهُوَ أَشَدُّهَا، قَوْلُ مَنْ جَعَلَ اتِّبَاعَ الْآبَاءِ فِي أَصْلِ الدِّينِ هُوَ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، حَتَّى رَدُّوا بِذَلِكَ بَرَاهِينَ الرِّسَالَةِ، وَحُجَّةَ الْقُرْآنِ وَدَلِيلَ الْعَقْلِ فَقَالُوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]. فَحِينَ نُبِّهُوا عَلَى وَجْهِ الْحُجَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24]

لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ إِلَّا الْإِنْكَارُ، اعْتِمَادًا عَلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَاطِّرَاحًا لِمَا سِوَاهُ، وَلَمْ يَزَلْ مِثْلُ هَذَا مَذْمُومًا فِي الشَّرَائِعِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24] وَعَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72] إِلَى آخِرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، فَكَانَ الْجَمِيعُ مَذْمُومِينَ حِينَ اعْتَبَرُوا وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْحَقَّ تَابِعٌ لَهُمْ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُقَدَّمُ. وَالثَّانِي: رَأْيُ الْإِمَامِيَّةِ فِي اتِّبَاعِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ - فِي زَعْمِهِمْ - وَإِنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْمَعْصُومُ حَقًّا، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَّمُوا الرِّجَالَ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُحَكِّمُوا الشَّرِيعَةَ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ لِيَكُونَ حَكَمًا عَلَى الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ. وَالثَّالِثُ: لَاحِقٌ بِالثَّانِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفِرْقَةِ الْمَهْدَوِيَّةِ الَّتِي جَعَلَتْ أَفْعَالَ مَهْدِيِّهِمْ حُجَّةً، وَافَقَتْ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ أَوْ خَالَفَتْ، بَلْ جَعَلُوا أَكْثَرَ ذَلِكَ أَنْفِحَةً فِي عَقْدِ إِيمَانِهِمْ مَنْ خَالَفَهَا كَفَّرُوهُ وَجَعَلُوا حُكْمَهُ حُكْمَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ أَمْثِلَةٌ. وَالرَّابِعُ: رَأْيُ الْمُقَلِّدَةِ لِمَذْهَبِ إِمَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ إِمَامَهُمْ هُوَ

الشَّرِيعَةُ، بِحَيْثُ يَأْنَفُونَ أَنْ تُنْسَبَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَضِيلَةٌ دُونَ إِمَامِهِمْ، حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ مَنْ بَلَغَ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ وَتَكَلَّمَ فِي الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَرْتَبِطْ إِلَى إِمَامِهِمْ رَمَوْهُ بِالنَّكِيرِ، وَفَوَّقُوا إِلَيْهِ سِهَامَ النَّقْدِ، وَعَدُّوهُ مِنَ الْخَارِجِينَ عَنِ الْجَادَّةِ، وَالْمُفَارِقِينَ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ مِنْهُمْ بِدَلِيلٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِيَادِ الْعَامِّيِّ. وَلَقَدْ لَقِيَ الْإِمَامُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ حِينَ دَخَلَ الْأَنْدَلُسَ آتِيًا مِنَ الْمَشْرِقِ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ الْأَمَرَّيْنِ، حَتَّى أَصَارُوهُ مَهْجُورَ الْفَنَاءِ، مُهْتَضَمَ الْجَانِبِ، لِأَنَّهُ مِنِ الْعِلْمِ بِمَا لَا يَدَيْ لَهُمْ بِهِ، إِذْ لَقِيَ بِالْمَشْرِقِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَأَخَذَ عَنْهُ مُصَنَّفَهُ وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ، وَلَقِيَ أَيْضًا غَيْرُهُ، حَتَّى صَنَّفَ الْمُسْنَدَ الْمُصَنَّفَ الَّذِي لَمْ يُصَنَّفْ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ قَدْ صَمَّمُوا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، بِحَيْثُ أَنْكَرُوا مَا عَدَاهُ، وَهَذَا تَحْكِيمُ الرِّجَالِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْغُلُوُّ فِي مَحَبَّةِ الْمَذْهَبِ، وَعَيْنُ الْإِنْصَافِ تَرَى أَنَّ الْجَمِيعَ أَئِمَّةٌ فُضَلَاءُ، فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِمَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَضُرُّهُ مُخَالَفَةُ غَيْرِ إِمَامِهِ لِإِمَامِهِ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ سَالِكٌ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، فَقَدْ يُؤَدِّي التَّغَالِي فِي التَّقْلِيدِ إِلَى إِنْكَارٍ لِمَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ إِنْكَارِهِ. وَالْخَامِسُ: رَأْيُ نَابِتَةٍ مُتَأَخِّرَةِ الزَّمَانِ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّخَلُّقَ بِخُلُقِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ الْمُتَقَدِّمِينَ، أَوْ يَرُومُ الدُّخُولَ فِيهِمْ، يَعْمِدُونَ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي الْكُتُبِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمْ أَوِ الْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ، فَيَتَّخِذُونَهَا دِينًا وَشَرِيعَةً لِأَهْلِ الطَّرِيقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مُخَالِفَةً لِمَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى فُتْيَا

مُفْتٍ وَلَا نَظَرِ عَالِمٍ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْكَلَامِ ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ، فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ أَوْ يَقُولُهُ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فَهُوَ أَيْضًا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَالْفِقْهُ لِلْعُمُومِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْخُصُوصِ! فَتَرَاهُمْ يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِتِلْكَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَلَا يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَيْنُ اتِّبَاعِ الرِّجَالِ وَتَرْكِ الْحَقِّ، مَعَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَصَوِّفَةَ الَّذِينَ يُنْقَلُ عَنْهُمْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ كَانَ فِي النِّهَايَةِ دُونَ الْبِدَايَةِ، وَلَا عُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِصِحَّةِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ أَمْ لَا، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَئِمَّةِ التَّصَوُّفِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ زَلَّ زَلَّةً يَجِبُ سَتْرُهَا عَلَيْهِ، فَيَنْقُلُهَا عَنْهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ حَالَهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ بِطَرِيقِ الْقَوْمِ كُلَّ التَّأَدُّبِ. وَقَدْ حَذَّرَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَجَعَلُوهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَهْدِمُ الدِّينَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا ظَهَرَتْ فَتَطِيرُ فِي النَّاسِ كُلَّ مَطَارٍ، فَيَعُدُّونَهَا دِينًا، وَهِيَ ضِدُّ الدِّينِ، فَتَكُونُ الزَّلَّةُ حُجَّةً فِي الدِّينِ. فَكَذَلِكَ أَهْلُ التَّصَوُّفِ لَابُدَّ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالصُّوفِيِّ مِنْ عَرْضِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى حَاكِمٍ يَحْكُمُ عَلَيْهَا: هَلْ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتَّخَذُ دِينًا أَمْ لَا؟ وَالْحَاكِمُ هُوَ الشَّرْعُ وَأَقْوَالُ الْعَالِمِ تُعْرَضُ عَلَى الشَّرْعِ أَيْضًا، وَأَقَلُّ ذَلِكَ فِي الصُّوفِيِّ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ، كَالْجُنَيْدِ وَغَيْرِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ النَّابِتَةَ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَصَارُوا مُتَّبِعِينَ الرِّجَالَ مِنْ حَيْثُ هُمْ رِجَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُمْ رَاجِحُونَ بِالْحَاكِمِ الْحَقِّ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَمَا عَلَيْهِ الْمُتَصَوِّفَةُ أَيْضًا، إِذْ قَالَ إِمَامُهُمْ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: مَذْهَبُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ: الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي

الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ، وَالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. وَلَمْ يَثْبُتْ فِي طَرِيقِهِمُ اتِّبَاعُ الرِّجَالِ عَلَى انْحِرَافٍ، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اتِّبَاعُ الرِّجَالِ، شَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالِ. وَالسَّادِسُ: رَأْيُ نَابِتَةٍ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُمْ أَرَادُوا الْكَلَامَ فِيهِ وَالْعَمَلَ بِحَسْبِهِ. ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى تَقْلِيدِ بَعْضِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَخَذُوا عَنْهُمْ فِي زَمَانِ الصِّبَا الَّذِي هُوَ مَظِنَّةٌ لِعَدَمِ التَّثَبُّتِ مِنَ الْآخِذِ أَوِ التَّغَافُلِ مِنَ الْمَأْخُوذِ عَنْهُ. ثُمَّ جَعَلُوا أُولَئِكَ الشُّيُوخَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَنَسَبُوا إِلَيْهِمْ مَا نَسَبُوا بِهِ مِنْ خَطَإٍ، أَوْ فَهِمُوا عَنْهُمْ عَلَى غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا سُؤَالٍ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَسْأَلَةِ الْمَرْوِيَّةِ، وَرَدُّوا جَمِيعَ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَوَّلِينَ مِمَّا هُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، كَمَسْأَلَةِ " الْبَاءِ " الْوَاقِعَةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ؛ فَإِنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ تَظَاهَرَ بِالِانْتِصَابِ لِلْإِقْرَاءِ زَعَمَ أَنَّهَا الرَّخْوَةُ الَّتِي اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ - وَهُمْ أَهْلُ صِنَاعَةِ الْأَدَاءِ، وَالنَّحْوِيُّونَ أَيْضًا - وَهُمُ النَّاقِلُونَ عَنِ الْعَرَبِ - عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَأْتِ إِلَّا فِي لُغَةٍ مَرْذُولَةٍ لَا يُؤْخَذُ بِهَا وَلَا يُقْرَأُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَلَا نُقِلَتِ الْقِرَاءَةُ بِهَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ الشَّأْنِ، وَإِنَّمَا الْبَاءُ الَّتِي يَقْرَأُ بِهَا - وَهِيَ الْمَوْجُودَةُ فِي كُلِّ لُغَةٍ فَصِيحَةٍ - الْبَاءُ الشَّدِيدَةُ، فَأَبَى هَؤُلَاءِ مِنِ الْقِرَاءَةِ وَالْإِقْرَاءِ بِهَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الَّتِي قَرَؤُوا بِهَا عَلَى الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَقُوهُمْ هِيَ تِلْكَ لَا هَذِهِ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عُلَمَاءَ وَفُضَلَاءَ، فَلَوْ كَانَتْ خَطَأً لَرَدُّوهَا عَلَيْنَا. وَأَسْقَطُوا النَّظَرَ وَالْبَحْثَ عَنْ أَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا رَأْسًا؛ تَحْسِينَ ظَنٍّ بِالرِّجَالِ، وَتُهَمَةً لِلْعِلْمِ، فَصَارَتْ بِدْعَةً جَارِيَةً - أَعْنِي الْقِرَاءَةَ بِالْبَاءِ الرَّخْوَةِ - مُصَرَّحًا بِأَنَّهَا الْحَقُّ الصَّرِيحُ، فَنُعَوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ.

وَلَقَدْ لَجَّ بَعْضُهُمْ حِينَ وُجِّهُوا بِالنَّصِيحَةِ فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَكَانَ الْقُرَشِيُّ الْمُقْرِئُ أَقْرَبَ مَرَامًا مِنْهُمْ. حُكِيَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثٍ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ بِقُرْطُبَةَ مُقْرِئًا يُعْرَفُ بِالْقُرَشِيِّ، وَكَانَ لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ قَارِئٌ يَوْمًا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] فَرَدَّ عَلَيْهِ الْقُرَشِيُّ " تَحِيدٌ " بِالتَّنْوِينِ، فَرَاجَعَهُ الْقَارِئُ - وَكَانَ يُحْسِنُ النَّحْوَ - فَلَجَّ عَلَيْهِ الْمُقْرِئُ وَثَبَتَ عَلَى التَّنْوِينِ. فَانْتَشَرَ الْخَبَرُ إِلَى أَنْ بَلَغَ يَحْيَى بْنَ مُجَاهِدٍ الْأَلْبِيرِيَّ الزَّاهِدَ - وَكَانَ صَدِيقًا لِهَذَا الْمُقْرِئِ - فَنَهَضَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ قَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ بَعُدَ عَهْدِي بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى مُقْرِئٍ فَأَرَدْتُ تَجْدِيدَ ذَلِكَ عَلَيْكَ فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَبْتَدِئَ بِالْمُفَصَّلِ فَهُوَ الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِي الصَّلَوَاتِ، فَقَالَ الْمُقْرِئُ: مَا شِئْتَ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ فَلَمَّا بَلَغَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ رَدَّهَا عَلَيْهِ الْمُقْرِئُ بِالتَّنْوِينِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: لَا تَفْعَلْ، مَا هِيَ إِلَّا غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ بِلَا شَكٍّ. فَلَجَّ الْمُقْرِئُ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ مُجَاهِدٍ تَصْمِيمَهُ قَالَ لَهُ: يَا أَخِي إِنِّي لَمْ يَحْمِلْنِي عَلَى الْقِرَاءَةِ عَلَيْكَ إِلَّا لِتُرَاجِعَ الْحَقَّ فِي لُطْفٍ، وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ أَوْقَعَكَ فِيهَا قِلَّةُ عِلْمِكَ بِالنَّحْوِ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ لَا يَدْخُلُهَا التَّنْوِينُ، فَتَحَيَّرَ الْمُقْرِئُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْنَعْ بِهَذَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْمُصْحَفُ. فَأَحْضَرَ مِنْهُ جُمْلَةً فَوَجَدُوهَا مَشْكُولَةً بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَرَجَعَ

الْمُقْرِئُ إِلَى الْحَقِّ. انْتَهَتِ الْحِكَايَةُ. وَيَا لَيْتَ مَسْأَلَتَنَا مِثْلُ هَذِهِ. وَلَكِنَّهُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أَبَوُا الِانْقِيَادَ إِلَى الصَّوَابِ. وَالسَّابِعُ: رَأْيُ نَابِتَةٍ أَيْضًا يَرَوْنَ أَنَّ عَمَلَ الْجُمْهُورِ الْيَوْمَ - مِنِ الْتِزَامِ الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الْاجْتِمَاعِ بِإِثْرِ الصَّلَوَاتِ، وَالْتِزَامِ الْمُؤَذِّنِينَ التَّثْوِيبَ بَعْدَ الْآذَانِ - صَحِيحٌ بِإِطْلَاقٍ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ أَوْ مُوَافَقَتِهَا، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ اجْتِهَادِيٍّ أَوْ تَقْلِيدِيٍّ خَارِجٌ عَنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أُمُورٍ تَخَبَّطُوا فِيهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الْمَعْمُولَ بِهِ فِي الْجُمْهُورِ ثَابِتٌ عَنْ فُضَلَاءَ وَصَالِحِينَ عُلَمَاءَ. فَلَوْ كَانَ خَطَأً لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ. وَهَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ، تُتَّهَمُ الْأَدِلَّةُ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيُحْسَنُ الظَّنُّ بِمَنْ تَأَخَّرَ، وَرُبَّمَا نُوزِعَ بِأَقْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَ، فَيَرْمِيهَا الرَّامِي بِالظُّنُونِ وَاحْتِمَالِ الْخَطَإِ، وَلَا يَرْمِي بِذَلِكَ الْمُتَأَخِّرِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَصْلِ هَذَا الْعَمَلِ الْمُتَأَخِّرِ: هَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ؟ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ أَوْ يَأْتِي بِأَدِلَّةٍ مُحْتَمَلَةٍ لَا عِلْمَ لَهُ بِتَفْصِيلِهَا، كَقَوْلِهِ هَذَا خَيْرٌ أَوْ حَسَنٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] أَوْ يَقُولُ: هَذَا بَرٌّ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] فَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَصْلِ كَوْنِهِ خَيْرًا أَوْ بِرًّا وَقَفَ، وَمَيْلُهُ إِلَى أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بِعَقْلِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ وَبِرٌّ، فَجَعَلَ التَّحْسِينَ عَقْلِيًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الزَّيْغِ، وَثَابِتٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ مِنِ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ طَالَعَ كَلَامَ الْقَرَافِيِّ وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَنَّ الْبِدَعَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ. فَنَقُولُ: هَذَا مِنَ الْمُحْدَثِ الْمُسْتَحْسَنِ. وَرُبَّمَا رُشِّحَ ذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ إِذَا نَظَرُوا فِي مَسْأَلَةٍ مُجْتَهَدٍ فِيهَا فَمَا رَأَوْهُ فِيهَا حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّفَاقُ. عَلَى أَنَّ الْعَوَامَّ لَوْ نَظَرُوا فَأَدَّاهُمُ اجْتِهَادُهُمْ إِلَى اسْتِحْسَانِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنًا حَتَّى يُوَافِقَ الشَّرِيعَةَ. وَالَّذِينَ نَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسُوا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْهُمْ، فَلَا اعْتِبَارَ بِالِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْسَانِ شَيْءٍ وَاسْتِقْبَاحِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَقَّى فِي الدَّعْوَى حَتَّى يَدَّعِيَ فِيهَا الْإِجْمَاعَ مِنْ أَهْلِ الْأَقْطَارِ، وَهُوَ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ قُطْرِهِ، وَلَا بَحَثَ عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْأَقْطَارِ، وَلَا عَنْ تِبْيَانِهِمْ فِيمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَلَا عَرَفَ مِنْ أَخْبَارِ الْأَقْطَارِ خَبَرًا، فَهُوَ مِمَّنْ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا الِاضْطِرَابُ كُلُّهُ مَنْشَؤُهُ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِأَعْمَالِ الْمُتَأَخِّرِينَ - وَإِنْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ - وَالْوُقُوفِ مَعَ الرِّجَالِ دُونَ التَّحَرِّي لِلْحَقِّ. وَالثَّامِنُ: رَأْيُ قَوْمٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ زَمَانَنَا هَذَا - فَضْلًا عَنْ زَمَانِنَا - اتَّخَذُوا الرِّجَالَ ذَرِيعَةً لِأَهْوَائِهِمْ وَأَهْوَاءِ مَنْ دَانَاهُمْ، وَمَنْ رَغِبَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا

عَرَفُوا غَرَضَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ حَاكِمٍ أَوْ فُتْيَا تَعَبُّدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَحَثُوا عَنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا حَتَّى يَجِدُوا الْقَوْلَ الْمُوَافِقَ لِلسَّائِلِ فَأَفْتَوْا بِهِ، زَاعِمِينَ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ لَهُمْ قَوْلُ مَنْ قَالَ: اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ. ثُمَّ مَا زَالَ هَذَا الشَّرُّ يَسْتَطِيرُ فِي الْأَتْبَاعِ وَأَتْبَاعِهِمْ، حَتَّى لَقَدْ حَكَى الْخَطَابِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ: كُلُّ مَسْأَلَةٍ ثَبَتَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ - شَذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا - فَالْمَسْأَلَةُ جَائِزَةٌ، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهِهَا فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَالتَّاسِعُ: مَا حَكَى اللَّهُ عَنِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ قَوْلُهُ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] فَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ - فَقَالَ: يَا عَدِيُّ، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 9] قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ» حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي تَفْسِيرِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قِيلَ لِحُذَيْفَةَ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَا أَحَلُّوا لَهُمْ مِنْ حَرَامٍ اسْتَحَلُّوهُ، وَمَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنْ حَلَالٍ حَرَّمُوهُ، فَتِلْكَ رُبُوبِيَّتُهُمْ.

وَحَكَى عَنْهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي الْعَالِيَةِ. فَتَأَمَّلُوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ! كَيْفَ حَالُ الِاعْتِقَادِ فِي الْفَتْوَى عَلَى الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، بَلْ لِمُجَرَّدِ الْعَرَضِ الْعَاجِلِ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. وَالْعَاشِرُ: رَأْيُ أَهْلِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ، فَإِنَّ مَحْصُولَ مَذْهَبِهِمْ تَحْكِيمُ عُقُولِ الرِّجَالِ دُونَ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا أَهِلُ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، بِحَيْثُ إِنَّ الشَّرْعَ إِنْ وَافَقَ آرَاءَهُمْ قَبِلُوهُ، وَإِلَّا رَدُّوهُ. فَالْحَاصِلُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِهِمْ وَسَائِلَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا ضَلَالٌ، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، وَإِنَّ الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ وَالْحَاكِمَ الْأَعْلَى هُوَ الشَّرْعُ لَا غَيْرُ. ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ رَأَى سَيْرَهُمْ وَالنَّقْلَ عَنْهُمْ وَطَالَعَ أَحْوَالَهُمْ عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا يَقِينًا. أَلَا تَرَى أَصْحَابَ السَّقِيفَةِ لَمَّا تَنَازَعُوا فِي الْإِمَارَةِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَأَتَى الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ «الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ» أَذْعَنُوا لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِمَ يَعْبَؤُوا بِرَأْيِ مَنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى آرَاءِ الرِّجَالِ.

وَلَمَّا أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ بِغَيْرِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِلَّا بِحَقِّهَا فَقَالَ: الزَّكَاةُ حَقُّ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا أَوْ عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ فَتَأَمَّلُوا هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ فِيهِ نُكْتَتَيْنِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ سَبِيلًا إِلَى جَرَيَانِ الْأَمْرِ فِي زَمَانِهِ عَلَى غَيْرِ مَا كَانَ يَجْرِي فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ مِنَ الْمَانِعِينَ إِنَّمَا مَنَعَ تَأْوِيلًا، وَفِي هَذَا الْقِسْمِ وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ لَا فِيمَنِ ارْتَدَّ رَأْسًا، وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَعْذُرْ بِالتَّأْوِيلِ وَالْجَهْلِ، وَنَظَرَ إِلَى حَقِيقَةِ مَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَطَلَبَهُ إِلَى أَقْصَاهُ حَتَّى قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا. . . إِلَى آخِرِهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ إِنَّمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَمْرٍ مَصْلَحِيٍّ ظَاهِرٍ تُعَضِّدُهُ مَسَائِلُ شَرْعِيَّةٌ، وَقَوَاعِدُ أُصُولِيَّةٌ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ الصَّرِيحَ كَانَ عِنْدَهُ ظَاهِرًا، فَلَمْ تَقْوَ عِنْدَهُ آرَاءُ الرِّجَالِ أَنْ تُعَارِضَ الدَّلِيلَ الظَّاهِرَ، فَالْتَزَمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُشِيرُونَ عَلَيْهِ بِالتَّرْكِ إِلَى صِحَّةِ دَلِيلِهِ تَقْدِيمًا لِلْحَاكِمِ الْحَقِّ، وَهُوَ الشَّرْعُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا يَلْقَى هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ فِي طَرِيقِ طَلَبِ الزَّكَاةِ مِنْ مَانِعِيهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ إِذْ لَمَّا امْتَنَعُوا صَارَ مَظِنَّةً لِلْقِتَالِ وَهَلَاكَ مَنْ شَاءَ مِنِ الْفِرْقَتَيْنِ، وَدُخُولَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَلَكِنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَعْتَبِرْ إِلَّا

إِقَامَةَ الْمِلَّةِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَتْ قَبْلُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْعَوَارِضُ الطَّارِئَةُ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ وَشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، نَظِيرَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْذُرْهُمْ فِي تَرْكِ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ خَوْفَ الْعَيْلَةِ، فَكَذَلِكَ لَمْ يَعُدَّ أَبُو بَكْرٍ مَا يَلْقَى الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عُذْرًا يَتْرُكُ بِهِ الْمُطَالَبَةَ بِإِقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ حَسْبَمَا كَانَتْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِرَدِّ الْبَعْثِ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - وَلَمْ يَكُونُوا بَعْدُ مَضَوْا لِوُجْهَتِهِمْ - لِيَكُونُوا مَعَهُ عَوْنًا عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَأَبَى مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَرُدَّ بَعْثًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَوَقَفَ مَعَ شَرْعِ اللَّهِ وَلَمْ يَحْكُمْ غَيْرَهُ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ». وَإِنَّمَا زَلَّةُ الْعَالِمِ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يَخْرُجُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ حُجَّةً عَلَى الشَّرْعِ؟ هَذَا مُضَادٌّ لِذَلِكَ.

وَلَقَدْ كَانَ كَافِيًا مِنْ ذَلِكَ خِطَابُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ وَأَصْحَابِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الْآيَةَ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا، وَلَا تَغْدُ إِمَّعَةً فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: فَسَأَلْتُ سُفْيَانَ عَنِ الْإِمَّعَةِ فَقَالَ: الْإِمَّعَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي يُدْعَى إِلَى الطَّعَامِ فَيَذْهَبُ مَعَهُ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ فِيكُمُ الْيَوْمَ الْمُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ. وَعَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَا كُمَيْلُ: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ، وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. . . . . . . الْحَدِيثَ. إِلَى أَنْ قَالَ فِيهِ: أُفٍّ لِحَامِلِ حَقٍّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ لَا يَدْرِي أَيْنَ الْحَقُّ، إِنْ قَالَ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ

يَدْرِ، مَشْغُوفٌ بِمَا لَا يَدْرِي حَقِيقَتَهُ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنْ فُتِنَ بِهِ، وَإِنَّ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَنْ عَرَفَ اللَّهُ دِينَهُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ لَا يَعْرِفَ دِينَهُ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ، فَيَمُوتُ وَهُوَ مَنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعَمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ، فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ. وَأَشَارَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ يُعْدَمُ فِيهِ الْمُجْتَهِدُونَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَلَا لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا، إِنْ آمَنَ آمَنَ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ. وَهَذَا الْكَلَامُ مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَيَّنَ مُرَادَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ السَّلَفِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ: جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ. قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ. قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ أَهْتَدِي بِهِمَا. يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي حَدِيثِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ حِينَ اسْتُؤْذِنَ لَهُ عَلَى عُمَرَ، قَالَ فِيهِ: فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: يَابْنَ الْخَطَّابِ! وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَقَالَ الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَ عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. وَحَدِيثُ فِتْنَةِ الْقُبُورِ حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ - أَوِ الْمُسْلِمُ - فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ وَآمَنَّا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ مُوقِنٌ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ». وَحَدِيثُ «مُخَاصَمَةِ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ عُمَرَ فِي مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلِهِ لِرَهْطِ الْحَاضِرِينَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ - إِلَى أَنْ قَالَ لِعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ: أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» - إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَرْجَمَةً تَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ الشَّارِعِ

إِذَا وَقَعَ وَظَهَرَ فَلَا خِيَرَةَ لِلرِّجَالِ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِمْ، وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ إِنَّمَا تَكُونُ قَبْلَ التَّبْيِينِ. فَقَالَ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ - وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 38 - 159] وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبْيِينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَشَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ، فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لَأْمَتَهُ قَالُوا أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ». وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، (فَسَمِعَ مِنْهُمَا) حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ، وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ. وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي

الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ. فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ، إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتًا فِي الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. هَذَا جُمْلَةُ مَا قَالَ فِي جُمْلَةِ تِلْكَ التَّرْجَمَةِ مِمَّا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَأْخُذُوا أَقْوَالَ الرِّجَالِ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُمْ وَسَائِلُ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى شَرْعِ اللَّهِ، لَا مِنْ حَيْثُ هُمْ أَصْحَابُ رُتَبٍ أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ ابْنُ مُزَيَّنٍ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ

فصل خاتمة

قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا - وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ - يُتَّبَعُ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. [فَصْلٌ خَاتِمَةٌ] إِذًا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ الرِّجَالِ، فَالْحَقُّ أَيْضًا لَا يُعْرَفُ دُونَ وَسَائِطِهِمْ بَلْ بِهِمْ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ، وَهُمُ الْأَدِلَّاءُ عَلَى طَرِيقِهِ. انْتَهَى الْقَدْرُ الَّذِي وُجِدَ مِنْ هَذَا التَّأْلِيفِ وَلَمْ يُكْمِلْهُ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . هَذَا مَا جَاءَ فِي آخِرِ النُّسْخَةِ الْمَخْطُوطَةِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي مَكْتَبَةِ الشِّنْقِيطِيِّ، وَقَدْ تَمَّ نَسْخُهَا فِي 25 الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 1295 مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

§1/1