الاعتصام للشاطبي ت الشقير والحميد والصيني

الشاطبي، إبراهيم بن موسى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أصل هذا الكتاب رسالة جامعية مقدمة من الطالب محمد بن عبد الرحمن الشقير حصل بها على درجة الماجستير بتقدير ممتاز وذلك في عام 1414 هـ

الاعتصام

حقوق الطبع محفوظة لدار ابن الجوزي الطبعة الأولى محرم 1429 هـ - 2008 م حقوق الطبع محفوظة 1429 هـ, لا يسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إليكتروني يمكن استرجاع الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.

مقدمة التحقيق

المقدمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: فقد حذر الله عز وجل من التفرق والاختلاف بعد الائتلاف، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 105]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)} [يونس: 19]. وقال تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)} [الأنعام: 159]. وقال تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 31، 32]. وذكر الله عز وجل اختلاف بني إسرائيل في التوراة، فقال سبحانه

وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)} [هود: 110]. والاختلاف واقع في هذه الأمة أكثر من غيرها من الأمم. فعن عوف بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار". قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: "الجماعة" (¬1). وقد أمرنا الله عز وجل أن نعتصم بحبله جميعًا ولا نتفرق، فقال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وبيَّن قبل ذلك أن مفتاح الاعتصام وعدم الفرقة هو تقوى الله حق تقاته، فأمر به قبل الأمر بالاعتصام، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}. والذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ليسوا من الذين اتقوا الله حق تقاته، بل هم من الذين اتبعوا أهواءهم، وامتلأت قلوبهم بالبغي والحسد والكبر والهوى وغير ذلك مما ينافي تقوى الله. وقد بيَّن الله عز وجل هؤلاء في مواطن من كتابه، وبين السبب الذي لأجله اختلفوا وتفرقوا، فقال تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة: 213]. ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في النص المحقق (ص 15).

فبين سبحانه وتعالى أن الناس كانوا أمة واحدة، فاختلفوا، وأن سبب الاختلاف بينهم هو البغي والظلم. وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} [آل عمران: 19]. وبيَّن سبحانه وتعالى أن من أسباب البغي والظلم الْمُوقِعِ في الاختلاف: الحسد الذي يجعل الحاسد يرفض الحق وهو يعرفه، ويجادل عن الباطل، فقال سبحانه وتعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109]. ثم بيَّن أن فريقًا من الناس يعرفون سبيل الرشد ولا يتخذونه سبيلاً؛ استكباراً وعناداً، وهذا من الظلم والبغي، وإن يروا سبيل الغي والضلال يتخذوه سبيلاً، ولذلك صرفهم الله عن طريق الحق جزاءً وفاقاً، فقال سبحانه وتعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)} [الأعر اف: 146]. كما بيَّنْ الله عز وجل أن من سننه في خلقه أن يوقع بينهم العداوة والبغضاء إذا تركوا شيئاً من شرعه ولم يعملوا به، فقال سبحانه وتعالى عن النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14]. وقد اختلفت هذه الأمة كما اختلف مَنْ قبلها من الأمم؛ مصداقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" (¬1)، وظهرت فيها الفرق التي أخبر ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في النص المحقق (1/ 16، 2/ 92، 3/ 128، 186، 188).

عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الافتراق، وادَّعت كل فرقة أنها على الحق وما عداها على الباطل. ولكن مع وجود هذا الاختلاف والتفرق، فلا يزال في الأمة طائفة منصورة قائمة بالحق، داعية إليه، لا يضرها من خالفها، ولا من خذلها، إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك. ولذلك اهتم سلف هذه الأمة بالدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، والتحذير من البدع والأهواء، وكثرت أقوالهم ومؤلفاتهم في هذه المسألة. فكُتِبَتْ كتب كثيرة في السنة وبيان منهج السلف الصالح، وفي الرد على أهل الأهواء والبدع. ومن هذه الكتب الكثيرة، كتاب الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "الرد على الجهمية"، وكتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، وكتاب "خلق أفعال العباد" للبخاري، وكتاب "السنة" لابن أبي عاصم، وكتاب "السنة" لمحمد بن نصر المروزي، وكتاب "الشريعة" للآجري، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي، وغير ذلك من كتب السلف رضوان الله عليهم. وبعض هذه الكتب، عُنِيَ فيها مؤلفوها بالكتابة في التحذير من الأهواء والبدع، فألف ابن وضاح القرطبي كتابه "البدع والنهي عنها"، وألف أبو بكر الطرطوشي كتابه "الحوادث والبدع"، وألف أبو شامة كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، ولكن اقتصرت هذه الكتب -في الغالب- على النقل المجرد للنصوص الواردة في التحذير من البدع والنهي عنها، دون تحليل لمعانيها، وتحقيق مسائلها، مما جعل الإمام الشاطبي يقوم بتصنيف كتابه الفذ "الاعتصام"، الذي أشار رحمه الله تعالى فيه إلى هذه الكتب السابقة، ومأخذه عليها، فقال: "وإذا استقام هذا الأصل -أي كَتْبَ العلم لحفظ الدين- فَاحْمِلْ عَلَيْهِ كَتْبَ الْعِلْمِ مِنَ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا إِذَا خِيفَ عَلَيْهَا الِانْدِرَاسُ، زِيَادَةً عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ؛ مِنَ الْأَمْرِ بِكَتْبِ الْعِلْمِ، وأنا

أَرْجُو أَنْ يَكُونَ كَتبُ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي وَضَعْتُ يَدِي فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُ بَابَ الْبِدَعِ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ مُغْفَلاً جِدًّا إِلَّا مِنَ النَّقْلِ الْجَلِيِّ؛ كَمَا نَقَلَ ابْنُ وَضَّاحٍ، أَوْ يُؤْتَى بِأَطْرَافٍ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ بِالتَّفَقُّهِ فِيهِ كَمَا يَنْبَغِي، ولم أجده عَلَى شِدَّةِ بَحْثِي عَنْهُ، إِلَّا مَا وَضَعَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ، وَهُوَ يَسِيرُ فِي جَنْبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَإِلَّا مَا وَضَعَ النَّاسُ فِي الْفِرَقِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، وَهُوَ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْبَابِ وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَأَخَذْتُ نَفْسِي بِالْعَنَاءِ فِيهِ، عَسَى أَنْ يَنْتَفِعَ واضعه، وقارئه، وَنَاشِرُهُ، وَكَاتِبُهُ، وَالْمُنْتَفِعُ بِهِ، وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ ولي ذلك ومُسْدِيه بسعة رحمته" (¬1). انتهي كلامه رحمه الله تعالى. ويمتاز كتاب الشاطبي من غيره من الكتب الأخرى التي ألفت في البدع بميزات عدة، أهمها: 1 - دراسته للآيات والأحاديث والآثار الواردة في معنى البدعة، والتحذير منها، والأمر بلزوم السنة دراسة تحليلية، قائمة على الاستنباط والدقة في الفهم، والتحقيق العلمي للمسائل التي يطرقها. 2 - الترتيب العلمي والتسلسلي لموضوعات الكتاب، مما يساعد القارئ على استيعاب موضوعاته، وفهمها. 3 - قوة الشاطبي العلمية، والعقلية، ورصانة أسلوبه، ودقة عباراته وألفاظه. 4 - شمولية الكتاب لموضوعه، وجمعه لأطراف القضية التي تصدَّى لها، فقد عرَّف البدعة، والمسائل المتعلقة بها، وأسبابها، وذم البدع، وبيَّن سوء منقلب أصحابها، وأن البدع كلها مذمومة، ثم بيَّن مأخذ أهل البدع في الاستدلال، وحكم البدع الحقيقية والإضافية، وبيَّن أن البدع ليست على مرتبة واحدة، وناقش مسألة: هل البدع تدخل في الأمور العادية أو هي خاصة بالأمور العبادية فقط، وعقد فصلاً مُهِمّاً عن الفرق بين البدع ¬

_ (¬1) (3/ 16).

والمصالح المرسلة والاستحسان، ثم درس حديث الافتراق دراسة وافية من حيث معناه، وما يندرج تحته من مسائل مُهِمَّة، وأخيرًا عقد باباً لبيان الصراط المستقيم الذي ينبغي للمسلم سلوكه، وهذا ترتيب دقيق، يدل على عظم فقه صاحبه رحمه الله تعالى. 5 - مناقشته للشُّبَه التي تمسك بها أهل البدع، وجعلوها أدلة لبدعهم، وقيامه بنقضها وبيان خطأ الاستدلال بها، وأنها لا تخفي على الراسخين. وقد طبع الكتاب عدة طبعات، معظمها مليئة بالسقط والتصحيف والأخطاء (¬1)، لا يزال معها الكتاب بحاجة إلى خدمة؛ من ضبط نصٍّ، وتخريج أحاديث وآثار، وتعليق على ما لا بُدَّ منه، وغير ذلك؛ مما دفعنا إلى إعادة تحقيقه، والتعليق عليه، فقام الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشقير بكتابة قسم الدراسة من بدايته إلى نهاية المبحث الخامس: (قيمة الكتاب العلمية)، وتحقيق الأبواب الثلاثة الأولى. وقام الدكتور سعد بن عبد الله آل حميّد بتحقيق الباب الرابع والخامس والسادس والسابع. وقام الدكتور هشام بن إسماعيل الصيني بتحقيق الباب الثامن والتاسع والعاشر، وكتابة الملحق الخاص بالفرق في نهاية الكتاب. وما سوى ذلك فهو عمل مشترك بين المحققين. وأصل هذا العمل كان رسائل علمية بجامعة أم القرى، فالقسم الأول هو أطروحه الدكتور محمد الشقير للماجستير، وقد نوقشت بتاريخ 1415 هـ، والقسم الثالث هو أطروحة الدكتور هشام الصيني للماجستير أيضاً، وقد نوقشت بتاريخ 1413 هـ. وأما القسم الثاني فلم يتم الاتفاق بين دار ابن الجوزي وبين الطالب ¬

_ (¬1) ولا نستثني من ذلك سوى الطبعة التي قام بتحقيقها الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان فهي أحسن الطبعات السابقة؛ كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

الذي قام بتحقيقه، فقام الدكتور سعد الحميد بتحقيقه، وكان هذا من أسباب تأخير صدور هذه الطبعة. وفيما يلي وصف لخطة العمل في هذا الكتاب: فقد قسمنا الكتاب إلى قسمين، تعقبها الفهارس. * القسم الأول: الدراسة، وفيه بابان: - الباب الأول: التعريف بالمؤلف، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: عصر المؤلف، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الحالة السياسية. المبحث الثاني: الحالة الاجتماعية. المبحث الثالث: الحالة العلمية. الفصل الثاني: حياة المؤلف الشخصية، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: اسمه وكنيته ونسبه ونسبته. المبحث الثاني: مولده ونشأته وموطنه. المبحث الثالث: محنته وما اتهم به. المبحث الرابع: وفاته. الفصل الثالث: حياة المؤلف العلمية، وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: طلبه للعلم وشيوخه. المبحث الثاني: تلاميذه. المبحث الثالث: ثقافته ومؤلفاته. المبحث الرابع: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه. المبحث الخامس: عقيدته. - الباب الثاني: التعريف بالكتاب وطبعاته ونُسَخِه الْخَطِّيَّة، وفي فصلان:

منهجنا في تحقيق الكتاب

الفصل الأول: التعريف بالكتاب، وفيه خمس مباحث: المبحث الأول: اسم الكتاب. المبحث الثاني: موضوعه. المبحث الثالث: سبب تأليفه. المبحث الرابع: توثيق نسبته إلى مؤلِّفه. المبحث الخامس: قيمته العلمية. الفصل الثاني: التعريف بطبعات الكتاب، ونُسَخِه الخطّيَّة، وفيه مبحثان: المبحث الأول: التعريف بطبعات الكتاب. المبحث الثاني: التعريف بنسخ الكتاب الخطّيَّة. * القسم الثاني: النص المحقق. منهجنا في تحقيق الكتاب أولاً: المقابلة بين النسخ: قمنا بالمقابلة بين النسخ، واتبعنا طريقة اختيار النص الصحيح، وذلك لعدم توفر نسخة يمكن الاعتماد عليها وجعلها أصلاً، مع ملاحظة ما يلي: أ- لا نشير إلى الفروق في لفظ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والترضي عن الصحابة رضي الله عنهم، بل نثبت أكمل صيغة وردت في المخطوطات. ب- لا نشير إلى الفروق بين النسخ في: (قال الله تعالى) و (قال تعالى)، بل نثبت أكمل صيغة وردت في المخطوطات. جـ- بالنسبة إلى الفروق بين نسخ الاعتصام والكتب التي نقل منها الشاطبي، لا نشير إلا إلى الفروق المهمة بينهما. د- إذا أجمعت النسخ على كلمة أو جملة يظهر -من غير جزم- أنها

ثانيا: التعليق:

خطأ أو فيها سقط، فنثبت ما وجدناه في النسخ في الأغلب، ونشير في الهامش إلى الكلمة أو الجملة التي نظن أنها أقرب إلى الصواب. أما إذا أجمعت النسخ على خطأ أو سقط جزماً، وكان الخطأ في نقل نقله الشاطبي عن بعض الكتب، ووجدنا الصواب في الكتب التي نقل منها، فنثبت الصواب ونشير إلى ذلك في الهامش. ثانياً: التعليق: علقنا على المسائل المهمة التي يُحتاج إليها في فهم النص، أو قد تُشكل على بعض القراء، ولم نعلق على كل مسألة ترد خشية إثقال الحواشِي بالتعليقات التي لا يحتاج إليها -في الغالب- معظم طلبة العلم. ثالثاً: الآيات القرآنية: قمنا بمراجعة الآيات القرآنية، وعزوها إلى سورها، مع ذكر أرقام الآيات. رابعاً: الأحاديث والآثار: خرجنا الأحاديث والآثار من الكتب المشهورة كالصحيحين والسنن والمسانيد، وأما بالنسبة إلى صحة الحديث، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما، اكتفينا بذلك، وإن كان في غير الصحيحين، ذكرنا حكم العلماء عليه -إن وجد- بالصحة أو الضعف، سواء من العلماء السابقين أو المعاصرين، وقد نجتهد في الحكم على الحديث والأثر أحياناً. خامساً: عزو الأقوال والنصوص: قمنا بعزو النصوص -التي نقلها الشاطبي- إلى الكتب المطبوعة حسب الاستطاعة. سادساً: ترجمة الأعلام: ترجمنا ترجمة مختصرة للأعلام غير المشهورين.

سابعا: شرح الكلمة الغريبة:

سابعاً: شرح الكلمة الغريبة: قمنا بشرح الكلمات الغريبة من معاجم اللغة، وضبطنا بالشكل الكلمات التي تحتاج إلى ضبط. ثامناً: التعريف بالفِرَق: عرفنا بالفرق من خلال كتب الفرق المشهورة، وذكرنا التعريف في هامش النص، ما عدا الفرق التي سردها الشاطبي أثناء كلامه على مسألة تعيين الفرق في الباب التاسع، وهي أكثر من اثنتين وسبعين فرقة، فقد أفرد لها محقق الباب التاسع ملحقاً خاصّاً في نهاية البحث. تاسعاً: التعريف بالبلدان والأماكن: قمنا بالتعريف بالبلدان والأماكن غير المشهورة، من خلال كتب معاجم البلدان. عاشراً: الفهارس: قمنا بوضع فهارس علمية تساعد الباحث في الكشف عن مسائل الكتاب، وهي: 1 - فهرس الآيات القرآنية. 2 - فهرس الأحاديث النبوية. 3 - فهرس الآثار. 4 - فهرس الأعلام. 5 - فهرس الفرق. 6 - فهرس الأماكن والبقاع. 7 - فهرس موضوعات الكتاب. وبعد: فهذا ما استطعنا من جهد، فما كان فيه من صواب فهو بتوفيق

من الله عز وجل، وما كان من خطأ فهو من قصور البشر وعجزهم، ولا نقول إلا كما قال الشاطبي رحمه الله: "فَالْإِنْسَانُ -وَإِنْ زَعَمَ فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ وَقَتَلَهُ عِلْمًا- لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ إِلَّا وَقَدْ عَقَلَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَقَلَ، وَأَدْرَكَ مِنْ عِلْمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ أَدْرَكَ قَبْلَ ذَلِكَ، كُلُّ أَحَدٍ يُشَاهِدُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ عِيَانًا، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَعْلُومٍ دون معلوم، ولا بذات دون صفة، ولا فعل دون حكم" (¬1). و"المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه" (¬2). وأخيراً، فإنا نحمد الله عز وجل ونشكره على توفيقه لنا في إتمام هذا العمل. ثم إنّا نشكر كل من ساعدنا في إتمام هذا الجهد، ونسأل الله عز وجل أن يكتب لهم الأجر ويحط عنهم الوزر، وأن يتقبل عملنا خالصاً لوجهه، ويغفر لنا خطأنا وتقصيرنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. المحققون ¬

_ (¬1) انظر النص المحقق (ص 286). (¬2) "القواعد" لابن رجب (ص 3).

الدراسة

القسم الأول الدراسة * وفيه بابان: الباب الأول: التعريف بالمؤلف. الباب الثاني: التعريف بالكتاب وطبعاته ونُسخِه الخطيّة.

الباب الأول التعريف بالمؤلف

الباب الأول التعريف بالمؤلف * وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: عصر المؤلِّف. الفصل الثاني: حياة المؤلف الشخصية. الفصل الثالث: حياة المؤلف العلمية.

الفصل الأول عصر المؤلف

الفصل الأول عصر المؤلِّف * وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الحالة السياسية. المبحث الثاني: الحالة الاجتماعية. المبحث الثالث: الحالة العلمية.

المبحث الأول الحالة السياسية

المبحث الأول الحالة السياسية عاش الإمام الشاطبي رحمه الله في القرن الثامن الهجري، وكانت حياته في مدينة غرناطة (¬1) الأندلسية، والتي كان يحكمها في ذلك الوقت ملوك بني نصر، ويسمون كذلك ملوك بني الأحمر، ويعود نسبهم إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة الأنصاري - رضي الله عنه - (¬2). وقد حكمت هذه الدولة مملكة غرناطة ما يزيد على قرنين ونصف، حيث نشأت مملكتهم عام 635 هـ على يد مؤسس الدولة الغالب بالله أبي عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن نصر بن قيس الخزرجي الأنصاري، وانتهت عام 897 هـ على أيدي نصارى إسبانيا (¬3). وقد عاشت هذه الدولة اضطرابات سياسية بين ملوكها، بعد مؤسسها الأول، فها هو لسان الدين ابن الخطيب (¬4) أحد وزراء الدولة المقربين يصور لنا ما وقع بين ملوكها بعد مؤسسها الأول فيقول: " ... وولِّي بعده ولده ¬

_ (¬1) غرناطة: بفتح أوله وسكون ثانيه، ثم نون، وبعد الألف طاء مهملة، وأغرناطة بالألف في أوله أسقطها العامة، وهي أقدم مدن كورة البيرة من أعمال الأندلس وأعظمها وأحسنها وأحصنها. انظر: "معجم البلدان" لياقوت الحموي (4/ 195)، "الإحاطة في أخبار غرناطة" للسان الدين ابن الخطيب (1/ 91). (¬2) "الإحاطة في أخبار غرناطة" (1/ 119). (¬3) "نهاية الأندلس" لعبد الله عنان (ص 139). (¬4) هو محمد بن عبد الله بن سعيد المعروف بلسان الدين ابن الخطيب، ذو الوزارتين، أديب، شاعر، مؤرخ، مشارك في الطب وغيره، ومن كتبه "الإحاطة في أخبار غرناطة" و"اللمحة البدرية في الدولة النصرية" وغيرهما. انظر: "نفح الطيب" للمقري (8/ 130)، "شجرة النور الزكية" لمحمد مخلوف (ص 230).

وسَمِيُّه السلطان -ثاني ملوكها وعظيمها- أبو عبد الله، وطالت مدته إلى أن توفي عام احد وسبع مئة، وولِّي بعده ولده وسَمِيُّه أبو عبد الله محمد، وخُلع يوم الفطر من عام ثمانية وسبع مئة، وتوفي في شوال عام أحد عشر وسبع مئة، وولِّي بعده خالعه أخوه نصر أبو الجيوش، وارتبك أمره، وطلب الأمر ابن عم أبيه السلطان أبو الوليد إسماعيل بن الفرج بن إسماعيل صنو الأمير الغالب بالله أول ملوكهم، فتغلب على دار الإمارة في ثاني ذي القعدة من عام ثلاثة عشر وسبع مئة، وانتقل نصر مخلوعاً إلى مدينة وادي آشي، وتوفي عام اثنين وعشرين وسبع مئة، وتمادى ملك السلطان أبي الوليد إلى الثالث والعشرين من رجب عام خمسة وعشرين وسبع مئة، ووثب عليه ابن عمه في طائفة من قرابته فقتلوه ببابه، وخاب فيما أملوه سعيهم، فقتلوا كلهم يومئذٍ، وتولَّى أمره ولده محمد، واستمر إلى ذي الحجة من عام أربعة وثلاثين وسبع مئة، وقتل بظاهر جبل الفتح بأيدي جنده من المغاربة، وتولَّى الأمر بعده أخوه أبو الحجاج يوسف، ودام ملكه إلى يوم عيد الفطر من عام خمسة وخمسين وسبع مئة، وترامى عليه في صلاته ممرور بمدية في يده فقتله، وقدم لأمره الأكبر من أولاده ... " (¬1). وابنه هذا هو محمد بن أبي الحجاج، وقد سلب منه ملكه ثم عاد إليه عام 763 هـ، "واستمر ملكه إلى أن توفي عام 793 هـ، ودامت فتن داخلية حتى سقطت مملكتهم عام 897 هـ على أيدي نصارى إسبانيا" (¬2). ولا يخفي ما يصوره نص ابن الخطيب السابق من الاضطرابات السياسية الداخلية بين ملوك هذه الدولة. وقد عانت هذه الدولة من العدو الخارجي، وهم النصارى الإسبان الذين كانوا يتربصون بهم، ولا يفترون عن مهاجمتهم إلا إذا انشغلوا بالقتال فيما بينهم، وجهاد هذه الدولة ضد النصارى من أروع حسناتها، حيث ¬

_ (¬1) "الإحاطة في أخبار غرناطة" (1/ 119)، "اللمحة البدرية" (ص 33 - 34). (¬2) "نهاية الأندلس" لعبد الله عنان (ص 27 - 54, 139).

واجهت النصارى ما يزيد على قرنين، مع إحاطة العدو بها، ومع بعدها عن ديار المسلمين. وكان من حسنات هذه الدولة إيواؤها للمسلمين الذين كانت تسقط مدنهم في أيدي النصارى. وقد كان للعلماء دور هام في الساحة السياسية، ويبرز ذلك في توعيتهم للناس، وتحذيرهم من هذا العدو، وتحريك حمياتهم. قال في أزهار الرياض: "لما تقلص الإسلام بالجزيرة، واسترد الكفار أكثر أمصارها وقراها على وجه العنوة والصلح والاستسلام، لم يزل العلماء والكتاب والوزراء يحركون حميات ذوي البصائر والأبصار، ويستنهضون عزماتهم في كل الأمصار" (¬1). ولم يقتصر علماء الأندلس على الجهاد باللسان والقلم، بل شاركوا بأنفسهم في المعارك ضد النصارى، ومن ذلك معركة طريف (¬2) وغيرها. وقد عاصر الإمام الشاطبي رحمه الله ما يقارب أربعة ملوك من ملوك هذه الدولة بداية من السلطان أبي الوليد إسماعل بن فرج 722 - 725 هـ، ونهاية بمحمد بن يوسف بن إسماعيل 755 - 793 هـ. ولا يظهر من ترجمة الإمام الشاطبي أنه كان ذا عناية بما يدور في الواقع السياسي، وإنما كان شغله العلم والتعليم، والدعوة إلى السنة والنهي عن البدع، والاجتهاد في الإصلاح. ولا شك أن ذلك من أعظم أسباب قيام الدول وبقائها. ¬

_ (¬1) "أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض" للمقري (1/ 63). (¬2) هي موقعة وقعت بين المسلمين والنصارى في الأندلس سنة (741 هـ)، وقد استشهد في هذه المعركة عدد كبير من العلماء، وقد انتصر المسلمون فيها. انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" (4/ 332)، "نفح الطيب" (5/ 14).

المبحث الثاني الحالة الاجتماعية

المبحث الثاني الحالة الاجتماعية لقد صور لنا لسان الدين ابن الخطيب الحالة الاجتماعية في مملكة غرناطة تصويراً حسناً، ولا سيما أنه كان من أهلها. فقد تكلم عن سكان مملكة غرناطة من حيث قوتهم، وعملتهم، وملابسهم، وحُلِيُّ نسائهم، وأجناسهم البشرية، وتعداد قراهم، وأحوالهم الدينية، بل حتى أوصافهم الخلقية. فعن أقواتهم قال رحمه الله: "وقوتهم الغالب البر الطيب عامة العام ... ، وفواكههم اليابسة عامة العام متعددة، يدخرون العنب سليماً من الفساد إلى شطر العام، إلى غير ذلك من التين والزبيب والتفاح .. ، إلى غير ذلك مما لا ينفد ولا ينقطع مدده إلا في الفصل الذي يُزهد في استعماله" (¬1). ويقول رحمه الله عن عملتهم: "وصرفهم فضة خالصة، وذهب إبريز طيب محفوظ" (¬2). وعن خيرات بلادهم قال رحمه الله: "ولها معادن جوهرية من ذهب وفضة ورصاص وحديد .. ، وقال بعض المؤرخين: ومن كرم أرضنا أنها لا تعدم زريعة بعد زريعة، ورعياً بعد رعي طول العام، وفي عمالتها المعادن الجوهرية .. " (¬3)، ثم ذكر خيراتها المتعددة. وقال عن قرى هذه المملكة: "وتنيف أسماؤها على ثلاث مئة قرية ما ¬

_ (¬1) انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" لابن الخطيب (1/ 137). (¬2) نفس المرجع (1/ 137). (¬3) نفس المرجع (1/ 98 - 99).

عدا ما يجاور الحضرة من كثير من قرى الإقليم، أو ما استضافته الحصون المجاورة" (¬1). ثم شرع في ذكرها. وقال في موضع آخر: "وقد ذكرنا أن أكثر هذه القرى أمصار فيها ما يناهز خمسين خطبة، تنصب فيها لله المنابر، وترفع الأيدي، وتتوجه الوجوه" (¬2). وقال عن ألسنتهم وأجناسهم: "وألسنتهم فصيحة عربية، ويتخللها غرب كثير، وتغلب عليهم الإمالة، وأخلاقهم أبية في معاني المنازعات، وأنسابهم عربية، وفيهم من البربر والمهاجرة كثير" (¬3). ولقد جمعت مملكة غرناطة كثيراً من مسلمي الأندلس الذين كانوا يأوون إليها بسبب احتلال النصارى لبلادهم مما أدى إلى استثمار ما في هذه البلاد من خيرات وافرة. وأما تجارة غرناطة فقد كانت تجارة واسعة بسبب الثغور الجنوبية البحرية، لا سيما مالقة (¬4) والمريّة (¬5)، فهي من أغنى الثغور الأندلسية وأزخرها بالحركة التجارية، فاستطاعت غرناطة أن تربط صلات اقتصادية تجارية مع دول أخرى" (¬6). ويبدو أن الوضع الاقتصادي في زمن الإمام الشاطبي قد اعتراه الضعف حتى إن بيت المال أصبح عاجزاً عن تجديد بناء أسوار الحصون، واختلف ¬

_ (¬1) نفس المرجع (1/ 126). (¬2) انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" (1/ 132). (¬3) نفس المرجع (1/ 134). (¬4) مالقة: بفتح اللام والقاف، مدينة بالأندلس عامرة من أعمال (رية) سورها على شاطىء البحر بين الجزيرة الخضراء والمرية. "معجم البلدان" (5/ 43). (¬5) المرية: بالفتح ثم الكسر وتشديد الياء بنقطتين من تحتها، وهي مدينة كبيرة من كورة البيرة من أعمال الأندلس من بناء الأمير الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد. انظر: "معجم البلدان" (5/ 119 - 120). (¬6) انظر: "نهاية الأندلس" لعبد الله عنان (ص 326).

الفقهاء هل يجوز توظيف ذلك على الأهالي؟ وكان الإمام الشاطبي ممن أفتى بالجواز اعتماداً على مبدأ المصلحة المرسلة (¬1). ومن مظاهر الضعف المالي: استفتاء بعضهم للإمام الشاطبي: "هل يباح لأهل الأندلس بيع الأشياء التي منع العلماء بيعها من أهل الحرب كالسلاح وغيره، لكونهم محتاجين إلى النصارى في أشياء أخرى من المأكول والملبوس وغير ذلك؟ أم لا فرق بين أهل الأندلس وغيرهم من أرض الإسلام؟ ... " (¬2). ولعل سبب ما وقع فيه أهل الأندلس من الضيق: بعدهم عن الله والإسراف في التنعم، فقد وصفهم ابن الخطيب بالعناية البالغة بالتّزيُّن، كما ذكر فشو الغناء في بلادهم؛ حيث قال عن نسائهم: "وقد بلغن من التفنن في الزينة لهذا العهد، والمظاهرة بين المصبغات، والتنفيس بالذهبيات والديباجيات، والتماجن في أشكال الحلي، إلى غاية نسأل الله أن يغض عنهن فيها عين الدهر، ويكفكف الخطب، ولا يجعلها من قبيل الابتلاء والفتنة، وأن يعامل جميع من بها بستره، ولا يسلبهم خفي لطفه بعزته وقدرته" (¬3). وقال عن فشو الغناء عندهم: "والغناء بمدينتهم فاش حتى في الدكاكين التي تجمع صنائعها كثيراً من الأحداث ... " (¬4). وكانت البدع فاشية أيضاً في هذا المجتمع، فقد قال الإمام الشاطبي في مقدمة هذا الكتاب: " .. لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتِ الْبِدَعُ وَعَمَّ ضَرَرُهَا، وَاسْتَطَارَ شَرَرُهَا، وَدَامَ الْإِكْبَابُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالسُّكُوتُ من المتأخرين على الْإِنْكَارِ لَهَا، وَخَلَفَتْ بَعْدَهُمْ خُلُوفٌ جَهِلُوا أَوْ غفلوا عن القيام بفرض القيام ¬

_ (¬1) انظر: "فتاوى الإمام الشاطبي" (ص 28)، وقريب من هذا ما في "الاعتصام" للشاطبي (2/ 121 - 123). (¬2) انظر: "فتاوى الإمام الشاطبي" (ص 144 - 147). (¬3) انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" (1/ 139). (¬4) المصدر السابق (1/ 137).

فِيهَا، صَارَتْ كَأَنَّهَا سُنَنٌ مُقَرَّرَاتٌ، وَشَرَائِعُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ مُحَرَّرَاتٌ، فَاخْتَلَطَ الْمَشْرُوعُ بِغَيْرِهِ، فَعَادَ الرَّاجِعُ إِلَى مَحْضِ السُّنَّةِ كَالْخَارِجِ عَنْهَا كَمَا تقدم، فالتبس بعضها ببعض ... " (¬1). ولا شك أن فشو المعاصي والبدع، وركون الناس إلى الدنيا سبب في زوال النعم، وقد كانت هذه الأمور سبباً في ذهاب دولة المسلمين بالأندلس. ¬

_ (¬1) انظر النص المحقق (ص 36).

المبحث الثالث الحالة العلمية

المبحث الثالث الحالة العلمية لقد كان الزمن الذي عاش فيه الإمام الشاطبي من أفضل الأزمنة العلمية، سواء في المشرق أو في المغرب، فقد عاش الإمام الشاطبي في القرن الثامن الهجري، وهو قرن حافل بشخصيات علمية ومؤلفات رائعة في جميع الفنون. ففي المشرق كان زمن الإمام ابن القيم، والحافظ الذهبي، والإمام ابن كثير، والإمام ابن رجب، وأمثال هؤلاء العلماء الكبار. وفي المغرب أيضاً كان المستوى العلمي في أروع مراحله، إذ نجد العلماء الكبار، والفنون المتعددة، والمناظرات العلمية، واهتمام الأمراء بالعلم، وغير ذلك من صور الرقي العلمي. يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: "وكان العلماء من سائر الفنون متوافرين في بلاد الأندلس. وهذه طائفة كانت في عصر واحد أواخر القرن الثامن، من سنة 772 حتى 800 ما منها إلا إمام يُعْنَى إليه ويعتمد في علمه عليه؛ مثل ابن جُزَيّ وابن لب وابن الفخار وابن الجياب وابن عاصم في الفقهاء، وأبي حيان وابن الصايغ في النحاة، والشاطبي في الأصول وفلسفة الشريعة، وابن الخطيب وابن زمرك والوزير ابن عاصم في رجال القلم والسياسة، وابن هذيل الحكيم في الفلسفة. إنما كان القضاء الأخير على العلم بالأندلس في القرن التاسع" (¬1). وقد كان لاهتمام أمراء الدولة النصرية بالعلم وتشجيعهم لأهله دور ¬

_ (¬1) "أليس الصبح بقريب" لابن عاشور (ص 79).

هام في رفع المستوى العلمي في مملكتهم، خاصة في عهد السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري المتوفي سنة 755 هـ، فقد كان عالماً أديباً شغوفاً بالعلوم (¬1). واشتهر الأمير أبو الوليد إسماعيل بن السلطان يوسف الثاني المتوفي سنة 805 هـ بحبه للأدباء والعلماء، وله في الأدب كتاب "نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان"، وقد ترجم فيه لأعلام عصره في الشعر والأدب. وأما عن المراكز العلمية في مملكة غرناطة، فاشتهر منها مركزان: الأول: الجامع الأعظم، وقد كان مقصداً لطلاب العلم، كما كان مقصداً للعباد. ومن أشهر مدرسيه: أبو سعيد فرج بن لب، وأبو بكر أحمد بن جُزَيّ. الثاني: المدرسة النصرية، وقد أنشئت هذه المدرسة في عهد السلطان يوسف أبي الحجاج المتوفي سنة 755 هـ، وقد قال عنها لسان الدين ابن الخطيب: "جاءت نسيجة وحدها بهجة وصدراً وظرفاً وفخامة" (¬2). وممن قام بالتدريس فيها محمد بن علي بن أحمد الخولاني المعروف بابن الفخار المتوفي سنة 754 هـ (¬3)، وفرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي المتوفي سنة 783 هـ (¬4). وقد كان من أسباب هذه النهضة العلمية في غرناطة: تجمع مسلمي الأندلس فيها بسب استيلاء النصارى على مدنهم، فاجتمعت في غرناطة ثقافات عديدة، وقدرات علمية متنوعة. وأما المذهب السائد عند أهل الأندلس فهو مذهب الإمام مالك رحمه الله (¬5)، فقد كان هو العمدة في الفتوى والقضاء (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" لابن الخطيب (1/ 20). (¬2) نفس المرجع (1/ 509). (¬3) نفس المرجع (3/ 35). (¬4) نفس المرجع (4/ 254). (¬5) انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" لابن الخطيب (1/ 134). (¬6) "فتاوى الإمام الشاطبي" (ص 31).

الفصل الثاني حياة المؤلف الشخصية

الفصل الثاني حياة المؤلف الشخصية * وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: اسمه، وكنيته، ونسبه. المبحث الثاني: مولده، ونشأته، وموطنه. المبحث الثالث: محنته، وما ابتلي به، واتهامه من خصومه. المبحث الرابع: وفاته.

المبحث الأول اسمه، وكنيته، ونسبه

المبحث الأول اسمه، وكنيته، ونسبه أجمع من ترجم للإمام الشاطبي على أن اسمه: إبراهيم بن موسى بن محمد. ولم يزيدوا على هذا الاسم أحداً. أما كنيته: فقد أجمعوا أيضاً على أن كنيته: أبو إسحاق. وأما نسبه: فهو من قبيلة لَخْم، وهي قبيلة من قبائل اليمن، ومنهم كانت ملوك العرب في الجاهلية، وهم آل عمرو بن عدي بن نصر الَّلخْمي (¬1). وأما نسبته: فهو الغرناطي الشاطبي. فأما الغرناطي فنسبة إلى مملكة غرناطة التي عاش بها، وتقدم الكلام عليها. وأما الشاطبي فنسبة إلى مدينة شاطبة، وهي مدينة في شرق الأندلس (¬2). ولا نعلم سبب نسبته إلى شاطبة، فلعلها كانت مهاجر أسرته قبل غرناطة. ¬

_ (¬1) انظر:"الأنساب" للسمعاني (5/ 132)،"الصحاح" للجوهري (20285)، "معجم قبائل العرب" لكحالة (3/ 1012). (¬2) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (3/ 309).

المبحث الثاني مولده، ونشأته، وموطنه

المبحث الثاني مولده، ونشأته، وموطنه أما مولده: فلم يذكر أحد ممن ترجم له سنة ولادته ولا مكانها، بل إن منهم من نص على أنه لم يقف عليها، كما قال أحمد بابا التنبكتي (¬1) -مع سعة ترجمته-: "ولم أقف على مولده رحمه الله" (¬2). وقد اجتهد الشيخ محمد أبو الأجفان في تقدير سنة ولادته فقال: "لم يعين المترجمون لأبي إسحاق .. الشاطبي سنة ولادته، ويمكننا أن نقدر الفترة التي ولد فيها، استنتاجاً من تاريخ وفاة شيخه أبي جعفر أحمد بن الزيات الذي كان أسبق شيوخه وفاة، فقد كانت وفاته سنة 728 هـ، وهي السنة التي يكون فيها مترجمنا يافعاً، وذلك مما يجعلنا نرجح أن ولادته كانت قبيل سنة 720 هـ" (¬3). وأما نشأته وموطنه: فقد كانت في غرناطة آخر مملكة للمسلمين بالأندلس، فبها نشأ، وبها طلب العلم، وفيها أصبح عالماً مفتياً. ولم يذكر الذين ترجموا له المسائل الدقيقة في نشأته، ولا ذكروا أسرته، وإنما ركزوا على ذكر شيوخه وسماعاته رحمه الله. ولم يذكر عن الإمام الشاطبي أنه رحل من غرناطة. ¬

_ (¬1) هو أحمد بن أحمد بن أحمد بن عمر بن محسن الصنهاجي الماسي السوداني التنبكتي، التكروري المالكي، فقيه عالم مؤرخ، ومن مؤلفاته: "كفاية المحتاج"، و"نيل الابتهاج". توفي سنة (1032 هـ). انظر: "خلاصة الأثر" للمحبي (1/ 2170)، "شجرة النور الزكية" (ص 298). (¬2) "نيل الابتهاج" (ص 49). (¬3) انظر: "مقدمة الأستاذ محمد أبو الأجفان لفتاوى الشاطبي" (ص 32).

المبحث الثالث محنته، وما ابتلي به، واتهامه من خصومه

المبحث الثالث محنته، وما ابتلي به، واتهامه من خصومه كان لتصدي الإمام الشاطبي لأنواع من البدع التي أَلِفَها الناس واعتادوها أثره في المواجهة، ليس مع العامة والدهماء، بل ومع بعض العلماء، ومنهم من كان من شيوخه، وكان مما اتهم به رحمه الله: 1 - القول بأن الدعاء لا ينفع وأنه لا فائدة فيه (¬1): وسبب هذه التهمة أن الإمام الشاطبي لم يلتزم الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الإمامة (¬2)، وقد كان الناس في الأندلس يلتزمونه في ذلك الزمن. وممن رمى الإمام الشاطبي بهذه التهمة شيخه أبو سعيد ابن لب (¬3). ¬

_ (¬1) وهذا القول عزاه شارح الطحاوية إلى قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة، محتجِّين بأن المشيئة الإلهية إن اقتضت حصول المطلوب، فلا حاجة إلى الدعاء، وإن لم تقتضه فلا فائدة فيه أيضاً. وقد بين بطلان قولهم بضرورة الدين والعقل والحس والفطرة، وردَّ قولهم بمنع المقدمتين حيث ذكر قسماً ثالثاً وهو أن تقتضيه المشيئة بشرط لا تقتضيه مع عدمه، وقد يكون الدعاء من شرطه، كما توجب الثواب مع العمل الصالح .. ، ثم إنه إذا لم يحصل المطلوب فقد يحصل غيره للسائل من خيري الدنيا والآخرة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجِّل له دعوته، أو يدَّخِر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: إذاً نُكْثِر، قال: الله أكثر" "المسند" (3/ 18)، وصححه الألباني في تعليقه على "شرح الطحاوية" (ص 462)، وانظر: "شرح الطحاوية" (ص 460 - 462). (¬2) انظر النص المحقق (ص 25). (¬3) انظر كلامه في: "المعيار المعرب" للونشريسي (6/ 369 - 370).

2 - اتهم رحمه الله بالرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم:

وقد رد الإمام الشاطبي على أصحاب هذا القول، وبيَّن أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا من قوله ولا إقراره، كما لم يفعله أحد من السلف (¬1). ورأي الإمام الشاطبي في هذه المسألة هو الصواب، إذ إن هذا العمل من المحدثات، وسبقه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الحكم ببدعية هذا العمل حيث قال: "أما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلوات فهو بدعة" (¬2). 2 - اتهم رحمه الله بالرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم: وسبب هذه التهمة أن الإمام الشاطبي لم يلتزم ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة على الخصوص، واحتج بأن ذلك لم يكن مِنْ شَأْنِ السَّلَفِ فِي خُطَبِهِمْ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي أَجْزَاءِ الْخُطَبِ (¬3). وليس في موقف الإمام الشاطبي من هذه المسألة ما يدل على بغضه للصحابة رضي الله عنهم، ثم إن له سلفاً فيما ذهب إليه، فقد عزا هذا القول إلى أصبغ (¬4)، والعز بن عبد السلام (¬5) كما سيأتي في المقدمة. وإذا نظرنا إلى أن ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة كان مُلْتَزَماً به في بيئة الإمام الشاطبي، بل يعد تاركه مبتدعاً، فلا شك أن كسر هذه القاعدة أمر مطلوب، لأن ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة ليس ركناً فيها ولا واجباً. والمسألة من المسائل الخلافية، ولشيخ الإسلام ابن تيمية تفصيل فيها؛ حيث ذكر أن من أهل السنة من يفعله ومنهم من يتركه، إلا أنه قد يكون مأموراً به إذا كان فيه تحصيل لمقصد شرعي؛ كالرد على الخوارج الذين ¬

_ (¬1) انظر: "الاعتصام" (1/ 349 - 368)، (2/ 1 - 6). (¬2) "الفتاوى" (22/ 519). (¬3) انظر النص المحقق (ص 26). (¬4) ستأتي ترجمته في النص المحقق (ص 26). (¬5) ستأتي ترجمته في النص المحقق (ص 26).

3 - اتهم الإمام الشاطبي رحمه الله بالقول بجواز القيام على الأئمة حيث قال:

يبغضون علياً وعثمان ويكفرونهما (¬1). والذي رمى الشاطبي بذلك هو شيخه أبو سعيد ابن لب (¬2). 3 - اتهم الإمام الشاطبي رحمه الله بالقول بجواز القيام على الأئمة حيث قال: "وَتَارَةً أُضِيفَ إليَّ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْقِيَامِ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَمَا أَضَافُوهُ إِلَّا مِنْ عَدَمِ ذِكْرِي لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم" (¬3). وهذه المسألة من جنس المسألة التي قبلها، وليس في موقف الشاطبي منها ما يدل على هذه التهمة، بل له سلف فيما ذهب إليه، فإن ترك الدعاء لأحد في الخطبة هو رأي الإمام الشافعي في كتابه "الأم" (1/ 202 - 203)، والإمام البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 217)، والعز بن عبد السلام في "فتاويه"، فتوى رقم (16). وهناك من أجاز الدعاء للسلطان في الخطبة؛ كالطحطاوي في "حاشيته على مراقي الفلاح" (ص 422)، والإمام النووي في "روضة الطالبين" (4/ 527)، والإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 157). 4 - اتهم الإمام الشاطبي رحمه الله بالتزام الحرج والتنطُّع في الدين: وسبب هذا كما قال الشاطبي: "وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنِّي الْتَزَمْتُ فِي التَّكْلِيفِ وَالْفُتْيَا الْحَمْلَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ لَا أَتَعَدَّاهُ، وَهُمْ يَتَعَدَّوْنَهُ وَيُفْتُونَ بِمَا يُسَهِّلُ عَلَى السَّائِلِ وَيُوَافِقُ هَوَاهُ، وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فِي الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَأَئِمَّةُ العلم على خلاف ذلك ... " (¬4). وليس في موقف الشاطبي أي تنطع، وانما أراد إغلاق باب تتبع ¬

_ (¬1) انظر: "منهاج السنة" (4/ 156 - 170). (¬2) انظر ذلك في: "المعيار المعرب" للونشريسي (6/ 371 - 372). (¬3) انظر النص المحقق (ص 27). (¬4) انظر النص المحقق (ص 27).

5 - اتهم أيضا بمعاداة أولياء الله:

الرخص، وتحكيم الهوى في اختيار الفتوى. وقد تكلم الإمام الشاطبي عن هذه المسألة بشكل أوسع في كتابه الموافقات (¬1). والصواب أن الفتوى ينبغي أن تكون بالقول الراجح الذي يعضده الدليل، سواء كان في المذهب أو في غيره من المذاهب الأخرى. 5 - اتهم أيضاً بمعاداة أولياء الله: قال رحمه اللَّهِ: "وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنِّي عَادَيْتُ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ، الْمُنْتَصِبِينَ -بِزَعْمِهِمْ- لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَتَكَلَّمْتُ لِلْجُمْهُورِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الصُّوفِيَّةِ وَلَمْ يَتَشَبَّهُوا بهم" (¬2). وقد وصف الإمام الشاطبي طريقة هؤلاء الصوفية في زمنه بقوله: "حَتَّى صَارَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْأَخِيرِ كَأَنَّهَا شَرِيعَةٌ أُخْرَى غَيْرَ مَا أَتَى بِهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). ولا شك أن هؤلاء تجب معاداتهم في الله. 6 - اتهم رحمه الله بأنه مخالف للسنة والجماعة، حيث قال: "وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي أُمِرَ بِاتِّبَاعِهَا وَهِيَ النَّاجِيَةُ، مَا عَلَيْهِ الْعُمُومُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ" (¬4). وقد تكلم الإمام الشاطبي عن المراد بالجماعة الواردة في الحديث بشكل أوسع في الباب التاسع من الكتاب (¬5). وقد رد الإمام الشاطبي هذه الافتراءات بقوله: "وكذبوا عليَّ في جميع ¬

_ (¬1) (4/ 146). (¬2) انظر النص المحقق (ص 27). (¬3) أنظر النص المحقق (ص 151). (¬4) انظر النص المحقق (ص 27). (¬5) انظر: "الاعتصام" (2/ 258 - 267).

ذَلِكَ، أَوْ وَهِمُوا (¬1)، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حال" (¬2). ولا شك أن الإمام الشاطبي كان بريئاً من هذه التهم الزائفة التي لا مستند لها إلا الجهل والتعصب واتباع الهوى، فلم نجد في شيء من كتب الإمام الشاطبي ما يشهد لشيء من هذه المزاعم الكاذبة. وقد كان لهذه المزاعم تأثير بالغ في نفس الإمام الشاطبي كما هو واضح من مقدمته للاعتصام، إلا أن ذلك لم يثنه عن الحق، بل ازداد ثباتاً على ما اعتقده وكان من ثمرات ما ابتلي به الإمام الشاطبي اعتناؤه بموضوع البدع والتأليف فيه. ¬

_ (¬1) هذا أدب رفيع من المؤلف، حيث يلتمس لخصومه العذر مع رميهم له بهذه الاتهامات العظيمة. (¬2) انظر النص المحقق (ص 28).

المبحث الرابع وفاته

المبحث الرابع وفاته توفي الإمام الشاطبي رحمه الله في يوم الثلاثاء الثامن من شعبان سنة 790 هـ في مدينة غرناطة. ولم يقع خلاف في تاريخ وفاته رحمه الله (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تاريخ وفاته في: "برنامج المجاري" (ص 122)، "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 49)، "الفتح المبين في طبقات الأصوليين" للمراغي (2/ 205)، "شجرة النور الزكية" لمخلوف (ص 23)، "الأعلام" للزركلي (1/ 71)، "معجم المؤلفين" لكحالة (1/ 118).

الفصل الثالث حياة المؤلف العلمية

الفصل الثالث حياة المؤلف العلمية * وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: طلبه للعلم وشيوخه. المبحث الثاني: تلاميذه. المبحث الثالث: ثقافته ومؤلفاته. المبحث الرابع: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه. المبحث الخامس: عقيدته.

المبحث الأول طلبه للعلم وشيوخه

المبحث الأول طلبه للعلم وشيوخه لقد اشتغل الإمام الشاطبي بالعلم منذ صباه، وسلك في طلبه مسلكاً تربوياً حسناً، حيث بدأ بِأُصُولِ الدِّينِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا، ثُمَّ بِفُرُوعِهِ الْمَبْنِيَّةِ على تلك الأصول، وقد امتاز طلبه للعلم بالشمولية حيث لم يقتصر من العلوم على علم دون علم، ولا أفرد عن أنواعه نوعاً دون آخر، ولم يزل كذلك إلى أن منَّ الله عليه، فشرح له مِنْ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حسابه، وسيأتي نص كلامه عن طلبه للعلم (¬1). وقد أخذ الإمام الشاطبي العلم عن علماء كبار، كان لهم الفضل بعد الله في نبوغه وتقدُّمه في العلم، وقد أجازه بعضهم في ما أخذ عنهم من العلوم، وقد أخذ عن بعضهم العلوم بأسانيدها، وفيما يلي ذكرهم مع إشارة يسيرة لتراجمهم: 1 - أبو عبد الله محمد بن الفخار (¬2) (ت 754 هـ): قال عنه في نفح الطيب: "الإمام المجمع على إمامته في فن العربية، المفتوح عليه من الله تعالى فيها حفظاً واطلاعاً واضطلاعاً ونقلاً وتوجيهاً، بما لا مطمع فيه لسواه" (¬3). وقد قرأ عليه الإمام الشاطبي القرآن بالقراءات السبع في سبع ختمات، وأكثر عليه في التفقه في العربية وغيرها (¬4)، ولازمه إلى أن مات (¬5). ¬

_ (¬1) انظر النص المحقق (ص 19). (¬2) انظر ترجمته في: "شجرة النور الزكية" (ص 228)، و"نفح الطيب" (5/ 355 - 359). (¬3) انظر: "نفح الطيب" (5/ 355). (¬4) انظر: "برنامج المجاري" لعبد الله المجاري تلميذ الشاطبي (ص 119). (¬5) انظر: "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 47).

2 - أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي (ت 782 هـ):

2 - أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي (¬1) (ت 782 هـ): كان مفتي غرناطة، وخطيب الجامع الأعظم، والمدرس بالمدرسة النصرية. قال عنه المقِّري: "قَلَّ من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته" (¬2)، وقد عرض عليه الإمام الشاطبي مختصر ابن الحاجب في الأصول في مجلس واحد، وأجاز له أن يروي عنه (¬3)، وقد ناظره الإمام الشاطبي في مسألة دعاء الإمام بعد الصلاة على الهيئة الاجتماعية (¬4). 3 - أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقَّري (¬5) (الجد) (ت 759 هـ): إمام علامة، كان قاضي الجماعة بفاس، ومن كتبه: كتاب القواعد، وكتاب الطرف والتحف، وكتاب اختصار المحصل وغيرها. وقد تفقه به الإمام الشاطبي، وسمع عليه بعضاً من كتابه المسمى بتكميل التعقيب على صاحب التهذيب، وبعض لمحة العارض تكملة ألفية ابن الفارض من نظمه، وبعض اختصاره لجمل الخونجي، وتمهيد القواعد له أيضاً. وسمع عليه جميع كتاب الحقائق والرقائق من تأليفه، وأجازه به وبجميع ثلاثيات البخاري (¬6). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: "نثير الجمان" (ص 186)، و"النيل" (ص 219 - 220)، و"نفح الطيب" (5/ 409 - 514)، و"الأعلام" للزركلي (5/ 140). (¬2) انظر: "نفح الطيب" للمقري (5/ 513). (¬3) "برنامج المجاري" (ص 118). (¬4) وقد ذكر الإمام الشاطبي هذه المسألة في "الاعتصام"، ورد على القائلين بجوازها. انظر: "الاعتصام" (1/ 348 - 349)، (2/ 3 - 6). (¬5) انظر ترجمته في: "الإحاطة" (2/ 191)، و"نفح الطيب" (5/ 203). (¬6) "برنامج المجاري" لعبد الله المجاري (ص 119 - 120).

4 - أبو علي منصور بن عبد الله الزواوي:

4 - أبو علي منصور بن عبد الله الزواوي (¬1): له مشاركة في كثير من العلوم العقلية والنقلية، ونظر في الأصول والمنطق والكلام .. ، قدم الأندلس عام 753 هـ، وكان حياً بعد عام 770 هـ. قرأ عليه الإمام الشاطبي مختصر منتهي السول والأمل في علمي الأصول والجدل للإمام أبي عمرو بن الحاجب من أول مبادئ اللغة إلى آخره بلفظه إلا يسيراً منه سمعه بقراءة غيره، وكل ذلك قراءة تفقه ونظر، وأجازه إجازة عامة بشرطها (¬2). 5 - أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق الخطيب التلمساني (¬3) (ت 781 هـ): رحل مع والده للشرق سنة (718 هـ)، وأخذ في رحلته عن نحو ألفي شيخ من أهل المشرق والمغرب، وبرع في الطب والرواية، ومن تصانيفه شرح العمدة في الحديث (خمس مجلدات)، وشرح الشفا في التعريف بحقوق المصطفي لم يكمل، وشرح الأحكام الصغرى لعبد الحق. وقد سمع عليه الإمام الشاطبي جميع الجامع الصحيح للبخاري، بقراءة غيره عليه، وموطأ الإمام مالك بن أنس برواية يحيى بن يحيى، وذلك بالمدرسة النصرية، وأجازه بهما بجميع ما يحمل إجازة عامة بشرطها (¬4). 6 - أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني السبتي (¬5) (ت 760 هـ): رئيس العلوم اللسانية بالأندلس، ولِّي ديوان الإنشاء بغرناطة، ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 345 - 347)، و"الإحاطة في أخبار غرناطة" لابن الخطيب (2/ 303)، و"نفح الطيب" للمقري (7/ 147)، و"شجرة النور الزكية" لمحمد مخلوف (ص 234). (¬2) "برنامج المجاري" (ص 119). (¬3) انظر ترجمته في: "نفح الطيب" للمقري (5/ 390 - 418)، و"نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 268)، و"شجرة النور الزكية" لمحمد مخلوف (ص 236). (¬4) "برنامج المجاري" (ص 119). (¬5) انظر ترجمته في: "نفح الطيب" للمقري (5/ 189)، و"برنامج المجاري" لعبد الله المجاري (ص 90)، و"الأعلام" للزركلي (6/ 224).

7 - أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف التلمساني (ت 771 هـ):

ثم القضاء والخطابة فيها، له شروح في الأدب والنحو. وقد ذكره التنبكتي ضمن شيوخ الشاطبي (¬1)، ونقل عنه الشاطبي بعض الفوائد (¬2). 7 - أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف التلمساني (¬3) (ت 771 هـ): من أعلام المالكية، انتهت إليه إمامتهم بالمغرب، من كتبه المفتاح في أصول الفقه، وشرح جمل الخونجي. بنيت له مدرسة فقام يدرس بها إلى أن مات، ذكره أحمد بابا التنبكتي ضمن شيوخ الشاطبي (¬4)، ونقل عنه الشاطبي بعض الشعر (¬5). 8 - أبو عبد الله محمد بن أبي الحجاج يوسف بن عبد الله بن محمد اليحصبي اللوشي (¬6) (ت 752 هـ): اشتهر بالأدب الجيد، وكان خطيباً بالمسجد الجامع بغرناطة، تزهد في آخر حياته. وقد استجازه الإمام الشاطبي فأجازه إجازة عامة (¬7). 9 - أبو عبد الله محمد بن علي بن أحمد البلنسي الأوسي (¬8) (ت 782 هـ): من علماء غرناطة. لازم شيخ الجماعة ابن الفخار وانتفع به، وكان ¬

_ (¬1) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 47). (¬2) انظر: "الإفادات والإنشادات" للشاطبي (ص 89، 101، 125). (¬3) انظر ترجمته في: "نيل الابتهاج" للتتبكتي (ص 255 - 256)، و"الأعلام" للزركلي (6/ 224). (¬4) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 257). (¬5) انظر: "الإفادات والإنشادات" للشاطبي (ص 121). (¬6) انظر ترجمته في: "الإحاطة" لابن الخطيب (2/ 269 - 272)، و"نفح الطيب" للمقري (5/ 12). (¬7) "برنامج المجاري" (ص 119). (¬8) انظر ترجمته في: "الإحاطة" لابن الخطيب (3/ 38)، و"نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 270).

10 - أبو جعفر أحمد بن الحسن الكلاعي المعروف بابن الزيات (ت 728 هـ):

قائماً على العربية والبيان متقناً، ألف كتاباً في تفسير القرآن متعدد الأسفار، واستدرك على السهيلي في أعلام القرآن كتاباً نبيلاً. وقد ذكره التنبكتي ضمن شيوخ الشاطبي (¬1)، ونقل عنه الشاطبي في الإفادات (¬2). 10 - أبو جعفر أحمد بن الحسن الكلاعي المعروف بابن الزيات (¬3) (ت 728 هـ): قال عنه ابن الخطيب: "كان جليل القدر، كثير العبادة، عظيم الوقار، حسن الخلق" (¬4). تصانيفه كثيرة، منها: تلخيص الدلالة في تلخيص الرسالة، والمعارف الربانية واللطائف الروحانية. وقد نقل الإمام الشاطبي عنه قوله: "لو كان لي بيت مال لأنفقته على طلاب العلم، لأنهم قدوتنا وسادتنا ... " (¬5). 11 - أبو جعفر أحمد بن آدم الشقوري (¬6): فقيه، نحوي، فرضي، كان يدرِّس بغرناطة كتاب سيبويه، وقوانين ابن أبي الربيع، وألفية ابن مالك، والمدونة الكبرى. ذكره التنبكتي ضمن شيوخ الإمام الشاطبي (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 47، 270). (¬2) انظر: "الإفادات والإنشادات" (ص 94). (¬3) انظر ترجمته في: "الإحاطة" لابن الخطيب (1/ 287)، و"شجرة النور" لمخلوف (ص 212). (¬4) "الإحاطة" لابن الخطيب (1/ 287). (¬5) "روضة الأعلام" لابن الأزرق، نقلاً عن مقدمة محمد أبو الأجفان لفتاوى الشاطبي (ص 38). (¬6) انظر ترجمته في: "برنامج المجاري" (ص 125). (¬7) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 47).

المبحث الثاني: تلاميذه

المبحث الثاني: تلاميذه أخذ عن الإمام الشاطبي عدد من طلاب العلم النجباء، وكان منهم: 1 - أبو يحيى محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عاصم الغرناطي الإمام العالم المحقق البليغ، صحب الإمام الشاطبي وأخذ عنه وانتفع به، له تأليف كبير في الانتصار للإمام الشاطبي، رد فيه على شيخه أبي سعيد ابن لب في مسألة الدعاء بعد الصلاة، استشهد سنة (813 هـ) (¬1). 2 - أبو بكر محمد بن محمد بن عاصم الغرناطي الفقيه الأصولي المحدث، أخذ عن أعلام منهم الإمام الشاطبي، وله تآليف كثيرة منها التحفة، وله أرجوزة في الأصول، واختصار الموافقات، توفي سنة (829 هـ) (¬2). 3 - الشيخ أبو عبد الله محمد البياني، تتلمذ على الإمام الشاطبي، وأخذ عنه خلق كثير مثل أبي يحيى بن عاصم وعبد الله بن جزي وغيرهم (¬3). 4 - أبو جعفر أحمد القصار الأندلسي الغرناطي، تتلمذ على الإمام الشاطبي، وقد قال إن الإمام الشاطبي كان يطالعه ببعض المسائل حين ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 285)، و"نفح الطيب" للمقري (6/ 148)، و"شجرة النور الزكية" لمخلوف (ص 247). (¬2) انظر ترجمته في: "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 289)، و"شجرة النور الزكية" لمخلوف (ص 247). (¬3) انظر ترجمته في: "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 308)، و"شجرة النور الزكية" لمخلوف (ص 231).

تصنيفه الموافقات، ويباحثه فيها، وبعد ذلك يضعها في الكتاب على عادة الفضلاء ذوي الانصاف (¬1). 5 - أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي بن عبد الواحد المجاري الأندلسي له مؤلف ترجم فيه لشيوخه، ومنهم الإمام الشاطبي، وغالب ترجمته تعداد ما قرأ عليه وذكر شيوخه. توفي سنة 862 هـ (¬2). 6 - أبو عبد الله محمد بن علي بن أشرص العالم الجليل الإمام الفقيه، أخذ عن جماعة من العلماء منهم ابن رشيد وأبي جعفر الزيات وابن الفخار وأبي إسحاق الشاطبي. توفي سنة 848 هـ (¬3). هؤلاء هم أشهر تلاميذ الإمام الشاطبي رحمه الله. ¬

_ (¬1) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 49، 76). (¬2) "ثبت البلوى" (ص 199). (¬3) "شجرة النور الزكية" (ص 214).

المبحث الثالث ثقافته ومؤلفاته

المبحث الثالث ثقافته ومؤلفاته كان الإمام الشاطبي رحمه الله يتمتع بثقافة واسعة، فقد جمع علوماً شتى، ومعارف عديدة، وقد نص في مقدمة الكتاب على أنه نظر في عقليات العلم وشرعياته، وأنه لم يقتصر منه على علم دون علم (¬1). وإذا نظرنا إلى ما تلقاه من العلوم عن شيوخه، أدركنا سعة ما جمع من الفنون. فنجد أن له باعاً في القراءات واللغة والنحو والفقه والأصول والحديث وغيرها، إلا أن تفوقه في علم الأصول ومقاصد الشريعة هو أبرز سماته العلمية. والناظر في كتب الشاطبي يجد فيها خير شاهد على سعة اطلاعه وغزارة علمه، مع الدقة والتحقيق لما يقرره رحمه الله. وله بعض المشاركات الشعرية، ومن ذلك: قصيدته التي قالها بمناسبة تأليف شيخه أبي عبد الله بن مرزوق (¬2) لكتاب في شرح الشفا للقاضي عياض (¬3)، حين طلب شيخه من علماء الأندلس نظم قصائد تتضمن مدح الشفا ليجعلها في طالعة شرحه عليه، فقال الشاطبي: يا من سما لمراقي المجد مقصده ... فنفسه بنفيس العلم قد كلفت هذي رياض يروق العلم مخبرها ... هي الشفا لنفوس الخلق إن دنفت يجنى بها زهر التقديم أو ثمر الـ ... تعظيم والفوز للأيدي التي اقتطفت أبدت لنا من سناها كل واضحة ... حسانه دونها الأطماع قد وقفت ¬

_ (¬1) انظر النص المحقق (ص 19). (¬2) تقدمت ترجمته ضمن شيوخ الشاطبي. (¬3) ستأتي ترجمته في النص المحقق (ص 245).

فأما كتبه المطبوعة فهي:

وشيد العقد أركان مؤكدة ... بها على متن أهل الشرع قد وقعت قوت القلوب وميزان العقول متى ... حادت عن الحجة الكبرى أو انحرفت فيا أبا الفضل حزت الفضل في عرض ... بها أقرت لك الأعلام واعترفت وكنت بحر علوم ضل ساحله ... منه استمدت عيون العلم واغترفت زارته من نسمات القدس باسمة ... فحركت منه مدح الفكر حين وفت حتى إذا طفئت أرجاؤه قذفت ... لنا بدرتها الحسناء وانصرفت إن العناية لا يحظى بنائلها ... حريصها بل على التخصيص قد وقفت (¬1) ومن شعره رحمه الله لما ابتلي بالبدع: بليت يا قوم والبلوى منوعة ... بمن أداريه حتى كاد يرديني دفع المضرة لا جلب لمصلحة ... فحسبي الله في عقلي وفي ديني (¬2) وأما مؤلفات الإمام الشاطبي، فقد ألف رحمه الله كتباً نافعة، قال عنها التنبكتي في نيل الابتهاج: "ألف تآليف نفيسة، اشتملت على تحريرات للقواعد وتحقيقات لمهمات الفوائد" (¬3). وهذه الكتب منها المطبوع، ومنها ما لم يطبع، وبعضها لا نعلم عنها شيئاً. فأما كتبه المطبوعة فهي: 1 - الموافقات في أصول الشريعة: وهذا الكتاب من أحسن ما ألفه الإمام الشاطبي من الكتب، بل من أحسن ما ألف في موضوعه، وهو في أصول الفقه، إلا أن المؤلف ركز فيه على مقاصد الشريعة وأسرار التكليف، فجاء هذا الكتاب متميزاً على ما قبله من الكتب في هذا الموضوع. ولقد وجد هذا الكتاب قبولاً وثناء من كثير من العلماء، سواء ¬

_ (¬1) انظر هذه الأبيات في: "الإفادات والإنشادات" للشاطبي (ص 150)، و"نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 49). (¬2) انظرها في: "نيل الابتهاج" (ص 49). (¬3) "النيل" (ص 48).

المتقدمين أو المتأخرين، فقد قال عنه التنبكتي في نيل الابتهاج: "وكتاب الموافقات في أصول الفقه كتاب جليل القدر جداً، لا نظير له، يدل على إمامته وبعد شأوه في العلوم سيما علم الأصول، قال الإمام الحفيد ابن مرزوق: كتاب الموافقات المذكور من أقبل الكتب ... " (¬1). وقال عنه الشيخ عبد الله دراز في مقدمته على الكتاب: "لم تقف به الهمة في التجديد والعمارة لهذا الفن عند حد تأصيل القواعد، وتأسيس الكليات المتضمنة لمقاصد الشارع في وضع الشريعة، بل جال في تفاصيل مباحث الكتاب أوسع مجال، وتوصل باستقرائها إلى استخراج درر غوال لها أوثق صلة بروح الشريعة ... " (¬2). والكتاب ينحصر في خمسة أقسام كما قال الإمام الشاطبي في مقدمته: الأول: في المقدمات العلمية المحتاج إليها في تمهيد المقصود. والثاني: في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها، كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف. والثالث: في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام. والرابع: في حصر الأدلة الشرعية، وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل، وذكر مآخذها، وعلى أي وجه يحكم بها على أفعال المكلفين. والخامس: في أحكام الاجتهاد والتقليد، والمتصفين بكل واحد منهما (¬3). والكتاب مطبوع عدة طبعات، منها طبعة محققة بعناية الشيخ مشهور حسن سلمان جزاه الله خيراً. ¬

_ (¬1) "النيل" (ص 48). (¬2) "الموافقات" (1/ 7). (¬3) "المواقفات" (1/ 23 - 24).

2 - الاعتصام:

2 - الاعتصام: وهو كتابنا الذي بين أيدينا، وسيأتي الكلام عليه. 3 - الإفادات والإنشادات: وهذا الكتاب عبارة عن فوائد وطرف وملح وإنشادات نقلها الإمام الشاطبي عن بعض شيوخه، وعن بعض من التقى بهم من العلماء. قال في نيل الابتهاج: "وكتاب الإفادات والإنشادات في كراسين، فيه طرف وتحف وملح أدبيات وإنشادات" (¬1). وقد حققه الدكتور محمد أبو الأجفان، وطبعته مؤسسة الرسالة سنة 1403 هـ. 4 - فتاوى الإمام الشاطبي: وهذا الكتاب لم يؤلِّفه الشاطبي، وإنما جمعه الدكتور محمد أبو الأجفان من كتب مخطوطة ومطبوعة للشاطبي. وقد بلغت هذه الفتاوى ستين فتوى في الفقه والحديث والعقيدة ومسائل البدع. وقد طبع هذا الكتاب سنة 1405 هـ بمطبعة الكواكب بتونس. وأما كتبه التي لم تطبع بعد، فمنها: 1 - شرح جليل على الخلاصة في النحو: (في أربعة أسفار): قال عنه أحمد بابا التنبكتي في النيل: "لم يؤلف عليه مثله بحثاً وتحقيقاً فيما أعلم" (¬2). 2 - كتاب المجالس: قال في النيل: "شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري، فيه من ¬

_ (¬1) "نيل الابتهاج" (ص 48). (¬2) نفس المرجع (ص 48).

3 - شرح رجز ابن مالك في النحو (الألفية):

الفوائد والتحقيقات ما لا يعلمه إلا الله" (¬1). 3 - شرح رجز ابن مالك في النحو (الألفية) (¬2): وقد قام بتحقيقه عدد من أساتذة جامعة أم القرى، ولم يطبع بعد. 4 - عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق. 5 - أصول النحو. والكتابان الأخيران ذكر أحمد بابا أنهما أتلفا في حياته (¬3). ¬

_ (¬1) "نيل الابتهاج" (ص 48). (¬2) انظر: "الأعلام" للزركلي (1/ 71). (¬3) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 48 - 49).

المبحث الرابع مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

المبحث الرابع مكانته العلمية وثناء العلماء عليه للإمام الشاطبي رحمه الله مكانة علمية رفيعة، وتبرز مكانته العلمية من خلال ثناء العلماء عليه وعلى كتبه الرائعة. فقد أثنى عليه كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين، وسوف أذكر شيئاً من كلامهم على وجه الإجمال: فمن ذلك ما ذكره أحمد بابا في ترجمته حيث قال: " ... الإمام العلامة المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد، كان أصولياً، مفسراً، فقيهاً، محدثاً، لغوياً، بيانياً، نظاراً، ثبتاً، ورعاً، صالحاً، زاهداً، سنياً، إماماً مطلقاً، بحاثاً مدققاً، جدلياً، بارعاً في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون فقهاً وأصولاً وتفسيراً وحديثاً وعربية وغيرها، مع التحري والتحقيق، له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة محققة، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع، حريصاً على اتباع السنة، مجانباً للبدع والشبهة، ساعياً في ذلك، مع تثبت تام، منحرف عن كل ما ينحو للبدع وأهلها ... " (¬1). وقال عنه الإمام الحفيد ابن مرزوق فيما نقل عنه في النيل: "الإمام المحقق العلامة الصالح أبو إسحاق" (¬2). وقال عنه تلميذه عبد الله المجاري: "الإمام العلامة الشهير، نسيج ¬

_ (¬1) "نيل الابتهاج" (ص 47). (¬2) نفس المرجع (ص 47).

وحده، وفريد عصره، أبو إسحاق ... " (¬1). وهذا بعض ما أثنى عليه به المتقدمون، وأما ثناء المتأخرين عليه فهو كثير، وأكتفي بذكر شيء من كلام الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في مقدمته على الاعتصام، حيث قال: "لولا أن هذا الكتاب ألف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين، لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة، وإصلاح شؤون الأخلاق والاجتماع، ولكان المصنف بهذا الكتاب وبصنوه كتاب "الموافقات" -الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضاً- من أعظم المجددين في الإسلام، فمثله كمثل الحكيم الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون، كل منهما جاء بما لم يسبق إلى مثله، ولم تنتفع الأمة كما كان يجب بعلمه" (¬2). هذا بعضٌ من ثناء العلماء عليه رحمه الله. ومن أهم الأسباب التي جعلته يحتل هذه المكانة، وينال هذا الذكر الحسن: ما كان يتحلى به من الصدق مع الله تعالى، وتحرِّي الحق، وتطلُّبه ولزومه، والثبات عليه، وإن خالفه أكثر الناس. وهذا أمر واضح لمن نظر في سيرته، وقرأ كلامه، سيما مقدمته للاعتصام، حيث صدع بالحق، ونهى عن البدع وثبت على موقفه صابراً محتسباً، مع كثرة الاتهامات والافتراءات التي وجهت إليه بسبب ذلك. وكان من نتيجة ذلك عنايته بموضوع البدع وتصنيفه فيه. ¬

_ (¬1) "برنامج المجاري" (ص 116). (¬2) "الاعتصام" (1/ 4).

المبحث الخامس عقيدته

المبحث الخامس عقيدته (¬1) ليس للإمام الشاطبي رحمه الله مؤلف مستقل في أبواب العقيدة حتى يمكن الباحث معرفة رأيه في كل مسألة على وجه الدقة، ولكن كتبه لا تخلو من الكلام على بعض المسائل العقدية التي تأتي عَرَضاً في كلامه. ومن خلال النظر في هذه المسائل نجد أن للمؤلف ميلاً إلى المذهب الأشعري. وقبل ذكر أمثلة من المسائل التي مال فيها الإمام الشاطبي إلى مذهب الأشاعرة، تجدر الإشارة إلى بعض الأفكار المنهجية عند المؤلف في مسائل العقيدة، ومن أهمها: 1 - يرى الإمام الشاطبي أن خبر الآحاد دليل ظني، وأنه لا يؤخذ به في الأمور القطعية، إلا إذا شهد له أصل قطعي كآية قرآنية أو سنة متواترة. وهذا الرأي للإمام الشاطبي هو مضمون كلامه في عدة مواضع من كتبه، ومن ذلك قوله أثناء رده على المبتدعة الذين يردون أحاديث الآحاد جملة: " .. فعلى كل تقدير خَبَرِ وَاحِدٍ صَحَّ سَنَدُهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِنَادِهِ إِلَى أَصْلٍ فِي الشَّرِيعَةِ قَطْعِيٍّ فَيَجِبُ قبوله، ومن هنا قبلناه مطلقاً ... " (¬2). وقال في معرض رده على المبتدعة الذين يستحسنون بعض البدع، ويحتجون على ذلك بحديث: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ ¬

_ (¬1) استفدت في هذا المبحث من رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بعنوان: "الإمام الشاطبي عقيدته وموقفه من البدع وأهلها"، للطالب عبد الرحمن آدم علي، وقد أشرف على الرسالة الدكتور أحمد سعد حمدان، وتوفي الطالب رحمه الله قبل مناقشتها. (¬2) "الاعتصام" للشاطبي (1/ 236).

حسن" (¬1)، قال: "وَالثَّانِي أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ فلا يسمع" (¬2). وقال في موطن آخر: "كل دليل شرعي إما أن يكون قطعياً أو ظنياً، فإن كان قطعياً، فلا إشكال في اعتباره، وإن كان ظنياً، فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضاً، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله ... " (¬3). وقد تكلم الإمام الشاطبي في المسألة في مواطن أخرى (¬4)، إلا أنها تدور حول ما تقدم. وهذا الرأي للإمام الشاطبي متأثر برأي بعض الأشاعرة في المسألة (¬5)، وهو رأي مخالف لقول أهل السنة الذين يرون أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا احتفَّت به القرائن، وتلقته الأمة بالقبول، وينبني على ذلك الاحتجاج به في المسائل القطعية وغيرها، دون تفريق بين مسائل الاعتقاد أو غيرها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات" (¬6). وقال الإمام ابن القيم نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه، ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملاً به أو تصديقاً له .. ، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأولين والآخرين" (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" وقال: "لا أصل له مرفوعاً، وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود"، وعزاه لأحمد برقم (3600)، والطيالسي في "مسنده" (ص 23)، وأبي سعيد بن الأعرابي في "معجمه" (84/ 2)، ثم حسن الشيخ الألباني إسناده موقوفاً على ابن مسعود. انظر: "السلسلة الضعيفة" برقم (532) (2/ 17). (¬2) انظر: "الاعتصام" (2/ 152). (¬3) "الموافقات" للشاطبي (3/ 15). (¬4) ومن ذلك ما في "الموافقات" (3/ 17، 25، 26). (¬5) انظر: "أصول الدين" للبغدادي (ص 18)، "المستصفي" للغزالي (1/ 145). (¬6) "المسودة" (ص 248). (¬7) "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 481 - 482).

وقال في موضع آخر: "وأما الجزم بصحته فإنه يحتف به من القرائن ما يوجب العلم، إذ القرائن المجردة قد تفيد العلم بمضمونها، فكيف إذا احتفت بالخبر .. " (¬1). وقال الإمام ابن أبي العز: "وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، عملاً به، وتصديقاً له، يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد مسمى التواتر، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع" (¬2). 2 - جعل الإمام الشاطبي نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، وهذا القول خلاف قول أهل السنة الذين يجعلونها من المحكم (¬3)، فيؤمنون بما دلت عليه من المعاني التي تليق به سبحانه، ويفوضون كيفيتها إلى الله سبحانه، فإن علم كيفيتها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. ومما يدل على ذلك من كلامه: قوله: "وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا تَقْتَضِي ظَاهِرًا خَرْقَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْإِنْكَارَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لَهُ سَعَةٌ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ، وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] يَعْنِي الْوَاضِحَ الْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَوْ لَزِمَ الْعِلْمُ بِهِ لَجُعِلَ لَهُ طريقٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ إنكارٌ لِخَرْقِ الْعَادَةِ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجْرِي حُكْمُ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ الْبَارِي بِهَا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَنْ نَفَاهَا نَفَى شِبْهَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَبَقِيَ الْخِلَافُ فِي نَفْيِ عَيْنِ الصفة أو إثباتها، فالمثبت أثبتها صفة على شرط نفي ¬

_ (¬1) "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 374). (¬2) "شرح الطحاوية" (ص 355). (¬3) فصّل شيخ الإسلام الكلام في المسألة في "الفتاوى" (13/ 294 - 313). وكذلك في "التدمرية" (القاعدة الخامسة).

التَّشْبِيهِ، وَالْمُنْكِرُ لِأَنْ يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مُنْكِرٌ لِأَنْ يَثْبُتَ أَمْرٌ إلا على وفق المعتاد" (¬1). وقال في موضع آخر ضمن كلامه على انحراف المبتدعة واتباعهم للمتشابه: "ومثاله في ملة الإسلام: مذهب الظَّاهِرِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَوَارِحِ لِلرَّبِّ الْمُنَزَّهِ عَنِ النقائص؛ من العين واليد والرجل والوجه المحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات" (¬2). 3 - يذهب الإمام الشاطبي إلى القول بتأويل بعض الصفات إذا احتيج إلى التأويل، ويرى أن هناك سعة لمن يأخذ به عند الحاجة. وقد تقدم كلامه في الفقرة السابقة (¬3)، وهو رأي الأشاعرة في هذه المسألة. 4 - يرى الإمام الشاطبي رحمه الله أن الخلاف الواقع بين أهل السنة وبين أهل البدع في الصفات خلاف في الفروع، لا في الأصول، ولا سيما إذا وقع ذلك منهم بقصد حسن. قال رحمه الله وهو يتحدَّث عن عدم تكفير المبتدعة، وأن منهم من ليس بمتبع للهوى بإطلاق: "وَأَيْضًا فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اتِّحَادُ الْقَصْدِ مَعَ أهل السنة على الجماعة مِنْ مَطْلَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى الشَّرِيعَةِ. وَمِنْ أَشَدِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ -مَثَلًا- مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ؛ حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَقَاصِدَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَائِمًا حَوْلَ حِمَى التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْأَدِلَّةِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا، فَحَصَلَ فِي هَذَا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف والواقع في الفروع" (¬4). 5 - نص الإمام الشاطبي على أن مذهب السلف هو الصواب وأنه ¬

_ (¬1) "الاعتصام" (2/ 327). (¬2) نفس المصدر (1/ 240). (¬3) وانظر أيضاً ما ذكره في: "الاعتصام" (2/ 328 - 329). (¬4) انظر: "الاعتصام" (2/ 187).

أسلم، إلا أنه ظن أن مذهب السلف في الصفات هو مجرد التصديق والتفويض المطلق. والسلف إنما فوضوا الكيفية وأثبتوا المعنى. يقول الشاطبي: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت، فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبة المحجوب أمره عن العباد؛ كمسائل الاستواء والنزول وأشباه ذلك. وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن" (¬1). وقال بعد ذكره لما ذهب إليه بعض المتأخرين من تأويل الصفات: "وهي مسألة اجتهادية، ولكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف" (¬2). ويتضح من آراء الشاطبي المتقدمة أنه متأثر بالأشاعرة في الصفات كما يتضح أنه لم يكن متعصباً لهذا المذهب. ولا يبدو موقف الشاطبي واضحاً أمام مسائل الصفات، فنجد أنه أثنى على مذهب السلف وعدَّه أصوب، كما نجد أنه عذر من تأولها، وعَدَّ الجميع مجتهدين. ولعل سبب هذا الموقف للشاطبي ظنه بأن مذهب السلف تفويض معاني هذه الصفات، وأنه لا يفهم منها شيء، وإلا لو أنه ذهب فيها مذهب أهل السنة والجماعة من إثبات معانيها على الوجه الذي يليق به سبحانه، وتفويض كيفيتها إليه سبحانه، لما وسعه إعذار من تأولها وصرفها عن ظاهرها. وأيضاً هناك سبب آخر لموقف الإمام الشاطبي وهو أنه عَدَّ الخلاف في هذه المسائل شِبْهَ الخلاف الواقع في الفروع، فهو مسألة اجتهادية. والصواب أن الخلاف في هذه المسائل العقدية ليس كالخلاف في ¬

_ (¬1) "الموافقات" (3/ 94). (¬2) المصدر السابق (3/ 99).

أولا: مسألة كلام الله تعالى:

مسائل الفروع الاجتهادية، فالخلاف في مسائل الفروع مستساغ، ولكنه في مسائل العقيدة مذموم، ولا يعذر أحد في ترك الحق الذي سار عليه أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا معاني هذه الصفات على ما يليق بجلال الله سبحانه، وفوضوا كيفيتها إلى الله تعالى، ويجب توضيح الحق لمن خالف منهجهم ورد هذه الصفات أو صرفها عن ظاهرها لتقوم عليه الحجة ويقطع عذره أمام الله تعالى. ومما ينبغي التنبيه عليه أن الإمام الشاطبي رغم تأثره بالفكر الأشعري إلا أنا نجده يقدم النقل على العقل، ويعدُّ الدليل حاكماً على العقل بإطلاق (¬1)، ويذم طريقة الفلاسفة ومنهجهم (¬2). وأين هذا الموقف من موقف متعصبي الأشاعرة الذين يرون تقديم العقل على النقل عند التعارض (¬3). وسوف أذكر الآن موقف الشاطبي من بعض المسائل العقدية التي تأثر فيها بعقيدة الأشاعرة وذلك من خلال كلامه رحمه الله: أولاً: مسألة كلام الله تعالى: قال الشاطبي رحمه الله في معرض رده على المعتزلة (¬4) الذين كان من شبههم في نفي صفة الكلام عن الله تعالى قولهم: فَالْكَلَامُ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِأَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ، وَكُلُّ ذلك من صفات المحدثات .. ، قال: "وَأَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ هُوَ الْأَصْوَاتُ وَالْحُرُوفُ، فَبِنَاءً عَلَى عَدَمِ النَّظَرِ فِي الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَهُوَ مذكور في الأصول" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الاعتصام" (1/ 318). (¬2) انظر كلامه في ذمهم في: "الموافقات" (1/ 55 - 56، 58، 59 - 60)، (2/ 405)، و"النص المحقق" (ص 71). (¬3) وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه: "درء تعارض العقل والنقل" في الرد على هذا القول الباطل. (¬4) سيأتي التعريف بهم. انظر النص المحقق (ص 30). (¬5) انظر: "الاعتصام" (2/ 330).

ثانيا: مسألة رؤية الله تعالى يوم القيامة:

فالمؤلف يرى أن في قول الأشاعرة بالكلام النفسي مخرجاً من هذا الإشكال الذي أورده المعتزلة. وقال أيضاً: "وهل للقرآن مأخذ في النظر على أن جميع سوره كلام واحد بحسب خطاب العباد، لا بحسبه في نفسه؟ فإن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار حسبما تبين في علم الكلام" (¬1). وقال أيضاً: "كتاب الله هو أصل الأصول والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار، ومدارك أهل الاجتهاد، وليس وراءه مرمى، لأنه كلام الله القديم" (¬2). وهذا الكلام للشاطبي موافق لقول الأشاعرة في المسألة (¬3). ثانياً: مسألة رؤية الله تعالى يوم القيامة: قال الإمام الشاطبي في معرض رده على الذين أنكروا خوارق العادات "وَالسَّابِعُ: رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ جَائِزَةٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رُؤْيَةَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ عِنْدَنَا، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ تَصِحَّ الرُّؤْيَةُ عَلَى أَوْجُهٍ صَحِيحَةٍ لَيْسَ فِيهَا اتِّصَالُ أَشِعَّةٍ، وَلَا مُقَابَلَةٌ وَلَا تَصَوُّرُ جِهَةٍ وَلَا فَضْلُ جِسْمٍ شَفَّافٍ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْعَقْلُ لَا يَجْزِمُ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ بَدِيهَةً، وَهُوَ إِلَى الْقُصُورِ فِي النَّظَرِ أَمْيَلُ، وَالشَّرْعُ قَدْ جَاءَ بِإِثْبَاتِهَا، فَلَا مَعْدِلَ عن التصديق" (¬4). وهذا النص واضح في إثبات الإمام الشاطبي للرؤية على طريقة ¬

_ (¬1) "الموافقات" (3/ 224). (¬2) المصدر السابق. (¬3) انظر كلام الأشاعرة في هذه المسألة في: "كتاب أصول الدين" للبغدادي (ص 106 - 108)، "الإرشاد" للجويني (ص 128 - 137)، "الإنصاف" للباقلاني (ص 96 - 97)، "شرح الباجوري على الجوهرة" (ص 64 - 66، 84). وانظر في رد أهل السنة عليهم: "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (12/ 579 - 581) (6/ 295 - 296)، "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (2/ 426)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 184 - 188). (¬4) انظر: "الاعتصام" (2/ 330).

ثالثا: مسألة الاستواء:

الأشاعرة الذين ينفون رؤية الله في جهةٍ، بناءً على نفيهم العلو والفوقية له سبحانه (¬1). قال الإمام ابن أبي العز (¬2): "ومن قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله، فإما أن يكون مكابراً لعقله وفي عقله شيء، وإلا فإذا قال يرى لا أمام الرائي، ولا خلفه، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، ولا فوقه، ولا تحته؛ رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة، ولهذا ألزم المعتزلة من نفي العلو بالذات بنفي الرؤية، وقالوا كيف تعقل رؤية بلا مقابلة بغير جهة ... ". ثالثاً: مسألة الاستواء: قال رحمه الله أثناء حديثه عن المتشابهات: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت، فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها، وهو نادر، كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح، فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد؛ كمسائل الاستواء وأشباه ذلك، وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم، وترك الخوض في معانيها، دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن، لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل، ولا تكليف يتعلق بمعناها" (¬3). وقال في موضع آخر -مبيناً لقوله: لا تكليف يتعلق بمعناها-: "المراد أن يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى، وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله، وبأن يجتنب فعله إن كان أفعال العباد، ويجتنب النظر فيه إن كان غير أفعال العباد كقوله: ¬

_ (¬1) انظر قول الأشاعرة في: "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 100)، "الإنصاف" للباقلاني (ص 72 - 74، 252)، "أصول الدين" للبغدادي (ص 97 - 102). وانظر في رد أهل السنة عليهم: "الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (16/ 84، 87)، "درء تعارض العقل والنقل" له أيضاً (1/ 250)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 195). (¬2) "شرح الطحاوية" (ص 195). (¬3) "الموافقات" للشاطبي (3/ 94).

رابعا: مسألة علو الله تعالى:

{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] وأشباه ذلك، هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف، وإلا فالتكليف متعلق بكل موجود، من حيث يعتقد على ما هو عليه، أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه، إلى غير ذلك من وجوه النظر" (¬1). وفي هذه العبارات يذكر المؤلف أن السلف لم يخوضوا في معنى هذه الصفة ونحوها من الصفات، بل ينهي عن النظر في معناها كما في النص الأخير. وهذا الكلام للإمام الشاطبي في هذه الصفة موافق لقول بعض الأشاعرة الذين يفوضون معنى الاستواء إلى الله، ويدعون أنه غير معلوم، ظناً منهم أن ذلك مذهب السلف، ومنهم من ذهب إلى تأويل الاستواء بالاستيلاء (¬2). رابعاً: مسألة علو الله تعالى: قال الإمام الشاطبي متحدثاً عما يلزم مفسر القرآن معرفته: "ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثَمَّ سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة، ولا بد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد، وإن كان مفهوماً: قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] وأشباه ذلك، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض، وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق، فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه ¬

_ (¬1) "الموافقات" للشاطبي (3/ 344). (¬2) انظر كلام الأشاعرة في هذه المسألة في: "أصول الدين" للبغدادي (ص 112 - 114)، "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 92)، "تفسير الفخر الرازي" (14/ 106، 121). وانظر في رد أهل السنة عليهم: "الفتاوى" (4/ 67 - 68)، (5/ 34 - 36)، "درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية (1/ 14 - 16)، "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (1/ 54 - 55)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 280 - 281).

خامسا: بقية الصفات السمعية:

تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض، فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة، ولذلك قال تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]، فتأمله، واجر على هذا المجرى في سائر الآيات والأحاديث" (¬1). ومن كلامه أيضاً: قوله عند تقسيمه للبدع إلى مكفرة وغير مكفرة: "لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْبِدَعَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ، كَاتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ لتقربَهم إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بكفر كالقول بالجهة عند جماعة" (¬2). ولفظ الجهة وإن كان من الألفاظ المحدثة التي ينبغي أن يُسأل عنها لمعرفة المراد بها، لاحتمالها الحق والباطل، إلا أنا إذا نظرنا إلى النص الأول تبين لنا أن مراد الشاطبي نفي صفة العلو، وهو مذهب الأشاعرة، وهو مخالف لمذاهب أهل السنة الذين يثبتون علو الله تعالى وفوقيته سبحانه بأدلة الكتاب والسنة (¬3). خامساً: بقية الصفات السمعية: (النزول - الضحك - اليد - القدم - الوجه - العين). ذهب الإمام الشاطبي في هذه الصفات إلى ما ذهب إليه في صفة الاستواء من القول بتفويض معناها، وأن ظاهرها غير مراد، وهو قول بعض الأشاعرة (¬4). وأوضحُ عبارات الشاطبي في ذلك: ما ذكره في الاعتصام ذاماً لأهل ¬

_ (¬1) "الموافقات" للشاطبي (3/ 351). (¬2) "الاعتصام" للشاطبي (2/ 197). (¬3) انظر المسألة في: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (2/ 297 - 298)، (5/ 122، 126، 227، 231)، "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 100)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 282)، "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (2/ 369 - 375). (¬4) انظر قولهم في: "الإرشاد" للجويني (ص 146)، "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 92)، "أصول الدين" للبغدادي (ص 109 - 112)، "أقاويل الثقات" لمرعي بن يوسف الكرمي (ص 136).

البدع الذين يتبعون المتشابهات، فقال: "ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظَّاهِرِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَوَارِحِ لِلرَّبِّ الْمُنَزَّهِ عَنِ النقائص: من العين والرجل والوجه المحسوسات، والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات" (¬1). وقال أيضاً في سياق كلامه على المتشابه الإضافي: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها وهو نادر، كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح، فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له، والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد، كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه وأشباه ذلك، وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن، لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل، ولا تكليف يتعلق بمعناها" (¬2). وقال في موضع آخر: "وإن سُلِّم فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى، وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله، وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد، ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد" (¬3). وفي هذه النصوص ما يكفي لبيان موقف الشاطبي من هذه الصفات، وهو خلاف قول أهل السنة فيها، حيث أثبتوا معانيها على الوجه الذي يليق به سبحانه، وفوضوا كيفيتها إلى الله (¬4). ¬

_ (¬1) "الاعتصام" (1/ 240). (¬2) "الموافقات" (3/ 94). (¬3) "الموافقات" (3/ 344). (¬4) انظر في الرد على مذهب الأشاعرة: "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (4/ 67 - 68)، (5/ 34، 35، 36)، و"درء تعارض العقل والنقل" له أيضاً (1/ 14 - 16)، و"مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص 54 - 55).

الباب الثاني التعريف بالكتاب وطبعاته ونسخه الخطية:

الباب الثاني التعريف بالكتاب وطبعاته ونُسَخِه الخَطِّيَّة: * وفيه فصلان: الفصل الأول: التعريف بالكتاب. الفصل الثاني: التعريف بطبعات الكتاب ونُسَخِه الخَطيَّة.

الفصل الأول التعريف بالكتاب

الفصل الأول التعريف بالكتاب * وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: اسم الكتاب. المبحث الثاني: موضوع الكتاب. المبحث الثالث: سبب تأليف الكتاب. المبحث الرابع: توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه. المبحث الخامس: قيمة الكتاب العلمية.

المبحث الأول اسم الكتاب

المبحث الأول اسم الكتاب لقد نص المؤلف في المقدمة على أن اسم كتابه هذا "الاعتصام"، حيث قال (¬1): "فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي وَضْعِ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْبِدَعِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا من المسائل أصولاً وفروعاً، وسميته بالاعتصام ... ". وجاءت هذه التسمية صراحة على الصفحة الأولى من النسخة المدنية المرموز لها بـ (م)، والنسخة المصرية المرموز لها بـ (خ) والنسخة التونسية الثانية المرموز لها بـ (ت)، غير أن اسمه في (م) و (خ) هكذا: "هذا كتاب الاعتصام في ذم البدع". وأما النسخة المغربية الأولى المرموز لها بـ (ر)، فلم يذكر اسم الكتاب فيها في مقدمة الشاطبي، بل جاء في موضعه بياض بعد قوله: "وسَمِّيته"، ومثلها المغربية الثانية المرموز لها بـ (غ)، وجاء اسم الكتاب على غلاف المغربية الأولى (ر) هكذا: "كتاب الحوادث والبدع في الحض على اتباع أهل السنة واجتناب أهل البدع"، ومن المفترض أن يذكر هذا الاسم أيضاً على المغربية الثانية (غ)؛ لأنها منسوخة عنها كما سيأتي، غير أنه جاء في موضع التسمية فيها بياض، فلا ندري أهكذا جاء في الأصل، أو هو تصرف ممن قام بالتصوير؟!. ونص جميع الذين ترجموا للمؤلف على أن اسم كتابه: "الاعتصام"، إلا تلميذه عبد الله المجاري (¬2)؛ فإنه سمَّاه (¬3) "كتاب الحوادث والبدع"، ¬

_ (¬1) في "مقدمة الكتاب" (1/ 43). (¬2) تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ المؤلف. (¬3) في "برنامجه" (ص 118).

فلعله وقعت له النسخة المغربية (ر)، أو نسخة أخرى شبيهة بها، والله أعلم. ولا شكَّ بأن هذه التسمية غير صحيحة؛ لأن صاحب البيت أدرى بما فيه، وليس بعد تصريح المؤلف باسمه ما يدعو للخلاف، وأما "كتاب الحوادث والبدع"، فالمعروف بهذا الاسم هو كتاب أبي بكر الطرطوشي رحمه الله، فلعل الذي سمَّى كتاب الشاطبي بهذا الاسم نظر إلى موضوع الكتاب، وربطه بشهرة كتاب الطرطوشي رحمه الله، ولم يرد في نسخته ما ذكره المؤلِّف في المقدمة، أو لم يتنبَّهْ له، والله أعلم.

المبحث الثاني موضوع الكتاب

المبحث الثاني موضوع الكتاب لقد نص الإمام الشاطبي على موضوع كتابه في المقدمة حيث قال: "فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي وَضْعِ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْبِدَعِ وَأَحْكَامِهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا من المسائل أصولاً وفروعاً ... " (¬1). وقد جعل المؤلف هذا الكتاب في مقدمة وعشرة أبواب. فأما المقدمة فتحدَّث فيها المؤلف عن غُربة الإسلام يوم بدأ، وأنه سيعود غريباً كما بدأ، مبيِّناً ذلك بحال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ الله عنهم، وما كانوا فيه من القلة والضعف في أول الإسلام، ثم ما من الله به عليهم من القوة والنصر واكتمال الدين، وأن الأمر بقي على هذا الحال حتى عاد الإسلام غريباً كما بدأ، وذلك بسبب فُشُوِّ البدع، وظهور الفرق الضالة، وقلة المنكرين لها. وقد ذكر المؤلف أنه اتبع الكتاب والسنة وصبر على ذلك، مع كثرة المخالفين، ومع كثرة اتهاماتهم له ... ، وأنه تتبع البدع لعله يجتنبها، والسنن لعلها يظهرها بالعمل. ثم ذكر أنه استشار واستخار في وضع كتاب في هذا الموضوع لأهميته وشدة الحاجة إليه. وأما أبواب الكتاب العشرة فنسوقها إليك باختصار. فالباب الأول: في تعريف البدعة وشرح التعريف. ¬

_ (¬1) انظر النص المحقق (ص 43).

والباب الثاني: في ذم البدع وسوء منقلب أهلها من القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين وغيرهم. والباب الثالث: في أن ذم البدع عام من غير تخصيص، وبيان أقسام المبتدعة من حيث الاجتهاد والتقليد، والرد على من ذهب إلى تقسيم البدع إلى حسن وقبيح، أو إلى واجب ومندوب ومباح وحرام ومكروه. والباب الرابع: في مأخذ أهل البدع في الاستدلال، ومناهجهم في الاحتجاج على بدعهم. والباب الْخَامِسُ: فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَالْفَرْقِ بينهما. والباب السَّادِسُ: فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى رتبة واحدة، بل هي متفاوتة، فمنها المحرم ومنها المكروه، والمحرم ليس على رتبة واحدة .. ، ومنها الكبيرة ومنها الصغيرة. والباب السَّابِعُ: فِي الِابْتِدَاعِ، هَلْ يَدْخُلُ فِي الْأُمُورِ العادية؟ أم يختص بالأمور العبادية؟. والباب الثَّامِنُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِدَعِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ والاستحسان. والباب التاسع: في السبب الذي من أجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين. وقد ذكر المؤلف فيه أحاديث الافتراق وبسط الكلام في مسائلها. والباب العاشر: فِي بَيَانِ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عَنْهُ سُبُلُ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ فضلَّت عَنِ الْهُدَى بعد البيان، ولم يُتِمَّ المؤلف هذا الباب، وكل جُلُّ ما فيه عن الجهات التي يقع منها الابتداع، وهي الجهل بأدوات الفهم، والجهل بمقاصد الشريعة، وتحسين الظن بالعقل، واتباع الهوى.

المبحث الثالث سبب تأليف الكتاب

المبحث الثالث سبب تأليف الكتاب ذكر المؤلف في مقدمة الكتاب سبب تأليفه، وهو ظهور البدع، وانكباب الناس على العمل بها، وسكوت المتأخرين عن الإنكار لها، مع أن هذه البدع قد فشت حتى التبست عند الكثير بالسنة (¬1). وذكر أيضاً رحمه الله أنه كان قد اجتمع له في البدع والسنن أصول وفروع، فمالت إلى بَثِّها النفس (¬2). ولعل من أهم أسباب تأليف الكتاب: ما ذكره المؤلف من أنه قَلَّما صُنِّف في هذا الموضوع على الخصوص تصنيف، وأن ما صُنِّف فيها غير كاف (¬3). وقال المؤلف رحمه الله في تقرير هذا المعنى: " ... وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ كَتْبُ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي وَضَعْتُ يَدِي فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنِّي رَأَيْتُ بَابَ الْبِدَعِ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ مُغْفلاً جِدّاً، إِلَّا مِنَ النَّقْلِ الجَلِىِّ؛ كَمَا نَقَلَ ابْنُ وضَّاح (¬4)، أَوْ يُؤْتَى بِأَطْرَافٍ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ بِالتَّفَقُّهِ فِيهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَلَمْ أَجِدْ عَلَى شِدَّةِ بَحْثِي عَنْهُ إِلَّا مَا وَضَعَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ (¬5)، وهو يسير في جانب مَا يُحتاج إِلَيْهِ فِيهِ، وَإِلَّا مَا وَضَعَ النَّاسُ فِي الفِرَقِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، وَهُوَ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْبَابِ وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَأَخَذْتُ نَفْسِي بِالْعَنَاءِ فِيهِ، عَسَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ واضعه وقارئه وناشره ¬

_ (¬1) انظر النص المحقق (ص 36). (¬2) الموضع السابق. (¬3) الموضع السابق. (¬4) تأتي ترجمته في الجزء المحقق (ص 39). (¬5) تأتي ترجمته في الجزء المحقق (ص 261).

وَكَاتِبُهُ وَالْمُنْتَفِعُ بِهِ وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ وليُّ ذلك ومُسْديه بسعة رحمته (¬1). هذه هي الأسباب التي دفعت المؤلف إلى تأليف هذا الكتاب. ¬

_ (¬1) "الاعتصام" (2/ 117 - 118).

المبحث الرابع توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه

المبحث الرابع توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه لم تَخْلُ نسخة من نسخ الكتاب الخطية من نسبة هذا الكتاب إلى الإمام الشاطبي رحمه الله. وقد ذكره ضمن تصانيف المؤلف تلميذه عبد الله المجاري (¬1) في كتابه "برنامج المجاري" (¬2). وذكره أيضاً أحمد بابا التنبكتي في نيل الابتهاج ضمن تصانيفه رحمه الله (¬3). وذكره محمد بن مخلوف في شجرة النور الزكية ضمن مؤلفاته (¬4)، والكتاني في فهرس الفهارس (¬5)، وسركيس في معجم المطبوعات العربية (¬6)، ورضا كحالة في معجم المؤلفين (¬7). ومما يؤكد نسبة هذا الكتاب إلى الإمام الشاطبي: إحالاته فيه إلى كتابه الموافقات، ومن ذلك ما في المقدمة (ص 25)، والباب الثالث (ص 401)، والباب الثامن (2/ 135)، والباب التاسع (2/ 224). ويؤكد هذه النسبة أيضاً أسلوب المؤلف في هذا الكتاب، فهو أسلوبه في الموافقات. ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ المؤلف (ص 38). (¬2) انظر: "برنامج المجاري" (ص 118). (¬3) "نيل الابتهاج" (ص 48). (¬4) "شجرة النور الزكية" (ص 231). (¬5) "فهرس الفهارس" (1/ 191). (¬6) "معجم المطبوعات العربية" (1/ 1090 - 1091). (¬7) "معجم المؤلفين" (1/ 118 - 119).

المبحث الخامس قيمة الكتاب العلمية

المبحث الخامس قيمة الكتاب العلمية يُعَدُّ كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي أحسن ما أُلِّف في التحذير من البدع وبيان أحكامها، فلا نكاد نجد كتاباً تناول البدعة وأحكامها كما تناولها هذا الكتاب، وأغلب من ألف في هذا الموضوع بعد الإمام الشاطبي استفاد منه وتأثر به تأثراً واضحاً. وتقدم ذكر كلام المؤلف في إشارته إلى من سبقه ممن كتب في هذا الموضوع، وبيَّن أنها قليلة وغير كافية في هذا الموضوع (¬1). وقد فاق هذا الكتاب غيره من الكتب في هذا الموضوع بأمورِ عِدَّة، من أهمها: 1 - دقة المؤلف في تعريف البدعة، حيث عرفها بتعريف دقيق، ثم شرح التعريف شرحاً وافياً حدد به معنى البدعة على وجه الدقة، وأزال به ما يقع للكثير من اللبس وعدم التفريق بين البدع والمحرمات بل والمباحات. 2 - سعة جمعه للأدلة في الحث على السنة والنهي عن البدعة، سواء من الآيات أو الأحاديث أو الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، ودراسة هذه الأدلة والنقول دراسة دقيقة تنبئ عن دِقَّةٍ في الاستنباط، وبراعة في الفهم. 3 - حسن ترتيب المؤلف لموضوعات الكتاب، وتقسيمه له على أبواب وفصول ومسائل، وتدرجه في ترتيب هذه الأبواب بحسب موضوعاتها مما يعين القارئ على الفهم والاستيعاب. ¬

_ (¬1) انظر النص المحقق (ص 36).

4 - سعة البحث وطول النفس مع الجودة والإتقان في تحرير المسائل والأحكام المتعلقة بالبدع، وهذه منقبة واضحة لهذا الكتاب جعلته يفوق غيره مما أُلِّف في هذا الباب. 5 - تركيز المؤلف على المسائل التي تلتبس على كثير من الناس، ويتخذها المبتدعة وسيلة لترويج بعض البدع، حيث حرر المؤلف القول فيها، وأزال عنها الاشتباه، وذلك كمسألة تقسيم البدعة إلى حسنة وقبيحة، أو تقسيمها بأقسام أحكام الشريعة الخمسة (¬1)، وكمسألة التفريق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان (¬2)، ونحوها من المسائل. 6 - قوة المؤلف العلمية، وتأهله لخوض هذا الموضوع، فقد اجتمع له علوم أهلته لهذه المهمة، من علم بالعربية، والأصول، ومقاصد الشريعة ونصوصها، مع قوة في الاستنباط، ورصانة في العبارة. ومزايا هذا الكتاب تفوت الحصر، نسأل الله أن يجزي مؤلفه خير الجزاء. ¬

_ (¬1) تناول المؤلف هذه المسألة في الباب الثالث (ص 321 وما بعدها، وص 337 وما بعدها). (¬2) أفرد المؤلف لهذه المسألة الباب الثامن من الكتاب.

الفصل الثاني التعريف بطبعات الكتاب ونسخه الخطية

الفصل الثاني التعريف بطبعات الكتاب ونُسَخِه الْخَطِّيَّة * وفيه مبحثان: المبحث الأول: التعريف بطبعات الكتاب. المبحث الثاني: التعريف بنسخ الكتاب الخطِّيَّة.

المبحث الأول التعريف بطبعات الكتاب

المبحث الأول التعريف بطبعات الكتاب طُبع كتاب "الاعتصام" للشاطبي عدة طبعات، أهمها طبعات ثلاث، وهي: 1 - الطبعة الأولى: بتعليق وتصحيح الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: وهي أول طبعة تخرج للكتاب، وقد طُبعت الطبعة الأولى منها في مطبعة المنار بمصر سنة 1331 هـ. وذكر الشيخ رشيد رضا في مقدمته أن اعتماده كان على "نسخة بخط مغربي في كتب الشيخ محمد محمود الشنقيطي، المحفوظة في دار الكتاب الخديوية" (¬1). وهذه النسخة هي إحدى النسخ التي اعتمدناها في طبعتنا هذه، ورمزنا لها بالرمز (خ)، وسيأتي وصفها. وقد طُبعت هذه الطبعة مرتين: المرة الأولى: في ثلاثة أجزاء: الجزء الأول من أول الكتاب إلى نهاية الباب الرابع، ويقع في 388 صفحة. الجزء الثاني: من أول الباب الخامس إلى نهاية الثامن، ويقع في 356 صفحة. الجزء الثالث: من أول الباب التاسع إلى نهاية الكتاب، ويقع في 279 صفحة. ¬

_ (¬1) انظر مقدمة رشيد رضا لـ: "الاعتصام" (1/ 7).

وفي نهاية الكتاب جدول بالأخطاء المطبعية يقع في 8 صفحات. وقد قدم الشيخ رشيد رضا رحمه الله لهذه الطبعة بمقدمة أثنى فيها على الشاطبي، وبيَّن فيها أهمية الكتاب، ومنجهه في التعليق والتصحيح، واعتذر عن التقصير بسبب كثر مشاغله في تلك الفترة، وأنه لم يتسنَّ له وقت كافي للتعليق وتخريج أحاديث الكتاب، وظهر من عبارته أنه لم يحقق نص الكتاب، وإنما حققه شخص آخر، وأعطيت النسخة لرشيد رضا لمراجعة النص والتعليق عليه. ويظهر أن المحقق للنص تصرّف -اجتهاداً- في بعض المواضع، كما أن التحقيق تم على نسخة واحدة، مما أدى إلى ظهور خللٍ بَيِّنٍ في النص. ولا يوجد تخريج للأحاديث والآثار في هذه النسخة إلا حديث: "بدأ الإسلام غريباً" في بداية الكتاب. ولكثرة فوائد هذه التعليقات التي سطرها يراع رشيد رضا تم نقلها بتمامها في بعض المواضع من الكتاب. وهذه الطبعة نادرة الوجود لقدمها. المرة الثانية: ثم أعيد طبع الكتاب في جزئين، أُصلحت فيها الأخطاء المطبعية، وطبعته المكتبة التجارية الكبرى في مصر. ينتهي الجزء الأول من هذه الطبعة بنهاية منتصف الباب الخامس، ويقع في 368 صفحة. ويبدأ الجزء الثاني من منتصف الباب الخامس إلى نهاية الكتاب، ويقع في 362 صفحة. وهذه الطبعة هي الطبعة المشهورة والمتداولة بين الناس، وهي التي تم الاعتماد عليها في هذا التحقيق في نقل أقوال رشيد رضا، وبيان فروقها في بعض أجزاء الكتاب، ورمزنا لها بالرمز (ط). 2 - الطبعة الثانية: طبعة دار ابن عفان بتحقيق الشيخ سليم الهلالي:

وقد تمت طباعتها سنة 1412 هـ، نشرتها دار ابن عفان في الخبر في المملكة العربية السعودية. ويقع الكتاب في جزئين: الجزء الأول من بداية الكتاب إلى نهاية الباب الخامس، في 514 صفحة. والجزء الثاني من بداية الباب السادس إلى نهاية الكتاب، في 365 صفحة. وقد حقق الكتاب على مخطوط واحد، وهي النسخة المدنية، وسيأتي التعريف بها. ولكثرة الملاحظات على هذه الطبعة أطال الشيخ مشهور (¬1) في نقدها؛ بحيث استغرق نقده لها (60) صفحة تقريباً. 3 - الطبعة الثالثة: طبعة مكتبة التوحيد بتحقيق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان: وكانت طباعتها سنة 1421 هـ، وصدرت عن مكتبة التوحيد بالمنامة - البحرين، وهي أحسن طبعات الكتاب السابقة، وقد صدرت في أربعة مجلدات مع الفهارس، وكان الاعتماد في تحقيقها على طبعة الشيخ رشيد رضا، بالإضافة لنسختين خطيتين، هما: نسخة المدينة النبوية التي رمزنا لها بالرمز (م)، وإحدى النسخ المغربية، وهي التي رمزنا لها بالرمز (ر). وكان من دواعي نشر طبعتنا هذه -مع وجود طبعة الشيخ مشهور- ثلاثة أمور: أولاً: أن هذا العمل كان موجوداً وشبه مكتمل وشُرع في طباعته وتكميله قبل خروج عمل الشيخ مشهور، فأصله -كما تقدم- رسائل جامعية نوقشت في سنتي (1413 هـ- 1415 هـ)، ومن المعلوم أنه يعزُّ على المرء ذهاب جهده الذي أفنى فيه بعض عمره، وكم من الأعمال الموجودة ¬

_ (¬1) في مقدمة طبعته التي سيأتي التعريف بها (1/ 108 - 168).

في مكتبات العالم الإسلامي بتحقيقات متعددة، ومنها: الكتب الستة وغيرها. ثانياً: وجود بعض الاختلاف بين طبعتنا هذه وطبعة الشيخ مشهور، في مواضع من نص كتاب الشاطبي والتعليق عليه، وهو اختلاف له فائدته لطالب العلم ولا شك، ولا نرى ما يستدعي ذكره، فضلاً عن عيب عمل الشيخ وتتبع أخطائه (¬1)، فالساحة العلمية تستوعب العملين وزيادة، وأهل العلم سيستفيدون من كلا العملين إن شاء الله، فكلّ منهما يكمِّل الآخر. علماً بأن هناك مقالة نشرت في ملتقى أهل الحديث بعنوان: "ملحوظات على تحقيق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان لكتاب الاعتصام للشاطبي"، كتبها أبو زرعة التميمي النجدي في 22/ 6/1424 هـ، ولم يعتمد في ملاحظاته على نسخة خطية، ولا يعني ذكرنا لهذه المقالة موافقة الكاتب، مع أنه كان يصحبه الأدب فيما كتب -جزاه الله خيراً- ولكن من الملاحظات ما قد يوافق عليه، ومنها ما هو اختلاف في وجهات النظر، أو هكذا وقع للشيخ مشهور في ما بين يديه من النسخ، والتفصيل في ذلك ليس من مقصودنا. ثالثاً: تَوَفُّرُ ست نسخ خطِّيَّة عندنا اعتمدناها في التحقيق -كما سيأتي- منها أربع نسخ زائدة على النسخ التي اعتمدها الشيخ مشهور، إحداها الأصل الذي طُبعت عليه نسخة رشيد رضا رحمه الله. ¬

_ (¬1) فنحن لا نرى صواباً ما اعتاده كثير من المحققين؛ من تتبع عيوب المحققين الآخرين، ومحاولة إسقاط أعمالهم، والتطاول عليهم، واتهامهم في علمهم ونيَّاتهم، إلا في أحايين يستدعيها الوضع القائم، بعدل وإنصاف، وبقدر الضرورة، مع الحرص على أن لا يُذْكَرَ إلا ما لا بُدَّ من ذكره بقصد بيان حق، أو تحذير من باطل أو خطأ يضرُّ الأمة، فهذا من النصيحة لله سبحانه، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولأئمة المسلمين وعامَّتهم، نسأل الله صلاح النية.

المبحث الثاني التعريف بنسخ الكتاب الخطية

المبحث الثاني التعريف بنسخ الكتاب الخطِّيَّة توفر لدينا ست نسخ خطية لكتاب الاعتصام، وفيما يلي وصفها: النسخة الأولى: النسخة المغربية الأولى المحفوظة في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم (1693)، وتقع في (155) ورقة، في كل ورقة صفحتان، في الصفحة (31) سطراً، في السطر (17) كلمة تقريباً. وهي بخط مغربي جيد ومتقن ومشكول في بعض المواضع، وقد لحق بعض صفحاتها شيء من التلف الذي ذهب ببعض الجمل، بل والأسطر أحياناً. وهي أجود النسخ وأكملها، وبها يستقيم نص الكتاب، وينتفي كثير مما قيل عن صعوبة أسلوب الشاطبي الذي كان بسبب سقط وتصحيف وقع في طبعات الكتاب السابقة. على أن هذه النسخة لا تخلو من بعض السقط والخطأ، ولكنه قليل في جانب كثير صوابها. ولم يذكر عليها اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ، غير أنه يغلب على الظن أنها أقدم النسخ كما يظهر من خطها، بخلاف باقي النسخ التي ذُكِر تاريخ نسخها، فجميعها متأخرة بعد المئتين وألف للهجرة. وكتب اسم الكتاب على غلافها هكذا: "كتاب الحوادث والبدع في الحض على اتباع أهل السنة واجتناب أهل البدع، تأليف الشيخ الفقيه الإمام

النسخة الثانية:

العالم العلامة المحدث الناقد الراوية الأستاذ النحوي الخطيب البليغ أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنِّه ويمنه". وهذا يخالف التسمية المعروفة التي نصَّ عليها المصنف في مقدمة الكتاب: "الاعتصام"، فإما أن تكون النسخة ... (وتقدمت مناقشة تسمية الكتاب) فالذي يظهر أن المكتوب على غلاف الكتاب ليس بخط الناسخ، فلعل التلف ذهب بالغلاف، ثم اجتهد أحد المطالعين بعد أن رأى موضوع الكتاب يتعلق بالحث على اتباع السنن واجتناب البدع، ولا يعرف عنوان كتاب الشاطبي، وكان مستحضراً لعنوان كتاب أبي بكر الطرطوشي "الحوادث والبدع "، فأثبته عليه، ولم يقرأ مقدمة الكتاب التي نصَّ فيها الشاطبي رحمه الله على تسمية كتابه هذا بـ "الاعتصام"، والله أعلم. وقد رمزنا لها بالرمز (ر). النسخة الثانية: هي النسخة المغربية الثانية، وهي من محفوظات القصر الملكي بالرباط، وأصلها من مكتبة جامع علي بن يوسف بمراكش، وتقع في (459) صفحة حسب الترقيم المكتوب على صفحاتها، وهو غير صحيح (مع ملاحظة أن ترقيم الصفحات فيه خطأ حيث جاء بعد (ص 257) صفحة رقم (268) ولا يوجد في الحقيقة سقط، بل الكلام متصل ومستقيم). ويوجد في كل صفحة (25) سطراً. في كل سطر من (12 إلى 15) كلمة تقريباً. وخطها مغربي. ولم يُذكر اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ. وقد رمزنا لها بالرمز (غ). ونكاد نجزم بأنها منسوخة عن النسخة المغربية السابقة (ر)؛ لأن ناسخها يبيض المواضع التي لحقها التلف في نسخة (ر)، وهي أكثر النسخ

النسخة الثالثة:

موافقة لها في فروقها، ولم نجد في بداية مصورتها ذكراً لاسم الكتاب، وإنما كُتِب على غلافها ما نَصُّه: "تأليف الشيخ الفقيه الإمام العالم العلامة المحدث الناقد الراوية الأستاذ النحوي الخطيب البليغ أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى ورضي عنه"، وهي نفس العبارة التي على نسخة (ر)، سوى عنوان الكتاب، فإنه لم يظهر على مصورتها، فإما أن يكون الناسخ رأى أن العنوان خطأ فتركه، أو يكون كتبه ولكنه طمس فلم يظهر في المصورة، والله أعلم. النسخة الثالثة: النسخة المدنية المحفوظة في مكتبة المسجد النبوي تحت رقم (29/ 214)، وعنها نسخة مصورة في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى برقم (339). تقع هذه النسخة في (265) ورقة، في الورقة صفحتان، وفي الصفحة (25) سطراً، في كل سطر ما بين (10) إلى (12) كلمة تقريباً. وقد كتبت بخط مغربي، سنة (1248 هـ)، ولم يذكر اسم ناسخها، وقد كُتب في أعلى الغلاف ما نصُّه: "ملك محمد بن عاشور غفر الله له". ثم في أسفل منه: "هذا كتاب الاعتصام في ذم البدع للإمام أبي إسحاق الشاطبي، تملكه فقير ربه المعتمد على مولاه الأكرم محمد بن ( ...... ... ) في ثاني الجمادين سنة 1248". ثم أسفل منه: "ملك الهمام الفاضل الشيخ سيدي محمد بن عاشور المالكي مذهباً، غفر الله له ولمشايخه ولوالديه والمسلمين آمين". وفي بدايتها تعريف موجز بالكتاب وصاحبه وثناء عليهما، ثم فهرس لمحتويات الكتاب. وقد رمزنا لها بالرمز (م). النسخة الرابعة: النسخة المصرية التي اعتمد عليها رشيد رضا في تحقيقه لهذا الكتاب،

وهي محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (32 فقه مالكي). ومسطرتها 32×21 سم تقريباً. وتقع في جزئين: الجزء الأول في 274 صفحة، والجزء الثاني في 256 صفحة. في كل صفحة 23 سطراً. في كل سطر ما بين 9 إلى 12 كلمة. وكتبت بخط مغربي. ناسخها هو: حسن بن محمد الشلبي (أو: الشبلي). تاريخ نسخها: سنة 1295 هـ. وقد جاء في طُرَّتها ما نصُّه: "هذا كتاب الاعتصام في ذم البدع؛ للإمام أبي إسحاق الشاطبي برَّد الله ثراه، وجعل الجنة مأواه، آمين يا الله". ثم في أسفل هذا العنوان هِبَة هذه النسخة من صاحبها لشيخه محمد محمود، ثم وقفيَّة الشيخ هذا الكتاب، وهذا نص الهبة والوقفية: "الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم، اللذين من اعتصم بهم هُدي إلى الصراط المستقيم، وبعد فيقول راقم هذه الحروف: إني وهبت هذا الكتاب الْمُسَمّى بالاعتصام لشيخنا وأستاذنا العالم العلامة سيدي محمد محمود، جعلنا الله وإياه من الفائزين في اليوم الموعود، كتبه فقير ربه محمد العربي زروق، في 19 شوال المبارك، سنة 1303. الحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده. ثم وقفه مالكه محمد محمود بن التلاميد التركزي في 19 شوال سنة 1303 على عصبته بعده وقفاً مؤبَّداً، فمن بدَّله فإثمه عليه، وكتبه محمد محمود لطف الله به، في 19 شوال سنة 1303".

النسخة الخامسة:

وفي آخر النسخة ما نصه: "انْتَهَى الْقَدْرُ الَّذِي وُجِدَ مِنْ هَذَا التَّأْلِيفِ، ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى، والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. تم نسخ الجزء الثاني من الاعتصام للإمام الشاطبي في 25 المحرم الحرام، فاتح شهور سنة 1295، جعله الله مباركاً علينا وعلى المسلمين أجمعين، على يد كاتبه العبد الفقير الذليل المعترف بالذنب والتقصير: حسن بن محمد الشلبي (أو: الشبلي) الشريف الأمين ( ... ) كان رحمه الله ورحم المسلمين أجمعين، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ العظيم، فهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً تسليماً كثيراً. انتهي". وقد رمزنا لهذه النسخة بالرمز (خ). النسخة الخامسة: هي النسخة التونسية الأولى المحفوظة في دار الكتب الوطنية بتونس، تحت رقم (544). وتقع في () صفحة. في كل صفحة قرابة (34) سطراً. في كل سطر قرابة (14) كلمة. الناسخ: علي الطوسي. تاريخ النسخ: 1281 هـ. وقد جاء في آخر النسخة ما نصه: "انتهي القدر الذي وجد من هذا الكتاب، وهذا التأليف الجليل، رحمة الله على مؤلفه، ورضي عنه، على يد كاتبه: علي الطوسي، ختم الله له بخير في 10 من ثاني الجمادين عام 1281".

النسخة السادسة:

ولم يتم تصوير هذه النسخة بشكل يمكن معه الاستفادة منها؛ فقد جاء كثير من أوراقها سوداء لا تمكن قراءتها، وأولها أفضل بكثير من آخرها، بالإضافة إلى أنه ليس فيها فروق تستحق من يعتني بها، ولأننا لم نعثر على الجزء الأول من النسخة التونسية الآتية، فقد تم الاستفادة من هذه النسخة في تحقيق الأبواب الثلاثة الأولى، ورمز لها محقق القسم الأول بالرمز (ت)، وهو عين الرمز للنسخة التونسية التالية في باقي الكتاب. النسخة السادسة: النسخة التونسية الثانية المحفوظة في دار الكتب الوطنية بتونس تحت رقم (496) وتقع في جزئين، الجزء الأول مفقود حتى لدى الناسخ؛ كما يتضح من بدايتها والفهرس الذي ذكر في أولها، وأما الجزء الثاني فهو الذي اعتمدناه في هذا التحقيق، ويقع في 316 صفحة، ويبدأ بالباب السابع، إلى آخر ما وجد من الكتاب. وعدد الأسطر في كل صفحة: 22 سطراً. وفي كل سطر: 7 إلى 12 كلمة تقريباً. ناسخها: عبده الحاج حموده بوس. تاريخ النسخ: 1284 هـ. وخطها مغربي يصاحبه الشكل لبعض الكلمات. وفي بدايتها ما نصُّه: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد النبي المصطفي الأكرم الكريم، وعلى آله وصحبه وسلم"، ثم تعريف موجز بالكتاب وصاحبه وثناء عليهما، ثم فهرس لمحتويات هذا الجزء الذي وجد من الكتاب، ثم في صفحة الغلاف ما نصُّه: "هذا النصف الثاني من كتاب الاعتصام"، ثم في بداية النسخة ما نصُّه: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. قال العلامة النحرير، ناصر السنة، ولسان الدين، النظار المحقق، الشيخ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى آمين".

وجاء في آخرها ما نصه: "انْتَهَى الْقَدْرُ الَّذِي وُجِدَ مِنْ هَذَا التَّأْلِيفِ، ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى، ووافق الفراغ من نسخ هذا المقدار الموجود على يد كاتبه الفقير إلى ربه المحسن عبده الحاج حموده بوس، كان الله له، وختم بالحسنى عمله، وبلغه فيما يرجوه من ربه أمله. آمين. بحمد الله وتوفيقه وحسن عونه صبيحة يوم الجمعة رابع شهر ذي الحجة الحرام كمال عام 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله بكرة وعشية، ورضي الله تعالى عن أصحاب رسول الله أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، آمين آمين آمين". وبالهامش تصحيحات وفروق تدل على أنها قوبلت على نسخة أخرى، ولكن يكثر فيها السقط والبياض، بحيث يصل السقط فيها أحياناً قرابة الصفحتين، وأما البياض فهو كثير يصل أحياناً إلى سطرين، وقد استفدنا منها في تحقيق الباب السابع، إلى آخر الكتاب، ورمزنا لها بالرمز (ت).

نماذج للمخطوطات

نماذج للمخطوطات

صورة غلاف النسخة المغربية الأولى المرموز لها ب (ر)

الورقة الأولي من نسخة (ر)

نهاية الكتاب في نسخة (ر)

الورقة الأخيرة من نسخة (ر)

صورة غلاف النسخة المغربية الثانية المرموز لها بالرمز (غ)

الورقة الأولى من نسخة (غ)

الورقة الأخيرة من نسخة (غ)

صورة غلاف النسخة المدنية المرموز لها بالرمز (م)

الورقة التي بعد الغلاف من نسخة (م)

أول النسخة (م)، وفيها تعريف بالكتاب ومؤلفه وبداية فهرسته

نهاية فهرسة الكتاب الواقعة في بداية النسخة (م)

بداية الكتاب في النسخة (م)

نهاية الكتاب في النسخة (م)

صورة غلاف النسخة المصرية المرموز لها بالرمز (خ) وهي التي اعتمدها رشيد رضا في طبعته

بداية النسخة المصرية (خ)

نهاية النسخة المصرية (خ)

صورة الصفحة الأولي من المخطوطة التونسية الأولى المرموز لها بـ (ت) وهي المعتمدة في أول الكتاب في الأبواب الثلاثة الأولى

صورة الصفحة الأخيرة للمخطوطة التونسية الأولى (ت)

صورة بداية الموجود (وهي النصف الثاني) من النسخة التونسية الثانية المرموز لها بالرمز (ت)، والمعتمدة في الباب السابع وما بعده إلى نهاية الكتاب وفيها تعريف بالكتاب ومؤلفه وفهرس لمحتويات هذا القسم

نهاية الفهرس في بداية النسخة التونسية الثانية (ت)

غلاف بداية النصف الثاني من النسخة التونسية الثانية (ت)

بداية النصف الثاني (وهو الموجود) من النسخة التونسية الثانية (ت)

نهاية الكتاب في النسخة التونسية الثانية (ت)

نهاية النسخة التونسية الثانية (ت)

القسم الثاني النص المحقق

مقدمة المصنف لكتابه

بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَحْمُودِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، الَّذِي بِحَمْدِهِ يُسْتَفْتَحُ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ، خَالِقِ الْخَلْقِ لِمَا شَاءَ، وَمُيَسِّرِهِمْ (¬1) عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ ـ لَا عَلَى وَفْقِ أَغْرَاضِهِمْ ـ لِمَا سَرَّ وَسَاءَ، وَمُصَرِّفِهِمْ بِمُقْتَضَى الْقَبْضَتَيْنِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (¬2)، وهاديهم (¬3) النَّجْدَيْنِ (¬4)، فَمِنْهُمْ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ، وَمُسَوِّيهِمْ عَلَى قَبُولِ الْإِلْهَامَيْنِ (¬5) فَفَاجِرٌ وَتَقِيٌّ، كَمَا قَدَّرَ أَرْزَاقَهُمْ بِالْعَدْلِ عَلَى حُكْمِ الطَّرَفَيْنِ، فَفَقِيرٌ وَغَنِيٌّ، كُلٌّ مِنْهُمْ جَارٍ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ فَلَا يَعْدُوهُ، فَلَوْ تمالؤوا (¬6) على أن يسدوا ذلك البَثْقَ (¬7) لَمْ يَسُدُّوهُ، أَوْ يَرُدُّوا ذَلِكَ (¬8) الْحُكْمَ السَّابِقَ لَمْ يَنْسَخُوهُ وَلَمْ يَرُدُّوهُ، فَلَا إِطْلَاقَ لَهُمْ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَلَا انْفِصَالَ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} (¬9). وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى (سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا) (¬10) مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرحمة، ¬

(¬1) في (ر): "وميسيرهم". (¬2) يشير المؤلف إلى أحاديث القدر مثل حديث أنس عند أبي يعلى "إن الله قبض قبضة فقال: هذه إلى الجنة برحمتي، وقبض قبضة فقال: هذه إلى النار ولا أبالي"، انظر مسند أبي يعلى (6/ 144)، وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة تحت رقم (47). (¬3) هكذا في (غ) و (ر)، وفيه بقية النسخ: "وهداهم". (¬4) يشير إلى قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ *} سورة البلد: آية (10) وهما الطريقان: طريق الخير وطريق الشر. انظر تفسير ابن كثير (4/ 180). (¬5) يريد قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *}، سورة الشمس: آية (8). (¬6) مالأه على كذا (ممالأة): ساعده، وتمالؤا على الأمر اجتمعوا عليه. الصحاح للجوهري (1/ 73). (¬7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "السبق". قال في القاموس ص865: "بثق النهر .. : كسر شطة لِينبثق الماء، واسم ذلك الموضع: البَثْق". (¬8) ساقطة من (غ). (¬9) سورة الرعد، آية (15). (¬10) ما بين المعكوفين ساقطة من (ت) و (غ) وأصل (خ)، وهو مثبت في هامش (خ).

وَكَاشِفِ الغُمَّة (¬1)، الَّذِي نَسَخَتْ شَرِيعَتُهُ كُلَّ شَرِيعَةٍ، وَشَمَلَتْ دَعْوَتُهُ كُلَّ أُمَّةٍ، فَلَمْ يبقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ دُونَ حُجَّتِهِ، وَلَا اسْتَقَامَ لِعَاقِلٍ طَرِيقٌ سِوَى لَاحِبِ (¬2) مَحَجَّته (¬3)، وَجَمَعَتْ تَحْتَ حِكْمَتِهَا كُلَّ مَعْنًى مُؤْتَلِفٍ، فَلَا يُسْمَعُ بَعْدَ وَضْعِهَا خِلَافُ مُخَالِفٍ، وَلَا قَوْلُ مُخْتَلِفٍ، فَالسَّالِكُ سَبِيلَهَا مَعْدُودٌ فِي الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، وَالنَّاكِبُ (¬4) عَنْهَا مَصْدُودٌ إِلَى الْفِرَقِ الْمُقَصِّرَةِ أَوِ الْفِرَقِ الْغَالِيَةِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ (¬5) الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِشَمْسِهِ الْمُنِيرَةِ، وَاقْتَفَوْا آثَارَهُ اللَّائِحَةَ، وَأَنْوَارَهُ الْوَاضِحَةَ وُضُوحَ الظَّهِيرَةِ، وَفَرَّقُوا بِصَوَارِمِ أَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ بَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ فَاجِرَةٍ وَمَبْرُورَةٍ، وَبَيْنَ كُلِّ حُجَّةٍ بَالِغَةٍ وَحُجَّةٍ مُبِيرَةٍ (¬6)، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ السبيل، وسائر الْمُنْتَمِينَ إِلَى ذَلِكَ الْقَبِيلِ (¬7)، (وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا) (¬8). أما بعد فإني أذاكرك (¬9) أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْأَوْفَى، وَالْخَالِصَةُ الْأَصْفَى، فِي مُقَدِّمَةٍ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَدَأَ (¬10) الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بدأ فطوبى (¬11) ¬

(¬1) الغُمَّة: الكربة، ويقال: أمر غمّه أي مبهم ملتبس. الصحاح (5/ 1998)، والمراد: غمّة الجاهلية وظلامها. (¬2) في (ط): "لأحب" بالهمزة، وفي (غ) و (ر): "لاجب" وهو خطأ، واللاحب الطريق الواضح، والتحب فلان محجة الطريق إذا ركبها. لسان العرب لابن منظور (1/ 737). (¬3) المحجة بفتحتين: جادة الطريق. الصحاح (1/ 228). (¬4) نكب عن الطريق: عدل. ويقال: نكب عنه تنكيباً وتنكب عنه تنكباً، أي مال وعدل. الصحاح للجوهري (1/ 228). (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) مبيرة أي فاسدة هالكة. انظر لسان العرب (4/ 86). (¬7) القبيل: الجماعة تكون من الثلاثة فصاعداً من قوم شتّى. الصحاح (5/ 1797). (¬8) ما بين المعكوفين ساقطة من (ت). (¬9) في (ط): "أذكرك". (¬10) في (ط): "بدئ"، وضبطت الكلمة (في خ وط بضم الباء وكسر الدال) قال الإمام النووي: "بدأ الإسلام" كذا ضبطناه بدأ بالهمز من الابتداء". انظر صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 176). (¬11) قال الإمام النووي: "وطوبى فعلى من الطيب قاله الفراء، قال: وإنما جاءت الواو لضمة الطاء، قال: وفيها لغتان، تقول العرب: طوباك وطوبى لك، وأما معنى طوبى =

لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ (¬1) " (¬2). وَفِي رواية: قيل: ومن الغرباء (¬3)؟ قال: "النُّزَّاع (¬4) من القبائل" (¬5)، ¬

= فاختلف المفسّرون في معنى قوله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}، فروى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ معناه فرح وقرّة عين، وقال عكرمة: نعم ما لهم ... وقيل: شجرة في الجنّة، وكل هذه الأقوال محتملة في الحديث، والله أعلم". انظر صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 176). (¬1) في (غ): "الزمان". (¬2) رواه الإمام الآجري في كتاب الغرباء عن عبد الله بن مسعود (ص19)، والإمام الداني في كتاب السنن الواردة في الفتن (25/ 1) عنه أيضاً. وفي إسناده أبو إسحاق السبيعي مدلس وقد عنعنه. قال عنه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: اختلط بآخره (2/ 73)، وانظر تهذيب التهذيب (8/ 63). ولكن الحديث صح بشواهده، قال الشيخ الألباني: له شاهدان من حديث سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو بن العاص عند الداني بإسنادين صحيحين، ومن شواهده حديث جابر بن عبد الله، وحديث سهل بن سعد، وحديث عبد الرحمن بن سنه، وأصل الحديث في مسلم عن أبي هريرة وليس فيه السؤال (2/ 176). وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة (3/ 267) برقم (1273)، وقد استقصى روايات حديث الغربة ودرس أسانيدها الشيخ سليمان العودة في كتابه الغرباء الأولون (ص27 ـ 47). (¬3) في (ط): "ومن الغرباء يا رسول الله". (¬4) في (ط): "النزوع". والنزاع جمع نزيع وهو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته، والنزائع من الإبل: الغرائب. انظر شرح السنة للإمام البغوي (1/ 118). (¬5) روى الحديث بهذه الزيادة الإمام ابن ماجه في سننه في كتاب الفتن، باب بدأ الإسلام غريباً عن عبد الله بن مسعود ولفظه: "إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء. قال: قيل: ومن الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل"، برقم (3988) (2/ 1320)، ورواه الإمام الدارمي في كتاب الرقاق عن ابن مسعود بنحوه ورقمه (12755) (2/ 402)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص72)، وابن أبي شيبة في المصنف (13/ 236)، والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث (ص23)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 297)، والآجري في الغرباء (ص21 ـ 22)، والبيهقي في الزهد الكبير (ص208)، والبغوي في شرح السنة في كتاب الإيمان وقال: صحيح غريب (1/ 118) كلهم عن حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود. وإسناد الحديث ضعيف لأن أبا إسحاق مدلس كان قد اختلط وقد عنعنه في جميع =

وَهَذَا مُجْمَلٌ، وَلَكِنَّهُ (¬1) مُبَيَّنٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَجَاءَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ: "بَدَأَ (¬2) الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ (¬3)، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ حِينَ يَفْسُدُ النَّاسُ" (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ وَهْبٍ (¬5) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ (¬6) وَالسَّلَامُ: "طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُمْسِكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ حِينَ يُتْرَكُ (¬7)، وَيَعْمَلُونَ بِالسُّنَّةِ حِينَ تُطفى" (¬8). وَفِي رِوَايَةٍ: "إن الإسلام بدأ (¬9) غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى ¬

= طرقه، وتقدم الكلام عنه في الحديث الذي قبله. وانظر كلام الشيخ الألباني عن هذه الزيادة في السلسلة الصحيحة عند ذكر حديث الغربة (3/ 270). (¬1) في (خ): "مجمل بل ولكنه ... ". (¬2) في (خ): "بدأ"، وفي (ط): "بدئ". (¬3) في (م): "بدى"، وكذلك في (ط). (¬4) رواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام عن سالم بن عبد الله يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكره مع تكرار قوله: "فطوبى للغرباء ... " (72)، ورواه البيهقي في الزهد الكبير عن عبد الله بن عمر برقم (203) (ص147)، وفي سنده يحيى بن المتوكل وهو شديد الضعف جداً. انظر: تهذيب التهذيب (11/ 270)، وميزان الاعتدال للذهبي (1/ 404). (¬5) هو عبد الله بن وهب بن مسلم، الإمام شيخ الإسلام، أبو محمد الفهري، مولاهم المصري الحافظ، مولده سنة 125هـ. لقي بعض صغار التابعين، وكان من أوعية العلم، ومن كنوز العمل. حدّث عنه خلق كثير وبَعُد صيته. قال عنه ابن عيينة: هذا شيخ أهل مصر، وقال الذهبي: موطأ ابن وهب كبير لم أرَه، وله كتاب الجامع، وكتاب البيعة وغيرها. مات سنة 197هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (9/ 223)، ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 421)، تهذيب التهذيب لابن حجر (6/ 71). (¬6) ساقطة من (غ) و (ر). (¬7) في (غ): "يتركون". (¬8) أخرجه الإمام ابن وضاح في كتاب البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام عن بكر بن عمرو المعافري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "طوبى للغرباء ... " وذكره بلفظه (ص72)، وبكر بن عمرو قال عنه ابن حجر صدوق عابد من السادسة، مات في خلافة أبي جعفر بعد الأربعين. انظر: التقريب (1/ 106). وهذه الطبقة لم تلق الصحابة رضي الله عنهم كما بيَّن ذلك ابن حجر في مقدمته على التقريب (1/ 6)، وقال الذهبي: "مات شاباً ما أحسبه تكهل، وكان ذا فضل وتعبّد، محله الصدق". انظر: الميزان (1/ 347)، تهذيب الكمال (1/ 158)، فالحديث بهذا الإسناد معضل. (¬9) في (خ): "بدأ"، في الموضعين، وفي (ط): "بدى" كذلك في الموضعين.

لِلْغُرَبَاءِ"، قَالُوا (¬1): يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَكُونُ غَرِيبًا؟ قَالَ: "كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ فِي حَيِّ كَذَا وَكَذَا (¬2): إِنَّهُ لَغَرِيبٌ" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْغُرَبَاءِ: قَالَ (¬4): "الَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَمَاتَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي" (¬5). وَجُمْلَةُ (¬6) الْمَعْنَى فِيهِ مِنْ جِهَةِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ مَا ظَهَرَ بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَآخِرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَفِي جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ، لَا تَعْرِفُ مِنَ الْحَقِّ رسماً (¬7)، ولا تقيم له (¬8) فِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ حُكْمًا، بَلْ كَانَتْ تَنْتَحِلُ (¬9) ما وجدت عليه آباءها، وما استحسنته أَسْلَافُهَا، مِنَ الْآرَاءِ الْمُنْحَرِفَةِ، والنِّحَل الْمُخْتَرَعَةِ، وَالْمَذَاهِبِ المبتدعة. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "قيل". (¬2) ساقطة من (غ). (¬3) أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام، وفي سنده مبارك بن فضالة يدلس ويسوّى. قال أبو زرعة عنه: "إذا قال ثنا فهو ثقة". انظر: الكاشف للذهبي (3/ 104)، تقريب التهذيب (2/ 227)، وقد عنعن الحديث هنا، وهو من مراسيل الحسن. (¬4) في (غ): "فقال". (¬5) رواه الإمام الترمذي في كتاب الإيمان من سننه، باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً برقم (2630) عن كثير بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده وذكره بلفظ أطول آخره: "فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنّتي" وقال: حسن صحيح (5/ 19)، ورواه أبو نعيم في الحلية (2/ 10)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفي آخره: "قيل: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله" (2/ 120)، والخطيب في شرف أصحاب الحديث كالذي عند ابن عبد البر (ص23)، وكذلك البيهقي في الزهد الكبير برقم (207) (ص150)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 350)، والبغوي في شرح السنة (1/ 121). ومدار الحديث على كثير بن عبد الله المزني قال عنه ابن حجر: "ضعيف ومنهم من نسبه إلى الكذب". انظر: التقريب (2/ 132)، وقال عنه الذهبي في الكاشف: "واه، قال أبو داود: كذاب" (3/ 5). (¬6) في (غ) و (ر): "وجملة ما فيه". (¬7) الرسم: الأثر. الصحاح (5/ 1932). (¬8) في (ط): "به". (¬9) تنتحل كذا: أي تدين به، والنحلة الديانة، وقيل: الدعوى. انظر: لسان العرب لابن منظور (11/ 650)، الصحاح للجوهري (5/ 1826).

فَحِينَ قَامَ فِيهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرًا، وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِرَاجًا منيراً، سرعان (¬1) مَا عَارَضُوا مَعْرُوفَهُ بِالنُّكْرِ، وَغَيَّرُوا (¬2) فِي (¬3) وجهِ صَوَابِهِ بِالْإِفْكِ (¬4)، وَنَسَبُوا إِلَيْهِ ـ إِذْ خَالَفَهُمْ فِي الشِّرْعَة (¬5)، وَنَابَذَهُمْ فِي النِّحْلَة ـ كُلَّ مُحَالٍ، وَرَمَوْهُ بِأَنْوَاعِ الْبُهْتَانِ، فَتَارَةً (¬6) يَرْمُونَهُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، الَّذِي لَمْ يُجَرِّبُوا عَلَيْهِ قَطُّ خَبَرًا بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ، وَآوِنَةً يَتَّهِمُونَهُ بِالسِّحْرِ، وَفِي عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مِمَّنْ يَدَّعِيهِ، وكَرَّة يَقُولُونَ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ (¬7) بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ وَخَبَلِهِ. وَإِذَا (¬8) دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالُوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ *} (¬9) مَعَ الْإِقْرَارِ (¬10) بِمُقْتَضَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ (¬11) الصَّادِقَةِ (¬12): {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬13). وَإِذَا أَنْذَرَهُمْ بَطْشَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَنْكَرُوا مَا يشاهدون من (¬14) الأدلة على إمكانه، وقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (¬15). وَإِذَا خَوَّفَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ، قَالُوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬16)، اعْتِرَاضًا عَلَى صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ (¬17) مِمَّا هو كائن لا محالة. ¬

(¬1) في (خ) و (ت) و (ط): "فسرعان". (¬2) في (غ) و (ر): "غبروا" بالباء. (¬3) في (غ): "ما في". (¬4) الإفك: الكذب، والأفّاك: الكذاب. الصحاح (4/ 1572). (¬5) الشرعة هي الشريعة، ومنه قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}. الصحاح (3/ 1236). (¬6) في (م) و (خ) (ت) و (ط): "فتراه". (¬7) في (ت): "تحقيقهم". (¬8) في (ط): "وإذ". (¬9) سورة ص، آية (5). (¬10) في (غ): "مع إقرارهم". (¬11) في (غ): "الدعوى". (¬12) في (ط): "لصادقة". (¬13) سورة العنكبوت، آية (65). (¬14) ساقطة من (غ). (¬15) سورة ق، آية (3). (¬16) سورة الأنفال، آية (32). (¬17) ساقطة من (ت).

وَإِذَا جَاءَهُمْ بِآيَةٍ خَارِقَةٍ افْتَرَقُوا فِي الضَّلَالَةِ عَلَى فِرَقٍ، وَاخْتَرَقُوا (¬1) فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْعِنَادِ مَا لَا يَقْبَلُهُ أَهْلُ التَّهَدِّي إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كُلُّ ذَلِكَ دُعَاءٌ مِنْهُمْ إِلَى التَّأَسِّي بِهِمْ وَالْمُوَافَقَةِ لَهُمْ عَلَى مَا يَنْتَحِلُونَ، إِذْ (¬2) رَأَوْا خِلَافَ الْمُخَالِفِ لَهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ رَدًّا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَنَبْذًا لِمَا شَدُّوا عَلَيْهِ يَدَ الظِّنَّة (¬3)، وَاعْتَقَدُوا إِذْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِدَلِيلٍ أَنَّ الْخِلَافَ يُوهِنُ الثِّقَةَ، وَيُقَبِّحُ جِهَةَ الِاسْتِحْسَانِ، وَخُصُوصًا حِينَ اجْتَهَدُوا فِي الِانْتِصَارِ بِعِلْمٍ، فَلَمْ يَجِدُوا أَكْثَرَ مِنْ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ. وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ (¬4) إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ: {مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (¬5)، فَحَادُوا كَمَا تَرَى عَنِ الْجَوَابِ الْقَاطِعِ الْمُورَدِ مَوْرِدَ السُّؤَالِ إِلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ *} (¬6)، فَرَجَعُوا عَنْ جَوَابِ مَا أُلْزِمُوا إِلَى التَّقْلِيدِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} (¬7)، فَأَجَابُوا بِمُجَرَّدِ الْإِنْكَارِ، رُكُونًا إِلَى مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّقْلِيدِ، لَا بِجَوَابِ السُّؤَالِ. فَكَذَلِكَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَرُوا مَا تَوَقَّعُوا مَعَهُ زَوَالَ مَا بِأَيْدِيهِمْ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مُعْتَادِهِمْ، وَأَتَى بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، حَتَّى أَرَادُوا أَنْ يستزلوه (¬8) عَلَى وَجْهِ السِّيَاسَةِ فِي زَعْمِهِمْ، لِيُوقِعُوا بَيْنَهُمْ ¬

(¬1) التخرّق لغة: في التخلق من الكذب، وخرق الكذب اختلقه. لسان العرب (11/ 361)، الصحاح (4/ 1467). (¬2) في (م) و (ت): "إذا". (¬3) الظنّة: التهمة، والجمع الظنن. الصحاح للجوهري (6/ 2160). (¬4) في (م) و (خ) و (ت): "على". (¬5) سورة الشعراء، آية (70 ـ 74). (¬6) سورة الزخرف، آية (21). (¬7) سورة الزخرف، آية (24). (¬8) في (م) و (ت) "يستنزلوا".

وبينه (¬1) الْمُؤَالَفَةَ وَالْمُوَافَقَةَ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، أَوْ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَيَقْنَعُوا مِنْهُ بِذَلِكَ، لِيَقِفَ لَهُمْ بِتِلْكَ الْمُوَافَقَةِ وَاهِي بِنَائِهِمْ، فَأَبَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا الثُّبُوتَ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى خَالِصِ (¬2) الصَّوَابِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ *} (¬3) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَنَصَبُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ حَرْبَ (¬4) الْعَدَاوَةِ، وَرَمَوْهُ بِسِهَامِ الْقَطِيعَةِ، وَصَارَ أَهْلُ السلم كلهم حرباً (¬5) عليه (¬6) وعاد (¬7) الْوَلِيُّ الْحَمِيمُ عَلَيْهِ كَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ (¬8)، فَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ (¬9) نَسَبًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ مُوَالَاتِهِ، كَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ، وَأَلْصَقُهُمْ بِهِ رَحِمًا، كَانُوا (¬10) أَقْسَى قُلُوبًا عَلَيْهِ، فَأَيُّ غُرْبَةٍ تُوَازِي هَذِهِ الْغُرْبَةَ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكِلْه اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا سَلَّطَهُمْ عَلَى النَّيْلِ مِنْ أَذَاهُ، إِلَّا (¬11) نيل المضعوفين (¬12)، بَلْ حَفِظَهُ وَعَصَمَهُ، وَتَوَلَّاهُ بِالرِّعَايَةِ وَالْكِلَاءَةِ، حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ. ثُمَّ مَا زَالَتِ الشَّرِيعَةُ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِهَا، وَعَلَى تَوَالِي تَقْرِيرِهَا، تُبْعِدُ بَيْنَ (¬13) أَهْلِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ (¬14)، وَتَضَعُ الْحُدُودَ بَيْنَ حقّها وبين ما ابتدعوا، لكن (¬15) عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْحِكْمَةِ عَجِيبٍ (¬16)، وَهُوَ التَّأْلِيفُ بَيْنَ أَحْكَامِهَا وَبَيْنَ أَكَابِرِهِمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ الأوّل والأصيل، ففي العرب نسبتهم (¬17) إلى أبيهم ¬

(¬1) في (ط): "وبين". (¬2) ساقطة من (غ). (¬3) سورة الكافرون، آية (1 ـ 2). (¬4) في (م) و (ت): "حزب"، وبياض في (غ). (¬5) في (ت): "حزباً". (¬6) في (ت): تحتمل "عليهم". (¬7) في (ط): "عاد" بدون الواو. (¬8) بياض في (غ). (¬9) في (غ) و (ر): "منه". (¬10) في (غ) و (ر): "كان". (¬11) بياض في (غ). (¬12) في (م) و (ت): "المصقوفين"، وفي (خ) و (ط): "المصلوفين". (¬13) في (غ) و (ر): "ما بين". (¬14) في (ت): "غيرها". (¬15) في (ط): "ولكن". (¬16) في (م) و (ت): "عجيبة". (¬17) في (غ): "نسبتها".

إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي غَيْرِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمُ الْمَبْعُوثِينَ فِيهِمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ الأنبياء عليهم السلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1)، وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ... } (¬2). وما زال عليه السلام يدعو إليها (¬3)، فيؤوب إِلَيْهِ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ عَلَى حُكْمِ الِاخْتِفَاءِ؛ خَوْفًا مِنْ عَادِيَةِ الْكُفَّارِ زَمَانَ (¬4) ظُهُورِهِمْ عَلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا اطَّلَعُوا عَلَى الْمُخَالَفَةِ أَنِفُوا، وَقَامُوا وَقَعَدُوا، فَمِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ لَجَأَ إِلَى قَبِيلِهِ فَحَمَوْهُ عَلَى إِغْمَاضٍ (¬5)، أَوْ عَلَى دَفْعِ الْعَارِ فِي الْإِخْفَارِ (¬6)، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ مِنَ الْإِذَايَةِ وَخَوْفِ الغِرَّة (¬7)، هِجْرَةً إِلَى اللَّهِ وَحُبًّا فِي الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ (¬8) وَزَرٌ (¬9) يَحْمِيهِ، وَلَا مَلْجَأٌ يَرْكَنُ إِلَيْهِ (¬10)، فَلَقِيَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْعَذَابِ أَوِ الْقَتْلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، حَتَّى زَلَّ مِنْهُمْ من زلّ (¬11) فروجع (¬12) أَمْرُهُ بِسَبَبِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمُوَافَقَةِ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّخْصَةَ فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ (ظَاهِرًا، لِيَحْصُلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الناطق ¬

(¬1) سورة الأنعام، آية (90). (¬2) سورة الشورى، آية (13). (¬3) في (ط): "لها". (¬4) في (غ) و (ر): "زمن". (¬5) أي حموه على غض للبصر وتساهل في أمره مع عدم الرغبة الحقيقية في حمايته. (¬6) الخفير هو المجير، وخفرت الرجل إذا أجرته وكنت له خفيراً تمنعه. الصحاح للجوهري (2/ 1648). (¬7) الغرة: الغفلة، واغترّه أي أتاه على غرّة منه. الصحاح للجوهري (2/ 768). (¬8) ساقطة من (غ). (¬9) الوَزَرُ: الملجأ، وأصل الوزر الجبل. الصحاح للجوهري (2/ 845). (¬10) ساقطة من (ت)، وفي (غ): "ولا يركن ملجأ إليه". (¬11) وهذا نادر في الصحابة رضي الله عنهم، فلا يفهم من السياق انقسامهم فريقين: فريق زلّ وفريق بقي. (¬12) في (خ): "فرجوع"، وفي (ن) و (ط): "فرجع".

الْمُوَافَقَةُ (¬1)) (¬2)، وَتَزُولَ الْمُخَالَفَةُ، فَنَزَلَ إِلَيْهَا مَنْ نَزَلَ عَلَى حُكْمِ التَّقِيَّةِ، رَيْثَمَا يَتَنَفَّسُ (¬3) مِنْ كَرْبِهِ، ويَتَرَوَّحُ (¬4) مِنْ خِنَاقِهِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَهَذِهِ غربة أيضاً ظاهرة. وإنما كان هذا كله (¬5) جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَوَاقِعِ الْحِكْمَةِ، وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحَقُّ ضِدَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَمَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ، فَلَوْ عَلِمُوا لَحَصَلَ الْوِفَاقُ، وَلَمْ يُسْمَعِ (¬6) الْخِلَافُ (¬7)، وَلَكِنَّ سَابِقَ الْقَدَرِ حتَّم عَلَى الْخَلْقِ مَا هُمْ عَلَيْهِ (¬8)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (¬9). ثُمَّ اسْتَمَرَّ مَزِيدُ (¬10) الْإِسْلَامِ، وَاسْتَقَامَ طَرِيقُهُ عَلَى (¬11) مُدَّةِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ (¬12) بَعْدِ مَوْتِهِ، وَأَكْثَرِ قَرْنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُمْ، إِلَى أَنْ نَبَغَتْ فِيهِمْ نَوَابِغُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ، وَأَصْغَوْا (¬13) إِلَى الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ: كَبِدْعَةِ القدر (¬14)، ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "المؤالفة". (¬2) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (ت)، وقد أثبت في هامشها. (¬3) في (ر): "يتمقس". (¬4) الروح بالفتح من الاستراحة، وكذا الراحة. الصحاح (1/ 368). (¬5) ساقطة من (م) و (خ) و (ط) و (ت). (¬6) في (غ) و (ر): "يسع". (¬7) لا يلزم من علمهم حصول الوفاق، فقد علموا الحق، وقامت عليهم الحجّة، وإنما ضلّوا باتباع الهوى، والإعراض عن الحق. (¬8) وليس لهم في سابق القدر حجة، فقد جعل الله لهم قدرة واختياراً، وحجب عنهم العلم بما قدّر. (¬9) سورة هود، آية (118 ـ 119)، وسيذكر المؤلف الآية وتفسيرها في بداية الباب التاسع (2/ 165) من طبعة كتابنا هذا. (¬10) في (خ) و (ت) و (ط): "تزيد". (¬11) (¬12) ساقطة من (غ) و (ر). (¬13) في (غ) و (ر): "والصغو". (¬14) في (غ) و (ر): "القدرية" وهي القول بإنكار القدر، وأن الأمر أنف، وأوّل من قال بهذه البدعة معبد الجهني المقتول في بدعته سنة 80هـ، وذلك في آخر زمن الصحابة، وقد تبرّأ الصحابة من مذهبه كابن عمر وأنس وغيرهما رضي الله عنهم، وقد تبعه على بدعته غيلان الدمشقي الذي قتله هشام بن عبد الملك، والمعتزلة تنفي القدر إلاّ قليل منهم، وكذلك تسمى الجبرية المحتجّون بالقدر (قدرية): أيضاً، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي (ص14)، صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 150).=

وَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ (¬1)، وَهِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، ويَدَعُون أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يقرؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ (¬2) " (¬3)، يَعْنِي لَا يَتَفَقَّهُونَ (¬4) فِيهِ، بَلْ يَأْخُذُونَهُ عَلَى الظَّاهِرِ (¬5)، كَمَا بيَّنه حديث ابن عمر (¬6) رضي الله عنهما الْآتِي بِحَوْلِ اللَّهِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي آخِرِ عهد الصحابة رضي الله عنهم. ثُمَّ لَمْ تَزَلِ الْفِرَقُ تَكْثُرُ حَسْبَمَا (¬7) وَعَدَ بِهِ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: "افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى (¬8) وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، (وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وسبعين فرقة (¬9) " (¬10). ¬

= وانظر في موضوع القدر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (3/ 22 وما بعدها، 4/ 192)، مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 298)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 79). (¬1) هم الذين خرجوا على عليّ ـ رضي الله عنه ـ يوم صفين لإنكارهم التحكيم، فقاتلهم في النهروان وهزمهم، وتشعبت فرقهم، وبلغت العشرين وأشهرها: المحكمة الأولى والنجدات والأزارقة والصفرية والإباضية، ولهم أفكار ضالّة يكادون يجتمعون عليها وهي: تكفير مرتكب الكبيرة، والقول بخلوده في النار، وجواز الخروج على الأئمة الجائرين، وجواز الإمامة في غير قريش، وإنكار التحكيم، ومن أسمائهم الحرورية والشراة والنواصب. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي (ص49)، الملل والنحل للشهرستاني (ص114)، مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 86)، الفصل لابن حزم (4/ 188). (¬2) التراقي: جمع ترقوة، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان من الجانبين. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 187). (¬3) أخرجه البخاري عن أبي سعيد في كتاب التوحيد (13/ 416 مع الفتح)، ومسلم في كتاب الزكاة (7/ 162، شرح النووي)، وأبو داود في كتاب السنة باب في قتال الخوارج (4/ 243)، والنسائي في كتاب الزكاة (5/ 87)، والإمام أحمد في المسند (3/ 15). (¬4) في (ت): "يتفقون". (¬5) في (ت): "الظر". (¬6) رواه الإمام البخاري في كتاب استتابة المرتدين من صحيحه، باب قتل الخوارج والملحدين (12/ 283). (¬7) في (غ): "كما". (¬8) في (ت): "ثلاث". (¬9) زاد في (خ) و (ر): "والنصارى مثل ذلك"، وذلك بعد ذكر الحديث وهو خطأ من الناسخ. (¬10) أخرجه أبو داود في كتاب السنة من سننه، باب شرح السنة عن أبي هريرة برقم =

وَفِي (¬1)) الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ (¬2) لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ". قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ" (¬3)، وَهَذَا (الحديث (¬4) أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ) (¬5)، فَإِنَّ الْأَوَّلَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ (¬6)، وَهَذَا الثَّانِي عَامٌّ فِي الْمُخَالَفَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: "حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ (¬7) لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ". وَكُلُّ صَاحِبِ مُخَالَفَةٍ (¬8) فَمِنْ شأنه أن ¬

= (4596) (4/ 197)، والترمذي، كتاب الإيمان، باب افتراق هذه الأمة، وقال: حسن صحيح، ورقمه (2640) (5/ 25)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم برقم (3991) (2/ 1321)، وليس فيه ذكر النصارى، والإمام أحمد في مسنده وليس فيه ذكر النصارى (2/ 232)، والآجري في الشريعة (ص15)، وابن نصر المروزي في السنة برقم (58) (ص23)، وابن أبي عاصم في السنة وليس فيه ذكر النصارى برقم (66)، والحاكم في المستدرك وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، ورواه ابن حبان في صحيحه (8/ 48 مع الإحسان)، ورواه غيرهم. وذكره المؤلف مع رواياته في الباب التاسع من الكتاب مصححاً له، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (203)، (1/ 356). (¬1) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬2) في (غ) و (ر): "ضب خرب". (¬3) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، عن أبي سعيد بلفظ: "حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه". انظر: البخاري مع الفتح (6/ 495)، وأخرجه في موضع آخر وهو كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" (13/ 300)، وأخرجه مسلم في كتاب العلم في النهي عن الاختلاف في القرآن (16/ 219 بشرح النووي)، وأحمد في المسند عنه أيضاً (3/ 84)، وابن أبي عاصم في السنة برقم (74)، (1/ 37)، ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم برقم (3994)، (3/ 1322). والحديث مروي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم. (¬4) ساقطة من (ط). (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (ت)، ويظهر استدراك الناسخ له في الهامش. (¬6) هذا هو اختيار المؤلف ـ رحمه الله ـ كما ذهب إليه في الباب التاسع، عند المسألة الثانية، وذلك بعد ذكره لاحتمالات أخرى، فقال: "غير أن الأكثر في نقل أرباب الكلام وغيرهم أن الفرقة إنما هي بسبب الابتداع في الشرع على الخصوص وعلى ذلك حمل الحديث من تكلم عليه من العلماء، ولم يعدوا منها المفترقين بسبب المعاصي التي ليست ببدع، وعلى ذلك يقع التفريع إن شاء الله"، انظر: الاعتصام (2/ 194). (¬7) في (غ): "ضب خرب". (¬8) من هنا بياض في (غ).

يدعو غيره إليها، ويحضّ سِوَاهُ عَلَيْهَا (¬1)، إِذِ التَّأَسِّي فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَذَاهِبِ موضوع طلبه في الجِبِلَّة (¬2) (¬3)، وبسببه تقع من الْمُخَالِفِ الْمُخَالَفَةُ، وَتَحْصُلُ مِنَ الْمُوَافِقِ الْمُؤَالَفَةُ، وَمِنْهُ تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين (¬4). وكان (¬5) الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِهِ وجِدَّته (¬6) (مُقَاوِمًا بَلْ) (¬7) ظَاهِرًا، وأهله غالبين (¬8)، وَسَوَادُهُمْ أَعْظَمُ الْأَسْوِدَةِ، فَخَلَا مِنْ وَصْفِ الْغُرْبَةِ بِكَثْرَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْلِيَاءِ النَّاصِرِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ ـ مِمَّنْ لَمْ يَسْلُكْ سَبِيلَهُمْ، أَوْ سَلَكَهُ وَلَكِنَّهُ ابْتَدَعَ فِيهِ ـ صولةٌ يَعْظُمُ مَوْقِعُهَا، وَلَا قُوَّةٌ يضعف دونها حزب الله المفلحون، فسار (¬9) عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَجَرَى عَلَى اجْتِمَاعٍ وَاتِّسَاقٍ، فَالشَّاذُّ مَقْهُورٌ مُضْطَهَدٌ، إِلَى أَنْ أَخَذَ اجْتِمَاعُهُ فِي الِافْتِرَاقِ الْمَوْعُودِ، وَقُوَّتُهُ إِلَى الضَّعْفِ الْمُنْتَظَرِ، وَالشَّاذُّ عَنْهُ تَقْوَى صَوْلَتُهُ، وَيَكْثُرُ سَوَادُهُ. وَاقْتَضَى (¬10) سِرُّ التَّأَسِّي الْمُطَالَبَةَ بِالْمُوَافَقَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَالِبَ أَغْلَبُ، فَتَكَالَبَتْ عَلَى سَوَادِ السُّنَّةِ الْبِدَعُ وَالْأَهْوَاءُ (¬11)، فَتَفَرَّقَ أَكْثَرُهُمْ شِيَعًا. وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ: أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ فِي جَنْبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ قَلِيلٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ *} (¬12)، وقوله: ¬

(¬1) في (خ): "ويحض سؤاله بل سواه عليها"، وناسخ (خ) يفعل هذا إذا أخطأ حيث يضرب عن الخطأ بقوله بل، ثم يأتي بالصواب. (¬2) الجبلة: الخلقة، ومنه قوله تعالى: {وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ}، والجمع الجبلات. الصحاح للجوهري (4/ 1651). (¬3) كتب في (خ) بعد كلمة الجبلة كلمة غير واضحة، ولعلها "بداهة". (¬4) في (ر): "بين المختلفين". (¬5) في (ط): "كان". (¬6) قال في الصحاح: جد الشيء يجد بالكسرة جدة: صار جديداً، وهو نقيض الخلق الصحاح (2/ 454). (¬7) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (خ) ومثبت في هامشها. (¬8) هكذا في (م) و (خ) و (ت)، وفي (ط): "غالبون"، على أنها خبر "وأهله"، والذي يظهر أن قوله غالبين صحيح أيضاً، على تقدير "وكان أهله غالبين". (¬9) في (خ) و (م) و (ط): "فصار". (¬10) في (ر): "فاقتضى". (¬11) في (م): "البدع الأهواء" بدون واو، وفي (غ): "سباع الأهوى". (¬12) سورة يوسف، آية (103).

{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬1)، وَلِيُنْجِزَ (¬2) اللَّهُ مَا وَعَدَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَوْدِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْغُرْبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ فَقْدِ الْأَهْلِ أَوْ قِلَّتِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يَصِيرُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَتَصِيرُ السُّنَّةُ بِدْعَةً، وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، فَيُقَامُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ بِالتَّثْرِيبِ (¬3) وَالتَّعْنِيفِ، كَمَا كَانَ أَوَّلًا يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ، طَمَعًا مِنَ الْمُبْتَدِعِ أَنْ تَجْتَمِعَ كَلِمَةُ الضَّلَالِ، وَيَأْبَى اللَّهُ أَنْ تَجْتَمِعَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَلَا تَجْتَمِعُ الْفِرَقُ كُلُّهُا ـ عَلَى كَثْرَتِهَا ـ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ عَادَةً وَسَمْعًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَثْبُتَ جَمَاعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ (¬4)، غَيْرَ أَنَّهُمْ ـ لِكَثْرَةِ مَا (¬5) تُنَاوِشُهُمُ (¬6) الْفِرَقُ الضَّالَّةُ، وَتُنَاصِبُهُمُ (¬7) الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، اسْتِدْعَاءً إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ ـ لَا يَزَالُونَ فِي جِهَادٍ وَنِزَاعٍ، وَمُدَافَعَةٍ وَقِرَاعٍ (¬8)، آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِذَلِكَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الْأَجْرَ الْجَزِيلَ، وَيُثِيبُهُمْ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ. فقد تلخّص مما تقدم أن مطالبة المخالف (¬9) بِالْمُوَافَقَةِ جارٍ مَعَ الْأَزْمَانِ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَمَنْ وَافَقَ فَهُوَ عِنْدَ الْمُطَالِبِ الْمُصِيبُ (¬10) عَلَى أَيِّ حالٍ كَانَ، وَمَنْ خَالَفَ فَهُوَ الْمُخْطِئُ الْمُصَابُ، وَمَنْ وَافَقَ فَهُوَ الْمَحْمُودُ السَّعِيدُ، وَمَنْ خَالَفَ فَهُوَ الْمَذْمُومُ الْمَطْرُودُ (¬11)، وَمَنْ وَافَقَ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ، وَمَنْ خَالَفَ فقد تاه في طرق (¬12) الضلالة (¬13) والغواية. ¬

(¬1) سورة سبأ، آية (13). (¬2) في (غ) و (ر): "وينجز". (¬3) التثريب هو التعيير والاستقصاء في اللّوم، وثرب عليه تثريباً قبح عليه فعله. الصحاح (1/ 92). (¬4) صحت الأحاديث عن عدد من الصحابة في هذا المعنى، بل صرّح عدد من العلماء بتواتر الحديث كابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 69)، والسيوطي في قطف الأزهار المتناثرة (ص216)، وقد جمع الشيخ سلمان بن فهد العودة هذه الأحاديث ودرسها في كتابه صفة الغرباء (ص137 ـ 233). (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) التناوش: التناول والانتياش مثله. انظر: اللسان (6/ 349). (¬7) في (ط): "تناضبهم" بالضاد. (¬8) في (ر): "وخداع". (¬9) في (ت): "المخالفة". (¬10) في (ت): "مصيب". (¬11) في (ت): "الطريد". (¬12) في (ت): "طريق". (¬13) في (م): "الظلال". وقد رسمت في جميع النسخ بالظاء، وهو كالمنهج في هذه النسخ. وسوف لن أشير إلى هذا الخلاف إلاّ نادراً.

وَإِنَّمَا قَدَّمْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لِمَعْنًى أَذْكُرُهُ: وَذَلِكَ أَنِّي ـ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ـ لَمْ أَزَلْ مُنْذُ فَتَقَ لِلْفَهْمِ عَقْلِي، وَوُجِّهَ شَطْرَ (¬1) الْعِلْمِ طَلَبِي، أَنْظُرُ فِي عَقْلِيَّاتِهِ وَشَرْعِيَّاتِهِ، وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، لَمْ أَقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى (¬2) عِلْمٍ (دُونَ عِلْمٍ) (¬3)، وَلَا أَفْرَدْتُ من (¬4) أَنْوَاعِهِ نَوْعًا دُونَ آخَرَ، حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الزَّمَانُ والإمكان، وَأَعْطَتْهُ المُنَّة (¬5) الْمَخْلُوقَةُ فِي أَصْلِ فِطْرَتِي، بَلْ خُضْتُ فِي لُجَجِهِ (¬6) خَوْضَ الْمُحْسِنِ لِلسِّبَاحَةِ، وَأَقْدَمْتُ فِي مَيَادِينِهِ إِقْدَامَ الْجَرِيءِ، حَتَّى كِدْتُ أَتْلَفُ في بعض أعماقه، أو أنقطع (¬7) من (¬8) رُفْقَتِي الَّتِي بِالْأُنْسِ بِهَا تَجَاسَرْتُ عَلَى مَا قُدِّرَ لِي، غَائِبًا عَنْ مَقَالِ الْقَائِلِ، وَعَذْلِ الْعَاذِلِ، وَمُعْرِضًا عَنْ صَدِّ الصَّادِّ، وَلَوْمِ اللَّائِمِ، إلى أن مَنَّ عليّ الرب الكريم الرؤوف الرَّحِيمُ، فَشَرَحَ لِي مِنْ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِي، وَأَلْقَى فِي نَفْسِي إلقاء بصيرة (¬9) أن كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لَمْ يَتْرُكَا فِي سَبِيلِ الْهِدَايَةِ لقائلٍ مَا يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتدّ به (¬10) فِيهِ، وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ، وَالسَّعَادَةَ الْكُبْرَى فِيمَا وَضَعَ، والطِّلْبَةُ (¬11) فِيمَا شَرَعَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضَلَالٌ وَبُهْتَانٌ، وَإِفْكٌ وَخُسْرَانٌ، وَأَنَّ الْعَاقِدَ عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى، ومحصل (¬12) لكلية (¬13) الْخَيْرِ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَمَا سِوَاهُمَا فَأَحْلَامٌ وَخَيَالَاتٌ وَأَوْهَامٌ، وَقَامَ لِي عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْبُرْهَانُ الذي لا شبهة تطرق (¬14) حول ¬

(¬1) شطر العلم أي نحو العلم، ومنه قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. انظر: الصحاح (2/ 697). (¬2) ساقطة من (م). (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬4) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عن". (¬5) المنّة بالضم: القوة. يقال: هو ضعيف المنّة. الصحاح (6/ 2207). (¬6) لجة الماء بالضم معظمه، وكذا (اللج) ومنه بحر لجي. الصحاح (1/ 3380). (¬7) في (ر): "وأنقطع". (¬8) في (ط): "في". (¬9) عبارة (م) و (خ) و (ط): "وألقى في نفسي القاصرة". (¬10) ساقطة من (ط). (¬11) الطِلبة بكسر اللام: الشيء المطلوب. الصحاح (1/ 172). (¬12) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "محصل". (¬13) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "لكلمتي". (¬14) في (غ): "تطير"، وفي (ر): "تطور".

حِمَاهُ، وَلَا تَرْتَمِي نَحْوَ مَرْمَاهُ {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} (¬1)، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالشُّكْرُ كَثِيرًا كَمَا هُوَ (أَهْلُهُ. فمن) (¬2) هنالك قصرت (¬3) نَفْسِي عَلَى الْمَشْيِ فِي طَرِيقِهِ بِمِقْدَارِ مَا يسَّر اللَّهُ فِيهِ، فَابْتَدَأْتُ بِأُصُولِ الدِّينِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا، ثُمَّ بِفُرُوعِهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ أَتَبَيَّنُ (¬4) مَا هُوَ مِنَ السُّنَنِ أَوْ مِنَ الْبِدَعِ، كَمَا أَتَبَيَّنُ (¬5) مَا هُوَ مِنَ الْجَائِزِ وَمَا هُوَ مِنَ الْمُمْتَنِعِ، وأعرض كل (¬6) ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ، ثُمَّ أطلب نَفْسِي بِالْمَشْيِ مَعَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ (¬7)، فِي الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ (¬8)، وَتَرْكِ الْبِدَعِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا بدع مضلّة (¬9)، وأعمال مختلقة (¬10). وَكُنْتُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ قَدْ دَخَلْتُ فِي بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة (¬11) ونحوهما (¬12)، فلما أردت الاستقامة على الطريق (¬13)، وَجَدْتُ نَفْسِي غَرِيبًا فِي جُمْهُورِ أَهْلِ الْوَقْتِ، لِكَوْنِ خُطَطِهِمْ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْعَوَائِدُ، وَدَخَلَتْ عَلَى سُنَنِهَا (¬14) الْأَصْلِيَّةِ (¬15) شَوَائِبُ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ الزَّوَائِدِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِدْعًا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا هَذَا؟ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ السلف ¬

(¬1) سورة يوسف، آية (38). (¬2) بياض في (غ). (¬3) المثبت ما في (ر) و (غ)، وفي بقية النسخ (قوت). (¬5) (¬4) في (خ) و (ت) و (ط): "أبين". (¬6) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬7) سيذكر المؤلف الحديث بتمامه في الباب الثاني (ص74 ـ 76)، وسأذكر تخريجه هناك. (¬8) يشير المؤلف رحمه الله إلى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عندما سئل عن الفرقة الناجية، فقال: "ما أنا عليه وأصحابي"، وسيذكره المؤلف في الباب التاسع (2/ 190)، وقد رواه الترمذي وغيره. انظر: سنن الترمذي (5/ 26) برقم (2641)، وحسَّنه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي برقم (2129). (¬9) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬10) في (م) و (غ): "مختلة". وفي (ط): "مختلفة". (¬11) في (ر): "من الإمامة والخطابة". (¬12) في جميع النسخ: "ونحوها"، عدا (غ). (¬13) في (م) و (ت): "طريق". (¬14) في (غ): "سنيتها". (¬15) في (م) و (ت): "الأصيلة".

الصَّالِحِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ، كَمَا روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ (¬1) مَا عَرَفَ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا الصَّلَاةَ" (¬2). قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ (¬3): فَكَيْفَ لَوْ كَانَ الْيَوْمَ؟ قَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ (¬4): فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ الْأَوْزَاعِيُّ هَذَا الزَّمَانَ؟ وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ (¬5) قَالَتْ: "دَخَلَ أبو الدرداء وَهُوَ غَضْبَانُ، فَقُلْتُ: مَا أَغْضَبَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ فِيهِمْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ (ص) (¬6)، إلاَّ أنهم يصلّون جميعاً" (¬7). ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "إليكم". (¬2) رواه عن أبي الدرداء ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام ودفن الدين (ص68)، وروى الإمام ابن بطة في الإبانة عن أبي الدرداء أنه قال: "لو أن رجلاً كان يعلم الإسلام وأهمّه، ثم تفقّده اليوم ما عرف منه شيئاً" (1/ 184). وقول الأوزاعي وعيسى بن يونس (الآتي) مذكور في نفس الموضع عند ابن وضاح. (¬3) هو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي الفقيه، شيخ الإسلام وعالم أهل الشام، نزل بيروت في آخر عمره فمات بها مرابطاً سنة 158هـ، وقيل غير ذلك. انظر في ترجمته: تهذيب التهذيب (6/ 238)، سير أعلام النبلاء (7/ 107)، طبقات ابن سعد (7/ 488)، البداية والنهاية (10/ 115). (¬4) هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، الإمام القدوة، الحافظ، الحجة، أبو عمرو، وأبو محمد الهمداني، السبيعي الكوفي، وثّقه أحمد وأبو حاتم والنسائي، وطائفة، وكان سنة في الغزو وسنّة في الحج، وكان من أصحاب الأعمش. مات سنة 187هـ. انظر: التاريخ الكبير (6/ 406)، سير أعلام النبلاء (8/ 489)، تذكرة الحفاظ (1/ 279)، تهذيب التهذيب (8/ 237). (¬5) هي زوج أبي الدرداء، اسمها هجيمة، وقيل: جهيمة الأوصابية الدمشقية، وهي الصغرى، وأما الكبرى فاسمها خيرة، ولا رواية لها في هذه الكتب، والصغرى ثقة فقيهة، عابدة، كبيرة القدر، كان الرجال يقرأون عليها ويتفقهون في الحائط الشمالي بجامع دمشق، وكان عبد الملك بن مروان يجلس في حلقتها وهو خليفة. ماتت سنة 81هـ. انظر: الكاشف للذهبي (3/ 440)، تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 621)، البداية والنهاية لابن كثير (9/ 50). (¬6) في (غ): "فيهم من أمر محمد شيئاً". (¬7) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة برقم (650)، والإمام أحمد في الزهد (5/ 195)، ورواه ابن وضاح في البدع النهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام (ص74)، ورواه الإمام أحمد في الزهد عند ترجمة أبي الدرداء (ص172)، ورواه ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 574)، وذكره أبو بكر الطرطوشي في الحوادث والبدع، (ص111).

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مَا أَعْرِفُ مِنْكُمْ مَا كُنْتُ أَعْهَدُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ قَوْلِكُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، قُلْنَا: بَلَى يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ: "قَدْ صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، أَفَكَانَتْ تِلْكَ صَلَاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ (¬1). وعن الحسن (¬2) قَالَ (¬3): "لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدْرَكَ السَّلَفَ الْأَوَّلَ ثُمَّ بُعِثَ الْيَوْمَ مَا عَرَفَ مِنَ الْإِسْلَامِ شَيْئًا"، قَالَ: وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَدِّهِ ثُمَّ قَالَ: "إلاَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ"، ثُمَّ قَالَ: "أَمَا والله على ذلك لمن عاش في هذه (¬4) النكراء (¬5) وَلَمْ (¬6) يُدْرِكْ ذَلِكَ (¬7) السَّلَفَ الصَّالِحَ، فَرَأَى مُبْتَدِعًا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ (¬8)، وَرَأَى صَاحِبَ (¬9) دُنْيَا يَدْعُو إلى دنياه، فعصمه الله عن (¬10) ذَلِكَ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ يَحِنُّ إِلَى ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، يَسْأَلُ عَنْ سُبُلِهِمْ، وَيَقْتَصُّ آثَارَهُمْ، وَيَتَّبِعُ سبيلهم، ليعوّضنّ (¬11) أجراً عظيماً، ¬

(¬1) رواه الإمام البخاري في كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه، باب تضييع الصلاة عن وقتها عن أنس، وذكر روايتين عنه بنحو ما ذكر المؤلف (2/ 13)، ورواه الترمذي عن أنس في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث أبي عمران الجوني، وقد روي من غير وجه عن أنس، ورقمه (2447) (4/ 545)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها بلفظ المؤلف، باب في نقض عرى الإسلام (ص73)، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1512). ورواه ابن بطة في الإبانة الكبرى عنه بروايتين (2/ 573 ـ 574)، ورواه ابن عبد البر عنه في جامع بيان العلم (2/ 200)، وذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص112)، انظر فتح الباري (2/ 13). قال الإمام ابن حجر في الفتح: صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة. ثم قال تنبيه: إطلاق أنس محمول على ما شاهده من أمراء الشام والبصرة خاصة وإلا سيأتي في هذا الكتاب أنه قدم المدينة، فقال: "ما أنكرت شيئاً إلاَّ أنكم لا تقيمون الصفوف". الفتح (2/ 14). (¬2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أنس"، والصواب المثبت كما في نسخة (غ) وكما في كتاب البدع والنهي عنها لابن وضاح. (¬3) ساقطة من (ت). (¬4) ساقطة من (ط)، وفي (ت): "ذلك". (¬5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "النكر". (¬6) في (م) و (ت): "أو لم". (¬7) ساقطة من (ت). (¬8) في (ت): "بدعة". (¬9) ساقطة من (ت). (¬10) في (ط): "من". (¬11) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "ليعوض".

فكذلك (¬1) فَكُونُوا (¬2) إِنْ شَاءَ اللَّهُ" (¬3). وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ (¬4) قَالَ: "لَوْ أَنَّ رَجُلًا أُنْشِرَ (¬5) فِيكُمْ من (¬6) السلف ما عرف فيكم (¬7) غير هذه القبلة" (¬8). وعن (أبي) سهيل (¬9) بْنِ مَالِكٍ (¬10) عَنْ أَبِيهِ (¬11) قَالَ: "مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَّا النِّدَاءَ بالصلاة" (¬12). ¬

(¬1) في (ط): "وكذلك". (¬2) في (خ) و (ت): "فكانوا". (¬3) أخرجه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام بنفس اللفظ عن الحسن (ص74). (¬4) هو الإمام الحجة، عالم الجزيرة ومفتيها، أبو أيوب الجزري الرقي، أعتقته امرأة من بني نصر بن معاوية بالكوفة، فنشأ بها، ثم سكن الرقة، حدّث عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، قيل: ولد عام 40هـ. وثقه جماعة، وقال أحمد: هو أوثق من عكرمة، وكان ولي خراج الجزيرة وقضاءها، وكان من العابدين. توفي سنة 117هـ، وقيل: 116هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 71)، طبقات ابن سعد (7/ 477)، حلية الأولياء (4/ 82). (¬5) في (ر): "انتشر". (¬6) ساقطة من (م)، وأصل (ت)، وكتبت في هامش (ت). (¬7) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬8) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام (ص74)، وذكره عنه الإمام ابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 194). (¬9) في (م) و (ط): "عن سهل"، وفي (خ) و (ت) و (غ) و (ر): "وعن سهيل"، والمثبت هو الصواب كما في رواية ابن وضاح، وابن عبد البر، والطرطوشي، كما سيأتي في تخريجه. (¬10) هو نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي التيمي، أبو سهيل المدني، ثقة من الرابعة، روى عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وروى عنه ابن أخيه مالك والدراوردي، ثقة مقرئ بقي إلى زمن السفاح. انظر: تقريب التقريب (2/ 296)، الكاشف للذهبي (3/ 174). (¬11) أبوه هو مالك بن أبي عامر الأصبحي جد مالك الإمام، روى عن عمر وعثمان، وروى عنه بنوه أنس وأبو سهيل نافع والربيع. مات سنة 74هـ. انظر: الكاشف (3/ 101)، تقريب التهذيب (2/ 225). (¬12) رواه عنه الإمام مالك في الموطأ من رواية يحيى بن يحيى (1/ 72)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام (ص73) عن عمّه أبي =

إِلَى مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ تَدْخُلُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ، وَأَنَّ ذلك قد كان قبل زماننا، وأنها (¬1) تَتَكَاثَرُ عَلَى تَوَالِي الدُّهُورِ إِلَى الْآنَ. فَتَرَدَّدَ النَّظَرُ بَيْنَ أَنْ أَتَّبِعَ السُّنَّةَ عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ مَا اعْتَادَ النَّاسُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، لا سِيَّمَا إِذَا ادَّعَى أَهْلُهَا أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ السُّنَّةُ لَا سِوَاهَا، إِلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ الْعِبْءِ الثَّقِيلِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ، (وَبَيْنَ أَنْ أَتْبَعَهُمْ) (¬2) عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، فَأَدْخُلَ تَحْتَ تَرْجَمَةِ الضُّلَّالِ، عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنِّي أُوَافِقُ الْمُعْتَادَ، وَأُعَدُّ مِنَ الْمُؤَالِفِينَ (¬3) لَا مِنَ الْمُخَالِفِينَ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الْهَلَاكَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ هُوَ النَّجَاةُ، وَأَنَّ النَّاسَ لَنْ يُغْنُوا عَنِّي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَأَخَذْتُ فِي ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ التَّدْرِيجِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، فَقَامَتْ عَلَيَّ القيامة، وتواترت (¬4) الْمَلَامَةُ، وفَوَّق (¬5) إِلَيَّ الْعِتَابُ سِهَامَهُ، وَنُسِبْتُ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَأُنْزِلْتُ مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهَالَةِ، وَإِنِّي لَوِ الْتَمَسْتُ لِتِلْكَ الْمُحْدَثَاتِ مَخْرَجًا لَوَجَدْتُ، غَيْرَ أَنَّ ضِيقَ الْعَطَنِ (¬6)، وَالْبُعْدَ عَنْ أَهْلِ الْفِطَنِ، رَقَى بِي (¬7) مُرْتَقًى صَعْبًا، وَضَيَّقَ عَلَيَّ مَجَالًا رَحْبًا، وَهُوَ كَلَامٌ يُشِيرُ (¬8) بِظَاهِرِهِ إِلَى أن اتّباع ¬

= سهيل بن مالك عن أبيه وذكره، ورواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم، قال: حدثنا القعنبي عن مالك عن عمّه أبي سهيل بن مالك عن أبيه وذكره (2/ 199)، وذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص111). (¬1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "وإنما". (¬2) ما بين المعكوفين كتب في (ت): "ولئن اتبعتهم". (¬3) في (غ): "المولفين". (¬4) في (ط): "وتواترت على الملامة". (¬5) الفوق هو موضع الوتر من السهم، والجمع أفواق. يقال: فوقت السهم أي جعلت له فوقاً. وأفقت السهم، أي وضعت فوقه في الوتر لأرمي به. لسان العرب (10/ 320)، الصحاح للجوهري (4/ 1546). (¬6) في (م) و (خ) وأصل (ت): "الطعن". قال الجوهري في الصحاح: "يقال فلان واسع العطن والبلد، إذا كان رحب الذراع". انظر: الصحاح (6/ 2165). (¬7) في (م) و (خ) و (غ): "في". (¬8) من هنا ينتقل ناسخ (غ) إلى قول المؤلف في الباب الأول: "للسلوك عليها .. " (ص45).

الْمُتَشَابِهَاتِ، لِمُوَافَقَاتِ الْعَادَاتِ، أَوْلَى مِنِ اتِّبَاعِ الْوَاضِحَاتِ، وَإِنْ خَالَفَتِ السَّلَفَ الْأَوَّلَ. وَرُبَّمَا أَلَمُّوا ـ فِي تَقْبِيحِ مَا وَجَّهْتُ إِلَيْهِ وِجْهَتِي ـ بِمَا تَشْمَئِزُّ منه القلوب، أو صرحوا (¬1) بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْفِرَقِ الْخَارِجَةِ عَنِ السُّنَّةِ شَهَادَةً سَتُكْتَبُ وَيُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَنْفَعُ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ ـ كَمَا يُعْزَى إِلَى بَعْضِ النَّاسِ (¬2) ـ بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمِ الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الْإِمَامَةِ، وَسَيَأْتِي مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الصَّالِحِ وَالْعُلَمَاءِ (¬3). وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الرَّفْضِ (¬4) وَبُغْضِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ، بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمْ ذِكْرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْهُمْ فِي الْخُطْبَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، إِذْ لَمْ (¬5) يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ (¬6) السَّلَفِ فِي خُطَبِهِمْ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ من العلماء المعتبرين ¬

(¬1) في (خ) و (ط): "خرجوا". (¬2) الذي نسب ذلك إلى الإمام الشاطبي هو شيخه أبو سعيد بن لب. انظر: المعيار المعرب (6/ 369 ـ 370). (¬3) سيتناول المؤلف هذه المسألة في الباب الخامس، ويبين أنها بدعة، ويرد حجة من قال بها. انظر: الاعتصام المطبوع (1/ 349 ـ 368، 2/ 3 ـ 6). (¬4) الروافض هم الشيعة، من الإمامية الاثنى عشرية والإسماعيلية، وكلّهم يعتقد أن علياً رضي الله عنه أولى بالإمامة بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غيره، وأنه استحق ذلك بالوصية والتعيين مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد عدّوا الأئمة بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثني عشر مبتدئين بعليّ ثم الحسن ثم الحسين رضي الله عنهم وهكذا، ثم افترقوا بعد جعفر الصادق فصارت منهم إمامية، وإسماعيلية، ومن عقائدهم المتفق عليها القول بالتولّي والتبرّي قولاً وفعلاً وعقداً إلاّ في حال التقية، وبين عقائدهم من الخلاف ما لا يحصر، وسبب تسميتهم بالروافض رفضهم لنصرة زيد بن علي عند خروجه لما علموا منه موالاة أبي بكر وعمر، فقال: رفضتموني، فسموا رافضة. انظر: الملل والنحل للشهرستاني (ص146 ـ 155)، مقالات الإسلاميين (ص65)، دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين لأحمد الجلي (ص179). (¬5) في (ر): "ولم يكن". (¬6) في (ط): "شأن من السلف".

فِي أَجْزَاءِ الْخُطَبِ. وَقَدْ سُئل أَصْبَغُ (¬1) عَنْ دُعَاءِ الْخَطِيبِ لِلْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَقَالَ: "هُوَ بِدْعَةٌ وَلَا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ (¬2)، وَأَحْسَنُهُ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً"، قِيلَ لَهُ (¬3): فَدُعَاؤُهُ لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ؟ قَالَ: "مَا أَرَى (¬4) بِهِ بَأْسًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا (¬5) أَنْ يَكُونَ شَيْئًا (يَصْمُدُ) (¬6) لَهُ فِي خُطْبَتِهِ دَائِمًا فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ" (¬7). ونصَّ أَيْضًا عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ (¬8) عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْخُلَفَاءِ (¬9) فِي الْخُطْبَةِ بِدْعَةٌ غَيْرُ محبوبة (¬10). ¬

(¬1) هو أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع، مولى عبد العزيز بن مروان، كان كاتب ابن وهب. روى عنه الذهلي والبخاري وابن وضاح، كان فقيهاً حسن القياس عالماً بمذهب مالك. له كتاب الأصول، وتفسير غريب الموطأ، وكتاب الرد على أهل الأهواء وغيرها. توفي بمصر سنة 225هـ. انظر: ترتيب المدارك في ترجمة أصحاب مالك للقاضي عياض (1/ 561)، سير أعلام النبلاء (10/ 656)، تقريب التهذيب (1/ 81)، الكاشف للذهبي (1/ 84). (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية (1/ 129)، البحر الرائق (2/ 156)، المدخل (2/ 270)، تحفة المحتاج (1/ 460)، الإبداع في مضار الابتداع (75)، الدين الخالص (4/ 211، 306)، إصلاح المساجد (70)، فتاوى محمد رشيد رضا (4/ 1356). (¬3) ساقطة من (م) و (ر). (¬4) في (م): "أراي". (¬5) في (ط): "وإما". (¬6) في (م) وأصل (خ) و (ت): "يحمد"، والمثبت هو ما صححت به الكلمة في هامش (خ) و (ت) و (ط)، وهي كذلك في المعيار المعرب كما سيأتي. (¬7) انظر قوله رحمه الله في المعيار المعرب للونشريسي (6/ 386). (¬8) هو عز الدين شيخ الإسلام أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القسم بن الحسن الإمام العلامة، وحيد عصره، وسلطان العلماء، السلمي الدمشقي ثم المصري، الشافعي، ولد سنة 577هـ، وقيل 578هـ. وكان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مع الزهد والورع، أزال كثيراً من بدع الخطباء، وقد بلغ مرتبة الاجتهاد، برع في الفقه والأصول والعربية، اختصر نهاية المطلب، وله القواعد الكبرى، والقواعد الصغرى، ومقاصد الرعاية وغير ذلك. توفي سنة 660هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/ 209)، شذرات الذهب (5/ 301)، فوات الوفيات للكتبي (2/ 350). (¬9) ساقطة من (ت). (¬10) سئل عز الدين بن عبد السلام في كتاب الفتاوى له: هل يستحب للخطيب ذكر الصحابة في الخطب على ما جرت به العادة في زماننت بألفاظ مسجعة؟ أم تركه أولى لموافقته السلف؟ فأجاب بقوله: "ذكر الصحابة والخلفاء والسلاطين بدعة غير محبوبة، =

وَتَارَةً أُضِيفَ (¬1) إِلَيَّ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْقِيَامِ عَلَى الأئمة، وما أضافوه إلاّ من عدم ذكرهم (¬2) في الخطبة، وذكرهم فيها مُحْدَثٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ. وَتَارَةً أحمل (¬3) عَلَيَّ الْتِزَامُ الْحَرَجِ، وَالتَّنَطُّعُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنِّي الْتَزَمْتُ ـ فِي التَّكْلِيفِ وَالْفُتْيَا ـ الْحَمْلَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ، لَا أَتَعَدَّاهُ، وَهُمْ يَتَعَدَّوْنَهُ وَيُفْتُونَ بِمَا يُسَهِّلُ عَلَى السَّائِلِ وَيُوَافِقُ هَوَاهُ، وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فِي الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ أَوْ فِي غَيْرِهِ. وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلِلْمَسْأَلَةِ بَسْطٌ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتُ (¬4). وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُعَادَاةِ أَوْلِيَاءِ الله تعالى، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنِّي عَادَيْتُ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ، الْمُنْتَصِبِينَ ـ بِزَعْمِهِمْ ـ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَتَكَلَّمْتُ لِلْجُمْهُورِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الصُّوفِيَّةِ وَلَمْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ (¬5). وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بِنَاءً منهم على أن الجماعة ¬

= ولا يذكر في الخطب إلاّ ما يوافق مقاصدهم من الثناء، والدعاء، والترغيب، والترهيب، وتلاوة القرآن ... " (ص48). وقد روى الإمام ابن سعد في الطبقات أن عمر بن عبد العزيز كتب: "لا تخصوني بشيء من الدعاء، أدعوا للمؤمنين والمؤمنات عامّة، فإن أكن منهم أدخل فيهم". انظر طبقات ابن سعد (5/ 378). (¬1) في (ت): "أضاف". (¬2) في (خ) و (ط): "ذكرى لهم". (¬3) في (م): "حمل". (¬4) ذكر المؤلف هذه المسألة في كتاب الموافقات له عند المسألة الثالثة من كتاب الاجتهاد، وذلك ضمن كلام طويل حول النهي عن تتبع الرخص، وما يلزم المستفتي والمفتي من الآداب. انظر الموافقات (4/ 146). (¬5) يريد المؤلف بالصوفية هنا أئمة الصوفية المشهورين بالزهد والعبادة، مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم وغيرهم، وسوف يفرد المؤلف فصلاً مستقلاً في الباب الثاني يذكر فيه أقوالهم في الحثّ على اتّباع الكتاب والسنة والنهي عن البدع (ص160)، ثم إن المؤلف سيتكلم عن مصطلح التصوّف بشكل مفصل في الباب الثالث، يبيّن فيه ما هو مقبول منه، وما هو مردود (ص383) وما بعده. وقد تقدم ذكر هذه الاتّهامات وبيان بطلانها في قسم الدراسة (ص24 ـ 37).

الَّتِي أُمِرَ (¬1) بِاتِّبَاعِهَا ـ وَهِيَ النَّاجِيَةُ ـ مَا عَلَيْهِ العموم [وجماعة الناس في كل زمان وإن خالف السلف الصالح] (¬2)، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ (¬3). وَكَذَبُوا عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ (¬4)، أَوْ وَهِمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. فَكُنْتُ (عَلَى حَالَةٍ) (¬5) تُشْبِهُ حَالَةَ الْإِمَامِ الشَّهِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُطَّة (¬6) الْحَافِظِ مَعَ أَهْلِ زَمَانِهِ، إِذْ حَكَى عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: "عَجِبْتُ مِنْ حَالِي فِي سَفَرِي وَحَضَرِي (¬7) مَعَ الْأَقْرَبِينَ مِنِّي وَالْأَبْعَدِينَ، وَالْعَارِفِينَ وَالْمُنْكِرِينَ، فَإِنِّي وَجَدْتُ بِمَكَّةَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمَاكِنِ أَكْثَرَ مَنْ لَقِيتُ بِهَا ـ مُوَافِقًا أَوْ مُخَالِفًا ـ دَعَانِي إِلَى مُتَابَعَتِهِ عَلَى مَا يَقُولُهُ، وَتَصْدِيقِ قَوْلِهِ، وَالشَّهَادَةِ لَهُ، فَإِنْ كُنْتُ صدّقته (¬8) فِيمَا يَقُولُ وَأَجَزْتُ لَهُ ذَلِكَ ـ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ ـ سَمَّانِي مُوَافِقًا، وَإِنْ وَقَفْتُ فِي حَرْفٍ مِنْ قَوْلِهِ، أَوْ فِي (¬9) شَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ سَمَّانِي مُخَالِفًا، وَإِنْ ذَكَرْتُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وارد (¬10)، سمّاني خارجياً (¬11)، وإن قرئ عليّ حديث (¬12) في التوحيد سمّاني ¬

(¬1) في (خ): "أمرت". (¬2) ما بين المعكوفين زيادة من (ر). (¬3) سيذكر المؤلف الأحاديث في الحثّ على الجماعة، وأقوال العلماء في المراد بها، في الباب التاسع، وذلك في المسألة السادسة عشرة والسابعة عشرة منه (2/ 258 ـ 267) من المطبوع. (¬4) في (ر): "وكذبوا في جميع ذلك عليّ". (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (ت)، ويظهر استدراك الناسخ له في الهامش. (¬6) هو عبد الرحمن بن أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده بن بطه العبدي الأصبهاني، إمام، محدث، مصنّف، كان سيفاً على أهل البدع، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر. مات سنة (470هـ). انظر: السير للذهبي (18/ 349)، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (3/ 28)، تكملة الإكمال لابن نقطة (1/ 304). (¬7) في (ت): "في حضري وسفري". (¬8) في (م): "صدقت". (¬9) في (م) و (ت): "وفي" بدل قوله "أو في". (¬10) ساقطة من (ت). (¬11) تقدم التعريف بالخوارج (ص11). (¬12) هكذا في (م) و (خ) و (ت) وفي (ط): "قرأت عليه حديثاً"، وهي هكذا في هامش (خ)، ويظهر التعديل في نسخة (ت) إلى ما في (ط).

مُشَبِّهًا (¬1)، وَإِنْ كَانَ فِي الرُّؤْيَةِ سَمَّانِي سَالِمِيًّا (¬2)، وإن كان في الإيمان سمّاني مرجئياً (¬3)، (وَإِنْ كَانَ فِي الْأَعْمَالِ، سَمَّانِي قَدَرِيًّا (¬4)) (¬5)، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْرِفَةِ سَمَّانِي كَرَامِيًّا (¬6)، وَإِنْ كَانَ فِي فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ سَمَّانِي نَاصِبِيًّا (¬7)، وإن ¬

(¬1) المشبهة: هم الذين يشبّهون الخالق سبحانه بالمخلوقين سواء في الذات أو الصفات، وأول صدور التشبيه من الروافض كالسبئية، والبيانية، والمغيرية، والهشامية وغيرهم. وأهل البدع يتهمون أهل السنة بالتشبيه لإثباتهم الصفات الثابتة في القرآن والسنة على ما يليق بجلاله سبحانه. انظر: الفَرْق بين الفِرَق للبغدادي (ص170)، الملل والنحل للشهرستاني (ص103). (¬2) هم المنسوبون إلى أبي عبد الله محمد بن سالم المتوفى سنة 297هـ، وابنه أبو الحسن أحمد بن محمد بن سالم، وقيل: أسسها سهل التستري، وقيل من رجالها أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب، وعزا إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية بعض الأقوال المحدثة في كلام الله تعالى. انظر: الفتاوى (12/ 319 ـ 320، 527)، وشذرات الذهب لابن العماد (3/ 36). (¬3) المرجئة: هم الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، فالإيمان عندهم هو معرفة الله ومحبته والإقرار بوحدانيته وترك الاستكبار عليه، ويرون أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأكثرهم على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وكانوا يقولون لا تضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل: إن أول من قال بالإرجاء غيلان الدمشقي، قال الشهرستاني: "والمرجئة أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة". وأشهر فرق المرجئة الجهمية والأشاعرة ومرجئة الفقهاء. انظر: الفَرْق بين الفِرَق للبغدادي (ص151)، الملل والنحل للشهرستاني (ص139 ـ 146)، مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 132 ـ 154)، التنبيه والرد للملطي (ص47). (¬4) تقدم التعريف بهم (ص11). (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (ت)، واستدرك في هامشها. (¬6) هم أصحاب محمد بن كرام السجستاني المتوفى سنة 255هـ، وهم طوائف بلغ عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة، ومن ضلالاتهم زعمهم أن الله تعالى جسم له حد ونهاية، وكذلك قولهم بأن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، دون التصديق بالقلب، ودون سائر الأعمال، وقولهم بوجوب معرفة الله بالعقل، وقولهم بالحسن والقبح العقليين، وتجويزهم عقد البيعة لإمامين في قطرين، ولابن كرام ضلالات في الفقه كقوله بصحة الصلاة في الثوب النجس، وعلى الأرض النجسة، ومع نجاسة ظاهر البدن. انظر: الفرق بين الفرق (ص116)، الملل والنحل (ص108)، الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 45، 204 ـ 205). (¬7) النواصب من أسماء الخوارج كما مرّ (ص11)، ويطلق على من ناصب علياً ـ رضي الله عنه ـ العداء.

كَانَ فِي فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ سَمَّانِي رَافِضِيًّا (¬1)، وَإِنْ سَكَتُّ (¬2) عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ، فَلَمْ أُجِبْ فِيهِمَا [إِلَّا بِهِمَا] (¬3)، سَمَّانِي ظَاهِرِيًّا (¬4)، وَإِنْ أَجَبْتُ (¬5) بِغَيْرِهِمَا سَمَّانِي بَاطِنِيًّا (¬6)، وَإِنْ أَجَبْتُ بِتَأْوِيلٍ سَمَّانِي أَشْعَرِيًّا (¬7)، وَإِنْ جَحَدْتُهُمَا (¬8) سَمَّانِي مُعْتَزِلِيًّا (¬9)، ¬

(¬1) مضى ذكرهم (ص23). (¬2) في (ر): "سئلت". (¬3) ساقطة من (ر). (¬4) الظاهرية: مذهب فقهي أسّسه داود بن علي الأصبهاني الظاهري المتوفى سنة 270هـ، كما يعد الإمام ابن حزم المؤسس الثاني والمقعد لهذا المذهب، ويرى أصحاب هذا المذهب أن مصدر الفقه هو النص فحسب، فلا يأخذون بالقياس، ولا الاستحسان، ولا المصالح المرسلة، قال ابن كثير عن داود الظاهري: قد كان من الفقهاء المشهورين، ولكن حصر نفسه بنفيه للقياس الصحيح، فضاق بذلك ذرعه في أماكن كثيرة من الفقه، وروى عن الإمام أحمد أنه تكلّم فيه بسبب كلامه في القرآن، وأن لفظه به مخلوق. انظر: البداية والنهاية لابن كثير (11/ 51)، تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة (ص544). (¬5) في (خ): "أجبتهم"، وفي (ر): "أجبته" في الموضعين. (¬6) هم الذين قالوا بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلاً، وهو من أشهر ألقاب الشيعة الإسماعيلية، وقد زعموا أن محمداً صلّى الله عليه وسلّم أوتي علم التنزيل، وعليّ رضي الله عنه أوتي علم التأويل، وقد تأوّلوا نصوص القرآن والسنّة على ما يوافق أسسهم الضالّة، لهدم الإسلام، وعقائدهم قد خالطتها الفلسفة، بل طغت عليها، ومن المؤسّسين لهذه الدعوة ميمون بن ديصان القداح ومحمد بن الحسين الملقب بدندان، ومنهم حمدان بن قرمط المنسوب إليه القرامطة. انظر: الملل والنحل للشهرستاني (ص191)، الفَرْق بين الفِرَق (ص213)، تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة (ص54). (¬7) هم المنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة ثلاثين وثلاثمائة ونيف، وقد أثبتوا سبعاً من الصفات، وتأوّلوا غيرها من الصفات الخبرية، وقالوا في القدر بالكسب، وفي كلام الله بأنه كلام نفسي إلى غير ذلك مما ذهبوا إليه، وقد تأثر مذهبهم بالمعتزلة من جهة وبالسلف من جهة أخرى، علماً بأن أبا الحسن الأشعري قد عاد إلى مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله كما نصّ على ذلك في كتبه، ومن رجالهم أبو بكر الباقلاني، والغزالي، والبيضاوي، والرازي. انظر: الملل والنحل (ص94)، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص160)، منهج الأشاعرة في العقيدة للدكتور سفر الحوالي. (¬8) في (م) و (ط): "حجدتهما". (¬9) المعتزلة: هم أصحاب واصل بن عطاء الغزال، وعمرو بن عبيد بعده، وسموا معتزلة =

وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَنِ مِثْلَ الْقِرَاءَةِ سَمَّانِي شَفْعَوِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُنُوتِ سَمَّانِي حَنَفِيًّا (¬1)، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ سَمَّانِي حَنْبَلِيًّا (¬2)، وَإِنْ ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد منهم (¬3) إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ ـ إِذْ لَيْسَ فِي الْحُكْمِ وَالْحَدِيثِ مُحَابَاةٌ ـ قَالُوا: طَعَنَ [فِي تَزْكِيَتِهِمْ] (¬4). ثُمَّ أعجب من ذلك أنهم يسمونني ـ فيما يقرؤون عَلَيَّ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا (¬5) يَشْتَهُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَسَامِي، وَمَهْمَا وَافَقْتُ بَعْضَهُمْ عَادَانِي غَيْرُهُ، وَإِنْ دَاهَنْتُ جَمَاعَتَهُمْ أَسْخَطْتُ اللَّهَ (¬6) تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَنْ يُغْنُوا عني من الله شيئاً. وأنا (¬7) مُسْتَمْسِكٌ (¬8) بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (¬9). هَذَا تَمَامُ الْحِكَايَةِ، فَكَأَنَّهُ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ تَكَلَّمَ عَلَى لسان الجميع، فقلما ¬

= لاعتزال واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري بعد قوله المبتدع في مرتكب الكبيرة، وقيل لاعتزالهم المسلمين ومخالفتهم لهم في هذه القضية، ويسمون القدرية والعدلية وأهل التوحيد، ومن ضلالاتهم نفي صفات الله تعالى، ونفي القدر، والقول بخلق القرآن، ونفي رؤية الله تعالى في الآخرة، والحكم على مرتكب الكبيرة بالخلود في النار إذا مات ولم يتب، ووجوب الخروج على الإمام الظالم، إلى غير ذلك من البدع، وعندهم غلوّ وتعظيم للعقل، وهم فرق كثيرة ربت على العشرين. وقد ابتلي أهل السنة بسببهم بلاء عظيماً. انظر: الملل والنحل بلشهرستاني (ص43)، الفَرْق بين الفِرَق للبغدادي (ص78)، تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة (ص124)، التنبيه والرد للملطيّ (ص40)، المعتزلة وأصولهم الخمسة للدكتور عواد المعتق. (¬1) وذلك لأن الأحناف يوجبون القنوت في الوتر، والواجب مرتبة عندهم بين السنّة والفرض. انظر: بدائع الصنائع للكاساني (2/ 685 ـ 688). (¬2) لعلّهم يسمونه بذلك إذا جاء بدليل يقرر قول الإمام أحمد في أن القرآن كلام الله غير مخلوق، لأنها مسألة اشتهرت عنه رحمه الله. (¬3) ساقطة من (ط). (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (م) و (خ): "بما". (¬6) في (خ): "أسخطت عليهم الله". (¬7) في (ط): "واني". (¬8) في (ر): "متمسك". (¬9) ذكر هذا القول للإمام عبد الرحمن بن منده الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ مع اختصار شيء من كلامه. انظر: التذكرة (3/ 1166 ـ 1167)، وذكرها أيضاً في السير (18/ 351)، وذكرها الإمام ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (3/ 28).

تَجِدُ عَالِمًا مَشْهُورًا، أَوْ فَاضِلًا مَذْكُورًا، إِلَّا وقد نبز (¬1) بِهَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِهَا، لِأَنَّ الْهَوَى قَدْ يُدَاخِلُ الْمُخَالِفَ، بَلْ سَبَبُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ الْجَهْلُ بِهَا، وَالْهَوَى الْمُتَّبَعُ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْخِلَافِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حُمِلَ عَلَى صَاحِبِ السُّنَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ صَاحِبِهَا، وَرُجِعَ (¬2) بِالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْبِيحِ لِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، حَتَّى يُنْسَبَ هَذِهِ الْمَنَاسِبَ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ سَيِّدِ العُبَّاد بَعْدَ الصَّحَابَةِ أُويس الْقَرَنِيِّ (¬3) أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، والنهي عن المنكر لم يدع (¬4) لِلْمُؤْمِنِ صَدِيقًا، نَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَيَشْتُمُونَ أَعْرَاضَنَا، وَيَجِدُونَ على ذَلِكَ أَعْوَانًا مِنَ الْفَاسِقِينَ، حَتَّى وَاللَّهِ لَقَدْ رَمَوْنِي بِالْعَظَائِمِ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَدَعُ أَنْ أَقُومَ فِيهِمْ بِحَقِّهِ" (¬5). فَمِنْ هَذَا الْبَابِ يَرْجِعُ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، لِأَنَّ الْمُؤَالِفَ فِيهِ ـ عَلَى وَصْفِهِ الْأَوَّلِ ـ قَلِيلٌ، فَصَارَ الْمُخَالِفُ هُوَ الكثير، فاندرست رسوم السنّة حين (¬6) مَدَّتِ الْبِدَعُ أَعْنَاقَهَا، فَأُشْكِلَ مَرْمَاهَا (¬7) عَلَى الْجُمْهُورِ، فظهر مصداق الحديث الصحيح. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيَّ (¬8) مِنَ الْإِنْكَارِ (¬9) مَا وَقَعَ ـ مع ما هدى الله إليه وله ¬

(¬1) في (ط): "نبذ". (¬2) في (خ) و (ت): "روجع". (¬3) هو أويس بن عامر القرني، سيد التابعين، وكان زاهداً عابداً. بشر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم به، وأوصى به أصحابه، سأله عمر أن يدعو له، لورود الخبر في فضله، واستجابة دعوته، فاستغفر له، ذهب إلى الكوفة، فلما اشتهر أمره اختفى عن الناس. قيل: توفي في صفين، وكان مع علي رضي الله عنه. انظر طبقات ابن سعد (6/ 161) حلية الأولياء لأبي نعيم (2/ 79) وصفة الصفوة لابن الجوزي (3/ 43)، تقريب التهذيب (1/ 86). (¬4) في (خ) "لم يتركا" وفي (ط): "لم يدعا"، والمثبت موافق لما ذكره ابن الجوزي. (¬5) رواه ابن سعد في الطبقات عن أُويس رحمه الله بلفظ أطول (6/ 165)، وأشار إلى طرف منه أبو نعيم في الحلية (2/ 83)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة بلفظ أطول من هذا (3/ 54)، وأخرجه ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف (8). (¬6) في (خ) و (ط): "حتى". (¬7) في (م): "مراماها". (¬8) ساقطة من (ت)، واستدركت في هامشها. (¬9) في (ر): "ولما وقع من الإنكار علي".

الحمد ـ لم أزل أتتبّع (¬1) الْبِدَعَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحذَّر مِنْهَا، وبيَّن (¬2) أَنَّهَا ضَلَالَةٌ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْجَادَّةِ (¬3)، وَأَشَارَ الْعُلَمَاءُ إِلَى تَمْيِيزِهَا، وَالتَّعْرِيفِ بِجُمْلَةٍ مِنْهَا، لَعَلِّي أَجْتَنِبُهَا (¬4) فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَأَبْحَثُ عَنِ السُّنَنِ (¬5) الَّتِي كَادَتْ تُطْفِئُ نُورَهَا تِلْكَ الْمُحْدَثَاتُ، لَعَلِّي أَجْلُو بِالْعَمَلِ سَنَاهَا (¬6)، وأُعدّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَنْ أَحْيَاهَا؛ إِذْ مَا مِنْ بِدْعَةٍ تُحْدَثُ إِلَّا وَيَمُوتُ مِنَ السُّنَنِ مَا هُوَ فِي مُقَابَلَتِهَا، حَسْبَمَا جَاءَ عَنِ السلف في ذلك. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: "مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ، إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً، حتى تحيا البدع (¬7)، وَتَمُوتَ السُّنَنُ" (¬8). وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: "لَا يُحْدِثُ رَجُلٌ (¬9) بِدْعَةً إِلَّا تَرَكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا هو خيرٌ منها" (¬10). وعن لقمان (عن) (¬11) أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ (¬12) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "مَا ¬

(¬1) في (م) و (ر): "أتبع". (¬2) في (م): "وأبين". (¬3) الجادة معظم الطريق، الجمع جواد. الصحاح للجوهري (2/ 452). (¬4) في (م): "احتسبها". (¬5) في (خ): "وأبحث عنها عن السنن". (¬6) السنا مقصور: ضوء البرق. الصحاح (6/ 2383). (¬7) في (ط): "البدعة". (¬8) رواه عن ابن عباس الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع (ص45 ـ 46)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى "1/ 178، 350)، والإمام محمد بن نصر في السنة (ص32)، ورواه الإمام اللالكائي في أصول الاعتقاد (1/ 92). وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد إلى الطبراني في الكبير، وقال: رجاله موثقون (1/ 193)، وذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص117). (¬9) في (ر): "الرجل". (¬10) أخرجه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع، عن خلاس بن عمرو يرفعه (ص45)، وروى الإمام محمد بن نصر المروزي قريباً منه مرفوعاً في كتاب السنة، وضعف المحقق سنده (ص32). (¬11) في جميع النسخ: "بن"، وهو خطأ، والصواب المثبت كما في مصادر الأثر. (¬12) هو عائذ الله بن عبد الله الخولاني، ولد في حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين، وسمع من كبار الصحابة كأبي ذر وحذيفة وأبي الدرداء، تولّى القضاء بدمشق، وكان عالم الشام بعد أبي الدرداء. =

أحدثت أمة في دينها بدعة، إلا رفع بها عنهم (¬1) سنة" (¬2). وعن حسان بن عطية (¬3) قَالَ: "مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ (¬4) مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا، ثُمَّ لَمْ يُعِدْهَا إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (¬5)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ حَسْبَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شاء الله (¬6). وَجَاءَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي إِحْيَاءِ السُّنَنِ مَا جَاءَ، فَقَدْ خرَّج ابْنُ وَهْبٍ (¬7) حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بَعْدِي، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنَ النَّاسِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ (¬8) من أجورهم ¬

= انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 390)، طبقات ابن سعد (7/ 448)، البداية والنهاية (9/ 36)، الكاشف للذهبي (2/ 52). (¬1) في (ت): "عنهم بها". (¬2) رواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع عن أبي إدريس بلفظ أطول وهو: "لأن أسمع بناحية المسجد بنار تحترق أحب إليّ من أن أسمع فيه ببدعة ليس لها مغير، وما أحدثت أمة .. وذكره". وروى الإمام ابن نصر المروزي في السنة الشطر الأول من الأثر دون الثاني (ص32). (¬3) هو الإمام الحجة أبو بكر حسان بن عطية المحاربي، مولاهم الدمشقي، ثقة، فقيه، عابد، نبيل. روى عن أبي أمامة وسعيد بن المسيب، وروى عنه الأوزاعي وغيره، قال الأوزاعي: ما رأيت أحداً أكثر عملاً في الخير من حسان بن عطية، وقيل: كان من أهل بيروت، قال الذهبي: قال يحيى بن معين: كان قدرياً، ثم قال: قلت لعله رجع وتاب. بقي إلى حدود سنة 130هـ. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (5/ 466)، تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 162)، الكاشف للذهبي (1/ 157)، حلية الأولياء (6/ 70). (¬4) في (م): "إلا نزع من سنتهم" دون ذكر لفظ الجلالة. (¬5) رواه عن حسان بن عطية الإمام الدارمي في سننه (1/ 58) برقم (98)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 73)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 93)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع (ص44)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 351)، وذكره الخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح، وصحح الألباني سنده (1/ 66). (¬6) سيأتي الكلام على هذه النقطة في الباب الثاني (ص219 ـ 221). (¬7) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص4). (¬8) ساقطة من (م)، وكتبت في (ت) فوق السطر.

شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِ النَّاسِ شَيْئًا"، وخرَّجه (¬1) التِّرْمِذِيُّ [بِاخْتِلَافٍ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى، وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ (¬2). وفي الترمذي] (¬3) عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ (¬4) تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ (¬5) فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ، فَافْعَلْ"، ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ معي في الجنّة" حديث حسن (¬6). ¬

(¬1) في (ط): "وأخرجه". (¬2) رواه الإمام الترمذي في سننه، كتاب العلم برقم (2677)، عن كثير بن عبد الله عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلّم قال لبلال بن الحجارث: "اعلم: قال: ما أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اعْلَمْ يَا بلال، قال: ما أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّهُ مَنْ أحيا سنة من سنتي ... الحديث"، وقال: حديث حسن (5/ 44)، وأخرجه ابن ماجه في مقدمة سننه عن كثير بن عبد الله كذلك (1/ 76)، ورواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع (ص40)، والبيهقي في الاعتقاد والهداية، باب الاعتصام بالسنة (ص153)، والبغوي في شرح السنة، وقال: هذا حديث حسن (1/ 233)، وروى جزءاً منه ابن أبي عاصم في السنة برقم (42)، كلّهم عن كثير بن عبد الله، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، وعزاه لابن ماجه والترمذي (وذكر تحسين الترمذي، وقال: بل كثير بن عبد الله متروك كما تقدم)، ولكن للحديث شواهد (1/ 88)، وأورده الخطيب في المشكاة، وضعّفه الألباني بسبب كثير بن عبد الله، ورد تحسين الترمذي، ثم قال: كيف لا، وقد قال الشافعي وأبو داود في كثير هذا: "ركن من أركان الكذب"، وقال ابن حبان: "له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة"، ولهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي كما قال الذهبي. انظر: مشكاة المصابيح (1/ 60). (¬3) ما بين المعكوفتين سقط من (ر). (¬4) ساقطة من (ت). (¬5) في (ت): "وليس". (¬6) رواه الإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء في الأخذ بالسنة، واجتناب البدع، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان ضعيف كما في التقريب (2/ 37)، وأورده التبريزي في المشكاة وعزاه للترمذي، وضعّفه الألباني كما في تعليقه على الكتاب بسبب علي بن زيد (1/ 62)، وروى الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى عن أنس قوله صلّى الله عليه وسلّم: "من أحيا سنتي فقد أحبّني، ومن أحبّني كان معي في الجنة" (1/ 211)، وكذلك رواه اللالكائي في أصول الاعتقاد (1/ 53)، ولا يخلو إسناد كلٍّ منهما من مجاهيل، وأورده الشيخ الألباني في ضعيف الجامع وضعفه. وهو برقم (5360)، (ص773).

فَرَجَوْتُ بِالنَّظَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ (¬1) الِانْتِظَامَ فِي سلك من أحيا سنّة، وأمات بدعة. وَعَلَى طُولِ (¬2) الْعَهْدِ (¬3)، وَدَوَامِ النَّظَرِ اجْتَمَعَ لِي في البدع والسنن أصول قرّرت (¬4) أحكامها الشريعة، [وَفُرُوعٌ طَالَتْ أَفْنَانُهَا (¬5)، لَكِنَّهَا تَنْتَظِمُهَا تِلْكَ الْأُصُولُ، وَقَلَّمَا تُوجَدُ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي سَنَحَ فِي الْخَاطِرِ، فَمَالَتْ إِلَى بَثِّهَا النَّفْسُ، وَرَأَتْ أَنَّهُ مِنَ الْأَكِيدِ الطَّلَبِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الِالْتِبَاسِ النَّاشِئِ بَيْنَ السُّنَنِ وَالْبِدَعِ (¬6)، لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتِ الْبِدَعُ وعمَّ ضَرَرُهَا، وَاسْتَطَارَ شَرَرُهَا، وَدَامَ الْإِكْبَابُ (¬7) عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالسُّكُوتُ (¬8) مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ الْإِنْكَارِ لَهَا، وَخَلَفَتْ بَعْدَهُمْ خُلُوفٌ جَهِلُوا (¬9) أَوْ غَفَلُوا عَنِ الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْقِيَامِ فِيهَا، صَارَتْ كَأَنَّهَا سُنَنٌ مُقَرَّرَاتٌ، وَشَرَائِعُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ (¬10) مُحَرَّرَاتٌ، فَاخْتَلَطَ الْمَشْرُوعُ بِغَيْرِهِ، فَعَادَ الرَّاجِعُ إِلَى مَحْضِ السُّنَّةِ كَالْخَارِجِ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْتَبَسَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَتَأَكَّدَ الْوُجُوبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عِنْدَهُ فِيهَا عِلْمٌ، وَقَلَّمَا صُنِّفَ فِيهَا عَلَى الْخُصُوصِ تَصْنِيفٌ، وَمَا صُنِّفَ فِيهَا فَغَيْرُ كافٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ، مَعَ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْيَوْمَ فَاقِدُ الْمُسَاعِدِ، عَدِيمُ المعين، فالموالي له (¬11) يَخْلُدْ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيُلْقِي لَهُ بِالْيَدِ إِلَى الْعَجْزِ عَنْ بَثِّ الْحَقِّ، بَعْدَ رُسُوخِ العوائد في القلوب، والمعادي (¬12) يرميه (¬13) بالدردبيس (¬14)، وَيَرُومُ (¬15) أَخْذَهُ بِالْعَذَابِ الْبَئِيسِ، لِأَنَّهُ يَرُدُّ (¬16) عَوَائِدَهُ ¬

(¬1) في (خ) و (ت): "الموضوع". (¬2) في (ر): "طوال". (¬3) في (خ): "العمر". (¬4) في (ر): "قدرت". (¬5) قال في اللسان: والفَنَن الغصن، وقيل: الغصن القضيب يعني المقضوب، والفنن ما تشعب منه، والجمع أفنان، انظر: لسان العرب لابن منظور (13/ 327). (¬6) ساقطة من (م) و (ت) و (غ)، وأثبتت في هامش (ت). (¬7) ساقطة من (غ). (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من (ر). (¬9) في (ر): "ذهلوا". (¬10) في (غ) و (ر): "الشريعة". (¬11) ساقطة من (م). (¬12) ساقطة من (ت). (¬13) في (ط): "يريسه". (¬14) في (ط): "الأردبيس"، والصواب المثبت. والدردبيس: الداهية. انظر: الصحاح (3/ 928). (¬15) في (ر): "ويدوم". (¬16) لعل أصلها "يرى".

الرَّاسِخَةَ فِي الْقُلُوبِ، الْمُتَدَاوَلَةَ فِي (الْأَعْمَالِ) (¬1)، دِينًا يُتَعَبَّدُ بِهِ، وَشَرِيعَةً يُسْلَكُ عَلَيْهَا، لَا حُجَّةَ له عليها (¬2) (إِلَّا عَمَلُ (¬3)) (¬4) الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، مَعَ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ المعلمين (¬5)، كَانُوا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ أَمْ لَا، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى أَنَّهُمْ عِنْدَ موافقتهم للآباء والأشياخ مخالفون للسلف الصالح. فالمتعرض لمثل هذا الأمر بالقول (¬6) يَنْحُو نَحْوَ (¬7) عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعَمَلِ، حَيْثُ قَالَ: "أَلَا وَإِنِّي أُعَالِجُ أَمْرًا لَا يُعِينُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، قَدْ فَنِيَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وكَبُر عَلَيْهِ الصَّغِيرُ، وَفَصُحَ عَلَيْهِ الْأَعْجَمِيُّ، وَهَاجَرَ عَلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ، حَتَّى حَسِبُوهُ دِينًا لَا يَرَوْنَ الْحَقَّ غَيْرَهُ" (¬8). وَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ (¬9) بِصَدَدِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهِ وَلَا يسع أحداً ممن له مُنَّة فيه (¬10) إِلَّا الْأَخْذُ بِالْحَزْمِ وَالْعَزْمِ فِي بَثِّهِ، بَعْدَ تَحْصِيلِهِ عَلَى كَمَالِهِ، وَإِنْ كَرِهَ الْمُخَالِفُ فَكَرَاهِيَتُهُ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى الْحَقِّ إِلَّا يُرَفْعُ مناره، ولا تخسف أَنْوَارُهُ (¬11)، فَقَدْ خرَّج أَبُو الطَّاهِرِ السَّلَفِيُّ (¬12) بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ عَلِّمِ النَّاسَ الْقُرْآنَ وتعلَّمه، فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ وَأَنْتَ كَذَلِكَ زَارَتِ الْمَلَائِكَةُ قَبْرَكَ كَمَا يُزَارُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ، وعلِّم النَّاسَ سُنَّتِي وَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَلَّا تُوقَفَ عَلَى الصِّرَاطِ طرفة ¬

(¬1) في (م) و (ت) و (خ): "العمال"، والمثبت هو ما صححت به الكلمة في هامش (خ)، وهي كذلك في (ط). (¬2) ساقطة من (ط). (¬3) ساقطة من (غ). (¬4) ما بين المعكوفين ساقطة من (م) وأصل (خ) و (ت)، ومثبت في (ط) وهامش (خ) و (ت). (¬5) هكذا في (ر)، وفي بقية النسخ: "العالمين". (¬6) في (غ): "هذا الأمر بالقول ينمو". (¬7) النحو: القصد والطريق. يقال: نحا نحوه أي قصد قصده. الصحاح (6/ 253). (¬8) انظر: سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (ص42). (¬9) ساقطة من أصل (ت) ومثبتة في هامشها. (¬10) ساقط من جميع النسخ عدا (ر). (¬11) هكذا في جميع النسخ الخطية، وفي (ط) وهامش (خ): "ولا تكشف وتجلي أنواره" وهي أصوب. (¬12) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم سلفة الحافظ الكبير المعمر، أبو طاهر السلفي الأصبهاني، وكان يلقب بصدر الدين وكان شافعي المذهب، أخذ اللغة عن الخطيب التبريزي، وسمع الحديث الكثير، وقد نزل الإسكندرية، وبنيت له فيها مدرسة تعرف باسمه، وأمّا أماليه وكتبه وتعاليقه فكثيرة جداً. توفي سنة 576هـ. انظر: البداية والنهاية (12/ 328)، طبقات الشافعية (4/ 230)، شذرات الذهب (4/ 27).

عَيْنٍ حَتَّى تَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلَا تُحْدِثْ فِي دِينِ اللَّهِ حَدَثًا بِرَأْيِكَ" (¬1). قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْقَطَّانِ (¬2): "وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، مِنْ إِقْرَاءِ كِتَابِ اللَّهِ، وَالتَّحْدِيثِ بِالسُّنَّةِ، أَحَبَّ النَّاسُ أَمْ كَرِهُوا، وَتَرْكِ الْحَدَثِ، حَتَّى إِنَّهُ (¬3) كَانَ لَا يَتَأَوَّلُ شَيْئًا مِمَّا رَوَى، تَتْمِيمًا لِلسَّلَامَةِ مِنَ الْخَطَأِ". عَلَى أَنَّ أَبَا الْعَرَبِ التَّمِيمِيِّ (¬4) حَكَى عَنِ ابْنِ فَرُّوخَ (¬5) أنه كتب إلى ¬

(¬1) في (ر): "تدخلوا". (¬2) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (4/ 380)، وعزاه الألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 285) لأبي الفرج ابن مسلمة في مجلس من الأمالي (120/ 2)، وإلى السلفي في الأربعين (20/ 1)، وطرق أربعين السلفي لابن عساكر (54/ 1 ـ 2)، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 264)، وقال: لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد غطى بعض الرواة عورة عواره بأن قال: حدثنا أبو همام القرشي وهذا عندي من أعظم الخطأ أن يهرج بكذاب، واسمه محمد بن مجيب، قال يحيى بن معين: كذاب عدوّ الله. وقال أبو حاتم الرازي: ذاهب الحديث، وتعقبه السيوطي في اللآلئ المصنوعة بقوله: قلت له طريق آخر. قال أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا محمد بن عبد الرحيم بن شبيب عن محمد بن قدامة المصيصي عن جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. انظر: الحلية (1/ 222). ثم قال الألباني معقباً على هذا السند: وأنا أتّهم به ابن شبيب هذا، فإن رجال إسناده كلهم ثقات غيره، واتّهمه بالجهالة. وقد حكم عليه الألباني بالوضع كما في السلسلة الضعيفة، وله كلام جيد في هذا الموضع (1/ 285). (¬3) لم يتبين لي المراد بابن القطان هنا. (¬4) في (ت): "إن"، وسقطت من (ر). (¬5) هو محمد بن أحمد بن تميم بن تمام التميمي، سمع من جماعة أصحاب سحنون، وأكثر رجال أفريقية. وكان رجلاً صالحاً ثقة، عالماً بالسنن والرجال، كثير الكتب، حسن التقييد. ألّف طبقات علماء أفريقية، وكتاب عباد أفريقية، ومسند حديث مالك، وكتاب التاريخ. توفي سنة 333هـ. انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (2/ 334)، سير أعلام النبلاء (15/ 394). (¬6) هو أبو محمد عبد الله بن فروخ الفارسي، فقيه القيروان في وقته، كان مولده سنة 115هـ، ثم انتقل إلى أفريقية فسكن القيروان وأوطنها، ثم رحل إلى المشرق ولقي جماعة من العلماء منهم مالك وأبو حنيفة والثوري، وكان اعتماده في الحديث والفقه على مالك بن أنس وبصحبته اشتهر، وكان فقيهاً ورعاً رحمه الله. توفي بمصر سنة 175هـ. انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 339)، الكاشف للذهبي (2/ 105)، تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 440).

مالك بن أنس (رضي الله عنه) (¬1): أن بلدنا كثير البدع، وأنه ألف لهم (¬2) كَلَامًا (¬3) فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ يَقُولُ لَهُ: "إِنْ ظَنَنْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ خِفْتُ أَنْ تَزِلَّ فَتَهْلِكَ، لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَنْ كَانَ ضَابِطًا عَارِفًا بِمَا يَقُولُ لَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ (¬4) أَنْ يُعَرِّجُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ فَيُخْطِئَ فَيَمْضُوا عَلَى خَطَئِهِ أَوْ يَظْفَرُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، فَيَطْغَوْا وَيَزْدَادُوا تَمَادِيًا عَلَى ذَلِكَ" (¬5)، انْتَهَى (¬6). وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْضِي لِمِثْلِي بِالْإِحْجَامِ دون الإقدام، وشياع هذا المنكر (¬7)، وَفُشُوُّ الْعَمَلِ بِهِ، وَتَظَاهَرُ أَصْحَابِهِ يَقْضِي لِمَنْ لَهُ (بِهَذَا (¬8) الْمَقَامِ مُنَّة) (¬9) بِالْإِقْدَامِ دُونَ الْإِحْجَامِ؛ لِأَنَّ الْبِدَعَ قَدْ عمَّت، وَجَرَتْ أَفْرَاسُهَا مِنْ غَيْرِ مُغَيِّرٍ (¬10) مِلْءَ أَعِنَّتِهَا. وَحَكَى (ابْنُ وَضَّاحٍ (¬11) عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: أَنَّ) (¬12) أَسَدَ بْنَ مُوسَى (¬13) ¬

(¬1) ساقطة من (غ). (¬2) ساقطة من (ط). (¬3) في (ت) وهامش (خ): "كتاباً". (¬4) في (م) و (ت): "يقدروا". (¬5) انظر: طبقات علماء إفريقية (ص110)، وترتيب المدارك عند ترجمة ابن فروخ (1/ 345)، ورياض النفوس (1/ 118). (¬6) ساقطة من (ط). (¬7) في (م) و (ط): "النكر". (¬8) في (م) و (خ): "بها"، وفي (ر): "في هذا". (¬9) ساقطة من (غ). (¬10) في (ر): "مغبز". (¬11) هو الإمام الحافظ، محدث الأندلس، أبو عبد الله محمد بن وضاح بن بزيع المرواني، مولى صاحب الأندلس عبد الرحمن بن معاوية الداخل، ولد سنة 199هـ، كان عالماً بالحديث بصيراً بطرقه وعلله، ورعاً زاهداً، صبوراً على نشر العلم، رحل إلى المشرق وطلب الحديث، نفع الله به أهل الأندلس. ومن كتبه: البدع والنهي عنها، والقطعان، والعباد والعوابد. توفي سنة 287هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 445)، الأعلام للزركلي (7/ 358)، تذكرة الحفاظ (2/ 646)، لسان الميزان (5/ 416). (¬12) ما بين المعكوفين بياض في (غ). (¬13) هو أسد بن موسى بن إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي، يقال له أسد السنة، روى عن ابن أبي ذئب والليث بن سعد وشعبة، وكانت ولادته سنة 132هـ، سنة زوال دولة آبائه بني أمية، وقد طلب العلم، ولقي الكبار، ورحل وجمع وصنّف، وله كتاب الزهد وغيره، وكان حريصاً على السنة، شديداً على أهل البدع، عاش ثمانين سنة ثم توفي سنة 212هـ.=

كَتَبَ إِلَى أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ (¬1): "اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ مَا حَمَلَنِي عَلَى الكَتْب إِلَيْكَ مَا أَنْكَرَ (أَهْلُ بِلَادِكَ مِنْ صَالِحِ مَا) (¬2) أَعْطَاكَ اللَّهُ مِنْ إِنْصَافِكَ النَّاسَ، وَحُسْنِ حَالِكَ مِمَّا أَظْهَرْتَ مِنَ السُّنَّةِ، وَعَيْبِكَ (لِأَهْلِ الْبِدَعِ، (وَكَثْرَةِ ذِكْرِكَ لَهُمْ) (¬3)) (¬4)، وَطَعْنِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ (¬5)، وَشَدَّ بِكَ ظَهَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَوَّاكَ عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ عَيْبِهِمْ، وَالطَّعْنِ عَلَيْهِمْ، وأذلَّهم اللَّهُ بذلك، وصاروا ببدعتهم مستترين. فأبشر أي أَخِي (¬6) بِثَوَابِ اللَّهِ (¬7)، وَاعْتَدَّ بِهِ مِنْ أَفْضَلِ حَسَنَاتِكَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ. وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ مِنْ إِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ، وإحياء سنّة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: "من أَحْيَا شَيْئًا مِنْ سُنَّتِي كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ" وَضَمَّ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ (¬8)، وَقَالَ: "أَيُّمَا داعٍ (¬9) دَعَا إِلَى هُدًى (¬10) فَاتُّبِعَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ تَبِعَهُ إِلَى يوم القيامة" (¬11). ¬

= انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 162)، تهذيب التهذيب لابن حجر (1/ 260)، الكاشف للذهبي (1/ 66). (¬1) هو الإمام العلامة، القاضي الأمير، مقدم المجاهدين، أبو عبد الله الحراني ثم المغربي، ولد بحرّان سنة 144هـ وكان أبوه الفرات بن سنان من أعيان الجند. روى أسد عن مالك الموطأ، وغلب عليه علم الرأي، وكتب علم أبي حنيفة وأخذ عنه شيخه أبو يوسف القاضي، وحصلت بأفريقية له رياسة وإمرة، وأخذوا عنه، وتفقهوا به، توفي بعدما افتتح بلداً من جزيرة صقلية سنة 213هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 220)، ترتيب المدارك (2/ 465)، وفيات الأعيان (3/ 182)، العبر (1/ 364)، الإحاطة في أخبار غرناطة (1/ 422). (¬2) بياض في (غ). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬4) ما بين المعقوفتين بياض في (غ). (¬5) في (ر): "لك". (¬6) في (خ) و (ط): "يا أخي"، وفي (ت): "أيا أخي"، والمثبت هو ما في (م) و (غ)، وكذلك في البدع والنهي عنها لابن وضاح. (¬7) في (غ): "ذلك"، ثم بياض إلى قوله: "والحج". (¬8) مضى تخريجه مع اختلاف في اللفظ، ولم أجده بهذا اللفظ تماماً. انظر (ص34). (¬9) ساقطة من (ت). (¬10) في (ط): "هذه". (¬11) رواه ابن ماجه في مقدمة سننه عن أنس، ولفظه: "أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع، فإن له مثل أوزار من اتّبعه، ولا ينقص من أوزارهم شيئاً، وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع، فإن له مثل أجور من اتّبعه، ولا ينقص من أجورهم شيئاً" (1/ 75)، وفي سنده =

فَمَنْ يُدْرِكُ ـ يَا أَخِي ـ هَذَا بِشَيْءٍ مِنْ عمله؟! وذكر أيضاً: "إن (¬1) عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ كِيدَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَلِيًّا لِلَّهِ يَذُبُّ عَنْهَا، وَيَنْطِقُ بِعَلَامَتِهَا" (¬2). فَاغْتَنِمْ يَا أَخِي هَذَا الْفَضْلَ وكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَأَوْصَاهُ، وَقَالَ: "لِأَنْ يهدي الله بك رجلاً (¬3) خَيْرٌ لَكَ مِنْ كَذَا وَكَذَا" (¬4). وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ، فَاغْتَنِمْ ذَلِكَ، وَادْعُ إِلَى السُّنَّةِ حَتَّى يَكُونَ لَكَ فِي ذَلِكَ أُلفة وَجَمَاعَةٌ يَقُومُونَ مَقَامَكَ إِنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ (¬5)، فَيَكُونُونَ أَئِمَّةً بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء الأثر (¬6). ¬

= سعد بن سنان. قال عنه ابن حجر في التقريب: صدوق له أفراد. تقريب التهذيب (1/ 287). ويشهد للحديث حديث أبي هريرة في مسلم وغيره بلفظ: "من دعا إلى هدى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". صحيح مسلم بشرح النووي (8/ 62)، وقد صحح الألباني الحديث كما في صحيح الجامع برقم (2712)، (1/ 526). (¬1) في (غ): "إن لله". (¬2) روى هذا الأثر الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها عن ابن مسعود وزاد: "فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكّلوا على الله" (ص11)، ورواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة مرفوعاً، وقال: تفرّد به عبد الغفار عن سعيد وعنه عباد. انظر: الحلية (10/ 400)، وانظر: الضعفاء للعقيلي (3/ 100)، وراجع السلسلة الضعيفة للألباني (869). (¬3) في (ط): "رجلاً واحداً". (¬4) روى حديث معاذ رضي الله عنه الإمام أحمد في المسند بلفظ: "يا معاذ إن يهدي الله على يديك رجلاً من أهل الشرك خير لك من أن يكون لك حُمُر النعم" (5/ 238). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد عن معاذ، باب فيمن يسلم على يديه أحد. وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، إلا أن دويد بن نافع لم يدرك معاذاً (5/ 334). ولكن قد صحّ نحوه عن سهل بن سعد وهو في الصحيحين، وذلك في قصة فتح خيبر عندما أعطى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليّاً رضي الله عنه الراية، وكان مما قاله له: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم". انظر فتح الباري، كتاب الجهاد، باب فضل من أسلم على يديه رجل (6/ 144)، وصحيح مسلم بشرح النووي في كتاب فضائل الصحابة (15/ 178)، ومسند أحمد (5/ 333). (¬5) في (غ): "حادث". (¬6) مرّ قريباً في نفس النص.

فاعمل على بصيرة، ونية (¬1) وحسبة (¬2)، فَيَرُدُّ اللَّهُ بِكَ الْمُبْتَدِعَ وَالْمَفْتُونَ الزَّائِغَ الْحَائِرَ، فَتَكُونُ خَلَفًا مِنْ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأحيِ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَلْقَى اللَّهَ بِعَمَلٍ يُشْبِهُهُ" (¬3). انْتَهَى مَا قَصَدْتُ إِيرَادَهُ مِنْ كَلَامِ أَسَدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي (¬4) جَانِبَ الْإِقْدَامِ، مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ فِي خُطْبَتِهِ، أَنْ قَالَ: "وَاللَّهِ إِنِّي (¬5) لَوْلَا أَنْ أُنْعِشَ (¬6) سُنَّةً قَدْ أُمِيتَتْ، أو أميت (¬7) بدعة قد أحييت، ما أحببت (¬8) أَنْ أَعِيشَ فِيكُمْ فُوَاقاً (¬9) " (¬10). وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ في كتاب القطعان (¬11) من حديث (¬12) الْأَوْزَاعِيِّ (¬13) أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يَزَالَ لِلَّهِ نُصَحَاءُ فِي الْأَرْضِ مِنْ عِبَادِهِ يَعْرِضُونَ أَعْمَالَ الْعِبَادَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِذَا وَافَقُوهُ حَمِدُوا اللَّهَ، وَإِذَا خَالَفُوهُ عَرَفُوا بِكِتَابِ اللَّهِ ضَلَالَةَ مَنْ ضَلَّ، وَهُدَى مَنِ اهتدى، فأولئك خلفاء الله" (¬14). ¬

(¬1) ساقطة من (غ). (¬2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "حسنة". (¬3) أورد هذا النص عن أسد بن موسى الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص12). (¬4) في (ت): "مقوي" بدل قوله "مما يقوي". (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) أنعش أي أرفع. ونعشه الله أي رفعه. الصحاح للجوهري (3/ 1021). (¬7) في (خ) و (ط) و (ر): "أو أن أميت". (¬8) ساقطة من (م) و (خ) و (ت). (¬9) الفواق والفواق ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر، ثم تحلب. يقال: ما أقام عنده إلا فواقاً. الصحاح للجوهري (4/ 1546). (¬10) رواه ابن سعد في الطبقات عنه (5/ 344)، وأبو نعيم في الحلية عند ترجمة عمر بن عبد العزيز ضمن خطبة له (5/ 297)، وابن نصر المروزي في السنة بلفظ أطول (ص13)، وابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز (ص42). (¬11) هو كتاب لابن وضاح في الحديث. انظر ترجمته (ص39). (¬12) في جميع النسخ: "وحديث"، والمثبت ما في (غ) و (ر). (¬13) تقدمت ترجمته (ص18). (¬14) لم أعثر على تخريجه لعدم وجود كتاب القطعان.

وَفِيهِ عَنْ سُفْيَانَ (¬1) قَالَ: "اسْلُكُوا سَبِيلَ الْحَقِّ، ولا تستوحشوا من قلة أهله" (¬2). فوقع التردد (¬3) بَيْنَ النَّظَرَيْنِ. ثُمَّ إِنِّي أَخَذْتُ فِي ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ الْإِخْوَانِ الَّذِينَ أَحْلَلْتُهُمْ مِنْ قَلْبِي مَحَلَّ السُّوَيْدَاءِ (¬4)، وَقَامُوا لِي فِي عَامَّةِ أَدْوَاءِ نَفْسِي مَقَامَ الدَّوَاءِ، فَرَأَوْا أَنَّهُ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِي طَلَبِ الشَّرْعِ نَشْرُهُ، وَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي وَضْعِ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْبِدَعِ وَأَحْكَامِهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَسَمَّيْتُهُ (¬5) بالاعتصام (¬6)، وَاللَّهَ أَسْأَلُ (¬7) أَنْ يَجْعَلَهُ عَمَلًا خَالِصًا، وَيَجْعَلَ ظِلَّ الْفَائِدَةِ بِهِ مَمْدُودًا لَا قَالِصًا، وَالْأَجْرَ عَلَى الْعَنَاءِ فِيهِ كَامِلًا لَا نَاقِصًا (¬8)، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَيَنْحَصِرُ الْكَلَامُ فِيهِ بِحَسَبِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ فِي عشرة (¬9) أَبْوَابٍ، وَفِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا فُصُولٌ اقْتَضَاهَا بَسْطُ الْمَسَائِلِ الْمُنْحَصِرَةِ فِيهِ، وَمَا انْجَرَّ مَعَهَا من الفروع المتعلقة به (¬10). ¬

(¬1) هو ابن عيينة كما وضحته رواية أبي نعيم وابن الجوزي. (¬2) رواه أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة (7/ 306)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة عنه رحمه الله (2/ 235)، كلاهما يرويه عنه أنه قال: كان يقال: وذكره. (¬3) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "الترديد". (¬4) سواد القلب: حبّته، وكذلك أسوده، وسوداؤه، وسويداؤه. الصحاح للجوهري (2/ 492). (¬5) ساقطة من (غ). (¬6) ساقطة من (م) و (غ)، ومثبتة في هامش (م). (¬7) في (ر): "أسأله". (¬8) في أصل (خ): "كاملاً ناقصاً"، وصححت في هامشها. (¬9) هكذا في (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "جملة". (¬10) ساقطة من (غ) و (ر).

الباب الأول في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظا

الباب (¬1) الأول في تَعْرِيفُ الْبِدَعِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا وَمَا اشْتُقَّ مِنْهُ لفظاً (¬2) وأصل مادة بَدَعَ لِلِاخْتِرَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَمِنْهُ قول الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬3)، أي مخترعهما مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ (¬4) مُتَقَدِّمٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (¬5)، أَيْ مَا كُنْتُ أَوَّلَ (¬6) مَنْ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ، بَلْ تَقَدَّمَنِي كَثِيرٌ مِنَ الرُّسُلِ. وَيُقَالُ: ابْتَدَعَ فَلَانٌ (بِدْعَةً يَعْنِي ابْتَدَأَ) (¬7) طَرِيقَةً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا سَابِقٌ. وَهَذَا أَمْرٌ بَدِيعٌ، يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحْسَنِ (الَّذِي لَا مِثَالَ لَهُ فِي الْحُسْنِ) (¬8)، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدْعَةً، فَاسْتِخْرَاجُهَا لِلسُّلُوكِ عَلَيْهَا هُوَ الِابْتِدَاعُ، وَهَيْئَتُهَا (¬9) هِيَ الْبِدْعَةُ، وقد يسمّى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة. ¬

(¬1) في (ت): "الفصل الأول"، وصححت في هامشها. (¬2) التبويب وما بعده ساقط من (م)، إلى قوله: "وأصل مادة بدع"، وعبارة (ت): "الفصل الأول في اشتقاق لفظ البدعة"، وعبارة (غ): "الباب الأول في تحقيق البدعة". (¬3) سورة البقرة، آية (117). (¬4) ساقطة من (م) و (خ) و (غ) و (ر)، وأثبتت في هامش (خ). (¬5) سورة الأحقاف، آية (9). (¬6) بياض في (غ)، وأثبتت في هامشها. (¬7) ساقط من (غ). (¬8) ساقط من (غ). (¬9) في (م): "وهيتها".

فَمِنْ (¬1) هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِدْعَةً، وَهُوَ إِطْلَاقٌ أَخَصُّ (¬2) مِنْهُ فِي اللُّغَةِ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بِحَوْلِ الله. فنقول (¬3): ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَقْوَالِهِمْ ثَلَاثَةٌ: حُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ، كَانَ لِلْإِيجَابِ أَوِ النَّدْبِ (¬4)، وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ، كَانَ لِلْكَرَاهَةِ أَوِ التَّحْرِيمِ، وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ. فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَقْوَالُهُمْ لَا تَعْدُو هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ: مَطْلُوبٌ فِعْلُهُ، وَمَطْلُوبٌ تَرْكُهُ، وَمَأْذُونٌ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ. وَالْمَطْلُوبُ تَرْكُهُ لَمْ يُطْلَبْ تَرْكُهُ إِلَّا لِكَوْنِهِ مخالفاً للقسمين الآخرين (¬5)، لَكِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ، وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة، مع تجرّد (¬6) النَّظَرِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ إِنْ كَانَ محرماً سمّى فعله (¬7) مَعْصِيَةً وَإِثْمًا وَسُمِّيَ (¬8) فَاعِلُهُ عَاصِيًا وَآثِمًا، وَإِلَّا لَمْ يُسَمَّ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ فِي حُكْمِ الْعَفْوِ حَسْبَمَا هُوَ مبيَّن فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (¬9). وَلَا يُسَمَّى بِحَسَبِ الْفِعْلِ جَائِزًا وَلَا مُبَاحًا، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالنَّهْيِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ (¬10). وَالثَّانِي: أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ، وَيُنْهَى عَنْهُ لكونه مخالفة تضاهي (¬11) التَّشْرِيعِ، مِنْ جِهَةِ ضَرْبِ الْحُدُودِ، وَتَعْيِينِ الْكَيْفِيَّاتِ، وَالْتِزَامِ الْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، أَوِ الْأَزْمِنَةِ الْمُعَيَّنَةِ، مَعَ الدَّوَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الِابْتِدَاعُ وَالْبِدْعَةُ، ويسمّى فاعله مبتدعاً. ¬

(¬1) ساقطة من (ر). (¬2) في (ت): "أخصر". (¬3) ساقط من جميع النسخ عدا (غ)، وفي (ت): "فصل"، والصواب المثبت. (¬4) في (ت): "للندب". (¬5) في (خ) و (ط): "الأخيرين". (¬6) في (ط): "مجرد". (¬7) في (خ) و (ط): "فعلا". (¬8) في (ر): "سمي". (¬9) يريد والله أعلم المكروه، لأنه منهي عنه، لكنه ليس كالمحرم، فلا يسمّى فاعل المكروه عاصياً ولا آثماً، ولا يسمى فعله معصية وإثماً. (¬10) في (م): "متنافين". (¬11) هكذا في (غ) و (ر) وهو الأصوب، وفي بقية النسخ: "لظاهر".

فَالْبِدْعَةُ إِذَنْ عِبَارَةٌ عَنْ: "طَرِيقَةٍ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٍ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ". وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يُدْخِلُ الْعَادَاتِ فِي مَعْنَى (¬1) الْبِدْعَةِ، وَإِنَّمَا يَخُصُّهَا بِالْعِبَادَاتِ (¬2)، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ أَدْخَلَ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ فَيَقُولُ: "الْبِدْعَةُ طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ (¬3)، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِّ، فالطريقة والطريق والسبيل والسنن وَاحِدٍ (¬4)، وَهُوَ مَا رُسِمَ لِلسُّلُوكِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَتْ بِالدِّينِ، لِأَنَّهَا فِيهِ تُخْتَرَعُ، وَإِلَيْهِ يُضِيفُهَا (¬5) صَاحِبُهَا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ طَرِيقَةً مُخْتَرَعَةً فِي الدُّنْيَا عَلَى الْخُصُوصِ لَمْ تُسَمَّ بِدْعَةً، كَإِحْدَاثِ الصَّنَائِعِ وَالْبُلْدَانِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا كَانَتِ الطَّرَائِقُ فِي الدِّينِ تَنْقَسِمُ ـ فَمِنْهَا: مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِيهَا ـ خُصَّ مِنْهَا مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَدِّ، وَهُوَ الْقِسْمُ الْمُخْتَرَعُ، أي ابْتُدِعَتْ (¬6) عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ تَقَدَّمَهَا مِنَ الشَّارِعِ؛ إِذِ الْبِدْعَةُ إِنَّمَا خَاصَّتُهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَمَّا رَسَمَهُ الشَّارِعُ، وَبِهَذَا الْقَيْدِ انْفَصَلَتْ عَنْ كُلِّ مَا ظَهَرَ لِبَادِي الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخْتَرَعٌ، مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ، كَعِلْمِ النَّحْوِ، وَالتَّصْرِيفِ، وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَأُصُولِ الدِّينِ، وَسَائِرِ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الزمان الأول، فأصولها موجودة ¬

(¬1) ساقطة من أصل (ت)، ومثبتة في هامشها. (¬2) أما دخول البدعة في العبادات فهو محل اتفاق، وأما دخولها في العادات فمحل خلاف. والذي عليه المؤلف أن البدعة لا تدخل في الأمور العادية إلاّ بضوابط معينة ذكرها في الباب السابع، حيث أفرد هذا الباب لهذا الموضوع (2/ 73). (¬3) في (م) و (خ) و (ت): "الشريعة"، والصواب المثبت إلحاقاً بما قبلها في التعريف السابق. (¬4) في (م) و (ت) وأصل (خ): "وهو واحد"، وفي (ط): "وهي بمعنى واحد". (¬5) في (ر): "يضفه". (¬6) في (ط) وهامش (خ) و (ت): "أي طريقة ابتدعت".

فِي الشَّرْعِ؛ إِذِ الْأَمْرُ بِإِعْرَابِ الْقُرْآنِ مَنْقُولٌ (¬1)، وَعُلُومُ اللِّسَانِ (¬2) هَادِيَةٌ لِلصَّوَابِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَحَقِيقَتُهَا إِذًا أَنَّهَا فِقْهُ التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا كَيْفَ تُؤْخَذُ وَتُؤَدَّى. وَأُصُولُ الْفِقْهِ إِنَّمَا مَعْنَاهَا اسْتِقْرَاءُ كُلِّيَّاتِ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ نُصْبَ عَيْنٍ، وَعِنْدَ الطَّالِبِ سَهْلَةُ الْمُلْتَمَسِ (¬3). وَكَذَلِكَ أُصُولُ الدِّينِ، وَهُوَ عِلْمُ الْكَلَامِ، إِنَّمَا حَاصِلُهُ تَقْرِيرٌ لِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا فِي التَّوْحِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمَا كَانَ الْفِقْهُ تَقْرِيرًا لِأَدِلَّتِهَا في الفروع العملية (¬4) (¬5). ¬

(¬1) عزا الإمام السيوطي إلى عمر رضي الله عنه الحثّ عليه، كما في الإتقان في علوم القرآن (1/ 488)، وذكر الشيخ الألباني أحاديث في الحثّ عليه، وكلّها ضعيفة كما في سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/ 521)، وضعيف الجامع (ص133)، وذكر المؤلف في الباب الثالث: أن أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَحْكُونَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بِوَضْعِ شَيْءٍ في النحو، وكذلك ذكر أن ذلك مرويٌّ عن عمر. ثم قال: وَإِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ الراشدين صار النحو والنظر في الكلام العربي من سنّة الخلفاء الراشدين، وإن سلم أنه ليس كذلك، فقاعدة المصالح تعمّ علوم العربية، أي تكون من قبيل المشروع. انظر (ص369). (¬2) في (ت): "الدين". (¬3) في (م): "الملتبس". (¬4) في (م): "العماية"، وصححت في الهامش "العملية"، وفي (خ) و (ت) و (ط): "العبادية". (¬5) سمّى المؤلف أصول الدين هنا علم الكلام، فإن كان يريد بهذا العلم جمع أدلة القرآن والسنّة في العقيدة سواء في التوحيد أو الصفات أو القدر أو غيرها، وتقريرها على منهج أهل السنة والجماعة والسلف الصالح، فلا إشكال إلاّ في تسمية أصول الدين بعلم الكلام. (وهذا قد يكون بسبب إطلاق البعض لهذه التسمية). وأمّا إذا أراد بعلم الكلام العلم المبتدع الذي ذمّه السلف ونهوا عنه، وسمّاه المبتدعة أصول الدين، والتوحيد، فقوله غير مسلم، فكيف يكون علم الكلام هو أصول الدين، مع أنه مبتدع نهى عنه سلفنا الصالح، وحذّروا منه، ومن مجالسة أهله بكلام لا يسعنا سرده في هذا الموضع. فأصول الدين حقيقة ما كان من ميراث النبوّة من الكتاب والسنة، فقد اشتمل كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على مسائل أصول الدين الحقيقية، وقرّراها بأحسن تقرير، وأصح دليل، وأحسن عبارة، وأمّا ما سوى ذلك فلا يصح أن يسمّى أصولاً للدين، فإن أصول الدين هي أهمّ أمور الدين، فكيف لا يبلِّغها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنا وهي كذلك؟ وقد أدخل المبتدعة في هذا المسمى ما ليس من الدين، من المسائل والدلائل الفاسدة، مثل نفي الصفات والقدر، ونحو ذلك من المسائل، ومثل الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض ... إلى غير ذلك =

فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ تَصْنِيفَهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُخْتَرَعٌ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ، فَفِي (¬1) الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ (¬2)، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ، فَالشَّرْعُ بِجُمْلَتِهِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهَا بِحَوْلِ اللَّهِ (¬3). فَعَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ خَادِمٍ لِلشَّرِيعَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ أَدِلَّتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْخُوذَةٍ مِنْ جزئي واحد، فليس (¬4) بِبِدْعَةٍ أَلْبَتَّةَ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعُلُومُ مُبْتَدَعَاتٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ في قسم (¬5) الْبِدَعِ كَانَتْ قَبِيحَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ من غير استثناء (¬6)، كَمَا يَأْتِي (¬7) بَيَانُهُ (¬8) إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬9). وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَتْبُ الْمُصْحَفِ، وَجَمْعُ الْقُرْآنِ قَبِيحًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَيْسَ إِذًا ببدعة (¬10). ¬

= مما يعلم بالاضطرار أن نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم لم يأتِ به، ولم يَدْعُ إليه، فعلى هذا فعلم الكلام مبتدع، وليس كعلم الفقه ولا غيره. انتهى مع اقتباس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (1/ 26 ـ 43). (¬1) في (ت): "وفي". (¬2) يريد قوله صلّى الله عليه وسلّم: "عليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين"، فإذا ثبت عن عمر أو عليّ رضي الله عنهما الأمر بوضع قواعد النحو، فهو من سنّة الخلفاء الراشدين المأمور بها، وليس من البدع، وقد اعتمد المؤلف على الحديث في الإجابة على مثل هذا، وكذلك استدلّ بكتابة الحديث في زمنه صلّى الله عليه وسلّم. (1/ 347 ـ 348). (¬3) سوف يفرد المؤلف الباب الثامن لهذه القاعدة، ويضرب لها عشرة أمثلة، ويذكر الفرق بينها وبين الابتداع، وكذلك الفرق بين الاستحسان والابتداع (2/ 111). (¬4) في (م) و (ر) و (خ) و (ت) و (ط): "فليست". (¬5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "علم". (¬6) المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ: "إشكال". (¬7) في (ر): "سيأتي". (¬8) ساقطة من (م) و (غ) و (ر). (¬9) سيتناول ذلك في نهاية الباب الثاني (ص254)، وبداية الباب الثالث (ص267). (¬10) سيتكلم المؤلف عن جمع القرآن، وكتابة المصحف في الباب الثالث (ص345 ـ 346)، وكذلك سيجعله مثالاً من أمثلة المصالح المرسلة في الباب الثامن (2/ 115).

ويلزم أيضاً (¬1) أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَلَيْسَ إِلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ جُزْئِيٌّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، (ثَبَتَ مُطْلَقُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ) (¬2). فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى عِلْمُ النَّحْوِ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ، أَوْ عِلْمُ الْأُصُولِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ بِدْعَةً أَصْلًا. وَمَنْ سَمَّاهُ بِدْعَةً، فَإِمَّا عَلَى الْمَجَازِ كَمَا سَمَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قيام الناس (في المسجد) (¬3) فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِدْعَةً (¬4)، وَإِمَّا جَهْلًا بِمَوَاقِعِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُعْتَدًّا بِهِ، وَلَا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِّ: (تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ)، يَعْنِي أَنَّهَا تُشَابِهُ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ فِي الحقيقة كذلك، بل هي مضادّة لها، (وبيان مشابها) (¬5) مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْهَا: وَضَعُ الْحُدُودِ كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لَا يَقْعُدُ، ضَاحِيًا لَا يَسْتَظِلُّ، ¬

(¬1) ساقط من جميع النسخ عدا (غ). (¬2) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (خ)، ومثبت في هامشها. (¬3) ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬4) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان عن عبد الرحمن بن عبد القاريّ أنه قال: خرجت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرّقون يصلّي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ وكان الناس يقومون أوّله. البخاري مع الفتح (4/ 250)، ورواه مالك في الموطأ كتاب الصلاة في رمضان، باب ما جاء في قيام رمضان (1/ 114). (¬5) ما بين القوسين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر)، وعبارة (غ): "وبيان مشابهته".

والاختصاء (¬1) في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل أو الملبس (¬2) عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ (¬3) مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ. وَمِنْهَا: الْتِزَامُ الْكَيْفِيَّاتِ وَالْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، كَالذِّكْرِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَاتِّخَاذُ يَوْمِ وِلَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: الْتِزَامُ الْعِبَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يُوجَدْ لَهَا ذَلِكَ التَّعْيِينُ فِي الشَّرِيعَةِ، كَالْتِزَامِ صِيَامِ يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شعبان وقيام ليلته. وثم (¬4) أوجه أُخر (¬5) تُضَاهِي بِهَا الْبِدْعَةُ الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ (¬6)، فَلَوْ كَانَتْ لَا تُضَاهِي الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ لَمْ تَكُنْ بِدْعَةً، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ إِنَّمَا يَخْتَرِعُهَا لِيُضَاهِيَ بِهَا السُّنَّةَ حَتَّى يَكُونَ مُلَبِّسًا بِهَا عَلَى الْغَيْرِ، أَوْ تَكُونَ هِيَ مِمَّا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ، إذ الإنسان لا يقصد الاستنان (¬7) بِأَمْرٍ لَا يُشَابِهُ الْمَشْرُوعَ؛ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَا يَسْتَجْلِبُ بِهِ فِي ذَلِكَ الِابْتِدَاعِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا، وَلَا يُجِيبُهُ غَيْرُهُ إِلَيْهِ. وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْمُبْتَدِعَ يَنْتَصِرُ لِبِدْعَتِهِ بِأُمُورٍ تُخَيِّلُ التَّشْرِيعَ، وَلَوْ بِدَعْوَى الِاقْتِدَاءِ بِفُلَانٍ الْمَعْرُوفِ مَنْصِبُهُ فِي أَهْلِ الْخَيْرِ. فَأَنْتَ تَرَى الْعَرَبَ الْجَاهِلِيَّةَ فِي تَغْيِيرِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كيف تأوّلوا ـ فيما أحدثوه ـ احتجاجاً منهم له (¬8)؛ كَقَوْلِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِشْرَاكِ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬9)، وكترك الحمس (¬10) الوقوف بعرفة ¬

(¬1) المثبت هو ما في (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "الاختصاص"، والمثبت هو الصواب. (¬2) في (ط): "من المأكل والملبس". (¬3) في (غ) و (ر): "غيره". (¬4) في (ر): "ثم" دون الواو. (¬5) زيادة في (غ). (¬6) في (غ): "الشرعية". (¬7) المثبت هو ما في (غ) و (ر)، وفي م (الاستناع) وفي بقية النسخ (الاستتباع). (¬8) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬9) سورة الزمر، آية (3). (¬10) في (م) و (خ): "الحسن"، وكتب في هامش (خ): "الحمس"، كما كتب في هامش (م): "الحمس وهم قريش ومن تبعهم".

لِقَوْلِهِمْ: لَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ اعْتِدَادًا بِحُرْمَتِهِ (¬1)، وَطَوَافِ مَنْ طَافَ مِنْهُمْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا (¬2) قَائِلِينَ: لَا نَطُوفُ بِثِيَابٍ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا وَجَّهُوهُ ليصيِّروه (¬3) بِالتَّوْجِيهِ كَالْمَشْرُوعِ، فَمَا ظَنُّكَ (¬4) بِمَنْ عُدّ أَوْ عَدَّ نَفْسَهُ مِنْ خَوَاصِّ أَهْلِ الْمِلَّةِ؟ فَهُمْ أَحْرَى بِذَلِكَ، وَهُمُ الْمُخْطِئُونَ وَظَنُّهُمُ الْإِصَابَةَ، وَإِذَا تبيَّن هَذَا ظَهَرَ أَنَّ مُضَاهَاةَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ ضَرُورِيَّةُ الْأَخْذِ فِي أَجْزَاءِ الْحَدِّ. وَقَوْلُهُ: (يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى)، هُوَ تَمَامُ مَعْنَى الْبِدْعَةِ؛ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَشْرِيعِهَا. وَذَلِكَ أن أصل الدخول فيها الحثّ (¬5) عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} (¬6)، فَكَأَنَّ الْمُبْتَدِعَ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ ـ فِيهِ ـ مِنَ الْقَوَانِينِ وَالْحُدُودِ كَافٍ، فَرَأَى (¬7) مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ (¬8) ـ لِمَا أُطْلِقَ الْأَمْرُ فِيهِ ـ مِنْ قَوَانِينَ مُنْضَبِطَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُرْتَبِطَةٍ، مَعَ ما يداخل (¬9) النفوس من حب الظهور [والذكر بالمناقب التي ينفرد بها الأفراد، واستنباط الفوائد التي لا عهد بها، إذ الدخول في غمار الخلق يميت الهوى، لعدم الظُّهُورِ] (¬10)، أَوْ عَدَمِ مَظِنَّتِهِ، فَدَخَلَتْ فِي هَذَا الضبط شائبة البدعة. ¬

(¬1) نقل الإمام ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قولاً لعائشة رضي الله عنها حيث قال: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وسائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}. وانظر: الخبر في صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة (1665)، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب في الوقوف (1219). (¬2) ساقطة من أصل (م) ومثبتة في هامشها. (¬3) في (ت): "ليصير". (¬4) ساقطة من أصل (ت)، ومثبتة في هامشها. (¬5) في (ط): "يحث". (¬6) سورة الذاريات، آية (56). (¬7) في (م) و (غ): "فؤاد". (¬8) في (غ): "لا بد من". (¬9) في (غ): "يخالط". (¬10) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).

وَأَيْضًا، فَإِنَّ النُّفُوسَ قَدْ تَمَلُّ وَتَسْأَمُ مِنَ الدوام على العبادات (المشتركة) (¬1)، فَإِذَا جُدِّدَ لَهَا أَمْرٌ لَا تَعْهَدُهُ حَصَلَ (¬2) لها نَشَاطٌ آخَرُ لَا يَكُونُ لَهَا مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: لِكُلِّ جَدِيدٍ لذّة، فحكم (¬3) هذا المعنى، قول (¬4) من (¬5) قَالَ: "كَمَا تُحدث لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ (¬6)، (فَكَذَلِكَ تُحدث لَهُمْ مُرَغِّبَاتٌ فِي الْخَيْرِ بِقَدْرِ (مَا حَدَثَ لَهُمْ مِنَ الْفُتُورِ) (¬7)) (¬8) " (¬9). وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ فَيَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَّأْتُ (¬10) الْقُرْآنَ، فَلَا يَتَّبِعُنِّي (¬11) حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ (¬12)، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة" (¬13). ¬

(¬1) في (ط) وهامش (خ) و (ت): "المرتبة". (¬2) في (خ): "جعل"، وصححت في هامشها بالمثبت. (¬3) هكذا في (غ)، وفي بقية النسخ: "بحكم". (¬4) ساقط من جميع النسخ عدا (غ). (¬5) في (خ): "كمن". (¬6) النص إلى هذا الموضع معزوّ إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وقد قال عنه المؤلف في الباب الثالث: وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمْ أرَه ثَابِتًا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ. انظر (ص349). (¬7) ما بين القوسين كتب في (م) و (خ): "ما أحدثوا من الفجور"، وصححت في هامشهما المثبت. (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (ت)، ومثبت في هامشها. (¬9) هذه المقولة لشيخ الإمام الشاطبي أبي سعيد بن لب كما في المعيار المعرب للونشريسي (6/ 370). (¬10) في (خ) و (ط): "قرأتك"، وفي (م): "قرأته". (¬11) في (م): ما بمتبعي"، وفي (ط): "فلا يتتبعني"، وفي (غ): ما هم بمتبعي". (¬12) ساقطة من (ت). (¬13) رواه الإمام أبو داود في كتاب السنة من سننه، باب لزوم السنة عن ابن شهاب، أن أبا إدريس الخولاني عائذ الله أخبره، أن يزيد بن عميرة، وكان من أصحاب معاذ بن جبل، أخبره، قال: كان لا يجلس مجلساً للذكر حين يجلس إلاّ قال: الله حكم قسط هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحرّ، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتّبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي =

وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا الْقَيْدِ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَادَاتِ (¬1)، فَكُلُّ مَا اخْتُرِعَ مِنَ الطُّرُقِ فِي الدِّينِ مِمَّا يُضَاهِي الْمَشْرُوعَ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّعَبُّدُ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، كَالْمَغَارِمِ الْمُلْزَمَةِ (¬2) عَلَى الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا عَلَى نِسْبَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْرٍ مَخْصُوصٍ مِمَّا يُشْبِهُ فَرْضَ الزَّكَوَاتِ (¬3)، وَلَمْ يَكُنْ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ (¬4)، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ الْمَنَاخِلِ، وَغَسْلُ الْيَدِ بِالْأُشْنَانِ (¬5)، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ (¬6) قَبْلُ، فَإِنَّهَا لا تسمى بدعاً على إحدى الطريقتين. ¬

= حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابتُدِعَ ضَلَالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ، قال: قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها ما هذه، ولا يثنيك ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً، (4/ 201). ورواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب تغير الزمان وما يحدث فيه مع اختلاف يسير (1/ 78)، وأخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها بلفظ مختصر قريب من لفظ المؤلف (ص32)، وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 111)، وأخرجه اللالكائي في أصول الاعتقاد بلفظين متقاربين (1/ 88)، وأخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 308)، وأخرجه الآجري في الشريعة بلفظين (ص47، 48)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية عند ترجمة معاذ رضي الله عنه (1/ 232). (¬1) في (غ): "العبادات". (¬2) في (غ) و (ر): "الملتزمة". (¬3) في (ت): "الزكاة". (¬4) يرى المؤلف جواز أخذ هذه المغارم من الناس عند الضرورة، كخلو بيت المال، مع ارتفاع حاجة الجند إلى ما يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في الحال، إلى أن يظهر مال بيت المال، وذلك لسدّ الثغور، وحماية الملك المتّسع الأقطار. وقد كانت بلاد الأندلس في زمن المؤلف في حالة خطيرة وحاجة شديدة، لقرب العدوّ، وضعف المسلمين، وبعد ديار المسلمين عنهم. انظر ما قاله المؤلف في الباب الثامن (2/ 121). وأمّا إن لم يكن هناك ضرورة، فلا يرى هذا بدعة وإنما يراه معصية وظلماً، ولكن إن فشا وصار معمولاً به كالزكاة المشروعة فيراه بدعة، انظر قوله في الباب السابع (2/ 80). (¬5) الأشنان والإشنان من الحمض، الذي يغسل به الأيدي. لسان العرب (13/ 18). (¬6) في (م): "لم يكن".

وَأَمَّا الْحَدُّ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى، فَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهُ إِلَّا قَوْلُهُ: (يُقْصَدُ بِهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ). وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي عَاجِلَتِهِمْ وَآجِلَتِهِمْ، لِتَأْتِيَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا، فَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ (¬1) الْمُبْتَدِعُ بِبِدْعَتِهِ (¬2)؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ إِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ (¬3)، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعِبَادَاتِ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا أَنْ يَأْتِيَ تَعَبُّدَهُ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ، لِيَفُوزَ بِأَتَمِّ الْمَرَاتِبِ فِي الْآخِرَةِ فِي ظَنِّهِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَادَاتِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَضَعَهَا لِتَأْتِيَ أُمُورُ دُنْيَاهُ عَلَى تَمَامِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا. فَمَنْ يَجْعَلُ الْمَنَاخِلَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ فَظَاهِرٌ أَنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَهُ بِلَذَّةِ الدَّقِيقِ الْمَنْخُولِ أَتَمُّ مِنْهُ بِغَيْرِ الْمَنْخُولِ، وَكَذَلِكَ الْبِنَاءَاتُ الْمُشَيَّدَةُ الْمُحْتَفِلَةُ (¬4) التَّمَتُّعُ بِهَا أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْحُشُوشِ (¬5) وَالْخَرِبِ (¬6)، وَمِثْلُهُ الْمُصَادَرَاتُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ وَقَدْ أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ التَّوَسُّعَ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَيَعُدُّ الْمُبْتَدِعُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْبِدْعَةِ، وَمَا هِيَ في الشرع والحمد لله. ¬

(¬1) في (ر): "يقصد". (¬2) في (خ): "بان ببدعته". (¬3) في (ر): "بالعبادات أو العادات". (¬4) في (غ) و (ر): "المختلفة". (¬5) الحش: ما يخرج فيه لقضاء الحاجة. الصحاح (3/ 1001). (¬6) الخربة: موضع الخراب، والجمع خربات وخرب. لسان العرب (1/ 347).

فصل

فصل وفي الْحَدِّ أَيْضًا مَعْنًى آخَرُ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ (¬1)، وَهُوَ أَنَّ الْبِدْعَةَ مِنْ حَيْثُ قِيلَ فِيهَا: إِنَّهَا طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ ـ إِلَى آخِرِهِ ـ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ لَفْظِهَا الْبِدْعَةُ التَّرْكية، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبِدْعَةُ غَيْرُ التَّرْكِيَّةِ، فَقَدْ يَقَعُ الِابْتِدَاعُ بِنَفْسِ التَّرْكِ تَحْرِيمًا لِلْمَتْرُوكِ (¬2) أَوْ غَيْرَ تحريم، فإن الفعل ـ مثلاً (¬3) ـ قد يَكُونُ حلَالًا بِالشَّرْعِ فَيُحَرِّمُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، أو يقصد تركه قصداً. فهذا (¬4) التَّرْكِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ شَرْعًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، إِذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَ مَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، أَوْ (¬5) مَا يُطْلَبُ بِتَرْكِهِ، كَالَّذِي يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ الطَّعَامَ الْفُلَانِيَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَضُرُّهُ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ دِينِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا مَانِعَ هُنَا مِنَ التَّرْكِ، بَلْ إِنْ قُلْنَا بِطَلَبِ التداوي للمريض كان (¬6) الترك هنا مطلوباً، وَإِنْ قُلْنَا بِإِبَاحَةِ التَّدَاوِي فَالتَّرْكُ مُبَاحٌ (¬7). فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْعَزْمِ عَلَى الْحَمِيَّةِ مِنَ الْمُضِرَّاتِ، وأصله قوله عليه الصلاة السلام: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ (¬8) فليتزوج"، (إلى ¬

(¬1) ساقطة من (م) و (ت). (¬2) في (غ) و (ر): "للفعل". (¬3) ساقطة من (ت). (¬4) في (ط): "فبهذا". (¬5) في (غ): "لا". (¬6) في (خ) و (ط): "فإن"، وفي (ت): "لأن". (¬7) والجمهور على استحباب التداوي، كما نقل ذلك الإمام النووي في شرح مسلم، كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي (14/ 191)، والمستحب مطلوب شرعاً. (¬8) قال الإمام النووي في شرح مسلم: واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين =

أَنْ قَالَ) (¬1): "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، [فإنه له وجاء" (¬2) فأمر عليه الصلاة والسلام بِالصَّوْمِ] (¬3) الَّذِي يَكْسِرُ مِنْ شَهْوَةِ الشَّبَابِ حَتَّى لَا تَطْغَى عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، فَيَصِيرَ إِلَى الْعَنَتِ (¬4). وَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا (¬5) بِهِ الْبَأْسُ، فَذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ، وَكَتَارِكِ الْمُتَشَابِهِ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، وَاسْتِبْرَاءً لِلدِّينِ وَالْعِرْضِ. وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ (¬6) لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَدَيُّنًا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَدَيُّنًا فَالتَّارِكُ عَابِثٌ بِتَحْرِيمِهِ الْفِعْلَ، أَوْ بِعَزِيمَتِهِ عَلَى التَّرْكِ. وَلَا يُسَمَّى هَذَا التَّرْكُ بِدْعَةً؛ إِذْ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ الْحَدِّ إِلَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ الْقَائِلَةِ إِنَّ (¬7) الْبِدْعَةَ تَدْخُلُ فِي (¬8) الْعَادَاتِ. وَأَمَّا على الطريقة الأولى، فلا يدخل (¬9). لَكِنَّ هَذَا (¬10) التَّارِكَ يَصِيرُ عَاصِيًا بِتَرْكِهِ أَوْ باعتقاده التحريم فيما أحلّ الله. ¬

= يرجعان إلى معنى واحد أصحهما أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج ... والقول الثاني أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح سمّيت باسم ما يلازمها، وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج. (مسلم بشرح النووي 9/ 173). (¬1) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬2) أخرجه الإمام البخاري في كتاب النكاح من صحيحه، باب قول النبي "من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... "، عن ابن مسعود وذكره (9/ 106 مع الفتح)، وأخرجه أيضاً في كتاب الصيام (4/ 119)، وأخرجه مسلم في كتاب النكاح (9/ 172 بشرح النووي)، والنسائي في كتاب النكاح من سننه (6/ 57)، وابن ماجه في كتاب النكاح من سننه (1/ 592)، والدارمي في كتاب النكاح من سننه (2/ 177)، والإمام أحمد في مواضع من المسند (1/ 378، 424). (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬4) العنت: الإثم، وأيضاً الوقوع في أمر شاقّ. الصحاح (1/ 258 ـ 259). (¬5) في (م) و (ت): "لما". (¬6) ساقطة من (ت). (¬7) في (ر): "بأن". (¬8) في (ت): "على". (¬9) في (غ): "تدخل". (¬10) ساقطة من (غ).

وَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّرْكُ (¬1) تَدَيُّنًا، فَهُوَ الِابْتِدَاعُ فِي الدِّينِ عَلَى كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا الْفِعْلَ جَائِزًا شَرْعًا (¬2) فَصَارَ التَّرْكُ الْمَقْصُودُ مُعَارَضَةً لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ التَّحْلِيلِ (¬3). وَفِي مِثْلِهِ نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *} (¬4)، فَنَهَى أَوَّلًا عَنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، ثُمَّ جَاءَتِ الآية تشعر بأن ذلك اعتداء، (وأن من اعتدى) (¬5) لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَسَيَأْتِي لِلْآيَةِ تَقْرِيرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬6). لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ همَّ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، وَآخَرَ (¬7) الْأَكْلَ بِالنَّهَارِ، وَآخَرَ إِتْيَانَ النِّسَاءِ، وَبَعْضُهُمْ هَمَّ بِالِاخْتِصَاءِ (¬8)، مُبَالَغَةً فِي تَرْكِ شَأْنِ (¬9) النِّسَاءِ. وَفِي أَمْثَالِ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬10). فَإِذَا كُلُّ مَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ـ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ـ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (وَالْعَامِلُ بِغَيْرِ السُّنَّةِ تَدَيُّنًا هُوَ الْمُبْتَدِعُ بِعَيْنِهِ) (¬11). فَإِنْ قِيلَ: فَتَارِكُ الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ـ نَدْبًا أو وجوباً ـ هل يسمى ¬

(¬1) في (م) و (خ): "التارك". (¬2) في (ت): "شرعياً". (¬3) في (ط): "التحيلل". (¬4) سورة المائدة، آية (87). (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (ط). (¬6) وذلك في الباب الخامس، حيث يفرد لها المؤلف فصلاً يبين فيه سبب نزولها، ويذكر فيه مسائلها (1/ 323). (¬7) في (ت): "والآخر". (¬8) غير واضحة في (ت). (¬9) في (م): "شبان". (¬10) رواه الإمام البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (9/ 104)، ورواه مسلم في كتاب النكاح (9/ 175)، والنسائي في نفس الكتاب (6/ 60)، والإمام أحمد في المسند (3/ 241) جميعهم عن أنس رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين تقالوا عبادة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأرادوا أن يصنعوا ما ذكر فكان من ردّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "فمن رغب عن سنّتي فليس مني"، ورواه أيضاً الدارمي عن سعد بن أبي وقاص في قصة رد التبتّل على عثمان بن مظعون (2/ 179). (¬11) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).

مُبْتَدِعًا أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّارِكَ لِلْمَطْلُوبَاتِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْرُكَهَا لِغَيْرِ التَّدَيُّنِ، إِمَّا كَسَلًا، أَوْ تَضْيِيعًا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَاعِي النَّفْسِيَّةِ، فَهَذَا الضَّرْبُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَالَفَةِ لِلْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَاجِبٍ فَمَعْصِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي نَدْبٍ فَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ إِذَا كَانَ التَّرْكُ جُزْئِيًّا، وَإِنْ كَانَ (¬1) كُلِيًّا فَمَعْصِيَةٌ حَسْبَمَا تبيَّن فِي الْأُصُولِ (¬2). وَالثَّانِي: أَنْ يَتْرُكَهَا تَدَيُّنًا، فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ حَيْثُ تَدَيَّنَ بِضِدِّ مَا شَرَعَ اللَّهُ، وَمِثَالُهُ أهل الإباحة القائلون بإسقاط التكليف (¬3) إِذَا بَلَغَ السَّالِكُ عِنْدَهُمُ الْمَبْلَغَ الَّذِي حَدُّوهُ (¬4). فإذا قوله في الحدّ: (طريقة [في الدين] (¬5) مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ)، يَشْمَلُ (¬6) الْبِدْعَةَ التَّرْكِيَّة كَمَا يَشْمَلُ غَيْرَهَا (¬7)؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَيْضًا تَنْقَسِمُ إِلَى تَرْكٍ وَغَيْرِهِ. وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا قُلْنَا: إِنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ، أَمْ قُلْنَا: إِنَّهُ نَفْيُ الْفِعْلِ، على (¬8) الطريقتين المذكورتين في أصول الفقه (¬9). ¬

(¬1) ساقطة من (ط). (¬2) وقد تكلّم المؤلف رحمه الله في الموافقات عن هذا فقال: "إذا كان الفعل مندوباً بالجزء كان واجباً بالكل، كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها، وصلاة الجماعة وصلاة العيدين، وصدقة التطوّع، والنكاح، والوتر، والفجر، والعمرة، وسائر النوافل الرواتب، فإنها مندوب إليها بالجزء. ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها. ألا ترى أن في الأذان إظهاراً لشعائر الإسلام، ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه. وكذلك صلاة الجماعة من داوم على تركها يجرح، فلا تقبل شهادته ... فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائماً، أمّا إذا كان في بعض الأوقات، فلا تأثير له فلا محظور في الترك"، الموافقات (1/ 132). (¬3) في (ط): "التكاليف". (¬4) يريد بهم غلاة المتصوّفة الذين يسقطون التكليف عن السالك إذا بلغ مرتبة الولاية. انظر كلام المؤلف في الباب الرابع (1/ 246). (¬5) ساقط من جميع النسخ عدا (ر). (¬6) في (خ): "يشمل على البدعة". (¬7) في (ر): "الطريق". (¬8) ساقطة من (ط). (¬9) اختلف علماء الأصول في الترك هل هو فعل أو نفي للفعل، فذهب جمهور =

وَكَمَا يَشْمَلُ الْحَدُّ التَّرْكَ يَشْمَلُ أَيْضًا ضِدَّ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمُ الِاعْتِقَادِ، وَقِسْمُ الْقَوْلِ، وَقِسْمُ الْفِعْلِ، فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ يَتَعَلَّقُ به الابتداع، (والله أعلم) (¬1). ¬

= الأصوليين على أن الترك فعل، وهو كفّ النفس عن الفعل، بناء على أنه لا تكليف إلاّ بفعل، وذهب أبو هاشم وكثير من الأصوليين إلى أن الترك نفي للفعل وليس فعلاً، بناء على أنه يجوز التكليف بغير فعل. انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (1/ 350)، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 194)، بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 429)، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع للسبكي (1/ 214)، نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر لعبد القادر الدودمي (1/ 128). (¬1) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).

الباب الثاني في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها

الْبَابُ الثَّانِي فِي ذَمِّ الْبِدَعِ (¬1) وَسُوءِ مُنْقَلَبِ أصحابها لَا خَفَاءَ أَنَّ الْبِدَعَ (1) مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا يَعْلَمُ الْعَاقِلُ ذَمَّهَا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهَا خُرُوجٌ عَنِ الصراط المستقسم وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ. وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، وَالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ الْعَامِّ (¬2): أَمَّا النَّظَرُ فَمِنْ وجوه: أحدها: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالتَّجَارِبِ (¬3) وَالْخِبْرَةِ (¬4) السَّارِيَةِ فِي الْعَالَمِ (¬5) مِنْ أَوَّلِ الدُّنْيَا إِلَى الْيَوْمِ أَنَّ الْعُقُولَ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ بِمَصَالِحِهَا، اسْتِجْلَابًا لَهَا، أَوْ مَفَاسِدِهَا، اسْتِدْفَاعًا لَهَا، لِأَنَّهَا إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ. (فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ) (¬6) فَلَا يُسْتَقَلُّ بِاسْتِدْرَاكِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَلْبَتَّةَ، لَا فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِهَا أَوَّلًا، وَلَا فِي اسْتِدْرَاكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ فِي طَرِيقِهَا، إِمَّا فِي السَّوَابِقِ، وَإِمَّا فِي اللَّوَاحِقِ، لِأَنَّ وَضْعَهَا أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُنْزِلَ إِلَى (¬7) الْأَرْضِ عُلِّم كَيْفَ يَسْتَجْلِبُ مَصَالِحَ دُنْيَاهُ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ مَعْلُومِهِ أَوَّلًا، إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن ¬

(¬1) في (ت): "البدعة". (¬2) سيذكر المؤلف أوجه ذم البدع من القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين، وحتى من كلام الصوفية أنفسهم. انظر (ص73 وما بعده". (¬3) في (م): "بالتجاوز"، وفي (ت): "بالتجار". (¬4) في (م): "بالتجاوب الخبرة" بدون الواو. (¬5) في (م): "العام". (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت)، وأثبت في هامش (خ) و (ت). (¬7) ساقطة من (م).

ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ مُقْتَضَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (¬1)، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ تَعْلِيمًا غَيْرَ عَقْلِيٍّ، ثُمَّ تَوَارَثَتْهُ ذُرِّيَّتُهُ كَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ فَرَّعَتِ الْعُقُولُ مِنْ أُصُولِهَا تَفْرِيعًا تَتَوَهَّمُ اسْتِقْلَالَهَا بِهِ. وَدَخَلَ (¬2) فِي الْأُصُولِ الدَّوَاخِلُ حَسْبَمَا أَظْهَرَتْ ذَلِكَ أزمنة الفترات؛ إذ لم تجر مصالح أهل (¬3) الْفَتَرَاتِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، لِوُجُودِ الْفِتَنِ وَالْهَرْجِ (¬4)، وَظُهُورِ أوجه الفساد (¬5). فلولا أن الله تعالى منّ (¬6) على الخلق ببعثة الأنبياء عليهم السلام لَمْ تَسْتَقِمْ (¬7) لَهُمْ حَيَاةٌ، وَلَا جَرَتْ أَحْوَالُهُمْ عَلَى كَمَالِ مَصَالِحِهِمْ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالنَّظَرِ (¬8) فِي أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الأُخروية، فَأَبْعَدُ عن مجاري (¬9) العقول (¬10) مِنْ جِهَةِ وَضْعِ أَسْبَابِهَا، وَهِيَ الْعِبَادَاتُ مَثَلًا، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَشْعُرُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَمِنْ جِهَةِ تَصَوُّرِ الدَّارِ الْأُخْرَى وَكَوْنِهَا آتِيَةً، فَلَا بُدَّ وَأَنَّهَا (¬11) دَارُ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ الَّذِي يُدْرِكُ الْعَقْلُ مِنْ ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْإِمْكَانِ أن يشعر به (¬12). ¬

(¬1) سورة البقرة، آية (31)، وقد روى نحو هذا القول عن قتادة. انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 282). (¬2) في (م) و (ر) و (ت): "دخل"، بدون الواو. (¬3) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬4) الهرج هو القتل كما فسّره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل، القتل"، رواه مسلم (18/ 31 مع شرح النووي). ومن معاني الهرج الفتنة والاختلاط. الصحاح (1/ 350). (¬5) أشار المؤلف إلى هذا المعنى في كتاب الموافقات (2/ 48). (¬6) في (ط): "فلولا أن منَّ الله". (¬7) في (م) و (خ) و (ت): "يستقيم"، وكلا اللفظين صحيح في اللغة. (¬8) ساقطة من (ت). (¬9) في (م): "مجار"، وفي (ط): "مصالح". (¬10) في (ط): "المعقول". (¬11) ساقطة من (م) و (ت). (¬12) في (خ) و (ط): "بها".

وَلَا يَغْتَرَّنَّ ذُو الْحِجَى بِأَحْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُدَّعِينَ لِإِدْرَاكِ الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ، قَبْلَ النَّظَرِ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّ دَعْوَاهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ لَمْ تَزَلْ وَارِدَةً عَلَى بَنِي آدَمَ مِنْ جِهَةِ (¬1) الرُّسُلِ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَيْضًا لَمْ يَزَالُوا موجودين في العالم، وهم أكثر، كل ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنِ انْتَهَتْ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ (¬2)، غَيْرَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ كَانَتْ إِذَا أَخَذَتْ فِي الدُّرُوسِ (¬3) بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ يبيِّن (¬4) لِلنَّاسِ مَا خُلقوا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ. فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمَفْرُوضَةِ ـ مَا بَيْنَ زَمَانِ أَخْذِهَا فِي الِانْدِرَاسِ وَبَيْنَ إِنْزَالِ الشَّرِيعَةِ بعدها ـ بعض الأصول معلومة (¬5)، فَأَتَى الْفَلَاسِفَةُ إِلَى تِلْكَ الْأُصُولِ فَتَلَقَّفُوهَا، أَوْ تلقفوا منها، ما أرادوا (¬6) أَنْ يُخَرِّجُوهُ عَلَى مُقْتَضَى عُقُولِهِمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عَقْلِيًّا لَا شَرْعِيًّا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، فَالْعَقْلُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَإِنَّمَا (¬7) يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مُتَقَدِّمٍ مُسَلَّمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا يُمْكِنُ فِي أَحْوَالِ الآخرة تصوّر (¬8) أَصْلٌ مُسَلَّمٌ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، وَلِهَذَا المعنى بسطٌ سيأتي إن شاء الله تعالى (¬9). فَعَلَى الْجُمْلَةِ، الْعُقُولُ لَا تَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا دُونَ الْوَحْيِ. فَالِابْتِدَاعُ مُضَادٌّ لِهَذَا الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ (¬10) مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ بِالْفَرْضِ، فَلَا يَبْقَى إلا ما ادّعوه من العقل. ¬

(¬1) ساقطة من (ر). (¬2) ساقطة من أصل (خ)، وأثبتت في هامشها. (¬3) درس الرسم إذا عفا، ودرس الثوب إذا أخلق. الصحاح (3/ 927 ـ 928). (¬4) في (ت): "فيبين". (¬5) في (ط): "المعلومة". (¬6) المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ: "فأرادوا". (¬7) في (ت): "فإنما". (¬8) في (م) و (خ): "تسلم"، وفي (ط): "قبلهم"، وعبارة (ت): "قبلهم تسلم أصل مسلم". (¬9) وذلك في الباب العاشر حيث جعل المؤلف تحسين الظن بالعقل من أسباب الابتداع في الشريعة، وبسط الكلام عليه هناك. (2/ 318 وما بعدها) من المطبوع. (¬10) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).

فَالْمُبْتَدِعُ لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ بِدْعَتِهِ أَنْ يَنَالَ بِسَبَبِ الْعَمَلِ بِهَا مَا رَامَ تَحْصِيلَهُ مِنْ جِهَتِهَا، فَصَارَتْ كَالْعَبَثِ. هَذَا إِنْ قُلْنَا (¬1): إِنَّ الشَّرَائِعَ جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ مُجَرَّدُ تَعَبُّدٍ وَإِلْزَامٍ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ، وَالْعَقْلُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ (¬2). وَنَاهِيكَ مِنْ نِحْلَةٍ يَنْتَحِلُهَا صَاحِبُهَا فِي أَرْفَعِ مُطَالَبَةٍ لَا ثِقَةَ بِهَا، وَيُلْقِي مِنْ يَدِهِ مَا هُوَ عَلَى ثِقَةٍ منه: والثاني (¬3): أن الشريعة جاءت كاملة تامّة (¬4) لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهَا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (¬5). وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ (¬6): وَعَظَنَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم موعظة (¬7) ¬

(¬1) ساقطة من أصل (م)، ومثبتة في هامشها، وفي (غ): "إذا". (¬2) تناول المؤلف هذه القضية في كتاب الموافقات، وذلك في مقدمة قدّمها حول مقاصد الشريعة، وأنها جاءت لمصالح العباد الدنيوية والأخروية. انظر كتاب الموافقات للمؤلف (2/ 6 ـ 7)، ثم قال: وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معلّلة بعلّة البتّة، وأخذ في الردّ عليه. قلت: هذا هو مذهب الأشاعرة الذين نفوا الحكمة الإلهية، وكذلك نفوا أن تكون أحكام الله معلّلة، وانظر قولهم أيضاً في كتاب التمهيد للباقلاني (ص30)، وقد ردّ عليهم أهل السنة والجماعة في كتبهم، فانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (16/ 96 وما بعدها)، ومنهاج السنة له (1/ 141 وما بعدها)، والنبوات له (ص358)، وقد أطال الإمام ابن القيم في الرد عليهم في شفاء العليل (ص391 ـ 521). (¬3) أي من وجوه ذم البدعة من جهة النظر. (¬4) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬5) سورة المائدة، آية (3). (¬6) هو أبو نجيح العرباض بن سارية السلمي، صحابي، كان من أعيان أهل الصفة، سكن حمص، وروى أحاديث، روى عنه جبير بن نفير وعده، توفي سنة 75هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 419)، الإصابة لابن حجر (2/ 473)، الحلية لأبي نعيم (2/ 13). (¬7) في (م): "وعظة".

ذَرَفَتْ مِنْهَا الْأَعْيُنُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، وَلَا يَزِيغُ عَنْهَا (¬1) بَعْدِي إِلَّا هالك، من (¬2) يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عرفتم من سنّتي، وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين (¬3) مِنْ بَعْدِي" (¬4) الْحَدِيثَ. وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى أَتَى بِبَيَانِ جَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ (¬5) الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَهَذَا لَا مُخَالِفَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْمُبْتَدِعُ إِنَّمَا مَحْصُولُ قَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ (¬6) مَقَالِهِ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَتِمَّ، وَأَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا أَشْيَاءُ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُهَا (¬7)، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِكَمَالِهَا وَتَمَامِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَمْ يَبْتَدِعْ (¬8)، وَلَا اسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا، وَقَائِلُ هَذَا ضَالٌّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ (¬9): سَمِعْتُ مالكاً يقول: "من ابتدع في الإسلام ¬

(¬1) في (م) و (ر) و (خ): "عليها"، وفي (ط): "عنها". (¬2) في (ط): "ومن". (¬3) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬4) رواه الإمام ابن ماجه عن العرباض بن سارية في باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/ 16)، ورواه الإمام أحمد في المسند (4/ 126)، ورواه أبو داود، برقم (4607)، (4/ 200)، وليس فيه: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا وَلَا يَزِيغُ عنها بعدي إلاّ هالك"، ورواه الترمذي برقم (2671)، وليس فيه: "تركتكم على البيضاء ... "، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحاكم (1/ 95)، والبيهقي (10/ 114)، وابن حبان (1/ 104)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 74)، والمروزي في السنة (ص26)، والآجري في الشريعة (ص47)، وابن أبي عاصم في السنّة، وقال الألباني في تعليقه على الكتاب: "حديث صحيح" (1/ 27). وانظر صحيح الجامع الصغير للألباني (1/ 499). (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) في (ت): "و". (¬7) في (غ): "إدراكها". (¬8) في (م) و (خ): "لم يبدع". (¬9) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ابن الماجشون، أبو مروان، المدني الفقيه، كان مفتي أهل المدينة، روى عن أبيه وعن مالك، وكان رفيق الشافعي، وهو صدوق، وله أغلاط في الحديث، توفي سنة 214هـ. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 520)، الكاشف للذهبي (2/ 186).

بدعة يراها حسنة، فقد زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا" (¬2). وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُبْتَدِعَ مُعَانِدٌ لِلشَّرْعِ وَمَشَاقٌّ لَهُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ عيَّن لِمَطَالِبِ الْعَبْدِ طُرُقًا خَاصَّةً، عَلَى وُجُوهٍ خَاصَّةٍ، وَقَصَرَ الْخَلْقَ عَلَيْهَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْخَيْرَ فِيهَا، وَأَنَّ الشَّرَّ فِي تعدِّيها، إلى غيرها (¬3)؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. فَالْمُبْتَدِعُ رَادٌّ (¬4) لِهَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ ثَمَّ طُرُقًا أُخَر، لَيْسَ (¬5) مَا حَصَرَهُ الشَّارِعُ بِمَحْصُورٍ، وَلَا مَا عَيَّنَهُ بمتعيِّن، وأن (¬6) الشَّارِعَ يَعْلَمُ وَنَحْنُ أَيْضًا نَعْلَمُ، بَلْ رُبَّمَا يَفْهَمُ مِنِ اسْتِدْرَاكِهِ الطُّرُقَ عَلَى الشَّارِعِ، أَنَّهُ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الشَّارِعُ. وَهَذَا إِنْ كَانَ مَقْصُودًا لِلْمُبْتَدِعِ، فَهُوَ كُفْرٌ بِالشَّرِيعَةِ وَالشَّارِعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، فَهُوَ ضَلَالٌ مُبِينٌ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ كَتَبَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَأَةَ (¬7) يَسْتَشِيرُهُ فِي بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ (¬8)، فكتب إليه: ¬

(¬1) سورة المائدة، آية (3). (¬2) رواه عنه بسنده الإمام ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (6/ 85). (¬3) المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ: "إلى غير ذلك". (¬4) في (م): "زائد". (¬5) في (غ) و (ر): "وليس". (¬6) في (ت): "لأن"، وفي (خ) و (ط): "كأن". (¬7) هو عدي بن أرطاة الفزاري الدمشقي، كان أمير البصرة لعمر بن عبد العزيز، روى عن أبي أمامة وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات، قتله معاوية بن يزيد بن المهلب سنة اثنتين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 53)، تقريب التهذيب (2/ 16)، شذرات الذهب لابن العماد (1/ 124). (¬8) تقدم ذكرهم والترجمة لهم في المقدمة (ص11).

"أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالِاقْتِصَادِ فِي أَمْرِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، وترك ما أحدث المحدثون مما (¬1) قَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ (¬2)، وَكُفُوا مُؤْنَتَهُ، فَعَلَيْكَ بِلُزُومِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا سنَّها مَنْ قَدْ عَرَفَ مَا فِي خِلَافِهَا مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ، فارضَ لِنَفْسِكَ بِمَا (¬3) رَضِيَ بِهِ الْقَوْمُ (¬4) لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَقَفُوا، وَبِبَصَرٍ نافذ قد كفوا، ولهم (¬5) كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل لو كان (¬6) فِيهِ أَحْرَى، فَلَئِنْ قُلْتُمْ: أَمْرٌ حَدَثَ بَعْدَهُمْ، مَا أَحْدَثَهُ بَعْدَهُمْ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سُنَنِهِمْ، وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، إِنَّهُمْ لَهُمُ السَّابِقُونَ (¬7)، فَقَدْ تَكَلَّمُوا مِنْهُ بِمَا يَكْفِي، وَوَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي، فَمَا دُونَهُمْ مُقَصِّرٌ، وَمَا فَوْقَهُمْ محسر (¬8)، لقد قصر عنهم (أقوام فجفوا، وطمح عنهم) (¬9) آخرون فَغَلَوْا (¬10)، وَأَنَّهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ" (¬11). ¬

(¬1) في (خ) و (ط) و (غ): "فيما". (¬2) في (م): "سنة". (¬3) في (ت): "ما". (¬4) في (خ): "العموم". (¬5) في (ط): "وهم". (¬6) في (م) و (ت): "لو كانوا"، وفي (خ) و (ط): "وبفضل كانوا فيه". (¬7) في (غ) و (ر): "الغابنون". (¬8) ساقطة من (غ) و (ر)، وفي رواية أبي داود: "فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر" (4/ 202)، قال في عون المعبود بعد ذكره أن معنى القصر الحبس، وأن معنى الحسر الكشف: "وحاصله أن السلف الصالحين قد حبسوا أنفسهم عن كشف ما لم يحتج إلى كشفه من أمر الدين حبساً لا مزيد عليه، وكذلك كشفوا ما احتيج إلى كشفه من أمر الدين كشفاً لا مزيد عليه" عون المعبود (12/ 370). (¬9) ما بين المعكوفتين ساقط من جميع النسخ، وقد أثبته من سنن أبي داود (4/ 202)، والبدع والنهي عنها لابن وضاح (ص37)، إذ لا يستقيم المعنى إلاّ به. (¬10) في (ط): "فقلوا". (¬11) رواه عن عمر بن عبد العزيز الإمام أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب لزوم السنة، تحت رقم (4612)، ولفظه أطول من لفظ المؤلف (4/ 202)، ورواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب كل محدثة بدعة (ص37)، ورواه ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 321)، ورواه أبو نعيم في الحلية ضمن ترجمة عمر بن عبد العزيز (5/ 338)، ورواه الإمام أحمد في كتاب الزهد (ص360)، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية ضمن ترجمته (9/ 224).

ثُمَّ خُتِمَ الْكِتَابُ بِحُكْمِ مَسْأَلَتِهِ (¬1): فَقَوْلُهُ: "فَإِنَّ (¬2) السُّنَّةَ إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَرَفَ مَا في خلافها" هو (¬3) مَقْصُودُ الِاسْتِشْهَادِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُبْتَدِعَ قَدْ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُضَاهِي لِلشَّارِعِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ الشَّرَائِعَ وَأَلْزَمَ الْخَلْقَ الْجَرْيَ عَلَى سُنَنِهَا، وَصَارَ هُوَ الْمُنْفَرِدَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ التَّشْرِيعُ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْخَلْقِ لَمْ (¬4) تُنَزَّلِ (¬5) الشَّرَائِعُ، وَلَمْ يَبْقَ (¬6) الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا احْتِيجَ إلى بعث الرسل عليهم السلام. فهذا (¬7) الَّذِي ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ قَدْ صيَّر نفسه نظيراً ومضاهياً، حَيْثُ شرَّع مَعَ الشَّارِعِ، وَفَتَحَ لِلِاخْتِلَافِ بَابًا، وَرَدَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي الِانْفِرَادِ بِالتَّشْرِيعِ، وَكَفَى بذلك شراً (¬8). وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى، لِأَنَّ الْعَقْلَ (¬9) إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلشَّرْعِ، لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ (¬10)، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَأَنَّهُ ضَلَالٌ مُبِينٌ، أَلَا تَرَى قول (¬11) الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *} (¬12)، فَحَصَرَ الْحُكْمَ فِي أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ وَالْهَوَى، وَعَزَلَ الْعَقْلَ مُجَرَّدًا إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ إِلَّا ذَلِكَ. ¬

(¬1) وهي مسألة القدر كما مرّ، وكما في سنن أبي داود (4/ 202)، تحت رقم (4612)، وفيه كلام نفيس في هذه المسألة. (¬2) في (خ) و (ت): "من". (¬3) في جميع النسخ: "فهو" عدا (غ) و (ر). (¬4) ساقطة من (م) و (خ). (¬5) في (م) و (خ): "تزل". (¬6) في (ر): "يقع". (¬7) في جميع النسخ: "هذا"، والمثبت من (غ) و (ر). (¬8) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬9) في (ت): "العقلل". (¬10) في (م) و (خ): "الشهوى". (¬11) في (ر): "إلى قول". (¬12) سورة ص، آية (26).

وَقَالَ: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (¬1)، فَجَعَلَ الْأَمْرَ مَحْصُورًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: اتِّبَاعِ الذِّكْرِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (¬2)، وَهِيَ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا، وَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ، فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ هُدَى اللَّهِ فِي هَوَى نَفْسِهِ، فَلَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْهُ. وَهَذَا شَأْنُ الْمُبْتَدِعِ، فَإِنَّهُ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَهُدَى اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ. وَمَا بيَّنته الشَّرِيعَةُ (¬3)، وبيَّنته الْآيَةُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى (¬4) عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، وَلَا صَاحِبُهُ بِضَالٍّ، كَيْفَ وَقَدْ قَدَّمَ الْهُدَى (¬5) فَاسْتَنَارَ بِهِ فِي طَرِيقِ هَوَاهُ، وَهُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ (¬6). وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ هَوَاهُ هُوَ (¬7) الْمُقَدَّمُ بالقصد الأول، كان الأمر والنهي تابعين بالنسبة إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ تَابِعَيْنِ، وَهُوَ الْمَذْمُومُ. وَالْمُبْتَدِعُ قدَّم هَوَى نَفْسِهِ عَلَى هُدَى (¬8) رَبِّهِ (¬9)، فَكَانَ أضلَّ النَّاسِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى هُدًى. وَقَدِ انْجَرَّ هُنَا مَعْنًى يَتَأَكَّدُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وهو أن الآيات (¬10) الْمَذْكُورَةَ عيَّنت لِلِاتِّبَاعِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الشَّرِيعَةُ، وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّهَا عِلْمٌ وَحَقٌّ وَهُدًى، وَالْآخَرُ الْهَوَى، وَهُوَ الْمَذْمُومُ؛ لِأَنَّهُ لم يذكر في القرآن إلاّ في سياق (¬11) الذَّمِّ، وَلَمْ يَجْعَلْ ثَمَّ طَرِيقًا ثَالِثًا، وَمَنْ تتبَّع الْآيَاتِ أَلْفَى ذَلِكَ كَذَلِكَ. ثُمَّ الْعِلْمُ الَّذِي أُحيل عَلَيْهِ، وَالْحَقُّ الَّذِي حُمِدَ إِنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ وَمَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬12). ¬

(¬1) سورة الكهف، آية (28). (¬2) سورة القصص، آية (50). (¬3) في (ر): "وبينت". (¬4) في (م) و (ت): "الهدى". (¬5) في (ر): "الهوى". (¬6) في (ر): "المتقي". (¬7) ساقطة من (غ). (¬8) في (غ): "هوى"، وهو خطأ ظاهر. (¬9) في (خ) و (ط): "الله". (¬10) المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ: "الآية". (¬11) في (م) و (ر) و (ت): "مساق". (¬12) سورة الأنعام، آية (143).

وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1). وَقَالَ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ *} (¬2). وَهَذَا كُلُّهُ لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِي التَّشْرِيعِ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (¬3). وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي التَّشْرِيعِ، إِذْ حَقِيقَتُهُ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ. وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} (¬4)، أَيْ: لَا يَهْدِيهِ دُونَ اللَّهِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ بِالشَّرْعِ لَا بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْهُدَى (¬5). وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ الشَّرْعِ وَالْهَوَى تَزَلْزَلَتْ قَاعِدَةُ حُكْمِ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ مَجَالٌ إِلَّا مِنْ تَحْتِ نَظَرِ الْهَوَى، فَهُوَ إِذًا اتِّبَاعُ الْهَوَى بِعَيْنِهِ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ. وَدَعِ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ فِي الْمَعْقُولَاتِ الْمَحْضَةِ، فَلَا كَلَامَ فِيهِ هُنَا، وأن أَهْلُهُ قَدْ زَلُّوا أَيْضًا بِالِابْتِدَاعِ، فَإِنَّمَا زَلُّوا مِنْ حَيْثُ وُرُودِ الْخِطَابِ، وَمِنْ حَيْثُ التَّشْرِيعِ، وَلِذَلِكَ عُذِرَ الْجَمِيعُ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، أَعْنِي فِي خَطَئِهِمْ فِي التَّشْرِيعَاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، حَتَّى جَاءَتِ الرُّسُلُ فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ يَسْتَقِيمُ إِلَيْهَا {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬6)، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ. فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ بَالِ النَّاظِرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَتْ أُصُولِيَّةً، فهذه نكتتها (¬7) مستنبطة من كتاب الله، (وبالله التوفيق) (¬8)، انتهى. ¬

(¬1) سورة الأنعام، آية (144). (¬2) سورة الأنعام، آية (140). (¬3) سورة المائدة، آية (103). (¬4) سورة الجاثية، آية (23). (¬5) في (ر): "الهوى". (¬6) سورة النساء، آية (165). (¬7) في (ر): "نكتبها". (¬8) ما بين المعكوفتين ساقط من جميع النسخ عدا (غ).

فصل

فصل (¬1) وأمّا النقل فمن وجوه: أحدها: مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (¬2) مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ تعالى فِي الْجُمْلَةِ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (¬3)، فهذه الآية من أَعْظَمُ الشَّوَاهِدِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهَا، فَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (¬4)، قَالَ: "فَإِذَا رَأَيْتِهِمْ فَاعْرِفِيهِمْ (¬5) " (¬6). وَصَحَّ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم (عن هذه الآية) (¬7) {هُوَ ¬

(¬1) يتناول المؤلف في هذا الفصل وما بعده من الفصول وجوه ذم البدع من القرآن والسنّة وأقوال الصحابة والتابعين والصوفية المشهورين. (¬2) في (غ): "الحكيم". (¬3) سورة آل عمران، آية (7). (¬4) سورة آل عمران، آية (7). (¬5) في (م) و (ت): "فاعرفنهم". (¬6) رواه الإمام الترمذي في كتاب التفسير من سننه برقم (2993)، وقال: حسن صحيح (5/ 207)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 604)، وقد ذكره الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 31). وأصل الحديث في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها كما سيأتي. (¬7) ما بين المعكوفين ساقط من (غ).

الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا (رَأَيْتُمُ) (¬1) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ (¬2) فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ (¬3) " (¬4). وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُبْهَمٌ (¬5)، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الْآيَةَ، قَالَ: "فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى (¬6) اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ" (¬7)، وَهَذَا أبينَ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَامَةَ الزَّيْغِ الْجِدَالَ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الْجِدَالُ مُقَيَّدٌ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ. فَإِذًا الذَّمُّ إِنَّمَا لَحِقَ مَنْ جَادَلَ فِيهِ بِتَرْكِ الْمُحْكَمِ ـ وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ وَمُعْظَمُهُ ـ وَالتَّمَسُّكِ بِمُتَشَابِهِهِ (¬8). وَلَكِنَّهُ بَعْدُ مُفْتَقِرٌ إِلَى تَفْسِيرٍ أَظْهَرَ، فَجَاءَ عَنْ أَبِي غَالِبٍ وَاسْمُهُ حَزَوَّر (¬9) قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ، فبعث المهلب (¬10) سبعين رأساً من ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (ت): "رأيتهم". (¬2) ساقطة من (غ). (¬3) في (م): "فاحذرهم". (¬4) رواه الإمام البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، باب منه آيات محكمات، عن عائشة وذكره (8/ 209 مع الفتح)، ورواه الإمام مسلم في كتاب العلم من صحيحه (16/ 217 بشرح النووي)، والإمام أبو داود في كتاب السنة من سننه، باب مجانبة أهل الأهواء برقم (4598) (4/ 198)، والإمام الترمذي في كتاب التفسير من صحيحه برقم (2994)، وقال: حسن صحيح (5/ 207)، والإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب من هاب الفتيا وكره التبدع والتنطع (1/ 66)، والإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 118)، والإمام ابن أبي عاصم في السنة (1/ 9)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 603 ـ 604)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 545). (¬5) في (م): "منهم". (¬6) في (خ): "عن". (¬7) رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 48)، والإمام ابن ماجه في المقدمة من سننه برقم (47) (1/ 18)، والإمام الآجري في الشريعة (ص26)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 602)، وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 14 ـ 15). (¬8) في (خ): "بمشابهه". (¬9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "جرور"، والصواب المثبت، وهو صاحب أبي أمامة رضي الله عنه، قيل: اسمه حزور، وقيل: سعد بن الحزور، وقيل: نافع، قال ابن حجر: "صدوق يخطئ"، وضعفه النسائي، وقال ابن حبان: لا يحتجّ به. انظر: التقريب (2/ 460)، الكاشف للذهبي (3/ 322)، تهذيب التهذيب (12/ 197). (¬10) هو أبو سعيد المهلب بن أبي صفرة، واسمه ظالم بن سارق العتكي، كان من ثقات=

الْخَوَارِجِ (¬1)، فَنُصِبُوا عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، فَكُنْتُ عَلَى ظهر بيت لي (¬2)، فمرّ أبو أمامة رضي الله عنه، فَنَزَلْتُ فَاتَّبَعْتُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ وقال: "سبحان الله! ما يصنع الشيطان (¬3) بِبَنِي آدَمَ! قَالَهَا ثَلَاثًا، كِلَابُ جَهَنَّمَ، كِلَابُ جَهَنَّمَ، كِلَابُ جَهَنَّمَ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ"، ثُمَّ الْتَفَتَ إليّ فقال: "يا (¬4) أَبَا غَالِبٍ إِنَّكَ بِأَرْضٍ هُمْ بِهَا كَثِيرٌ فَأَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ"، قُلْتُ: رَأَيْتُكَ بَكَيْتَ حِينَ رَأَيْتَهُمْ، قَالَ: "بَكَيْتُ رَحْمَةً حِينَ رَأَيْتُهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ"؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَرَأَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} حَتَّى بَلَغَ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (¬5)، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَزِيغَ (¬6) بِهِمْ، ثُمَّ قَرَأَ {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬7)، قُلْتُ: هُمْ هَؤُلَاءِ يَا أَبَا أُمَامَةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: مِنْ قِبَلِكَ تَقُولُ أَوْ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ (¬8) مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: "إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ، بَلْ سَمِعْتُهُ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (¬9) لَا مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ"، حَتَّى عَدَّ سَبْعًا، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا عَلَى (¬10) إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَزِيدُ عَلَيْهَا فِرْقَةً، كُلُّهُا فِي النَّارِ إِلَّا السَّوَادُ الْأَعْظَمُ"، قُلْتُ: يَا أَبَا أُمَامَةَ أَلَا تَرَى ما فعلوا؟ (¬11) قال: عليهم ما حملوا {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} (¬12) الآية. ¬

=الأمراء، وكان عارفاً بالحرب، غزا الهند، وولي الجزيرة لابن الزبير، وحارب الخوارج. توفي غازياً بمرو الروذ سنة اثنتين وثمانين. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 280)، الكاشف للذهبي (3/ 159)، سير أعلام النبلاء (4/ 383). (¬1) تقدم ذكرهم والتعريف بهم في المقدمة (ص11). (¬2) ساقطة من (ت). (¬3) في (ط): "السلطان"، وهو خطأ. (¬4) ساقطة من (ط). (¬5) سورة آل عمران، آية (7). (¬6) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط) و (م). (¬7) سورة آل عمران، آية (105 ـ 107). (¬8) في (ط): "سمعت". (¬9) ما بين المعكوفين ساقط من (غ). (¬10) ساقطة من (ت). (¬11) في (غ): "ما يفعلون". (¬12) سورة النور، آية (54)، ونصّ الآية: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}.

خَرَّجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي (¬1) وَغَيْرُهُ (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ (¬3): "أَلَا تَرَى مَا فِيهِ (¬4) السَّوَادُ الْأَعْظَمُ" وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ (¬5)، وَالْقَتْلُ (¬6) يَوْمَئِذٍ ظاهر، قال: "عليهم ما حملوا {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} (¬7) ". ¬

(¬1) هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي المالكي، قاضي بغداد، وكان إماماً حافظاً متقناً فقيهاً، صنّف المسند، وصنف علوم القرآن، وجمع حديث أيوب وحديث مالك، وصنف الموطأ، استوطن بغداد وولي قضاءها حتى مات سنة اثنتين وثمانين ومئتين. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 339)، تذكرة الحفاظ (2/ 225)، شذرات الذهب (2/ 178). (¬2) رواه الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، سياق ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحثّ على اتباع الجماعة والسواد الأعظم (1/ 102 ـ 104)، وابن أبي عاصم في السنّة، باب فيما أخبر به النبيّ عليه السلام أن أمّته ستفترق، برقم (68) (1/ 34)، والمروزي في السنة (ص22)، والبيهقي في كتاب قتال أهل البغي من سننه، باب الخلاف في قتال أهل البغي (8/ 188)، وأبو نعيم الأصبهاني في ذكر أخبار أصبهان (1/ 286)، والطبراني في المعجم الكبير برقم (8035)، (8051)، (8054)، (8/ 321، 327، 328). وروى الخبر من غير ذكر حديث الافتراق الإمام أحمد في المسند (5/ 253، 256، 269)، والترمذي في كتاب التفسير من سننه برقم (3000)، (5/ 210)، وابن ماجه في مقدمة سننه، باب في ذكر الخوارج برقم (176)، (1/ 62)، وعبد الله بن أحمد في السنة (2/ 635، 643، 644)، والآجري في الشريعة (ص35 ـ 37)، قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات" (6/ 234)، وقال في موضع آخر: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه أبو غالب، وثّقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير" المجمع (7/ 261 ـ 262). وحسّنه الألباني إن كان روى من غير طريق القطن بن عبد الله، الذي يرويه عن أبي غالب. انظر: ظلال الجنة (1/ 34)، وقد رواه غيره من الثقات عن أبي غالب كحماد بن زيد عند البيهقي. (¬3) في (م) و (ط): "قال رواته ... ". (¬4) في (خ): "في"، وقد صححت في الهامش. (¬5) هو الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو الوليد، كان طالب علم قبل الخلافة، ثم اشتغل بها. ملك ثلاث عشرة سنة استقلالاً، وقبلها منازعاً لابن الزبير تسع سنين. مات سنة ست وثمانين وقد جاوز الستين. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 246)، طبقات ابن سعد (5/ 223)، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (10/ 388). (¬6) في (ر): "القتيل". (¬7) سورة النور، آية (54).

وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا، وَقَالَ فِيهِ: "حَدِيثٌ حَسَنٌ" (¬1). وخرّجه الطحاوي (¬2) أيضاً (¬3) باختلاف في بعض الروايات (¬4) والألفاظ، وَفِيهِ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، تَقُولُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ تَبْكِي! ـ يَعْنِي قَوْلَهُ: "شَرُّ قَتْلَى" إِلَى آخِرِهِ ـ قَالَ: "رَحْمَةً لَهُمْ، إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَخَرَجُوا مِنْهُ"، ثُمَّ تَلَا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ} (¬5) حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: "هُمْ هَؤُلَاءِ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ... } (¬6) حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: "هُمْ هَؤُلَاءِ" (¬7). وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ (¬8) عَنْ طَاوُسٍ (¬9) قَالَ: ذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الْخَوَارِجُ وَمَا يُصِيبُهُمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: "يؤمنون بمحكمه، ويضلّون ¬

(¬1) تقدم تخريجه قريباً. (¬2) هو الإمام العلامة الحافظ الكبير أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الحجري المصري الحنفي، برز في علم الحديث وفي الفقه، وكان محدث الديار المصرية وفقيهها، وصنّف كتباً تدل على سعة علمه. مات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 27)، البداية والنهاية لابن كثير (11/ 186)، الوافي بالوفيات للصفدي (8/ 9). (¬3) في (م) و (ت): "وأيضاً". (¬4) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬5) سورة آل عمران، آية (7). (¬6) سورة آل عمران، آية (106). (¬7) انظر: مشكل الآثار للطحاوي (2519). (¬8) هو الإمام المحدث القدوة، شيخ الحرم الشريف، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجري، صاحب التواليف، منها كتاب الشريعة في السنة وكتاب الثمانين، وأخلاق العلماء، وكان صدوقاً خيّراً عابداً صاحب سنة واتباع. مات بمكة سنة ستّين وثلاثمائة. انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 133)، تاريخ بغداد (2/ 243)، الوافي بالوفيات (2/ 373). (¬9) هو طاوس بن كيسان اليماني، الفقيه القدوة، عالم اليمن، سمع من زيد بن ثابت وعائشة وغيرهم، ولازم ابن عباس مدّة، وهو من كبار أصحابه، وكان ثقة فقيه فاضل، وكان من عباد اليمن وسادات التابعين. توفي سنة 106هـ. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 377)، الكاشف للذهبي (2/ 37)، طبقات ابن سعد (5/ 537).

عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ"، وَقَرَأَ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} (¬1) (¬2). فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّ أَبَا أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الْخَوَارِجَ (¬3) دَاخِلِينَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا (¬4) تَتَنَزَّلُ (¬5) عَلَيْهِمْ. وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، إما على معنى (¬6) أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِبِدْعَتِهِمْ (¬7) عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَخْرُجُوا عنهم، على اختلاف العلماء فيهم (¬8). ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية (7). (¬2) رواه الإمام الآجري في الشريعة (ص27)، والإمام ابن جرير في تفسيره (3/ 181)، وعزاه ابن حجر في الفتح للإمام الطبري في تهذيبه، وصحح إسناده. انظر: فتح الباري (12/ 300)، وبحثت عنه في تهذيب الآثار فلم أجده. (¬3) في (ر): "الخارج". (¬4) في (ر): "لأنها". (¬5) في (ت): "تنزل". (¬6) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬7) فس (ت): "من ببدعتهم". (¬8) اختلف العلماء في تكفير الخوارج على قولين، فقد صرح بكفرهم القاضي أبو بكر ابن العربي، كما نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 299)، وقد احتجّ على كفرهم بالأحاديث الواردة فيهم، مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: "يمرقون من الإسلام"، وقوله: "لأقتلنهم قتل عاد"، وفي لفظ ثمود، وكل منهما إنما هلك بالكفر وغير ذلك، وجنح إلى هذا القول من المتأخرين تقي الدين السبكي، وذكر أن حجة من كفرهم هو تكفير الخوارج لأعلام الصحابة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنّة، وكذلك احتجّوا بحديث أبي سعيد، وفيه أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنه لا يعلق بالسهم شيء من الرمية من دم أو فرث، فهذا التمثيل ظاهر مقصوده أنهم خرجوا من الإسلام. إلى غير ذلك مما استدلّوا به وما ردوا به حجة الآخرين كما هو مبين في الفتح. وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين، مستندين إلى تأويل فاسد، وجرّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك. ومما احتجّوا به أيضاً قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث: "كمروق السهم، فينظر الرامي إلى سهمه"، إلى أن قال: "فيتمارى في الفوقة هل علق بها شيء". قال ابن بطال: "ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين لقوله: "يتمارى في الفوق"، لأن التماري من الشك، وإذا وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج=

وَجَعَلَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مِمَّنْ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَزِيغَ بِهِمْ. وَهَذَا الْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ عَامٌّ فيهم (¬1) وفي غيرهم، ممن كان على وصفهم (¬2). أَلَا تَرَى أَنَّ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ (¬3) إِنَّمَا نَزَلَ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ (¬4)، وَمُنَاظَرَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ الْإِلَهُ، أَوْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، أَوْ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ بِأَوْجُهٍ مُتَشَابِهَةٍ، وَتَرَكُوا مَا هُوَ الْوَاضِحُ فِي عُبُودِيَّتِهِ (¬5)، حَسْبَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ السِّيَر (¬6). ¬

=من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلاّ بيقين، قال: وقد سئل عليّ رضي الله عنه عن أهل النهر هل كفروا؟ قال: من الكفر فروا. ويظهر ميل الإمام ابن حجر في الفتح إلى القول الأول. انظر فتح الباري (12/ 299 ـ 301). وقد ذكر الإمام النووي في شرح مسلم أن القول بعدم تكفير الخوارج هو مذهب الشافعي وجماهير أصحابه، وذكر أنه الصحيح. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 160 ـ 165)، ويميل المؤلف إلى هذا القول. انظر الباب التاسع (2/ 185 ـ 186)، وانظر نيل الأوطار للإمام الشوكاني فقد نقل الخلاف في المسألة (7/ 167 ـ 168). (¬1) ساقطة من (ط). (¬2) في (خ) و (ط): "صفاتهم"، وفي (ر): "صفتهم". (¬3) في (خ): "الصورة"، وهي سورة آل عمران. (¬4) ذكر ذلك الإمام ابن كثير عند قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الآية، فقال: "وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران، أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوّة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة ردّاً عليهم". انظر: تفسير ابن كثير (1/ 551)، وانظر أسباب النزول للإمام الواحدي (ص67). (¬5) في (خ): "عبوديتهم". (¬6) قال الإمام محمد بن إسحاق في سيرته كما نقله عنه ابن كثير في تفسيره: "فهم يحتجّون في قولهم هو الله، بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، وذلك كله بأمر الله، وليجعله الله آية للناس، ويحتجّون في قولهم بأنه ابن الله يقولون لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله، ويحتجّون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا، فيقولون: لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو وعيسى=

ثُمَّ تَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى قَضَايَا دَخَلَ أَصْحَابُهَا تَحْتَ حُكْمِ اللَّفْظِ كَالْخَوَارِجِ، فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْعُمُومِ. ثُمَّ تَلَا أَبُو أُمَامَةَ الْآيَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1)، وفسَّرها بمعنى (¬2) ما فسّر به الآية (¬3) الأولى (¬4)، فهي تقتضي (¬5) الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ (¬6) لِمَنْ تِلْكَ صِفَتُهُ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ أن يكونوا مثلهم. ونقل عبد بن حميد (¬7) عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مِهْرَانَ (¬8) قَالَ: سَأَلْتُ (¬9) الْحَسَنَ: كَيْفَ يَصْنَعُ أَهْلُ (¬10) هَذِهِ (الْأَهْوَاءِ الْخَبِيثَةِ) (¬11) بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬12)، قال: "نبذوها وربّ الكعبة وراء ظهورهم" (¬13). ¬

=ومريم، تعالى الله وتقدس وتنزّه عما يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، وفي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن". انظر تفسير ابن كثير (1/ 551). وقد ذكر خبرهم الإمام ابن سعد في الطبقات (1/ 357)، والإمام ابن هشام في السيرة (2/ 222)، والإمام ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 48)، والإمام ابن القيم في زاد المعاد (3/ 629)، والإمام الواحدي في أسباب النزول (ص128 ـ 129)، وانظر صحيح البخاري (8/ 93 ـ مع الفتح)، ومسند الإمام أحمد (1/ 414). (¬1) سورة آل عمران، آية (105 ـ 107). (¬2) في (م) و (خ) و (ت): "بالمعنى". (¬3) في (ر): "الرواية". (¬4) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ: "الأخرى"، وذلك في نفس الحديث السابق حيث فسر قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ... }، وهذه الآية بأن المراد بهما الخوارج. وتقدم تخريج الحديث مستوفى (ص76). (¬5) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬6) في (ت): "والتشديد والتهديد". (¬7) المثبت هو ما في (غ)، وهو الصواب. وفي بقية النسخ: "ونقل عبيد عن حميد بن مهران ... ". (¬8) هو حميد بن أبي حميد مهران الخياط الكندي، أو المالكي، ثقة، روى عن الحسن، وروى عنه مسلم وأبو عاصم. انظر الكاشف للذهبي (1/ 193)، وتقريب التهذيب (1/ 204). (¬9) في (غ): "سمعت". (¬10) ساقطة من (ت). (¬11) بياض في (غ). (¬13) سورة آل عمران، آية (105). (¬12) ذكر هذا الأثر الإمام السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لعبد بن حميد. انظر الدر المنثور (2/ 289).

وعن أبي أمامة رضي الله عنه أَيْضًا قَالَ: "هُمُ الْحَرُورِيَّةُ" (¬1). وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ (¬2): سمعت مالكاً رضي الله عنه يَقُولُ: "مَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَشَدُّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِلَافِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ هذه الآية {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} إلى قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (¬3)، قَالَ مَالِكٌ: فَأَيُّ كَلَامٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا؟ "، فَرَأَيْتُهُ يَتَأَوَّلُهَا (¬4) لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ (¬5). وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ (¬6)، وَزَادَ: قَالَ لِي مَالِكٌ: "إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ لأهل الأهواء" (¬7) (¬8). وما ذكره مالك (¬9) فِي الْآيَةِ قَدْ نُقِلَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ كَالَّذِي تَقَدَّمَ لِلْحَسَنِ (¬10). وَعَنْ قَتَادَةَ (¬11) فِي قَوْلِهِ: {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (¬12) يعني أهل البدع (¬13). ¬

(¬1) وهم الخوارج، وتقدم قول أبي أمامة في الحديث أن المراد بالآية الخوارج. انظر (ص76). (¬2) هو عبد الله بن وهب، المحدث الكبير، وصاحب مالك. تقدمت ترجمته، وفي (ر): "ابن يعزوها". (¬3) سورة آل عمران، آية (106 107). (¬4) في (م): "يناولها". (¬5) انظر: الانتقاء لابن عبد البر (70)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 294)، والبيان والتحصيل لابن رشد (16/ 362 ـ 363). (¬6) هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العتقي، مولاهم المصري، صاحب الإمام مالك، كان عالم الديار المصرية ومفتيها، وكان ثقة مأموناً، صاحب ورع توفي سنة إحدى وتسعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (9/ 120)، تقريب التهذيب (1/ 495)، ترتيب المدارك (4/ 433). (¬7) في جميع النسخ: "لأهل القبلة"، والمثبت من (غ)، وهو الأنسب لما قبله. (¬8) ذكر السيوطي في الدر المنثور مثل هذا القول للشعبي، وعزاه لابن أبي حاتم (2/ 292)، وأما قول الإمام مالك فلم أجده. (¬9) ساقطة من (ط). (¬10) تقدم (ص81)، والآيتان متجاورتان في المصحف، وقد سبق كلام أبي أمامة رضي الله عنه أن المراد بهما الخوارج (ص78)، وكذلك قول الشعبي كما في هامش (9). (¬11) هو قتادة بن دعامة السدوسي، حافظ العصر، وقدوة المفسرين والمحدثين، كان من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ. وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مدلس معروف بذلك. توفي سنة سبع عشرة ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 269)، تقريب التهذيب (2/ 123)، الكاشف للذهبي (2/ 341). (¬12) سورة آل عمران، آية (105). (¬13) ذكره الإمام البغوي في معالم التنزيل عند الآية التي تليها عند قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} (1/ 339).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬1)، قَالَ: "تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ" (¬2). وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} (¬3)، فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ الَّذِي دَعَا إليه، وهو السنّة، والسُّبُل هي سبل أهل الِاخْتِلَافِ الْحَائِدِينَ (¬4) عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ. وَلَيْسَ (¬5) الْمُرَادُ سُبُلَ الْمَعَاصِي، لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعَاصٍ لَمْ يَضَعْهَا أَحَدٌ طَرِيقًا (¬6) تُسْلَكُ دَائِمًا عَلَى مُضَاهَاةِ التَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا هَذَا الْوَصْفُ خَاصٌّ بِالْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا (¬7) مَا رَوَى إِسْمَاعِيلُ (¬8) عَنْ (¬9) سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ (¬10)، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ (¬11) عَنْ عاصم بن بهدلة (¬12) ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية (106). (¬2) أخرجه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 72)، ولفظه: "فأما الذين ابيضّت وجوههم فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودّت وجوههم فأهل البدع والضلالة"، وابن أبي حاتم في التفسير (3950)، والآجري في الشريعة (2074)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لابن أبي حاتم وأبو نصر السجزي في الإبانة، والخطيب في تاريخه (2/ 291)، وذكره الإمام البغوي في معالم التنزيل (1/ 339). (¬3) سورة الأنعام، آية (153). (¬4) في (خ) و (ر): "الجائرين". (¬5) في (م) و (ت): "ليس" بدون الواو. (¬6) في (ر): "طرقا". (¬7) في (ر): "ذلك". (¬8) هو إسماعيل القاضي، وقد مضت ترجمته (ص76). (¬9) في (ر): "بن". (¬10) هو أبو أيوب سليمان بن حرب الواشحي، إمام، ثقة، حافظ، تولّى قضاء مكة سنة أربع عشرة ومائتين، ثم عزل سنة تسع عشرة ومائتين. توفي سنة أربع وعشرين ومائتين. انظر: التاريخ الكبير للبخاري (4/ 8)، السير (10/ 330)، التقريب (1/ 322)، الكاشف (1/ 312). (¬11) هو حماد بن زيد بن درهم الأزدي، أبو إسماعيل، إمام، حافظ، ثبت، قال عنه الذهبي في السير: "لا أعلم بين العلماء نزاعاً في أن حماد بن زيد من أئمة السلف، ومن أتقن الحفاظ وأعدلهم، وأعدمهم غلطاً، على سعة ما روى"، توفي سنة تسع وسبعين ومائة. انظر: التاريخ الكبير (3/ 25)، السير (7/ 456)، الكاشف (1/ 187)، التقريب (1/ 197). (¬12) في (خ) و (ط): "بهالة"، وهو خطأ، والصواب المثبت.=

عَنْ أَبِي وَائِلٍ (¬1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (¬2) قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يوماً، وَخَطَّ لَنَا سُلَيْمَانُ خَطًّا طَوِيلًا (¬3)، وَخَطَّ عَنْ يمينه وعن يساره، فقال: ((هذه (¬4) سَبِيلُ اللَّهِ)، ثُمَّ خَطَّ لَنَا خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ) (¬5)، وَقَالَ: "هَذِهِ سُبُلٌ، وَعَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} يعني الخطوط {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬6) (¬7). ¬

=وهو الإمام أبو بكر عاصم بن بهدلة بن أبي النجود الأسدي، مولاهم، وهو المقرئ الكبير، قرأ القرآن على أبي عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش الأسدي، وحدث عنهما وعن أبي وائل وطائفة، تصدر للإقراء مدة بالكوفة، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، قال ابن حجر: صدوق له أوهام، وقال الدارقطني: في حفظه شيء. توفي سنة سبع وعشرين مئة. انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 256)، تهذيب التهذيب لابن حجر (5/ 38)، الجرح والتعديل للرازي (6/ 340). (¬1) هو الإمام الكبير أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، مخضرم، أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يره، وروى عن عدد من الصحابة وغيرهم، وكان ثقة كثير الحديث، توفي سنة اثنتين وثمانين. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 354)، تهذيب التهذيب له (4/ 361)، الكاشف للذهبي (2/ 13). (¬2) هو ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) كأن الراوي يروي ما فعله سليمان بن حرب وهو يحدث أصحابه. (¬4) في (ت) و (ر) و (ط): "هذا". (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬6) سورة الأنعام، آية (153). (¬7) رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود (1/ 435 ـ 465)، ورواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه (1/ 78)، ورواه الإمام المروزي في السنة عنه (ص10)، ورواه الإمام الآجري في الشريعة (ص10)، ورواه ابن جرير في تفسيره عند الآية (8/ 88)، ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنّة (1/ 80 ـ 81)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 293 ـ 294)، ورواه الإمام الحاكم في المستدرك (2/ 239)، قال: صحيح الإسناد لم يخرجاه، وراه ابن عاصم في السنّة (1/ 13)، وحسن الشيخ الألباني إسناده في تعليقه على السنة، وكذلك في تعليقه على المشكاة (1/ 58).

قَالَ بَكْرُ (¬1) بْنُ الْعَلَاءِ (¬2): أَحْسَبُهُ أَرَادَ شَيْطَانًا من الإنس، وهي البدع، والله أعلم (¬3). والحديث مخرج من طرق. وعن عمرو (¬4) بْنِ سَلَمَةَ الْهَمْدَانِيِّ (¬5) قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا فِي حلقة ابن مسعود رضي الله عنه فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ بَطْحَاءُ قَبْلَ أَنْ يُحَصِّبَ (¬6)، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ (¬7) بْنُ عُمَرَ بْنِ الخطاب رضي الله عنهما ـ وَكَانَ أَتَى غَازِيًا ـ: "مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ " قَالَ: "هُوَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ (¬8) الَّذِي (¬9) ثَبَتَ عَلَيْهِ أَبُوكَ حَتَّى دَخَلَ الْجَنَّةَ"، ثُمَّ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ أَيْمَانٍ وَلَاءً، ثُمَّ خَطَّ فِي الْبَطْحَاءِ خَطًّا بِيَدِهِ، وَخَطَّ بجنبيه (¬10) (خطوطاً) (¬11)، وقال: ¬

(¬1) في (ت): "أبو بكر"، وهو خطأ، والصواب المثبت. (¬2) هو بكر بن محمد بن العلاء بن محمد، أبو الفضل، القشيري. قاض من علماء المالكية من أهل البصرة، انتقل إلى مصر قبل سنة 330هـ، وتوفي بها عن نيف وثمانين سنة، توفي سنة 344هـ. انظر: شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (2/ 366)، الأعلام للزركلي (2/ 69). (¬3) لم أجد هذا القول له، وسنن إسماعيل القاضي التي ينقل عنها المؤلف غير موجودة فيما أعلم. (¬4) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عمر"، والصواب المثبت. (¬5) هو عمرو بن سلمة بن عميرة بن مقاتل بن الحارث الهمداني. روى عن علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وكان شريفاً، وهو الذي بعثه الحسن بن علي بن أبي طالب مع محمد بن الأشعث في الصلح بينه وبين معاوية رضي الله عنهما، وكان ثقة قليل الحديث. انظر: طبقات ابن سعد (6/ 171)، الجرح والتعديل للرازي (6/ 235)، تهذيب التهذيب لابن حجر (8/ 42). (¬6) الحصباء: الحصى، وحصبت المسجد تحصيباً إذا فرشته بها. انظر الصحاح للجوهري (1/ 112). (¬7) لفظ الجلالة ساقط من (ت)، والذي وجدته في مصادر الأثر "عبد الله"، وليس عبيد الله، وكلاهما من ولد عمر رضي الله عنه. (¬8) في (م): "العكبة". (¬9) العبارة في (ت): "ورب الكعبة هو الذي ... ". (¬10) في (ر): "بجنبتيه". (¬11) في (م) و (خ) و (ت): "خطاطاً".

تَرَكَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرَفِهِ، وَطَرَفُهُ الْآخَرُ فِي الْجَنَّةِ، فَمِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ أَخَذَ فِي هَذِهِ الْخُطُوطِ هَلَكَ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: يَا أَبَا (¬2) عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؟ قَالَ: "تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ وَطَرَفُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَنْ يَمِينِهِ جوادٌّ (¬3)، وَعَنْ يَسَارِهِ جوادُ، وَعَلَيْهَا (¬4) رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ: هَلُمَّ لَكَ هَلُمَّ لَكَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الطُّرُقِ انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمَنِ اسْتَقَامَ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ"، ثُمَّ تَلَا (¬5) ابْنُ مَسْعُودٍ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (¬6) الْآيَةَ كُلَّهُا" (¬7). وَعَنْ مُجَاهِدٍ (¬8) فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (¬9) قال: "البدع والشبهات" (¬10). ¬

(¬1) سأذكر تخريجه في الأثر بعده لأنه أشهر، وممن ذكر حلف ابن مسعود أن الصراط المستقيم هو ما كان عليه عمر الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص251). (¬2) ساقطة من (ر). (¬3) جواد جمع جادة. وهي معظم الطريق. انظر الصحاح للجوهري (2/ 452). (¬4) في (ت): "عليهم". (¬5) ساقطة من أصل (م)، ومثبتة في هامشها. (¬6) سورة الأنعام، آية (153). (¬7) روى هذا الأثر الإمام ابن جرير في تفسيره (8/ 89)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، وذكر أن السائل هو عبد الله بن عمر (ص39)، وذكره الإمام القرطبي في تفسيره وعزاه للإمام الطبري في آداب النفوس (7/ 138)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وعزاه أيضاً إلى عبد الرزاق وابن مردويه. انظر: الدر (3/ 386)، وكذلك فعل الإمام الشوكاني في فتح القدير (2/ 179). (¬8) هو الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي، شيخ القراء والمفسرين، وهو تلميذ ابن عباس رضي الله عنه، أخذ عنه القرآن والتفسير والفقه، مات رحمه الله وهو ساجد سنة اثنتين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 449)، تهذيب التهذيب (10/ 42)، الكاشف (3/ 106). (¬9) سورة الأنعام، آية (153). (¬10) أخرجه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب في كراهية أخذ الرأي (1/ 79) (ص12)، وابن جرير في التفسير (1468)، وابن أبي حاتم (8104)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 298)، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 386).

وعن عبد الرحمن بن مهدي (¬1) قال (¬2): سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ السُّنَّةِ؟ قَالَ: "هِيَ مَا لَا اسْمَ لَهُ غَيْرُ السُّنَّةِ، وَتَلَا {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬3) " (¬4). قَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ (¬5): يُرِيدُ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ لَهُ خَطًّا (¬6)، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَهَذَا التَّفْسِيرُ (¬7) يَدُلُّ عَلَى شُمُولِ الْآيَةِ لِجَمِيعِ طُرُقِ الْبِدَعِ، لَا تَخْتَصُّ بِبِدْعَةٍ دُونَ أُخْرَى. وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ *} (¬8)، فَالسَّبِيلُ الْقَصْدُ هُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، وَمَا سِوَاهُ (من الطرق) (¬9) جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ، أَيْ عَادِلٌ عَنْهُ، وَهِيَ طُرُقُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، أَعَاذَنَا (¬10) اللَّهُ مِنْ سُلُوكِهَا بِفَضْلِهِ، وَكَفَى بِالْجَائِرِ أَنْ يُحَذَّرَ مِنْهُ، فَالْمَسَاقُ يدل على التحذير والنهي. ¬

(¬1) هو أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري، الإمام، الناقد، سيد الحفاظ، روى عن الإمام مالك وابن الماجشون وغيرهما، وروى عنه ابن المبارك وابن وهب وأحمد وغيرهم. وكان إماماً حجة قدوة في العلم والعمل. توفي بالبصرة سنة 198هـ. (¬2) في جميع النسخ: "قد"، عدا (غ). انظر: التاريخ الكبير (5/ 354)، الحلية (9/ 3)، السير (9/ 192)، تقريب التهذيب (1/ 499). (¬3) سورة الأنعام، آية (153). (¬4) انظر: كتاب الانتقاء لابن عبد البر (ص35)، وفي معناه ما ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك، قال: سأل رجل مالكاً من أهل السنة يا أبا عبد الله؟ قال: "الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا رافضي، ولا قدري". انظر: ترتيب المدارك (1/ 172). (¬5) تقدمت ترجمته (ص85). (¬6) في (ت): "خططاً". (¬7) في (خ): "فهذا الحديث التفسير". (¬8) سورة النحل، آية (9). (¬9) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ، عدا (غ) و (ر). (¬10) في (غ): "أنقذنا".

وَذَكَرَ (¬1) ابْنُ وَضَّاحٍ (¬2) قَالَ: سُئِلَ عَاصِمُ بْنُ بهدلة (¬3) وقيل له (¬4): يا أبا بكر، أرأيت (¬5) قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ *} (¬6)؟ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو وَائِلٍ (¬7) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: "خَطَّ عَبْدُ اللَّهِ (¬8) خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَخُطُوطًا عَنْ شِمَالِهِ، فَقَالَ: "خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا، فَقَالَ لِلْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ)، وَلِلْخُطُوطِ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ (¬9) (هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ (¬10)، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ)، وَالسَّبِيلُ مُشْتَرَكَةٌ"، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (¬11) إلى آخرها (¬12). وعن (¬13) التستري (¬14): {قَصْدُ السَّبِيلِ} طريق السنة (¬15)، {وَمِنْهَا جَائِرٌ} (¬16) يَعْنِي إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ الْمِلَلُ وَالْبِدَعُ (¬17). وَعَنْ مجاهد {قَصْدُ السَّبِيلِ}: "أي (¬18) المقتصد منها بين الغلوّ ¬

(¬1) في (م): "ذكر"، بدون الواو. (¬2) هو الإمام محمد بن وضاح الأندلسي، محدث الأندلس. مضت ترجمته (ص39). (¬3) تقدمت ترجمته (ص84). (¬4) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬5) في (خ) و (ت) و (ط): "هل رأيت". (¬6) سورة النحل، آية (9). (¬7) تقدمت ترجمته (ص84). (¬8) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عبد الله بن عبد الله". (¬9) في (ت): "وعن شماله". (¬10) في (ر): "مفترقة". (¬11) سورة الأنعام، آية (153). (¬12) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص38)، وتقدم تخريجه (ص85). (¬13) في (ط): "عن" بدون الواو. (¬14) هو سهل بن عبد الله بن يونس التستري، شيخ العارفين، الصوفي الزاهد، لقي ذا النون المصري وصحبه، وله كلمات نافعة، ومواعظ حسنة. توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل: ثلاث وتسعين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 330)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 189)، شذرات الذهب (2/ 182)، طبقات الصوفية للسلمي (ص206)، الرسالة القشيرية للقشيري (ص18). (¬15) في (غ): "الجنة". (¬16) سورة النحل، آية (9). (¬17) ذكره الإمام البغوي في تفسيره، وعزاه لسهل بن عبد الله وعبد الله بن المبارك. انظر معالم التنزيل (3/ 63). (¬18) ساقطة من (ت).

وَالتَّقْصِيرِ" (¬1)، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْجَائِرَ هُوَ الْغَالِي أَوِ الْمُقَصِّرُ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَوْصَافِ الْبِدَعِ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "فَمِنْكُمْ جَائِر" (¬2)، قَالُوا: يَعْنِي هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعَ الْآيَةِ قَبْلَهَا يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} (¬3). هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ جَاءَ تَفْسِيرُهَا فِي الْحَدِيثِ (¬4) من طريق عائشة رضي الله تعالى عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَائِشَةُ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} مَنْ هُمْ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ، وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ، وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. يَا عَائِشَةُ، إِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً مَا خَلَا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مني براء" (¬5). ¬

(¬1) روى ابن جرير عن مجاهد عن الآية قوله: "طريق الحق على الله" (21493)، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم (12479). (¬2) ذكره عنه الإمام السيوطي في الدر المنثور (5/ 115)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف. وذكره الإمام الشوكاني في فتح القدير (3/ 151)، وذكر الإمام ابن كثير في تفسيره (2/ 873)، أنها قراءة ابن مسعود أيضاً، وكذلك ذكرها عنه الشوكاني في نفس الموضع السابق. (¬3) سورة الأنعام، آية (159). (¬4) في (غ) و (ر): "بعض الأحاديث". (¬5) رواه الإمام الطبراني في معجمه الصغير عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1/ 203)، ورواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة (ص8) برقم (4)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 303)، ورواه أبو نعيم في الحلية (4/ 138)، وقال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث شعبة، تفرد به بقية. وقد ذكر الحديث الإمام ابن كثير في تفسيره عند الآية، وقال: وهذا رواه ابن مردويه وهو غريب أيضاً، ولا يصح رفعه (2/ 314)، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه بقية ومجالد بن سعيد وكلاهما ضعيف (1/ 193). وقال عنه الألباني كما في ظلال الجنة: إسناده ضعيف رجاله موثقون غير مجالد، وهو ابن سعيد وليس بالقوي (ص8) برقم (4).

قَالَ (¬1) ابْنُ عَطِيَّةَ (¬2): "هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالشُّذُوذِ فِي الْفُرُوعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْجِدَالِ، وَالْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ، هَذِهِ كُلُّهُا عُرْضَةٌ لِلزَّلَلِ وَمَظِنَّةٌ لِسُوءِ الْمُعْتَقَدِ" (¬3). وَيُرِيدُ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ بِأَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْفُرُوعِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (¬4) فِي فَصْلِ ذَمِّ الرَّأْيِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ لَهُ (¬5)، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ (¬6). وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ (¬7) فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حنيفة رضي الله عنه أنّه ¬

(¬1) في (ر): "وقال". (¬2) هو أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر غالب بن عطية المحاربي الغرناطي، كان إماماً في الفقه، والتفسير، وفي العربية، وكان ذكياً فطناً مدركاً، من أوعية العلم، ووالده أحد حفاظ الحديث، تولّى قضاء المرية سنة تسع وعشرين وخمسمائة، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. انظر: السير (19/ 586)، العبر (4/ 43)، شذرات الذهب (4/ 59)، بغية الملتمس (ص427). (¬3) ذكر ذلك الإمام ابن عطية عند قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} آية (153) من سورة الأنعام، ولم يذكر ذلك عند هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} آية (159) من سورة الأنعام، ومعنى الآيتين متقارب. انظر المحرر الوجيز لابن عطية (5/ 400). (¬4) هو الإمام العلامة أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الأندلسي القرطبي، صاحب التصانيف الفائقة، طلب العلم، وأدرك الكبار، وكان حافظاً متقناً، صاحب سنة واتّباع، وكان أثرياً ظاهرياً فيما قيل، ثم تحوّل مالكياً مع ميل إلى فقه الشافعي في مسائل، وكان حافظ المغرب في زمانه، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 153)، وفيات الأعيان لابن خلكان (7/ 66)، طبقات الحفاظ للسيوطي (ص431). (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) انظر كلام الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 138، 139)، وسوف يعقد المؤلف فصلاً في ذمّ الرأي وبيان المراد به ضمن هذا الباب (ص187). (¬7) هو أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري القرطبي، يعرف بابن اللجام. كان من كبار المالكية، وكان من أهل العلم والمعرفة، وقد عني بالحديث العناية التامة وقد شرح صحيح البخاري في عدة أسفار، توفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة. انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 74)، العبر للذهبي (3/ 219)، الوافي بالوفيات للصفدي (12/ 56).

قَالَ: "لَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي (¬1) رَبَاحٍ (¬2) بِمَكَّةَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا؟ قلت: نعم، قال: فمن (¬3) أَيِّ الْأَصْنَافِ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِمَّنْ لَا يَسُبُّ السَّلَفَ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدْرِ، وَلَا يُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ، فَقَالَ عَطَاءٌ: عَرَفْتَ فَالْزَمْ" (¬4). وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا يَخْطُبُنَا، فَقَطَعُوا عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَتَرَامَوْا بِالْبَطْحَاءِ، حَتَّى جَعَلْتُ مَا أُبْصِرُ أَدِيمَ السَّمَاءِ، قَالَ: وَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ بَعْضِ حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ: هَذَا صَوْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: "أَلَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ بَرِئَ (¬5) مِمَّنْ فَرَّقَ دِينَهُ وَاحْتَزَبَ" (¬6)، وَتَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬7). قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ (¬8): "أَحْسَبُهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ" أُمَّ سَلَمَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي ذلك الوقت حاجّة" (¬9). ¬

(¬1) في (م) و (ط): "عطاء بن رباح". (¬2) هو الإمام أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي، مولاهم، المكي، ولد في خلافة عثمان، ونشأ بمكة، وحدث عن عدد من الصحابة، كابن عباس وغيره، وكان ثقة، فقيهاً، عالماً، كثير الحديث. توفي سنة أربع عشرة ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 78)، طبقات ابن سعد (5/ 467)، التاريخ للبخاري (6/ 463). (¬3) في (ط): "من" بدون الفاء. (¬4) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 314)، وانظر: مناقب أبي حنيفة للكردي (76)، والعقد الثمين للفاسي (6/ 91). (¬5) في (ت): "براء". (¬6) ذكر السيوطي في الدر المنثور أثراً قريباً منه عن الحسن، وقيّده بيوم مقتل عثمان رضي الله عنه، ولفظه: عن الحسن قال: رأيت يوم قتل عثمان ذراع امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم قد أخرجت من بين الحائط والستر، وهي تنادي: ألا إن الله ورسوله بريئان من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً. وقد عزاه إلى عبد بن حميد. انظر الدر المنثور (3/ 403). (¬7) سورة الأنعام، آية (159). (¬8) تقدمت ترجمته (ص76). (¬9) ذكر الإمام ابن جرير عن أم سلمة أنها قالت: ليتّق الله امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شيء، ثم قرأت: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (8/ 106).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ (¬1). وَعَنْ أَبِي أمامة رضي الله عنه: "هُمُ الْخَوَارِجُ" (¬2). قَالَ الْقَاضِي (¬3): "ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ (¬4) عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا ابْتَدَعُوا تَجَادَلُوا وَتَخَاصَمُوا وتفرقوا وَكَانُوا شِيَعًا [{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}] (¬5) " (¬6). ومنها قوله: {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ *} (¬7). قُرِئَ {فَارَقُواْ دِينَهُمْ} (¬8)، وَفُسِّرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أنهم الخوارج (¬9). ¬

(¬1) رواه عنه ابن جرير في تفسيره (8/ 105)، وذكره البخاري في خلق أفعال العباد (66)، وذكره ابن كثير عنه (2/ 314)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور أيضاً للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه. انظر الدر المنثور (3/ 402). (¬2) ذكره عنه الإمام ابن كثير في تفسيره، وقال: وروي عنه مرفوعاً ولا يصح (2/ 314)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عن أبي أمامة، قال: هم الحرورية، وعزاه إلى عبد بن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه. انظر: الدر المنثور (3/ 402). (¬3) هو إسماعيل القاضي كما بينه المؤلف في الصفحة التالية. (¬4) ساقطة من (غ). (¬5) ما بين المعكوفتين ساقط من جميع النسخ، عدا (غ). (¬6) لم أتمكن من الرجوع إلى قوله لعدم وجود كتابه. (¬7) سورة الروم، آية (31 ـ 32). (¬8) هي قراءة حمزة والكسائي كما ذكره الإمام أبو زرعة في كتابه حجة القراءات (ص278)، والإمام ابن الجزري في النشر في القراءات العشر (2/ 216)، وقرأ الباقون: {فَرَّقُوا دِينَهُمْ}، وهذا الخلاف في هذه الآية هو نفسه في آية الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (159)، وقراءة {فارقوا دينهم} مروية عن علي رضي الله عنه، روى ذلك الإمام ابن جرير في تفسيره (8/ 104)، وذكرها القرطبي في تفسيره (14/ 32)، والشوكاني في فتح القدير (4/ 225)، والسيوطي في الدر المنثور، وعزاها أيضاً إلى الفريابي وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (3/ 402). (¬9) لم أجد هذا التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه، والمفسّرون عند هذه الآية يفسّرونها=

ورواه أبو أمامة رضي الله عنه مَرْفُوعًا (¬1). وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، قَالُوا: رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬2). وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ مَنِ ابْتَدَعَ حَسْبَمَا قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي (¬3)، وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي (¬4) الْآيِ الْأُخَرِ (¬5). وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} (¬6). فعن ابن عباس رضي الله عنهما أَنْ لَبَّسَكُمْ (¬7) شِيَعًا: هُوَ الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ (¬8). وَيَكُونُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} تَكْفِيرُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ حَتَّى يَتَقَاتَلُوا (¬9)، كَمَا جَرَى لِلْخَوَارِجِ حِينَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. ¬

=بما فسروا به آية الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ... } (159)، وقد تقدم قول أبي هريرة رضي الله عنه أنها في هذه الأمة (ص93). (¬1) ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه مرفوعاً ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عند آية الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ... }، وعزاه لابن أبي حاتم والنحاس وابن مردويه (3/ 402)، وقد ذكر الإمام ابن كثير قول أبي أمامة أنهم الخوارج، ثم قال: وروي عنه مرفوعاً ولا يصح (2/ 314). (¬2) تقدم ذكر الحديث (ص86). (¬3) تقدم كلامه (ص93). (¬4) ساقطة من (م) و (ت). (¬5) يريد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} سورة الأنعام، آية (159). (¬6) سورة الأنعام، آية (65). (¬7) في (ر): "لبسهم". (¬8) رواه عنه الإمام ابن جرير في تفسيره (7/ 221)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور أيضاً لابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (3/ 283)، وذكره الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص87). (¬9) قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب. انظر الفقرة السابقة.

وقيل: معنى {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} مَا فِيهِ إِلْبَاسٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ (¬1). وَقَالَ مُجَاهِدٌ (¬2) وَأَبُو الْعَالِيَةِ (¬3): "إِنَّ الْآيَةَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (¬4). قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "هُنَّ أَرْبَعٌ، ظَهَرَ اثْنَتَانِ (¬5) بَعْدَ (¬6) وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَأُلْبِسُوا شيعاً، وأذيق بعضهم (¬7) بَأْسَ بَعْضٍ، وَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ، فَهُمَا وَلَا بُدَّ واقعتان: الخسف من تحت أرجلكم، والرجم (¬8) والمسخ من فوقكم" (¬9). ¬

(¬1) قال ابن جرير عن قوله {يَلْبِسَكُمْ}: "أو يخلطكم {شِيَعًا}: فرقاً، فهو من قولك: لبست عليه الأمر إذا خلطت". انظر تفسير ابن جرير (7/ 221)، وانظر زاد المسير لابن الجوزي (3/ 59)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7/ 9)، وتفسير ابن كثير (2/ 230)، وفتح القدير للشوكاني (2/ 126). وهذه العبارة هي عبارة الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص87). (¬2) تقدمت ترجمته (ص87). (¬3) هو أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري، الإمام، المقرئ المفسر، كان مولى لامرأة من بني رياح بن يربوع، أسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، سمع من عدد من الصحابة، حفظ القرآن، وقرأه على أبي بن كعب، وتصدر لإفادة العلم، وبَعُد صيته. توفي سنة تسعين وقيل: ثلاث وتسعين. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 207)، حلية الأولياء (2/ 217)، شذرات الذهب (1/ 102). (¬4) عزو هذا القول إلى مجاهد وأبي العالية هو ما قاله الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص87)، وقبله الإمام ابن جرير في تفسيره (7/ 222)، ورجح الإمام ابن جرير أن الآية للمشركين، إلا أن تهديدها عام لمن سلك سبيلهم من أهل الخلاف على الله ورسوله. انظر تفسير ابن جرير (7/ 225 ـ 226). (¬5) في (خ) و (ت): "ثنتان". (¬6) ساقطة من (ت). (¬7) في (خ) و (ط): "بعضكم". (¬8) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ)، وهو الموافق لما في الحوادث والبدع للطرطوشي (ص89)، والمؤلف ينقل عنه هنا. (¬9) رواه عن أبي العالية الإمام ابن جرير في تفسيره (7/ 222)، ورواه أيضاً عن أُبي بن كعب رضي الله عنه (7/ 226)، وابن أبي حاتم في تفسيره (7398)، وذكره الإمام ابن كثير في تفسيره عن أُبي بن كعب (2/ 229)، وذكره السيوطي في الدر المنثور عن أُبي بن كعب، وعزاه أيضاً لابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية. انظر الدر المنثور (3/ 284). وللإمام ابن حجر في الفتح بحث حسن حول الجمع بين هذا الأثر عن أُبي رضي الله عنه،=

وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَهْوَاءِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ، وَمَذْمُومٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ. وَفِيمَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (¬1)، قَالَ فِي الْمُخْتَلِفِينَ: "إِنَّهُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ، {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} قال: أهل (¬2) الحق ليس بينهم اخْتِلَافٌ" (¬3). وَرُوِيَ (¬4) عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ (¬5) أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ كَانَتِ الْأَهْوَاءُ كُلُّهُا (¬6) وَاحِدًا لَقَالَ الْقَائِلُ: لَعَلَّ الْحَقَّ فِيهِ، فَلَمَّا تَشَعَّبَتْ وَتَفَرَّقَتْ عَرَفَ كُلُّ ذِي عَقْلٍ أَنَّ الْحَقَّ لَا يتفرّق" (¬7). وعن عكرمة (¬8): {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} يَعْنِي فِي الْأَهْوَاءِ، {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} هم أهل السنة" (¬9). ¬

=وما ورد من الأحاديث الدالّة على أن الله لا يعذّب هذه الأمة بما عذب به من قبلها. انظر فتح الباري لابن حجر (8/ 291). (¬1) سورة هود، آية (118 ـ 119). (¬2) في (ط): "فإن أهل الحق". (¬3) رواه عنه الإمام ابن جرير في تفسيره (12/ 141)، وذكره ابن عبد البر في الجامع (1753)، وعزاه السيوطي أيضاً لأبي الشيخ. انظر الدر المنثور (4/ 491). (¬4) في (م): "روى" بدون الواو. (¬5) هو مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري البصري، الإمام، القدوة، كان ثقة، عابداً، فاضلاً، حدّث عن أبيه رضي الله عنه وعدد من الصحابة، مات سنة ست وثمانين وقيل غير ذلك. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 187)، تهذيب التهذيب (10/ 173)، شذرات الذهب (1/ 110). (¬6) ساقطة من (ط). (¬7) رواه عنه الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 149)، وذكره ابن عبد البر في الجامع (1752). (¬8) هو أبو عبد الله عكرمة بن عبد الله القرشي، مولاهم، وهو مولى ابن عباس، وأصله بربري، ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، قد روى عن عدد من الصحابة، ولم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة. توفي سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك. انظر: تهذيب التهذيب (7/ 263)، شذرات الذهب (1/ 130)، الجرح والتعديل (7/ 7). (¬9) لم أجده بلفظه، وإنما روى عنه ابن جرير عند الآية قوله: "لا يزالون مختلفين في الهوى"، انظر تفسير ابن جرير (12/ 142)، وسنن سعيد بن منصور (5/ 368)، وتفسير ابن أبي حاتم (11289).

ونقل أبو بكر بن ثابت الخطيب (¬1)، عن منصور بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (¬2) قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْحَسَنِ وَرَجُلٌ خَلْفِي قَاعِدٌ، فَجَعَلَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} ({إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (¬3)، قال: نعم {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (¬4) عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى، {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فَمَنْ رَحِمَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ" (¬5). وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكِ بْنِ أنس رضي الله عنهما أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ (¬6). وَلِهَذِهِ الْآيَةِ بسط يأتي بعد هذا (¬7)، إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬8). وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرٍو (¬9) عن (¬10) مصعب (¬11) قال: سألت ¬

(¬1) هو أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد البغدادي، كان إماماً من أئمة الحديث وحفاظه، فقد جمع وصنّف وصحح، وعلّل وجرّح، وعدّل وأرّخ، وصار أحفظ أهل عصره على الإطلاق، وكان من كبار الشافعية، ومن أشهر كتبه تاريخ بغداد. توفي رحمه الله سنة 460هـ. انظر: السير (18/ 70، العبر (2/ 314)، البداية والنهاية (12/ 108). (¬2) في (خ) و (ط): "مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ"، وهو إضراب عن الخطأ والصواب المثبت، وهو منصور بن عبد الرحمن الغداني الأشل، صدوق يهم. روى عن الحسن والشعبي، وروى عنه ابن علية وابن المفضل. انظر: تقريب التهذيب (2/ 276)، الكاشف (3/ 156). (¬3) سورة هود، الآية (118 ـ 119). (¬4) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬5) رواه الإمام ابن جرير في تفسيره (12/ 141)، وعزاه السيوطي أيضاً لابن أبي حاتم وأبي الشيخ. انظر الدر المنثور (4/ 491)، ورواه عبد الله بن أحمد في السنة عن منصور بن عبد الرحمن قال: سألت الحسن عن قوله: "ولا يزالون ... "، فذكره (2/ 430)، وسعيد بن منصور في السنن (5/ 367)، والخطيب في المتفق والمفترق (3/ 1923)، والآجري في الشريعة (2/ 719 ـ 721). (¬6) رواه سعيد بن منصور في السنن (5/ 367)، وابن أبي حاتم في التفسير (11296)، والفريابي في القدر (61)، وانظر: تفسير ابن جرير (12/ 143)، والمحرر الوجيز لابن عطية (9/ 240)، وتفسير ابن كثير (2/ 866). (¬7) ساقطة من (ط). (¬8) تكلم المؤلف عن هذه الآية بشكل أوسع في الباب التاسع. انظر المطبوع (2/ 165). (¬9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عمر". (¬10) في جميع النسخ: "بن"، والتصويب من صحيح البخاري (8/ 425). (¬11) مصعب هو ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، روى عن أبيه وطلحة، وكان ثقة. توفي بالكوفة سنة ثلاث ومائة.=

أبي (¬1) {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (¬2) هُمُ الْحَرُورِيَّةُ (¬3)؟ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَذَّبُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ. وَالْحَرُورِيَّةُ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (¬4)، وكان (سعد) (¬5) يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ (¬6). وَفِي تَفْسِيرِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ (¬7) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "قُلْتُ لِأَبِي {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} (¬8) أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ. ولكن الحرورية الذين قال الله (¬9): {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (¬10) " (¬11). ¬

=انظر: الكاشف للذهبي (3/ 130)، تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 251). (¬1) عبارة (ط): "سألت أبي عن قوله تعالى"، والمثبت هو الموافق لرواية البخاري والمراد بأبيه هو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انظر فتح الباري (8/ 425). (¬2) سورة الكهف، آية (103). (¬3) الحرورية من أسماء الخوارج، سموا بذلك نسبة إلى حروراء، وهي قرية بظاهر الكوفة، وقيل على ميلين منها، نزل بها الخوارج الذين خالفوا علياً رضي الله عنه، وكان ابتداء خروجهم منها. انظر: معجم البلدان لياقوت (3/ 256)، فتح الباري (8/ 425). (¬4) سورة البقرة، آية (27). (¬5) في جميع النسخ: "شعبة"، والتصويب من صحيح البخاري (8/ 425). (¬6) رواه الإمام البخاري في صحيحه (8/ 425 مع الفتح)، والإمام ابن جرير في تفسيره (16/ 33)، وعزاه السيوطي لعبد الرزاق والنسائي، وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه. انظر الدر المنثور (5/ 465). (¬7) هو أبو عثمان سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني المروزي، الحافظ، الإمام، شيخ الحرم، ومؤلف كتاب السنن، روى عن مالك والليث وغيرهم، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل وأبو ثور وغيرهم. وكان ثقة صادقاً. توفي سنة سبع وعشرين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 586)، طبقات ابن سعد (5/ 502)، الجرح والتعديل للرازي (4/ 68). (¬8) سورة الكهف، آية (104). (¬9) أي الذين قال الله فيهم. (¬10) سورة الصف، آية (5). (¬11) رواه عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 641)، وفيه الخوارج بدل من الحرورية، ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 370)، وابن جرير في تفسيره (16/ 33)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه (5/ 465).

وَخَرَّجَ عَبْدُ (¬1) بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} إلى قوله: {يُحْسِنُونَ صُنْعًا} قُلْتُ: أَهُمُ (¬2) الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: "لَا (¬3)، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَمَّا الْيَهُودُ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، وَلَكِنَّ الْحَرُورِيَّةُ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} (¬4) " (¬5). [ففي هذه الروايات عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الآية، يشمل أهل البدعة؛ لأن أهل حروراء اجتمعت فيهم هذه الأوصاف التي هي نقض عهد الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض] (¬6). فَالْأَوَّلُ (¬7): لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بِشَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ تأولوا فيه (¬8) التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةَ، وَكَذَا فَعَلَ الْمُبْتَدِعَةُ، وَهُوَ بَابُهُمُ الذي دخلوا منه (¬9). ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (ط): "عبيد"، والصواب المثبت. وهو عبد بن حميد ويقال عبد الحميد بن نصر الكسي، ويقال الكشي، الإمام، الحافظ، الحجة، ولد بعد السبعين ومائة. حدّث عنه مسلم والترمذي والبخاري تعليقاً. كان ممن جمع وصنّف. توفي سنة تسع وأربعين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 235)، تهذيب التهذيب لابن حجر (6/ 455)، شذرات الذهب لابن العماد (2/ 120). (¬2) في (ر): "هم". (¬3) ساقطة من (ت). (¬4) سورة البقرة، آية (27). (¬5) هذا اللفظ هو لفظ الإمام البخاري إلاّ أنه قال هنا: "كفروا بمحمد"، وقال هناك: "كذبوا بمحمد"، وقد تقدم تخريجه قريباً. (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ، عدا (غ) و (ر). (¬7) من هنا يبدأ المؤلف في تنزيل الصفات الواردة في الآية على الخوارج وأعمالهم، علماً بأن الآية لم تنص على الخوارج، ولم تنزل فيهم. ولكنهم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل، وقد ذكر ذلك الإمام ابن كثير في تفسيره (1/ 101). وسوف يشير إلى ذلك المؤلف (ص105). (¬8) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬9) في جميع النسخ "فيه" عدا (غ) و (ر).

وَالثَّانِي (¬1): لِأَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هَذَا التَّصَرُّفَ. فَأَهْلُ حَرُورَاءَ (¬2) وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ قَطَعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (¬3) عن قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬4) وغيرها (¬5). وَكَذَا فَعَلَ سَائِرُ الْمُبْتَدِعَةِ حَسْبَمَا يَأْتِيكَ بِحَوْلِ الله (¬6). ومنه (¬7): ما (¬8) روي عن عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ (¬9) قَالَ: (بَلَغَ عُمَرُ بْنُ ¬

(¬1) بعد أن تكلم المؤلف عن نقضهم لعهد الله فإنه يذكر هنا قطعهم لما أمر الله به أن يوصل. (¬2) تقدم التعريف بها (ص99). (¬3) سورة الأنعام: آية (57). (¬4) سورة المائدة: آية (95). (¬5) يشير المؤلف بهذا الكلام إلى احتجاج الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه استنكاراً للتحكيم. فقد قالوا كيف يحكم الرجال في أمر الله، واحتجوا بقول الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}. وقد أرسل علي رضي الله عنه إليهم ابن عباس ليجادلهم فيما ذهبوا إليه من آراء، وقد أجاب ابن عباس رضي الله عنه عن هذه المسألة بأن الله قد قبل حكم الرجال فيما هو أهون من دماء المسلمين، وذلك مثل قبول حكم الرجال في جزاء الصيد الذي يقتله المحرم، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} المائدة (95)، ثم أجاب رضي الله عنه عن بقية آرائهم. فرجع منهم ألفان إلى المسلمين. انظر هذه القصة في جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 104)، كما ذكرها المؤلف في نفس الكتاب (2ج187) من المطبوع. وذكرها ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص112 ـ 114)، وانظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (3/ 202 ـ 203)، وانظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (19/ 90، 91). (¬6) تناول المؤلف مناهج المبتدعة في الاستدلال في الباب الرابع من الكتاب (1/ 220 ـ 285) من المطبوع، وخاصة (ص237 ـ 245) فإن له تعلقاً بمسألتنا هنا. (¬7) أي: ومن قَطْع بعض الأدلة عن بعض فعل غيلان الدمشقي الذي قطع أول سورة الإنسان عن آخرها كما سيذكره المؤلف. (¬8) ساقطة من (م). (¬9) هو عمرو بن مهاجر بن أبي مسلم الأنصاري الدمشقي، ولي شرطة عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة. توفي سنة تسع وثلاثين ومائة. انظر: التاريخ الكبير (6/ 373)، تقريب التهذيب (2/ 79)، والكاشف للذهبي (2/ 296).

عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ (¬1) يَقُولُ فِي الْقَدَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَحَجَبَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا غَيْلَانُ، مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ؟ قَالَ عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ: فَأَشَرْتُ إِلَيْهِ أَلَّا يَقُولَ شَيْئًا، قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا *إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا *إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا *} (¬2)، قَالَ عُمَرُ: اقْرَأْ إِلَى (¬3) آخِرِ السُّورَةِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *} (¬4)، ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ يَا غَيْلَانُ؟ قَالَ: أَقُولُ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَبَصَّرْتَنِي، وَأَصَمَّ فَأَسْمَعْتَنِي، (وَضَالًّا فَهَدَيْتَنِي) (¬5). فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ غَيْلَانُ صَادِقًا وَإِلَّا فَاصْلُبْهُ (¬6). قَالَ: فَأَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْقَدَرِ، فَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ دَارَ الضَّرْبِ بِدِمَشْقَ. فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى هِشَامٍ (¬7) تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ هِشَامٌ فَقَطَعَ يَدَهُ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ وَالذُّبَابُ عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: يَا غَيْلَانُ، هَذَا قَضَاءٌ وَقَدَرٌ. قَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا هَذَا قَضَاءٌ ولا قدر، فبعث إليه هشام فصلبه" (¬8). ¬

(¬1) هو غيلان بن مسلم الدمشقي، القدري، تنسب إليه فرقة الغيلانية من القدرية، وهو ثاني من تكلم في القدر ودعا إليه، فقد سبقه معبد الجهني، قتل بسبب بدعته وصلب على باب كيسان بدمشق. انظر: ميزان الاعتدال (3/ 338) ولسان الميزان (4/ 424) والأعلام للزركلي (5/ 124)، والملل والنحل للشهرستاني (ص46). (¬2) سورة الإنسان: آية (1 ـ 3). (¬3) ساقطة من (ر). (¬4) سورة الإنسان: آية (30، 31). (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (خ). (¬6) في (ط): "فاصلة"، وفي (ت): "فأصابه". (¬7) هو الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بن مروان، بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك، سنة خمس ومائة، وكان حازم الرأي، ذكياً، مدبراً، فيه حلم وأناة. توفي سنة خمس وعشرين ومائة. انظر: البداية والنهاية (9/ 365)، سير أعلام النبلاء (5/ 351)، فوات الوفيات (4/ 238). (¬8) روى هذه القصة الفريابي في القدر (279)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (4/ 712 ـ 713)، والإمام الآجري في الشريعة (ص228) بلفظ المؤلف تماماً، كما=

وَالثَّالِثُ (¬1): لِأَنَّ الْحَرُورِيَّةَ جَرَّدُوا السُّيُوفَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَهُوَ غَايَةُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ (¬2) مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ شَائِعٌ، وَسَائِرُهُمْ يُفْسِدُونَ بِوُجُوهٍ مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ تَقْتَضِيهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (¬3)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (¬4)، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ الْأُمَّةَ تَتَفَرَّقُ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً) (¬5). وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِمُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ (¬6) أَيْضًا، فَقَدْ وَافَقَ أَبَاهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ (¬7). ثُمَّ فَسَّرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ (¬8) أَنَّ ذَلِكَ بسبب الزيغ الحاصل فيهم، وذلك قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (¬9)، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى آيَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (¬10) الْآيَةَ. فَإِنَّهُ (¬11) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَدْخَلَ (¬12) الْحَرُورِيَّةُ في الآيتين بالمعنى، وهو الزيغ ¬

=ذكرها بلفظها ومن نفس الطريق الإمام ابن بطة في كتاب القدر من كتاب الإبانة الكبرى (ص339 ـ 440)، (وهو رسالة دكتوراه في جامعة أم القرى، بتحقيق الدكتور عبد الله آدم الأثيوبي)، وروى قصته أيضاً مع عمر بن عبد العزيز عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 429). (¬1) يريد الوصف الثالث في آية البقرة والرعد، وهو الفساد في الأرض. (¬2) في (ر): "في كثير". (¬3) سورة آل عمران: آية (105). (¬4) سورة الأنعام: آية (159). (¬5) تقدم تخريج حديث الافتراق وبيان صحته في المقدمة (ص12)، وسوف يذكر المؤلف حديث الافتراق وبعض رواياته في الباب التاسع (2/ 189) من المطبوع. وقد جمع الشيخ سلمان العودة أحاديث الافتراق ودرس أسانيدها في كتابه "صفة الغرباء" (ص20 ـ 50). (¬6) هو ابن سعد بن أبي وقاص. تقدم ذكره (ص99). (¬7) انظر: الرواية الأولى التي ذكرها المؤلف (ص99). (¬8) تقدمت هذه الرواية (ص99). (¬9) سورة الصف: آية (5). (¬10) سورة آل عمران: آية (7). (¬11) في (ر): "فكأنه". (¬12) عبارة (خ) و (ط): "فإنه أدخل رضي الله عنه ... ".

فِي إِحْدَاهُمَا (¬1)، وَالْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأُخْرَى (¬2) لِأَنَّهَا فيهم موجودة. فآية الرعد (¬3) تشمل (¬4) بِلَفْظِهَا، لِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لُغَةً، وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْكُفَّارِ خُصُوصًا فَهِيَ تُعْطِي أَيْضًا فِيهِمْ (¬5) حُكْمًا مِنْ جِهَةِ تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ (¬6) عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ (¬7) حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الأوصول (¬8). وَكَذَلِكَ آيَةُ الصَّفِّ، لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِقَوْمِ مُوسَى عليه السلام ومن هنا كان (سعد) (¬9) يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ ـ أَعْنِي الْحَرُورِيَّةَ ـ، لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِيهَا: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬10) وَالزَّيْغُ أَيْضًا كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمْ، فَدَخَلُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (¬11). وَمِنْ هُنَا يُفْهَمُ (¬12) أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ مِنْ أهل البدعة بالحرورية، بل تعم ¬

(¬1) وهي آية الصف {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} رقم (5). (¬2) وهي آية البقرة رقم (27)، وآية الرعد رقم (25)، فكلا الآيتين تناول الأوصاف الثلاثة: وهي نقض عهد الله من بعد ميثاقه، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض. (¬3) ذكر المؤلف آية الرعد ولم يذكر آية البقرة، فلعله اكتفى بالاستشهاد بها، علماً بأن الإمام ابن حجر في الفتح تكلم على الآية التي استشهد بها سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على أنها آية البقرة. انظر الفتح (8/ 425). (¬4) في (ر): "تشتمل". (¬5) أي: في الخوارج وغيرهم من المبتدعة الذين يتصفون بما ورد في الآية من الصفات. (¬6) في (ت): "الأجزاء". (¬7) أي المذكورة في آية البقرة رقم (27). انظر هامش (8). (¬8) يريد بهذا ـ والله أعلم ـ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وهو قول جمهور الأصوليين. انظر: روضة الناظر لابن قدامة مع شرحه نزهة الخاطر العاطر (2/ 123)، إرشاد الفحول للشوكاني (133)، أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 273). في جميع النسخ "شعبة"، والصواب "سعد" كما في صحيح البخاري، وهو سعد ابن أبي وقاص كما مر في الحديث (ص99). (¬9) سورة الصف: آية (5). وتسمية سعد رضي الله عنه لهم بالفاسقين قد يكون بسبب ذكر ذلك في سورة البقرة: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}، ثم وصفهم الله بالأوصاف المذكورة. انظر سورة البقرة: آية (26، 27). (¬10) سورة الصف: آية (5). (¬11) في (غ): "يعلم".

كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الَّتِي أَصْلُهَا الزَّيْغُ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى. وَإِنَّمَا فَسَّرَهَا سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْحَرُورِيَّةِ، لأنه إنما سئل عنهم، (وإنما سُئِلَ عَنْهُمْ) (¬1) عَلَى الْخُصُوصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَنَّهُمْ من (¬2) أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَلَا يقتضى ذلك تخصيصاً. وأما الآية (¬3) المسؤول عَنْهَا أَوَّلًا، وَهِيَ آيَةُ الْكَهْفِ (¬4)، فَإِنَّ سَعْدًا نَفَى أَنْ تَشْمَلَ الْحَرُورِيَّةَ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أَنَّهُ فَسَّرَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا بِالْحَرُورِيَّةِ أَيْضًا. فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (¬5) عَنْ أَبِي (¬6) الطُّفَيْلِ (¬7) قَالَ: (قَامَ (¬8) ابْنُ الكوَّاء (¬9) إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ¬

(¬1) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط). (¬2) ساقطة من (م) و (ط). (¬3) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬4) هي آية الكهف رقم (103) وهي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *}. (¬5) تقدم ذكره وترجمته (ص100). (¬6) في (ط): "ابن". (¬7) هو الصحابي عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني، خاتم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، كان من شيعة الإمام علي رضي الله عنه وكان ثقة فيما ينقله، صادقاً، عالماً. شاعراً، فارسا. شهد مع علي رضي الله عنه حروبه، وعمر دهراً طويلاً. توفي بمكة سنة عشر ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 467)، الإصابة لابن حجر (4/ 113)، أسد الغابة لابن الأثير (3/ 145). (¬8) ساقطة من (ت). (¬9) هو عبد الله بن الكواء اليشكري. خرج مع الخوارج إلى حروراء، وجعلوه أميراً للصلاة، وكان من أول من بايع عبد الله بن وهب الراسي أمير الخوارج وقد رشحه الخوارج ليجادل الإمام علي رضي الله عنه فيما نقموا عليه، وقد رجع عن مذهب الخوارج، وعاود صحبة علي رضي الله عنه. انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير (3/ 202، 203)، الملل والنحل للشهرستاني (ص117)، دراسة عن الفرق لأحمد الجلي (ص55)، والفرق بين الفرق (2/ 117)، لسان الميزان (4/ 406).

وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} (¬1)؟ قَالَ: مِنْهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ) (¬2). وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ فِي تَفْسِيرِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ (¬3). وَفِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْآيَةِ، فَقَالَ لَهُ: (ارْقَ إليَّ أُخْبِرْكَ) وَكَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَرَقِيَ إلى دَرَجَتَيْنِ، فَتَنَاوَلَهُ بِعَصًا كَانَتْ فِي يَدِهِ، فَجَعَلَ يضربه بها، ثم قال له (¬4) علي رضي الله عنه: (أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ) (¬5). وَخَرَّجَ عَبْدُ (بْنُ حُمَيْدٍ) (¬6) أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ (¬7) قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَوْد (¬8) أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه خَطَبَ النَّاسَ بِالْعِرَاقِ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَصَاحَ بِهِ ابْنُ الْكَوَّاءِ مِنْ أَقْصَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين، من ¬

(¬1) سورة الكهف: آية (104). (¬2) رواه ابن جرير في تفسيره (16/ 33 ـ 34)، وعبد الله بن أحمد في السنة عن أبي الطفيل (2/ 636)، وعبد الرزاق في التفسير (2/ 348)، وابن أبي حاتم في التفسير (7/ 2393)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لعبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن هَذِهِ الْآيَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *} قال: لا أظن إلا أن الخوارج منهم. انظر الدر المنثور (5/ 465). (¬3) هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، شيخ الإسلام، وإمام الحفاظ، قال ابن عيينة وابن معين وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث. وقد ساد الناس بالورع والعلم، وكان رأساً في الزهد والتأله والخوف، رأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم. توفي سنة إحدى وستين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 229)، طبقات ابن سعد (6/ 371)، حلية الأولياء (6/ 356). وانظر: تفسير سفيان الثوري فقد ذكر الخبر عند الآية (ص179). (¬4) ساقطة من (م) و (ر). (¬5) رواه الإمام ابن جرير مختصراً. انظر: تفسير ابن جرير (16/ 27). (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (غ) و (ر). (¬7) هو محمد بن جبير بن مطعم النوفلي، إمام، فقيه، ثبت، كان أحد العلماء الأشراف، وصاحب كتب وعناية بالعلم، روى عن أبيه وعمر وابن عباس، وروى عنه الزهري وغيره. توفي بالمدينة سنة مائة. انظر: التاريخ الكبير (1/ 52)، السير (4/ 543)، والتقريب (2/ 150). (¬8) قال السمعاني في الأنساب: الأودي بفتح الألف وسكون الواو، وفي آخرها الدال المهملة، هذه النسبة إلى أود بن صعب بن سعد العشيرة من مذحج. انظر الأنساب (1/ 226).

الأخسرين أعمالاً؟ قال: "أنت وأصحابك (¬1) ". فَقُتِلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ يَوْمَ الْخَوَارِجِ (¬2). وَنَقَلَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَهُ (¬3) فَقَالَ: (أَنْتُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ، وَأَهْلُ الرِّيَاءِ، وَالَّذِينَ يُحْبِطُونَ الصَّنِيعَةَ بِالْمِنَّةِ (¬4). فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى (¬5) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ حَرُورَاءَ بَعْضُ مَنْ شَمِلَتْهُ الْآيَةُ وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِهِمْ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬6)، فوصفهم (¬7) بِالضَّلَالِ مَعَ ظَنِّ الِاهْتِدَاءِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ عُمُومًا، كَانُوا مِنْ أَهْلِ الكتاب أو لا (¬8)، من حيث قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" (¬9). وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّهِ (¬10). فَقَدْ يَجْتَمِعُ التفسيران في الآية، تفسير سعد رضي الله عنه بأنهم اليهود والنصارى، وتفسير علي رضي الله عنه بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدْعَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى الابتداع. ولذلك فسر سعد (¬11) كُفْرَ النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا فِي الْجَنَّةِ غَيْرَ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ بِالرَّأْيِ (¬12). فَاجْتَمَعَتِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ (¬13) عَلَى (¬14) ذَمِّ الْبِدْعَةِ وَأَهْلِهَا (¬15)، وَأَشْعَرَ ¬

(¬1) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬2) تقدم قريباً. (¬3) أي: سأله عن الآية المذكورة. (¬4) ذكر الماوردي في تفسيره مما قيل في الآية: أنهم من يصطنع المعروف ويمن عليه. ولم يعزه. (2/ 510). (¬5) هي رواية أبي الطفيل عند عبد بن حميد. وتقدمت (ص106). (¬6) سورة الكهف: آية (104). (¬7) في (ط): "وصفهم". (¬8) في (ت): "أولى". (¬9) سيذكر المؤلف الحديث بتمامه (ص115)، وسأذكر تخريجه هناك. (¬10) تكلم المؤلف عن هذا المعنى في آخر فصل من فصول الباب الثاني (ص255). (¬11) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬12) في (ر): "غير ما هو عليه، وهو التأويل بالرأي". (¬13) وهي آية البقرة: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (27)، وآية الكهف {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *} (103)، وآية الصف {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (5). وقد تقدم استشهاد سعد وعلي رضي الله عنهما بتلك الآيات. (¬14) ساقطة من (م). (¬15) ساقطة من (ط).

كلام سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ اقْتَضَتْ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ المبتدعة فهم مقصودون بِمَا فِيهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْخِزْيِ وَسُوءِ الْجَزَاءِ، إِمَّا بِعُمُومِ اللَّفْظِ (¬1)، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْوَصْفِ (¬2). وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى (¬3) بِكِتَابٍ فِي كَتِفٍ فَقَالَ: (كَفَى بِقَوْمٍ حُمْقًا، أَوْ (¬4) قَالَ ضَلًالًا، أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَى غَيْرِ نَبِيِّهِمْ، أَوْ كِتَابٍ إِلَى غَيْرِ كِتَابِهِمْ)، فَنَزَلَتْ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (¬5) الآية (¬6). وخرج (¬7) عبد بن حميد (¬8) عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬9)، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬10) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (¬11). وَخَرَّجَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في قول الله: ¬

(¬1) مثل آية البقرة (27) {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وكذلك آية الرعد (25) فإن فيها نفس الأوصاف المذكورة في آية البقرة. (¬2) مثل آية الصف (5) {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وتقدم استشهاد سعد رضي الله عنه بهذه الآيات. (¬3) في (م) و (خ) و (ت): "أوتى". (¬4) في (ت): "و" بدل أو. (¬5) سورة العنكبوت: آية (51). (¬6) رواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه: باب من لم ير كتابة الحديث، عن يحيى بن جعدة مرسلاً (1/ 134)، ورواه الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره (21/ 7)، ورواه الإمام أبو داود في المراسيل (ص454)، ورواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم، باب مختصر في مطالعة كتب أهل الكتاب والرواية عنهم (2/ 41)، وذكره القاضي عياض في الشفا (2/ 38)، وعزاه الشوكاني في فتح القدير أيضاً للفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم (4/ 209)، وأخرجه الإسماعيلي في معجمه (384) عن يحيى بن جعدة، عن أبي هريرة مرفوعاً، وذكره بمعناه. (¬7) في (خ): "وخرجه". (¬8) في (ط): "عبد الحميد"، وتقدمت ترجمة عبد بن حميد (ص100). (¬9) رواه الشيخان، وتقدم تخريجه (ص58). (¬10) سورة آل عمران: آية (31). (¬11) ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى عبد بن حميد (2/ 30).

{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ *} (¬1) قَالَ: (مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ يُعْمَلُ بِهَا من بعدها (¬2) " (¬3). وَهَذَا التَّفْسِيرُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (¬4) قَالَ: (مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ صَالِحَةٍ يُعْمَلُ بها (¬5)، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ (¬6) من أوزارهم شيئاً) (¬7). خرجه ابن المبارك (¬8) وَغَيْرُهُ (¬9). وَجَاءَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ (¬10) وَأَبِي قِلَابَةَ (¬11) وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: (كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ أَوْ فِرْيَةٍ ذَلِيلٌ". وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا ¬

(¬1) سورة الانفطار: آية (5). (¬2) في (خ) و (ط): "بعده". (¬3) ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عنه، وعزاه إلى عبد بن حميد (8/ 438)، وقريب منه عند ابن جرير في تفسيره (36557). (¬4) هو ابن مسعود. (¬5) في (م) و (خ) و (ت): "يعمل بها من بعدها". (¬6) ساقطة من (م) و (ت) و (غ). (¬7) في (م) و (خ) و (ت) و (غ): "شيء"، وما أثبته هو الموافق للرواية. (¬8) في (ت): "مالك". (¬9) خرج هذا الأثر عن ابن مسعود الإمام ابن المبارك في كتاب الزهد له (ص517)، وعزاه الإمام السيوطي في الدر المنثور لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (8/ 438). وذكره الإمام البغوي في شرح السنة، باب ثواب من دعا إلى هدى أو أحيا سنة، وذكره بلفظ أخصر (1/ 232). (¬10) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران، الإمام الكبير، حافظ العصر، طلب الحديث وهو حدث، ولقي الكبار، وأتقن وجود، وجمع وصنف، وهو ومالك نظيران في الإتقان. توفي سنة ثمان وتسعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 454)، الجرح والتعديل للرازي (1/ 32)، وتهذيب التهذيب (4/ 117). (¬11) هو عبد الله بن زيد بن عمرو، الجرمي، أبو قلابة البصري، كان ثقة فاضلاً كثير الحديث، كثير الإرسال، ابتلي في دينه وبدنه، مات بالشام هارباً من القضاء سنة أربع ومائة. انظر: تقريب التهذيب (1/ 417)، سير أعلام النبلاء (4/ 468)، طبقات ابن سعد (7/ 183)، حلية الأولياء (2/ 282).

الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ *} (¬1) " (¬2). وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} (¬3) (يَقُولُ: (مَا قَدَّمُوا مِنْ خَيْرٍ، وَآثَارَهُمُ) (¬4) الَّتِي أَوْرَثُوا النَّاسَ بَعْدَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ) (¬5). وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَوْنٍ (¬6) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ (¬7) أنه قال: إني ¬

(¬1) سورة الأعراف: آية (152). (¬2) روى قول سفيان بن عيينة ابن جرير في التفسير (15161)، وأبو نعيم في الحلية، ولفظه: "ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، قال: وهي في كتاب الله، قالوا: وأين هي من كتاب الله؟ قال: أما سمعتم قوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، قالوا: يا أبا محمد، هذه لأصحاب العجل خاصة. قال: كلا، اتلوا ما بعدها: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة. (انظر الحلية 7/ 280). وكذلك ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 266)، وذكر ابن كثير قوله مختصرا. انظر تفسيره (2/ 395). وذكر قول سفيان الإمام السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 565 ـ 566). وروى قول أبي قلابة وابن جرير في التفسير (15158)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 143)، وذكره السيوطي عنه في الدر المنثور، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 565). (¬3) سورة يس: آية (12). (¬4) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬5) أخرجه سفيان الثوري في التفسير (792)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور. وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (7/ 48). وأشار إلى طرف منه الإمام ابن كثير في تفسيره (3/ 900). (¬6) هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزني، مولاهم، كان من أئمة العلم والعمل، وكان مشهوراً في الحفظ، وفي الفقه، وفي العبادة والفضل، وكان ثقة ثبتاً فاضلاً. توفي سنة إحدى وخمسين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 364)، تهذيب التهذيب (5/ 346)، شذرات الذهب (1/ 230). (¬7) هو محمد بن سيرين الأنصاري الأنسي البصري، مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان رحمه الله فقيها، عالماً، ورعا، كثير الحديث. شهد له أهل العلم والفضل بذلك. توفي سنة عشر ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 606)، طبقات ابن سعد (7/ 193)، حلية الأولياء (2/ 263).

أَرَى أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً (¬1) أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ (¬2): {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (¬3) الآية (¬4). وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ (¬5) عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ (¬6) أَنَّهُ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْجَوْزَاءِ بِيَدِهِ لِأَنْ تَمْتَلِئَ دَارِي قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُجَاوِرَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَقَدْ دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {هَا أَنْتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬7)) (¬8). وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ وَالْمُشِيرَةُ إِلَى ذَمِّهِمْ وَالنَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَةِ أَحْوَالِهِمْ كَثِيرَةٌ. فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَفِيهِ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ الْمَوْعِظَةُ لِمَنِ اتَّعَظَ، والشفاء لما في الصدور. ¬

(¬1) عير واضحة في (ت). (¬2) في (ت): "أهل الأهواء". (¬3) سورة الأنعام: آية (68). (¬4) أخرجه الآجري في الشريعة (2/ 889) دون قوله: "قال ابن عون .. ". رواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى، باب التحذير من قوم يمرضون القلوب، عن ابن عون، قال: كان محمد يرى .. وذكره (2/ 431). وأخرج ابن أبي حاتم في التفسير (4/ 7428) الشطر الثاني منه، وذكره الذهبي في السير (4/ 610)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عن ابن سيرين، وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 292). (¬5) تقدمت ترجمته (ص78). (¬6) هو أوس بن عبد الله الربعي البصري، ثقة، من كبار العلماء، حدث عن عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، وكان أحد العباد الذين قاموا على الحجاج، فقيل: إنه قتل يوم الجماجم سنة ثلاث وثمانين. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 371)، تهذيب التهذيب (1/ 383)، شذرات الذهب (1/ 93). (¬7) سورة آل عمران: آية (119). (¬8) انظر: الشريعة (5/ 2548 ـ 2549) ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى، باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان عن أبي الجوزاء وذكره بلفظين متقاربين أحدهما لفظ المؤلف. انظر الإبانة الكبرى (2/ 468 ـ 469). ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة، سياق ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في النهي عن مناظرة أهل البدع .. وذكره بلفظ أخصر من لفظ المؤلف، وليس فيه الاستشهاد بالآية (1/ 131)، وذكره الذهبي في السير (4/ 372).

فصل

فصل الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ النَّقْلِ: مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ، إِلَّا أَنَّا نَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْبَاقِي، وَنَتَحَرَّى فِي ذَلِكَ ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الصِّحَّةِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا (¬1) مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" (¬2)، وَفِي رِوَايَةٍ لمسلم: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) (¬3). وَهَذَا الْحَدِيثُ عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ ثُلُثَ الْإِسْلَامِ (¬4)، (لأنه جمع وجوه المخالفة لأمره عليه السلام) (¬5). ¬

(¬1) في (ط): "في أمرنا هذا". (¬2) رواه الإمام البخاري في كتاب الصلح من صحيحه، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود وذكره (5/ 301 مع الفتح)، ورواه مسلم في كتاب الأقضية من صحيحه، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور وذكره (12/ 16 مع النووي)، ورواه ابن ماجه في المقدمة من سننه، باب تعظيم حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكره (1/ 7)، ورواه الإمام أحمد في المسند (6/ 270) جميعهم عن عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه بهذا اللفظ الإمام مسلم في نفس الموضع السابق (12/ 16). (¬4) وهو مروي عن الإمام أحمد كما ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، وذكر عن الشافعي أنه قال: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من الفقه. انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب عند شرح حديث (إنما الأعمال بالنيات) (ص5). (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).

وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا كَانَ بِدْعَةً أَوْ مَعْصِيَةً. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ (¬1) عَبْدِ الله (¬2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ (خَيْرَ الْحَدِيثِ) (¬3) كِتَابُ اللَّهِ، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ (¬4)) (¬5). وَفِي (¬6) رِوَايَةٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ، يَحْمَدُ (اللَّهَ وَيُثْنِي) (¬7) عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أهله، ثم يقول: (من يهده الله فلامضل له، ومن يضلل الله فَلَا هَادِيَ (¬8) لَهُ، وَخَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ) (¬9). وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ (¬10): (وَكُلُّ محدثة بدعة، وكل بدعة في النار) (¬11). ¬

(¬1) ساقطة من (ت). (¬2) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي، صحابي ابن صحابي غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين انظر: الإصابة (1/ 222)، أسد الغابة (1/ 307)، السير (3/ 189). (¬3) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬4) بياض في (ت). (¬5) رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر (16/ 153 مع النووي)، والإمام أحمد في المسند (3/ 319، 371)، والإمام النسائي في سننه (3/ 188)، والإمام الدارمي في سننه (1/ 80)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 76)، والإمام ابن نصر المروزي في السنة (ص27)، والإمام البيهقي في الاعتقاد والهداية (ص152)، والإمام الآجري في الشريعة (ص45 ـ 46)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص30)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 16). (¬6) بياض في (ت). (¬7) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬8) بياض في (ت). (¬9) روى هذه الرواية الإمام مسلم في صحيحه (16/ 156)، والإمام أحمد في المسند (3/ 371). (¬10) في (ت): "النسائي". (¬11) روى هذه الزيادة الإمام النسائي في سننه عن جابر بلفظ "وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضالة في النار" (3/ 188)، ورواها أيضاً الإمام الآجري في الشريعة (ص45 ـ 46). وقد صحح الشيخ ناصر الدين الألباني هذه الزيادة كما في إرواء الغليل (3/ 73)، وكذلك في تعليقه على المشكاة (1/ 51).

وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يخطب بهذه الخطبة (¬1). وعن ابن مسعود رضي الله عنه مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ، الْكَلَامُ وَالْهُدَى، فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وأحسن الهدى هدى محمد صلّى الله عليه وسلّم، أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، إِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ" (¬2). وَفِي لَفْظٍ: (غَيْرَ أَنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ) (¬3). وَكَانَ ابْنُ مسعود يخطب بها (¬4) كُلَّ خَمِيسٍ (¬5). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ (¬6): (إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ، الْهُدَى وَالْكَلَامُ، فَأَفْضَلُ الْكَلَامِ ـ أَوْ أَصْدَقُ الْكَلَامِ ـ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهُدَى هُدَى محمد (¬7)، وشر الأمور محدثاتها، ألا (¬8) وَكُلُّ (¬9) مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، أَلَا لَا يَتَطَاوَلَنَّ (¬10) عَلَيْكُمُ ¬

(¬1) رواه عن عمر رضي الله عنه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة برقم (1197) (4/ 659)، ورواه الإمام محمد بن نصر المروزي في السنة عنه رضي الله عنه (ص28)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص31)، ورواه عبد الله بن أحمد في السنة، وله قصة مع الجاثليق (وهو لقب كبير من أمراء الروم) (2/ 423). (¬2) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها موقوفاً على ابن مسعود (ص31). (¬3) رواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه عن ابن مسعود (1/ 72)، وابن نصر المروزي في السنة (ص29)، وقوله: "وكل ضلالة في النار" رواها ابن نصر في السنة (ص29)، وذكر قريباً منه الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم وصححه (ص254). (¬4) في (غ): "بهذا". (¬5) تحديد ابن مسعود يوم الخميس للموعظة ذكره البخاري في كتاب العلم من صحيحه (1/ 163)،. وقد صرحت بعض الروايات بأنه كان يخطب بهذه الخطبة كل خميس كرواية ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص31). (¬6) مطموسة في (ت). (¬7) في (خ): "هدى الله بل محمد". وهو خطأ أضرب عنه الناسخ. (¬8) ساقط من (م) و (ت). (¬9) مطموسة في (ت). (¬10) في (ت): "يتطاولون".

الْأَمْرُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، وَلَا يُلْهِيَنَّكُمُ الْأَمَلُ، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، أَلَا إِنَّ بَعِيدًا مَا لَيْسَ آتِيًا) (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: (أَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَ {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ *} (¬2)) (¬3). وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" (¬4). وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مسعود (¬5). ¬

(¬1) روى هذه الرواية عبد الرزاق في المصنف (20076)، والطبراني في الكبير (8518، وابن عبد البر في الجامع (2301)، الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عن ابن مسعود مرفوعاً إلى قوله: "فتقسو قلوبكم". (1/ 77). (¬2) سورة الأنعام: آية (134). (¬3) رواه الإمام البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة من صحيحه عن ابن مسعود موقوفاً (13/ 249) ورواه أيضاً في كتاب الأدب بلفظ أخصر (10/ 509)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها دون ذكر الآية (ص31)، ورواه الإمام ابن نصر المروزي بلفظ أطول (ص28)، والإمام البيهقي في الاعتقاد والهداية (ص154). (¬4) رواه الإمام ابن ماجه في مقدمة سننه عن ابن مسعود مرفوعاً، وما ذكره المؤلف جزء من حديث طويل. انظر سنن ابن ماجه (1/ 18)، ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة، وزاد "ألا لا يطول عليكم الأمد فتقسو قلوبكم" (1/ 77)، ورواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة كما أورده المؤلف (1/ 16). وفي سنده أبو إسحاق السبيعي ثقة عابد، ولكنه مدلس، وقد اختلط بآخره، ولم يصرح بالسماع. انظر تقريب التهذيب (2/ 73)، تهذيب التهذيب (8/ 63) وقال عنه الشيخ الألباني في ظلال الجنة: "حديث صحيح، رجال إسناده كلهم ثقات، رجال مسلم، غير أن أبا إسحاق وهو عمرو بن عبد الله السبيعي مدلس وكان اختلط. ولكن الحديث يشهد له ما قبله وما بعده". انظر ظلال الجنة (1/ 17) ويريد بما قبله حديث جابر المتقدم وهو في مسلم كما مر، ويريد بما بعده حديث العرباض بن سارية وفيه "اياكم والمحدثات فإن كل محدثة ضلالة". (¬5) تقدم حديث جابر في مسلم مرفوعاً (ص115)، وهو في نفس المعنى، وكذلك أثر ابن مسعود هذا جاء مرفوعاً كما خرجناه في الفقرة السابقة، ثم إن أثر ابن مسعود فيه جزء له حكم الرفع وهو قوله: "وأحسن الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم" فإن فيه إخباراً عن صفة من=

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من دعا إلى هدى (¬1) كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ يَتْبَعُهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ (¬2) مِثْلُ آثَامِ مَنْ يَتْبَعُهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا) (¬3). وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عنه عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أوزارهم شيئاً). خرجه التِّرْمِذِيُّ (¬4). وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ وغيرهما عن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ (¬5): (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ (¬6) وَالطَّاعَةِ (¬7)، وَإِنْ كَانَ عبداً حبشياً، فإنه من يعش (¬8) منكم ¬

=صفاته صلّى الله عليه وسلّم وهو أحد أقسام المرفوع. انظر كلام الإمام ابن حجر في الفتح (13/ 252). (¬1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "الهدى". (¬2) غير واضحة في (ت). (¬3) رواه الإمام مسلم في كتاب العلم من صحيحه، باب من سن سنة حسنة .. عن أبي هريرة (16/ 227 ـ مع النووي)، والإمام أبو داود في كتاب السنة من سننه برقم (4609)، و (4/ 200)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى برقم (2674)، (5/ 42)، والإمام ابن ماجه في المقدمة من سننه، باب من سن سنة حسنة برقم (206)، (1/ 75)، والإمام أحمد في المسند (3/ 397)، والإمام ابن أبي عاصم في السنة (1/ 52)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 311). (¬4) رواه الإمام مسلم في كتاب الزكاة من صحيحه عن المنذر بن جرير عن أبيه (7/ 102 ـ 104 مع النووي)، ورواه الإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب من دعا إلى هدى عن جرير بن عبد الله بلفظ المؤلف برقم (2675)، (5/ 42)، ورواه الإمام أحمد في المسند (4/ 357)، والدارمي في سننه (1/ 140)، وابن خزيمة في صحيحه (2477)، وابن أبي شيبة في المصنف (9802). (¬5) في (ر): "قال". (¬6) مطموسة في (ت). (¬7) في (ط): "والسمع والطاعة لولاة الأمر". (¬8) في (م) و (خ) و (ط): "يعيش"، والصواب ما أثبته، وبه وردت الرواية.

بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، (وَعَضُّوا عَلَيْهَا) (¬1) بِالنَّوَاجِذِ (¬2)، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، (وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (¬3)). وَرُوِيَ عَلَى وُجُوهٍ مِنْ طُرُقٍ (¬4). وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ (¬5) (أَنَّهُ قَالَ) (¬6): يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، قَوْمٌ (يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سنتي) (¬7)، ويهتدون بغير هديي) (¬8)، وقال: فقلت: هل بَعْدَ ذَلِكَ [الْخَيْرِ] (¬9) مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: ((نَعَمْ، دعاة على نار) (¬10) جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا (¬11) قَذَفُوهُ فِيهَا)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا قَالَ: ((نَعَمْ هُمْ مِنْ) (¬12) جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا). قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ (¬13): (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ (¬14) وَإِمَامَهُمْ). قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ (¬15) إِمَامٌ وَلَا جَمَاعَةٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كلها ولو (أن تعض) (¬16) بأصل شجرة حتى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) (¬17). وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ على نحو آخر (¬18). ¬

(¬1) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬2) النواجذ من الأسنان الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك. والأكثر الأشهر أنها أقصى الأسنان. انظر النهاية (5/ 20). (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬4) تقدم تخريج الحديث مستوفى. (¬5) في (غ) و (ر): "خزيمة" وهو خطأ. (¬6) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬7) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬8) في (ت): "هدى". (¬9) في جميع النسخ: "الشر" والتصويب من البدع والنهي عنها لابن وضاح، ومصادر التخريج. (¬10) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬11) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬12) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬13) ساقطة من (ت). (¬14) بياض في (ت). (¬15) ساقطة من جميع النسخ عدا (ر). (¬16) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬17) انظر: البدع والنهي عنها لابن وضاح (ص40). (¬18) رواه الإمام البخاري في كتاب المناقب من صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه مع اختلاف يسير في اللفظ (6/ 615 ـ مع الفتح)، وفي كتاب الفتن (13/ 35)، والإمام مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه (12/ 236 ـ 238 ـ مع النووي)، والإمام ابن ماجه مختصرا برقم (3979)، (2/ 1317)، والإمام البغوي في شرح السنة (15/ 14)، والبيهقي في سننه (8/ 156).

وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيفَةِ: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ (¬1). مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ (¬2) يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا (¬3)) (¬4). وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سِيَاقِ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ حَدَثٍ أُحْدِثَ فِيهَا مِمَّا يُنَافِي الشَّرْعَ، وَالْبِدَعُ مِنْ أَقْبَحِ الْحَدَثِ. وقد استدل مالك رضي الله عنه به (¬5) فِي مَسْأَلَةٍ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا بِحَوْلِ اللَّهِ (¬6). وَهُوَ وَإِنْ (¬7) كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَدِينَةِ فَغَيْرُهَا أَيْضًا يدخل في المعنى. ¬

(¬1) عير وثور جبلان في المدينة، انظر معجم البلدان لياقوت الحموي (3/ 26)، (6/ 246)، وانظر فتح الباري (4/ 82). (¬2) كتبت في (ت): "فوق السطر". (¬3) الصرف التوبة، وقيل النافلة. والعدل الفدية، وقيل الفريضة. انظر النهاية لابن الأثير (3/ 24)، وانظر غريب الحديث للقاسم بن سلام (1/ 455)، وقال الإمام ابن حجر في الفتح: واختلف في تفسيرهما، فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري، وعن الحسن البصري بالعكس ... ، ولم يرجح الحافظ رحمه الله. انظر الفتح (4/ 86). (¬4) رواه الإمام البخاري في كتاب فضائل المدينة من صحيحه، باب حرم المدينة عن علي رضي الله عنه بلفظ أطول (4/ 81 ـ مع الفتح)، وفي كتاب الجزية والموادعة باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة (6/ 273)، وفي مواضع أخرى، ورواه الإمام مسلم في كتاب الحج من صحيحه، باب فضل المدينة عن علي رضي الله عنه (9/ 142 ـ 144)، والإمام أبو داود في كتاب الولاء والهبة من سننه، باب في تحريم المدينة برقم (2034)، (2/ 223)، والإمام الترمذي في كتاب الولاء والهبة من سننه، باب ما جاء فيمن تولى غير مواليه برقم (2127)، (4/ 381)، والإمام أحمد في المسند (1/ 81، 126، 151)، والإمام عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 542)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 119). (¬5) في (ط): "استدل به مالك". (¬6) يريد قصة وقعت لعبد الرحمن بن مهدي مع مالك رحمهما الله. وسيأتي ذكرها (ص222). (¬7) في (خ): "إن" بدون الواو.

وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ، فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ) الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ فِيهِ: (فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: ألا هلم، أَلَا هَلُمَّ، (أَلَا هَلُمَّ) (¬1)، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: فَسُحْقًا، فَسُحْقًا، فَسُحْقًا (¬2)) (¬3). حَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى (¬4) أَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ (¬5). وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا خَرَّجَهُ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ (¬6) عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ (¬7) قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بن مالك رضي الله عنه فقلت (¬8): إن ها هنا قَوْمًا يَشْهَدُونَ عَلَيْنَا بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالْحَوْضِ والشفاعة، فهل ¬

(¬1) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬2) ساقطة من (ت). (¬3) رواه الإمام مالك في كتاب الطهارة من الموطأ، باب جامع الوضوء عن أبي هريرة رضي الله عنه (1، 29). ورواه الإمام مسلم في كتاب الطهارة من صحيحه، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء (3/ 137 ـ 139)، ورواه الإمام ابن ماجه في كتاب الزهد من سننه، باب ذكر الحوض (2/ 1439 ـ 1440)، ورواه الإمام أحمد في المسند (2/ 300، 408). (¬4) ساقط من (ت). (¬5) ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بهم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر رضي الله عنه فقاتلهم أبو بكر، حتى قتلوا وماتوا على الكفر، وقد ذكر عن البخاري عن قبيصة، كما ذكره الحافظ في الفتح، وهو الذي رحجه عياض والباجي. انظر الفتح (11/ 385 ـ 386). ومن العلماء من أدخل أهل الكبائر وأهل البدع في المراد بالحديث كما ذكره الحافظ عن الداودي وغيره. (نفس الموضع). (¬6) هو أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة بن سليمان القرشي الشامي، إمام، ثقة، كان محدث الشام، وصنف "فضائل الصحابة"، قدم دمشق في آخر عمره وحدث بها، وتوفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة. انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 412)، طبقات الحفاظ (ص353)، شذرات الذهب (2/ 365). (¬7) هو يزيد بن أبان الرقاشي، أبو عمرو البصري، القاص، زاهد ضعيف، مات قبل العشرين ومائة. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 361)، الكاشف للذهبي (3/ 240). (¬8) في (م) و (خ): "قال"، وصححت في هامش (خ)، وفي (ت): "قال فقلت".

سمعت من رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بين العبد وبين (¬1) الكفر أَوِ الشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَرَكَهَا فَقَدْ أَشْرَكَ، وَحَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ (¬2) إِلَى مَكَّةَ، أَبَارِيقُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، أَوْ قَالَ: كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ. لَهُ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، كُلَّمَا نَضَبَ أَمَدَّاهُ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَسَيَرِدُهُ أَقْوَامٌ ذَابِلَةٌ شِفَاهُهُمْ، فَلَا يُطْعَمُونَ مِنْهُ (¬3) قَطْرَةً وَاحِدَةً. مَنْ كَذَّبَ بِهِ الْيَوْمَ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ الشَّرَابَ يَوْمَئِذٍ) (¬4). فَهَذَا الحديث يدل (¬5) عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. فَنِسْبَتُهُمْ أَهْلَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ مِنْ أَوْصَافِ الْخَوَارِجِ (¬6)، وَالتَّكْذِيبُ بِالْحَوْضِ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ (¬7) وَغَيْرِهِمْ. مَعَ ما ¬

(¬1) ساقط من (ط). (¬2) أيلة بالفتح مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام .. وقيل هي آخر الحجاز وأول الشام. انظر معجم البلدان لياقوت (1/ 391). (¬3) ساقطة من (ر). (¬4) أخرج أول الحديث أبو يعلى في مسنده (4100) عن أنس رضي الله عنه، كما أخرجه مسلم عن جابر (134)، وابن ماجه في السنن (1080)، والدارقطني (2/ 41)، وذكر الحافظ في الفتح ذكر آخر الحديث وعزاه إلى البيهقي، ثم قال: "ويزيد ضعيف، لكن يقويه ما مضى، ويشبه أن يكون الكلام الأخير من كلام أنس". الفتح (11/ 468). وقد بحثت عنه عند البيهقي فلم أجده. وأحاديث الحوض صحيحة متواترة. انظر هامش (6). (¬5) ساقطة من (ط). (¬6) وقد تقدم في التعريف بالخوارج أن من أصولهم تكفير مرتكب الكبيرة. انظر (ص11). (¬7) قال ابن حجر في الفتح نقلاً عن القرطبي في المفهم: "مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمداً صلّى الله عليه وسلّم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي ... ، وأجمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة وأحالوه على ظاهره وغلوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله، فخرق إجماع السلف وفارق مذهب أئمة الخلف". قال ابن حجر: "قلت: أنكره الخوارج وبعض المعتزلة". انظر فتح الباري (11/ 467)، وقال ابن حزم رحمه الله في الفصل: "وأما الحوض فقد صحت الآثار فيه وهو كرامة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولمن ورد عليه من أمته، ولا ندري لمن أنكره متعلقاً، ولا يجوز مخالفة ما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا وغيره" (4/ 66).=

جاء (¬1) فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا هَلُمَّ" لِأَنَّهُ عَرَفَهُمْ بالغُرَّة (¬2) وَالتَّحْجِيلِ (¬3) الَّذِي جَعَلَهُ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّتِهِ (¬4)، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يَعْرِفْهُمْ بِالْعَلَامَةِ الْمَذْكُورَةِ (¬5). وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْعِظَةِ فَقَالَ: (إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا (¬6) {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (¬7)، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ (¬8) يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَأَنَّهُ سَيُؤْتَى (¬9) بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ*} (¬10)، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ منذ فارقتهم) (¬11). ¬

=وانظر في الأدلة الواردة في هذه المسألة: السنة لابن أبي عاصم (ص307 ـ 347)، الشريعة للآجري (ص352 ـ 357)، أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (6/ 1116 ـ 1126). (¬1) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬2) الغُرّ جمع الأغر، من الغُرَّة: بياض الوجه. النهاية (3/ 354). (¬3) أي بيض مواضع الوضوء من الأيدي والوجه والأقدام. النهاية (1/ 346). (¬4) ومعرفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم بهاتين العلامتين مذكور في حديث الموطأ إلا أن المؤلف اختصره. (¬5) سوف يتكلم المؤلف على هذه المسألة بشكل أوسع في الباب التاسع (2/ 185 ـ 187، 202 ـ 206). (¬6) الغُرْل جمع الأغرل، وهو الأقلف. والغرلة القلفة. النهاية (3/ 362). (¬7) سورة الأنبياء: آية (104). (¬8) في (ت): "ما". (¬9) في (م) و (خ): "يستوفى"، وفي (ت) و (ط): "يستدعى". (¬10) سورة المائدة: آية (117 ـ 118). (¬11) رواه الإمام البخاري في كتاب الأنبياء من صحيحه، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} عن ابن عباس مرفوعاً (6/ 386 مع الفتح)، ورواه الإمام مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر عنه أيضاً (17/ 194)، ورواه الإمام الترمذي في كتاب صفة القيامة من سننه، باب ما جاء في شأن الحشر برقم (2423)، (4/ 532)، والإمام أحمد في المسند عنه أيضاً (1/ 235).

وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْحَدِيثُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ كَحَدِيثِ الْمُوَطَّأِ (¬1)، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنِ ارْتَدَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً". حَسَنٌ صَحِيحٌ (¬2). وَفِي الْحَدِيثِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬3)، وَلَكِنَّ الْفِرَقَ فِيهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فِرَقُ أَهْلِ الْبِدَعِ (¬4). وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" (¬5). وَهُوَ آتٍ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ (¬6) عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنن الهدى، وإنهن من ¬

(¬1) تقدم (ص114). (¬2) رواه الإمام الترمذي في كتاب الإيمان من سننه، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة عن أبي هريرة برقم (2640)، وتقدم تخريج الحديث (ص12). (¬3) وذلك في الباب التاسع من هذا الكتاب (2/ 189) من المطبوع. (¬4) وهو اختيار المؤلف كما ذكره في الباب التاسع (2/ 194) من المطبوع. (¬5) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه، باب كيف يقبض العلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وذكره (1/ 194 مع الفتح)، والإمام مسلم في كتاب العلم من صحيحه، باب رفع العلم وقبضه (16/ 223 ـ 2235)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء في ذهاب العلم (5/ 30)، والإمام أحمد في المسند (2/ 162، 190)، والإمام ابن ماجه في مقدمة سننه، باب اجتناب الرأي والقياس (1/ 20)، والإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب في ذهاب العلم (1/ 89)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 149، 150)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص87). (¬6) في (م): "فيحافظ".

سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَضَلَلْتُمْ (¬1) " (¬2) الْحَدِيثَ. فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ جُعِلَ تَرْكُ السُّنَّةِ ضَلَالَةً! وَفِي رِوَايَةٍ: "لَوْ (¬3) تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لَكَفَرْتُمْ" (¬4). وَهُوَ أَشَدُّ فِي التَّحْذِيرِ. وَفِيهِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني تَارِكٌ فِيكُمْ (¬5) ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ"، وَفِي رِوَايَةٍ "فِيهِ الْهُدَى"، "مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ"، وَفِي رِوَايَةٍ: (مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ) (¬6). وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا خَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ وَنَحْوُهُ لِابْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ بِبِدْعٍ مِنَ الْحَدِيثِ لَمْ تَسْمَعُوهُ أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ (¬7)، فإياكم وإياهم (¬8) لا يفتنونكم) (¬9). ¬

(¬1) في (م): "لظليتم". (¬2) رواه الإمام مسلم في كتاب المساجد من صحيحه، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها عن ابن مسعود (5/ 156 مع النووي)، والإمام أحمد في المسند (1/ 382، 414)، والإمام ابن ماجه في كتاب المساجد من سننه، باب المشي إلى الصلاة (1/ 255)، والإمام النسائي في كتاب الإمامة من سننه، باب المحافظة على الصلوات (2/ 108)، والإمام أبو داود في كتاب الصلاة من سننه، باب في التشديد في ترك الجماعة، بلفظ: "وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لكفرتم" (1/ 148). (¬3) في (ت): "ولو" بالواو. (¬4) هي رواية أبي داود كما تقدم في تخريج الحديث. (¬5) في (م) و (خ): "فيهم". (¬6) رواه الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة من سننه، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه وذكره برواياته (15/ 179 ـ 181 مع النووي)، ورواه الإمام الدارمي في كتاب فضائل القرآن من سننه، باب فضل من قرأ القرآن (1/ 524)، ورواه الإمام أحمد في مسنده (4/ 366 ـ 367). (¬7) في (ط): "آباؤهم". (¬8) في (ط): "إياهم" بدون الواو. (¬9) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها عن أبي هريرة رضي الله عنه (ص34)،=

وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بَعْدِي فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ (¬1) مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ (¬2) وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ (¬3) النَّاسِ شَيْئًا" (¬4). حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَلِابْنِ وَضَّاحٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (مَنْ أَتَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ فَقَدْ أعان على هدم الإسلام) (¬5). (وفي رواية (مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هدم الإسلام)) (¬6). وعن الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم قال: ("أبى الله لصاحب بدعة بتوبة" وفي رواية: (إن الله حجز التوبة عن كل صاحب بدعة)، وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬7): "أن أحببت ¬

=ورواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه مع اختلاف يسير في اللفظ (1/ 78 مع النووي)، ورواه الإمام أحمد في المسند عنه رضي الله عنه (2/ 349). (¬1) في (ط): "أن ينقص ذلك"، وما أثبته هو الموافق لرواية الترمذي. (¬2) ساقط من (غ). (¬3) في (خ): "من أجورهم أوزار". (¬4) تقدم تخرج الحديث (ص 34 - 35). (¬5) حديث عائشة رواه ابن عدي في الكامل (2/ 736)، وضعفه لأجل الحسن بن يحيى الخشني، قال عنه ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الغلط (1/ 172)، وأورده الإمام ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 271). وقال السيوطي في اللآلئ المصنوعة بعد ذكر تضعيف ابن عدي وغيره للخشني: "وقد توبع على هذا الحديث فأخرجه ابن عساكر في تاريخه وساق سنده من رواية الليث بن سعد عن هشام بن عروة ... ، ثم قال: وهذه متابعة قوية. انظر اللآلئ المصنوعة (1/ 253). والحديث مروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعاً كما في الحلية بلفظ "من مشى إلى صاحب بدعة ... "، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه للطبراني في الكبير، ثم قال: وفيه بقية وهو ضعيف. (1/ 193)، ورواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها عن هشام بن عروة عن أبيه (ص55)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عن إبراهيم بن ميسرة موقوفاً عليه (1/ 139)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة تحت رقم (1862). (¬6) ساقط من جميع النسخ عدا (غ). (¬7) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ).

أَنْ لَا تُوقَفَ عَلَى الصِّرَاطِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى تَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلَا تُحْدِثْ فِي دِينِ اللَّهِ حَدَثًا بِرَأْيِكَ" (¬1). وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "مَنِ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬2). وَخَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (¬3): "سِتَّةٌ أَلْعَنُهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مجاب: الزائد في كتاب اللَّهِ (¬4)، وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَالْمُتَسَلِّطُ بِالْجَبَرُوتِ يُذِلُّ بِهِ مَنْ أَعَزَّ اللَّهُ وَيَعِزُّ بِهِ (¬5) مَنْ أَذَلَّ (¬6) اللَّهُ، وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي، وَالْمُسْتَحِلُّ لِحَرَمِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي (¬7) مَا حَرَّمَ اللَّهُ" (¬8). وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبِ (¬9): (سِتَّةٌ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنْتُهُمْ) وَفِيهِ: (وَالرَّاغِبُ عَنْ سُنَّتِي إلى بدعة) (¬10). ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص38). (¬2) سبق تخريجه ص (58). (¬3) ساقطة من (ت). (¬4) في (ط): "في دين الله". (¬5) ساقطة من (م) و (ت) و (غ). (¬6) في (م) وأصل (خ): "أضل"، وصححت في هامش (خ). (¬7) عترة الرجل أخص أقاربه. وعترة النبي صلّى الله عليه وسلّم بنو عبد المطلب وقيل أهل بيته الأقربون، وهم أولاده وعلي وأولاده. النهاية (3/ 177)، وقد وقعت في (ر): "عرتي". (¬8) رواه الإمام الطحاوي في مشكل الآثار عن عائشة رضي الله عنها، كما هو عند المؤلف (4/ 366 ـ 367)، والإمام الترمذي في كتاب القدر من سننه برقم (2154) (4/ 397)، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (13/ 60)، ورواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة (1/ 24، 149)، ورواه الإمام الحاكم في موضعين من المستدرك وصححه، وتعقبه الإمام الذهبي في الموضع الثاني بقوله: "إسحاق وإن كان من شيوخ البخاري فإنه يأتي بطامات قال فيه النسائي ليس بثقة، وقال أبو داود: واه، وتركه الدارقطني، وأما أبو حاتم فقال صدوق، وعبد الله فلم يحتج به أحد. والحديث منكر بمرة". انظر المستدرك (1/ 36)، (4/ 90). وضعفه كذلك الشيخ الألباني كما في ظلال الجنة (1/ 24)، وكذلك ضعفه شعيب الأرناؤوط في تعليقه على الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (13/ 60). (¬9) تقدمت ترجمته (ص93). (¬10) رواية الخطيب هذه ذكرها صاحب الكنز تحت رقم (44032)، وعزاها للخطيب في المتفق والمفترق، وللدارقطني في الأفراد. انظر كنز العمال (16/ 87 ـ 88)، وكلا الكتابين لم يطبع.

وَفِي الطَّحَاوِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ (¬1) لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّة (¬2)، (وَلِكُلِّ شِرَّة) (¬3) فَتْرَةٌ، فَإِمَّا إِلَى سُّنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ" (¬4). وَفِي مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ (¬5) عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ (¬6) عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذَكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْلَاةً لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالُوا: إِنَّهَا قَامَتِ اللَّيْلَ، وَصَامَتِ النَّهَارَ (¬7)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَكِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ (¬8) وَأُفْطِرُ، فَمَنِ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّة ثُمَّ فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى بِدْعَةٍ فَقَدْ ضَلَّ، وَمَنْ كَانَتْ فترته إلى سنة فقد اهتدى" (¬9). ¬

(¬1) في (ت): "إنا". (¬2) قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب عند ذكر الحديث: "الشِرَّة" بكسر الشين المعجمة وتشديد الراء وبعدها تاء تأنيث: هي النشاط والهمة، وشِرَّة الشباب أوله وحدته. (1/ 87). (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (غ) و (ر). (¬4) رواه الإمام الطحاوي في مشكل الآثار عن عبد الله بن عمرو (2/ 88)، والإمام أحمد في المسند، وذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم الحديث بعدما أمر عبد الله بن عمرو بالاعتدال في الصلاة والصيام والقراءة. انظر المسند (2/ 158، 188، 210). ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه تحت رقم (11). انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (1/ 187)، ورواه ابن أبي عاصم في السنة، وقال الشيخ الألباني في تعليقه على السنة: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (1/ 28). (¬5) لعله يريد معجم الصحابة لأبي القاسم البغوي المتوفى سنة 317هـ، والكتاب يوجد منه قطعة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة تحت رقم (791). انظر معجم المصنفات الواردة في فتح الباري (ص259، 395). (¬6) هو يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي، ثقة، وقد أرسل عن ابن مسعود ونحوه، من الثالثة. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 344)، الكاشف للذهبي (3/ 221). (¬7) كتب في هامش (خ): "قائمة الليل، وصائمة النهار"، وفي المسند ومشكل الآثار ورد الفعل بصيغة المضارع. وصيغة المضارع أقرب إلى الصواب لدلالتها على استمرارها على هذه الحالة. (¬8) ساقطة من (ر). (¬9) رواه الإمام الطحاوي في مشكل الآثار عن مجاهد عن جعدة بن هبيرة وذكره، وبإسناد=

وعن أبي (¬1) وائل (¬2) عن عبد الله (¬3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ، وَمُمَثِّلٌ (¬4) مِنَ (الْمُمَثِّلِينَ) (¬5)) (¬6). وفي منتقى حديث خيثمة بن (¬7) سليمان (¬8) عن عبد الله (¬9) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا، فَيُحْدِثُونَ الْبِدْعَةَ"، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فكيف أصنع إذا أدركتهم؟ قال: "تسألني يابن أم عبد (¬10) كَيْفَ تَصْنَعُ. لَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ" (¬11). وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال ¬

=آخر عن مجاهد قال دخلت أنا ويحيى بن جعدة، على رجل من الأنصار وذكره (2/ 88)، ورواه الإمام أحمد في المسند (5/ 409)، وذكره الهيثمى في مجمع الزوائد وعزاه لأحمد، ثم قال: ورجاله رجال الصحيح. (3/ 196). (¬1) ساقطة من (ط). (¬2) تقدمت ترجمته (ص84). (¬3) هو ابن مسعود رضي الله عنه. (¬4) في (غ): "مثل". (¬5) في المخطوط والمطبوع (المسلمين)، وما أثبته هو ما ورد به الحديث. (¬6) رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه (1/ 407)، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عنه بلفظ: (أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَ نبياً أو قتله نبي، أو رجل يضل الناس بغير علم، أو مصور يصور التماثيل) (10/ 260)، وفي سند الطبراني الحارث الأعور وهو ضعيف كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 186)، وسند الإمام أحمد جيد كما قال الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (281). (¬7) في (ط): "عن". (¬8) تقدمت ترجمته (ص122). (¬9) هو ابن مسعود رضي الله عنه. (¬10) في (خ) و (ت) و (ط): "عبد الله". والصواب المثبت، وهو الموافق للرواية. (¬11) رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود (1/ 399 ـ 400، 409)، والإمام ابن ماجه في كتاب الجهاد من سننه، باب لا طاعة في معصية الله برقم (2865)، (2/ 956) والبيهقي في كتاب الصلاة من سننه، باب الإمام يؤخر الصلاة والقوم لا يخشونه (3/ 124)، والإمام الطبراني في المعجم الكبير برقم (10361)، (10/ 213 ـ 214)، قال الشيخ الألباني في الصحيحة: "قلت: وإسناده جيد على شرط مسلم". انظر السلسلة الصحيحة برقم (590)، (2/ 139).

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا، وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ، وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ (¬1) دَخَلَ الْجَنَّةَ"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ فِي النَّاسِ لَكَثِيرٌ، قَالَ: "وَسَيَكُونُ فِي قُرُونٍ بَعْدِي". حَدِيثٌ غَرِيبٌ (¬2). وَفِي كِتَابِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ أَوْ قَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ يُغَرْبَل (¬3) النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَة مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرَجَت (¬4) عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، اختلفوا فصاروا (¬5) هكذا" وشبك بين أصابعه، قالوا: كيف (¬6) بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "تَأْخُذُونَ بِمَا تَعْرِفُونَ، وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم" (¬7). ¬

(¬1) بوائقه أي غوائله وشروره، واحدها بائقة، وهي الداهية. انظر النهاية لابن الأثير (1/ 162). (¬2) رواه الإمام الترمذي في كتاب صفة القيامة من سننه عن أبي سعيد وذكره، ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث إسرائيل .. ، ثم قال: وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث إسرائيل ولم يعرف اسم أبي بشر. انظر سنن الترمذي (5/ 577 ـ 578)، وأبو بشر مجهول كما في تهذيب التهذيب لابن حجر (12/ 21)، وذكر ابن الجوزي الحديث في العلل المتناهية ثم قال: "قال أحمد: ما سمعت بأنكر من هذا الحديث، لا أعرف هلال بن مقلاص ولا أبا بشر، وأنكر الحديث إنكاراً شديداً" (2/ 263)، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع برقم (5476). (¬3) قال ابن الأثير في النهاية بعد ذكره للحديث: "أي يذهب خيارهم، ويبقى أراذلهم. والمغربل المنتقى، كأنه نقي بالغربال". النهاية (3/ 352). (¬4) في (م) و (خ) و (ت): "مزجت" بالزاي، وهو خطأ، والصواب المثبت .. قال في النهاية: "المرج الخلط. ومنه حديث ابن عمرو (قد مرجت عهودهم) أي اختلطت". (4/ 314). (¬5) في (ط): "فصارت". (¬6) في (ت) و (ط): "وكيف". (¬7) رواه الإمام أبو داود في كتاب الملاحم من سننه، باب الأمر والنهي عن عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (4342)، (4/ 121)، والإمام ابن ماجه في كتاب الفتن من سننه، باب التثبت في الفتنة برقم (3957)، (2/ 1307 ـ 1308)، والإمام أحمد في المسند (2/ 221)، والإمام الطحاوي في مشكل الآثار (2/ 67)، والإمام الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي (4/ 435)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (205)، (1/ 367). وعبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول (10/ 6).

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ مُرْسَلًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ" قَالُوا: وَمَا الشِّعَابُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْأَهْوَاءُ" (¬1). وَخَرَّجَ أَيْضًا: (إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخِلُ الْعَبْدَ الْجَنَّةَ بِالسُّنَّةِ يَتَمَسَّكُ بِهَا) (¬2). وَفِي كِتَابِ السُّنَّةِ لِلْآجُرِّيِّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ (¬3) عَنْ معاذ بن جبل رضي الله تعالى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا حَدَثَ فِي أُمَّتِي الْبِدَعُ، وَشُتِمَ أَصْحَابِي، فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، فَمَنْ لَمْ يفعل (ذلك منهم) (¬4) فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (¬5). قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ (¬6): فَقُلْتُ لِلْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ: مَا إِظْهَارُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: (إِظْهَارُ السُّنَّةِ) (¬7) والأحاديث كثيرة. ¬

(¬1) في (غ) و (ر) "أهل الأهواء"، ولم أجده بهذا اللفظ، وقريب منه ما رواه الإمام أحمد في المسند عن معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم قال: "إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد) (5/ 232 ـ 233)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه لأحمد والطبراني، ثم قال: ورجال أحمد ثقات إلا أن العلاء بن زياد قيل أنه لم يسمع من معاذ (5/ 222)، وأعله العراقي في المغني بالانقطاع. (2/ 207). (¬2) الشفا للقاضي عياض (2/ 27). (¬3) هو أبو العباس الوليد بن مسلم الدمشقي عالم أهل الشام وحافظهم، وقد كان من أوعية العلم ولكنه ردئ التدليس، فإذا قال حدثنا فهو حجة، توفي سنة خمس وتسعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (9/ 211)، تهذيب التهذيب لابن حجر (11/ 151). (¬4) ما بين المعكوفين ساقط من (ط). (¬5) رواه الإمام الخلال في السنة برقم (787)، وضعف المحقق إسناده. انظر السنة للخلال (ص494 ـ 495)، ورواه الإمام الآجري بأسانيد ضعيفة عن جابر رضي الله عنه، انظر الشريعة لوحه (176)، وذكره الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة وعزاه لابن عساكر في تاريخه (15/ 298/1)، والديلمي (1/ 1/66)، وابن رزقويه في جزء من حديثه (ق2/ 2)، وحكم عليه الشيخ الألباني بأنه منكر. انظر السلسلة الضعيفة برقم (1506). (¬6) هو عبد الله بن الحسن الساحلي كما هو في إسناد الآجري. (¬7) انظر: قوله في السنة للخلال (ص495).

وَلْيَعْلَمِ الْمُوَفَّقُ أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الأحاديث تقصر (¬1) عن (¬2) رتبة الصحيح، وإنما أوتي (¬3) بِهَا عَمَلًا بِمَا أَصَّلَهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي أَحَادِيثِ الترغيب والترهيب، إذ قَدْ ثَبَتَ ذَمُّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الْقُرْآنِيِّ وَالدَّلِيلِ السُّنِّيِّ الصَّحِيحِ، فَمَا زِيدَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا حَرَجَ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ إِنْ شاء الله (¬4). ¬

(¬1) في (ط): "يقصر". (¬2) في (م): "على". (¬3) في (غ) و (ط): "أتي". (¬4) وقد ذكر الإمام السيوطي ثلاثة شروط لرواية الحديث الضعيف والعمل به. الأول: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه، (نقل العلائي الاتفاق عليه). الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به. الثالث: أن لا يعتمد عند العمل به ثبوته بل يعتقد الاحتياط. وقيل لا يجوز العمل به مطلقاً، قاله ابن العربي. وقيل يعمل به مطلقاً، وتقدم عزو ذلك إلى أبي داود وأحمد وإنهما يريان ذلك أقوى من رأي الرجال، انتهى. انظر تدريب الراوي للسيوطي (1/ 299). وقال الشيخ أحمد شاكر في الباعث الحثيث: "والذي أراه أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال، لأن ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح، خصوصاً إذا كان الناقل له من علماء الحديث الذين يرجع إلى قولهم في ذلك". (ص86).

فصل

فصل الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ (¬1) مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا، وَهُوَ كَثِيرٌ. فمما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَصَفَّقَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ (¬2) رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا) (¬3). إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ الله عنه قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فَقَدْ سَبَقْتُمْ سبقاً بعيداً، وإن أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلًالًا بَعِيدًا". ¬

(¬1) ساقطة من (ت). (¬2) كتب في (ت): "إلا بعد". (¬3) رواه الإمام البخاري في كتاب الحدود من صحيحه، باب الاعتراف بالزنا، والباب الذي يليه عن عمر رضي الله عنه، مع اختلاف يسير في اللفظ (12/ 137، 144 فتح)، والإمام مسلم في كتاب الحدود من صحيحه، باب حد الزنا وذكره بلفظ البخاري الثاني (11/ 191 ـ 192)، والإمام أبو داود في كتاب الحدود من سننه، باب في الرجم، وذكره قريباً من لفظ الصحيحين (4/ 143) والإمام ابن ماجه في كتاب الحدود من سننه، باب الرجم وذكره بلفظ الصحيحين (2/ 853)، والإمام الترمذي في كتاب الحدود من سننه، باب ما جاء في تحقيق الرجم وذكره بلفظين أحدهما أخصر من الآخر (4/ 29 ـ 30)، والإمام الدارمي في كتاب الحدود من سننه، باب في حد المحصنين بالزنا (2/ 234)، ورواه الإمام مالك في كتاب الحدود من الموطأ، باب ما جاء في الرجم (2/ 824)، والإمام أحمد في مواضع من المسند (1/ 23، 29، 36).

وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَقِفُ عَلَى الحِلَق (¬1) فَيَقُولُ: (يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، اسْلُكُوا الطَّرِيقَ، فَلَئِنْ سَلَكْتُمُوهَا لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لقد ضللتم ضلالاً بعيداً". وفي رواية لابن (¬2) الْمُبَارَكِ: (فَوَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَقَمْتُمْ (لَقَدْ سَبَقْتُمْ) (¬3) سَبْقًا بَعِيدًا) (¬4) الْحَدِيثَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى النَّاسِ اثْنَتَانِ: أَنْ يُؤْثِرُوا مَا يَرَوْنَ على ما يعلمون، وَأَنْ يَضِلُّوا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ). قَالَ سُفْيَانُ: (وَهُوَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ) (¬5). وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَخَذَ حَجَرَيْنِ فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ؟) قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا نَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ النُّورِ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَظْهَرَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى لا يرى (¬6) من الحق إلا قدر ما بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ، وَاللَّهِ لَتَفْشُوَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ قَالُوا: تركت السنة) (¬7). ¬

(¬1) في (خ) و (ت) و (ط): "الخلق". (¬2) في (خ) و (ط): "ابن". (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (م). (¬4) رواه عن حذيفة رضي الله عنه الإمام البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيحه، باب الاقتداء بسنن رسول الله (13/ 250 مع الفتح)، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة (1/ 139)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص17 ـ 18)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 97)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 90)، وأحمد بن نصر في السنة (ص30)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 336)، وأورده البغوي في شرح السنة (1/ 214). وألفاظهم متقاربة. (¬5) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب إحداث البدع (ص43)، وفي بابٌ في نقض عرى الإسلام (ص76). (¬6) في (غ): "يرى" بدون لا. (¬7) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام ودفن الدين وإظهار البدع (ص65).

وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةَ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةَ، وَلَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، وَلَيُصَلِّيَنَّ (¬1) نِسَاؤُكُمْ (¬2) وَهُنَّ (¬3) حُيّض، وَلَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ القُذَّة (¬4) بالقُذَّة وَحَذْوَ النَّعْلِ بالنعلِ (¬5)، لَا تُخْطِئُونَ طَرِيقَهُمْ، وَلَا تُخْطِئُ بِكُمْ، وَحَتَّى تَبْقَى فِرْقَتَانِ مِنْ فِرَقٍ (¬6) كَثِيرَةٍ، تَقُولُ إِحْدَاهُمَا: مَا بَالُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؟ لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} (¬7) لا يصلون إِلَّا ثَلَاثًا، وَتَقُولُ الْأُخْرَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ كإيمان الملائكة، ما فينا (¬8) كَافِرٌ وَلَا مُنَافِقٌ، حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْشُرَهُمَا مَعَ الدَّجَّالِ) (¬9). وَهَذَا الْمَعْنَى مُوَافِقٌ لِمَا ثبت من حديث أبي رافع (¬10) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَأَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا على أريكته (¬11) يأتيه الأمر من ¬

(¬1) في (ط): "وليطئن". (¬2) في (ت): "نساؤهم"، وفي (غ) و (ر): "نساء". (¬3) في (خ) و (ط): "وبن"، وهي ساقطة من (ت). (¬4) قال ابن الأثير في النهاية: القُذَذ ريش السهم، واحدتها قذة، ومنه الحديث "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" أي كما تقدر كل واحدة منهما على قدر صاحبتها وتقطع" (4/ 28). (¬5) ساقطة من (م)، و (خ) و (ت). (¬6) في (ت): "فريق". (¬7) سورة هود: آية (114). (¬8) في (خ) و (ت) و (ط): "فيها". (¬9) رواه عن حذيفة رضي الله عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام بلفظ المؤلف (ص65)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى مع اختلاف يسير في اللفظ (1/ 174)، ورواه أيضاً بلفظ أخصر وليس فيه ذكر الفرقتين (2/ 571)، ورواه الإمام الآجري في الشريعة مع اختلاف يسير في اللفظ (ص20). (¬10) هو أبو رافع القبطي مولى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، اسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، أو ثابت أو هرمز، كان للعباس أولاً، فوهبه للنبي صلّى الله عليه وسلّم. روى عدة أحاديث، وشهد أحد والخندق. وكان ذا علم وفضل. مات في أول خلافة علي رضي الله عنه. انظر: الإصابة (11/ 128 ـ 129)، طبقات ابن سعد (4/ 73 ـ 75)، أسد الغابة (1/ 52)، السير (2/ 16). (¬11) الأريكة: السرير في الحجلة من دونه ستر، ولا يسمى منفرداً أريكة. وقيل هو كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة. انظر النهاية (1/ 40).

أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ (¬1) بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي (¬2)، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ" (¬3). فَإِنَّ السُّنَّةُ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً لِلْكِتَابِ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالسُّنَّةِ زَلَّ عَنِ الْكِتَابِ كَمَا زَلَّ عَنِ السُّنَّةِ، فَلِذَلِكَ (¬4) يَقُولُ الْقَائِلُ: "لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا" إِلَى آخِرِهِ. وَهَذِهِ الْآثَارُ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه مِنْ تَخْرِيجِ ابْنِ وَضَّاحٍ (¬5). وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ (¬6) عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (اتَّبِعُوا آثَارَنَا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ) (¬7). وَخَرَّجَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ بِذَهَابِ أَهْلِهِ. عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَفْتَقِرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق) (¬8). ¬

(¬1) مطموسة في (ت). (¬2) في (ط) كرر لفظ "لا أدري". (¬3) رواه أبو داود في كتاب السنة من سننه، باب لزوم السنة عن أبي رافع (4/ 199) وابن ماجه في المقدمة من سننه، باب تعظيم حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1/ 7)، والترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال حسن صحيح (5/ 36)، والإمام أحمد في المسند (6/ 8)، والحاكم وصححه (1/ 108 ـ 109)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 82)، والإمام الآجري في الشريعة (ص50)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 228)، والإمام البغوي في شرح السنة، وحسنه (1/ 200 ـ 201). وصححه الشيخ الألباني. انظر صحيح الجامع برقم (7049) .. (¬4) في غ (فإذا). (¬5) تقدم تخريجها قريباً. (¬6) ساقطة من (م) و (ت). (¬7) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص17)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 86)، والإمام المروزي في السنة (ص28)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 327)، وأورده البغوي في شرح السنة (1/ 214)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح. (1/ 186). (¬8) أخرجه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب من هاب الفتيا عن ابن مسعود=

وَعَنْهُ أَيْضًا: (لَيْسَ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي (¬1) بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ. لَا أَقُولُ: عَامٌ أَمْطَرُ مِنْ عَامٍ، وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ، وَلَكِنْ ذَهَابُ عُلَمَائِكُمْ وَخِيَارِكُمْ، ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ فَيُهْدَمُ الْإِسْلَامُ وَيُثْلَمُ) (¬2). وَقَالَ أَيْضًا: (كَيْفَ أَنْتُمْ إذا ألبستكم (¬3) فِتْنَةً يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَنْشَأُ فِيهَا الصَّغِيرُ، تجرى (¬4) على الناس يحدثونها سنة، إذا غُيِّرَتْ قِيلَ: هَذَا مُنْكَرٌ" (¬5). وَقَالَ أَيْضًا: (أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَبْتَدِعُوا وَلَا تَنَطَّعُوا وَلَا تَعَمَّقُوا، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ، خُذُوا مَا تَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا تُنْكِرُونَ) (¬6). وَعَنْهُ أَيْضًا: (الْقَصْدُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ من الاجتهاد في البدعة) (¬7). ¬

=وذكره (1/ 66)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص32)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم من قوله: (ستجدون .. إلخ) (2/ 193)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 87)، والإمام المروزي في السنة (ص29 ـ 30)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 324، 333)، وذكره البغوي في شرح السنة (1/ 317). (¬1) وقعت الياء من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬2) أخرجه الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب تغير الزمان وما يحدث فيه عن ابن مسعود وذكره (1/ 76)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص40، 87) والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 135 ـ 136)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط. (1/ 185). (¬3) في (م) و (ت) و (ط): "ألبستم"، والمثبت هو الموافق للرواية. (¬4) في (ت): "يجري". (¬5) رواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب تغير الزمان عن ابن مسعود بلفظ أطول (1/ 75)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها بلفظين الأول منهما لفظ المؤلف (ص41، 96)، ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة بلفظ أطول. (1/ 91). (¬6) تقدم بمعناه (ص139). (¬7) رواه الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب في كراهية أخذ الرأي عن ابن مسعود رضي الله عنه (1/ 83)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 55، 88)،=

وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَاهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُّنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ (¬1) فِي بِدْعَةٍ" (¬2). وَعَنْهُ أَيْضًا خَرَّجَهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ (¬3) أَنَّهُ قَالَ: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ ضَالٌّ يُضِلُّ (¬4) النَّاسَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَمُصَوِّرٌ، وَرَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ" (¬5). وَعَنْ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه (¬6) قَالَ: (لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ) (¬7) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ، إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا من أمره أن أزيغ) (¬8). ¬

=والإمام محمد بن نصر في السنة (ص30)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 320، 329، 337)، وهو مروي أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه كما في أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/ 88)، وكذلك في السنة للمروزي (ص32). (¬1) كتب في (خ) عند هذا الموضع "من عمل"، وهي زيادة من الناسخ. (¬2) ذكره صاحب الكنز تحت رقم (1096)، وعزاه للرافعي عن أبي هريرة ومسند الفردوس عن ابن مسعود (1/ 219)، ورواه عبد الرزاق في المصنف عن الحسن مرسلاً برقم (20568)، (11/ 291)، والقضاعي في مسند الشهاب (2/ 239)، وقال عند المناوي في فيض القدير: فيه أبان بن يزيد العطار ليّنه القطان (4/ 362)، وضعفه الألباني كما في ضعيف الجامع تحت رقم (3811)، (ص556). (¬3) هو قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف القرطبي، الإمام الحافظ العلامة، محدث الأندلس، صنف سنناً وصحيحاً، وألف كتاب بر الوالدين، وكتاب مسند مالك وكتاب المنتقى في الآثار وكتاب الأنساب، انتهى إليه علو الإسناد بالأندلس مع الحفظ والاتقان، وبراعة العربية، والتقدم في الفتوى، مات بقرطبة سنة أربعين وثلاثمائة. انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 472)، لسان الميزان (4/ 458)، معجم الأدباء (16/ 236). (¬4) بياض في (ت). (¬5) تقدم تخريج الحديث مرفوعاً (ص130). (¬6) ساقطة من (ط). (¬7) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬8) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (2926) أبواب الخمس، باب فرض الخمس، وأبو داود في سننه (2970) كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذكره القاضي عياض في الشفا (2/ 39)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى، باب ذكر ما جاءت به السنة من طاعة رسول الله .. عن أبي بكر رضي الله عنه. (1/ 246).

وخرج (¬1) ابن المبارك عن (ابن عمر رضي الله عنهما قال: بلغ) (¬2) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ (¬3) يَأْكُلُ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، فقال عمر رضي الله عنه لِمَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ (¬4): يَرْفَأُ: "إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَ عَشَاؤُهُ فَأَعْلِمْنِي"، فَلَمَّا حَضَرَ عشاؤه أعلمه، فأتاه عمر رضي الله عنه فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فقُرِّب عشاؤه، فَجَاءَ بِثَرِيدِ (¬5) لَحْمٍ، فَأَكَلَ عُمَرُ مَعَهُ مِنْهَا (¬6)، ثُمَّ قَرَّبَ شِوَاءً فَبَسَطَ يَزِيدُ يَدَهُ، وَكَفَّ عمر رضي الله عنه يَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: (وَاللَّهِ يَا يَزِيدُ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَطَعَامٌ بَعْدَ طَعَامٍ؟ وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَئِنْ خَالَفْتُمْ (¬7) عَنْ سُنَّتِهِمْ لَيُخَالَفَنَّ بكم عن طريقهم" (¬8). وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ) (¬9). ¬

(¬1) الواو ساقطة من (ط). (¬2) ما بين المعكوفين ساقط من (ط). (¬3) هو يزيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية الأموي، أخو معاوية من أبيه، أسلم رضي الله عنه يوم الفتح، وحسن إسلامه، وشهد حنين، وهو أحد الأمراء الأربعة الذين ندبهم أبو بكر لغزو الروم، وعلى يده كان فتح قيسارية التي بالشام. توفي رضي الله عنه في الطاعون سنة ثمان عشرة. انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (11/ 69)، أسد الغابة لابن الأثير (5/ 491)، سير أعلام النبلاء (1/ 328). (¬4) ساقط من (ت). (¬5) في (م) و (غ): "بثريدة". (¬6) ساقط من (ت). (¬7) في (م) و (خ): "خالفتهم"، وصححت في هامش (خ). (¬8) رواه الإمام ابن المبارك في الزهد (ص203). (¬9) رواه عبد الرزاق في المصنف (4281)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 422)، والبيهقي في السنن الكرى (5417)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 7/185 ـ 186)، ورواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، باب فضل السنة ومباينتها لسائر أقاويل علماء الأمة عن صفوان بن محرز القارئ المأزري أنه سأل عبد الله ابن عمر عن الصلاة في السفر، فقال: "ركعتان. من خالف السنة كفر". (2/ 195)، وذكره الإمام ابن بطة في الإبانة الصغرى بلفظ (من ترك السنة كفر) (ص123).

وَخَرَّجَ (¬1) الْآجُرِّيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ (¬2) قَالَ: أتى (¬3) عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا لَقِينَا رَجُلًا يَسْأَلُ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَمْكِنِّي مِنْهُ، قال: فبينما عمر (¬4) رضي الله عنه ذَاتَ يَوْمٍ يُغَدِّي النَّاسَ (إِذْ جَاءَهُ) (¬5) عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَعِمَامَةٌ فَتَغَدَّى، حَتَّى (¬6) إِذَا فَرَغَ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا *فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا *} (¬7)، فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ هُوَ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ مُحْسِرًا عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ (¬8) يَجْلِدُهُ حَتَّى سَقَطَتْ عِمَامَتُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ وَجَدْتُكَ مَحْلُوقًا لَضَرَبْتُ رَأْسَكَ (¬9)، أَلْبِسُوهُ ثِيَابَهُ وَاحْمِلُوهُ عَلَى قَتَبٍ (¬10)، ثُمَّ أَخْرِجُوهُ حَتَّى تَقْدَمُوا بِهِ بِلَادَهُ، ثُمَّ لِيَقُمْ خَطِيبًا، ثُمَّ لِيَقُلْ: إِنَّ صَبِيْغاً (¬11) طَلَبَ الْعِلْمَ فَأَخْطَأَ. فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعًا فِي قومه حتى هلك، وكان سيد قومه) (¬12). ¬

(¬1) هذا الأثر أخره ناسخ (غ) بعد أثر أبيّ الآتي. (¬2) هو السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي، وقيل غير ذلك في نسبه، ويعرف بابن أخت النمر، صحابي صغير، له أحاديث قليلة، وحُج به في حجة الوداع وهو ابن سبع سنين، وولاه عمر سوق المدينة، مات سنة إحدى وتسعين وقيل: قبل ذلك، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة. انظر: أسد الغابة (2/ 321)، والاستيعاب (ص576)، الإصابة (2/ 12)، السير (3/ 437). (¬3) في (ت): "أوتي". (¬4) ساقطة من (خ). (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬6) ساقطة من (ت). (¬7) سورة الذاريات: آيتان (1، 2). (¬8) ساقطة من (ت). (¬9) ذكر الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى أن عمر رضي الله عنه قال ذلك، لأنه ظن أنه من الخوارج، وقد ورد في الحديث أن سيماهم التحليق. انظر: الإبانة (1/ 417). وانظر الحديث في صحيح مسلم بشرح النووي عن أبي سعيد (7/ 167)، وانظر فتح الباري (12/ 295). (¬10) القِتْبُ والقَتَبُ: إكاف البعير، وقد يؤنث، والتذكير أعم، وفي الصحاح رحل صغير على قدر السنام. انظر لسان العرب لابن منظور (1/ 660). (¬11) قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: صَبِيْغ، بوزن عظيم، وآخره معجمة، ابن عسل ... ، ويقال بالتصغير، ويقال ابن سهل الحنظلي، له إدراك، وقصته مع عمر مشهورة. انظر الإصابة، وقد ذكر بعض روايات قصته مع عمر رضي الله عنه، وأمر عمر بهجره، ثم توبته بعد ذلك. انظر الإصابة (3/ 458). (¬12) روى هذه القصة الإمام الآجري في الشريعة (ص73)، وعبد الرزاق في المصنف (20906)، والإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب من هاب الفتيا، وذكر أنه تاب=

وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كعب رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ (¬1): (عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (¬2) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ أَبَدًا، وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إِلَّا كَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ قَدْ يَبُسَ وَرَقُهَا فهي كذلك (إذ) (¬3) أَصَابَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَتَحَاتَّ عَنْهَا وَرَقُهَا إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتَّ عَنِ الشجرة ورقها، فإن اقتصاداً في سبيل (¬4) وَسُنَّةً خَيْرٌ مِنِ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ (¬5) وَسُنَّةٍ، وَانْظُرُوا أَنْ يَكُونَ عَمَلُكُمْ إِنْ كَانَ اجْتِهَادًا وَاقْتِصَادًا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ (¬6)) (¬7). وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: (مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ (¬8) سُنَّةً، حَتَّى تَحْيَا الْبِدَعُ وَتَمُوتَ السُّنَنُ" (¬9). وَعَنْهُ أَنَّهُ قال: (عليكم (بالاستقامة) (¬10) والأثر، وإياكم والبدع) (¬11). ¬

=وحسنت توبته (1/ 66 ـ 67)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 415)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص63)، وانظر: الإصابة لابن حجر (3/ 370 ـ 372). (¬1) كتبت في (ت): "فوق السطر". (¬2) في (غ): "ربه". (¬3) في جميع النسخ "إذا" عدا (غ). (¬4) في (خ) و (ت) و (ط): "سبيل الله"، والمثبت هو ما في (م) و (غ)، وهو الموافق لمراجع الأثر. (¬5) في (ط): "سبيل الله". (¬6) ساقطة من (غ). (¬7) رواه الإمام ابن المبارك في الزهد، باب لزوم السنة (2/ 21)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 54)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 359)، والإمام أبو نعيم في الحلية عند ترجمة أبي رضي الله عنه (1/ 253). (¬8) ساقطة من (ط). (¬9) تقدم تخريجه في المقدمة (ص32). (¬10) في جميع النسخ "الاستفاضة" عدا (ر)، وما أثبته هو ما ورد به الأثر عند جميع من أخرجه. (¬11) رواه عنه رضي الله عنه الإمام الدارمي في سننه (1/ 65)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص32)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 319، 337) والإمام محمد بن نصر في السنة (ص29)، وذكره البغوي في شرح السنة (1/ 214).

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: (مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) (¬1). وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا (¬2) الْقُرْآنُ، حَتَّى يَأْخُذَهُ (¬3) الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرَّجُلُ (¬4) وَالْمَرْأَةُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لِلنَّاسِ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟! مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ). قَالَ الرَّاوِي: قلت (¬5) لمعاذ رضي الله عنه: وَمَا (¬6) يُدْرِينِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يقول كلمة الضلالة (¬7)، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: "بلى، اجتنب من كلام الحكيم الْمُشْتَهِرَاتِ (¬8) الَّتِي يُقَالُ فِيهَا (¬9): مَا هَذِهِ؟ وَلَا يَثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا" (¬10). وَفِي رِوَايَةٍ مَكَانَ "الْمُشْتَهِرَاتِ" "الْمُشْتَبِهَاتِ" (¬11)، وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَا تَشَابَهَ عَلَيْكَ مِنْ قَوْلٍ حَتَّى يقال: ما أراد بهذه الكلمة؟. ¬

(¬1) رواه عنه رضي الله عنه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب الفتيا وما فيه من الشدة (1/ 69)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع (ص45)، والبيهقي في المدخل (190)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 183). (¬2) في (م) و (خ) و (ط): "فيه"، والمثبت موافق لما ورد في مراجع الأثر. (¬3) في (ت): "يأخذ". (¬4) ساقطة من (ت). (¬6) (¬5) ساقطة من (ت). (¬7) في (ط): "ضلالة" غير معرفة. (¬8) في (ط): "غير المشتهرات". (¬9) ساقطة من (م) و (ت). ولفظ أبي داود "لها". (¬10) تقدم تخريجه في الباب الأول (ص79). (¬11) هي رواية صالح بن كيسان عن الزهري كما في سنن أبي داود (4/ 201)، وفي بعض المصادر "اجتنب من كلام الحكيم كل متشابه".

ويريد ـ والله أعلم (¬1) ـ ما لم يشتهر (¬2) ظَاهِرُهُ عَلَى مُقْتَضَى السُّنَّةِ حَتَّى تُنْكِرَهُ الْقُلُوبُ، وَيَقُولَ النَّاسُ: مَا هَذِهِ؟ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُحْذَرُ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ حَسْبَمَا يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ (¬3). وَمِمَّا جَاءَ عَمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: (صَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا يَزْدَادُ اجْتِهَادًا، صِيَامًا وَصَلَاةً، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا" (¬4). وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ (¬5) أَنَّهُ قَالَ: (لِأَنْ أَرَى فِي الْمَسْجِدِ نَارًا لَا أَسْتَطِيعُ إِطْفَاءَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِيهِ بِدْعَةً لَا أَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا) (¬6). وَعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ (¬7): (اتَّبِعْ طُرُقَ الْهُدَى وَلَا يَضُرُّكَ قِلَّةُ السَّالِكِينَ وَإِيَّاكَ وَطُرُقَ الضَّلَالَةِ وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ (¬8)) (¬9). وَعَنِ الْحَسَنِ: (لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ هَوًى (¬10) فَيَقْذِفَ فِي قَلْبِكَ مَا تَتَّبِعُهُ عَلَيْهِ فتهلك، أو تخالفه فيمرض قلبك) (¬11). ¬

(¬1) ساقطة من (م). (¬2) في (م): "يستمر". (¬3) سيذكر المؤلف بعض الأمثلة لعلماء وقعت منهم بعض الزلات. انظر (ص275 ـ 281). (¬4) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب كل محدثة بدعة (ص34)، وذكره ابن بطة في الإبانة الصغرى (ص134). (¬5) تقدمت ترجمته في المقدمة (ص32). (¬6) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص43)، والإمام محمد بن نصر في السنة (ص32)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 514)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 124). (¬7) هو الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر اليربوعي، إمام، قدوة، ثبت مشهور بالصلاح، ولد بخراسان، وارتحل وطلب العلم، وحدث بالكوفة عن الأعمش وحميد الطويل وغيرهم، وحدث عنه ابن المبارك ويحيى القطان والشافعي وغيرهم. نزل مكة وتعبد بها إلى أن مات بها أول سنة سبع وثمانين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 421)، حلية الأولياء (8/ 84)، صفة الصفوة (2/ 237)، طبقات الصوفية للسلمي (ص6)، البداية والنهاية (10/ 206). (¬8) في (غ) و (ر): "السالكين". والصواب المثبت. (¬9) لم أجده في كثير من مراجع ترجمته. (¬10) في (ت): "هوا". (¬11) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب النهي عن الجلوس مع أهل البدع (ص57).

وَعَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬1). قَالَ: (كَتَبَ اللَّهُ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا كَتَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ (¬2)، فَأَمَّا الْيَهُودُ فَرَفَضُوهُ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَشَقَّ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ فَزَادُوا فِيهِ عَشْرًا، وَأَخَّرُوهُ إِلَى أَخَفِّ مَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّوْمُ مِنَ (¬3) الْأَزْمِنَةِ) (¬4). فَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: (عمل قليل في سنة خير من كَثِيرٍ (¬5) فِي بِدْعَةٍ) (¬6). وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ (¬7): (لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، وَيُلَبِّسُوا عَلَيْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ) (¬8). قَالَ أَيُّوبُ (¬9): (وَكَانَ ـ وَاللَّهِ ـ من الفقهاء ذوي (¬10) الألباب) (¬11). ¬

(¬1) سورة البقرة: آية (183). (¬2) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "قبلكم". (¬3) في جميع النسخ (في)، والمثبت من (ر) و (ط). (¬4) خبر صيام النصارى وتبديلهم له روي عن كثير من السلف، منهم ابن عباس وغيره. انظر الدر المنثور للسيوطي (1/ 428 ـ 430). (¬5) في (ط): "من عمل كثير". (¬6) تقدم تخريجه مرفوعاً (ص140). (¬7) تقدمت ترجمته (ص110). (¬8) رواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب اجتناب أهل الأهواء (1/ 120)، والإمام الآجري في الشريعة (ص56)، والإمام البيهقي في الاعتقاد والهداية (ص158)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 134)، والإمام ابن سعد في الطبقات (7/ 184)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص55) والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 435، 437)، وذكره البغوي في شرح السنة (1/ 227)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1/ 137). (¬9) في (ت): "أبو أيوب"، وهو أيوب بن أبي تميمة، كيسان السختياني، ثقة، ثبت، حجة، من كبار الفقهاء العباد، قال شعبة: ما رأيت مثله، كان سيد الفقهاء، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. انظر: تقريب التهذيب (1/ 89)، الكاشف (1/ 92). (¬10) في (ت): "ذوو". (¬11) روى هذا القول لأيوب الإمام ابن سعد في الطبقات، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، وذلك في نفس المواضع السابقة في تخريج قول أبي قلابة.

وعنه (¬1) أيضاً أنه كان يقول: (وإن أَهْلَ الْأَهْوَاءِ أَهْلُ ضَلَالَةٍ، وَلَا أَرَى مَصِيرَهُمْ إِلَّا إِلَى النَّارِ) (¬2). وَعَنِ الْحَسَنِ: "لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يُمْرِضُ قَلْبَكَ" (¬3). وَعَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا) (¬4). وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ: (مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلَّا اسْتَحَلَّ السَّيْفَ) (¬5). وَكَانَ أَيُّوبُ يُسَمِّي أَصْحَابَ الْبِدَعِ خَوَارِجَ، وَيَقُولُ: (إِنَّ الْخَوَارِجَ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ وَاجْتَمَعُوا عَلَى السَّيْفِ) (¬6). وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: (كَانَ رَجُلٌ فَقِيهٌ) يَقُولُ: (مَا أُحِبُّ أَنِّي هَدَيْتُ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَأَضْلَلْتُ رَجُلًا وَاحِدًا) (¬7). وَخَرَّجَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ (¬8): (لَا يَسْتَقِيمُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا قَوْلٌ ¬

(¬1) أي: عن أبي قلابة أيضاً. (¬2) رواه الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب اتباع السنة عن أبي قلابة بلفظ طويل شبَّه فيه أهل الأهواء بالمنافقين (1/ 58)، ورواه ابن سعد في الطبقات كما رواه الدارمي (7/ 184)، ورواه الآجري في الشريعة كما هو عند المؤلف (ص64)، وذكره الإمام ابن بطة في الإبانة الصغرى (ص138). (¬3) ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص54)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى بلفظ "لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب، (2/ 438)، ورواه في نفس الموضع عن ابن عباس رضي الله عنه، وعن أبي عبد الله الملائي. (¬4) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص34)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 9)، وذكره ابن الجوزي عنه في صفة الصفوة (3/ 295). (¬5) رواه عنه الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب اتباع السنة (1/ 58)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 134)، والإمام الآجري في الشريعة (ص64)، والإمام ابن سعد في الطبقات (1/ 184)، والإمام أبو نعيم في الحلية (2/ 287)، وذكره ابن بطة في الإبانة الصغرى (ص138). (¬6) رواه عنه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 143)، والآجري في الشريعة (5/ 2549). (¬7) لم يتيسر تخرجيه لكون الكتاب مخطوطاً. (¬8) في (غ): "أنه قال كان يقال: لا يستقيم .. ".

وَعَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ ولانية إِلَّا (¬1) مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ) (¬2). وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ (¬3) كَانَ يَرَى أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً أَهْلَ الأهواء (¬4). وعن إبراهيم (¬5): ((لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ) (¬6) وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ، فَإِنِّي (¬7) أَخَافُ أَنْ تَرْتَدَّ قُلُوبُكُمْ) (¬8). وَعَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ (¬9) قَالَ: (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ صِيَامًا وَلَا صَلَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا جِهَادًا وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَدَقَةً (¬10) وَلَا عِتْقًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا" (¬11)، زَادَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: (وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَشْتَبِهُ فِيهِ ¬

(¬1) ساقطة من (م). (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 32)، وروى نحوه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عن الحسن بلفظ: "لا يصح القول إلا بعمل ولا يصح قول وعمل إلا بنية ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة" (1/ 57)، وروى نحوه عن سعيد بن جبير في نفس الموضع. وروى أبو نعيم عن الأوزاعي قريباً منه. انظر الحلية (6/ 143). (¬3) تقدمت ترجمته (ص111). (¬4) تقدم تخريجه (ص111). (¬5) في (ر): "هشام بن إبراهيم" وهو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي اليماني، الإمام الخافظ، فقيه العراق، روى عن كبار التابعين، وكان بصيراً بعلم ابن مسعود رضي الله عنه. واسع الرواية، وكان مفتي أهل الكوفة هو والشعبي. توفي سنة ست وتسعين. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 520)، طبقات ابن سعد (6/ 270)، وفيات الأعيان (1/ 25). (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬7) في (ط): "إني". (¬8) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص56)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 439)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 222). (¬9) هو هشام بن حسان الأزدي القردوسي، الإمام العالم الحافظ، محدث البصرة، احتج به أصحاب الصحاح، وله أوهام مغمورة في سعة ما روى. مات سنة ثمان وأربعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 355)، تهذيب التهذيب (11/ 34)، الجرح والتعديل (9/ 54). (¬10) ساقطة من (ر). (¬11) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص34)، والإمام الآجري في الشريعة عن هشام بن حسان عن الحسن وذكره (ص64)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عن هشام عن الحسن (1/ 139).

الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْ فِيهِ دُعَاءٌ إِلَّا كَدُعَاءِ الغَرِق) (¬1). وَعَنْ يَحْيَى بن أبي كثير (¬2): (إِذَا لَقِيتَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي طَرِيقٍ فَخُذْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ) (¬3). وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: (مَنْ جَالَسَ (¬4) صَاحِبَ بِدْعَةٍ نُزِعَتْ (¬5) مِنْهُ الْعِصْمَةُ، وَوُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ) (¬6). وَعَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ (¬7) أَنَّهُ كان يقول لابنه: (يا عيسى، أصلح الله (¬8) قَلْبَكَ (¬9)، وَأَقْلِلْ (¬10) مَالَكَ، وَكَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَنْ أرى عيسى في مجالس ¬

(¬1) لم يتيسر تخريج هذه الزيادة، لأن الكتاب لا زال مخطوطاً. (¬2) هو يحيى بن أبي كثير، أبو نصر اليمامي، الطائي مولاهم، أحد الأعلام، ثقة ثبت، لكنه يرسل، وكان من العباد العلماء الأثبات. توفي سنة تسع وعشرين ومائة. انظر: الكاشف للذهبي (3/ 233)، تقريب (2/ 356). (¬3) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص55)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 137)، والإمام الآجري في الشريعة (ص64)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 474). وهو مروي كذلك عن الفضيل بن عياض كما في الإبانة (2/ 475). (¬4) في (غ) و (ر): "جلس". (¬5) في (ط): "فزعت". (¬6) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها عن كثير أبو سعيد (ص55)، ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عن محمد بن النضر الحارثي بلفظ "من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنه صاحب بدعة نزعت منه العصمة". (1/ 136)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى عن محمد بن النضر بنحو لفظ اللالكائي (2/ 460)، وهو مروي عن سفيان الثوري في الإبانة أيضاً (2/ 461). (¬7) هو العوام بن حوشب بن يزيد الربعي الواسطي، إمام محدث، أسلم جده يزيد علي يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فجعله على شرطته. ذكره أحمد فقال: ثقة ثقة. توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 354)، تهذيب التهذيب (8/ 163)، شذرات الذهب (1/ 244). (¬8) لفظ الجلالة غير موجود في (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬9) في (غ): "أصلح الله قلبك". (¬10) في (م) و (خ): "وأقل".

أَصْحَابِ الْبَرَابِطِ (¬1) وَالْأَشْرِبَةِ وَالْبَاطِلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَاهُ يُجَالِسُ أَصْحَابَ الْخُصُومَاتِ) (¬2). قَالَ ابْنُ وضاح: (يعنى أهل البدع) (¬3). وقال رجال (¬4) لأبي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ (¬5): يَا أَبَا بَكْرٍ، مَنِ السني؟ (قال: (السني) (¬6) الَّذِي إِذَا (¬7) ذُكِرَتِ الْأَهْوَاءُ لَمْ يَغْضَبْ لِشَيْءٍ مِنْهَا) (¬8). وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ (¬9): (إِنَّ الَّذِي تعرض (¬10) عليه السنة فيقبلها لغريب (¬11)، وأغرب منه صاحبها) (¬12). ¬

(¬1) البَربَط: العود، أعجمي ليس من ملاهي العرب فأعربته حين سمعت به، وفي التهذيب: البربط من ملاهي العجم شبه بصدر البط، والصدر بالفارسية بر فقيل بر بط. انظر لسان العرب لابن منظور (7/ 258). (¬2) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص56). (¬3) ذكره ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص56). (¬4) في (ت) و (غ): "رجل". (¬5) هو أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي، شيخ مقرئ ومحدث وفقيه، قرأ القرآن وجوده ثلاث مرات على عاصم بن أبي النجود، ذكره أحمد فقال: ثقة، ربما غلط، صاحب قرآن وخير. مات سنة ثلاث وتسعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 495)، تاريخ البخاري الكبير (9/ 14)، حلية الأولياء (7/ 303)، شذرات الذهب (1/ 334). (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬7) ساقطة من (م) و (خ). (¬8) رواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 65)، والآجري في الشريعة (5/ 2250). (¬9) هو يونس بن عبيد بن دينار العبدي، الإمام القدوة الحجة، كان من صغار التابعين وفضلائهم، رأى أنس بن مالك، وحدث عن الحسن وابن سيرين وغيرهم، قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. مات سنة أربعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 288)، طبقات ابن سعد (7/ 260)، الجرح والتعديل (9/ 242). (¬10) في (خ) و (ط): "نعرض". (¬11) في (خ) و (ت) و (ط): "الغريب". (¬12) رواه عنه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة بثلاث ألفاظ متقاربة (1/ 58)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 21)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 185)، والآجري في الشريعة (5/ 2550).

وعن يحيى بن أبي (¬1) (عمرو) (¬2) (السيباني) (¬3) قَالَ: (كَانَ يُقَالُ: يَأْبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ بِتَوْبَةٍ، وَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ إِلَّا إِلَى شَرٍّ مِنْهَا) (¬4). وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ (¬5): (تَعَلَّمُوا الْإِسْلَامِ، فَإِذَا تَعَلَّمْتُمُوهُ فَلَا تَرْغَبُوا عَنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَلَا تُحَرِّفُوا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَعَلَيْكُمْ بِسُّنَّةِ نَبِيِّكُمْ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ (¬6) أَصْحَابُهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْتُلُوا صَاحِبَهُمْ (¬7)، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا. (قَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْتُلُوا صَاحِبَهُمْ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا) (¬8)، وَإِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْأَهْوَاءَ الَّتِي تُلْقِي بَيْنَ النَّاسِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ)، فَحُدِّثَ الْحَسَنُ بِذَلِكَ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: صَدَقَ وَنَصَحَ. خَرَّجَهُ ابْنُ وَضَّاحٍ وَغَيْرُهُ (¬9). وَكَانَ مَالِكٌ رضي الله عنه كَثِيرًا مَا يُنْشِدُ: وَخَيْرُ أُمُورِ الدِّينِ مَا كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع (¬10) ¬

(¬1) ساقطة من (غ). (¬2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط) "عمر"، والصواب المثبت. (¬3) في المخطوط والمطبوع "الشيباني"، والصحيح ما أثبته كما في توضيح المشتبه لابن ناصر الدين (5/ 245)، وهو يحيى بن أبي عمرو الشيباني، أبو زرعة الحمصي، ثقة، وروايته عن الصحابة مرسلة، عاش خمساً وثمانين سنة، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة. انظر: تقريب التهذيب (2/ 355)، الكاشف للذهبي (3/ 232)، تهذيب التهذيب (11/ 260)، تهذيب الكمال للمزي (31/ 480). (¬4) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص61)، وسيأتي الكلام عن توبة المبتدع وأنها ممكنة (ص232). تقدمت ترجمته (ص95). (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) ذكر أبو نعيم في الحلية أن المراد به عثمان رضي الله عنه. (2/ 218). (¬7) ما بين المعكوفين ساقط من (غ) و (ر). (¬8) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص39)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 56)، والإمام ابن نصر المروزي في السنة (ص13)، والإمام الآجري في الشريعة (ص13)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى بلفظ أخصر (1/ 299، 338)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 218). (¬9) ذكره القاضي عياض ضمن ترجمة الإمام مالك. انظر ترتيب المدارك (1/ 169)، وابن عبد البر في الانتقاد (ص74).

وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ (¬1) قَالَ: (أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ آفَةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ فَيَتَصَيَّدُونَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَسَنِ الْجُهَّالِ (¬2) مِنَ النَّاسِ، فَيَقْذِفُونَ بِهِمْ فِي الْمَهَالِكِ، فَمَا أَشْبَهَهُمْ بِمَنْ يَسْقِي الصَّبِر (¬3) بِاسْمِ الْعَسَلِ، وَمَنْ يَسْقِي السُّمَّ الْقَاتِلَ بِاسْمِ التِّرْيَاقِ (¬4)، فَأَبْصِرْهُمْ (¬5)، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَكُنْ أَصْبَحْتَ فِي بَحْرِ الْمَاءِ فَقَدْ أَصْبَحْتَ فِي بَحْرِ الْأَهْوَاءِ الَّذِي هُوَ أَعْمَقُ غَوْرًا، وَأَشَدُّ اضْطِرَابًا، وَأَكْثَرُ صَوَاعِقَ، وَأَبْعَدُ مَذْهَبًا مِنَ الْبَحْرِ وَمَا فِيهِ، فَتِلْكَ (¬6) مَطِيَّتُكَ الَّتِي تَقْطَعُ بِهَا سَفَرَ الضَّلَالِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ) (¬7). وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: (اعْلَمْ أَيْ أخي أن الموت اليوم (¬8) كَرَامَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ عَلَى السُّنَّةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو وَحْشَتَنَا، وَذَهَابَ الْإِخْوَانِ، وَقِلَّةَ الْأَعْوَانِ، وَظُهُورَ الْبِدَعِ، وَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو عَظِيمَ مَا حَلَّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ ذَهَابِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَظُهُورِ الْبِدَعِ) (¬9). وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ (¬10) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي بِدِينِكَ، وَبِسُّنَّةِ نَبِيِّكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْحَقِّ، وَمِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَمِنْ سُبُلِ الضَّلَالَةِ، ومن ¬

هو مقاتل بن حيان النبطي البلخي الخراز، إمام محدث، كان من العلماء العاملين، ذا نسك وفضل، وكان صاحب سنة. قال يحيى بن معين: ثقة. توفي في حدود الخمسين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 340)، تهذيب التهذيب (10/ 277)، تاريخ البخاري الكبير (8/ 13). (¬1) في (ط): "عند الجهال". (¬2) الصَّبر بكسر الباء الدواء المر. انظر الصحاح للجوهري (2/ 707). (¬3) الترياق بكسر التاء دواء السموم (فارسي معرب)، والعرب تسمي الخمر ترياقا وترياقة. انظر الصحاح للجوهري (4/ 1453). (¬4) في (ت): "فأبصر بهم". (¬5) في (خ) و (ط): "ففلك". (¬6) لم أجده في كثير من مراجع ترجمته. (¬7) زيادة في (ت). (¬8) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها كما عند المؤلف (ص46)، وبلفظ أطول (ص88). (¬9) هو إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، أحد العباد الزهاد المشهورين، توفي في سجن الحجاج سنة اثنتين وتسعين، ولم يبلغ الأربعين. انظر: الكاشف للذهبي (1/ 50)، الحلية لأبي نعيم (4/ 210)، صفة الصفوة لابن الجوزي (3/ 90).

شُبُهَاتِ الْأُمُورِ، وَمِنَ الزَّيْغِ وَالْخُصُومَاتِ) (¬1). وَعَنْ عُمَرَ بن عبد العزيز رحمه الله أنه (¬2) كَانَ يَكْتُبُ فِي كُتُبِهِ: (إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ مَا مَالَتْ إِلَيْهِ الْأَهْوَاءُ وَالزِّيَغُ الْبَعِيدَةُ) (¬3). وَلَمَّا بَايَعَهُ الناس صعد الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ نَبِيٌّ، وَلَا بَعْدَ كِتَابِكُمْ كِتَابٌ، وَلَا بَعْدَ سُنَّتِكُمْ سُّنَّةٌ وَلَا بَعْدَ أُمَّتِكُمْ أُمَّةٌ، أَلَا وَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا وَإِنَّ الْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِقَاضٍ وَلَكِنِّي مُنَفِّذٌ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِخَازِنٍ وَلَكِنِّي أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِخَيْرِكُمْ وَلَكِنِّي أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا (¬4)، أَلَا وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ) (¬5)، ثُمَّ نزل. وفيه قال عروة بن أذينة (¬6) من (¬7) قصيدة (¬8) يَرْثِيهِ بِهَا: وَأَحْيَيْتَ فِي الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَسُنَّةً ولم تبتدع حكماً من الحكم أضجما (¬9) ¬

(¬1) رواه أبو نعيم في الحلية (4/ 211 ـ 212)، وذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 1179). (¬2) ساقطة من (خ) و (ط). (¬3) انظر: سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (ص71). (¬4) في (ت): "حميلا". (¬5) روى هذه الخطبة عنه الإمام ابن سعد في الطبقات (5/ 340)، وابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز (40 ـ 41). (¬6) هو عروة بن يحيى (ولقبه أذينة) بن مالك بن الحارث الليثي، شاعر غزل مقدم، من أهل المدينة، وهو معدود من الفقهاء والمحدثين أيضاً، ولكن الشعر أغلب عليه. توفي في حدود الثلاثين ومائة. انظر: ترجمته وشيئاً من شعره في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (18/ 322)، فوات الوفيات (2/ 451)، الأعلام (4/ 227). (¬7) في (خ) و (ت) و (ط): "عن". (¬8) المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ: "أذينة". (¬9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أضجعا". والضجم: العوج. انظر: القاموس (1131). قال الشيخ محمد رشيد رضا في تعليقه على الكتاب: "كذا في الأصل، وهو غلط ظاهر، ولعل أصله أسحما: أي أسود حالك السواد، لأن هذا أقرب الكلم في الصورة من أضجعا، وموافق في المعنى لوصفهم البدعة بالسوداء، والسنة بالبيضاء والغراء" (1/ 87).

فَفِي كُلِّ يَوْمٍ كُنْتَ تَهْدِمُ بِدْعَةً وَتَبْنِي لَنَا مِنْ سُنَّةٍ مَا تَهَدَّمَا (¬1) وَمِنْ كَلَامِهِ الَّذِي عُنِيَ بِهِ، وَيَحْفَظُهُ الْعُلَمَاءُ، وَكَانَ يُعْجِبُ مَالِكًا جِدًّا (¬2)، وَهُوَ أَنْ قَالَ: (سنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا، الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا، وَلَا تَبْدِيلُهَا، وَلَا النظر في شيء خالفها. مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ انْتَصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (¬3). وَبِحَقٍّ (¬4) مَا كَانَ (¬5) يُعْجِبُهُمْ، فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ جَمَعَ أُصُولًا حَسَنَةً مِنَ السُّنَّةِ، مِنْهَا مَا نَحْنُ فِيهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا، وَلَا تَبْدِيلُهَا، وَلَا النَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهَا) (¬6)، قَطْعٌ لِمَادَّةِ الِابْتِدَاعِ جُمْلَةً. وَقَوْلُهُ: (مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ) إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ، مَدْحٌ لِمُتَّبِعِ السُّنَّةِ، وَذَمٌّ لِمَنْ خَالَفَهَا (¬7) بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *} (¬8). ¬

(¬1) لم أجد هذه الأبيات في ديوانه، كما لم أجد هذه الأبيات فيما اطلعت عليه من تراجمه. (¬2) قال القاضي عياض بعد ذكر قول عمر بن عبد العزيز: "وكان مالك إذا حدث بهذا ارتج سروراً". انظر ترتيب المدارك (1/ 172). (¬3) رواه الإمام الآجري في الشريعة عن مطرف بن عبد الله يقول: سمعت مالك بن أنس رضي الله عنه إذا ذكر عنده الزائغون في الدين يقول: قال عمر بن عبد العزيز وذكره. انظر الشريعة (ص48، 65، 307)، وأبو نعيم في الحلية ضمن ترجمة مالك (6/ 324)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1/ 357)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 94). وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 352). وذكره ابن كثير في البداية والنهاية من رواية الخطيب البغدادي (9/ 225)، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء من قول مالك (8/ 98)، وعزاه إلى عمر بن عبد العزيز أيضاً ابن أبي زيد في الجامع (ص117)، وابن رجب في جماع العلوم والحكم (ص250) والقاضي عياض في ترتيب المدارك (1/ 172). (¬4) في هامش (خ): "ولحق". (¬5) في (ط): "وكان". (¬6) في (ط): "من خالفها". (¬7) بعد هذه الكلمة أعاد ناسخ (ت) بعض ما كان كتبه. (¬8) سورة النساء: آية (115).

ومنها: أن (¬1) ماسنه وُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ سُّنَّةَ، لَا بِدْعَةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ (¬2) لَمْ يُعْلَمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ عَلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ. فَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ نَصُّ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ (¬3)، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ (¬4)، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ) (¬5). فَقَرَنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ كَمَا تَرَى ـ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِسُنَّتِهِ. وَإِنَّ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِمُ، وَإِنَّ الْمُحْدَثَاتِ خِلَافُ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْهَا فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا سَنُّوهُ، إِمَّا مُتَّبِعُونَ لِسُّنَّةِ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسِهَا، وَإِمَّا مُتَّبِعُونَ لِمَا فَهِمُوا من سنته في الجملة أو (¬6) في (¬7) التفصيل، عَلَى وَجْهٍ يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِمْ مِثْلُهُ (¬8)، لَا زَائِدَ عَلَى ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ (¬9) بِحَوْلِ اللَّهِ. عَلَى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمَ (¬10) نَقَلَ عن يحيى بن آدم (¬11) في (¬12) قول ¬

(¬1) ساقطة من (ط). (¬2) ساقطة من (ت): (¬3) في (ط): "والمهتدين" بالواو. (¬4) الأشهر أنها أقصى الأسنان وتقدم (ص119). (¬5) تقدم تخريجه (ص119). (¬6) في (ط): "و" بدل "أو". (¬7) ساقطة من (م) و (ط). (¬8) ساقطة من (ت). (¬9) ساقطة من (ت). (¬10) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه الحاكم، الإمام الحافظ، شيخ المحدثين، ولد في نيسابور، وطلب الحديث، وسمع من نحو ألفي شيخ، وهو ثقة واسع العلم، بلغت تصانيفه، نحو خمس مئة جزء، وله كتاب المستدرك على الشيخين، وكان فيه تشيع قليل. توفي سنة خمس وأربعمائة. انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 162)، البداية والنهاية (11/ 355)، شذرات الذهب (3/ 176). (¬11) هو يحيى بن آدم بن سليمان الأموي، مولاهم، الكوفي، أبو زكريا، أحد الأعلام، ثقة حافظ فاضل، روى عنه أحمد وإسحاق وغيرهم، توفي سنة ثلاث ومائتين. انظر: طبقات ابن سعد (6/ 402)، الكاشف (3/ 218)، سير أعلام النبلاء (9/ 522)، التقريب (2/ 341). (¬12) ساقطة من (ط).

السَّلَفِ الصَّالِحِ: (سُنَّةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ السُّنَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ مَعَ (قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى) (¬2) قول أحد (¬3). وما قاله (¬4) صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَا زَائِدَ إِذًا عَلَى مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُخَافُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِسُنَّةٍ أُخْرَى، فَافْتَقَرَ الْعُلَمَاءُ إِلَى النَّظَرِ فِي عَمَلِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ (¬5)، لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ (¬6) الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَاسِخٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ (¬7) بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ (¬8) مِنْ أَمْرِهِ. وَعَلَى هذا المعنى عوّل (¬9) مالك بن أنس رضي الله عنه فِي احْتِجَاجِهِ بِالْعَمَلِ، وَرُجُوعِهِ إِلَيْهِ عِنْدَ تَعَارُضِ السُّنَنِ (¬10). وَمِنَ الْأُصُولِ (¬11) الْمُضَمَّنَةِ (¬12) فِي أَثَرِ عُمَرَ بن عبد العزيز أن سنة ولاة ¬

(¬1) ساقطة من (غ) (¬2) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬3) انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم (ص84 ـ 85)، والمدخل للبيهقي (29)، والفقيه والمتفقه للخطيب (2228). (¬4) في (خ) و (ط): "قال". (¬5) وقع حرف العين من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬6) مطموسة في (ت). (¬7) مطموسة في (ت). (¬8) ساقطة من (غ). (¬9) غير واضحة في (م)، وفي (خ)، و (ت): "عن". (¬10) يريد به عمل أهل المدينة، وهو من أصول الإمام مالك التي كان يعتمد عليها، وهو مقدم عنده على خبر الواحد، وذلك في القضايا التي طريقها النقل كمسألة الأذان، وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومسألة الصاع، وترك إخراج الزكاة من الخضروات، وغير ذلك من المسائل التي طريقها النقل، واتصل العمل بها في المدينة على وجه لا يخفى مثله، ونقل نقلاً يحج ويقطع العذر. انظر: إحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد الباجي (ص480 ـ 481)، وانظر المسألة في روضة الناظر لابن قدامة (1/ 298 ـ 300)، الإحكام في أصول الأحكام للآمدى (1/ 302 ـ 305). (¬11) في (خ): "الأحوال". (¬12) في (ت): "المتضمنة".

الْأَمْرِ (¬1) وَعَمَلَهُمْ تَفْسِيرٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ (¬2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ: "الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ (¬3)، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ". وَهُوَ أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (¬4). فَقَدْ جَمَعَ كَلَامُ عُمَرَ (¬5) رَحِمَهُ اللَّهُ أُصُولًا حَسَنَةً وَفَوَائِدَ مُهِمَّةً. وَمِمَّا يعزى لأبي العباس (¬6) الإبياني (¬7): (ثَلَاثٌ لَوْ كُتِبْنَ فِي ظُفُرٍ لَوَسِعَهُنَّ، وَفِيهِنَّ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: اتَّبِعْ لَا (¬8) تَبْتَدِعْ، اتَّضِعْ لا ترتفع، من (¬9) ورع لا يتسع) (¬10). والآثار هنا كثيرة. ¬

(¬1) المراد بولاة الأمر الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم. (¬2) في (ت): "رسول الله". (¬3) في (غ): "تصديق لكتاب الله وسنة رسول الله" والزيادة لم تذكر في قوله آنفاً. (¬4) وقد قرره المؤلف في كتابه الموافقات (4/ 74 ـ 80). (¬5) في (ط): "عمر بن عبد العزيز". (¬6) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "إلياس". والصواب المثبت". (¬7) في (ط): "الألباني"، والصواب المثبت". وهو أبو العباس عبد الله بن أحمد بن إبراهيم التونسي الإبياني، كان عالم أفريقية، وحافظ مذهب مالك، ويميل إلى مذهب الشافعي، ثقة، مأمون، توفي سنة 352هـ. انظر: الديباج المذهب لابن فرحون (1/ 425)، ترتيب المدارك (3/ 347). (¬8) في (ت): "ولا". (¬9) في (ت): "ومن". (¬10) عزاه إليه الإمام القرافي في الفروق (4/ 205).

فصل

فصل الْوَجْهُ الرَّابِعُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا عَنِ الصُّوفِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ النَّاسِ (¬1). وَإِنَّمَا خَصَصْنَا هَذَا الْمَوْضِعَ بِالذِّكْرِ ـ وَإِنْ كَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّقْلِ كِفَايَةٌ ـ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجُهَّالِ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مُتَسَاهِلُونَ فِي الِاتِّبَاعِ، وَأَنَّ اخْتِرَاعَ الْعِبَادَاتِ، وَالْتِزَامَ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ الْتِزَامُهُ، مِمَّا يَقُولُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ أَوْ يَقُولُوا بِهِ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَنَوْا عَلَيْهِ طَرِيقَتَهُمْ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَاجْتِنَابُ مَا خَالَفَهَا، حَتَّى زَعَمَ مُذَكِّرُهُمْ، وَحَافِظُ مَأْخَذِهِمْ، وَعَمُودُ (¬2) نِحْلَتِهِمْ، أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ (¬3) أَنَّهُمْ إِنَّمَا اخْتُصُّوا بِاسْمِ التَّصَوُّفِ انْفِرَادًا بِهِ عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَذَكَرَ (أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم ¬

(¬1) يريد المؤلف بالصوفية هنا أوائلهم الذين اشتهروا بالعبادة والزهد كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم ونحوهم. وسيذكر المؤلف عما قريب فساد طريقة الصوفية المتأخرين، وبعدها عن شريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم. (¬2) في (غ): "عميد". (¬3) هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري، الصوفي صاحب الرسالة، سمع الحديث، وتفقه، وتقدم في الأصول والفروع، وكان عديم النظير في السلوك والتذكير، وله كتاب الرسالة القشيرية في التصوف، وكتاب (نحو القلوب)، وكتاب الجواهر .. وغيرها. ولشيخ الإسلام ابن تيمية ملاحظات على رسالته، كما في الاستقامة لشيخ الإسلام ابن تيمية. وقد توفي رحمه الله سنة خمس وستين وأربعمائة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 227)، البداية والنهاية لابن كثير (12/ 107)، شذرات الذهب لابن العماد (3/ 319)، وفيات الأعيان (3/ 205).

لَمْ يَتَّسِمْ (¬1) أَفَاضِلُهُمْ (¬2) فِي عَصْرِهِمْ بَاسِمِ عَلَمٍ (¬3) سوى الصحبة، إذ لافضيلة فَوْقَهَا، ثُمَّ سُمي (¬4) مَنْ يَلِيهِمُ التَّابِعِينَ وَرَأَوْا هَذَا الِاسْمَ أَشْرَفَ الْأَسْمَاءِ، ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَتَبَايَنَتِ الْمَرَاتِبُ، فَقِيلَ لِخَوَاصِّ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ شِدَّةُ عناية بأمر الدِّينِ (¬5): الزُّهَّادُ وَالْعُبَّادُ. قَالَ: ثُمَّ ظَهَرَتِ الْبِدَعُ، وَادَّعَى (¬6) كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ فِيهِمْ زُهَّادًا وَعُبَّادًا، فانفرد خواص (¬7) أهل السنة، المراعون أنفاسهم (¬8) مَعَ اللَّهِ، الْحَافِظُونَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْغَفْلَةِ بِاسْمِ التَّصَوُّفِ (¬9). هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، فَقَدْ عَدَّ هَذَا اللقب (¬10) لهم مَخْصُوصًا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُبَايَنَةِ الْبِدْعَةِ. وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْجُهَّالُ وَمَنْ لَا عِبْرَةَ بِهِ مِنَ الْمُدَّعِينَ لِلْعِلْمِ. وَفِي غَرَضِي إِنْ فَسَحَ اللَّهُ فِي الْمُدَّةِ، وَأَعَانَنِي بِفَضْلِهِ، وَيَسَّرَ لِيَ الْأَسْبَابَ أَنْ أُلَخِّصَ في طريق الْقَوْمِ أُنْمُوذَجًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّتِهَا وَجَرَيَانِهَا ¬

(¬1) في (خ): "يتهم". (¬2) في (ت): "فاضلهم". (¬3) في (خ): "عمهم". (¬4) في (ت): "سموا". (¬5) في جميع النسخ "من الدين" عدا (غ) و (ر) والمثبت هو الصواب الموافق لما في الرسالة للقشيري. (¬6) في (ت): "فادعى". (¬7) ساقطة من (ت). (¬8) في جميع النسخ "أنفسهم" عدا (غ) و (ر)، والمثبت هو الصواب الموافق لما في الرسالة للقشيري. (¬9) انظر: قوله في الرسالة القشيرية (ص9)، وكلامه هنا غير مسلم، فإن الصوفية ليسوا هم أهل السنة، دعك من قوله خواص أهل السنة، بل إن فيهم مبتدعة ضلال، خارجون عن السنة وأهلها، كابن عربي الضال، وهم مع ذلك فيهم من هو من أهل السنة، ومن أهل الفضل والعبادة، سيما المتقدمون من شيوخهم كالفضيل بن عياض وغيره، وما وقع لأئمة الصوفية من الفضل والصلاح، فإنما هو بسبب اتباع السنة، والتزام أحكام الشريعة، وتقوى الله، لا بسبب التصوف وسوف ينقل المؤلف عن جملة منهم الحث على اتباع السنة، والتزام الشريعة، ليستدل بذلك على من ضل منهم. (¬10) ساقطة من (ط).

عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى (¬1)، وَأَنَّهُ إِنَّمَا دَاخَلَتْهَا الْمَفَاسِدُ (¬2)، وَتَطَرَّقَتْ إِلَيْهَا الْبِدَعُ مِنْ جِهَةِ قَوْمٍ تَأَخَّرَتْ أَزْمَانُهُمْ عَنْ عَهْدِ ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَادَّعَوُا الدُّخُولَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ سُلُوكٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا فَهْمٍ لِمَقَاصِدِ أَهْلِهَا، وَتَقَوَّلُوا عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَقُولُوا بِهِ، حَتَّى صَارَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْأَخِيرِ كَأَنَّهَا شَرِيعَةٌ أُخْرَى غَيْرَ مَا أَتَى بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬3). وَأَعْظَمُ (¬4) ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتَسَاهَلُونَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَيَرَوْنَ اخْتِرَاعَ الْعِبَادَاتِ طَرِيقًا لِلتَّعَبُّدِ صَحِيحًا. وَطَرِيقَةُ الْقَوْمِ بَرِيئَةٌ مِنْ هَذَا الْخِبَاطِ بِحَمْدِ اللَّهِ. فَقَدَ قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ (¬5): (مَنْ جَلَسَ مَعَ صاحب بدعة لم يعط الحكمة) (¬6). وقيل لإبراهيم بْنِ أَدْهَمَ (¬7): إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬8) ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجب لَنَا! فَقَالَ: مَاتَتْ قُلُوبُكُمْ فِي عَشَرَةِ أَشْيَاءَ: أولها: عرفتم الله ولم (¬9) تُؤَدُّوا حَقَّهُ. وَالثَّانِي: قَرَأْتُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَلَمْ تَعْمَلُوا بِهِ. وَالثَّالِثُ: ادَّعَيْتُمْ حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكْتُمْ سُنَّتَهُ. وَالرَّابِعُ: ¬

(¬1) ذكر المؤلف أيضاً أنه يريد التأليف في هذا الموضوع في نهاية الباب الثالث (ص401)، ولا أعلم أن المؤلف قد ألف كتاباً مستقلاً في هذا الموضوع. (¬2) في (ر): "دخلتها". (¬3) ساقطة من (غ). (¬4) وهذا هو الحال حتى في زماننا والله المستعان. (¬5) في (م) و (ط): "وأعظم من ذلك". (¬6) تقدمت ترجمته (ص146). (¬7) رواه الإمام ابن بطة عنه في الإبانة الكبرى (2/ 460)، وأبو نعيم في الحلية ضمن كلام طويل في النهي عن مخالطة أهل البدع (10/ 103)، وأبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص10). (¬8) هو إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر العجلي، وقيل التميمي، إمام زاهد، قدوة، نزل الشام، وحدث عن محمد بن زياد الجمحي صاحب أبي هريرة وابن عجلان، وحدث عنه سفيان الثوري وجماعة، وقد وثقه الدارقطني والنسائي، كان من أبناء الملوك والمياسير، فآثر الآخرة، وأقبل على الزهد والورع. توفي سنة اثنتين وستين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (7/ 387)، طبقات الصوفية للسلمي (ص27)، حلية الأولياء (7/ 367)، طبقات الشعراني (1/ 81)، الرسالة للقشيري (ص9). (¬9) سورة غافر: آية (60). (¬10) في (ط): "وهامش" (خ): "فلم".

ادَّعَيْتُمْ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ وَوَافَقْتُمُوهُ. وَالْخَامِسُ: قُلْتُمْ نُحِبُّ الْجَنَّةَ وَمَا تَعْمَلُونَ لَهَا (¬1) إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ. وقال ذو النون المصري (¬2): (من علامات (¬3) المحب (¬4) لله مُتَابَعَةُ حَبِيبِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أخلاقه وأفعاله وأوامره (¬5) وسننه (¬6)) (¬7). وَقَالَ: إِنَّمَا دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: ضَعْفُ النِّيَّةِ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ. والثاني: صارت: أبدانهم رهينة (¬8) لِشَهَوَاتِهِمْ. وَالثَّالِثُ غَلَبَهُمْ طُولُ الْأَمَلِ مَعَ قِصَرِ الأجل. والرابع: آثروا رضى (¬9) المخلوقين على رضى اللَّهِ. وَالْخَامِسُ: اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَنَبَذُوا سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّادِسُ: جَعَلُوا زَلَّاتِ السَّلَفِ حُجَّةً لِأَنْفُسِهِمْ، وَدَفَنُوا أَكْثَرَ مَنَاقِبِهِمْ) (¬10). وَقَالَ لِرَجُلٍ أَوْصَاهُ: "لِيَكُنْ آثَرَ الْأَشْيَاءِ عِنْدَكَ وَأَحَبَّهَا إِلَيْكَ إِحْكَامُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَاتِّقَاءُ مانهاك عنه، فإن ما تعبدك (¬11) اللَّهَ بِهِ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا تَخْتَارُهُ لِنَفْسِكَ من أعمال البر التي لم (¬12) تَجِبُ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهَا أَبْلَغُ لَكَ فِيمَا تُرِيدُ، كَالَّذِي يُؤَدِّبُ نَفْسَهُ بِالْفَقْرِ وَالتَّقَلُّلِ وما أشبه ذلك، وإنما ¬

(¬1) رواه بتمامه أبو نعيم في الحلية (8/ 15 ـ 16). (¬2) هو ذو النون بن إبراهيم المصري، أبو الفيض، ويقال: ثوبان بن إبراهيم، وذو النون لقب. كان واعظاً زاهداً، روى عن مالك والليث وطائفة، قال الدارقطني روى عن مالك أحاديث فيها نظر. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 532)، طبقات الصوفية للسلمي (ص15)، الحلية لأبي نعيم (9/ 331)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 315)، الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري (ص10). (¬3) في (م) و (ط): "علامة". (¬4) في (ط): "حب الله". (¬5) في (ط): "وأمره". (¬6) في (ط): "وسنته". (¬7) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص21)، وأبو القاسم القشيري في الرسالة القشيرية (ص11). (¬8) غير واضحة في (م) و (خ) و (ت) و (ط) "مهيئة"، والمثبت ما في (غ): "وهو الصواب". (¬9) كتبت في (ط) بالألف الممدودة هكذا "رضاء". (¬10) لم أجده. (¬11) في (م): "تعبد". (¬12) ساقطة من (ط).

لِلْعَبْدِ أَنْ يُرَاعِيَ أَبَدًا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضٍ يُحْكِمُهُ عَلَى تَمَامِ حُدُودِهِ، وَيَنْظُرُ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ فَيَتَّقِيهِ عَلَى إِحْكَامِ مَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ الَّذِي قَطَعَ الْعِبَادَ عَنْ رَبِّهِمْ، وَقَطَعَهُمْ عَنْ أَنْ يَذُوقُوا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَأَنْ يَبْلُغُوا حَقَائِقَ الصِّدْقِ، وَحَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْآخِرَةِ، تَهَاوُنُهُمْ بِأَحْكَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَبُطُونِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ. وَلَوْ وَقَفُوا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَحْكَمُوهَا لَأُدْخِلَ عَلَيْهِمُ الْبِرُّ إِدْخَالًا تَعْجَزُ أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما ورثهم (¬1) اللَّهُ مِنْ حُسْنِ مَعُونَتِهِ، وَفَوَائِدِ كَرَامَتِهِ، وَلَكِنَّ أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب، وتهاونوا بِالْقَلِيلِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ، فَحُرِمُوا لذة ثواب (¬2) الصَّادِقِينَ فِي الْعَاجِلِ) (¬3). وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي (¬4): (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فقال لي يابشر، تدري (¬5) لم رفعك الله (¬6) من (¬7) بَيْنَ أَقْرَانِكَ؟) قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قال: (لا تباعك لسنتي (¬8)، وَحُرْمَتِكَ (¬9) لِلصَّالِحِينَ (¬10)، وَنَصِيحَتِكَ لِإِخْوَانِكَ، وَمَحَبَّتِكَ لِأَصْحَابِي وَأَهْلِ بيتي، هو الذي بلغك منازل الأبرار) (¬11). ¬

(¬1) في (ط): "رزقهم". (¬2) في (م) و (خ) و (ط) و (ع): "ثواب لذة الصادقين". (¬3) لم أجده. (¬4) هو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء المروزي البغدادي، المشهور بالحافي ولد سنة 152هـ، وارتحل في العلم وأخذ عن مالك وشريك وحماد بن زيد، وكان رأساً في الورع والإخلاص، مات رحمه الله سنة 227هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 469)، حلية الأولياء (8/ 336)، طبقات الصوفية (ص39)، الرسالة القشيرية (ص14). (¬5) هكذا في جميع النسخ عدا (ت) فإنها بالهمزة هكذا "أتدري"، وفي القشيرية "تدري" بدون همزة. (¬6) لم يكتب لفظ الجلالة في (م) و (غ) وكتب في (خ) "فوق السطر". (¬7) ساقطة من (ط). (¬8) في (ط): "سنتي". (¬9) في الرسالة القشيرية: "وخدمتك". (¬10) في (م) و (غ): "الصالحين". (¬11) رواه عنه أبو القاسم القشيري في الرسالة القشيرية (ص14).

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ (¬1) الرَّازِيُّ (¬2): (اخْتِلَافُ النَّاسِ كُلِّهِمْ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ضِدٌّ، فَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ وَقَعَ فِي ضِدِّهِ: التَّوْحِيدُ وَضِدُّهُ الشِّرْكُ، وَالسُّنَّةُ وَضِدُّهَا الْبِدْعَةُ، والطاعة وضدها المعصية) (¬3). وقال أبو بكر الزقاق (¬4) وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ: (كُنْتُ (¬5) مَارًّا فِي (¬6) تِيهِ (¬7) بَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَطَرَ بِبَالِي أَنَّ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ مُبَايِنٌ لِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: كل حقيقة لاتتبعها الشَّرِيعَةُ فَهِيَ كُفْرٌ) (¬8). وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْزَجَانِيُّ (¬9): (مِنْ عَلَامَاتِ السَّعَادَةِ (¬10) عَلَى الْعَبْدِ تَيْسِيرُ الطَّاعَةِ عَلَيْهِ، وَمُوَافَقَةُ السُّنَّةِ فِي أَفْعَالِهِ، وَصُحْبَتُهُ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَحُسْنُ أَخْلَاقِهِ مَعَ الْإِخْوَانِ، وَبَذْلُ مَعْرُوفِهِ لِلْخَلْقِ، وَاهْتِمَامُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمُرَاعَاتُهُ لأوقاته) (¬11). ¬

(¬1) في (م): "معاذ بن يحيى" وهو خطأ. (¬2) هو يحيى بن معاذ بن جعفر الرازي، الواعظ، له كلام جيد ومواعظ مشهورة، خرج إلى بلخ وأقام بها مدة، ثم رجع إلى نيسابور، ومات بها سنة ثمان وخمسين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (13/ 15)، طبقات الصوفية للسلمي (ص107)، حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 51)، الرسالة القشيرية (ص21). (¬3) لم أجده. (¬4) في (ط): "الدقاق" وهو خطأ، وهو أبو بكر أحمد بن نصر الزقاق، كان من أقران الجنيد، ومن أكابر أهل مصر. انظر أقواله في الرسالة القشيرية (ص27)، وذكره ابن الأثير في اللباب (1/ 505). (¬5) مطموسة في (ت). (¬6) غير واضحة في (ت). هو الموضع الذي ضل فيه موسى عليه السلام وبنو إسرائيل. أرض بين أيلة ومصر وبحر القلزم وجبال السراة من أرض الشام. انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي (2/ 446)، مراصد الاطلاع للبغدادي (1/ 288). (¬7) الحلية لأبي نعيم (10/ 344)، والرسالة للقشيري (21). (¬8) هو أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني، من كبار مشايخ خراسان، له التصانيف المشهورة. تكلم في علوم الآفاق والرياضات والمجاهدات، وربما تكلم أيضاً في شيء من علوم المعارف والحكم، صحب محمد بن علي الترمذي ومحمد بن الفضل وهو قريب السن منهم. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص246)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 350). (¬9) في (غ) و (ر): "المساعدة". (¬10) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص247).

وَسُئِلَ كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ: (الطُّرُقُ إِلَى اللَّهِ كَثِيرَةٌ (¬1)، وَأَوْضَحُ (¬2) الطُّرُقِ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ الشُّبَهِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَعَزْمًا وَعَقْدًا وَنِيَّةً، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (¬3)) فَقِيلَ لَهُ (¬4): كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى السُّنَّةِ؟ فَقَالَ: (مُجَانَبَةُ الْبِدَعِ، وَاتِّبَاعُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّبَاعُدُ عَنْ مَجَالِسِ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلُزُومُ طَرِيقَةِ الِاقْتِدَاءِ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (¬5)) (¬6). وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ التِّرْمِذِيُّ (¬7): (لَمْ يَجِدْ أَحَدٌ تَمَامَ الْهِمَّةِ بِأَوْصَافِهَا إِلَّا أَهْلُ الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا أخذوا في ذلك من اتباع (¬8) السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم كان أعلى الخلق (¬9) همة، وأقربهم زلفى (¬10)) (¬11). وقال أبو الحسين (¬12) الْوَرَّاقُ (¬13): (لَا يَصِلُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بالله، ¬

(¬1) الطريق إلى الله واحد، وهو طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم، وقد سبق أن تكلم المؤلف عن هذا المعنى عند ذكره لقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. انظر (ص83). (¬2) في طبقات الصوفية: "وأصح الطرق". (¬3) سورة النور: آية (54). (¬4) ساقطة من (م) و (غ) و (ر). (¬5) سورة النحل: آية (123). (¬6) طبقات الصوفية للسلمي (ص247). (¬7) هو محمد بن حامد بن محمد الترمذي، وكنيته أبو بكر، من أعيان مشايخ خراسان، وله أصحاب ينتمون إليه. انظر عنه طبقات الصوفية للسلمي (ص280)، طبقات الشعراني (1/ 86). (¬8) في (ط): "باتباع"، وكذلك هي في هامش (خ). (¬9) في (ط): "أعلى الخلق كلهم". (¬10) في (م) و (غ): "زلفه"، والمعنى واحد. (¬11) انظر طبقات الصوفية للسلمي (ص282). (¬12) في (ط): "الحسن". (¬13) كتب في هامش (خ) و (ت): "الداراني". وهو أبو الحسين محمد بن سعد الوراق النيسابوري، من كبار مشايخ نيسابور، ومن قدماء أصحاب أبي عثمان، وكان عالماً بعلوم الظاهر، ويتكلم في دقائق علوم المعاملات وعيوب الأفعال، مات قبل العشرين وثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص299)، طبقات الشعراني (1/ 87).

وَبِمُوَافَقَةِ حَبِيبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَرَائِعِهِ وَمَنْ جَعَلَ الطَّرِيقَ إِلَى الْوُصُولِ فِي غير الاقتداء يضل من حيث يظن (¬1) أنه مهتدي (¬2)) (¬3). وَقَالَ: "الصِّدْقُ اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ فِي الدِّينِ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِي الشَّرْعِ" (¬4). وَقَالَ: (عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ مُتَابَعَةُ حَبِيبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (¬5). وَمِثْلُهُ عن إبراهيم القصار (¬6) قَالَ: (عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيثَارُ طَاعَتِهِ، وَمُتَابَعَةُ نبيه) (¬7). وقال أبو (على) (¬8) مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ (¬9) الثَّقَفِيُّ (¬10): (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا كَانَ صَوَابًا، وَمِنْ صَوَابِهَا إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، وَمِنْ خالصها إلا ما وافق السنة" (¬11). ¬

(¬1) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬2) في (ط): "مهتد" بدون الياء، وكذلك اللفظ في طبقات الصوفية. (¬3) انظر طبقات الصوفية (ص299)، وعبارة المؤلف مختصرة. (¬4) انظر طبقات الصوفية للسلمي (ص300). (¬5) نفس الموضع السابق. (¬6) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "القمار"، والصواب المثبت، وهو إبراهيم بن داود الرقي، أبو إسحاق، من أقران الجنيد وابن الجلاء إلا أنه عمر. توفي سنة ست وعشرين وثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص319)، الحلية لأبي نعيم (10/ 354)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 197). (¬7) ذكره عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص321). (¬8) ساقطة من جميع النسخ، وأثبتها من مصادر ترجمته. (¬9) في (ت): "عبد الله". (¬10) هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي. لقي أبا حفص وحمدون القصار، كان إماماً في أكثر علوم الشرع. عطل أكثر علومه واشتغل بعلم الصوفية، وكان أحسن المشايخ كلاماً في عيوب النفس وآفات الأعمال. مات سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفية (ص361)، الرسالة القشيرية (ص34)، طبقات الشعراني (1/ 91 ـ 92). (¬11) روى هذا القول عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص363)، والعمل الصواب هو ما وافق السنة، فلا حاجة للعبارة الأخيرة.

وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ الْقِرْمِيسِينِيُّ (¬1) صَحِبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيَّ (¬2) وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَاصَّ (¬3)، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، مُتَمَسِّكًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَازِمًا لِطَرِيقِ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ، حَتَّى قَالَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنَازِلٍ (¬4): "إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ الْآدَابِ وَالْمُعَامَلَاتِ) (¬5). وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعْدَانَ (¬6)، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْجُنَيْدِ (¬7) وغيره: ¬

(¬1) في (م) و (خ): "القرمسيني" بدون الياء الأولى. قال عنه أبو عبد الرحمن السلمي: وهو أبو إسحاق القرميسيني ... له مقامات في الورع والتقوى يعجز عنها الخلق إلا مثله. ثم ذكر ما ذكره المؤلف عنه. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص402)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 361)، الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري (ص36)، السير (15/ 392). (¬2) هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المغربي، كان أستاذ إبراهيم الخواص وإبراهيم ابن شيبان، عاش كما قيل مائة وعشرين سنة، ومات على جبل طور سيناء سنة تسع وسبعين ومائتين وقيل تسع وتسعين. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص242)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 335)، البداية والنهاية لابن كثير (11/ 125)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 336)، القشيرية (ص30). (¬3) هو أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص، أصله من سر من رأى، لكنه أقام بالري، كان من أقران الجنيد والنوري، له في السياحات والرياضات مقامات يطول شرحها. مات في جامع الري سنة إحدى وتسعين ومائتين. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص284)، حلية الأولياء (10/ 325)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 98)، الرسالة القشيرية (ص31). (¬4) هو عبد الله بن محمد بن منازل، من أجل مشايخ نيسابور، صحب حمدون القصار وأخذ عنه طريقته، كتب الحديث الكثير ورواه. مات بنيسابور سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص366)، الرسالة القشيرية (ص34)، طبقات الشعراني (1/ 92). (¬5) هذا النص نقله المؤلف عن طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي (ص402)، وذكره الإمام الذهبي في السير (15/ 392). (¬6) هو أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي سعدان، بغدادي من أصحاب الجنيد والنوري وهو أعلم مشايخ الوقت بعلوم هذه الطائفة. وكان عالماً بعلوم الشرع مقدماً فيه. ينتحل مذهب الشافعي، وكان ذا لسان وبيان. انظر ترجمته في: طبقات الصوفية للسلمي (ص420)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 377)، طبقات الشعراني (1/ 100). (¬7) هو أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي. شيخ الصوفية. ولد سنة نيف=

(الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ هُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْمَعَاصِي وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ) (¬1). وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّجَّاجِيُّ (¬2) وَهُوَ من أصحاب الجنيد و (النوري) (¬3) وَغَيْرِهِمَا: (كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَّبِعُونَ مَا تَسْتَحْسِنُهُ عُقُولُهُمْ وَطَبَائِعُهُمْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهُمْ إِلَى الشَّرِيعَةِ وَالِاتِّبَاعِ، فَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَسْتَحْسِنُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ الشَّرْعُ، وَيَسْتَقْبِحُ ما يستقبحه) (¬4). وقيل لإسماعيل بن (نجيد) (¬5) السُّلَمِيِّ (¬6) جَدِّ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ (¬7) ـ وَلَقِيَ الْجُنَيْدَ وَغَيْرَهُ ـ: مَا الَّذِي لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ منه؟ فقال: (ملازمة ¬

=وعشرين ومائتين، وتفقه على أبي ثور، وسمع من السري السقطي وصحبه وصحب أيضاً الحارث المحاسبي، وأتقن العلم، ثم أقبل على شأنه، وتأله وتعبد ونطق بالحكمة، وقلما روى. توفي سنة سبع وتسعين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 66)، حلية الأولياء (10/ 255)، طبقات الصوفية (ص155)، صفة الصفوة (2/ 416)، الرسالة القشيرية (ص24). (¬1) انظر طبقات الصوفية للسلمي (ص422). (¬2) هو أبو عمرو محمد بن إبراهيم بن يوسف بن محمد الزجاجي، نيسابوري الأصل صحب أبا عثمان والجنيد والنوري، دخل مكة وأقام بها وصار شيخها، والمنظور إليه فيها، حج قريباً من ستين حجة. توفي بمكة سنة ثمان وأربعين ومائة. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص431)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 376)، الرسالة القشيرية (ص36). (¬3) في (خ) و (ت) و (م) و (ط): "الثوري"، والصواب المثبت كما في طبقات الصوفية للسلمي (ص431). وستأتي ترجمته (ص178). (¬4) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص433)، والحلية لأبي نعيم (10/ 376). (¬5) في جميع النسخ "محمد"، والصواب المثبت كما في مصادر ترجمته. (¬6) هو أبو عمرو إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف السلمي، الصوفي، كبير الطائفة، ومسند خراسان، سمع أبا مسلم الكجي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وجماعة، وحدث عنه سبطه أبو عبد الرحمن السلمي وأبو عبد الله الحاكم، توفي سنة خمس وستين وثلاثمائة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (16/ 146)، طبقات الصوفية (ص454)، الرسالة للقشيري (ص37). (¬7) هو محمد بن الحسين بن محمد بن موسى السلمي، أبو عبد الرحمن الصوفي، إمام=

العبودية على السنة، ودوام المراقبة) (¬1). وقال أبو عثمان المغربي (¬2): "التقوى (¬3) هِيَ الْوُقُوفُ مَعَ الْحُدُودِ، لَا يُقَصِّرُ فِيهَا وَلَا يَتَعَدَّاهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (¬4)) (¬5). وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ (¬6): (عَمِلْتُ فِي الْمُجَاهَدَةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْعِلْمِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَلَوْلَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ لَشَقِيتُ (¬7)، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ إِلَّا فِي تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ) (¬8). وَمُتَابَعَةُ العلم هي متابعة السنة لا غيرها. ¬

=حافظ محدث، كان شيخ خراسان وكبير الصوفية، حدث أكثر من أربعين سنة قراءة وإملاء، وصنف سنناً وتفسيراً، وله طبقات الصوفية، توفي سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (17/ 247)، البداية والنهاية لابن كثير (12/ 14) اللباب لابن الأثير (1/ 544). (¬1) ذكره عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص455). (¬2) هو أبو عثمان سعيد بن سلام المغربي، من ناحية قيروان، أقام بالحرم مدة، وكان شيخه. وكان أوحد في طريقته وزهده، لم ير مثله في علو الحال، وصون الوقت، وصحة الحكم بالفراسة. ورد نيسابور ومات بها سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص479)، الرسالة القشيرية (ص38)، السير (16/ 320). (¬3) في (ط): "التونسي". (¬4) سورة الطلاق: آية (1). (¬5) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص481)، والرسالة القشيرية (ص39). (¬6) هو أبو يزيد طيفور بن عيسى بن سروشان البسطامي، وكان جده سروشان مجوسياً فأسلم، وهم ثلاثة إخوة: آدم وطيفور وعلي، وكلهم كانوا زهاداً عباداً، أرباب أحوال، وهو من أهل بسطام، قال الذهبي: وجاء عنه أشياء مشكلة لا مساغ لها، الشأن في ثبوتها عنه، أو أنه قالها في حال الدهشة والسكر .. ، مات سنة إحدى وستين ومائتين، وقيل أربع وثلاثين ومائتين. انظر: طبقات الصوفية (ص67)، حلية الأولياء (10/ 33)، صفة الصفوة (4/ 107)، البداية والنهاية لابن كثير (11/ 38)، الرسالة القشيرية (ص17) والسير للذهبي (13/ 88). (¬7) في طبقات الصوفية: "لبقيت"، وكذلك في إحدى نسخ صفة الصفوة، وفي الحلية "لتعبت". وفي الرسالة القشيرية مثل الطبقات. (¬8) عزاه إليه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص70)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 36)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 107)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص17 ـ 18).

وروى عنه أنه قال: "قم بنا حتى (¬1) نَنْظُرُ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ شَهَّرَ نفسه بالولاية ـ وكان رَجُلًا مَقْصُودًا، مَشْهُورًا بِالزُّهْدِ ـ قَالَ الرَّاوِي: فَمَضَيْنَا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ رَمَى بِبُصَاقِهِ تِجَاهَ الْقِبْلَةِ (¬2)، فَانْصَرَفَ أَبُو يَزِيدَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ: (هَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ (¬3) يَكُونُ مَأْمُونًا عَلَى مَا يَدَّعِيهِ؟) (¬4). وَهَذَا أَصْلٌ أَصَّلَهُ أَبُو يَزِيدَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْقَوْمِ، وَهُوَ أَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَحْصُلُ لِتَارِكِ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ (¬5) جَهْلًا مِنْهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذَا كَانَ عَامِلًا بِالْبِدْعَةِ كفاحاً؟ وقال: (لقد (¬6) هَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَكْفِيَنِي مُؤْنَةَ الْأَكْلِ وَمُؤْنَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ قُلْتُ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ هَذَا وَلَمْ يَسْأَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَلَمْ أَسْأَلْهُ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَفَانِي مُؤْنَةَ النِّسَاءِ حَتَّى لَا أُبَالِي اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ أَمْ حَائِطٌ) (¬7). وَقَالَ: (لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَقِيَ فِي الْهَوَاءِ (¬8) فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحِفْظِ الْحُدُودِ، وَآدَابِ (¬9) الشَّرِيعَةِ) (¬10). وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتُرِيُّ (¬11): (كُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ اقْتِدَاءٍ ـ طاعة ¬

(¬1) ساقطة من (ت). (¬2) في (ر): "معهوداً". (¬3) وقد صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النهي عن البصاق في المسجد كما في حديث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم قال: "البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها". رواه البخاري (1/ 511)، ومسلم (5/ 41). (¬4) ساقطة من (ت). (¬5) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص18، 153). (¬6) ساقطة من (ت). (¬7) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬8) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص18). (¬9) في (م) و (خ): "الهوى". (¬10) في الرسالة القشيرية "وأداء". (¬11) رواه عنه أبو نعيم في الحلية (10/ 40)، وذكره الإمام ابن كثير في البداية والنهاية (11/ 38) ضمن ترجمته. ورواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص18). (¬12) تقدمت ترجمته (ص89).

كَانَ أَوْ مَعْصِيَةً ـ فَهُوَ عَيْشُ النَّفْسِ ـ (يَعْنِي بِاتِّبَاعِ الْهَوَى) (¬1)، وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِالِاقْتِدَاءِ فَهُوَ عِتَابٌ (¬2) عَلَى النَّفْسِ) (¬3) ـ يَعْنِي لِأَنَّهُ لَا هَوَى لَهُ فِيهِ ـ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى هُوَ الْمَذْمُومُ، وَمَقْصُودُ الْقَوْمِ تَرْكُهُ أَلْبَتَّةَ. وَقَالَ: (أُصُولُنَا سَبْعَةُ أَشْيَاءَ: التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِسُنَّةِ رَسُولِ الله، وَأَكْلُ الْحَلَالِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاجْتِنَابُ الْآثَامِ، وَالتَّوْبَةُ، وَأَدَاءُ الْحُقُوقِ) (¬4). وَقَالَ: (قَدْ أَيِسَ (¬5) الْخَلْقُ (¬6) مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ (¬7) الثَّلَاثِ: مُلَازَمَةُ التَّوْبَةِ، وَمُتَابَعَةُ السُّنَّةِ (وَتَرْكُ أَذَى الْخَلْقِ) (¬8)) (¬9). (وَسُئِلَ عَنِ الفُتُوَّة (¬10) فَقَالَ: (اتِّبَاعُ السُّنَّةِ) (¬11)) (¬12). وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ (¬13): (رُبَّمَا تَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ (¬14) الْقَوْمِ أَيَّامًا، فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ (¬15) إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ: الكتاب والسنة) (¬16). ¬

(¬1) ما بين المعكوفين ليس في القشيرية. ولعله من كلام المؤلف. (¬2) في الرسالة القشيرية "عذاب". (¬3) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص19). (¬4) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص210). (¬5) في (ت): "يئس". (¬6) في طبقات الصوفية "العلماء والحكماء". (¬7) في (ت) و (غ): "الخلال". (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬9) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص210). (¬10) ذكر الإمام ابن القيم هذه المنزلة في مدارج السالكين وقال عنها: هي منزلة الإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم. انظر المدارج (2/ 353). (¬11) الرسالة (104)، وعزاه إليه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (2/ 356). (¬12) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬13) هو أبو سليمان عبد الرحمن بن عطية، ويقال عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي الداراني، زاهد العصر، ولد في حدود الأربعين ومائة، وروى عن سفيان الثوري وجماعة، وروى عنه أحمد بن أبي الحواري، توفي سنة خمس عشرة ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 182)، طبقات الصوفية للسلمي (ص75)، حلية الأولياء (9/ 254)، صفة الصفوة (4/ 223)، الرسالة القشيرية (ص19). (¬14) في (م) و (خ) و (ط): "نكته". (¬15) في (ت): "منها". (¬16) عزاه إليه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص78)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 229)، والقشيري في الرسالة (ص19).

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ (¬1): (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا بِلَا اتِّبَاعِ سُنَّةٍ فَبَاطِلٌ عَمَلُهُ) (¬2). وَقَالَ (¬3) أَبُو حَفْصٍ الْحَدَّادُ (¬4): (مَنْ لَمْ يَزِنْ أَفْعَالَهُ وَأَحْوَالَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَتَّهِمْ خَوَاطِرَهُ فَلَا تَعُدَّهُ فِي دِيوَانِ الرِّجَالِ) (¬5). وَسُئِلَ عَنْ الْبِدْعَةِ فَقَالَ: (التَّعَدِّي فِي الْأَحْكَامِ، وَالتَّهَاوُنُ فِي السُّنَنِ، وَاتِّبَاعُ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، وَتَرْكُ الِاتِّبَاعِ وَالِاقْتِدَاءِ) (¬6). قَالَ: (وَمَا ظَهَرَتْ حَالَةٌ عَالِيَةٌ إلا من ملازمة أمر صحيح) (¬7). ¬

(¬1) هو أحمد بن عبد الله بن ميمون الثعلبي الغطفاني، وأبو الحواري اسم ميمون. إمام، حافظ، قدوة، شيخ أهل الشام، سمع من سفيان بن عيينة وعبد الله بن إدريس وطائفة، وحدث عنه أبو زرعة الدمشقي، وأبو زرعة الرازي وأبو داود وغيرهم، قال عنه ابن معين: أهل الشام به يمطرون، وكان من بيت ورع وزهد. توفي سنة ثلاثين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 85)، طبقات الصوفية للسلمي (ص98)، حلية الأولياء (10/ 5)، صفة الصفوة (4/ 237)، الرسالة القشيرية (ص21). (¬2) عزاه إليه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص101)، والذهبي في السير (12/ 88)، وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (2/ 110)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص22). (¬3) ساقطة من (م) و (خ) و (ط). (¬4) ساقطة من (ت). وهو أبو حفص عمرو بن سلم، ويقال عمرو بن سلمة النيسابوري، تخرج به عامة الأعلام النيسابوريون، منهم أبو عثمان النيسابوري، وشاة الكرماني، وكان أحد الأئمة والسادة. توفي سنة سبع، وقيل أربع وستين ومائتين، وقيل غير ذلك. انظر: حلية الأولياء (10/ 229)، طبقات الصوفية (ص115)، صفة الصفوة (4/ 118)، الرسالة القشيرية (ص22). (¬5) انظره في حلية الأولياء (10/ 230)، صفة الصفوة (4/ 120)، الرسالة القشيرية (ص22). (¬6) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص122). (¬7) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص121)، وعزاه إليه ابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 120).

وَسُئِلَ حَمْدُونُ الْقَصَّارُ (¬1): مَتَى (¬2) يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى (¬3) النَّاسِ؟ فَقَالَ (¬4): (إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أداء فرض من فرائض الله في علمه، أَوْ خَافَ هَلَاكَ إِنْسَانٍ فِي بِدْعَةٍ يَرْجُو أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْهَا (¬5)) (¬6). وَقَالَ: (مَنْ نَظَرَ فِي سِيَرِ السَّلَفِ عَرَفَ تَقْصِيرَهُ وَتَخَلُّفَهُ عَنْ دَرَجَاتِ الرِّجَالِ) (¬7). وَهَذِهِ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُثَابَرَةِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ (¬8) لِرَجُلٍ ذَكَرَ الْمَعْرِفَةَ وَقَالَ: أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ يَصِلُونَ إِلَى تَرْكِ الْحَرَكَاتِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ الْجُنَيْدِ: (إِنَّ هَذَا قَوْلُ قَوْمٍ تَكَلَّمُوا بإسقاط الأعمال، (والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الْأَعْمَالِ) (¬9) عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فِيهَا). قَالَ: (وَلَوْ بَقِيتُ أَلْفَ عَامٍ لَمْ أَنْقُصْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ذَرَّةً، إِلَّا أَنْ يُحَالَ بي دونها) (¬10). ¬

(¬1) هو أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة القصار النيسابوري، شيخ أهل الملامة بنيسابور. ومنه انتشر مذهب الملامة ـ وهو تخريب الظاهر، وعمارة الباطن، مع التزام الشريعة ـ وكان عالماً فقيهاً يذهب مذهب الثوري. توفي سنة إحدى وسبعين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (13/ 50)، طبقات الصوفية للسلمي (ص123)، حلية الأولياء (10/ 231)، صفة الصفوة (4/ 122)، الرسالة القشيرية (ص24). (¬2) بياض في (غ). (¬3) في (ت): "عن"، وصححت في هامشها بما هو مثبت. (¬4) في (ت): "قال". (¬5) في طبقات الصوفية "يرجو أن ينجيه الله تعالى منها بعلمه". (¬6) رواه عنه السلمي في الطبقات (ص125)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص24). (¬7) انظر قوله في طبقات الصوفية (ص27)، وكذلك هو في صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 122)، والرسالة القشيرية (ص24). (¬8) تقدمت ترجمته (ص169). (¬9) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬10) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص159)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 278)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص24)، وتتمته في الطبقات والحلية "وإنه لأوكد في معرفتي، وأقوى في حالي".

وَقَالَ: (الطُّرُقُ كُلُّهُا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ (¬1) إِلَّا عَلَى مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (¬2). وَقَالَ: (مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) (¬3). وَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ، وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، لِأَنَّ (¬4) عِلْمَنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) (¬5). وَقَالَ: (علمنا (¬6) هَذَا مُشَيَّدٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم) (¬7). وقال أبو عثمان (الحيري) (¬8): (الصُّحْبَةُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِحُسْنِ الْأَدَبِ، وَدَوَامِ الْهَيْبَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَلُزُومِ ظَاهِرِ الْعِلْمِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بِالِاحْتِرَامِ وَالْخِدْمَةِ) (¬9) إِلَى آخِرِ مَا قَالَ. وَلَمَّا تَغَيَّرَ عَلَيْهِ الْحَالُ (¬10) مَزَّقَ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ قَمِيصًا عَلَى نَفْسِهِ، فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانُ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: (خِلَافُ السُّنَّةِ يَا بُنَيَّ فِي الظَّاهِرِ (¬11) عَلَامَةُ رِيَاءٍ في الباطن) (¬12). ¬

(¬1) ساقطة من (ت). (¬2) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص159)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 257)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص24)، وتتمة قوله في الطبقات والحلية "واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه". (¬3) انظره في حلية الأولياء (10/ 255)، والرسالة القشيرية (ص25). (¬4) في (م): "لأنا". (¬5) ذكره القشيري في رسالته (ص25)، وأبو نعيم في الحلية مختصراً (10/ 255). (¬6) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬7) انظر قوله في الرسالة القشيرية (ص25). (¬8) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "الجبري". وهو أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور الحيري النيسابوري، وأصله من الري، صحب يحيى بن معاذ الرازي وشاة الكرماني وأبا حفص. ومنه انتشرت طريقة التصوف بنيسابور. مات سنة ثمان وتسعين ومائتين. انظر ترجمته وأقواله في: طبقات الصوفية للسلمي (ص170)، حلية الأولياء (10/ 244)، صفة الصفوة (4/ 103)، الرسالة القشيرية (ص25). (¬9) انظر قوله في الحلية لأبي نعيم (10/ 245)، وصفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 105)، والرسالة للقشيري (ص26). (¬10) كتب في الحلية وصفة الصفوة عند هذا الموضع "وقت وفاته". (¬11) غير واضحة في (ت). (¬12) انظر قوله في الحلية لأبي نعيم (10/ 245)، صفة الصفوة (4/ 106)، الرسالة القشيرية (ص25).

وَقَالَ: (مَنْ أمَّر السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا (¬1) نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أمَّر الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا (¬2) نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ. قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (¬3)) (¬4). وقال أبو الحسين (¬5) (النوري) (¬6): (مَنْ رَأَيْتَهُ يَدَّعِي مَعَ اللَّهِ حَالَةً تُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَلَا تَقْرَبَنَّ مِنْهُ) (¬7). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ (¬8): (ذَهَابُ الْإِسْلَامِ من أربعة: (أولها) (¬9) لا يعملون بما يعلمون، (والثاني) يعملون بما لا يعلمون، (والثالث) لا يتعلمون ما لا يعلمون، (والرابع) يمنعون الناس من التعلم) (¬10). ¬

(¬1) (¬2) في (ت): "أو فعلا". (¬3) سورة النور: آية (54). (¬4) انظر قوله في الحلية لأبي نعيم (10/ 244)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 105)، رسالة القشيري (ص26). (¬5) في (غ): "الحسن". (¬6) في جميع النسخ النووي، وهو خطأ والصحيح ما أثبته. وهو أحمد بن محمد الخراساني، يعرف بابن البغوي، وكان شيخ الطائفة بالعراق وأحذقهم بلطائف الحقائق. وله عبارات دقيقة يتعلق بها من انحرف من الصوفية. توفي سنة خمس وتسعين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 70)، طبقات الصوفية (ص164)، حلية الأولياء (10/ 249)، صفة الصفوة (2/ 439)، الرسالة القشيرية (ص26). (¬7) انظر قوله في حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 252)، الرسالة القشيرية (ص26). (¬8) هو محمد بن الفضل بن العباس بن حفص البلخي، ساكن سمرقند، وأصله من بلخ، ولكنه أخرج منها بسبب المذهب، صحب أحمد بن خضرويه وغيره من المشايخ، وأسند الحديث عن قتيبة بن سعيد. مات سنة تسع عشرة وثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص212)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 232)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 165)، الرسالة القشيرية (ص27). (¬9) قوله "أولها" ساقط من جميع النسخ، وأثبته من طبقات الصوفية ومن الحلية. وكذلك قوله: "والثاني، والثالث، والرابع". (¬10) انظره في: طبقات الصوفية للسلمي (ص214)، الحلية لأبي نعيم (10/ 233)، الرسالة للقشيري (ص27).

هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ وَصْفُ صُوفِيَّتِنَا الْيَوْمَ، عِيَاذًا بِاللَّهِ. وَقَالَ: (أَعْرَفُهُمْ بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ مُجَاهَدَةً فِي أَوَامِرِهِ، وَأَتْبَعُهُمْ لِسُّنَّةِ نَبِيِّهِ) (¬1). وَقَالَ شَاةُ الْكَرْمَانِيُّ (¬2): (مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ (¬3)، وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنِ الشُّبُهَاتِ (¬4)، وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ، وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَعَوَّدَ نَفْسَهُ أَكْلَ الْحَلَالِ، لَمْ تُخْطِئْ (¬5) لَهُ فِرَاسَةٌ) (¬6). وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ (¬7): (كُلُّ بَاطِنٍ يُخَالِفُهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ بَاطِلٌ) (¬8). وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ (¬9) ـ وَهُوَ مِنْ أقران الجنيد ـ: (من ألزم ¬

(¬1) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص214). (¬2) هو أبو الفوارس شاه بن شجاع الكرماني، كان من أبناء الملوك فتزهد، صحب أبا تراب النخشبي وأبا عبيد البسري، وكان من أجلة الفتيان، وعلماء هذه الطبقة. وله رسالات مشهورة، والمثلثة التي سماها مرآة الحكماء. مات قبل الثلاثمائة. انظر ترجمته وأقواله في: طبقات الصوفية للسلمي (ص192)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 237)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 67)، الرسالة للقشيري (ص29). (¬3) في (ت): "الحرام". (¬4) في الحلية "الشهوات"، وكذلك في الرسالة القشيرية. (¬5) في (خ): "تخط". (¬6) انظر قوله في الحلية لأبي نعيم (10/ 237)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 67)، الرسالة القشيرية (ص29). (¬7) هو أحمد بن عيسى الخراز، من أهل بغداد، صحب ذا النون المصري وبشر بن الحارث، والسري السقطي ونظراءهم، وهو من أئمة القوم وجلة مشايخهم. مات سنة تسع وسبعين ومائتين. انظر ترجمته وأقواله في: طبقات الصوفية للسلمي (ص228)، صفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 435)، حلية الأولياء (10/ 246)، الرسالة القشيرية (ص29). (¬8) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص231)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 245) الرسالة القشيرية (ص29). (¬9) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الأدمي، كان من مشايخ الصوفية وعلمائهم، له لسان في فهم القرآن. صحب إبراهيم المارستاني والجنيد ومن فوقهما من المشايخ. وامتحن بسبب الحلاج. توفي سنة تسع وثلاثمائة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (14/ 255)، طبقات الصوفية للسلمي (ص265)،=

نفسه آداب السنة (¬1) نوَّر اللَّهُ قَلْبَهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ، وَلَا مَقَامَ أَشْرَفَ مِنْ مَقَامِ مُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَامِرِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ) (¬2). وَقَالَ أَيْضًا: (أَعْظَمُ الْغَفْلَةِ غَفْلَةُ الْعَبْدِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَفْلَتُهُ عَنْ أَوَامِرِهِ (¬3)، وَغَفْلَتُهُ عَنْ آدَابِ مُعَامَلَتِهِ) (¬4). وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ (¬5): (لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنِ اتَّبَعَ الْعِلْمَ، وَاسْتَعْمَلَهُ، وَاقْتَدَى بِالسُّنَنِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْعِلْمِ) (¬6). وَسُئِلَ عَنِ الْعَافِيَةِ فَقَالَ: (الْعَافِيَةُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: دِينٌ بِلَا بِدْعَةٍ، وَعَمَلٌ بِلَا آفَةٍ، وَقَلْبٌ بِلَا شُغْلٍ وَنَفْسٌ بِلَا شَهْوَةٍ) (¬7). وَقَالَ: (الصَّبْرُ: الثَّبَاتُ عَلَى أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) (¬8). وَقَالَ: بُنَانٌ الْحَمَّالُ (¬9) ـ وَسُئِلَ عَنْ أَصْلِ (¬10) أَحْوَالِ الصُّوفِيَّةِ فَقَالَ ـ: (الثِّقَةُ بِالْمَضْمُونِ، وَالْقِيَامُ بِالْأَوَامِرِ، وَمُرَاعَاةُ السِّرِّ، وَالتَّخَلِّي من الكونين) (¬11). ¬

=حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 302)، صفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 444)، القشيرية (ص30). (¬1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "الله". (¬2) انظر هذا القول له في طبقات الصوفية، وله تتمة (ص268)، وحلية الأولياء (10/ 302)، وصفة الصفوة (2/ 445)، والرسالة القشيرية (ص31). (¬3) في الرسالة القشيرية "أوامره ونواهيه". (¬4) انظر قوله في طبقات الصوفية للسلمي (ص271)، الرسالة القشيرية (ص31). (¬5) تقدمت ترجمته (ص169). (¬6) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص285)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص31)، وذكره الشعراني في الطبقات الكبرى (1/ 83). (¬7) الرسالة (ص24). (¬8) الرسالة (ص85). (¬9) هو أبو الحسن بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد الواسطي، نزيل مصر، ومن يضرب بعبادته المثل، صحب الجنيد وغيره، وكان كبير القدر، لا يقبل من الدولة شيئاً، وله جلالة عجيبة عند الخاص والعام، وقد امتحن في ذات الله فصبر. توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (14/ 488)، طبقات الصوفية للسلمي (ص291)، حلية الأولياء (10/ 324)، صفة الصفوة (2/ 448)، القشيرية (ص31). (¬10) في طبقات الصوفية "أجل"، وكذلك في الرسالة القشيرية. (¬11) انظر قوله في طبقات الصوفية (ص293 ـ 294)، الرسالة القشيرية (ص31).

وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الْبَغْدَادِيُّ (¬1): (مَنْ عَلِمَ طَرِيقَ الْحَقِّ سَهُلَ عَلَيْهِ سُلُوكُهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مُتَابَعَةُ سُنَّةِ (¬2) الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وأقواله) (¬3). وقال أبو إسحاق الرقى (¬4): (عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيثَارُ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةُ (¬5) نَبِيِّهِ) (¬6). انتهى. وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬7) الآية. وَقَالَ مَمْشَادُ الدِّينَوَرِيُّ (¬8): (آدَابُ الْمُرِيدِ فِي الْتِزَامِ حرمات المشايخ، وخدمة (¬9) الْإِخْوَانِ، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَسْبَابِ، وَحِفْظِ آدَابِ الشَّرْعِ على نفسه) (¬10). ¬

(¬1) هو أبو حمزة محمد بن إبراهيم البغدادي البزاز، صحب السري السقطي وبشرا الحافي، وكان عالماً بالقراءات. توفي سنة تسع وثمانين ومائتين. انظر: طبقات الصوفية (ص295)، الرسالة القشيرية (ص32). (¬2) ساقطة من (غ). (¬3) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص32)، وأبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات بلفظ أطول مما هنا (ص298). (¬4) في (خ) و (ط): "الرقاشي" وهو خطأ. وهو أبو إسحاق إبراهيم بن داود الرقي. من كبار مشايخ الشام، ومن أقران الجنيد وابن الجلاء، وقد عمر وعاش إلى سنة ست وعشرين وثلاثمائة. انظر الرسالة القشيرية (ص32). (¬5) في (خ): "ومتابعته". (¬6) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص33). (¬7) سورة آل عمران: آية (31). (¬8) هو من كبار مشايخ الصوفية، صحب يحيى الجلاء ومن فوقه من المشايخ. توفي سنة تسع وتسعين ومائتين. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص316)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 353)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 78)، الرسالة القشيرية (ص33). (¬9) في (خ) و (ط): "وحرمة". (¬10) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص318)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص33).

وَسُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ (¬1) عَمَّنْ يَسْمَعُ الْمَلَاهِيَ (¬2) وَيَقُولُ: هِيَ لِي حَلَالٌ، لِأَنِّي قَدْ وَصَلْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيَّ اخْتِلَافُ (¬3) الْأَحْوَالِ. فَقَالَ: (نَعَمْ قَدْ وَصَلَ، وَلَكِنْ (¬4) إِلَى سَقَرٍ) (¬5). وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنَازِلٍ (¬6): (لَمْ يُضَيِّعْ أَحَدٌ فَرِيضَةً مِنَ الْفَرَائِضِ إِلَّا ابتلاه الله بتضييع السنن، (ولم يبتل أحد بتضييع السنن) (¬7) إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْبِدَعِ) (¬8). وَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ (¬9): (أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ مَا قَارَنَ الْعِلْمَ) (¬10). ¬

(¬1) في (ط): "الروزباري" بالزاي، وهو خطأ. وهو بياض في (غ). وهو أبو علي أحمد بن محمد بن القاسم بن منصور الروذباري، وهو من أهل بغداد، صحب الجنيد وأبا الحسين النوري، وسكن مصر، وصار شيخها، ومات بها سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص354)، سير أعلام النبلاء للذهبي (16/ 227)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 356)، صفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 454)، الرسالة القشيرية (ص34). (¬2) بياض في (غ). (¬3) في (م) و (ت): "باختلاف". (¬4) بياض في (غ). (¬5) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص356)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 356)، والإمام الذهبي في السير (16/ 227)، والقشيري في رسالته (ص34). (¬6) تقدمت ترجمته (ص169). (¬7) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (خ)، ومثبت في هامشها بلفظ "ولم يبتل بتضييع السنن أحد"، وكذلك هو في (ط). (¬8) انظر قوله في طبقات الصوفية للسلمي (ص369)، والرسالة القشيرية (ص34). (¬9) هو أبو يعقوب إسحاق بن محمد النهرجوري، كان من مشايخ الصوفية، صحب الجنيد وعمرو بن عثمان المكي وغيرهم، قال أبو عثمان المغربي: ما رأيت في مشايخنا أنور منه. أقام بالحرم سنين كثيرة مجاوراً، وبه مات سنة ثلاثين وثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص378)، حلية الأولياء (10/ 356)، سير أعلام النبلاء (15/ 232)، الرسالة القشيرية (ص35). (¬10) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص35)، وانظر قوله في نتائج الأفكار القدسية لزكريا الأنصاري (1/ 195).

وَقَالَ أَبُو عَمْرِو (¬1) بْنِ نُجَيْدٍ (¬2): (كُلُّ حَالٍ لَا يَكُونُ عَنْ نَتِيجَةِ عِلْمٍ (¬3) فَإِنَّ ضَرَرَهُ عَلَى صَاحِبِهِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ) (¬4). وَقَالَ بُنْدَارُ (¬5) بْنُ الْحُسَيْنِ (¬6): (صُحْبَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ تُورِثُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحَقِّ) (¬7). وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطَّمَسْتَانِيُّ (¬8): (الطَّرِيقُ واضح، والكتاب والسنة قائم (¬9) بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَفَضْلُ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ لِسَبْقِهِمْ إِلَى الْهِجْرَةِ وَلِصُحْبَتِهِمْ. فَمَنْ صَحِبَ مِنَّا (¬10) الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَتَغَرَّبَ عَنْ نَفْسِهِ وَالْخَلْقِ، وَهَاجَرَ بِقَلْبِهِ إِلَى الله، فهو الصادق المصيب) (¬11). ¬

(¬1) في (ت): "عمر". (¬2) تقدمت ترجمته (ص170). (¬3) في طبقات الصوفية "علم وإن جل". (¬4) انظر قوله في طبقات الصوفية للسلمي (ص455)، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة (1/ 99)، وهو في الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري (ص37). (¬5) في (غ) و (ر): "بنوان". (¬6) هو بندار بن الحسين بن محمد بن المهلب الشيرازي. شيخ الصوفية، كان عالماً بالأصول، وكان أبو بكر الشبلي يكرمه، ويعظم قدره، كان ذا أموال فأنفقها وتزهد. توفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص467)، سير أعلام النبلاء للذهبي (16/ 108)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 384)، الرسالة القشيرية (ص38). (¬7) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص469)، وذكره القشيري في رسالته (ص38). (¬8) هو أبو بكر الطمستاني الفارسي، كان من أجل المشايخ، وكان أبو بكر الشبلي يبجله، ويعرف له محله، صحب إبراهيم الدباغ وغيره. ورد نيسابور ومات بها سنة أربعين وثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص471)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 382)، الرسالة القشيرية (ص38). (¬9) في طبقات الصوفية: "قائمان"، وفي الحلية "قائمة". (¬10) ساقطة من (غ). (¬11) انظر قوله في طبقات الصوفية للسلمي (ص473)، والحلية لأبي نعيم (10/ 382)، ولفظهما أطول من لفظ المؤلف، وذكره أبو القاسم القشيري في رسالته كما هو هنا (ص38).

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ (¬1) النَّصْرَابَاذِيُّ (¬2): (أَصْلُ التَّصَوُّفِ مُلَازَمَةُ الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع (¬3)، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِ الْمَشَايِخِ، وَرُؤْيَةُ أَعْذَارِ الْخَلْقِ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْأَوْرَادِ، وَتَرْكُ ارْتِكَابِ الرُّخَصِ (¬4) وَالتَّأْوِيلَاتِ) (¬5). وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ (¬6). وَقَدْ نَقَلْنَا عَنْ جُمْلَةٍ مِمَّنِ اشْتُهِرَ مِنْهُمْ يَنِيفُ (¬7) عَلَى الْأَرْبَعِينَ شَيْخًا، جَمِيعُهُمْ يُشِيرُ أَوْ يُصَرِّحُ (¬8) بِأَنَّ الِابْتِدَاعَ ضَلَالٌ، وَالسُّلُوكَ عَلَيْهِ تِيهٌ، وَاسْتِعْمَالُهُ (¬9) رَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِطَلَبِ النَّجَاةِ، وَصَاحِبُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَمَوْكُولٌ إِلَى نَفْسِهِ (¬10)، وَمَطْرُودٌ عَنْ نَيْلِ الْحِكْمَةِ. وَأَنَّ الصُّوفِيَّةَ الَّذِينَ نُسِبَتْ إِلَيْهِمُ الطَّرِيقَةُ مُجْمِعُونَ عَلَى تَعْظِيمِ الشَّرِيعَةِ مُقِيمُونَ عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ، غَيْرُ مُخِلِّينَ بِشَيْءٍ مِنْ آدَابِهَا، أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا، وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ (¬11) منهم من ينسب (¬12) إلى فرقة (¬13) مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ وَلَا مَنْ يَمِيلُ إِلَى خِلَافِ السُّنَّةِ، وَأَكْثَرُ مَنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ عُلَمَاءُ وَفُقَهَاءُ وَمُحَدِّثُونَ، وَمِمَّنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ الدِّينُ أُصُولًا وفروعاً، ومن لم يكن ¬

(¬1) ساقطة من (ت). (¬2) هو أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصراباذي، شيخ الصوفية بخراسان في وقته، سمع أبا العباس السراح وابن خزيمة وغيرهما، وحدث عنه الحاكم والسلمي وجماعة، كان يرجع إلى أنواع من العلوم: من حفظ السير وجمعها، وعلوم التواريخ وغيرها. مات في مكة مجاوراً سنة سبع وستين وثلاثمائة. انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص484)، سير أعلام النبلاء للذهبي (16/ 263)، الرسالة القشيرية للقشيري (ص39)، طبقات الشعراني (1/ 144). (¬3) في (ط): "البدع والأهواء". (¬4) سوف تذكر مسألة اجتناب الصوفية للرخص في نهاية الباب الثالث وأنها مخالفة للسنة. انظر (ص394 ـ 395). (¬5) انظر قوله في الطبقات للسلمي (ص488)، ولفظه هناك أطول، وفي الرسالة القشيرية (ص39). (¬6) ساقطة من (غ). (¬7) في (ر): "نيفت". (¬8) في (خ): "يوح". (¬9) غير واضحة في (ت). (¬10) غير واضحة في (ت). (¬11) في (ت): "تجد". (¬12) في (ت): "من ينسب منهم". (¬13) في (ت): "فرق".

كذلك فلا بد له مِنْ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي دِينِهِ بِمِقْدَارِ كِفَايَتِهِ (¬1). وَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْحَقَائِقِ (¬2) وَالْمَوَاجِدِ، وَالْأَذْوَاقِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَسْرَارِ (¬3) التَّوْحِيدِيَّةِ. فَهُمُ الْحُجَّةُ لَنَا عَلَى كل من ينتسب إلى طريقتهم، ولا يجري على مناهجهم (¬4)، بَلْ يَأْتِي بِبِدَعٍ مُحْدَثَاتٍ، وَأَهْوَاءٍ مُتَّبَعَاتٍ، وَيَنْسُبُهَا إِلَيْهِمْ، تَأْوِيلًا عَلَيْهِمْ، مِنْ قَوْلٍ مُحْتَمِلٍ، أَوْ فِعْلٍ مِنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ، أَوِ (¬5) اسْتِمْسَاكًا بِمَصْلَحَةٍ شَهِدَ الشَّرْعُ بِإِلْغَائِهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَكَثِيرًا مَا تَرَى الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ يَرْتَكِبُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى فَسَادِهِ شَرْعًا، وَيَحْتَجُّ بِحِكَايَاتٍ هِيَ قَضَايَا أَحْوَالٍ، وإن صَحَّتْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ لِوُجُوهٍ عِدَّةٍ، ويترك من كلامهم وأحوالهم ما هو أوضح (¬6) فِي الْحَقِّ الصَّرِيحِ، وَالِاتِّبَاعِ الصَّحِيحِ، شَأْنُ مَنِ اتَّبَعَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا تَشَابَهَ مِنْهَا (¬7). وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ التَّصَوُّفِ فِي طَرِيقِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَمْرٍ كَسَائِرِ أَهْلِ الْعُلُومِ فِي عُلُومِهِمْ، أَتَيْتُ مِنْ كَلَامِهِمْ بِمَا يَقُومُ منه دليل على مدح (¬8) السُّنَّةِ وَذَمِّ الْبِدْعَةِ فِي طَرِيقَتِهِمْ (¬9)، حَتَّى يَكُونَ دَلِيلًا لَنَا (¬10) مِنْ جِهَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ عُمُومًا، وَعَلَى الْمُدَّعِينَ فِي طَرِيقِهِمْ خُصُوصًا. وَبِاللَّهِ التوفيق. ¬

(¬1) ما ذكره المؤلف ليس على إطلاقه، فإن الصوفية قد تأثروا بكل الفرق، الذين نقل منهم المؤلف هم أفاضل، والتسليم لهذا الإطلاق قد يوقع في الحرج، إذ قد يُحتج علينا ببعض أقوالهم المنحرفة، والمؤلف يتألف القوم كما سيأتي أيضاً في نهاية الباب الثالث، وهذا الثناء نسبي وليس مطلقاً، فهم أفضل جنسهم، ولمعرفة حقيقة التصوف راجع: هذه هي الصوفية لعبد الرحمن الوكيل وتنبيه الغبي للبقاعي. (¬2) في (ت): "التحقيق". (¬3) السين غير واضحة في (ت). (¬4) في (غ) و (ر): "منهاجهم". (¬5) في (غ): "و". (¬6) في (خ) و (ط): "واضع". (¬7) في (ط): "بها". (¬8) في أصل (خ): "مدع"، وكتب في هامشها "مرعى"، وفي (م) و (ت) "مدعى". (¬9) في (ت): "طريقهم". (¬10) ساقطة من (غ).

فصل

فصل الْوَجْهُ (¬1) الْخَامِسُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ مِنْهُ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ (¬2)، وَهُوَ الْمَبْنِيُّ عَلَى غَيْرِ أُسِّ، وَالْمُسْتَنِدُ إِلَى غَيْرِ أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُّنَّةٍ، لَكِنَّهُ وَجْهٌ تَشْرِيعِيٌّ فَصَارَ نَوْعًا مِنَ الِابْتِدَاعِ، بَلْ هُوَ الْجِنْسُ فِيهَا، فَإِنَّ جَمِيعَ الْبِدَعِ إِنَّمَا هِيَ رَأْيٌ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِوَصْفِ الضَّلَالِ. فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ إِذْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ (¬3) جُهَّالٌ (يَسْتَفْتُونَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ) (¬4) فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ" (¬5). فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَمُّ الرَّأْيِ عَائِدٌ عَلَى الْبِدَعِ بِالذَّمِّ لَا مَحَالَةَ. وَخَرَّجَ (¬6) ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ (¬7) قال: ¬

(¬1) ساقطة من (غ) و (ر). (¬2) وهناك آراء محمودة ذكرها الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: أحدها: آراء الصحابة رضي الله عنهم، ثانياً: الآراء التي تفسر النصوص، وتبين وجه الدلالة منها، ثالثاً: الآراء التي تواطأت عليها الأمة، وتلقاها الخلف عن السلف، رابعاً: الآراء التي تكون بعد بذل الجهد في البحث عن المسألة في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة. انظر إعلام الموقعين (1/ 79 ـ 85). (¬3) في (ت): "الناس". (¬4) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬5) تقدم تخريجه (ص125). (¬6) في (م) و (ر) و (غ): "خرج" بدون الواو. (¬7) هو عوف بن مالك الأشجعي الغطفاني، صحابي من نبلاء الصحابة، شهد فتح مكة، وكانت راية قومه معه، وشهد غزوة مؤتة، مات رضي الله عنه سنة ثلاث وسبعين. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 487)، الإصابة لابن حجر (5/ 43)، التاريخ الكبير (7/ 56).

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ، يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَيُحِلُّونَ بِهِ مَا حَرَّمَ الله" (¬1). قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (¬2): (هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَالْكَلَامُ فِي الدِّينِ بِالتَّخَرُّصِ وَالظَّنِّ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: "يُحِلُّونَ الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ"، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَلَالَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُّنَّةِ رَسُولِهِ تَحْلِيلُهُ، وَالْحَرَامَ مَا كَانَ (¬3) فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُّنَّةِ رسوله تحريمه، فمن جهل ¬

(¬1) رواه الإمام الحاكم في المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، وصححه (4/ 430)، والإمام البزار في كشف الأستار، كتاب العلم، باب التحذير من علماء السوء (1/ 98)، والإمام ابن عدي في الكامل، عند ترجمة نعيم بن حماد الخزاعي (7/ 2483)، والإمام البيهقي في المدخل، باب ما يذكر في ذم الرأي تحت رقم (204)، (ص188)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عند ترجمة نعيم بن حماد تحت رقم (7285)، (13/ 307، 308)، وفي الفقيه والمتفقه له (1/ 180)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى، باب ذكر افتراق الأمم في دينها برقم (251)، (1/ 227)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم، باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والقياس (2/ 133 ـ 134)، والحديث من طريق نعيم بن حماد عن عيسى بن يونس. ونعيم بن حماد قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ كثيراً (2/ 305)، وقال عنه الذهبي في الكاشف: مختلف فيه (3/ 182). وقال عبد الغني بن سعيد: وبهذا الحديث سقط نعيم بن حماد عند كثير من أهل العلم بالحديث، إلا أن يحيى بن معين لم يكن ينسبه إلى الكذب، بل كان ينسبه إلى الوهم، انظر تهذيب التهذيب لابن حجر (10/ 461). وقد تابع نعيماً في روايته عبد الوهاب بن الضحاك وسويد الأنباري وأبو صالح الخرساني والحكم بن المبارك والنظر بن طاهر. انظر هذه المتابعات في تاريخ بغداد (13/ 310، 311)، الكامل لابن عدي (3/ 1264)، (7/ 2483)، سير أعلام النبلاء للذهبي (10/ 600 ـ 601)، ميزان الاعتدال للذهبي (4/ 267 ـ 268)، التنكيل للمعلمي (1/ 496 ـ 497)، وقال عبد الغني بن سعيد: وكل من حدث به عن عيسى بن يونس غير نعيم بن حماد، فإنما أخذه من نعيم. انظر تهذيب التهذيب (10/ 461). وقال البيهقي في المدخل (ص188): تفرد به أبو نعيم بن حماد، وسرقه عنه جماعة من الضعفاء، وهو منكر، وفي غيره من أحاديث الصحاح الواردة في معناه كفاية. (¬2) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص91). (¬3) هذه الكلمة ليست عند ابن عبد البر.

ذَلِكَ وَقَالَ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَاسَ بِرَأْيِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ عَنِ السُّنَّةِ، فهذا هو (¬1) الذي قاس الأمور (¬2) بِرَأْيِهِ فَضَلَّ وَأَضَلَّ، وَمَنْ رَدَّ الْفُرُوعَ فِي عِلْمِهِ إِلَى أُصُولِهَا فَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيِهِ) (¬3). وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدِيثًا (¬4): (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثَلَاثًا)، وَإِحْدَاهُنَّ: (أَنْ يُلْتَمَسَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْأَصَاغِرِ) (¬5)، قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: مَنِ الْأَصَاغِرُ؟ قَالَ: (الَّذِينَ يَقُولُونَ بِرَأْيِهِمْ. فَأَمَّا صَغِيرٌ يَرْوِي عَنْ كَبِيرٍ فَلَيْسَ بِصَغِيرٍ) (¬6). وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَصْبَحَ أَهْلُ الرَّأْيِ أَعْدَاءَ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ (¬7) الْأَحَادِيثُ أن يعوها، وتفلتت منهم (أن يرووها، فاشتقوها بالرأي، وعنه أيضاً: "اتقوا الرأي في دينكم") (¬8). ¬

(¬1) ساقطة من (ط). (¬2) ساقطة من (ط). (¬3) انظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 77)، ونقله عنه الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 53). (¬4) ساقطة من (خ). (¬5) رواه الإمام ابن المبارك في الزهد والرقائق عن أبي أمية الجمحي (1/ 20 ـ 21)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عنه أيضاً بلفظ (إن من أشاط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر) (1/ 85)، والخطيب في الجامع لآداب الراوي والسامع (1/ 72)، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد إلى معجم الطبراني الأوسط والكبير، وقال: "وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف" (1/ 140)، ولكن رواية ابن المبارك عنه مقبولة لأنه حدث عنه قبل احتراق كتبه. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر (5/ 373 ـ 379). وصححه الألباني كما في الصحيحة تحت رقم (695). (¬6) انظر قوله في الزهد لابن المبارك (1/ 21)، وفي أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي قال ابن المبارك: الأصاغر من أهل البدع (1/ 85)، وانظر قول ابن المبارك في الجامع لآداب الراوي والسامع للخطيب البغدادي (1/ 72). (¬7) قال في اللسان: "عي بالأمر عياً، وعيي وتعايا واستعيا، وهو عي وعيي وعيان عجز عنه ولم يطق إحكامه". انظر لسان العرب (15/ 111). (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ)، وذكره الإمام ابن بطة في الإبانة الصغرى بلفظ "وتفلتت منهم فلم يعوها فقالوا بالرأي". (ص121).

قَالَ سَحْنُونُ (¬1): (يَعْنِي الْبِدَعَ) (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ: (إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ (أَعْدَاءُ السُّنَنِ) (¬3)، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ (¬4) أَنْ يَحْفَظُوهَا (فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا) (¬5)) (¬6). (وَفِي رواية لابن وهب: (إِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ (¬7)، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا) (¬8)، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئِلُوا (¬9) أَنْ يَقُولُوا: لَا نَعْلَمُ، فَعَارَضُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (¬10). قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ (¬11): (أَهْلُ الرَّأْيِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ) (¬12). ¬

(¬1) هو أبو سعيد عبد السلام بن حبيب بن حسان التنوخي، المغربي القيرواني المالكي فقيه المغرب، وقاضي القيروان، وصاحب المدونة، ويلقب بسحنون، ارتحل وحج وسمع الحديث، ولم يتوسع فيه كما توسع في الفروع، أخذ عنه عدد كبير من الفقهاء، توفي سنة أربعين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 63)، ترتيب المدارك للقاضي عياض (2/ 585)، وفيات الأعيان للصفدي (3/ 180). (¬2) ذكره عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 134 ـ 135). (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬4) ساقط من (خ). (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (خ). (¬6) رواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 135)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 123). (¬7) في (م) و (خ) و (ط): "السنة"، وما أثبته هو ما في (ت) و (غ) وكذلك هو في جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 135). (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من (خ). (¬9) في (ط) و (ت): "يسألوا". (¬10) أخرجه الآجري في الشريعة (48)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/ 123)، والأصبهاني في الحجة (1/ 205)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 135) والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/ 180 ـ 181)، وقد ذكر الإمام ابن القيم ما نقل عن عمر في ذم الرأي ثم قال: وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة. إعلام الموقعين (1/ 55). (¬11) هو عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني، ابن الإمام أبي داود صاحب السنن، وكان علامة حافظاً، روى عن أبيه وعمه وخلق كثير، صنف السنن والمصاحف والناسخ والمنسوخ وغيرها. مات سنة ست عشرة وثلاثمائة. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 221)، شذرات الذهب لابن العماد (2/ 273)، ميزان الاعتدال للذهبي (2/ 433). (¬12) انظر قوله في جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 135).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) (¬1). وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (قُرَّاؤُكُمْ وعلماؤكم (¬2) يذهبون، ويتخذ الناس رؤوساً (¬3) جُهَّالًا يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ) (¬4). وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ وغيره عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (السُّنَّةُ مَا سَنَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، لَا تَجْعَلُوا خَطَأَ (¬5) الرَّأْيِ سُنَّةً لِلْأُمَّةِ) (¬6). وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (¬7) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى أَدْرَكَ فِيهِمُ الْمُوَلَّدُونَ، أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل (¬8)). ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص144). (¬2) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬3) في (ط): "رؤساء". (¬4) رواه عنه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 136). (¬5) في جميع النسخ "حظ" عدا (غ) و (ر)، وهو الموافق لما عند ابن عبد البر. (¬6) رواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 136). (¬7) هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، إمام، ثقة، فقيه، سمع من أبيه وعمه ابن الزبير وغيرهم، وحدث عنه شعبة ومالك والثوري وغيرهم. توفي سنة ست وأربعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 34)، تقريب التهذيب (2/ 319)، الكاشف للذهبي (3/ 197). (¬8) روي هذا الأثر مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما روي مرسلاً عن عروة بن الزبير، والمرفوع رواه الإمام ابن ماجه في مقدمة سننه، باب اجتناب الرأي والقياس عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى نشأ فيهم المولدون، أبناء سبايا الأمم. فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا" (1/ 31)، ورواه البزار من حديث ابن عمرو مرفوعاً. انظر كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 96)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى عن واثلة بن الأسقع مرفوعاً (2/ 622). قال الإمام ابن حجر في الفتح بعد ذكر حديث عبد الله بن عمرو في قبض العلم: "وهي رواية الأكثر، وخالف الجميع قيس بن الربيع، وهو صدوق، ضعف من قبل حفظه، فرواه عن هشام بلفظ: (لم يزل أمر بني إسرائيل ... ) أخرجه البزار وقال تفرد به قيس، ثم قال الحافظ: والمحفوظ بهذا اللفظ ما رواه هشام فأرسله ثم ذكر=

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ (¬1): (إِنَّمَا هَلَكْتُمْ حِينَ تَرَكْتُمُ الْآثَارَ وَأَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ) (¬2). وَعَنِ الْحَسَنِ: (إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ (¬3) تَشَعَّبَتْ (¬4) بِهِمُ (¬5) السُّبُلُ، وَحَادُوا عَنِ الطَّرِيقِ فَتَرَكُوا الْآثَارَ، وَقَالُوا فِي الدِّينِ برأيهم، فضلوا وأضلوا" (¬6). وعن دراج أبي السَّمْحِ (¬7)، قَالَ: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسَمِّنُ الرجل ¬

=من رواه مرسلاً، انظر الفتح (13/ 285)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه للبزار، وقال: فيه قيس بن الربيع وثقه شعبة والثوري، وضعفه جماعة، وقال ابن القطان: هذا إسناد حسن (1/ 185)، وضعفه الشيخ الألباني كما في ضعيف الجامع تحت رقم (4760)، وأحال على السلسلة الضعيفة برقم (4336). ورواه مرسلاً عن عروة بن الزبير الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة (1/ 62)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 136، 138)، والإمام البيهقي في المدخل برقم (222)، وعزاه ابن حجر في الفتح للحميدي في النوادر. انظر الفتح (13/ 285). (¬1) هو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار الهمداني الشعبي، الإمام، علامة العصر، ولد في إمرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورأى علياً رضي الله عنه وصلى خلفه، وسمع من عدة من كبراء الصحابة، قال ابن عيينة رحمه الله: علماء الناس ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه. مات سنة خمس ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (4/ 294)، طبقات ابن سعد (6/ 246)، حلية الأولياء لأبي نعيم (4/ 310)، البداية والنهاية لابن كثير (9/ 230). (¬2) رواه عنه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى بلفظ أطول (2/ 516)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 137). (¬3) في (ت): "حتى". (¬4) في (ط) و (خ): "شعبت". (¬5) في (ت): "فيهم". (¬6) رواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 137). (¬7) في (خ) و (ط): "دراج بن السهم بن أسمح"، وفي (م): "دراج بن أسمح"، والصواب ما أثبته. وهو دراج بن سمعان أبو السمح السهمي، مولاهم، المصري، القاص، مولى عبد الله بن عمرو، قال ابن حجر: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم، ضعيف من الرابعة، مات سنة ست وعشرين ومائة. انظر: تقريب التهذيب (1/ 235)، الكاشف للذهبي (1/ 226).

رَاحِلَتَهُ حَتَّى تَعْقِدَ شَحْمًا، ثُمَّ يَسِيرُ عَلَيْهَا فِي الْأَمْصَارِ حَتَّى تَعُودَ نِقْضاً (¬1)، يَلْتَمِسُ مَنْ يُفْتِيهِ بِسُّنَّةٍ قَدْ عَمِلَ بِهَا، فَلَا يَجِدُ إِلَّا مَنْ يُفْتِيهِ بِالظَّنِّ) (¬2). وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّأْيِ الْمَقْصُودِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ. فَقَدْ (¬3) قَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِهِ رَأْيُ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَنِ، لَكِنْ فِي الِاعْتِقَادِ كَمَذْهَبِ جَهْمٍ (¬4) وَسَائِرِ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا آرَاءَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ (¬5) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ وَفِي رَدِّ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ لِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الرَّدَّ وَيَقْتَضِي التَّأْوِيلَ، كما قالوا بنفي الرؤية رداً (¬6) للظاهر (¬7) بالمحتملات (¬8)، ونفي ¬

(¬1) النِقْض، بالكسر: البعير الذي أنضاه السفر، وكذلك الناقة، قال السيرافي: كأن السفر نقض بنيته، انظر لسان العرب (7/ 243). (¬2) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص90)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 155). (¬3) ساقطة من (غ) و (ر). (¬4) هو جهم بن صفوان أبو محرز الراسبي السمرقندي، أسّ الضلالة، ورأس الجهمية تتلمذ على الجعد بن درهم المبتدع، وكان كاتباً للحارث بن سريج، وخرج معه على الأمويين فقتلا بمرو سنة 128هـ، ومن ضلالاته، نفي صفات الله، والقول بالجبر، والقول بفناء الجنة والنار. انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (6/ 26)، الفرق بين الفرق للبغدادي (ص158) الملل والنحل للشهرستاني (ص86). (¬5) في (خ): "على". (¬6) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ "نفياً". (¬7) غير واضحة في (ت). (¬8) وذلك مثل تأويلهم للنظر بالانتظار في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: 22 ـ 23)، مع أن دلالة الآية ظاهرة في أن المراد هو النظر بالعين حقيقة، قال الإمام ابن أبي العز في شرح الطحاوية: "وإضافة النظر إلى الوجه، الذي هو محله، في هذه الآية، وتعديته بأداة "إلى" الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلافه حقيقة موضوعة صريحة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله". انظر شرح الطحاوية (ص189). والذين قالوا بنفي رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة هم الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية والمرجئة. وقولهم مخالف للكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وأئمة الدين. وانظر في أدلة أهل السنة وردهم على المبتدعة أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (3/ 454)، والشريعة للآجري (ص251)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص188)، ومختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (2/ 353)، وفتح الباري لابن حجر (13/ 426)، ورؤية الله تعالى (للدكتور أحمد الناصر).

عَذَابِ الْقَبْرِ (¬1)، وَنَفْيِ الْمِيزَانِ (¬2)، وَالصِّرَاطِ (¬3)، وَكَذَلِكَ رَدُّوا أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ (¬4) وَالْحَوْضِ (¬5) إِلَى أَشْيَاءَ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وهي مذكورة في كتب الكلام (¬6). ¬

(¬1) قال الإمام ابن أبي العز في شرح الطحاوية: "وقد تواترت الأخبار عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار ... ". انظر شرح الطحاوية (ص399). وقد قال بنفيه الخوارج والمعتزلة اعتماداً على العقل في أمر غيبي ليس للعقل فيه مجال، وانظر في أدلة أهل السنة وردهم على المبتدعة أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (6/ 1127)، والشريعة للآجري (ص358)، ومقالات الإسلاميين للأشعري (2/ 116)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (ص396). (¬2) والميزان الذي توزن به الأعمال في الآخرة ثابت بالكتاب والسنة. قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ *} سورة الأنبياء: آية (47)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) رواه البخاري (11/ 566)، ومسلم (17/ 19)، وقد أنكر الميزان المعتزلة وبعض الطوائف، انظر في أدلة أهل السنة والرد على المبتدعة: أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (16/ 1170)، الشريعة للآجري (ص382)، السنة لابن أبي عاصم، باب رقم (162)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص417)، مقالات الإسلاميين للأشعري (2/ 164)، الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 65). (¬3) قال الإمام السفاريني في لوامع الأنوار البهية: "اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره من كونه جسراً مدوداً على متن جهنم، أحد من السيف، وأدق من الشعر، وأنكر هذا الظاهر القاضي عبد الجبار المعتزلي وكثير من أتباعه زعما منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة .. ". ثم قال: "وكل هذا باطل وخرافات لوجوب حمل النصوص على حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء أو الطيران في الهواء والوقوف فيه". انظر لوامع الأنوار (2/ 193)، وانظر في الموضوع: شرح أصول الاعتقاد للالكائي (6/ 1177)، شرح العقيدة الطحاوية (ص415). (¬4) الذين نفوا الشفاعة لأهل الكبائر هم الخوارج والمعتزلة، بناء على أصلهم الباطل وهو تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وأدلة الشفاعة صحيحة متواترة، انظرها على وجه التفصيل في: السنة لابن أبي عاصم (ص350 ـ 400)، أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (ص1089 ـ 1115)، الشريعة للآجري (ص331 ـ 351)، وانظر في الرد عليهم: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 63)، مقالات الإسلاميين (2/ 166)، شرح الطحاوية لابن أبي العز (ص229). (¬5) تقدم التعليق على هذه المسألة (ص123). (¬6) تقدم نحو هذا الإطلاق للمؤلف في الباب الأول (ص48)، حيث سمى المؤلف أصول=

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ الْمَعِيبُ الرَّأْيُ الْمُبْتَدَعُ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ ضُرُوبِ الْبِدَعِ، فَإِنَّ حَقَائِقَ جَمِيعِ الْبِدَعِ رُجُوعٌ إِلَى الرَّأْيِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الشَّرْعِ (¬1). وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَظْهَرُ، إِذِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَا تَقْتَضِي بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبِدَعِ نَوْعًا دُونَ (¬2) نَوْعٍ، بَلْ ظَاهِرُهَا يقتضي (¬3) الْعُمُومَ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ أَوْ تَحْدُثُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَانَتْ مِنَ (¬4) الْأُصُولِ أَوِ الْفُرُوعِ (¬5)، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ (¬6) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬7) بعد ما حَكَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخَوَارِجِ (¬8). وَكَأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّخْصِيصِ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ لَمْ يَقُلْ بِهِ (¬9) بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ أَتَى بِمِثَالٍ مِمَّا تَتَضَمَّنُهُ (¬10) الْآيَةُ، كَالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا كَانَ (¬11) مُشْتَهِرًا في ذلك الزمان، فهو أولى مَا يُمَثَّلُ بِهِ، وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ مَسْكُوتًا عَنْ ذِكْرِهِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، وَلَوْ سُئِلَ عَنِ الْعُمُومِ لَقَالَ بِهِ. وَهَكَذَا كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْخَاصَّةِ بِبَعْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ إِنَّمَا تَحْصُلُ عَلَى التَّفْسِيرِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ سُورَةِ آلِ عمران إنما نزلت فِي قِصَّةِ نَصَارَى نَجْرَانَ؟ ثُمَّ نُزِّلت عَلَى الْخَوَارِجِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ (¬12)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُذْكَرُ فِي التَّفْسِيرِ، إِنَّمَا يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا يشمله ¬

=الدين علم الكلام، والصحيح أن كتب العقيدة التي قرر فيها أهل السنة عقيدتهم، وردوا فيها على المبتدعة لا تسمى كتب الكلام، لأن الكلام مذموم، وكتبه مذمومة، بل تسمى كتب العقيدة، أو كتب السنة أو نحوها، وتقدم التعليق على نحو هذا في الموضع المذكور. (¬1) انظر هذا القول في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 138). (¬2) في (ت): "وبعد". (¬3) في (م) و (خ) و (ط): "تقتضي". (¬4) مطموسة في (ت). (¬5) فالأول خَاصٌّ بِالِاعْتِقَادِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعَمَلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا كما ذكر ذلك المؤلف في الباب العاشر (2/ 335) من طبعة رشيد رضا. (¬6) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص76). (¬7) سورة الأنعام: آية (159). (¬8) تقدم قوله (ص93). (¬9) ساقطة من (ت). (¬10) في (ت): "تضمنته". (¬11) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ "قال"، وهي غير واضحة في (خ). (¬12) انظر الآية وحمل بعض الصحابة لها على الخوارج (ص75 ـ 81).

الْمَوْضِعُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ الْحَاضِرَةِ لَا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ لُغَةً. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْهَمَ أقوال المفسرين المتقدمين، وهو الأولى بمناصبهم (¬1) فِي الْعِلْمِ، وَمَرَاتِبِهِمْ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (¬2). وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ـ وَهُمْ فِيمَا زَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ (¬3) ـ: الرَّأْيُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآثَارِ هُوَ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالُ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ والأُغْلُوطَات (¬4)، وَرْدُّ الْفُرُوعِ وَالنَّوَازِلِ (¬5) بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ قِيَاسًا، دُونَ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِهَا وَالنَّظَرِ فِي عِلَلِهَا وَاعْتِبَارِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ، وَفُرِّعَتْ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ، وَتُكُلِّمَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بِالرَّأْيِ الْمُضَارِعِ (¬6) لِلظَّنِّ. قَالُوا: لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ تَعْطِيلُ السُّنَنِ وَالْبَعْثُ عَلَى جَهْلِهَا، وَتَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَى مَا يَلْزَمُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَمِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَانِيهِ. وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا (¬7): أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَعَنَ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ (¬8)، وَمَا جَاءَ مِنَ النهي عن الأغلوطات (¬9) ـ وهي صعاب ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (ط): "لمناصبهم". (¬2) وقريب من هذا المعنى ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في أنواع اختلاف السلف في التفسير، وأن غالبه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد. انظر مقدمة التفسير ضمن الفتاوى (13/ 333 ـ 344). (¬3) انظر قولهم في جامع بيان العلم وفضله (2/ 139). (¬4) الأغلوطات جمع أغلوطة. والأغلوطة بالضم ما يغلّط به من المسائل. انظر الصحاح (3/ 1147). وقال الإمام الأوزاعي: هي شواذ المسائل وصعابها. انظر: مسند الإمام أحمد (5/ 435)، الإبانة الكبرى (1/ 402)، شرح السنة للبغوي (1/ 308)، الفقيه والمتفقه للخطيب (2/ 11)، المدخل للبيهقي (ص229). (¬5) في (ط): "النوازع" وهو خطأ. (¬6) في (خ): "المعارض". (¬7) في (ت): "ومنها". (¬8) رواه الإمام الدارمي في سننه، باب كراهية الفتيا عن ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما (1/ 62)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 139، 143). (¬9) في (غ) و (ر) "الغلوطات"، وقد رواه الإمام أبو داود في سننه، باب التوقي في الفتيا عن=

الْمَسَائِلِ ـ، وَعَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَأَنَّهُ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا (¬1)، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّلَفِ لَمْ يَكُنْ يُجِيبُ إِلَّا عَمَّا نَزَلَ مِنَ النَّوَازِلِ دُونَ مَا لَمْ يَنْزِلْ (¬2). وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِهِ قَدْ مَنَعَ مِنَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْمُومٍ، لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَهُوَ تَرْكُ النَّظَرِ فِي السُّنَنِ اقْتِصَارًا عَلَى الرَّأْيِ. وَإِذَا (¬3) كَانَ كَذَلِكَ اجْتَمَعَ مَعَ مَا قَبْلُهُ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ وَشَدَّدَ فِيهِ مَنَعَ مَا حَوَالَيْهِ وَمَا دَارَ بِهِ وَرَتَعَ حَوْلَ حِمَاهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ" (¬4)؟ وَكَذَلِكَ ¬

=معاوية رضي الله عنه، برقم (3656)، (3/ 320)، والإمام أحمد في المسند (5/ 435)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 11)، والبيهقي في المدخل (ص229)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 400)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 139)، والطبراني في معجمه الكبير (19/ 326، 892)، والمزي في تهذيب الكمال (15/ 21)، وفي إسناده عبد الله بن سعد قال عنه الذهبي في الميزان: مجهول (2/ 428)، وانظر ضعيف الجامع للشيخ الألباني برقم (6035)، (ص869). (¬1) من ذلك ما أورده الإمام البخاري من الأحاديث في باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه. ومنها حديث المغيرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم (كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) (13/ 264 فتح). ورواه كذلك الإمام مسلم في كتاب الأقضية من صحيحه، باب النهي عن كثرة المسائل (12/ 10)، والإمام أحمد في المسند (4/ 246). وانظر ما جمعه ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن الموضوع (2/ 140). (¬2) وقد روي ذلك عن عمر وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وغيرهم رضي الله عنهم. انظر ما روي في ذلك في سنن الدارمي، باب كراهية الفتيا (1/ 62 ـ 64)، جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 141 ـ 142 ـ 143)، الفقيه والمتفقه للخطيب (2/ 7 ـ 8) المدخل للبيهقي (ص225 ـ 231). (¬3) في (ت): "إذا" بدون واو. (¬4) رواه الإمام البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه، باب فضل من استبرأ لدينه عن النعمان بن بشير (1/ 126)، والإمام مسلم في كتاب المساقاة، من صحيحه، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (11/ 27)، والإمام أبو داود في كتاب البيوع من سننه، باب في اجتناب الشبهات برقم (3329)، (3/ 240)، والإمام الترمذي في كتاب البيوع من سننه، باب ما جاء في ترك الشبهات برقم (1205)، والإمام النسائي في=

جَاءَ فِي الشَّرْعِ أَصْلُ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ مَنْعُ الْجَائِزِ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى غَيْرِ الْجَائِزِ. وَبِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمَمْنُوعِ يَكُونُ اتِّسَاعُ الْمَنْعِ فِي الذَّرِيعَةِ وَشِدَّتُهُ. وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ يُبَيِّنُ لَكَ عِظَمَ الْمَفْسَدَةِ فِي الِابْتِدَاعِ، فَالْحَوْمُ حَوْلَ حِمَاهُ يَتَّسِعُ جِدًّا، وَلِذَلِكَ تَنَصَّلَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى الطَّرِيقَةِ، فَامْتَنَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُتْيَا بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَسْأَلَةِ، وَحَكَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَعْجَلُوا بالبَلِيَّة قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إن لا تفعلوا (¬1) تشتتت (¬2) بِكُمُ الطُّرُقُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا" (¬3). وَصَحَّ نَهْيُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ (¬4) وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَعَفَا عَنْ (¬5) أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ لَا عَنْ نِسْيَانٍ فلا تبحثوا عنها" (¬6). ¬

=كتاب البيوع، باب اجتناب الشبهات (7/ 241)، والإمام أحمد في المسند (4/ 267، 269، 270)، والإمام الدارمي في كتاب البيوع في سننه، باب في الحلال بين ... برقم (2538)، (2/ 319). (¬1) هكذا في (ر) ومراجع الأثر، وفي بقية النسخ: "إن تفعلوا". (¬2) في (ط) و (ت): "تشتت". (¬3) أخرجه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة عن وهب بن عمرو الجمحي مرفوعاً (1/ 61)، وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن معاذ مرفوعاً (2/ 142)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى عن معاذ مرفوعاً (1/ 395)، ورواه أبو داود في المراسيل مرفوعاً عن معاذ (ص224)، وذكره البيهقي في المدخل (ص226 ـ 227)، ورواه الخطيب في الفقيه والمتفقه موقوفاً على معاذ (2/ 12)، وروى الموقوف أيضاً الإمام الدارمي في سننه، باب من هاب الفتيا (1/ 68)، وقال الإمام ابن حجر في الفتح بعد ذكره عن أبي سلمة مرفوعاً وعن معاذ: وهما مرسلان يقوي بعض بعضا (13/ 267 فتح)، وذكره ابن حجر في المطالب العالية (3/ 106) وقال أبو حبيب الرحمن الأعظمي معلقاً عليه: قال البوصيري رواه إسحاق بإسناد حسن وأبو بكر بن أبي شيبة. انظر المطالب العالية (3/ 106). (¬4) تقدم ذكر الحديث وتخريجه (ص198) هامش (3). (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) رواه الإمام الدارقطني في كتاب الرضاع من سننه عن أبي ثعلبة الخشني (4/ 184) والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 136)، والإمام ابن بطة في الإبانة=

وَأَحَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ عَلَى الْأُمَرَاءِ فَلَمْ يَكُونُوا يُفْتُونَ حَتَّى يَكُونَ الْأَمِيرُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ، وَيُسَمُّونَهَا صَوَافِيَ الْأُمَرَاءِ (¬1). وَكَانَ جَمَاعَةٌ يُفْتُونَ على الخروج عن العهدة، وأنه رأي وليس (¬2) بِعِلْمٍ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذْ سُئِلَ فِي الْكَلَالَةِ (¬3): (أَقُولُ (¬4) فِيهَا بِرَأْيِي (¬5)، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ) (¬6). ثُمَّ أَجَابَ. وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ (¬7) فسأله عن شيء فأملاه (¬8) عليه، ¬

=الكبرى (1/ 407)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 9)، والطبراني في الكبير (22/ 589)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 17)، وحسنه الإمام النووي كما في الأذكار (ص584)، وقال عنه الهيثمي في المجمع: ورجاله رجال الصحيح (1/ 176)، وله شاهد من حديث أبي الدرداء رواه البيهقي في سننه (10/ 12)، والإمام الحاكم في المستدرك وصححه (2/ 407)، وانظر شواهد الحديث في الفتح (13/ 267). (¬1) ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر عن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبي يقول في شيء قط برأيه، قال وربما سئل عن الشيء فيقول هذا من خالص السلطان. انظر جامع بيان العلم (2/ 143)، وروي كذلك عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي مسعود عقبة بن عمرو: "ألم أنبأ أنك تفتي الناس ولست بأمير؟! ولى حارها من تولى قارها". رواه عنه ابن عبد البر في نفس الموضع، وروى نحوه الإمام الدارمي في سننه (1/ 73). (¬2) في (ط): "ليس" بدون الواو. (¬3) الكَلالة هو الميت الذي لا ولد له ولا والد، وهو قول أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجمهور أهل العلم. وتطلق الكلالة على الذين يرثون الميت من عدا والده وولده. انظر: فتح القدير للشوكاني (1/ 434)، تفسير ابن كثير (1/ 904). (¬4) في (خ): "أقوال". (¬5) في (ت): "برأي". (¬6) رواه الإمام الدارمي في كتاب الفرائض من صحيحه، باب الكلالة (2/ 462)، والإمام ابن جرير في تفسيره (4/ 284)، وجامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 833)، وسعيد بن منصور في سننه (1/ 168). (¬7) هو سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وسمع عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، وكان ممن برز في العلم والعمل، وكان يفتي والصحابة أحياء. توفي رحمه الله سنة أربع وتسعين. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 217)، طبقات ابن سعد (5/ 119)، تاريخ البخاري الكبير (3/ 510)، البداية والنهاية (9/ 99). (¬8) في (م) و (غ): "فأمله".

ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ فَأَجَابَهُ، فَكَتَبَ الرَّجُلُ، فقال رجل من جلساء (¬1) سعيد أنكتب (¬2) يَا أَبَا (¬3) مُحَمَّدٍ رَأْيَكَ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ لِلرَّجُلِ: نَاوِلْنِيهَا، فَنَاوَلَهُ (¬4) الصَّحِيفَةَ فَخَرَقَهَا (¬5). وَسُئِلَ (¬6) الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ (¬7) عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَ، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَا تَقُلْ إِنَّ الْقَاسِمَ زَعَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَكِنْ إِنِ اضْطُرِرْتَ (¬8) إِلَيْهِ عَمِلْتَ بِهِ (¬9). وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: (قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ، فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَّبِعَ (¬10) آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَتَّبِعَ (¬11) الرَّأْيَ، فَإِنَّهُ مَتَى اتُّبِعَ الرَّأْيُ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى فِي الرَّأْيِ مِنْكَ فَاتَّبَعْتَهُ، فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَ رَجُلٌ غَلَبَكَ اتَّبَعْتَهُ، أَرَى هَذَا لَا يَتِمُّ) (¬12). ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِرَأْيِهِ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ بَعْدَ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي النَّازِلَةِ: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (¬13) (¬14)، وَلِأَجْلِ الْخَوْفِ عَلَى مَنْ كَانَ يَتَعَمَّقُ فِيهِ لم يزل ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "حلفاء". (¬2) في (خ) و (ت) و (ط): "أتكتب". (¬3) ساقطة من (ت). (¬4) في (ت): "فناولها له"، وكلمة الصحيفة ساقطة، وكتب في الهامش "فناوله الصحيفة". (¬5) رواه عنه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 144). (¬6) بياض في (غ). (¬7) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولد في خلافة علي رضي الله عنه، وكان إماماً قدوة حافظاً، وهو عالم المدينة في وقته مع سالم وعكرمة، مات سنة سبع ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 53)، طبقات ابن سعد (5/ 187)، حلية الأولياء (2/ 183)، شذرات الذهب (1/ 135). (¬8) في (م) و (خ): "اضرر". (¬9) رواه عنه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 144). (¬10) في (ر): "تتبع". (¬11) في (ر): "يتبع". (¬12) رواه عنه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 144). (¬13) سورة الجاثية: آية (32). (¬14) روى ذلك عنه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 33، 146)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 323).

يَذُمُّهُ، وَيَذُمُّ مَنْ تَعَمَّقَ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ يُنْحَى (¬1) عَلَى (¬2) أَهْلِ الْعِرَاقِ لِكَثْرَةِ تَصَرُّفِهِمْ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ، فَحُكِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءَ مِنْ أَخَفِّهَا قَوْلُهُ: "الِاسْتِحْسَانُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ، وَلَا يَكَادُ الْمُغْرِقُ (¬3) فِي الْقِيَاسِ إِلَّا يُفَارِقُ السُّنَّةَ" (¬4). وَالْآثَارُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَيْسَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَخْصُوصَةٌ بِالرَّأْيِ فِي الِاعْتِقَادِ. فَهَذِهِ كُلُّهُا تَشْدِيدَاتٌ فِي الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى الْأُصُولِ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الرَّأْيِ غَيْرِ الْجَارِي عَلَى أَصْلٍ. وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ هُنَا كَلَامٌ كَثِيرٌ كَرِهْنَا الْإِتْيَانَ بِهِ (¬5). وَالْحَاصِلُ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ مَا بُنِيَ عَلَى الجهل واتباع الهوى من غير أصل (¬6) يُرْجَعَ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ ذَرِيعَةً إِلَيْهِ وإن كان في أصله محموداً، وذلك (عند الإكثار منه والاشتغال به عن النظر في الأصول، وما سواه فهو محمود لأنه) (¬7) رَاجِعٌ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، فَالْأَوَّلُ دَاخِلٌ تَحْتَ حَدِّ الْبِدْعَةِ، وَتَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الذَّمِّ، وَالثَّانِي خارج عنه ولا يكون بدعة أبداً. ¬

(¬1) في (ت): "يلحى". (¬2) ساقطة من (غ). (¬3) في (ت): "المستغرق". (¬4) روى الشطر الأول من قوله الإمام ابن حزم في الإحكام (6/ 16)، وأما الجزء الثاني فلم أجده، وقد ذكره المؤلف في الباب الثامن (2/ 138) من المطبوع. (¬5) ولعل المؤلف يريد ما نقله ابن عبد البر عن مالك في ذم أبي حنيفة. انظر جامع بيان العلم (2/ 147)، ولكن الإمام ابن عبد البر عاد فتكلم عن أبي حنيفة بكلام منصف. (2/ 148 ـ 150). (¬6) في جميع النسخ "أن" عدا (غ). (¬7) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ).

فصل

فصل الوجه السادس يُذْكَرُ فِيهِ بَعْضُ مَا فِي الْبِدَعِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَحْذُورَةِ، وَالْمَعَانِي الْمَذْمُومَةِ، وَأَنْوَاعِ الشُّؤْمِ، وَهُوَ كَالشَّرْحِ لِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا، وَفِيهِ زِيَادَةُ بَسْطٍ، وَبَيَانٍ زَائِدٍ (¬1) عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ الْأَدِلَّةِ. فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى مَا يَسَعُ ذِكْرُهُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ وَالْحَالِ (¬2). فَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عِبَادَةٌ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْقُرُبَاتِ. وَمُجَالِسُ صَاحِبِهَا تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمَاشِي إِلَيْهِ وَمُوَقِّرُهُ مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ، فَمَا الظَّنُّ بِصَاحِبِهَا؟ وَهُوَ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ، وَيَزْدَادُ (¬3) مِنَ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ بُعْدًا، وَهِيَ (¬4) مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَمَانِعَةٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَرَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا، وَعَلَى مُبْتَدِعِهَا إِثْمُ (¬5) مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، وتلقى عليه الذلة (في الدنيا) (¬6) وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ، وَيُبْعَدُ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعْدُودًا فِي الْكُفَّارِ الْخَارِجِينَ عَنِ الملة، وسؤ (¬7) الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا، وَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ في الآخرة، ويعذب بِنَارِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ فِي الدُّنْيَا زِيَادَةً إِلَى عذاب الآخرة. ¬

(¬1) في (م): "زائداً". (¬2) سوف يذكر المؤلف ما في البدع من الأوصاف المذمومة على وجه الإجمال ثم يفصل القول في كل وصف على حده. (¬3) في (ت): "ويزدا". (¬4) أي البدعة. (¬5) في (ت): "ثم"، وصححت فوق الكلمة. (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ)، وفي (ر): "الرضا". (¬7) أي ويخاف عليه سوء الخاتمة.

فَأَمَّا (¬1) أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عَمَلٌ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ (¬2) أَنَّهُ قَالَ: (كَانَ بعض أهل العلم يقول: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ ذِي بِدْعَةٍ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا صَدَقَةً وَلَا جِهَادًا وَلَا حَجًّا (¬3) وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا) (¬4). وَفِيمَا كَتَبَ بِهِ أَسَدُ بْنُ مُوسَى (¬5): (وَإِيَّاكَ أن يكون لك من أهل (¬6) الْبِدَعِ أَخٌ أَوْ جَلِيسٌ أَوْ صَاحِبٌ، فَإِنَّهُ جَاءَ الْأَثَرُ (مَنْ (¬7) جَالَسَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ نُزِعَتْ منه العصمة، ووكل إلى نفسه) (¬8)، و (من مشى إلى صاحب بدعة مشى في (¬9) هَدْمِ الْإِسْلَامِ) (¬10)، وَجَاءَ: (مَا مِنْ إِلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ مِنْ صَاحِبِ هَوًى) (¬11)، وَوَقَعَتِ اللَّعْنَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عدلاً فَرِيضَةً (¬12) وَلَا تَطَوُّعًا (¬13)، وَكُلَّمَا ازْدَادُوا اجْتِهَادًا ـ صَوْمًا وَصَلَاةً ـ ازْدَادُوا مِنَ اللَّهِ بُعْدًا. فَارْفُضْ مُجَالَسَتَهُمْ (¬14)، وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله (¬15) وَأَذَلَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأئمة الهدى بعده" (¬16). ¬

(¬1) من هنا يبدأ المؤلف بتفصيل ما أجمله. (¬2) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص17). (¬3) مطموسة في (ت). (¬4) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص11)، ورواه الإمام الآجري عن الحسن في كتاب الشريعة (ص64)، والإمام اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/ 139)، وذكره الإمام ابن بطة في الإبانة الصغرى (ص142). (¬5) تقدمت ترجمته (ص139). وهذه الكتابة كتبها إلى أسد بن الفرات. (¬6) هذه الكلمة ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬7) مطموسة في (ت). (¬8) تقدم تخريجه (ص150). (¬9) في جميع النسخ "إليَّ" عدا (غ). (¬10) تقدم تخريجه (ص127). (¬11)، روى ابن أبي عاصم في السنة مرفوعاً: "ما تحت ظل السماء إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع". وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 715)، والطبراني في الكبير (7502)، وابن الجوزي في الموضوعات (3/ 139)، وحكم عليه الشيخ الألباني بأنه موضوع كما في تعليقه على السنة. (¬12) في (ط): "ولا فريضة"، وفي (ت): "لا فريضة" بدون الواو. (¬13) تقدم تخريج الحديث (ص120). (¬14) في (ر): "مجالسهم". (¬15) أثبتها من (ر)، وغير موجودة في بقية النسخ. (¬16) روى هذا القول لأسد بن موسى رحمه الله الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص12 ـ 14) بلفظ أطول.

وَكَانَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ (¬1) يَقُولُ: (مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا) (¬2). وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ (¬3): (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ (¬4) مِنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا جِهَادًا وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَدَقَةً وَلَا عِتْقًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا) (¬5). وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: (مَنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ مَعَ اللَّهِ قَاضِيًا أَوْ رَازِقًا أَوْ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا أَوْ نَفْعًا أَوْ مَوْتًا أَوْ حَيَاةً أَوْ نُشُورًا، لَقِيَ اللَّهَ (¬6) فَأَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَأَخْرَسَ (¬7) لِسَانَهُ، وَجَعَلَ صَلَاتَهُ وَصِيَامَهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (¬8)، وَقَطَعَ بِهِ الْأَسْبَابَ، وَكَبَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ) (¬9). وَهَذِهِ الأحاديث وما كان نحوها ـ مما ذكرناه أو لم نذكره ـ (وإن لم) (¬10) نتضمن (¬11) عهدة (¬12) صِحَّتِهَا كُلُّهَا، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُقَرَّرَ فِيهَا لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ صَحِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ. أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّهُ قَدْ (¬13) جَاءَ فِي بَعْضِهَا مَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْقَبُولِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ كَبِدْعَةِ الْقَدَرِيَّةِ (¬14) حَيْثُ قَالَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بن عمر رضي الله عنهما: (إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وأنهم برآء مني، فوالذي ¬

(¬1) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص147). (¬2) تقدم تخريجه (ص148). (¬3) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص149). (¬4) لفظ الجلالة لا يوجد في (م). (¬5) تقدم تخريجه (ص149). (¬6) لفظ الجلالة لا يوجد في (م)، وغير واضح في (ت). (¬7) في (م) و (خ): "أخرص" بالصاد. (¬8) ساقطة من (غ) و (ر). (¬9) أخرجه ابن وهب في كتاب القدر برقم (4)، (25). (¬10) ما بين المعكوفين مثبت في (غ) وساقط من بقية النسخ. (¬11) في (ط): "تتضمن"، وفي بقية النسخ (يتضمن)، والمثبت من (غ). (¬12) في (خ) و (ط): "عمدة". (¬13) ساقطة من (غ). (¬14) وهم نفاة القدر، وقد تقدم التعريف بهم (ص11).

يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا تَقَبَّلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ" (¬1). ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ الْمَذْكُورِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (¬2). وَمِثْلُهُ حَدِيثُ الْخَوَارِجِ وَقَوْلُهُ فِيهِ: (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)، بَعْدَ قَوْلِهِ: (تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ (مَعَ صَلَاتِهِمْ) (¬3) وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ) (¬4). الْحَدِيثَ. وَإِذَا ثَبَتَ في بعضهم هذا لأجل بدعته (¬5)، فكل مبتدع يخاف عليه (أن يكون) (¬6) مثل من ذكر (¬7). وأما ثانياً: فإن كون (¬8) الْمُبْتَدِعُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ عَمَلٌ، إِمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لَهُ بِإِطْلَاقٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ مِنْ وِفَاقِ سُّنَّةٍ أَوْ خِلَافِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ (¬9) أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا ابْتَدَعَ فِيهِ خَاصَّةً دُونَ مَا لَمْ يَبْتَدِعْ فِيهِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَيُمْكِنُ عَلَى أَحَدِ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُبْتَدِعٍ أَيَّ بِدْعَةٍ كَانَتْ، فَأَعْمَالُهُ لَا تُقْبَلُ مَعَهَا، دَاخَلَتْهَا تِلْكَ الْبِدْعَةُ أَمْ لَا. وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ آنِفًا (¬10)، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فقال: والله ما عندنا ¬

(¬1) انظر قوله رضي الله عنه في صحيح مسلم، كتاب الإيمان (1/ 156)، والشريعة للآجري (ص188). (¬2) وفيه سؤال جبريل عليه السلام لنبينا صلّى الله عليه وسلّم عن الإسلام والإيمان والإحسان، انظره في الموضع السابق. (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬4) تقدم تخريج الحديث (ص12). (¬5) في (ط): "بدعة". (¬6) ما بين المعكوفين مثبت في (غ)، وساقط من بقية النسخ. (¬7) في (خ) و (ط): "ذكره"، وفي (ت): "ذكروا". (¬8) في (ط): "كان". (¬9) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ (يريد). (¬10) في (غ) "أيضاً".

كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ، وَإِذَا فِيهَا: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ (¬1) إِلَى كَذَا. مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ (¬2) صَرْفًا وَلَا عَدْلًا) (¬3). وَذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ فَسَّرَ الصَّرْفَ وَالْعَدْلَ بِالْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ (¬4). وَهَذَا شَدِيدٌ جِدًّا عَلَى أَهْلِ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ. الثَّانِي (¬5): أَنْ تَكُونَ (¬6) بِدْعَتُهُ أَصْلًا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَعْمَالِ، كَمَا إِذَا (¬7) ذَهَبَ إِلَى إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِإِطْلَاقٍ (¬8)، فَإِنَّ عَامَّةَ (¬9) التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ (¬10) كِتَابِ اللَّهِ أَوْ مِنْ سُنَّةِ رسوله، وما تفرع منهما (¬11) راجع إليهما. ¬

(¬1) في (خ)، "يمر" وصححت في هامشها، وهو اسم جبل في المدينة، وتقدم الحديث بلفظ "من عير إلى ثور" (ص120). (¬2) في (ت): "له". (¬3) تقدم تخريج الحديث (ص120). (¬4) وهو قول الجمهور كما ذكره الإمام ابن حجر في الفتح (4/ 86)، وتقدم الكلام عليهما (ص120). (¬5) أي الوجه الثاني لعدم قبول أعمال المبتدع مطلقاً. (¬6) في (ت): "يكون". (¬7) ساقطة من (غ). (¬8) أهل السنة والجماعة يقبلون خبر الأحاد إذا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء كان في المسائل العلمية أو العملية، وقد ذهب إلى إنكاره الرافضة والقاساني وابن داود وبعض أهل الظاهر، انظر نسبة ذلك إليهم في: الإحكام للآمدي (2/ 65)، روضة الناظر لابن قدامة (1/ 222)، مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ص107)، السنة ومكانتها في التشريع للشيخ مصطفى السباعي (ص167)، وانظر في المسألة أيضاً: المحصول للرازي (2/ 170) أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 467) ومن المبتدعة من ذهب إلى رد حديث الآحاد في مسائل العقيدة دون مسائل الفقه وهو قول الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة، وهو خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة. وانظر في الرد عليهم: الصواعق المرسلة لابن القيم (ص470 ـ 532)، شرح الطحاوية لابن أبي العز (ص354)، مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي (ص104)، الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام للشيخ الألباني، رد شبهات الإلحاد عن أحاديث الآحاد للشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي. (¬9) بياض في (غ). (¬10) في (خ): تحتمل "فهي". (¬11) في (م) و (ت): "منه".

فَإِنْ كَانَ وَارِدًا مِنَ السُّنَّةِ فَمُعْظَمُ نَقْلِ السُّنَّةِ بِالْآحَادِ، بَلْ قَدْ أَعْوَزَ أَنْ يُوجَدَ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬1) مُتَوَاتِرًا (¬2). وَإِنْ كَانَ وَارِدًا مِنَ الْكِتَابِ فَإِنَّمَا تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ. فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَيَّنْ فِي الْقُرْآنِ فَلَا بُدَّ لِمُطَّرِحِ نَقْلِ الْآحَادِ أن يستعمل فيه (¬3) رأيه، وَهُوَ الِابْتِدَاعُ بِعَيْنِهِ. فَيَكُونُ كُلُّ (¬4) فَرْعٍ يَنْبَنِي على ذلك بدعة (¬5)، لَا (¬6) يُقْبَلُ مِنْهُ شَيْءٌ (¬7)، كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ (¬8) أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) (¬9)، وَكَمَا إِذَا كَانَتِ البدعة (في النية) (¬10) الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا كُلُّ عَمَلٍ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَعْمَالَ إِنَّمَا تَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْأَوْلِيَاءِ الْمُكَاشَفِينَ بِحَقَائِقِ التَّوْحِيدِ، فَأَمَّا مَنْ رُفِعَ لَهُ الحجاب وكوشف ¬

(¬1) سقطت من (ت). (¬2) لا شك أن الأحاديث المتواترة قليلة بالنسبة للآحاد، ولكنها في نفس الوقت ليست نادرة الوجود، فقد قال الإمام السيوطي في تدريب الراوي نقلاً عن شيخ الإسلام ما ادعاه ابن الصلاح عن عزة المتواتر، وكذا "ما ادعاه غيره من العدم ممنوع لأن ذلك نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطؤا على الكذب، أو يحصل منهم اتفاقاً، قال: ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجوداً وجود كثرة في الأحاديث، أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مؤلفيها، إذا اجتمعت على إخراج حديث، وتعددت طرقه تعدداً تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله، قال: ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثيرة، قال الإمام السيوطي: قلت: قد ألفت في هذا النوع كتاباً لم أسبق إلى مثله، سميته الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ... " انظر تدريب الراوي (2/ 178). (¬3) ساقطة من (ط). (¬4) مثبتة من (غ) و (ر)، وساقطة من بقية النسخ. (¬5) ساقط من (ط). (¬6) في (غ) و (ر): "فلا". (¬7) غير واضحة في (ت). (¬8) كتبت في (ت) فوق السطر. (¬9) تقدم تخريجه (ص114). (¬10) ما بين المعكوفين مثبت من (غ) وساقط من بقية النسخ.

بِحَقِيقَةِ مَا هُنَالِكَ، فَقَدِ ارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَصْلٍ هُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ لا يليق في هذا الموضع ذكره (¬1). ومثله (¬2) مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ (¬3) بَعْضُ الْمَارِقِينَ مِنْ إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ جَاءَتْ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ (¬4). وَفِي الترمذي عن أبي رافع (¬5) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (¬6): "لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ متكئاً على أريكته (¬7) يأتيه أَمْرِي مِمَّا (¬8) أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ". حَدِيثٌ حَسَنٌ (¬9). وَفِي رِوَايَةٍ: "أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ عَنِّي الْحَدِيثُ (¬10) وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، قَالَ: فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا حَلَّلْنَاهُ (¬11)، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ" حَدِيثٌ حسن (¬12). ¬

(¬1) وقد عد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول من أعظم الكفر، بل عده شر من قول اليهود والنصارى. انظر قوله رحمه الله ورده عليهم في الفتاوى (11/ 401 ـ 433)، وانظر تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص443 ـ 445)، وهو قول غلاة الصوفية. (¬2) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ "وأمثلة". (¬3) كتبت في (ت): فوق السطر. (¬4) وهذا القول الباطل منسوب إلى غلاة الروافض. ويظهر أنه قول قديم، فقد ناقش الإمام الشافعي أصحابه في كتابه الأم (7/ 250)، وانظر رد الإمام ابن حزم عليهم في الإحكام (2/ 80)، ومع تهافت هذا المذهب فقد وجد من يدعو إليه في العصر الحديث كفرقة (القرآنيون). وانظر رد شبههم في كتاب السنة ومكانتها في التشريع للشيخ مصطفى السباعي (ص153 ـ 166)، وكتاب فرقة أهل القرآن وموقف الإسلام منها لخادم إلهي بخش. (¬5) تقدمت ترجمته رضي الله عنه (ص137). (¬6) كتبت في (ت): فوق السطر. (¬7) هو كل ما اتكئ عليه، وقيل غير ذلك. وتقدم (ص138). (¬8) المثبت من (غ)، وهو الموافق للرواية، وفي بقية النسخ "فيما". (¬9) تقدم تخريجه (ص138). (¬10) في (ر): "الحديث عني". (¬11) في (غ) و (ر): "استحللناه". (¬12) وهي الرواية الثانية عند الترمذي برقم (2464).

وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الذَّمِّ، وَإِثْبَاتِ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ كَكِتَابِ اللَّهِ، فَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ فَقَدْ بَنَى أَعْمَالَهُ عَلَى رَأْيِهِ لَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ (¬1) وَلَا عَلَى سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الأمثلة: ما (¬2) إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ تُخْرِجُ صَاحِبَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقٍ أَوْ بِاخْتِلَافٍ، إِذْ لِلْعُلَمَاءِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ قَوْلَانِ (¬3). وَفِي الظَّوَاهِرِ (¬4) مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَعْضِ روايات حديث الخوارج حين ذكر السهم بصفة (¬5) الخروج (¬6) من الرمِيَّة سَبَقَ (¬7) الفرث والدم (¬8). ومن الآيات قوله سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬9) الآية ونحو (ذلك من) (¬10) الظَّوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ (¬11): أَنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا قَدْ يَجُرُّهُ اعْتِقَادُ بِدْعَتِهِ الْخَاصَّةِ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي يُصَيِّرُ اعْتِقَادَهُ فِي الشَّرِيعَةِ ضَعِيفًا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ عليه جميع عمله. ¬

(¬1) لفظ الجلالة غير موجود في جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬2) ساقطة من (ط). (¬3) وهذا القول ليس على الإطلاق في كل بدعة، وإنما المراد بعض البدع العظيمة، كبدعة الخوارج التي ذكرها المؤلف هنا. وتقدم الكلام على مسألة تكفيرهم (ص79). وسيطرق المؤلف مسألة تكفير المبتدعة أيضاً في الباب التاسع (2/ 194 ـ 198، 202 ـ206، 246 ـ 249). (¬4) في (ت): "الظر". (¬5) في (خ) و (ط): "بصيغة". (¬6) في (م)، و (خ) و (ط): "الخوارج" وفي (ت): "الخارج"، والمثبت من (غ). (¬7) في (خ) و (ت) و (ط): "بين"، والصواب المثبت، وهو الموافق للرواية. (¬8) هذه الرواية في حديث أبي سعيد عند البخاري، كتاب المناقب، برقم (3610) (6/ 617 ـ 618)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة (7/ 165)، وأحمد في المسند (3/ 56)، ورواها عبد الله بن عمرو بن العاص أيضاً كما في المسند (2/ 219). (¬9) سورة آل عمران: آية (106). (¬10) ساقط من (ط). (¬11) أي من أوجه عدم قبول أعمال المبتدع بإطلاق، وفي (ر): "والوجه".

بيان ذلك بأمثلة (¬1): منها أن يشرك (¬2) العقل مع الشرع في التشريع (وهي طريقة أهل التحسين والتقبيح، ولذلك يقولون إن العقل يستقل بالتشريع) (¬3)، وَإِنَّمَا يَأْتِي الشَّرْعُ (¬4) كَاشِفًا لِمَا اقْتَضَاهُ الْعَقْلُ، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ حَكَّمَ هَؤُلَاءِ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ شَرْعَهُ أَمْ عُقُولَهُمْ؟ بَلْ صَارَ الشَّرْعُ فِي نِحْلَتِهِمْ كَالتَّابِعِ الْمُعِينِ (¬5)، لَا حَاكِمًا مُتَّبَعًا، وَهَذَا هُوَ التَّشْرِيعُ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لِلشَّرْعِ مَعَهُ أَصَالَةٌ، فَكُلُّ مَا عَمِلَ هَذَا الْعَامِلُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ عَقْلُهُ، وَإِنْ شَرَكَ الشَّرْعَ فَعَلَى حُكْمِ الشَّرِكَةِ، لَا عَلَى إِفْرَادِ الشَّرْعِ، فَلَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ (¬6) الدَّالِّ عَلَى إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، إِذْ هُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ (¬7) مِنْ مَشْهُورِ الْبِدَعِ، وكل بدعة ضلالة (¬8). ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (ط): "أمثلة". (¬2) في (ت): "يتركب" وفي (م) و (خ) و (ت): "يترك"، والمثبت ما في (غ) و (ر). (¬3) ما بين المعكوفين مثبت من (غ) و (ر)، وهو ساقط من بقية النسخ. (¬4) الشين غير واضحة في (ت). (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) كتبت مرتين في (ت). (¬7) تقدم هذا الإطلاق للمؤلف، وأنه يريد به علماء العقيدة والأولى استعمال لفظ أنسب لذم الكلام وأهله عند السلف. (¬8) وهذا القول هو قول المعتزلة والكرامية وغيرهم من أهل المذاهب، فقد ذهبوا إلى أن حسن الأفعال وقبحها صفات ذاتية لها، وأن الشرع ليس له دور إلا الكشف عن تلك الصفات، ورتبوا على ذلك قولهم الباطل، وهو أنه يجب على الله ـ سبحانه وتعالى ـ فعل ما استحسنه العقل، ويحرم عليه سبحانه فعل ما استقبحه العقل، وقد بنوا على ذلك نفيهم للقدر، ولكن كثيراً ممن قال بالتحسين والتقبيح العقلي لم يقل بنفي القدر، ولا التزم بما التزم به المعتزلة، لكن القول بأنه لا يقبل لأصحاب هذا القول عمل فيه نظر. وقد ذهب الأشاعرة ومن تبعهم من أهل المذاهب إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين، وقالوا بأن حسن الأفعال وقبحها لا يعرف إلا بالشرع. ويلزم على قولهم لوازم فاسدة قد التزموها وقالوا بها كجواز ظهور المعجزة على يد الكاذب وأن ذلك ليس بقبيح، وأنه يجوز نسبة الكذب إلى أصدق الصادقين، وأنه لا يقبح منه، وأنه يستوي التثليث والتوحيد قبل ورود الشرع .. وغير ذلك من اللوازم التي انبنت على أن هذه الأشياء لم تقبح بالعقل، وإنما جهة قبحها السمع فقط. انظر مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 42).=

وَمِنْهَا أَنَّ (¬1) الْمُسْتَحْسِنَ لِلْبِدَعِ يَلْزَمُهُ عَادَةً أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ عِنْدَهُ لَمْ يَكْمُلْ بَعْدُ، فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬2) مَعْنًى يُعْتَبَرُ بِهِ (¬3) عِنْدَهُمْ، وَمُحْسِنُ الظَّنِّ مِنْهُمْ يَتَأَوَّلُهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ الَّتِي تَبْتَدِعُ الْعِبَادَاتِ أَكْثَرُهَا مِمَّنْ يُكْثِرُ الزُّهْدَ وَالِانْقِطَاعَ وَالِانْفِرَادَ عَنِ الْخَلْقِ، وَإِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ يَجْرِي أَغْمَارُ (¬4) الْعَوَامِّ، وَالَّذِي يَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ وَإِنْ كَانَ أَتْقَى خَلْقِ اللَّهِ لَا يُعِدُّونَهُ إِلَّا مِنَ الْعَامَّةِ. وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ المغترين بِهِمْ، وَالْمَائِلِينَ إِلَى جِهَتِهِمْ، يَزْدَرُونَ بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ (¬5) لَمْ يَنْتَحِلْ مِثْلَ مَا انْتَحَلُوا، وَيَعُدُّونَهُمْ مِنَ الْمَحْجُوبِينَ عَنْ أَنْوَارِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الْمَعْنَى يَضْعُفُ فِي يَدِهِ قَانُونُ الشَّرْعِ الَّذِي ضَبَطَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَبَيَّنَ حُدُودَهُ الْفُقَهَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ فِي طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مداخل ¬

=وقد ذهب الأشاعرة بناء على هذا إلى نفي الحكمة عن الله تعالى، ولكن من ذهب إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين من غير الأشاعرة لم يقل بنفي الحكمة والأسباب. وقد توسط أهل السنة في هذه المسألة، فقالوا بأن الحسن والقبح يدركان بالعقل ولكن ذلك لا يستلزم حكماً في فعل العبد، بل يكون الفعل صالحاً لاستحقاق الأمر والنهي، والثواب والعقاب من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه، أو ينهى عن نقيض ما أدرك العقل قبحه، عملاً في ذلك بمقتضى الحكمة التي هي صفة من صفاته سبحانه ... وهذا قول عامة السلف وأكثر المسلمين. انظر هذه المسألة: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 428 ـ 436)، (11/ 676 ـ 677)، درء تعارض العقل والنقل (8/ 492)، مفتاح دار السعادة للإمام ابن القيم (ص334 ـ 446)، شفاء العليل (ص391 ـ 434)، مدارج السالكين (1/ 230)، لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 284)، حقيقة البدعة وأحكامها للأستاذ سعيد بن ناصر الغامدي، وانظر قول المعتزلة في المغني للقاضي عبد الجبار (14/ 7 ـ 180)، وقول الأشاعرة في المواقف للإيجي (ص323)، والإرشاد للجويني (ص228). (¬1) ساقطة من (ت). (¬2) سورة المائدة: آية (3). (¬3) ساقطة من (ت). (¬4) في (م) و (غ) و (ر): "غمار"، قال في الصحاح: "والغمرة: الزحمة من الناس والماء، والجمع غمار، ودخلت في غمار الناس وغمار الناس، يضم ويفتح، أي في زحمتهم وكثرتهم. ورجل غمر: لم يجرب الأمور". الصحاح للجوهري (2/ 772 ـ 773). (¬5) في (ت): "مثل من".

خاصتهم، وعند ذلك لا يبقى للعمل (¬1) فِي أَيْدِيهِمْ رُوحُ الِاعْتِمَادِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ بَابُ عَدَمِ الْقَبُولِ فِي (تِلْكَ) (¬2) الْأَعْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ مَشْرُوعَةً، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ فِيهَا أَفْسَدَهَا عَلَيْهِمْ، فَحَقِيقٌ أَنْ (¬3) لَا يُقْبَلَ مِمَّنْ (¬4) هَذَا شَأْنُهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَأَمَّا الثَّانِي (¬5): وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ لِأَعْمَالِهِمْ مَا ابْتَدَعُوا فِيهِ خَاصَّةً، فَيَظْهَرُ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ: (كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عليه أمرنا فهو رد) (¬6). وجميع (¬7) (ما جاء) (¬8) مِنْ قَوْلِهِ: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (¬9)، أَيْ إِنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ مَعْنَى عدم القبول، وفاق قول الله تَعَالَى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬10). وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا يَقْتَصِرُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ، وَلَا عَلَى الصِّيَامِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَلَا عَلَى الزَّكَاةِ دُونَ الْحَجِّ، وَلَا عَلَى الْحَجِّ دُونَ الْجِهَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَاضِرٌ مَعَهُ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْهَوَى وَالْجَهْلُ بِشَرِيعَةِ اللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬11). وَفِي الْمَبْسُوطَةِ (¬12) عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى (¬13) أَنَّهُ ذكر الأعراف وأهله ¬

(¬1) في (ط): "لعمل". (¬2) في (م) و (خ) و (ت): "ذلك". (¬3) في (ت): "أنه". (¬4) في (ت): "لمن". (¬5) وتقدم الأول وهو أن يراد عدم قبول أعمالهم بإطلاق. (¬6) تقدم تخريجه (ص114). (¬7) في (خ) و (ت) و (ط)، "والجميع". (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬9) تقدم تخريجه (ص115). (¬10) سورة الأنعام: آية (153). (¬11) وذلك في بداية الباب الرابع (1/ 221) من المطبوع. (¬12) ذكر هذا الكتاب الإمام ابن حجر في الفتح، وعزاه لابن نافع. انظر الفتح (1/ 305)، وابن نافع هو أحد تلامذة الإمام مالك. (¬13) هو أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير الليثي القرطبي، الإمام، الحجة، رئيس علماء الأندلس وفقيهها، سمع الموطأ من مالك، وتفقه به من لا يحصى كثرة، وبه=

فَتَوَجَّعَ وَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: (قَوْمٌ أَرَادُوا وَجْهًا مِنَ الْخَيْرِ فَلَمْ يُصِيبُوهُ)، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَفَيُرْجَى لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لِسَعْيِهِمْ ثَوَابٌ؟ قَالَ (¬1): (لَيْسَ فِي خِلَافِ السُّنَّةِ رَجَاءُ ثواب) (¬2). وَأَمَّا أَنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ (¬3)، وَمَعْنَاهُ ظاهر جداً، فإن الله بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ حَسْبَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ طُلُوعِ ذَلِكَ النُّورِ الْأَعْظَمِ لَا نَهْتَدِي سَبِيلًا، وَلَا نَعْرِفُ مِنْ مَصَالِحِنَا الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَّا قَلِيلًا عَلَى غَيْرِ كَمَالٍ، وَلَا مِنْ مَصَالِحِنَا الْأُخْرَوِيَّةِ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، بَلْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَرْكَبُ هَوَاهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ (مَا فِيهِ) (¬4)، وَيَطْرَحُ هَوَى غَيْرِهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، فَلَا يَزَالُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَالْفَسَادُ فِيهِمْ يَخُصُّ وَيَعُمُّ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَوَالِ الرَّيْبِ وَالِالْتِبَاسِ، وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ النَّاسِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (¬5)، وقوله: ({كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} معناه: فاختلفوا فبعث الله النبيين كما قال) (¬6) {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} (¬7). ¬

=وبعيسى بن دينار انتشر مذهب مالك بالأندلس. توفي سنة 234هـ. انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 534)، شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف (ص63 ـ 64)، تقريب التهذيب (2/ 360). (¬1) في (ت): "فقال". (¬2) أكثر الأقوال في المراد بأهل الأعراف أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد أورد الإمام السيوطي في الدر المنثور عند ذكر آية الأعراف أحاديث تدل على أنهم قوم قتلوا في سبيل الله وهم عاصون لآبائهم، فمنعوا الجنة بمعصية آبائهم، ومنعوا النار بقتلهم في سبيل الله. انظر: الدر المنثور (3/ 464 ـ 465)، فتح القدير للإمام الشوكاني (2/ 209)، ولعل هذا المعنى أقرب إلى مراد يحيى بن يحيى فيما نقل عنه. وهذا القول ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك (3/ 391). (¬3) تقدم (ص105). (¬4) ساقطة من (خ). (¬5) سورة البقرة: آية (213). (¬6) ما بين المعكوفين أثبته من (غ) و (ر)، وهو ساقط من بقية النسخ. (¬7) سورة يونس: آية (19).

وَلَمْ يَكُنْ حَاكِمًا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، إِلَّا وَقَدْ جَاءَهُمْ بِمَا يَنْتَظِمُ بِهِ شَمْلُهُمْ، وَتَجْتَمِعُ بِهِ كَلِمَتُهُمْ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا اخْتَلَفُوا، وَهُوَ مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالصَّلَاحِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَيَدْرَأُ عَنْهُمُ الفساد على الإطلاق، فانحفظت الأديان والدماء والعقول (¬1) وَالْأَنْسَابُ وَالْأَمْوَالُ مِنْ طُرُقٍ يَعْرِفُ مَآخِذَهَا الْعُلَمَاءُ، وذلك الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم (المبين بسنته) (¬2) قَوْلًا وَعَمَلًا وَإِقْرَارًا، وَلَمْ يُرَدُّوا إِلَى تَدْبِيرِ أَنْفُسِهِمْ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَقِلُّونَ بِدَرْكِ مَصَالِحِهِمْ، وَلَا تَدْبِيرِ أَنْفُسِهِمْ. فَإِذَا تَرَكَ الْمُبْتَدِعُ هَذِهِ الْهِبَاتِ الْعَظِيمَةَ، وَالْعَطَايَا الْجَزِيلَةَ، وأخذ في استصلاح آخرته (¬3) أَوْ دُنْيَاهُ بِنَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَجْعَلِ الشَّرْعُ عَلَيْهِ دَلِيلًا، فَكَيْفَ لَهُ بِالْعِصْمَةِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ (¬4)؟ وَقَدْ حَلَّ يَدَهُ مِنْ حَبْلِ الْعِصْمَةِ إِلَى تَدْبِيرِ نَفْسِهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِالْبُعْدِ عَنِ الرَّحْمَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (¬5) بعد قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (¬6)، فَأَشْعُرُ أَنَّ الِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللَّهِ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ حَقًّا وَأَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ تَفْرِقَةٌ لقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا}، والفرقة من أخص (¬7) أَوْصَافِ الْمُبْتَدِعَةِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ، وَبَايَنَ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. رَوَى عَبْدُ (¬8) بْنُ حميد (¬9) عن عبد الله (¬10): (أن حبل الله الجماعة) (¬11). ¬

(¬1) في (م) و (ت) و (خ) و (ط): "العقل". (¬2) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ)، وفي (ر): "بسنة" .. (¬3) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ: "نفسه". (¬4) في (غ): "الترجمة". (¬5) سورة آل عمران: آية (103). (¬6) سورة آل عمران: آية (102). (¬7) ساقطة من (ت)، وفي م وخ وط (أخس). (¬8) المثبت هو ما في (غ) و (ر)، وبقية النسخ عبد الله. (¬9) تقدمت ترجمته (ص100). (¬10) هو ابن مسعود رضي الله عنه. (¬11) رواه سعيد بن منصور في سننه برقم (520) (3/ 1084)، وابن جرير في تفسيره (4/ 30)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لابن المنذر والطبراني، من طريق الشعبي (2/ 287)، وروى الآجري قريباً منه ضمن خطبة لابن مسعود رضي الله عنه. انظر الشريعة (ص13)، وذكره كذلك الإمام البغوي في معالم التنزيل (1/ 333).

وَعَنْ قَتَادَةَ (¬1): (حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ هَذَا الْقُرْآنُ وَسُنَنُهُ (¬2)، وَعَهْدُهُ إِلَى عِبَادِهِ الَّذِي أَمَرَ أَنْ يعتصم به (¬3)، فيه الْخَيْرِ (¬4)، وَالثِّقَةُ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَيَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ) إِلَى آخِرِ مَا قَالَ (¬5). وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ} (¬6). وأما أن الماشي إليه وَالْمُوَقِّرُ (¬7) لَهُ مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ تقدم من نَقْلُهُ (¬8). وَرُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا: (مَنْ أَتَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ) (¬9). وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (¬10) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ) (¬11). وَيُجَامِعُهَا فِي الْمَعْنَى مَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: "مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" الْحَدِيثَ (¬12). فَإِنَّ الْإِيوَاءَ يُجَامِعُ التَّوْقِيرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمَشْيَ إِلَيْهِ وَالتَّوْقِيرَ لَهُ تَعْظِيمٌ لَهُ لِأَجْلِ بِدْعَتِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْعَ يَأْمُرُ بِزَجْرِهِ وَإِهَانَتِهِ وَإِذْلَالِهِ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، كَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ (¬13)، فَصَارَ تَوْقِيرُهُ صُدُودًا عَنِ الْعَمَلِ ¬

(¬1) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص83). (¬2) غير واضحة في (م) وفي (غ) و (ر): وسنته. (¬3) في (خ) و (ط): "بما". (¬4) في (خ) و (ط): "من الخير". (¬5) قال الإمام السيوطي في الدر المنثور: "وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} قال: بعهد الله وبأمره". (2/ 287)، وروى عنه أنه القرآن، كما في معالم التنزيل للبغوي (1/ 333)، وزاد المسير لابن الجوزي (1/ 432 ـ 433). (¬6) سورة الحج: آية (78). (¬7) في (ر): "الموقر" بغير واو. (¬8) تقدم (ص205)، ضمن كلام أسد بن موسى رحمه الله. (¬9) تقدم تخريجه (ص127). (¬10) تقدمت ترجمته (ص191). (¬11) تقدم تخريجه (ص127). (¬12) تقدم تخريجه (ص120). (¬13) وسوف يتكلم المؤلف عن الأحكام المتعلقة بالمبتدعة من ناحية القيام عليهم من الخاصة والعامة بسبب جنايتهم على الدين. وذلك في الباب الثالث (ص325 ـ 332).

بِشَرْعِ الْإِسْلَامِ، وَإِقْبَالًا عَلَى مَا يُضَادُّهُ وَيُنَافِيهِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يَنْهَدِمُ إِلَّا بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا يُنَافِيهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْقِيرَ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ مَظِنَّةٌ لِمَفْسَدَتَيْنِ تَعُودَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْهَدْمِ: إِحْدَاهُمَا: الْتِفَاتُ الْجُهَّالِ وَالْعَامَّةِ إِلَى ذَلِكَ التَّوْقِيرِ، فَيَعْتَقِدُونَ فِي الْمُبْتَدِعِ أَنَّهُ أَفْضَلُ النَّاسِ، وَأَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِمَّا عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِهِ عَلَى بِدْعَتِهِ دُونَ اتِّبَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى سُنَّتِهِمْ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا وُقِّرَ مِنْ أَجْلِ بِدْعَتِهِ صَارَ ذَلِكَ كَالْحَادِي الْمُحَرِّضِ لَهُ عَلَى إِنْشَاءِ الِابْتِدَاعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ (¬1) فَتَحْيَا الْبِدَعُ، وَتَمُوتُ السُّنَنُ، وَهُوَ هَدْمُ الْإِسْلَامِ بِعَيْنِهِ. وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ حَدِيثُ مُعَاذٍ: (فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لَهُمْ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ) (¬2)، فَهُوَ يَقْتَضِي أَنّ السُّنَنَ تَمُوتُ إِذَا أحييت البدع، وإذا ماتت انْهَدَمَ الْإِسْلَامُ. وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ النَّقْلُ عَنِ السلف الصالح (¬3) زِيَادَةً إِلَى صِحَّةِ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ الْبَاطِلَ إِذَا عُمِلَ بِهِ لَزِمَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ كَمَا فِي الْعَكْسِ، لِأَنَّ الْمَحَلَّ الْوَاحِدَ لَا يَشْتَغِلُ (¬4) إِلَّا بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ. وَأَيْضًا فَمِنَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ تَرْكُ الْبِدَعِ. فَمَنْ عَمِلَ بِبِدْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ تَرَكَ تِلْكَ السُّنَّةَ. فَمِمَّا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ ما تقدم ذكره عن حذيقة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ حَجَرَيْنِ فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ ترون ما بين ¬

(¬1) ساقطة من (ت). (¬2) تقدم تخريجه (ص53). (¬3) ساقطة من (ط). (¬4) في (م): "يستغل"، وفي (ر): "يستقل".

هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ (¬1) مِنَ النُّورِ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا نَرَى بَيْنَهُمَا (مِنَ النُّورِ) (¬2) إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَظْهَرَنَّ (¬3) الْبِدَعُ حَتَّى لَا يُرَى مِنَ الْحَقِّ إِلَّا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، وَاللَّهِ لَتَفْشُوَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شيء قالوا: تركت السنة) (¬4). وله أثر آخَرُ قَدْ (¬5) تَقَدَّمَ (¬6). وَعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ (¬7) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (مَا أَحْدَثَتْ أُمَّةٌ فِي دِينِهَا بِدْعَةً إِلَّا رَفَعَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُمْ سنة (¬8)) (¬9). وعن حسان بن عطية (¬10) قال: (ما أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا، ثُمَّ لَمْ يُعِدْهَا إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (¬11). وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ يَرْفَعُهُ: (لَا يُحْدِثُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً إِلَّا تَرَكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا هُوَ خَيْرٌ منها) (¬12). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً، حَتَّى تحيا البدع، وتموت (¬13) السنن" (¬14). وَأَمَّا أَنَّ صَاحِبَهَا مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ، فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ والناس أجمعين" (¬15). ¬

(¬1) ساقطة من (ت). (¬2) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬3) في (خ): "لتظهرون". (¬4) تقدم تخريجه (ص136). (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) تقدم (ص137). (¬7) تقدمت ترجمته (ص32). (¬8) في (ت)، و (ط): "سنته". (¬9) تقدم تخريجه (ص32). (¬10) تقدمت ترجمته (ص33). (¬11) تقدم تخريجه (ص33). (¬12) تقدم تخريجه (ص32). (¬13) في (ت): "وتموت فيه السنن". (¬14) تقدم تخريجه (ص32). (¬15) تقدم تخريجه (ص120).

وعُد مِنَ الْإِحْدَاثِ الِاسْتِنَانُ (بِسُنَّةٍ) (¬1) سُوءٍ لَمْ تَكُنْ. وَهَذِهِ اللَّعْنَةُ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهَا صَاحِبُ الْبِدْعَةِ مَعَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، وَقَدْ شَهِدَ أَنَّ بَعْثَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهَا، وَجَاءَهُ الْهُدَى مِنَ اللَّهِ وَالْبَيَانُ الشَّافِي، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *} (¬2) إِلَى آخِرِهَا. وَاشْتَرَكَ أَيْضًا مَعَ مَنْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَبَيَّنَهُ (¬3) فِي كِتَابِهِ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاََّّعِنُونَ *} (¬4) إِلَى آخِرِهَا. فَتَأَمَّلُوا الْمَعْنَى الَّذِي اشْتَرَكَ الْمُبْتَدِعُ فِيهِ (¬5) مَعَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ، وَذَلِكَ مُضَادَّةُ الشَّارِعِ فِيمَا شَرَعَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ، وَبَيَّنَ الطَّرِيقَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى غَايَةِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْبَيَانِ، فَضَادَّهَا الْكَافِرُ بِأَنْ جَحَدَهَا جَحْدًا (¬6)، وَضَادَّهَا كَاتِمُهَا بِنَفْسِ الْكِتْمَانِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ يُبَيِّنُ وَيُظْهِرُ، وَهَذَا يَكْتُمُ وَيُخْفِي، وَضَادَّهَا الْمُبْتَدِعُ بِأَنْ وَضَعَ الْوَسِيلَةَ لِتَرْكِ مَا بَيَّنَ وَإِخْفَاءِ (¬7) مَا أَظْهَرَ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُدْخِلَ الْإِشْكَالَ فِي الْوَاضِحَاتِ، (مِنْ أَجْلِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ، لِأَنَّ الْوَاضِحَاتِ) (¬8) تَهْدِمُ لَهُ مَا بَنَى عليه في الْمُتَشَابِهَاتِ، فَهُوَ آخِذٌ فِي إِدْخَالِ الْإِشْكَالِ عَلَى الواضح، حتى يُترك (¬9)، فبحق (¬10) ما جاءت اللعنة في الابتداع (¬11) مِنَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. قَالَ أَبُو مصعب (¬12) صاحب مالك رضي الله عنه: قدم علينا ابن ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (ت): "بسنته". (¬2) سورة آل عمران: الآيتان (86 ـ 87). (¬3) في (ت): "ونبيه". (¬4) سورة البقرة: آية (159). (¬5) ساقطة من (غ) و (ر). (¬6) ساقطة من (غ). (¬7) في (ت): "وأخفى". (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬9) في (ط): "يرتكب". (¬10) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ)، وفي (ر): "فيحق". (¬11) في (خ) و (ط): "الابتداع به". (¬12) هو أبو مصعب أحمد بن أبي بكر، واسم أبي بكر القاسم بن الحارث الزبيري، روى عن مالك الموطأ وغيره من قوله، وتفقه بأصحابه: المغيرة وابن دينار وغيرهما. تولى=

مَهْدِيٍّ (¬1) ـ يَعْنِي الْمَدِينَةَ ـ فَصَلَّى وَوَضَعَ رِدَاءَهُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ، فَلَمَّا (¬2) سَلَّمَ (¬3) الْإِمَامُ رَمَقَهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ، وَرَمَقُوا مَالِكًا، وَكَانَ قَدْ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْحَرَسِ (¬4)؟ فَجَاءَهُ نَفْسَانِ، فَقَالَ: خُذَا صَاحِبَ هَذَا الثَّوْبِ فَاحْبِسَاهُ فَحُبِسَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَمَا خِفْتَ اللَّهَ (¬5) وَاتَّقَيْتَهُ أَنْ وَضَعْتَ ثَوْبَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ فِي الصَّفِّ، وَشَغَلْتَ الْمُصَلِّينَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَأَحْدَثْتَ فِي مَسْجِدِنَا شَيْئًا مَا كُنَّا نَعْرِفُهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي مَسْجِدِنَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (¬6)، فَبَكَى ابْنُ مَهْدِيٍّ وَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا في غيره (¬7). وهذا غاية التَّوَقِّي وَالتَّحَفُّظِ فِي تَرْكِ إِحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُنْ خَوْفًا مِنْ تِلْكَ اللَّعْنَةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا سِوَى وَضْعِ الثَّوْبِ؟ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ الطَّحَاوِيِّ (¬8) (سِتَّةٌ أَلْعَنُهُمْ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ) (¬9)، فَذَكَرَ فِيهِمْ التَّارِكَ لسنته عليه الصلاة والسلام أخذاً بالبدعة. وَأَمَّا أَنَّهُ يَزْدَادُ (¬10) مِنَ اللَّهِ بُعْدًا، فَلِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: (صَاحِبُ الْبِدْعَةِ ما يَزْدَادُ (¬11) اجْتِهَادًا (¬12)، صِيَامًا وَصَلَاةً (¬13)، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ الله بعداً) (¬14). ¬

=قضاء المدينة وكان فقيهها. توفي سنة 242هـ. انظر: ترتيب المدارك (1/ 513)، سير أعلام النبلاء (11/ 436)، تقريب التهذيب (1/ 12). (¬1) تقدمت ترجمته (ص87). (¬2) في (م) و (خ): "فلم". (¬3) ساقطة من (م) و (خ). (¬4) في (ت): "العرس". (¬5) ساقطة من (غ) و (ر). (¬6) لم أجد الحديث بهذا اللفظ، من تخصيص المسجد نفسه، وقد تقدم حديث علي رضي الله عنه "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فعليه لعنة الله ... الحديث". انظر (ص120). (¬7) هذه القصة ذكرها القاضي عياض بلفظها في ترتيب المدارك (1/ 171). (¬8) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص77). (¬9) تقدم تخريجه (ص128). (¬10) في جميع النسخ: "يزاد" عدا (غ) و (ر). (¬11) في (ت): "يزاد"، وفي (ر): "لا يزداد". (¬12) في (ط): "ما يزداد من الله اجتهاداً". (¬13) في (ت): "ولا صلاة". (¬14) تقدم تخريجه (ص146).

وَعَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ (¬1) قَالَ: "مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا) (¬2). وَيُصَحِّحُ هَذَا النَّقْلَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي (¬3) الخوارج: "يخرج من ضئضيء (¬4) هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم (¬5) " إِلَى أَنْ قَالَ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" (¬6). فَبَيَّنَ أَوَّلًا اجْتِهَادَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ آخِرًا بُعْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُوَ بَيِّنٌ (أَيْضًا (¬7) مِنْ) (¬8) جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ (¬9)، فَكُلُّ (¬10) عَمَلٍ يَعْمَلُهُ عَلَى الْبِدْعَةِ فَكَمَا لَوْ لَمْ يَعْمَلْهُ، وَيَزِيدُ (¬11) عَلَى تَارِكِ الْعَمَلِ بِالْعِنَادِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ابْتِدَاعُهُ، وَالْفَسَادِ الدَّاخِلِ عَلَى النَّاسِ بِهِ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ، وَفِي فُرُوعِ الْأَعْمَالِ والاعتقادات، وهو يظن مع ذلك أن ¬

(¬1) تقدمت ترجمته (ص147). (¬2) تقدم تخريجه (ص148). (¬3) ساقطة من (ت). (¬4) قال الزمخشري في الفائق في غريب الحديث فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يخرج من ضئضيء هذا": أي من أصله، يقال: هو من ضئضيء صدق، وضؤضؤ صدق. انظر الفائق (2/ 325)، شرح الإمام النووي لمسلم (7/ 162). (¬5) في (م): "صياهم". (¬6) رواه الإمام البخاري في كتاب المناقب من صحيحه، باب علامات النبوة، عن أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ "دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرمية ... " (6/ 617 ـ 618، فتح)، وأما حديث: "يخرج من ضئضئيء هذا قوم" فقد تقدم تخريجه ص12، وليس فيه "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ... "، والحديث هنا رواه أيضاً الإمام مسلم في كتاب الزكاة من صحيحه (7/ 164، 166)، والإمام ابن ماجه في مقدمة سننه، باب ذكر الخوارج برقم (169)، (1/ 60)، والإمام أحمد في المسند (3/ 33). (¬7) ساقطة من (غ). (¬8) ساقط من (م) و (خ) و (ت). (¬9) تقدم الحديث (ص120). (¬10) كتب في (ت) فوق هذه الكلمة "مـ"، وكتب بإزائها في الهامش "فكأنه لم يعمله". (¬11) في (ت): "وزيد".

بِدْعَتَهُ تُقَرِّبُهُ مِنَ اللَّهِ، وَتُوَصِّلُهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وقد ثبت النقل (¬1) بِأَنَّهُ (¬2) لَا يُقَرِّبُ (¬3) إِلَى اللَّهِ إِلَّا الْعَمَلُ بِمَا شَرَعَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَ ـ وَهُوَ تَارِكُهُ ـ، وَأَنَّ الْبِدَعَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ ـ وَهُوَ يَنْتَحِلُهَا. وَأَمَّا أَنَّ الْبِدَعَ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ (¬4) الْإِسْلَامِ، فَلِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّفَرُّقَ شِيَعًا. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬5)، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬6)، وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ *} (¬7)، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬8)، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، وَأَنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ (¬9). وَجَمِيعُ (¬10) هَذِهِ الشَّوَاهِدِ تَدُلُّ (¬11) عَلَى وُقُوعِ الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع. ¬

(¬1) في (خ) و (ت) و (ط): "بالنقل". (¬2) في (ت): "أنه". (¬3) في (ط): "يقربه". (¬4) ساقطة من (ت). (¬5) سورة آل عمران: آية (105). (¬6) سورة الأنعام: آية (153). (¬7) سورة الروم: آية (31، 32). (¬8) سورة الأنعام: آية (159). (¬9) رواه الإمام أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب في إصلاح ذات البين عن أبي الدرداء برقم (4919) (4/ 282)، والإمام الترمذي في كتاب صفة القيامة وصححه برقم (2509) (4/ 572 ـ 573)، والإمام أحمد في المسند (6/ 444 ـ 445) والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 150)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص85 ـ 86)، وصححه الشيخ الألباني كما في غاية المرام برقم (414) (ص237). (¬10) ساقطة من (ط). (¬11) في (غ): "يدل".

وَأَوَّلُ شَاهِدٍ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ قِصَّةُ الْخَوَارِجِ إِذْ (¬1) عَادَوْا أَهْلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارُوا يَقْتُلُونَهُمْ، ويَدَعُون الْكُفَّارَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ الْحَدِيثُ (¬2) الصَّحِيحُ (¬3). ثُمَّ يَلِيهِمْ كُلُّ مَنْ كَانَ (¬4) لَهُ صَوْلَةٌ منهم، وقرب (¬5) من (¬6) الْمُلُوكِ، فَإِنَّهُمْ تَنَاوَلُوا (¬7) أَهْلَ السُّنَّةِ بِكُلِّ نَكَالٍ وعذاب وقتل أيضاً، حسبما بينه أَهْلِ (¬8) الْأَخْبَارِ (¬9). ثُمَّ يَلِيهِمْ كُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُثَبِّطُوا النَّاسَ عن اتباع أهل (¬10) الشريعة، ويذمونهم، ويزعمون أنهم الأرجاس (¬11) الأنجاس، المكبون عَلَى الدُّنْيَا، وَيَضَعُونَ عَلَيْهِمْ شَوَاهِدَ الْآيَاتِ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا وَذَمِّ الْمُكِبِّينَ عَلَيْهَا، كَمَا يُرْوَى عَنْ (عَمْرِو) (¬12) بْنِ عُبَيْدٍ (¬13) أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ شَهِدَ عِنْدِي عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ عَلَى شراك نعل ما أجزت شهادتهم" (¬14). ¬

(¬1) في (خ): "إذا". (¬2) ساقطة من (م) و (خ) و (ط) و (غ). (¬3) تقدم تخريجه (ص12). (¬4) ساقطة من (ت). (¬5) في (م) و (خ) و (ت): "وقرن"، وفي (ط) "بقرب". (¬6) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬7) في (غ): "تنالوا". (¬8) في (ط): "جميع أهل". (¬9) وذلك مثل نصرة بعض خلفاء بني العباس للمعتزلة، وسوف يذكر المؤلف بعض الأمثلة على ذلك في الباب الثالث (ص319 ـ 320). (¬10) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬11) في جميع النسخ "الأراجس" عدا (غ) و (ر). (¬12) في (م) و (خ) و (ت): "عمر". (¬13) هو عمرو بن عبيد بن باب البصري، كان من رؤوس المعتزلة، بل هو المؤسس الثاني للاعتزال بعد واصل بن عطاء، روى عن أبي قلابة والحسن البصري، وكان يكذب لأجل مذهبه، ويروى عن الحسن البصري أشياء لم يقلها، وكان يغر الناس بنسكه وتقشفه. توفي سنة 142هـ أو 143هـ. انظر عنه: سير أعلام النبلاء (6/ 104)، البداية والنهاية (10/ 78)، ميزان الاعتدال (3/ 273 ـ 280)، الضعفاء الكبير للعقيلي (3/ 277 ـ 286). (¬14) روى هذه المقولة الخبيثة عنه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ضمن ترجمته (12/ 178)، ورواها عنه أيضاً ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (5/ 102).

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ (¬1) قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: كَيْفَ حَدَّثَ (¬2) الْحَسَنُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ وَرَّثَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عدتها؟ فقال: (إن (¬3) عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ سُنَّةً) (¬4). وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ حَدَّثَ (¬5) الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ فِي السَّكْتَتَيْنِ؟ (¬6) فَقَالَ: (ما تصنع بسمرة؟ قبح الله سمرة) (¬7). انتهى. بَلْ قَبَّحَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ. وَسُئِلَ يَوْمًا عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَ فِيهِ. قَالَ الرَّاوِي: قُلْتُ (¬8): لَيْسَ هَكَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا. قَالَ: وَمَنْ أصحابك لا أبا لك؟ قلت: أيوب، ويونس، وَابْنُ عَوْنٍ، وَالتَّيْمِيُّ. قَالَ: (أُولَئِكَ أَنْجَاسٌ أَرْجَاسٌ، أموات غير أحياء" (¬9). ¬

(¬1) هو معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري التميمي، أبو المثنى، البصري، القاضي، ثقة متقن، قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، توفي سنة 196هـ. انظر: الكاشف للذهبي (3/ 136)، تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 257). (¬2) في الكامل لابن عدي، وتاريخ بغداد للخطيب (حديث). (¬3) كتب في هامش (خ) و (ت) كلمة "فعل"، لتكون العبارة "أن فعل عثمان لم يكن سنة"، ولكني وجدت ابن عدي في الكامل رواه عنه كما هو في الأصل، دون ذكر كلمة "فعل"، وأما الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد فرواه بلفظ "أن عثمان لم يكن صاحب سنة". (¬4) رواه عنه ابن عدي في الكامل (5/ 100)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (12/ 176). قال الإمام ابن قدامة في الكافي: "وإن أبانها في مرض موته على غير ذلك، لم يرثها وورثته ما دامت في العدة، لما روي أن عثمان ورث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف، وكان طلقها في مرض موته فبتها، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر، فكان إجماعاً، ولأنه قصد قصداً فاسداً في الميراث، فعورض بنقيض قصده، كالقاتل". انظر الكافي (2/ 561)، المغني (6/ 329 ـ 330). (¬5) في تاريخ بغداد للخطيب والكامل لابن عدي (حديث). (¬6) يريد حديث الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... إذا دخل في صلاته، وإذا فرغ من القراءة ... " رواه الإمام الترمذي وحسنه برقم (251) (2/ 30 ـ 31)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في نفس الموضع، ورواه أحمد في المنسند (5/ 7)، وأبو داود (777، 778)، وابن ماجه (844، 845)، والحاكم (1/ 215)، وابن خزيمة (1578). (¬7) روى هذه المقولة الخبيثة عنه الخطيب في تاريخ بغداد (12/ 176)، ورواها عنه ابن عدي في الكامل (5/ 100)، والدارقطني في أخبار عمرو بن عبيد (رقم 1900). (¬8) في (ر): "فقلت". (¬9) ذكر هذه المقولة له الإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص80 ـ 81)،=

فَهَكَذَا أَهْلُ الضَّلَالِ يَسُبُّونَ السَّلَفَ الصَّالِحَ لَعَلَّ بِضَاعَتَهُمْ تَنْفُقُ، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} (¬1). وَأَصْلُ هَذَا الْفَسَادِ مِنْ قِبَلِ الْخَوَارِجِ، فَهُمْ أول من أفشا (¬2) لَعَنَ السَّلَفَ الصَّالِحَ، وَتَكْفِيرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَمِثْلُ هَذَا كُلِّهِ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ فِرْقَةَ النَّجَاةِ ـ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ ـ مَأْمُورُونَ بِعَدَاوَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ (¬3)، وَالتَّشْرِيدِ بِهِمْ، وَالتَّنْكِيلِ بِمَنِ انْحَاشَ إِلَى جِهَتِهِمْ بِالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ، وَقَدْ حَذَّرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ مُصَاحَبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ (¬4). وَذَلِكَ مَظِنَّةَ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، لَكِنَّ الدَّرْكَ فِيهَا عَلَى مَنْ تَسَبَّبَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا عَلَى التَّعَادِي مُطْلَقًا. كَيْفَ وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِمُعَادَاتِهِمْ، وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِمُوَالَاتِنَا والرجوع إلى الجماعة؟ وَأَمَّا أَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "حَلَّتْ (¬5) شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي إِلَّا صَاحِبَ بِدْعَةٍ" (¬6). وَيُشِيرُ إِلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى فِيهِ مَا فِي الصَّحِيحِ قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَأَنَّهُ سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى ¬

=ورواها عنه الإمام ابن عدي في الكامل (5/ 99)، والدارقطني في أخبار عمرو بن عبيد (رقم 15)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 284). (¬1) سورة التوبة: آية (32). (¬2) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬3) في (غ): "البدعة". (¬4) انظر ما تقدم من أقوال الصحابة ومن بعدهم (ص146 ـ 148). (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب إحداث البدع، من طريق أبي عبد السلام قال سمعت بكر بن عبد الله المزني أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فذكره. انظر البدع والنهي عنها (ص43). وقد حكم الشيخ الألباني على الحديث بأنه منكر كما في السلسلة الضعيفة برقم (209). قال الشيخ الألباني: قلت فهذا مرسل، بكر هذا تابعي لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومع إرساله، فالسند إليه ضعيف، لأن أبا عبد السلام واسمه صالح بن رستم الهاشمي مجهول كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب (1/ 359). انظر السلسلة الضعيفة (1/ 246).

قوله ـ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ (¬1) لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ". الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ (¬2). فَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لهم شفاعة من النبي (¬3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَالَ: "فَأَقُولُ (¬4) كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ"، وَيَظْهَرُ مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ الِارْتِدَادَ لَمْ يَكُنِ ارْتِدَادَ كُفْرٍ لِقَوْلِهِ: "وَإِنَّهُ سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي" وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنِ (¬5) الْإِسْلَامِ لَمَا نُسِبُوا إِلَى أُمَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِالْآيَةِ وَفِيهَا: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬6)، وَلَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً لَمَا ذَكَرَهَا، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا غُفْرَانَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُرْجَى الْغُفْرَانُ لِمَنْ لَمْ يُخْرِجْهُ عَمَلُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ (¬7)، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬8). وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ الْمُوَطَّأِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: (فأقول (¬9) فسحقاً فسحقاً فسحقاً (¬10)) (¬11). وَأَمَّا أَنَّهَا رَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الْمُوَقِّرَ (¬12) لِصَاحِبِهَا معين على هدم الإسلام (¬13). ¬

(¬1) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬2) تقدم تخريجه (ص124). (¬3) في (ط): "رسول الله". (¬4) في (ط) وهامش (خ): "فأقول لهم"، وفي (م) و (خ) و (ت) و (ط): فأقول: "سحقاً"، وكلمة "سحقاً" ليست موجودة في هذا الحديث، وإنما هي في حديث الموطأ المتقدم (ص121). (¬5) في (ت): "على". (¬6) سورة المائدة: آية (118). (¬7) قال الشيخ محمد رشيد رضا في تعليقه على الكتاب: "فيه أن هذه الآية لا تدل على رجاء المغفرة لهم كما قاله المحققون في تفسيرها، ووجهه ختمها بقوله {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فذكر صفتي العزة والحكمة، دون صفتي المغفرة والرحمة، ولو دلت على رجاء المغفرة لهم لدلت على رجاء المغفرة لمن اتخذ المسيح وأمه إلهين من دون الله، لأنها نزلت حكاية عما يقوله المسيح عليه السلام في شأنهم، عندما يسأله الله تعالى عن شركهم". (¬8) انظر الاعتصام (1/ 121). سورة النساء: آية (116). (¬9) ساقطة من (غ) و (ر). (¬10) ساقطة من (خ) و (ط). (¬11) تقدم تخريجه (ص124). (¬12) في (غ): "المقر". (¬13) تقدم (ص219 ـ 220).

وَأَمَّا (¬1) أَنَّ عَلَى مُبْتَدِعِهَا إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬2)، وَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بها (إلى يوم القيامة) (¬3)) (¬4) الْحَدِيثَ. وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: "مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (¬5). وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُشْعِرُ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ قَبْلَهُ، إِذْ عَلَّلَ تَعْلِيقَ (¬6) الْإِثْمِ عَلَى ابْنِ آدَمَ لِكَوْنِهِ (¬7) أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ سَنَّ مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ مِثْلُهُ، إِذْ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْإِثْمُ بِمَنْ سَنَّ الْقَتْلَ لِكَوْنِهِ قَتْلًا دُونَ غَيْرِهِ، بَلْ لِكَوْنِهِ سَنَّ سُنَّةَ سُوءٍ (لم تكن) (¬8)، وَجَعَلَهَا طَرِيقًا مَسْلُوكَةً (¬9). وَمِثْلُ هَذَا مَا جَاءَ فِي مَعْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَوْ يَأْتِي كَقَوْلِهِ: "من ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا" (¬10). وغير ذلك من الأحاديث. فليتق (¬11) امْرُؤٌ رَبَّهُ، وَلْيَنْظُرْ قَبْلَ الْإِحْدَاثِ (فِي أَيِّ) (¬12) مزلة يضع قدمه فإنه (¬13) في ¬

(¬1) ساقطة من (ت). (¬2) سورة النحل: آية (25). (¬3) ما بين المعكوفين ساقطة من جميع النسخ عدا (غ). (¬4) تقدم تخريجه (ص118). (¬5) رواه الإمام البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه، باب إثم من دعا إلى ضلالة عن عبد الله بن مسعود وذكره (13/ 302 مع الفتح)، والإمام مسلم في كتاب القسامة من صحيحه، باب بيان إثم من سن القتل (11/ 166)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه باب ما جاء الدال على الخير كفاعله برقم (2673) (5/ 41)، والإمام ابن ماجه في كتاب الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلماً برقم (2616) (2/ 873)، والإمام أحمد في المسند (1/ 383، 430، 433). (¬6) في (ت): "تعليل". (¬7) في (ر): "بكونه". (¬8) ساقط من (ط). (¬9) في (ت): "مسلوكاً". (¬10) تقدم تخريجه (ص33). (¬11) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فليتق الله". (¬12) ساقط من (ت). (¬13) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).

محصول (¬1) أمره (¬2)، يَثِقُ (¬3) بِعَقْلِهِ فِي التَّشْرِيعِ، وَيَتَّهِمُ رَبَّهُ فِيمَا شَرَعَ، وَلَا يَدْرِي الْمِسْكِينُ مَا الَّذِي يُوضَعُ لَهُ فِي مِيزَانِ سَيِّئَاتِهِ، مِمَّا لَيْسَ فِي حِسَابِهِ، وَلَا شَعَرَ أَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ، فَمَا مِنْ بِدْعَةٍ يَبْتَدِعُهَا أَحَدٌ فَيَعْمَلُ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ، إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ إِثْمُ ذَلِكَ الْعَامِلِ، زِيَادَةً إِلَى إِثْمِ ابْتِدَاعِهِ أَوَّلًا (¬4)، ثُمَّ عَمَلِهِ ثَانِيًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ تُبْتَدَعُ فَلَا تَزْدَادُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ إِلَّا مُضِيًّا ـ حسبما تقدم ـ واشتهاراً وانتشاراً، فعلى وزان ذَلِكَ يَكُونُ إِثْمُ الْمُبْتَدِعِ لَهَا، كَمَا أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ كُلُّ بِدْعَةٍ (¬5) يَلْزَمُهَا إِمَاتَةُ سُّنَّةٍ تُقَابِلُهَا، كَانَ عَلَى الْمُبْتَدِعِ إِثْمُ ذَلِكَ أَيْضًا. فَهُوَ إِثْمٌ زَائِدٌ عَلَى إِثْمِ الِابْتِدَاعِ وَذَلِكَ الْإِثْمُ يَتَضَاعَفُ تَضَاعُفَ إِثْمِ الْبِدْعَةِ بِالْعَمَلِ بِهَا، لِأَنَّهَا كُلَّمَا (¬6) تَجَدَّدَتْ فِي قَوْلٍ أَوْ عمل تجددت إِمَاتَةِ السُّنَّةِ كَذَلِكَ. وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ بِبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَنَا بِأَنَّهُمْ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" (¬7) الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ. فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا مَا إِذَا نَظَرَ فِيهِ النَّاظِرُ شَكَّ فِيهِ وَتَمَارَى: هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِيهِمْ أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا سَبَبُهُ الِابْتِدَاعُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ ويدعون أهل الأوثان"، وقوله: "يقرأون الْقُرْآنَ لَا يَتَجَاوَزُ تَرَاقِيَهُمْ" (¬8). فَهَذِهِ بِدَعٌ ثَلَاثٌ، أعاذنا الله (¬9) من ذلك بفضله. ¬

(¬1) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ "مصون"، ولا معنى لها. (¬2) في (ت): "أمر". (¬3) كتب في هامش (خ): "قبل الإحداث منزلة ليضع قدمه في مصون أم يثق". والظاهر أن العبارتين محرفة. (¬4) في (م): "ولا". (¬5) ساقطة من (م). (¬6) في (م): "كلمة". (¬7) تقدم تخريجه (ص12). (¬8) تقدم تخريجه (ص12). (¬9) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ "إعاذة بالله".

وَأَمَّا أَنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ (¬1)، فَلِمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إن الله (¬2) حجز (¬3) التَّوْبَةَ عَلَى كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ" (¬4). وَعَنْ يَحْيَى بن أبي (¬5) عمرو السيباني (¬6) قَالَ (¬7): (كَانَ يُقَالُ: يَأْبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ بِتَوْبَةٍ، وَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ إِلَّا إِلَى أشر (¬8) منها) (¬9). ونحوه عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (مَا كَانَ رَجُلٌ عَلَى رَأْيٍ ¬

(¬1) المراد بهذا الإطلاق غالب أهل البدع، وسيذكر المؤلف بعد قليل إمكان توبة المبتدع، وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية القول بعدم قبول توبته مطلقاً فقال: "قال طائفة من السلف منهم الثوري: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها". وهذا معنى ما روي عن طائفة أنهم قالوا: "إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة" بمعنى أنه لا يتوب منها، لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه، كما يتوب على الكافر، ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقاً، فقد غلط غلطاً منكراً، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه ما دام مبتدعاً يراها حسنة لا يتوب منها، كما يرى الكافر أنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيراً ممن كان على بدعة تبين له ضلالها، وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله". انظر مجموع الفتاوى (11/ 684 ـ 685)، وسوف يتكلم المؤلف عن توبة المبتدع في الباب التاسع (2/ 267 ـ 273، 280 ـ 282)، وانظر حقيقة البدعة وأحكامها لسعيد بن ناصر الغامدي (2/ 388 ـ 414). (¬2) لفظ الجلالة لم يكتب في أصل (م)، وقد أثبت في هامشها. (¬3) في (م) و (خ) و (ت) و (ط) و (ر): "حجر". (¬4) رواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة، باب ما ذكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: لا يقبل الله عمل صاحب بدعة، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله حجز ـ أو قال حجب ـ التوبة عن كل صاحب بدعة) (1/ 21) برقم (37)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب هل لصاحب البدعة توبة، وذكره عن أنس (ص62)، وقال عنه الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة (10/ 154). وقد صححه الشيخ الألباني كما في السلسلة الصحيحة (4/ 154) برقم (1620). (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) في المخطوط والمطبوع "الشيباني"، والصحيح المثبت كما تقدم في ترجمته (ص12). (¬7) ساقطة من (ت). (¬8) تقدمت روايته (ص152) بلفظ "شر"، وهو الموافق لرواية ابن وضاح في البدع والنهي عنها. (¬9) تقدم تخريجه (ص152).

مِنَ الْبِدْعَةِ فَتَرَكَهُ إِلَّا إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ) (¬1). خَرَّجَ هَذِهِ الْآثَارَ ابْنُ وَضَّاحٍ (¬2). وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ (¬3) عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز رضي الله عنه أنه كان يقول: (اثنان لا تعاتبهما (¬4)، صَاحِبُ طَمَعٍ وَصَاحِبُ هَوًى (¬5)، فَإِنَّهُمَا لَا يَنْزِعَانِ) (¬6). وَعَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ (¬7) قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْقَاسِمِ (¬8) وَهُوَ يَقُولُ: (مَا كَانَ عَبْدٌ على هوى فَتَرَكَهُ (¬9) إِلَّا إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ)، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا فَقَالَ: (تَصْدِيقُهُ فِي حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَرْجِعَ السهم على فوقه (¬10) " (¬11). ¬

(¬1) رواه عنه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص61). (¬2) تقدمت ترجمته (ص39). (¬3) تقدمت ترجمته (ص4). (¬4) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ "نعاتبها". (¬5) في (ت): "وصاحب بدعة هوى". (¬6) لم يمكن تخريجه لكون كتاب ابن وهب مخطوط، وقد طبع جزء يسير منه، ولم أجد فيه شيئاً مما نقل المؤلف. (¬7) هو عبد الله بن شوذب البلخي الخراساني، سكن البصرة، ثم الشام، كان صدوقاً عابداً، وقد وثقه جماعة. توفي سنة 156هـ. انظر: تقريب التهذيب (1/ 423)، الكاشف للذهبي (2/ 86). (¬8) هو عبد الله بن القاسم التيمي البصري، مولى أبي بكر الصديق، روى عن طائفة من الصحابة، وهو من أقران سعيد بن المسيب. قال عنه ابن حجر: مقبول. انظر: تهذيب التهذيب (5/ 395)، تقريب التهذيب (1/ 441)، الكاشف للذهبي (2/ 106). (¬9) المثبت ما في (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ "تركه". (¬10) قال الإمام النووي في شرح مسلم: "والفوق والفوقة بضم الفاء هو الحز الذي يجعل فيه الوتر". (7/ 165). (¬11) رواه الإمام البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه، باب إقرار الفاجر والمنافق عن أبي سعيد (13/ 535 ـ 536)، والإمام أحمد في المسند (3/ 15، 64)، والقول بتمامه ذكره ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب هل لصاحب البدعة توبة، إلا أن ابن شوذب ليس في إسناد ابن وضاح (ص61).

وَعَنْ أَيُّوبَ (¬1) قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَرَى رَأْيًا فَرَجَعَ عَنْهُ، فَأَتَيْتُ مُحَمَّدًا (¬2) فَرِحًا بِذَلِكَ أُخْبِرُهُ، فَقُلْتُ: أَشَعَرْتَ أَنَّ فُلَانًا تَرَكَ رَأْيَهُ الَّذِي كان يرى؟ فقال: "انظروا (¬3) إلى ما (¬4) يَتَحَوَّلُ؟ إِنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِهِ (¬5) " (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، ثُمَّ (¬6) لَا يَعُودُونَ) " (¬7). وهو حديث أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يقرأون الْقُرْآنَ لَا (¬8) يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ) (¬9). فَهَذِهِ شَهَادَةُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآثَارِ، وَحَاصِلُهَا أنه لَا (¬10) تَوْبَةَ لِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ عَنْ بِدْعَتِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا فَإِنَّمَا يَخْرُجُ إِلَى مَا (¬11) هُوَ شَرٌّ مِنْهَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ، أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ يُظْهِرُ الْخُرُوجَ عَنْهَا وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهَا بَعْدُ، كَقِصَّةِ غَيْلَانَ (¬12) مَعَ عُمَرَ بْنِ عبد العزيز رضي الله عنه (¬13). ¬

(¬1) هو أيوب السختياني، تقدمت ترجمته (ص147). (¬2) لعله ابن سيرين. (¬3) في (ط): "انظر". (¬4) رسمت في (ط) هكذا "إلى م". (¬5) في (ت) و (ط) كتبت العبارة "أشد عليهم من الأول، أوله ... "، وكلمة "الأول" أثبتت في هامش (خ). وهي ساقطة من (م)، وكذلك ليست في البدع والنهي عنها لابن وضاح. (¬6) في (ط) "وآخره ثم لا يعودون". (¬7) انظر البدع والنهي عنها لابن وضاح، باب هل لصاحب البدعة توبة (ص62). وقد روى الخطيب البغدادي نحو هذا القول عن أيوب عندما قال له رجل: إن عمرو بن عبيد قد رجع عن قوله. انظر تاريخ بغداد (12/ 174). (¬8) في (ط): "ولا". (¬9) رواه الإمام مسلم في كتاب الزكاة عن أبي ذر (7/ 174 مع النووي)، والإمام ابن ماجه في مقدمة سننه، باب في ذكر الخوارج (1/ 60) برقم (170)، والإمام أحمد في المسند (5/ 31)، والإمام الدارمي في كتاب الجهاد من سننه، باب في قتال الخوارج (2/ 281 برقم (2434). (¬10) ساقطة من (ط). (¬11) في (غ) و (ر): "لما". (¬12) هو غيلان الدمشقي القدري. تقدمت ترجمته (ص102). (¬13) تقدمت قصته مع عمر بن عبد العزيز (ص102).

ويدل عليه (¬1) أَيْضًا حَدِيثُ الْفِرَقِ إِذْ قَالَ فِيهِ: "وَإِنَّهُ سيخرج في أمتي أقوام تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ (¬2) كَمَا يَتَجَارَى الكَلَب (¬3) بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ" (¬4)، وَهَذَا النَّفْيُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِيِّ، إِذْ لا يبعد أن يتوب بعضهم (¬5) عَمَّا رَأَى، وَيَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا نُقِلَ عن عبيد اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ (¬6)، وَمَا نَقَلُوهُ فِي مناظرة ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه (¬7)، وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز ¬

(¬1) في (خ) و (ط) و (ر): "على ذلك". (¬2) في (م): "الأهوى". (¬3) الكَلَب، بالتحريك، هو داء يعرض للإنسان من عض الكَلْبِ الكَلِبِ، فيصيبه شبه الجنون، وتعرض له أعراض رديئة، ولا يشرب الماء حتى يموت عطشاً. انظر: النهاية في غريب الحديث (4/ 195). وقد تكلم المؤلف عن وجه تشبيه الأهواء بالكلب في الباب التاسع، المسألة الثانية والعشرون (2/ 277). (¬4) رواه الإمام أبو داود في كتاب السنة من سننه، باب شرح السنة عن معاوية رضي الله عنه أنه قام فقال: ألا إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام فينا فقال: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة). زاد يحيى وعمرو في حديثيهما (وإنه سيخرج من أمتي أقوام ... الحديث) (4/ 197) (4597)، ورواه الإمام الدارمي في كتاب السير من سننه، باب في افتراق هذه الأمة (دون ذكر الزيادة)، (2/ 314) برقم (2518)، والإمام أحمد في المسند (4/ 102)، والإمام الآجري في الشريعة، باب ذكر افتراق الأمم في دينهم (ص18) (دون ذكر الزيادة)، والإمام ابن أبي عاصم في السنة، باب ذكر الأهواء المذمومة (1،2) (ص7)، والإمام المروزي في السنة (ص19 ـ 20)، والإمام اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/ 101، 102)، والإمام الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي (1/ 128)، وحسنه ابن حجر كما في تخريج أحاديث الكشاف (ص63)، وصححه الألباني كما في ظلال الجنة (ص 7 ـ 8). وقد ذكر المؤلف الحديث في الباب التاسع وأفرده بمسائل (2/ 267). (¬5) مثبتة في (غ)، وساقطة من بقية النسخ. (¬6) سوف يذكر المؤلف خبره، وما وقع فيه من الخطأ، ثم توبته من ذلك في الباب الثالث (ص278 ـ 281). (¬7) هذه المناظرة ذكرها المؤلف في الباب التاسع (2/ 187 ـ 189)، وقد ذكرها الإمام=

لِبَعْضِهِمْ (¬1)، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِي الْوَاقِعِ الْإِصْرَارُ. وَمِنْ هُنَالِكَ (¬2) قُلْنَا: يَبْعُدُ أَنْ يَتُوبَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِظَاهِرِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬3). وَسَبَبُ ذلك (¬4) بعد السماع (¬5) أَنَّ الدُّخُولَ تَحْتَ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ صَعْبٌ عَلَى النَّفْسِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُخَالِفٌ لِلْهَوَى، وَصَادٌّ عَنْ سَبِيلِ الشَّهَوَاتِ، فَيَثْقُلُ عَلَيْهَا جِدًّا، لِأَنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ، وَالنَّفْسَ إِنَّمَا تَنْشَطُ بِمَا يُوَافِقُ هَوَاهَا لَا بِمَا يُخَالِفُهُ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ فَلِلْهَوَى فِيهَا مَدْخَلٌ، لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى نَظَرِ (¬6) مُخْتَرِعِهَا لَا إلى نظر الشارع، (فإن أدخل فيها نظر الشَّارِعِ) (¬7) فَعَلَى حُكْمِ التَّبَعِ لَا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، مَعَ ضَمِيمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَعَلُّقٍ بِشُبْهَةِ (¬8) دَلِيلٍ يَنْسِبُهَا إِلَى الشَّارِعِ، وَيَدَّعِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَصَارَ هَوَاهُ مَقْصُودًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي زَعْمِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ (¬9) عَنْ ذَلِكَ وداعي الهوى مستمسك بجنس (¬10) مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ؟ وَهُوَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ فِي الجملة. ¬

=ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 104)، والإمام ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 291). وانظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص112 ـ 114)، والكامل لابن الأثير (3/ 202 ـ 203)، فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (19/ 90، 91). (¬1) تقدم (ص102). (¬2) في (غ): ذلك. (¬3) سوف يذكر المؤلف بعض الذين ابتدعوا ثم تابوا في الباب الثالث (ص275 ـ 281)، وسوف يتكلم عن توبة المبتدع في الباب التاسع (2/ 267 ـ 273، 280 ـ 282) من المطبوع. (¬4) مثبتة في (غ) و (ر)، وساقطة من بقية النسخ. (¬5) هكذا في (م) وأصل (خ) و (ت). وكتب في هامش (ت) "عله بعده عن التوبة" وفي (خ) كتب فوق العبارة حرف مـ أي لا معنى لها، وفي الهامش صححت بعبارة "وسبب بعده عن التوبة". (¬6) غير واضحة في (ت). (¬7) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬8) في (م): "شبهة". (¬9) غير واضحة في (ت). (¬10) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "بحسن".

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ (¬1) قَالَ: (بَلَغَنِي أَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةَ خلاه (¬2) الشيطان والعبادة، وألقى (¬3) عَلَيْهِ الْخُشُوعَ وَالْبُكَاءَ كَيْ يَصْطَادَ بِهِ) (¬4). وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: (أَشَدُّ النَّاسِ عِبَادَةً مَفْتُونٌ) (¬5)، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ صَلَاتَهُ فِي صَلَاتِهِ وَصِيَامَهُ فِي صِيَامِهِ" (¬6) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ (¬7). وَيُحَقِّقُ مَا قَالَهُ الْوَاقِعُ كَمَا نُقِلَ فِي الْأَخْبَارِ عَنِ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ. فَالْمُبْتَدِعُ يَزِيدُ في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والجاه والمال (¬8) وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الشَّهَوَاتِ، بَلِ التَّعْظِيمُ أعلى (¬9) شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، أَلَا (¬10) تَرَى إِلَى انْقِطَاعِ الرُّهْبَانِ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ عَنْ جَمِيعِ الْمَلْذُوذَاتِ، وَمُقَاسَاتِهِمْ فِي أَصْنَافِ الْعِبَادَاتِ، وَالْكَفِّ عَنِ الشَّهَوَاتِ؟! وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ خَالِدُونَ فِي جَهَنَّمَ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ *عَامِلَةٌ ¬

(¬1) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص18). (¬2) في (خ) و (ت) و (ط): "ضلالة"، وهو خطأ. ولا تستقيم العبارة بذلك، والمثبت هو ما في (م) و (غ) و (ر) وهو الموافق لما في الحوادث والبدع. وقد حاول الشيخ رشيد رضا تقريب العبارة فقال: ولعله: "آلفه الشيطان العبادة". (¬3) في (ط): "أو ألقى". (¬4) ذكر هذا القول له الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص297)، ولعل المؤلف قد نقله منه، لأن القول الذي بعده موجود في نفس الموضع. (¬5) رواه الإمام ابن وضاح عن رجل من الصحابة، ولكن بدون ذكر الحديث، وقال بعده: يعني صاحب بدعة. انظر: البدع والنهي عنها (ص62 ـ 63)، وذكره الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع بتمامه (ص297). (¬6) تقدم تخريجه الحديث (ص12)، وأكثر الروايات وردت بضمير الجمع في لفظة (صلاته) الثانية وكذلك (صيامه). وهذه الرواية عند الإمام البخاري (12/ 290). (¬7) ذكر هذا القول لبعض الصحابة، واحتجاجهم بالحديث الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (297). (¬8) في (ط): "والمال والجاه". (¬9) في (خ) و (ط): "على". (¬10) في (ر): "أولا".

نَاصِبَةٌ *تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً *} (¬1) وَقَالَ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} (¬2)، وَمَا (¬3) ذَاكَ إِلَّا لِخِفَّةٍ يَجِدُونَهَا فِي ذَلِكَ الالتزام، ونشاط يداخلهم، يَسْتَسْهِلُونَ (¬4) بِهِ الصَّعْبَ، بِسَبَبِ مَا دَاخَلَ النَّفْسَ مِنَ الْهَوَى، فَإِذَا بَدَا لِلْمُبْتَدِعِ مَا هُوَ عليه، رآه محبوباً عنده لاستعباده (¬5) لِلشَّهَوَاتِ ـ وَعَمَلِهِ مِنْ جُمْلَتِهَا (¬6) ـ وَرَآهُ مُوَافِقًا لِلدَّلِيلِ عِنْدَهُ، فَمَا الَّذِي يَصُدُّهُ عَنِ الِاسْتِمْسَاكِ بِهِ، وَالِازْدِيَادِ مِنْهُ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ أَعْمَالَهُ أَفْضَلُ من أعمال غيره، واعتقاداته أوفق وأعلى؟! أفبعد البرهان مطلب؟ (¬7) {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬8). وَأَمَّا أَنَّ الْمُبْتَدِعَ يُلْقَى عَلَيْهِ الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ *} (¬9) حَسْبَمَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ (¬10)، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمُتَّخِذِينَ لِلْعِجْلِ إِنَّمَا ضَلُّوا بِهِ حَتَّى (¬11) عَبَدُوهُ، لِمَا سَمِعُوا مِنْ خُوَارِهِ، وَلِمَا (أَلْقَى) (¬12) إِلَيْهِمُ السَّامِرِيُّ فِيهِ، فَكَانَ فِي حَقِّهِمْ شُبْهَةً خَرَجُوا بِهَا عن الحق الذي كان في أيديهم، ثم (¬13) قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}، فَهُوَ عُمُومٌ فِيهِمْ وَفِيمَنْ أَشْبَهَهُمْ، مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْبِدَعُ كُلُّهُا افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ حَسْبَمَا أخبر في كتابه في قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} (¬14). ¬

(¬1) سورة الغاشية: آيات (2 ـ 4). (¬2) سورة الكهف: آيتان (103 ـ 104). (¬3) في (م) و (ت): "ما" بدون الواو. (¬4) في (ت): "يستهلون". (¬5) المثتب من (ر)، وفي بقية النسخ "لاستبعاده". (¬6) غير واضحة في (ت)، وكتب بإزائها في الهامش "جهتها" وكأنها نسخة أخرى. (¬7) هكذا العبارة في (م) و (ت)، وفي (خ) و (ط): "أفيفيد البرهان مطلباً"، ويظهر تعديل الناسخ لكلمة "أفبعد" إلى "أفيفيد". (¬8) سورة المدثر: آية (31). (¬9) سورة الأعراف: آية (152). (¬10) تقدم (ص110). (¬11) ساقطة من (ت)، وفي (غ): "حيث". (¬12) ساقطة من (م) وأصل (خ) و (ت)، ومثبتة في (ط) وهامش (خ) و (ت). (¬13) مثبتة في (غ): وساقطة من بقية النسخ. (¬14) سورة الأنعام: آية (140).

فَإِذًا كُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ فَهُوَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ بِسَبَبِ بِدْعَتِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ لبادى الرأي عزه (¬1) وجبريته، فَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَذِلَّاءُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الذِّلَّةَ الحاضرة في الدنيا (¬2) مَوْجُودَةٌ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ. أَلَا تَرَى أَحْوَالَ الْمُبْتَدِعَةِ فِي زَمَانِ التَّابِعِينَ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ حَتَّى تَلَبَّسُوا (¬3) بِالسَّلَاطِينِ (¬4)، وَلَاذُوا بِأَهْلِ الدُّنْيَا (¬5)، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ اسْتَخْفَى بِبِدْعَتِهِ، وَهَرَبَ بِهَا عَنْ مُخَالَطَةِ الْجُمْهُورِ، وَعَمِلَ بِأَعْمَالِهَا عَلَى التَّقِيَّةِ. وَقَدْ (¬6) أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتخذوا العجل أن (¬7) سَيَنَالُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، فَأَنْجَزَ اللَّهُ وَعْدَهُ، فَقَالَ: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (¬8). وصدق (¬9) ذلك الواقع باليهود حيثما حلوا، وفي (¬10) أي زمان (¬11) كانوا، لا يزالوان أَذِلَّاءَ مَقْهُورِينَ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}، وَمِنْ جُمْلَةِ الِاعْتِدَاءِ (¬12) اتِّخَاذُهُمُ الْعِجْلَ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذِّلَّةِ، وَأَمَّا (¬13) الْغَضَبُ فَمَضْمُونٌ بِصَادِقِ الْأَخْبَارِ، فَيُخَافُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدِعُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الغضب والله الواقي بفضله. وَأَمَّا الْبُعْدُ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، فلحديث الموطأ: (فليذادن ¬

(¬1) في (ط): "في عزة". (¬2) كتبت في (ط): "بين أيدينا". (¬3) كتب بإزائها في هامش (ت): "عله تشبثوا". (¬4) وذلك كاستعانة المعتزلة ببعض خلفاء بني العباس في مسألة خلق القرآن. (¬5) في (خ): "بأهلها بل بأهل الدنيا"، وهو خطأ أضرب عنه الناسخ. (¬6) غير واضحة في (ت). (¬7) في (م) ضرب على الحرف بخط مائل. (¬8) سورة البقرة: آية (61). (¬9) غير واضحة في (ت). (¬10) المثبت كما في (غ)، وفي بقية النسخ: "في" بدون الواو. (¬11) في (خ): "في أي مكان وزمان"، وكذلك (ط)، ولعل كلمة "مكان" زيادة من الناسخ فقد كتبت فوق السطر. (¬12) في (غ) و (ر): اعتدائهم. (¬13) في (م) وأصل (خ): "ومن"، وفي هامش (خ) كما هو مثبت.

رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ (¬1)) (¬2) الْحَدِيثَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَشَوْا الْقَهْقَرَى) (¬3). وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ (¬4): (أَنَا فَرَطُكُمْ (¬5) عَلَى الْحَوْضِ، لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا تَأَهَّبْتُ (¬6) لِأَتَنَاوَلَهُمْ (¬7) اخْتَلَجُوا (¬8) دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ (¬9)، أَصْحَابِي، يَقُولُ: لَا تدري ما أحدثوا (¬10) بَعْدَكَ) (¬11). وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي غِمَارِ (¬12) هَذِهِ الْأُمَّةِ لِأَجْلِ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِيهِمْ، وَهُوَ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ (¬13)، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يكون لأهل الكفر ¬

(¬1) في (خ): "الضلال". (¬2) تقدم تخريجه (ص121). (¬3) رواه الإمام البخاري في كتاب الفتن من صحيحه، باب ما جاء في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً} (13/ 3)، وفي كتاب الرقاق، باب في الحوض (11/ 466)، ورواه الإمام مسلم في كتاب الفضائل من صحيحه، باب إثبات حوض نبينا صلّى الله عليه وسلّم وصفاته (15/ 55). (¬4) هو ابن مسعود رضي الله عنه. (¬5) قال الإمام النووي في شرح مسلم: "قال أهل اللغة: الفرط بفتح الفاء والراء، والفارط هو الذي يتقدم الوارد ليصلح لهم الحياض والدلاء ونحوها من أمور الاستقاء، فمعنى فرطكم على الحوض سابقكم إليه كالمهيىء له" (15/ 53). (¬6) في (م) و (ت): "أهيت"، وفي (ط) و (غ): "أهويت". (¬7) لفظ البخاري "لأناولهم". (¬8) قال الإمام النووي في شرح مسلم: "أما اختلجوا، فمعناه اقتطعوا". (15/ 64). (¬9) في (ت): "ربي". (¬10) في (ط): "أحدثوه". (¬11) رواه الإمام البخاري في كتاب الفتن، باب ما جاء في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً} عن ابن مسعود رضي الله عنه (13/ 3)، والإمام مسلم في كتاب الفضائل من صحيحه، باب حوض نبينا صلّى الله عليه وسلّم وصفته، مع اختلاف في بعض الألفاظ (15/ 59)، والإمام أحمد في المسند (1/ 455)، والإمام ابن أبي عاصم في السنة برقم (736، 761، 762). (¬12) غمار الناس زحمتهم وكثرتهم. انظر: الصحاح (2/ 772). (¬13) تقدم معنى الغرة والتحجيل (ص123)، ومعرفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمته بالغرة والتحجيل=

الْمَحْضِ، كَانَ كُفْرُهُمْ أَصْلًا أَوِ ارْتِدَادًا، وَلِقَوْلِهِ: "قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ" (¬1)، وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ، لَقَالَ: قَدْ كَفَرُوا بَعْدَكَ، وَأَقْرَبُ مَا يُحْمَلُ (¬2) عَلَيْهِ تَبْدِيلُ السُّنَّةِ، وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ (¬3). ومن قال: إنهم (¬4) أهل (¬5) النِّفَاقُ فَذَلِكَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَقْصُودِنَا، لِأَنَّ أَهْلَ النِّفَاقِ إِنَّمَا أَخَذُوا الشَّرِيعَةَ تَقِيَّةً لَا تعبدا، فوضعوها غَيْرِ مَوَاضِعِهَا وَهُوَ عَيْنُ الِابْتِدَاعِ. وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى كُلُّ مَنِ اتَّخَذَ السُّنَّةَ وَالْعَمَلَ بِهَا حِيلَةً (¬6) وَذَرِيعَةً إِلَى نَيْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا، لَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لها، وإخراج لها عن وضعها الشرعي. وَأَمَّا الْخَوْفُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، فَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنَ السَّلَفِ الْأَوَّلِ وَغَيْرَهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ (¬7) كَثِيرٍ مِنْ فِرَقِهِمْ مِثْلَ الْخَوَارِجِ (¬8)، وَالْقَدَرِيَّةِ (¬9) وَغَيْرِهِمْ (¬10)، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬11)، وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬12) الْآيَةَ. وَقَدْ حَكَمَ (¬13) الْعُلَمَاءُ بِكُفْرِ جُمْلَةٍ مِنْهُمْ كَالْبَاطِنِيَّةِ (¬14) وَسِوَاهُمْ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَذْهَبِ الْحُلُولِيَّةِ (¬15) الْقَائِلِينَ بِمَا يُشْبِهُ قَوْلَ النَّصَارَى فِي ¬

=وردت في حديث أبي هريرة السابق (ص121)، إلا أن المؤلف اختصره. (¬1) تقدم تخريج الحديث (ص121). (¬2) في (ت): "حمل". (¬3) وسيتكلم المؤلف عن هذه المسألة أيضاً في المسألة السادسة من الباب التاسع (2/ 202 ـ 206). (¬4) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "إنه". (¬5) ساقطة من النسخ عدا (غ). (¬6) في (م) و (خ): "حلية"، وصححت في هامش (خ)، وهي غير واضحة في (ت). (¬7) ساقطة من (ت). (¬8) تقدم التعريف بهم (ص11). (¬9) تقدم التعريف بهم (ص11). (¬10) سوف يتكلم المؤلف عن مسألة تكفير المبتدعة في الباب التاسع (2/ 194 ـ 198، 202 ـ 206، 246 ـ 249)، وتقدم الكلام على تكفير الخوارج (ص79). (¬11) سورة الأنعام: آية (159). (¬12) سورة آل عمران: آية (106). (¬13) في (م) و (ت) و (ر) و (غ): "حتم". (¬14) تقدم التعريف بهم (ص28). (¬15) الحلولية قوم يزعمون أنه قد حصل لهم الحلول، وهو حلول الله بذاته في الأجسام أو=

اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ (¬1). وَالْعُلَمَاءُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْرٍ هَلْ هُوَ كُفْرٌ أَمْ لَا؟ فَكُلُّ عَاقِلٍ يَرْبَأُ (¬2) بِنَفْسِهِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى خُطَّةِ خَسْفٍ كَهَذِهِ، بِحَيْثُ يُقَالُ لَهُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا هَلْ أَنْتَ كَافِرٌ أَمْ ضَالٌّ غَيْرُ كَافِرٍ؟ أَوْ يُقَالُ (¬3): إِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قالوا بكفرك، وأنت (¬4) حلال الدم. وَأَمَّا أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا سُوءُ الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَلِأَنَّ (¬5) صَاحِبَهَا مُرْتَكِبٌ إِثْمًا، وَعَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى حَتْمًا، وَلَا نَقُولُ الْآنَ: هُوَ عَاصٍ بِالْكَبَائِرِ أَوْ بِالصَّغَائِرِ، بَلْ نَقُولُ: هُوَ مُصِرٌّ عَلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْإِصْرَارُ يُعَظِّمُ الصَّغِيرَةَ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً حَتَّى تَصِيرَ كَبِيرَةً، وَإِنْ (¬6) كَانَتْ كَبِيرَةً فَأَعْظَمُ. وَمَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَيُخَافُ عَلَيْهِ، فَرُبَّمَا إِذَا كُشِفَ الْغِطَاءُ، وَعَايَنَ عَلَامَاتِ الْآخِرَةِ، اسْتَفَزَّهُ الشَّيْطَانُ وَغَلَبَهُ عَلَى قَلْبِهِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَخُصُوصًا حِين كَانَ مُطِيعًا لَهُ (¬7) فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ زَمَانِهِ، مَعَ حُبِّ الدُّنْيَا الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ (¬8) الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيِّ (¬9): (إِنَّ سُوءَ الخاتمة لا يكون لمن استقام ¬

=المخلوقات، وأول من أظهر ذلك في الإسلام هم غلاة الرافضة، بادعائهم حلول الحق في أئمتهم، واشتهر القول بالحلول عن الحلاج ومن تبعه من زنادقة الصوفية. انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص116)، وانظر: كلام الإمام الآجري عن هذه الفرقة في كتابه الشريعة (ص285 ـ 290). (¬1) يريد النصارى باللاهوت الله تعالى أو كلمته، ويريدون بالناسوت عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد زعموا حلول اللاهوت بالناسوت. انظر: الملل والنحلل للشهرستاني (ص221)، الجواب الصحيح لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 160). (¬2) في (م): "يرءا"، وصححت في الهامش بما هو مثبت. وفي (ت): "ينئى"، وكتب في الهامش "يرءا" على أنها نسخة أخرى. (¬3) في (خ): "يقال له". (¬4) في (غ): "وأنك". (¬5) في (ر): "فإن". (¬6) في (ر): "وأما إن". (¬7) في (ت): "لله". (¬8) غير واضحة في (ت). (¬9) في (خ): "الإشبل"، وهو الإمام الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الأندلسي الإشبيلي، سكن مدينة بجاية، فنشر بها علمه، وصنف=

ظَاهِرُهُ، وَصَلُحَ بَاطِنُهُ، مَا سُمِعَ بِهَذَا (¬1) قَطُّ، وَلَا عُلِمَ بِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لمن كان (¬2) له فساد في (¬3) العقل (¬4)، أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَإِقْدَامٌ عَلَى الْعَظَائِمِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ مُسْتَقِيمًا ثُمَّ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، وخرج عن سننه، وأخذ في غَيْرِ طَرِيقِهِ (¬5)، فَيَكُونُ عَمَلُهُ ذَلِكَ سَبَبًا لِسُوءِ خَاتِمَتِهِ، وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬6)). وَقَدْ سَمِعْتُ بِقِصَّةِ بَلْعَامَ بْنِ بَاعُورَاءَ (¬7) حَيْثُ آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ، إلى آخر الآية (¬8). فهذا ظاهر إذا اعتبرنا البدعة (¬9) من حيث هي معصية، فإن (¬10) نَظَرْنَا إِلَى كَوْنِهَا بِدْعَةً، فَذَلِكَ أَعْظَمُ، لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ ـ مَعَ كَوْنِهِ مُصِرًّا عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ ـ يَزِيدُ عَلَى الْمُصِرِّ بِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِلشَّرِيعَةِ بِعَقْلِهِ، غَيْرُ مُسَلِّمٍ لَهَا فِي تَحْصِيلِ أَمْرِهِ، مُعْتَقِدًا فِي الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا طَاعَةٌ، حَيْثُ حَسَّنَ مَا قَبَّحَهُ الشَّارِعُ، وَفِي الطَّاعَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ طَاعَةً إِلَّا بِضَمِيمَةِ نَظَرِهِ، فَهُوَ قَدْ قَبَّحَ مَا حَسَّنَهُ الشَّارِعُ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَحَقِيقٌ بِالْقُرْبِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ مَنْ (¬11) ذَمَّ: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ *} (¬12)، والمكر جلب السوء من ¬

=التصانيف، وله الأحكام الصغرى والوسطى والكبرى، وكتاب العاقبة في الزهد وغيرها. مات سنة 581هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (21/ 98)، شذرات الذهب (4/ 271)، العبر (4/ 243). (¬1) في (ت): "هذا". (¬2) ساقطة من (ت). (¬3) غير واضحة في (ت). (¬4) في (م): العقد. (¬5) في (ط): "في طريق غير طريقه". وكلمة طريق الأولى كتبت في هامش (خ). (¬6) سورة الرعد: آية (11). (¬7) انظر: خبره في تفسير الإمام ابن كثير عند الآية (2/ 419 ـ 422)، وقد ذكر عدة روايات في شأنه. (¬8) سورة الأعراف: آيات (175 ـ 176). (¬9) في (م) و (خ) و (ط) و (ت): "اغتر بالبدعة" والصواب المثبت. (¬10) في (ط): "فإذا". (¬11) في (ت) و (ر): "ممن". (¬12) سورة الأعراف: آية (99).

حَيْثُ لَا يُفْطَنُ لَهُ، وَسُوءُ الْخَاتِمَةِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، إِذْ يَأْتِي الْإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ (¬1). اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ (¬2) الْعَفْوَ والعافية. وَأَمَّا اسْوِدَادُ وَجْهِهِ فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ (¬3) فِي ذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬4)، وَفِيهَا أَيْضًا الْوَعِيدُ بِالْعَذَابِ لِقَوْلِهِ: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (¬5)، وَقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬6). حَكَى عِيَاضٌ (¬7) عَنْ مَالِكٍ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ (¬8) عَنْهُ قَالَ: (لَوْ أَنَّ الْعَبْدَ ارْتَكَبَ الكبائر كلها بعد أن لا يشرك (¬9) بِاللَّهِ شَيْئًا، ثُمَّ نَجَا مِنْ هَذِهِ (¬10) الْأَهْوَاءِ لَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْلَى جَنَّاتِ (¬11) الْفِرْدَوْسِ، لِأَنَّ كُلَّ كَبِيرَةٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ هُوَ مِنْهَا عَلَى رَجَاءٍ، وَكُلَّ هَوًى لَيْسَ هُوَ مِنْهُ عَلَى رَجَاءٍ، إِنَّمَا يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي نار جهنم) (¬12). ¬

(¬1) ساقطة من (غ) و (ر). (¬2) في (م) و (خ): "نسلك". (¬3) تقدم كلام ابن عباس في الآية المذكورة، وأنها تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ البدعة (ص83). (¬4) (¬5) سورة آل عمران: آية (106). (¬6) سورة آل عمران: آية (105). (¬7) هو القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي المالكي، إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو واللغة وكلام العرب، توفي رحمه الله سنة 544هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (20/ 212)، الإحاطة في أخبار غرناطة (4/ 222)، البداية والنهاية (12/ 225). (¬8) هو عبد الله بن نافع الصائغ، من كبار فقهاء المدينة، كان صاحب رأي مالك، وهو الذي سمع منه سحنون وكبار أتباع أصحاب مالك. توفي سنة 186هـ. انظر: ترتيب المدارك (1/ 356)، طبقات ابن سعد (5/ 438)، سير أعلام النبلاء (10/ 371). (¬9) في (م) و (خ) و (ت): "بعد الإشراك بالله". (¬10) في (م): "هذ". (¬11) في (غ) و (ر): "جنة". (¬12) رواه القاضي عياض في ترتيب المدارك (1/ 177)، وروى نحوه الإمام أبو نعيم في الحلية (6/ 325)، وروى الإمام البيهقي في الاعتقاد والهداية قريباً من هذا عن الشافعي. ولفظه "لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الهوى". (ص/158).

وأما البراءة منه ففي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬1). وَفِي الْحَدِيثِ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ بَرَاءٌ مني" (¬2). قال ابن عمر رضي الله عنهما فِي أَهْلَ الْقَدَرِ: (إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بَرَاءٌ مِنِّي) (¬3). وَجَاءَ عَنِ الْحَسَنِ: (لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يُمْرِضُ قَلْبَكَ) (¬4). وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ (¬5): (مَنْ جَالَسَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لِغَيْرِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ بِقَلْبِهِ شَيْءٌ يَزِلُّ بِهِ فَيُدْخِلُهُ النَّارَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أُبَالِي (¬6) مَا تَكَلَّمُوا بِهِ، وَإِنِّي وَاثِقٌ بِنَفْسِي (¬7) (فَمَنْ أَمِنَ (¬8) اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ عَلَى دِينِهِ سَلَبَهُ إِيَّاهُ) (¬9) " (¬10). وَعَنْ يَحْيَى بْنِ (¬11) أَبِي كَثِيرٍ (¬12) قَالَ: "إِذَا لَقِيتَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي طَرِيقٍ فَخُذْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ" (¬13). وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ (¬14) قَالَ: (لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمُرُوكُمْ (¬15) فِي ضَلَالَتِهِمْ، وَيُلَبِّسُوا عَلَيْكُمْ ما كنتم تعرفون) (¬16). ¬

(¬1) سورة الأنعام: آية (159). (¬2) تقدم تخريجه (ص90). (¬3) تقدم تخريجه (ص207). (¬4) تقدم تخريجه (ص148). (¬5) تقدمت ترجمته (ص106). (¬6) في (ت): "ما أبالي". (¬7) في (ت): "بالله". (¬8) في (خ) و (ط): "يأمن بغير الله"، وكلمة "بغير" كتبت في (خ) فوق السطر، والصواب المثبت. (¬9) ما بين المعكوفين كتب في (ت): "فمن آمن بالله طرفة عين على دينه سلبه إليه"، وكتب في الهامش: "صوابه والله أعلم فمن يأمن بغير اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ عَلَى دِينِهِ سَلَبَهُ إِيَّاهُ". (¬10) أخرجه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص54). (¬11) في (ت): "عن". (¬12) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص150). (¬13) تقدم تخريجه (ص150). (¬14) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص110). (¬15) تقدم الأثر بلفظ "يغمسوكم". (¬16) تقدم تخريجه (ص147).

وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ (¬1) قَالَ: (لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ، فَإِنِّي (¬2) أَخَافُ أَنْ (¬3) تَرْتَدَّ قُلُوبُكُمْ) (¬4). وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَيُعَضِّدُهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ" (¬5). وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ أَبِي قِلَابَةَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ عَلَى يَقِينٍ (¬6) مِنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السُّنَّةِ، فَيُلْقِي لَهُ صَاحِبُ الْهَوَى فِيهِ (¬7) هَوًى مِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ لَا أَصْلَ لَهُ، أَوْ يَزِيدُ لَهُ فِيهِ قَيْدًا مِنْ رَأْيِهِ فَيَقْبَلُهُ قَلْبُهُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ يَعْرِفُهُ، وَجَدَهُ مُظْلِمًا، فَإِمَّا أَنْ يَشْعُرَ بِهِ فَيَرُدَّهُ بِالْعِلْمِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَشْعُرَ بِهِ فَيَمْضِيَ مَعَ مَنْ هَلَكَ. قَالَ ابْنُ وهب: سمعت (¬8) مَالِكًا إِذْ جَاءَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ يَقُولُ: "أَمَّا أَنَا فَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَأَمَّا (¬9) أَنْتَ فَشَاكٌّ، فَاذْهَبْ إِلَى شَاكٍّ مِثْلِكَ فَخَاصِمْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (¬10) الآية" (¬11). فَهَذَا شَأْنُ مَنْ تَقَدَّمَ، مِنْ عَدَمِ تَمْكِينِ زائغ القلب أن يُسمع كلامه. ¬

(¬1) هو النخعي. تقدمت ترجمته (ص149). (¬2) في (خ) و (ت) و (ط): "إذا". (¬3) ساقطة من (م). (¬4) تقدم تخريجه (ص149). (¬5) رواه الإمام أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب من يؤمر أن يجالس، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "الرجل على دين خليله" تحت رقم (4833)، (4/ 261)، والإمام الترمذي في كتاب الزهد من سننه، برقم (2378)، (4/ 509)، والإمام أحمد في المسند (2/ 303، 334)، والحاكم في المستدرك (4/ 171)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 431، 432)، والإمام أبو نعيم في الحلية (3/ 165)، وقد حسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة تحت رقم (927)، (2/ 633). (¬6) غير واضحة في (ت). (¬7) ساقطة من (ت). (¬8) هكذا في (ر)، وفي بقية النسخ: "وسمعت". (¬9) ساقطة من (م). (¬10) سورة يوسف: آية (108). (¬11) ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك (1/ 172)، ورواه الإمام ابن بطة في الإنابة الكبرى (1/ 404)، وذكره أيضاً في الإبابة الصغرى (ص151)، ورواه أبو نعيم في الحلية (6/ 324)، وذكره ابن أبي زيد القيرواني في الجامع (ص125)، والجميع لم يذكر استشهاده بالآية سوى القاضي عياض.

ومثال (¬1) رَدِّهِ بِالْعِلْمِ جَوَابُهُ لِمَنْ سَأَلَهُ فِي قَوْلِهِ: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬2) كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ لَهُ: "الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ (¬3) بِدْعَةٌ، وَأَرَاكَ (¬4) صَاحِبَ بِدْعَةٍ"، ثم أمر بإخراج السائل (¬5). ومثال (¬6) مَا لَا يُقدر عَلَى رَدِّهِ مَا حَكَى الْبَاجِيُّ (¬7) قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: "كَانَ يُقَالُ: لَا تُمَكِّنْ زَائِغَ الْقَلْبِ مِنْ أُذُنِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا يَعْلَقُكَ مِنْ ذَلِكَ" (¬8). وَلَقَدْ سَمِعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ـ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ـ شَيْئًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْقَدَرِ، فَعَلِقَ قَلْبُهُ، فَكَانَ يَأْتِي إِخْوَانَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْصِحُهُمْ، فَإِذَا نَهَوْهُ قَالَ (¬9): "فَكَيْفَ بِمَا عَلِقَ قَلْبِي، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى (¬10) أَنْ أُلْقِيَ نَفْسِي مِنْ فَوْقِ هَذِهِ الْمَنَارَةِ فَعَلْتُ" (¬11). ثُمَّ حُكِيَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تُجَالِسِ الْقَدَرِيَّ وَلَا تُكَلِّمْهُ إِلَّا أَنْ تَجْلِسَ إِلَيْهِ فَتُغْلِظَ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ ¬

(¬1) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ: "مثل". (¬2) سورة طه: آية (5). (¬3) ساقطة من (م) و (خ) و (ت)، ومثبتة في (ط) ومصادر قوله. وكتب في هامش (ت): "عن هذا". (¬4) في (ت): "وأرك". (¬5) رواه الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 398)، والإمام أبو نعيم في الحلية (6/ 325 ـ 326)، والإمام البيهقي في الأسماء والصفات (ص408) وقد جود الإمام ابن حجر طريق ابن وهب عند البيهقي فقال: وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب ... فذكره. الفتح (13/ 406 ـ 407). وقد ذكره ابن أبي زيد القيرواني في الجامع (ص123)، والقاضي عياض في المدارك (1/ 170 ـ 171). (¬6) المثبت ما في (غ)، وفي بقية النسخ: "ومثل". (¬7) هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد الأندلسي القرطبي الباجي، ولي القضاء في مواضع من الأندلس، وصنف كتباً عديدة كالمنتقى في الفقه، والمعاني في شرح الموطأ، وإحكام الفصول في أحكام الأصول في أصول الفقه. توفي سنة 474هـ. انظر: ترتيب المدارك (4/ 802)، وفيات الأعيان (2/ 408)، سير أعلام النبلاء (18/ 535). (¬8) عزاه إلى مالك الإمام ابن أبي زيد القيرواني في الجامع (ص120). (¬9) في (ت): "فقال". (¬10) في (م): "رضى". (¬11) ذكره عن مالك الإمام ابن أبي زيد القيرواني في الجامع (ص120).

الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ} (¬1) فلا توادوهم (¬2) " (¬3). وَأَمَّا أَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ. فَلِمَا حَكَى عِيَاضٌ (¬4) عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ (¬5) أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَمَّنْ أَحْرَمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ، فَقَالَ: "هَذَا مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، أَخْشَى عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي (¬6) الدُّنْيَا، وَالْعَذَابَ الْأَلِيمَ فِي الآخرة. أما سمعت قوله تعالى: {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬7)، وَقَدْ أَمْرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَلَّ مِنَ الْمَوَاقِيتِ" (¬8). وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ (¬9) عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ (¬10) قَالَ (¬11) سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا (¬12) عبد الله من أين أحرم؟ قال (¬13): "من ذي ¬

(¬1) سورة المجادلة: آية (22). (¬2) في (م): "يوادوهم". (¬3) ذكر ابن أبي زيد القيرواني قريباً منه عن مالك بلفظ: "لا تسلم على أهل الأهواء، ولا تجالسهم إلا أن تغلظ عليهم، ولا يعاد مريضهم، ولا تحدث عنهم الأحاديث". انظر: الجامع (ص125). (¬4) تقدمت ترجمته (ص245). (¬5) تقدمت ترجمته (ص110). (¬6) بياض في (ت). (¬7) سورة النور: آية (63). (¬8) ذكر هذا القول القاضي عياض في ترتيب المدارك ضمن ترجمة الإمام مالك رحمه الله (1/ 171 ـ 172). (¬9) هو الإمام العلامة الحافظ القاضي أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن العربي الأندلسي الإشبيلي المالكي، صاحب التصانيف، ارتحل مع أبيه إلى المشرق، فسمع ببغداد ودمشق ومصر وبيت المقدس، وتفقه وبرع، ثم عاد إلى الأندلس بإسناد عال وعلم جم، كان يقال إنه بلغ رتبة الاجتهاد. توفي سنة 543هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (20/ 197)، وفيات الأعيان (4/ 296)، العبر (4/ 125) شذرات الذهب (4/ 141). (¬10) هو الزبير بن بكار بن أبي بكر القرشي الأسدي الزبيري، كان حافظاً نسابة، تولى قضاء مكة، روى عن ابن عيينة وغيره، وحدث عنه ابن ماجه وأبو حاتم الرازي وغيرهم، وثقه الدارقطني وغيره. توفي سنة 256هـ. انظر: ترتيب المدارك (1/ 514)، سير أعلام النبلاء (12/ 311)، تقريب التهذيب (1/ 257). (¬11) عبارة ابن العربي: عن الزبير بن بكار، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت مالك .. ". (¬12) ساقطة من (م) و (ت) وأصل (خ)، ومثبت في هامش (خ)، وهو الصواب كما في أحكام القرآن لابن العربي. (¬13) ساقطة من (ت).

الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". فَقَالَ: (إِنِّي (¬1) أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: "لَا تَفْعَلْ") (¬2)، قَالَ: فَإِنِّي (¬3) أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ، قَالَ: "لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى عليك (¬4) الفتنة" (¬5)، فقال وأي فتنة في (¬6) هَذِهِ؟ (¬7) إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا، قَالَ: "وَأَيُّ فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬8) " (¬9). وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ (¬10) هِيَ شَأْنُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَقَاعِدَتُهُمُ الَّتِي يُؤَسِّسُونَ عَلَيْهَا بُنْيَانَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَنَّهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ. وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ (¬11) ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رُوِيَ عنه (¬12) ابْنِ وَضَّاحٍ: "لَقَدْ هُدِيتُمْ لِمَا لَمْ يَهْتَدِ له نبيكم، [أو] (¬13) إنكم لَتُمْسِكُونَ بِذَنَبِ ضَلَالَةٍ"، إِذْ مَرَّ بِقَوْمٍ كَانَ رجل يجمعهم فَيَقُولُ (¬14): رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا (¬15) مَرَّةً "سُبْحَانَ اللَّهِ"، فَيَقُولُ الْقَوْمُ، وَيَقُولُ رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً "الْحَمْدُ لله"، فيقول القوم (¬16). ¬

(¬1) في (م) و (ت): "فإني". (¬2) ما بين المعكوفين ساقط من (خ). (¬3) في (م) و (غ): "إني". (¬4) في (م): "عليه". (¬5) ساقطة من (م) وأصل (خ)، وأثبت في هامش (خ). (¬6) ساقطة من (ط). (¬7) في أحكام القرآن "هذا". (¬8) سورة النور: آية (63). (¬9) ذكره بسنده إلى الإمام مالك رحمه الله الإمام ابن العربي في أحكام القرآن، عند الآية (3/ 432)، وقد رواه الإمام ابن بطة في الإنابة الكبرى بلفظ أخصر من هذا (1/ 261 ـ 262). (¬10) في (غ): "للآية". (¬11) في (ت): "يقول قال ابن مسعود ... ". (¬12) في (م) و (ط): "عن". (¬13) في جميع النسخ "وإنكم"، والصواب ما أثبته، وهو لفظ الإمام ابن وضاح. (¬14) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "يقول". (¬15) في (ت): "كذا كذا". (¬16) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص16، 18)، و (ص19) وهو لفظ=

ثُمَّ إِنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَهُمُ (¬1) الَّذِينَ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ (¬2) لِوَاذًا (¬3). وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّفَاقَ مِنْ أَصْلِهِ بِدْعَةٌ، لأنه وضع (¬4) فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اُشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} (¬5)، فمن حيث (نزلت آية النور في المنافقين شملت كل من اتصف بذلك والوصف الذي هو مظنة الفتنة، فَمِنْ حَيْثُ) (¬6) كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمُخَالِفِينَ عَنْ أَمْرِهِ يَدْخُلُونَ أَيْضًا مِنْ بَابِ أَحْرَى. فَهَذِهِ جُمْلَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا بَقِيَ، إِذْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِيهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، وَبَسْطُ مَعَانِيهَا طَوِيلٌ، فلنقتصر على ما ذكرنا وبالله التوفيق. ¬

=المؤلف، ورواه الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب في كراهية أخذ الرأي (1/ 79)، ولفظه يقع في قرابة الصفحة. وأورد الإمام الهيثمي بعض روايات هذه القصة في مجمع الزوائد (1/ 186). وسبب نقد ابن مسعود رضي الله عنه لهم هو فعلهم هذه العبادة على هيئة لم يفعلها رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أصحابه رضوان الله عليهم، فبين ابن مسعود أن حالهم لا يخرج عن أحد أمرين: إما أنهم أفضل مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وإما أنهم على ضلالة. وقد توسم ابن مسعود فيهم أنهم من الخوارج، فكانوا كذلك، حيث قاتلوا يوم النهروان مع الخوارج. انظر: سنن الدارمي (1/ 79 ـ 80). (¬1) في (ت): "فهم". (¬2) في (ت): "يتسللون منه". (¬3) قال الإمام الشوكاني في فتح القدير: "التسلل الخروج في خفية .. ، واللواذ من الملاوذة، وهو أن تستتر بشيء مخافة من يراك، وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين، ينضم بعضهم إلى بعض استتاراً من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم". انظر: فتح القدير (4/ 58)، وقال الإمام ابن الجوزي: "وقيل هذا كان في حفر الخندق، كان المنافقون ينصرفون من غير أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختفين". انظر: زاد المسير (6/ 69). (¬4) في (ط): "وضع بدعة". (¬5) سورة البقرة: آية (16). (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).

فصل

فصل وَبَقِيَ مِمَّا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ شَرْحُ مَعْنًى عَامٍّ يَتَعَلَّقُ بِمَا تَقَدَّمَ. وَهُوَ أَنْ الْبِدَعَ ضَلَالَةٌ، وَأَنَّ الْمُبْتَدِعَ ضَالٌّ وَمُضِلٌّ، وَالضَّلَالَةُ مَذْكُورَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ النقل المذكور، ويشير إليها في الآيات الِاخْتِلَافِ، وَالتَّفَرُّقِ شِيَعًا، وَتَفَرُّقِ الطُّرُقِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّهَا لَمْ تُوصَفُ فِي الْغَالِبِ بِوَصْفِ الضَّلَالَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِدْعَةً أَوْ شِبْهَ (¬1) الْبِدْعَةِ. وَكَذَلِكَ الْخَطَأُ الْوَاقِعُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ ـ وَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ (¬2) ـ لَا يُسَمَّى ضَلَالًا، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُخْطِئِ اسْمُ ضَالٍّ، كَمَا لَا يُطْلَقُ على المتعمد لسائر المعاصي (اسم الضال) (¬3). وَإِنَّمَا ذَلِكَ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ لِحِكْمَةِ قَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّلَالَ وَالضَّلَالَةَ ضِدُّ الْهَدْيِ والهداية (¬4)، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْهُدَى حَقِيقَةً فِي الظَّاهِرِ (¬5) الْمَحْسُوسِ، فَتَقُولُ: هَدَيْتُهُ الطَّرِيقَ، وَهَدَيْتُهُ إِلَى الطَّرِيقِ. وَمِنْهُ نُقِلَ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} (¬6)، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ *} (¬7)، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *}، وَالصِّرَاطُ وَالطَّرِيقُ وَالسَّبِيلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ (¬8)، فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الطَّرِيقِ الْمَحْسُوسِ، وَمَجَازٌ فِي الطَّرِيقِ الْمَعْنَوِيِّ، وَضِدُّهُ الضَّلَالُ (¬9)، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ البعير ¬

(¬1) في (م): "تشبه". (¬2) ساقطة من (ط). (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬4) في جميع النسخ: "الهدى" عدا (غ) و (ر). (¬5) في (ت): "الظر". (¬6) سورة الإنسان: آية (3). (¬7) سورة البلد: آية (10). (¬8) ساقطة من (غ) و (ر). (¬9) ساقطة من (غ).

الضَّالُّ، وَالشَّاةُ الضَّالَّةُ. وَرَجُلٌ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ إِذَا خَرَجَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ الْتُبِسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ هَادٍ يَهْدِيهِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ. فصاحب البدعة لما غلب عليه الْهَوَى مَعَ الْجَهْلِ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ، تَوَهَّمَ أَنَّ مَا ظَهَرَ لَهُ بِعَقْلِهِ هُوَ الطَّرِيقُ الْقَوِيمُ دُونَ غَيْرِهِ، فَمَضَى عَلَيْهِ، فَحَادَ بِسَبَبِهِ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَهُوَ ضَالٌّ مِنْ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ رَاكِبٌ لِلْجَادَّةِ (¬1)، كَالْمَارِّ بِاللَّيْلِ عَلَى الْجَادَّةِ وَلَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ يَهْدِيهِ، يُوشِكُ أَنْ يَضِلَّ عنها، فيقع في متلفة (¬2)، وَإِنْ كَانَ بِزَعْمِهِ يَتَحَرَّى قَصْدَهَا. فَالْمُبْتَدِعُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِنَّمَا ضَلَّ فِي أَدِلَّتِهَا حَيْثُ أَخَذَهَا مَأْخَذَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، لَا مَأْخَذَ الِانْقِيَادِ تَحْتَ أَحْكَامِ اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُبْتَدِعِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ جَعَلَ الْهَوَى أَوَّلَ مَطَالِبِهِ، وَأَخَذَ (¬3) الْأَدِلَّةَ بِالتَّبَعِ، وَمِنْ شَأْنِ الْأَدِلَّةِ أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ شَأْنِ كلامها الاحتراز فيه بالظواهر، فقلما تجد (¬4) فيه نصاً لا يحتمل حسبما قرره من تقدم في غير هذا الْعِلْمِ، وَكُلُّ ظَاهِرٍ يُمْكِنُ (¬5) فِيهِ أَنْ يُصْرَفَ عَنْ مُقْتَضَاهُ فِي الظَّاهِرِ (¬6) الْمَقْصُودِ، وَيُتَأَوَّلُ عَلَى غَيْرِ مَا قُصِدَ فِيهِ. فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْجَهْلُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَعَدَمُ الِاضْطِلَاعِ بِمَقَاصِدِهَا، كَانَ الْأَمْرُ أَشَدَّ وَأَقْرَبَ إِلَى التَّحْرِيفِ وَالْخُرُوجِ عن مقاصد الشرع. فكان المدرك أعرق (¬7) فِي الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ، وَأَمْكَنُ فِي ضَلَالِ الْبِدْعَةِ، فَإِذَا غَلَبَ الْهَوَى أَمْكَنَ انْقِيَادُ أَلْفَاظِ الْأَدِلَّةِ إِلَى مَا أَرَادَ مِنْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ لَا تَجِدُ مُبْتَدِعًا (¬8) مِمَّنْ يُنْسَبُ إلى الملة ¬

(¬1) الجادة هي معظم الطريق، وجمعها جواد. انظر: الصحاح للجوهري (2/ 452). (¬2) في (خ) وأصل (م) و (ط): "متابعة". وفي (ت): "متاعب"، وفي (ر): "متلفة". (¬3) في (ت): "فأخذ". (¬4) في (خ) و (ط) وأصل (م): "فكما تجب"، وفي (ت): "كما تجب". (¬5) في (ت): "ممكن". (¬6) في (ت): "الظر". (¬7) في (خ) و (ت): "أغرق". (¬8) في (غ): "متبوعاً".

إِلَّا وَهُوَ يَسْتَشْهِدُ عَلَى بِدْعَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَيُنْزِلُهُ عَلَى مَا وَافَقَ عَقْلَهُ وَشَهْوَتَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي الْحِكْمَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي لَا مَرَدَّ لَهَا، قَالَ تَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} (¬1)، وَقَالَ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬2)، لَكِنْ إِنَّمَا يَنْسَاقُ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَشَابِهُ مِنْهَا لَا الْوَاضِحُ، وَالْقَلِيلُ مِنْهَا لَا الْكَثِيرُ (¬3)، وَهُوَ أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْمُعْظَمَ وَالْجُمْهُورَ مِنَ الْأَدِلَّةِ إِذَا دَلَّ عَلَى أمر بظاهره فهو الحق، فإن جاء مَا (¬4) ظَاهِرُهُ الْخِلَافُ فَهُوَ النَّادِرُ وَالْقَلِيلُ، فَكَانَ من حق الناظر (¬5) رَدُّ الْقَلِيلِ إِلَى الْكَثِيرِ، وَالْمُتَشَابِهِ إِلَى الْوَاضِحِ، غَيْرَ أَنَّ الْهَوَى زَاغَ بِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ زَيْغَهُ، فَهُوَ فِي تِيهٍ، مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُبْتَدِعِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ الْهِدَايَةَ إِلَى الْحَقِّ أَوَّلَ مَطَالِبِهِ، وَأَخَّرَ هَوَاهُ ـ إِنْ كَانَ فَجَعَلَهُ بِالتَّبَعِ، فَوَجَدَ جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحاً في المطلب (¬6) الذي بحث عنه، فركب (¬7) الجادة إليه (¬8)، وَمَا شَذَّ لَهُ عَنْ (¬9) ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكِلَهُ إِلَى عَالِمِهِ (¬10)، وَلَا يَتَكَلَّفُ الْبَحْثَ عَنْ تَأْوِيلِهِ. وَفَيْصَلُ الْقَضِيَّةِ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (¬11)، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مُبْتَدِعًا وَلَا ضَالًّا، وَإِنْ حَصَلَ فِي الْخِلَافِ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ. أَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُبْتَدِعٍ فَلِأَنَّهُ اتَّبَعَ الْأَدِلَّةَ مُلْقِيًا إِلَيْهَا حِكْمَةَ (¬12) الِانْقِيَادِ، بَاسِطًا يَدَ الِافْتِقَارِ، مُؤَخِّرًا هَوَاهُ، وَمُقَدِّمًا لِأَمْرِ الله. ¬

(¬1) سورة البقرة: آية (26). (¬2) سورة المدثر: آية (31). (¬3) في (ط): "كالكثير". وهو خطأ. (¬4) في (ت): "ما على ظاهره ... "، وفي (ط): "على ما ظاهره ... ". (¬5) في (ط): "الظاهر"، وهو خطأ. (¬6) في (م) و (ط): "الطلب". (¬7) في (ط): "فوجد". (¬8) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬9) في (ت): "من". (¬10) في (غ): "عامله". (¬11) سورة آل عمران: آية (7). (¬12) لعل مراد المؤلف أحد معاني الكلمة لغة. قال في الصحاح: وحكمة اللجام: ما أحاط بالحنك. تقول منه حكمت الدابة حكماً، وأحكمتها أيضاً. الصحاح (5/ 1902). فلعل المؤلف استعار هذا المعنى.

وَأَمَّا كَوْنُهُ غَيْرَ ضَالِّ فَلِأَنَّهُ عَلَى الْجَادَّةِ سَلَكَ، وَإِلَيْهَا (¬1) لَجَأَ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا يَوْمًا فَأَخْطَأَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ (¬2)، بَلْ يَكُونُ مَأْجُورًا حَسْبَمَا بَيَّنَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: "إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ" (¬3)، وَإِنْ خَرَجَ مُتَعَمِّدًا فَلَيْسَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ خُرُوجَهُ طَرِيقًا مَسْلُوكًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَشَرْعًا يُدَانُ بِهِ. عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الذَّنْبُ مَوْقِعَ الِاقْتِدَاءِ قَدْ يُسَمَّى اسْتِنَانًا، فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةُ مَنْ سَنَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ سن سنة سيئة كان عليها وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا" (¬4) الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ (¬5) كِفْلٌ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (¬6)، فَسُمِّيَ الْقَتْلُ سُنَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عَمِلَ بِهِ عَمَلًا يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، لَكِنَّهُ لَا يُسَمَّى بِدْعَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَشْرِيعًا، وَلَا يُسَمَّى ضَلَالًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي طَرِيقِ (¬7) الْمَشْرُوعِ أَوْ فِي مُضَاهَاتِهِ لَهُ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ وَاضِحٌ يَشْهَدُ لَهُ الْوَاقِعُ فِي تَسْمِيَةِ (¬8) الْبِدَعِ ضَلَالَاتٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا أَحْوَالُ مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَ ¬

(¬1) في (م) و (ت): "وإليه". (¬2) ساقطة من (غ) و (ر). (¬3) رواه الإمام البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ عن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (13/ 318 مع الفتح)، والإمام مسلم في كتاب الأقضية من صحيحه، باب بيان أجر الحاكم، عن عمرو بن العاص، بلفظ البخاري (12/ 13)، والإمام أبو داود في كتاب الأقضية من سننه، باب في القاضي يخطئ، وذكره تحت رقم (3574)، (3/ 297 ـ 298)، والإمام ابن ماجه في كتاب الأحكام من سننه، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، تحت رقم (2314)، (2/ 776)، والإمام أحمد في المسند (4/ 198 ـ 402)، كلهم يرويه عن عمرو بن العاص بنحو لفظ البخاري ورواه أحمد عنه بلفظ آخر (2/ 187، 205)، وقد رواه الإمام الترمذي عن أبي هريرة في كتاب الأحكام من سننه، باب ما جاء في القاضي يصيب ويخطىء، ولفظه قريب من لفظ البخاري المتقدم (1326)، (3/ 615)، ورواه عنه الإمام النسائي أيضاً في كتاب آداب القضاة من سننه، باب الإصابة في الحكم (8/ 223 ـ 224). (¬4) تقدم تخريجه (ص118). (¬5) ساقطة من (غ) و (ر). (¬6) تقدم تخريجه (ص230). (¬7) في (غ) و (ر): "ليس بحيرة في طريق". (¬8) في (م) و (ت): "نسبة".

الْإِسْلَامِ، وَفِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} (¬1)، (فَإِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا أُمِرُوا بِالْإِنْفَاقِ شَحُّوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا لِذَلِكَ الشُّحِّ مَخْرَجًا، فقالوا أنطعم من لو شاء الله أطعمه؟) (¬2) وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَمْ يُحْوِجْ أَحَدًا إِلَى أَحَدٍ، لَكِنَّهُ ابْتَلَى عِبَادَهُ لِيَنْظُرَ كيف يعملون، فغطى (¬3) هَوَاهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ، وَاتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (¬4). وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} (¬5)، فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَقَرُّوا بِالتَّحْكِيمِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ التَّحْكِيمُ عَلَى وَفْقِ أَغْرَاضِهِمْ زَيْغًا عَنِ الْحَقِّ، وَظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْجَمِيعَ حَكَمٌ، وَأَنَّ مَا يَحْكُمُ بِهِ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ (¬6) أَوْ غَيْرُهُ مِثْلَ مَا يَحْكُمُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَهِلُوا أَنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَأَنَّ حُكْمَ غَيْرِهِ مَعَهُ مَرْدُودٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (¬7)، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فيمن دخل في الإسلام (¬8)، ¬

(¬1) سورة يس: آية (47). (¬2) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬3) في (ط): "فقص". (¬4) سورة يس: آية (47). (¬5) سورة النساء: آية (60). (¬6) في (م): "لقب من الأشراف"، وفي (خ): "لعب من الأشراف"، وكتب فوق كعب رقم 2 وكتبت في الهامش "أحد"، وفي (ت): "من الأشراف" وكلمة كعب مطموسة، وكتب في هامشها: عله أحد من الأشراف. وهو أحد زعماء اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذكر المفسرون أنه المراد بالطاغوت، وقيل غير ذلك. انظر: تفسر ابن كثير عند الآية (1/ 786)، زاد المسير (2/ 118 ـ 120)، فتح القدير (1/ 484). (¬7) سورة النساء: آية (60). (¬8) قال الإمام ابن عطية في المحرر الوجيز بعدما ذكر أن الآية نزلت في المنافقين واليهود: "وقال مجاهد: نزلت في مؤمن ويهودي، وقالت فرقة: نزلت في يهوديين"،=

لقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} كَذَا إِلَى آخِرِهِ. وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إنها (¬1) نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ (¬2). وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} (¬3) فَهُمْ (¬4) (شَرَّعُوا) (¬5) شِرْعَةً، وَابْتَدَعُوا فِي مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْبِدْعَةَ، تَوَهُّمًا أَنَّ ذَلِكَ يُقَرِّبُهُمْ مِنَ اللَّهِ كَمَا يُقَرِّبُ مِنَ اللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْحَقِّ، فَزَلُّوا وَافْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا مِنْ ذَلِكَ وَتَاهُوا فِي المشروع، فلذلك قال تَعَالَى عَلَى إِثْرِ الْآيَةِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (¬6)، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} (¬7)، فهذه فذلكة مجملة (¬8) بعد تفصيل تقدم، وهو قوله تعالى: ¬

=ثم نقل عن القاضي أبي محمد قوله عن هذين القولين: "هذان القولان بعيدان من الاستقامة على ألفاظ الآية". انظر: المحرر الوجيز (4/ 115). وقال عن لفظ زعم: "تقول العرب: زعم فلان كذا في الأمر الذي يضعف فيه التحقيق، وتتقوى فيه شبه الإبطال، فغاية درجة الزعم إذا قوى أن يكون مظنوناً ... وكذلك زعم المنافقين أنهم يؤمنون هو مما قويت فيه شبهة الإبطال لسوء أفعالهم، حتى صححها الخبر من الله تعالى عنهم. ومن هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "بئس مطية الرجل زعموا". انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (4/ 113 ـ 114). (¬1) في (خ) و (ط): "إنما". (¬2) قال الإمام ابن كثير في سبب نزول الآية: "أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف، وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا". (1/ 786)، وقد ذكر الإمام ابن الجوزي أربعة أقوال في سبب نزول الآية، فانظر زاد المسير (2/ 118 ـ 120)، وأسباب النزول للواحدي (ص191 ـ 194). (¬3) سورة المائدة: آية (103). (¬4) في (غ): "فهؤلاء". (¬5) في (م) و (خ) و (ت): "أشرعوا". (¬6) سورة المائدة: آية (105). (¬7) سورة الأنعام: آية (140). (¬8) في (م) و (خ): "بجملة"، وفي (ط): "لجملة".

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} (¬1) الْآيَةَ. فَهَذَا تَشْرِيعٌ كَالْمَذْكُورِ قَبْلَ (¬2) هَذَا، ثُمَّ قَالَ: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} (¬3) الآية، وَهُوَ تَشْرِيعٌ أَيْضًا بِالرَّأْيِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} (¬4) إِلَى آخِرِهَا. فَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَحَرَّمُوا مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ بِالرَّأْيِ عَلَى جِهَةِ التَّشْرِيعِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (¬5). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ـ بَعْدَ تَعْزِيرِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي حَرَّمُوهَا (¬6)، وَهِيَ مَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ آلذَكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي} (¬7) ـ: (¬8) {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬9). وَقَوْلِهِ لَا يَهْدِي يَعْنِي أَنَّهُ يُضِلُّهُ. وَالْآيَاتُ الَّتِي قَرَّرَ فِيهَا حَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ أَتَى فِيهَا بِذِكْرِ الضَّلَالِ، لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ (¬10) خُرُوجٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا آلِهَتَهُمْ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (فِي زَعْمِهِمْ، فَقَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬11)) (¬12)، فَوَضَعُوهُمْ مَوْضِعَ مَنْ يُتَوَسَّلُ بِهِ حَتَّى عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ أَوَّلُ وَضْعِهَا فيما ذكر العلماء صوراً لقوم يودونهم ¬

(¬1) سورة الأنعام: آية (136). (¬2) في (غ): "فوق". (¬3) سورة الأنعام: آية (137). (¬4) سورة الأنعام: آية (138). (¬5) سورة الأنعام: آية (140). (¬6) ساقطة من (ت). (¬7) سورة الأنعام: آية (143). (¬8) من هنا تبدأ جملة مقول القول، وقد قرن الشيخ الهلالي في تحقيقه للكتاب بين المقطعين، وليسا كذلك في القرآن، ثم إن ذلك لا يؤدي مراد المؤلف. (¬9) سورة الأنعام: آية (144). (¬10) كتبت في (ت) فوق السطر. (¬11) سورة الزمر: آية (3). (¬12) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).

وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِمْ، ثُمَّ عُبِدَتْ فَأَخَذَتْهَا الْعَرَبُ مِنْ (¬1) غَيْرِهَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ، وَهُوَ الضَّلَالُ الْمُبِينُ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬2)، فَزَعَمُوا فِي الْإِلَهِ الْحَقِّ مَا زَعَمُوا مِنَ الباطل، بناء منهم (¬3) عَلَى دَلِيلٍ عِنْدَهُمْ مُتَشَابِهٍ فِي نَفْسِ (¬4) الْأَمْرِ، حَسْبَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ (¬5)، فَتَاهُوا بِالشُّبْهَةِ عَنِ الْحَقِّ، لِتَرْكِهِمُ الْوَاضِحَاتِ، وَمَيْلِهِمْ إِلَى الْمُتَشَابِهَاتِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ (¬6)، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ *} (¬7). وَهُمُ النَّصَارَى، ضَلُّوا فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ شَوَاهِدِ الْعُبُودِيَّةِ فِي عِيسَى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ *} (¬8). وَبَعْدَ ذِكْرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَتَقْدِيسِ الْوَاحِدِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ، وَذِكْرِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَقَالَاتِهِمُ الشَّنِيعَةِ (قَالَ) (¬9): {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (¬10). وَذَكَرَ اللَّهُ (¬11) الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمنوا، وذلك بكونهم (¬12) يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ فِي أَحْوَالِ التَّكَالِيفِ عَلَى كَسَلٍ وتقية، أن ذلك ¬

(¬1) مطموسة في (ت). (¬2) سورة المائدة: آية (73). (¬3) زيادة في (ت). (¬4) طمس جزء من الكلمة في (ت). (¬5) تقدم ذكر شبهتهم وموضع خبرهم عند أهل السير (ص80) هامش (6). (¬6) وهي قوله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ... } الآية. سورة آل عمران: آية (7). (¬7) سورة المائدة: آية (77). (¬8) سورة مريم: آية (34). (¬9) زيادة في (ط). والسياق يقتضيها. (¬10) سورة مريم: آية (38). (¬11) لفظ الجلالة ليس في (ت). (¬12) في (ط): "لكونهم".

يُخَلِّصُهُمْ (¬1)، أَوْ أَنَّهُ (¬2) يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا يُخَادِعُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الضَّلَالُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا يَظُنُّ أَنَّهُ لَهُ، فَإِذَا هُوَ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ عَلَى هُدًى مِنْ عَمَلِهِ، وَلَا هُوَ سَالِكٌ عَلَى سَبِيلِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (¬3). وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنْقِذُونِ *} (¬4). مَعْنَاهُ كَيْفَ أَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يُغْنِي شَيْئًا، وَأَتْرُكُ إِفْرَادَ الرَّبِّ الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ؟ هَذَا خُرُوجٌ عَنْ طَرِيقٍ الحق (¬5) إِلَى غَيْرِ طَرِيقٍ {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *} (¬6). وَالْأَمْثِلَةُ فِي تَقْرِيرِ (¬7) هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ، جَمِيعُهَا يَشْهَدُ بِأَنَّ الضَّلَالَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ إِنَّمَا يستعمل في موضع (¬8) يَزِلُّ صَاحِبُهُ لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ لَهُ، أَوْ تَقْلِيدِ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ الشُّبْهَةُ، فَيَتَّخِذُ ذَلِكَ الزَّلَلَ شَرْعًا وَدِينًا يَدِينُ بِهِ، مَعَ وُجُودِ وَاضِحَةِ الطَّرِيقِ الْحَقِّ وَمَحْضِ الصَّوَابِ. وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْكُفْرُ فِي الْوَاقِعِ مُقْتَصِرًا (¬9) عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، بَلْ ثَمَّ طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْعِرْفَانِ عِنَادًا أَوْ ظُلْمًا، ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّنْفَيْنِ فِي السُّورَةِ الْجَامِعَةِ، وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. ¬

(¬1) لعل الأصل: "ظنا منهم أن ذلك يخلصهم"، وقد كتب في هامش (ت): "ويزعمون أن ذلك يخلصكم أو أنه يغني عنكم شيئاً"، وكأنها نسخة أخرى، ولا أرى الكلام يستقيم بهذا. (¬2) في (ت) و (خ): "أنهم". (¬3) سورة النساء: آية (142 ـ 143). (¬4) سورة يس: آية (23). (¬5) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬6) سورة يس: آية (24). (¬7) في جميع النسخ: "تقرر"، والمثبت ما في (غ) و (ر). (¬8) في (ط): "موضوع". (¬9) في (م) و (ت): "مقتصراً به".

فهذه هي المحجة (¬1) العظمى التي دعا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إِلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}، فَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْيَهُودُ، لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ اللَّهِ فِيهِمْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (¬2) يَعْنِي الْيَهُودَ. وَالضَّالُّونَ هُمُ النَّصَارَى، لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا فِي الْحُجَّةِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬3). وَيَلْحَقُ بِهِمْ فِي الضَّلَالِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي أَثْنَاءِ القرآن ما يدل على ذلك، ولأن لفظ القرآن في قوله: {وَلاَ الضَّالِّينَ} يَعُمُّهُمْ وَغَيْرَهُمْ، فَكُلُّ مَنْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ دَاخِلٌ فِيهِ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الضَّالِّينَ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ ضَلَّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلًا، إِذْ قَدْ (¬4) تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قبل هذا مثله. ¬

(¬1) في (ط): "الحجة". (¬2) سورة البقرة: آية (146). (¬3) رواه الإمام الترمذي في كتاب التفسير من سننه في تفسير سورة الفاتحة، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، ضمن حديث طويل، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضلال"، وقال حسن غريب. انظر: الحديث برقم (2953، 2954)، (5/ 186 ـ 187)، ورواه الإمام أحمد في المسند عنه بلفظ: "إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى، (4/ 378 ـ 379)، والإمام ابن جرير الطبري (1/ 61 ـ 64)، وابن حبان كما في موارد الظمآن للهيثمي برقم (1715)، (ص424)، وصححه الشيخ الألباني كما في تعليقه على الطحاوية وقال صحيح، رواه الترمذي وغيره، وصححه ابن حبان. انظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص526)، صحيح الجامع برقم (8202)، (2/ 1363). (¬4) في (ت): "وقد" بدل "إذ قد".

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1) عَامٌّ فِي كُلِّ ضَالٍّ، كَانَ ضَلَالُهُ كَضَلَالِ أهل (¬2) الشرك (¬3) والنفاق (¬4)، أَوْ كَضَلَالِ الْفِرَقِ الْمَعْدُودَةِ فِي الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ وَأَعْلَى فِي قَصْدِ حَصْرِ أَهْلِ الضَّلَالِ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِكُلِّيَّةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أُوتِيهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ خَرَجْنَا عَنِ الْمَقْصُودِ بعض الخروج، وَلَكِنَّهُ عَاضِدٌ لِمَا نَحْنُ فِيهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ¬

(¬1) سورة الأنعام: آية (153). (¬2) ساقطة من (خ) و (ط). (¬3) في (ت): "الشراك". (¬4) في جميع النسخ: "أو النفاق"، والمثبت ما في (غ).

الباب الثالث في أن ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها

الباب الثالث فِي أَنَّ ذَمَّ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ عَامٌّ لَا يَخُصُّ مُحْدَثَةً (¬1) دُونَ غَيْرِهَا وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الترجمة (النظر في) (¬2) جُمْلَةٌ مِنْ شُبَهِ الْمُبْتَدِعَةِ (¬3) الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا. فَاعْلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللَّهُ ـ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ حُجَّةٌ فِي عُمُومِ الذَّمِّ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا جَاءَتْ مُطْلَقَةً عَامَّةً عَلَى كَثْرَتِهَا. لَمْ يَقَعْ فِيهَا اسْتِثْنَاءٌ أَلْبَتَّةَ وَلَمْ يَأْتِ فيها شيء (¬4) مما يَقْتَضِي أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ هُدًى، وَلَا جَاءَ فِيهَا: كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ إِلَّا كَذَا وَكَذَا، وَلَا شَيْءَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي. فَلَوْ كَانَ هُنَالِكَ (¬5) مُحْدَثَةٌ يَقْتَضِي النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ فِيهَا الِاسْتِحْسَانَ، أَوْ أَنَّهَا لَاحِقَةٌ بِالْمَشْرُوعَاتِ، لَذُكِرَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ، لَكِنَّهُ لَا يُوجَدُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ بِأَسْرِهَا عَلَى حَقِيقَةِ ظَاهِرِهَا (¬6) مِنَ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّفُ عن مقتضاها فرد من الأفراد. والثاني: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ الْعِلْمِيَّةِ أَنَّ كُلَّ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ، أَوْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ كُلِّيٍّ إذا تكررت في مواضع كَثِيرَةٍ، وَأُتِيَ بِهَا شَوَاهِدُ عَلَى مَعَانٍ أُصُولِيَّةٍ أَوْ فُرُوعِيَّةٍ، وَلَمْ (¬7) يَقْتَرِنْ بِهَا تَقْيِيدٌ وَلَا تخصيص، مع تكررها، وإعادة تقريرها (¬8)، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بَقَائِهَا عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهَا مِنَ الْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬9)، {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} (¬10) وما أشبه ذلك، ¬

(¬1) في (خ): "محدث". (¬2) ساقط من جميع النسخ عدا (غ). (¬3) في (ت): "المعتزلة". (¬4) ساقطة من (خ) و (ط). (¬5) في (ت): "هناك". (¬6) في (ت): "ظواهرها". (¬7) في (ر): "لم". (¬8) هكذا في (ر) وفي بقية النسخ: "تقررها". (¬9) سورة فاطر: آية (18). (¬10) سورة النجم: آية (39).

وَبُسِطَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ هُنَالِكَ (¬1). فَمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، إِذْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَالْمُتَكَرِّرَةِ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى، وَبِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَأَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ مَذْمُومَةٌ. وَلَمْ يَأْتِ فِي آيَةٍ وَلَا حَدِيثٍ تَقْيِيدٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، وَلَا مَا يُفْهَمُ مِنْهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْكُلِّيَّةِ فِيهَا. فَدَلَّ ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً على أنها على عمومها وإطلاقها. والثالث: إِجْمَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ عَلَى ذَمِّهَا كَذَلِكَ (¬2)، وَتَقْبِيحِهَا وَالْهُرُوبِ عَنْهَا، وَعَمَّنِ اتَّسَمَ (¬3) بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ تَوَقُّفٌ وَلَا مَثْنَوِيَّةٌ (¬4). فَهُوَ ـ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ ـ إِجْمَاعٌ ثَابِتٌ، فَدَلَّ (¬5) عَلَى أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ لَيْسَتْ بِحَقٍّ، بَلْ هِيَ مِنَ الْبَاطِلِ. والرابع: أَنَّ (¬6) مُتَعَقِّلَ الْبِدْعَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مُضَادَّةِ الشَّارِعِ، وَاطِّرَاحِ الشَّرْعِ. وَكُلُّ مَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمُحَالٌ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يُمْدَحُ وَمِنْهُ مَا يُذَمُّ، إِذْ لَا يَصِحُّ فِي مَعْقُولٍ وَلَا مَنْقُولٍ اسْتِحْسَانُ مُشَاقَّةِ الشَّارِعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ الثَّانِي (¬7). وَأَيْضًا فَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ جَاءَ فِي النَّقْلِ اسْتِحْسَانُ بَعْضِ الْبِدَعِ، أَوِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِهَا عَنِ الذَّمِّ لَمْ يُتَصَوَّرْ، لِأَنَّ الْبِدْعَةَ طَرِيقَةٌ تضاهي المشروعة (¬8) من غير ¬

(¬1) تناول المؤلف هذه المسألة في كتاب الموافقات، ضمن مسائل العموم والخصوص وقد ذكر من أمثلتها الآية التي ذكرها هنا وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "لا ضرر ولا ضرار" إلى غير ذلك (3/ 306). (¬2) ساقطة من (ت). (¬3) في (م) و (خ) و (ت): "ارتسم". (¬4) في (غ): "ثنوية". (¬5) في (ر): "يدل". (¬6) كتبت في (ت) فوق السطر. (¬7) وذلك عند ذكر ما يدل على ذم البدع من النظر. (ص67 ـ 69). (¬8) أي تضاهي الطريقة المشروعة.

أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ. وَكَوْنُ الشَّارِعِ يَسْتَحْسِنُهَا دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا، إِذْ لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: الْمُحْدَثَةُ الْفُلَانِيَّةُ حَسَنَةٌ لَصَارَتْ مَشْرُوعَةً، كَمَا أَشَارُوا إِلَيْهِ فِي الِاسْتِحْسَانِ حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬1). وَلَمَّا ثَبَتَ ذَمُّهَا ثَبَتَ ذَمُّ صَاحِبِهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَذْمُومَةٍ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا فَقَطْ، بَلْ مِنْ حَيْثُ اتَّصَفَ بِهَا الْمُتَّصِفُ، فَهُوَ إذًا المذموم على الحقيقة، والذم خاصة التَّأْثِيمِ، فَالْمُبْتَدِعُ مَذْمُومٌ آثِمٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ والعموم. ويدل على ذلك أوجه (¬2): أحدها: أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ إِنْ جَاءَتْ فِيهِمْ نَصًّا فَظَاهِرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬3)، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬4) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي" (¬5) الْحَدِيثَ ـ إِلَى سَائِرِ مَا نُصَّ فِيهِ عَلَيْهِمْ (¬6)، وَإِنْ كَانَتْ نَصًّا فِي الْبِدْعَةِ فَرَاجِعَةُ الْمَعْنَى إِلَى الْمُبْتَدِعِ (مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ) (¬7)، وَإِذَا رَجَعَ الْجَمِيعُ إِلَى ذَمِّهِمْ رَجَعَ الْجَمِيعُ إِلَى تَأْثِيمِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْهَوَى هُوَ الْمُتَّبَعُ الْأَوَّلُ فِي الْبِدَعِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ السَّابِقُ فِي حَقِّهِمْ، وَدَلِيلُ الشَّرْعِ كَالتَّبَعِ فِي حَقِّهِمْ. وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ يَتَأَوَّلُونَ كُلَّ دَلِيلٍ خَالَفَ هَوَاهُمْ، وَيَتَّبِعُونَ كُلَّ شُبْهَةٍ وَافَقَتْ أَغْرَاضَهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (¬8)؟ فَأَثْبَتَ لهم الزيغ أولاً، وهو الميل ¬

(¬1) تناول المؤلف موضوع الاستحسان، وتعلق أهل البدع به، والرد عليهم في الباب الثامن (2/ 136). (¬2) في (ط): "أربعة أوجه". (¬3) سورة الأنعام: آية (159). (¬4) سورة آل عمران: آية (105). (¬5) تقدم تخريج الحديث (ص121). (¬6) تقدم ذكر المؤلف للأدلة من القرآن والسنة في ذم البدع وأهلها في الباب الثاني. (¬7) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬8) سورة آل عمران: آية (7).

عَنِ الصَّوَابِ، ثُمَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ خِلَافُ المحكم، والمحكم (¬1) الواضح المعنى هُوَ (¬2) أُمُّ الْكِتَابِ وَمُعْظَمُهُ. وَمُتَشَابِهُهُ عَلَى هَذَا قَلِيلٌ، فَتَرَكُوا اتِّبَاعَ الْمُعْظَمِ إِلَى اتِّبَاعِ الْأَقَلِّ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُعْطِي مَفْهُومًا وَاضِحًا، ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَطَلَبًا لِمَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الله، أو يعلمه الله ويعلمه (¬3) الراسخون في العلم (¬4)، وليس ذلك (¬5) إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى الْمُحْكَمِ، وَلَمْ يَفْعَلِ الْمُبْتَدِعَةُ ذَلِكَ. فَانْظُرُوا كَيْفَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ أَوَّلًا فِي مطالب (¬6) الشَّرْعِ، بِشَهَادَةِ اللَّهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (¬7) الْآيَةَ. فَنَسَبَ إِلَيْهِمُ التَّفْرِيقَ، وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ مِنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَيْهِمْ، وَلَا أتى به في معرض الذَّمِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬8)، فَجَعَلَ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاضِحًا مُسْتَقِيمًا، وَنَهَى عَنِ الْبُنَيَّاتِ (¬9). وَالْوَاضِحُ مِنَ الطُّرُقِ وَالْبُنَيَّاتُ (¬10)، كُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ، فَإِذَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهَا بطريق ¬

(¬1) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬2) في (خ) و (ط): "الذي هو". (¬3) ساقطة من (خ) و (ط). (¬4) يشير المؤلف إلى الاختلاف في الوقف في آية آل عمران المذكورة، والجمهور على أن الوقف على لفظ الجلالة، وروى عن مجاهد وطائفة أن الوقف على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}. وقد وفق شيخ الإسلام ابن تيمية بين القولين ببيان معنى التأويل، فذكر من معانيه التفسير والبيان، فعلى هذا لا إشكال في الوصل. ومن معانيه الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كقوله تعالى: {وَقَال ياأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ}، فعلى هذا يكون الوقف على لفظ الجلالة، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمها على الجلية إلا الله عز وجل. انظر: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة التدمرية (ص89 وما بعدها). وذكر هذه الأقوال ابن كثير في تفسيره عند الآية (1/ 520 ـ 521). (¬5) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر). (¬6) في (خ) و (ط): "مطالبة". (¬7) سورة الأنعام: آية (159). (¬8) سورة الأنعام: آية (153). (¬9) بنيات الطريق هي الطرق الصغار تتشعب من الجادة، وهي الترهات. انظر: الصحاح (6/ 2287). (¬10) في جميع النسخ "البينات" عدا (غ) و (ر).

الْحَقِّ مَعَ الْبُنَيَّاتِ فِي الشَّرْعِ فَوَاضِحٌ (¬1) أَيْضًا. فَمَنْ تَرَكَ الْوَاضِحَ وَاتَّبَعَ غَيْرَهُ (¬2) فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ لَا لِلشَّرْعِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬3)، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَجِيءِ الْبَيَانِ (¬4) الشَّافِي، وَأَنَّ التَّفَرُّقَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ لَا مِنْ (¬5) جِهَةِ الدَّلِيلِ. (فَهُوَ إذًا) (¬6) مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى بِعَيْنِهِ. وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا (كَثِيرَةٌ، تُشِيرُ) (¬7) أَوْ تُصَرِّحُ بِأَنَّ كُلَّ (¬8) مُبْتَدِعٍ إِنَّمَا يَتَّبِعُ هَوَاهُ، وَإِذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ كَانَ مَذْمُومًا وَآثِمًا. وَالْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ أَيْضًا (¬9) كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (¬10)، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} (¬11)، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (¬12) وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِذًا كُلُّ مُبْتَدِعٍ مَذْمُومٌ آثم (¬13). والثالث: أن عامة المبتدعة قائلة (¬14) بالتحسين والتقبيح (¬15)، فَهُوَ عُمْدَتُهُمُ الْأُولَى، وَقَاعِدَتُهُمُ الَّتِي يَبْنُونَ عَلَيْهَا الشَّرْعَ، فَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي نِحَلِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَتَّهِمُونَ الْعَقْلَ، وَقَدْ يَتَّهِمُونَ الْأَدِلَّةَ إِذَا (¬16) لَمْ تُوَافِقْهُمْ فِي الظَّاهِرِ (¬17)، حَتَّى يَرُدُّوا كَثِيرًا مِنَ الأدلة الشرعية (بسببه، ولا يرد قضية من قضايا العقل بحسب معارضة الدليل الشرعي) (¬18). ¬

(¬1) في (ت) و (غ) و (ر): "واضح". (¬2) بياض في (ت). (¬3) سورة آل عمران: آية (105). (¬4) في (خ): "البينات". (¬5) بياض في (ت). (¬6) ما بين المعكوفين مطموس في (ت). (¬7) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬8) بياض في (ت). (¬9) في (ت): "أيضاً عليه". (¬10) سورة القصص: آية (50). (¬11) سورة ص: آية (26). (¬12) سورة الكهف: آية (28). (¬13) في (خ): "مذموم وآثم". (¬14) في (ر): "مائلة". (¬15) تقدم التعليق على هذه المسألة (ص213). (¬16) في (ط): "إذ". (¬17) في (ت): "الظر". (¬18) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).

وَقَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا النَّاظِرُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ يَكُونُ حَقًّا (¬1)، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَرْتَضُونَ الْيَوْمَ مَذْهَبًا، وَيَرْجِعُونَ عَنْهُ (¬2) غَدًا، (ثُمَّ يَصِيرُونَ بَعْدَ غَدٍ) (¬3) إِلَى رَأْيٍ ثَالِثٍ. وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَقْضِي بِهِ حَقًّا (¬4) لَكَفَى فِي إِصْلَاحِ مَعَاشِ الْخَلْقِ وَمَعَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِبَعْثَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ (السَّلَامُ فَائِدَةٌ، وَلَكَانَ (¬5) عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُعَدُّ (¬6)) (¬7) الرِّسَالَةُ (¬8) عَبَثًا لَا مَعْنَى لَهُ، وَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ، فَمَا (¬9) أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُمْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ عَلَى الشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ سُمُّوا ـ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَفِي إِشَارَةِ الْقُرْآنِ ـ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ (¬10)، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ وَاشْتِهَارِهِ فِيهِمْ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ بالمشتق إنما تطلق (¬11) إِطْلَاقَ اللَّقَبِ إِذَا غَلَبَ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ عَلَى الْمُسَمَّى بِهَا، فَإِذًا تَأْثِيمُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى اتِّبَاعِ الرَّأْيِ، وهو اتباع الهوى المذكور آنفاً. والرابع: أَنَّ كُلَّ رَاسِخٍ لَا يَبْتَدِعُ أَبَدًا، وَإِنَّمَا يقع الابتداع ممن لم يتمكن في (¬12) الْعِلْمِ الَّذِي ابْتَدَعَ فِيهِ، حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الحديث (¬13)، ويأتي تقريره بحول الله (¬14). ¬

(¬1) تقدم الكلام على العقل وقصوره في بداية الباب الثاني (ص62 ـ 64). وسيفرد المؤلف لهذا الموضوع فصلاً مستقلاً في الباب العاشر، حيث سيذكره كسبب من أسباب الابتداع (2/ 318 ـ 337). (¬2) ساقطة من (غ) و (ر). (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬4) مطموسة في (ت). (¬5) في (غ): ولو كان. (¬6) في (م): "يعد"، وفي (خ): "بعده"، وفي (غ): "بعد"، وفي (ر): "بعث". (¬7) ما بين المعكوفين مطموس في (ت). (¬8) في (غ) و (ر): الرسل. (¬9) في (م): "مما". (¬10) أما الحديث الذي سموا فيه بأهل الأهواء، فهو حديث عائشة وقد مر ذكره والحكم عليه (ص90)، وأما الآيات فقد تقدم ذكر المؤلف لها في الوجه الخامس من أوجه ذم البدع من جهة النظر (ص70 ـ 72). (¬11) في (م) و (خ) و (ط): "يطلق". (¬12) في (ط): "من". (¬13) لعله يريد حديث عبد الله بن عمرو المتقدم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الناس) إلى قوله: حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوساً جهالاً فسألوهم فأفتوهم فضلوا وأضلوا)، وقد تقدم في الباب الثاني (ص125). (¬14) وذلك في الفصل الآتي (ص275)، وانظر بداية الباب الرابع أيضاً.

فَإِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِ جُهَّالِهِمُ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاجْتِهَادُ من اجتهد منهم (¬1) مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ (¬2) شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْعُمُومِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَامِّيُّ حَرَامًا عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي الْأَدِلَّةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، (كَانَ الْمُخَضْرَمُ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَالَاتِ (¬3) مِثْلَهُ فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِنْبَاطِ) (¬4) وَالنَّظَرِ الْمَعْمُولِ بِهِ، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَى مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ كَانَ آثِمًا بِإِطْلَاقٍ. وَبِهَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَخِيرَةِ ظَهَرَ وَجْهُ تَأْثِيمِهِ، وَتَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ فِي اجْتِهَادِهِ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَقْرِيرٌ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬5). وَحَاصِلُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ كُلَّ مُبْتَدِعٍ آثِمٌ، وَلَوْ فُرِضَ عَامِلًا بِالْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ ـ إِنْ ثَبَتَ فِيهَا كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ (¬6) ـ، لِأَنَّهُ: إِمَّا مُسْتَنْبِطٌ لَهَا فَاسْتِنْبَاطُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِمَّا: نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهَا مُنَاضِلٌ عَنْهُ فِيهَا بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْتَنْبِطِ الْأَوَّلِ لَهَا، فَهُوَ آثِمٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. لَكِنْ يَبْقَى هُنَا نَظَرٌ فِي الْمُبْتَدِعِ وَصَاحِبِ الْهَوَى، بِحَيْثُ يَتَنَزَّلُ دَلِيلُ الشَّرْعِ عَلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ فِي الْعُرْفِ الَّذِي وقع التخاطب به، إذ قد (¬7) يَقَعُ الْغَلَطُ أَوِ التَّسَاهُلُ (¬8)، فَيُسَمَّى مَنْ لَيْسَ بِمُبْتَدِعٍ مُبْتَدِعًا، وَبِالْعَكْسِ إِنْ تُصُوِّرَ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَضْلِ (¬9) اعْتِنَاءٍ بِهَذَا الْمَطْلَبِ حَتَّى يَتَّضِحَ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَلْنُفْرِدُهُ فِي فَصْلٍ منعزل (¬10): ¬

(¬1) ساقطة من (م) و (ط). (¬2) في (غ): "يكمل". (¬3) في (ط): "الجهلات". (¬4) ما بين المعكوفين ساقط من (ت)، ولعله وقع سبق نظر للناسخ، فانتقل من كلمة "الاستنباط" الأولى إلى ما بعد الثانية. (¬5) وذلك في الفصل الآتي. (¬6) وقد قال المؤلف: "فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبِدَعِ ـ بِحَسَبِ الْوُقُوعِ ـ مكروه لا زائد فيه على الكراهة. والله أعلم". انظر: (ص324). وانظر تقسيم المؤلف للبدع في الباب السادس (2/ 36). (¬7) ساقط من (م) و (ط). (¬8) في (ت): "والتساهل". (¬9) في (خ) و (م) و (ت): "فصل". (¬10) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فتقول".

فصل

فصل لَا يَخْلُو الْمَنْسُوبُ إِلَى الْبِدْعَةِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهَا أَوْ مُقَلِّدًا. وَالْمُقَلِّدُ إِمَّا مُقَلِّدٌ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي زَعَمَهُ الْمُجْتَهِدُ دَلِيلًا، وَالْأَخْذُ فِيهِ بِالنَّظَرِ، وَإِمَّا مُقَلِّدٌ لَهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ كَالْعَامِّيِّ الصِّرْفِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَصِحَّ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا، فَالِابْتِدَاعُ مِنْهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فَلْتَةً، وَبِالْعَرَضِ لَا بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا تُسَمَّى غَلْطَةً أَوْ زَلَّةً، لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَقْصِدْ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ، أَيْ لَمْ يَتَّبِعْ هَوَاهُ، وَلَا جَعَلَهُ عُمْدَةً (¬1). وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ أَذْعَنَ لَهُ، وَأَقَرَّ بِهِ. وَمِثَالُهُ: مَا يُذْكَرُ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ (¬2) بْنِ مَسْعُودٍ (¬3) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ (¬4) ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ: وَأَوَّلُ مَا أُفَارِقُ غَيْرَ شك (¬5) أفارق ما يقول المرجئونا (¬6) ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "عمدته". (¬2) ساقطة من (ت). (¬3) هو عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مسعود الإمام، القدوة، العابد أبو عبد الله الهذلي الكوفي، أخو فقيه المدينة عبيد الله. حدث عن أبيه، وأخيه، وابن المسيب، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو وطائفة، وحدث عنه أبو حنيفة، ومسعر، والمسعودي، وآخرون، وثقه أحمد وغيره، توفي سنة بضع عشرة ومائة. انظر: طبقات ابن سعد (6/ 313)، تاريخ البخاري (7/ 13)، تهذيب التهذيب (8/ 171)، السير (5/ 103). (¬4) تقدمت ترجمة المرجئة (ص27). (¬5) في (ط): "شاك". والمثبت هو الذي في جميع النسخ، وهو المروي عنه. (¬6) في (م) و (ت) و (ط): "المرجئون"، وكتب في هامش (خ): "المرجئيون". وقد ذكر هذا البيت عنه الإمام المزي في تهذيب الكمال (22/ 457)، والإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب (8/ 172)، وكلهم يذكر رجوعه عن الإرجاء.

وَذَكَر مُسْلِمٌ (¬1) عَنْ يَزِيدَ بْنِ صُهَيْبٍ الْفَقِيرِ (¬2) قَالَ: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ، فَخَرَجْنَا (¬3) فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ، ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله يحدث القوم ـ جَالِسٌ (¬4) إِلَى سَارِيَةٍ ـ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ (¬5)، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ (¬6): يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ، مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ؟ وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (¬7)، وَ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} (¬8)، فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ (¬9)؟ قَالَ: (فَقَالَ: أَفَتَقْرَأُ) (¬10) الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ (¬11): فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ محمد ((ص)؟ ـ يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ) (¬12) فِيهِ ـ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ (عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يخرج) (¬13). قال: ثم نعت وضع الصراط، ومر النَّاسِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَأَخَافُ أَلَّا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَلِكَ (¬14). قَالَ (¬15): غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ (¬16) أَنَّ قوماً يخرجون من النار بعد ¬

(¬1) وذلك في كتاب الإيمان من صحيحه (3/ 50 ـ 52 بشرح النووي). (¬2) هو يزيد بن صهيب الفقير أبو عثمان الكوفي، ثقة مقل، حدث عن ابن عمر وجابر وأبي سعيد الخدري، وحدث عنه الحكم وعبد الكريم الجزري ومسعر وعده، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ، وَقَالَ أَبُو حاتم صدوق، لقب بالفقير، لأنه اشتكى فقار ظهره، وهو من كبار شيوخ أبي حنيفة. انظر: التارخ الكبير (8/ 342)، السير (5/ 227)، الكاشف للذهبي (3/ 245)، تقريب التهذيب (2/ 366). (¬3) في (ت): "خرجنا". (¬4) في صحيح مسلم "جالساً"، ونصبها على الحال، وبالرفع على الخبرية. (¬5) في (ط): "لجهنميين"، وهم الذين يخرجهم الله من النار بعد أن كانوا فيها. (¬6) ساقطة من (ت). (¬7) سورة آل عمران: آية (192). (¬8) سورة السجدة: آية (20). (¬9) في (غ) و (ر): "تقول". (¬10) ما بين المعكوفين مطموس في (ت). (¬11) في (غ): "فقال". (¬12) ما بين المعكوفين مطموس في (ت). (¬13) ما بين المعكوفين مطموس في (ت)، وفي (ط): "من يخرج من النار"، والزيادة في هامش (خ) أيضاً، والمثبت هو الموافق لما في صحيح مسلم أيضاً. (¬14) في (ر): "ذاك". (¬15) ساقطة من (ر). (¬16) زعم هنا بمعنى قال كما قال النووي في شرح مسلم (3/ 51).

أَنْ يَكُونُوا (¬1) فِيهَا. قَالَ: يَعْنِي فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ (¬2)، فَيَدْخُلُونَ نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ (¬3). فَرَجَعْنَا وَقُلْنَا (¬4): وَيْحَكُمْ! أَتَرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فَرَجَعْنَا فَلَا وَاللَّهِ مَا خَرَجَ (¬5) مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَمَا قَالَ (¬6). وَيَزِيدُ الْفَقِيرُ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ (¬7)، وَأَبُو زُرْعَةَ (¬8)، وَقَالَ أبو حاتم (¬9): صدوق (¬10)، وخرج عنه البخاري. ¬

(¬1) في (ط): "يونوا". (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم عن السماسم: "وهو هذا السمسم المعروف الذي يستخرج منه الشيرج. قال ابن الأثير: معناه والله أعلم أن السماسم جمع سمسم، وعيدانه تراها إذا قلعت وتركت في الشمس ليؤخذ حبها دقاقاً سوداً كأنها محترقة، فشبه بها هؤلاء ... " صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 51). (¬3) قال الإمام النووي: القراطيس جمع قرطاس بكسر القاف وضمها لغتان، وهو الصحيفة التي يكتب فيها. شبههم بالقراطيس لشدة بياضهم بعد اغتسالهم، وزوال ما كان عليهم من السواد. صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 52). (¬4) في (غ) و (ر): "قلنا". (¬5) في (غ) و (ر): "لا يخرج". (¬6) في صحيح مسلم: أو كما قال أبو نعيم. قال الإمام النووي: المراد بأبي نعيم الفضل بن دكين بضم الدال المهملة المذكور في أول الإسناد، وهو شيخ شيخ مسلم، وهذا الذي فعله أدب معروف من آداب الرواه، وهو أنه ينبغي للراوي إذا روى بالمعنى أن يقول عقب روايته أو كما قال احتياطاً وخوفاً من تغيير حصل. صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 52). (¬7) هو يحيى بن معين بن عون الغطفاني، مولاهم، أبو زكريا البغدادي، إمام المحدثين، وإمام الجرح والتعديل، فضائله كثيرة، توفي سنة 223هـ. انظر: التاريخ الكبير (8/ 307)، تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 358). الكاشف للذهبي (3/ 235). (¬8) هو عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري، أبو زرعة الدمشقي محدث الشام، ثقة، حافظ، مصنف، مات سنة 281هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 311)، تقريب التهذيب (1/ 493)، الكاشف (2/ 158). (¬9) هو محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الغطفاني، كان شيخ المحدثين، وكان من بحور العلم، جمع وصنف، وجرح وعدل، وكان إماماً حافظاً. توفي سنة 277هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 247)، تقريب التهذيب (2/ 143، الكاشف (3/ 16). (¬10) انظر: كلام الأئمة فيه ضمن ترجمته (ص276).

وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ (¬1) كَانَ مِنْ ثقات (¬2) أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ، إِلَّا أَنَّ النَّاسَ رَمَوْهُ بِالْبِدْعَةِ بِسَبَبِ قَوْلٍ حُكِيَ عَنْهُ، مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ مُصِيبٌ، حَتَّى كَفَّرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ (¬3) وَغَيْرُهُ. وَحَكَى الْقُتَيْبِيُّ (¬4) عَنْهُ (¬5) كَانَ يَقُولُ: "إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ، فَالْقَوْلُ بِالْقَدَرِ صَحِيحٌ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَالْقَوْلُ بِالْإِجْبَارِ صَحِيحٌ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَهُوَ مُصِيبٌ (¬6)، لِأَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ رُبَّمَا دَلَّتْ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ (¬7) " (¬8). وَسُئِلَ يَوْمًا عَنْ أَهْلِ الْقَدَرِ وَأَهْلِ الْإِجْبَارِ، فقال (¬9): "كُلٌّ مُصِيبٌ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ نَزَّهُوا اللَّهَ". قَالَ: "وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأَسْمَاءِ، فَكَلُّ مَنْ سَمَّى الزَّانِيَ مُؤْمِنًا فَقَدْ أصاب، ومن سماه كافراً فقد ¬

(¬1) هو عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن أبي الحر العنبري البصري، قاضي البصرة ثقة فقيه، روى عن الجريري وطبقته، وروى عنه عبد الرحمن بن مهدي وطائفة ولكن عابوا عليه مسألة تكافؤ الأدلة. مات سنة 168هـ. انظر: التاريخ الكبير للبخاري (5/ 376 ـ 377)، طبقات ابن سعد (7/ 285)، تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 531)، الكاشف للذهبي (2/ 197)، تهذيب التهذيب (7/ 7). (¬2) في (خ) و (ت) و (ط): "ثقة". (¬3) لم يتبين لي المراد به، هل هو ابن العربي أو الباقلاني أو غيرهما؟ (¬4) هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل المروزي، ويقال القتيبي والقتبي، الكاتب الكبير، صاحب التصانيف، نزل بغداد وصنف وجمع وبعد صيته، قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة ديناً فاضلاً، من تصانيفه غريب القرآن، وغريب الحديث والمعارف، وكتاب مشكل القرآن، وكان رأساً في علم اللسان العربي. توفي سنة 276هـ. انظر: السير (13/ 296)، تاريخ بغداد للخطيب (10/ 170)، شذرات الذهب (2/ 169). (¬5) ساقطة من جميع النسخ عدا (ر). (¬6) في تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة "ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بهذا فهو مصيب". (¬7) ساقطة من (ت). (¬8) تتمة الجملة عند ابن قتيبة "واحتملت معنيين متضادين". (¬9) ساقطة من (م) وأصل (خ)، وفي هامش (خ): "قال". والمثبت هو ما في (ت) وهو كذلك عند ابن قتيبة.

أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ فَاسِقٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ فَقَدْ أَصَابَ (¬1)، وَمَنْ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ وَلَيْسَ بِمُشْرِكٍ فَقَدْ أَصَابَ (¬2)، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي". قَالَ: "وَكَذَلِكَ السُّنَنُ الْمُخْتَلِفَةُ، كَالْقَوْلِ بِالْقُرْعَةِ وَخِلَافِهِ، وَالْقَوْلِ بِالسِّعَايَةِ وَخِلَافِهِ، وَقَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَبِأَيِّ ذَلِكَ أَخَذَ الْفَقِيهُ فَهُوَ مُصِيبٌ". قَالَ: "وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْقَاتِلَ فِي النَّارِ كَانَ مُصِيبًا، (وَلَوْ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ كان مصيباً) (¬3)، ولو وقف فيه (¬4) وَأَرْجَأَ أَمْرَهُ كَانَ مُصِيبًا إِذَا (¬5) كَانَ إِنَّمَا (¬6) يُرِيدُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَبَّدَهُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ عليه علم المغيب (¬7) " (¬8). قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ (¬9): أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْن أَبِي شَيْخٍ (¬10)، قَالَ: "كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحسن بن الحصين (¬11) بن أبي الحر يعني (¬12) العنبري البصري ¬

(¬1) وفي تأويل مختلف الحديث زيادة، وهي: "ومن قال: هو منافق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب". (¬2) زاد ابن قتيبة: "ومن قال: هو كافر مشرك فقد أصاب". (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (غ). (¬4) زيادة في (غ) و (ر). (¬5) في تأويل مختلف الحديث "إذ". (¬6) ساقطة من (غ). (¬7) في (م) و (ت) و (ط): "الغيب"، والمثبت هو ما في (خ) و (غ)، وهو كذلك في تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة. (¬8) ذكر هذا الخبر بطوله الإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص46 ـ 47). ثم قال الإمام ابن قتيبة: "وكان يقول في قتال علي لطلحة والزبير وقتالهما له: إن ذلك كله طاعة لله تعالى". ثم قال: "وفي هذا القول من التناقض والخلل ما ترى، وهو رجل من أهل الكلام والقياس وأهل النظر". (ص47). (¬9) هو الحافظ الكبير المجود أحمد بن أبي خيثمة صاحب التاريخ الكبير، سمع أباه زهير بن حرب، وأبا نعيم، وأحمد بن حنبل، وكان ثقة عالماً متقناً حافظاً بصيراً بأيام الناس، راوية للأدب، مات سنة 279هـ وقد بلغ أربعاً وتسعين سنة. انظر: تاريخ بغداد (4/ 162)، سير أعلام النبلاء (11/ 492)، لسان الميزان (1/ 174). (¬10) لم أجد ترجمته. (¬11) في (ط): "الحسين" وهو غلط. (¬12) المثبت من (غ) و (ر) وفي بقية النسخ "الحريقي"، حيث دمجت الكلمتين.

اتهم بأمر عظيم، روي عَنْهُ كَلَامٌ رَدِيءٌ" (¬1). قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا الكلام (¬2) الَّذِي ذَكَرَهُ (¬3) ابْنُ أَبِي شَيْخٍ عَنْهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الصواب، وقال: "إذا أرجع وأنا صاغر (¬4)، وَلِأَنْ (¬5) أَكُونَ ذَنَبًا فِي الْحَقِّ، أَحَبُّ إِلَيَّ من (¬6) أن أكون (¬7) رأساً في الباطل" (¬8). انتهى. فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ مَا قِيلَ فِيهِ، فَهُوَ عَلَى جِهَةِ الزَّلَّةِ مِنَ الْعَالِمِ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهَا رُجُوعَ الْأَفَاضِلِ إِلَى الْحَقِّ، لِأَنَّهُ بِحَسَبِ ظَاهِرِ حَالِهِ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ إِنَّمَا اتَّبَعَ ظَوَاهِرَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَلَمْ (¬9) يَتَّبِعْ عَقْلَهُ، وَلَا صَادَمَ الشَّرْعَ بِنَظَرِهِ، فَهُوَ أقرب إلى (¬10) مُخَالَفَةِ الْهَوَى. وَمِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ وفق للرجوع (¬11) إلى الحق. وكذلك يزيد الفقير (¬12) فيما ذكر عَنْهُ، لَا كَمَا عَارَضَ الْخَوَارِجَ عَبْدُ اللَّهِ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ طَالَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: "لَا تُخَاصِمُوهُ فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ الله (¬13) فيه: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (¬14) " (¬15)، ¬

(¬1) نقل هذا القول الإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب (7/ 8). (¬2) ساقطة من (خ) و (ط). (¬3) في (غ) و (ر): "ذكر". (¬4) في (م): "وأنا أصاغر"، وفي (ت): "أرجع أصاع"، وفي (خ): "وأنا أصاغ"، وقد كتب فوق الكلمة رقم (3) وكتب في الهامش بإزائها "وأنا من الأصاغر"، والمثبت من (غ) و (ر). (¬5) الواو ساقطة من (م) و (غ). (¬6) ساقطة من (ط). (¬7) ساقطة من (م). (¬8) ذكر رجوعه إلى الصواب الإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب (7/ 8)، وعزاه إلى محمد بن إسماعيل الأزدي في ثقاته، وأما قوله: "إذا أرجع وأنا من الأصاغر"، فذكره أيضاً، ولكن في مسألة وقعت بينه وبين ابن مهدي. انظر: تهذيب التهذيب (7/ 7)، تهذيب الكمال (19/ 25). (¬9) في (م) و (غ): "لم" بدون الواو. (¬10) في جميع النسخ (من) عدا (غ) و (ر). (¬11) في (م) و (خ) و (ط) و (غ): "إلى الرجوع". (¬12) تقدمت ترجمته وخبره (ص276). (¬13) لم يكتب لفظ الجلالة في أصل (ت)، وإنما كتب في هامشها. (¬14) سورة الزخرف: آية (58). (¬15) تقدم بيان مواضع هذه المناظرة (ص236) هامش (2)، إلا أن المؤلف هناك ذكرها=

فَرَجَّحُوا الْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَنَاصَبُوا بِالْخِلَافِ السَّوَادَ الأعظم. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَصِحَّ بِمِسْبَارِ (¬1) الْعِلْمِ أَنَّهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَهُوَ الْحَرِيُّ بِاسْتِنْبَاطِ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ كَمَا تَقَدَّمَ، إِذْ قَدِ اجْتَمَعَ لَهُ مَعَ الْجَهْلِ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْهَوَى الْبَاعِثُ عَلَيْهِ في الأصل، وهوى (¬2) التَّبَعِيَّةُ، إِذْ قَدْ (¬3) تَحْصُلُ لَهُ مَرْتَبَةُ الْإِمَامَةِ وَالِاقْتِدَاءِ، وَلِلنَّفْسِ (¬4) فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَعْسُرُ خُرُوجُ حُبِّ الرِّئَاسَةِ مِنَ الْقَلْبِ إِذَا انْفَرَدَ، حَتَّى قَالَ الصُّوفِيَّةُ: (حب الرئاسة آخر ما يخرج من رؤوس (¬5) الصِّدِّيقِينَ)، فَكَيْفَ (¬6) إِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ الْهَوَى مِنْ أَصْلٍ، وَانْضَافَ إِلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ دَلِيلٌ ـ فِي ظَنِّهِ ـ شَرْعِيٌّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، فيتمكن (¬7) الهوى من القلب (¬8) (¬9) تَمَكُّنًا لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ، وَجَرَى مِنْهُ مَجْرَى الكَلَبِ (¬10) مِنْ صَاحِبِهِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ (¬11). فَهَذَا النَّوْعُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ آثِمٌ فِي ابْتِدَاعِهِ إِثْمَ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنَّ الْإِمَامِيَّةَ مِنَ الشِّيعَةِ (¬12) تَذْهَبُ إِلَى وَضْعِ خَلِيفَةٍ دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَزَعُمُ أَنَّهُ مِثْلُ النبي في العصمة، بناء على أصل لهم متوهم، ¬

=مثالاً لمن يتوب من البدع، وهنا على العكس، وقد تاب عدد كبير منهم بعد هذه المناظرة، فالمؤلف جعل التائبين منهم مثالاً على إمكان توبة المبتدع إذا كانت بدعته بسبب اجتهاد خاطئ، كما جعل المعرضين منهم مثالاً على عدم إمكان توبة المبتدع إذا اتبع هواه وعارض الأدلة. (¬1) ساقطة من (ت). والمسبار هو ما يسبر به الجرح. انظر: الصحاح (2/ 675). (¬2) في (خ) و (ط): "وهو". (¬3) ساقطة من (غ) و (ر). (¬4) في (خ) و (ط): "والنفس". (¬5) في (ط): "قلوب". (¬6) في (ط): "فكيك". (¬7) في (خ) و (ت) و (ط): "فيمكن". (¬8) في (ط): "قلبه". (¬9) كتب في (م) في هذا الموضع: "إذا انفرد حتى قال الصوفية" وهي إعادة من الناسخ لبعض ما تقدم. (¬10) تقدم بيان المراد به (ص235) .. (¬11) تقدم الحديث وتخريجه (ص235). (¬12) تقدم التعريف بهم (ص23).

فَوَضَعُوهُ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَبَدًا مُفْتَقِرَةٌ إِلَى شَرْحٍ (¬1) وَبَيَانٍ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، إِمَّا بِالْمُشَافَهَةِ أَوْ بِالنَّقْلِ مِمَّنْ شَافَهَ الْمَعْصُومَ (¬2). وَإِنَّمَا وَضَعُوا ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا نَقْلِيٍّ، بَلْ (¬3) بِشُبْهَةٍ زَعَمُوا أَنَّهَا عَقْلِيَّةٌ، وَشُبَهٍ مِنَ النَّقْلِ بَاطِلَةٍ، إِمَّا فِي أَصْلِهَا، وَإِمَّا فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِهَا. وَتَحْقِيقُ مَا يَدَّعُونَ وَمَا يُرُدُّ عَلَيْهِمْ بِهِ (¬4) مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ (¬5)، وَهُوَ يَرْجِعُ فِي الحقيقة إلى دعاو إذا (¬6) طُولِبُوا بِالدَّلِيلِ عَلَيْهَا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، إِذْ لَا بُرْهَانَ لَهُمْ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ. وَأَقْوَى شُبَهِهِمْ مَسْأَلَةُ اخْتِلَافِ الْأُمَّةِ (¬7)، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَاحِدٍ يَرْتَفِعُ بِهِ الْخِلَافُ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (¬8)، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا أُعْطِيَ الْعِصْمَةَ كَمَا أُعْطِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه وارثه (¬9)، وإلا فكل محق ومبطل (¬10) يَدَّعِي أَنَّهُ الْمَرْحُومُ، وَأَنَّهُ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الْحَقِّ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، فَإِنْ طُولِبُوا (¬11) بِالدَّلِيلِ عَلَى الْعِصْمَةِ لَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ مَذْهَبًا يُخْفُونَهُ، وَلَا يُظْهِرُونَهُ إِلَّا لِخَوَاصِّهِمْ، لأنه كفر محض ودعوى بغير برهان (¬12). ¬

(¬1) في (م) و (ت) و (خ): "شرع". (¬2) قال الشيخ محمد رشيد رضا معلقاً: "كذا والمعنى إما بالمشافهة من المعصوم، وإما بالنقل ممن أو عمن شافه المعصوم، ولكن الذي ينقل عمن ينقل عن المعصوم مشافهة مثله، مهما تعدد لا تعتبر فيه إلا الثقة بفهمه ونقله، لأن من شافهه كمن شافه من شافههم، كل منهم غير معصوم، فيكتفي منه بالعدالة في الرواية، فلا حاجة إذا إلى غير الرسول من المعصومين، وهو قد بين الشريعة أحسن تبيين". (¬3) في (ط): "بلى". (¬4) ساقطة من (ط). (¬5) في (غ): الأمية، ولا تخلو كتب الفرق والمقالات قديماً وحديثاً من ذكر بدعتهم، وأكاذيبهم، والرد عليها، ومن أشهرها كتاب منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، حيث عرض لأدلتهم النقلية والعقلية وأتى عليها من جذورها. (¬6) في (خ) و (ت) و (ط): "وإذا". (¬7) في (غ): "الأمم". (¬8) سورة هود: آيتان (118 ـ 119). (¬9) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "وارث". (¬10) في (خ) و (ط): "أو مبطل". (¬11) في (خ): "طالبوا". (¬12) والمشهور عن خواصهم إبطان الإلحاد، وإظهار حب آل البيت، ليتستروا به، وإلا=

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (¬1) فِي كِتَابِ الْعَوَاصِمِ (¬2): (خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي عَلَى الْفِطْرَةِ (¬3)، فَلَمْ أَلْقَ فِي طريقي إلا مهتدياً، حتى بَلَغْتُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ ـ يَعْنِي (¬4) الْإِمَامِيَّةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ (¬5) مِنْ فرق الشيعة ـ فهي أول بدعة لقيت، فلو (¬6) فجأتني بدعة مشتبهة (¬7) كَالْقَوْلِ بِالْمَخْلُوقِ (¬8)، أَوْ نَفْيِ الصِّفَاتِ (¬9)، أَوِ الْإِرْجَاءِ (¬10) لم آمن الشيطان. فَلَمَّا رَأَيْتُ حَمَاقَاتِهِمْ أَقَمْتُ عَلَى حَذَرٍ، وَتَرَدَّدْتُ فِيهَا (¬11) عَلَى أَقْوَامٍ أَهْلِ عَقَائِدَ سَلِيمَةٍ، وَلَبِثْتُ بَيْنَهُمْ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ (¬12)، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ فَوَرَدْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَلْفَيْتُ فِيهَا (¬13) ثَمَانِيَ وَعِشْرِينَ حلقة ومدرستين، مدرسة للشافعية (¬14) بباب الأسباط وأخرى للحنفية، وكان ¬

=فلديهم من العقائد الضالة ما لا يقبله دين الإسلام بحال من الأحوال، كغلوهم في أئمتهم إلي أن أوصلوهم درجة الألوهية، وادعاؤهم تحريف القرآن، وبغضهم للصحابة ولعنهم لهم ـ رضى الله عن الضحابة ـ وعلى الشيعة من الله ما يستحقون. (¬1) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص250). (¬2) كتاب العواصم من القواصم من كتب الإمام ابن العربي، ذكر فيه ما حل بالمسلمين من المصائب، وما يعصم الله به المسلمين، وذكر فيه مواقف الصحابة رضي الله عنهم وما وجهه إليهم الأعداء من التهم، فرد عليهم وذب عن الصحابة، وقد ألفه سنة 536هـ، وقد نشره شيخ النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس في جزئين، معتمداً على نسخة واحدة، ثم نشر الشيخ محب الدين الخطيب ما يتعلق بالصحابة منه، ثم نشره كاملاً، مقارناً على أربع نسخ الأستاذ عمار الطالبي. (¬3) مشطوبة في أصل (م)، ومثبتة في هامشها، وفي (ت): "الفرطة". (¬4) قوله: "يعني الإمامية والباطنية من فرق الشيعة" من كلام المؤلف، وليس من كلام ابن العربي في العواصم، وذلك لأن ابن العربي قد استفتح كلامه بكلام حول مذهبهم، وكذلك قوله: "فهي أول بدعة لقيت" ليست في العواصم. (¬5) تقدم التعريف بالباطنية (ص28). (¬6) في (ط): "ولو". (¬7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "مشبهة". (¬8) لعله يريد القول بخلق القرآن، وهو قول الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والأشاعرة. (¬9) وهو قول المعتزلة ومن تبعهم أيضاً كما مر في التعريف بهم (ص29). (¬10) تقدم الكلام على المرجئة (ص27). (¬11) أي في هذه الأرض، لأنه قد حذف بعض الكلام لابن العربي يدل على ما ذكرت. (¬12) حذف هنا من كلام ابن العربي ما يقارب أربعة أسطر، ذكر فيها ما رأى من الضلالات. (¬13) في كتاب العواصم: "فيه". (¬14) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "الشافعية".

فيه (¬1) من رؤوس العلماء، ورؤوس الْمُبْتَدِعَةِ (¬2)، وَمِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَثِيرٌ، فَوَعَيْتُ الْعِلْمَ، وَنَاظَرْتُ (¬3) كُلَّ طَائِفَةٍ بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا أَبِي بَكْرٍ الْفِهْرِيِّ (¬4) وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ. ثُمَّ نزلت إلى الساحل لأغراض (¬5)، وكان مملؤاً مِنْ هَذِهِ النِّحَلِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ، فَطُفْتُ فِي مُدُنِ السَّاحِلِ لِتِلْكَ الْأَغْرَاضِ (¬6) نَحْوًا مِنْ (¬7) خَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَنَزَلْتُ عَكَّا (¬8)، وَكَانَ رَأْسَ الْإِمَامِيَّةِ بِهَا حِينَئِذٍ (¬9) أَبُو الْفَتْحِ الْعَكِّيُّ، وَبِهَا مِنْ أَهْلِ السنة شيخ يقال له: الفقيه الدبيقي (¬10)، فَاجْتَمَعْتُ بِأَبِي الْفَتْحِ فِي مَجْلِسِهِ وَأَنَا ابْنُ الْعِشْرِينَ، فَلَمَّا رَآنِي صَغِيرَ السِّنِّ، كَثِيرَ الْعِلْمِ، مُتَدَرِّبًا (¬11)، وَلِعَ بِي، وَفِيهِمْ ـ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ ـ انْطِبَاعٌ وَإِنْصَافٌ وَإِقْرَارٌ بِالْفَضْلِ إذا ظهر (¬12)، فكان لا يفارقني، ويساومني (¬13) ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فيها". (¬2) نص كتاب العواصم: "وكان فيه من رؤوس العلماء، ورؤوس المبتدعة، على اختلاف طبقاتهم كثير، ومن أحبار اليهود والنصارى والسمرة جمل لا تحصى، فأوفيت على المقصد من طريقه، ووعيت العلم بتحقيقه، ونظرت إلى كل طائفة تناظر، وناظرتها بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري .. ". العواصم (ص61). (¬3) في (ت): "وناظرة"، وكتب بإزائها في الهامش "عله وناظرت". (¬4) هو الإمام العلامة، شيخ المالكية، أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف الفهري الأندلسي الطرطوشي الفقيه، عالم الإسكندرية، لازم القاضي أبا الوليد الباجي، وأخذ عنه مسائل الخلاف، نزل بغداد وبيت المقدس، ثم تحول إلى الثغر، ألف كتاب سراج الملوك للمأمون بن البطائحي، وله كتاب الحوادث والبدع. توفي سنة 520هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 490)، شذرات الذهب (4/ 62)، العبر (4/ 48). (¬5) نص كتاب العواصم: "لأغراض نصصتها في كتاب ترتيب الرحلة، وكان الساحل المذكور مملوءاً من هذه النحل الملحدية، والمذاهب الباطنية، والإمامية .. ". العواصم (ص61). (¬6) في كتاب "العواصم": "الأغراض الدينية". (¬7) في (ط): "مى". (¬8) في (ط): "بعكا"، وفي (ت): "عكى"، وفي معجم البلدان لياقوت الحموي "عكة" بالهاء، وهي بلد على ساحل بحر الشام من عمل الأردن. معجم البلدان لياقوت (4/ 143). (¬9) كتب مكان هذه الكلمة في (ت): "ح". (¬10) في (خ) و (ت) و (ط): "الديبقي". (¬11) في (ر): "مستدرباً". (¬12) في (ت): "ظهر به". (¬13) نص كتاب العواصم: "ويسارعني في السؤال والجدال ولا يفاترني".

الجدال ولا يفاترني (¬1)، فتكلمت على إبطال (¬2) مذهب الإمامية، والقول بالتعليم (¬3) مِنَ الْمَعْصُومِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ أَسْرَارًا وَأَحْكَامًا، وَالْعَقْلُ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهَا، فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ إِمَامٍ مَعْصُومٍ (¬4) فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَاتَ الْإِمَامُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ لِأَوَّلِ مَا أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ أَمْ هُوَ مُخَلَّدٌ؟ فَقَالَ لِي (¬5): "مَاتَ"، وَلَيْسَ هَذَا بِمَذْهَبِهِ، وَلَكِنَّهُ تَسَتَّرَ مَعِي (¬6)، فَقُلْتُ: هَلْ خَلَفَهُ أَحَدٌ؟ فَقَالَ: خَلَفَهُ وَصِيُّهُ عَلِيٌّ (¬7)، قُلْتُ: فَهَلْ قَضَى بِالْحَقِّ وَأَنْفَذَهُ؟ قَالَ: لَمْ يَتَمَكَّنْ لِغَلَبَةِ (¬8) الْمُعَانِدِ، قُلْتُ: فَهَلْ أَنْفَذَهُ حِينَ قَدَرَ؟ قَالَ: مَنَعَتْهُ التَّقِيَّةُ (¬9) وَلَمْ تُفَارِقْهُ إِلَى الْمَوْتِ (¬10)، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَقْوَى تَارَةً، وَتَضْعُفُ أُخْرَى (¬11)، فَلَمْ يُمْكِنْ إِلَّا المداراة (¬12) لئلا تنفتح (¬13) عليه أبواب الاختلال، ¬

(¬1) في (ت): "يفاتر بي". (¬2) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬3) في جميع النسخ: "التعميم"، عدا نسخة (غ) ففيها المثبت. (¬4) في هذا الموضع كلام لابن العربي يقع في ستة أسطر يتهمهم فيه بأن قولهم راجع إلى القول بالحلول. انظر: العواصم (ص62 ـ 63). (¬5) في (غ): "ما". (¬6) في كتاب العواصم: "ولكنه تستر معي به، وإنما حقيقة مذهبه أن الله سبحانه يحل في كل معصوم، فيبلغ عنه، فالمبلغ هو الله، ولكن بواسطة حلوله في آدمي فقلت هل خلفه .. ". العواصم (ص63). (¬7) في (ت): "عكى". (¬8) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "بغلبه". (¬9) وهي من دين الشيعة، يتسترون بها ليخفوا ما يبطنون من الضلال، وينسبونها إلى أئمتهم، كزعمهم أن جعفر الصادق قال؛ "التقية ديني ودين آبائي"، وقد فسروا بها موقف علي رضي الله عنه مع الخلفاء قبله، وكذلك موقف الحسن مع معاوية رضي الله عنهم. انظر: كتاب دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين لأحمد الجلي (ص217). (¬10) في العواصم: "ولم تفارقه من يوم العهد إلى يوم الموت". العواصم (ص63). (¬11) في العواصم: "وتضعف أخرى، فلما ولي بقيت من التقية بقية، فلم يمكن إلا المداراة للأصحاب لئلا ينفتح عليه من الاختلال أبواب .. ". (¬12) رسمت في (م) و (خ) و (ت): "المدارات". (¬13) في (م) و (خ) و (ت): ينفتح، وفي (ر): "تنفتح".

قلت وهذه المداراة (¬1) حَقٌّ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: بَاطِلٌ أَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ. قُلْتُ: فَأَيْنَ الْعِصْمَةُ؟ قَالَ (¬2): إِنَّمَا تُغْنِي (¬3) الْعِصْمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، قُلْتُ: فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى الْآنَ وَجَدُوا الْقُدْرَةَ أَمْ لَا؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَالدِّينُ مُهْمَلٌ، وَالْحَقُّ مَجْهُولٌ مُخْمَلٌ (¬4)؟ قَالَ: سَيَظْهَرُ، قُلْتُ: بِمَنْ؟ قَالَ: بِالْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ، قُلْتُ: لَعَلَّهُ الدَّجَّالُ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا ضَحِكَ، وَقَطَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى غَرَضٍ مِنِّي لِأَنِّي خِفْتُ أَنْ أفحمه (¬5) فَيَنْتَقِمُ مِنِّي فِي بِلَادِهِ. ثُمَّ قُلْتُ: وَمِنْ أَعْجَبِ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَوْعَزَ (¬6) إِلَى مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ فَقَدْ ضَيَّعَ فَلَا عِصْمَةَ لَهُ. وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى ـ عَلَى مَذْهَبِهِ ـ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إِلَّا بِمُعَلِّمٍ، وَأَرْسَلَهُ عَاجِزًا (¬7) مضعوفاً (¬8)، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ مَا عَلِمَ، فَكَأَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ وَمَا بَعَثَهُ. وَهَذَا عَجْزٌ مِنْهُ وَجَوْرٌ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ (¬9). فَرَأَوْا مِنَ الكلام ما لا يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُومُوا مَعَهُ بِقَائِمَةٍ (¬10)، وَشَاعَ الْحَدِيثُ، فَرَأَى رَئِيسُ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُسَمَّيْنَ بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ (¬11) أَنْ يَجْتَمِعَ مَعِي، فَجَاءَنِي أَبُو الْفَتْحِ إِلَى مَجْلِسِ الْفَقِيهِ الدبيقي، وقال لي (¬12): إِنَّ رَئِيسَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ رَغِبَ فِي الْكَلَامِ مَعَكَ، فقلت أنا مشغول، فقال: هاهنا (¬13) مَوْضِعٌ مُرَتَّبٌ (¬14) قَدْ جَاءَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَحْرَسُ الطَّبَرَانِيِّينَ، مَسْجِدٌ فِي قَصْرٍ عَلَى الْبَحْرِ، وَتَحَامَلَ عَلَيَّ، فَقُمْتُ مَا بَيْنَ حِشْمَةٍ وَحِسْبَةٍ، وَدَخَلْتُ ¬

(¬1) رسمت كسابقتها "المدارات". (¬2) ساقطة من (ط). (¬3) في العواصم: "تتعين"، وفي إحدى نسخ العواصم: "تغنى". (¬4) في (ت): "مجمل". (¬5) في (م) و (خ) و (ط): "ألجمه"، والمثبت هو ما في (ت)، وهو كذلك في العواصم. (¬6) في (ط): "أوصى"، وفي (ت): "أعوز أوعز". (¬7) في (خ): كلمة زائدة في هذا الموضع، وكأنها "بمعنى". (¬8) في (خ) و (ت) و (ط): "مضطرباً". (¬9) لأنهم يقولون لا بد من إمام معصوم يرتفع به الخلاف. (¬10) في (ت): "لقائمة". (¬11) تقدم التعريف بهم ضمن الكلام على الباطنية (ص28). (¬12) ساقطة من (ط). (¬13) في (خ) و (ط): "هنا". (¬14) في العواصم: "قريب".

قصر المحرس، وصعدنا (¬1) إِلَيْهِ فَوَجَدْتُهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي زَاوِيَةِ الْمَحْرَسِ الشَّرْقِيَّةِ، فَرَأَيْتُ النُّكْرَ فِي وُجُوهِهِمْ، فَسَلَّمْتُ، ثُمَّ قَصَدْتُ جِهَةَ الْمِحْرَابِ، فَرَكَعْتُ عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، لَا عَمَلَ لِي فِيهِمَا إِلَّا تَدْبِيرُ الْقَوْلِ مَعَهُمْ، وَالْخَلَاصُ مِنْهُمْ. فَلَعَمْرُ (¬2) الَّذِي قَضَى عَلَيَّ بِالْإِقْبَالِ إِلَى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، إِنْ (¬3) كُنْتُ رَجَوْتُ الْخُرُوجَ من (¬4) ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَبَدًا، وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ فِي الْبَحْرِ يَضْرِبُ فِي حِجَارَةٍ سُودٍ مُحَدَّدَةٍ تَحْتَ طَاقَاتِ الْمَحْرَسِ، فَأَقُولُ: هَذَا قَبْرِي الَّذِي يَدْفِنُونِي فِيهِ، وَأُنْشِدُ فِي سِرِّي: أَلَا هَلْ إِلَى الدُّنْيَا مَعَادٌ؟ وَهَلْ لَنَا ... سِوَى الْبَحْرِ قَبْرٌ؟ أَوْ سِوَى (¬5) الْمَاءِ أَكْفَانُ؟ وَهِيَ كَانَتِ الشِّدَّةَ الرابعة من شدائد عمري التي أَنْقَذَنِي اللَّهُ مِنْهَا. فَلَمَّا سَلَّمْتُ اسْتَقْبَلْتُهُمْ وَسَأَلْتُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ عَادَةً (¬6)، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَقُلْتُ: أَشْرَفُ مِيتَةٍ فِي أَشْرَفِ مَوْطِنٍ أُنَاضِلُ فِيهِ عَنِ الدِّينِ. فَقَالَ لِي أَبُو الْفَتْحِ ـ وَأَشَارَ إِلَى فَتًى حَسَنِ الْوَجْهِ ـ: هَذَا سَيِّدُ الطائفة ومقدمها، فدعوت له فسكت، فبدرني وقال: قد بلغتني مجالسك (¬7)، وانتهى (¬8) إِلَيَّ كَلَامُكَ، وَأَنْتَ تَقُولُ (¬9): قَالَ اللَّهُ وَفَعَلَ الله (¬10)، فَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ؟! أَخْبِرْنِي وَاخْرُجْ عَنْ هَذِهِ الْمَخْرَقَةِ (¬11) الَّتِي جَازَتْ لَكَ عَلَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ (¬12) الضَّعِيفَةِ (وَقَدِ احْتَدَّ نَفْسًا، وَامْتَلَأَ غَيْظًا، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهُ لَا يُتِمُّ (¬13) الْكَلَامَ إِلَّا) (¬14) وَقَدِ اختطفني أصحابه قبل الجواب ¬

(¬1) في (م): "وصقنا"، وفي (خ) و (ت) و (ط): "وطلعنا". (¬2) في (ط): "فلعمرى". (¬3) إن هنا بمعنى (ما). (¬4) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عن". (¬5) في (ت): "وسوى". (¬6) في (ت): "غادة". (¬7) في (م) و (ت): "مجالستك". (¬8) في (خ) و (ط): "وأنهى". (¬9) ساقطة من (ت). (¬10) زيادة في (غ). (¬11) قال في الصحاح؛ "والتخرق: لغة من التخلق من الكذب" (4/ 1467)، وقال في الرائد: "المخرقة: الكذب والاختلاق" معجم الرائد لجبران مسعود (1343). (¬12) في (ت): "طائفة". (¬13) في (ر): "لا يتمم". (¬14) ما بين المعكوفين ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).

فَعَمَدْتُ ـ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ ـ إِلَى كِنَانَتِي، وَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا سَهْمًا أَصَابَ حَبَّةَ قَلْبِهِ فَسَقَطَ لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ. وَشَرْحُ (¬1) ذَلِكَ (¬2): أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّ الْحَافِظَ الْجُرْجَانِيَّ (¬3) قَالَ: كُنْتُ (¬4) أُبَغِّضُ النَّاسَ فِيمَنْ يَقْرَأُ عِلْمَ الْكَلَامِ، فَدَخَلْتُ يوماً إلى الري (¬5)، فدخلت (¬6) جَامِعَهَا أَوَّلَ دُخُولِي، وَاسْتَقْبَلْتُ سَارِيَةً أَرْكَعُ عِنْدَهَا، وَإِذَا (¬7) بِجِوَارِي رَجُلَانِ يَتَذَاكَرَانِ عِلْمَ الْكَلَامِ، فَتَطَيَّرْتُ بِهِمَا (¬8)، وَقُلْتُ: أَوَّلَ مَا دَخَلْتُ هَذَا (¬9) الْبَلَدَ سَمِعْتُ فِيهِ مَا أَكْرَهُ، وَجَعَلْتُ أُخَفِّفُ الصَّلَاةَ حَتَّى أَبْعُدَ عَنْهُمَا، فَعَلِقَ بِي مِنْ قَوْلِهِمَا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةَ أَسْخَفُ خَلْقِ اللَّهِ عُقُولًا، وينبغي للنحرير ألا يتكلف لهم دليلاً، ولكن (¬10) ¬

(¬1) من هنا يذكر ابن العربي قصة وقعت للحافظ أبي بكر الجرجاني، وكيف استفاد منها، ثم يعود للحديث عن قصته مع الإسماعيلي. (¬2) ساقطة من (م) و (ت). (¬3) هو أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني الحافظ الكبير، الرحال، سمع الكثير، وحدث، وخرج، وصنف فأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد والاعتقاد، صنف كتاباً على صحيح البخاري فيه فوائد كثيرة، وعلوم غزيرة. توفي سنة 371هـ. انظر: البداية والنهاية لابن كثير (11/ 318)، سير أعلام النبلاء للذهبي (16/ 292). (¬4) من هنا غير واضح في (غ) إلى قوله: يتذاكران. (¬5) هي مدينة مشهورة، من أمهات البلاد، وأعلام المدن، بينها وبين نيسابور مائة وستون فرسخاً. انظر: معجم البلدان ليلقوت الحموي (3/ 116). (¬6) في (خ) و (ط): "ودخلت". (¬7) في (خ) و (ط): "وإذ". (¬8) لقد ورد النهي عن الطِيَرة في أحاديث عديدة منها حديث أبي هريرة في البخاري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (لا طيرة، وخيرها الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم). صحيح البخاري (10/ 212 مع الفتح)، وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (الطيرة شرك) ثلاثاً. قال ابن مسعود: وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل. سنن أبي داود، كتاب الطب (4/ 16) إلى غير ذلك من النصوص. ولعل الإمام الإسماعيلي كره ما سمع من الرجلين فعبر عن كراهيته بالتطير. (¬9) في (خ) و (ط): "هذه". (¬10) في (ت): "واليكن"، وفي (م) و (خ): "وليكن".

يطالبهم "بلم" فَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا. وَسَلَّمْتُ مُسْرِعًا. وَشَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ كَشَفَ رَجُلٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْقِنَاعَ فِي الْإِلْحَادِ، وَجَعَلَ يُكَاتِبُ وَشْمَكِيرَ (¬1) الْأَمِيرَ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ (¬2)، وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي لَا أَقْبَلُ دِينَ مُحَمَّدٍ إِلَّا بِالْمُعْجِزَةِ، فَإِنْ أَظْهَرْتُمُوهَا رَجَعْنَا إِلَيْكُمْ (¬3)، وَانْجَرَّتِ الْحَالُ إِلَى أَنِ اخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلًا لَهُ دَهَاءٌ وَمُنَّة (¬4)، فَوَرَدَ عَلَى وَشْمَكِيرَ رَسُولًا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ أَمِيرٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ أَنْ تَتَخَصَّصَ عَنِ الْعَوَامِّ، ولا تقلد أحداً (¬5) في عقيدتها (¬6)، وإنما حقهم أن يفحصوا (¬7) عَنِ الْبَرَاهِينِ. فَقَالَ وَشْمَكِيرُ: اخْتَرْ (¬8) رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِي، وَلَا أُنْتَدَبُ لِلْمُنَاظَرَةِ بِنَفْسِي، فَيُنَاظِرُكَ بَيْنَ يَدَيَّ. فَقَالَ لَهُ الْمُلْحِدُ: أَخْتاَرُ (¬9) أَبَا بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيَّ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ (¬10) لَيْسَ مِنْ أَهْلِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ (¬11)، وَإِنَّمَا كَانَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ، ولكن كان وشمكير (¬12) ـ بعاميته (¬13) يَعْتَقِدُ (¬14) أَنَّهُ أَعْلَمُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ. ¬

(¬1) في (ت): "وشميكر"، وهو وشمكير بن زيار ملك الري، واستولى على جرجان، وكانت وفاته سنة 357هـ. انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير (7/ 76، 112، 145، 167). (¬2) في العواصم: "يدعوه إلى الإلحاد". (¬3) كفى بالقرآن آية ومعجزة، وإن من حكمة الله أن أبقى هذه الآية ليبقى التحدي بها إلى آخر الدهر، وليس القرآن وحده آية نبينا صلّى الله عليه وسلّم، بل إن آياته ومعجزاته تفوق الحصر، حتى ألفت في ذلك المجلدات كما فعل البيهقي والماوردي وغيرهما، ثم إنه ليس الدليل على صدق نبينا المعجزة فحسب، بل إن خلقه العظيم وسيرته العطرة، وكمال شريعته، ونصرة الله له، أدلة قاطعة وبراهين ساطعة تشهد بصدقه صلّى الله عليه وسلّم. (¬4) المنة: القوة. الصحاح (6/ 2207). (¬5) ساقطة من (ت) و (غ). (¬6) في (ط): "عقيدة". (¬7) في (م) و (ط): "يفصحوا". (¬8) في (خ) و (ط): "أختار". (¬9) في (خ) و (ط): "اختر"، وفي العواصم: "اخترت". (¬10) في (ر): "أنه". (¬11) يريد علم الكلام، وقد سمى التوحيد، وليس بصحيح، فما أبعد علم الكلام عن التوحيد. وتقدم الكلام عليه في الباب الأول (ص48) هامش (5) .. (¬12) في (ت): "وشميكر". (¬13) في (ط): "لعامية"، وفي (م) و (خ) و (ط) و (ت): "بعامية فيه". (¬14) ساقطة من (م) و (ت).

فَقَالَ وَشْمَكِيرُ: ذَلِكَ مُرَادِي، فَإِنَّهُ (¬1) رَجُلٌ جَيِّدٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِجُرْجَانَ (¬2)، لِيَرْحَلَ إليه إلى غزنة (¬3)، فلم يبق أحد من العلماء (¬4) إِلَّا يَئِسَ مِنَ الدِّينِ، وَقَالَ: سَيَبْهَتُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الكافر مذهباً الإسماعيلي الحافظ [نسباً] (¬5)، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلْمَلِكِ: إِنَّهُ لَا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم (¬6). فلجأوا (¬7) إِلَى اللَّهِ فِي نَصْرِ دِينِهِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَافِظُ (¬8): فَلَمَّا جَاءَنِي الْبَرِيدُ، وَأَخَذْتُ فِي الْمَسِيرِ، وتدانت بي (¬9) الدَّارُ قُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ. وَكَيْفَ أُنَاظِرُ فِيمَا لَا أَدْرِي؟ هَلْ أَتَبَرَّأُ عِنْدَ الْمَلِكِ وَأُرْشِدُهُ إلى من يحسن الجدل، ويعلم حجج (¬10) الله على دينه؟ (¬11) وندمت (¬12) على ما سلف من عمري ولم أَنْظُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ، ثُمَّ أَذْكَرَنِي اللَّهُ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ بِجَامِعِ الرَّيِّ، فَقَوِيَتْ نَفْسِي، وَعَوَّلْتُ عَلَى أَنْ أَجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَتِي، وَبَلَغْتُ الْبَلَدَ، فَتَلَقَّانِي الْمَلِكُ ثُمَّ جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَحَضَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْمَذْهَبِ مَعَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ النَّسَبِ، وَقَالَ الْمَلِكُ لِلْبَاطِنِيِّ (¬13): أُذْكُرْ قَوْلَكَ يَسْمَعُهُ الْإِمَامُ. فَلَمَّا أَخَذَ فِي ذِكْرِهِ وَاسْتَوْفَاهُ، قال له الحافظ: "لم"؟ فلما سَمِعَهَا الْمُلْحِدُ قَالَ: هَذَا إِمَامٌ قَدْ عَرَفَ مقالتي، فبهت (¬14). ¬

(¬1) ساقطة من (م) و (ت) و (غ). (¬2) جرجان: مدينة عظيمة مشهورة بقرب طبرستان، بناها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة. انظر: آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني (ص348). (¬3) قوله: (إلى غزنة) ساقطة من (غ) و (ر)، وغزنة: مدينة عظيمة، وولاية واسعة في طرف خراسان، وهي الحد بين خراسان والهند. انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي (4/ 201). (¬4) في (خ) و (ط): "فلم يبق من العلماء أحد". (¬5) في الأصول (مذهباً)، والتصويب من العواصم. (¬6) في العواصم: "لئلا يتهمهم بالحسد". (¬7) في (م): "فلجوا". (¬8) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬9) في (خ) و (ط): "لي". (¬10) في (خ) و (ط): "بحجج". (¬11) في العواصم: "ويعلم حجج الله في خلقه على صحة دينه". (¬12) في (خ) و (ت) و (ط): "ندمت" بدون الواو. (¬13) في (ط): "الباطني"، وفي العواصم: "وقال الملك للإسماعيلي الباطني". (¬14) في (خ) و (ت) و (ط): "ففهمت"، وبعد هذه اللفظة ذكر ابن العربي بعض العبارات=

قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ (¬1)، وَأَمَرْتُ بِقِرَاءَةِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ عُمْدَةٌ مِنْ عُمَدِ الْإِسْلَامِ (¬2). قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَحِينَ (¬3) انْتَهَى بي الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ (¬4) قُلْتُ: إِنْ كَانَ في الأجل نساء (¬5) فَهَذَا شَبِيهٌ بِيَوْمِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فَوَجَّهْتُ (¬6) إِلَى أَبِي الفتح الإمامي (¬7)، وَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ كُنْتُ فِي لَا شَيْءَ، وَلَوْ خَرَجْتُ مِنْ عَكَّا قَبْلَ أَنْ أَجْتَمِعَ بِهَذَا الْعَالِمِ مَا رَحَلْتُ إِلَّا عَرِيًّا عَنْ نادرة الأيام، انظر (¬8) إِلَى حِذْقِهِ بِالْكَلَامِ وَمَعْرِفَتِهِ حَيْثُ (¬9) قَالَ لِي: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ؟ وَلَا يَسْأَلُ بِمِثْلِ هذا إلا مثله. ولكن بقيت ها هنا نُكْتَةٌ، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ نَأْخُذَهَا الْيَوْمَ عَنْهُ، وَتَكُونُ ضِيَافَتُنَا عِنْدَهُ. لِمَ قُلْتَ: (أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ؟)، فَاقْتَصَرْتَ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ على "أي"، وتركت الهمزة وهل وكيف وأين (¬10) وكم وما، وهي (¬11) أَيْضًا مِنْ ثَوَانِي حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَعَدَلْتَ عَنِ اللام (¬12) من حروفه (¬13)، فهذا (¬14) سؤال ثان عن حكمة ثانية، ولأي معنيان (¬15) في ¬

=الفارسية التي ذكرهاالملك، ثم قال: فرد مناظره وطرده. (¬1) ساقطة من (م)، وفي (ت) كتبت فوق السطر. (¬2) المعروف عن علم الكلام أن ضرره أكثر من نفعه، وما فيه من نفع فقليل، والوصول إليه عسير، ثم إن في كتاب الله وسنة رسوله من البراهين والحجج العقلية ما يكفي في الرد على الملاحدة وغيرهم، فإذا وجد الإنسان من نفسه قصوراً عن مناظرة الملاحدة وإفحامهم، فقد يكون من تقصيره في تدبر حجج الله، وقد يكون من ضعفه الشخصي، وعدم قدرته على الجدل، ثم إني لا أرى في القصة ما يثنى به على علم الكلام، فضلاً عن أن يقال إنه عمدة من عمد الإسلام. وانظر: ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن الغزالي في ذم الكلام، وبيان قلة جدواه وهو كلام خبير به. درء تعارض العقل والنقل (7/ 163). (¬3) في (خ) و (ط): "وأنا حين". (¬4) ساقطة من (ط). (¬5) في (م) و (ت): "نفساً"، وفي (خ) و (ط): "تنفس". (¬6) في العواصم: "فرددت وجهي إلى أبي الفتح الإمامي". (¬7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "الإمام". (¬8) في (خ) و (ط): "نظر". (¬9) ساقطة من (م) و (ت) و (ر). (¬10) في (خ) و (ط): "وأنى". (¬11) في (خ) و (ت) و (ط): "هي" بدون الواو. (¬12) في (ر) والعواصم: "الأم". (¬13) في العواصم: "وعدلت من اللام عن حروفه". (¬14) في (خ) و (ط): "وهذا". (¬15) في (خ) و (ط): "وهو أن لأي معنيين"، والمثبت هو ما في (م) و (ت)، وكذلك في العواصم.

الِاسْتِفْهَامِ. فَأَيَّ الْمَعْنَيَيْنِ قَصَدْتَ بِهَا؟ وَلِمَ سَأَلْتَ بِحَرْفٍ مُحْتَمِلٍ؟ وَلَمْ تَسْأَلْ بِحَرْفٍ مُصَرِّحٍ بِمَعْنًى واحد؟ هل وقع ذلك منك (¬1) بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدِ حِكْمَةٍ؟ أَمْ بِقَصْدِ حِكْمَةٍ؟ فَبَيِّنْهَا لَنَا. فَمَا هُوَ إِلَّا أَنِ افْتَتَحْتُ هَذَا الْكَلَامَ، وَانْبَسَطْتُ فِيهِ، وَهُوَ يَتَغَيَّرُ، حَتَّى اصْفَرَّ آخِرًا مِنَ الْوَجَلِ، كَمَا اسْوَدَّ أَوَّلًا مِنَ الْحِقْدِ، وَرَجَعَ أَحَدُ أَصْحَابِهِ الَّذِي كَانَ عَنْ (¬2) يَمِينِهِ إِلَى آخَرَ كَانَ بِجَانِبِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الصَّبِيُّ إِلَّا بَحْرٌ زَاخِرٌ مِنَ الْعِلْمِ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ قَطُّ، وهم ما (¬3) رأوا أحداً (¬4) بِهِ رَمَقٌ (إِلَّا أَهْلَكُوهُ) (¬5)، لِأَنَّ الدَّوْلَةَ لَهُمْ، وَلَوْلَا مَكَانُنَا مِنْ رِفْعَةِ دَوْلَةِ (¬6) مَلِكِ الشَّامِ، وأن (¬7) والي عكا (¬8) كان يحظينا (¬9)، مَا تَخَلَّصْتُ مِنْهُمْ فِي الْعَادَةِ أَبَدًا. وَحِينَ سَمِعْتُ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مِنْ إِعْظَامِي قُلْتُ: هَذَا مَجْلِسٌ عَظِيمٌ، وَكَلَامٌ طَوِيلٌ، يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْصِيلٍ، وَلَكِنْ نَتَوَاعَدُ (¬10) إِلَى يَوْمٍ آخَرَ، وَقُمْتُ وَخَرَجْتُ فَقَامُوا كُلُّهُمْ مَعِي، وَقَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ تَبْقَى قَلِيلًا، فَقُلْتُ: لَا، وَأَسْرَعْتُ حَافِيًا وَخَرَجْتُ عَلَى الْبَابِ أَعْدُو (¬11) حَتَّى أَشْرَفْتُ عَلَى قَارِعَةِ الطريق وبقيت هنالك (¬12) مُبَشِّرًا نَفْسِي بِالْحَيَاةِ، حَتَّى خَرَجُوا (بَعْدِي وَأَخْرَجُوا) (¬13) لي لا لكي (¬14)، ¬

(¬1) زيادة في (غ). (¬2) ساقطة من (م)، وكتبت في (ت) فوق السطر. (¬3) ساقطة من (م)، وكتبت في (ت) فوق السطر. (¬4) في (ط): "واحداً". (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ت) و (غ)، وكتب في هامش (ت): "عله به رمق إلا هلكوه أو قتلوه". (¬6) في (م) و (ت): "الدولة". (¬7) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬8) في (خ) و (ت): "عكة". (¬9) قال في الصحاح: "ورجل حظي، إذا كان ذا حظوة ومنزلة، وقد حظي عند الأمير واحتظى به بمعنى". الصحاح (6/ 2316). (¬10) في (م) و (ر): "يتوعد". (¬11) (م): "أغدو" وفي (خ): "أعدوا". (¬12) في (ط): "هناك". (¬13) ما بين المعكوفين ساقط من (خ). (¬14) في (خ) و (ط): "لا يكي"، ويظهر أن المراد به الحذاء.

وَلَبِسْتُهَا (¬1) وَمَشَيْتُ مَعَهُمْ مُتَضَاحِكًا، وَوَعَدُونِي بِمَجْلِسٍ آخَرَ فَلَمْ أُوَفِّ لَهُمْ، وَخِفْتُ وَفَاتِي فِي وَفَائِي (¬2). قال ابن العربي: وقد كان (¬3) قَالَ لِي أَصْحَابُنَا النَّصْرِيَّةُ (¬4) بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: إِنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْفَتْحِ نَصْرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيَّ (¬5) اجتمع برئيس من الشيعة الإمامية (¬6)، فَشَكَا إِلَيْهِ فَسَادَ الْخَلْقِ، وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِخُرُوجِ الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ، فَقَالَ له (¬7) نصر: هل لخروجه ميقات أم لا؟ فقال الشِّيعِيُّ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ أَبُو الْفَتْحِ: وَمَعْلُومٌ هُوَ أَوْ مَجْهُولٌ؟ قَالَ: مَعْلُومٌ. قَالَ نَصْرٌ: وَمَتَى يَكُونُ؟ قَالَ: إِذَا فَسَدَ الْخَلْقُ. قَالَ أبو الفتح: فلم (¬8) تَحْبِسُونَهُ عَنِ الْخَلْقِ وَقَدْ (¬9) فَسَدَ جَمِيعُهُمْ إِلَّا أَنْتُمْ، فَلَوْ فَسَدْتُمْ لَخَرَجَ، فَأَسْرِعُوا بِهِ وَأَطْلِقُوهُ مِنْ سِجْنِهِ، وَعَجِّلُوا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَذْهَبِنَا، فَبُهِتَ. قال (¬10) وأظن أنه (¬11) سَمِعَهَا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْفَتْحِ سُلَيْمَانَ بْنِ أيوب الرازي (¬12) الزاهد (¬13). انتهى ما ¬

(¬1) في (غ): ولبست. (¬2) قال في العواصم: "وفي ترتيب الرحلة بقية الحديث". (ص71). (¬3) ساقطة من (ط). (¬4) الذي يظهر أن هذه النسبة إلى شيخهم نصر بن إبراهيم. (¬5) هو أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي، الفقيه، الشافعي، الإمام القدوة المحدث، صاحب كتاب الحجة على تارك المحجة، تفقه على الدارمي وغيره، وتفقه به الغزالي وغيره، وكان صاحب زهد وتقشف. توفي سنة 490هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 136)، شذرات المذهب (3/ 395)، العبر (3/ 329). (¬6) ساقطة من (م) و (ت)، وتقدم الكلام على الشيعة (ص23). (¬7) زيادة في (غ). (¬8) في (خ) و (ت) و (ط): "فهل". والمثبت هو ما في (م)، وهو كذلك في العواصم. (¬9) في (م): "قد" بدون واو. (¬10) زيادة في (غ). (¬11) في (خ) و (ط): "وأظنه". والمثبت هو ما في (م) و (ت)، وكذلك هو في العواصم. (¬12) هو سليم بن أيوب بن سليم، أبو الفتح، الرازي الشافعي، تفقه بأبي حامد الإسفراييني، وكان فقيهاً، محدثاً، مقرئاً، وقد سكن الشام مرابطاً، ناشراً للعلم احتساباً. توفي سنة 447هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 645)، العبر (3/ 213)، طبقات الشافعية (4/ 388). (¬13) إلى هنا ينتهي ما نقله المؤلف من كتاب العواصم لابن العربي. وهو في العواصم من (ص59) إلى (ص72)، مع وجود بعض الكلام الذي لم ينقله المؤلف.

حَكَاهُ ابْنُ (¬1) الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ غُنْيَةٌ لِمَنْ عرج على (¬2) تَعَرُّفِ أُصُولِهِمْ، وَفِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ. الْقِسْمُ (¬3) الثَّانِي: يَتَنَوَّعُ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَسْتَنْبِطْ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا اتَّبَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُسْتَنْبِطِينَ، لَكِنْ بِحَيْثُ أَقَرَّ بِالشُّبْهَةِ وَاسْتَصْوَبَهَا، وَقَامَ بِالدَّعْوَةِ بِهَا مَقَامَ مَتْبُوعِهِ، لِانْقِدَاحِهَا فِي قَلْبِهِ، فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ إِلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَلَكِنَّهُ تَمَكَّنَ حُبُّ الْمَذْهَبِ مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى عَادَى عَلَيْهِ وَوَالَى. وَصَاحِبُ هَذَا الْقِسْمِ لَا يَخْلُو مِنِ اسْتِدْلَالٍ وَلَوْ عَلَى أَعَمِّ مَا يَكُونُ. فَقَدْ يَلْحَقُ بِمَنْ نَظَرَ فِي الشُّبْهَةِ وَإِنْ كَانَ عَامِيًّا، لِأَنَّهُ (¬4) عَرَضَ نفسه (¬5) لِلِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ النَّظَرَ، وَلَا مَا يَنْظُرُ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَبْلُغُ مَنِ اسْتَدَلَّ (¬6) بِالدَّلِيلِ الْجُمْلِيِّ مَبْلَغَ مَنِ استدل على التفصيل،، وفرق ما (¬7) بَيْنَهُمَا فِي التَّمْثِيلِ: إِنَّ الْأَوَّلَ أَخَذَ شُبُهَاتٍ متبوعة (¬8) فَوَقَفَ وَرَاءَهَا، حَتَّى إِذَا طُولِبَ فِيهَا بِالْجَرَيَانِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ تَبَلَّدَ وَانْقَطَعَ، أَوْ خَرَجَ إِلَى مَا لَا يُعْقَلُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَحَسَّنَ الظَّنَّ بِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ فَتَبِعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى التَّفْصِيلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ، إِلَّا تَحْسِينُ الظن بالمتبوع (¬9) خَاصَّةً. وَهَذَا الْقِسْمُ فِي الْعَوَامِّ كَثِيرٌ. فَمِثَالُ الْأَوَّلِ: حَالُ حَمْدَانَ (¬10) بْنِ (¬11) قَرْمَطٍ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ القرامطة (¬12)، ¬

(¬1) في (ط): "أبى"، وفي (ت): "بن" بدون ألف. (¬2) في (خ) و (ط): "عن". (¬3) في (غ) و (ر): "والقسم". (¬4) مطموسة في (ت). (¬5) مثبتة في (غ) و (ر)، وساقطة من بقية النسخ. (¬6) في (خ) و (ط): "استدلال". (¬7) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط) و (غ). (¬8) في (خ) و (ط): "مبتدعة". (¬9) في (خ) و (ت) و (ط): "بالمبتدع". (¬10) في (خ) و (ت): "أحمد". (¬11) ساقطة من (غ) و (ر). (¬12) القرامطة نسبة إلى حمدان بن قرمط كما ذكر المؤلف، وهي دعوة إسماعيلية باطنية ابتدأت من سواد الكوفة على يد هذا الضال، وانتشرت، وعظمت مصيبتها حتى صارت تهدد الخلافة الإسلامية، وقد اتخذوا الأحساء عاصمة لهم، وهاجموا الحجيج، وقتلوا المسلمين في الحرم، وسرقوا الحجر الأسود زمناً، وهدف دعوتهم=

إذ كان أحد دعاة الباطنية القرامطة (¬1) فَاسْتَجَابَ لَهُ جَمَاعَةٌ نُسِبُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَائِلًا إِلَى الزُّهْدِ فَصَادَفَهُ (¬2) أحد دعاة الباطنية (في طريق) (¬3) وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى قَرْيَتِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَقَرٌ (¬4) يسوقها (¬5)، فقال له حمدان ـ وهو لا يعرفه ولا يعرف حاله (¬6) ـ: أَرَاكَ سَافَرْتَ عَنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ، فَأَيْنَ مَقْصِدُكَ؟ فَذَكَرَ مَوْضِعًا هُوَ قَرْيَةُ حَمْدَانَ، فَقَالَ لَهُ حمدان: اركب بقرة من هذه (¬7) الْبَقَرِ لِتَسْتَرِيحَ بِهِ عَنْ تَعَبِ الْمَشْيِ، فَلَمَّا رَآهُ مَائِلًا إِلَى الدِّيَانَةِ أَتَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُومَرْ (¬8) بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ (¬9): وَكَأَنَّكَ لَا تَعْمَلُ إِلَّا بِأَمْرٍ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ (¬10) حَمْدَانُ: وَبِأَمْرِ مَنْ تَعْمَلُ؟ قَالَ: بِأَمْرِ مَالِكِي وَمَالِكِكَ وَمَنْ لَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، قال: ذلك إذا (¬11) هو رب العالمين، قال: قد (¬12) صَدَقْتَ (¬13)، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهَبُ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ، قَالَ: وَمَا غَرَضُكَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أَنْتَ متوجه إليها؟ قال (¬14) أُمِرْتُ أَنْ أَدْعُوَ (¬15) أَهْلَهَا مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ، وَمِنَ الضَّلَالِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الشَّقَاوَةِ إِلَى السَّعَادَةِ، وَأَنْ أَسْتَنْقِذَهُمْ مِنْ (¬16) وَرَطَاتِ الذُّلِّ والفقر، وأملكهم بما يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنِ الْكَدِّ (¬17) وَالتَّعَبِ، فَقَالَ لَهُ حمدان: أنقذني أنقذك الله، وأفض على ¬

=نشر الإلحاد، وإبطال الشرائع، عن طريق الدعوة السرية، وأخذ المواثيق والعهود للإمام. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي (ص213 وما بعدها)، تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص126)، دراسة عن الفرق لأحمد الجلي (ص288). (¬1) زيادة في (غ). (¬2) في (م) و (خ) و (ت): "فصاده". (¬3) ساقط من (خ) و (ط). (¬4) في (م): "معز". (¬5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "يسوقه". (¬6) في (ط): "وهو لا يعرف حاله". (¬7) في (م) و (خ) وت) و (ط): "هذا". (¬8) في (خ) و (ط): "إني لم أومن بل أومر". (¬9) ساقطة من (م) و (ت) و (غ). (¬10) في (غ): "قال". (¬11) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬12) ساقطة من (م) و (ت) و (ط) و (غ). (¬13) في (م) و (ت): "قصدت". (¬14) في (م) و (غ): "فقال". (¬15) في (خ) و (ت): و (ط) و (غ): "أدعوا" بالألف بعد الواو. (¬16) ساقطة من (م) و (ت). (¬17) في (غ) و (ر): "الكل".

من العلم ما تحييني (¬1) به، فما أشد احتياجي إلى مثل (¬2) مَا (ذَكَرْتَهُ (¬3)، فَقَالَ لَهُ (¬4): وَمَا أُمِرْتُ) (¬5) أَنْ أُخْرِجَ السِّرَّ الْمَكْنُونَ إِلَى كُلِّ (¬6) أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ الثِّقَةِ بِهِ، وَالْعَهْدِ (إِلَيْهِ، فَقَالَ) (¬7): فَمَا (¬8) عَهْدُكَ؟ فَاذْكُرْهُ فَإِنِّي مُلْتَزِمٌ لَهُ. فَقَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِي وَلِلْإِمَامِ عَهْدَ اللَّهِ عَلَى (¬9) نَفْسِكَ (¬10) وَمِيثَاقَهُ (¬11) أَلَّا تُخْرِجَ سِرَّ الْإِمَامِ الَّذِي أُلْقِيهِ إِلَيْكَ، وَلَا تُفْشِي سِرِّي أَيْضًا، فَالْتَزَمَ حَمْدَانُ عَهْدَهُ، ثُمَّ انْدَفَعَ (¬12) الدَّاعِي فِي تَعْلِيمِهِ فُنُونَ جَهْلِهِ، حَتَّى اسْتَدْرَجَهُ وَاسْتَغْوَاهُ، وَاسْتَجَابَ (¬13) لَهُ فِي جَمِيعِ مَا ادَّعَاهُ، ثُمَّ انْتُدِبَ لِلدَّعْوَةِ، وَصَارَ أَصْلًا (¬14) مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، فَسُمِّيَ أَتْبَاعُهُ القرامطة (¬15). ومثال الثاني ما حكاه الله تعالى (عن الكفار) (¬16) فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا .. } (¬17)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ *} (¬18). وَحَكَى الْمَسْعُودِيُّ (¬19): أَنَّهُ كَانَ فِي أَعْلَى صَعِيدِ مصر رجل من القبط ¬

(¬1) في (م): "يحييني". (¬2) في (خ) و (ط): "لمثل". (¬3) في (خ) و (ط): "ذكرت". (¬4) ساقطة من (م). (¬5) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬6) ساقطة من (غ) و (ر). (¬7) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬8) في (م) و (غ): "ما". (¬9) بياض في (ت). (¬10) في (م): "ونفسك"، وفي (ت) الواو والنون في البياض. (¬11) في (خ) و (ط): "وميثاقك". (¬12) ساقطة من (ت). (¬13) نصف الكلمة الأول يقع في البياض في (ت). (¬14) في (ت): "أصيلاً". (¬15) ذكر هذه القصة بتمامها الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص127). (¬16) ما بين المعكوفين ساقط من (ط). (¬17) سورة المائدة: آية (104). (¬18) سورة الشعراء: الآيتان (72 ـ 74). (¬19) هو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي من ذرية ابن مسعود، عداده في البغاددة، نزل مصر مدة، وكان أخبارياً، صاحب ملح وغرائب وعجائب وفنون، وله كتاب مروج الذهب وغيره من التواريخ، كان معتزلياً. مات سنة 345هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 569)، شذرات الذهب (2/ 371)، العبر (2/ 269).

ممن يظهر دين النصرانية (ورأي اليعقوبية) (¬1)، وَكَانَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ (¬2)، فَاسْتَحْضَرَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، مِنْ جُمْلَتِهَا: أَنَّهُ أَمَرَ فِي بَعْضِ الأيام ـ وقد أحضر مَجْلِسَهُ ـ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ لِيَسْأَلَهُ (¬3) عَنِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فقال: دليلي على صحتها وجودي إِيَّاهَا مُتَنَاقِضَةً مُتَنَافِيَةً، تَدْفَعُهَا الْعُقُولُ، وَتَنْفِرُ مِنْهَا (¬4) النُّفُوسُ، لِتَبَايُنِهَا وَتَضَادِّهَا، لَا نَظَرَ يُقَوِّيهَا، وَلَا جَدَلَ يُصَحِّحُهَا، وَلَا بُرْهَانَ يُعَضِّدُهَا مِنَ الْعَقْلِ والحس عند أهل التأمل فيها (¬5)، وَالْفَحْصِ عَنْهَا، وَرَأَيْتُ مَعَ ذَلِكَ أُمَمًا كَثِيرَةً، وَمُلُوكًا عَظِيمَةً، ذَوِي مَعْرِفَةٍ، وَحُسْنِ سِيَاسَةٍ، وَعُقُولٍ رَاجِحَةٍ، قَدِ انْقَادُوا إِلَيْهَا، وَتَدَيَّنُوا بِهَا، مَعَ مَا ذَكَرْتُ مِنْ تَنَاقُضِهَا فِي الْعَقْلِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوهَا، وَلَا تَدَيَّنُوا بِهَا، إِلَّا لدلائل (¬6) شاهدوها، وآيات علموها (¬7)، وَمُعْجِزَاتٍ عَرَفُوهَا، أَوْجَبَ انْقِيَادَهُمْ إِلَيْهَا، وَالتَّدَيُّنَ بِهَا. فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: وَمَا (¬8) التَّضَادُّ الَّذِي فِيهَا؟ (¬9) فَقَالَ: وَهَلْ يُدْرَكُ ذَلِكَ أَوْ تُعْلَمُ غَايَتُهُ؟ مِنْهَا: قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ، وَوَصْفُهُمْ لِلْأَقَانِيمِ وَالْجَوْهَرِ وَهُوَ الثَّالُوثِيُّ (¬10)، وَهَلِ الأقانيم في أنفسها قادرة عالمة أم ¬

(¬1) ما بين المعكوفين ـ أثبته من (غ) و (ر)، وهو ساقط من بقية النسخ. (¬2) هو أبو العباس أحمد بن طولون التركي، صاحب مصر، أجاد حفظ القرآن، وطلب العلم، وتنقلت به الأحوال، وتأمر، وولي ثغور الشام، ثم إمرة دمشق، ثم ولي الديار المصرية، وكان بطلاً، شجاعاً، جواداً، من دهاة الملوك، وكان جيد الإسلام، معظماً لشعائر الله. توفي بمصر سنة 270هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 94)، الوافي بالوفيات (6/ 430)، النجوم الزاهرة (3/ 1 ـ 21). (¬3) في (م): "يسأله"، والكلمة غير واضحة في (ت). (¬4) كتبت مرتين في (ت)، وكتب في هامشها "عله فيها". (¬5) في (م) و (ت) و (غ): "لها". (¬6) في (غ) و (ر): بدلائل. (¬7) مثبتة في (غ)، وساقطة من بقية النسخ. (¬8) في (خ): "وأما". (¬9) مطموسة في (ت). (¬10) أراد النصارى قاتلهم الله أن يوفقوا بين عقيدتهم الشركية القائلة بثلاثة آلهة وهم الأب والابن وروح القدس، وبين ما في التوراة من نصوص التوحيد والنهي عن الشرك، فقالوا بأن الأب والابن وروح القدس أقانيم، وهي في نفس الوقت جوهر واحد وإله=

لَا؟ وَفِي اتِّحَادِ رَبِّهِمُ الْقَدِيمِ بِالْإِنْسَانِ الْمُحْدَثِ، وَمَا جَرَى فِي وِلَادَتِهِ (¬1) وَصَلْبِهِ وَقَتْلِهِ. وَهَلْ في التشنيع أكبر وأفحش من إله قد (¬2) صُلِبَ وَبُصِقَ فِي (¬3) وَجْهِهِ، وَوُضِعَ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلُ الشَّوْكِ، وَضُرِبَ رَأْسُهُ بِالْقَضِيبِ، وَسُمِّرَتْ قَدَمَاهُ، ونخس (¬4) بِالْأَسِنَّةِ وَالْخَشَبِ جَنْبَاهُ. وَطَلَبَ (¬5) الْمَاءَ (¬6) فَسُقِيَ الْخَلَّ مِنْ بِطِّيخِ الْحَنْظَلِ؟ فَأَمْسَكُوا عَنْ مُنَاظَرَتِهِ، لِمَا قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده (¬7). انتهى. وَالشَّاهِدُ مِنَ الْحِكَايَةِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الشُّيُوخِ وَالْآبَاءِ من غير برهان ولا دليل، (ولا شبهة دَلِيلٍ) (¬8). الْقِسْمُ الثَّالِثُ: يَتَنَوَّعُ أَيْضًا وَهُوَ الَّذِي قَلَّدَ غَيْرَهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْهُ، بِنَاءً عَلَى التَّسَامُعِ الْجَارِي بَيْنَ الْخَلْقِ بالنسبة إلى رجوع (¬9) الْجَمِّ (¬10) الْغَفِيرِ إِلَيْهِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ مِنْ عالم وغيره، وتعظيمهم له بخلاف ذلك (¬11) الْغَيْرِ، أَوْ لَا يَكُونُ ثَمَّ مَنْ هُوَ أولى منه، لكنه لَيْسَ فِي إِقْبَالِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ ما يبلغ تلك الرتبة، فإن ¬

=واحد ورب واحد، وأخذوا يحملون النصوص ما لا تحتمل لإثبات شركهم، فخالفوا كتب الله من ناحية، كما خالفوا العقول من ناحية أخرى. انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (2/ 245)، محاضرات في النصرانية لأبي زهرة (ص120). (¬1) في (م) و (غ) و (ر): "ولادة". (¬2) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬3) مطموسة في (ت). (¬4) رسمت في (خ) هكذا "نخـ"، وفي (ط): "نخز". (¬5) في (خ): "وطلبت"، وفي (م): "وصَلُبَ". (¬6) ساقطة من (م). (¬7) لم أجد هذه القصة في مروج الذهب للمسعودي، فلعلها في كتابه أخبار الزمان، وهو كتاب يقع في ثلاثين مجلداً، وهو مفقود عدا أحد أجزائه فإنه مخطوط. انظر: الأعلام للزركلي (4/ 27). (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط). (¬9) ساقطة من (خ) و (ط). (¬10) في (غ): "الجماء". (¬11) زيادة من (غ) و (ر).

كَانَ هُنَاكَ (¬1) مُنْتَصِبُونَ، فَتَرَكَهُمْ هَذَا الْمُقَلِّدُ، وَقَلَّدَ غَيْرَهُمْ فَهُوَ آثِمٌ، إِذْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى مَنْ أُمِرَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، بَلْ تَرَكَهُ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِأَخْسَرِ (¬2) الصَّفْقَتَيْنِ، فَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ، إِذْ قلد دِينِهِ (¬3) مَنْ لَيْسَ بِعَارِفٍ بِالدِّينِ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ (¬4)، فَعَمِلَ بِالْبِدْعَةِ (وَهُوَ يَظُنُّ) (¬5) أَنَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ (¬6) الْمُسْتَقِيمِ. وَهَذَا (¬7) حَالُ مَنْ بُعِثَ فِيهِمْ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ) (¬8) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ تركوا دينه (¬9) الْحَقَّ، وَرَجَعُوا إِلَى بَاطِلِ (آبَائِهِمْ، وَلَمْ يَنْظُرُوا) (¬10) نظر المستبصر حتى يُفَرِّقُوا (¬11) بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَغَطَّى الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ دُونَ (¬12) أَنْ يُبْصِرُوا الطَّرِيقَ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ هَذَا النوع. وقل ما تَجِدُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ إِلَّا وَهُوَ يُوَالِي فِيمَا ارْتَكَبَ وَيُعَادِي بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ. خَرَّجَ الْبَغْوِيُّ (في معجمه) (¬13) عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ الْكِنَانِيِّ (¬14) أَنَّ رَجُلًا وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَأَخَذَ بِجَبْهَتِهِ فَنَبَتَتْ شَعْرَةٌ بِجَبْهَتِهِ (¬15) كَأَنَّهَا هُلْبَةُ (¬16) فَرَسٍ، قَالَ فَشَبَّ الْغُلَامُ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الْخَوَارِجِ أجابهم فسقطت الشعرة عن جبهته، فأخذه ¬

(¬1) في (م) و (غ) و (ر): "هنالك". (¬2) في (م) و (غ) و (ر): "بأخس". (¬3) في (خ) و (ط): "في دينه". (¬4) في (ت): "الظر". (¬5) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬6) في (م): "الطريق". (¬7) في (غ) و (ر): "وهذه". (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬9) في (خ) و (ط): "دينهم". (¬10) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬11) في (ط): "حتى لم يفرقوا". (¬12) بياض في (ت). (¬13) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬14) وقع جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬15) في (غ): "في جبهته". (¬16) في (خ) و (ت) و (ط): "سلفة"، وفي (م): "هلبة"، وفي هامشها الهلب بالضم الشعر كله أو ما غلظ منه. وقال في النهاية عن هلبات الفرس: "أي شعرات، أو خصلات من الشعر، واحدتها هلبة، والهلب الشعر. وقيل هو ما غلظ من شعر الذنب وغيره". النهاية في غريب الحديث (5/ 269).

أَبُوهُ فَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ (¬1)، قال فدخلنا عليه فوعظناه وَقُلْنَا لَهُ: أَلَمْ تَرَ بَرَكَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَتْ؟ قَالَ: فَلَمْ نَزَلْ (¬2) بِهِ (¬3) حَتَّى رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِمْ، قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الشَّعْرَةَ فِي جَبْهَتِهِ إِذْ تاب (¬4). وإن لم يكن هناك منتصبون إلا (¬5) هَذَا الْمُقَلِّدِ الْخَامِلِ بَيْنَ النَّاسِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ مَنْصِبَ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَفِي تَأْثِيمِهِ نَظَرٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ آثِمٌ. وَنَظِيرُهُ مَسْأَلَةُ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ (¬6)، الْعَامِلِينَ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ، وَاسْتِقَامَةً (¬7) لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِمْ، مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ فِي حُكْمِهِمْ: إِنَّهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ غابت ¬

(¬1) في (ط): "يلحق بهم أحد". (¬2) في (م) و (ت) و (غ): "يزل". (¬3) ساقطة من (م) و (ت) و (غ). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 456)، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، ضعيف. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (4734)، والكاشف للذهبي (3975). (¬5) في جميع النسخ "إلى"، عدا (غ) و (ر). (¬6) وهم الذين كانوا في الأزمنة التي فيها انقطاع من الرسل، وقد اختلف العلماء في حكمهم، وأرجح الأقوال فيهم أن الله يمتحنهم يوم القيامة، وبذلك ورد الحديث، فعن الأسود بن سريع أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة، فيقول رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار قال فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً". رواه أحمد (4/ 24)، والإمام البيهقي في الاعتقاد والهداية (ص111)، وصحح إسناده، ورواه ابن أبي عاصم في السنة عن أبي هريرة (1/ 176)، وعزاه الهيثمي إلى أحمد والبزار والطبراني، وقال عن لفظ أحمد والبزار: ورجاله رجال الصحيح. المجمع (7/ 219)، وصححه الشيخ الألباني. انظر: ظلال الجنة (1/ 176)، والسلسلة الصحيحة برقم (1434). وانظر المسألة في: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/ 401)، طريق الهجرتين لابن القيم (ص396)، أضواء البيان للشنقيطي (3/ 374). (¬7) في (خ) و (ط) و (غ): "واستنامه".

عَلَيْهِ (¬1) الشَّرِيعَةُ، وَلَمْ يَدْرِ مَا (¬2) يَتَقَرَّبُ بِهِ (¬3) إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، (فَوَقَفَ عَنِ الْعَمَلِ) (¬4) بِكُلِّ مَا يَتَوَهَّمُهُ الْعَقْلُ (¬5) أَنَّهُ يُقَرِّبُ (¬6) إِلَى اللَّهِ، وَرَأَى مَا أَهْلُ عَصْرِهِ عَامِلُونَ بِهِ، مِمَّا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ مُسْتَنَدٌ إِلَّا اسْتِحْسَانُهُمْ، فَلَمْ يَسْتَفِزَّهُ (¬7) ذَلِكَ عَلَى (¬8) الْوُقُوفِ عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الدَّاخِلُونَ حَقِيقَةً تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (¬9). وَقِسْمٌ لَابَسَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِ مِنْ عبادة غير الله، والتحريم والتحليل (¬10) بالرأي، ووافقهم (¬11) في اعتقاد ما اعتقدوه من الباطل، فهؤلاء قد (¬12) نص العلماء على أنهم غير معذورين، وأنهم (¬13) مُشَارِكُونَ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ فِي الْمُؤَاخَذَةِ، لِأَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ في العمل والموالاة والمعادات على تلك الشرعة (¬14)، فصاروا (¬15) مِنْ أَهْلِهَا، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا (¬16). وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُطْلِقُ الْعِبَارَةَ وَيَقُولُ (¬17): كَيْفَمَا كَانَ لَا يُعَذَّب أحد إلا بعد مجيء (¬18) الرُّسُلِ وَعَدَمِ الْقَبُولِ مِنْهُمْ، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ قَوْلًا هَكَذَا، فَنَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَأْتِيَ عَالِمٌ أَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْتَصِبِ يُبَيِّنُ السُّنَّةَ مِنَ الْبِدْعَةِ، فَإِنْ رَاجَعَهُ هَذَا الْمُقَلِّدُ فِي أَحْكَامِ دِينِهِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْأَوَّلِ، فَقَدْ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْعُقَلَاءِ وَرَجَاءَ (¬19) السلامة، وإن اقتصر على الأول ¬

(¬1) في (غ): "عنده"، وفي (ر): "عنه". (¬2) في (غ): "بما". (¬3) ساقطة من (م) و (ت) و (غ). (¬4) ما بين المعكوفين غير واضح في (ت). (¬5) في (غ): "الحق العقل". (¬6) في (م) و (غ): "تقرب"، وغير واضح في (ت). (¬7) في (غ) و (ر): "يستفززه". (¬8) في (غ) و (ر): "عن". (¬9) سورة الإسراء: آية (15). (¬10) في (غ): "التحليل والتحريم". (¬11) في (خ) و (ت) و (ط): "ووافقوهم". (¬12) ساقطة من (خ) و (ط). (¬13) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬14) في (غ): الشريعة. (¬15) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فصار". (¬16) سيزيد المؤلف هذا الموضوع بياناً في الفصل الآتي. (¬17) في (غ) و (ر): "فيقول". (¬18) زيادة في (غ) و (ر). (¬19) في (خ) بغير همزة، وكتب في هامش (ت): "ورجى" على أنها نسخة أخرى، وهو=

ظهر عناده، لأنه مع هذا الفرق لَمْ يَرْضَ بِهَذَا الطَّارِئِ، وَإِذَا لَمْ يَرْضَهُ كَانَ (¬1) ذَلِكَ لِهَوًى دَاخَلَهُ، وَتَعَصُّبٍ جَرَى فِي قَلْبِهِ مَجْرَى الكَلَب (¬2) فِي صَاحِبِهِ، وَهُوَ إِذَا بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ لَمْ يَبْعُدْ (¬3) أَنْ يَنْتَصِرَ لِمَذْهَبِ صَاحِبِهِ، وَيُحَسِّنَهُ (¬4)، وَيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي عُمُومِيَّتِهِ. وَحُكْمُهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ قَبْلَهُ. فَأَنْتَ تَرَى صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ بُعِثَ إِلَى أصحاب (¬5) أهواء (¬6) وبدع قد (¬7) اسْتَنَدُوا إِلَى آبَائِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ فِيهَا، وَرَدُّوا مَا جَاءَ (بِهِ النَّبِيُّ) (¬8) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَطَّى عَلَى قُلُوبِهِمْ رَيْنُ الْهَوَى حَتَّى (الْتَبَسَتْ عَلَيْهِمُ الْمُعْجِزَاتُ) (¬9) بِغَيْرِهَا ـ كَيْفَ صَارَتْ شَرِيعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ (¬10) وَالْعُمُومِ، وَصَارَ الْمَيِّتُ مِنْهُمْ مَسُوقًا (¬11) إِلَى النَّارِ (عَلَى الْعُمُومِ) (¬12)، مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمُعَانِدِ صَرَاحًا وَغَيْرِهِ، وَمَا (¬13) ذَاكَ إِلَّا لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، بِمُجَرَّدِ بَعْثَتِهِ (¬14) وَإِرْسَالِهِ لَهُمْ مُبَيِّنًا لِلْحَقِّ الَّذِي خَالَفُوهُ. فَمَسْأَلَتُنَا شَبِيهَةٌ بِذَلِكَ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْحَزْمِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَمَنْ تَابَعَ الْهَوَى خيف عليه الهلاك، وحسبنا الله. ¬

=معطوف على الاحتياط، وإن كان غير مهموز فهو معطوف على أخذ، على أنه فعل ماض. (¬1) ساقطة من (غ). (¬2) هو الداء المعروف، وتقدم (ص231). (¬3) في (غ) و (ر): "يعد". (¬4) ساقطة من (ط). (¬5) غير واضحة في (ت). (¬6) في (م): "أهوى". (¬7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "وقد". (¬8) غير واضح في (ت). (¬9) ما بين المعكوفين غير واضح في (ت). (¬10) في (ت): "الطلاق". (¬11) في (غ): "مسبوقاً". (¬12) ساقط من (غ). (¬13) في (م) و (ت) و (غ): "ما" بدون الواو. (¬14) في (غ): "بعثته إليهم"، وفي (ر): "بعثه".

فصل

فصل وَلْنَزِدْ هَذَا الْمَوْضِعَ شَيْئًا مِنَ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ أَكِيدٌ، لِأَنَّهُ (¬1) تَحْقِيقُ مَنَاطِ (¬2) الْكِتَابِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ. فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِنَّ لَفْظَ "أَهْلِ الْأَهْوَاءِ"، وَعِبَارَةَ "أَهْلِ الْبِدَعِ" إِنَّمَا تُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى الَّذِينَ ابْتَدَعُوهَا، وَقَدَّمُوا (¬3) فِيهَا شَرِيعَةَ (¬4) الْهَوَى، بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالنَّصْرِ لَهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّتِهَا فِي زَعْمِهِمْ، حَتَّى عُدَّ خِلَافُهُمْ خِلَافًا، وَشُبَهُهُمْ مَنْظُورًا فِيهَا، وَمُحْتَاجًا إِلَى رَدِّهَا وَالْجَوَابِ عنها، كما تقول فِي أَلْقَابِ الْفِرَقِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ (¬5) وَالْقَدَرِيَّةِ (¬6) وَالْمُرْجِئَةِ (¬7) والخوارج (¬8) والباطنية (¬9) ومن أشبههم فإنها (¬10) أَلْقَابٌ لِمَنْ قَامَ بِتِلْكَ النِّحَلِ، مَا بَيْنَ مُسْتَنْبِطٍ لَهَا، وَنَاصِرٍ لَهَا، وَذَابٍّ عَنْهَا، كَلَفْظِ "أَهْلِ (¬11) السُّنَّةِ"، إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى نَاصِرِيهَا (¬12)، وَعَلَى من استنبط على وفقها، والحامين (¬13) لذمارها (¬14). ¬

(¬1) في (م) و (غ): "فإنه". (¬2) مناط الشيء علته. انظر: علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف (ص68). (¬3) في (م) و (ت): "وأقوموا"، وفي هامش (ت): "وقدموا"، وفي (غ) و (ر): "وأقاموا". (¬4) في (غ) و (ر): "شرعة". (¬5) تقدم التعريف بهم (ص29). (¬6) تقدم التعريف بهم (ص11). (¬7) تقدم التعريف بهم (ص27). (¬8) تقدم التعريف بهم (ص11). (¬9) تقدم التعريف بهم (ص28). (¬10) في (خ) و (ت) و (ط): "بأنها". (¬11) ساقطة من (ر). (¬12) في (ر): "ناصر لها". (¬13) في (م) و (غ): "والحاملين على لذمارها"، وفي (ت): "والحاملين لذمارها". قال في الصحاح: الذمار: ما وراء الرجل مما يحق عليه أن يحميه. (2/ 665). (¬14) وكذلك يدخل العوام في مسمى أهل السنة والجماعة، إذا اقتدوا بأئمة أهل السنة وهم الصحابة وخيار التابعين وأهل الحديث. انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (2/ 271).

وَيُرَشِّحُ ذَلِكَ (¬1) أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (¬2) يشعر بإطلاق اللفظ على من فعل (¬3) ذَلِكَ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ التَّفْرِيقُ، وَلَيْسَ إِلَّا الْمُخْتَرِعُ أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (¬4)، وقوله تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (¬5)، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ مُخْتَصٌّ بِمَنِ انْتَصَبَ مَنْصِبَ الْمُجْتَهِدِ (¬6) لَا بِغَيْرِهِمْ (¬7). وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عالم اتخذ الناس رؤوساً (¬8) جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم" (¬9)، فأقاموا (¬10) أَنْفُسَهُمْ مَقَامَ الْمُسْتَنْبِطِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، الْمُقْتَدَى (¬11) بِهِ فِيهَا، بِخِلَافِ الْعَوَامِّ، فَإِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ، لِأَنَّهُ (¬12) فَرْضُهُمْ، فَلَيْسُوا بِمُتَّبِعِينَ لِلْمُتَشَابِهِ حَقِيقَةً، وَلَا هُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى. وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا يُقَالُ لَهُمْ كَائِنًا مَا كَانَ، فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْعَوَامِّ لَفْظُ "أَهْلِ الْأَهْوَاءِ" حَتَّى يخوضوا بأنظارهم فيها، ويحسنوا بها (¬13) وَيُقَبِّحُوا. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ لِلَفْظِ "أَهْلِ الْأَهْوَاءِ" و"أهل البدع" مدلول واحد، وهو من (¬14) انتصب للابتداع ولترجيحه على غيره. أما (¬15) أهل الغفلة عن ذلك، والسالكون سبيل (¬16) رُؤَسَائِهِمْ (¬17) بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، فَلَا (¬18). ¬

(¬1) ساقطة من (م) و (ت). (¬2) سورة الأنعام: آية (159). (¬3) في (خ) و (ط): "جعل"، وهي غير واضحة في (ت). (¬4) سورة آل عمران: آية (105). (¬5) سورة آل عمران: آية (7). (¬6) ساقطة من (غ). (¬7) في (خ) و (ط): "لا بغير". (¬8) في (خ) و (غ): "رؤساء"، وكلاهما روايتان في الحديث. (¬9) تقدم تخريج الحديث (ص125). (¬10) في (خ) و (ط): "لأنهم قاموا". (¬11) في (خ): "المنتدا". (¬12) في (ت): "لأن". (¬13) في (خ) و (ط): "ويحسنوا بنظرهم". (¬14) في (خ) و (ط): وهو أن من انتصب .. ". (¬15) في (ط): "وأما". (¬16) في (خ) و (ط): "سبل". (¬17) في (غ) و (ر): وسائلهم. (¬18) سوف يبين المؤلف فيما يأتي أن المقلدين لأئمة المبتدعة عندهم نوع استدلال يدخلهم في مسمى أهل الابتداع.

فَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا تَحْتَوِي عَلَى قِسْمَيْنِ: مُبْتَدِعٍ وَمُقْتَدٍ بِهِ. فَالْمُقْتَدِي بِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعِبَارَةِ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِدَاءِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ التبع (¬1)، وَالْمُبْتَدِعُ هُوَ الْمُخْتَرِعُ، أَوِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الِاخْتِرَاعِ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ قَبِيلِ الْخَاصِّ (¬2) بِالنَّظَرِ (¬3) فِي الْعِلْمِ، أَوْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ الْعَامِّيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ أَقْوَامًا قَالُوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (¬4)، فكأنهم استندوا (¬5) إِلَى دَلِيلٍ جُمْلِيٍّ، وَهُوَ الْآبَاءُ إِذْ (¬6) كَانُوا عندهم (¬7) من أهل العقل والنظر (¬8)، وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَلَيْسَ إِلَّا لِأَنَّهُ صَوَابٌ، فَنَحْنُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خطأ لما ذهبوا إليه. وهو نظير استدلال (¬9) مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ الْبِدْعَةِ بِعَمَلِ الشُّيُوخِ وَمَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالصَّلَاحِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ من أهل التقليد، ولا إلى (¬10) كَوْنِهِ يَعْمَلُ بِعِلْمٍ أَوْ بِجَهْلٍ (¬11)، وَلَكِنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ اسْتِدْلَالًا فِي الْجُمْلَةِ، مِنْ حَيْثُ جُعِلَ عُمْدَةً فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَاطِّرَاحِ مَا سِوَاهُ. فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَهُوَ آخِذٌ بِالْبِدْعَةِ (¬12) بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ، وَدَخَلَ فِي مُسَمَّى أَهْلِ الِابْتِدَاعِ (¬13)، إذ كان من حق من (¬14) هذا (¬15) سبيله أن ينظر في الحق إذ (¬16) جاءه، ويبحث عنه (¬17)، ويتأنى ويسأل حتى يتبين له الحق (¬18) فيتبعه، أو الباطل (¬19) فيجتنبه. ¬

(¬1) في (ط): "المتبع". (¬2) في (غ): "الخواص". (¬3) في (غ) و (ر): "بالناظرين". (¬4) سورة الزخرف: آية (22). (¬5) في (ط): "استدلوا". (¬6) في (خ) و (ط): "إذا". (¬7) في (م): "عنهم". (¬8) ساقطة من (خ) و (ط). (¬9) ساقطة من (خ) و (ط). (¬10) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬11) في (خ): "أو يجهل". (¬12) في (غ) و (ر): "للبدعة". (¬13) ساقطة من (م)، وفي (غ): "الابتداع". (¬14) ساقطة من (ت). (¬15) في (خ) و (ط): "من كان هذا سبيله". (¬16) في (خ) و (ط)؛ "أن". (¬17) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬18) ساقطة من (خ) و (ط). (¬19) في (م) و (غ): "والباطل".

وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَى الْمُحْتَجِّينَ بِمَا (¬1) تَقَدَّمَ: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} (¬2)، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (¬3)، فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (¬4)، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (¬5)، وأمثال ذلك كثير. وَعَلَامَةُ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ أَنْ يَرُدَّ خِلَافَ مذهبه بما قدر (¬6) عَلَيْهِ مِنْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ أَوْ إِجْمَالِيٍّ، وَيَتَعَصَّبُ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى غيره، وهو عين اتباع الهوى، (وإذا ظهر اتِّبَاعِ الْهَوَى) (¬7) فَهُوَ الْمَذْمُومُ حَقًّا، وَعَلَيْهِ يَحْصُلُ الإثم، فإن كان (¬8) مسترشداً مال إلى الحق حيثما (¬9) وَجَدَهُ، وَلَمْ يَرُدَّهُ. وَهُوَ (¬10) الْمُعْتَادُ فِي طَالِبِ الحق، ولذلك بادر المحقون (¬11) إِلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سِوَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنِ الْبِدْعَةِ، ولم يدخل مع المتعصبين (¬12)، لَكِنَّهُ عَمِلَ بِهَا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ مُعَذَّبُونَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِذَا اتَّبَعُوا مَنِ اخْتَرَعَ مِنْهُمْ، فَالْمُتَّبِعُونَ لِلْمُبْتَدَعِ إِذَا (¬13) لَمْ يَجِدُوا مُحِقًّا مُؤَاخَذُونَ أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُبْعَثَ لَهُمُ الرَّسُولُ (¬14) وَإِنْ عَمِلُوا بِالْكُفْرِ، فهؤلاء لا يؤاخذون ما لم يكن فيهم (¬15) محق (¬16)، فإذ ذاك ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "لما". (¬2) سورة الزخرف: آية (24). (¬3) سورة البقرة: آية (170). (¬4) نفس الآية السابقة. (¬5) سورة لقمان، آية (21). (¬6) ساقطة من (خ) و (ط). (¬7) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط). (¬8) في (خ) و (ط): "من كان". (¬9) في (خ) و (ط): "حيث". (¬10) في (غ): "وهذا". (¬11) في (ط): "المحققون". (¬12) في (خ) و (ط): "المتعاصيين"، وفي (م) و (ت): "المتعاصبين". (¬13) في (م): "إذ". (¬14) في (غ): "الرسل". (¬15) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فيه". (¬16) وإعذار المبتدع الجاهل الذي يشبه أهل الفترة هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في الفتاوى (35/ 164 ـ 165)، وقد فصل الكلام في هذه الأحكام وجمع أقوال العلماء فيها الأستاذ سعيد بن ناصر الغامدي في كتابه حقيقة البدعة وأحكامها (وهي رسالة جامعية) (2/ 223 ـ 327).

يُؤَاخَذُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ (¬1) مَعَهُ بَيْنَ (¬2) أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَّبِعُوهُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ فيتركوا ما هم عليه، وإما ألا يَتَّبِعُوهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ عِنَادٍ مَا وَتَعَصُّبٍ، فَيَدْخُلُونَ إِذْ ذَاكَ تَحْتَ عِبَارَةِ "أَهْلِ الْأَهْوَاءِ" فيأثمون. وكل (¬3) من (¬4) اتبع بيان بن (¬5) سَمْعَانَ (¬6) فِي بِدْعَتِهِ الَّتِي اشْتُهِرَتْ (¬7) عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، مقلداً لها (¬8) على حكم الرضى (¬9) بِهَا، وَرَدَّ مَا سِوَاهَا، فَهُوَ فِي الْإِثْمِ مَعَ مَنِ اتَّبَعَ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مَعْبُودَهُ في صورة إنسان (¬10)، وَأَنَّهُ (¬11) يَهْلِكُ كُلُّهُ إِلَّا وَجْهَهُ (¬12)، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ رُوحَ الْإِلَهِ حَلَّ فِي عَلِيٍّ، ثُمَّ فِي فُلَانٍ، ثُمَّ فِي بَيَانِ نَفْسِهِ (¬13). وَكَذَلِكَ مَنِ اتَّبَعَ الْمُغِيرَةَ (¬14) بْنَ (سَعِيدٍ) (¬15) الْعِجْلِيَّ (¬16) الَّذِي ادعى ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "إنه". (¬2) في (خ) كتب قوله: "معه بين" بلفظ "معذبين" وكأن الناسخ دمج الكلمتين معاً. (¬3) في (غ) و (ر): "فكل". (¬4) ساقطة من (م) و (ت). (¬5) ساقطة من (م) و (ت) و (خ) و (ط). (¬6) هو بيان بن سمعان التميمي، وهو من غلاة الشيعة القائلين بإلهية علي رضي الله عنه، فقد قال أنه حل في علي جزء إلهي، ثم انتقل من بعده في ابنه محمد بن الحنفية، ثم في أبي هاشم ولد ابن الحنفية، ثم في بيان نفسه، وقد دعا إلى نفسه وكتب إلى محمد بن علي بن الحسين الباقر يدعوه إلى نفسه، وقد قتله خالد بن عبد الله القسري بالعراق وأحرقه بالنار قبل عام 126هـ. انظر: الملل والنحل للشهرستاني (ص152)، ميزان الاعتدال للذهبي (1/ 357)، الفرق بين الفرق للبغدادي (ص194). (¬7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "استمرت". (¬8) في (خ) و (ط): "فيها". (¬9) في (خ) و (ط): "الرضاء" بالهمزة. (¬10) في (ط): "الإنسان". (¬11) في (م): "وأن". (¬12) في (خ) و (ط): "وجه". (¬13) انظر: هذه الضلالات المنقولة عنه في مراجع ترجمته. (¬14) في (م): "الغيرة". (¬15) في جميع النسخ: "سعد"، والصحيح "سعيد" كما في مصادر ترجمته. (¬16) هو المغيرة بن سعيد العجلي الذي تنسب إليه فرقة المغيرية من غلاة الشيعة، وكان مولى لخالد القسري، وقد ادعى النبوة، وغلا في حق علي رضي الله عنه وجاء بضلالات في وصف الخالق سبحانه، وقد قتله خالد القسري سنة 120هـ.=

النُّبُوَّةَ مُدَّةً، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَأَنَّ لِمَعْبُودِهِ أَعْضَاءً عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ، عَلَى كَيْفِيَّةٍ يَشْمَئِزُّ مِنْهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، إِلَى إِلْحَادَاتٍ أُخَرَ (¬1). وَكَذَلِكَ مَنِ اتَّبَعَ الْمَهْدِيَّ الْمَغْرِبِيَّ (¬2) الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ بِدَعِ الْمَغْرِبِ، فَهُوَ في التسمية والإثم (¬3) مَعَ مَنِ اتَّبَعَ، إِذَا انْتَصَبَ نَاصِرًا لَهَا، وَمُحْتَجًّا عَلَيْهَا. وَقَانَا اللَّهُ شَرَّ التَّعَصُّبِ عَلَى غير بصيرة من الحق بفضله ورحمته. ¬

=انظر: الملل والنحل للشهرستاني (ص176)، ميزان الاعتدال للذهبي (4/ 160)، الكامل لابن الأثير (4/ 428). (¬1) انظر: ما كان يقوله من ضلالات في مراجع ترجمته. (¬2) هو محمد بن عبد الله بن تومرت البربري، المدعى أنه علوي حسني، وأنه الإمام المعصوم، حصل أطرافاً من العلم، وألف عقيدة لقبها بالمرشدة، فيها توحيد وخير بانحراف، فحمل عليها أتباعه، وسماهم الموحدين، ونبز من خالف المرشدة بالتجسيم، وأباح دمه. توفي سنة 524هـ، وترجمته في السير فيها خير وشر، وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه دخل في أمور منكرة، وفعل أموراً حسنة. انظر: منهاج السنة (4/ 99)، سير أعلام النبلاء (19/ 539). وسوف يتكلم المؤلف عن بعض أعمال أتباعه في (ص320 ـ 321)، وكذلك في المجلد الثاني (من المطبوع) (2/ 226، 348). (¬3) في (خ) و (ط): "الإثم والتسمية"، وفي (غ): "وفي الإثم".

فصل

فصل وإذا (¬1) ثبت أن المبتدع آثم، فليس (¬2) الإثم الْوَاقِعُ عَلَيْهِ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ عَلَى مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ، (وَاخْتِلَافُهَا يَقَعُ مِنْ جِهَاتٍ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ، فَيَخْتَلِفُ) (¬3) مِنْ جِهَةِ كَوْنِ صاحبها (مدعياً للاجتهاد فيها أو مقلداً أو من جهة وقوعها في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، وكل مرتبة منها لها في نفسها مراتب، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ صَاحِبِهَا) (¬4) مُسْتَتِرًا بِهَا أَوْ معلناً، (ومن جهة كونه داعياً لها أو غير داع لها، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعَ الدُّعَاءِ إِلَيْهَا خَارِجًا عَلَى غَيْرِهِ أَوْ غَيْرَ خَارِجٍ) (¬5)، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ حَقِيقِيَّةً (¬6) أَوْ إِضَافِيَّةً، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا بَيِّنَةً أَوْ مُشْكِلَةً، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كُفْرًا أَوْ غَيْرَ كُفْرٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَوْ عَدَمِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي (¬7) يُقْطَعُ مَعَهَا بِالتَّفَاوُتِ فِي عِظَمِ الْإِثْمِ وَعَدَمِهِ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْعَالِمِ بِالْأُصُولِ، فَلَا (يَنْبَغِي أَنْ) (¬8) يُتْرَكَ التَّنْبِيهُ عَلَى وَجْهِ التَّفَاوُتِ بِقَوْلٍ جَمْلِيٍّ، فَهُوَ الْأَوْلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ. فَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ صَاحِبِهَا مُدَّعِيًا لِلِاجْتِهَادِ أَوْ مُقَلِّدًا فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ الزَّيْغَ فِي قَلْبِ النَّاظِرِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهَا أمكن منه (¬9) في قلب ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "إذا". (¬2) في (غ) و (ر): "فعليه". (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط). (¬4) ما بين المعكوفين أثبته من (غ) و (ر)، وسقط من بقية النسخ. (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط). (¬6) في (خ): "حقيقة". (¬7) في (ت): "الذي". (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط). (¬9) ساقطة من (م)، وكتبت في (ت) فوق السطر.

الْمُقَلِّدِ، وَإِنِ ادَّعَى النَّظَرَ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ النَّاظِرَ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِنَادِهِ إِلَى مُقَلَّدِهِ في بعض الأصول التي يبني عليها، والمقلد (¬1) قد انفرد بها دونه، فهو آخذ بحظ لَمْ (¬2) يَأْخُذْ فِيهِ الْآخَرُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُقَلِّدُ نَاظِرًا لِنَفْسِهِ، فَحِينَئِذٍ (¬3) لَا يَدَّعِي رُتْبَةَ التَّقْلِيدِ، فَصَارَ فِي دَرَجَةِ الْأَوَّلِ، وَزَادَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عمل بها. وهذا الثاني قد (¬4) عَمِلَ بِهَا، فَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ إِثْمِهِ مَا عَيَّنَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، فَوِزْرُهُ أَعْظَمُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَالثَّانِي دُونَهُ، لِأَنَّهُ إِنْ نَظَرَ وعاند (¬5) الحق، واحتج لرأيه، فليس له النظر (¬6) إلا فِي (¬7) أَدِلَّةٍ جُمْلِيَّةٍ لَا تَفْصِيلِيَّةٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ التَّفْصِيلِيَّةَ أَبْلَغُ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى عَيْنِ (¬8) الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْجُمْلِيَّةِ، فَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوِزْرِ (¬9) بِمِقْدَارِ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ (¬10) أَوْ غَيْرِهَا فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ سَتَأْتِي عِنْدَ التَّكَلُّمِ عَلَى أَحْكَامِ الْبِدَعِ (¬11). وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ الإسرار (¬12) والإعلان، فظاهر أن المسر (¬13) لها (¬14) ضَرَرُهُ (¬15) مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَعَلَى أَيِّ صُورَةٍ فُرِضَتِ الْبِدْعَةُ، مِنْ كَوْنِهَا كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَكْرُوهَةً (¬16)، هِيَ بَاقِيَةٌ على ¬

(¬1) في (خ) و (ت) و (ط): "أو المقلد". (¬2) في جميع النسخ: "ما لم" عدا (ر) و (غ). (¬3) في (ت) كتبت هكذا "فح"، وكذلك في (غ). (¬4) في (خ) و (ط): "من". (¬5) في (م): "وعناد". (¬6) ساقطة من (خ) و (ط). (¬7) ساقطة من (خ) و (ط). (¬8) في (غ) و (ر): "غير". (¬9) في (غ): "الوزن". (¬10) هي الضروريات الخمس، وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال. (¬11) وذلك في الباب السادس (2/ 38 ـ 49). (¬12) في (غ) و (ر): "الإصرار". (¬13) في (غ): "المصر". (¬14) في (ط): "بها". (¬15) في (غ) و (ر): "ضرورة". (¬16) تناول المؤلف هذه الأحكام للبدعة في الباب السادس (2/ 36، 57 ـ 72).

أَصْلِ حُكْمِهَا. فَإِذَا أَعْلَنَ بِهَا ـ وَإِنْ لَمْ يَدْعُ إِلَيْهَا ـ فَإِعْلَانُهُ بِهَا (¬1) ذَرِيعَةٌ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ. وَسَيَأْتِي ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ أَنَّ الذَّرِيعَةَ قَدْ تجري مجرى المتذرع إليه (¬2) أو تقاربه (¬3)، فَانْضَمَّ إِلَى وِزْرِ الْعَمَلِ بِهَا وِزْرُ نَصْبِهَا لمن يقتدى به فيها، فالوزر (¬4) فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ بِلَا إِشْكَالٍ. وَمِثَالُهُ مَا حَكَى الطَّرْطُوشِيُّ (¬5) فِي أَصْلِ الْقِيَامِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيِّ (¬6) قَالَ: "لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ هَذِهِ الَّتِي تُصَلَّى فِي رَجَبَ وَشَعْبَانَ (¬7). وَأَوَّلُ مَا أُحْدِثَتْ (¬8) عِنْدَنَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وأربعمئة، قدم علينا في بيت المقدس رجل (¬9) يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي الْحَمْرَاءِ، وَكَانَ حَسَنَ التِّلَاوَةِ، فَقَامَ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ انْضَافَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ وَرَابِعٌ، فَمَا خَتَمَهَا إِلَّا وَهُوَ (¬10) فِي جَمَاعَةٍ كَبِيرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَصَلَّى مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَشَاعَتْ فِي الْمَسْجِدِ، وَانْتَشَرَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَبُيُوتِ النَّاسِ وَمَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ اسْتَمَرَّتْ (¬11) كَأَنَّهَا سُنَّةٌ إِلَى يومنا هذا (¬12) ". ¬

(¬1) ساقطة من (غ) و (ر). (¬2) في (غ): "إليها". (¬3) في (خ) و (ط): "تفارقه"، والمسألة يأتي الكلام عليها في الباب الخامس (1/ 344). (¬4) في (خ) و (ط): "والوزر". (¬5) تقدمت ترجمته (ص285). (¬6) قال الإمام أبو شامة بعدما ذكر كلام الطرطوشي هنا: قلت: أبو محمد هذا أظنه عبد العزيز بن أحمد بن عمر بن إبراهيم المقدسي، روى عنه مكي بن عبد السلام الرميلي الشهيد، ووصفه بالشيخ الصالح الثقة، والله أعلم. انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص51). (¬7) قال الإمام أبو شامة في التعريف بهذه الصلاة: "وأما الألفية: فصلاة ليلة النصف من شعبان، سميت بذلك لأنها يقرأ فيها ألف مرة سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}، لأنها مئة ركعة، في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة وبعدها سورة الإخلاص عشر مرات، وهي صلاة طويلة مستثقلة .. ". الباعث على إنكار البدع (ص50). (¬8) في (م) و (غ): "حدثت". (¬9) في (خ) و (ط): "قدم علينا رجل في بيت المقدس". (¬10) في (م) و (ت): "وهم". (¬11) في (غ) و (ر): "استقرت". (¬12) ساقطة من (م) و (غ).

فقلت له: فأنا (¬1) رأيتك (¬2) تُصَلِّيهَا فِي جَمَاعَةٍ، قَالَ: "نَعَمْ! وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ منها" (¬3). وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا وَعَدَمِهَا (¬4)، فَظَاهَرٌ أَيْضًا، لِأَنَّ غَيْرَ الدَّاعِي، وَإِنْ كَانَ عرضه للاقتداء (¬5)، فَقَدْ لَا يُقْتَدَى بِهِ، وَيَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ (¬6) عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ خَامِلَ الذِّكْرِ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَهِرًا وَلَا يُقْتَدَى بِهِ لِشُهْرَةِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ الناس منزلة منه. وأما (¬7) الداعي (¬8) إذا دعى إليها فمظنة الاقتداء أحرى (¬9) وَأَظْهَرُ، وَلَا سِيَّمَا (¬10) الْمُبْتَدَعِ اللَّسِنِ (¬11) الْفَصِيحِ الْآخِذِ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، إِذَا أَخَذَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَأَدْلَى بِشُبْهَتِهِ (¬12) الَّتِي تُدَاخِلُ الْقَلْبَ بِزُخْرُفِهَا (¬13)، كَمَا كَانَ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ (¬14) يَدْعُو النَّاسَ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ، وَيَلْوِي بِلِسَانِهِ نسبته إلى الحسن البصري (¬15). ¬

(¬1) مثبتة في (غ) وساقطة من بقية النسخ. (¬2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فرأيتك". (¬3) ذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص266). (¬4) في (م) و (ت): "وعدمه". (¬5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "بالاقتداء". (¬6) في (م): "تداعيهم". (¬7) في (م) و (غ): "فأما". (¬8) ساقطة من (م) و (ت)، و (غ). (¬9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أقوى". (¬10) في (م) و (ت): "يسمى"، وهي ساقطة من (غ). (¬11) ساقطة من (غ). (¬12) في (غ): "بشبهه". (¬13) في (م): "يزخرفها". (¬14) هو المبتدع القدري معبد بن خالد الجهني، ويقال إنه ابن عبد الله بن عكيم. وهو أول من أظهر القدر بالبصرة في زمن الصحابة، وقد أخذ بدعته عن رجل نصراني يقال له سوسن، وقد أخذ عنه غيلان الدمشقي، وقتل معبد صلبا في زمن عبد الملك بن مروان سنة 80هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 185)، الكاشف للذهبي (3/ 142)، تقريب التهذيب (2/ 262). (¬15) الذي يظهر أن المراد "عمرو بن عبيد"، وليس "معبد الجهني"، لأن عمرو بن عبيد هو الذي أخذ عن الحسن، وهو الذي كان يكذب عليه، ويدل على أنه المراد القصة التي سيوردها المؤلف عنه.

فَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ (¬1): أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ (¬2) سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا، وَقَالَ: (هُوَ مِنْ رَأْيِ الْحَسَنِ) فَقَالَ لَهُ الرجل: إِنَّهُمْ (¬3) يَرْوُونَ عَنِ الْحَسَنِ خِلَافَ هَذَا، فَقَالَ: ((إِنَّمَا قُلْتُ) (¬4) لَكَ: هَذَا مِنْ رَأْيِي (¬5) الْحَسَنِ) يُرِيدُ نَفْسَهُ (¬6). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ (¬7): كَانَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ: (هَذَا مِنْ قَوْلِ (¬8) الْحَسَنِ)، فَيُوهِمُ أَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَإِنَّمَا هو قوله (¬9). وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَارِجًا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ غَيْرَ خَارِجٍ، فَلِأَنَّ غَيْرَ الْخَارِجِ لَمْ يَزِدْ عَلَى الدَّعْوَةِ مَفْسَدَةً أُخْرَى يترتب عليها إِثْمٌ، وَالْخَارِجُ زَادَ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ ـ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ ـ وَالسَّعْيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ (¬10)، وَإِثَارَةَ الفتن والحروب (¬11)، زيادة (¬12) إلى حصول ¬

(¬1) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص110). (¬2) تقدمت ترجمته وحكاية بعض أقواله الرديئة (226). (¬3) ساقطة من (م). (¬4) ساقطة من (ت). (¬5) في (م) و (خ) و (ت): رأي بياء واحدة، والصواب المثبت كما في الكامل لابن عدي. وقال الشيخ رشيد رضا: "رأيي هنا بيائين، الثانية ياء المتكلم، وهذا هو معنى "لي اللسان بالكلام"، لأجل التدليس والإيهام، ولكن الناسخ كتبها بياء واحدة كالتي قبلها، لأنه لم يفهم، ولم يعرف الرواية، ولأجل هذا لم يكن يقول: هذا رأي الحسن، وهذا قول الحسن، إذ لا يحتمل هذا إلا معنى واحداً، فإذا قال: من رأيي الحسن، ومن قولي الحسن، تحذف ياء المتكلم لالتقاء الساكنين، فيكون المسموع: هذا من رأي الحسن، وهذا من قول الحسن، فيقع الإيهام المراد". (¬6) رواه عنه من طريق سفيان بن عيينة الإمام ابن عدي في كتاب الكامل في ضعفاء الرجال (5/ 97). (¬7) هو محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، قضى بالبصرة في أيام الرشيد، وكان ثقة. توفي سنة 215هـ. انظر: تهذيب الكمال (25/ 539)، طبقات ابن سعد (7/ 294)، تقريب التهذيب (2/ 180). (¬8) في (ر): "قولي" بياء. (¬9) رواه الإمام ابن عدي في الكامل (5/ 103). (¬10) في (م): "الفساد". (¬11) في (غ): "الحرب". (¬12) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).

الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أُولَئِكَ الْفِرَقِ، فَلَهُ مِنَ الْإِثْمِ الْعَظِيمِ أَوْفَرُ حَظٍّ. وَمِثَالُهُ قِصَّةُ الْخَوَارِجِ (¬1) الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، ويَدَعُون أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) (¬2) وَأَخْبَارُهُمْ شَهِيرَةٌ. وَقَدْ لَا يَخْرُجُونَ هَذَا الْخُرُوجَ، بَلْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى الدَّعْوَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ أَدْعَى إِلَى الْإِجَابَةِ، لِأَنَّ فِيهِ (¬3) نَوْعًا مِنَ الْإِكْرَاهِ وَالْإِخَافَةِ، فَلَا هُوَ مُجَرَّدُ دعوة، ولا هو شق للعصا (¬4) مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى دعوته (¬5) بِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْوُلَاةِ وَالسَّلَاطِينِ، فَإِنَّ الِاقْتِدَاءَ هُنَا أَقْوَى بِسَبَبِ (¬6) خَوْفِ الْوُلَاةِ فِي الْإِيقَاعِ بِالْآبِي سِجْنًا أَوْ ضَرْبًا أَوْ قَتْلًا، كَمَا اتفق لبشر المريسي (¬7) في زمان (¬8) الْمَأْمُونِ (¬9)، وَلِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي (دُؤَادَ) (¬10) فِي خِلَافَةِ ¬

(¬1) تقدم التعريف بهم (ص11). (¬2) تقدم تخريج الحديث (ص12). (¬3) ساقطة من (غ). (¬4) في (ت) و (ط): "العصا". (¬5) في (خ) و (ط): "دعوة". (¬6) في (غ) و (ر): "لسبب". (¬7) هو بشر بن غياث بن أبي كريمة العدوي مولاهم البغدادي المريسي، كان من الفقهاء، فلما نظر في الكلام غلب عليه، فانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن، ودعا إليه، حتى كان عين الجهمية في عصره، وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفره عدة. توفي سنة 118هـ. انظر: تاريخ بغداد (7/ 56) العبر (1/ 373)، سير أعلام النبلاء (10/ 199). (¬8) في (خ) و (ط) و (غ): "زمن". (¬9) هو أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد، الخليفة العباسي المشهور، ولد سنة 170هـ، وقرأ العلم والأدب والأخبار والعقليات وعلوم الأوائل، وأمر بتعريب كتبهم وبالغ، ومحاسنه كثيرة في الجملة، وكان يحب العلم، ولم يكن له بصيرة نافذة فيه، فتأثر بمذهب الاعتزال، واعتقده، وامتحن أهل السنة بسببه، فأخذه الله، وكان كثير الغزو. توفي سنة 218هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 272)، البداية والنهاية (10/ 287)، شذرات الذهب (2/ 39). (¬10) في (م) و (خ) و (ت) و (غ): "داود" والصواب المثبت. وهو أحمد بن أبي دؤاد الإيادي المعتزلي الجهمي، ولي قضاء القضاة للمعتصم ثم للواثق، وكان موصوفاً بالجود والسخاء والأدب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد أصيب قبل موته بالفالج أربع سنين، ثم هلك سنة 240هـ.=

الْوَاثِقِ (¬1)، وَكَمَا اتَّفَقَ لِعُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْأَنْدَلُسِ إِذْ صارت ولايتها للمهدويين (¬2)، فَمَزَّقُوا (¬3) كُتُبَ الْمَالِكِيَّةِ، وَسَمَّوْهَا كُتُبَ الرَّأْيِ، وَنَكَّلُوا بِجُمْلَةٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ بِسَبَبِ أَخْذِهِمْ فِي الشَّرِيعَةِ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَانُوا هُمْ مُرْتَكِبِينَ لِلظَّاهِرِيَّةِ (¬4) الْمَحْضَةِ، الَّتِي هِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ المئتين من الهجرة (¬5)، ويا ليتهم وقفوا (¬6) على (¬7) مَذْهَبَ دَاوُدَ (¬8) وَأَصْحَابِهِ، لَكِنَّهُمْ (¬9) تَعَدَّوْا ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالُوا بِرَأْيِهِمْ، وَوَضَعُوا لِلنَّاسِ مَذَاهِبَ لَا عَهْدَ لَهُمْ (¬10) بِهَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَحَمَلُوهُمْ عَلَيْهَا طَوْعًا أَوْ كُرْهًا، حَتَّى عَمَّ دَاؤُهَا فِي النَّاسِ، وَثَبَتَتْ (¬11) زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ ذَهَبَ مِنْهَا جملة، وبقيت أخرى إلى اليوم. ¬

=انظر: البداية والنهاية لابن كثير (10/ 333)، سير أعلام النبلاء (11/ 169)، العبر (1/ 431). (¬1) هو الخليفة العباسي أبو جعفر هارون بن المعتصم بالله، ولى الأمر بعهد من أبيه سنة 227هـ، وقد استولى أحمد بن أبي دؤاد على الواثق، وحمله على التشدد في المحنة، والدعاء إلى خلق القرآن، وقيل إنه رجع عن ذلك قبيل موته. وكانت خلافته خمس سنين ونصفاً، وقد مات سنة 232هـ. انظر: البداية والنهاية (10/ 321)، سير أعلام النبلاء (10/ 306)، تاريخ بغداد (14/ 15). (¬2) في (خ) و (ط): "للمهديين"، وهم أتباع المهدي المغربي. وقد تقدم التعريف به (ص312). (¬3) في (غ) و (ر): "فخرقوا". (¬4) تقدم التعريف بالظاهرية في المقدمة (ص28). (¬5) وممن حكم على هذا المذهب بالبدعة الإمام ابن العربي، بل عدهم فرقة من الخوارج، مكفرة على أحد الوجهين. انظر: عارضة الأحوذي (10/ 10)، وكذلك الإمام ابن رشد كما في المعيار المعرب للونشريسي (2/ 341)، ولكن قول المالكية شديد في الظاهرية بسبب العداء المذهبي. وقد قال الذهبي في السير عنهم: " ... وبكل حال فلهم أشياء أحسنوا فيها، ولهم مسائل مستهجنة يشغب عليهم بها". السير (13/ 106). (¬6) في (خ) و (ت) و (ط): "وافقوا". (¬7) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬8) هو داود بن علي بن خلف الأصبهاني، رئيس أهل الظاهر، سمع الحديث وارتحل وناظر وصنف، وكان ورعاً زاهداً. توفي سنة 270هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 97)، البداية والنهاية (11/ 51)، وفيات الأعيان (2/ 255). في (غ): "لكن". (¬9) ساقطة من (م) و (ت) و (غ). (¬10) في (م) و (خ) و (ت): "وثبت".

وَلَعَلَّ الزَّمَانَ يَتَّسِعُ إِلَى ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِنْهَا فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهِ (¬1). فَهَذَا (¬2) الْوَجْهُ الْوِزْرُ فِيهِ أَعْظَمُ (¬3) مِنْ مُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ (¬4) مِنْ وجهين: الأول: الإخافة والإكراه بالإيلام (¬5) وَالْقَتْلِ. وَالْآخَرُ: كَثْرَةُ الدَّاخِلِينَ فِي الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ الْإِعْذَارَ وَالْإِنْذَارَ الْأُخْرَوِيَّ قَدْ لَا يَقُومُ لَهُ كَثِيرٌ (مِنَ النُّفُوسِ) (¬6)، بِخِلَافِ الدُّنْيَوِيِّ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ شُرِعَتِ الْحُدُودُ وَالزَّوَاجِرُ فِي الشَّرْعِ، وَ (إِنَّ اللَّهَ (¬7) يَزَعُ (¬8) بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُهُ (¬9) بِالْقُرْآنِ) (¬10)، فالمبتدع إذا (¬11) لم ينتهض (¬12) لإجابة (¬13) دَعْوَتِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ الَّذِي يَعِظُ (¬14) بِهِ (¬15)، حَاوَلَ الِانْتِهَاضَ بِأُولِي الْأَمْرِ، لِيَكُونَ (¬16) ذَلِكَ أَحْرَى بالإجابة. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ حَقِيقِيَّةً أَوْ إِضَافِيَّةً، فَإِنَّ الْحَقِيقِيَّةَ أَعْظَمُ وِزْرًا، لِأَنَّهَا التي باشرها النهي (¬17) بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلِأَنَّهَا (¬18) مُخَالَفَةٌ مَحْضَةٌ، وَخُرُوجٌ عَنِ السنة ظاهر، كالقول بالقدر (¬19)، والقول (¬20) بالتحسين ¬

(¬1) سوف يتكلم المؤلف عنهم في المجلد الثاني من المطبوع (2/ 90 ـ 92، 226، 348). (¬2) في (م): "فهو ذا". (¬3) في (م) و (غ): "أعظم فيه الوزر". (¬4) في (خ): "الدعوى". (¬5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "بالإسلام". (¬6) ساقط من (غ). (¬7) سقط لفظ الجلالة من (م) وأصل (ت)، وكتب في هامش (ت). (¬8) في (خ) و (ط): "ليزع". (¬9) في (م): "ينزع"، وفي (ت) و (غ): "يزع". (¬10) انظر: تاريخ ابن شبّة (3/ 988). (¬11) في (ت): "إذ". (¬12) في (غ): "ينتضر"، وفي بقية النسخ: "ينتصر" عدا (ر). (¬13) في (ط): "بإجابة". (¬14) في (م): "بعضه"، وفي (ت): "يعضه"، وفي (غ) و (ر): "يقص". (¬15) ساقطة من (غ). (¬16) في (غ): "فيكون". (¬17) في (خ) و (ط): "المنتهي"، وفي (م) و (ت): "المنهي". (¬18) في (خ) و (غ): "لأنها" بدون الواو، وفي (ت): كتبت الواو بين السطرين. (¬19) تقدم التعريف بالقدرية (ص11). (¬20) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).

وَالتَّقْبِيحِ (¬1)، وَالْقَوْلِ بِإِنْكَارِ خَبَرِ الِوَاحِدِ (¬2)، وَإِنْكَارِ الْإِجْمَاعِ (¬3)، وَإِنْكَارِ (¬4) تَحْرِيمِ الْخَمْرِ (¬5)، وَالْقَوْلِ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ (¬6)، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَإِذَا فُرِضَتْ إِضَافِيَّةً، فَمَعْنَى الْإِضَافِيَّةِ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَرَأْيٍ مُجَرَّدٍ مِنْ وَجْهٍ، إِذْ يَدْخُلُهَا مِنْ جِهَةِ الْمُخْتَرِعِ رَأْيٌ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا (¬7)، فَلَمْ تُنَافِ الْأَدِلَّةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. هَذَا وَإِنْ كَانَتْ تَجْرِي مَجْرَى الحقيقية (¬8)، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬9). وَبِحَسَبِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ يَخْتَلِفُ الْوِزْرُ. ومثاله جعل المصاحف في المساجد (¬10) للقراءة (¬11) (إثر (¬12) صلاة (¬13) الصبح) (¬14). قَالَ مَالِكٌ: (أَوَّلُ مَنْ جَعَلَ مُصْحَفًا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ) (¬15). يُرِيدُ (أَنَّهُ) (¬16) أَوَّلُ مَنْ رَتَّبَ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ إِثْرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي المسجد. ¬

(¬1) تقدم الكلام على هذه المسألة (ص213). (¬2) تقدم الكلام على هذه المسألة (ص208). (¬3) الذين أنكروا حجية الإجماع هم الخوارج والشيعة والنظام. انظر: نزهة الخاطر شرح روضة الناظر (1/ 276)، أصول الفقه الإسلامي للزحيلي (1/ 539). (¬4) في (م) و (غ): "أو إنكار". (¬5) وهم الذين يستحلون الخمر ويسمونها بغير اسمها، وسيتكلم المؤلف عن هذه البدعة في الباب السابع (2/ 87 ـ 89). (¬6) وهو قول الشيعة الإمامية كما تقدم. (¬7) وذلك كالعبادات المشروعة التي يدخل المبتدع فيها رأيه، فيغير من كيفياتها أو أحوالها أو تفصيلاتها لما لم يقم عليه دليل. (¬8) أي في أنها بدعة محرمة. (¬9) وذلك في الباب الخامس، حيث جعله المؤلف في هذا الموضوع (1/ 286). (¬10) في (م) و (غ): "المسجد". (¬11) في (غ): "للقراءة فيها". (¬12) في (ط): "آخر". وساقطة من (غ). (¬13) في (م): "صلاة فيها". (¬14) ما بين المعكوفين ساقط من (ت)، ومثبت في هامشها على أنه نسخة أخرى، ونص نسخة (خ) "للقراءة إثر صلاة الصبح بدعة". (¬15) عزاه إلى مالك الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص300). (¬16) في جميع النسخ "أن"، وفي (ط): "أنه"، وبها تستقيم العبارة. وهي ساقطة من (غ) و (ر).

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ (¬1): مِثْلَ مَا يُصْنَعُ عِنْدَنَا إِلَى الْيَوْمِ (¬2). فَهَذِهِ (¬3) مُحْدَثَةٌ (¬4) ـ أَعْنِي وَضْعَهُ فِي الْمَسْجِدِ ـ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْمَسْجِدِ مَشْرُوعَةٌ (¬5) فِي الجملة، معمول به، إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَسْجِدِ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ هُوَ (¬6) الْمُحْدَثُ. وَمِثْلُهُ وَضْعُ الْمَصَاحِفِ فِي زماننا للقراءة فيها (¬7) يوم الجمعة وتحبيسها على ذلك القصد. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا ظَاهِرَةَ الْمَأْخَذِ أو مشكلة، فلأن الظاهرة عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا مَحْضُ مُخَالَفَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مشكلة فليست بمحض مخالفة، لإمكان ألا تَكُونَ بِدْعَةً، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمُحْتَمَلِ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الظَّاهِرِ (¬8)، وَلِذَلِكَ عَدَّ الْعُلَمَاءُ تَرْكَ الْمُتَشَابِهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَنَبَّهَ الْحَدِيثُ (¬9) عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمُتَشَابِهِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْحَرَامِ، فَهُوَ حِمًى لَهُ، وأن من (¬10) وَاقَعَ (¬11) المتشابه وَقَعَ (¬12) فِي الْحَرَامِ، وَلَيْسَ (¬13) تَرْكُ الْحَرَامِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْوَاجِبِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْفِعْلِ الْمُشْتَبَهِ فِي الْبِدْعَةِ، فَالتَّفَاوُتُ بينهما بين. ¬

(¬1) هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، شيخ المالكية، وقاضي الجماعة بقرطبة، كان فقيهاً عالماً عارفاً بالفتوى، بصيراً بأقوال أئمة المالكية، نافذاً في علم الفرائض والأصول، صنف شرح العتبية فبلغ فيه الغاية. توفي سنة 520هـ. انظر: السير (19/ 501)، العبر (4/ 47)، شجرة النور الزكية (1/ 129). (¬2) البيان والتحصيل (18/ 130). (¬3) في (غ) و (ر): "فهذا". (¬4) في (م) و (غ) و (ر): "محدث". (¬5) في (م) و (خ) و (ت): "مشروع". (¬6) ساقطة من (خ) و (ط). (¬7) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬8) في (ت): "الظر". (¬9) هو حديث النعمان بن بشير: "الحلال بين والحرام بين .. "، وتقدم تخريجه (ص199). (¬10) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬11) في (خ) و (ط): "راتع"، كتب في هامش (خ): "وإن واقع المتشابه واقع" على أنها نسخة أخرى، وفي (ت): "وأن قدم واقع .. ". (¬12) في (خ) و (ط): "راتع". (¬13) في (خ): "وليس في ترك .. ".

وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ تَرْكَ الْمُتَشَابِهِ مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ، وَإِنَّ مُوَاقَعَتَهُ مِنْ بَابِ الْمَكْرُوهِ، فَالِاخْتِلَافُ أَيْضًا وَاقِعٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَإِنَّ الْإِثْمَ فِي الْمُحَرَّمَةِ هُوَ الظَّاهِرُ (¬1)، وَأَمَّا الْمَكْرُوهَةِ فَلَا إِثْمَ فِيهَا فِي الْجُمْلَةِ، مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بها (¬2) ما يوجبه (¬3)، كَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، إِذِ الْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ يُصَيِّرُهَا كَبِيرَةً، فَكَذَلِكَ الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَكْرُوهِ فَقَدْ يُصَيِّرُهُ صَغِيرَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ فِي مُطْلَقِ التَّأْثِيمِ، وَإِنْ حَصَلَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بِخِلَافِ الْمَكْرُوهِ مَعَ الصَّغِيرَةِ (¬4). وَالشَّأْنُ فِي البدع ـ وإن كانت مكروهة ـ الدَّوَامِ (¬5) عَلَيْهَا، وَإِظْهَارِهَا مِنَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ وَفِي الْمَسَاجِدِ، فَقَلَّمَا تَقَعُ (¬6) مِنْهُمْ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْكَرَاهِيَةِ إِلَّا وَيَقْتَرِنُ بِهَا مَا يُدْخِلُهَا فِي مُطْلَقِ التَّأْثِيمِ، مِنْ إِصْرَارٍ أَوْ تَعْلِيمٍ (¬7) أَوْ إِشَاعَةٍ أَوْ تَعَصُّبٍ لَهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبِدَعِ ـ بِحَسَبِ الْوُقُوعِ ـ مَكْرُوهٌ لَا زَائِدَ فيه على الكراهية. والله أعلم. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَوْ عَدَمِهِ، فَلِأَنَّ الذَّنْبَ قَدْ يَكُونُ صَغِيرًا فَيَعْظُمُ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ. كَذَلِكَ الْبِدْعَةُ تَكُونُ صَغِيرَةً فَتَعْظُمُ بِالْإِصْرَارِ (¬8) عليها (¬9). فإذا كانت (¬10) فلتة فَهِيَ أَهْوَنُ مِنْهَا إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا. وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِذَا (¬11) تَهَاوَنَ بِهَا الْمُبْتَدِعُ وَسَهَّلَ أَمْرَهَا، نَظِيرَ الذَّنْبِ إِذَا تَهَاوَنَ بِهِ، فَالْمُتَهَاوِنُ أعظم وزراً من غيره. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كُفْرًا وَعَدَمَهُ فظاهر أيضاً؛ لأن ما هو ¬

(¬1) في (ت): "الظر". (¬2) في (ر): "لها". (¬3) في (خ) و (ت) و (ط): "يوجبها". (¬4) سوف يتكلم المؤلف عن هذه الأحكام على وجه التفصيل في الباب السادس (2/ 36). (¬5) في (خ) و (ت) و (ط): "في الدوام عليها". (¬6) في (خ) و (ط): "فقلما تقدم بل تقع .. ". (¬7) في (خ) و (ط): "وتعليم". (¬8) في (خ): "بالإسرار". (¬9) ساقطة من (غ) و (ر). (¬10) في (غ): "كان". (¬11) في (م): "لا إذا". وفي (غ): "ما إذا".

كُفْرٌ جَزَاؤُهُ التَّخْلِيدُ فِي الْعَذَابِ ـ عَافَانَا اللَّهُ ـ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَهُ (¬1)، حُكْمُ سَائِرِ الْكَبَائِرِ مَعَ الْكُفْرِ فِي الْمَعَاصِي. فَلَا بِدْعَةَ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ بِدْعَةٍ تُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّهُ لَا ذَنْبَ أَعْظَمُ مِنْ (¬2) ذَنْبٍ يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبِدْعَةُ الْبَاطِنِيَّةِ (¬3) وَالزَّنَادِقَةِ ليست كَبِدْعَةِ الْمُعْتَزِلَةِ (¬4) وَالْمُرْجِئَةِ (¬5) وَأَشْبَاهِهِمْ. وَوُجُوهُ التَّفَاوُتِ كَثِيرَةٌ، وَلِظُهُورِهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لَمْ نَبْسُطِ الْكَلَامَ عَلَيْهَا والله المستعان بفضله (¬6). ¬

(¬1) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬2) في (خ): "منه من ذنب ... ". (¬3) تقدم التعريف بهم (ص28). (¬4) تقدم التعريف بهم (ص29). (¬5) تقدم التعريف بهم (ص27). (¬6) ساقطة من (غ) و (ر).

فصل

فصل وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي الْقِيَامِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْخَاصَّةِ أَوِ الْعَامَّةِ. وَهَذَا (¬1) بَابٌ كَبِيرٌ فِي الْفِقْهِ، تَعَلَّقَ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ جِنَايَتِهِمْ عَلَى الدِّينِ، وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ جَادَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَى بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ (¬2) الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُ الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬3). وَهُوَ فَصْلٌ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ عَلَى التَّأْثِيمِ (¬4)، لَكِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى النَّظَرِ فِي شُعَبٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا مَا تَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَمِنْهَا مَا (¬5) لَمْ يَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَدَثَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَهْلِ الْحِمَايَةِ لِلدِّينِ، فَهُوَ بَابٌ يَكْثُرُ التَّفْرِيعُ فِيهِ بِحَيْثُ يَسْتَدْعِي تَأْلِيفًا مُسْتَقِلًّا. فَرَأَيْنَا أَنَّ بَسْطَ ذَلِكَ يَطُولُ (¬6)، مَعَ أَنَّ الْعَنَاءَ فِيهِ قَلِيلُ الْجَدْوَى فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، لِتَكَاسُلِ الْخَاصَّةِ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يُصْلِحُ الْعَامَّةَ، وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَى الْعَامَّةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، بَلْ قَدِ انْقَلَبَ الْحَالُ إِلَى أَنْ عَادَتِ (¬7) السُّنَّةَ بِدْعَةً، (والبدعة سنة) (¬8)، فقاموا في غير ¬

(¬1) في (غ): "وهو". (¬2) في (غ) و (ر): "الطرق". (¬3) سورة الأنعام: آية (153). (¬4) وقد سبق كلام المؤلف على تأثيم المبتدع، وأن الإثم الواقع عليه ليس على درجة واحدة. (ص 247، 249، 215) وتوسع في (ص 286) (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) في (غ) و (ر): "طويل". (¬7) في (ر): "عدت". (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من (ط).

مَوْضِعِ الْقِيَامِ، وَاسْتَقَامُوا إِلَى غَيْرِ مُسْتَقَامٍ (¬1)، فَعَمَّ الدَّاءُ، وَعُدِمَ الْأَطِبَّاءُ، حَسْبَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ. فرأينا أن لانفرد هذا المعنى بباب يخصه، وأن لانبسط الْقَوْلَ فِيهِ، وَأَنْ نَقْتَصِرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى لَمْحَةٍ تَكُونُ خَاتِمَةً لِهَذَا الْبَابِ، فِي الْإِشَارَةِ إِلَى أَنْوَاعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُقَامُ عَلَيْهِمْ بِهَا (¬2) فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي التَّفْصِيلِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَنَقُولُ: إِنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهِمْ بِالتَّثْرِيبِ أَوِ التَّنْكِيلِ أَوِ الطَّرْدِ أَوِ الْإِبْعَادِ أَوِ الْإِنْكَارِ هُوَ بِحَسَبِ حَالِ الْبِدْعَةِ فِي نَفْسِهَا، مِنْ كَوْنِهَا عَظِيمَةَ الْمَفْسَدَةِ فِي الدِّينِ أَوْ لَا (¬3)، وَكَوْنِ صَاحِبِهَا مُشْتَهِرًا بِهَا أَوْ لَا، وَدَاعِيًا إِلَيْهَا أو لا، ومستظهراً بالأتباع (أولا) (¬4)، وخارجاً على (¬5) النَّاسِ أَوْ لَا، وَكَوْنِهِ (¬6) عَامِلًا بِهَا عَلَى جهة الجهل بها (¬7) أو لا. وكل من (¬8) هذه الأقسام له اجتهاد (¬9) يَخُصُّهُ، إِذْ لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ فِي الْبِدْعَةِ (¬10) حَدٌّ (¬11) لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، كَمَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي، كَالسَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ وَالْقَتْلِ وَالْقَذْفِ وَالْجِرَاحِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. لَا جَرَمَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأُمَّةِ نَظَرُوا فِيهَا بِحَسَبِ النَّوَازِلِ، وَحَكَمُوا بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، تَفْرِيعًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ فِي بَعْضِهَا مِنَ النَّصِّ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَوَارِجِ (¬12) مِنَ الأمر (¬13) بِقَتْلِهِمْ (¬14)، وَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "واستناموا في غير مستنام". (¬2) في (غ): "بها عليهم". (¬3) في (خ) و (ط): "أم لا". (¬4) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط). (¬5) في (خ) و (ط): "عن". (¬6) في (غ): "وكون". (¬7) ساقطة من (ط). (¬8) ساقطة من (م) و (غ) وكتبت في (ت) فوق السطر. (¬9) في (خ) و (ط): "له حكم اجتهادي". (¬10) في (ر): "للبدع". (¬11) عبارة (غ): "إذا لم يأت في الشرع للبدعة حد". (¬12) تقدم التعريف بهم (ص11). (¬13) في (خ) و (ط): "الأثر". (¬14) والأحاديث في هذا كثيرة، ومنها حديث علي رضي الله عنه: " .. فإذا لقيتموهم=

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَبِيغٍ الْعِرَاقِيِّ (¬1). فَخَرَجَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: الْإِرْشَادُ وَالتَّعْلِيمُ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ، كَمَسْأَلَةِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما حِينَ ذَهَبَ إِلَى الْخَوَارِجِ فَكَلَّمَهُمْ حَتَّى رَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ (¬2)، (وَمَسْأَلَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ غَيْلَانَ (¬3)، وَشِبْهُ ذَلِكَ) (¬4). وَالثَّانِي: الْهُجْرَانُ، وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ السَّلَفِ فِي هُجْرَانِهِمْ لِمَنْ تَلَبَّسَ بِبِدْعَةٍ، وَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ الله عنه في (¬5) قصة صبيغ العراقي (¬6). والثالث: التغريب (¬7) كما غرب عمر (بن الخطاب) (¬8) صَبِيغًا، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ السَّجْنُ وَهُوَ: الرَّابِعُ: كَمَا سجنوا الحلاج (¬9) قبل قتله سنين عدة (¬10). ¬

=فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة". رواه مسلم (7/ 169 مع النووي). (¬1) في (غ): "الغراقي"، وتقدمت ترجمته (ص143). وانظر قصته وتخريجها في نفس الموضع. (¬2) تقدمت الإشارة إلى هذه المناظرة (ص236)، وقد بينت مواضع ذكرها هناك. (¬3) تقدمت هذه المناظرة (ص102)، وقد روى ابن سعد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كان يأمر عامله بدعوة الخوارج إلى الكتاب والسنة قبل قتالهم. انظر: طبقات ابن سعد (5/ 357 ـ 358). (¬4) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط). (¬5) في (خ) و (ط): "من". (¬6) ساقطة من (م) و (غ). (¬7) أثبتها من (غ) و (ر)، وهي ساقطة من بقية النسخ. (¬8) ساقط من (خ) و (ط). (¬9) هو الحسين بن منصور بن محمى الفارسي البيضاوي الصوفي، الزنديق، تبرأ منه سائر الصوفية والمشايخ والعلماء من سوء سيرته ومروقه، ومنهم من نسبه إلى الحلول، ومنهم من نسبه إلى الزندقة وإلى الشعبذة، وقد تستر به طائفة من ذوي الضلال والانحلال، وانتحلوه، وروجوا به على الجهال، وقد أفتى العلماء بقتله فقتل سنة 311هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 313)، البداية والنهاية (11/ 141)، مجموع الفتاوى (35/ 110، 119). (¬10) في (خ) و (ط): "عديدة"، وقد روى ابن سعد في الطبقات عن عمر بن عبد العزيز أنه=

والخامس (¬1): ذِكْرُهُمْ بِمَا (¬2) هُمْ عَلَيْهِ، وَإِشَاعَةُ بِدْعَتِهِمْ كَيْ يحذروا لئلا (¬3) يُغْتَرَّ بِكَلَامِهِمْ، كَمَا جَاءَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السلف في ذلك (¬4). والسادس: القتال إِذَا نَاصَبُوا الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ، كَمَا قَاتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَوَارِجَ وَغَيْرُهُ مِنْ خلفاء السنة. والسابع: القتل إن لم يرجعوا مع الاستتابة، في من (¬5) أَظْهَرَ بِدْعَتَهُ، وَأَمَّا مَنْ أَسَرَّهَا، وَكَانَتْ (¬6) كُفْرًا أَوْ مَا يَرْجِعُ (¬7) إِلَيْهِ، فَالْقَتْلُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ (¬8) وهو: الثامن: لأنه من باب النفاق كالزندقة (¬9). والتاسع: تَكْفِيرُ (¬10) مَنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كُفْرِهِ، كَمَا إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ صَرِيحَةً فِي الْكُفْرِ، كَالْإِبَاحِيَّةِ (¬11)، والقائلين بالحلول ¬

=كتب إلى أحد ولاته: "ومن أخذت من أسراء الخوارج فاحبسه حتى يحدث خيراً". قال الراوي: "فلقد مات عمر بن عبد العزيز وفي حبسه منهم عدة". انظر الطبقات (5/ 358). (¬1) في (م) و (ت): "الخامس" بدون الواو. (¬2) في (غ) و (ر): "ما". (¬3) في (خ) و (ط): "ولئلا". (¬4) ومن ذلك ما روى اللالكائي عن الحسن أنه قال: "ليس لصاحب بدعة ولا لفاسق يعلن بفسقه غيبة". شرح أصول الاعتقاد (1/ 140)، وروى اللالكائي أيضاً عن عاصم الأحول أنه قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَذَكَرَ عَمْرَو بْنَ عبيد، فوقع فيه، فقلت: لا أَرَى الْعُلَمَاءَ يَقَعُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَقَالَ: "يا أحول، أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع فينبغي أن يذكر حتى يحذر .. ". انظر: ميزان الاعتدال للذهبي (3/ 273)، شرح أصول الاعتقاد لللالكائي مع بعض الاختلاف اللفظي (4/ 748). (¬5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "وهو قد". (¬6) في (ت): "أو كانت". (¬7) في (ت): "ترجع". (¬8) في (خ): "فالقتل بالاستتابة". (¬9) في (خ) و (ط) و (غ): "كالزنادقة". (¬10) في (خ) و (غ): "الحكم بكفر". (¬11) في (غ): "لا كالإباحية"، قال البغدادي في الفرق بين الفرق عن أصحاب الإباحة من الخرمية: "فهؤلاء صنفان، صنف منهم كانوا قبل دولة الإسلام كالمزدكية الذين استباحوا المحرمات وزعموا أن الناس شركاء في الأموال والنساء، والصنف الثاني الخرمدينية، ظهروا في دولة الإسلام، وهم فريقان بابكية ومازيارية، وكلتاهما معروفة=

كالباطنية (¬1)، أو كانت المسألة من (¬2) بَابِ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ (¬3)، فَذَهَبَ الْمُجْتَهِدُ إِلَى التَّكْفِيرِ، كَابْنِ الطَّيِّبِ (¬4) فِي تَكْفِيرِهِ جُمْلَةً مِنَ الْفِرَقِ. وينبني (¬5) عَلَى ذَلِكَ: (الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) (¬6): وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرِثُهُمْ وَرَثَتُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَرِثُونَ أَحَدًا منهم، ولا يغسلون إذا ماتوا، ولا يصلى عَلَيْهِمْ، وَلَا يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَتِرًا (¬7)، فَإِنَّ الْمُسْتَتِرَ يُحْكَمُ لَهُ بحكم الظاهر (¬8)، وورثته أعرف به (¬9) بالنسبة إلى الميراث. والحادي عَشَرَ: الْأَمْرُ بِأَنْ لَا يُنَاكَحُوا، وَهُوَ مِنْ ناحية الهجران، وعدم المواصلة. والثاني عَشَرَ: تَجْرِيحُهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ (¬10)، ولا ¬

=بالمحمرة، فالبابكية منهم أتباع بابك الخرمي الذي ظهر بأذربيجان .. واستباح المحرمات، وقتل الكثير من المسلمين .. حتى صلبه المعتصم، وأما مازيار فظهر بجرجان .. ، وعظمت فتنته، وصلبه أيضاً المعتصم. انظر: الفرق بين الفرق (ص201 ـ 202). (¬1) تقدم التعريف بهم (ص28). (¬2) في (ط): "في". (¬3) يريد المؤلف والله أعلم التكفير بلازم القول، وقد ذكر رحمه الله في الباب التاسع أَنَّ مَذْهَبَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّ الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال. انظر: الباب التاسع (2/ 197). (¬4) هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد البغدادي ابن الباقلاني، أوحد المتكلمين، ومقدم الأصوليين، صاحب التصانيف، كان يضرب به المثل في ذكائه صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج وغيرهم، وقد انتصر لطريقه أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه. توفي سنة 403هـ. انظر: السير (17/ 190)، تاريخ بغداد (5/ 379)، ترتيب المدارك (4/ 585). (¬5) في (غ): "فينبني". (¬6) ما بين المعكوفين بياض في (ت). (¬7) في (خ) و (ت) و (ط): "المستتر"، وفي (غ) و (ر): "ما خلا المستسر". (¬8) في (ت): "الظر". (¬9) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬10) والمسألة ليست محل اتفاق، وقد يختلف الحكم بالنسبة للداعي للبدعة وغيره. انظر: المغني لابن قدامة (ص165 ـ 166)، الطرق الحكمية لابن القيم (ص173 ـ 175).

روايتهم (¬1)، ولا يكونون ولاة (¬2) وَلَا قُضَاةً، وَلَا يُنَصَّبُونَ فِي مَنَاصِبِ الْعَدَالَةِ مِنْ إِمَامَةٍ أَوْ خَطَابَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ السَّلَفِ رِوَايَةُ جَمَاعَةٍ منهم، واختلفوا في الصلاة (خلف أهل البدع بالجواز والكراهة والمنع، ومنهم من جعل ترك الصَّلَاةِ) (¬3) خَلْفَهُمْ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ لِيَرْجِعُوا عَمَّا هم عليه. ¬

(¬1) وفي المسألة خلاف، فمن العلماء من يرى رد رواية المبتدع مطلقاً كالإمام مالك رحمه الله، ومنهم من يرى رد رواية المبتدع الداعي إلى بدعته، أو من كانت بدعته مكفرة، أو روايته مؤيدة لبدعته .. إلخ، وهو قول الإمام أحمد وأكثر أهل العلم، ويرى الإمام الشافعي وغيره قبول رواية أهل الأهواء الذين لا يعرف منهم استحلال الكذب، ولا يشهدون لمن وافقهم، إلا الخطابية فلا يروي عنهم. انظر: المسألة في الكفاية في علم الرواية للخطيب (ص121)، فتح المغيث (1/ 327)، قواعد التحديث للقاسمي (ص192 ـ 193). رسالة "البدعة وأثرها في الدراية والرواية" للشيخ عائض القرني. (¬2) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "والين". (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع، وخلف أهل الفجور، ففيه نزاع مشهور، وتفصيل ليس هذا موضع بسطه، لكن أوسط الأقوال في هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره، فإن من كان مظهراً للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته، ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر ... ، فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته، لما في ذلك من النهى عن المنكر لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن لإنسان ألا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب ذلك. لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهره من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين .. ، فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه ما يمكنه فعلها إلا خلفه، كالجمع والأعياد والجماعة إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما الجمعة والجماعة .. ". انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 342 ـ 343)، شرح العقيدة الطحاوية (ص373 ـ 377).

والثالث عَشَرَ: تَرْكُ عِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الزجر والعقوبة. والرابع عشر: ترك شهود جنائزهم كذلك. والخامس عَشَرَ: الضَّرْبُ، كَمَا ضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبِيغًا. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَائِلِ بِالْمَخْلُوقِ (¬1): (أَنَّهُ يُوجَعُ ضَرْبًا، ويسجن حتى يتوب (¬2)) (¬3). وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ تَوَارِيخِ بَغْدَادَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أنه قال: (حكمي (¬4) فِي أَصْحَابِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرَائِدِ، وَيُحْمَلُوا عَلَى الْإِبِلِ، وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ، وَيُقَالَ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وأخذ في الكلام) (¬5)، يعني أهل البدع. ¬

(¬1) أي بخلق القرآن. (¬2) في (خ) و (ط): "يموت". (¬3) روى نحوه عن مالك الإمام اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (2/ 314 ـ 315)، قال مالك في القائل بخلق القرآن: "زنديق فاقتلوه". ترتيب المدارك (1/ 174). (¬4) في (ت) و (ط): "حكم". (¬5) رواه عن الإمام الشافعي الإمام أبو نعيم في الحلية (9/ 116)، وابن عبد البر في الانتقاء (ص80)، والبيهقي في مناقب الشافعي (1/ 462)، وذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص102)، والبغوي في شرح السنة (1/ 218).

فصل

فصل (¬1) فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا؟ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ، وَتَقْيِيدِ تِلْكَ الْمُطْلَقَاتِ، وَفَرَّعَ الْعُلَمَاءُ مِنْهَا كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ، وَأَصَّلُوا مِنْهَا أُصُولًا يُحْتَذَى حَذْوُهَا، عَلَى وَفْقِ مَا ثَبَتَ نَقْلُهُ، إِذِ الظَّوَاهِرُ تَخْرُجُ عَلَى (¬2) مُقْتَضَى ظُهُورِهَا بِالِاجْتِهَادِ، وَبِالْحَرِيِّ إِنْ كَانَ مَا يُسْتَنْبَطُ بِالِاجْتِهَادِ مَقِيسًا عَلَى مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، فَلِذَلِكَ قَسَّمَ النَّاسُ الْبِدَعَ، وَلَمْ يَقُولُوا بِذَمِّهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا" (¬3). وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ ¬

(¬1) يذكر المؤلف في هذا الفصل القول بانقسام البدعة إلى حسنة وقبيحة، وحجة هذا القول، ثم يشرع في الرد عليه من ص339 إلى نهاية الفصل. (¬2) في (غ) و (ر): "عن". (¬3) رواه الإمام مسلم في كتاب الزكاة من صحيحه، باب الحث على الصدقة، عن المنذر بن جرير عن أبيه، وله قصة (7/ 102 ـ 104)، وفي كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، عن جرير بن عبد الله (16/ 225 ـ 226)، ورواه الإمام ابن ماجه في المقدمة من سننه، باب من سن سنة حسنة أو سيئة عنه برقم (207) (1/ 74)، والإمام أحمد في المسند (4/ 357 ـ 359).

فله مثل (¬1) أَجْرُ فَاعِلِهِ" (¬2). وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ (¬3) مَنِ اتبعه غير منقوص (¬4) من أجورهم شيئا، ومن سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ (¬5) وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (¬6) مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا" حَسَنٌ صَحِيحٌ (¬7). فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي (¬8) أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَذَلِكَ خَيْرٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِيمَنِ ابْتَدَعَ قوله (¬9): "مَنْ سَنَّ"، فَنُسِبَ الِاسْتِنَانُ إِلَى الْمُكَلَّفِ دُونَ الشَّارِعِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ: مَنْ عَمِلَ سُنَّةً ثَابِتَةً فِي الشَّرْعِ، لَمَا قَالَ: "مَنْ سَنَّ"، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لأنه (¬10) أول من سن القتل" (¬11). "فسن" هاهنا على حقيقته (¬12)، لأنه اختراع (¬13) لَمْ يَكُنْ قَبْلُ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ وُجُودِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً" أَيْ مَنِ اخْتَرَعَهَا مِنْ نَفْسِهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ حَسَنَةً، فَلَهُ مِنَ الْأَجْرِ مَا ذُكِرَ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ عَمِلَ سُنَّةً ثَابِتَةً، وَإِنَّمَا الْعِبَارَةُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ: مَنْ عَمِلَ بِسُنَّتِي أو بسنة (¬14) من سنتي، وما أشبه (¬15) ذلك. ¬

(¬1) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬2) رواه الإمام مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب، عن أبي مسعود البدري (13/ 38، 39)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء الدال على الخير كفاعله برقم (2671)، (5/ 40)، والإمام أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب في الدال على الخير برقم (5129)، (4/ 336)، والإمام أحمد في المسند (4/ 120). (¬3) في (غ): "فله أجره وأجر من اتبعه". (¬4) في (خ): "منقص". (¬5) في (خ) و (ط): "وزرها"، والمثبت هو الموافق للرواية. (¬6) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "منقص". (¬7) تقدم تخريج الحديث (ص118). (¬8) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر) و (ط). (¬9) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬10) في (غ): "ذلك لأنه". (¬11) تقدم تخريج الحديث (ص23). (¬12) في (خ) و (ط): "حقيقة". (¬13) في (ط): "اخترع". (¬14) في (خ) و (ط): "سنة". (¬15) في (غ): "أما أشبه".

كَمَا خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ (¬1): "اعْلَمْ" قال: [ما] (¬2) أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "اعْلَمْ يَا بلال" قال: [ما] أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "إِنَّهُ مَنْ أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بها، من غير أن ينقص (¬3) مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً، لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ (¬4) مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ من أوزار (¬5) النَّاسِ شَيْئًا" حَدِيثٌ حَسَنٌ (¬6). وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ" ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ". حَدِيثٌ حَسَنٌ (¬7). فَقَوْلُهُ: "مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي" وَاضِحٌ فِي الْعَمَلِ بِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي" ظَاهِرٌ فِي السُّنَنِ الثَّابِتَةِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مَنْ سَنَّ كَذَا، فإنه ظاهر فِي الِاخْتِرَاعِ أَوَّلًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي السُّنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِبِلَالِ بْنِ الحارث: "ومن ابتدع بدعة ضلالة"، فظاهر في (¬8) أَنَّ (¬9) الْبِدْعَةَ لَا تُذَمُّ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ ضَلَالَةً، وَأَنْ تَكُونَ لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَاقْتَضَى (هَذَا كُلُّهُ) (¬10) أَنَّ الْبِدْعَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْهَا ذَمٌّ، ¬

(¬1) هو بلال بن الحارث بن عصم بن سعيد المزني، من أهل المدينة، أقطعه النبي صلّى الله عليه وسلّم العقيق، وكان صاحب لواء مزينة يوم الفتح، أحاديثه في السنن وغيرها، مات سنة 60هـ. انظر: الإصابة لابن حجر (1/ 170)، أسد الغابة لابن الأثير (1/ 242). (¬2) ما بين المعكوفين من سنن الترمذي. (¬3) في (خ) و (ط): "ينقص ذلك". (¬4) في (خ) و (ط): "إثم". (¬5) في (خ) و (ط): "آثام"، والمثبت هو الموافق للرواية. (¬6) تقدم تخريجه (ص33). (¬7) تقدم تخريج الحديث (ص34). (¬8) زيادة في (م). (¬9) في (غ): "بأن". (¬10) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ت) و (غ).

وَلَا تَبِعَ صَاحِبَهَا وِزْرٌ، فَعَادَتْ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ حَسَنَةٌ، وَدَخَلَتْ تَحْتَ الْوَعْدِ بِالْأَجْرِ. وَالثَّانِي (¬1): أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ وَأَعْلَاهُمُ الصَّحَابَةُ ـ قَدْ عَمِلُوا بِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، مِمَّا رَأَوْهُ حَسَنًا، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَجْتَمِعُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَإِنَّمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى هُدًى (¬2) وَمَا هُوَ حَسَنٌ. فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَمْعِ الْقُرْآنِ وكَتْبه فِي الْمَصَاحِفِ، وَعَلَى جَمْعِ النَّاسِ عَلَى الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَاطِّرَاحِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن في ذلك (¬3) نص ولا حظر (¬4)، ثُمَّ اقْتَفَى النَّاسُ أَثَرَهُمْ فِي ذَلِكَ الرَّأْيِ الحسن، فجمعوا العلم، ودونوه، وكتبوه، ومن سباقهم في ذلك مالك بن أنس رضي الله عنه، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمُ اتِّبَاعًا، وَأَبْعَدِهِمْ مِنَ الابتداع. هذا وإن كانوا (¬5) قَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ كَرَاهِيَةُ كَتْبِ الْعِلْمِ مِنَ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ: إِمَّا عَلَى الخوف من الاتكال على الكتب استغناء به عَنِ الْحِفْظِ وَالتَّحْصِيلِ، وَإِمَّا عَلَى مَا كَانَ رَأْيًا دُونَ مَا كَانَ نَقْلًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ثُمَّ اتَّفَقَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى تَدْوِينِ الْجَمِيعِ لَمَّا ضَعُفَ الْأَمْرُ، وَقَلَّ الْمُجْتَهِدُونَ فِي التَّحْصِيلِ، فَخَافُوا عَلَى الدِّينِ الدُّرُوسَ (¬6) جُمْلَةً. قَالَ اللَّخْمِيُّ (¬7) ـ لَمَّا ذُكِرَ كَلَامُ مَالِكٍ وغيره في كراهية بيع كتب العلم ¬

(¬1) أي الوجه الثاني في احتجاج من يقسم البدعة إلى حسنة وقبيحة. (¬2) في (خ) و (ط): "هذا". (¬3) في (م) و (ت) و (غ): "ولم يكن إذ ذاك". (¬4) في (م) و (ت) و (غ) "حصر" بالصاد، وفي (خ): "حضر" بالضاد، والناسخ يجعل الظاء ضاداً، وما في (م) و (ت) لعله مثل (خ) إلا أن النقطة لم تكتب. (¬5) في (خ) و (ط): "كان". (¬6) ساقطة من (خ) و (ط). (¬7) هو علي بن محمد الربعي، المعروف باللخمي القيرواني، رئيس الفقهاء في وقته، له تعليق على المدونة سماه التبصرة، مشهور معتمد في المذهب. توفي سنة 478هـ انظر شجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 117).

وَالْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِهِ، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ الْإِجَارَةَ عَلَى كتبه، وحكى الخلاف ـ قال (¬1): (ولا (¬2) أرى أن يختلف اليوم (¬3) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ جَائِزٌ، لِأَنَّ حِفْظَ النَّاسِ وَأَفْهَامَهُمْ قَدْ نَقَصَتْ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ لَيْسَتْ لَهُمْ كُتُبٌ". قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاسِمِ (¬4) وَلَا لِسَعِيدٍ (¬5) كُتُبٌ، وَمَا كُنْتُ أقرأ العلم (¬6) عَلَى أَحَدٍ يَكْتُبُ (¬7) فِي هَذِهِ الْأَلْوَاحِ، وَلَقَدْ قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ (¬8): (أَكُنْتَ تَكْتُبُ الْعِلْمَ؟)، فَقَالَ: (لا)، فقلت: (أكنت تسألهم (¬9) أن يعيدوا (¬10) عَلَيْكَ الْحَدِيثَ؟) فَقَالَ: (لَا) (¬11). فَهَذَا كَانَ شَأْنُ الناس، فلو سار (¬12) الناس اليوم (¬13) بسيرتهم (¬14)، لضاع العلم (¬15)، ولم يكن يبقى (¬16) منه رسمه (¬17)، وهذا الناس اليوم يقرأون كُتُبَهُمْ، ثُمَّ هُمْ فِي التَّقْصِيرِ عَلَى مَا هم عليه. ¬

(¬1) في (خ) و (ت) و (ط): "وقال". (¬2) في (خ) و (ط): "لا" بدون واو. (¬3) العبارة في (خ) و (ط): "ولا أرى اليوم أن يختلف". (¬4) هو القاسم بن محمد، وقد تقدمت ترجمته (ص201). (¬5) هو سعيد بن المسيب، وقد تقدمت ترجمته (ص201). (¬6) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬7) في (غ): "ولا يكتب". (¬8) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، أبو بكر القرشي الزهري حافظ زمانه، وكان فقيهاً حافظاً، متفق على جلالته وإتقانه، وكان أعلم أهل المدينة. توفي سنة 125هـ. انظر: التاريخ الكبير للبخاري (1/ 220)، السير (5/ 326)، التقريب (2/ 207)، الكاشف (3/ 85). (¬9) في (خ) و (ت) و (ط): "تحب"، وساقطة من (م). (¬10) في (م) و (ت): "يقيدوا"، وفي (خ) و (ط): "القيدوا". (¬11) ذكر ابن عبد البر عن مالك أنه قال: (لم يكن مع ابن شهاب كتاب إلا كتاب فيه نسب قومه، قال: ولم يكن القوم يكتبون، إنما كانوا يحفظون). انظر جامع بيان العلم (1/ 64). (¬12) في (م) و (خ) و (ت): "صار". (¬13) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬14) في (خ) و (ط): "سيرتهم"، وفي (م) و (ت): "لسيرتهم". (¬15) كتبت في (ت) فوق السطر. (¬16) ساقطة من (خ) و (ط). (¬17) نص العبارة في (خ) و (ط): "ولم يكن بينا منه ولو رسمه أو اسمه".

وأيضاً فإنه لا خلاف عندنا في مسائر الْفُرُوعِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ وَاجِبٌ، وإذا كان كذلك كان إهمال كتابة (¬1) كُتُبِهَا (¬2) وَبَيْعِهَا يُؤَدِّي إِلَى التَّقْصِيرِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَأَنْ لَا يُوضَعَ مَوَاضِعَهُ، لِأَنَّ فِي (¬3) مَعْرِفَةِ أَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ قُوَّةً وَزِيَادَةٌ فِي وَضْعِ الِاجْتِهَادِ مَوَاضِعَهُ) (¬4). انْتَهَى مَا قَالَهُ اللَّخْمِيُّ. وَفِيهِ إِجَازَةُ الْعَمَلِ بِمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ، لِأَنَّ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا. فَكَذَلِكَ نَقُولُ: كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ، وَصَاحِبُهُ الَّذِي سَنَّهُ مَمْدُوحٌ، فَأَيْنَ ذَمُّهَا بِإِطْلَاقٍ، أَوْ عَلَى الْعُمُومِ؟! وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ) (¬5). فَأَجَازَ ـ كَمَا تَرَى ـ إِحْدَاثَ الْأَقْضِيَةِ وَاخْتِرَاعَهَا عَلَى قَدْرِ اخْتِرَاعِ الْفُجَّارِ لِلْفُجُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لتلك المحدثات أصل. (ومن ذلك تضمين الصناع (¬6)، وهو محكي عن الخلفاء رضي الله عنهم) (¬7)، وَقَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (¬8). وَأَخَذَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، وَلَمْ يَأْتِ لَهُ فِي ¬

(¬1) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬2) في (م): "كتبه كتبها". (¬3) ساقطة من (غ). (¬4) كتاب التبصرة للخمي غير مطبوع، ولا أعلم له كتاباً آخر مطبوعاً. (¬5) سيأتي تضعيف المؤلف لهذا القول (ص349). (¬6) سيتكلم المؤلف عن هذه المسألة في الباب الثامن، حيث جعلها مثالاً من أمثلة المصالح المرسلة (2/ 119). (¬7) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط). (¬8) سيذكر المؤلف هذه المسألة كمثال للمصالح المرسلة، انظر الباب الثامن (2/ 125).

الموطأ بأصل سماعي، وإنما علل بأمر مصلحي (¬1)، وَفِي مَذْهَبِهِ مِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ (¬2). فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، مَعَ أَنَّهُ مُخْتَرَعٌ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي الْعِلَّةِ؟ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَصَالِحُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ جَائِزًا، فَلِمَ اجْتَمَعُوا عَلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا (¬3)، وَفَرَّعَ غَيْرُهُمْ عَلَى بَعْضِهَا (¬4)؟ وَلَا يَبْقَى إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ يتابعون على ما عمل به (¬5) هؤلاء منها (¬6) دُونَ غَيْرِهِ (¬7)، وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي الْعِلَّةِ الْمُسَوِّغَةِ لِلْقِيَاسِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الِاقْتِصَارُ تَحَكُّمًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ (¬8). "فَالْجَوَابُ" وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ أَنْ نَقُولَ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ (¬9) قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً" الْحَدِيثَ، ليس الْمُرَادُ بِهِ الِاخْتِرَاعَ أَلْبَتَّةَ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، إِنْ زَعَمَ مُورِدُ السُّؤَالِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الدَّلِيلِ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَظْنُونٌ فَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ مَقْطُوعٌ به، فيلزم منه (¬10) التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ، وَالِاتِّفَاقُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ (أن لا تعارض بينهما لسقوط الظني وعدم اعتباره، فلم يبق إلا أن يقال إنه من قبيل العام والخاص، ولا تعارض بينهما عند المحققين) (¬11) ولكن لا دليل (¬12) فيه من وجهين: ¬

(¬1) أثبته من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "مصطلحي". (¬2) في (ت): "كثرة". (¬3) ساقطة من (خ) و (ط). (¬4) نص العبارة في (ت): "وفرع بعضهم على غيرها غيرهم على بعضها"، وكأنه صحح الأولى بالثانية. (¬5) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬6) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬7) في (خ) و (ط): "غيرهم". (¬8) إلى هنا ينتهي ما ذكره المؤلف عن القائلين بانقسام البدع إلى حسن وقبيح، ثم يشرع في الجواب عما قالوه. (¬9) في (ت): "وهو". (¬10) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬11) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬12) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).

أحدهما: أن (¬1) يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَعَارِضَيْنِ إِذْ تَقَدَّمَ (¬2) أَوَّلًا أَنَّ أَدِلَّةَ الذَّمِّ تَكَرَّرَ عُمُومُهَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ (¬3)، وَإِذَا (¬4) تَعَاضَدَتْ (¬5) أَدِلَّةُ الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ (¬6) تَخْصِيصٍ، لَمْ يُقْبَلْ (¬7) بعد ذلك التخصيص. والثاني: على التنزل (¬8) بفقد (¬9) التَّعَارُضِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الِاسْتِنَانَ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ بِمَا ثَبَتَ مِنَ السنة النبوية، وذلك من وجهين (¬10): أحدهما: أن السبب الذي لأجله جاء (¬11) الْحَدِيثُ هُوَ الصَّدَقَةُ الْمَشْرُوعَةُ، بِدَلِيلِ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ (جَرِيرِ) (¬12) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ (¬13) ـ أو العباء (¬14) ـ متقلدي السيوف، عامتهم من (¬15) مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر (¬16) وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى بهم (¬17) مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب، فقال: " {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (¬18) الآية،

_ (¬1) في (ط): "أنه". (¬2) في (م) و (غ) و (ر): "إذ قد مر". (¬3) في (ط): "تخصيصن". (¬4) في (م) و (غ) و (ر): "إذا" بدون الواو. (¬5) في (خ) و (ت) و (ط): "تعارضت". (¬6) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬7) في (م) و (غ): "تقبل". (¬8) في (خ): "التنزيل". (¬9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "لفقد". (¬10) في (خ) و (ط): "وذلك لوجهين". (¬11) في (خ) و (ط): "جاء لأجله". (¬12) في جميع النسخ "جابر"، والصواب المثبت إذ هو راوي الحديث. (¬13) في (خ) و (ت): "الثمار"، وهو خطأ، والصواب المثبت. قال الإمام النووي في شرح مسلم: (النمار بكسر النون جمع نمرة بفتحها، وهي ثياب صوف فيها تنمير، والعباء بالمد وبفتح العين جمع عباءة وعباية لغتان وقوله مجتابي النمار أي خرقوها وقوروا وسطها) (7/ 102). (¬14) في (غ): "والعباء". (¬15) ساقطة من (خ) و (ط). (¬16) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فقمص". وهي خلاف الرواية أيضاً. (¬17) في (خ) و (ت) و (ط): "لما راءهم". (¬18) سورة النساء: آية (1).

وَالْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (¬1)، تَصَدَّقَ (¬2) رَجُلٌ مِنْ (¬3) دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حتى قال: ولو بشق تمرة" قال: فجاء (¬4) رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ. قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتى رأيت وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ (¬5) كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ (¬6)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا (¬7) بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ" (¬8). فَتَأَمَّلُوا أَيْنَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ("مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً" وَ) (¬9) "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً"، تَجِدُوا ذَلِكَ فِيمَنْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، حيث (¬10) أتى (¬11) بِتِلْكَ الصُّرَّةِ، فَانْفَتَحَ بِسَبَبِهِ (¬12) بَابُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَبْلَغِ، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ: "مَن سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً" الْحَدِيثَ، فَدَلَّ (¬13) عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ هَاهُنَا مِثْلُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ سُنَّةً، وَأَنَّ الْحَدِيثَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي" الحديث إلى ¬

(¬1) سورة الحشر: آية (18). (¬2) غير واضحة في (ت). (¬3) ساقطة من (م) و (خ) و (ت). (¬4) في (ط): "فجاءه". (¬5) قال الإمام النووي في شرح مسلم: (يتهلل: أي يستنير فرحاً وسروراً) (7/ 103). (¬6) قال الإمام النووي في شرح مسلم: (وعلى هذا ذكر القاضي وجهين في تفسيره: أحدهما: معناه فضة مذهبة، فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه، والثاني شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود، وجمعها مذاهب، وهي شيء كانت العرب تصنعه من جلود، وتجعل فيها خطوطاً مذهبه يرى بعضها أثر بعض). شرح مسلم للنووي (7/ 103). (¬7) ساقطة من (ت). (¬8) تقدم تخريج الحديث (ص333). (¬9) ما بين المعكوفين ساقط من (ط). (¬10) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "حتى". (¬11) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬12) في (غ): "بنيته". (¬13) في (م) و (ت): "يدل".

قَوْلِهِ: "وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً" (¬1)، فَجَعَلَ مُقَابِلَ تِلْكَ السُّنَّةِ الِابْتِدَاعَ، فَظَهَرَ أَنَّ السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ ليست بمبتدعة، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: "وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي" (¬2). وَوَجْهُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم لما حض (¬3) عَلَى الصَّدَقَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ جَاءَ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيُّ بِمَا جَاءَ بِهِ، فَانْثَالَ (¬4) بَعْدَهُ الْعَطَاءُ إِلَى الْكِفَايَةِ، فَكَأَنَّهَا كَانَتْ سُنَّةً أَيْقَظَهَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِفِعْلِهِ، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَنِ اخْتَرَعَ سُنَّةً وَابْتَدَعَهَا وَلَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً. وَنَحْوَ هَذَا (¬5) الْحَدِيثِ فِي رَقَائِقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، مِمَّا يُوضِّحُ معناه، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَامَ سَائِلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا أَعْطَاهُ، فَأَعْطَاهُ الْقَوْمُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اسْتَنَّ خَيْرًا فَاسْتُنَّ بِهِ، فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، غَيْرَ مُنْتَقِصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ اسْتَنَّ شَرًّا فَاسْتُنَّ بِهِ، فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ تَبِعَهُ، غَيْرَ مُنْتَقِصٍ من أوزارهم شيئاً (¬6) " (¬7). فإذن قَوْلُهُ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً" مَعْنَاهُ مَنْ عَمِلَ بِسُنَّةٍ، لَا مَنِ اخْتَرَعَ سُنَّةً (¬8). وَالْوَجْهُ (¬9) الثَّانِي مِنْ وَجْهَيِ الْجَوَابِ (¬10): أَنَّ قَوْلَهُ: "مَنْ سَنَّ سنة ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص33). (¬2) تقدم تخريجه (ص34). (¬3) في (خ) و (ط): "مضى". (¬4) انثال: أي انصب، قال في الصحاح: وتناثل الناس إليه، أي انصبوا. انظر الصحاح (5/ 1825). (¬5) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬6) ساقطة من (خ) و (ط). (¬7) رواه الإمام ابن المبارك في الزهد والرقائق (ص513)، والإمام أحمد في المسند (5/ 387)، والبزار في مسنده كما في كشف الأستار (1/ 89) برقم (150)، والطبراني في معجمه الأوسط كما في مجمع البحرين (1/ 222 ـ 223) برقم (238) وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح إلا أبا عبيدة بن حذيفة وقد وثقه ابن حبان (1/ 172)، ويشهد له حديث أبي هريرة عند مسلم، وتقدم تخريجه (ص118) وحديث جرير بن عبد الله عند مسلم وغيره، وتقدم تخريجه (ص119). (¬8) عبارة (غ): "لا من اخترعها". (¬9) في (خ): "والجواب". (¬10) أي من وجهي الجواب على أن المراد بحديث "من سن سنة" العمل بما ثبت من السنة لا الاختراع.

حسنة" و"من سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً" لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ مِنْ أَصْلٍ، لِأَنَّ كَوْنَهَا حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، لِأَنَّ التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ مُخْتَصٌّ بِالشَّرْعِ، لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ (¬1). وَإِنَّمَا يَقُولُ بِهِ الْمُبْتَدِعَةُ، أَعْنِي التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ بِالْعَقْلِ، فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ (¬2) السُّنَّةُ فِي الْحَدِيثِ إما حسنة بالشرع (¬3)، وإما قبيحة بالشرع، فلا تصدق (¬4) إِلَّا عَلَى مِثْلِ الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ، وَتَبْقَى السُّنَّةُ السَّيِّئَةُ مُنَزَّلَةٌ عَلَى الْمَعَاصِي الَّتِي ثَبَتَ بِالشَّرْعِ كَوْنُهَا مَعَاصِيَ، كَالْقَتْلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ آدَمَ، حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (¬5)، وَعَلَى الْبِدَعِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ ذَمُّهَا، وَالنَّهْيُ عَنْهَا بِالشَّرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا قوله: "ومن (¬6) ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً"، فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِيثِ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ كَالْعُمُومَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ التي لم يثبت (¬7) لَهَا أَسْبَابٌ. وَيَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً" أَيْ مَنِ اخْتَرَعَهَا، وَشَمَلَ (¬8) مَا كَانَ مِنْهَا مُخْتَرَعًا ابْتِدَاءً مِنَ الْمَعَاصِي، كَالْقَتْلِ مِنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ، وَمَا كَانَ مُخْتَرَعًا بِحُكْمِ الْحَالِ، إِذْ (¬9) كَانَتْ قَبْلُ مُهْمَلَةً مُتَنَاسَاةً فَأَثَارَهَا عَمَلُ هَذَا الْعَامِلِ. فَقَدْ عَادَ الْحَدِيثُ ـ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ـ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ جِهَةِ لَفْظِهِ، وَشَرْحِ الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ لَهُ. وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: "وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً"، وَأَنَّ تَقْيِيدَ ¬

(¬1) تقدم التعليق على مسألة التحسين والتقبيح (ص213). (¬2) في (م): "يكون". (¬3) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "في الشرع". (¬4) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "يصدق". (¬5) تقدم تخريج الحديث (ص230). (¬6) في (خ) و (ط): "من" بدون الواو. (¬7) في (خ) و (ط): "تثبت". (¬8) في (غ): "ويشمل". (¬9) في (خ) و (ت): "إذا".

الْبِدْعَةِ بِالضَّلَالَةِ يُفِيدُ مَفْهُومًا (¬1)، وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ لَمْ تُفِدْ مَفْهُومًا. وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَفْهُومِ عَلَى رَأْيِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ (¬2)، فَإِنَّ (¬3) الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى تَعْطِيلِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَمَا دَلَّ دَلِيلُ تَحْرِيمِ الرِّبَا قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عَلَى تَعْطِيلِ الْمَفْهُومِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (¬4) (¬5)، وَلِأَنَّ الضَّلَالَةَ لَازِمَةٌ لِلْبِدْعَةِ (¬6) بِإِطْلَاقٍ، بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا مَفْهُومَ أَيْضًا. وَالْجَوَابُ (¬7) عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي (¬8): أَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْبِدْعَةِ الْمُحْدَثَةِ. وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَهِيَ مِنَ الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ الثَّابِتَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَ فيها خلاف بينهم (¬9)، ولكن لا يعود (¬10) ذلك بقدح (¬11) على ما نحن فيه. ¬

(¬1) وهو مفهوم المخالفة، فإذا كانت البدعة المذمومة هي بدعة الضلالة، فالبدعة الحسنة ليست بمذمومة، وسيبين المؤلف بطلان هذا الاستدلال. (¬2) والقول بمفهوم المخالفة هو رأي الجمهور بضوابطه، والأحناف لا يعدونه حجة. انظر: المستصفى للغزالي (2/ 42)، والإحكام للآمدي (2/ 153)، وإرشاد الفحول للشوكاني (178)، أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 367)، أصول الفقه للشيخ أبو زهرة (ص148). (¬3) في (م) و (غ): "لأن". (¬4) سورة آل عمران: آية (130). (¬5) مفهوم المخالفة المنفي عن الآية هو جواز أكل القليل من الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة، وهو مفهوم باطل لأن المراد بتقييد الربا هنا بالأضعاف المضاعفة هو التنفير مما كان يفعله أهل الجاهلية، من الزيادة على رأس المال، ومضاعفة هذه الزيادة سنة بعد أخرى. والذي دل على كون القيد للتنفير هو قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} سورة البقرة: آية (279). انظر: أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 372 ـ 373)، أصول الفقه للشيخ أبو زهرة (ص151 ـ 152). (¬6) في (م): "البدعة". (¬7) ساقطة من (م)، وبياض في (غ). (¬8) وهو احتجاجهم بأن الصحابة ومن بعدهم قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة، كجمع القرآن. (¬9) انظر هذه المسألة في الباب الثامن (2/ 111 ـ 112). (¬10) في (خ) و (ط): "يعد". (¬11) في (م) و (خ) و (ت): "قدح".

أَمَّا جَمْعُ الْمُصْحَفِ، وَقَصْرُ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، إِذْ أُنْزِلَ (¬1) الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهُا شَافٍ كَافٍ، تَسْهِيلًا عَلَى الْعَرَبِ الْمُخْتَلِفَاتِ اللُّغَاتِ (¬2)، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةً، إِلَّا أَنَّهُ عَرَضَ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ بَعْدَ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحٌ لِبَابِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ، حَيْثُ (¬3) اخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ (¬4) حَسْبَمَا يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (¬5)، فَخَافَ الصَّحَابَةُ ـ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمُ ـ اخْتِلَافَ الْأُمَّةِ فِي يَنْبُوعِ الْمِلَّةِ، فَقَصَرُوا النَّاسَ عَلَى مَا ثَبَتَ مِنْهَا فِي مصاحف عثمان رضي الله تعالى عَنْهُ، وَاطَّرَحُوا مَا سِوَى ذَلِكَ، عِلْمًا بِأَنَّ مَا اطَّرَحُوهُ مُضَمَّنٌ فِيمَا أَثْبَتُوهُ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي يُؤَدَّى بِهَا الْقُرْآنُ. ثُمَّ ضبطوا ذلك أيضاً (¬6) بِالرِّوَايَةِ حِينَ فَسَدَتِ الْأَلْسِنَةُ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَهْلُ الْعُجْمَةِ، خَوْفًا مِنْ فَتْحِ بَابٍ آخَرَ مِنَ الْفَسَادِ، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَ أَهْلُ الْإِلْحَادِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي الْقِرَاءَاتِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ فِي بَثِّ إِلْحَادِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ (¬7) لَمَّا لَمْ يُمْكِنُهُمُ الدُّخُولُ مِنْ هَذَا الْبَابِ دَخَلُوا مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالدَّعْوَى فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ، حَسْبَمَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (¬8). فَحَقٌّ مَا فَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ لَهُ أصْلًا يَشْهَدُ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ لَا خِلَافَ فِيهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬9)، وَأُمَّتُهُ مِثْلُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: (لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغائب) (¬10) وأشباهه. ¬

(¬1) في (م): "نزل". (¬2) أي اللهجات. (¬3) غير واضحة في (ت). (¬4) في (غ) و (ر): "القراءات". (¬5) سوف يتكلم المؤلف عن مسألة جمع القرآن بشيء من البسط في الباب الثامن (2/ 115 ـ 117). (¬6) زيادة في (م). (¬7) في (ت): "أنهم". (¬8) سيتكلم المؤلف عن مآخذ المبتدعة في الاستدلال في الباب الرابع. (¬9) سورة المائدة: آية (67). (¬10) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "رب مبلغ=

وَالتَّبْلِيغُ كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِكَيْفِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ بِأَيِّ شَيْءٍ أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة (¬1) وغيرها، كذلك لَا يَتَقَيَّدُ حِفْظُهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالزَّيْغِ بِكَيْفِيَّةٍ دُونَ أُخْرَى إِذَا لَمْ يَعُدْ عَلَى الْأَصْلِ بالإبطال (¬2)، كَمَسْأَلَةِ الْمُصْحَفِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ. وَأَمَّا مَا سِوَى الْمُصْحَفِ فَالْأَمْرُ فِيهِ أَسْهَلُ، فقد ثبت في السنة أصل (¬3) كِتَابَةُ الْعِلْمِ، فَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْتُبُوا لِأَبِي (¬4) شَاهٍ" (¬5)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (لَيْسَ أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر حديثاً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني (¬6)، إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو (¬7)، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ، وَكُنْتُ لَا أَكْتُبُ) (¬8). وَذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ (¬9) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم كتاب يكتبون له الوحي ¬

=أوعى من سامع" عن أبي بكرة رضي الله عنه (1/ 157 ـ 158) ومسلم في كتاب القسامة من صحيحه، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (167 ـ 172)، والإمام الدارمي في كتاب المناسك، باب في الخطبة يوم النحر برقم (1916) (2/ 93)، والإمام ابن ماجه في المقدمة من سننه، باب من بلغ علماً برقم (223) (1/ 85)، والإمام أحمد في المسند (5/ 37). (¬1) ساقطة من (غ). (¬2) في (م) و (ت): "الابطال". (¬3) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬4) في (خ): "لي". (¬5) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه، باب كتابة العلم عن أبي هريرة (1/ 205)، وفي كتاب اللقطة، باب كيف تعرف لقطة مكة (5/ 86 ـ 87)، والإمام أبو داود في كتاب المناسك من سننه، باب تحريم حرم مكة برقم (2017) (2/ 218 ـ 219)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء في الرخصة "في كتابة العلم" برقم (2667) (5/ 38)، والإمام أحمد في المسند (2/ 238). (¬6) ساقطة من (م) و (ت)، وقدمت في (خ) و (ط) على قوله: "رسول الله ... ". (¬7) في (خ) و (ت): "عمر" وهو خطأ. (¬8) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه، باب كتابة العلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه (1/ 206)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء في الرخصة في "كتابة العلم" برقم (2668) (5/ 39)، وفي كتاب المناقب برقم (3841) (5/ 644)، والإمام أحمد في المسند (2/ 248 ـ 249). (¬9) لفظ الجلالة ليس في (ت).

وَغَيْرَهُ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُمْ (¬1). وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكِتَابَةَ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ إِذَا تَعَيَّنَ لِضَعْفِ الْحِفْظِ، وَخَوْفِ انْدِرَاسِ الْعِلْمِ، كَمَا خِيفَ (على القرآن فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فدليل كَتْب العلم إذا خيف) (¬2) دروسه عتيد (¬3). وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ اللَّخْمِيُّ فِيمَا تَقَدَّمَ (¬4) وَإِنَّمَا كَرِهَ (¬5) الْمُتَقَدِّمُونَ كَتْبَ الْعِلْمِ لِأَمْرٍ آخَرَ (¬6)، لَا لِكَوْنِهِ بِدْعَةً، فَكُلُّ مِنْ سَمَّى كَتْبَ الْعِلْمِ بِدْعَةً فَإِمَّا مُتَجَوِّزٌ، وَإِمَّا غَيْرُ عَارِفٍ بوضع (¬7) لَفْظِ الْبِدْعَةِ. فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ على صحة العمل بالبدع. وإن تعلق بِمَا وَرَدَ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا غَيْرُ (¬8) صَحِيحٍ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ (¬9)، (فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ) (¬10) إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُصْحَفِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهَا (¬11) فِي صُورَةٍ ثَبَتَ اعْتِبَارُهَا مُطْلَقًا، وَلَا يَبْقَى بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ نِزَاعٌ إِلَّا فِي الْفُرُوعِ. وَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ" (¬12)، فَأَعْطَى الْحَدِيثُ ـ كَمَا تَرَى ـ أَنَّ مَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ¬

(¬1) وممن ذكر كتَّابه صلّى الله عليه وسلّم الإمام ابن القيم في زاد المعاد (1/ 117)، والتنبيه والإشراف للمسعودي (245 ـ 246). (¬2) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬3) في (خ) و (ط): "حينئذ"، وعتيد يعني: حاضر. (¬4) تقدم (ص337). (¬5) في (ت): "ذكر". (¬6) تقدم سبب كراهتهم لذلك (ص336). (¬7) في (م) و (ت): "بموضع"، وغير واضحة في (غ). (¬8) ساقطة من (م) و (ت). (¬9) سيتكلم المؤلف عن هذه المسألة في بداية الباب الثامن (2/ 111 ـ 112). (¬10) ساقط من (غ). (¬11) في (غ): "اعتبار". (¬12) تقدم تخريج الحديث (ص66).

لَاحِقٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ مَا سَنُّوهُ لَا يَعْدُو أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَذَلِكَ سُنَّةٌ لَا بِدْعَةٌ، وَإِمَّا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِهِ سُنَّةً، إِذْ قَدْ أَثْبَتَهُ كذلك صاحب الشريعة صلّى الله عليه وسلّم. فدليله مِنَ الشَّرْعِ ثَابِتٌ، فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ الأمر (¬1) باتباعهم (¬2) بِالنَّهْيِ عَنِ الْبِدَعِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَوْ كَانَ عَمَلُهُمْ ذَلِكَ بِدْعَةً لَوَقَعَ فِي الْحَدِيثِ التَّدَافُعُ. وَبِذَلِكَ يُجَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ (¬3)، لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَتَضْمِينُ الصُّنَّاعِ (¬4)، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمْ أَرَهُ ثَابِتًا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ (¬5)، وَإِنْ سُلِّمَ فَرَاجِعٌ: إِمَّا لِأَصْلِ الْمَصَالِحِ المرسلة (وإما لباب تحقيق المناط، وكذلك الأخذ بقول الميت دمي عند فلان من باب الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ) (¬6) ـ إِنْ لَمْ نَقُلْ: إِنَّ أَصْلَهُ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ (¬7) ـ، وَإِنْ (¬8) ثَبَتَ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ مَقُولٌ بِهَا عِنْدَ السَّلَفِ ـ مَعَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بها يذمون البدع وأهلها، ويتبرأون مِنْهُمْ ـ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ مُبَايِنَةٌ لَهَا، وَلَيْسَتْ مِنْهَا فِي شَيْءٍ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَابٌ تذكر فيه (بعد إن شاء الله) (¬9) (¬10). ¬

(¬1) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬2) في (خ) و (ط): "اتباعهم". (¬3) تكلم المؤلف عن هذه المسألة في الباب الثامن (2/ 125 ـ 126). (¬4) تكلم المؤلف عن هذه المسألة في الباب الثامن (2/ 119). (¬5) وهو قول عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: (تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بقدر ما أحدثوا من الفجور)، وتقدم (ص338). (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬7) أراد القصة المذكورة في سورة البقرة، والشاهد أنه لما أحياه الله أخبرهم بقاتله، فبنوا الحكم على قوله. (¬8) في (غ) و (ر): "وإذا". (¬9) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط). (¬10) وهو الباب الثامن الذي بين فيه المؤلف الفرق بين المصالح المرسلة والبدع.

فصل

فصل (¬1) وَمِمَّا يُورَدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَسَّمُوا الْبِدَعَ بِأَقْسَامِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْخَمْسَةِ، وَلَمْ يَعُدُّوهَا قِسْمًا وَاحِدًا مَذْمُومًا، فَجَعَلُوا مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ. وَبَسَطَ ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ (¬2) بَسْطًا شَافِيًا (¬3)، وَأَصْلُ مَا أَتَى به من ذلك لشيخه (¬4) عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ (¬5)، وَهَا أَنَا آتِي بِهِ عَلَى نَصِّهِ، فَقَالَ: "اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ ـ فِيمَا رَأَيْتُ ـ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِنْكَارِ الْبِدَعِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ (¬6) وَغَيْرُهُ (¬7)، وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ، وَأَنَّهَا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ وَاجِبٌ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْوُجُوبِ وَأَدِلَّتُهُ مِنَ الشرع، كتدوين القرآن ¬

(¬1) ويذكر المؤلف في هذا الفصل القائلين بانقسام البدع إلى أقسام الشريعة الخمسة، ثم يشرع في الرد عليهم (ص356). (¬2) هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الدين الصنهاجي القرافي، من علماء المالكية، له مصنفات جليلة في الفقه والأصول منها أنوار البروق في أنواء الفروق، وكتاب الفروق، وكتاب الذخيرة، توفي سنة 684هـ. انظر: الأعلام للزركلي (1/ 94 ـ 95)، حسن المحاضرة للسيوطي (1/ 316)، الديباج المذهب (1/ 236). (¬3) وذلك في كتابه الفروق (4/ 202 ـ 205). (¬4) في (م) و (خ) و (ط): "شيخه". (¬5) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص24). (¬6) هو أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، المالكي، ويقال له: مالك الصغير وكان أحد من برز في العلم والعمل، وهو الذي لخص المذهب، صنف النوادر والزيادات، والعتبية، والرسالة وغيرها. توفي رحمه الله سنة 389هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 10)، النجوم الزاهرة (4/ 200)، شذرات الذهب (3/ 131). (¬7) ومن المواضع التي ذكر فيها ابن أبي زيد ذم البدع وأهلها ما ذكره في كتابه الجامع في السنن والآداب (ص105 ـ 126).

وَالشَّرَائِعِ إِذَا (¬1) خِيفَ عَلَيْهَا الضَّيَاعُ، فَإِنَّ (¬2) التَّبْلِيغَ لِمَنْ بَعْدَنَا مِنَ الْقُرُونِ وَاجِبٌ إِجْمَاعًا وَإِهْمَالُ ذَلِكَ حَرَامٌ إِجْمَاعًا، فَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي وُجُوبِهِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُحَرَّمُ، وَهُوَ كُلُّ بِدْعَةٍ تَنَاوَلَتْهَا قَوَاعِدُ التَّحْرِيمِ وَأَدِلَّتُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، كَالْمُكُوسِ، وَالْمُحْدَثَاتِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَالْمُحْدَثَاتِ الْمُنَافِيَةِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، كَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَتَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْ لَا يَصْلُحُ لها (¬3) بِطَرِيقِ (¬4) التَّوْرِيثِ، وَجَعْلِ الْمُسْتَنَدِ فِي ذَلِكَ كَوْنَ الْمَنْصِبِ كَانَ لِأَبِيهِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بأهل. القسم الثالث من (¬5) البدع مَنْدُوبٌ (¬6) إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ النَّدْبِ وأدلته، كصلاة التراويح، وإقامة صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ (¬7) عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِعَظَمَةِ الْوُلَاةِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَكَانَ الناس في زمان (¬8) الصحابة رضوان الله عليهم مُعْظَمُ تَعْظِيمِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ وَسَبْقِ الْهِجْرَةِ، ثم اختل النظام، وذهب ذلك القرن، وحدث قَرْنٌ آخَرُ لَا يُعَظِّمُونَ إِلَّا بِالصُّوَرِ، فَتَعَيَّنَ تَفْخِيمُ الصُّوَرِ حَتَّى تَحْصُلَ الْمَصَالِحُ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ، وَيَفْرِضُ لِعَامِلِهِ نِصْفَ شَاةٍ في (¬9) كُلَّ يَوْمٍ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي هُوَ عليها لَوْ عَمِلَهَا (¬10) غَيْرُهُ لَهَانَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، ولم يحترموه، وتجاسروا عليه ¬

(¬1) في (خ) و (ت) و (ط): "إذ". (¬2) في (خ) و (ت) و (ط): "وإن". (¬3) زيادة في (م). (¬4) في (غ): "بطريقة". (¬5) في (خ) و (ط): "أن من"، والمثبت هو الموافق لما في الفروق. (¬6) في (خ) و (ط) وهامش (ت): "ما هو مندوب إليه .. ". (¬7) المراد تحسين مظاهرهم من ملبس ومطعم ومسكن ونحوه، كما سيتبين ذلك فيما يأتي. (¬8) في (خ) و (ط): "زمن". (¬9) ساقطة من (خ) و (ط) و (ر). (¬10) في (خ): "علمها".

بِالْمُخَالَفَةِ، فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَضَعَ غَيْرَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى تَحْفَظُ النِّظَامَ. وَلِذَلِكَ (¬1) لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَجَدَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَدِ اتَّخَذَ الْحُجَّابَ، وَاتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ النَّفِيسَةَ، وَالثِّيَابَ الْهَائِلَةَ الْعَلِيَّةَ (¬2)، وَسَلَكَ مَا سَلَكَهُ الْمُلُوكُ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذلك، فقال له (¬3): إِنَّا بِأَرْضٍ نَحْنُ فِيهَا مُحْتَاجُونَ لِهَذَا، فَقَالَ لَهُ: لَا آمُرُكَ وَلَا أَنْهَاكَ، وَمَعْنَاهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِحَالِكَ هَلْ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَى هَذَا (¬4) (فيكون حسناً (¬5)، أَوْ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ) (¬6)، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الأمور تختلف باختلاف الأمصار والأعصار (¬7) والقرون والأحوال. فَكَذَلِكَ يُحْتَاجُ (¬8) إِلَى تَجْدِيدِ زَخَارِفَ وَسِيَاسَاتٍ لَمْ تَكُنْ قَدِيمَةً، وَرُبَّمَا وَجَبَتْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. القسم الرابع: بدع (¬9) مَكْرُوهَةٌ، وَهِيَ مَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا، كَتَخْصِيصِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ أَوْ غَيْرِهَا بنوع من العبادة، ولذلك جاء (¬10) في الصحيح، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمِ الجمعة بصيام، أو ليلته (¬11) بِقِيَامٍ (¬12). وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ المحدودات، كما ورد في ¬

(¬1) في (م) و (ت): "وكذلك". (¬2) في (غ) و (ر): "العالية". (¬3) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬4) في (خ) و (ط): "محتاج إليه". (¬5) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط). (¬7) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬8) في (م): "تحتاجون"، وفي (غ) و (ر): "يحتاجون". ، والتنبيه والإشراف للمسعودي (245 ـ 246). (¬9) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬10) في (خ) و (ت) و (ط): "ليله". (¬11) رواه الإمام مسلم في كتاب الصيام من صحيحه، باب كراهة إفراد يوم الجمعة بصوم لا يوافق عادته عن أبي هريرة (8/ 18 ـ 19 نووي) وروى البخاري في الصحيح النهي عن صيام يوم الجمعة (1984، 1985)، والإمام أحمد في المسند عن أبي الدرداء (6/ 444).

التسبيح عقب (¬1) الفريضة ثلاثاً وثلاثين، فتفعل مئة، وَوَرَدَ (¬2) صَاعٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَيَجْعَلُ عَشَرَةَ أَصْوُعٍ (¬3)، بِسَبَبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا إِظْهَارُ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى الشَّارِعِ، وَقِلَّةُ أَدَبٍ مَعَهُ، بَلْ شَأْنُ الْعُظَمَاءِ إِذَا حَدَّدُوا شَيْئًا وُقِفَ عِنْدَهُ، وَعُدَّ الْخُرُوجُ عَنْهُ قِلَّةَ أَدَبٍ. وَالزِّيَادَةُ فِي الْوَاجِبِ أَوْ عَلَيْهِ أَشَدُّ فِي الْمَنْعِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ نَهَى مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عنه عن إيصال صيام (¬4) سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّهَا من رمضان (¬5). وخرج أبو داود في (سننه) (¬6) أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى الْفَرْضَ، وَقَامَ (¬7) لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ (بْنُ الْخَطَّابِ) (¬8): (اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك، فبهذا (¬9) هلك مَنْ قَبْلَنَا)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصَابَ اللَّهُ بِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ" (¬10)، يُرِيدُ عُمَرَ إِنَّ مَنْ قَبْلَنَا وَصَلُوُا النَّوَافِلَ بِالْفَرَائِضِ وَاعْتَقَدُوا الْجَمِيعَ وَاجِبًا، وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلشَّرَائِعِ، وَهُوَ حَرَامٌ إِجْمَاعًا. الْقِسْمُ الْخَامِسُ: الْبِدَعُ المباحة، وهي ما تناولته أدلة الإباحة ¬

(¬1) في (ت) و (غ) و (ر): "عقيب". (¬2) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "وورود". (¬3) في (خ) و (ت) و (ط): "أصواع". والمثبت ذكره الجوهري في الصحاح في جمع صاع (3/ 1247). (¬4) ساقطة من (خ) و (ط). (¬5) قال الإمام ابن رشد بعدما ذكر أن صيام الست من شوال مندوب: "إلا أن مالكاً كره ذلك، إما مخافة أن يلحق الناس برمضان ما ليس في رمضان، وإما لأنه لعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده وهو الأظهر". انظر بداية المجتهد (1/ 308 ـ 309). (¬6) في جميع النسخ: "مسنده"، والمثبت هو ما في الفروق، والحديث في سنن أبي داود كما سيأتي. (¬7) في (ت): "وكام". (¬8) كتبت في (ت) فوق السطر. (¬9) في (م): "فهذا"، وفي (خ) و (ت) و (ط): "فهكذا". (¬10) رواه الإمام أبو داود في كتاب الصلاة من سننه، باب في الرجل يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة برقم (1007)، (1/ 263)، والحاكم في المستدرك (1/ 270)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 269)، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود (ص98 ـ 99).

وَقَوَاعِدُهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ، كَاتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ، فَفِي الْآثَارِ: (أَوَّلُ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّخَاذُ الْمَنَاخِلِ)، لِأَنَّ تَلْيِينَ الْعَيْشِ وَإِصْلَاحَهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، فَوَسَائِلُهُ مُبَاحَةٌ. فَالْبِدْعَةُ إِذَا عُرِضَتْ تُعْرَضُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَأَدِلَّتِهِ، فَأَيُّ شَيْءٍ تَنَاوَلَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْقَوَاعِدِ أُلْحِقَتْ بِهِ، مِنْ إِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أو غيرهما، وَإِنْ نُظِرَ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهَا بِدْعَةً مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ فِيمَا يَتَقَاضَاهَا كُرِهَتْ. فَإِنَّ الْخَيْرَ (¬1) كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي الِابْتِدَاعِ (¬2). (انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ) (¬3). وَذَكَرَ شَيْخُهُ (¬4) فِي قَوَاعِدِهِ (¬5)، فِي فَصْلِ البدع منها ـ بعد ما قَسَّمَ أَحْكَامَهَا إِلَى الْخَمْسَةِ ـ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَلِلْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ أَمْثِلَةٌ: أحدها: الاشتغال (بعلم النحو) (¬6) الَّذِي (¬7) يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامُ رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك واجب، لأن حفظ الشريعة واجب، [ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو وَاجِبٌ] (¬8). وَالثَّانِي: حِفْظُ غَرِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ اللغة. والثالث: تدوين أصول الفقه. ¬

(¬1) في (ط): "الخبر". (¬2) ذكر هذا التقسيم الإمام القرافي في كتابه الفروق (4/ 202 ـ 205). (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (ط). (¬4) هو العز بن عبد السلام رحمه الله، وتقدمت ترجمته (ص24). (¬5) هو كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 195 ـ 196). (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬7) في (خ) و (ط): "بالذي". وكتبت كذلك لتستقيم العبارة، لأن ما بين المعكوفين كان ساقطاً. (¬8) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).

وَالرَّابِعُ: الْكَلَامُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، لِتَمْيِيزِ (¬1) الصَّحِيحِ من السقيم. ثم قال: وللبدع المحرمة أمثلة: مِنْهَا (¬2) مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ (¬3)، وَمَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ (¬4)، وَالْمُرْجِئَةِ (¬5)، وَالْمُجَسِّمَةِ (¬6)، وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ. قَالَ: وَلِلْمَنْدُوبِ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا إِحْدَاثُ (¬7) الرُّبَطِ، وَالْمَدَارِسِ، وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ (¬8)، وَمِنْهَا كُلُّ إِحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ (¬9) فِي العصر (¬10) الأول، (ومنها صلاة التراويح) (¬11)، (وَمِنْهَا الْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ التَّصَوُّفِ، وَالْكَلَامُ فِي الْجَدَلِ) (¬12)، وَمِنْهَا جَمْعُ الْمَحَافِلِ (¬13) لِلِاسْتِدْلَالِ فِي الْمَسَائِلِ، إِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ وَجْهُهُ تَعَالَى. قَالَ (¬14): وَلِلْمَكْرُوهَةِ (¬15) أمثلة: منها زخرفة المساجد، وتزويق (¬16) المصاحف. ¬

(¬1) في (خ): "أو تمييز". (¬2) في (غ): "منه". (¬3) تقدم التعريف بهم (ص11). (¬4) هم القائلون بأن العبد مجبور على فعله من إيمان أو كفر ومن خير أو شر، وأن العبد لا اختيار له ولا قدرة، وأن الله تعالى هو الذي جبر العباد على الكفر أو الإيمان، وممن قال به الجهمية والنجارية والضرارية. انظر: الملل والنحل (ص87)، البرهان للسكسكي (ص42). (¬5) تقدم التعريف بهم (ص27). (¬6) المجسمة هم القائلون بأن الله جسم من الأجسام، وشبهوه سبحانه بالمخلوقات، وهو مذهب فرق من الشيعة الغلاة، ومن المبتدعة من يلمز أهل السنة بهذا الوصف. انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 102 ـ 105)، دائرة المعارف الإسلامية (6/ 460). (¬7) في (خ): "أحد". (¬8) في (غ): "القناطير". (¬9) في (غ) و (ر): "يعين". (¬10) في (خ) و (ط): "الصدر". (¬11) ما بين المعكوفين ساقط من (ط). (¬12) ما بين المعكوفين ساقط من (غ). (¬13) عبارة قواعد الأحكام: "ومنها الكلام في الجدل في جمع المحافل .. ". (¬14) بياض في (غ). (¬15) في (خ) و (ت) و (ط): "وللكراهة". (¬16) زوّق الكلام والكتاب حسنه وقومه. انظر الصحاح (4/ 1492)، ولعل مراده ما حدث من التفنن في كتابة المصاحف.

وَأَمَّا تَلْحِينُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ (¬1) أَلْفَاظُهُ عَنِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ. قال: وللبدع المباحة (¬2) أمثلة: منها المصافحة عقيب (¬3) صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَأْكَلِ (¬4) وَالْمَشْرَبِ (¬5) وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَلِبْسِ الطَّيَالِسَةِ (¬6)، وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ (¬7) فِي بَعْضِ ذَلِكَ، فَجَعَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنِ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ، وَجَعَلَهُ (¬8) آخَرُونَ مِنَ السُّنَنِ الْمَفْعُولَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا بَعْدَهُ، كَالِاسْتِعَاذَةِ وَالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ (¬9). انْتَهَى مَحْصُولُ مَا قَالَ. وَهُوَ يُصَرِّحُ مَعَ مَا قَبْلَهُ (¬10) بِأَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ بِأَقْسَامِ الشَّرِيعَةِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُحْمَلَ أَدِلَّةُ ذَمِّ الْبِدَعِ عَلَى الْعُمُومِ، بَلْ لَهَا مُخَصَّصَاتٌ. وَالْجَوَابُ (¬11): أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ أَمْرٌ مُخْتَرَعٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ هو في نَفْسُهُ مُتَدَافِعٌ، لِأَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَا مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ قَوَاعِدِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ هُنَالِكَ مَا يَدُلُّ مِنَ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ لَمَا كَانَ ثَمَّ بِدْعَةٌ، وَلَكَانَ الْعَمَلُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها. ¬

(¬1) في (م) و (ت): "يتغير". (¬2) ساقطة من (خ). (¬3) في (خ) و (ط): "عقب". (¬4) في (غ): "المآكل". (¬5) في (غ) و (ر): "المشارب". (¬6) قال في اللسان: "والطيلس والطيلسان ضرب من الأكسية .. ، والجمع طيالس وطيالسة". وقال في حاشية الكتاب: قوله: "ضرب من الأكسية" أي الأسود. انظر: اللسان (6/ 125). (¬7) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "يختلف". (¬8) في (غ): "ويجعله". (¬9) ذكر هذه الأقسام العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام (2/ 195 ـ 196). (¬10) وهو كلام الإمام القرافي السابق. (¬11) من هنا يبدأ المؤلف في الرد على ما قاله الإمام القرافي وشيخه العز بن عبد السلام من انقسام البدعة إلى واجبة ومحرمة .. ، وسوف يستغرق هذا الرد أكثر ما تبقى من هذا الباب، مع بعض الاستطرادات في مسائل التصوف.

فَالْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِ (¬1) تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِدَعًا، وَبَيْنَ (¬2) كَوْنِ الْأَدِلَّةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا أَوْ نَدْبِهَا أَوْ إِبَاحَتِهَا، جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ. أَمَّا الْمَكْرُوهُ مِنْهَا وَالْمُحَرَّمُ (¬3) فَمُسَلَّمٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا بِدَعًا، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذْ لَوْ دَلَّ الدليل على منع أمر ما (¬4)، أَوْ كَرَاهَتِهِ (¬5)، لَمْ يُثْبِتْ بِذَلِكَ (¬6) كَوْنَهُ بِدْعَةً، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ (¬7) مَعْصِيَةً، كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهَا. فَلَا بِدْعَةَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا ذَلِكَ التَّقْسِيمُ أَلْبَتَّةَ، إِلَّا الْكَرَاهِيَةَ وَالتَّحْرِيمَ، حَسْبَمَا يُذْكَرُ في بابه (¬8) (إن شاء الله) (¬9). فما ذكره الْقَرَافِيُّ (¬10) عَنِ الْأَصْحَابِ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى إِنْكَارِ الْبِدَعِ صَحِيحٌ، وَمَا قَسَّمَهُ فِيهَا غَيْرُ صَحِيحٍ. ومن العجب حكايته (¬11) الِاتِّفَاقِ مَعَ (¬12) الْمُصَادَمَةِ بِالْخِلَافِ، وَمَعَ (¬13) مَعْرِفَتِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي خَرْقِ الْإِجْمَاعِ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا اتَّبَعَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ شَيْخَهُ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ، فإن ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ظَاهِرٌ مِنْهُ أَنَّهُ سَمَّى الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ بِدَعًا، بِنَاءً ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ أَعْيَانُهَا تَحْتَ النُّصُوصِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تُلَائِمُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ، فَمِنْ هُنَالِكَ جعل القواعد هي الدالة على استحسانها، فتسميته (¬14) لها بلفظ البدع هو (¬15) مِنْ حَيْثُ فُقْدَانِ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ المعيّنة (¬16) واستحسانها من حيث دخولها تحت ¬

(¬1) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬2) ساقطة من (غ) و (ر). (¬3) في (غ) و (ر): "أو المحرم". (¬4) زيادة في (م) و (غ). (¬5) في (م): "كراهية"، وفي (ت): "كراهيته". (¬6) في (خ) و (ط): "ذلك". (¬7) في (غ) و (ر): "تكون". (¬8) وهو الباب السادس من هذا الكتاب (2/ 36). (¬9) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ط) و (ت) و (خ). (¬10) تقدم قوله وترجمته (ص350). (¬11) في (ط): "حكاية". (¬12) في (غ) و (ر): "ثم". (¬13) في (م) و (ت) و (غ): "مع" بدون الواو. (¬14) في (خ) و (ط): "بتسميته"، والباء غير واضحة في (ت). (¬15) في (خ) و (ط): "وهو". (¬16) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).

الْقَوَاعِدِ، وَلَمَّا بَنَى عَلَى اعْتِمَادِ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ مَعَ الْأَعْمَالِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ النُّصُوصِ الْمُعَيَّنَةِ، وَصَارَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَسَمَّاهَا بِدَعًا فِي اللَّفْظِ، كَمَا سَمَّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْجَمْعَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةً (¬1)، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا الْقَرَافِيُّ فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي نَقْلِ تِلْكَ الْأَقْسَامِ عَلَى غَيْرِ مُرَادِ شَيْخِهِ وَلَا عَلَى مُرَادِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ خَالَفَ الْكُلَّ فِي ذَلِكَ التَّقْسِيمِ فَصَارَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ (¬2). ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا قِسْمُ الْوَاجِبِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ آنِفًا فَلَا نُعِيدُهُ (¬3)، وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْرِيمِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا هُوَ بِدْعَةٌ هَكَذَا بِإِطْلَاقٍ، بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ مُخَالَفَةٌ لِلْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ إِلَّا من جهة كونه موضوعاً على وزان الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اللَّازِمَةِ، كَالزَّكَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالنَّفَقَاتِ الْمُقَدَّرَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (¬4)، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ منه طرف (¬5). فإذن لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ فِي هَذَا القسم بأنه بدعة دون أن يقسم الأمر في ذلك. وَأَمَّا قِسْمُ الْمَنْدُوبِ فَلَيْسَ مِنِ الْبِدَعِ بِحَالٍ، ويتبين (¬6) ذَلِكَ بِالنَّظَرِ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي مَثَّلَ لَهَا (¬7) فصلاة (¬8) التراويح في رمضان جماعة في المسجد، قد (¬9) قام بها رسول الله (¬10) صلى الله عليه وسلم في المسجد، واجتمع الناس خلفه. ¬

(¬1) تقدم تخريج قوله رضي الله عنه في الباب الأول (ص50)، وسيذكره المؤلف قريباً. (¬2) في هذا تحامل على الإمام القرافي رحمه الله، فإن قوله هو قول شيخه العز بن عبد السلام، والتماس العذر لأحدهما دون الآخر غير مقبول. (¬3) وهو جمع القرآن كما تقدم (ص345). (¬4) وذلك في الباب السابع (2/ 80 ـ 82). (¬5) وذلك (ص54). (¬6) في (م) و (ح) و (ت) و (ط): "وتبيين". (¬7) في (م) و (غ): "بها". (¬8) في (خ) و (ط): "بصلاة". (¬9) في (خ) و (ط): "فقد". (¬10) في (ط): "النبي".

فَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬1) رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا (¬2): يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، قَالَ: فَقَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ"، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ، وَالنَّاسَ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السَّحُورُ (¬3)، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بنا بقية الشهر. ونحوه في الترمذي قال (¬4) فيه: حسن صحيح (¬5). لكنه صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا خَافَ افْتِرَاضَهُ (¬6) عَلَى الْأُمَّةِ أَمْسَكَ عَنْ (¬7) ذَلِكَ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (¬8) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى الْقَابِلَةَ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثم اجتمعوا من (¬9) اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ أَوِ الرَّابِعَةَ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمُ رسول الله (¬10) صلى الله عليه وسلم، فلما أَصْبَحَ قَالَ: "قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يمنعني من الخروج إلا أني ¬

(¬1) زاد ناسخ (غ) بعض الكلمات هنا ثم عاد إلى رواية الحديث كما هو هنا. (¬2) في (غ): "فقلت". (¬3) في (ط): "السجود". (¬4) في (ط): "وقال". (¬5) رواه الإمام الترمذي في كتاب الصوم من سننه، باب ما جاء في قيام شهر رمضان عن أبي ذر رضي الله عنه، وقال: حسن صحيح، وهو برقم (806) (3/ 169) والإمام أبو داود في كتاب الصلاة، باب في قيام شهر رمضان برقم (1375) (2/ 51)، والإمام النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار من سننه، باب قيام شهر رمضان (3/ 202)، والإمام ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام شهر رمضان برقم (1327) (1/ 420)، والإمام أحمد في المسند (5/ 159 ـ 160)، والإمام الدارمي في كتاب الصوم من سننه، باب في فضل قيام شهر رمضان (1777) (2/ 42)، والإمام البيهقي في سننه (2/ 494)، وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع برقم (1615). (¬6) في (ت): "على افتراضه". (¬7) ساقطة من (غ). (¬8) في (ط): "أن النبي". (¬9) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬10) في (ط): "فلم يخرج إليهم النبي".

خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ (¬1) عَلَيْكُمْ" (¬2)، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، وَخَرَّجَهُ (¬3) مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. فَتَأَمَّلُوا، فَفِي هَذَا (¬4) الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا سُنَّةً، فَإِنَّ قِيَامَهُ أَوَّلًا (¬5) بِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَامِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً فِي رَمَضَانَ، وَامْتِنَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْخُرُوجِ خَشْيَةَ الِافْتِرَاضِ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ زَمَانَهُ كَانَ زَمَانَ وَحْيٍ وَتَشْرِيعٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ إِذَا عَمِلَ بِهِ النَّاسُ بِالْإِلْزَامِ، فَلَمَّا زَالَتْ عِلَّةُ التَّشْرِيعِ بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْجَوَازُ، فَلَا نَاسِخَ لَهُ. وَإِنَّمَا لَمْ يُقِمْ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَحَدِ أمرين: إما لأنه رأى من (¬6) قيام الناس في (¬7) آخر الليل، وقوتهم (¬8) عليه ما (¬9) كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَهُ مِنْ جَمْعِهِمْ عَلَى إِمَامٍ أَوَّلَ اللَّيْلِ. ذَكَرَهُ الطَّرْطُوشِيُّ (¬10). وَإِمَّا لِضِيقِ زَمَانِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ، مَعَ شُغْلِهِ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ (¬11)، وَغَيْرِ ذَلِكَ مما هو أوكد (¬12) من صلاة التراويح. ¬

(¬1) في (خ): "يعرض". (¬2) رواه الإمام البخاري في كتاب صلاة التراويح من صحيحه، باب فضل من قام رمضان عن عائشة رضي الله عنها (4/ 250 ـ 251 فتح)، والإمام مسلم في كتاب المسافرين من صحيحه، باب الترغيب في صلاة التراويح (6/ 41 نووي)، والإمام أبو داود في كتاب الصلاة من سننه، باب في قيام شهر رمضان برقم (1373) (2/ 50)، والإمام النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار من سننه، باب قيام شهر رمضان (3/ 202)، والإمام أحمد في المسند (6/ 182 ـ 183)، والإمام مالك في الموطأ (1/ 113). (¬3) في (غ): "خرجه". (¬4) ساقط من (ر). (¬5) في (خ): "أولى". (¬6) في (خ) و (ت) و (ط): "أن". (¬7) ساقطة من (خ) و (ط) و (ر). (¬8) في (خ) و (ط): "وما هم به عليه"، وفي (ت): "ومن بهم عليه". (¬9) ساقطة من (خ) و (ط). (¬10) تقدمت ترجمة الإمام الطرطوشي (ص285)، وقوله هذا في كتاب الحوادث والبدع (ص134 ـ 135). وقد راعيت في اختيار الألفاظ ما هو أقرب إلى نص الإمام الطرطوشي. (¬11) وكذلك هذا السبب ذكره الإمام الطرطوشي في نفس الموضع السابق. (¬12) في (ت) و (غ) و (ر): "آكد".

فلما تمهد الإسلام في زمان (¬1) عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَأَى النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْزَاعًا (¬2) كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ، قَالَ: لَوْ جُمِعَتِ النَّاسُ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، فَلَمَّا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُمْ آخِرَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ، ثُمَّ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ وَإِقْرَارِهِ (¬3)، وَالْأُمَّةُ لَا تجتمع على ضلالة. وقد نص الأصوليون على (¬4) أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ (¬5) (¬6). فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَمَّاهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدْعَةً، وَحَسَّنَهَا بِقَوْلِهِ: (نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هذه) (¬7)، وإذا ثبتت (¬8) بدعة ما (¬9) مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الشَّرْعِ ثَبَتَ مُطْلَقُ الِاسْتِحْسَانِ فِي البدع (¬10). فالجواب (¬11): أنه (¬12) إِنَّمَا سَمَّاهَا بِدْعَةً بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْحَالِ، مِنْ حَيْثُ تَرَكَهَا رَسُولُ (اللَّهِ صَلَّى) (¬13) اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّفَقَ أَنْ لَمْ تَقَعْ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَمَنْ سَمَّاهَا بِدْعَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَلَا مُشَاحَةَ فِي الْأَسَامِي، وَعِنْدَ ذَلِكَ لا (¬14) يَجُوزُ (¬15) أَنْ (¬16) يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى جَوَازِ الِابْتِدَاعِ بِالْمَعْنَى الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ تَحْرِيفِ ¬

(¬1) في (خ) و (ط): "زمن". (¬2) قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "أوزاع: بسكون الواو بعدها زاي أي جماعة متفرقون". (4/ 250). وانظر الصحاح (3/ 1297). (¬3) جزء من هذه الكلمة واقع في البياض في نسخة (ت). (¬4) ساقطة من (خ) و (ط). (¬5) بياض في (ت). (¬6) انظر في هذه المسألة: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 322 ـ 325)، والرسالة للشافعي (472)، أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 586)، أصول الفقه للشيخ أبي زهرة (ص208). (¬7) تقدم تخريجه (ص50). (¬8) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "ثبت". (¬9) زيادة في (غ) و (ر). (¬10) في (غ) و (ر): "الفدع". (¬11) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬12) ساقطة من (خ) و (ط). (¬13) بياض في (ت). (¬14) في (خ) و (ط): "فلا". (¬15) بياض في (ت). (¬16) بياض في (ت).

الْكَلِمِ (¬1) عَنْ مَوَاضِعِهِ. فَقَدْ (¬2) قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (¬3) ليدع العمل وهو يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ به الناس فيفرض عليهم) (¬4) (¬5). وقد نهى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ (¬6) رَحْمَةً بِالْأُمَّةِ، وَقَالَ: "إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي (¬7) أَبِيتُ (¬8) عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" (¬9). وَوَاصَلَ النَّاسُ بَعْدَهُ لعلمهم بوجه العلة (¬10) في (¬11) النَّهْيِ (¬12) حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ¬

(¬1) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬2) في (غ) و (ر): "وقد". (¬3) بياض في (ت). (¬4) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬5) رواه الإمام البخاري في كتاب التهجد من صحيحه، باب تحريض النبي صلّى الله عليه وسلّم على صلاة الليل والنوافل (3/ 10)، والإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين من صحيحه، باب استحباب صلاة الضحى (5/ 228 ـ 229)، والإمام أبو داود في كتاب الصلاة من سننه، باب صلاة الضحى برقم (1293) (2/ 28)، والإمام أحمد في المسند (6/ 34 ـ 35، 168، 170). (¬6) الوصال هو صوم يومين فصاعداً من غير أكل أو شرب بينهما. انظر شرح مسلم للنووي (7/ 211). (¬7) بياض في (ت). (¬8) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬9) رواه الإمام البخاري في كتاب الصوم من صحيحه، باب الوصال ومن قال ليس في الليل صيام عن عائشة رضي الله عنها (4/ 202)، والإمام مسلم في كتاب الصيام من صحيحه، باب النهي عن الوصال (7/ 211)، والإمام أحمد في مسنده (3/ 8)، والإمام مالك في الموطأ في كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال (1/ 301). (¬10) في (ط): "علة". (¬11) ساقطة من (ط). (¬12) لا يفهم من هذا أن جميع الناس قد واصلوا، بل الوصال مختلف في حكمه، فمن الناس من يرى جوازه، وهو مروي عن ابن الزبير وغيره من السلف، ومنهم من يراه غير جائز، وهو مروي عن مالك وأبي حنيفة والشافعي والثوري رحمهم الله، ومنهم من يرى أنه يجوز من السحر إلى السحر، وهو مروي عن أحمد وإسحاق. انظر هذه الأقوال وأدلتها في زاد المعاد لابن القيم (2/ 35 ـ 38)، شرح مسلم للنووي (7/ 211 ـ 212)، فتح الباري لابن حجر (4/ 204 ـ 205).

وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ مِنْ (¬1) جُمْلَةِ الْأَمْثِلَةِ: إِقَامَةُ صُوَرِ الأئمة والقضاة، إلى آخر مَا قَالَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ (¬2) مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ بِسَبِيلٍ: أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّ التَّجَمُّلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَالْمَنَاصِبِ الرَّفِيعَةِ مَطْلُوبٌ، وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةٌ يَتَجَمَّلُ بِهَا لِلْوُفُودِ، وَمِنَ الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ أَهْيَبُ وَأَوْقَعُ في النفوس، (وأحرى بحصول) (¬3) (التَّعْظِيمَ فِي الصُّدُورِ) (¬4)، وَمِثْلُهُ التَّجَمُّلُ لِلِقَاءِ (¬5) الْعُظَمَاءِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَشَجِّ (¬6) عَبْدِ الْقَيْسِ (¬7). وَأَمَّا ثَانِيًا: فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، فَهُوَ مِنْ (¬8) قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الشَّرْعِ (¬9). وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ، وَيَفْرِضُ لِعَامِلِهِ نِصْفَ شَاةٍ، فَلَيْسَ فِيهِ تَفْخِيمُ صُورَةِ الْإِمَامِ وَلَا عَدَمُهُ، بَلْ فَرَضَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ خَاصَّةً، وَإِلَّا فَنِصْفُ شَاةٍ لِبَعْضِ الْعُمَّالِ قَدْ لَا يَكْفِيهِ لِكَثْرَةِ عيال، وطروق ¬

(¬1) في (ط): "مي". (¬2) ساقطة من (غ). (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬4) ما بين المعكوفين كتب في (خ) و (ط): "من تعظيم العظماء". (¬5) في (خ) و (ت): "لالقاء". (¬6) في (م): "الشيخ"، وفي (ت): "اشيخ". (¬7) يشير المؤلف إلى حديث زارع، وكان في وفد عبد القيس، قال: لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجله، قال: وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عيبته، فلبس ثوبيه، ثم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له: "إن فيك خلتين يحبهما الله: الحلم والأناة"، قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: "بل الله جبلك عليهما" قل الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله. رواه الإمام أبو داود، واللفظ له، في كتاب الأدب، باب في قبلة الجسد برقم (5224) (4/ 358)، والإمام ابن ماجه في كتاب الزهد من سننه، باب الحلم برقم (4187) (2/ 1401) والإمام أحمد في المسند (4/ 206)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (3/ 181) دون قوله: "إن فيك .. " فإنها في صحيح مسلم عن ابن عباس في كتاب الإيمان من صحيحه، باب ذكر وفد عبد القيس (1/ 189)، والإمام الترمذي في كتاب البر والصلة من سننه، باب ما جاء في التأني والعجلة برقم (2011) (4/ 322). (¬8) ساقطة من (م). (¬9) تقدم القول بإثباتها (ص50).

ضَيْفٍ، وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ لِبَاسٍ وَرُكُوبٍ وَغَيْرِهِمَا، فَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ أَكْلِ الشَّعِيرِ فِي الْمَعْنَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لَا تَجَمُّلَ فِيهِ (¬1) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظُّهُورِ لِلنَّاسِ. وَقَوْلُهُ: (فَكَذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَجْدِيدِ زَخَارِفَ وَسِيَاسَاتٍ لَمْ تَكُنْ قَدِيمَةً، وَرُبَّمَا وَجَبَتْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ (¬2)) مُفْتَقِرٌ إِلَى التَّأَمُّلِ، فَفِيهِ ـ عَلَى الْجُمْلَةِ ـ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ فِي (¬3) آخِرِ الْفَصْلِ (الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ في الابتداع) مع ما ذكر قبله. فإن هذا (¬4) كَلَامٌ يَقْتَضِي أَنَّ الِابْتِدَاعَ شَرٌّ كُلُّهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ فَرْضِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَجِبُ، وَإِذَا وجبت لزم العمل بها، وهي كما قال تتضمن (¬5) الشَّرِّ كُلِّهِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا الْأَمْرُ بِهَا، والأمر بتركها، ولا يمكن فيها (¬6) الِانْفِكَاكُ ـ وَإِنْ كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ ـ لِأَنَّ الْوُقُوعَ يَسْتَلْزِمُ الِاجْتِمَاعَ (¬7)، وَلَيْسَا كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ (¬8)، لِأَنَّ الِانْفِكَاكَ فِي الْوُقُوعِ مُمْكِنٌ، وَهَاهُنَا إِذَا وَجَبَتْ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى (¬9) الْخُصُوصِ، وَقَدْ فَرَضَ أَنَّ الشَّرَّ فِيهَا عَلَى الْخُصُوصِ فَلَزِمَ التَّنَاقُضَ. وَأَمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ، فَإِنَّ تَجْدِيدَ الزَّخَارِفِ فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ مَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا السِّيَاسَاتُ، فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ فَلَيْسَتْ بِبِدَعٍ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُنْدَبُ إِلَيْهَا (¬10)؟ وَهِيَ مَسْأَلَةُ النِّزَاعِ. وَذَكَرَ فِي قِسْمِ (¬11) الْمَكْرُوهِ أَشْيَاءَ هِيَ مِنْ قَبِيلِ (الْبِدَعِ في) (¬12) الجملة ¬

(¬1) ساقطة من (غ). (¬2) في (خ) و (ت): "الأموال". (¬3) ساقطة من (م) و (ت) و (غ). (¬4) في (خ) و (ط): "فهذا". (¬5) عبارة (م) و (خ) و (ت) و (ط): "لما باتت ضمن". (¬6) في (ط) و (غ): "فيهما". (¬7) في (غ): "الإجماع". (¬8) العبارة في (ت): "وليسا كالدار المغصوبة". (¬9) جزء منها في البياض في نسخة (ت). (¬10) جزء منها في البياض في نسخة (ت). (¬11) في (غ): "القسم". (¬12) بعض أجزاء الكلمتين واقع في البياض في نسخة (ت).

وَلَا كَلَامَ فِيهَا، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ (أَنْ لَا) (¬1) يُزَادَ فِيهَا، وَلَا يُنْقَصَ مِنْهَا (¬2)، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فيها (¬3)، والنقصان منها (¬4) بدع منكرة، ممآلاتها (¬5) وَذَرَائِعُهَا يُحْتَاطُ بِهَا فِي جَانِبِ النَّهْيِ. وَذَكَرَ فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ مَسْأَلَةَ الْمَنَاخِلِ، وَلَيْسَتْ ـ فِي الْحَقِيقَةِ ـ مِنَ الْبِدَعِ بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ التَّنَعُّمِ، وَلَا يُقَالُ فِيمَنْ تَنَعَّمَ بِمُبَاحٍ: إِنَّهُ قَدِ ابْتَدَعَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ ـ إِذَا اعْتُبِرَ ـ إِلَى جِهَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَأْكُولِ، لِأَنَّ الْإِسْرَافَ كَمَا يَكُونُ فِي جِهَةِ الْكَمِّيَّةِ، كَذَلِكَ (¬6) يَكُونُ فِي جِهَةِ الْكَيْفِيَّةِ، فَالْمَنَاخِلُ لَا تَعْدُو (¬7) الْقِسْمَيْنِ، فإن كان الإسراف مما له (¬8) بال (¬9) كُرِهَ (¬10)، وَإِلَّا اغْتُفِرَ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ. وَمِمَّا يَحْكِيهِ أَهْلُ التَّذْكِيرِ مِنَ الْآثَارِ أَنَّ (¬11) أَوَّلَ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: الْمَنَاخِلُ، والشبع، وغسل اليد (¬12) بالأُشْنَان (¬13) بَعْدَ الطَّعَامِ، وَالْأَكْلُ عَلَى الْمَوَائِدِ. وَهَذَا كُلُّهُ ـ إِنْ ثَبَتَ نَقْلًا ـ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ فَلَا نُسَلِّمُ (¬14) أَنَّهَا مُبَاحَةٌ، بَلْ هِيَ ضلالة ومنهي عنها، ولكنا لا نقول (¬15) بذلك. ¬

(¬1) بياض في (ت). (¬2) في (م) و (ت): "فيها". (¬3) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬4) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "فيها". (¬5) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت) و (غ)، وفي (م) و (ط): "فحالاتها". (¬6) زيادة في (م). (¬7) في (غ) و (ر): "لا تعدى". (¬8) في (ط): "من ماله". (¬9) ساقطة من (خ) و (ط). (¬10) في (خ) و (ط): "فإن كره"، وفي (ت): "اكره". (¬11) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬12) في (خ) و (ط): "اليدين". (¬13) الأشنان والإشنان من الحمض، الذي يغسل به الأيدي. لسان العرب (13/ 18). (¬14) في (ط): "لسلم". (¬15) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "نقول" بدون "لا".

فصل

فَصْلٌ وَأَمَّا مَا قَالَهُ عِزُّ الدِّينِ (¬1)، فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَأَمْثِلَةُ الْوَاجِبِ مِنْهَا مِنْ قَبِيلِ (¬2) مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ ـ كَمَا قَالَ ـ، فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّلَفِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ له أصل في الشريعة على الخصوص، لأنه (¬3) مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَا مِنَ (¬4) الْبِدَعِ (¬5). أَمَّا هَذَا الثَّانِي فَقَدْ تَقَدَّمَ (¬6)، وَأَمَّا الْأَوَّلُ (¬7)، فلأنه لَوْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَسِيرُ إِلَى فَرِيضَةِ الْحَجِّ طَيَرَانًا فِي الْهَوَاءِ (¬8)، أَوْ مَشْيًا عَلَى الْمَاءِ، لَمْ (¬9) يُعَدَّ مُبْتَدِعًا بِمَشْيِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَقَدْ حَصَلَ عَلَى الْكَمَالِ، فَكَذَلِكَ هَذَا. على أن هذه الأشياء (¬10) قَدْ ذَمَّهَا بَعْضُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ، وَعَدَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا ابْتَدَعَ النَّاسُ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ إِجْمَاعُ النَّاسِ قَبْلَهُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ. عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مخيمرة (¬11) أنه ذكرت عنده (¬12) العربية، ¬

(¬1) هو العز بن عبد السلام، وقد تقدم قوله في أقسام البدع (ص354 ـ 356). (¬2) في (ط): "قبل". (¬3) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "ولأنه". (¬4) زيادة في (م) و (غ). (¬5) عبارة (ت): "لأن البدع". (¬6) وهو ما كان من المصالح المرسلة. (¬7) وهو ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب. (¬8) في (م) و (غ): "الهوى". (¬9) في (م) و (ت): "ثم". (¬10) في (ط): "أشياء". (¬11) هو القاسم بن مخيمرة، أبو عروة، الهمداني، الكوفي، الإمام الحافظ، نزيل دمشق، روى عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، وكان ثقة فاضلاً. توفي سنة مائة أو إحدى ومائة. انظر: الكاشف للذهبي (2/ 339)، تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 120). (¬12) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).

فَقَالَ: (أَوَّلُهَا كِبْرٌ وَآخِرُهَا (¬1) بَغْيٌ) (¬2). وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ قَالَ: "النَّحْوُ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ مِنَ القلب، ومن (¬3) أَرَادَ أَنْ يَزْدَرِيَ النَّاسَ كُلَّهُمْ فَلْيَنْظُرْ فِي النحو"، ونقل نحواً (¬4) من هذا (¬5). وَهَذِهِ كُلُّهَا لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى الذَّمِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُذَمَّ النَّحْوُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بِدْعَةٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ أَمْرٌ زَائِدٌ، كَمَا يُذَمُّ سَائِرُ عُلَمَاءِ السُّوءِ، لَا لِأَجْلِ عُلُومِهِمْ، بَلْ لِأَجْلِ مَا يَحْدُثُ لَهُمْ بِالْعَرَضِ مِنَ الْكِبْرِ بِهِ وَالْعُجْبِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْعِلْمِ بِدْعَةً، فَتَسْمِيَةُ الْعُلُومِ الَّتِي يُكْتَسَبُ بِهَا أَمْرٌ مَذْمُومٌ بِدَعًا، إِمَّا عَلَى الْمَجَازِ الْمَحْضِ، مِنْ حَيْثُ لم يحتج إليها أولاً، ثم احتيج إليها (¬6) بَعْدُ، أَوْ مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِمَوْضُوعِ الْبِدْعَةِ، إِذْ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُدَاخِلُ صَاحِبَهَا الْكِبْرُ وَالزَّهْوُ وَغَيْرُهُمَا، وَلَا يَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهَا بذم. ومما حكى هذا (¬7) الْمُتَصَوِّفَةِ (¬8) عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ، قَالَ: (الْعُلُومُ تِسْعَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا سُنَّةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَخَمْسَةٌ مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ فِيمَا سلف، قال (¬9): فَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْمَعْرُوفَةُ: فَعِلْمُ الْإِيمَانِ وَعِلْمُ الْقُرْآنِ، وَعِلْمُ الْآثَارِ، وَالْفَتَاوَى، وَأَمَّا الْخَمْسَةُ الْمُحْدَثَةُ: فَالنَّحْوُ، وَالْعَرُوضُ، وَعِلْمُ الْمَقَايِيسِ (¬10)، وَالْجَدَلِ فِي الْفِقْهِ، وَعِلْمُ الْمَعْقُولِ بِالنَّظَرِ). انْتَهَى (¬11). وَهَذَا ـ إِنْ صَحَّ نَقْلُهُ ـ فَلَيْسَ أَوَّلًا كَمَا قَالَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يحكون ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "آخرها" بدون الواو. (¬2) اقتضاء العلم العمل للخطيب (ص91). (¬3) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "من" بدون الواو. (¬4) في (خ) و (ت) و (ط): "نحو" بدون ألف. (¬5) في (خ) و (ط): "هذه". (¬6) زيادة في (غ). (¬7) في (خ) و (ط): "بعض هذه". (¬8) في (م) و (غ) و (ر): "المتصوف". (¬9) زيادة في (م) و (ر). (¬10) في (م): "المقايس". (¬11) ساقطة من (خ) و (ط).

عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ (¬1) أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بِوَضْعِ شَيْءٍ فِي النَّحْوِ، حِينَ سمع الأعرابي (¬2) قَارِئًا يَقْرَأُ (¬3): {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (¬4) بالجر، (فقال برئت مما برئ الله منه، فبلغت علياً رضي الله عنه، فأشار على أبي الأسود فوضع النحو) (¬5). وقد روى عن ابن أبي مُلَيْكَةَ (¬6) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه أمر أن لا يقرئ (¬7) الْقُرْآنَ إِلَّا عَالِمٌ بِاللُّغَةِ، وَأَمَرَ أَبَا الْأَسْوَدِ فَوَضَعَ النَّحْوَ. وَالْعَرُوضُ مِنْ جِنْسِ النَّحْوِ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ صَارَ النَّحْوُ وَالنَّظَرُ فِي الْكَلَامِ (¬8) الْعَرَبِيِّ (¬9) مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ (¬10) كَذَلِكَ، فَقَاعِدَةُ الْمَصَالِحِ تَعُمُّ (¬11) عُلُومَ الْعَرَبِيَّةِ، أَيْ (¬12) (تَكُونُ مِنْ) (¬13) قَبِيلِ الْمَشْرُوعِ، فَهِيَ مِنْ جِنْسِ كَتْبِ الْمُصْحَفِ، وَتَدْوِينِ الشَّرَائِعِ. وَمَا ذُكِرَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ، فَإِنَّ (¬14) أحمد بن يحيى ¬

(¬1) هو ظالم بن عمرو بن سفيان، أبو الأسود الديلي، ويقال الدؤلي، ولد في أيام النبوة، وحدث عن عمر وعلي وأبي وغيرهم، وحدث عنه ابنه ويحيى بن يعمر وآخرون، قال أحمد والعجلي: ثقة، كان أول من تكلم في النحو، وقد تولى قضاء البصرة. توفي سنة 99هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 81)، تقريب التهذيب (2/ 391)، الكاشف (3/ 271). (¬2) في (خ) و (ط): "أعرابياً". (¬3) زيادة في (م). (¬4) سورة براءة: آية (3). (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط) و (ر). (¬6) هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة التيمي، المدني، أدرك ثلاثين مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ولي القضاء لابن الزبير والأذان أيضاً، وكان عالماً مفتياً، صاحب حديث وإتقان، وقد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم. توفي سنة 117هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 88)، تقريب التهذيب (1/ 431)، الكاشف (2/ 95). (¬7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "يقرأ". (¬8) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "كلام". (¬9) ساقطة من (م) و (ت)، وفي (غ): "العرب". (¬10) ساقطة من (غ) و (ر). (¬11) في (غ) و (ر): "تضم". (¬12) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "إلى". (¬13) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ت). (¬14) في (خ) و (ت) و (ط) و (غ): "قال".

ثَعْلَبًا (¬1) قَالَ: كَانَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي الدِّينِ يَعِيبُ النَّحْوَ، وَيَقُولُ: (أَوَّلُ تَعَلُّمِهِ شُغْلٌ، وَآخِرُهُ بغي (¬2) يزدري العالم بِهِ النَّاسُ)، فَقَرَأَ يَوْمًا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬3) (بِرَفْعِ اللَّهِ، وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ) (¬4)، فقيل له: كفرت من حيث لم (¬5) تَعْلَمُ. تَجْعَلُ اللَّهَ يَخْشَى الْعُلَمَاءَ؟ فَقَالَ: (لَا طعنت (¬6) على (¬7) علم يؤول (¬8) بي (¬9) إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا أَبَدًا). قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (¬10): الْإِمَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى هُوَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ (¬11). قَالَ: وَقَدْ جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كَلَامٌ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَنْتَقِصُ النَّحْوِيِّينَ، فَاجْتَمَعَا فِي جِنَازَةٍ فَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} بِرَفْعِ اسْمِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: كَفَرْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ، تَعِيبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ كِتَابَ اللَّهِ؟ فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. وَأَمَّا عِلْمُ الْمَقَايِيسِ فَأَصْلُهُ فِي السُّنَّةِ، ثُمَّ فِي علم السلف بالقياس، نعم (¬12) قَدْ جَاءَ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ أَشْيَاءُ حَمَلُوهَا عَلَى الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، (وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَهُوَ عُمْدَةُ كُلِّ مُبْتَدَعٍ؛ وَأَمَّا الْجَدَلُ في ¬

(¬1) هو أحمد بن يحيى بن يزيد الشيباني مولاهم، البغدادي، إمام النحو، صاحب "الفصيح والتصانيف"، وكان يقول: سمعت من القواريري مائة ألف حديث، قال الخطيب: ثقة حجة، دين صالح، مشهور بالحفظ. مات سنة 291هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 5)، معجم الأدباء (5/ 102)، النجوم الزاهرة (3/ 133). (¬2) ساقطة من (خ) و (ط). (¬3) سورة فاطر: آية (28). (¬4) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬5) في (ط): "لا". (¬6) في (م): "حصنت"، وفي (ت): "ضعنت". (¬7) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬8) في (خ) و (ط): "يدل". (¬9) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬10) هو عثمان بن سعيد بن عثمان الداني، الإمام المقرئ، عالم الأندلس، مصنف التيسير، وجامع البيان، وكان أحد الأئمة في علم القرآن، رواياته وتفسير معانيه وإعرابه، مع البراعة في علم الحديث والتفسير والنحو. توفي سنة 444هـ. انظر: السير (18/ 77)، العبر (3/ 207)، معرفة القراء الكبار (1/ 325). (¬11) غير واضحة في (خ). (¬12) في (خ) و (ت) و (ط): "ثم".

الْفِقْهِ) (¬1)، فَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَجْتَمِعُونَ لِلنَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا لِلتَّعَاوُنِ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ قَبِيلِ الْمُشَاوَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا (¬2)، فَكِلَاهُمَا مَأْمُورٌ بِهِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْمَعْقُولِ بِالنَّظَرِ، فَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى احْتَجَّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لِدِينِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬3)، وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} (¬4)، وَقَوْلُهُ: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} (¬5). وَحَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحَاجَّتَهُ لِلْكَفَّارِ بِقَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} (¬6) إلى آخرها. وَفِي الْحَدِيثِ حِينَ ذُكِرَتِ الْعَدْوَى: (فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟) (¬7) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ؟ وَقَوْلُ عِزِّ الدِّينِ: (إِنَّ الرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ (¬8)، وَكَذَا ((غَيْرُهُمْ) (¬9) مِنْ أَهْلِ (¬10) الْبِدَعِ) (¬11) مِنَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ) غَيْرُ جَارٍ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَهُوَ مِنَ المصالح المرسلة. ¬

(¬1) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط). (¬2) في (ط): "به". (¬3) سورة الأنبياء: آية (22). (¬4) سورة الروم: آية (40). (¬5) سورة فاطر: آية (40). (¬6) سورة الأنعام: آية (76). (¬7) رواه الإمام البخاري في كتاب الطب من صحيحه، باب لا عدوى، عن أبي هريرة وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا عدوى"، فقام أعرابي فقال: أرأيت الإبل تكون في الرمال أمثال الظباء، فيأتيها البعير الأجرب فتجرب، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "فمن أعدى الأول"، ورواه الإمام مسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة (14/ 213)، والإمام أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة برقم (3911) (4/ 16)، والإمام أحمد في المسند (1/ 328). (¬8) تقدم التعريف بهم (ص11). (¬9) زيادة من (ط)، وبها تستقيم العبارة. (¬10) ساقطة من (ت). (¬11) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (غ) و (ر).

(وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ فَظَاهِرَةٌ) (¬1). وَأَمَّا أَمْثِلَةُ البدع (¬2) الْمَنْدُوبَةِ: فَذَكَرَ مِنْهَا إِحْدَاثَ الرُّبْطِ وَالْمَدَارِسِ، فَإِنْ عَنَى بِالرُّبْطِ مَا بُنِيَ مِنَ الْحُصُونِ وَالْقُصُورِ قَصْدًا لِلرِّبَاطِ (¬3) فِيهَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ بِشَرْعِيَّةِ (¬4) الرِّبَاطِ، وَلَا بِدْعَةَ فِيهِ، وَإِنْ عنى بالربط ما بني لالتزام سكناها قصداً (¬5) للانقطاع (¬6) للعبادة (¬7)، فَإِنَّ (¬8) إِحْدَاثَ الرُّبْطِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُبْنَى تَدَيُّنًا لِلْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ ـ فِي زَعْمِ الْمُحْدَثِينَ ـ وَيُوقَفُ (¬9) عَلَيْهَا أَوْقَافٌ يَجْرِي مِنْهَا عَلَى الْمُلَازِمِينَ لَهَا مَا يَقُومُ بِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ مِنْ طَعَامٍ ولباس (¬10) وَغَيْرِهِمَا، لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهَا (¬11) أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لها (¬12) أَصْلٌ دَخَلَتْ فِي الْحُكْمِ تَحْتَ قَاعِدَةِ الْبِدَعِ الَّتِي هِيَ ضَلَالَاتٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُنْدُوبًا إِلَيْهَا، وإن كان لها أصل فليست بِبِدْعَةٍ فَإِدْخَالُهَا تَحْتَ جِنْسِ الْبِدَعِ غَيْرُ صَحِيحٍ. ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّصَوُّفِ تَعَلَّقُوا بالصُّفَّة (¬13) الَّتِي كَانَتْ فِي مَسْجِدِ (¬14) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهَا فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ... } (¬15) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (¬16) الآية، فوصفهم (¬17) بِالتَّعَبُّدِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ قَصْدًا لِلَّهِ خَالِصًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ انْقَطَعُوا لِعِبَادَةِ اللَّهِ (¬18)، لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ شَاغِلٌ، فَنَحْنُ إِنَّمَا صنعنا صُفَّةً مثلها أو تقاربها ¬

(¬1) ما بين المعكوفين ساقط من (غ). (¬2) مثبتة من (ر)، وساقطة من بقية لانسخ. (¬3) في (م) و (ت): "للرابط". (¬4) ساقطة من (غ). (¬5) في (خ) و (ط): "قصد". (¬6) في (خ) و (ط): "الانقطاع". (¬7) في (خ) و (ط): "إلى العبادة". (¬8) في (خ) و (ت) و (ط): "لأن". (¬9) في (ر): "يوقف". (¬10) في (م) و (ت): "أو لباس". (¬11) في (ر): "له". (¬12) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬13) عبارة (خ): "تعلقوا بالضبط بالصفة". (¬14) في (غ): "مساجد". (¬15) سورة الأنعام: آية (52). (¬16) سورة الكهف: آية (28). (¬17) في (خ) و (ط): "فوصفهم الله". (¬18) في (خ) و (ت) و (ط): "لعبادة الله قصداً لله خالصاً، لا يشغلهم .. "، وهو سبق نظر من الناسخ.

ليجتمع (¬1) فِيهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْقَطِعَ (¬2) إِلَى اللَّهِ، وَيَلْتَزِمَ الْعِبَادَةَ، وَيَتَجَرَّدَ عَنِ الدُّنْيَا وَالشُّغْلِ بِهَا، وَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ (¬3) يَنْقَطِعُوا (¬4) عَنِ النَّاسِ، وَيَشْتَغِلُوا (¬5) بِإِصْلَاحِ بَوَاطِنِهِمْ، وَيُوَلُّوا (¬6) وُجُوهَهُمْ شَطْرَ الْحَقِّ، فَهُمْ عَلَى سِيرَةِ مَنْ تَقَدَّمَ. وَإِنَّمَا يُسَمَّى ذَلِكَ بِدْعَةً بِاعْتِبَارٍ مَا، بَلْ هِيَ سُنَّةٌ، وَأَهْلُهَا مُتَّبِعُونَ لِلسُّنَّةِ، فَهِيَ طَرِيقَةٌ خَاصَّةٌ لأناس خاصة (¬7)، وَلِذَلِكَ لَمَّا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: فِي (¬8) كَمْ تَجِبُ الزَّكَاةُ؟ قَالَ (¬9): عَلَى مَذْهَبِنَا أَمْ عَلَى مَذْهَبِكُمْ؟ ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَالْكُلُّ لِلَّهِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِكُمْ فَكَذَا وَكَذَا، أَوْ كَمَا قَالَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي جَرَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ هَكَذَا غَيْرَ مُحَقَّقَةٍ، وَلَا مُنَزَّلَةٍ عَلَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا عَلَى أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَلَا بُدَّ مِنْ بَسْطِ طَرْفٍ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحَوْلِ اللَّهِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ فِيهَا لِمَنْ أَنْصَفَ، وَلَمْ يُغَالِطْ نَفْسَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَذَلِكَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ (¬10)، مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ (¬11) أَوْ غَيْرِهَا، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ احْتَالَ عَلَى نَفْسِهِ، فهاجر بماله أو بشيء (¬12) مِنْهُ، فَاسْتَعَانَ بِهِ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي حِرْفَتِهِ الَّتِي كَانَ يَحْتَرِفُ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ هَاجَرَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَكَانَ خَمْسَةَ آلَافٍ (أو ستة آلاف) (¬13). ¬

(¬1) في (خ) و (ط): "يجتمع". (¬2) في (خ) و (ط): "الانقطاع". (¬3) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬4) في (ط): "ينقطعون"، وقد كتب هكذا مع الأفعال بعده بناء على أن أداة النصب غير موجودة. (¬5) في (ط): "ويشتغلون". (¬6) في (ط): "ويولون". (¬7) ساقطة من (ط). (¬8) في (م) و (ت): "فيم"، وفي (خ): "فيما". (¬9) في (خ) و (ت) و (غ) و (ر): "فقال". (¬10) في (غ) و (ر): "إليه". (¬11) في (غ): "مكة" بدون الباء. (¬12) في (خ) و (ط): "شيء". (¬13) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).

وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِخْلَاصِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ صِفْرَ الْيَدَيْنِ. وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْعَمَلَ فِي حَوَائِطِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ معهم كبير فضل في العمل. فكان (¬1) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ أَشْرَكَهُمُ الْأَنْصَارُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، بِدَلِيلِ قِصَّةِ بَنِي (¬2) النَّضِيرِ، فَإِنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِيَ النَّضِيرِ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: "إِنْ شِئْتُمْ قَسَّمْتُهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَتَرَكْتُمْ نَصِيبَكُمْ فِيهَا (¬3)، وَخَلَّى الْمُهَاجِرُونَ (¬4) بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ دُورِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّهُمْ عِيَالٌ عَلَيْكُمْ"، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ أَنَّهُ أَعْطَى أَبَا دُجَانَةَ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ (¬5) فَقُرَاءُ) (¬6). وَقَدْ قَالَ الْمُهَاجِرُونَ أَيْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ، وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ، مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ـ يَعْنِي الْأَنْصَارَ ـ لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ، حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ)، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا (¬7)، مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عليهم" (¬8). ¬

(¬1) في (خ) و (ط): "وكان". (¬2) في (م): "أبي". (¬3) في (غ): "منها". (¬4) في (غ): "المهاجرين". (¬5) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬6) رواه الإمام أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في خبر النضير عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع اختلاف في اللفظ. انظر: السنن برقم (3004)، (3/ 155 ـ 156)، ورواه الإمام ابن جرير في تفسيره (28/ 41)، وصحح الشيخ الألباني إسناده كما في صحيح سنن أبي داود (2/ 582). (¬7) في (ر): "إلا". (¬8) رواه الإمام الترمذي في كتاب صفة القيامة من سننه عن أنس رضي الله عنه برقم (2487)، وقال: هذا حديث صحيح حسن غريب من هذا الوجه (4/ 565 ـ 566) والإمام البخاري في الأدب المفرد، باب من لم يجد المكافأة فليدع له (ص87) برقم (217)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 514)، والإمام الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (2/ 63).

ومنهم من كان يلتقط نوى التمر فيرضخها (¬1)، وَيَبِيعُهَا عَلَفًا لِلْإِبِلِ، وَيَتَقَوَّتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجِدْ وَجْهًا يَكْتَسِبُ بِهِ لقوت ولا سكنى (¬2)، فَجَمَعَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُفَّةٍ كَانَتْ فِي مَسْجِدِهِ، وَهِيَ سَقِيفَةٌ كَانَتْ مِنْ جُمْلَتِهِ (¬3)، إِلَيْهَا يَأْوُونَ، وَفِيهَا (¬4) يَقْعُدُونَ، إِذْ لم يجدوا (منزلاً، كما لَمْ يَجِدُوا) (¬5) مَالًا وَلَا أَهْلًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُضُّ النَّاسَ عَلَى إِعَانَتِهِمْ (¬6) وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ وَصَفَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عَنْهُ إِذْ كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَهُوَ أَعْرَفُ النَّاسِ بِهِمْ، قَالَ فِي الصَّحِيحِ: (وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ، لَا يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ ـ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَا يَتَنَاوَلُ (¬7) مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَأَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا) (¬8). فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ، وَحَكَمَ لَهُمْ ـ كَمَا تَرَى ـ بِحُكْمِ الْأَضْيَافِ (¬9)، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الضِّيَافَةُ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مَنْ نَزَلَ بِالْبَادِيَةِ لَا يَجِدُ مَنْزِلًا وَلَا طَعَامًا لِشِرَاءٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ (¬10) لِأَهْلِ الْوَبَرِ أَسْوَاقٌ يَنَالُ مِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، مِنْ طَعَامٍ يُشْتَرَى، وَلَا خَانَاتٌ يؤوى (¬11) إِلَيْهَا، فَصَارَ الضَّيْفُ مُضْطَرًّا، وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ، فَوَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْمَوْضِعِ ضِيَافَتُهُ (¬12) وَإِيوَاؤُهُ (¬13) حَتَّى يَرْتَحِلَ، فَإِنْ كَانَ لَا مَالَ لَهُ فذلك أحرى. ¬

(¬1) في (خ): "فيرضعها"، وفي (م) و (ت) و (ط): "فيرضها"، قال في القاموس: "والمرضاخ: حجر يرضخ به النوى" (ص251). (¬2) في (خ) و (ط): "لسكنى". (¬3) في (ت): "حملته". (¬4) في (غ): "فيها" بدون الواو. (¬5) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط). (¬6) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "إغاثتهم". (¬7) في (غ) و (ر): "ولم يتناول". (¬8) رواه الإمام البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه، باب كيف كان عيش النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، عن أبي هريرة رضي الله عنه (11/ 281 فتح). (¬9) في (غ) و (ر): "الأوضاف". (¬10) ساقطة من (ت). (¬11) في (خ) و (ت) و (ط): "يأوي". (¬12) في (غ) و (ر): "إغاثته"، وهي ساقطة من (م) و (ت). (¬13) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).

فَكَذَلِكَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَمَّا لَمْ يَجِدُوا مَنْزِلًا آوَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَجِدُوا، كَمَا أَنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَجِدُوا مَا يَقُوتُهُمْ نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِعَانَتِهِمْ. وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) الْآيَةَ، فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَوْصَافٍ مِنْهَا أَنَّهُمْ أَحُصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ مُنِعُوا وَحُبِسُوا حِينَ قَصَدُوا الْجِهَادَ مَعَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم كأن العدو (¬2) أحصرهم، فلا يستطيعون ضرباً في الأرض، لا (¬3) لِاتِّخَاذِ الْمَسْكَنِ وَلَا لِلْمَعَاشِ، لِأَنَّ (¬4) الْعَدُوَّ قَدْ كَانَ (¬5) أَحَاطَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَا هُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى يَكْسِبُوا مِنْ غَنَائِمِهِ، وَلَا هُمْ يتصرفون (¬6) لِلتِّجَارَةِ (¬7) أَوْ غَيْرِهَا لِخَوْفِهِمْ (¬8) مِنَ الْكُفَّارِ، وَلِضَعْفِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَلَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا لِلْكَسْبِ أصلاً. وقد قيل: في (¬9) قَوْلَهُ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} (¬10) أَنَّهُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارُوا زَمْنَى (¬11). وَفِيهِمْ أَيْضًا نَزَلَ (قَوْلُهُ تَعَالَى) (¬12): {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ ¬

(¬1) سورة البقرة: الآيتان (267 ـ 273). (¬2) في (م) و (ت): "العذر". (¬3) ساقطة من (م) و (غ) و (ر). (¬4) في (خ) و (ت) و (ط): "كأن". (¬5) ساقطة من (خ) و (ط). (¬6) في (خ) و (ت) و (ط): "يتفرغون". (¬7) في (غ) و (ر): "بتجارة". (¬8) في (غ) و (ر): "لخروجهم". (¬9) في (خ) و (ط): "أن"، وساقطة من (م) و (ت). (¬10) سورة البقرة: آية (273). (¬11) زمنى جمع زمن وهو المبتلى. الصحاح للجوهري (5/ 2131). وقد ذكر القولين في سبب نزول الآية الإمام ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 327 ـ 328)، والإمام الشوكاني في فتح القدير (1/ 293). (¬12) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط). والآية نزلت في أهل الصفة وغيرهم من فقراء المهاجرين، فلا يفهم من عبارة المؤلف التخصيص.

دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (¬1)، أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ: {أُخْرِجُوا}، وَلَمْ يَقُلْ خَرَجُوا (مِنْ دِيَارِهِمْ) (¬2) وَأَمْوَالِهِمْ (¬3)، فَإِنَّهُ (¬4) قَدْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجُوا اخْتِيَارًا، فَبَانَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا خرجوا منها اضْطِرَارًا، وَلَوْ وَجَدُوا سَبِيلًا أَنْ لَا يَخْرُجُوا (¬5) لفعلوا (¬6)، ففيه دليل (¬7) على أن الخروج عن (¬8) الْمَالِ اخْتِيَارًا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ (¬9) الشَّرِيعَةِ، فَلِأَجْلٍ ذَلِكَ بَوَّأَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّفَّةَ. فَكَانُوا فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا بَيْنَ طَالِبٍ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّهُ (¬10) قَصَرَ (¬11) نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: "وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ (¬12) (اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ) (¬13) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا" (¬14). وَكَانَ (¬15) مِنْهُمْ (¬16) مَنْ يَتَفَرَّغُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ) (¬17) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا مَعَهُ، وَإِذَا أَقَامَ أَقَامَ مَعَهُ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فصاروا إلى ما صار إليه ¬

(¬1) سورة الحشر: آية (8). (¬2) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط). (¬3) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬4) في (ط): "فأن". (¬5) في (م) و (ت): "لا خرجوا"، وعبارة (غ) و (ر): "سبيلاً إلى إخراجها". (¬6) غير واضحة في (غ). (¬7) في (م) و (غ) و (ر): "ما يدل"، واللفظ غير واضح في (ت). (¬8) في (خ): "على"، وفي (ط): "من". (¬9) غير واضحة في (ت). (¬11) (¬10) غير واضحة في (ت). (¬12) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬13) ما بين المعكوفين غير واضح في (ت). (¬14) رواه الإمام البخاري في مواضع من صحيحه. انظر: باب حفظ العلم من كتاب العلم (1/ 213)، والباب الأول من كتاب البيوع، وهو بتمام لفظه هنا (4/ 287)، وفي كتاب الحرث والمزارعة، باب ما جاء في الغرس (5/ 28)، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (13/ 321). (¬15) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬16) غير واضحة في (ت). (¬17) غير واضح في (ت).

غَيْرُهُمْ (¬1)، مِمَّنْ كَانَ لَهُ (¬2) أَهْلٌ وَمَالٌ، مِنْ طَلَبِ (¬3) الْمَعَاشِ (¬4) وَاتِّخَاذِ الْمَسْكَنِ (¬5)، لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي حَبَسَهُمْ فِي الصُّفَّةِ قَدْ زَالَ، فَرَجَعُوا (¬6) إِلَى الأصل لما زال العارض. فالذي تحصل (¬7) أَنَّ الْقُعُودَ فِي الصُّفَّةِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ، وَلَا بِنَاءَ الصُّفَّةِ لِلْفُقَرَاءِ مَقْصُودًا بِحَيْثُ يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَا هِيَ رُتْبَةٌ (¬8) شَرْعِيَّةٌ تُطْلَبُ بِحَيْثُ يُقَالُ: إِنَّ تَرْكَ الِاكْتِسَابِ، وَالْخُرُوجَ عَنِ الْمَالِ، وَالِانْقِطَاعَ إِلَى الزَّوَايَا يُشْبِهُ حَالَةَ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَهِيَ الرُّتْبَةُ (¬9) الْعُلْيَا، لِأَنَّهَا (¬10) تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ صُفَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ) (¬11) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ (¬12) وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} (¬13) الْآيَةَ (¬14)، وَقَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} (¬15) الْآيَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ، بَلْ كَانَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. والدليل (على ذلك) (¬16) من العمل أن القعود (¬17) بِالصُّفَّةِ لَمْ يَدُمْ، وَلَمْ يُثَابِرْ أَهْلُهَا وَلَا غَيْرُهُمْ عَلَى الْبَقَاءِ فِيهَا، وَلَا عُمِّرَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ ثُبُوتُ تِلْكَ الْحَالَةِ، لَكَانُوا هُمْ أَحَقَّ بِفَهْمِهَا أَوَّلًا، ثُمَّ بِإِقَامَتِهَا وَالْمُكْثِ فِيهَا عَنْ كُلِّ شُغْلٍ، وَأَوْلَى بِتَجْدِيدِ مَعَاهِدِهَا، لكنهم لم يفعلوا ذلك البتة. ¬

(¬1) عبارة (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فَصَارُوا إِلَى مَا صَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ". (¬2) في (خ) و (ط): "ذا". (¬3) في (خ) و (ط): "وطلب"، وهي غير واضحة في (ت). (¬4) في (خ) و (ط): "للمعاش". (¬5) في (غ) و (ر): "السكن والمسكن". (¬6) غير واضحة في (ت). (¬7) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "حصل". (¬8) ساقطة من (ط). (¬9) في (غ) و (ر): "المرتبة". (¬10) في (غ): "لأنه". (¬11) ساقط من (ت). (¬12) في (ر): "وهم الذين". (¬13) سورة والأنعام: آية (52). (¬14) ساقطة من (ط). (¬15) سورة الكهف: آية (28). (¬16) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط). (¬17) في (خ) و (ت) و (ط): "المقصود".

فَالتَّشَبُّهُ (¬1) بِأَهْلِ الصُّفَّةِ إِذًا فِي إِقَامَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَاتِّخَاذِ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ لَا يَصِحُّ (¬2). فَلْيَفْهَمِ الْمُوَفَّقُ هَذَا الْمَوْضِعَ، فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ قَدَمٍ لِمَنْ لَمْ يَأْخُذْ دِينَهُ عَنِ السَّلَفِ الْأَقْدَمِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ. وَلَا يَظُنُّ الْعَاقِلُ أَنَّ الْقُعُودَ عَنِ الْكَسْبِ، وَلُزُومَ الرَّبْطِ مُبَاحٌ، أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، أَوْ (¬3) أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ لَيْسَ (¬4) ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، وَلَنْ يَأْتِيَ (¬5) آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا (¬6) كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا. وَيَكْفِي (¬7) الْمِسْكِينَ الْمُغْتَرَّ بِعَمَلِ (¬8) الشُّيُوخِ (¬9) الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ (¬10) صُدُورَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ المتصفين (¬11) بِالصُّوفِيَّةِ (¬12) لَمْ يَتَّخِذُوا (¬13) رِبَاطًا (¬14) وَلَا زَاوِيَةً، وَلَا بَنَوْا بِنَاءً يُضَاهُونَ بِهِ الصُّفَّةَ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى التَّعَبُّدِ وَالِانْقِطَاعِ (¬15) عَنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا كَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَالْجُنَيْدِ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ، وَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ (¬16). وَالشِّبْلِيِّ (¬17)، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَابَقَ فِي هذا الميدان. ¬

(¬1) في (ط) و (غ): "فالتشبيه". (¬2) في (ر): "له لا يصح". (¬3) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬4) في (غ): "وليس". (¬5) بياض في (ت). (¬6) في (ط): "ممن". (¬7) في (خ) و (ط): "ولا كفى". (¬8) بياض في (ت). (¬9) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬10) في (ط): "إلى". (¬11) في (م): "المتسمين". (¬12) عبارة (غ) و (ر): "المنتسبون إلى التصوف". (¬14) (¬13) جزء من الكلمتين في البياض في نسخة (ت). (¬15) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬16) هو أبو عبد الله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي، صاحب التصانيف الزهدية وهو كبير القدر، وقد دخل في شيء يسير من الكلام، فنقم عليه، وورد أن الإمام أحمد أثنى على حال الحارث من وجه، وحذر منه. مات سنة 243هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 110)، الحلية (10/ 73)، تاريخ بغداد (8/ 211)، طبقات الصوفية (ص56). (¬17) هو دلف بن جعفر الشبلي البغدادي، صاحب الجنيد وغيره، وكان فقيهاً عارفاً بمذهب مالك، وكتب الحديث عن طائفة، وقال الشعر، وله ألفاظ وحكم وحال وتمكن. توفي سنة 334هـ.=

وَإِنَّمَا مَحْصُولُ هَؤُلَاءِ (¬1) أَنَّهُمْ خَالَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَالَفُوا السَّلَفَ الصَّالِحَ، وَخَالَفُوا شُيُوخَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي انْتَسَبُوا إِلَيْهَا، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَأَمَّا الْمَدَارِسُ: فَلَا (¬2) يَتَعَلَّقُ (¬3) بِهَا أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ يُقَالُ فِي (¬4) مِثْلِهِ (¬5) بِدْعَةٌ إِلَّا عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْرَأَ الْعِلْمُ إِلَّا بِالْمَسَاجِدِ (¬6)، وَهَذَا (¬7) لَا يُوجَدُ، بَلِ الْعِلْمُ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ يُبَثُّ بِكُلِّ (¬8) مَكَانٍ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ مَنْزِلٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ حَضَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى فِي الْأَسْوَاقِ. فَإِذَا أَعَدَّ أَحَدٌ من الناس (لقراءة العلم) (¬9) مَدْرَسَةً يُعِينُ (¬10) بِإِعْدَادِهَا الطَّلَبَةَ، فَلَا يَزِيدُ ذَلِكَ على إعداده (¬11) له (¬12) مَنْزِلًا مِنْ مَنَازِلِهِ، أَوْ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَأَيْنَ مَدْخَلُ الْبِدْعَةِ هُاهُنَا؟ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْبِدْعَةَ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ الموضع (¬13) دون غيره، فالتخصيص (¬14) هَاهُنَا لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ تَعْبُدِيٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ (¬15) تَعْيِينٌ بِالْحَبْسِ، كَمَا تَتَعَيَّنُ سَائِرُ الْأَمْوَالِ (¬16) الْمُحْبَسَةِ، وَتَخْصِيصُهَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، بِخِلَافِ الربط، فإنها خصت تشبيهاً بالصُّفَّة، فهما (¬17) لِلتَّعَبُّدِ، فَصَارَتْ تَعَبُّدِيَّةً بِالْقَصْدِ وَالْعُرْفِ، حَتَّى إِنَّ سَاكِنِيهَا مُبَايِنُونَ لِغَيْرِهِمْ فِي النِّحْلَةِ وَالْمَذْهَبِ وَالزِّيِّ والاعتقاد. ¬

=انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 367)، المنتظم لابن الجوزي (6/ 347)، حلية الأولياء (10/ 366)، تاريخ بغداد (14/ 389). (¬1) يريد الصوفية المتأخرين. (¬2) في (خ) و (ط): "فلم". (¬3) في (ط): "يتلق". (¬5) (¬4) بعض أجزاء الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬7) (¬6) بعض أجزاء الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬8) في (ر): "في كل". (¬9) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬10) في (خ) و (ط): "يعني". (¬11) في (ط): "إعدادها". (¬12) في (ر): "لها". (¬13) بعد هذه اللفظة أعاد ناسخ (ت) بعض ما كان كتبه. (¬14) كذا في (ر)، وفي بقية النسخ: "والتخصيص". (¬15) ساقطة من (ت). (¬16) في (خ) و (ط): "الأمور"، وفي (ت): "الأموال". (¬17) في (ط): "بهما".

وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ (¬1): فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى إِصْلَاحِ الطُّرُقِ، وَإِزَالَةِ الْمَشَقَّةِ عَنْ سَالِكِيهَا، وَلَهُ أَصْلٌ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يعد في البدع بحال. وقوله: (وكذلك (¬2) كل (¬3) إِحْسَانٍ لَمْ (¬4) يُعْهَدْ (¬5) فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ)، فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَلَا يَخْلُو (¬6) الْإِحْسَانُ الْمَفْرُوضُ (¬7) أَنْ يُفْهَمَ من الشريعة أنه مقيد بقيد تعبدي أو لا، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالتَّعَبُّدِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي أَصْلِ التَّشْرِيعِ بِأَمْرٍ (¬8) تَعَبُّدِيٍّ، فَلَا يُقَالُ (¬9): إِنَّهُ غَيْرُ بِدْعَةٍ (¬10) عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ إِلَّا عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يخرم (¬11) أَصْلًا شَرْعِيًّا، مِثْلَ الْإِحْسَانِ الْمُتْبَعِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَالصَّدَقَةِ مِنَ الْمِدْيَانِ الْمَضْرُوبِ عَلَى يَدِهِ، وَمَا أشبه ذلك، ويكون (¬12) إِذْ ذَاكَ مَعْصِيَةً. وَالثَّانِي: أَنْ يَلْتَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَعَدَّى، بِحَيْثُ يَفْهَمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَحِينَئِذٍ (¬13) يَكُونُ الِالْتِزَامُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ (¬14) بِدْعَةً مَذْمُومَةً وَضَلَالَةً، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى (¬15)، فلا تكون إذا مستحبة. ¬

(¬1) في (غ): "القناطير". (¬2) ساقطة من (خ) و (ط). (¬3) ساقطة من (م) و (ت). (¬4) ساقطة من (م). (¬5) في (م): "العهد". (¬6) في (خ) و (ر): "تحيلو". (¬7) أي الذي نفترض وقوعه، لأن العز بن عبد السلام أطلق العبارة. (¬8) في (ط): "بأمري". (¬9) في (م) و (ر): "مقال". (¬10) لعلها: "إنه بدعة"؛ إذ تستقيم العبارة بحذف كلمة: "غير". (¬11) في (خ) و (ط): "يخرج". (¬12) في (م) و (ت): "يكون" بدون الواو، وفي (غ) و (ر): "فيكون". (¬13) في (ت) و (غ): "فح" وهي كالاختصار لِلَّفظة، وقد تقدم مثل ذلك في هذه النسخة. (¬14) في (خ) و (ط): "المشار إليه البدعة بل بدعة مذمومة .. "، وناسخ (خ) إذا أخطأ في بعض الألفاظ أضرب عنها بـ (بل) وأعاد كتابة اللفظ الصحيح. (¬15) انظر: الباب الخامس (1/ 293).

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْرِيَ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى (¬1) الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى وَغَيْرَهُ بِدْعَةً مَذْمُومَةً، كَمَنْ كَرِهَ تَنْخِيلَ الدَّقِيقِ فِي الْعَقِيقَةِ (¬2)، فَلَا تَكُونُ عِنْدَهُ الْبِدْعَةُ مُبَاحَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً. وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا (¬3). (وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي دَقَائِقَ التَّصَوُّفِ) فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا هُوَ مِمَّا صَحَّ بِالدَّلِيلِ بِإِطْلَاقٍ، بَلِ الْأَمْرُ يَنْقَسِمُ، وَلَفْظُ التَّصَوُّفِ لَا بُدَّ مِنْ شَرْحِهِ أَوَّلًا حَتَّى يَقَعَ الْحُكْمُ عَلَى أَمْرٍ مَفْهُومٍ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُجْمَلٌ عِنْدِ هَؤُلَاءِ (¬4) الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا قَالَ فِيهِ الْمُتَقَدِّمُونَ. وَحَاصِلُ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ (¬5) لَفْظُ التصوف عندهم معنيان: أحدهما: أنه (¬6) التَّخَلُّقُ بِكُلِّ خُلُقٍ سَنِيّ، وَالتَّجَرُّدُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ (¬7) دَنِيّ (¬8). وَالْآخَرُ: أَنَّهُ الْفَنَاءُ عَنْ نَفْسِهِ، والبقاء بربه (¬9). وهما في التحقيق (¬10) يرجعان (¬11) إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَصْلُحُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنِ (الْبِدَايَةِ، وَالْآخِرَ يَصْلُحُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنِ) (¬12) النِّهَايَةِ، وَكِلَاهُمَا اتِّصَافٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يُلْزِمُهُ الْحَالُ (¬13)، وَالثَّانِي يُلْزِمُهُ الْحَالُ. ¬

(¬1) في (م): "رأى". (¬2) في (ط): "الصيغة"، وتنقص الكلمة بعض الحروف في نسخة (خ). وانظر: المسألة في الباب السابع (2/ 73 ـ 74، 77). (¬3) في (غ) و (ر): "فيها"، وتقدم الكلام عليها (ص359 ـ 363). (¬4) ساقطة من (غ). (¬5) في (خ) و (ت) و (ط): "فيه". (¬6) ساقطة من (خ) و (ط). (¬7) بياض في (ت). (¬8) وهذا التعريف منقول عن أبي محمد الجريري كما في الرسالة القشيرية (ص165). (¬9) في (خ) و (ط): "لربه". (¬10) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت). (¬11) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬12) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬13) قال القشيري في رسالته: "والحال عند القوم معنى يرد على القلب، من غير تعمد منهم، ولا اجتلاب، ولا اكتساب لهم، من طرب أو حزن أو بسط أو قبض أو=

وقد يعتبر (¬1) فيهما بلحظ آخَرَ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ عَمَلًا تَكْلِيفِيًّا، وَالثَّانِي نَتِيجَتَهُ، وَيَكُونُ الْأَوَّلُ اتِّصَافَ الظَّاهِرِ (¬2)، وَالثَّانِي اتِّصَافَ الْبَاطِنِ، وَمَجْمُوعُهُمَا هُوَ التَّصَوُّفُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالتَّصَوُّفُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا بِدْعَةَ فِي الْكَلَامِ فِيهِ، لأنه إنما يرجع (¬3) إلى التفقه (¬4) الذي (¬5) يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَتَفْصِيلُ آفَاتِهِ وَعَوَارِضِهِ، وَأَوْجُهِ تَلَافِي الْفَسَادِ الْوَاقِعِ فِيهِ بِالْإِصْلَاحِ، وَهُوَ فِقْهٌ صَحِيحٌ، وَأُصُولُهُ (¬6) فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَاهِرَةٌ، فَلَا يُقَالُ فِي مَثَلِهِ بِدْعَةٌ، إِلَّا إِذَا أَطْلَقَ على فروع الفقه التي لم يُؤْلَف (¬7) مِثْلُهَا فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَنَّهَا بِدْعَةٌ، كَفُرُوعِ أَبْوَابِ السَّلَمِ، وَالْإِجَارَاتِ، وَالْجِرَاحِ، وَمَسَائِلِ السَّهْوِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَاتِ، وَبُيُوعِ الْآجَالِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُلَمَاءِ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْبِدْعَةِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِيمَا سَلَفَ، وَإِنْ دَقَّتْ مَسَائِلُهَا، فَكَذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى دَقَائِقَ فُرُوعِ الْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَرْجِعُ إِلَى أُصُولٍ شَرْعِيَّةٍ (¬8). وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي (¬9) فَهُوَ عَلَى أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: يَرْجِعُ إِلَى الْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ عَلَى السَّالِكِينَ، إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ نُورُ التَّوْحِيدِ الْوِجْدَانِيُّ، فَيُتَكَلَّمُ فِيهَا بِحَسَبَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي النَّازِلَةِ الْخَاصَّةِ، رُجُوعًا إِلَى الشَّيْخِ الْمُرَبِّي، وَمَا تبين (¬10) له في تحقيق ¬

=شوق .. "، ثم ذكر أن بعضهم يرى بقاءه، وبعضهم يرى أنه يأتي ويزول. انظر: الرسالة (1/ 206). (¬1) في (خ) و (ط): "يعبر". (¬2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "بلفظ". (¬3) في (ت): "الظر". (¬4) في (ط): "يرجل". (¬5) في (خ) و (ط): "تفقه". (¬6) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬7) في (غ): "أصوله" بدون الواو. (¬8) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "يلف". (¬9) في (غ): "الشريعة". (¬10) وهو قولهم أن التصوف: الفناء عن نفسه والبقاء بربه. (¬11) في (م): "يبن"، وهي غير واضحة في (ت)، وفي (خ) و (ط) و (غ) و (ر): "بين".

مَنَاطِهَا بِفِرَاسَتِهِ الصَّادِقَةِ فِي السَّالِكِ بِحَسَبِهِ وَبِحَسَبِ (¬1) الْعَارِضِ، فَيُدَاوِيهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ بِإِصْلَاحِ مَقْصِدِهِ إِنْ عَرَضَ فِيهِ الْعَارِضُ، فَقَلَّمَا يَطْرَأُ الْعَارِضُ (¬2) إِلَّا عِنْدَ الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بُنِي عَلَيْهَا فِي بِدَايَتِهِ، فَقَدْ قَالُوا: (إِنَّمَا حُرِمُوا الْوُصُولَ بِتَضْيِيعِهِمُ الْأُصُولَ) (¬3). فَمِثْلُ هَذَا لَا بِدْعَةَ فِيهِ لِرُجُوعِهِ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَالُوا (¬4): يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا (¬5) نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا الشَّيْءَ يَعْظُمُ (¬6) أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوِ الْكَلَامُ بِهِ، مَا نُحِبُّ أَنَّ لَنَا وَأَنَّا تَكَلَّمْنَا به، قال: (أو قد وَجَدْتُمُوهُ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ (¬7)) (¬8). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ، يُعَرِّض بِالشَّيْءِ، لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَة (¬9) أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قال: (الله أكبر (¬10)، الله أكبر، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلى الوسوسة) (¬11). ¬

(¬1) في (م): "وبحسبه". (¬2) في (خ) و (ط): "العامل بل العارض"، وهو إضراب عن الخطأ، وقد تقدم كثيراً في نسخة (خ). (¬3) ذكره القشيري في رسالته، وعزاه إلى الشيوخ ـ يريد شيوخ الصوفية ـ الرسالة (ص211). (¬4) في (خ) و (غ) و (ر): "قالوا". (¬5) ساقطة من (م) و (ت) و (غ). (¬6) في (غ): "نعظم". (¬7) في (خ) و (ت) و (ط): "في الإيمان". (¬8) رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه، باب الوسوسة في الإيمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكره (2/ 153 نووي)، والإمام أبو داود في كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة برقم (5111)، (4/ 331)، والإمام أحمد في المسند، (2/ 397). (¬9) هي واحدة الحمم، وهي الرماد والفحم وكل ما احترق من النار. الصحاح (5/ 1905). (¬10) في (م) و (خ): كتبت "الله أكبر" مرة واحدة، والصواب المثبت. (¬11) رواه الإمام أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب في رد الوسوسة عن ابن عباس رضي الله عنه برقم (5112)، (4/ 332)، والإمام أحمد في المسند (1/ 235)،=

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: (مَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ) (¬1). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي مِثْلِهِ: (إِذَا وَجَدْتَ (¬2) شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقُلْ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} (¬3)) (¬4)، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ وَهُوَ أصل (¬5) صَحِيحٌ مَلِيحٌ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي الكرامات، وخوارق العادات، وما يتعلق بهما (¬6)، مِمَّا هُوَ خَارِقٌ (¬7) فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ غَيْرُ خَارِقٍ، وَمَا هُوَ مِنْهَا يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ نَفْسِيٍّ أَوْ (¬8) شَيْطَانِيٍّ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا، فَهَذَا النَّظَرُ (¬9) لَيْسَ بِبِدْعَةٍ (كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ) (¬10) النَّظَرُ فِي الْمُعْجِزَاتِ وَشُرُوطِهَا، والفرق بين النبي والمتنبي، وهو فن (¬11) من علم الأصول فحكمه حكمه. والضرب (¬12) الثالث: مَا يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي مُدْرَكَاتِ النُّفُوسِ مِنَ الْعَالِمِ الْغَائِبِ، وَأَحْكَامِ التَّجْرِيدِ النَّفْسِيِّ، وَالْعُلُومِ المتعلقة بعالم الأرواح، ¬

=والإمام ابن أبي عاصم في السنة برقم (658) (1/ 296)، وحسن الشيخ الألباني إسناد ابن أبي عاصم ثم قال عن إسناد أبي داود وأحمد: "قلت وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين". انظر: ظلال الجنة (1/ 296). (¬1) رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب الوسوسة في الإيمان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد ... الحديث" (2/ 153)، والإمام أبو داود في كتاب السنة، باب في الجهمية برقم (4721) (4/ 230). (¬2) في (غ) و (ر): "وجد". (¬3) سورة الحديد: آية (3). (¬4) رواه الإمام أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب في رد الوسوسة عن ابن عباس موقوفاً عليه برقم (5110) (4/ 331)، وقد حسن الشيخ الألباني إسناده كما في صحيح سنن أبي داود (3/ 962). (¬5) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬6) في (خ) و (ط) و (ر): "بها". (¬7) في (غ): "النظر فيه". (¬8) في (غ): "و". (¬9) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬10) ما بين المعكوفين ساقط من (غ). (¬11) ساقط من (خ) و (ط) و (ت) و (غ). (¬12) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).

وَذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَالنُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهُوَ بِلَا شَكٍّ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ إِنْ وَقَعَ النَّظَرُ فِيهِ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ بِقَصْدِ جَعْلِهِ عِلْمًا يُنْظَرُ فِيهِ، وَفَنًّا يُشْتَغَلُ بِتَحْصِيلِهِ بِتَعَلُّمٍ أَوْ رِيَاضَةٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَظَرٌ فَلْسَفِيٌّ، إِنَّمَا يَشْتَغِلُ بِاسْتِجْلَابِهِ، وَالرِّيَاضَةِ لِاسْتِفَادَتِهِ أَهْلُ الْفَلْسَفَةِ الْخَارِجُونَ عَنِ السُّنَّةِ، الْمَعْدُودُونَ (¬1) فِي الْفَرْقِ الضَّالَّةِ، فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ مُبَاحًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ. نَعَمْ قَدْ يَعْرِضُ مِثْلُهُ (¬2) لِلسَّالِكِ، فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ مَعَ الْمُرَبِّي حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْ طَرِيقِهِ، وَيُبْعِدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَرِيقِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِمَالَةِ مَقْصِدِ (¬3) السَّالِكِ إِلَى أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، زِيَادَةً إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ بِتَتَبُّعِهِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، إِذِ الطَّرِيقُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِخْلَاصِ التَّامِّ بِالتَّوَجُّهِ الصَّادِقِ، وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ عَنْ الِالْتِفَاتِ (¬4) إِلَى (¬5) الْأَغْيَارِ، وَفَتْحِ بَابِ الْكَلَامِ (¬6) فِي هَذَا الضَّرْبِ مضاد لذلك كله. والضرب (¬7) الرابع: يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي حَقِيقَةِ الْفَنَاءِ، مِنْ حَيْثُ الدُّخُولُ فِيهِ، وَالِاتِّصَافُ بِأَوْصَافِهِ، وَقَطْعُ أَطْمَاعِ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ جِهَةٍ (¬8) تُوَصِّلُ إِلَى غَيْرِ الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ دَقَّتْ، فَإِنَّ أَهْوَاءَ النُّفُوسِ تَدُقُّ وَتَسْرِي مَعَ السَّالِكِ فِي الْمَقَامَاتِ، فَلَا يَقْطَعُهَا إِلَّا مَنْ حَسَمَ مَادَّتَهَا، وَبَتَّ طَلَاقَهَا، وَهُوَ بَابُ الْفَنَاءِ الْمَذْكُورِ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِقْهِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ البدع ¬

(¬1) في (غ): "المعدون". (¬2) ساقطة من (خ) و (ط). (¬3) في (غ) و (ر): "قصد". (¬4) في (م) و (ت): "التفات". (¬5) ساقطة من (ت). (¬6) عبارة (خ): "وفتح باب الأغيار الكلام .. " وكتب فوق كلمة الأغيار "سقط"، ولا معنى لها في الجملة. (¬7) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬8) في (غ) و (ر): "وجهة".

لِدُخُولِهِ تَحْتَ جِنْسِ الْفِقْهِ، لِأَنَّهُ ـ وَإِنْ دَقَّ ـ رَاجِعٌ إِلَى مَا جَلَّ مِنَ الْفِقْهِ، وَدِقَّتُهُ وَجِلَّتُهُ إِضَافِيَّانِ، وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ. وَثَمَّ أَقْسَامٌ أُخَرُ، جميعها يرجع: إما (¬1) إِلَى فِقْهِ شَرْعِيٍّ حَسَنٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِمَّا إِلَى ابْتِدَاعٍ لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ، وَهُوَ قَبِيحٌ فِي الشَّرْعِ. وَأَمَّا الْجَدَلُ وَجَمْعُ الْمَحَافِلِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَسَائِلِ فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ (¬2). وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ فَعُدَّ مِنْهَا زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ، وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ، وَتَلْحِينُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ (¬3) أَلْفَاظُهُ عَنِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ (¬4)، فَإِنْ أَرَادَ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ أَمْرٍ آخَرَ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنْ أَرَادَ مَعَ اقْتِرَانِ قَصْدِ (¬5) التَّشْرِيعِ فَصَحِيحٌ مَا قَالَ، إِذِ (¬6) الْبِدْعَةُ لَا تَكُونُ بِدْعَةً إِلَّا مَعَ اقْتِرَانِ هَذَا الْقَصْدِ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا غَيْرُ بِدَعٍ. وَأَمَّا أَمْثِلَةُ البدع المباحة: فعد منها المصافحة عقيب (¬7) صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، أَمَّا أَنَّهَا بِدَعٌ فَمُسَلَّمٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا مُبَاحَةٌ فَمَمْنُوعٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِهَا، بَلْ هِيَ مَكْرُوهَةٌ، إِذْ يُخَافُ بِدَوَامِهَا إلحاقها بالصلوات (¬8) المذكورة، كما خاف مالك رحمه الله وَصْلَ سِتَّةِ أَيَّامٍ (¬9) مِنْ شَوَّالٍ بِرَمَضَانَ لِإِمْكَانِ أَنْ يَعُدَّهَا مِنْ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ. فَقَدْ قَالَ الْقَرَافِيُّ (¬10): (قَالَ لِي (¬11) الشَّيْخُ (¬12) زَكِيُّ الدِّينِ عبد العظيم (¬13) ¬

(¬1) في (خ) و (ط): "إما يرجع". (¬2) انظر: (ص371). (¬3) في (م): "يتغير"، وفي (ت): "تحتمل الوجهين". (¬4) في (غ): "وضع العرب". (¬5) في (خ) و (ت) و (ط): "أصل". (¬6) في (خ) و (ط): "إن". (¬7) في (خ) و (ط): "عقب". (¬8) في (ط): "الصلوات" بدون الباء. (¬9) ساقطة من (م). (¬10) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص350). (¬11) ساقطة من (خ) و (ط). (¬12) في (ر): "شيخي الشيخ". (¬13) هو زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري الشافعي الحافظ، المحقق، كان عديم النظير في علم الحديث، وقد عمل المعجم، واختصر=

الْمُحَدِّثُ: إِنَّ الَّذِي خَشِيَ مِنْهُ مَالِكٌ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُ قَدْ وَقَعَ بِالْعَجَمِ، فَصَارُوا يَتْرُكُونَ الْمُسَحِّرِينَ على عادتهم (¬1)، وَالْبَوَّاقِينَ وَشَعَائِرَ رَمَضَانَ إِلَى آخَرِ السِّتَّةِ (¬2) الْأَيَّامِ، فَحِينَئِذٍ (¬3) يُظْهِرُونَ شَعَائِرَ الْعِيدِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ شَاعَ عند عوام (¬4) مِصْرَ أَنَّ الصُّبْحَ رَكْعَتَانِ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةَ، فَإِنَّهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِمَامَ يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةِ (¬5) السَّجْدَةِ يَوْمَ الجمعة (في صلاة الصبح) (¬6)، ويسجد فيها (¬7)، فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ تِلْكَ رَكْعَةٌ أُخْرَى وَاجِبَةٌ قَالَ: وَسَدُّ هَذِهِ الذَّرَائِعِ مُتَعَيَّنٌ فِي الدِّينِ، وَكَانَ مالك رحمه الله شديد المبالغة في (¬8) سد الذرائع (¬9)). وَعَدَّ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ التَّوَسُّعَ فِي الْمَلْذُوذَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ (¬10). وَالْحَاصِلُ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِيهِ قَدْ (¬11) وَضَحَ (¬12) مِنْهُ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَنْقَسِمُ إِلَى ذَلِكَ الِانْقِسَامِ، بَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، إِمَّا كَرَاهَةً (¬13)، وَإِمَّا (¬14) تَحْرِيمًا، حَسْبَمَا يَأْتِي إن شاء الله تعالى (¬15). ¬

=مسلم، وشرح التنبيه، وكان متين الديانة، ذا نسك وورع. توفي سنة 656هـ. انظر: السير (23/ 319)، البداية والنهاية (13/ 224 ـ 225). (¬1) في (ط): "عاداتهم". (¬2) في (م): "ستة". (¬3) في (ت): "فح"، وهو مصطلح عند ناسخ (ت) لهذه الكلمة. (¬4) في (خ) و (ط): "عامة". (¬5) ساقطة من (م) و (ت) و (ر). (¬6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬7) ساقطة من (م) و (ر). (¬8) في (غ) و (ر): "فيها" وقوله: "سد الذرائع" ساقط من (غ) و (ر). (¬9) في (م) و (ت): "شديد المبالغة فيها". (¬10) تقدم (ص356). (¬11) ساقطة من (غ). (¬12) في (غ): "واضح". (¬13) في (ر): "كراهية". (¬14) في (ت): "أو". (¬15) وذلك في الباب السادس (2/ 36، 49).

فصل

فَصْلٌ (¬1) وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّفِينَ (¬2) أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُمُ الْمَشْهُورُونَ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، الْمُقْتَدُونَ بِأَفْعَالِ السلف الصالح (¬3)، المثابرون في أقوالهم وأفعالهم (¬4) عَلَى الِاقْتِدَاءِ التَّامِّ، وَالْفِرَارِ عَمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا طَرِيقَتَهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَى أَكْلِ الْحَلَالِ، وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ (¬5)، وَلَكِنَّهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ يَسْتَحْسِنُونَ أَشْيَاءَ لَمْ تَأْتِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا عَمِلَ بأمثالها السلف الصالح (¬6)، فَيَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهَا، وَيُثَابِرُونَ عَلَيْهَا (¬7)، وَيُحَكِّمُونَهَا طَرِيقًا لَهُمْ مهيعاً (¬8)، وسنة لا تخالف (¬9)، بل ربما (¬10) أوجبوها في ¬

(¬1) يذكر المؤلف في هذا الفصل كلام قوم يرون انقسام البدع إلى محمود ومذموم احتجاجاً ببعض أعمال الصوفية، وسوف يبين المؤلف وجه احتجاجهم، ثم يجيب عنه. (¬2) في (م) و (ت): "المكلفين". (¬3) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬4) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "أفعالهم وأقوالهم". (¬5) ما ذكره بعض المتكلفين عن الصوفية أمر غير صحيح، ومتى كان الصوفية هم المشهورون باتباع السنة؟ بل المعروف أنهم أحدثوا أموراً ليست من السنة، ولا من عمل السلف الصالح، ثم إن هذا الكلام متناقض في ذاته، فإن هذا المتكلف أثنى عليهم بأنهم المشهورون باتباع السنة، ثم ذكر أنهم عملوا أموراً لم تأت في كتاب ولا سنة، ثم أكد هذا بالأمثلة كما سيأتي، وأحسن ما في هذا الكلام نقده لزلات الصوفية، وأما الاحتجاج به على انقسام البدع فهو باطل كما سيأتي. (¬6) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬7) في (خ): "عليهم بل عليها"، وهو إضراب عن الخطأ. وقد مر كثيراً. (¬8) في (خ): "مهيفاً". والطريق المهيع هو الواضح الواسع. انظر: لسان العرب (10/ 258). (¬9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "تخلف". (¬10) في (ت): "ربا".

بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَلَوْلَا أَنَّ فِي ذَلِكَ رُخْصَةً لَمْ يَصِحَّ لَهُمْ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْتَمِدُونَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى الْكَشْفِ وَالْمُعَايَنَةِ، وَخَرْقِ الْعَادَةِ، فَيَحْكُمُونَ بِالْحِلِّ والحرمة، ويبنون (¬1) عَلَى ذَلِكَ الْإِقْدَامَ وَالْإِحْجَامَ (¬2)، كَمَا يُحْكَى عَنِ المحاسبي (¬3) أنه كان إذا تناول طعاماً فيه شُبْهَةٍ يَنْبِضُ (¬4) لَهُ عِرْقٌ فِي إِصْبَعِهِ فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ (¬5). وَقَالَ (¬6) الشِّبْلِيُّ (¬7): (اعْتَقَدْتُ وَقْتًا أَنْ (¬8) لَا آكُلَ إِلَّا (¬9) مِنْ حَلَالٍ (¬10)، فَكُنْتُ أَدُورُ فِي الْبَرَارِيِّ، فَرَأَيْتُ شَجَرَةَ تِينٍ، فَمَدَدْتُ يَدَيْ إِلَيْهَا لِآكُلَ، فَنَادَتْنِي الشَّجَرَةُ: احْفَظْ عَلَيْكَ (¬11) عَهْدَكَ (¬12)، لَا تَأْكُلْ مِنِّي فَإِنِّي لِيَهُودِيٍّ (¬13)) (¬14). وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ (¬15) [رحمه الله] (¬16): (دَخَلْتُ خَرِبَةً فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ بِاللَّيْلِ، فَإِذَا فِيهَا سَبْعٌ عَظِيمٌ، فَخِفْتُ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ اثْبُتْ، فَإِنَّ حَوْلَكَ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلِكٍ يَحْفَظُونَكَ) (¬17). فَمِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِذَا عُرِضَتْ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ ظَهَرَ عَدَمُ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا (¬18)، إِذِ الْمُكَاشَفَةُ، أَوِ الْهَاتِفُ الْمَجْهُولُ، أَوْ تحرك (¬19) بَعْضِ الْعُرُوقِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْلِيلِ وَلَا التحريم (¬20) لإمكانه في نفسه (¬21)، وإلا ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "ويثبتون". (¬2) في (ر): "الإحجام". (¬3) تقدمت ترجمته (ص380). (¬4) في (م) و (ت): "يقبض". (¬5) ذكر ذلك القشيري في رسالته (ص14). (¬6) غير واضحة في (غ). (¬7) في (ت) و (ط): "الشيلي". (¬8) ساقطة من (ت). (¬9) ساقطة من (ت). (¬10) في (غ): "الجلال"، وفي (ر): "الحلال". (¬11) ساقطة من (غ) و (ر). (¬12) في (غ) و (ر): "عقدك". (¬13) في (غ): "اليهودي". (¬14) انظر: الموافقات (2/ 461)، والرسالة للقشيري (ص12) .. (¬15) تقدمت ترجمته (ص381). (¬16) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (غ). (¬17) الرسالة للقشيري (ص168). (¬18) في (غ): "بها عليها". (¬19) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "تحريك". (¬20) في (غ): "أو التحريم". (¬21) في (غ): "أنفاسه".

لو (¬1) حضر ذلك الطعام (¬2) حاكم أو غيره أكان (¬3) يجب عليه أو يندب إلى (¬4) الْبَحْثُ عَنْهُ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنْ يَدِ وَاضِعِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ؟ وَلَوْ (¬5) هَتَفَ هَاتِفٌ بأن (¬6) فلاناً قتل المقتول الفلاني، أو (¬7) أَخَذَ مَالَ فُلَانٍ، أَوْ زَنَى، أَوْ سَرَقَ، أكان يجب عليه العمل بقوله؟ أو يكون شاهداً في بعض تلك (¬8) الْأَحْكَامِ؟ بَلْ لَوْ تَكَلَّمَتِ شَجْرَةٌ أَوْ حَجُرٌ بِذَلِكَ، أَكَانَ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِهِ؟ أَوْ يُبنى (¬9) عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؟ هَذَا مِمَّا لَا يُعْهَدُ فِي الشَّرْعِ مِثْلُهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَوْ أَنَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ادَّعَى الرِّسَالَةَ، وَقَالَ: آيتي (¬10) أن أدعو (¬11) هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتُكَلِّمَنِي، ثُمَّ دَعَاهَا فَأَتَتْ وَكَلَّمَتْهُ (¬12)، وَقَالَتْ: إِنَّكَ كَاذِبٌ، لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ، لَا دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ، لِأَنَّهُ تَحَدَّى (¬13) بأمر جاء (¬14) عَلَى وَفْقِ مَا ادَّعَاهُ، وَكَوْنُ الْكَلَامِ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ (¬15) مُقْتَضَى الدَّعْوَى، لَا حُكْمٌ لَهُ. فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي هَذِهِ المسألة: إذا فرضنا أن انباض (¬16) الْعِرْقِ لَازِمٌ لِكَوْنِ الطَّعَامِ حَرَامًا، لَا يَدُلُّ ذلك على الحكم (¬17) بالإمساك عنه (¬18)، إذ (¬19) لَمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ معلوم. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "فلو". (¬2) ساقطة من (م) (خ) و (ت) و (ط). (¬3) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "لكان". (¬4) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬5) في (م) و (غ) و (ر): "أولو". (¬6) في (ت): "فإن". (¬7) في (م) و (ت): "و" بدل "أو". (¬8) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬9) في (ت): "يبقى". (¬10) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "إنني". (¬11) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أدع". (¬12) في (غ): "فكلمته". (¬13) في (غ): "تحرى". (¬14) في (خ) و (ط) و (ر): "جاءه". (¬15) في (م) و (ت): "على". (¬16) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "انقباض". (¬17) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أن الحكم". (¬18) من هنا الخط غير واضح في (غ). (¬19) في (خ) و (ت) و (ط): "إذا".

وكذلك مَسْأَلَةُ الْخَوَاصِّ، فَإِنَّ التَّوَقِّيَ مِنْ مَظَانِّ الْمُهْلِكَاتِ (¬1) مَشْرُوعٌ، فَخِلَافُهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ مُعْتَادٌ فِي أَهْلِ هَذِهِ (¬2) الطَّرِيقَةِ. وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّجَرَةِ لِلشِّبْلِيِّ (¬3) مِنْ جُمْلَةِ الْخَوَارِقِ، وَبِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْهُودٍ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ طَرِيقَهُمْ عَلَى اجْتِنَابِ الرُّخَصِ جُمْلَةً، حَتَّى إِنَّ شيخهم المصنف (¬4) الَّذِي مَهَّدَ لَهُمُ الطَّرِيقَةَ أَبَا الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيَّ (¬5)، قَالَ فِي بَابِ وَصِيَّةِ الْمُرِيدِينَ مِنْ رِسَالَتِهِ: "إن اختلفت (¬6) عَلَى الْمُرِيدِ فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ يَأْخُذُ بِالْأَحْوَطِ، وَيَقْصِدُ أَبَدًا الْخُرُوجَ عَنِ (¬7) الْخِلَافِ، فَإِنَّ الرُّخَصَ فِي الشَّرِيعَةِ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَصْحَابِ الْحَوَائِجِ وَالْأَشْغَالِ، وَهَؤُلَاءِ الطَّائِفَةُ ـ يَعْنِي الصُّوفِيَّةَ ـ لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ سِوَى الْقِيَامِ بِحَقِّهِ سُبْحَانَهُ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِذَا انْحَطَّ الْفَقِيرُ عَنْ (¬8) دَرَجَةِ الْحَقِيقَةِ إِلَى رُخْصَةِ الشَّرِيعَةِ، فَقَدْ فَسَخَ عَقْدَهُ (مَعَ اللَّهِ) (¬9)، وَنَقَضَ عَهْدَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ" (¬10). فَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمُ التَّرَخُّصُ فِي مَوَاطِنِ الترخص المشروع، وهو خلاف (¬11) مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. فَالْتِزَامُ الْعَزَائِمِ مَعَ وُجُودِ مَظَانِّ (¬12) الرُّخَصِ ـ الَّتِي قال فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ (¬13) يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ" (¬14) ـ فِيهِ مَا فِيهِ. ¬

(¬1) في (ر): "الهلكات". (¬2) في (م) و (خ) و (ط): "هاته". (¬3) في (خ) و (ت): "للشبيلي". (¬4) ساقطة من (خ) و (ط). (¬5) تقدمت ترجمته (ص160). (¬6) في (ط): "اختلف". (¬7) في (م) و (ت) و (ر): "على". (¬8) في (خ): "على". (¬9) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط)، وفي (ت): سقط لفظ الجلالة فقط. (¬10) انظر: قوله في الرسالة القشيرية (ص213). (¬11) ساقطة من (خ) و (ط). (¬12) في (ط): "مضار". (¬13) لفظ الجلالة أثبت في هامش (م)، وكتب في (ت) فوق السطر. (¬14) رواه الإمام الطبراني في المعجم الكبير عن ابن عباس رضي الله عنه برقم (11880) =

وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ بِدْعَةٌ اسْتَحْسَنُوهَا قَمْعًا لِلنَّفْسِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْمَيْلِ إِلَى الرَّاحَةِ، وَإِيثَارًا إِلَى (¬1) مَا يُبْنَى (¬2) عَلَيْهِ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقُشَيْرِيَّ جَعَلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَبْنِي عَلَيْهِ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي طَرِيقِهِمْ (الْخُرُوجَ (¬3) عن المال، فإن ذلك الذي (¬4) يميل به (¬5) عن الحق، ولم يوجد مريد دخل (¬6) فِي هَذَا الْأَمْرِ وَمَعَهُ عَلَاقَةٌ مِنَ الدُّنْيَا إلا جرته تلك العلاقة (¬7) عَنْ قَرِيبٍ إِلَى مَا مِنْهُ خَرَجَ .. ) (¬8) إِلَى آخَرِ مَا قَالَ. وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ مَعَ ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّا نَعْرِضُ ذَلِكَ عَلَى الحالة الأولى، وهي حَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، إِذْ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالْخُرُوجِ عَنْ مَالِهِ، وَلَا أَمَرَ صَاحِبَ صَنْعَةٍ (¬9) بِالْخُرُوجِ عَنْ صَنْعَتِهِ، وَلَا صَاحِبَ تِجَارَةٍ بِتَرْكِ (¬10) تِجَارَتِهِ، وَهُمْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ حَقًّا، وَالطَّالِبُونَ لِسُلُوكِ طَرِيقِ الْحَقِّ صِدْقًا، وَإِنْ سَلَكَ مَنْ بعدهم ألف سنة، لم يدرك (¬11) شَأْوَهُمْ، وَلَمْ يَبْلُغْ هُدَاهُمْ (¬12). ثُمَّ إِنَّهُ كَمَا يَكُونُ الْمَالُ شَاغِلًا فِي الطَّرِيقِ عَنْ بُلُوغِ الْمُرَادِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ فَرَاغُ الْيَدِ مِنْهُ جُمْلَةً شاغلاً عنه، وليس (أحد ¬

= (11/ 323)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 276)، والبزار في مسنده كما في كشف الأستار (1/ 469)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبراني في الكبير، والبزار، ورجال البزار ثقات، وكذلك رجال الطبراني. المجمع (3/ 165) وصحح الألباني إسناده في إرواء الغليل (3/ 11). (¬1) في (غ): "على". (¬2) في (م) و (غ) و (ر): "بنى". (¬3) قال القشيري في الرسالة: "وإذا أراد الخروج عن العلائق، فأولها: الخروج ... " وذكر ما نقل هنا. (¬4) ساقطة من (غ). (¬5) في (خ) و (ط): "يميل إليه به ... ". (¬6) عبارة (م) و (خ) و (ت) و (ط): "من يدخل". (¬7) في (ط): "لعلاقة". (¬8) انظر: الرسالة القشيرية، باب الوصية للمريدين (ص213). (¬9) في (خ): "صنعته". (¬10) في (خ): "بمن بل بترك تجارته"، وهو إضراب عن الخطأ. (¬11) في (خ) و (ت) و (ط): "يبلغ". (¬12) في (ر): "مداهم".

الْعَارِضِينَ) (¬1) أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنَ الْآخَرِ، فَأَنْتَ تَرَى كَيْفَ جُعِلَ هَذَا النَّوْعُ ـ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ في السلف ـ عمدة (¬2) وأصلاً (¬3) فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى مُحْدَثٌ، فما ذاك (¬4) إِلَّا لِأَنَّ الصُّوفِيَّةَ اسْتَحْسَنُوهُ، لِأَنَّهُ بِلِسَانِ جَمِيعِهِمْ يَنْطِقُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلشُّيُوخِ التَّجَاوُزُ عَنْ زَلَّاتِ الْمُرِيدِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَضْيِيعٌ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى (¬5)، وَهَذَا النَّفْيُ (¬6) الْعَامُ يُسْتَنْكَرُ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، أَلَا تَرَى إِلَى (¬7) مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَكُنْ حَدَّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ" (¬8)، فَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ غَيْرَ صَحِيحٍ لَكَانَ مُخَالِفًا لِهَذَا الدَّلِيلِ، وَلَمَا جَاءَ مِنْ فَضْلِ الْعَفْوِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ (¬9)، (وَيَرْضَى بِهِ) (¬10)، وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الرِّفْقِ شَرْعِيَّةُ التَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ، إِذِ الْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَلَّةٍ وَتَقْصِيرٍ، وَلَا مَعْصُومَ إِلَّا من عصمه (¬11) الله. ¬

(¬1) هكذا في (غ) و (ر) وفي أصل (م): "العاضين"، وصححت في هامشها بما هو مثبت بين المعكوفين، وفي بقية النسخ "الماضي". (¬2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عهده". (¬3) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أصلاً" بدون واو. (¬4) في (خ) و (ط) و (ر): "ذلك". (¬5) انظر: هذا الكلام لهم في الرسالة للقشيري (ص213). (¬6) في (خ) و (ط): "الفقير"، وفي (م) و (ت): "البغي". (¬7) ساقطة من (خ) و (ط). (¬8) رواه الإمام أبو داود في كتاب الحدود من سننه، باب في الحد يشفع فيه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" (4/ 131)، ورواه الإمام أحمد في المسند (6/ 181)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 43)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 129)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 827). وانظر: السلسلة الصحيحة برقم (638). (¬9) في (غ): "العفو". (¬10) ما بين المعكوفين ساقط من (ت). (¬11) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "عصم".

ومن ذَلِكَ أَخْذُهُمْ عَلَى الْمُرِيدِ أَنْ يُقَلِّلَ مِنْ غِذَائِهِ، لَكِنْ بِالتَّدْرِيجِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ (¬1)، لَا مَرَّةً (¬2) وَاحِدَةً (¬3)، وَأَنْ يُدِيمَ الْجُوعَ وَالصِّيَامَ، وَأَنْ يترك التزوج (¬4) ما دام في سلوكه، ويعد (¬5) ذلك (¬6) كُلُّهُ مِنْ مُشْكِلَاتِ التَّشْرِيعِ، بَلْ هُوَ شَبِيهٌ بِالتَّبَتُّلِ الَّذِي رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، حَتَّى قَالَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬7). وَإِذَا تؤمل (¬8) مَا ذَكَرُوهُ فِي شَأْنِ التَّدْرِيجِ فِي تَرْكِ الغذاء (¬9) وُجد (¬10) غَيْرَ مَعْهُودٍ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ، وَالْقَرْنِ الْأَفْضَلِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ أَلْزَمُوهَا الْمُرِيدَ حَالَةَ السَّمَاعِ، مِنْ طَرْحِ الْخَرْقِ، وَأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ خَرَجَ عَنْهُ (¬11)، أَلْبَتَّةَ، إِلَّا أَنْ يُشِيرَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ بِالرُّجُوعِ فِيهِ، فَلْيَأْخُذْهُ (¬12) عَلَى نِيَّةِ الْعَارِيَّةِ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوحِشَ قَلْبَ الشَّيْخِ (¬13)، إِلَى أَشْيَاءَ اخْتَرَعُوهَا فِي ذَلِكَ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ، وذلك من نتائج مجالس (¬14) السماع الذي اعتادوه (¬15). وَالسَّمَاعُ فِي طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ لَيْسَ مِنْهَا، لَا بِالْأَصْلِ وَلَا بِالتَّبَعِ، وَلَا اسْتَعْمَلَهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ مِمَّنْ يُشَارُ إِلَيْهِ حَاذِيًا (¬16) فِي طَرِيقِ الخير، وإنما ¬

(¬1) في (ط): "من" بدون الواو. (¬2) انظر: هذا الكلام في باب الوصية للمريدين من رسالة القشيري (ص214). (¬3) في (غ) و (ر): "لا بمرة". (¬4) ساقطة من (غ). (¬5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "التزويج". (¬6) في (م) و (غ) و (ر): "بعد". (¬7) في (م) و (غ) و (ر): "وذلك"، وفي (ت): "ذاك". (¬8) تقدم تخريجه الحديث (ص58). (¬9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "تأمل". (¬10) في (خ): "العقد بل الغذاء" وتقدم نظيره. (¬11) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "وجده". (¬12) في (ر): "منه". (¬13) في (م): "فليأخذ". (¬14) انظر: هذا الكلام في باب الوصية للمريدين من رسالة القشيري (ص217). (¬15) في (غ): "مسائل". (¬16) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "اعتمدوه". (¬17) في (م) و (ت) و (غ): "حادياً".

رَأَيْتُهُ مَأْخُوذًا بِهِ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ الْآخِذَةِ لِلتَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ بِالتَّبَعِ (¬1). وَلَوْ تُتُبِّعَ هَذَا الْبَابُ لَكَثُرَتْ مَسَائِلُهُ وَانْتَشَرَتْ، وَظَاهِرُهَا أَنَّهَا اسْتِحْسَانَاتٌ (¬2) اتُّخِذَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَالْقَوْمُ ـ كَمَا تَرَى ـ مُسْتَمْسِكُونَ بِالشَّرْعِ، فَلَوْلَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَاحِقٌ بِالْمَشْرُوعَاتِ، لَكَانُوا أَبْعَدَ الناس منها، فدل (¬3) عَلَى أَنَّ مِنَ الْبِدَعِ (¬4) مَا لَيْسَ بِمَذْمُومٍ، بل إن منها ما هو محمود (¬5) وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. (وَالْجَوَابُ) (¬6) أَنْ نَقُولَ ـ أَوَّلًا ـ: كُلُّ مَا عَمِلَ بِهِ الْمُتَصَوِّفَةُ الْمُعْتَبَرُونَ فِي هَذَا الشَّأْنِ لَا يَخْلُو: إِمَّا (¬7) أَنْ يَكُونَ مِمَّا ثبت له أصل في الشريعة أو (¬8) لَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فَهُمْ خُلَقَاءُ بِهِ، كَمَا أَنَّ السَّلَفَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ خُلَقَاءُ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَمَلُ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ حُجَّةً عَلَى السُّنَّةِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ مَعْصُومَةٌ عَنِ الْخَطَأِ، وَصَاحِبَهَا مَعْصُومٌ، وَسَائِرُ الْأُمَّةِ لَمْ تَثْبُتْ لَهُمْ عِصْمَةٌ إِلَّا (¬9) مَعَ إِجْمَاعِهِمْ خاصة، وإذا اجتمعوا تضمن إجماعهم دَلِيلًا شَرْعَيًّا، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. فَالصُّوفِيَّةُ كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ الْعِصْمَةُ، فَيَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْمَعْصِيَةُ كَبِيرَتُهَا وَصَغِيرَتُهَا، فَأَعْمَالُهُمْ لَا تَعْدُو الْأَمْرَيْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ كلام منه (¬10) مأخوذ ومتروك (¬11)، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم. ¬

(¬1) ساقطة من (ط). (¬2) في (غ) و (ر): "مستحسنات". (¬3) في (م) و (ت): "يدل"، وفي (خ) و (ط): "ويدل". (¬4) في (غ) و (ر): "ابتدع". (¬5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "ممدوح". (¬6) من هنا يبدأ المؤلف يجيب عن الكلام المتقدم، وهو كلام حسن لولا ما فيه من الاختصار، لأن المؤلف لم يجب عن كل مسألة على حدة، مع أن الموضع مناسب لرد هذه المحدثات. ويظهر في كلام المؤلف مداراة ظاهرة كما سيأتي. (¬7) ساقطة من (غ) و (ر). (¬8) في (م) و (خ) و (ط): "أم". (¬9) في (خ) و (ت): "ولا". (¬10) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬11) في (خ) و (ط): "أو متروك".

وَقَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ الْقُشَيْرِيُّ أَحْسَنَ (¬1) تَقْرِيرٍ، فَقَالَ: (فإن قيل: فهل يكون الولي معصوماً؟ (¬2) قِيلَ: أَمَّا وُجُوبًا كَمَا يُقَالُ فِي الْأَنْبِيَاءِ فَلَا (¬3)، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا حَتَّى لَا يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ ـ وَإِنْ حَصَلَتْ مِنْهُمْ (¬4) آفَاتٌ أَوْ زَلَاتٌ ـ فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي وَصْفِهِمْ، قال: ولقد (¬5) قيل للجنيد (¬6): العارف يَزْنِي؟ (¬7) فَأَطْرَقَ مَلِيًّا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (¬8)) (¬9). فَهَذَا كَلَامُ منصف، فكما يجوز على غيرهم المعاصي، فالابتداع وَغَيْرِهِ كَذَلِكَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ مَعَ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، ونقف عن (¬10) الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، إِذَا ظَهَرَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ إِشْكَالٌ، بَلْ نَعْرِضُ مَا جَاءَ عَنِ الْأَئِمَّةِ عَلَى (¬11) الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا قَبِلَاهُ قَبِلْنَاهُ، وَمَا لَمْ يَقْبَلَاهُ تَرَكْنَاهُ، ولا علينا إذا قَامَ لَنَا الدَّلِيلُ عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَقُمْ لَنَا دَلِيلٌ عَلَى اتِّبَاعِ (¬12) أَقْوَالِ الصُّوفِيَّةِ وَأَعْمَالِهِمْ إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا، وَبِذَلِكَ وَصَّى شُيُوخُهُمْ، وإن كل (¬13) مَا جَاءَ بِهِ صَاحِبُ الْوَجْدِ وَالذَّوْقِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْعُلُومِ وَالْفُهُومِ، فَلْيَعْرِضْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ قَبِلَاهُ صَحَّ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، فَكَذَلِكَ مَا رَسَمُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَوْجُهِ الْمُجَاهِدَاتِ، وَأَنْوَاعِ الالتزامات (¬14). ¬

(¬1) في (غ): "بأحسن". (¬2) كتب في هذا الموضع في (خ) و (ط): "حتى لا يصر على الذنوب"، وهو سبق نظر من الناسخ. (¬3) ساقطة من (م) و (خ). (¬4) في (خ) و (ط) و (م): "معناه". (¬5) في (خ) و (ت): "لقد" بدون الواو. (¬6) تقدمت ترجمته (ص169). (¬7) في (خ): "أيزنى العارف"، وفي (ت): "العارف يرب يزني". (¬8) سورة الأحزاب: آية (38). (¬9) انظر: هذا القول في الرسالة القشيرية (ص187). (¬10) في (خ) و (ط): "على". (¬11) ساقطة من (م). (¬12) ساقطة من (غ) و (ر). (¬13) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "كان". (¬14) والأقرب من هذا كله اتباع الدليل مباشرة، ففي كتاب الله سبحانه وسنة رسوله (ص) =

ثُمَّ نَقُولُ ـ ثَانِيًا ـ: إِذَا نَظَرْنَا فِي رُسُومِهِمُ الَّتِي حَدُّوا، وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَنْ غَيْرِهِمْ، بِحَسَبِ تَحْسِينِ الظَّنِّ، وَالتَّمَاسِّ أَحْسَنِ الْمَخَارِجَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهَا مَخْرَجًا، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا (¬1) التَّوَقُّفُ عن الاقتداء والعمل، وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِنْسِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ (¬2)، لا رداً له (¬3) وَاعْتِرَاضًا (¬4)، بَلْ لِأَنَّا لَمْ نَفْهَمْ وَجْهَ رُجُوعِهِ إِلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا فَهِمْنَا غَيْرَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَتَوَقَّفُ عَنِ (¬5) الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي يُشْكِلُ عَلَيْنَا وَجْهُ الْفِقْهِ فِيهَا (¬6)؟ فَإِنْ سَنَحَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْعَمَلِ بِهَا وَجْهٌ جَارٍ على الأدلة قبلناه، وإلا فلسنا مطلوبين (¬7) بذلك، ولا ضرر علينا في هذا (¬8) التَّوَقُّفِ، لِأَنَّهُ تَوَقُّفُ مُسْتَرْشِدٍ، لَا تَوَقُّفُ رَادٍّ مُطَّرِحٍ (¬9)، فَالتَّوَقُّفُ هُنَا بِتَرْكِ الْعَمَلِ أَوْلَى وَأَحْرَى (¬10). ثُمَّ نَقُولُ ـ ثَالِثًا ـ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَأَشْبَاهَهَا قَدْ صَارَتْ مَعَ ظَاهِرِ (¬11) الشَّرِيعَةِ كَالْمُتَدَافِعَةِ، فَيُحْمَلُ كَلَامُ الصُّوفِيَّةِ وَأَعْمَالُهُمْ مَثَلًا عَلَى أَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى دَلَائِلَ شَرْعِيَّةٍ، إِلَّا أَنَّهُ (¬12) عَارَضَهَا فِي النقل أدلة أوضح منها (¬13) فِي أَفْهَامِ الْمُتَفَقِّهِينَ (¬14)، وَأَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَجْرَى عَلَى المعهود في سائر ¬

=ما يغني المسلم عن هذا العناء، فالمطلوب اتباع الدليل لا البحث عن الدليل الذي يعضد أعمال الصوفية أو غيرهم. (¬1) ساقطة من (ر). (¬2) هذا الكلام غير مسلم، بل قدوتنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم. (¬3) في (خ) و (ت) و (ط): "لهم". (¬4) في (غ) و (ر): "ولا اعتراضاً عليه". (¬5) في (غ): "على". (¬6) وأين هذا من هذا، وما الذي يوقع المسلم في هذ الإشكال وهو في غنى عنه، وهل صارت أعمال الصوفية أدلة شرعية حتى نتعامل معها كذلك! (¬7) في (م) و (غ): "بمطلوبين". (¬8) زيادة في (غ) و (ر). (¬9) في (ط): "مقترح". (¬10) بل هو الواجب على المسلم، لأن الاقتداء بالصوفية في أقوالهم وأعمالهم أمر مردود، فكيف إذا تعارض مع أدلة الشرع. (¬11) في (غ) و (ر): "ظواهر". (¬12) في (غ): "أنها". (¬13) ساقطة من (غ) و (ر). (¬14) هذا الحمل لا ينبغي، لأن الأدلة الشرعية واضحة بينة، فلو كانت أقوالهم وأفعالهم معتمدة على دليل لاتضح ذلك، ولم يخف على العلماء الذين نقدوا طريقتهم.

أصناف العلماء، وأنص (¬1) فِي أَلْفَاظِ الشَّارِعِ مِمَّا ظَنَنَّاهُ مُسْتَنَدَ الْقَوْمِ. وَإِذَا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي بَعْضِهَا نَسْخٌ، فَالْوَاجِبُ التَّرْجِيحُ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَوْ كَالْإِجْمَاعِ (¬2). وَفِي مَذْهَبِ الْقَوْمِ الْعَمَلُ بِالِاحْتِيَاطِ هُوَ الْوَاجِبُ، كَمَا أَنَّهُ مَذْهَبُ غَيْرِهِمْ، فَوَجَبَ بِحَسْبَ الْجَرَيَانِ عَلَى آرَائِهِمْ فِي السُّلُوكِ أَنْ لَا يُعْمَلَ بِمَا رَسَمُوهُ مِمَّا فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَنَكُونُ (¬3) فِي ذَلِكَ مُتَّبِعِينَ لِآثَارِهِمْ، مُهْتَدِينَ بِأَنْوَارِهِمْ، خِلَافًا لِمَنْ يُعْرِضُ عَنِ الْأَدِلَّةِ، وَيُصَمِّمُ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ فِيمَا لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُمْ فيه على مذهبهم، فالأدلة الشرعية (¬4)، وَالْأَنْظَارُ الْفِقْهِيَّةُ، وَالرُّسُومُ الصُّوفِيَّةُ (¬5) تَرُدُّهُ وَتَذُمُّهُ، وَتَحْمَدُ مَنْ تَحَرَّى وَاحْتَاطَ، وَتَوَقَّفَ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَاسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ. وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى أَعْيَانِ مَا ذكر في السؤال، من أقوالهم وقواعدهم (¬6)، وَمَا يَتَنَزَّلُ مِنْهَا عَلَى مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَكَيْفَ وجه تنزيلها، لَا حَاجَةَ لَنَا (¬7) إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا (¬8) فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ (¬9)، وَإِنْ فَسَحَ اللَّهُ فِي الْمُدَّةِ، وَأَعَانَ بِفَضْلِهِ بَسَطْنَا (¬10) الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ في كتاب شرح (¬11) مَذْهَبِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ (¬12)، وَبَيَانِ مَا أُدْخِلَ فِيهِ مِمَّا لَيْسَ بِطَرِيقٍ لَهُمْ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. ¬

(¬1) في (خ) و (ط): "وأنظر". (¬2) اعتبار أقوال الصوفية وأعمالهم في منزلة الأدلة الشرعية التي يرجح بينها أمر غير صحيح، والأولى المصارحة بالحق إلا أن المؤلف أراد أن يتألف الصوفية رغبة منه في هدايتهم. (¬3) في (م): "ويكون". (¬4) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط). (¬5) في (م): "للصوفية". (¬6) في (خ) و (ت) و (ط): "وعوائدهم". (¬7) في (غ) و (ر): "بنا". (¬8) في (غ): "منه". (¬9) ومن ذلك ما ذكر في المجلد الثاني (2/ 243، 248، 268 ـ 273). (¬10) في (م): "ببسطنا". (¬11) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬12) لا أعلم أن للمؤلف كتاباً بهذا العنوان.

وقد تبين (مما تقدم) (¬1) أَنْ لَا دَلِيلَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَجُّ (¬2) به (أهل البدع) (¬3) على بدعهم (¬4) والحمد لله. انتهى (¬5) ¬

(¬1) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط). (¬2) في (خ) و (ط): "يحكم". (¬3) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط). (¬4) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "بدعتهم". (¬5) ساقطة من (ر) و (ط).

الباب الرابع في مأخذ أهل البدع في الاستدلال

بسم الله الرحمن الرحيم الباب الرابع في مأخذ أهل البدع في الاستدلال كُلُّ خَارِجٍ عَنِ السُّنَّةِ مِمَّنْ يَدَّعِي الدُّخُولَ فِيهَا، وَالْكَوْنَ مَنْ أَهلها، لَا بُدَّ لَهُ من تكلف الاستدلال بأَدلتها على خصوصات مَسَائِلِهِمْ، وإِلا كَذَّبَ اطراحُها دَعْوَاهُمْ، بَلْ كُلُّ مبتدع من هذه الأُمة إِنما (¬1) يدَّعي أَنه (¬2) هُوَ صَاحِبُ السُّنَّةِ دُونَ (¬3) مَنْ خالفه من الفرق، فلا يمكنه إِلا (¬4) الرُّجُوعُ إِلى التَّعَلُّقِ بِشُبَهِهَا (¬5)، وإِذا رَجَعَ إِليها كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَن يأْخذ الِاسْتِدْلَالَ مأْخذ أَهله الْعَارِفِينَ (¬6) بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدِهَا، كَمَا كَانَ السَّلَفُ الأَول يأْخُذُونها. إِلا أَن هَؤُلَاءِ (¬7) ـ كَمَا يَتَبَيَّنُ بَعْدُ ـ لَمْ يَبْلُغُوا مَبْلَغَ النَّاظِرِينَ فِيهَا بإِطلاق (¬8)، إِما لِعَدَمِ الرُّسُوخِ فِي مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْعِلْمِ بِمَقَاصِدِهَا، وإِما (¬9) لِعَدَمِ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بِقَوَاعِدَ الأُصول؛ الَّتِي مِنْ جهتها تستنبط الأَحكام الشرعية، وإمّا للأَمرين (¬10) جَمِيعًا، فبِالْحَرِيّ أَن تَصِيرَ مَآخِذُهُمْ للأَدلة مُخَالَفَةً لمأْخذ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ للأَمرين. وإِذا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى تِلْكَ الْمَآخِذِ؛ لِكَيْ تُحْذَرَ وتُتَّقَى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ (¬11). ¬

(¬1) في (خ): "إما أن يدَّعي"، وفي (م): "إما يدَّعي". (¬2) قوله: "أنه" ليس في (خ). (¬3) في (غ): "هو" بدل "دون". (¬4) قوله: "إلا" من (غ) و (ر) فقط. (¬5) في (غ) و (ر): "بشبهتها". (¬6) قوله: "العارفين" سقط من (غ). (¬7) في (خ): "إلا أن أهل بل هؤلاء". (¬8) في (غ) و (ر): "بالإطلاق". (¬9) من قوله: "لعدم الرسوخ" إلى هنا سقط من (غ). (¬10) في (خ): "وإما لعدم الأمرين". (¬11) قوله: "وبالله التوفيق" ليس في (خ).

فَنَقُولُ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (¬1)، وَذَلِكَ أَن هَذِهِ الْآيَةَ شَمَلَتْ قِسْمَيْنِ هُمَا أَصل الْمَشْيِ عَلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ، أَو عَلَى طَرِيقِ الخطأَ: أَحدهما: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَهُمُ الثَّابِتُو الأَقدام فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ متعذِّراً إِلا عَلَى مَنْ حَصَّلَ الأَمرين الْمُتَقَدِّمَيْنِ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِهِمَا مَعًا عَلَى حَسَبِ مَا تُعْطِيهِ المُنَّة (¬2) الإِنسانية، وإِذ ذَاكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنه رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ. وَمُقْتَضَى الْآيَةُ مَدْحُهُ، فَهُوَ إِذاً أَهلٌ لِلْهِدَايَةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ. وَحِينَ خَصَّ أَهل الزَّيْغِ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ، دلَّ التَّخْصِيصُ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَتْبَعُونَهُ، فَإِذًا؛ لَا يَتَّبِعُونَ إِلا الْمُحْكَمَ، وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ ومُعْظَمُه. فَكُلُّ دَلِيلٍ خَاصٍّ أَو عَامٍّ شَهِدَ لَهُ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ، وَمَا سِوَاهُ فَاسِدٌ، إِذ لَيْسَ بَيْنَ الدليل (¬3) الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَاسِطَةٌ فِي الأَدلّة يُستند إِليها؛ إِذ لَوْ كَانَ ثمَّ ثَالِثٌ لنصَّت عَلَيْهِ الْآيَةُ. ثُمَّ لَمَّا خُصَّ الزَّائِغُونَ بِكَوْنِهِمْ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ، ولم يوصف الراسخون بذلك؛ دل على (¬4) أَنَّهم لا يتبعون تأَويله؛ أَي: مآله؛ يريد طلب معناه؛ ليحكموا به على مقتضى أَهوائهم في طلب الفتنة (¬5) أَيضاً (¬6). فإِن تأَوّلوه فبالرَّد إِلى المحكم، فإن (¬7) أَمكن حمله على المحكم بمقتضى القواعد؛ فهو (¬8) الْمُتَشَابِهُ الإِضافي لَا الْحَقِيقِيُّ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى حُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلى الرَّاسِخِينَ، فَلْيَرْجِعْ عِنْدَهُمْ إِلى الْمُحْكَمِ الَّذِي هُوَ أُمّ الْكِتَابِ. وإِن لَمْ يتأَوَّلُوه فَبِنَاءً عَلَى أَنه مُتَشَابِهٌ حقيقي، فيقابلونه بالتسليم ¬

(¬1) سورة آل عمران: الآية (7). (¬2) المُنَّة: القُوَّة. "لسان العرب" (13/ 415). (¬3) قوله: "الدليل" ليس في (خ) و (م). (¬4) قوله: "على" من (ر) فقط. (¬5) من قوله: "ولم يوصف الراسخون" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬6) في (خ) و (م)، بعد قوله: "أيضاً" زيادة: "علم أن الراسخين لا يتبعونه". (¬7) في (خ) و (م): "بأن". (¬8) في (خ): "فهذا".

وَقَوْلِهِمْ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولو الأَلباب. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي أَهل الزَّيْغِ أَنهم يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ، فَهُمْ يَطْلُبُونَ بِهِ أَهواءهم لِحُصُولِ الْفِتْنَةِ، فَلَيْسَ نَظَرِهِمْ إِذاً فِي الدَّلِيلِ نظرَ الْمُسْتَبْصِرِ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَحْتَ حُكْمِهِ، بَلْ نَظَرُ مَنْ حَكَمَ بِالْهَوَى، ثُمَّ أَتى بِالدَّلِيلِ كَالشَّاهِدِ لَهُ، وَلَمْ يَذَكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الرَّاسِخِينَ، فَهُمْ إِذن بِضِدِّ (¬1) هَؤُلَاءِ؛ حَيْثُ وَقَفُوا فِي الْمُتَشَابِهِ فلم يحكموا فيه ولا عليه بشيء (¬2) سِوَى التَّسْلِيمِ. وَهَذَا الْمَعْنَى خَاصٌّ بِمَنْ طَلَبَ الْحَقَّ مِنَ الأَدلة، لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ طَلَبَ فِي الأَدلة مَا يُصَحِّحُ هَوَاهُ السَّابِقَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ لَيْسَ بِرَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ، وهو الزائغ، فحصل له في الآية وَصْفَانِ: أَحَدُهُمَا: بِالنَّصِّ، وَهُوَ الزَّيْغُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، وَالزَّيْغُ هُوَ: الْمَيْلُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَهُوَ ذم لهم. والوصف (¬3) الثاني بِالْمَعْنَى الَّذِي أَعطاه التَّقْسِيمُ: وَهُوَ عَدَمُ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ، وَكُلٌّ منفيٌّ عَنْهُ الرُّسُوخُ فإِلى الجهل ما هو (¬4)، وَمِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ حَصَلَ لَهُ الزَّيْغُ؛ لأَن من بقي عليه في (¬5) طريق الاستنباط واتباع الأدلة بعض (¬6) الجَهالات، لم يحلّ أن يتبع الأَدلة المحكمة (¬7) ولا المتشابهة. فلو (¬8) فَرَضْنَا أَنه يَتْبَعُ الْمُحْكَمَ؛ لَمْ يَكُنْ اتِّباعه مُفِيدًا لِحُكْمِهِ؛ لإِمكان (¬9) أَن يَتْبَعَهُ عَلَى وَجْهٍ وَاضِحِ الْبُطْلَانِ، أَو مُتَشَابِهٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذا اتبع نفس (¬10) المتشابه؟ ثم اتِّباعه للمتشابه ـ لو (¬11) كَانَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِرْشَادِ بِهِ لَا لِلْفِتْنَةِ به ـ ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "على ضد". (¬2) قوله: "بشيء" ليس في (خ) و (م). (¬3) قوله: "الوصف" من (خ) فقط. (¬4) في (خ): "ما هو مائل". (¬5) في (خ): "نفي عنه" بدل: "بقي عليه في". (¬6) في (خ): "لبعض". (¬7) في (غ) و (ر): "لا المحكمة". (¬8) في (خ): "ولو". (¬9) في (م): "بإمكان". (¬10) قوله: "نفس" ليس في (خ). (¬11) في (خ): "ولو".

لم يحصل به مقصود على حال، فما ظنك به إِذا اتبعه (¬1) ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ؟ وَهَكَذَا الْمُحْكَمُ إِذا اتَّبَعَهُ ابتغاءَ الْفِتْنَةِ بِهِ. فَكَثِيرًا مَا تَرَى الْجُهَّالَ يَحْتَجُّونَ لأَنفسهم بأَدلة فَاسِدَةٍ، وبأَدلة صَحِيحَةٍ اقْتِصَارًا بِالنَّظَرِ عَلَى دَلِيلٍ مَا، واطِّراحاً لِلنَّظَرِ فِي غيرهِ من الأدلة الأُصولية، أو الفروعية (¬2) الْعَاضِدَةِ لِنَظَرِهِ، أَو الْمُعَارَضَةِ لَهُ. وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يدَّعي الْعِلْمَ يَتَّخِذُ هَذَا الطَّرِيقَ مَسْلَكًا، وَرُبَّمَا أَفتى بِمُقْتَضَاهُ، وَعَمِلَ عَلَى وَفْقِهِ إِذا كَانَ له فيه غرض (¬3). وأَعرف مَنْ عَرَضَ لَهُ غَرَضٌ (¬4) فِي الْفُتْيَا؛ بِجَوَازِ (¬5) تَنْفِيلِ الإِمام الْجَيْشَ جَمِيعَ مَا غَنِمُوا عَلَى طَرِيقَةِ "مَنْ عَزَّ بَزَّ" (¬6)، لَا طَرِيقَةَ الشَّرْعِ، بناء على نقل عن (¬7) بعض العلماء: "أَنه يجيز (¬8) تَنْفِيلُ السَّرِيَّةِ جَمِيعَ مَا غَنِمَتْ" (¬9) ثُمَّ عَزَا ذَلِكَ ـ وَهُوَ مَالِكِيُّ الْمَذْهَبِ ـ إِلى مَالِكٍ؛ حَيْثُ قَالَ فِي كَلَامٍ رُوِيَ عَنْهُ (¬10): "مَا نَفَلَ الإِمام فَهُوَ جَائِزٌ"، فأَخذ هَذِهِ الْعِبَارَةَ نَصًّا عَلَى جَوَازِ تَنْفِيلِ الإِمام الْجَيْشَ جَمِيعَ مَا غنم، ولم يلتفت في النَّقْل (¬11) إِلى أَن السَّرِيَّةَ هِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْجَيْشِ الداخل (¬12) لبلاد العدو تُغير (¬13) على العدو، ¬

(¬1) في (خ) و (م): "اتبع". (¬2) في (خ) و (م): "والفروعية". (¬3) في (ر): "عرض" بالعين. (¬4) في (خ): "أو أعرض عن غرض له عرض"، وفي (م): "وأعرض" بدل "وأعرف". (¬5) في (خ) يشبه أن تكون: "كجواز". (¬6) هذا مثل تقوله العرب، ومعناه: من غلب سلب. انظر: "مجمع الأمثال" للميداني (2/ 307)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 204). (¬7) قوله: "عن" ليس في (خ) و (م). (¬8) في (خ): "يجوز". (¬9) قال النووي في "شرح مسلم" (12/ 55): "وأجاز النخعي أن تنفل السرية جميع ما غنمت دون باقي الجيش، وهو خلاف ما قاله العلماء كافة". اهـ. وانظر "فتح الباري" (6/ 240). (¬10) انظر "الموطأ" (2/ 455 و456). (¬11) في (غ) و (ر): "يلتفت للنقل". (¬12) في (م): "المداخل". (¬13) في (خ): "لتغير".

ثُمَّ تَرْجِعَ إِلى الْجَيْشِ، لَا أَن (¬1) السَّرِيَّةَ هي الجيش بعينه، ولا التفت (¬2) أَيضاً إِلى أَن (¬3) النَّفْلَ عِنْدَ مَالِكٍ لَا يَكُونُ إِلا مِنَ الْخُمُسِ (¬4)، لَا اخْتِلَافَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَعلمه، وَلَا عَنْ أَحد مِنْ أَصحابه، فَمَا نَفَلَ الإِمام مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لأَنه محمول على الاجتهاد. وكذلك الأَمر أَبداً (¬5) في كل مسأَلة يُتَّبع فِيهَا الْهَوَى أَولاً، ثُمَّ يَطْلُبُ لَهَا الْمَخْرَجَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، أَو مِنْ أَدلة الشَّرْعِ. وكلام العرب أَبداً ـ لاتساعه وتصرفه ـ يحتمل أَنحاء (¬6) كَثِيرَةٌ، لَكِنْ يَعْلَمُ الرَّاسِخُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ مِنْ أَوّله، أَو (¬7) آخره، أَو فحواه (¬8)، أَو بِسَاطِ حَالِهِ، أَو قَرَائِنِهِ. فَمَنْ لَا يَعْتَبِرُهُ مِنْ أَوله إِلى آخِرِهِ وَيَعْتِبَرُ مَا ابْتَنَى (¬9) عَلَيْهِ زَلَّ فِي فَهْمِهِ. وَهُوَ شأْن مَنْ يأْخذ الأَدلة مِنْ أَطراف الْعِبَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَنْظُرُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَيُوشِكُ أَن يَزِلَّ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شأْن الرَّاسِخِينَ، وإِنما هُوَ مِنْ شأْن مَنِ اسْتَعْجَلَ (¬10) طَلَبًا لِلْمَخْرَجِ فِي دَعْوَاهُ. فَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ: أَن الزَّيْغَ (¬11) لَا يَجْرِي عَلَى طَرِيقِ الرَّاسِخِ بِغَيْرِ حُكْمِ الِاتِّفَاقِ، وأَن الرَّاسِخَ لَا زَيْغَ مَعَهُ بالقصد البتّة. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "لأن". (¬2) في (م): "ولا التفت إليه". (¬3) قوله: "أن" سقط من (م). (¬4) انظر الموضع السابق من "الموطأ". (¬5) قوله: "أبداً" ليس في (خ). (¬6) في (خ): "واحتمالاتها" بدل: "يحتمل أنحاء"، وفي (م): "يحتمل أنها". (¬7) في (خ): "إلى". (¬8) في (خ): "وفحواه"، وفي (م): "أفحواه". (¬9) في (غ) و (ر): "ما انبنى". (¬10) في (غ) و (ر): "من استعجل الرتبة". (¬11) في (غ) و (ر): "الزائغ".

فصل

فَصْلٌ إِذا ثَبَتَ هَذَا رَجَعْنَا مِنْهُ إِلى مَعْنَى آخَرَ فَنَقُولُ: إِذا تَبَيَّنَ (¬1) أَن لِلرَّاسِخِينَ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهَا فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وأَن الزَّائِغِينَ على طريق (¬2) غير طريقهم؛ احتجنا (¬3) إِلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنَجْتَنِبَها (¬4)، كما بُيِّن (¬5) الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكَهَا الرَّاسِخُونَ لِنَسْلُكَهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَهل أُصول الْفِقْهِ وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِيهِ، وَلَمْ يَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي طَرِيقِ الزَّائِغِينَ، فَهَلْ يُمْكِنُ حَصْرُ مَآخِذِهَا أَوْ (¬6) لَا؟ فَنَظَرْنَا فِي آيَةٍ أُخرى تَتَعَلَّقُ بِهِمْ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّاسِخِينَ، وهي (¬7) قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (¬8): {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬9)، فأَفادت الْآيَةُ أَن طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدَةٌ، وأَن لِلْبَاطِلِ طُرُقًا مُتَعَدِّدَةً لَا وَاحِدَةً، وَتَعَدُّدُهَا لَمْ ينحصر بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ. وَهَكَذَا الْحَدِيثُ المفسِّر لِلْآيَةِ، وَهُوَ قول ابن مسعود رضي الله عنه: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يوماً (¬10) خَطًّا؛ فَقَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ"، ثُمَّ خَطَّ لَنَا خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَقَالَ: "هَذِهِ سُبُلٌ، على (¬11) كل (¬12) سبيل منها شيطان (¬13) يدعو ¬

(¬1) قوله: "إذا تبين" ليس في (خ). (¬2) قوله: "طريق" من (خ) فقط. (¬3) في (خ): "فاجتمعنا". (¬4) في (خ): "لنتجنبها". (¬5) في (خ): "نبين". (¬6) في (غ) و (ر): "أم لا". (¬7) في (م): "وهو". (¬8) في (خ): "قوله تعالى". (¬9) سورة الأنعام: الآية (153). (¬10) قوله: "يوماً" ليس في (خ) و (م). (¬11) قوله: "على" سقط من (م). (¬12) من قوله: "سبيل الله" إلى هنا سقط من (خ)، وحاول رشيد رضا إصلاحه، وعلَّق عليه بقوله: "كان الحديث محرّفاً، وفيه حذف". (¬13) في (خ): "عليه شيطان".

إِليه"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (¬1). فَفِي الْحَدِيثِ أَنها خُطُوطٌ مُتَعَدِّدَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ بِعَدَدٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إِلى حَصْرِ عَدَدِهَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَا لَنَا أَيضاً سَبِيلٌ إِلى حَصْرِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَو الِاسْتِقْرَاءِ. أَما الْعَقْلُ؛ فإِنه لَا يَقْضِي (¬2) بِعَدَدٍ دُونَ آخَرٍ؛ لأَنه غَيْرُ رَاجِعٍ إِلى أَمر مَحْصُورٍ. أَلا تَرَى أَن الزَّيْغَ رَاجِعٌ إِلى الْجَهَالَاتِ؟ وَوُجُوهُ الْجَهْلِ لَا تَنْحَصِرُ، فَصَارَ طَلَبُ حَصْرِهَا عَنَاءً مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. وأَما الاستقراءُ؛ فَغَيْرُ نَافِعٍ أَيضاً فِي هَذَا المَطْلَب؛ لأَنا لَمَّا نَظَرْنَا في ¬

(¬1) أخرجه البزار في "مسنده" (5/ 99 رقم 1677) من طريق جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله، فذكره. قال البزار: "وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن أبي وائل". وسنده صحيح. وأخرجه أيضاً (5/ 113 ـ 114 رقم 1694) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، عن الأعمش، عن أبي وائل، به. وسنده صحيح أيضاً. وأخرجه البزار أيضاً (5/ 251 رقم 1865) من طريق سفيان الثوري، عن أبيه، عن منذر الثوري، عن الربيع بن خثيم، عن ابن مسعود، به. ثم قال البزار: "وهذا الكلام قد روي عن عبد الله من غير وجه نحوه أو قريباً منه". وسنده صحيح أيضاً. وأشهر طرقه ما رواه حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله؛ قال: خطّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطًّا فقال: "هذا سبيل الله"، ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، فقال: "وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم تلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (5/ 112 رقم 935) وهذا لفظه. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (ص33 رقم 244)، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 435)، والدارمي (1/ 60 رقم 208)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 13 رقم 17)، والبزار (5/ 131 رقم 1718)، ومحمد بن نصر المروزي في "السنة" (ص5)، والنسائي في "التفسير" (1/ 485 رقم 194)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (12/ 230 رقم 14168)، وابن حبان في "صحيحه" (1/ 180 ـ 181 رقم 6 و7/ الإحسان)، والحاكم (2/ 318) وصححه. وفي عاصم بن بهدلة كلام يسير في حفظه، وحديثه حسن، ويتقوى بالطرق السابقة. (¬2) في (غ) و (ر): "لا يمضي".

طرق البدع من حين نبغت، وَجَدْنَاهَا تَزْدَادُ عَلَى الأَيام، وَلَا يأْتي زَمَانٌ إِلا وَغَرِيبَةٌ مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِنْبَاطِ تَحْدُثُ، إِلى زَمَانِنَا هَذَا. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ فَيُمْكِنُ أَن يَحْدُثَ بَعْدَ زَمَانِنَا اسْتِدْلَالَاتٌ أُخر لَا عَهْدَ لَنَا بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَثْرَةِ الْجَهْلِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ، وَبُعْدِ النَّاظِرِينَ فِيهِ عَنْ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يُمْكِنُ إِذاً حَصْرُهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَلَا يُقَالُ: إِنها تَرْجِعُ إِلى مخالفة الطريق (¬1) الْحَقِّ؛ فإِن وُجُوهَ الْمُخَالَفَاتِ (¬2) لَا تَنْحَصِرُ أَيضاً. فَثَبَتَ أَن تَتَبُّعَ هَذَا الْوَجْهِ عَنَاءٌ، لَكِنَّا نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ أَوجهاً كُلِّيَّةً يُقَاسُ عَلَيْهَا مَا سِوَاهَا. فَمِنْهَا: اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الأَحاديث الْوَاهِيَةِ الضَّعِيفَةِ، وَالْمَكْذُوبِ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّتِي لَا يَقْبَلُهَا أَهل صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ (¬3) فِي الْبِنَاءِ عَلَيْهَا؛ كَحَدِيثِ الِاكْتِحَالِ يوم عاشوراء (¬4)، وإِكرام الديك ¬

(¬1) في (خ): "طريق". (¬2) في (خ): "أوجه المخالفة". (¬3) في (غ) و (ر): "التحديث". (¬4) قوله: "عاشوراء" سقط من (غ). وحديث الاكتحال يوم عاشوراء هذا: أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 367 رقم 3797) عن شيخه أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: "من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً". وكان قد قال قبل إخراجه الحديث: "وأما الاكتحال؛ فإنما روي في ذلك بإسناد ضعيف بمرّة". ثم قال بعد إخراج الحديث: "جويبر ضعيف، والضحاك لم يلق ابن عباس". وأخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 573 ـ 574 رقم 1143) من طريق البيهقي، ثم قال: "قال الحاكم: أنا أبرأ إلى الله من عهدة جويبر، فإن الاكتحال يوم عاشوراء لم يُرْوَ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه أثر، وهو بدعة ابتدعها قَتَلة الحسين عليه السلام، قال أحمد: لا يُشتغل بحديث جويبر، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي والدارقطني: متروك". وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص112 ـ 113) في الكلام على يوم عاشوراء: "وأما حديث الاكتحال والادهان والتطيب فمن وضع الكذابين، وقابلهم آخرون فاتخذوه يوم تألم وحزن، والطائفتان مبتدعتان خارجتان عن السنة، وأهل السنة=

الأَبيض (¬1)، وأَكل الْبَاذِنْجَانِ بنيَّة (¬2)، وأَن النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلّم تواجد واهتزّ ¬

=يفعلون فيه ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ من الصوم، ويجتنبون ما أمر به الشيطان من البدع". ونقل المناوي في "فيض القدير" (6/ 82) عن الزركشي أنه قال: "لا يصح فيه أثر، وهو بدعة"، وعن ابن رجب قوله: "كل ما روي في فضل الاكتحال والاختضاب والاغتسال فيه موضوع لا يصح"، وعن ابن حجر قوله: "إسناده واهٍ جداً"، وعن السخاوي قوله: "هو موضوع". والحديث حكم عليه الشيخ الألباني رحمه الله بالوضع في "السلسلة الضعيفة" (2/ 89 رقم 624). (¬1) حديث إكرام الديك الأبيض: أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1/ 210 رقم 677)، و"مسند الشاميين" (1/ 28 رقم 10) من طريق معلَّل بن نُفَيل، عن محمد بن محصن، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "اتخذوا الديك الأبيض؛ فإن داراً فيها ديك أبيض لا يقربها شيطان ولا ساحر، ولا الدويرات حولها". وذكر الطبراني أنه لم يروه عن إبراهيم بن أبي عبلة إلا محمد بن محصن. ومحمد هذا هو ابن إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن عكاشة بن محصن العكاشي، الأسدي، نسب إلى جده الأعلى، وهو آفة هذا الحديث؛ قال ابن حجر في "التقريب" (ترجمة رقم 6308): "كذبوه". وللحديث طرق أخرى لا يصح منها شيء ذكرها ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 135 ـ 137 رقم 1348 و1349) في باب في الديك الأبيض، وذكر أحاديث أخرى (3/ 133 رقم 1347) في باب فضل الديك، و (3/ 138 ـ 142 رقم 1350 ـ 1354) في باب فضل الديك الأبيض الأفرق، وباب ما ذكر أن في السماء ديكاً، وحكم عليها جميعها بالوضع، فانظرها إن شئت. وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص56 رقم 79): "وبالجملة فكل أحاديث الديك كذب، إلا حديثاً واحداً: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكاً" اهـ. قلت: وحديث آخر أيضاً أخرجه أبو داود (5/ 398 رقم 5060) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة". وسنده صحيح. (¬2) حديث أكل الباذنجان بنيّة: ذكره الديلمي في "فردوس الأخبار" (3/ 295 رقم 4755) عن أبي هريرة بلفظ: "كلوا الباذنجان، فإنها شجرة رأيتها في جنة المأوى شهدت لله بالحق، ولي بالنبوة، ولعلي بالولاية، فمن أكلها على أنها داء كانت داء، ومن أكلها=

عِنْدَ السَّمَاعِ حَتَّى سَقَطَ الرداءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ (¬1)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ، فإِن أَمثال هَذِهِ الأَحاديث ـ على ما هو معلوم ـ لا يُبنى عيها حكم، ولا تُجعل أَصلاً في ¬

=على أنها دواء كانت له دواء". ولم يذكر له ولده سنداً. وذكر السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص141 رقم 279) حديث: "الباذنجان لما أكل له"، وقال: "باطل لا أصل له، وإن أسنده صاحب تاريخ بلخ"، ثم ذكر حديث الديلمي السابق وأحاديث أخرى، وقال: "كلها باطلة"، ونقل عن بعض الحفاظ قوله: "إنه من وضع الزنادقة"، ونقل عن الزركشي قوله: "وقد لهج به العوام، حتى سمعت قائلاً منهم يقول: هو أصح من حديث "ماء زمزم لما شرب له"، وهذا خطأ قبيح". وانظر "كشف الخفاء" (1/ 278 ـ 279 رقم 874). وأخرج ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 124 ـ 126 رقم 1338) حديث: "إنما الباذنجان شفاء من كل داء، ولا داء فيه"، وقال: "هذا حديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلا سقى الله الغيث قبر من وضعه؛ لأنه قصد شَيْنَ الشريعة ... " إلخ ما قال. وانظر حاشية محقق "الموضوعات"، و"لسان الميزان" (5/ 37). (¬1) حديث تواجد النبي صلّى الله عليه وسلّم واهتزازه عند السماع: أخرجه محمد بن طاهر المقدسي في كتاب: "السماع" ـ كما في "لسان الميزان" (5/ 264 ـ 265) ـ، ومن طريقه رواه السهروردي في "عوارف المعارف" (ص108 ـ 109)، من طريق الهيثم بن كليب الشاشي، عن أبي بكر عمار بن إسحاق، عن سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنشده أعرابي: قد لَسَعَتْ حيّة الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شُغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي فتواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه، فقال معاوية: ما أحسن لهوكم! فقال: "مهلاً يا معاوية! ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب". قال السهروردي: "فهذا الحديث أوردناه مسنداً كما سمعناه ووجدناه، وقد تكلم في صحته أصحاب الحديث ... ، ويخالج سري أنه غير صحيح ... ". وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث في "الفتاوى" (11/ 563) عن ابن طاهر والسهروردي، ثم قال: "فهو حديث مكذوب موضوع باتفاق أهل العلم بهذا الشأن ... ". ونقل السخاوي في "المقاصد" (ص333 رقم 856) كلام شيخ الإسلام هذا وأقرّه. واتهم الذهبي في "الميزان" (3/ 164) عمار بن إسحاق بهذا الحديث، فقال: "كأنه واضع هذه الخرافة التي فيها: قد لسعت حية الهوى كبدي، فإن الباقين ثقات". وانظر "السلسلة الضعيفة" (2/ 34 رقم 558) للشيخ الألباني.

التَّشْرِيعِ أَبداً، وَمَنْ جَعَلَهَا كَذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ أَو مُخْطِئٌ (¬1) فِي نَقْلِ الْعِلْمِ، فَلَمْ يُنقل الأَخدُ بشيء منها عَمَّن يُعْتَدّ بِهِ فِي طَرِيقَةِ (¬2) الْعِلْمِ، وَلَا طَرِيقَةِ السُّلُوكِ. وإِنما أَخذ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ الْحَسَنِ؛ لإِلحاقه (¬3) عند بعض (¬4) المحدِّثين بِالصَّحِيحِ؛ لأَن سَنَدَهُ لَيْسَ فِيهِ مَنْ يُعاب بجرْحَةٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ أَخذ مَنْ أَخذ مِنْهُمْ بِالْمُرْسَلِ، لَيْسَ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ لحق (¬5) بالصحيح في أَن المتروك (¬6) ذكره كالمذكور المُعَدَّل (¬7)، فأَما (¬8) مَا دُونُ ذَلِكَ فَلَا يُؤْخَذُ بِهِ بِحَالٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ. وَلَوْ كَانَ مِنْ شأْن أَهل الإِسلام الذَّابِّين (¬9) عَنْهُ الأَخذ مِنَ الأَحاديث بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ، لَمْ يَكُنْ لِانْتِصَابِهِمْ لِلتَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ مَعْنًى ـ مَعَ أَنهم قَدْ أَجمعوا عَلَى ذَلِكَ ـ، وَلَا كَانَ لِطَلَبِ الإِسناد مَعْنًى يَتَحَصَّلُ، فَلِذَلِكَ جَعَلُوا الإِسناد مِنَ الدِّينِ (¬10)، وَلَا يَعْنُونَ: "حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ" مُجَرَّداً، بَلْ يُرِيدُونَ ذَلِكَ لِمَا تضمَّنه مِنْ مَعْرِفَةِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يحدَّث عَنْهُمْ، حتى لا يسند عن مجهول، ولا مُجَرَّح، ولا متهم (¬11)، ولا عَمَّن لا تَحْصُلُ (¬12) الثِّقَةُ بِرِوَايَتِهِ؛ لأَن رُوحَ الْمَسْأَلَةِ أَن يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ أَن ذَلِكَ الْحَدِيثَ قَدْ قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِنَعْتَمِدَ (¬13) عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَنُسْنِدَ (¬14) إِليه الأَحكام. ¬

(¬1) في (خ): "جاهل ومخطئ". (¬2) في (م): "يعتمد به طريقه". (¬3) في (غ) و (ر): "للحاقة". (¬4) قوله: "بعض" ليس في (خ). (¬5) في (خ): "ألحق". (¬6) يعني الراوي الساقط من الإسناد في الحديث المرسل. (¬7) في (خ): "والمعدل". (¬8) في (غ) و (ر): "وأما". (¬9) في (خ): "اذابين". (¬10) أخرج مسلم في "مقدمة صحيحه" (1/ 15) عن ابن المبارك أنه قال: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". (¬11) في (غ) و (ر): "ولا عن متّهم". (¬12) في (خ): "إلا عمن تحصل". (¬13) في (غ) و (ر): "ليعتمد". (¬14) في (غ) و (ر): "وتسند" وفي (م): "ويسند".

والأَحاديث الضَّعِيفَةُ الإِسناد لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَن يُسْنَدَ إِليها حُكْمٌ، فَمَا ظَنُّكَ بالأَحاديث الْمَعْرُوفَةِ الْكَذِبِ؟ نَعَمْ؛ الْحَامِلُ عَلَى اعْتِمَادِهَا فِي الْغَالِبِ إِنما هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْهَوَى المتَّبع، وَهَذَا كُلُّهُ (¬1) عَلَى فَرْضِ أَن لَا يُعَارِضَ الْحَدِيثَ أَصل مِنْ أُصول الشَّرِيعَةِ، وأَما إِذا كَانَ لَهُ مُعَارَضٌ فأَحْرَى أَن لا يُؤخذ به؛ لأَن الأَخذ به (¬2) هَدْمٌ لأَصل مِنْ أُصول الشَّرِيعَةِ، والإِجماع عَلَى مَنْعِهِ إِذا كَانَ صَحِيحًا فِي الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْوَهْمِ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، أَو الغلط (¬3)، أَو النِّسْيَانِ، فَمَا الظَّنُّ بِهِ إِذا لَمْ يَصِحَّ؟ عَلَى أَنه قَدْ رُوِيَ عَنْ أَحمد بْنِ حَنْبَلٍ أَنه قَالَ: الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ خَيْرٌ من القياس (¬4). وظاهره يقتضي العمل ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "كله إنما هو". (¬2) قوله: "لأن الأخذ به" سقط من (خ)، ولذا علق رشيد رضا على قوله "هدم"، فقال: كذا!! ولعل الأصل: "فهو هدم"، أو: "لأنه هدم". (¬3) في (خ): "أو الغلط من بعض الرواة". (¬4) أخرجه ابن حزم في "المحلى" (1/ 68) من طريق عبد الله بن أحمد، عن أبيه أنه قال: "الحديث الضعيف أحب إلينا من الرأي". وقال ابن الجوزي في "التحقيق" (1/ 143): "ومن مذهب أحمد تقديم الحديث الضعيف على القياس". وقد علق رشيد رضا رحمه الله بعد هذا الموضع بأسطر بتعليق أخذه عن ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله، فقال: "قال العلامة ابن القيم في "أعلام الموقعين" عند بيان ترجيح أحمد الحديث الضعيف والمرسل على القياس بشرطه ما نصه: وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به؛ بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن. ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب اهـ. وسبقه إلى مثله شيخه ابن تيمية رحمهما الله تعالى، فصرح بأن أول من قسم الحديث إلى ثلاثة أقسام: صحيح وحسن وضعيف: الترمذي، وأن الضعيف الذي يرجحه أحمد على الرأي هو الحسن عند الترمذي ومن اختار تقسيمه، كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحديث إبراهيم الهجري. فما ضعفوه بعلة تقتضي الترك لا يأخذ به أحمد ولا يرجحه على القياس، وما ضعفوه بعلة من علل الحديث لا تقتضي الترك يأخذ به، ويرجحه على القياس إذا لم يكن ثَمَّ شيء يدفعه من حديث صحيح أو قول صحابي أو إجماع. وهذا الذي يقول به أحمد كان عليه عمل جمهور الفقهاء في عصره الذي تحرر فيه نقد الحديث، أي: لم يكونوا يتركون العمل بكل=

بِالْحَدِيثِ غَيْرِ الصَّحِيحِ؛ لأَنَّه قدَّمه عَلَى الْقِيَاسِ الْمَعْمُولِ بِهِ (¬1) عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هُوَ إِجماع السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَدَلَّ عَلَى أَنه عنده أَعلى رتبة في العمل من القياس. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنه كَلَامُ مُجْتَهِدٍ يَحْتَمِلُ في (¬2) اجْتِهَادُهُ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ، إِذ لَيْسَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وإِن سُلِّمَ فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ؛ لإِجماعهم عَلَى طَرْحِ الضَّعِيفِ الإِسناد؛ فَيَجِبُ تأْويله عَلَى أَن يَكُونَ أَراد بِهِ الْحَسَنَ السَّنَدِ وَمَا دَارَ بِهِ (¬3) ـ على القول بإِعماله ـ. أَو أَراد أَنه (¬4) "خَيْرٌ مِنَ الْقِيَاسِ" لَوْ كَانَ مأْخوذاً بِهِ، فكأَنه يَرُدُّ الْقِيَاسَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ مُبَالَغَةً فِي مُعَارَضَةِ مَنِ اعْتَمَدَهُ أَصلاً حَتَّى ردَّ بِهِ الأَحاديث. وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَمِيلُ إِلى نَفْيِ الْقِيَاسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: مَا زِلْنَا نلعن أَهل الرأْي ويلعنوننا (¬5)، حتى جاءَ الشافعي فَمَزَجَ (¬6) بَيْنَنَا. أَو أَراد بِالْقِيَاسِ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ الَّذِي لَا أَصل لَهُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجماع، فَفَضَّلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ وإِن لم يعمل به أَيضاً (¬7). فإِذا أَمكن أَن يُحمل كَلَامُ أَحمد عَلَى مَا يُسَوَّغُ، لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي معارضة كلام الأَئمة رضي الله تعالى عنهم. ¬

=ما أعله المحدثون، بل ما أعلوه بمثل عدم الثقة بأحد رواته. أما من ضعفوه بالتفرد بزيادة في حديث لم يروها من هم أوثق منه فقد يعمل بحديثه؛ لأن زيادة الثقة حجة. وقد قدم أبو حنيفة حديث القهقهة في الصلاة، وحديث الوضوء بنبيذ التمر، وحديث أكثر الحيض؛ على القياس. وقد ذكر الإمام أحمد جماعة من الضعفاء الذين يروي عنهم في "المسند" وذكر أنه يروي عنهم للاعتبار، ولتأييد بعض الروايات ببعض لا للاحتجاج. ومن ذلك قوله في ابن لهيعة: ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار به والاستدلال. أنا قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشتد به، لا أنه حجة إذا انفرد. اهـ. (¬1) قوله: "به" ليس في (م). (¬2) قوله: "في" ليس في (خ). (¬3) كذا في جميع النسخ، وفي هامش (م) كتب بخط يشبه خط الناسخ: "وما قاربه"، وكأنه تصويب، والمعنى متقارب، فالمقارب للحديث الحسن هو الحديث الذي فيه ضعف لم يقطع معه بتركه، وهو معنى قول بعضهم في تعريف الحسن: "هو ما فيه ضعف قريب محتمل"، وهذا بمعنى قوله: "وما دار به"؛ أي: دار في فلكه. (¬4) قوله: "أنه" ليس في (خ) و (م). (¬5) في (خ) و (م): "ويلعنونا". (¬6) في (خ) و (م): "فخرج". (¬7) في (خ): "وأيضاً".

فإِن قيل: هذاكله ردٌّ على الأَئمة الذي اعْتَمَدُوا عَلَى الأَحاديث الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ، فإِنهم كَمَا نَصُّوا عَلَى اشْتِرَاطِ صِحَّةِ الإِسناد، كَذَلِكَ نَصُّوا أَيضاً (¬1) عَلَى أَن أَحاديث التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَا يُشْتَرَطُ فِي نَقْلِهَا لِلِاعْتِمَادِ عليها (¬2) صحةُ الإِسناد، بل إِن كان كذلك (¬3) فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وإِلا فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ نقلها واستند إِليها، فقد فعله الأَئمة كمالك فِي "الْمُوَطَّأِ"، وَابْنِ الْمُبَارَكِ فِي "رَقَائِقِهِ" (¬4)، وأَحمد بْنِ حَنْبَلٍ فِي "رَقَائِقِهِ" وَسُفْيَانَ (¬5) فِي "جَامِعِ الْخَيْرِ"، وَغَيْرِهِمْ. فَكُلُّ مَا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ رَاجِعٌ إِلى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وإِذا جَازَ اعْتِمَادُ مِثْلِهِ، جَازَ فِيمَا كَانَ نَحْوَهُ مما يرجع إِليه؛ كصلاة الرغائب (¬6)، ¬

(¬1) في (خ): "كذلك أيضاً نصوا أيضاً". (¬2) قوله: "عليها" سقط من (خ) و (م). (¬3) في (خ) و (م): "ذلك". (¬4) يعني كتابي "الزهد" لابن المبارك وأحمد بن حنبل. (¬5) أي: الثوري. (¬6) حديث صلاة الرغائب: أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 436 ـ 438 رقم 1008) من طريق علي بن عبد الله بن جهضم الصوفي، عن علي بن محمد بن سعيد البصري؛ قال: حدثنا أبي؛ قال: حدثنا خلف بن عبد الله ـ وهو الصغاني ـ، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي ... "، وهو حديث طويل، وموضع الشاهد منه قوله: "ولكن لا تغفلوا عن أول ليلة جمعة في رجب، فإنها ليلة تسميها الملائكة: الرغائب، وذلك أنه إذا مضى ثلث الليل لا يبقى ملك في جميع السموات والأرض إلا ويجتمعون في الكعبة وحواليها، ويطلع الله عز وجل عليهم اطلاعة، فيقول: ملائكتي! سلوني ما شئتم، فيقولون: يا ربنا! حاجتنا إليك أن تغفر لصُوّام رجب، فيقول الله عز وجل: قد فعلت ذلك". ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "وما من أحد يصوم يوم الخميس أول خميس في رجب، ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة ـ يعني ليلة الجمعة ـ اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *} ثلاث مرات، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} اثنتي عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة ... " إلخ. قال ابن الجوزي عقب إخراجه: "وهذا حديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد اتهموا به ابن جهضم ونسبوه إلى الكذب، وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون، وقد فتشت عليهم جميع الكتب، فما وجدتهم ... " إلخ ما قال.=

والمعراج (¬1)، ¬

=وذكر الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (5/ 250 رقم 5983) أن أبا موسى المديني أخرجه في "وظائف الأوقات"، ثم قال ـ أي المديني ـ: "غريب لا أعلم أني كتبته إلا من رواية ابن جهضم، ورجاله غير معروفين إلى حميد". وذكر الذهبي في "الميزان" (3/ 142) أن علي بن عبد الله بن جهضم الزاهد هذا هو المتهم بوضع هذا الحديث. وقال النووي في "شرح مسلم" (8/ 20) عند شرحه لحديث النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصلاة، أو ليلها بصلاة: "واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى: الرغائب، قاتل الله واضعها ومخترعها؛ فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة، وفيها منكرات ظاهرة". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (23/ 135) بعد أن سئل عن صلاة الرغائب هل هي مستحبة أو لا: "هذه الصلاة لم يصلها رسول الله، ولا أحد من أصحابه، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا رغّب فيها رسول الله، ولا أحد من السلف، ولا الأئمة ... " إلى أن قال رحمه الله: "والحديث المروي في ذلك عن النبي كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك، ولهذا قال المحققون: إنها مكروهة غير مستحبة، والله أعلم". وقال ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف" (ص95 رقم 167): "وكذلك أحاديث صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب، كلها كذب مختلق على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم". وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 55): " ... فإن أصل صلاة النافلة سنة مرغب فيها، ومع ذلك فقد كره المحققون تخصيص وقت بها دون وقت، ومنهم من أطلق تحريم مثل ذلك؛ كصلاة الرغائب التي لا أصل لها ... ". (¬1) صلاة المعراج ـ يعني ليلة سبع وعشرين من رجب ـ: وردت من حديث سلمان الفارسي وأنس ومن قول ابن عباس رضي الله عنهم. أما حديث سلمان: فأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 373 ـ 374 رقم 3811)، وفي "فضائل الأوقات" (ص95 ـ 96 رقم 11)، من طريق خالد بن الهيَّاج، عن أبيه، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "في رجب يوم وليلة، من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة كان كمن صام من الدهر مائة سنة وقام مائة سنة، وهو لثلاث بقين من رجب، وفيه بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم". والحديث ضعفه البيهقي. ومن طريق البيهقي أخرجه ابن حجر في "تبيين العجب" (ص29 ـ 30)، ثم قال: "هذا حديث منكر إلى الغاية، وهيّاج هو ابن بسطام التميمي الهروي، روى عن جماعة من التابعين، وضعفه ابن معين، وقال أبو داود: تركوه، وقال صالح بن محمد الحافظ الملقب بجزرة: الهيَّاج منكر الحديث، لا يكتب من حديثه إلا حديثان=

وليلة النصف من شعبان (¬1)، ¬

=أو ثلاثة للاعتبار، ولم أكن أعلم أنه بكل هذا حتى قدمت هراة، فرأيت عندهم أحاديث مناكير كثيرة له، قال الحاكم أبو عبد الله: وهذه الأحاديث التي رآها صالح من حديث الهيَّاج الذنب فيها لابنه خالد، والحمل فيها عليه. وقال يحيى بن أحمد بن زياد الهروي: كل ما أنكر على الهيَّاج فهو من جهة ابنه خالد". وذكر الشوكاني هذا الحديث في "الفوائد المجموعة" (ص439 رقم 3) ونقل عن السيوطي أنه قال في "الذيل": "في إسناده هيَّاج، تركوه". وأما حديث أنس: فأخرجه البيهقي أيضاً في "الشعب" برقم (3812) و"فضائل الأوقات" برقم (12)، من طريق محمد بن الفضل بن عطية، عن أبان، عن أنس، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: "في رجب ليلة يكتب للعامل فيها حسنات مائة سنة، وذلك لثلاث بقين من رجب، فمن صلى فيها اثنتي عشرة ركعة ... " الحديث. قال ابن حجر في "تبيين العجب" (ص30) عقب حديث سلمان المتقدم: "وروينا قريباً من هذا المتن من حديث أنس بإسناد مظلم رواه البيهقي أيضاً ... " ثم ذكره. وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية وقد كذبوه كما في "التقريب" (6265). وشيخه أبان بن أبي عياش متروك كما في "التقريب" (143). وأما حديث ابن عباس: فقد أخرجه ابن حجر في "تبيين العجب" (ص21) من طريق محمد بن زياد اليشكري، عن ميمون بن مهران، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "من صلى ليلة سبع وعشرين من رجب ثنتي عشرة ركعة ... " الحديث. وفي سنده محمد بن زياد اليشكري الطحّان، الأعور وقد كذبوه كما في "التقريب" (5927). وقد قال الملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" (ص289): "وكذا صلاة عاشوراء، وصلاة الرغائب موضوع بالاتفاق، وكذا بقية صلوات ليالي رجب، وليلة السابع والعشرين من رجب ... " وقال العجلوني في "كشف الخفاء" (2/ 421): "وباب صلاة الرغائب، وصلاة نصف شعبان، وصلاة نصف رجب، وصلاة الإيمان، وصلاة ليلة المعراج، وصلاة ليلة القدر، وصلاة كل ليلة من رجب، وشعبان، ورمضان، وهذه الأبواب لم يصح فيها شيء أصلاً". (¬1) حديث قيام ليلة النصف من شعبان: ورد من حديث علي وابن عمر ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهم، ومرسل محمد بن علي الباقر رحمه الله. أما حديث علي رضي الله عنه: فله عنه ثلاث طرق: 1 ـ الطريق الأولى: أخرجها ابن ماجه (1388)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3822)، والفاكهي في "أخبار مكة" (1837)، جميعهم من طريق ابن أبي سبرة، عن إبراهيم بن محمد، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن علي بن=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا ... " الحديث. وفي سنده ابن أبي سبرة، وهو أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، وقد رموه بالوضع كما في التقريب (8030)، فالحديث موضوع من طريقه. 2 ـ الطريق الثانية: أخرجها ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 440 رقم 1010) من طريق علي بن الحسن، عن سفيان الثوري، عن ليث، عن مجاهد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: "يا علي! من صلى مائة ركعة في ليلة النصف من شعبان ... " الحديث بطوله. وقد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع، وأعلّه بجهالة بعض رواته وضعف بعضهم، وأقره السيوطي في "اللآلئ" (2/ 57 ـ 59). وقال الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص185 ـ 186 رقم 435): "والظاهر أنه من وضع علي هذا"، يعني علي بن الحسن بن يعمر السامي الراوي لهذا الحديث عن سفيان الثوري، فإنه ذكر الحديث في ترجمته في "ميزان الاعتدال" (3/ 119 ـ 120) وقال: "وهو باطل، وهو على هذا في عداد المتروكين عفا الله عنه"، وكان قد نقل عن ابن حبان قوله في علي هذا: "لا يحلّ كتب حديثه إلا على جهة التعجب". ونقل الحافظ ابن حجر في "اللسان" (5/ 211 ـ 212) عن الدارقطني قوله: "مصري يكذب يروي عن الثقات البواطيل". 3 ـ الطريق الثالثة: أخرجها البيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 386 ـ 387 رقم 3841)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 444 ـ 445 رقم 1014)، كلاهما من طريق عثمان بن سعيد بن كثير، عن محمد بن المهاجر، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم؛ قال: قال علي: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة النصف من شعبان قام فصلى أربع عشرة ركعة ... الحديث. قال البيهقي: "يشبه أن يكون هذا الحديث موضوعاً، وهو منكر، وفي [رواته]ـ مثل عثمان بن سعيد ـ مجهولون". وقال ابن الجوزي: "وهذا موضوع أيضاً، وإسناده مظلم، وكأن واضعه يكتب من الأسماء ما يقع له، ويذكر قوماً ما يعرفون، وفي الإسناد محمد بن مهاجر، قال ابن حبان: يضع الحديث". وقال الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص186 رقم 438): "إسناده مظلم، وفيه كذاب". وأما حديث ابن عمر: فأخرجه ابن الجوزي أيضاً برقم (1011) من طريق الحسين بن إبراهيم، قال: أنبأنا محمد بن جابان المذكِّر ... ، فساقه بسنده إلى يزيد بن محمد،=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=عن أبيه محمد بن مروان، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من قرأ ليلة النصف من شعبان ألف مرّة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} في مائة ركعة ... " الحديث. وأعله ابن الجوزي بأن في رواته مجاهيل، وقال الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص186 رقم 436): "وهذا من عمل الحسين بن إبراهيم أو شيخه، والإسناد ظلمة" وتعقب السيوطي في "اللآلئ" (2/ 59) ابن الجوزي بطريق أخرجها الديلمي من طريق محمد بن عبد الرحمن العرزمي، عن عمرو بن ثابت، عن محمد بن مروان الذهلي، عن أبي يحيى قال: حدثني أربعة وثلاثون من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ قالوا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر مثله سواء. وهذا حديث موضوع أيضاً. فمحمد بن عبد الرحمن العرزمي قال عنه الدارقطني: "متروك الحديث" كما في "لسان الميزان" (6/ 319)، وعمرو بن ثابت الحداد رافضي متروك، وقد فصّلت القول فيه في "سنن سعيد بن منصور" (2/ 540)، ومحمد بن مروان الذهلي قال عنه الذهبي في "الميزان" (4/ 33): "لا يكاد يعرف"، وأبو يحيى لم أعرفه، ولا أظنه القتّات. وأما حديث معاذ بن جبل: فأخرجه الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (1/ 248 ـ 249 رقم 374) من طريق سويد بن سعيد، ثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن وهب بن منبه، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من أحيا الليالي الخمس وجبت له الجنة: ليلة التروية، وليلة عرفة، وليلة النحر، وليلة النصف من شعبان"، ولم يذكر الخامسة. وأخرجه نصر المقدسي في "جزء من الأمالي" ـ كما في "السلسلة الضعيفة" (522) للشيخ الألباني ـ، وذكر أن الليالي أربع، وذكر ليلة الفطر بدل ليلة النصف من شعبان. وفي إسناد الأصبهاني تصحيف في موضعين: الأول: قوله: "عبد الرحمن بن زيد"، والصواب: "عبد الرحيم بن زيد" كما في إسناد المقدسي. الثاني: تصحف فيه "وهب" إلى: "دهب". والحديث ضعيف جداً؛ فيه ثلاث علل: 1 ـ سويد بن سعيد الحدثاني ضعيف، وفي "التقريب" (2705): "صدوق في نفسه، إلا أنه عمي، فصار يتلقن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول". 2 ـ عبد الرحيم بن زيد العَمِّي متروك، كذبه ابن معين كما في "التقريب" (4083). 3 ـ زيد بن الحواري العَمِّي ضعيف كما في "التقريب" (2143). وقد حكم عليه الشيخ الألباني ـ في الموضع السابق ـ بالوضع. وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن الجوزي (2/ 443 ـ 444 رقم 1013) من طريق=

وَلَيْلَةِ أَول جُمْعَةٍ مِنْ رَجَبٍ (¬1)، وَصَلَاةِ الإِيمان (¬2) والأُسبوع (¬3)، وصلاة بر ¬

=بقيّة بن الوليد، عن ليث بن أبي سليم، عن القعقاع بن شور الشيباني، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "من صلى ليلة النصف من شعبان ثنتي عشرة ركعة ... " الحديث. قال ابن الجوزي: "وهذا موضوع أيضاً، وفيه جماعة مجهولون، وقبل أن نصل إلى بقية وليث وهما ضعيفان، فالبلاء ممن قبلهم". وأقرّه عليه السيوطي في "اللآلئ" (2/ 59). وقال الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص186 رقم 437): "وإسناده ظلمات إلى بقية". وأما حديث أنس بن مالك: فيرويه محمد بن سعيد الميلي، عن محمد بن عمرو البجلي، عن النضر بن شميل، عن شعيب بن عبد الملك، عن الحسن البصري، عن أنس مرفوعاً: "من صلى ليلة النصف من شعبان خمسين ركعة ... " فذكر حديثاً طويلاً في فضل من صلى هذه الركعات في تلك الليلة. رواه ابن ناصر كما في "ميزان الاعتدال" للذهبي (3/ 565 ـ 566)، وقد أعله الذهبي بمحمد بن سعيد الميلي، فقال: "لا يُدرى من هو"، وقال عن شيخه محمد بن عمرو البجلي: "مجهول مثله". ثم قال الذهبي: "فقبّح الله من وضعه! فلقد فاه من الكذب والإفك ما لا يوصف ... ، فما أتعجَّب إلا من قلّة ورع ابن ناصر، كيف روى هذا وسكت عن توهينه؟ فإنا لله! ". وأما مرسل محمد بن علي الباقر: فأخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 442 ـ 443 رقم 1012) من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من قرأ ليلة النصف من شعبان ألف مرة قل هو الله أحد في مائة ركعة ... " الحديث. وفي سنده إلى جعفر عدة مجاهيل، ولذلك عقَّب عليه ابن الجوزي وعلى حديثي علي وابن عمر بقوله: "هذا الحديث لا يُشك في أنه موضوع، وجمهور رواته في الطرق الثلاثة مجاهيل، وفيهم ضعفاء بمرة ... " إلخ ما قال. (¬1) قوله: "وليلة أول جمعة من رجب": هي صلاة الرغائب التي تقدم تخريجها. (¬2) لم أجد فيها شيئاً. (¬3) صلاة الأسبوع: هي عدة أحاديث ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 417 ـ 428 رقم 993 ـ 1001) في فضل صلاة ليلة السبت ويومه، والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وحكم عليها بالوضع، واتهم بها الحسين بن إبراهيم وغيره. وذكرها ابن القيم في "المنار المنيف" (ص48 ـ 49)، وقال: "واستمرَّ هذا الكذاب=

الوالدين (¬1) ويوم عاشوراء (¬2)، وصيام رجب (¬3)، ¬

=الخبيث على حديث طويل فيه من هذه المجازفات، وهو من عمل الحسين بن إبراهيم؛ كذاب يروي عن محمد بن طاهر، ووضع من هذا الضرب أحاديث صلاة يوم الأحد، وليلة الأحد، وصلاة يوم الاثنين، وليلة الاثنين، ويوم الثلاثاء، وليلة الثلاثاء، وهكذا في سائر أيام الأسبوع ولياليه". وقال في موضع آخر (ص95): "ومنها: أحاديث صلوات الأيام والليالي؛ كصلاة يوم الأحد، وليلة الأحد، ويوم الاثنين، وليلة الاثنين ... ، إلى آخر الأسبوع، كل أحاديثها كذب". وانظر: "اللآلئ المصنوعة" (2/ 48 ـ 52)، و"تلخيص الموضوعات" (ص180 ـ 183 رقم 418 ـ 426)، و"الفوائد المجموعة" (ص44 ـ 46 رقم 87 ـ 102). (¬1) لم أجد فيها شيئاً. (¬2) حديث صلاة يوم عاشوراء: أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 433 رقم 1005) من طريق الحسين بن إبراهيم بإسناده إلى محمد بن سهل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من صلى يوم عاشوراء ما بين الظهر والعصر أربعين ركعة ... " الحديث. قال ابن الجوزي: "وهذا موضوع، وكلمات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منزهة عن هذا التخليط، والرواة مجاهيل، والمتهم به الحسين". وأقرّه الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص184 رقم 430)، والسيوطي في "اللآلئ" (2/ 54 ـ 55). وأخرج ابن الجوزي قبله (2/ 432 رقم 1004) حديثاً من طريق العشاري، بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من أحيا ليلة عاشوراء فكأنما عَبَدَ الله تعالى بمثل عبادة أهل السموات ... " الحديث، ثم قال: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أُدخل على بعض المتأخرين من أهل الغفلة، على أن عبد الرحمن بن أبي الزناد مجروح؛ قال أحمد: هو مضطرب الحديث، وقال يحيى: لا يحتجّ به". ثم أعاده بطوله (2/ 567 ـ 569 رقم 1140) وحكم عليه بالوضع ونقد متنه. والذي يظهر أن ابن أبي الزناد بريء من عهدته، والحمل فيه على أبي طالب العشاري محمد بن علي بن الفتح، فقد قال عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/ 656): "شيخ صدوق معروف، لكن أدخلوا عليه أشياء، فحدّث بها بسلامة باطن، منها حديث موضوع في فضل ليلة عاشوراء". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" (7/ 433): "وليس في عاشوراء حديث صحيح غير الصوم، وكذلك ما يروى في فضل صلوات معينة فيه، فهذا كله كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة، ولم ينقل هذه الأحاديث أحد من أئمة أهل العلم في كتبهم". (¬3) حديث صيام رجب: أخرجه أبو الفضل محمد بن ناصر في "أماليه" كما في "تبيين العجب" (ص13 ـ 15)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 576 رقم 1147)،=

والسابع والعشرين مِنْهُ (¬1)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ، فإِن جميعَها رَاجِعٌ إِلى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَالصَّلَاةُ عَلَى الْجُمْلَةِ ثابتٌ أَصلها، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ وَقِيَامُ اللَّيْلِ، كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلى خيرٍ نُقلت فضيلتُه عَلَى الْخُصُوصِ. وإِذا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مَا نُقلت فضيلتُه فِي الأَحاديث فَهُوَ مِنْ بَابِ الترغيب، فلا يلزم فيه ـ بشهادة (¬2) أَهل الحديث ـ صحّة (¬3) الإِسناد، بخلاف أَحاديث (¬4) الأَحكام. ¬

=كلاهما من طريق أبي بكر محمد بن الحسن النقاش، عن أبي عمرو أحمد بن العباس الطبري؛ قال: حدثنا الكسائي؛ قال: حدثنا أبو معاوية؛ قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، فمن صام رجب إيماناً واحتساباً استوجب رضوان الله الأكبر ... " الحديث بطوله، واللفظ لابن الجوزي. قال ابن ناصر: "وهذا حديث غريب عالٍ من حديث أبي معاوية الضرير، عن الأعمش، وهو غريب من حديث علقمة عن أبي سعيد، تفرد به أبو عمرو الطبري، ولا يعرف إلا من روايته، ولم نسمعه إلا من رواية أبي بكر النقاش عنه". وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: "هذا الكلام لا يليق بأهل النقد، وكيف يروج مثل هذا الباطل على ابن ناصر مع تحققه بأن النقاش وضاع دجال ـ نسأل الله العافية ـ، فوالله! ما حدث أبو معاوية ولا من فوقه بشيء من هذا قط، وليس الكسائي علي بن حمزة المقدسي النحوي، فقد جزم بأنه غيره الإمام أبو الخطاب ابن دحية، فقال: الكسائي المذكور لا يدرى من هو. وقال بعد أن أخرج الحديث: هذا موضوع". وكان ابن حجر قد قال قبل ذكره للحديث: "وورد في فضل رجب من الأحاديث الباطلة أحاديث لا بأس بالتنبيه عليها لئلا يُغترّ بها ... ". وقال ابن الجوزي عقب الحديث: "هذا حديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والكسائي لا يعرف، والنقاش مُتّهم". وأقره السيوطي في "اللآلئ" (2/ 114 ـ 115)، وابن عراق في "تنزيه الشريعة" (2/ 151 ـ 152). وقال الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص208 رقم 507): "رواه أبو بكر النقاش وهو مُتّهم ... ، وهذا الكسائي لا يعرف". وقد ذكر ابن الجوزي وابن حجر أحاديث أخرى في فضل صيام بعض أيام من رجب، وبينا عللها. (¬1) وهو داخل في حديث صلاة المعراج التي تقدم الكلام عنها. (¬2) في (خ) و (م): "شهادة". (¬3) في (خ): "بصحة". (¬4) قوله: "أحاديث" ليس في (خ) و (م).

فإِذاً هذا الوجه من الاستدلال من طرق (¬1) الراسخين، لا من طرق (1) الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، حَيْثُ فَرَّقُوا (¬2) بَيْنَ أَحاديث الأَحكام فَاشْتَرَطُوا فِيهَا الصِّحَّةَ، وَبَيْنَ أَحاديث التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهَا ذَلِكَ. فَالْجَوَابُ: أَن مَا ذَكَرَهُ علماءُ الْحَدِيثِ مِنَ التَّسَاهُلِ في أَحاديث الترغيب والترهيب (¬3) لا ينتظم مسأَلتنا (¬4) المفروضة، بيانه (¬5): أَن الْعَمَلَ المتكلَّم فِيهِ إِما أَن يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَى أَصله جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، أَو لَا يَكُونُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لَا جُمْلَةً (¬6) وَلَا تَفْصِيلًا، أَو يَكُونُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا. فالأَول: لَا إِشكال فِي صِحَّتِهِ، كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ (¬7)، وَالنَّوَافِلِ الْمُرَتِّبَةِ لأَسباب وَغَيْرِ أَسباب (¬8)، وَكَالصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ (¬9)، أَو الْمَنْدُوبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ، إِذَا فُعِلَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نُصَّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ زيادة ولا ¬

(¬1) في (خ): "طريق". (¬2) أي: الراسخون في العلم. (¬3) مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي أحاديث الترغيب والترهيب يعني قول كثير منهم: "إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال تساهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال، وإذا روينا في الحلال والحرام والأحكام تشددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال"، وردت هذه العبارة عن عبد الرحمن بن مهدي كما في "المستدرك" للحاكم (1/ 490)، و"دلائل النبوة" للبيهقي (1/ 34). وورد معناها عن يحيى القطان، وابن المبارك، والإمام أحمد كما في "دلائل النبوة" (1/ 35 ـ 38)، و"النكت على كتاب ابن الصلاح" (2/ 888)، و"تدريب الراوي" (1/ 298)، وقد علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "نذكر هنا ما شرطه المحدثون لجواز العمل بالضعيف في الترغيب والترهيب. قال الحافظ السخاوي في القول البديع ـ بعد ذكر المسألة وخلاف القاضي أبي بكر ابن العربي فيها إذ جزم بعدم جواز العمل بالضعيف مطلقاً ـ؛ قال: وقد سمعت شيخنا (أي الحافظ ابن حجر) مراراً يقول وكتبه لي بخطه: إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة: الأول: متفق عليه؛ أن يكون الضعف غير شديد. فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه. الثاني: أن يكون مندرجاً تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً. الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، لئلا ينسب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لم يقله. قال: والأخيران عن ابن عبد السلام وعن صاحبه ابن دقيق العيد، والأول نقل العلائي الاتفاق عليه" اهـ. (¬4) في (خ): "مع مسألتنا". (¬5) في (خ): "وبيانه". (¬6) في (غ) و (ر): "منصوصا عليه جملة". (¬7) في (غ): "المفروضة". (¬8) في (خ): "وغيرها" بدل "وغير أسباب". (¬9) في (خ): "المفرض".

نُقْصَانٍ؛ كَصِيَامِ عَاشُورَاءَ (¬1)، أَو يَوْمَ (¬2) عَرَفَةَ (¬3)، وَالْوَتَرِ بَعْدَ نَوَافِلَ اللَّيْلِ (¬4)، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ (¬5). فَالنَّصُّ جاءَ فِي هَذِهِ الأَشياء صَحِيحًا عَلَى مَا شَرَطُوا، فَثَبَتَتْ (¬6) أَحكامها مِنَ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِحْبَابِ، فإِذا ورد في مثلها أَحاديثُ تُرَغِّب (¬7) فيها، أَو تحذِّر (¬8) مِنْ تَرْكِ الْفَرْضِ مِنْهَا، وَلَيْسَتْ بَالِغَةً مَبْلَغَ الصِّحَّة، وَلَا هِيَ أَيضاً مِنَ الضَّعْف بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُهَا أَحد، أَو كَانَتْ مَوْضُوعَةً لَا يَصِحُّ الِاسْتِشْهَادُ بِهَا، فَلَا بأْس بِذِكْرِهَا وَالتَّحْذِيرِ بِهَا وَالتَّرْغِيبِ، بَعْدَ ثُبُوتِ أَصلها مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ. وَالثَّانِي: ظَاهِرٌ أَنه غَيْرُ صَحِيحٍ، وَهُوَ عين البدعة؛ لأَنه لا يرجع إِلاَّ إِلى مجرد (¬9) الرأْي الْمَبْنِيّ على الهوى، وهو أَبْعَدُ (¬10) البدع وأَفحشها؛ ¬

(¬1) أخرج مسلم في "صحيحه" (1162) من حديث أبي قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم قال: "وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله". وأمر صلّى الله عليه وسلّم بصيامه في حديثي ابن عباس وأبي موسى رضي الله عنهما عند البخاري (2004 و2005). (¬2) في (غ) و (ر): "ويوم". (¬3) جاء في حديث أبي قتادة السابق عند مسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده". (¬4) ورد في الحث على الوتر بعد نوافل الليل أحاديث كثيرة، حتى لقد أفرد البخاري في "صحيحه" كتاباً خاصاً بالوتر وأحكامه، ومن جملة ما أخرج فيه: حديث ابن عمر برقم (990): أن رجلاً سأل رسول الله (ص) عن صلاة الليل، فقال: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلَّى". وأخرجه مسلم برقم (749). (¬5) ورد في مشروعية الصلاة عند كسوف الشمس عدة أحاديث، حتى لقد أفرد لها البخاري ومسلم كتابين مستقلين في "صحيحيهما"، وأخرجا فيهما عدة أحاديث، منها: حديث المغيرة بن شعبة؛ قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إن الشمس والقمر لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله"، أخرجه البخاري برقم (1043)، ومسلم برقم (915). (¬6) في (م): "فثبت". (¬7) في (خ) و (م): "ترغيب". (¬8) في (خ): "أو تحذير". (¬9) في (خ): "إلا لمجرد". (¬10) في (خ): "أبدع".

كالرَّهْبَانيَّة المنْفِيَّة عَنِ الإِسلام (¬1)، والخِصَاء لِمَنْ خَشِيَ العَنَت (¬2)، والتعبُّد بِالْقِيَامِ فِي الشَّمس (¬3)، أَو بالصَّمْتِ مِنْ غَيْرِ كَلَامِ أَحد (¬4)، فَالتَّرْغِيبُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَصِحُّ؛ إِذ لَا يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ، وَلَا أَصل لَهُ يُرَغَّب فِي مِثْلِهِ، أَو يحذَّر من مخالفته. ¬

(¬1) قوله: كالرهبانية المنفية عن الإسلام: يدل عليها قوله تعالى في الآية (27) من سورة الحديد: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}. وسيأتي تخريجه بلفظ: "لا رهبانية في الإسلام" (ص212) من هذا المجلد. وأخرج أبو داود في "سننه" (4868)، وأبو يعلى في "مسنده" (3694) من طريق عبد الله بن وهب، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء؛ أن سهل بن أبي أمامة حدثه: أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة، فقال أنس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدَّد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}. وسنده ضعيف؛ تفرد به سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء، ولم أجد مَنْ وثقه، سوى أن ابن حبان ذكره في "ثقاته" (6/ 354)، ولذلك قال الحافظ في "التقريب" (2366): "مقبول" والحديث ضعفه الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع" (6232) وانظر ما سيأتي (ص201 ـ 202). (¬2) أخرج البخاري في صحيحه (8/ 276 رقم 4615) كتاب التفسير، باب لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؛ فنهانا عن ذلك، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب، ثم قرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. [المائدة: 87]. (¬3) أخرج البخاري في "صحيحه" (6704) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: بينا النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب؛ إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "مره فليتكلم، وليستظل، وليقعد وليتمّ صومه". قال ابن خزيمة في صحيحه (3/ 352) بعد أن أشار إلى الحديث: "فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالوفاء بالصوم الذي هو طاعة، وترك القيام في الشمس، وإن كان القيام في الشمس ليس بمعصية، إلا أن يكون فيه تعذيب، فيكون حينئذٍ معصية". (¬4) أخرج البخاري في "صحيحه" (3834) من حديث قيس بن أبي حازم؛ قال: دخل أبو بكر على امرأة من أحْمَسَ يقال لها: زينب، فرآها لا تكلَّم، فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجَّت مُصْمِتَةً، قال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت ... ، الحديث.

وَالثَّالِثُ: رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنه كالأَول؛ مِنْ جِهَةِ أَنه إِذا ثَبَتَ أَصل عِبَادَةٍ فِي الْجُمْلَةِ، فيُسْتَسْهَلُ (¬1) فِي التَّفْصِيلِ نَقْلُهُ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُشْتَرَطِ الصِّحَّةِ. فَمُطْلَقُ التنفُّل (¬2) بِالصَّلَاةِ مَشْرُوعٌ، فإِذا جَاءَ تَرْغِيبٌ فِي صَلَاةِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ (¬3) فَقَدْ عَضَّدَهُ أَصل التَّرْغِيبِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ. وكذلك إِذا ثبت أَصل صيام النافلة (¬4)، ثَبَتَ صِيَامُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ (¬5)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ. وَلَيْسَ كَمَا توهَّموا؛ لأَن الأَصل إِذا ثَبَتَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَلْزَمُ إِثباته فِي التَّفْصِيلِ، فإِذا ثَبَتَ مُطْلَقُ الصَّلَاةِ لَا يلزم منه إِثبات الظهر أَو العصر (¬6) أَو الْوَتَرِ أَو غَيْرِهَا حَتَّى يُنَصّ عَلَيْهَا عَلَى الْخُصُوصِ، وَكَذَلِكَ إِذا ثَبَتَ مُطْلَقُ الصِّيَامِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِثبات صَوْمِ رَمَضَانَ أَو عَاشُورَاءَ أَو شَعْبَانَ أَو غَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى يثبت التفصيل (¬7) بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، ثُمَّ يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَحاديث التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بِالنِّسْبَةِ إِلى ذَلِكَ الْعَمَلِ الْخَاصِّ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ الصَّحِيحِ. وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، إِذ لَا ملازمة بين ثبوت التنفُّل الليلي أَو النهاري (¬8) فِي الْجُمْلَةِ، وَبَيْنَ قِيَامِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِكَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ، يقرأُ فِي كُلِّ رَكْعَةِ مِنْهَا بِسُورَةِ (¬9) كَذَا عَلَى الْخُصُوصِ كَذَا وَكَذَا مَرَّةٍ. وَمَثْلُهُ صِيَامُ الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ مِنَ الشَّهْرِ الْفُلَانِيِّ، حَتَّى تَصِيرَ تِلْكَ الْعِبَادَةُ مَقْصُودَةً عَلَى الْخُصُوصِ، لَيْسَ فِي شيءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقْتَضِيهِ مطلقُ شَرْعِيَّةِ التنفُّل بِالصَّلَاةِ أَو الصِّيَامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَن تَفْضِيلَ يَوْمٍ مِنَ الأَيام أَو زَمَانٍ مِنَ الأَزمنة بِعِبَادَةٍ مَا يَتَضَمَّنُ حُكْمًا شَرْعَيًّا فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ، كما ثبت لعاشوراء مثلاً ¬

(¬1) في (خ): "فيسهل". (¬2) في (غ): "التنفيل". (¬3) تقدم تخريجه (ص20). (¬4) قوله: "النافلة" ليس في (خ)، و (م). (¬5) انظر ما تقدم (ص19). (¬6) في (خ): "والعصر". (¬7) في (خ) و (م): "بالتفصيل". (¬8) في (خ): "الليلي والنهاري" وفي (م): "أو النهار". (¬9) في (غ) و (ر): "سور".

أَو لِعَرَفَةَ (¬1)، أَو لِشَعْبَانَ (¬2) مزيَّةٌ عَلَى مُطْلَقِ التَّنَفُّلِ بِالصِّيَامِ، فإِنه ثَبَتَ لَهُ (¬3) مَزِيَّةٌ عَلَى الصِّيَامِ فِي مُطْلَقِ الأَيام. فَتِلْكَ الْمَزِيَّةُ اقْتَضَتْ مَرْتَبَةً فِي الأَحكام أَعلى مِنْ غَيْرِهَا، بِحَيْثُ (¬4) لا تفهم (¬5) من مطلق مشروعية الصيام (¬6) النَّافِلَةِ؛ لأَن مُطْلَقَ الْمَشْرُوعِيَّةِ يَقْتَضِي أَن الْحَسَنَةَ فيه (¬7) بِعَشْرِ أَمثالها، إِلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ (¬8) فِي الْجُمْلَةِ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَقْتَضِي أَنه يُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ (¬9)، فَهُوَ (¬10) أَمر زَائِدٌ عَلَى مُطْلَقِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَمَسَاقُهُ يُفِيدُ لَهُ مزيَّة فِي الرُّتْبَةِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلى الْحُكْمِ. فإِذاً هَذَا التَّرْغِيبُ الخاص يقتضي مرتبة في نوع الْمَنْدُوبِ (¬11) خَاصَّةً، فَلَا بُدَّ مِنْ رُجُوعِ إِثبات الحكم إِلى الأَحاديث الصحيحة بناءً عل قَوْلِهِمْ: "إِن الأَحكام لَا تُثْبَتُ إِلا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ" (¬12)، وَالْبِدَعُ الْمُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِغَيْرِ الصَّحِيحِ لا بد فيها من زيادة (¬13) على المشروعات؛ كالتقييد بزمان مّا، ¬

(¬1) تقدم في (ص27) تخريج ما ورد في فضل عاشوراء وعرفة. (¬2) أخرج البخاري في "صحيحه" (1969)، ومسلم (1156/ 175) من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نقول: لا يصوم. وما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان. (¬3) في (غ): "فيه". (¬4) في (غ): "من بحيث"، وكأنه ضرب على "من". (¬5) في (م): "لا نفهم". (¬6) في (خ): "الصلاة". (¬7) قوله: "فيه" ليس في (خ). (¬8) أخرج البخاري (7501)، ومسلم (128) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإذا عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإذا عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، إلى سبعمائة". (¬9) تقدم في (ص27) تخريج ما ورد في فضل صيام عاشوراء. (¬10) في (غ) و (ر): "فهذا". (¬11) في (خ): "من المندوب". (¬12) تقدم هذا القول (ص26) والتعليق عليه. (¬13) في (خ): "الزيادة".

أَو عدد ما، أَو كيفية ما (¬1)، فيلزم أَن تكون (¬2) أَحكام تلك الزيادة (¬3) ثَابِتَةً بِغَيْرِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ نَاقِضٌ لِمَا أَسَّسَهُ (¬4) العلماءُ. وَلَا يُقَالُ: إِنهم يُرِيدُونَ أَحكام الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ فَقَطْ؛ لأَنا (¬5) نَقُولُ: هَذَا تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، بَلِ الأَحكام خَمْسَةٌ. فَكَمَا لَا يثبت الوجوب إِلا بالصحيح، كذلك الندب (¬6) والإِباحة وغيرهما (¬7) لا تثبت (¬8) إِلا بِالصَّحِيحِ (¬9)، فإِذا ثَبَتَ الْحُكْمُ فَاسْتَسْهِلْ (¬10) أَن يَثْبُتَ فِي أَحاديث التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَا عَلَيْكَ. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: كُلُّ مَا رُغِّب (¬11) فِيهِ إِن ثبت حكمه أو مرتبته في المشروعات من طريق صحيح، فالترغيب (¬12) بِغَيْرِ الصَّحِيحِ مُغْتَفَر، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ التَّرْغِيبِ، فَاشْتَرِطِ الصِّحَّةَ أَبَدًا، وَإِلَّا (¬13) خَرَجْتَ عَنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ الْمَعْدُودِينَ فِي أَهْلِ الرسوخ. فلقد غلط في هذا الْمَكَانِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ يُنسب إِلَى الْفِقْهِ، وَيَتَخَصَّصُ عَنِ الْعَوَامِّ بِدَعْوَى رُتْبَةِ الخَوَاصّ. وَأَصْلُ هَذَا الغلط: عدم فهم معنى (¬14) كلام المحدِّثين في الموضعين، وبالله التوفيق. ¬

(¬1) في (خ): "بزمان أو عدد أو كيفية ما"، وفي (م): "بزمان أو عدد ما أو كيفية ما". (¬2) في (خ) و (م): "يكون". (¬3) في (خ) و (م): "الزيادات". (¬4) في (خ) و (م): "ناقض إلى ما أسسه".وعلق عليه رشيد رضا بقوله: الظاهر أن يقال: "لما".اهـ. (¬5) في (م): "لا". (¬6) في (غ) و (ر): "المندوب". (¬7) في (غ) و (ر): "وغيرها". (¬8) في (م): "لا يثبت". (¬9) من قوله: "كذلك الندب ... " إلى هنا سقط من (خ). (¬10) في (خ): "فاشتهل". (¬11) في (غ) و (ر): "كل مرغب". (¬12) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله سقط من هنا لفظ "فيه". (¬13) في (غ) و (ر): "وإن" بدل: "وإلا". (¬14) قوله: "معنى" من (غ) و (ر).

فصل

فَصْلٌ وَمِنْهَا ضِدُّ هَذَا؛ وَهُوَ رَدُّهم لِلْأَحَادِيثِ التي جاءت (¬1) غير موافقة لأغراضهم ومذاهبم، وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْقُولِ (¬2)، وغيرُ جاريةٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَيَجِبُ رَدُّهَا؛ كَالْمُنْكِرِينَ لِعَذَابِ الْقَبْرِ (¬3)، والصراط (¬4)، والميزان (¬5)، ¬

(¬1) في (خ) و (م): "جرت". (¬2) في (غ) و (ر): "للعقول". (¬3) عذاب القبر ثابت بالكتاب والسنة. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ *} سورة غافر: الآية (46). (¬4) وأما السنة: فأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (1372) من حديث عائشة رضي الله عنها: أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عذاب القبر، فقال: "نعم، عذاب القبر حق". قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدُ صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر. (¬5) الصراط ثابت بالسنة الصحيحة. فأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (7439)، ومسلم في "صحيحه" رقم (183)، كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حديث الرؤية الطويل، وفيه: "ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله! وما الجسر؟ قال: مدحضةٌ مَزِلَّة ... " الحديث. قال الحافظ في "مقدمة الفتح" (ص98): قوله: "ثم يؤتى بالجسر"؛ أي: الصراط، وهو القنطرة بين الجنة والنار يمر عليها المؤمنون. (¬6) الميزان ثابت بالكتاب والسنة. قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} سورة الأنبياء: الآية (47). وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ *} سورة القارعة: الآيتان (6، 7). وأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (6405)، ومسلم في "صحيحه" رقم (2694)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".

وَرُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآخِرَةِ (¬1). وَكَذَلِكَ حديث الذباب ومَقْلِه، وأنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وَأَنَّهُ يقدِّم الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ (¬2). وَحَدِيثُ الَّذِي أَخَذَ أَخَاهُ بطنُه فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَقْيه الْعَسَلَ (¬3)، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَنْقُولَةِ نَقْلَ الْعُدُولِ. وربما قَدَحُوا فِي الرُّوَاةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ الله تعالى عنهم ـ وحاشاهم (¬4) ـ، وَمَنِ (¬5) اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ مِنَ المحدِّثين عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَإِمَامَتِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَرُدُّوا بِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الْمَذْهَبِ، وَرُبَّمَا رَدُّوا فَتَاوِيَهُمْ وَقَبَّحُوهَا فِي أَسْمَاعِ الْعَامَّةِ؛ لينفِّروا الْأُمَّةَ (¬6) عَنْ أَتْبَاعِ السنة وأهلها، كما روي (¬7) عن بكر بن حمران قَالَ: قَالَ عَمْرُو (¬8) بْنُ عُبَيْدٍ: لَا يُعْفَى عن اللص ¬

(¬1) رؤية الله جل وعلا ثابتة بالكتاب والسنة: قال تَعَالَى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} سورة القيامة: الآيتان (22، 23). وفي حديث أبي سعيد المتقدم في التعليق قبل السابق، الذي أخرجه البخاري ومسلم في ذكر الصراط: قوله: قلنا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: "هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ " قلنا: لا. قال: "فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما ... " الحديث. (¬2) حديث الذباب: أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (3320) من حديث عبيد بن حنين، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء". وأخرجه أبو داود (3844)، وابن خزيمة برقم (105)، وابن حبان برقم (1246/ الإحسان) من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة، وفيه: "وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء". (¬3) حديث العسل: أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (5684)، ومسلم في "صحيحه" رقم (2217) كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬4) قوله: "وحاشاهم" ليس في (غ) و (ر) و (م). (¬5) في (خ): "فمن". (¬6) في (خ): "لينفروا الأئمة بل الأمة"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: نص النسخة: "لينفروا الأئمة بل الأمة". اهـ، وانظر التعليق بعد الآتي. (¬7) أخرج القصة العقيلي في "الضعفاء" (3/ 286)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 101)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 178). (¬8) في (خ): "رسول بل عمرو"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: نص النسخة: "رسول بل عمرو"، وكلاهما من الإضراب عن الغلط مع إبقائه، وتقدم مثله مراراً. اهـ.

دُونَ السُّلْطَانِ. قَالَ: فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمية عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: "فَهَلَّا (¬1) قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟ " (¬2) قَالَ: أَتَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم ¬

(¬1) في (خ): "فهل". (¬2) حديث صفوان: "فهلا قبل أن تأتيني به": أخرجه أبوداود (4394)، والنسائي (4883) ـ واللفظ له ـ، وابن الجارود (828)، والدارقطني (3/ 204 رقم 362)، والحاكم (4/ 380)، والضياء في "المختارة" (8/ 19 رقم 9)، جميعهم من طريق عمرو بن حماد بن طلحة، عن أسباط، عن حميد ابن أخت صفوان بن أمية، عن صفوان بن أمية قال: كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثون درهماً، فجاء رجل فاختلسها مني، فأُخذ الرجل فأتي به النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأمر به ليقطع، فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً؟! أنا أبيعه وأنسئه ثمنها. قال: "فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به؟ ". وفي سنده حميد ابن أخت صفوان وهو مقبول كما في "التقريب" (1578)، واختلف في اسمه؛ فقال بعضهم: "جعيد". وقد توبع حميد هذا: فأخرجه أحمد (3/ 401) و (6/ 465)، ومن طريقه النسائي (4879)، من طريق محمد بن جعفر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عطاء، عن طارق بن مرقع، عن صفوان، به. وطارق بن مرقع هذا مقبول كما في "التقريب" (3023). وقد أخرجه النسائي قبل هذا (4878) من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، فجعله من رواية عطاء عن صفوان، وأسقط من الإسناد طارق بن مرقع. ثم أخرجه النسائي أيضاً (4880) من طريق الأوزاعي؛ قال: حدثني عطاء بن أبي رباح؛ أن رجلاً سرق ... ، فذكره هكذا مرسلاً. وكذا رواه البيهقي في "السنن" (8/ 265) من طريق بكار بن الخصيب، عن حبيب، عن عطاء مرسلاً. وله طرق أخرى عن صفوان: فأخرجه النسائي (4881) من طريق عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن صفوان بن أمية، به. قال ابن القطان في "بيان الوهم" (3/ 570): "ولكن الطريق المذكورة يمكن أن تكون منقطعة، فإنها من رواية عبد الملك المذكور، عن عكرمة، عن صفوان بن أمية، وعكرمة لا أعرف أنه سمع من صفوان، وإنما يرويه عن ابن عباس". وابن القطان هنا يشير إلى ما رواه النسائي أيضاً (4882)، والدارمي (2/ 172) من طريق أشعث بن سوّار، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ قال: كان صفوان نائماً ... ، فذكره. قال النسائي عقبه: "أشعث ضعيف". وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 465 ـ 466) من طريق عفان، عن وهيب،=

قاله؟ قلت: أفتحلف أنت بِاللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقله؟ قال: فحلف بالله ¬

=عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن صفوان، به. وهذا سند صحيح إن كان طاوس سمع من صفوان، وقد قال ابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 219): "وطاوس سماعه من صفوان بن أمية ممكن؛ لأنه أدرك زمن عثمان". وحكم الشيخ الألباني على هذا الإسناد بالصحة على شرط الشيخين، وذكر كلام ابن عبد البر، ثم قال: "زد على ذلك أن طاوساً ليس موصوفاً بالتدليس، فمثله يحمل حديثه على الاتصال، فالسند صحيح". قلت: يمكن التسليم بما ذكره الشيخ ـ رحمه الله ـ على مذهب مسلم بن الحجاج ومن تبعه، أما على مذهب البخاري فلا. ومما يغلب جانب الانقطاع: أن الحديث أخرجه معمر في "جامعه" الملحق بـ"المصنف" لعبد الرزاق (10/ 230 رقم 18939) عن عبد الله بن طاوس، عن طاوس قال: قيل لصفوان ... ، فذكره هكذا مرسلاً. وقد أخرجه النسائي (4884) من طريق حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن صفوان، به. وخولف حماد بن سلمة. فرواه زكريا بن إسحاق وإبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس. أما رواية زكريا بن إسحاق: فأخرجها الدارقطني (3/ 205 ـ 206 رقم 366)، والحاكم (4/ 380) من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد عنه. وأما رواية إبراهيم بن ميسرة: فأخرجها الطبراني في "الكبير" (8/ 47 رقم 7326). قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي. وتعقبهما الألباني بقوله: "وهو كما قالا، ولكني أتعجب منهما كيف لم يصححاه على شرط الشيخين؛ فإنه من طريقين عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، ثنا زكريا بن إسحاق، وهذا رجاله كلهم ثقات من رجال الشيخين، وزكريا هذا ثقة اتفاقاً، فلا يضرّه مخالفة حماد بن سلمة له في إسناده ... ، ويبدو أن طاوساً كان له في هذا الحديث إسنادان: أحدهما: عن ابن عباس، والآخر: عن صفوان، وأنه كان تارة يرويه عن هذا، وتارة عن هذا، فرواه عمرو بن دينار عنه على الوجهين، وابنه على الوجه الآخر، والله أعلم". وأخرجه البيهقي في "السنن" (8/ 265) من طريق الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً. وهذا يقوي رواية معمر السابقة، وأن الصواب في رواية طاوس الإرسال. وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 834 رقم 28) عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان؛ أن صفوان بن أمية قيل له ... ، فذكره هكذا مرسلاً.=

ـ الذي لا إله إلا هو ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهُ (¬1). فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ عَوْنٍ. قَالَ: فَلَمَّا عَظُمت الحلقة قال (¬2): [يا بكر] (¬3) حَدِّث القوم (¬4). وَقَدْ جَعَلُوا الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ قَوْلًا بِمَا لَا يُعْقَلُ. وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُهُمْ: هَلْ يَكْفُرُ مَنْ قَالَ بِرُؤْيَةِ الْبَارِي فِي الْآخِرَةِ؟ فَقَالَ: لَا يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ مَا لَا يَعْقِلُ، وَمَنْ قَالَ مَا لَا يَعْقِلُ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ (¬5). وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى نَفْيِ أَخْبَارِ الْآحَادِ جُمْلَةً (¬6)، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا اسْتَحْسَنَتْهُ (¬7) عُقُولُهُمْ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، حَتَّى أَبَاحُوا الْخَمْرَ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ (¬8). فَفِي هؤلاءِ وَأَمْثَالِهِمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أُلفينّ أَحدكم مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يأْتيه الأَمر مِنْ أَمري مِمَّا أَمرت بِهِ أَو نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لا أَدري، ما وجدنا في ¬

=فالحديث بطرقه السابقة موصولها ومرسلها يغلب على الظن ثبوته، وقد صححه ابن عبد الهادي في "التنقيح" كما في "نصب الراية" (3/ 369)، وقال ابن كثير في "تحفة الطالب" (ص223): "وهذا الحديث روي من طرق كثيرة متعددة يشد بعضها بعضاً، ومن الرواة من أرسله، ومنهم من وصله". وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" (7/ 345 رقم 2317). (¬1) من قوله: "قال: فحلف بالله" إلى هنا سقط من (م) و (خ)، والمثبت من (غ) و (ر) ومن مصادر التخريج. (¬2) أي: ابن عون. (¬3) في جميع النسخ: "يا أبا بكر"، وهو خطأ، والمثبت هو الصواب كما في مصادر التخريج، وكما في أول السياق، وجاءت على الخطأ في "الكامل" المطبوع، ولكنها على الصواب في مخطوطة أحمد الثالث (ل612/ب)، وتصحف "حمران" في "تاريخ بغداد" إلى: "حمدان"، وانظر "الجرح والتعديل" (2/ 383 رقم 1495). (¬4) قوله: "القوم" سقط من (خ) و (م). (¬5) أعاد المؤلف هذا الكلام في (ص45) بأبسط مما هنا. (¬6) سيأتي رد المصنف عليهم (ص43 و45). (¬7) في (خ): "ما استحسنه". (¬8) سورة المائدة، الآية (93).

كتاب الله اتبعناه (¬1) (¬2). ¬

(¬1) في (م) و (غ): "اتبعنا" بدون هاء. (¬2) أخرجه الحميدي في "مسنده" (551)، والشافعي في "الأم" (7/ 15)، وفي "الرسالة" (295)، وأبو داود في "سننه" (4605)، والترمذي (2663)، وابن ماجه (13)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 209)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1/ 316 رقم 934 و935)، وابن حزم في "الإحكام" (2/ 210)، جميعهم من طريق سفيان بن عيينة، عن سالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفس السياق الذي ذكره الشاطبي. وتابع سفيان على روايته هكذا: ابن لهيعة عند الإمام أحمد في "المسند" (6/ 8). وأخرجه الحميدي في الموضع السابق عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً. وأخرجه الترمذي والطحاوي والطبراني مقروناً بالرواية السابقة؛ من طريق سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال الترمذي: "هذا حديث حسن. وروى بعضهم عن سفيان عن ابن المنكدر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً، وسالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكان ابن عيينة إذا روى هذا الحديث مع الانفراد بيَّن حديث محمد بن المنكدر من حديث سالم أبي النضر، وإذا جمعهما روى هكذا".اهـ. وأخرج الحاكم في "المستدرك" (2/ 108 ـ 109) هذا الحديث من طريق الشافعي والحميدي عن سفيان عن سالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال الحاكم: "قد أقام سفيان بن عيينة هذا الإسناد، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. والذي عندي أنهما تركاه لاختلاف المصريين في هذا الإسناد". ثم أخرجه من طريقين فيهما اختلاف مع طريق سفيان، ثم قال: "أنا على أصلي الذي أصّلته في خطبة هذا الكتاب: أن الزيادة من الثقة مقبولة، وسفيان بن عيينة حافظ ثقة ثبت، وقد خبر وحفظ، واعتمدنا على حفظه بعد أن وجدنا للحديث شاهدين بإسنادين صحيحين". وقد عرض الدارقطني هذا الاختلاف في الحديث في "العلل" (7/ 7 ـ 10 رقم 1172) ثم قال: "والصواب: قول من قال: عن أبي النضر، عن ابن أبي رافع، عن أبيه". وهي رواية سفيان بن عيينة ومن وافقه. وللحديث شاهد من حديث المقدام بن مَعْدِي كَرِب الكندي؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل يَنْثَني شبعاناً على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلالٍ=

وهذا وعيد شديد تضمَّنه النهي اللاحِقُ (¬1) بمن ارتكب ردَّ السُّنَّة. ولما ردّوها بتحكيم (¬2) الْعُقُولِ؛ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ رَاجِعًا إِلَى أَصْلِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الأُصول، وسيأْتي لَهُ بَيَانٌ إِن شاءَ اللَّهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ النَّضْرِ: سُئِلَ عَمْرُو (¬3) بْنُ عُبَيْدٍ يَوْمًا عَنْ شيءٍ ـ وَأَنَا عِنْدَهُ ـ، فَأَجَابَ فِيهِ (¬4). فَقُلْتُ لَهُ: لَيْسَ هَكَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا. قَالَ: وَمَنْ أصحابك لا أَبا لك؟! قلت: أيوب، ويونس، وَابْنُ عَوْنٍ، وَالتَّيْمِيُّ. قَالَ: أُولَئِكَ أَنْجَاسٌ أَرْجَاسٌ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ (¬5) (¬6). وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّة: حَدَّثَنِي الْيَسَع؛ قَالَ: تَكَلَّمَ وَاصِل ـ يَعْنِي ابْنَ عَطَاءٍ ـ ¬

=فأَحِلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه ... " الحديث. أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 130 ـ 131 رقم 17174)، وأبو داود في "سننه" (4604)، وابن حبان في "صحيحه" (12/الإحسان)، ثلاثتهم من طريق عبد الرحمن بن أبي عوف الجُرَشي، عن المقدام، به. وسنده صحيح. وأخرجه الإمام أحمد أيضاً (4/ 132 رقم 17194)، والدارمي (1/ 144)، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 109)، جميعهم من طريق معاوية بن صالح، عن الحسن بن جابر، عن المقدام بن معدي كرب، به نحو سابقه، وزاد: "ألا وإن ما حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما حرّم الله". قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم. (¬1) في (خ) و (م): "لاحق". (¬2) في (خ) و (م): "بتحكم". (¬3) في (خ) و (م): "عمر". (¬4) قوله: "فيه" ليس في (غ) و (ر). (¬5) قوله: "أموات غير أحياء" ليس في (غ). (¬6) حكاية عمر بن النضر مع عمرو بن عبيد: أخرجها ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص93)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 284)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 98 ـ 99)، ثلاثتهم من طريق يحيى بن حميد الطويل، عن عمر بن النضر، فذكر القصة. كذا وقع هنا وعند ابن عدي في "الكامل": عمر بن النضر. وعند ابن قتيبة: "عمرو بن النضر". وفي "الضعفاء" للعقيلي: "يحيى بن النضر"، وهو تصحيف فيما يظهر. وقد علق الذهبي في "الميزان" (3/ 274) القصة عن يحيى بن حميد، عن عمرو بن النضر، كذا سماه. ولم أجد من ترجم لعمر بن النضر، وأما عمرو بن النضر ففي "لسان الميزان" (5/ 366) ترجمة لعمرو بن النضر الذي يروي عن إسماعيل بن أبي خالد، وهو مجهول.

يَوْمًا، قَالَ: فَقَالَ عَمْرُو (¬1) بْنُ عُبَيْدٍ: أَلا تسمعون؟ ما كلام الحسن وابن سيرين عند ما تسمعون إلا خِرْقَةُ حَيْضَةٍ مُلقاة. وكان وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الِاعْتِزَالِ، فَدَخَلَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ عَمْرُو (1) بْنُ عُبَيْدٍ فأُعجب بِهِ، فَزَوَّجَهُ أُخته، وَقَالَ لَهَا (¬2): زَوَّجْتُكِ بِرَجُلٍ مَا يَصْلُحُ إِلا أَن يَكُونَ خَلِيفَةً (¬3). ثُمَّ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ حَتَّى رَدُّوا الْقُرْآنَ بِالتَّلْوِيحِ وَالتَّصْرِيحِ لرأْيهم السُّوءِ. فَحَكَى عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: أَنه سَمِعَ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ؛ أَنه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَمْرِو (¬4) بْنِ عُبَيْدٍ ـ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى دُكَّانِ عُثْمَانَ الطَّوِيلِ ـ، فأَتاه رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبا عُثْمَانَ! مَا سَمِعْتُ مِنَ الْحَسَنِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (¬5)؟ قَالَ: تُرِيدُ أَنْ (¬6) أُخْبِرَكَ برأْيٍ حَسَنٍ؟ قَالَ: لَا أُريد إِلا مَا سَمِعْتَ مِنَ الْحَسَنِ. قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَى قَوْمٍ الْقَتْلَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا قَتْلًا، وَكَتَبَ عَلَى قَوْمٍ الْهَدْمَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا هَدْمًا، وَكَتَبَ عَلَى قَوْمٍ الْغَرَقَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا غَرَقًا، وَكَتَبَ عَلَى قَوْمٍ الْحَرِيقَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا حَرْقًا. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ الطَّوِيلُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ! لَيْسَ هَذَا قَوْلَنَا. قَالَ عَمْرٌو (¬7): قد قلت: أتريد (¬8) أن أخبرك (¬9) برأي الحسن (¬10)، فأبى، ¬

(¬1) في (خ) و (م) "عمر". (¬2) قوله: "لها" من (خ) فقط. (¬3) في (م): "ما يصلح أن يكون إلا خليفة". وقول ابن علية هذا: أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 285)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 103)، كلاهما من طريق مؤمل بن هشام، عن إسماعيل بن علية، به. ومن قوله: "وكان وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الاعتزال ... " إلى آخره هو من قول إسماعيل، وسنده صحيح، وأما احتقار عمرو بن عبيد للحسن وابن سيرين، فهو من رواية إسماعيل، عن اليسع بن قيس أبي مسعدة ولم أجد من وثقه. (¬4) في (خ) و (م): "عمر". (¬5) الآية (154) من سورة آل عمران. (¬6) قوله: "أن" ليس في (خ). (¬7) في (خ) و (م) "عمر". (¬8) في (خ) و (م): "أريد". (¬9) في (م): "أخبر". (¬10) كذا في جميع النسخ و"الكامل" لابن عدي الذي نقلت منه هذه الحكاية ـ كما سيأتي ـ، وحق العبارة أن يقال: "برأي حسن".

أفأكذب (¬1) عَلَى الْحَسَنِ (¬2)؟ وَعَنِ الأَثرم، عَنْ أَحمد بْنِ حَنْبَلٍ؛ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ؛ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَمْرِو (2) بْنِ عُبَيْدٍ، فجاءَه عُثْمَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَقَالَ: يَا أَبا عُثْمَانَ! سَمِعْتُ ـ وَاللَّهِ ـ بِالْكُفْرِ! قَالَ: مَا هُوَ؟ لَا تَعْجَلْ بِالْكُفْرِ؛ قَالَ: هَاشِمٌ الأَوقص زَعَمَ أَنَّ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *} (¬3)، وَقَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *} (¬4): لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي أُم الْكِتَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {حم *وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ *إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ *} (¬5)، فَمَا الْكُفْرُ إِلَّا هَذَا؟ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ تَكَلَّمَ فَقَالَ: وَاللَّهِ! لَوْ كَانَ الأَمر كَمَا تَقُولُ مَا كَانَ عَلَى أَبِي لَهَبٍ مِنْ لَوْمٍ، وَلَا كَانَ عَلَى الْوَحِيدِ مِنْ لَوْمٍ. قَالَ عُثْمَانُ ـ فِي مَجْلِسِهِ ـ: هَذَا وَاللَّهِ الدِّينُ. قَالَ مُعَاذٌ: ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَذَكَرْتُهُ لِوَكِيعٍ، فَقَالَ: يُسْتَتَابُ قَائِلُهَا فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا ضربت عنقه (¬6). ¬

(¬1) في (خ): "فأنا أكذب"، وفي (م): "فأبى أكذب"، والمثبت من (غ) و (ر). (¬2) حكاية عمرو بن علي عمن يثق به، عن عمرو بن عبيد: علّقها ابن عدي في "الكامل" (5/ 102) عن عمرو بن علي. وسندها ضعيف لجهالة من حدّث عمرو بن علي بها. (¬3) سورة المسد: الآية (1). (¬4) سورة المدثر: الآية (11). (¬5) سورة الزخرف الآيات: (1 ـ 4). (¬6) أخرج هذه القصة ابن عدي في "الكامل" (5/ 104 ـ 105) من طريق إسحاق، عن الأثرم، فذكرها بتمامها إلى قوله: "هذا والله الدين"، ونسب عثمان، فقال: "عثمان بن خاش، وهو أخو السميري"، ثم قال ابن عدي: "وحكى عمرو بن علي، عن مُعَاذٌ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: "فَذَكَرْتُهُ لِوَكِيعٍ؛ قال: يُسْتَتَابُ قَائِلُهَا، فَإِنْ تابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ". ومعاذ هو ابن معاذ العنبري. وسند القصة صحيح، عدا قول وكيع، فإن ابن عدي علقه عن عمرو بن علي، عن معاذ، ولم يسنده، وأسنده الخطيب البغدادي في "تاريخه" (12/ 172) بسند صحيح. وأخرج القصة من طريق معاذ دون قول وكيع: الفسوي في "تاريخه" (2/ 262)، والنسائي في "الكنى" ـ كما في "لسان الميزان" (5/ 136) ـ، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 284 ـ 285)، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (4/ 813 رقم 1369 و1370)، والخطيب في "تاريخه" (12/ 170 ـ 171).

وَمِثْلُ هَذَا مَحْكِيّ، لَكِنْ (¬1) عَنْ (¬2) بَعْضِ الْمَرْمُوقِينَ من أئمة الحديث (¬3). فروي عن عليّ بن المديني (¬4)، عن مُؤَمَّل، عن الحسن بن وهب الجُمَحِي؛ قال: كان الذي (¬5) بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ (¬6) خَاصٌّ، فَانْطَلَقَ بأَهله إِلَى بِئْرِ مَيْمُونٍ، فَأَرْسَلَ إليَّ: أَن ائْتِنِي، فأَتيته عَشِيَّةً فبِتُّ عِنْدَهُ. قَالَ: فَهُوَ فِي فُسْطَاط وَأَنَا فِي فُسْطَاطٍ آخَرَ، فَجَعَلْتُ أَسْمَعُ صَوْتَهُ اللَّيْلَ كُلَّهُ كأَنه دَوِيّ النَّحْل. قَالَ: فَلَمَّا أَصبحنا جاءَ بِغَدَائِهِ فتغدَّينا. قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ (¬7) مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الإِخاء وَالْحَقِّ. قَالَ (¬8): فَقَالَ لِي: أَدعوك إِلَى رأْي الْحَسَنِ (¬9). قَالَ: وَفَتَحَ لِي شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ. قَالَ: فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ فَمَا كَلَّمْتُهُ بِكَلِمَةٍ حَتَّى لَقِيَ الله. قال: فإني (¬10) يوماً خارج من الطَّوَافِ (¬11) وَهُوَ دَاخِلٌ ـ أَوْ أَنا (¬12) دَاخِلٌ وَهُوَ خارج ـ، فأَخذ بيدي فقال: يا أَبا عمرو! (¬13) حَتَّى مَتَى؟ حَتَّى مَتَى؟ قَالَ (¬14): فَلَمْ أكلِّمْه، فقال (¬15) لِي (¬16): أَرأَيت لَوْ أَن رَجُلًا قَالَ: إِنَّ (¬17) {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، ما كنت قائلاً (¬18) لَهُ؟ قَالَ (¬19): فَنَزَعْتُ يَدِي مِنْ يَدِهِ. قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ مُؤَمَّلٌ: فَحَدَّثْتُ بِهِ سُفْيَانَ بْنَ عيينة، فقال (¬20): ما ¬

(¬1) قوله: "لكن" ليس في (ر) و (غ). (¬2) قوله: "عن" ليس في (م). (¬3) يعني: عبد الله بن أبي نجيح. (¬4) في (خ): "المدائني"، وفي (م): "المذنبي"، وفي (غ): "المدني". (¬5) في (خ) و (م): "الذي كان". (¬6) لم يفصح المصنف باسمه، وفي الموضع الآتي من "الضعفاء" للعقيلي: "ابن نجيح"، وصوابه: "ابن أبي نجيح". (¬7) في (خ): "قال: وذكر". (¬8) قوله: "قال" ليس في (غ) و (ر). (¬9) كذا في جميع النسخ والموضع الآتي من "الضعفاء" للعقيلي الذي نقل عنه المصنف. (¬10) في (خ) و (م): "فأنا". (¬11) في (خ) و (م): "خارج من الطريق في الطواف". (¬12) في (غ) و (ر): "وأنا". (¬13) في (خ): "يا أبا عمر". (¬14) قوله: "قال" ليس في (غ). (¬15) في (غ) و (ر) و (م): "قال". (¬16) في (خ) و (م): "مالي". (¬17) قوله: "إن" ليس في (خ). (¬18) في (خ): "تقول". (¬19) في (م): "قال قال". (¬20) في (غ) و (ر): "قال".

كنت (¬1) أرى بلغ (¬2) هذا كله (¬3). قال عليّ: وسمعت [أبا] (¬4) أحمد (¬5) ـ[يعني الزبيري] (¬6) ـ؛ قال: حدثني أَنَا (¬7) سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ مُعَلَّى الطّحَّان بِبَعْضِ حَدِيثِهِ (¬8)، فَقَالَ: مَا أَحوج صَاحِبَ (¬9) هَذَا (¬10) إِلَى أَنْ يُقْتَلَ؟ (¬11). فَانْظُرُوا إِلَى تَجَاسُرِهِمْ عَلَى كتاب الله تعالى وسنة نبيه (ص)! كُلُّ ذَلِكَ تَرْجِيحٌ لِمَذَاهِبِهِمْ عَلَى مَحْض الْحَقِّ، وأَقربهم إلى هيئة (¬12) الشريعة من يتطلّب لها المخرج، فيتأَوّل لها (¬13) الواضحات، ويتبع المتشابهات، ¬

(¬1) في (خ) و (م): "فقال لي كنت". (¬2) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولعل أصله: "ما كنت أرى أنه بلغ" إلخ. اهـ. (¬3) سند هذه القصة ضعيف، فشيخ علي بن المديني هو مُؤَمَّل بن إسماعيل البصري، وهو صدوق، لكنه سيء الحفظ كما في "التقريب" (7078). والراوي للقصة الحسن بن وهب الجمحي، قاضي مكة، مترجم في "الجرح والتعديل" (3/ 39 رقم 170)، ولم أجد من وثقه. وأخرج هذه القصة العقيلي في "الضعفاء" (2/ 317 ـ 318)، وعنه أخذ المصنف. (¬4) في (غ) و (ر): "أنا". (¬5) في (خ): "وسمعته أنا وأحمد بن" وفي (م): "وسمعته أنا أحمد بن"، وعلق رشيد رضا هنا بقوله: "بياض في الأصل". (¬6) ما بين المعقوفين سقط من (ر)، و (غ)، وفي موضعه بياض في (خ) و (م)، فأثبته من مصادر التخريج. (¬7) في (م): "أبان". (¬8) أي: ببعض حديث ابن أبي نجيح كما في مصادر التخريج. (¬9) قوله: "صاحب" ليس في (غ) و (ر). (¬10) في (خ): "هذا الرأي"، وفي (م): "هذا الران"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الموافق لما في مصادر التخريج. (¬11) قول سفيان هذا أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (4/ 214 ـ 215)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/ 48 ـ 49) و (8/ 331)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 372). وسنده إلى سفيان صحيح، لكن العمدة في هذا النقل على مُعَلّى الطّحّان، وهو متّهم، فلا يليق الاعتماد في هذا والذي قبله ـ قصة الحسن بن وهب ـ على ما لم يثبت عن ابن أبي نجيح الذي تحرّج المصنف من الإفصاح عن اسمه، فإن ثبت مثله من طرق غير هذه فطريقة أهل العلم معروفة فيمن تلبّس ببدعة وهو متأوِّل، مع كونه ثقة في حديثه، فيقبلون حديثه، ويردّون عليه بدعته، وأمره إلى الله. (¬12) في (خ) و (م): "هيبة". (¬13) قوله: "لها" ليس في (غ) و (ر).

وسيأْتي. وَالْجَمِيعُ دَاخِلُونَ تَحْتَ ذَمِّهَا. وَرُبَّمَا احْتَجَّ طائفة من نابغة الْمُبْتَدَعَةِ عَلَى رَدِّ الأَحاديث بأَنها إِنما تُفِيدُ الظَّنَّ (¬1)، وَقَدْ ذُمّ الظنُّ فِي الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} (¬2)، وَقَالَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬3)، وَمَا جاءَ فِي مَعْنَاهُ، حَتَّى أَحَلُّوا أَشياءَ مِمَّا حَرَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ تَحْرِيمُهَا فِي القرآن نصاً، وإنما قصدوا بذلك (¬4) أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ مِنْ أَنظار عُقُولِهِمْ مَا استحسنوا. والظن المراد في الآيات (¬5) وَفِي الْحَدِيثِ (¬6) أَيْضًا غَيْرُ مَا زَعَمُوا، وَقَدْ وجدنا له (¬7) محامل (¬8) ثلاثة: أحدها: أنه (¬9) الظَّنُّ فِي أُصول الدِّينِ، فَإِنَّهُ لَا يُغْنِي عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ لِاحْتِمَالِهِ النَّقِيضَ عِنْدَ الظَّانِّ، بِخِلَافِ الظَّنِّ فِي الْفُرُوعِ فَإِنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَ أهل الشريعة للدليل الدالّ على إعماله، فكأنّ الظن مذموم (¬10)، إِلَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْفُرُوعِ مِنْهُ (¬11)، وَهَذَا صَحِيحٌ ذكره العلماءُ في الْمَوْضِعِ (¬12). وَالثَّانِي: أَنَّ الظَّنَّ هُنَا هُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مرجِّح، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَذْمُومٌ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مِنَ التحكُّم، وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ فِي الْآيَةِ بِهَوَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ}، فَكَأَنَّهُمْ مَالُوا إِلَى أَمْرٍ بِمُجَرَّدِ (¬13) الْغَرَضِ وَالْهَوَى، لَا بِاتِّبَاعِ الْهُدَى الْمُنَبِّهِ ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "ظنا". (¬2) سورة النجم: الآية (23). (¬3) سورة النجم: الآية (28). (¬4) في (خ): "من ذلك". (¬5) في (خ) و (م): "الآية". (¬6) يعني حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إيّاكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث .... " إلخ. أخرجه البخاري في "صحيحه" (5143 و6064 و6066 و6724)، ومسلم (2563). (¬7) قوله: "له" ليس في (غ) و (ر). (¬8) في (خ) و (م) "محال". (¬9) قوله: "أنه" ليس في (خ) و (م). (¬10) في (خ): "مذموماً". (¬11) في (خ): "منه بالفروع". (¬12) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولعل الأصل: "في هذا الموضع". (¬13) في (ر) و (غ): "مجرد".

عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (¬1)، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ ذَمَّهُ (¬2)، بِخِلَافِ الظَّنِّ الَّذِي أَثَارَهُ دَلِيلٌ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَذْمُومٍ فِي الْجُمْلَةِ؛ لأَنه خَارِجٌ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَلِذَلِكَ أُثبت وعُمل بِمُقْتَضَاهُ حَيْثُ يَلِيقُ الْعَمَلُ بِمِثْلِهِ؛ كَالْفُرُوعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الظَّنَّ عَلَى ضَرْبَيْنِ: 1 ـ ظَنٌّ يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ، وَهَذِهِ (¬3) هِيَ الظُّنُونُ الْمَعْمُولُ بِهَا في الشريعة أينما وقعت؛ لأنها إذا (¬4) اسْتَنَدَتْ إِلَى أَصل مَعْلُومٍ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ المعلوم، ومن جِنْسُهُ (¬5). 2 ـ وَظَنٌّ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى قَطْعِيٍّ، بَلْ إِمَّا مُسْتَنِدٌ إِلَى غَيْرِ شيءٍ (¬6) أَصْلًا، وَهُوَ مَذْمُومٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ، وَإِمَّا مُسْتَنِدٌ إِلَى ظَنٍّ مثله، فذلك الظَّنُّ إِنِ اسْتَنَدَ أَيضاً إِلَى قَطْعِيٍّ، فكالأَول، أَو إِلى ظَنِيٍّ (¬7)، رَجَعْنَا إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى قَطْعِيٍّ، وَهُوَ مَحْمُودٌ، أَو إِلى غَيْرِ شيءٍ، وَهُوَ مَذْمُومٌ. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: كُلُّ خَبَرِ واحدٍ صَحَّ سَنَدُهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِنَادِهِ إِلَى أَصل فِي الشَّرِيعَةِ قَطْعِيٍّ، فَيَجِبُ قَبُولُهُ، وَمِنْ هُنَا قَبِلْنَاهُ مُطْلَقًا (¬8)، كَمَا أَنَّ ظُنُونَ الْكُفَّارِ غَيْرُ مُسْتَنِدَةٍ إِلَى شيءٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا وَعَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ الأَخير مُسْتَمَدٌّ مَنْ أَصلٍ وَقَعَ بَسْطُهُ فِي كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (¬9) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَلَقَدْ بالغ بعض الغالين (¬10) فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ، وَرَدِّ قَوْلِ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا فِيهَا (¬11)، حَتَّى عَدُّوا الْقَوْلَ بِهِ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ، وَالْقَائِلَ بِهِ مَعْدُودًا (¬12) فِي الْمَجَانِينِ. ¬

(¬1) من قوله: "لا باتباع الهدى" إلى هنا سقط من (خ). (¬2) قوله: "ولذلك أثبت ذمه" ليس في (غ) و (ر)، وقوله: "ذمه" ليس في (م). (¬3) في (م): "وهذا". (¬4) قوله: "إذا" ليس في (خ) و (م). (¬5) في (خ): "وجنسه". (¬6) في (غ) و (ر): "إما غير مستند إلى شيء". (¬7) في (م): "ظن". (¬8) مقولة المصنف هنا سرت إليه بسبب تأثره بالأشاعرة وعلم الكلام، وسيأتي له مقولة شبيهة بها (ص238)، فانظر تعليقي عليها هناك إن شئت. (¬9) انظر: "الموافقات" (3/ 184 وما بعدها). (¬10) في (غ): "القائلين" وفي (خ) و (م): "الضالين". (¬11) في (م): "من فيها". (¬12) في (خ) و (م): "معدود".

فحكى أبو بكر (¬1) ابن الْعَرَبِيِّ (¬2) عَنْ بَعْضِ مَنْ لَقِيَ بِالْمَشْرِقِ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِلرُّؤْيَةِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ بإِثبات رُؤْيَةِ الْبَارِي أَم لَا؟ فَقَالَ (¬3): لَا! لأَنه قَالَ بِمَا (¬4) لَا يَعْقِلُ، ومن قال بما لا يعقل فلا (¬5) يَكْفُرُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَهَذِهِ مَنْزِلَتُنَا عِنْدَهُمْ، فليعتبر الموفَّق فيما يُؤَدِّي إِلَيْهِ اتِّبَاعُ الْهَوَى، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. وَزَلَّ بَعْضُ الْمَرْمُوقِينَ فِي زَمَانِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَزَعَمَ أَن خَبَرَ الْوَاحِدِ زعم كله (¬6)، بعد ما حكى الأَثر (¬7): "بئس مطية الرجل زعموا" (¬8)، ¬

(¬1) قوله: "أبو بكر" من (خ) فقط. (¬2) في "العواصم" (ص33 ـ 34). (¬3) في (غ) و (م) و (ر): "قال". (¬4) في (ر) و (غ): "ما". (¬5) في (خ): "لا". (¬6) في (خ): "كله زعم". (¬7) في (خ): "وهو ما حكي في الأثر". (¬8) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (377)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 119) و (5/ 401)، والبخاري في "الأدب المفرد" (762)، وأبو داود في "سننه" (4933)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (186)، جميعهم من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي مسعود الأنصاري؛ قال: قيل له: ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في زعموا؟ قال: "بئس مطية الرجل". وعند بعضهم: "عن أبي قلابة قال: قال أبو عبد الله لأبي مسعود، أو قال أبو مسعود لأبي عبد الله". وفي رواية أحمد سمى أبا عبد الله هذا، فقال: "يعني حذيفة". وقال أبو داود عقب روايته: "أبو عبد الله: حذيفة". وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1335) من طريق الأوزاعي، ثم قال: "أظن أبا عبد الله المذكور في هذا الحديث: حذيفة بن اليمان؛ لأنه كان مع أبي مسعود بالكوفة، وكانوا يتجالسون ويسأل بعضهم بعضاً، وكنية حذيفة: أبو عبد الله". وقد أعلّ الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 551) هذه الرواية، واستظهر من طريقة البخاري إعلاله للحديث أيضاً؛ فإن البخاري بوّب بقوله: "باب ما جاء في زعموا"، ثم أخرج برقم (6158) حديث أم هانئ بنت أبي طالب في قولها للنبي صلّى الله عليه وسلّم: "زعم ابن أمي أنه قاتلٌ رجلاً قد أجرته: فلان بن هبيرة"، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ! ". فذكر ابن حجر ـ في شرحه لهذا الحديث ـ حديث أبي مسعود، ثم قال: "أخرجه أحمد وأبو داود، ورجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعاً. وكأن البخاري أشار إلى ضعف هذا الحديث بإخراجه حديث أم هانئ وفيه قولها: "زعم ابن أمي"، فإن أم=

والأَثر الْآخَرُ: "إِياكم وَالظَّنَّ! فَإِنَّ الظَّنَّ أَكذب الْحَدِيثِ" (¬1)، وَهَذِهِ مِنْ كَلَامِ هَذَا المتأَخر وَهْلَة (¬2)، عفا الله عنه. ¬

=هانئ أطلقت ذلك في حق علي ولم ينكر عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم". ومقصود ابن حجر بالانقطاع: أي بين أبي قلابة وأبي مسعود وحذيفة، فإنه لم يسمع منهما. وقد أوضح ذلك ابن عساكر في: "الأطراف" ـ كما في "تحفة الأشراف" (3/ 45)، فقال ـ عقب الحديث ـ: "لم يسمع منهما أبو قلابة". ويشكل على هذا الإعلال: رواية الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (185)، والحسن بن سفيان في "مسنده" ـ كما في "النكت الظراف" (3/ 45 ـ 46) ـ للحديث من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، وفيها يقول أبو قلابة: "حدثني أبو عبد الله؛ قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم". وقد اعتمد ابن حجر على هذه الرواية في نفي كون أبي عبد الله هذا هو حذيفة، فقال في "النكت": "وفي تفسير "أبي عبد الله" في هذا الحديث بأنه حذيفة نظر؛ لأن الوليد بن مسلم روى هذا الحديث ... "، ثم ذكره، ثم قال: "فعلى هذا فأبو عبد الله آخر غير حذيفة؛ لأن أبا قلابة ما أدرك حذيفة". وقال في "التهذيب" (4/ 548 ـ 549): "وأبو قلابة لم يسمع من حذيفة، فالظاهر أنه غيره". لكن صنيعه هنا ينافي إعلاله له في "فتح الباري" بالانقطاع، بل قال في "الإصابة" (11/ 241 ـ 242) عن رواية الحسن بن سفيان في "مسنده" من طريق الوليد: "وسنده صحيح متصل أُمن فيه من تدليس الوليد وتسويته ... "، ثم ذكر قول أبي داود: "أبو عبد الله هذا هو حذيفة بن اليمان"، ثم تعقبه بقوله: "كذا قال! وفيه نظر؛ لأن أبا قلابة لم يدرك حذيفة، وقد صرّح في رواية الوليد بأن أبا عبد الله حدثه، والوليد أعرف بحديث الأوزاعي من وكيع". قلت: هذا لو كان المخالف للوليد وكيعاً فقط، أما وقد تابعه أئمة حفاظ؛ كابن المبارك، وروايته في كتاب "الزهد"، وكأبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وروايته عند البخاري في "الأدب المفرد" والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، فإن رواية الوليد تُعَدّ شاذة؛ لمخالفته ثلاثة من الأئمة الحفاظ، وعليه فالراجح ضعف هذا الحديث للانقطاع بين أبي قلابة وبين حذيفة وأبي مسعود، والله أعلم. (¬1) تقدم تخريجه (ص43). (¬2) في (غ) و (ر): "ونقله"، وعلق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "زلَّة".اهـ.

فصل

فَصْلٌ وَمِنْهَا تَخَرُّصُهُم عَلَى الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْعَرَبِيَّيْنِ، مَعَ العرْوِ (¬1) عَنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ الذي به يفهم (¬2) عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَفْتَاتُونَ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِمَا فَهِمُوا، وَيَدِينُونَ بِهِ، وَيُخَالِفُونَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وإنما دخلوا في ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بأَنفسهم، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنهم مِنْ أَهل الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، كَمَا حُكي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنه سُئِلَ عَنْ قول الله تعالى: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} (¬3)، فَقَالَ: هُوَ هَذَا الصَّرْصَرُ؛ يَعْنِي صَرَّار اللَّيْلِ (¬4)، وَعَنِ النَّظَّام أَنه كَانَ يَقُولُ: إِذَا آلَى المرءُ (¬5) بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُوْلِياً. قَالَ: لأَن الإِيلاء مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ اللَّهِ (¬6). وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (¬7): إنه أُتْخِمَ من أكل الشَّجْرَةِ (¬8)، يَذْهَبُونَ إِلَى قَوْلِ الْعَرَبِ: "غَوِيَ الْفَصِيلُ": إِذَا أَكْثَرَ مِنَ اللَّبَنِ حَتَّى بَشِمَ (¬9)، وَلَا يُقَالُ فِيهِ غَوَى وَإِنَّمَا غَوَى مِنَ الغَيّ (¬10). ¬

(¬1) في (غ): "العدول". (¬2) في (خ): "يفهم به". (¬3) سورة آل عمران: الآية (117). (¬4) ذكر هذه الرواية ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص12) نقلاً عن الطاعنين على أصحاب الحديث. (¬5) قوله: "المرء" ليس في (غ) و (م) و (ر). (¬6) ذكر قول النظام هذا ابن قتيبة في المرجع السابق (ص22). (¬7) سورة طه: الآية (121). (¬8) في (خ): "لكثرة أكله من الشجرة"، وفي (م): "أتخم من الشجرة". (¬9) في (غ) و (ر): "يبشم". وقد حكى هذا القول ابن قتيبة أيضاً (ص73). (¬10) علق رشيد رضا هنا بقوله: يعني أن مصدر: "غوى الرجل": الغي، ومثله الغواية،=

وفي قوله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} (¬1): أَيْ أَلقينا فِيهَا، كأَنه عِنْدَهُمْ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: "ذَرَّتُهُ الرِّيحُ" وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لأَنَّ (¬2) ذرأْنا مهموز، وذرته غير مهموز، وكذلك لا يكون (¬3) من "أَذْرَتْهُ الدابة عن ظهرها"؛ لعدم الهمز (¬4)، وَلَكِنَّهُ رُبَاعِيٌّ، وذرأْنا ثُلَاثِيٌّ. وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةِ (¬5) عَنْ بِشْر الْمِرِّيْسِي أَنه كَانَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ (¬6): قَضَى اللَّهُ لَكُمُ الْحَوَائِجَ عَلَى أَحسن الْوُجُوهِ وأهيؤُها (¬7)، فَسَمِعَ قَاسِمٌ التَّمَّار قَوْمًا يَضْحَكُونَ، فَقَالَ: هَذَا كما قال الشاعر: إِنَّ سُلَيْمَى واللهُ يَكْلَؤُها ... ضَنَّت بشيءٍ ما كان يَرْزَؤُها وَبِشْرٌ المِرِّيسي (¬8) رَأْسٌ فِي الرأْي، وَقَاسِمٌ التَّمَّار رأْس فِي أَصْحَابِ الْكَلَامِ (¬9). قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ (¬10): وَاحْتِجَاجُهُ لِبِشْرٍ (¬11) أَعْجَبُ مِنْ لَحْنِ بِشْرٍ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى تَحْلِيلِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} (¬12)، فَاقْتَصَرَ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّحْمِ دُونَ غَيْرِهِ (¬13)، فَدَلَّ عَلَى أَنه حَلَالٌ. وَرُبَّمَا سلَّم بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَا قَالُوا، وَزَعَمَ أَن الشَّحْمَ إِنما حَرُمَ بالإِجماع، والأَمر أَيسر مِنْ ذَلِكَ، فإِن اللَّحْمَ يُطلق (¬14) على الشحم وغيره ¬

=وهي بالفتح مصدر "غِوَى" كرِضى، وأما مصدر "غَوِيَ الفصيل"، فهو الغَوَى. اهـ. (¬1) الآية (179) من سورة الأعراف. (¬2) في (م): "لأنا". (¬3) في (خ): "وكذلك إذا كان"، وفي (م): "وكذلك يكون". (¬4) حكاه أيضاً ابن قتيبة (ص73 ـ 74). (¬5) في (خ) و (م): "ابن تيمية"، والمثبت من (غ)، وهو الصواب؛ فهذه الحكاية في "تأويل مختلف الحديث" (ص87). (¬6) في (خ): "لجسائه". (¬7) في (غ) و (ر): "أهيئها"، وهو الصواب لغة، لكن الحكاية سيقت لإثبات لحن بشر. (¬8) قوله: "المريسي" سقط من (ر). (¬9) في (خ): "في علم الكلام". (¬10) في الموضع السابق. (¬11) في (خ): "ببشر". (¬12) سورة البقرة: آية (173)، وسورة المائدة: آية (3)، وسورة النحل: آية (115). (¬13) ذكر هذا ابن قتيبة أيضاً (ص66). (¬14) في (غ) و (ر): "ينطلق".

حَقِيقَةً، حَتَّى إِذَا خُصّ بِالذِّكْرِ قِيلَ: شَحْمٌ؛ كما قيل (¬1): عِرْق، وعَصَب، وجلد. ولوكان عَلَى مَا قَالُوا؛ لَزِمَ أَن لَا يَكُونُ العِرْق ولا العصب (¬2) وَلَا الْجِلْدُ وَلَا المُخّ وَلَا النُّخَاع وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا خُصَّ بِالِاسْمِ مُحَرَّمًا، وَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَفِيِّ هَذَا الْبَابِ: مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ في زعمهم أنه (¬3) لا تحكيم للرجال (¬4)؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (¬5)، فَإِنَّهُ مَبْنيٌّ عَلَى أَن اللَّفْظَ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ، فَلَا يَلْحَقُهُ تَخْصِيصٌ، فَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬6)، وقوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬7)، وَإِلَّا فَلَوْ عَلِمُوا تَحْقِيقًا قَاعِدَةَ الْعَرَبِ فِي (¬8) أَن الْعُمُومَ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ (¬9)؛ لَمْ يُسْرِعُوا (¬10) إلى الإنكار، ولقالوا في أنفسهم: لَعَلَّ (¬11) هذا العام مخصوص! فيتأَوَّلون. وفي (¬12) الموضع وَجْهٌ آخَرُ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا. وَكَثِيرًا مَا يُوقِعُ (¬13) الْجَهْلُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مخازٍ (¬14) لَا يَرْضَى بِهَا عَاقِلٌ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالْعَمَلِ بِهِ بِفَضْلِهِ. فَمِثْلُ هَذِهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ لا يُعْبَأُ بها، وتسقط مكالمة أصحابها (¬15)، ¬

(¬1) في (خ): "يقال". (¬2) في (خ): "العرق والعصب". (¬3) في (خ): "أن". (¬4) قوله: "للرجال" ليس في (خ) و (م). (¬5) سورة الأنعام: آية (57)، وسورة يوسف: الآيتان (40، 67). (¬6) سورة النساء: آية (35). (¬7) سورة المائدة: آية (95). (¬8) قوله: "في" ليس في (غ) و (ر). (¬9) في (خ): "لم يرد به الخصوص". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! والمعنى المراد: أن من العموم ما يراد به الخصوص. اهـ. (¬10) في (غ) و (ر): "يتسرعوا". (¬11) في (خ): "هل" بدل "لعل". (¬12) في (غ) و (ر): "في". (¬13) في (م): "يقع". (¬14) في (خ) و (م): "مجاز". (¬15) في (خ): "أهلها".

ولا يُعَدُّ خلاف أمثالهم خلافاً. فكلّ (¬1) ما اسْتَدَلُّوا (¬2) عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفُرُوعِيَّةِ أَو الأُصولية فَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ، إِذْ هُوَ (¬3) خُرُوجٌ عَنْ طَرِيقَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى. فَحَقٌّ مَا حُكي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: "إِنَّمَا هَذَا الْقُرْآنُ كلام [الله] (¬4)، فضعوه على (¬5) مواضعه، ولا تتبعوا فيه (¬6) أهواءَكم" (¬7)؛ أَيْ: فَضَعُوهُ عَلَى مَوَاضِعِ الْكَلَامِ، وَلَا تخرجوه عن ¬

(¬1) قوله: "خلافاً فكل" سقط من (خ). وعلق رشيد رضا على قوله: "أمثالهم" بقوله: "أي لا يُعَدّ خلافاً فيذكر في المسائل التي يختلف فيها العلماء لتعارض الأدلة، إذ لا دليل عليه، ولا شبهة دليل؛ لأنه مبني على الغلط والجهل بمدلولات الألفاظ. قال الشاعر: وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر" (¬2) في (خ): "وما استدلوا". (¬3) في (غ) و (ر): "أو هو". (¬4) ما بين المعقوفين من مصادر التخريج. (¬5) قوله: "على" ليس في (خ) و (م). (¬6) في (خ) و (م): "به" بدل "فيه". (¬7) أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في "الزهد" (ص62 رقم 191) من طريق رشدين، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عمر. ورشدين هو ابن سعد، وهو ضعيف كما في "التقريب" (1953). وابن شهاب الزهري لم يدرك عمر رضي الله عنه. وقد أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" (1/ 592 رقم 523) من طريق عبد الله بن وهب، عن يونس، به بلفظ: "القرآن كلام الله". فهذه متابعة لرشدين، فيبقى الأثر ضعيفاً لإرساله. وله طريقان آخران عن عمر رضي الله عنه. الأول: طريق جرير، عن ليث بن أبي سليم، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء عبد الله بن هانئ، عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إن هذا القرآن كلام الله، فلا أعرفنّكم ما عطفتموه على أهوائكم". أخرجه الدارمي في "سننه" (2/ 440 ـ 441)، وعثمان بن سعيد في "الرد على الجهمية" (304)، وعبد الله بن أحمد في "السنة" (117 و118)، والآجري في "الشريعة" (168)، وابن بطة في "الإبانة" (21 الرد على الجهمية)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (521). ورواه ابن بطة برقم (22) بلفظ: "إن هذا القرآن إنما هو كلام الله، فضعوه مواضعه". ومداره على ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وفي "التقريب" (5721): "صدوق اختلط جداً، ولم يتميز حديثه فتُرك". الثاني: طريق أبي عبد الرحمن السلمي؛ قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على منبره: "أيها الناس! إن هذا القرآن كلام الله، فلا أعرفن ما عطفتموه=

ذَلِكَ، فَإِنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ طَرِيقِهِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى. وَعَنْهُ أَيْضًا: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ تأوَّل الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تأْويله، وَرَجُلٌ يُنْفِسُ الْمَالَ عَلَى أَخِيهِ" (¬1). وَعَنِ الْحَسَنِ رضي الله تعالى عنه أَنه قِيلَ لَهُ: أَرَأَيت الرَّجُلَ يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ لِيُقِيمَ بِهَا لِسَانَهُ وَيُقِيمَ بِهَا مَنْطِقَهُ؟ قَالَ: نعم، فليتعلَّمْها، فإِن الرجل ¬

=على أهوائكم ... " إلخ. أخرجه الآجري في "الشريعة" (167)، وابن بطة في "الإبانة" (23/ الرد على الجهمية)، كلاهما من طريق أبي جعفر محمد بن صالح بن ذريح، عن محمد بن عبد الحميد التميمي، عن أبي إسحاق الفزاري، عن الحسن بن عبيد الله النخعي، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، به. وفي سنده محمد بن عبد الحميد التميمي ولم أجد من ترجمه، وكذا قال محقق "الإبانة"، والدكتور الدميجي في تحقيقه لـ"الشريعة" (1/ 490 رقم 155)، وأما الأخ الوليد بن محمد في تحقيقه لـ"الشريعة" الذي صار العزو إليه، فرجّح أنه محمد بن عبد المجيد التميمي المترجم عند الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 392)، وهو ضعيف، ولم يذكر الخطيب أنه يروي عن أبي إسحاق الفزاري، ولا عنه محمد بن صالح بن ذريح، فالله أعلم. (¬1) كذا جاء لفظ هذا الأثر في جميع النسخ. وقد ذكره المؤلف في "الموافقات" (4/ 280) باللفظ نفسه، إلا أنه قال: "ينافس الملك على أخيه". ولفظه في "الموافقات" أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2364) من طريق عمرو بن دينار،؛ قال: قال عمر رضي الله عنه ... ، فذكره. وسنده منقطع، فعمرو بن دينار لم يدرك عمر. وأخرج البزار في "مسنده" (1/ 407 رقم 286) من طريق أبي معشر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، وعن عمر بن عبد الله مولى غُفرة؛ قالا: قدم على أبي بكر مال من البحرين ... ، فذكر حديثاً طويلاً فيه ذكر مقتل عمر، واستخلافه للنفر الستة، وفيه يقول عمر رضي الله عنه: "وإنما أتخوف عليكم أحد رجلين: رجل تأوّل القرآن على غير تأويله فيقاتل عليه، ورجل يرى أنه أحق بالملك من صاحبه فيقاتل عليه". قال البزار: "وهذا الحديث قد روي نحو كلامه عن عمر في صفة مقتله من وجوه، ولا نعلم روي عن زيد بن أسلم عن أبيه بهذا التمام إلا من حديث أبي معشر عن زيد، عن أبيه". وأبو معشر هذا اسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي، وهو ضعيف أسنّ واختلط كما في "التقريب" (7150). وذكر الهيثمي هذا الحديث في "مجمع الزوائد" (5/ 620 ـ 623) وقال: "في الصحيح طرف منه، رواه البزار، وفيه أبو معشر نجيح ضعيف يعتبر بحديثه".

يقرأُ بالآية فَيَعْيَا بوجهها (¬1) فَيَهْلَكُ (¬2). وَعَنْهُ أَيضاً قَالَ: أَهلكتهم (¬3) الْعُجْمَةُ (¬4)، يتأَوَّلون (¬5) القرآن على غير تأْويله (¬6). ¬

(¬1) في (خ): "فيعياه توجيهها". (¬2) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص350)، وسعيد بن منصور في "سننه" (1/ 167 رقم 38)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 260)، ثلاثتهم من طريق حماد بن زيد، عن يحيى بن عتيق؛ قال: قلت للحسن ... ، فذكره. وسنده صحيح كما بينته في تعليقي على "سنن سعيد بن منصور". (¬3) في (خ): "أهلكتكم". (¬4) في (غ) و (ر) و (م): "العجمية". (¬5) في (خ): "تتأولون". (¬6) أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" (ص98 رقم 312) من طريق سليمان بن حرب، وفي "التاريخ" (5/ 93 ـ 94) و (6/ 84) من طريق الحكم بن المبارك، كلاهما عن حماد بن زيد، عن زيد النميري، عن الحسن قال: "أهلكتهم العجمة". كذا وقع في "خلق أفعال العباد": "زيد النميري"، وفي "التاريخ": "عبيدة بن زيد"، وهو اختلاف في اسم هذا الراوي، وهناك من يقول أيضاً: "عبد الله بن زيد النميري"، وهو جد عمر بن شبة. انظر: الخلاف في تسميته في الموضعين السابقين من "تاريخ البخاري"، و"بيان خطأ البخاري" (ص56 رقم 256)، وتعليق الشيخ عبد الرحمن المعلمي عليه، وانظر: "الثقات" لابن حبان (7/ 35). والنميري هذا مجهول الحال لم أجد من وثقه من المعتبرين، فالأثر ضعيف لأجله.

فصل

فَصْلٌ وَمِنْهَا: انْحِرَافُهُمْ عَنِ الأُصول الْوَاضِحَةِ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لِلْعُقُولِ فِيهَا مَوَاقِفُ، وَطَلَبُ الأَخذ بِهَا تأْويلاً كَمَا أَخبر اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ إِشَارَةً إِلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ بِالثَّالُوثِيِّ؛ بِقَوْلِهِ (¬1): {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (¬2). وَقَدْ عَلِمَ العلماءُ أَن كُلَّ دَلِيلٍ فِيهِ اشْتِبَاهٌ وإِشكال لَيْسَ بِدَلِيلٍ فِي الْحَقِيقَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَعْنَاهُ وَيَظْهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ. وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَن لَا يُعَارِضَهُ أَصل قَطْعِيٌّ. فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ مَعْنَاهُ لإِجمال أَو اشْتِرَاكٍ، أَو عَارَضَهُ قَطْعِيٌّ؛ كَظُهُورِ تَشْبِيهٍ، فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ؛ لأنَّ حَقِيقَةَ الدَّلِيلِ أَن يَكُونَ ظَاهِرًا فِي نَفْسِهِ، وَدَالًّا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا احْتِيجَ إِلَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ (¬3)، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ فأَحْرَى أَن لَا يَكُونَ دَلِيلًا (¬4). وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تعارِض الفروعُ الجزئيةُ الأُصولَ الكليةَ؛ لأنَّ الْفُرُوعَ الْجُزْئِيَّةَ إِنْ لَمْ تَقْتَضِ عَمَلًا، فَهِيَ فِي مَحَلِّ التوقُّف، وَإِنِ اقْتَضَتْ عَمَلًا فَالرُّجُوعُ إلى الأُصول هو الصراط المستقيم، وتُتَأوَّلُ (¬5) الجزئيّات حتى ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "فقوله. (¬2) سورة آل عمران: الآية (7). (¬3) قوله: "عليه" ليس في (خ). (¬4) من المعلوم أن لنفاة الصفات مسلكين في النفي، وهما: 1 ـ التأويل. 2 ـ التفويض. وكلام الشاطبي رحمه الله هنا، وفي مواضع عدّة من كتبه يدل على أنه ممن سلك مسلك المفوِّضة الذين يجعلون نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعقل معناه، وقد جمع الشيخ ناصر الفهد ـ وفقه الله ـ شتات كلام الشاطبي في هذا، ورد على شبهته في كتابه "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام" (ص30 ـ 39)، فانظره إن شئت. (¬5) في (م): "ويتأول"، وفي (خ): "ويتناول".

تَرْجِعَ (¬1) إِلَى الكلِّيَّات، فَمَنْ عَكْسَ الأَمر حَاوَلَ شَطَطًا، وَدَخَلَ فِي حُكْمِ الذَّمِّ؛ لأَن مُتَّبِعَ المتشابهات (¬2) مَذْمُومٌ، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِالْمُتَشَابِهَاتِ دَلِيلًا؟ أَوْ يُبْنَى (¬3) عَلَيْهَا حُكْمٌ مِنَ الأَحكام؟ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلِيلًا فِي نَفْسِ الأَمر، فَجَعْلُهَا دَلِيلًا (¬4) بِدْعَةٌ محدثة (¬5). وَمِثَالُهُ فِي مِلَّة الْإِسْلَامِ: مَذَاهِبُ (¬6) الظَّاهِرِيَّةِ فِي إِثبات الْجَوَارِحِ (¬7) لِلرَّبِّ ـ المنزَّه عَنِ النَّقَائِصِ ـ؛ مِنَ العين واليد والرجل والوجه المحسوسات، وَالْجِهَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الثَّابِتِ لِلْمُحْدَثَاتِ (¬8). وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ أَيْضًا: أَن جَمَاعَةً زَعَمُوا أَن الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ تعلُّقاً بِالْمُتَشَابِهِ (¬9)، وَالْمُتَشَابُهُ الَّذِي تعلَّقوا بِهِ على وجهين: عقلي ـ في زعمهم ـ، وسمعي. ¬

(¬1) قوله: "ترجع" ليس في (خ). (¬2) في (خ): "الشبهات". (¬3) في (غ) و (ر): "ويبنى". (¬4) قوله: "دليلاً" ليس في (خ). (¬5) في (خ): "فجعلها بدعة محدثة هو الحق". (¬6) في (خ): "مذهب". (¬7) في (غ): "الجوار"؛ سقطت الحاء. (¬8) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "إن كان يريد بالظاهرية: المجسِّمة المشبِّهة الذين زعموا أن لله تعالى جوارح كأعضاء البشر، فهو مصيب، وإن أراد بهم أهل الأثر الذين أثبتوا له تعالى ما أثبته لنفسه على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ من العلو والصفات المعبَّر عنها بأسماء الجوارح، مع تنزيهه عن مشابهة الخلق فهو مخطئ؛ لأن هؤلاء هم أهل السنة، ومن عداهم المبتدعة؛ لمخالفتهم للسلف. ولا فرق بين أسماء الجوارح وأسماء المعاني؛ كالعلم والكلام، فإن علم الله ليس كعلم البشر، ويده التي أثبتها لنفسه ليست كيد الإنسان أيضاً، وعقيدة التنزيه هي التي تنفي التشبيه".اهـ. ومن الواضح من تتبع كلام الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه هذا وفي "الموافقات" أن مراده هم أهل الأثر الذين أثبتوا صفات الله عز وجل كما يليق بجلاله؛ حيث مشى رحمه الله في هذا الباب على طريقة الأشاعرة. وقد تتبع هذه المواضع الأخ ناصر بن حمد الفهد في رسالة "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام"، وناقشها ببيان الحق الذي أخطأه المؤلف فيها. أما تعليق سليم الهلالي على هذا الموضع بأن مراد الشاطبي هم المشبهة، ثم قوله: "فمن تتبع عقيدة المصنف من سياق كتابه وجد ما يثلج صدره"، فهو كلام من لم يتتبع عقيدة المصنف في سياق كتابه!! (¬9) في (غ) و (ر): "بالمتشابهات".

فَالْعَقْلِيُّ: أَن صِفَةَ الْكَلَامِ مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ، وذات الله تعالى عندهم بريئة من التركيب جملة، وإثبات صفات للذات (¬1) قَوْلٌ بِتَرْكِيبِ الذَّاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لأَنه وَاحِدٌ عَلَى الإِطلاق، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِهِ، كَمَا لَا يَكُونُ قَادِرًا بِقُدْرَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ، أَو عَالِمًا بِعِلْمٍ قَائِمٍ بِهِ، إِلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ. وأَيضاً فَالْكَلَامُ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بأَصوات وَحُرُوفٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، وَالْبَارِي مُنَزَّه عَنْهَا. وَبَعْدَ هَذَا الأَصل يَرْجِعُونَ إِلَى تأْويل قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬2) وأَشباهه. وأَما السَّمْعي (¬3): فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬4)، وَالْقُرْآنُ إِما (¬5) أَن يَكُونَ شَيْئًا، أَو لَا شَيْءَ، وَلَا شَيْءٌ عَدَمٌ، وَالْقُرْآنُ ثَابِتٌ، هَذَا خِلْفٌ. وَإِنْ كَانَ شَيْئًا فَقَدْ شَمِلَتْهُ الْآيَةُ، فَهُوَ إِذًا مَخْلُوقٌ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمَرِيسِيُّ عَلَى عبد العزيز المكِّي رحمه الله تعالى (¬6). وَهَاتَانِ الشُّبْهَتَانِ أَخذٌ فِي التعلُّق بِالْمُتَشَابِهَاتِ، فإِنهم قَاسُوا (¬7) الْبَارِي عَلَى البريَّة، وَلَمْ يَعْقِلُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَتَرَكُوا مَعَانِيَ الْخِطَابِ، وَقَاعِدَةَ الْعُقُولِ. أَما تَرْكُهُمْ لِلْقَاعِدَةِ: فَلَمْ يَنْظُرُوا فِي قَوْلِهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬8)، وهذه الآية نقلية عَقْلِيَّةٌ؛ لأَن الْمُشَابِهَ (¬9) لِلْمَخْلُوقِ فِي وَجْهٍ مَا مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ؛ إِذْ مَا وَجَبَ للشيءِ وَجَبَ لمثله، فكما تكون الآية دليلاً على ¬

(¬1) في (م) و (خ): "الذات". (¬2) سورة النساء: الآية (164). (¬3) في (غ) و (ر): "وإما سمعي". (¬4) سورة الزمر: آية (62). (¬5) في (م): "إما شيء"، وكأنه ضرب على قوله: "شيء". (¬6) انظر: الإشارة إلى هذه المناظرة والكلام حول هذا الاستدلال ورد أهل العلم عليه في "فتح الباري" (13/ 532). (¬7) في (غ) و (ر): "قالوا". (¬8) سورة الشورى: آية (11). (¬9) في (خ): "المتشابه".

المشبِّهة (¬1)، تكون دليلاً على هؤلاء (¬2)؛ لأَنهم عَامَلُوهُ فِي التَّنْزِيهِ مُعَامَلَةَ الْمَخْلُوقِ؛ حَيْثُ توهَّموا أَن اتِّصاف ذَاتِهِ بِالصِّفَاتِ يَقْتَضِي التَّرْكِيبَ فِي الذَّات (¬3). وأَما تَرْكُهُمْ لِمَعَانِي الْخِطَابِ (¬4): فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: "السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"، أو "السميع (¬5) الْعَلِيمُ"، أَو "الْقَدِيرُ" ـ وَمَا أَشبه ذَلِكَ ـ إِلا مَنْ لَهُ سَمْعٌ وَبَصَرٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ اتَّصف بِهَا، فإِخراجها عَنْ (¬6) حَقَائِقِ مَعَانِيهَا الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا خُرُوجٌ عَنْ أُم الْكِتَابِ إِلى اتِّبَاعِ مَا تَشَابَهُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ؛ حيث (¬7) رَدُّوا هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلى الأَحوال الَّتِي هِيَ الْعَالِمِيَّةُ وَالْقَادِرِيَّةُ، فَمَا أَلزموه فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لَازِمٌ لَهُمْ فِي الْعَالِمِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ؛ لأَنها إِما مَوْجُودَةٌ، فَيَلْزَمُ التَّرْكِيبُ، أَو مَعْدُومَةٌ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ. وَأَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ هُوَ الأَصوات وَالْحُرُوفُ، فبناءً على النظر في كلام النفس (¬8)، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الأُصول (¬9). وأَما الشُّبْهَةُ السَّمْعِيَّةُ: فكأَنها عِنْدَهُمْ بالتَّبَعِ؛ لأَن الْعُقُولَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْمُعْتَمِدَةُ (¬10)، وَلَكِنَّهُمْ يُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ الدَّلِيلُ مِثْلُ مَا فرّوا منه؛ لأَن قوله ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "على الشبهة"، وفي (خ): "على نفي الشبه". (¬2) في (خ) و (م): "دليلاً لهؤلاء". (¬3) قوله: "في الذات" ليس في (خ). (¬4) في (غ) و (ر) و (م): "وأما معاني الخطاب". (¬5) في (خ): "والسميع". (¬6) في (غ) و (ر): "على" بدل "عن". (¬7) في (خ): "وحيث". (¬8) في (خ): "على عدم النظر في الكلام النفسي". (¬9) مشى المؤلف رحمه الله هنا على طريقة الأشاعرة في القول بأن كلام الله عز وجل معنى نفسي لا تعدد فيه، وليس بحرف ولا صوت. وذلك منهم فرار من إثبات الحرف والصوت في كلام الله عز وجل لما توهّموه في ذلك من التشبيه. ومعتقد أهل السنة: أن كلام الله عز وجل قديم النوع حادث الآحاد، وأنه يتكلم بصوت، وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء. انظر تفصيل ذلك في: "الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي"، و"فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (5/ 463، 533، 553)، (6/ 632 ـ 639)، و"مختصر الصواعق" لابن القيم (ص500). (¬10) في (خ): "هي العمدة المعتمدة".

تعالى: {اللَّهِ (¬1) خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} إِما أَن يَكُونَ عَلَى عُمُومِهِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ شيءٌ، أَو لَا؟ فَإِنْ كَانَ عَلَى عمومه لزمهم في ذاته وأحوالها التي أثبتوها عوضاً من الصفات، وإن لم يكن عَلَى عُمُومِهِ (¬2)، فَتَخْصِيصُهُ إِمَّا بِغَيْرِ دَلِيلٍ ـ وَهُوَ التحكُّم ـ، وَإِمَّا بِدَلِيلٍ، فأَبرزوه حَتَّى نَنْظُرَ (¬3) فِيهِ، وَيَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الإِرادة إِن رَدُّوا الْكَلَامَ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ الصِّفَاتِ إِنْ أَقرُّوا بِهَا، أَوِ الأَحوال إِن أَنْكَرُوهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ معهم بحسب الوقت. والذي يليق بموضوع المسألة (¬4) أَنواع أُخر مِنَ الأَدلة الَّتِي تَقْتَضِي كَوْنَ هَذَا الْمَذْهَبِ بِدْعَةً لَا يُلَائِمُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ (¬5). ومن أغرب (¬6) ما يوضع ههنا: مَا حَكَاهُ الْمَسْعُودِيُّ (¬7) ـ وَذَكَرَهُ الآجُرِّي فِي كِتَابِ "الشريعة" (¬8) ¬

(¬1) لفظ الجلالة: "الله" ليس في (غ) و (ر). (¬2) من قوله: "لزمهم في ذاته" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬3) في (خ) و (ر) و (غ): "تنظر". (¬4) في (خ): "يليق بالمسألة". (¬5) في (خ): "الشريعة". (¬6) في (غ) و (ر): "ومن أقرب". (¬7) في "مروج الذهب" (4/ 216 ـ 220) بلا إسناد. (¬8) (1/ 239 ـ 244 رقم 216) عن شيخه أبي عبد الله جعفر بن إدريس القزويني، عن أحمد بن الممتنع بن عبد الله القرشي التيمي، عن صالح بن علي، به. وشيخ الآجري جعفر بن إدريس القزويني ضعفه الدارقطني كما في "لسان الميزان" (2/ 312 رقم 1991). ولكنه لم ينفرد بها، بل تابعه أحمد بن سندي الحداد؛ قال: قرئ على أحمد بن الممتنع ـ وأنا أسمع ـ؛ قيل له: أخبركم صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي ... ، فذكرها. أخرج هذه الرواية الخطيب في "تاريخه" (10/ 75 ـ 78)، ومن طريقه ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد" (ص432 ـ 436). وأحمد بن الممتنع الذي عليه مدار هذا الطريق قال عنه الدارقطني: "صالح" كما في "تاريخ بغداد" (5/ 170). وصالح بن علي الهاشمي لم يتبين من حاله سوى ما جاء في رواية الآجري: "وكان من وجوه بني هاشم وأهل الجلالة والشأن منهم". ولما أخرج الخطيب الرواية السابقة قال: "أخبرنا أبو بكر عبد الله بن حمويه بن أبزك=

بِأَبْسَطِ (¬1) مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيُّ، وَاللَّفْظُ هُنَا لِلْمَسْعُودِيِّ مَعَ إِصْلَاحِ بَعْضِ الأَلفاظ ـ؛ قَالَ: ذَكَرَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ قَالَ: حَضَرْتُ يَوْمًا مِنَ الأَيام جُلُوسَ الْمُهْتَدِي لِلْمَظَالِمِ، فرأَيت مِنْ سُهُولَةِ الوصول [إليه] (¬2)، وَنُفُوذِ الْكُتُبِ عَنْهُ إِلَى النَّوَاحِي فِيمَا يُتَظَلَّمُ بِهِ إِلَيْهِ مَا اسْتَحْسَنْتُهُ، فأَقبلت أَرمقه بِبَصَرِي، إِذَا نَظَرَ فِي الْقَصَصِ، فإِذا رَفَعَ طَرْفَهُ إليَّ أَطرقت، فكأَنه عَلِمَ مَا فِي نَفْسِي. فَقَالَ لِي: يَا صَالِحُ! أَحسب أَن فِي نَفْسِكِ شَيْئًا تُحِبُّ أَن تَذْكُرَهُ ـ قَالَ ـ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! فأَمسك. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ جُلُوسِهِ أَمر أَن لَا أَبرح، وَنَهَضَ، فجلست جلوساً طويلاً، ثم دعاني (¬3)، فَقُمْتُ إِليه وَهُوَ عَلَى حَصِيرِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لِي: يَا صَالِحُ! أَتحدثني بِمَا فِي نَفْسِكَ؟ أَم أُحدثك؟ فَقُلْتُ: بَلْ هُوَ مِنْ أَمير المؤمنين أحسن. ¬

=الهمذاني ـ بها ـ؛ قال: سمعت أبا بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي الحافظ ـ وحدثنا بحديث الشيخ الأَذَني ومناظرته مع ابن أبي دؤاد بحضرة الواثق ـ، فقال: الشيخ هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الأَذْرَمي". وأخرج الخطيب أيضاً (4/ 151 ـ 152) هذه القصة من طريق طاهر بن خلف؛ قال: سمعت محمد بن الواثق ـ الذي يقال له: المهتدي بالله ـ يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرنا ذلك المجلس، فأُتي بشيخ مخضوب مقيد ... ، فذكر القصة، ومن طريقه أخرجها ابن الجوزي أيضاً (ص431). وذكر الذهبي في "السير" (10/ 307 ـ 309) القصة من هذا الطريق وطريق عبيد الله بن يحيى، عن إبراهيم بن أسباط، قال: حمل رجل مقيد ... ، فذكرها، ثم قال الذهبي: "في إسنادها مجاهيل، فالله أعلم بصحتها". وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة عبد الله بن محمد بن إسحاق الأَذْرمي من "التهذيب" (2/ 420): "القصة مشهورة حكاها المسعودي وغيره، ورواها الشيرازي في "الألقاب" بإسناد له قال فيه: إن الشيخ المناظر هو الأذرمي هذا. ورواها ابن النجار في ترجمة محمد بن الجهم السامي، فذكر أن الرجل من أهل أذنة، وأنه كان مؤدِّباً بها". (¬1) في (غ) و (ر): "أبسط". (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من "مروج الذهب". (¬3) قوله: "ثم دعاني" ليس في (خ) و (م).

فقال: كأني (¬1) بك وقد استحسنت ما رأيت (¬2) مِنْ مَجْلِسِنَا، فَقُلْتُ: أَيّ خَلِيفَةٍ خَلِيفَتُنَا! إِنْ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ (¬3) بِقَوْلِ أَبِيهِ مِنَ الْقَوْلِ بخلق القرآن. [فقلت: نعم] (¬4). فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ عَلَى ذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، حتى أُقْدِمَ (¬5) عَلَى الْوَاثِقِ (¬6) شَيْخٌ (¬7) مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ من "أَذَنَة" (¬8)؛ من الثَّغْر الشامي، مُقَيَّدٌ طوَالٌ (¬9)، حَسَنَ الشَّيْبة، فسلَّم غيرَ هَائِبٍ، وَدَعَا فأَوجز، فرأَيت الْحَيَاءَ مِنْهُ فِي حَمَالِيق عَيْنَيِ الْوَاثِقِ وَالرَّحْمَةَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: يَا شَيْخُ (¬10)! أَجِبْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحمد بْنَ أَبي دُؤَاد (¬11) عَمَّا يسأَلك عَنْهُ. فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! أَحمد يَصْغُرُ وَيَضْعُفُ وَيَقِلُّ عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ. فَرَأَيْتُ الْوَاثِقَ وقد (¬12) صار مكان الرحمة عليه والرِّقَّة له غَضَبًا (¬13)، فَقَالَ: أَبو عَبْدِ اللَّهِ يَصْغُرُ وَيَضْعُفُ وَيَقِلُّ (¬14) عِنْدَ مُنَاظَرَتِكَ؟ فَقَالَ: هوِّن عَلَيْكَ يَا أَمير المؤمنين! أَتأْذن (¬15) فِي كَلَامِهِ؟ فَقَالَ لَهُ الْوَاثِقُ: قَدْ أَذنت (¬16) لك. فأَقبل الشَّيْخُ عَلَى أَحْمَدَ، فَقَالَ: يَا أَحمد! إِلامَ دَعَوْتَ النَّاسَ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ (¬17) لَهُ الشَّيْخُ: مَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَيْهَا مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ القرآن، أَداخلة في الدين فلا يكون ¬

(¬1) في (خ): "كأنني". (¬2) قوله: "ما رأيت" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (خ): "يقل". (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من "مروج الذهب". (¬5) في (م): "قدم". (¬6) قوله: "على الواثق" ليس في (غ) و (ر). (¬7) في (خ): "شيخاً". (¬8) قوله: "من أذنة" ليس في (غ) و (ر). وأذنة: بلد من الثغور قرب المصِّيصة بنيت سنة (190هـ) في وقت هارون الرشيد. انظر: "معجم البلدان" (1/ 133). (¬9) في (خ): "مقيداً طوالاً". (¬10) في (غ) و (ر): "أيا شيخ". (¬11) في (غ) و (ر) و (م): "داود". (¬12) في (غ) و (ر): "قد". (¬13) في (خ): "الرحمة غضباً عليه". (¬14) في (خ): "يقلل". (¬15) في (خ): "أتأذن لي". (¬16) قوله: "قد أذنت" ليس في (غ). (¬17) في (غ) و (ر): "قال".

الدِّينُ تَامًّا إِلَّا بِالْقَوْلِ بِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الشَّيْخُ: فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا أَم تَرَكَهُمْ؟ قَالَ: تركهم (¬1). قال له: فَعَلِمَها (¬2) أَم لَمْ يَعْلَمْهَا؟ قَالَ: عَلِمَهَا. قَالَ: فَلِمَ دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَى مَا لَمْ يَدْعُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ (¬3) وَتَرَكَهُمْ مِنْهُ؟ فأَمْسَكَ. فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! هَذِهِ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَخبرني يَا أَحمد! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬4) الآية؛ فقلت أنت: إن (¬5) الدِّينُ لَا يَكُونُ تَامًّا إِلَّا بِمَقَالَتِكَ بِخَلْقِ القرآن، فالله عَزَّ وَجَلَّ أَصْدَقُ (¬6) فِي تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ أَمْ أَنت فِي نُقْصَانِكَ (¬7)؟ فأَمسك. فَقَالَ الشَّيْخُ (¬8): يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! وَهَذِهِ ثَانِيَةٌ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَاعَةٍ: أَخبرني يَا أَحْمَدُ! قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {يَا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن ربِّكَ وَإِن لَّم تَفْعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالاَتِهِ} (¬9)، فَمَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَيْهَا فِيمَا بَلَّغَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأُمَّةِ أَمْ لَا؟ فأمْسَكَ. فَقَالَ (¬10) الشَّيْخُ (¬11): يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَهَذِهِ ثَالِثَةٌ. ثُمَّ قَالَ له (¬12) بَعْدَ سَاعَةٍ: أَخبرني يَا أَحمد! لمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَكَ هذه التي دعوت الناس إلى القول بها (¬13): اتَّسع له أَنْ (¬14) أَمسك عَنْهُمْ أَم لَا؟ قَالَ أَحْمَدُ: بَلِ اتَّسَع لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ الشَّيْخُ: وَكَذَلِكَ لأَبي بَكْرٍ؟ وَكَذَلِكَ لِعُمَرَ؟ وَكَذَلِكَ لِعُثْمَانَ؟ وَكَذَلِكَ لَعَلِّيٍّ ـ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ـ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَصَرَفَ وَجْهَهُ إِلَى الْوَاثِقِ وَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! إِذَا لَمْ (¬15) يَتَّسِعْ لَنَا مَا اتَّسع لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم ولأَصحابه فلا وسَّع الله علينا. فقال الْوَاثِقُ: نَعَمْ! لَا وسَّع اللَّهُ عَلَيْنَا إِذَا لم ¬

(¬1) في (خ) و (م) "لا" بدل "تركهم". (¬2) في (خ): "يعلمها". (¬3) قوله: "إليه" ليس في (غ) و (ر) و (م). (¬4) سورة المائدة: الآية (3). (¬5) قوله: "إن" ليس في (خ). (¬6) في (خ): "فالله تعالى عز وجل صدق". (¬7) في (غ) و (ر): "نقصانه". (¬8) قوله: "الشيخ" ليس في (غ) و (ر). (¬9) سورة المائدة: الآية (67). وهكذا جاء في سائر النسخ: "رسالاته"، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي بكر كما في "حجة القراءات" (ص232). وقرأ الباقون: "رسالته". (¬10) في (غ): "وقال". (¬11) قوله: "الشيخ" ليس في (غ) و (م) و (ر). (¬12) قوله: "له" ليس في (خ) و (م). (¬13) في (خ): "دعوت الناس إليها". (¬14) في (خ): "عن أن". (¬15) قوله: "لم" ليس في (غ) و (ر).

يَتَّسِعْ لَنَا مَا اتَّسَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأَصحابه (¬1). ثُمَّ قَالَ الْوَاثِقُ: اقْطَعُوا قُيُودَهُ. فَلَمَّا فُكَّت جَاذَبَ عَلَيْهَا، فَقَالَ الْوَاثِقُ: دَعُوهُ! ثُمَّ قَالَ: يَا شَيْخُ! لِمَ جَاذَبْتَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: لأَني عَقَدْتُ فِي نيَّتي أَنْ أُجاذب عَلَيْهَا، فَإِذَا أَخَذْتُهَا أَوصيت أَن تُجعل بين بدني وكفني حتى (¬2) أقول: يا رب! سل عبدك: لم قيَّدني ظلماً وأراع (¬3) فيَّ أَهلي؟ فبكى الواثق، وبكى (¬4) الشيخ، وبكى (4) كل مَنْ حَضَرَ (¬5). ثُمَّ قَالَ لَهُ الْوَاثِقُ: يَا شَيْخُ! اجْعَلْنِي فِي حلٍّ، فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! مَا خَرَجْتُ مِنْ مَنْزِلِي حَتَّى جَعَلْتُكَ فِي حلٍّ إِعْظَامًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِقَرَابَتِكَ مِنْهُ. فتهلَّل وَجْهُ الْوَاثِقِ وسُرّ، ثُمَّ قَالَ لَهُ (¬6): أَقم عندِي آنَسُ بِكَ (¬7)، فَقَالَ لَهُ: مَكَانِي فِي ذَلِكَ الثَّغر أَنفع، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَلِي حَاجَةٌ، قَالَ: سَلْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ: يأْذن أَمِيرُ المؤمنين في الرجوع (¬8) إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخْرَجَنِي مِنْهُ هَذَا الظَّالِمُ (¬9). قَالَ: قَدْ أَذنت لَكَ، وأَمر لَهُ بِجَائِزَةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَرَجَعْتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَنْ (¬10) تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَأَحْسَبُ أَيضاً أنَّ الْوَاثِقَ رَجَعَ عَنْهَا. فتأَمَّلوا هَذِهِ الْحِكَايَةَ فَفِيهَا عِبْرَةٌ لأُولي الأَلباب، وَانْظُرُوا كَيْفَ مأْخذ (¬11) الْخُصُومِ فِي إِفْحَامِهِمْ (¬12) لِخُصُومِهِمْ، بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَدَارُ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْفَصْلِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ؛ إنما هو (¬13) ¬

(¬1) في (خ) زيادة "فلا وسع الله علينا". (¬2) في (خ): "ثم" بدل "حتى". (¬3) في (خ) و (م): "وارتاع". (¬4) قوله: "بكى" ليس في (خ) في كلا الموضعين. (¬5) في (ر) و (غ): "حضره". (¬6) قوله: "له" ليس في (غ) و (ر). (¬7) في (غ): "أبك". (¬8) في (خ): "رجوعي". (¬9) في (خ) فوق كلمة "الظالم": "هو ابن أبي دؤاد". (¬10) في (خ) و (م): "على". (¬11) في (م): "يأخذ". (¬12) في (خ): "إحجامهم". (¬13) في (خ): "حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ".

الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ، وَعَدَمِ ضَمِّ أَطرافه بَعْضِهَا إلى بعض (¬1)؛ فإِن مأْخذ الأَدلة عِنْدَ الأَئمة الرَّاسِخِينَ إِنما هي (¬2) عَلَى أَن تُؤْخَذَ الشَّرِيعَةُ كَالصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ بِحَسْبِ مَا ثَبَتَ مِنْ كلِّيَّاتها وجزئيَّاتها المرتَّبة عَلَيْهَا، وَعَامِّهَا الْمُرَتَّبِ عَلَى خَاصِّهَا؛ وَمُطْلَقِهَا الْمَحْمُولِ عَلَى مقيدها، ومجملها المفسَّر بمبيَّنها (¬3)، إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ مَنَاحِيهَا (¬4). فإِذا حَصَلَ لِلنَّاظِرِ مِنْ جُمْلَتِهَا حُكْمٌ مِنَ الأَحكام فذلك هو الذي نطقت (¬5) به حين استُنطقت (¬6). وَمَا مِثْلُهَا إِلَّا مَثَلُ الإِنسان الصَّحِيحِ السَّويّ، فكما أَن الإِنسان لا يكون إِنساناً يستنطق فينطق (¬7) بِالْيَدِ وَحْدَهَا، وَلَا بِالرِّجْلِ وَحْدَهَا (¬8)، وَلَا بالرأْس وَحْدَهُ، وَلَا بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، بَلْ بِجُمْلَتِهِ الَّتِي سُمّي بِهَا إِنساناً، كَذَلِكَ الشَّرِيعَةُ لَا يُطْلَبُ مِنْهَا الْحُكْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِنْبَاطِ إِلَّا بِجُمْلَتِهَا، لَا مِنْ دَلِيلٍ مِنْهَا أَي دَلِيلٍ كَانَ، وَإِنْ ظَهَرَ لِبَادِي الرأْي نُطْقُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فإِنما هُوَ توهُّمي لَا حَقِيقِيٌّ؛ كَالْيَدِ إِذَا اسْتُنْطِقَتْ فإِنما تَنْطِقُ توهُّماً لَا حَقِيقَةً، مِنْ حَيْثُ عَلِمْتَ أَنها يَدُ إِنْسَانٍ، لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إِنسان؛ لأَنه مُحَالٌ. فشأْن الرَّاسِخِينَ تَصَوُّرُ (¬9) الشَّرِيعَةِ صُورَةً وَاحِدَةً يَخْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ كأَعضاء الإِنسان إِذا صُوِّرَتْ صُورَةً متَّحدة. وشأْن متَّبعي (¬10) الْمُتَشَابِهَاتِ أَخذ دَلِيلٍ مَا أَيّ دَلِيلٍ كَانَ، عَفْوًا وأَخذاً أَوَّلياً، وإِن كَانَ ثمَّ ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكما أن (¬11) الْعُضْوَ الْوَاحِدَ لَا يُعْطَى فِي مَفْهُومِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ حُكْمًا حَقِيقَيًّا، فمُتَّبعه متَّبعُ متشابهٍ، وَلَا يَتْبَعُهُ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ كَمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (¬12). ¬

(¬1) في (خ): "لبعض"، وفي (م): "ببعض". (¬2) في (خ): "هو". (¬3) في (خ): "بينها"، وفي (م): "ببينها". (¬4) في (م): "مناخيها". (¬5) في (خ): "فذلك الذي نظمت". (¬6) في (خ) و (م): "استنبطت". (¬7) في (خ): "إنساناً حتى يستنطق فلا ينطق". (¬8) في (م) و (ر): "وحده". (¬9) في (غ) و (ر): "تصوير". (¬10) في (غ) و (ر): "مبتغي". (¬11) في (خ): "فكان". (¬12) سورة النساء: آية (87)، وفي (خ): "ومن أصدق من الله قيلاً".

فصل

فَصْلٌ وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: مِنَ اتِّباع الْمُتَشَابِهَاتِ: الأَخذ (¬1) بالْمُطْلَقَات قَبْلَ النَّظَرِ فِي مُقَيِّداتِها، أَوْ بالعمومات (¬2) مِنْ غَيْرِ تأَمُّل: هَلْ لَهَا مُخَصَّصَاتٌ أَم لَا؟ وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ؛ بأَن (¬3) يَكُونَ النَّصُّ مُقَيَّدًا فَيُطْلَقُ، أَوْ خَاصًّا فيُعَمّ بالرأْي مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ سِوَاهُ، فإِن هَذَا الْمَسْلَكَ رميٌ فِي عَمَايَةٍ، واتباعٌ لِلْهَوَى فِي الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ أَن الْمُطْلَقَ الْمَنْصُوصَ عَلَى تَقْيِيدِهِ مُشْتَبِهٌ إِذَا لَمْ يُقَيَّدْ، فَإِذَا قُيِّدَ صَارَ وَاضِحًا، كَمَا أَن إِطلاق الْمُقَيَّدِ رَأْي فِي ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ مُعَارِضٌ لِلنَّصِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. فَمِثَالُ الْأَوَّلِ: أَن الشَّرِيعَةَ قَدْ وَرَدَ طَلَبُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الإِطلاق وَالْعُمُومِ، وَلَا يَرْفَعُهَا عُذْرٌ إِلا الْعُذْرُ الرَّافِعُ لِلْخِطَابِ رأْساً، وَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ، فَلَوْ بَلَغَ الْمُكَلَّفُ فِي مَرَاتِبِ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ إِلى أَيِّ رُتْبَةٍ بَلَغَ؛ بَقِيَ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ، وَلَا رُتْبَةَ لِأَحَدٍ يَبْلُغُهَا فِي الدِّينِ (¬4) كَرُتْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رُتْبَةِ أَصحابه الْبَرَرَةِ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ مِنَ التَّكْلِيفِ مِثْقَالُ (¬5) ذَرَّةٍ، إِلا مَا كَانَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآحَادِ، كالزَّمِنِ لَا يُطَالَبُ بِالْجِهَادِ، والمُقْعَدِ لا يطالب (¬6) في الصلاة (¬7) بالقيام (¬8)، ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "أن يؤخذ". (¬2) في (غ) و (ر) و (م): "أو في العمومات". (¬3) في (غ) و (ر) و (م): "أن". (¬4) في (غ) و (ر) و (م): "ولا رتبة يبلغها في الدين لأحد". (¬5) في (م): "مثال". (¬6) في (خ) و (م): "لا يطلب". (¬7) في (م) و (خ): "بالصلاة". (¬8) في (خ): "قائماً".

والحائض لا تطلب بِالصَّلَاةِ الْمُخَاطَبِ بِهَا فِي حَالِ حَيْضِهَا، وَلَا مَا أَشبه ذَلِكَ. فَمَنْ رأَى أَن التَّكْلِيفَ قَدْ يَرْفَعُهُ الْبُلُوغُ إِلَى مَرْتَبَةٍ مَّا مِنْ مَرَاتِبِ الدِّينِ ـ كَمَا يَقُولُهُ أَهل الْإِبَاحَةِ ـ، كَانَ قَوْلُهُ بِدَعَةً مُخْرِجَةً عَنِ الدِّينِ (¬1). وَمِنْهُ دَعَاوَى أَهل الْبِدَعِ عَلَى الأَحاديث الصَّحِيحَةِ مُنَاقَضَتُهَا لِلْقُرْآنِ، أَوْ مُنَاقِضَةُ بَعْضِهَا بَعْضًا، وَفَسَادُ مَعَانِيهَا، أَو مُخَالَفَتُهَا لِلْعُقُولِ، كَمَا حَكَمُوا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمتحاكِمَيْن إِلَيْهِ: "وَالَّذِي نفسي بيده! لأَقضينَّ بينكما بكتاب الله: مائة الشَّاةِ وَالْخَادِمُ ردٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا (¬2) الرَّجْمُ، واغْدُ يَا أُنَيْسُ (¬3)! عَلَى امرأَة هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا"، فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا (¬4). قَالُوا: هَذَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ لأَنه قَضَى بِالرَّجْمِ وبالتغريب، وَلَيْسَ لِلرَّجْمِ وَلَا لِلتَّغْرِيبِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ذَكَرَ، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ بَاطِلًا فَهُوَ مَا أَردنا، وإِن كَانَ حَقًا فَقَدْ نَاقَضَ كِتَابَ اللَّهِ بِزِيَادَةِ الرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ. فَهَذَا اتِّبَاعٌ لِلْمُتَشَابِهِ (¬5)؛ لأَن الْكِتَابَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَفِي الشَّرْعِ أيضاً (¬6) يتصَرَّف عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْحُكْمُ وَالْفَرْضُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (¬7)، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (¬8)، {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} (¬9)، فَكَانَ الْمَعْنَى: لأَقضين بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ؛ أَي: بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي شُرِّعَ لَنَا، كَمَا أَن الكتاب يطلق على القرآن، فتخصيصهم ¬

(¬1) يعني قول بعض المتصوفة القائلين بسقوط التكاليف الشرعية عمن وصل مرتبة الولاية، انظر في هذا القول والرد عليه: "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 95)، و (7/ 503). (¬2) في (خ): "المرأة هذه". (¬3) في (خ) و (م): "يا أنس". (¬4) أخرجه البخاري (2314 و2315 و2695 و2696)، ومسلم (1697 و1698). (¬5) في (غ) و (ر): "المتشابه". (¬6) قوله: "أيضاً" ليس في (خ). (¬7) سورة النساء: آية (24). (¬8) سورة البقرة: آية (183). وفي (غ) و (ر): "القصاص" بدل "الصيام". (¬9) سورة النساء: آية (77). وقوله: "القتال" ليس في (م).

الكتاب بأَحد المحملين (¬1) مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ اتِّبَاعٌ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الأَدلة. وفي الحديث: "مثل أُمتي كمثل المطر (¬2)، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَم آخِرُهُ" (¬3). قَالُوا: فَهَذَا يَقْتَضِي أَنه لَمْ يَثْبُتْ لأَول هَذِهِ الأُمة فَضْلٌ عَلَى الْخُصُوصِ دُونَ آخِرِهَا، وَلَا الْعَكْسُ، ثُمَّ نُقِلَ: "إِن الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ" (¬4). فَهَذَا يقتضي تفضيل الأَولي ¬

(¬1) في (خ): "المحامل". (¬2) في (خ) و (م): "كمطر". (¬3) أخرجه الطيالسي (2023)، وأحمد (3/ 130 و143)، والترمذي (2869)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 246)، جميعهم من طريق حماد بن يحيى الأبحّ، عن ثابت البناني، عن أنس، به. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وفي سنده حماد بن يحيى الأبحّ وهو صدوق يخطئ كما في "التقريب" (1517). وأخرجه الرامهرمزي في "الأمثال" برقم (68 و69) من طريق إبراهيم بن حمزة بن أنس، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، ومن طريق هدبة بن خالد، عن عبيد بن مسلم السابري، عن ثابت. وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 6): "وهو حديث حسن له طرق يرتقي بها إلى الصحة". وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (7226/ الإحسان)، والبزار (1412)، والرامهرمزي (70)، ثلاثتهم من طريق فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن عبيد بن سليمان الأغرّ، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، به. وعبيد بن سليمان الأغر ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/ 156)، وذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (5/ 442 رقم 1439) وقال: "حديثه لا يصح"، وذكره في "الضعفاء" أيضاً كما في "تهذيب الكمال" (19/ 212)، فاستدرك ذلك عليه أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (5/ 407 رقم 1888) فقال: "لا أرى في حديثه إنكاراً، يحوّل من كتاب "الضعفاء" الذي ألّفه البخاري"، وذكره العقيلي في "الضعفاء" (3/ 115) تبعاً لشيخه البخاري، وقال: "ولا يصح حديثه"، وقال ابن حجر في "التقريب" (4407): "صدوق". وفضيل بن سليمان النّميري البصري صدوق له خطأ كثير كما في "التقريب" (5462). وللحديث طرق أخرى ذكرها الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" (2286) وحكم على الحديث بمجموعها بالصحة. (¬4) أخرجه مسلم في "صحيحه" (145) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ن وَالْآخَرِينَ عَلَى الْوَسَطِ، ثُمَّ نُقِلَ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" (¬1)، فَاقْتَضَى أَن الأَولين أَفضل عَلَى الإِطلاق. قَالُوا: فَهَذَا تَنَاقُضٌ، وَكَذَبُوا! لَيْسَ ثَمَّ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ. وَذَلِكَ أَن التَّعَارُضَ إِذا ظَهَرَ لِبَادِيَ الرأْي في المنقولات الشَّرْعِيَّةِ، فإِما أَن (¬2) لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَصلاً، وإِما أَن يُمْكِنَ، فإِن لَمْ يُمْكِنْ فهذا الفرض يفرض (¬3) بَيْنَ قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ، أَو بَيْنَ ظَنِّيَّيْنِ، فأَما بَيْنَ قَطْعِيَّيْنِ فَلَا يَقَعُ فِي الشَّرِيعَةِ (¬4)، وَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ؛ لأَن تَعَارُضَ الْقَطْعِيَّيْنِ مُحَالٌ. فَإِنْ وَقْعَ بَيْنَ قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ بَطُلَ الظَّنِّيُّ، وَإِنَّ وقع بين ظنيين فههنا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ التَّرْجِيحُ، وَالْعَمَلُ بالأَرجح مُتَعَيَّنٌ، وإِن أَمكن الْجَمْعُ، فَقَدِ اتَّفَقَ النُّظَّار عَلَى إِعْمَالِ وجه الجمع، وإن كان له وجه ضعيف (¬5)، فَإِنَّ الْجَمْعَ أَولى عِنْدَهُمْ، وَإِعْمَالَ الأَدلة أَولى مِنْ إِهْمَالِ بَعْضِهَا، فَهَؤُلَاءِ الْمُبْتَدَعَةُ لَمْ يَرْفَعُوا بهذا الأَصل رأْساً، إما جهلاً به، وإما (¬6) عِنَادًا. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي" هُوَ الأَصل فِي الْبَابِ، فَلَا يَبْلُغُ أحد شَأْوَ الصَّحَابَةِ (¬7) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمَا سِوَاهُ يَحْتَمِلُ التأْويل عَلَى حَالٍ أَو زَمَانٍ أَو فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ. وأَما قَوْلُهُ: "فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ": لَا نَصَّ فِيهِ عَلَى التَّفْضِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى جزاءٍ حَسَنٍ، وَيَبْقَى النَّظَرُ في كونه مثل جزاءِ الصحابة، ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "خير الناس قرني ... " الحديث. وأما لفظ: "خير القرون" فهو الذي اشتهر عند بعض أهل العلم ـ ومنهم الشاطبي ـ، ولم يخرجه الشيخان، بل يندر وجوده في كتب الحديث. (¬2) قوله: "أن" ليس في (م). (¬3) قوله: "يفرض" ليس في (خ) و (م). (¬4) في (م): "الشرعية". (¬5) في (خ): "وإن كان وجه الجمع ضعيفاً". (¬6) في (خ): "أو" بدل "وإما". (¬7) في (خ): "أحد منا مبلغ الصحابة"، وفي (م): "أحدنا الصحابة".

أَو دونه، أو فوقه محتملاً (¬1)، فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَلَا بُدَّ من حمله على محكم الأَصل الأَول ولا إشكال. ومن ذلك: قولهم بالتناقض بين (¬2) قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنَ مَتَّى" (¬3)، وَ"لَا تخيِّروا ين الأَنبياء" (¬4)، وبين قوله (¬5): "أَنا سيد ولد (¬6) آدم" (¬7)، ونحوه. ووجه الجمع بينهما ظاهر (¬8). ¬

(¬1) في (خ): "محتمل". (¬2) في (خ): "من" بدل "بين". (¬3) كذا ذكر المصنف هذا الحديث! وهو ناقل له عن "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة (ص132) وإن لم يصرح به. والصواب في لفظ الحديث: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن مَتَّى". أخرجه البخاري (3395)، ومسلم (2377)، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (¬4) أخرجه البخاري (2412 و6916)، ومسلم (2374، 163) من حديث أبي سعيد. وأخرجه البخاري أيضاً (3414)، ومسلم (2373) من حديث أبي هريرة بلفظ: "لا تفضلوا بين أنبياء الله". (¬5) في (خ) و (م): "وبيني وقوله". (¬6) في (خ): "ولد سيد". (¬7) أخرجه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة". وأخرجه أيضاً (194) هو والبخاري (3340) من حديث أبي هريرة بلفظ: "أنا سيد الناس يوم القيامة". وجاء في نسختي (خ) و (م) زيادة: "ولا فخر" في آخر لفظ الحديث، وهذه الزيادة ليست في لفظ الصحيحين، وإنما أخرجها الترمذي (3148 و3615)، وابن ماجه (4308)، وأحمد في "المسند" (3/ 2 رقم 10987)، جميعهم من طريق علي بن زيد بن جُدْعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، به، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف كما في "التقريب" (4768). (¬8) وقد جمع بينها ابن قتيبة في الموضع السابق بعدة وجوه، لكن من أحسن ما قيل في الجمع بينها: أنه صلّى الله عليه وسلّم قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس، فلما علم ذلك قال: "أنا سيد ولد آدم ... ". وقيل: إنه صلّى الله عليه وسلّم قال هذا زجراً عن أن يتخيّل أحد من الجاهلين شيئاً من حطّ مرتبة يونس صلّى الله عليه وسلّم من أجل ما في القرآن العزيز من قصته. قال العلماء: وما جرى ليونس صلّى الله عليه وسلّم لم يحطّه من النبوة مثقال ذرّة، وخصّ يونس بالذكر لما ذكرناه من ذكره في القرآن بما ذُكر. اهـ. من "شرح النووي" (15/ 132).=

وَمِنْهُ: أَنهم قَالُوا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الإِناء حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فإِن أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَين بَاتَتْ يَدُهُ" (¬1): إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُفْسِدُ (¬2) آخِرُهُ أَوله، فَإِنَّ أَوله صَحِيحٌ لَوْلَا قَوْلُهُ: "فَإِنَّ أَحدكم لا يدري" كذ، فما منا أَحد إِلا وقد (¬3) درى أن يده باتت حيث بات بدنه (¬4). وأَشد الأُمور أَن يَكُونَ مسَّ بِهَا فَرْجَهُ، وَلَوْ أَن رَجُلًا فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ لَمَا طُلِبَ بِغَسْلِ يَدِهِ، فَكَيْفَ يُطْلَبُ بِالْغَسْلِ (¬5) وَلَا يَدْرِي هَلْ مسَّ فَرْجَهُ أَم لَا؟ وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنَ النَّمَطِ الَّذِي (¬6) قَبْلَهُ، إِذ النَّائِمُ قَدْ يَمَسُّ (¬7) فَرْجَهُ فَيُصِيبُهُ شيءٌ مِنْ نجاسة بقيت (¬8) فِي الْمَحَلِّ؛ لِعَدَمِ اسْتِنْجَاءٍ تَقَدَّمَ النَّوْمَ، أَو لكونه استجمر فعرق (¬9) مَوْضِعِ الِاسْتِجْمَارِ، وَهُوَ لَوْ كَانَ يَقْظَانَ فَمَسَّ لعلم بالنجاسة إِذا علقت بيده، فيغسلها قبل غمسها فِي الإِناء لِئَلَّا يُفْسِدَ الماءَ، وإِذا أَمكن هَذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ الِاعْتِرَاضُ. فَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ رَاجِعٌ إِلى إِسقاط الأَحاديث بالرأْي الْمَذْمُومِ الَّذِي تَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ (¬10) عَلَيْهِ أَنَّهُ من البدع المحدثات. ¬

=وقال ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 452): "وقيل: خصّ يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ في ذكر فضله لسدّ هذه الذريعة". (¬1) أخرجه البخاري (162)، ومسلم (278) من حديث أبي هريرة. (¬2) كذا في (خ)، وهو الصواب الموافق لما عند ابن قتيبة المنقول عنه هذا النص (ص88)، وفي باقي النسخ: "يُفَسِّر" بالراء. (¬3) قوله: "وقد" ليس في (خ). (¬4) في (خ) و (م): "درى أين باتت يده". (¬5) في (غ) و (ر): "بغسل". (¬6) قوله: "الذي" ليس في (غ) و (م) و (ر). (¬7) في (م): "مس". (¬8) قوله: "بقيت" ليس في (خ). (¬9) في (خ): "يكون استجمر فرق". (¬10) في (خ): "استشهاد"، وفي (م): "استشهادنا".

فصل

فَصْلٌ وَمِنْهَا: تَحْرِيفُ الْأَدِلَّةِ عَنْ مَوَاضِعِهَا؛ بِأَنْ يَرِدَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنَاطٍ، فَيُصْرَفُ عَنْ ذَلِكَ الْمَنَاط إِلى أَمر آخَرَ مُوهِمًا أَن الْمَنَاطَيْن وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ خفيَّات تَحْرِيفِ الكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَن من أقرَّ بالإِسلام، ويذم تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، لَا يلجأُ إِلَيْهِ صُرَاحًا (¬1) إِلَّا مَعَ اشتباهٍ يَعْرِضُ لَهُ، أَو جَهْلٍ يَصُدُّهُ عَنِ الْحَقِّ، مَعَ هَوَىً يَعْمِيهِ عَنْ أَخذ الدَّلِيلِ مَأْخَذه، فَيَكُونُ بِذَلِكَ السَّبَبِ مُبْتَدَعًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَن الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ إِذا اقْتَضَى أَمراً فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ مَثَلًا، فأَتى بِهِ المُكَلَّف فِي الْجُمْلَةِ أَيضاً؛ كَذِكْرِ اللَّهِ، والدعاءِ، وَالنَّوَافِلِ المستحبَّات، وَمَا أَشبهها مِمَّا يُعْلَمُ مِنَ الشَّارِعِ فِيهَا التَّوْسِعَةُ؛ كَانَ الدليل عاضداً لعمله (¬2) مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ مَعْنَاهُ، وَمِنْ جِهَةِ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِهِ. فَإِنْ أَتى الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ الأَمر بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، أَو زَمَانٍ مخصوص، أَو مكان مخصوص، مُقَارِنًا (¬3) لِعِبَادِةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْتَزَمَ ذَلِكَ بِحَيْثُ صَارَ مُتَخَيَّلًا (¬4) أَن الْكَيْفِيَّةَ، أَو الزَّمَانَ، أَو الْمَكَانَ مَقْصُودٌ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ أَن يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؛ كَانَ الدَّلِيلُ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ. فَإِذَا نَدَبَ الشَّرْعُ مَثَلًا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَالْتَزَمَ قَوْمٌ الِاجْتِمَاعَ عَلَيْهِ عَلَى لسان واحد، أو صوت واحد (¬5)، أَو فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ مَخْصُوصٍ عَنْ سَائِرِ ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "صراخاً". (¬2) في (خ) و (م): "لعلمه". (¬3) في (خ) و (م): "أو مقارناً". (¬4) في (ر) و (غ) و (م): "مخيلاً". (¬5) في (خ) و (م): "وبصوت" بدل قوله: "أو صوت واحد".

الأَوقات، لَمْ يَكُنْ فِي نَدْبِ الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ المُلْتَزَم، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ؛ لأَن الْتِزَامَ الأُمور غَيْرِ اللَّازِمَةِ شَرْعًا شأْنها أَن تُفْهِم التَّشْرِيعَ، وخصوصاً مع من يُقْتَدَى به، وفي (¬1) مجامع الناس؛ كالمساجد، فإِنها إِذا أُظْهِرَتْ (¬2) هَذَا الإِظهار، وَوُضِعَتْ فِي الْمَسَاجِدِ كَسَائِرِ الشَّعَائِرِ الَّتِي وَضَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسَاجِدِ وَمَا أَشبهها؛ كَالْأَذَانِ، وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَالْكُسُوفِ؛ فُهِم مِنْهَا بِلَا شَكٍّ أَنها سنن، إن لم يفهم منها الفريضة (¬3)، فأَحرى أَن لَا يَتَنَاوَلَهَا الدَّلِيلُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ، فصارت من هذه الجهة بدعاً محدثة، يَدُلُّك (¬4) على (¬5) ذلك: ترك التزام السلف الصالح لِتِلْكَ الأَشياء، أَوْ عَدَمِ (¬6) الْعَمَلِ بِهَا، وَهُمْ كَانُوا أَحق بِهَا وأَهلها لَوْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً عَلَى مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ؛ لأَن الذِّكْرَ قَدْ نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ نَدْبًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، حَتَّى إِنه لم يُطْلَب فيه تكثيرٌ من عِبَادَةٍ (¬7) مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا طَلَبَ مِنَ التَّكْثِيرِ من الذكر؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * ... } الْآيَةَ (¬8)، وَقَوْلِهِ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬9)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} (¬10) بخلاف سائر العبادات. ومثل ذلك (¬11): الدُّعَاءُ، فإِنه ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَلْتَزِمُوا فِيهِ كَيْفِيَّاتٍ، وَلَا قيَّدوه بأَوقات مَخْصُوصَةٍ بحيث يشعر (¬12) بِاخْتِصَاصِ التَّعَبُّدِ بِتِلْكَ الأَوقات، إِلَّا مَا عيَّنه الدَّلِيلُ؛ كَالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، وَلَا أَظهروا مِنْهُ إِلَّا ¬

(¬1) في (خ): "في". (¬2) في (خ) و (م): "ظهرت". (¬3) في (خ): "إذ لم تفهم منها الفرضية". (¬4) في (خ): "بذلك". (¬5) في (خ): "وعلى". (¬6) في (م): "وعدم". (¬7) في (خ): "لم يطلب في تكثير عبادة". (¬8) سورة الأحزاب: آية (41). (¬9) سورة الجمعة: آية (10). (¬10) الآية: (45) من سورة الأنفال. ومن قوله: "وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ} ... " إلى هنا من (ر) فقط، وسقط من باقي النسخ. (¬11) في (خ) و (م): "ومثل هذا". (¬12) في (خ): "تشعر".

مَا نَصَّ (¬1) الشَّارِعُ عَلَى إِظْهَارِهِ؛ كَالذِّكْرِ فِي الْعِيدَيْنِ (¬2) وَشِبَهِهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَكَانُوا مُثَابِرِينَ على إخفائه وستره (¬3). ولذلك قال لهم حِينَ رَفَعُوا أَصواتهم: "أَرْبِعُوا (¬4) عَلَى أَنفسكم، إِنَّكُمْ لا تدعون أَصَمَّ ولا غائباً" (¬5) وأَشباهه، فلم يُظْهِرُوهُ (¬6) فِي الْجَمَاعَاتِ. فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ هَذَا الأَصل فَقَدْ خَالَفَ إِطْلَاقَ الدَّلِيلِ أوَّلاً؛ لأنَّه قَيَّدَ فِيهِ بالرأْي، وَخَالَفَ مَنْ كَانَ أَعرف مِنْهُ بِالشَّرِيعَةِ، وَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم، بل قد (¬7) كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ عليه السلام يُحِبُّ أَن يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ (¬8) أَن يَعْمَلَ به (¬9) الناس فيفرض عليهم (¬10). وفي فصل البيان (¬11) من كتاب "الْمُوَافَقَاتِ" (¬12) جُمْلَةٌ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مَزَلَّةُ قَدَمٍ. فَقَدْ يُتَوهَّم أَن إِطلاق اللَّفْظِ يُشْعِرُ بِجَوَازِ كل ما يمكن أن يفرض (¬13) في مدلوله وقوعاً، وليس كذلك، وخصوصاً (¬14) في العبادات؛ ¬

(¬1) قوله: "نص" في موضعه بياض في (خ). وعلق عليه رشيد رضا بقوله: بياض في الأصل، ولو وضع فيه كلمة "نص" أو "حث" لصحّ المعنى، ولعله الأصل. اهـ. (¬2) الأدلة عليه كثيرة؛ منها: قوله تعالى في آية الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. وأخرج البخاري (971)، ومسلم (890) من حديث أم عطية رضي الله عنها؛ قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى نخرج البكر من خدرها، حتى نخرج الحيّض، فيكنّ خلف الناس، فيكبِّرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته. (¬3) في (خ) و (م): "وسره". (¬4) في (خ): "أرفقوا". (¬5) أخرجه البخاري (4205)، ومسلم (2704) من حديث أبي موسى رضي الله عنه. (¬7) (¬6) في (خ): "ولم يظهرونه". قوله: "قد" ليس في (خ). (¬8) في (خ): "خوفاً". (¬9) قوله: "خشية أن يعمل به" سقط من (م)، وكتب الناسخ بالهامش ما نصه: "لعل هنا سقطاً، وهو: خوف أن يعمل به". (¬10) أخرجه البخاري (1128)، ومسلم (718) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬11) انظر: "الموافقات" (4/ 73). (¬12) في (خ): "وفي فصل من الموافقات"، وفي (م): "وفي فصل الموافقات". (¬13) قوله: "أن يفرض" ليس في (خ). (¬14) في (خ): "وليس خصوصاً".

فَإِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التعبُّد عَلَى (¬1) حَسَبِ مَا تُلُقِّيَ عن (¬2) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ؛ كَالصَّلَوَاتِ حِينَ وُضِعَتْ بَعِيدَةً عَنْ مَدَارِكِ الْعُقُولِ فِي أَركانها وَتَرْتِيبِهَا وأَزمانها وَكَيْفِيَّاتِهَا وَمَقَادِيرِهَا، وَسَائِرِ مَا كَانَ مِثْلَهَا ـ حَسْبَمَا يُذْكَرُ فِي بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِن شَاءَ الله تعالى ـ، فَلَا يَدْخُلُ الْعِبَادَاتِ الرأْي وَالِاسْتِحْسَانُ هَكَذَا مُطْلَقًا؛ لأَنه كالمنافي لوضعها؛ لأن (¬3) العقول لا تدرك معانيها على التفصيل. ولذلك (¬4) حَافَظَ العلماءُ عَلَى تَرْكِ إِجراء الْقِيَاسِ فِيهَا؛ كَمَالِكِ بْنِ أَنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فإِنه حَافَظَ عَلَى طَرْحِ الرأْي جِدًّا، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهَا مِنْ أَنواع الْقِيَاسِ إِلا قِيَاسَ نَفْيِ الْفَارِقِ، حَيْثُ اضطُرَّ (¬5) إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ العلماء وإِن تفاوتوا، هم (¬6) مُحَافِظُونَ جَمِيعًا فِي الْعِبَادَاتِ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِنُصُوصِهَا ومنقولاتها، بخلاف غيرها من العادات، فإنهم قد اتبعوا فيها المعاني، حتى قال مالك فيها بالمصالح المرسلة والاستحسان، مع بُعد قاعدتها عن التعبديَّات اتباعاً للمعاني المفهومة من الشرع على التفصيل، ولم يُر أشدّ محافظة على الاتباع للسلف الصالح منه، حسبما قاله العلماء عنه، غير أن العبادات ـ كالذكر والدعاء ونوافل الصلوات والصدقات ـ إن فَهِم فيها توسعة عمل عليها (¬7) بحسبها (¬8) لَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ الإِنسان قَدْ أُمر بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ ـ مَثَلًا ـ. فالمخصِّص (¬9) كَالْمُخَالِفِ لِمَفْهُومِ التَّوْسِعَةِ، وإِن لَمْ يُفْهَمْ مِنْ ذَلِكَ تَوَسُّعُهُ فَلَا بد من الرجوع إلى أَصل الوقوف (¬10) مع ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "وعلى". (¬2) قوله: "عن" ليس في (خ) و (م). وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: "تُلُقِّيَ عن النبي ... " إلخ. اهـ. (¬3) في (خ): "ولأن". (¬4) في (خ): "وكذلك". (¬5) في (خ): "أظهر" بدل "اضطر"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كذا! ولعلها: "اضطر".اهـ. (¬6) في (خ): "فهم". (¬7) من قوله: "من العادات فإنهم قد اتبعوا" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬8) في (خ): "فبحسبها". (¬9) في (غ) و (ر) و (م): "فالتخصيص". (¬10) في (خ) و (م): "الوقف".

الْمَنْقُولِ؛ لأَنا إِن خَرَجْنَا عَنْهُ شَكَكْنَا فِي كَوْنِ الْعِبَادَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مَشْرُوعَةً، أَوْ قَطَعْنَا بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ (¬1) عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ المنبَّه عَلَيْهِمَا (¬2) فِي كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ"، فَيَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إِلَى المنقول وقوفاً معه مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. ثُمَّ إِذَا فَهِمْنَا التَّوْسِعَةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ أَمر آخَرَ؛ وَهُوَ أَن يَكُونَ الْعَمَلُ بِحَيْثُ لَا يوهم التخصيص بزمان (¬3) دون غيره، أَو مكان (¬4) دُونَ غَيْرِهِ، أَو كَيْفِيَّةٍ دُونَ غَيْرِهَا، أَوْ يُوهِمُ انْتِقَالَ الْحُكْمِ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ ـ مَثَلًا ـ إِلَى السُّنَّةِ أَو الْفَرْضِ، لأَنه قَدْ يَكُونُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مَّا فِي مَجَامِعِ النَّاسِ، أَوْ مَسَاجِدِ (¬5) الْجَمَاعَاتِ، أَو نَحْوِ ذَلِكَ؛ مُوهِمًا لِكَوْنِهِ سُنَّةً أَو فَرْضًا، بَلْ هُوَ كَذَلِكَ. أَلا تَرَى أَن كُلَّ مَا أَظهره رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ في جَمَاعَةٌ إِذا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا فَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ العلماءِ؛ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ والاستسقاءِ وَالْكُسُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ بِخِلَافِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَسَائِرِ النَّوَافِلِ، فإِنها مُسْتَحِبَّاتٌ، وَنَدَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إخفائها، وكان يخفيها، وإن أظهرها فيوماً مّا من غير إكثار، ولا يضرّ الدوام على النوافل (¬6) مع إِخْفَائِهَا (¬7)، وَإِنَّمَا يَضُرُّ إِذَا كَانَتْ تُشَاعُ وَيُعْلَنُ بِهَا. وَمِنْ أَمثلة هَذَا الأَصل: الْتِزَامُ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ بِالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مُعْلَنًا بِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ، وسيأْتي بَسْطُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ إِن شاءَ الله تعالى. ¬

(¬1) قوله: "أو قطعنا بأنها ليست بمشروعة" ليس في (خ). (¬2) في (خ): "عليها"، وفي (م): "المنية عليها". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: "عليهما"، بل هو المتعين. اهـ. (¬3) في (خ): "زماناً" وفي (م): "زمان". (¬4) في (خ): "أو مكاناً". (¬5) في (غ) و (ر): "ومساجد". (¬6) في (ر): "النافلة". (¬7) من قوله: "وكان يخفيها" إلى هنا سقط من (خ) و (م).

فصل

فَصْلٌ وَمِنْهَا: بناءُ (¬1) طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تأْويلات لَا تُعْقَلُ يَدَّعُونَ فِيهَا أَنَّهَا هِيَ (¬2) الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ، لَا مَا يَفْهَمُ الْعَرَبِيُّ مِنْهَا (¬3)، مُسْنَدَةً (¬4) عِنْدَهُمْ إِلى أَصل لَا يُعْقَلُ، وذلك أَنهم فيما ذكر العلماءُ: قَوْمٌ أَرادوا إِبطال الشَّرِيعَةِ (¬5)، جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وإِلقاءَ ذلك فيما بين المسلمين (¬6) لينحلَّ الدِّينُ فِي أَيْدِيهِمْ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ إِلقاء ذَلِكَ صَرَاحًا، فيُرَدُّ ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَتَمْتَدُّ (¬7) إليهم أَيدي الحكام، فصرفوا عنايتهم (¬8) إِلَى التَّحَيُّل عَلَى مَا قَصَدُوا بأَنواع مِنَ الحيل، من جملتها: صرف الهمم (¬9) عن (¬10) الظَّوَاهِرِ، إِحَالَةً عَلَى أَن لَهَا بَوَاطِنَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وأَن الظَّوَاهِرَ غَيْرُ مُرَادَةٍ. فَقَالُوا: كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِنَ الظَّوَاهِرِ فِي الكتاليف وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهِيَ أَمثلة وَرُمُوزٌ إِلَى بَوَاطِنَ. فَمِمَّا زَعَمُوا فِي الشَّرْعِيَّاتِ: أَنَّ الْجَنَابَةَ مُبَادَرَةُ الدَّاعِي لِلْمُسْتَجِيبِ (¬11) بإِفشاءِ سِرٍّ إِليه قَبْلَ أَن يَنَالَ رُتْبَةَ الِاسْتِحْقَاقِ. وَمَعْنَى (¬12) الْغُسْلِ: تَجْدِيدُ الْعَهْدِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَمَعْنَى مجامعة البهيمة مفاتحة (¬13) من لا عهد له ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "فناء". (¬2) قوله: "هي" ليس في (غ) و (ر) و (م). (¬3) قوله: "منها" سقط من (خ). (¬4) في (م): "مستندة". (¬5) قوله: "الشريعة" مكرر في (غ). (¬6) في (خ) و (م): "الناس" بدل "المسلمين". (¬7) في (غ) و (ر): "تمتد". (¬8) في (خ): "أعناقهم". (¬9) في (خ): "الهم". (¬10) في (خ): "من". (¬11) قوله: "للمستجيب" ليس في (غ). (¬12) في (غ) و (ر): "وهي". (¬13) في (خ): "مقابحة".

ولم يؤدّ شيئاً من صدقة النجوى ـ وهي مائة وَتِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِنْدَهُمْ ـ. قَالُوا: فَلِذَلِكَ أَوجب الشَّرْعُ الْقَتْلَ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا (¬1)، وإِلا فَالْبَهِيمَةُ مَتَى يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَيْهَا؟ وَالِاحْتِلَامُ (¬2): أَنْ يَسْبِقَ لِسَانُهُ إِلى إفشاءِ السِّرِّ فِي غَيْرِ محلِّه، فعليه الغسل؛ أَي: تجديد المعاهدة، والطهور (¬3): هُوَ التَّبَرُّؤُ مِنَ اعْتِقَادِ كُلِّ مَذْهَبٍ سِوَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ. وَالتَّيَمُّمُ: الأَخذ مِنَ المأْذون إِلَى أَن يَسْعَدَ (¬4) بِمُشَاهَدَةِ (¬5) الدَّاعِي وَالْإِمَامِ (¬6). وَالصِّيَامُ: هُوَ الإِمساك عَنْ كَشْفِ السِّرِّ. وَلَهُمْ مِنْ هَذَا الإِفك كثير من الأُمور الإِلهية، وأُمور التَّكْلِيفِ، وأُمور الْآخِرَةِ، وَكُلُّهُ (¬7) حَوْمٌ عَلَى إِبْطَالِ الشَّرِيعَةِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، إِذْ هُمْ ثَنَوِيَّةٌ وَدَهْرِيَّة وإباحِيَّة، مُنْكِرُونَ لِلنُّبُوَّةِ (¬8) وَالشَّرَائِعِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمَلَائِكَةِ، بَلْ هُمْ مُنْكِرُونَ لِلرُّبُوبِيَّةِ (¬9)، وَهُمُ المُسَمَّون بِالْبَاطِنِيَّةِ (¬10). وَرُبَّمَا تمسَّكوا بالحروف والأَعداد؛ كقولهم (¬11): إن (¬12) الثقب (¬13) في (¬14) رأَس الآدمي سبع، والنجوم (¬15) السَّيَّارة سبعة (¬16)، وأَيام الأُسبوع سبعة (15)، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَن دُورَ الأَئمة سَبْعَةٌ سبعة (¬17)، وبه يتمّ. وأَن ¬

(¬1) في (خ): "به". (¬2) في (م): "والاستلام". (¬3) في (خ): "والطهر". (¬4) في (غ) يشبه أن تكون: "يشهد" بدل "يسعد". (¬5) في (م): "مشاهدة". (¬6) في (م): "أو الإمام". (¬7) في (غ): "وكلها". (¬8) في (م): "للتوبة". (¬9) في (غ): "للرسل". (¬10) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: انقسمت الباطنية إلى عدة فرق، يجمعهم القول بجعل ظواهر النصوص غير مرادة، والذهاب في تأويلها مذاهب من التحكم لا تتفق مع اللغة في مجاز ولا كناية، والقول بإمام معصوم، وقد يسمونه باسم آخر، ويجعلونه بعد ذلك إلهاً، وآخر فرقهم البابية والبهائية. اهـ. (¬11) قوله: "كقولهم" ليس في (خ) و (م). (¬12) في (خ): "بأن". (¬13) في (م): "النقب". (¬14) في (غ) و (ر) و (م): "على" بدل "في". (¬15) في (خ): "والكواكب" بدل "والنجوم". (¬16) في (خ) و (م): "سبع". (¬17) قوله: "سبعة" الثانية ليس في (خ).

الطبائع أَربع، وفصول السنة أربعة (¬1)، فدل على أن الأصول (¬2) الأَربعة هِيَ (¬3): السَّابِقُ وَالتَّالِي ـ الْإِلَهَانِ (¬4) عِنْدَهُمْ ـ، وَالنَّاطِقُ والأساس ـ وهما الإِمامان ـ. والبروج اثنا عشر، فدل (¬5) على الحجج الاثني عَشَرَ (¬6)، وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلى أَنواع مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَجَمِيعُهَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُقَابَلُ بِالرَّدِّ؛ لأَن كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ سِوَى هَؤُلَاءِ رُبَّمَا (¬7) يَتَمَسَّكُونَ بِشُبْهَةٍ تَحْتَاجُ (¬8) إِلَى النَّظَرِ فِيهَا مَعَهُمْ، أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ خَلَعُوا فِي الْهَذَيَانِ الرِّبْقَةَ، وَصَارُوا (¬9) عُرْضَةً للَّمز، وَضُحْكَةً لِلْعَالِمِينَ. وَإِنَّمَا يَنْسِبُونَ (¬10) هَذِهِ الأَباطيل إِلى الإِمام الْمَعْصُومِ الَّذِي زعموه، وإبطال هذه الْإِمَامَةِ (¬11) مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ المتكلِّمين، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ مُخْتَصَرَةٍ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. فَلَا يَخْلُو أَن يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِما من جهة دعوى بالضرورة وَهُوَ مُحَالٌ (¬12)؛ لأَن الضَّرُورِيَّ هُوَ (¬13) مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ عِلْمًا وَإِدْرَاكًا، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وإما من جهة الإِمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأْويلات، فيقال (¬14) لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ: مَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى تصديق الإمام المعصوم دون (¬15) تصديق محمد صلّى الله عليه وسلّم مع (¬16) المعجزة، وليس لإمامك معجزة؟ والقرآن (¬17) يَدُلُّ عَلَى أَن الْمُرَادَ ظَاهِرُهُ، لَا مَا زَعَمْتَ. فَإِنْ قَالَ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ رُمُوزٌ إِلَى بواطن فهمها الإِمام (¬18) المعصوم، ولم يفهمها الناس، ¬

(¬1) في (خ) و (م): "أربع". (¬2) في (خ): "أصول". (¬3) في (غ) و (ر): "وهي". (¬4) في (غ): "الإمامان" ويشبه أن تكون هكذا في (ر). (¬5) في (خ): "يدل". (¬6) في (خ) و (م): "على أن الحجج اثنا عشر". (¬7) في (خ): "وربما". (¬8) في (غ) و (ر): "يحتاج". (¬9) في (م): "صاروا". (¬10) في (غ) و (ر): "يسندون". (¬11) في (خ): "وإبطال الأئمة". (¬12) في (غ) و (ر): "الضرورة وإما محال". (¬13) قوله: "هو" من (خ) فقط. (¬14) قوله: "فيقال" سقط من (م)، وفي (خ) "فنقول". (¬15) قوله: "تصديق الإمام المعصوم دون" ليس في (خ)، وقوله: "المعصوم" سقط من (غ) و (ر). (¬16) في (خ): "سوى" بدل "مع". (¬17) في (خ) و (م): "فالقرآن". (¬18) قوله: "الإمام" ليس في (غ) و (ر).

فَتَعَلَّمْنَاهَا مِنْهُ. قِيلَ لَهُمْ: مِنْ أَي جِهَةٍ تعلمتموها منه (¬1)؟ أَبمشاهدة قلبه بالعين؟ أَم (¬2) بسماع منه؟ فلا بُدَّ (¬3) مِنْ الِاسْتِنَادِ إِلى السَّمَاعِ بالأُذن. فَيُقَالُ: فَلَعَلَّ لَفْظَهُ ظَاهِرٌ لَهُ بَاطِنٌ لَمْ تَفْهَمْهُ، وَلَمْ يُطْلِعْكَ عَلَيْهِ، فَلَا يُوثَقُ بِمَا فَهِمْتَ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِهِ. فإِن قَالَ: صَرَّحَ بِالْمَعْنَى (¬4)، وَقَالَ: مَا ذَكَرْتُهُ ظَاهِرٌ لَا رَمْزَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ ظَاهِرُهُ. قِيلَ لَهُ (¬5): وَبِمَاذَا عَرَفْتَ قَوْلَهُ لك (¬6): إِنه ظاهر لا رمز فيه، أَنه (¬7) كَمَا قَالَ؟ إِذ يُمْكِنُ أَن يَكُونَ لَهُ بَاطِنٌ لَمْ تَفْهَمْهُ أَيْضًا (¬8)، فَلَا يَزَالُ الْإِمَامُ يُصَرِّحُ بِاللَّفْظِ وَالْمَذْهَبُ يَدْعُو إِلَى أَنَّ لَهُ فِيهِ رَمْزًا. وَلَوْ (¬9) فَرَضْنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَنْكَرَ الْبَاطِنَ، فَلَعَلَّ تَحْتَ إِنكاره رَمْزًا (¬10) لَمْ تَفْهَمْهُ أَيْضًا (¬11)، حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الظَّاهِرِ على (¬12) أَنه لَمْ يَقْصِدْ إِلا الظَّاهِرَ، لَاحْتَمَلَ أَن يكون في طلاقه رمز هو بَاطِنُهُ، وَلَيْسَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. فإِن قَالَ: ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى حَسْمِ بَابِ التَّفْهِيمِ. قِيلَ لَهُ (¬13): فأَنْتم حسمتموه بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإِن الْقُرْآنَ دَائِرٌ عَلَى تَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالْحَشْرِ، وَالنَّشْرِ، والأَنبياء، وَالْوَحْيِ، وَالْمَلَائِكَةِ، مُؤَكَّدًا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْقَسَمِ، وأَنتم تَقُولُونَ: إِن ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّ تَحْتَهُ رَمْزًا. فإِن جَازَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمصلحةٍ وسرٍّ لَهُ فِي الرَّمْزِ؛ جَازَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَعْصُومِكُمْ أَنْ يَظْهَرَ لَكُمْ خِلَافُ مَا يُضْمِرُهُ لِمَصْلَحَةٍ وسرٍّ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ. قَالَ أَبو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ (¬14) رَحِمَهُ اللَّهُ (¬15): يَنْبَغِي أَن يَعْرِفَ الإِنسان أَن رُتْبَةَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ هِيَ (¬16) أَخسُّ مِنْ رُتْبَةِ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْ فِرَقِ الضَّلَالِ؛ إذ لا ¬

(¬1) قوله: "منه" ليس في (غ). (¬2) في (خ): "أو". (¬3) في (خ): "ولا بد". (¬4) في (غ): "بالمعاني". (¬5) قوله: "له" ليس في (غ) و (ر). (¬6) قوله: "لك" ليس في (خ). (¬7) في (خ): "بل أنه". (¬8) قوله: "أيضاً" ليس في (غ) و (ر). (¬9) قوله: "لو" ليس في (غ) و (ر). (¬10) في (م): "رمز". (¬11) من قوله: "فلا يزال الإمام" إلى هنا سقط من (خ). (¬12) قوله: "على" ليس في (خ). (¬13) قوله: "له" من (خ) فقط. (¬14) قوله: "الغزالي" من (خ) فقط. (¬15) في "فضائح الباطنية" (ص52). (¬16) قوله: "هي" من (خ) فقط.

تَجِدُ (¬1) فِرْقَةً تَنْقُضُ مَذْهَبَهَا بِنَفْسِ الْمَذْهَبِ سِوَى هذه الفرقة (¬2) الَّتِي هِيَ الْبَاطِنِيَّةُ؛ إِذ مَذْهَبُهَا إِبطال النَّظَرِ، وتغيير الأَلفاظ عن موضوعاتها (¬3) بِدَعْوَى الرَّمْزِ، وَكُلُّ مَا يُتَصَوَّرُ أَن تَنْطِقَ بِهِ أَلسنتهم فإِما نَظَرٌ أَو نَقْلٌ، أَما النظر فقد أَبطلوه، وأَما النقل فَقَدْ جوَّزوا أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ غَيْرُ مَوْضُوعِهِ، فَلَا يَبْقَى لَهُمْ مُعْتَصِمٌ (¬4)، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ. وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي "الْعَوَاصِمِ" (¬5) مأْخذاً آخَرَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَسهل مِنْ هَذَا ـ وَقَالَ: إِنهم (¬6) لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ ـ، وَهُوَ أَن يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يَدْعُونَهُ السُّؤَالَ بِـ"لِمَ؟ " خَاصَّةً، فَكُلُّ مَنْ وَجَّهْتَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَحَكَى فِي ذَلِكَ حكاية ظريفة يحسن موقعها هاهنا (¬7). قال ابن العربي (¬8): خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي عَلَى الْفِطْرَةِ، فَلَمْ أَلْقَ في طريقي إلا مهتدياً، حتى بَلَغْتُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ ـ يَعْنِي الْإِمَامِيَّةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ مِنْ فرق الشيعة ـ، فهي أول بدعة لقيت، فلو فجأتني بدعة مشتبهة كالقول بخلق القرآن، أَوْ نَفْيِ الصِّفَاتِ، أَوِ الْإِرْجَاءِ؛ لَمْ آمَنْ الشيطان. فَلَمَّا رَأَيْتُ حَمَاقَاتِهِمْ أَقَمْتُ عَلَى حَذَرٍ، وَتَرَدَّدْتُ فِيهَا عَلَى أَقْوَامٍ أَهْلِ عَقَائِدَ سَلِيمَةٍ، وَلَبِثْتُ بَيْنَهُمْ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ فوردت بيت المقدس، فألفيت فيها ثمانياً وعشرين حلقة ومدرستين: مدرسة للشافعية بباب الأسباط، وأخرى للحنفية، وكان فيه من رؤوس العلماء، ورؤوس الْمُبْتَدِعَةِ، وَمِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَثِيرٌ، فَوَعَيْتُ الْعِلْمَ، وَنَاظَرْتُ كُلَّ طَائِفَةٍ بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا أَبِي بكر الفهري وغيره من أهل السنة. ¬

(¬1) في (م): "لا نجد". (¬2) قوله: "الفرقة" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (خ): "موضوعها". (¬4) في (غ): "معصوم". (¬5) صفحة (44). (¬6) في (غ) و (ر): "إنه". (¬7) في (غ) و (ر): "هاهنا موقعها". (¬8) في "العواصم" (ص45 ـ 53)، وسبق أن أورد المصنف كلام ابن العربي هذا في المجلد الأول (ص260)، مع بعض الاختلاف، ولم ترد هذه القصة في (خ) و (م)؛ اكتفاء بورودها في أول موضع.

ثُمَّ نَزَلْتُ إِلَى السَّاحِلِ لِأَغْرَاضٍ، وَكَانَ مَمْلُوءًا مِنْ هَذِهِ النِّحَلِ الْبَاطِنِيَّةِ والإِمامية، فَطُفْتُ فِي مُدُنِ السَّاحِلِ لِتِلْكَ الْأَغْرَاضِ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَنَزَلْتُ عَكَّا (¬1)، وَكَانَ رَأْسَ الإِمامية بِهَا حينئذٍ أَبُو الْفَتْحِ العَكِّي، وَبِهَا مِنْ أَهْلِ السنة شيخ يقال له: الفقيه الدبيقي، فَاجْتَمَعْتُ بِأَبِي الْفَتْحِ فِي مَجْلِسِهِ وَأَنَا ابْنُ الْعِشْرِينَ، فَلَمَّا رَآنِي صَغِيرَ السِّنِّ، كَثِيرَ الْعِلْمِ، متدرِّباً، وَلِعَ بِي، وَفِيهِمْ ـ لَعَمْرُ اللَّهِ! وَإِنْ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ ـ انْطِبَاعٌ وَإِنْصَافٌ وَإِقْرَارٌ بِالْفَضْلِ إذا ظهر، فكان لا يفارقني، ويساومني في الجدال ولا يفاترني، فتكلمت على إبطال مذهب الإمامية، والقول بالتعليم مِنَ الْمَعْصُومِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ أسراراً وأحكاماً، والعقل لا يستقلّ بإدراكها، فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ إِمَامٍ مَعْصُومٍ. فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَاتَ الْإِمَامُ المبلِّغ عَنِ اللَّهِ لِأَوَّلِ مَا أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ أَمْ هُوَ مُخَلَّد؟ فَقَالَ لِي: "مَاتَ"، وَلَيْسَ هَذَا بِمَذْهَبِهِ، وَلَكِنَّهُ تستَّر مَعِي. فَقُلْتُ: هَلْ خَلَفَهُ أَحَدٌ؟ فقال: خَلَفَهُ وصيُّه عَليّ. فقلت: فهل قضى بالحق وأنفذه؟ أم لا؟ قال: لم يتمكَّن بغلبة الْمُعَانِدِ. قُلْتُ: فَهَلْ أَنْفَذَهُ حِينَ قَدَرَ؟ قَالَ: مَنَعَتْهُ التَّقِيَّةُ وَلَمْ تُفَارِقْهُ إِلَى الْمَوْتِ، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَقْوَى تَارَةً، وَتَضْعُفُ أُخْرَى، فَلَمْ يمكن إلاّ المُدَاراة لِئَلَّا تَنْفَتِحَ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الِاخْتِلَالِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ المداراة حق أم لا؟ قال: بَاطِلٌ أَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ. قُلْتُ: فَأَيْنَ الْعِصْمَةُ؟ قَالَ: إِنَّمَا تُغْنِي الْعِصْمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، قُلْتُ: فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى الْآنَ وَجَدُوا الْقُدْرَةَ أَمْ لَا؟ قال: لا. قلت: فالدين مهمل، والحق خامل؟ قَالَ: سَيَظْهَرُ. قُلْتُ: بِمَنْ؟ قَالَ: بِالْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ الدَّجَّالُ؟ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا ضَحِكَ، وَقَطَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى غَرَضٍ مِنِّي لِأَنِّي خفت أن أفحمه فَيَنْتَقِمُ مِنِّي فِي بِلَادِهِ. ثُمَّ قُلْتُ: وَمِنْ أَعْجَبِ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَوْعَزَ إِلَى مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ فَقَدْ ضيَّع فَلَا عِصْمَةَ لَهُ. وَأَعْجَبُ مِنْهُ: أن الباري تعالى ¬

(¬1) وهي بلد على ساحل بحر الشام كما في "معجم البلدان" (4/ 143).

ـ عَلَى مَذْهَبِهِ ـ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إلا بمعلم، وأرسله عاجزاً مضعوفاً، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ مَا عَلِمَ، فَكَأَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ وَمَا بَعَثَهُ. وَهَذَا عَجْزٌ مِنْهُ وَجَوْرٌ، لَا سيَّما عَلَى مَذْهَبِهِمْ. فَرَأَوْا مِنَ الْكَلَامِ مَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُومُوا مَعَهُ بِقَائِمَةٍ، وَشَاعَ الْحَدِيثُ، فَرَأَى رَئِيسُ الْبَاطِنِيَّةِ المُسَمَّيْن بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعِي. فَجَاءَنِي أَبُو الْفَتْحِ إلى مجلس الفقيه الدبيقي، وقال لي: إِنَّ رَئِيسَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ رَغِبَ فِي الْكَلَامِ مَعَكَ، فقلت: أنا مشغول، فقال: هاهنا مَوْضِعٌ مرتَّب قَدْ جَاءَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَحْرَسُ الطَّبَرَانيين ـ مَسْجِدٌ فِي قَصْرٍ عَلَى الْبَحْرِ ـ، وَتَحَامَلَ عَلَيَّ، فقمت ما بين حشمة وحسبة، ودخلنا قصر الْمَحْرَس، وصعدنا إِلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي زَاوِيَةِ الْمَحْرَسِ المشرقية، فرأيت النكراء فِي وُجُوهِهِمْ، فَسَلَّمْتُ، ثُمَّ قَصَدْتُ جِهَةَ الْمِحْرَابِ، فَرَكَعْتُ عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، لَا عَمَلَ لِي فِيهِمَا إِلَّا تَدْبِيرُ الْقَوْلِ مَعَهُمْ، وَالْخَلَاصُ مِنْهُمْ. فَلَعَمْرُ الَّذِي (¬1) قَضَى عَلَيَّ بِالْإِقْبَالِ إِلَى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، إِنْ كُنْتُ رَجَوْتُ الْخُرُوجَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أبداً، ولقد كنت أنظر إلى الْبَحْرِ يَضْرِبُ فِي حِجَارَةٍ سُودٍ مُحَدَّدَةٍ تَحْتَ طَاقَاتِ الْمَحْرَسِ، فَأَقُولُ: هَذَا قَبْرِي الَّذِي يَدْفِنُونِي فِيهِ، وَأُنْشِدُ فِي سِرِّي: أَلَا هَلْ إِلَى الدُّنْيَا مَعَادٌ؟ وَهَلْ لَنَا ... سِوَى الْبَحْرِ قَبْرٌ؟ أَوْ سِوَى الْمَاءِ أَكْفَانُ وَهِيَ (¬2) كَانَتِ الشِّدَّةَ الرابعة من شدائد عمري التي أَنْقَذَنِي اللَّهُ مِنْهَا، فَلَمَّا سَلَّمْتُ اسْتَقْبَلْتُهُمْ وَسَأَلْتُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ عَادَةً، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ إليَّ نَفْسِي، وَقُلْتُ: أَشْرَفُ مِيتَةٍ فِي أَشْرَفِ مَوْطِنٍ أُنَاضِلُ فِيهِ عَنِ الدِّينِ. فَقَالَ لِي أَبُو الْفَتْحِ ـ وَأَشَارَ إِلَى فَتًى حَسَنِ الْوَجْهِ ـ: هَذَا سَيِّدُ الطائفة ومقدَّمها، فدعوت له وسكتّ، فبدرني وقال لي: قد بلغتني مجالسك، وانتهى إِلَيَّ كَلَامُكَ، وَأَنْتَ تَقُولُ: قَالَ اللَّهُ وَفَعَلَ الله، فَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ؟! أَخْبِرْنِي وَاخْرُجْ عَنْ هَذِهِ المَخْرَقَة (¬3) الَّتِي جَازَتْ لك على هذه ¬

(¬1) في (ر): "فلعمر الله"، ثم صوبت في الهامش. (¬2) قوله: "وهي" من (ر) فقط. (¬3) أي: الكذب والاختلاق.

الطَّائِفَةِ الضَّعِيفَةِ وَقَدِ احْتَدَّ نَفَساً، وَامْتَلَأَ غَيْظًا، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهُ لَا يُتِمُّ الْكَلَامَ إِلَّا وَقَدِ اخْتَطَفَنِي أَصْحَابُهُ قَبْلَ الْجَوَابِ. فَعَمَدْتُ ـ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ ـ إِلَى كِنَانَتِي، وَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا سَهْمًا أَصَابَ حَبَّةَ قَلْبِهِ فَسَقَطَ لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ. وَشَرْحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّ الْحَافِظَ الْجُرْجَانِيَّ قَالَ: كُنْتُ أُبَغِّضُ النَّاسَ فِيمَنْ يَقْرَأُ عِلْمَ الْكَلَامِ، فدخلت يوماً إلى الرَّيّ (¬1)، فدخلت جَامِعَهَا أوَّل دُخُولِي، وَاسْتَقْبَلْتُ سَارِيَةً أَرْكَعُ عِنْدَهَا، وَإِذَا بِجِوَارِي رَجُلَانِ يَتَذَاكَرَانِ عِلْمَ الْكَلَامِ، فتطيَّرت بِهِمَا، وَقُلْتُ: أَوَّلَ مَا دَخَلْتُ هَذَا الْبَلَدَ سَمِعْتُ فِيهِ مَا أَكْرَهُ، وَجَعَلْتُ أخفِّف الصَّلَاةَ حَتَّى أُبْعِدَ عَنْهُمَا، فَعَلِقَ بِي مِنْ (¬2) قَوْلِهِمَا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةَ أَسْخَفُ خَلْقِ اللَّهِ عُقُولًا، وينبغي للنحرير ألا يتكلَّف لَهُمْ دَلِيلًا، وَلَكِنْ يُطَالِبُهُمْ بِـ"لِمَ؟ " فَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا، وسلَّمت مُسْرِعًا. وَشَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ كَشَفَ رَجُلٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْقِنَاعَ فِي الْإِلْحَادِ، وَجَعَلَ يُكَاتِبُ وَشْمَكِيرَ الْأَمِيرَ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي لَا أَقْبَلُ دِينَ مُحَمَّدٍ إِلَّا بِالْمُعْجِزَةِ، فَإِنْ أَظْهَرْتُمُوهَا رَجَعْنَا إِلَيْكُمْ، وانجرَّت الْحَالُ إِلَى أَنِ اخْتَارُوا منهم جلاً لَهُ دَهَاءٌ وَمُنَّة (¬3)، فَوَرَدَ عَلَى وَشْمَكِيرَ رَسُولًا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ أَمِيرٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ أَنْ تَتَخَصَّصَ عَنِ الْعَوَامِّ، وَلَا تقلِّد في عقيدتها، وإنما حقهم أن يفحصوا عن البراهين. فقال له وَشْمَكِيرُ: اخْتَرْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِي، وَلَا أُنْتَدَبُ لِلْمُنَاظَرَةِ بِنَفْسِي، فَيُنَاظِرُكَ بَيْنَ يَدَيَّ. فَقَالَ لَهُ الْمُلْحِدُ: أَخْتاَرُ أَبَا بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيَّ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا كان إماماً في الحديث، ولكن كان ¬

(¬1) لرَّيّ: مدينة مشهورة، من أمهات البلاد، وأعلام المدن، كثيرة الفواكه والخيرات، وهي محط الحاج على طريق السابلة، وقضية بلاد الجبال، بينها وبين نيسابور مِئَةٌ وستون فرسخاً، وإلى قزوين سبعة وعشرون فرسخاً اهـ من "معجم البلدان" (3/ 116). (¬2) قوله: "من" ليس في (غ). (¬3) الْمُنَّةُ: القوَّة، وخصّ بعضهم به قوّة القلب. "لسان العرب" (13/ 415).

وشمكير ـ بعامِّيَّتِهِ ـ يعتقد فيه أنه أعلم وجه الْأَرْضِ (¬1) بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ. فَقَالَ وَشْمَكِيرُ: ذَلِكَ مُرَادِي، رَجُلٌ جيِّد. فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بجُرْجان (¬2) لِيَرْحَلَ إِلَيْهِ إِلَى غَزْنَةَ (¬3). فَلَمْ يَبْقَ أحد من العلماء إلاّ أَيِسَ مِنَ الدِّين، وَقَالَ: سَيَبْهَتُ الإسماعيليُّ الكافرُ مَذْهَبًا الإسماعيليَّ الحافظَ نسباً، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا للملِكِ: إِنَّهُ لَا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم، فلجأوا إِلَى اللَّهِ فِي نَصْرِ دِينِهِ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَلَمَّا جَاءَنِي الْبَرِيدُ، وَأَخَذْتُ فِي الْمَسِيرِ، وَتَدَانَتْ بي الدَّارُ؛ قُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ! وَكَيْفَ أُنَاظِرُ فِيمَا لَا أَدْرِي؟ هَلْ أَتَبَرَّأُ عِنْدَ الْمَلِكِ وَأُرْشِدُهُ إلى من يحسن الجَدَلَ، ويعلم حجج الله على دينه؟ وندمت على ما سلف من عمري ولم أَنْظُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ، ثُمَّ أَذْكَرَنِي اللَّهُ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ بِجَامِعِ الرَّيّ، فَقَوِيَتْ نَفْسِي، وعَوَّلت عَلَى أَنْ أَجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَتِي، وَبَلَغْتُ الْبَلَدَ، فَتَلَقَّانِي الْمَلِكُ ثم جمع الْخَلْقِ، وَحَضَرَ الإسماعيليُّ الْمَذْهَبِ مَعَ الإسماعيليِّ النَّسَبِ، وَقَالَ الْمَلِكُ لِلْبَاطِنِيِّ: أُذْكُرْ قَوْلَكَ يَسْمَعُهُ الْإِمَامُ. فَلَمَّا أَخَذَ فِي ذِكْرِهِ وَاسْتَوْفَاهُ، قَالَ لَهُ الحافظ: "لِمَ"؟ فلما سَمِعَهَا الْمُلْحِدُ قَالَ: هَذَا إِمَامٌ قَدْ عَرَفَ مَقَالَتِي، فبُهِتَ. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرْتُ بِقِرَاءَةِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ عُمْدَةٌ مِنْ عُمَدِ الْإِسْلَامِ (¬4). قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَحِينَ انتهى بي الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ قُلْتُ: إِنْ كَانَ في الأجل نساء فَهَذَا شَبِيهٌ بِيَوْمِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فوجَّهت إِلَى أَبِي الفتح الإمامي، وَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ كُنْتُ فِي لَا شَيْءَ، ولو خرجت من عَكّا قبل أن ¬

(¬1) في (غ): "وجه الله". (¬2) جرجان: مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان. "معجم البلدان" (2/ 119). غَزْنَةُ: مدينة عظيمة، وولاية واسعة في طرف خراسان، وهي الحدّ بين الهند وخراسان "معجم البلدان" (4/ 201). (¬3) انظر تعليق الشيخ محمد الشقير على هذا الكلام في الجزء الأول من هذا الكتاب (ص268).

أَجْتَمِعَ بِهَذَا الْعَالِمِ مَا رَحَلْتُ إِلَّا عَرِيًّا عن نادرة الأيام، انظر إلى حذفه بالكلام ومعرفته؛ قَالَ لِي: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ؟ وَلَا يسأل مثل هَذَا إِلَّا مِثْلُهُ. وَلَكِنْ بَقِيَتْ هَاهُنَا نُكْتَةٌ لا بد أَنْ نَأْخُذَهَا الْيَوْمَ عَنْهُ، وَتَكُونُ ضِيَافَتُنَا عِنْدَهُ. لِمَ قُلْتَ: "أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ"؟ فَاقْتَصَرْتَ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى "أَيِّ"، وَتَرَكْتَ الْهَمْزَةَ وهل وكيف وأين وكم وما، وهي أَيْضًا مِنْ ثَوَانِي حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ، وعَدَلْتَ عَنِ اللام (¬1) من حروفه، فهذا سؤال ثاني عن حكمة ثانية، ولأي معنيان فِي الِاسْتِفْهَامِ، فَأَيَّ الْمَعْنَيَيْنِ قَصَدْتَ بِهَا؟ ولِمَ سألتَ بِحَرْفٍ مُحْتَمِلٍ (¬2)؟ وَلَمْ تَسْأَلْ بِحَرْفٍ مُصَرِّحٍ بمعنى واحد؟ هل وقع ذلك منك بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدِ حِكْمَةٍ؟ أَمْ بِقَصْدِ حِكْمَةٍ؟ فبيِّنْها لَنَا. فَمَا هُوَ إِلَّا أَنِ افْتَتَحْتُ هَذَا الْكَلَامَ، وَانْبَسَطْتُ فِيهِ، وَهُوَ يَتَغَيَّرُ، حَتَّى اصفرَّ آخِرًا مِنَ الوَجَل، كَمَا اسْوَدَّ أَوَّلًا مِنَ الْحِقْدِ، وَرَجَعَ أَحَدُ أَصْحَابِهِ الَّذِي كَانَ عَنْ يَمِينِهِ إِلَى آخَرَ كَانَ بِجَانِبِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الصَّبِيُّ إِلَّا بَحْرٌ زَاخِرٌ مِنَ الْعِلْمِ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ قَطُّ، وهم ما رأوا أحداً به رَمَقٌ؛ لِأَنَّ الدَّوْلَةَ لَهُمْ، وَلَوْلَا مَكَانُنَا مِنْ رِفْعَةِ الدولة ملك الشام، وأن والي عكا كان يحظينا، مَا تخلَّصت مِنْهُمْ فِي الْعَادَةِ (¬3) أَبَدًا. وَحِينَ سَمِعْتُ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مِنْ إِعْظَامِي؛ قُلْتُ: هَذَا مَجْلِسٌ عَظِيمٌ، وَكَلَامٌ طَوِيلٌ، يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْصِيلٍ، ولكن يتواعد إِلَى يَوْمٍ آخَرَ، وَقُمْتُ وَخَرَجْتُ فَقَامُوا كُلُّهُمْ مَعِي، وَقَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ تَبْقَى قَلِيلًا، فَقُلْتُ: لَا، وَأَسْرَعْتُ حَافِيًا وَخَرَجْتُ عَلَى الْبَابِ أغدو حتى أشرفت على قارعة الطريق، وبقيت هنالك مُبَشِّرًا نَفْسِي بِالْحَيَاةِ، حَتَّى خَرَجُوا بَعْدِي، وَأَخْرَجُوا لي [لالكي] (¬4)، وَلَبِسْتُهَا، وَمَشَيْتُ مَعَهُمْ مُتَضَاحِكًا، وَوَعَدُونِي بِمَجْلِسٍ آخَرَ فَلَمْ أُوْفِ لَهُمْ، وَخِفْتُ وَفَاتِي فِي وَفَائِي. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "الام". (¬2) في (غ): "مكتمل". (¬3) في (غ): "الغادة". (¬4) في (ر) و (غ): "الألكى"، وتقدم على الصواب في (1/ 269)، وكذا هو على الصواب=

قال ابن العربي: وقد كان قَالَ لِي أَصْحَابُنَا النَّصْرِيَّةُ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: إِنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْفَتْحِ نَصْرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيَّ اجْتَمَعَ بِرَئِيسٍ مِنَ الشِّيعَةِ، فَشَكَا إِلَيْهِ فَسَادَ الْخَلْقِ، وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بخروج الإمام المنتظر، فقال له نصر: هل لخروجه ميقات معلوم أَمْ لَا؟ قَالَ الشِّيعِيُّ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ أبو الفتح: ومعلوم هو أم مَجْهُولٌ؟ قَالَ: مَعْلُومٌ. قَالَ نَصْرٌ: وَمَتَى يَكُونُ؟ قَالَ: إِذَا فَسَدَ الْخَلْقُ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فلم تحبسونه عن الخلق قد فَسَدَ جَمِيعُهُمْ إِلَّا أَنْتُمْ، فَلَوْ فَسَدْتُمْ لَخَرَجَ، فَأَسْرِعُوا بِهِ وَأَطْلِقُوهُ مِنْ سِجْنِهِ، وَعَجِّلُوا بِالرُّجُوعِ إلى مذهبنا، فبُهِتَ. وأظن أنه سَمِعَهَا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْفَتْحِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ الرَّازِيِّ الزَّاهِدِ. انْتَهَى مَا حَكَاهُ ابْنُ العربي عن نفسه وغيره، وفيه غُنية في هذا المقام. وَتَصَوُّرُ الْمَذْهَبِ كافٍ فِي ظُهُورِ بُطْلَانِهِ، إِلَّا أَنه مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ وبُعده عَنِ الشَّرْعِ قَدِ اعْتَمَدَهُ طَوَائِفُ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ بِدَعًا فَاحِشَةً، مِنْهَا: مَذْهَبُ الْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ، فإِنه عَدَّ نَفْسَهُ الْإِمَامَ الْمُنْتَظَرَ، وأَنه مَعْصُومٌ، حَتَّى أَن مَنْ شَكَّ فِي عِصْمَتِهِ، أَو فِي (¬1) أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ المنتظر فهو كَافِرٌ. وَقَدْ زَعَمَ ذَوُوهُ أَنه أَلَّف فِي الإِمامة كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ أَن اللَّهَ اسْتَخْلَفَ آدَمَ وَنُوحًا وإِبراهيم وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمُ السلام، وأَن مدة الخلافة ¬

=في بعض نسخ "العواصم"، وفي بعضها: "لالكتى"، وهو صحيح أيضاً، وهو الذي أثبته المحقق. واللالكة ـ ويقال: اللالجةِ ـ: ضرب من النعال كما في حاشية د. إحسان عباس على "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (1/ 373) (ترجمة أحمد بن علي أبي الحسن البتّي، الكاتب)؛ تعليقاً على قوله: "وكان يلبس الخفين، والمبطّنة، ويتعمم العمَّة الثغرية، وإن لبس لالجة لم تكن إلا مربديّة". ووقع في "الكامل" لابن الأثير (10/ 115): "فنصب منجنيقاً ... ، وخرج جماعة من العامة فأخذوه، وجرى عنده قتال كثير، فأخذ بعض العامة لالكة من رجليه فيها المسامير الكثيرة، ورمى بها أميراً يقال له: جاولي الأسدي وكبيرهم، فأصاب صدره، فوجد لذلك ألماً شديداً، وأخذ اللاكة، وعاد عن القتال إلى صلاح الدين، وقال: قد قاتلنا أهل الموصل بحماقات ما رأينا بعد مثلها، وألقى اللاكة، وحلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنَفَةً حين ضرب بهذه".اهـ. (¬1) قوله: "في" ليس في (غ) و (ر).

ثَلَاثُونَ سُنَّةً، وَبَعْدَ ذَلِكَ فِرَق وأَهواءُ، وشُح مُطاع، وهَوًى مُتَّبع، وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ برَأْيِهِ، فَلَمْ يَزَلِ الأَمر عَلَى ذَلِكَ، وَالْبَاطِلُ ظَاهِرٌ وَالْحَقُّ كَامِنٌ، وَالْعِلْمُ مَرْفُوعٌ ـ كَمَا أَخبر عليه الصلاة والسلام ـ والجهل ظاهر، لم يَبْقَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلا رَسْمُه، حَتَّى جاءَ اللَّهُ بالإِمام، فأَعاد الله بِهِ الدِّينَ ـ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ: "بَدَأَ الْإِسْلَامُ (¬1) غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ" (¬2)، وَقَالَ: إِنَّ طَائِفَتَهُ هُمُ الغرباءُ، زَعْمًا مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ زَائِدٍ عَلَى الدَّعْوَى، وَقَالَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ: جاءَ اللَّهُ بِالْمَهْدِيِّ وَطَاعَتُهُ صَافِيَةٌ نقيَّة، لَمْ يُرَ (¬3) مِثْلُهَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، وأَن بِهِ قَامَتِ (¬4) السَّمَوَاتُ والأَرض، وَبِهِ (¬5) تَقُومُ، وَلَا ضِدَّ لَهُ (¬6)، وَلَا مِثْلَ، ولا ندّ (¬7)، وكذب! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا كَمَا نزَّل أَحَادِيثَ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ فِي الْفَاطِمِيِّ (¬8) عَلَى نفسه وأَنه هو ¬

(¬1) في (خ): "الدين" بدل "الإسلام". (¬2) تقدم تخريجه (ص65). (¬3) في (م): "تر". (¬4) في (غ) و (ر): "قد قامت". (¬5) في (خ): "به". (¬6) قوله: "له" ليس في (غ). (¬7) في (غ) و (ر): "ولا ندّ ولا مثل". (¬8) يعني أحاديث المهدي، ومن أهمها: حديث ابن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وأم سلمة رضي الله عنهم. أما حديث ابن مسعود: فيرويه عاصم بن أبي النَّجود، عن زرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يُبعث فيه رجل مني ـ أو: من أهل بيتي ـ يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلماً وجوراً". أخرجه أبو داود (4281) واللفظ له، والترمذي (2230 و2231)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (6824 و6825/ الإحسان). وأما حديث أبي سعيد: فأخرجه أحمد (3/ 17، 21 ـ 22، 26 ـ 27، 28، 36، 37، 52، 70)، وأبو يعلى (987، 1128)، وابن حبان (6823، 6826)، ثلاثتهم من طريق أبي الصديق النَّاجي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً، ثم يخرج رجل من أهل بيتي ـ أو عترتي ـ، فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً". وسنده صحيح. وأخرجه الترمذي (2232) وحسنه.=

بِلَا (¬1) شَكٍّ. وأَول إِظهاره لِذَلِكَ: أَنه قَامَ فِي أَصحابه خَطِيبًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الفعَّال لما يريد، القاضي بما يشاءُ، لَا رادَّ لأَمره، وَلَا معقِّب لِحُكْمِهِ، وصلى الله على النبي المبشِّر بالمهدي الذي (¬2) يملأُ الأَرض قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَبْعَثُهُ اللَّهُ إِذا نُسخ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وأُزيل العدل بالجور، مكانه المغرب (¬3) الأَقصى، وزمانه آخر الزمان (¬4)، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، وَنَسَبَهُ نَسَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ظَهَرَ جَوْرُ الأُمراء، وامتلأَت الأَرض بِالْفَسَادِ، وَهَذَا آخِرُ الزَّمَانِ، وَالِاسْمُ الِاسْمُ، والنَّسَبُ النَّسَبُ، وَالْفِعْلُ الْفِعْلُ، يُشِيرُ إِلى مَا جاءَ فِي أَحاديث الفاطمي. فلما فرغ من كلامه (¬5) بَادَرَ (¬6) إِليه مِنْ أَصحابه عَشَرَةٌ، فَقَالُوا: هَذِهِ الصِّفَةُ لَا تُوجَدُ إِلا فِيكَ، فأَنت الْمَهْدِيُّ، فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَحْدَثَ فِي دِينِ اللَّهِ أَحْدَاثًا كَثِيرَةً زِيَادَةً إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ المعلوم، والتخصيص ¬

=وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 558)، وصححه على شرط مسلم. وأخرجه (4/ 557) هو وأبو داود (4284) من طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد. وانظر تخريجه بتوسُّع في تعليقي على "مختصر المستدرك" (1150 و1151) إن شئت. وأما حديث أم سلمة: فأخرجه أبو داود (4283) من طريق زياد بن بيان، عن علي بن نفيل، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "المهدي من عترتي من ولد فاطمة". وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 346) وقال: "في إسناده نظر". وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/ 196) وقال: "والبخاري إنما أنكر من حديث زياد بن بيان هذا الحديث، وهو معروف به". وأخرجه العقيلي في "الضعفاء" (2/ 75) و (3/ 254) وقال: "لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به". وأعله ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1446). (¬1) في (غ) و (ر): "غير" بدل "بلا". (¬2) قوله: "الذي" ليس في (خ). (¬3) في (خ): "بالمغرب". (¬4) في (خ): "الأزمان". (¬5) قوله: "من كلامه" ليس في (خ) و (م). (¬6) في (خ): "نادر".

بِالْعِصْمَةِ، ثُمَّ وُضِعَ ذَلِكَ فِي الْخُطَبِ، وضُرِبَ فِي السِّكَك، بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ عِنْدَهُمْ ثالثة الشهادتين (¬1)، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا، أَو شَكَّ فِيهَا، فَهُوَ كَافِرٌ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ. وَشَرَعَ الْقَتْلَ فِي مَوَاضِعَ لَمْ يَضَعْهُ الشَّرْعُ فِيهَا، وَهِيَ نَحْوٌ مَنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا؛ كَتَرْكِ امْتِثَالِ أَمر مَنْ يَستمع أَمره، وَتَرْكِ حُضُورِ مَوَاعِظِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْمُدَاهَنَةُ إِذا ظَهَرَتْ فِي أَحد قُتِل، وأَشياءُ كثيرة. وكان مذهبه الظَّاهِرِيَّةَ (¬2)، وَمَعَ ذَلِكَ فَابْتَدَعَ أَشياءَ؛ كوجوهٍ مِنَ التثويب؛ إِذ كانوا ينادون عند الصلاة بـ"تاصاليت (¬3) الإِسلام" و"بتقام (¬4) تاصاليت" (2) و"سودرتن" (¬5) و"باردي" (¬6) و"أَصبح وَلِلَّهِ الْحَمْدُ" (¬7) وَغَيْرِهِ (¬8)، فَجَرَى الْعَمَلُ بِجَمِيعِهَا فِي زَمَانِ الموحِّدين، وَبَقِيَ أَكثرها بَعْدَمَا انْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ، حَتَّى إِني أَدركت بِنَفْسِي فِي جَامِعِ غَرْنَاطَةَ الأَعظم الرضا عَنِ الإِمام الْمَعْصُومِ، الْمَهْدِيِّ الْمَعْلُومِ، إِلى أَن أُزيلت وبقيت أَشياءُ كثيرة غُفل عَنْهَا أَو أُغفلت (¬9). وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ أَبو العُلَى (¬10) إِدريس بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْهُمْ، ظَهَرَ لَهُ قُبْحُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْابْتِدَاعَاتِ، فأَمر ـ حين استقرّ بمرَّاكش خليفة (¬11) ـ بإِزالة جميع ما ابتُدع ¬

(¬1) في (خ) و (م): "الشهادة". (¬2) في (خ): "البدعة الظاهرية". (¬3) في (غ) و (ر): "تاصليت". (¬4) في (غ) و (ر): "وتقام"، وفي (م) يشبه أن تكون: "وبيقام". (¬5) في (خ): "وسوردين"، وفي (م): "وسودرين". (¬6) في (ر) و (غ): "وتاردي"، وسيأتي غير هذا الضبط. (¬7) ذكر أبو العباس الناصري في "الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى" (1/ 96) في ترجمة محمد بن تومرت: أنه أول من أحدث "أصبح ولله الحمد" في أذان الصبح. وانظر "معجم المناهي اللفظية" للشيخ بكر أبو زيد، لفظة "أصبح ولله الحمد"، وما سيأتي (ص259). (¬8) في (ر) و (غ): "وغير ذلك". (¬9) في (ر) و (غ): "وأغفلت". (¬10) في (خ): "العلاء"، وهو خطأ، انظر: ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (22/ 342). (¬11) في (خ): "خليفته".

مِنْ قَبْلِهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ رِسَالَةً إِلى الأَقطار يأَمر (¬1) فيها بتغيير تلك السِّيَر (¬2)، وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وأَنه قَدْ نَبَذَ الْبَاطِلَ وأَظهر الْحَقَّ، وأَن لا مهدي إلاَّ عيسى (¬3)، وأَن ما ادعوا من أَنه (¬4) الْمَهْدِيُّ بِدْعَةٌ أَزالها، وأَسقط اسْمَ مَنْ لَا تُثْبِتُ عِصْمَتُهُ. وَذَكَرَ أَن أَباه الْمَنْصُورَ هَمَّ بأَن (¬5) يَصْدَعَ بِمَا بِهِ صَدْعَ، وأَن يرقع الخرق الَّذِي رَقَعَ، فَلَمْ يُسَاعِدْهُ الأَجل لِذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ وَاسْتُخْلِفَ ابْنُهُ أَبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَقَّبُ بِالرَّشِيدِ، وَفَدَ إِليه جَمَاعَةٌ (¬6) مِنْ أَهل ذلك المذهب الْمُتَسَمِّين بالموحِّدين، فَفَتَلُوا مِنْهُ فِي الذِّرْوة وَالْغَارِبِ، وَضَمِنُوا عَلَى (¬7) أَنفسهم الدُّخُولَ تَحْتَ طَاعَتِهِ، وَالْوُقُوفَ عَلَى قَدَمِ الْخِدْمَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْمُدَافَعَةَ عَنْهُ بِمَا اسْتَطَاعُوا، لَكِنْ عَلَى شَرْطِ ذِكْرِ الْمَهْدِيِّ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعِصْمَةِ فِي الْخُطْبَةِ وَالْمُخَاطَبَاتِ، وَنَقْشِ اسْمِهِ الْخَاصِّ فِي السِّكَكِ، وإِعادة الدعاء بعد الصلاة، والنداء عليها بـ"تاصاليت (¬8) الإِسلام" عند كمال الأَذان، و"بتقام (¬9) تاصاليت" (8)، وَهِيَ إِقامة الصَّلَاةِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ من ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "فأمر". (¬2) في (خ): "السنن". (¬3) وهذا خطأ آخر أيضاً، ومعالجة للبدعة ببدعة أخرى؛ وهي إنكار المهدي الذي من أهل البيت، وقد صح في ذكره أحاديث، منها ما تقدم (ص85 ـ 86). والقول بأنه لا مهدي إلا عيسى اعتُمد فيه على حديث أخرجه ابن ماجه (4039) وغيره من طريق يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي، عن محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن البصري، عن أنس، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لا مهدي إلا عيسى". وهو ضعيف جداً. فمحمد بن خالد الجندي مجهول كما في "التقريب" (5886). والمتن منكر. وانظر: التفصيل في تخريجه والكلام عليه في تعليقي على "مختصر المستدرك" (1095) إن شئت. (¬4) في (خ): "وأن ما ادعوه أنه". (¬5) في (غ) و (ر): "أن". (¬6) في (غ) و (ر): "جملة" بدل "جماعة". (¬7) في (غ) و (ر) و (م): "عن" بدل "على". (¬8) في (غ) و (ر) و (م): "تاصليت"، وتقدم اللفظ قبل بضعة أسطر. (¬9) في (غ) و (ر): "وتقام"، وفي (م) يشبه أن تكون: "وتيقام".

"سودرتن" (¬1)، و"قادري" (¬2)، وَ"أَصبح وَلِلَّهِ الْحَمْدُ"، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ كَانَ الرَّشِيدُ اسْتَمِرَّ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا رَسَمَ أَبوه مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَمَّا انْتَدَبَ الموحدون إِلى الطاعة اشترطوا إِعادة مَا تَرَكَ، فأَسعفوا فِيهِ، فَلَمَّا احْتَلُّوا مَنَازِلَهُمْ أَياماً وَلَمْ يَعُدْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ، سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ، وَتَوَقَّعُوا انْقِطَاعَ مَا هُوَ عُمْدَتُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّشِيدَ، فَجَدَّدَ تأَنيسهم بإِعادتها. قال المؤرِّخ: فيالله! مَاذَا (¬3) بَلَغَ مِنْ سُرُورِهِمْ (¬4)! وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الِارْتِيَاحِ لِسَمَاعِ تِلْكَ الأُمور، وَانْطَلَقَتْ أَلسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد، وشملت الأَفراح الكبير منهم وَالصَّغِيرَ (¬5)، وَهَذَا (¬6) شأَن صَاحِبِ الْبِدْعَةِ أَبداً (¬7)، فَلَنْ يُسَرَّ بأَعظم (¬8) مِنَ انْتِشَارِ بِدَعَتِهِ وإِظهارها، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (¬9)، وَهَذَا كُلُّهُ دَائِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بالإِمامة وَالْعِصْمَةِ الذي هو رأْي الشيعة. ¬

(¬1) في (خ) و (م): "سودرين". (¬2) في (ر) و (غ): "وما ردي"، وتقدم غير هذا الضبط. (¬3) في (غ) و (ر): "إذا". (¬4) في (م): "شرورهم". (¬5) في (خ): "الأفراح منهم الكبير والصغير". (¬6) في (غ) و (ر): "هذا". (¬7) قوله: "أبداً" ليس في (خ). (¬8) في (خ) و (م): "يسرنا عظم". (¬9) سورة المائدة: الآية (41).

فصل

فَصْلٌ (¬1) وَمِنْهَا: رَأْيُ قومٍ تَغَالوا (¬2) فِي تَعْظِيمِ شُيُوخِهِمْ، حَتَّى أَلحقوهم بِمَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ (¬3). فَالْمُقْتَصِدُ (¬4) فِيهِمْ (¬5) يَزْعُمُ أَنه لَا وليَّ (¬6) لِلَّهِ أَعظم مِنْ فُلَانٍ، وَرُبَّمَا أَغلقوا بَابَ الْوِلَايَةِ دُونَ سَائِرِ الأُمّة إِلا هَذَا الْمَذْكُورَ، وَهُوَ بَاطِلٌ مَحْضٌ، وَبِدْعَةٌ فَاحِشَةٌ؛ لأَنه لَا يُمْكِنُ أَن يَبْلُغَ المتأَخرون أَبداً مَبَالِغَ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَخَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ (¬7) الَّذِينَ رأَوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (¬8)، وَهَكَذَا يَكُونُ الأَمر أَبداً إِلى قِيَامِ السَّاعَةِ. فأَقوى مَا كَانَ أَهل الإِسلام فِي دِينِهِمْ وأَعمالهم وَيَقِينِهِمْ وأَحوالهم فِي أَول الإِسلام، ثم لا يزال (¬9) يَنْقُصُ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلى آخَرِ الدُّنْيَا، لَكِنْ لَا يَذْهَبُ الْحَقُّ جُمْلَةً، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَائِفَةٍ تَقُومُ بِهِ وَتَعْتَقِدُهُ، وَتَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ على حسبهم في زمانهم (¬10)، لا على (¬11) مَا كَانَ عَلَيْهِ الأَوّلون مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لأَنه لَوْ أَنفق أَحد مِنَ المتأَخرين وَزْنَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحد مِنْ أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا نَصِيفَه حَسْبَمَا أَخبر عَنْهُ الصَّادِقُ صَلَّى الله عليه وسلّم (¬12). وإِذا ¬

(¬1) قوله: "فصل" ليس في (غ) و (ر). (¬2) في (خ): "التغالي". (¬3) في (غ) و (ر): "بما لا يستحقون". (¬4) في (غ) و (ر): "فالمقتصر". (¬5) في (خ): "منهم". (¬6) في (غ): "الأولى". (¬7) قوله: "القرن" ليس في (خ). (¬8) قوله: "ثم الذين يلونهم" الثانية ليس في (خ)، وهو بهذا يشير إلى الحديث المتقدم تخريجه (ص66). (¬9) في (خ): "لا زال". (¬10) في (خ): "إيمانهم"، وفي (م): "أمانهم". (¬11) قوله: "على" ليس في (خ). (¬12) قوله: "حَسْبَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم" ليس في (خ).=

كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَالِ، فَكَذَلِكَ فِي (¬1) سَائِرِ شُعَبِ الإِيمان، بِشَهَادَةِ التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ. ولِمَا تقدَّم أَول الكتاب من (¬2) أَنه لَا يَزَالُ الدِّينُ فِي نَقْصٍ فَهُوَ أَصل (¬3) لا شك فيه، وهو عَقْدُ (¬4) أَهل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَكَيْفَ يَعْتَقِدُ بَعْدَ ذَلِكَ في أَحدٍ (¬5) أَنه ولي أَهل الأَرض ليس (¬6) فِي الأُمة وَلِيٌّ غَيْرُهُ؟ لَكِنَّ الْجَهْلَ الْغَالِبَ، وَالْغُلُوَّ فِي التَّعْظِيمِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلنِّحَلِ، يُؤَدِّي إِلى مِثْلِهِ أَو أَعظم مِنْهُ. وَالْمُتَوَسِّطُ يَزْعُمُ أَنه مساوٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلا أَنه لَا يأَتيه الْوَحْيُ (¬7). بَلَغَنِي هَذَا عَنْ طائفة من الغالين في شيخهم، الحاملين لطريقته (¬8) فِي زَعْمِهِمْ، نَظِيرَ مَا ادَّعَاهُ بَعْضُ تَلَامِذَةِ الْحَلاّج فِي شَيْخِهِمْ، عَلَى الِاقْتِصَادِ مِنْهُمْ فِيهِ، وَالْغَالِي (¬9) يَزْعُمُ فِيهِ أَشنع مِنْ هَذَا، كَمَا ادَّعَى أَصحاب الحَلاّج فِي الحَلاّج. وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الشُّيُوخِ أَهل الْعَدَالَةِ وَالصِّدْقِ فِي النَّقْلِ أَنه قال: أَقمت زماناً في بعض قرى (¬10) الْبَادِيَةِ، وَفِيهَا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُشَارِ إِليها كَثِيرٌ. قَالَ: فَخَرَجْتُ يَوْمًا مِنْ مَنْزِلِي لِبَعْضِ شأَني، فرأَيت رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ قَاعِدَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ (¬11)، فَاتَّهَمْتُ (¬12) أَنهما يتحدَّثان فِي بَعْضِ فُرُوعِ طَرِيقَتِهِمْ، فَقَرُبْتُ مِنْهُمَا عَلَى اسْتِخْفَاءٍ لأَسمع مِنْ كَلَامِهِمْ ـ إِذ من شأنهم الاستخفاء ¬

=والحديث أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري، وأخرجه مسلم (2540) من حديث أبي هريرة. (¬1) قوله: "في" ليس في (م). (¬2) قوله: "من" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (خ): "أصلي". (¬4) في (خ) و (م): "عند". (¬5) قوله: "أحد" ليس في (خ). (¬6) في (خ): "وليس". (¬7) في (غ) و (ر): "جبريل". (¬8) في (خ): "لطريقتهم". (¬9) في (خ): "والقالي". (¬10) في (خ): "القرى". (¬11) قوله: "يتحدثان" ليس في (خ). (¬12) كذا في جميع النسخ! ولعل صوابه: "فتوهَّمت"؛ قاله رشيد رضا.

بأَسرارهم ـ، فتحدَّثا (¬1) فِي شَيْخِهِمْ وعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ، وأَنه لَا أَحد (¬2) فِي الدُّنْيَا مِثْلَهُ، فَقَالَ أَحدهما لِلْآخَرِ: أَتحب الْحَقَّ هُوَ النَّبِيُّ، قَالَ: نَعَمْ (¬3)، وطَرَبَا لهذا المقالة طَرَباً عَظِيمًا، ثُمَّ قَالَ أَحدهما لِلْآخَرِ: أَتحب (¬4) الْحَقَّ؟ هُوَ كَذَا (¬5)، قَالَ: نَعَمْ، هَذَا هُوَ الْحَقُّ. قَالَ الْمُخْبِرُ لِي (¬6): فَقُمْتُ مِنْ ذَلِكَ الموضع (¬7) فارًّا أَن تصيبني معهم قَارِعَة. وهذا نمط من نَمَطُ (¬8) الشِّيعَةِ الإِماميَّة، وَلَوْلَا الغُلُوّ فِي الدِّينِ والتَّكَالُبُ عَلَى نَصْرِ الْمَذْهَبِ، وَالتَّهَالُكِ فِي مَحَبَّةِ الْمُبْتَدَعِ، لَمَا وَسِعَ ذَلِكَ عَقْلُ أَحد، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ" (¬9)، الْحَدِيثَ. فَهَؤُلَاءِ غَلَوْا كَمَا غَلَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ حَيْثُ قَالُوا: إِن الله هو المسيح ابن مريم، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ *} (¬10)، وفي الحديث: "لا تُطْرُونِي كَمَا أَطرت النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (¬11)، وَلَكِنْ قُولُوا (¬12): عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ" (¬13). وَمَنْ تأَمَّل هَذِهِ الأَصناف وَجَدَ لَهَا مِنَ الْبِدَعِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا؛ لأَن الْبِدْعَةَ إِذا دَخَلَتْ (¬14) في (¬15) الأَصل سَهلَتْ مداخلتها الفروع. ¬

(¬1) في (م): "فتحدثنا". (¬2) في (خ): "لأحد". (¬3) قوله: "فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: أَتُحِبُّ الْحَقَّ هُوَ النَّبِيُّ، قال: نعم"، سقط من (خ)، وانظر التعليق بعد الآتي. (¬4) في (غ) و (ر): "أتريد". (¬5) في (خ): "هو النبي". (¬6) قوله: "لي" ليس في (خ). (¬7) قوله: "الموضع" سقط من (م)، وفي (خ): "المكان". (¬8) قوله: "من نمط" ليس في (خ) و (م). (¬9) أخرجه البخاري (3456 و7320)، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬10) قوله تعالى: "قل" ليس في (خ). (¬11) الآية (77) من سورة المائدة. (¬12) قوله: "ابن مريم" من (خ) فقط. (¬13) في (م): "قالوا". (¬14) أخرجه البخاري (3445) من حديث عمر رضي الله عنه. (¬15) في (ر): "داخلت". (¬16) قوله: "في" ليس في (غ) و (ر).

فصل

فَصْلٌ وأَضعف هؤلاءِ احْتِجَاجًا: قَوْمٌ اسْتَنَدُوا فِي أَخذ الأَعمال إِلى الْمَنَامَاتِ، وأَقبلوا وأَعرضوا بِسَبَبِهَا، فيقولون: رأَينا فلاناً الرجل الصالح في النوم (¬1)، فَقَالَ لَنَا: اتْرُكُوا كَذَا، وَاعْمَلُوا كَذَا. وَيَتَّفِقُ مثل هذا كثيراً للمُتَرَسِّمين (¬2) برَسْم التَّصَوُّفِ، وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: رأَيت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لِي كَذَا، وأَمرني بِكَذَا؛ فَيَعْمَلُ بِهَا، وَيَتْرُكُ بِهَا (¬3)، مُعْرِضًا عَنِ الْحُدُودِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ خَطَأٌ؛ لأَن الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ الأَنبياءِ لَا يُحْكَمُ بِهَا شَرْعًا عَلَى حَالٍ، إِلا أَن نعرضها عَلَى مَا فِي أَيدينا مِنَ الأَحكام الشَّرْعِيَّةِ، فإِن سَوَّغَتْهَا عُمل بِمُقْتَضَاهَا، وإِلا وَجَبَ تَرْكُهَا والإعراض عنها، وإِنما فائدتها البشارة والنذارة (¬4) خَاصَّةً، وأَما اسْتِفَادَةُ الأَحكام فَلَا، كَمَا يُحْكَى عَنِ الكِتَّاني رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم من الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَن لَا يُمِيتَ قَلْبِي، فَقَالَ: قُلْ كُلَّ يَوْمٍ أَربعين مَرَّةً: "ياحي يَا قَيُّومُ! لَا إِله إِلا أَنت" (¬5)، فَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ لَا إِشكال فِي صِحَّتِهِ، وَكَوْنُ الذِّكْرِ يُحْيِي الْقَلْبَ صَحِيحٌ شَرْعًا، وَفَائِدَةُ الرُّؤْيَا التنبيه على الخير، وهي (¬6) من ¬

(¬1) قوله: "في النوم" ليس في (خ) و (م). (¬2) في (خ): "للمتمرسين"، وفي (م): "للمرتسمين". وعلق عليها رشيد رضا بقوله: تمرَّس بالشيء: احتكّ به، وتمرّس بدينه: تلعب به وعبث كما يعبث البعير. والمراد بهم هنا: المقلّدون للصوفية في رسومهم الظاهرة، دون أخلاقهم وأعمالهم. اهـ. (¬3) قوله: "بها" ليس في (غ) و (ر). (¬4) في (خ): "أو النذارة". (¬5) ذكر قول الكتاني هذا القشيري في "رسالته" (ص177). (¬6) في (خ) و (م):"وهو".

نَاحِيَةِ الْبِشَارَةِ، وإِنما يَبْقَى الْكَلَامُ فِي التَّحْدِيدِ بالأَربعين، وإِذا لم يؤخذ (¬1) عَلَى اللُّزُومِ اسْتَقَامَ. وَعَنْ أَبي يَزِيدَ البِسْطَامي رحمه الله؛ قَالَ: رأَيت رَبِّي فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ الطريق إِليك؟ فقال: اترك نفسك وتعال (¬2). وشاهد (¬3) هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الشَّرْعِ مَوْجُودٌ، فَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ صَحِيحٌ؛ لأَنه كَالتَّنْبِيهِ لِمَوْضِعِ (¬4) الدَّلِيلِ؛ لأَن تَرْكَ النَّفْسِ مَعْنَاهُ تَرْكُ هَوَاهَا بإِطلاق، وَالْوُقُوفُ عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى *} (¬5)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ. فَلَوْ رأَى فِي النَّوْمِ قائلاً يقول له (¬6): إِن فُلَانًا سَرَقَ فَاقْطَعْهُ، أَو عَالِمٌ فاسأَله، أَو اعْمَلْ بِمَا يَقُولُ لَكَ، أَو فُلَانٌ زنى فحُدَّه، أَوْ ما (¬7) أَشبه ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْعَمَلُ حَتَّى يَقُومَ لَهُ الشَّاهِدُ فِي الْيَقَظَةِ، وإِلا كَانَ عَامِلًا بِغَيْرِ شَرِيعَةٍ؛ إِذ لَيْسَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ. وَلَا يُقَالُ: إِن الرُّؤْيَا مِنْ أَجزاءِ النُّبُوَّةِ (¬8)، فَلَا ينبغي أَن تهمل، وأَيضاً فإِن (¬9) الْمُخْبِرَ فِي الْمَنَامِ قَدْ يَكُونُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَدْ قَالَ: "مَنْ رآني في النوم فقد رآني (¬10)، فإِن الشَّيْطَانَ لَا يتمثَّل بِي" (¬11). وإِذا كَانَ كذلك (¬12)؛ فإخباره له (¬13) في النوم كإِخباره في اليقظة. ¬

(¬1) في (خ) و (م): "يوجد". (¬2) ذكر قول أبي يزيد هذا القشيري في "رسالته" (ص177). (¬3) في (خ) و (م): "وشأن". (¬4) في (غ) و (ر): "لوضع". (¬5) سورة النازعات: الآيتان (40، 41). (¬6) قوله: "له" ليس في (غ) و (خ). (¬7) في (خ): "وما". (¬8) أخرج البخاري في "صحيحه" (6994)، ومسلم (2264) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن عبادة بن الصامت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "رؤيا المؤمن جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ". (¬9) في (خ): "إن". (¬10) في (خ) و (م): "رآني حقاً". (¬11) أخرجه البخاري (110)، ومسلم (2266) من حديث أبي هريرة. (¬12) قوله: "كذلك" ليس في (خ) و (م). (¬13) قوله: "له" ليس في (خ).

لأَنا نَقُولُ: إِن كَانَتِ الرُّؤْيَا مِنْ أَجزاء النبوة، فليست بالنسبة (¬1) إِلينا من كمال الوحي، بل جزءاً مِنْ أَجزائه، والجزءُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الكُلّ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ، بَلْ إِنما يَقُومُ مَقَامَهُ من (¬2) بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ صُرِفَتْ إِلى جِهَةِ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَفِيهَا كَافٌ (¬3). وأَيضاً فإِن الرُّؤْيَا الَّتِي هي جزء من النبوة (¬4) من شرطها أَن تكون صالحة، ومن (¬5) الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَحُصُولُ الشُّرُوطِ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَقَدْ تَتَوَفَّرُ، وَقَدْ لَا تَتَوَفَّرُ. وأَيضاً فَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلى الْحُلْمِ، وَهُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وإِلى حديث النفس، وقد تكون بسبب هَيَجَان بعض الأَخْلاَط (¬6)، فمتى تتعيَّن الصالحة حتى يحكم بها، وتترك غَيْرَ الصَّالِحَةِ؟. وَيَلْزَمُ أَيضاً عَلَى ذَلِكَ أَن يَكُونَ تَجْدِيدَ وَحْيٍ بِحُكْمٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم، وهو منفي (¬7) بالإِجماع. يُحْكَى أَن شَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ القاضي دخل يوماً (¬8) عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: علَيَّ بِالسَّيْفِ والنّطْع! قَالَ: ولِمَ يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رأَيت فِي مَنَامِي كأَنك تطأُ بِسَاطِي وأَنت مُعْرِضٌ عَنِّي، فَقَصَصْتُ رُؤْيَايَ عَلَى مَنْ عَبَرَهَا. فَقَالَ لِي: يُظْهِرُ لَكَ طَاعَةً وَيُضْمِرُ مَعْصِيَةً. فَقَالَ لَهُ شَرِيكٌ: وَاللَّهِ! مَا رُؤْيَاكَ بِرُؤْيَا إِبراهيم الخليل عليه السلام، ولا مُعَبِّرُكَ (¬9) بيوسف (¬10) الصديق عليه السلام، أَفبالأَحلام (¬11) الكاذبة تضرب أَعناق المؤمنين؟ فاسْتَحْيَى المهدي، وقال له (¬12): اخرج عني، ثم صرفه وأَبعده. ¬

(¬1) قوله: "بالنسبة" ليس في (خ) و (م). (¬2) في (خ) و (م): "في". (¬3) كذا في جميع النسخ. وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "كذا! ولعل في الكلام حذفاً". (¬4) في (خ): "جزء من أجزاء النبوة". (¬5) في (خ): "من". (¬6) في (خ): "أخلاط". (¬7) في (م) و (خ): "منهي عنه" بدل "منفي". (¬8) قوله: "يوماً" ليس في (خ). (¬9) في (خ): "ولا أن معبرك". (¬10) في (ر) و (غ) و (م): "يوسف". (¬11) في (خ): "فبالأحلام". (¬12) قوله: "له" ليس في (خ).

وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِ الأَئمة أَنه أَفتى بِوُجُوبِ قَتْلِ رَجُلٍ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَرُوجِعَ فِيهِ، فَاسْتَدَلَّ بأَن رَجُلًا رأَى فِي مَنَامِهِ إِبليس قد اجتاز بباب هذه (¬1) المدينة ولم يدخلها؟ فقيل له (¬2): هَلاّ (¬3) دَخَلْتَهَا؟ فَقَالَ: أَغناني عَنْ دُخُولِهَا رَجُلٌ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ: لَوْ أَفتى إِبليس بِوُجُوبِ قَتْلِي فِي الْيَقَظَةِ هَلْ تقلِّدونه في فتواه؟ فقالوا: لا! قال (¬4): فقوله فِي الْمَنَامِ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْيَقَظَةِ. وأَما الرُّؤْيَا الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّائِي بِالْحُكْمِ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا أَيضاً؛ لأَنه إِذا أَخبر بحكم موافق لشريعته، فالعمل (¬5) بما استقرّ من شريعته (¬6)، وإِن أَخبر بمخالف، فمحال؛ لأَنه صلّى الله عليه وسلّم لَا يَنْسَخُ بَعْدَ مَوْتِهِ شَرِيعَتَهُ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي حَيَاتِهِ؛ لأَن الدِّينَ لَا يَتَوَقَّفُ اسْتِقْرَارُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى حُصُولِ الْمَرَائِي النَّوْمِيَّةِ؛ لأَن ذَلِكَ بَاطِلٌ بالإِجماع. فَمَنْ رأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: إِن رُؤْيَاهُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ إِذ لَوْ رَآهُ حَقًّا لَمْ يُخْبِرْهُ بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ. لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدَ رَآنِي"، وَفِيهِ تأْويلان: أَحدهما: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ (¬7) إِذ سُئِلَ عَنْ حَاكِمٍ شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مَشْهُورَانِ بِالْعَدَالَةِ فِي قَضِيَّةٍ، فَلَمَّا نَامَ (¬8) الْحَاكِمُ ذَكَرَ أَنه رأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وقال (¬9) له: لا تَحْكُمُ (¬10) بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، فإِنَّها بَاطِلَةٌ (¬11). فأَجاب بأَنه لا ¬

(¬1) قوله: "هذه" ليس في (خ) و (م). (¬2) قوله: "له" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (ر) و (غ): "فهلا"، وفي (خ): "هل" بدل "هلا". (¬4) في (خ): "فقال". (¬5) في (خ): "فالحكم" بدل "فالعمل". (¬6) قوله: "من شريعته" ليس في (خ) و (م). (¬7) في "فتاويه" (1/ 612). (¬8) في (غ) و (ر): "قام". (¬9) في (خ): "فقال". (¬10) في (م): "تحكم"، وفي (خ): "ما تحكم". (¬11) في (غ) و (ر): "باطل".

يَحِلُّ لَهُ أَن يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ؛ لأَن ذَلِكَ إِبطال لأَحكام الشَّرِيعَةِ بِالرُّؤْيَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ أَن يُعْتَقَد، إِذ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ مِنْ نَاحِيَتِهَا إِلا الأَنبياء الَّذِينَ رُؤْيَاهُمْ وَحْيٌ، وَمَنْ سِوَاهُمْ إِنما رُؤْيَاهُمْ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وأَربعين جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ (¬1). ثُمَّ قَالَ: وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي حَقًّا (¬2) ": أَن كُلَّ مَنْ رأَى فِي مَنَامِهِ أَنه رَآهُ فَقَدْ رَآهُ حَقِيقَةً؛ بِدَلِيلٍ أَن الرَّائِيَ قَدْ يَرَاهُ مَرَّاتٍ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَيَرَاهُ الرَّائِي عَلَى صِفَةٍ، وَغَيْرِهِ عَلَى صفة أُخرى. ولا يجوز أَن تختلف صورة (¬3) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا صِفَاتُهُ، وإِنما مَعْنَى الْحَدِيثِ: "مَنْ رَآنِي عَلَى صُورَتَيِ الَّتِي خُلِقْتُ عَلَيْهَا، فَقَدْ رَآنِي، إِذ لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي"، إِذ لَمْ يَقُلْ: مَنْ رأَى أَنه رَآنِي، فَقَدْ رَآنِي، وإِنما قَالَ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي. وأَنّى لِهَذَا الرَّائِي الذي رأَى أَنه رآه على صورته أَنه رَآهُ عَلَيْهَا وإِن ظَنَّ أَنه رَآهُ؟ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَن تِلْكَ الصُّورَةَ (¬4) صُورَتُهُ (¬5) بعينها، هذا (¬6) مَا لَا طَرِيقَ لأَحد إِلى مَعْرِفَتِهِ. فَهَذَا ما نقل ابْنِ (¬7) رُشْدٍ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلى أَن الْمَرْئِيَّ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وإِن اعتقد الرائي أَنه هو. والتأْويل (¬8) الثَّانِي: يَقُولُهُ علماءُ التَّعْبِيرِ: إِن الشَّيْطَانَ قَدْ يأَتي النَّائِمَ فِي صُورَةٍ مَّا مِنْ مَعَارِفِ الرائي وغيرهم، فيشير له إِلى رجل ويقول (¬9): هذا فلان النبي، أَو هذا (¬10) الْمِلْكُ الْفُلَانِيُّ، أَو مَنْ (¬11) أَشبه هؤلاءِ مِمَّنْ لا يتمثل الشيطان به، فيوقع اللَّبْسَ عَلَى الرَّائِي بِذَلِكَ، وَلَهُ عَلَامَةٌ عِنْدَهُمْ. وإِذا كان كذلك أَمكن أَن يكلمه ذلك (¬12) المشار إِليه بالأَمر والنهي غير ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص94). (¬2) تقدم تخريجه (ص94). (¬3) في (خ) و (م): "صور". (¬4) قوله: "الصورة" ليس في (غ) و (ر). (¬5) قوله: "صورته" ليس في (م). (¬6) في (خ): "وهذا". (¬7) في (خ): "عن أبي" بدل (ابن). (¬8) قوله: "التأويل" ليس في (غ) و (ر) و (م). (¬9) في (خ): "آخر" بدل "ويقول". (¬10) في (خ) و (م): "وهذا". (¬11) في (غ): "أو ممن". (¬12) قوله: "ذلك" ليس في (خ).

الْمُوَافِقَيْنِ لِلشَّرْعِ، فَيَظُنُّ الرَّائِي أَنه مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَلَا يُوثِقُ بِمَا يَقُولُ لَهُ (¬1) أَو يأَمر (¬2) أَو يَنْهَى. وَمَا أَحرى هَذَا الضَّرْب أَن (¬3) يَكُونَ الأَمر أَو النَّهْيُ فِيهِ مُخَالِفًا (¬4)، كما أَن (¬5) الأَول حقيق بأَن يَكُونَ فِيهِ مُوَافِقًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي المسأَلة إِشكال. نَعَمْ لَا يَحْكُمُ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَا حَتَّى يَعْرِضَهَا عَلَى الْعِلْمِ؛ لإِمكان اخْتِلَاطِ أَحد الْقِسْمَيْنِ بِالْآخَرِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا يَسْتَدِلّ بِالرُّؤْيَا (¬6) فِي الأَحكام إِلا ضَعِيفُ الْمُنَّةِ (¬7). نعم يأْتي العلماء (¬8) بالمرائي (¬9) تأَنيساً وَبِشَارَةً وَنِذَارَةً خَاصَّةً، بِحَيْثُ لَا يَقْطَعُونَ بِمُقْتَضَاهَا حُكْمًا، وَلَا يَبْنُونَ عَلَيْهَا أَصلاً، وَهُوَ الِاعْتِدَالُ فِي أَخذها، حَسْبَمَا فُهم مِنَ الشَّرْعِ فيها، والله أَعلم. ¬

(¬1) قوله: "له" ليس في (ر) و (غ) و (م). (¬2) في (خ): "أو يا". (¬3) في (ر) و (غ): "بأن". (¬4) في (غ) و (ر): "والنهي مخالفاً". (¬5) في (خ) و (م): "لكمال". وذكر رشيد رضا في (ص265) من المجلد الثاني في موضع آخر أن لفظ "الأول" لا يظهر له معنى في هذا الموضع والموضع الآخر محل التعليق، وهو الآتي في (ص100). (¬6) قوله: "بالرؤيا" ليس في (م)، وفي (غ) و (ر): "بالأحلام". (¬7) الْمُنَّةُ ـ بالضم ـ: هي القوّة، وخص بعضهم بها قوة القلب. انظر: "لسان العرب" (13/ 415). (¬8) قوله: "العلماء" ليس في (خ) و (م). (¬9) في (خ): "المرئي" وفي (م): "المرائي".

فصل

فَصْلٌ وَقَدْ رأَينا أَن نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي الْبَابِ بفصلٍ جَمَعَ جُمْلَةً مِنْ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وغيرها مما (¬1) فِي مَعْنَاهَا، وَفِيهِ مِنْ نُكَتِ هَذَا الْكِتَابِ جُمْلَةٌ أُخرى، فَهُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِليه بِحَسْبَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وإِن كَانَ فِيهِ طُولٌ، وَلَكِنَّهُ يَخْدِمُ مَا نَحْنُ فِيهِ إِن شَاءَ اللَّهُ تعالى. وَذَلِكَ أَنه وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ قَوْمٍ يتسمَّون بالفقراءِ، يَزْعُمُونَ أَنهم سَلَكُوا طَرِيقَ الصُّوفِيَّةِ، فَيَجْتَمِعُونَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، ويأَخذون فِي الذِّكْرِ الجَهْري (¬2) عَلَى صوتٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ فِي الغناءِ وَالرَّقْصِ إِلى آخَرَ اللَّيْلِ، وَيَحْضُرُ مَعَهُمْ بَعْضُ المتسمِّين بِالْفُقَهَاءِ، يَتَرَسَّمُونَ بِرَسْمِ الشُّيُوخِ الْهُدَاةِ إِلى سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ: هَلْ هَذَا الْعَمَلُ صَحِيحٌ فِي الشَّرْعِ أَم لَا؟. فَوَقَعَ الْجَوَابُ بأَن ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، الْمُخَالَفَةِ طَرِيقَةَ (¬3) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَرِيقَةَ أَصحابه والتابعين لهم بإِحسان، فنفع الله بِذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. ثُمَّ إِن الجواب وصل (¬4) إِلى بعض البلدان، فقامت القيامة عَلَى الْعَامِلِينَ بِتِلْكَ الْبِدَعِ، وَخَافُوا انْدِرَاسَ طَرِيقَتِهِمْ، وَانْقِطَاعَ أَكلهم بِهَا، فأَرادوا الِانْتِصَارَ لأَنفسهم، بَعْدَ أَن راموا ذلك بالانتساب إِلى شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ فَضِيلَتُهُمْ، وَاشْتُهِرَتْ فِي الِانْقِطَاعِ إِلى اللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ طَرِيقَتُهُمْ، فلم يستقم (¬5) لَهُمْ الِاسْتِدْلَالُ؛ لِكَوْنِهِمْ عَلَى ضِدِّ مَا كَانَ عليه القوم، فإِنهم ¬

(¬1) قوله: "مما" ليس في (خ). (¬2) في (خ): "الجهوري". (¬3) في (غ) و (ر): "لطريقة". (¬4) في (غ) و (ر): "رحل". (¬5) في (م): "يستقر".

كانوا قد بَنَوْا نِحْلَتَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أُصول: الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَخلاق والأَفعال، وأَكل الْحَلَالِ، وإِخلاص النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الأَعمال، وهؤلاء قد خالفوهم في جميع (¬1) هذه الأُصول، فلم يُمْكِنُهُمُ الدُّخُولُ تَحْتَ تَرْجَمَتِهِمْ. وَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ سأَل بَعْضَ شُيُوخِ الوقت في مسأَلة تشبه هذه، ولكن (¬2) حَسَّن ظَاهِرَهَا بِحَيْثُ يَكَادُ بَاطِنُهَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ المتأَمِّل، فأَجاب عَفَا اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تعرُّض إِلى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، وَلَمَّا سَمِعَ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ أَرسل بِهِ (¬3) إِلى بَلْدَةٍ أُخرى، فأُتي بِهِ، فَرَحَلَ إِلى غَيْرِ بَلَدِهِ وَشَهَرَ فِي شِيعَتِهِ أَن بِيَدِهِ حُجَّةً لِطَرِيقَتِهِمْ تَقْهَرُ كُلَّ حُجَّةٍ، وأَنه طَالِبٌ لِلْمُنَاظَرَةِ فِيهَا، فدُعيَ لِذَلِكَ، فَلَمْ يَقُمْ فِيهِ وَلَا قَعَدَ، غير أَنه قال: هَذِهِ (¬4) حُجَّتِي، وأَلقى بِالْبِطَاقَةِ الَّتِي بِخَطِّ الْمُجِيبِ، وكان هو وَأَشْيَاعُهُ (¬5) يَطِيرُونَ بِهَا فَرَحًا، فَوَصَلَتِ المسأَلة إِلى غَرْنَاطَةَ، وطُلب مِنَ الْجَمِيعِ النَّظَرُ فِيهَا، فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا (¬6) لَهُ قُوَّةٌ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا إلاَّ (¬7) أَن يُظْهِرَ وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا (¬8) الَّذِي يُدَانُ اللَّهُ بِهِ؛ لأَنه مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدِّينُ الْقَوِيمُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَنَصُّ خُلَاصَةِ السُّؤَالِ: مَا يَقُولُ الشَّيْخُ فُلَانٌ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي رِبَاطٍ عَلَى ضَفَّةِ البحر في الليالي الفاضلة، يقرؤُون جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كُتُبِ الْوَعْظِ وَالرَّقَائِقِ مَا أَمكن فِي الْوَقْتِ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ بأَنواع التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ بَيْنِهِمْ قوَّالٌ يَذْكُرُ شَيْئًا فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُلْقِي مِنَ السَّمَاعِ مَا تَتُوق النَّفْسُ إِليه (¬9) وَتَشْتَاقُ سَمَاعَهُ؛ مِنْ ¬

(¬1) قوله: "جميع" ليس في (خ) و (م). (¬2) في (خ) و (م): "لكن". (¬3) في (ر) و (غ): "فيه". (¬4) في (خ): "إن هذه" .. (¬5) في (خ): "هو ومجيبه وأشياعه"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كذا! ولعلها: "ومحبه"، أو: "ومحبوه". (¬6) في (خ) و (غ): "أحد". (¬7) في (خ): "الأول" بدل "إلا". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لفظ "الأول" لا يظهر له معنى هنا، وكذا في السطر (19) من الصحيفة (263)، والظاهر أن المقام مقام الاستثناء، وأن العبارة ربما دخل فيها التحريف والسقط. اهـ. وانظر التعليق رقم (5) (ص98). (¬8) قوله: "فيها" ليس في (غ) و (ر). (¬9) في (غ) و (م): "ما تشوق النفوس إليه".

صِفَاتِ (¬1) الصَّالِحِينَ، وَذِكْرِ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَيُشَوِّقُهُمْ بِذِكْرِ الْمَنَازِلِ الْحِجَازِيَّةِ، وَالْمَعَاهِدِ النَّبَوِيَّةِ، فَيَتَوَاجَدُونَ اشْتِيَاقًا لِذَلِكَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ مَا حَضَرَ مِنَ الطَّعَامِ، ويحمدون الله تعالى، وَيُرَدِّدُونَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَبْتَهِلُونَ بالأَدعية (¬2) إِلَى اللَّهِ فِي صَلَاحِ أُمُورِهِمْ، وَيَدْعُونَ لِلْمُسْلِمِينَ ولإِمامهم وَيَفْتَرِقُونَ. فَهَلْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ؟ أَم يَمْنَعُونَ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمْ؟ وَمَنْ دَعَاهُمْ مِنَ المحبِّين إِلى مَنْزِلِهِ بِقَصْدِ التبرُّك، هَلْ (¬3) يُجِيبُونَ دَعْوَتَهُ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الْوَجْهِ (¬4) الْمَذْكُورِ أَم لَا؟. فأَجاب بِمَا مَحْصُولُهُ: مَجَالِسُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ هِيَ رِيَاضُ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَتَى بِالشَّوَاهِدِ عَلَى طَلَبِ ذِكْرِ اللَّهِ. وأَما الإِنشادات الشِّعْرِيَّةُ؛ فإِنما الشِّعْرُ كلامٌ، حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَفِي الْقُرْآنِ فِي شعراءِ الإِسلام: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (¬5)؛ وَذَلِكَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ (¬6) بْنَ رَوَاحَةَ، وَكَعْبًا لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} (¬7) الآيات، بكوا عند سماعها، فنزل الاستثناءُ (¬8). ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "صفة". (¬2) في (ر) و (غ): "الأدعية". (¬3) في (م): "فهل". (¬4) في (غ) و (ر): "على الوصف". (¬5) سورة الشعراء: آية (227). (¬6) قوله: "عبد الله" ليس في (غ) و (ر). (¬7) سورة الشعراء: آية (224). (¬8) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (26042)، ومن طريقه وطريق آخر أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" (16068 و16077)، وأخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (19/ 418 و419)، ثلاثتهم من طريق محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط، عن أبي الحسن سالم البرّاد مولى تميم الداري؛ قال: لما نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *}؛ جاء حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وكعب بن مالك ... ، الحديث. وأخرجه ابن أبي حاتم (16067 و16074)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 488)، كلاهما من طريق الوليد بن كثير، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي الحسن مولى بني نوفل؛ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رواحة أتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم حين نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} ... ، الحديث. وسكت عنه الحاكم والذهبي. والحديث بهذا الإسناد ضعيف لإرساله. وفي سنده أبو الحسن سالم البرّاد الذي قال عنه ابن إسحاق في روايته: "مولى تميم=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=الداري"، وقال الوليد بن كثير: "مولى بني نوفل"، ولم يذكر أن اسمه سالم. فبناء على رواية ابن إسحاق، فهو مجهول الحال؛ ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9/ 356 رقم 1610)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. وذكره البخاري في "الكنى" من "تاريخه" (9/ 22 رقم 170)، ووقع عنده: "أبو الحسن البزاز مولى تميم الداري، نسبه محمد بن إسحاق، يعد في أهل المدينة ... "، ثم ذكر رواية له عن علي رضي الله عنه، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. وبناء على رواية الوليد بن كثير، فيكون هو المترجم عند البخاري في الموضع السابق برقم (168)، والذي قال عنه البخاري: "أبو الحسن مولى الحارث بن نوفل الهاشمي، سمع ابن عباس، روى عنه عمرو بن معتب". ونقل ابن أبي حاتم في الموضع السابق رقم (1608) عن أبيه أنه وثقه، وقال: "سئل أبو زرعة عن أبي الحسن مولى بني نوفل، فقال: مدني ثقة". وعلى أي الحالين فهو تابعي وليس بصحابي، فالحديث مرسل وقد ذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (11/ 32 ـ 33) في القسم الأول من يمكن أن يشتبه بهذا، فقال: "أبو البرّاد غلام تميم الداري"، وذكر أن المستغفري ذكره في الصحابة، وذكر له حديثاً ذكر أن سنده ضعيف، وفيه أن تميماً الداري رضي الله عنه أمر غلامه هذا أن يسرج المسجد، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم يزهر، فقال: "من فعل هذا؟ " قالوا: تميم يا رسول الله! قال: "نوّرت الإسلام نوَّر الله عليك في الدنيا والآخرة، أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها"، فقال نوفل بن الحارث بن عبد المطلب: لي ابنة يا رسول الله! تسمى: أم المغيرة بنت نوفل، فافعل فيها ما أردت، فأنكحه إياها على المكان؛ أي: في مكانه. وهذا لو صح وثبت أنه هو فيمكن أن يجمع بين قولي محمد بن إسحاق والوليد بن كثير، فيكون أصل ولائه لتميم الداري، ثم لبني نوفل عن طريق إرث أم المغيرة لزوجها تميم أوهبته لها. وللحديث ثلاث طرق أخرى: 1 ـ أخرجها ابن أبي حاتم في "التفسير" (16070) من طريق بشر بن عمارة، عن أبي روق عطية بن الحارث، عن الضحاك، عن ابن عباس، ذكر أن الله استثنى، فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ يعني: حسان، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك؛ كانوا يذبّون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بهجاء المشركين. وسنده ضعيف لضعف بشر بن عمارة كما في ترجمته في "التقريب" (703). والضحاك بن مزاحم الهلالي لم يسمع من ابن عباس؛ باعترافه على نفسه بذلك. انظر: "تهذيب الكمال" (13/ 293 ـ 294). 2 ـ أخرجها ابن سعد في "الطبقات" (3/ 528)، وابن أبي حاتم برقم (16069)،=

وَقَدْ أُنْشِدَ الشِّعْرُ بَيْنَ يَدي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬1)، وَرَقَّت نفسُهُ الْكَرِيمَةُ، وذَرَفَتْ عَيْنَاهُ لأَبيات أُخت النَّضْر؛ لِمَا طُبِعَ عليه من الرأفة والرحمة (¬2). ¬

=كلاهما من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة؛ قال: لما نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} إلى قوله: {يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}؛ قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى قوله: {يَنْقَلِبُونَ}. وعروة تابعي، فالسند ضعيف لإرساله. 3 ـ أخرجها ابن جرير الطبري (19/ 418) من طريق شيخه محمد بن حميد الرازي، عن سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار؛ قال: نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} إلى آخر السورة في حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك. وسنده ضعيف جداً؛ فبالإضافة لإرساله، وجهالة الراوي عن عطاء بن يسار، فإنه من رواية محمد بن حميد الرازي وقد اتهمه بالكذب عدد من الأئمة. انظر: ترجمته بطولها في "تهذيب الكمال" (25/ 97 ـ 108). (¬1) روى البخاري (453، 3212)، ومسلم (2485)، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن عمر مرّ بحسّان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله! أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس". قال: نعم. وأخرج الترمذي (2847)، والنسائي (2873، 2893)، وابن حبان في "صحيحه" (4521، 5788/ الإحسان)، وابن خزيمة (2680)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضرباً يُزيل الْهَاَم عن مَقِيْلِهِ ... ويُذهل الخليل عن خليله فقال له عمر: يا ابن رواحة! بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي حرم الله تقول الشعر؟! فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: "خلِّ عنه يا عمر! فلهي أسرع فيهم من نَضْح النَّبل". قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روى عبد الرزاق هذا الحديث أيضاً عن معمر ... "، وذكر كلاماً اعترض عليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 502)، ومال إلى تصحيح الحديث، وذكر أن له طريقين إحداهما على شرط الشيخين، والأخرى على شرط مسلم، فانظره إن شئت. (¬2) ذكرها ابن إسحاق في "السيرة" كما في "السيرة" لابن هشام (3/ 42 ـ 43) بلا إسناد، وهي في قصة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم للنضر بن الحارث يوم بدر صبراً، فقالت أخته قُتيلة بنت الحارث أبياتاً مطلعها: يا راكباً إن الأُثَيْل مظنّة ... من صبح خامسةٍ وأنت موفّق=

وأَما (¬1) التَّوَاجُدُ عِنْدَ السَّمَاعِ، فَهُوَ فِي الْأَصْلِ أثر (¬2) رِقَّة النَّفْسِ، وَاضْطِرَابُ الْقَلْبِ، فيتأَثّر الظَّاهِرُ بتأَثُّر الْبَاطِنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬3)؛ أَيِ: اضْطَرَبَتْ رَغَبًا أَو رَهَبًا (¬4). وَعَنِ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ يَحْصُلُ اضْطِرَابُ الْجِسْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} (¬5) {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (¬6). وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (¬7). فإِنّما التَّوَاجُدُ رِقَّةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَهَزَّةٌ قَلْبِيَّةٌ، وَنَهْضَةٌ رُوحَانِيَّةٌ. وَهَذَا هُوَ التَّوَاجُدُ عَنْ وَجْدٍ، وَلَا يسع (¬8) فِيهِ نَكِيرٌ مِنَ الشَّرْعِ. وَذَكَرَ السُّلَمي (¬9) أَنَّهُ كان يستدل بهذه الآية في (¬10) حركة الوَاجِد (¬11) فِي وَقْتِ السَّمَاعِ؛ وَهِيَ (¬12): {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} (¬13) {فَقَالُوا رَبَّنَا} (¬14) الآية. وكان يقول: إِن القلوب ¬

=إلى أن قالت: أمحمدٌ! يا خير ضَنْءِ كريمةٍ ... في قومها والفحل فحلٌ مُعْرق ما كان ضرّك لو مَنَنْتَ وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق فقال صلّى الله عليه وسلّم: "لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه". ولم يذكر لها ابن إسحاق سنداً، فهي لا تصح، وليس في سياق ابن إسحاق بكاء النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد ذكرها أبو عمر ابن عبد البر في "الاستيعاب" (13/ 137 ـ 139)، وفيها: "فلما بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بكى حتى أخضلت الدموع لحيته، وقال: لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه". ولكن وقع عنده أنها قتيلة بنت النضر، لا أخته، فالله أعلم. ولم يذكر ابن عبد البر للقصة إسناداً، ولكن قال: "ذكر هذا الخبر عبد الله بن إدريس في حديثه، وذكره الزبير"، ثم نقل عن الزبير ـ يعني ابن بكار ـ قوله: "وسمعت بعض أهل العلم يغمز أبياتها هذه، ويذكر أنها مصنوعة". (¬1) في (م): "وإنما". (¬2) قوله: "أثر" ليس في (خ) و (م). (¬3) سورة الأنفال: آية (2). (¬4) في (غ) و (ر): "ورهباً". (¬5) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م)، وبعده: "الآية". (¬6) سورة الكهف: آية (18). (¬7) سورة الذاريات: آية (50). (¬8) في (خ): "يسمع". (¬9) في (غ) و (ر) و (م): "ذكره السلمي". (¬10) في (خ): "على". (¬11) في (خ) و (م): "الوجد". (¬12) قوله: "وهي" ليس في (غ) و (م) و (ر). (¬13) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (غ) و (ر) و (م). (¬14) سورة الكهف: آية (14).

مَرْبُوطَةٌ بِالْمَلَكُوتِ، حَرَّكَتْهَا (¬1) أَنوار الأَذكار، وَمَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنْ فُنُونِ السَّمَاعِ. وَوَرَاءَ هَذَا تَوَاجُدٌ لاَ عَنْ وَجْد، فَهُوَ مَنَاطُ الذَّمّ؛ لِمُخَالَفَةِ ما ظهر لما بطن، وقد يغرب (¬2) فِيهِ الأَمر عِنْدَ الْقَصْدِ إِلَى اسْتِنْهَاضِ الْعَزَائِمِ، وَإِعْمَالِ الْحَرَكَةِ فِي يَقَظَةِ الْقَلْبِ النَّائِمِ. يَا أَيُّها النَّاسُ ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا (¬3)، وَلَكِنْ (¬4) شَتَّان مَا بَيْنَهُمَا (¬5). وأَما مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلى مَنْزِلِهِ؛ فَتُجَابُ دَعْوَتُهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ قَصْدُهُ ونيَّته، فَهَذَا مَا ظَهَرَ تَقْيِيدُهُ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يتولَّى السَّرَائِرَ، وَإِنَّمَا الأَعمال بالنيات. انتهى ما قيَّده. ¬

(¬1) في (خ): "وحركتها". (¬2) كذا في جميع النسخ. وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: "يعزب". (¬3) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "لعله أراد حديث: "اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا"، فاقتبسه بالمعنى، وهو في "سنن ابن ماجه" من حديث سعد بن أبي وقاص بسند جيد". وهذا الحديث الذي ذكره رشيد رضا هو: ما أخرجه ابن ماجه (1337 و4196)، وأبو يعلى (689)، والبيهقي (10/ 231)، ثلاثتهم من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا أبو رافع، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الرحمن بن السائب؛ قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص وقد كُفّ بصره، فسلمت عليه، فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقال: مرحباً بابن أخي! بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنّوا به، فمن لم يتغنّ به فليس منا". وفي سنده أبو رافع إسماعيل بن رافع بن عويمر الأنصاري المدني، القاصّ، وهو ضعيف الحديث كما في "التقريب" (446). وتابعه عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة وهو ضعيف أيضاً كما في "التقريب" (3837)، وروايته عند البزار في "مسنده" (4/ 69 رقم 1235)، والدورقي في "مسند سعد" (128 و129). ومدار الحديث على عبد الرحمن بن السائب بن أبي نهيك المخزومي، ويقال: اسمه عبد الله، ويقال: هو عبيد الله بن أبي نهيك، وهو مقبول كما في "التقريب" (3894). (¬4) في (ر) و (غ): "لكن". (¬5) في (غ): "ما هنا" وفي (م) و (ر): "ما هما".

فكان مما (¬1) ظهر لي في بيان (¬2) هَذَا الْجَوَابِ: أَن مَا ذَكَرَهُ (¬3) فِي مَجَالِسِ الذكر صحيح إِذا كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِتُدَارِسِ الْقُرْآنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَتَعَلَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَأْخُذَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الَّتِي جاءَ فِي مِثْلِهَا مِنْ حديث أَبي هريرة رضي الله عنه، عنه عليه السلام (¬4): "مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّت بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ" (¬5)، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ الاجتماع على تلاوة كتاب (¬6) اللَّهِ. وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الذِّكْرِ، فإِنه اجْتِمَاعٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَفِي رِوَايَةٍ أُخرى (¬7) أَنه قَالَ: "لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ... "، الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، لَا الِاجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ. وإِذا اجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى التَّذَكُّرِ لِنِعَمِ اللَّهِ، أَو التَّذَاكُرِ فِي الْعِلْمِ إِن كَانُوا عُلَمَاءَ، أَو كَانَ فِيهِمْ عَالِمٌ فَجَلَسَ إِليه متعلِّمون، أَو اجْتَمَعُوا يُذَكِّر (¬8) بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَالْبُعْدِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ـ وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَعْمَلُ بِهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أَصحابه، وَعَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ـ، فَهَذِهِ الْمَجَالِسُ كُلُّهَا مَجَالِسُ ذِكْرٍ (¬9)، وَهِيَ الَّتِي جاءَ فِيهَا مِنَ الأَجر مَا جاءَ. كَمَا يُحْكى عَنْ ابن (¬10) أَبِي لَيْلَى أَنه سُئِلَ عَنِ الْقَصَصِ، فَقَالَ: أَدركت أَصحاب مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلسون (¬11) ويحدِّث هذا بما سمع، ويحدِّث ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "ما". (¬2) قوله: "بيان" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (خ): "أن ذكره"، وقوله: "أن ما ذكره" مكرر في (غ). (¬4) في (خ) "عن النبي صلّى الله عليه وسلّم". (¬5) أخرجه مُسْلِمٌ (2699) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه. (¬6) في (خ): "كلام" بدل "كتاب". (¬7) أخرجه مسلم (2700) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما. (¬8) في (ر) و (غ): "فذكر". (¬9) في (ر): "ذكر الله". (¬10) قوله: "ابن" سقط من (غ) و (ر). (¬11) في (ر) و (غ): "يجالسون".

هذا (¬1) بِمَا سَمِعَ، فأَما أَن يُجلسوا خَطِيبًا فَلَا (¬2). وَكَالَّذِي (¬3) نَرَاهُ (¬4) مَعْمُولًا بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ؛ مِنَ اجْتِمَاعِ الطَّلَبَةِ عَلَى مُعَلِّمٍ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، أَوْ عِلْماً من العلوم الشرعية، أَو يجتمع (¬5) إِليه الْعَامَّةُ، فَيُعَلِّمُهُمْ أَمر دِينِهِمْ، ويذكِّرهم بِاللَّهِ، ويبيِّن لَهُمْ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ لِيَعْمَلُوا بِهَا، ويبيِّن لَهُمُ الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي هِيَ ضَلَالَةٌ لِيَحَذَرُوا مِنْهَا، ويجتنبوا (¬6) مَوَاطِنَهَا وَالْعَمَلَ بِهَا. فَهَذِهِ مَجَالِسُ الذِّكْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ الَّتِي حَرَمَها (¬7) اللَّهُ أَهلَ الْبِدَعِ مِنْ هؤلاءِ الفقراءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنهم سَلَكُوا طَرِيقَ (¬8) التصوُّف، فقلَّما (¬9) تَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُحْسِنُ قراءَة الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا عَلَى اللَّحْنِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، وَلَا يَعْرِفُ كَيْفَ يتعبَّد، وَلَا كَيْفَ يَسْتَنْجِي أَو يتوضأَ أَو يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكَيْفَ يَعْلَمُونَ (¬10) ذَلِكَ وَهُمْ قَدْ حُرِمُوا مَجَالِسَ الذِّكْرِ الَّتِي تَغْشَاهَا الرَّحْمَةُ، وَتَنْزِلُ فِيهَا السَّكِينَةُ، وَتَحُفُّ بِهَا الْمَلَائِكَةُ؟ فَبِانْطِمَاسِ هَذَا النُّورِ عَنْهُمْ ضَلُّوا، فَاقْتَدَوْا بِجُهَّالٍ أَمثالهم، وأَخذوا يقرؤُون الأَحاديث النَّبَوِيَّةَ وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ فَيُنْزِلُونَهَا عَلَى آرَائِهِمْ، لَا عَلَى مَا قَالَ أَهل الْعِلْمِ فِيهَا. فَخَرَجُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلى أَنْ يَجْتَمِعُوا، وَيَقْرَأَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ يَكُونُ حَسَنَ الصَّوْتِ، طيِّب النَّغْمَةِ، جيِّد التَّلْحِينِ، تُشْبِهُ قِرَاءَتُهُ الغناءَ الْمَذْمُومَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: تَعَالَوْا نَذْكُرُ (¬11) اللَّهَ! فيرفعون أصواتهم ويُمَشُّون (¬12) ¬

(¬1) في (خ) و (م): "وهذا" بدل "ويحدث هذا". (¬2) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (40) من طريق عيسى بن يونس، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عتيبة؛ قال: سألت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن القصص ... ، فذكره. وسنده ضعيف لضعف محمد بن أبي ليلى الراوي عن الحكم، فقد قال عنه ابن حجر في "التقريب" (6121): "صدوق سيء الحفظ جداً". (¬3) في (خ): "وكان كالذي". (¬4) في (غ) و (ر): "تراه". (¬5) في (خ): "تجتمع". (¬6) في (خ): "ويتجنبوا". (¬7) في (ر) و (غ): "حرم". (¬8) قوله: "طريق" من (خ) فقط. (¬9) في (خ): "وقلما". (¬10) في (غ) و (ر): "يعملون". (¬11) في (خ) و (غ) و (ر): "تذكروا". (¬12) في (خ): "يمشون".

ذَلِكَ الذِّكْرَ مُدَاوَلَةً، طَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ، وَطَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ أُخرى، عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ يُشْبِهُ الغناءَ، وَيَزْعُمُونَ أَن هَذَا مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْمَنْدُوبِ إِليها، وَكَذَبُوا! فإِنه لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَولى بإِدراكه وَفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وإِلا فأَين فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السنة الاجتماع للذكر على صوت واحد جهراً عَالِيًا؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً (¬1) إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬2). وَالْمُعْتَدُونَ فِي التَّفْسِيرِ: هُمُ الرَّافِعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بالدعاءِ. وَعَنْ أَبي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم: "أيها الناس (¬3)! أَربعوا على أَنفسكم، إنكم ليس تَدْعُونَ أَصمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنكم تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ" (¬4). وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَلَمْ يَكُونُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُكَبِّرُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ لِيَكُونُوا مُمْتَثِلِينَ لِلْآيَةِ. وَقَدْ جاءَ عَنِ السَّلَفِ أَيضاً النَّهْيُ عَنِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا هؤلاءِ الْمُبْتَدِعُونَ (¬5)، وجاءَ عَنْهُمُ النَّهْيُ عَنِ الْمَسَاجِدِ المتَّخذة لذلك، وهي الرُّبُطُ التي يشبِّهونها (¬6) بالصُّفَّة. ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ وضَّاح (¬7) وَغَيْرُهُمَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ. فَالْحَاصِلُ مِنْ هؤلاءِ أَنهم حسَّنوا الظَّنَّ بأنفسهم (¬8) فيما هم عليه (¬9)، وأَساؤوا الظَّنَّ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ أَهل الْعَمَلِ (¬10) الرَّاجِحِ الصَّرِيحِ (¬11)، وأَهل الدين ¬

(¬1) في (خ) "وخيفة". (¬2) سورة الأعراف: آية (55). (¬3) قوله: "أيها الناس" ليس في (خ) و (م). (¬4) أخرجه البخاري (2992 و4202 و6384 و6610 و7386)، ومسلم (2704). (¬5) تقدم تخريجه (في القسم الأول ص251). (¬6) في (خ) و (م): "يسمونها". (¬7) في "البدع والنهي عنها" (ص34 وما بعدها). (¬8) في (خ) و (م): "بأنهم" بدل "بأنفسهم"، وهي صحيحة بمراعاة التعليق التالي. (¬9) في (خ): "فيما هم عليه مصيبون"، وكذا في (م)، لكن طمس على قوله: "مصيبون". (¬10) في (غ) و (ر) و (م): "بالسلف الصالح والعمل". (¬11) قوله: "الراجح الصريح" من (خ) فقط.

الصَّحِيحِ. ثُمَّ لَمَّا طَالَبَهُمْ (¬1) لِسَانُ الْحَالِ بِالْحُجَّةِ، أخذوا كلام المجيب وهم لا يعلمونه (¬2)، وقوَّلوه مَا لَا يَرْضَى بِهِ العلماءُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ آخَرَ؛ إِذ سُئِلَ عن ذكر فقراء زماننا، فأَجاب بأَن الغالب في (¬3) مجالس الذكر المذكورة في الأَحاديث أَنها هِيَ (¬4) الَّتِي يُتْلَى (¬5) فِيهَا الْقُرْآنُ، وَالَّتِي يُتَعَلَّم فِيهَا الْعِلْمُ وَالدِّينُ، وَالَّتِي تُعمر بِالْوَعْظِ (¬6) وَالتَّذْكِيرِ بِالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ كَمَجَالِسِ (¬7) سُفْيَانَ الثوري، والحسن، وابن سيرين، وأَضرابهم. وأما (¬8) مَجَالِسُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ: فَقَدْ صُرِّح بِهَا فِي (¬9) حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ السَّيَّاحين (¬10)، لَكِنْ لَمْ يُذكر فِيهِ جهر (¬11) بِالْكَلِمَاتِ، وَلَا رَفْعَ أَصوات، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. لَكِنَّ الأَصل الْمَشْرُوعَ إِعلان الْفَرَائِضِ وَإِخْفَاءُ النَّوَافِلِ، وأَتى بِالْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا *} (¬12)، وَبِحَدِيثِ: "أَربعوا عَلَى أَنفسكم" (¬13). قَالَ: وفقراءُ الْوَقْتِ قد تحيَّزوا (¬14) بآيات (¬15)، ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "طلبهم". (¬2) في (خ): "لا يعلمون". (¬3) قوله: "الغالب في" ليس في (خ) و (م). (¬4) قوله: "هي" ليس في (غ) و (م) و (ر). (¬5) في (خ): "يختلا". وعلق عليها رشيد رضا بقوله: في الأصل: "يختلا" هكذا، فصححها ناسخ الورق الذي نطبع عنه، فجعلها: "يختلى"، وكلاهما غلط. اهـ. (¬6) في (خ): "بالعلم" بدل "بالوعظ". (¬7) في (غ) و (ر): "كمجاليس". (¬8) في (خ) و (م): "أما". (¬9) قوله: "في" ليس في (ر) و (غ). (¬10) أخرجه الإمام أحمد (2/ 251 ـ 252)، والترمذي (3600) كلاهما من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ـ أو عن أبي سعيد، هو شكّ، يعني الأعمش ـ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: "إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض، فُضُلاً عن كتّاب الناس، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تبادروا: هلمّوا إلى بغيتكم ... " الحديث بطوله. وقد أخرجه البخاري (6408) من طريق جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ـ ولم يشك ـ، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق ... " الحديث. وأخرجه مسلم (2689) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة ... " الحديث. (¬11) في (خ): "جهراً". (¬12) سورة مريم: الآية (4). (¬13) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة. (¬14) في (خ) و (م): "تخيروا". (¬15) في (غ): "بئات"، وفي (م): يشبه أن تكون: "بنات".

وَتَمَيَّزُوا بأَصوات، هِيَ إِلى الاعتداءِ أَقرب مِنْهَا إِلى الاقتداءِ، وَطَرِيقَتُهُمْ إِلى اتِّخَاذِهَا مَأْكَلَةً وَصِنَاعَةً أَقرب مِنْهَا إِلى اعْتِدَادِهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً. انْتَهَى مَعْنَاهُ عَلَى اخْتِصَارِ أَكثر الشَّوَاهِدِ. وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَن فَتْوَاهُ الْمُحْتَجَّ بِهَا لَيْسَ مَعْنَاهَا مَا رَامَ هؤلاءِ الْمُبْتَدَعَةُ، فإِنه سُئِلَ فِي هَذِهِ عَنْ فقراءِ الْوَقْتِ، فأَجاب بذمِّهم، وأَن حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَاوَلُ عَمَلَهُمْ. وَفِي الأُولى إِنَّمَا سُئِلَ عَنْ قوم يجتمعون لقراءَة كتاب الله (¬1)، أَو لِذِكْرِ اللَّهِ. وَهَذَا السُّؤَالُ يَصْدُقُ عَلَى قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ مَثَلًا فِي الْمَسْجِدِ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ، أَو يَتْلُو الْقُرْآنَ لِنَفْسَهُ (¬2)، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى مَجَالِسِ المعلِّمين والمتعلِّمين، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عليه، فلا يَسَعُهُ ولا غيره (¬3) مِنَ العلماءِ إِلا أَن يَذْكُرَ مَحَاسِنَ ذَلِكَ والثواب عليه، فلما سئل عن أَهل الابتداع (¬4) فِي الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ، بَيَّن مَا يَنْبَغِي أَن يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ (¬5). وأَما مَا ذَكَرَهُ فِي الإِنشادات الشِّعْرِيَّةِ، فَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ الَّذِي لَا رَفَثَ فِيهِ، وَلَا يذكِّر بِمَعْصِيَةٍ، وَأَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِهِ إِذا أُنْشِدَ، عَلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ يُنْشَدُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو عَمِلَ بِهِ (¬6) الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ يُقتدى بِهِ مِنَ العلماءِ؛ وَذَلِكَ أَنه كَانَ يُنشد ويُسمع لِفَوَائِدَ (¬7)، مِنْهَا: الْمُنَافَحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وعن الإسلام وأَهله، فكانوا في زمانه يعارضون به الكفار في أشعارهم التي يذمون فيها الإسلام وأهله، ويمدحون بها الكفر وَأَهْلِهِ (¬8)، وَلِذَلِكَ كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ نُصب لَهُ مِنْبَرٌ فِي الْمَسْجِدِ يُنْشِدُ عَلَيْهِ إِذا وَفَدَتِ الْوُفُودُ؛ حَتَّى يقولوا: ¬

(¬1) في (خ): "لقراءة القرآن". (¬2) في (خ): "نفسه". (¬3) في (خ) و (م): "وغيره". (¬4) في (خ) و (م): "البدع". (¬5) قوله: "العلي العظيم" من (خ) فقط. (¬6) قوله: "به" ليس في (غ) و (ر). (¬7) في (غ) و (ر): "الفوائد". (¬8) من قوله: "فكانوا في زمانه" إلى هنا سقط من (خ) و (م).

خَطِيبُهُ أَخطب مِنْ خَطِيبِنَا، وَشَاعِرُهُ أَشعر مِنْ شاعرنا، ويقول له صلّى الله عليه وسلّم: "اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ" (¬1)، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجِهَادِ في سبيل الله، ليس للفقراءِ مِنْ فَضْلِهِ فِي غِنَائِهِمْ بِالشِّعْرِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِحَاجَاتِهِمْ، وَيَسْتَشْفِعُونَ بِتَقْدِيمِ الأَبيات بَيْنَ يَدَيْ طَلَبَاتِهِمْ؛ كَمَا فعل كعب (¬2) بن زهير رضي الله عنه (¬3)، وأُخت ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 72)، وأبو داود (4976)، والترمذي (2846)، والطبراني (4/ 37 رقم 3580)، والحاكم (3/ 487) جميعهم من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة، قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر ... ، الحديث. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب، وهو حديث ابن أبي الزناد". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". وفي سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد ـ واسم أبي الزناد عبد الله بن ذكوان ـ، المدني، وهو صدوق تغيّر حفظه لما قدم بغداد كما في "التقريب" (3886)، ولكنه لم ينفرد به. فقد أخرجه الطبراني برقم (3581) عن شيخه محمد بن هشام المعروف بابن أبي الدميك، عن إبراهيم بن زياد سَبَلان، عن إسماعيل بن مجالد، عن هلال الوزّان، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وضع لحسّان منبراً ينشد عليه هجاء المشركين. وهذا إسناد حسن رجاله ثقات، عدا إسماعيل بن مجالد فهو مختلف فيه كما ترى ذلك في ترجمته في "تهذيب الكمال" (3/ 184 ـ 187)، والراجح أنه صدوق كما هو اختيار الذهبي في "الكاشف" (403)، وأما ابن حجر فقال في "التقريب" (480): "صدوق يخطئ". وقوله صلّى الله عليه وسلّم لحسان: "اهجهم وجبريل معك": أخرجه البخاري (3213)، ومسلم (2486). (¬2) قوله: "كعب" ليس في (خ). (¬3) أي: في قصيدته المشهورة: بانت سعاد. وهذه القصيدة وقصتها برغم شهرتها فليس لها إسناد يصح، ويبدو أن لإبراهيم بن المنذر الحزامي فيها مؤلفاً، فقد قال الحاكم في "المستدرك" (3/ 583): "هذا حديث له أسانيد قد جمعها إبراهيم بن المنذر الحزامي". وقد جمع طرقها وتكلم عليها الشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله في رسالة له فيها مفردة، وكذا الشيخ الدكتور سعود الفنيسان. ومن أشهر طرقها: ما أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2706)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 579)، وعنه البيهقي في "سننه" (10/ 243)، كلاهما=

النضر بن الحارث (¬1)، مثل مَا يَفْعَلُ (¬2) الشعراءُ مَعَ الكبراءِ، هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الشِّعْرِ ذِكْرُ مَا لَا يَجُوزُ. وَنَظِيرُهُ فِي سَائِرِ الأَزمنة تَقْدِيمُ الشُّعَرَاءِ (¬3) للخلفاءِ وَالْمُلُوكِ وَمَنْ (¬4) أَشبههم قِطَعاً من أَشعارهم بين يدي حاجاتهم؛ لا كما (¬5) يفعله فقراء (¬6) الوقت المتجرِّدون (¬7) للسِّعَايَةِ عَلَى النَّاسِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ. وفي الحديث: "لا تحلّ (¬8) الصَّدَقَةُ لِغَنيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّة سوِيّ" (¬9)، فَإِنَّهُمْ يُنْشِدُونَ الأَشعار الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ ¬

=من طريق إبراهيم بن المنذر الحزامي، عن الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير، عن أبيه، عن جده. وصحح الحاكم هذا الطريق، وفيه الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير، ولم أجد له ترجمة، ولا لأبيه وجده. وله طرق أخرى معضلة ومرسلة تجدها عند الحاكم والبيهقي في "السنن" و"دلائل النبوة" (5/ 207 ـ 211)، وعند ابن حجر في "الإصابة" (8/ 289 ـ 292). (¬1) تقدم تخريجه (ص103 ـ 104). (¬2) في (غ) و (ر): "مثل يفعل". (¬3) في (خ) و (م): "الشعر". (¬4) في (ر) و (غ): "وما" بدل "ومن". (¬5) في (خ) و (م): "كما". (¬6) في (خ): "أهل" بدل "فقراء". (¬7) في (خ) و (م): "المجردون". (¬8) في (خ): "لا تصح". (¬9) هو حديث صحيح، ورد عن عدّة من الصحابة، منهم: عبد الله بن عمرو، وأبو هريرة، ومن حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، عن رجلين من الصحابة. أما حديث عبد الله بن عمرو: فأخرجه الطيالسي (2271)، وعبد الرزاق (7155)، وابن أبي شيبة (10663)، والدارمي (1/ 386)، وأبو داود (1631)، والترمذي (652)، وابن الجارود (363)، جميعهم من طريق سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مرّة سويّ". قال الترمذي: "حديث حسن". وفي سنده ريحان بن يزيد العامري وهو مقبول كما في "التقريب" (1987). وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن أبي شيبة (10664)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 377 و389)، وابن ماجه (1839)، والنسائي (2597)، وابن الجارود (364)، وابن حبان في "صحيحه" (3290/ الإحسان)، جميعهم من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حَصِيْن عثمان بن عاصم، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به مثله. وسالم بن أبي الجعد كثير الإرسال عن الصحابة كما في "التقريب" (2183)، ولم يصرح بالسماع هنا، ولم أجد من نصّ على أنه سمع من أبي هريرة رضي الله عنه،=

رَسُولِهِ؛ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، ويَتَمَندَلُونَ (¬1) بِذِكْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الأَسواق والمواضع القذرة، ويجعلون ذلك آلة لأَخذ (¬2) مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، لَكِنْ بأَصواتٍ مُطْرِبَةٍ يُخَافُ بسببها الفتنة (¬3) عَلَى النساءِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ. وَمِنْهَا: أَنهم رُبَّمَا أَنشدوا الشِّعْرَ فِي الأَسفار الجهادية تنشيطاً لِكَلاَلِ ¬

=وقال الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 399): "قال صاحب "التنقيح": رواته ثقات، إلا أن أحمد بن حنبل قال: سالم بن أبي الجعد لم يسمع من أبي هريرة". وأبو بكر بن عياش ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح كما في "التقريب" (8042). ولكنه لم ينفرد به، فقد أخرجه الدارقطني (2/ 118) من طريق إسرائيل، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، به. وأخرجه أبو يعلى (6199)، وابن خزيمة (2387)، والحاكم (1/ 407)، والبيهقي (7/ 13 ـ 14)، جميعهم من طريق سفيان بن عيينة، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة يبلغ به، فذكره مثله. ويبدو أن سفيان كان يشك في رفعه، ففي رواية البيهقي: "فقيل لسفيان: هو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لعلّه". وهذا سند صحيح إن سلم من علّة شك سفيان، أو مخالفة إسرائيل له في الطريق السابقة التي رواها عن منصور، عن سالم. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (7859)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (885)، كلاهما من طريق وهب بن بقية، عن خالد الطحان الواسطي، عن حصين بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به مثله. وسنده صحيح إن كان حصين سمع من أبي حازم، فإني لم أجد من نص عليه. أما حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار: فأخرجه ابن أبي شيبة (10666)، وأحمد (4/ 224)، وأبو داود (1630)، والنسائي (2598)، جميعهم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار؛ قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم يسألانه عن الصدقة، قال: فرفع فيهما البصر وصوّبه، وقال: "إنكما لجلدان"، فقال: "أما إن شئتما أعطيتكما، ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب". وسنده صحيح. وقال الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 401): "قال صاحب "التنقيح": حديث صحيح، ورواته ثقات. قال الإمام أحمد رضي الله عنه: ما أجوده من حديث! هو أحسنها إسناداً". وللحديث طرق أخرى ذكرها جميعها الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "الإرواء" (877)، وحكم عليه بمجموعها بالصحة. (¬1) أي: يتظاهرون. (¬2) في (م): "بأخذ". (¬3) قوله: "الفتنة" ليس في (خ) و (م).

النفوس، وتنبيهاً للرواحل أَن تنهض بأثقالها (¬1)، وَهَذَا حَسَنٌ، لَكِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ تَحْسِينِ النَّغَمَات مَا يَجْرِي مَجْرَى مَا النَّاسُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، بَلْ كَانُوا يُنْشِدُونَ الشِّعْرَ مطلقاً من غير أَن يَعْتَمِلُوا (¬2) هَذِهِ التَّرْجيعات الَّتِي حَدَثَتْ بِعَدَهُمْ، بَلْ كَانُوا يرقِّقون الصوت ويُمَطِّطُونه على وجهٍ يَلِيقُ بأُمّية (¬3) الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا صَنَائِعَ الْمُوسِيقَى (¬4)، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلذاذ (¬5) وَلَا إِطراب يُلْهِي، وإنما كان لهم فيه (¬6) شيء من النشاط؛ كما كان أَنْجَشَةُ (¬7) وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَحْدُوَانِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬8)، وَكَمَا كَانَ الأَنصار يَقُولُونَ عِنْدَ حَفْرِ (¬9) الْخَنْدَقِ: نَحْنُ الَّذين (¬10) بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبداً فيجيبهم رسول الله (¬11) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ (¬12): اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ (¬13) ". وَمِنْهَا: أَن يتمثَّل الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ أَو الأَبيات مِنَ الْحِكْمَةِ فِي نَفْسِهِ لِيَعِظَ نَفْسَهُ، أَو يُنَشِّطها، أَوْ يُحَرِّكها لِمُقْتَضَى مَعْنَى الشِّعْرِ، أَو يذكرها لغيره (¬14) ذِكْرًا مُطْلَقًا؛ كَمَا حَكَى أَبو الْحَسَنِ القَرَافي الصُّوفي عن الحسن: أَن قوماً ¬

(¬1) في (خ) و (م): "في أثقالها". (¬2) في (خ) و (م): "يتعلموا". (¬3) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "لا يليق".اهـ. (¬4) في (خ) و (م): "المويسقي". (¬5) في (م): "لداد". (¬6) "فيه" زيادة من (غ). (¬7) في (م): "نحشة". (¬8) أما حديث عبد الله بن رواحة: فتقدم تخريجه (ص103). وأما حديث أنجشة: فأخرجه البخاري في "صحيحه" (6149 و6161 و6202 و6210 و6211)، ومسلم (2323)، كلاهما من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره، وغلام أسود يقال له: أنجشة يحدو، فقال له رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أنجشة! رويدك سوقاً بالقوارير". (¬9) قوله: "حفر" سقط من (ر)، واستدرك في الهامش، ولم يتَّضح جيداً في التصوير. (¬10) في (خ): "الذون". (¬11) قوله: "رسول الله" ليس في (خ). (¬12) قوله: "بقوله" من (خ) فقط. (¬13) أخرجه البخاري (2834 و2835)، ومسلم (1805). (¬14) قوله: "لغيره" ليس في (خ).

أَتوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! إِن لَنَا إِماماً إِذا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ تغنَّى، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ هُوَ؟ فذُكر لَهُ (¬1) الرَّجُلُ، فَقَالَ: قُومُوا بِنَا إِليه، فإِنا إِن وجَّهنا إِليه يَظُنُّ أَنّا تجسَّسنا عَلَيْهِ أَمره. قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتوا الرَّجُلَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَن نَظَرَ إِلى عُمَرَ قَامَ فَاسْتَقْبَلَهُ، فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! مَا حَاجَتُكَ؟ وَمَا جاءَ بِكَ؟ إِن كَانَتِ الْحَاجَةُ لَنَا كُنَّا أَحقَّ بِذَلِكَ مِنْكَ أَن نأْتيك، وإِن كَانَتِ الْحَاجَةُ لَكَ فأَحق مَنْ عَظَّمْنَاهُ خليفةُ خليفةِ (¬2) رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ لَهُ عُمَرُ: وَيَحَكَ! بَلَغَنِي عَنْكَ (¬3) أَمر ساءَني! قَالَ: وَمَا هو يا أَمير المؤمنين؟ فإني أعينك من نفسي، قال له عمر: بلغني أنك إذا صلَّيت تغنَّيت. قال: نعم يا أمير المؤمنين (¬4)! فقال (¬5) عمر (¬6): أتتمجَّن (¬7) فِي عِبَادَتِكَ؟ قَالَ: لَا يَا أَمير المؤمنين، ولكنها (¬8) عِظَةٌ أَعِظُ بها نفسي. فقال (¬9) عُمَرُ: قُلْها، فإِن كَانَ كَلَامًا حَسَنًا قُلْتُهُ (¬10) مَعَكَ، وإِن كَانَ قَبِيحًا نَهَيْتُكَ عَنْهُ. فَقَالَ: وفُؤَادٌ كُلَّما عَاتَبْتُهُ ... عَادَ في (¬11) الهُجْران يَبْغي تَعَبي (¬12) لَا أَراهُ الدَّهْرَ إِلاّ لاهِياً ... فِي تَمَادِيْهِ فَقَدْ بَرّحَ بِي يَا قَرِينَ السُّوء مَا هَذَا الصِّبا ... فَنِيَ العُمر كَذَا فِي اللَّعِبِ (¬13) وشَبَابٌ بَانَ (¬14) عَنِّي فمَضَى ... قَبْلَ أَن أَقْضِيَ مِنْهُ أَرَبِي مَا أُرجّي (¬15) بَعْدَهُ إِلا الفَنَا ... ضَيَّقَ الشَّيْبُ عَلَيّ مَطْلَبي ¬

(¬1) قوله: "له" ليس في (خ). (¬2) في (م) ضرب على قوله: "خليفة" الأولى، وفي (خ): "خليفة" مرة واحدة. (¬3) في (خ): "عنك عنك". (¬4) من قوله: "فإني أعينك" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬5) في (ر) و (غ): "قال". (¬6) قوله: "عمر" ليس في (خ). (¬7) في (ر) و (غ): "أوتتمجن". (¬8) في (خ) و (م): "لكنها". (¬9) في (خ) و (م): "قال". (¬10) في (م): "قلت". (¬11) في (خ) و (م): "في مدى" بدل "عاد في". (¬12) في (م): "تعب" وفي (غ) و (ر): "لعبي". (¬13) في (م): "ما للعب". (¬14) في (م): "بار". (¬15) في (م): "ما أرجو".

وَيْحَ نَفْسِي! لَا أَرَاهَا أَبداً ... فِي جميلٍ لَا، وَلَا فِي (¬1) أَدَبِ نفسُ لَا كنتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى ... رَاقِبِي المَوْلى وخافِي وارْهَبي قال (¬2): فقال عمر رضي الله تعالى عَنْهُ: نفسُ لَا كنتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى ... رَاقِبِي الْمَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي ثُمَّ قَالَ عُمَرُ (¬3): عَلَى هَذَا فليغنِّ مَنْ غنَّى (¬4). فتأَمَّلوا قَوْلَهُ: "بلغني عنك أَمر ساءَني"، مَعَ قَوْلِهِ: "أَتتمجَّن فِي عِبَادَتِكَ"، فَهُوَ مِنْ أَشدّ مَا يَكُونُ فِي الإِنكار، حتّى (¬5) أَعلمه أَنه يردد على (¬6) لِسَانُهُ أَبياتَ حِكْمةٍ فِيهَا عِظَةٌ (¬7)، فَحِينَئِذٍ (¬8) أَقرّه وَسَلَّمَ لَهُ. هَذَا وَمَا أَشبهه كَانَ فِعْلَ الْقَوْمِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرُوا فِي التَّنْشِيطِ لِلنُّفُوسِ وَلَا الْوَعْظِ عَلَى مجرَّد الشِّعْرِ، بَلْ وَعَظُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُلِّ مَوْعِظَةٍ، وَلَا كَانُوا يَسْتَحْضِرُونَ لِذِكْرِ الأَشعار المغنِّين، إِذ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ طَلَبَاتِهِمْ، وَلَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الغناءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَزماننا (¬9) شيءٌ، وإِنّما دَخَلَ فِي الإِسلام بَعْدَهُمْ حِينَ خَالَطَ الْعَجَمُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ بيَّن ذَلِكَ أَبو الْحَسَنِ القَرَافي، فَقَالَ: إِن (¬10) الْمَاضِينَ مِنَ الصَّدْرِ الأَوّل حُجَّة عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا يُلَحِّنون الأَشعار وَلَا يُنَغِّمُونَها ¬

(¬1) قوله: "في" ليس في (م). (¬2) قوله: "قال" ليس في (غ) و (ر). (¬3) قوله: "عمر" من (خ) فقط. (¬4) أخرج هذه القصة ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 312) من طريق الفضل بن عمير بن تميم المروزي، عن عبيد الله بن محمد العيشي، عن أبيه، عن مزيدة بن قعنب الرهاوي؛ قال: كنا عند عمر ... ، فذكرها مع اختلاف يسير. ولم أجد ترجمة لمزيدة بن قعنب ولا للفضل بن عمير. (¬5) في (غ): "على". (¬6) قوله: "على" ليس في (خ) و (م). (¬7) في (خ): "موعظة". (¬8) في (غ): "ثم". (¬9) في (غ) و (ر): "أزمنتنا"، وفي (خ): "أزمات" وعلق عليها رشيد رضا بقوله: في الأصل: "أزمات"، فهو تحريف ظاهر. اهـ. (¬10) في (خ): "أي".

بأَحسن (¬1) مَا يَكُونُ مِنَ النَّغَم، إِلا مِنْ وَجْهِ إِرسال الشِّعْرِ واتِّصال الْقَوَافِي. فإِن كَانَ صوتُ أَحدهم أَشْجَى (¬2) مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا إِلى أَصل الخِلْقة لَا يَتَصَنَّعون وَلَا يَتَكَلّفون. هَذَا مَا قَالَ (¬3). فَلِذَلِكَ نصَّ العلماءُ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ المُحْدَث، وَحَتَّى سُئل مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الغناءِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ (¬4) أَهل المدينة، فقال: إِنما يفعله عندنا (¬5) الفُسّاق (¬6). وَلَا كَانَ (¬7) المتقدِّمون أَيضاً يَعُدُّون الغناءَ جُزْءاً مِنْ أَجزاءِ طَرِيقَةِ التعبُّد، وَطَلَبِ رقَّة النفوس، وخشوع القلوب، حتى يقصدوه قَصْدًا، ويتعمَّدوا اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ، فَيَجْتَمِعُوا لأَجل الذِّكْرِ الجَهْري، ثم الغناء (¬8)، والشَّطْح، والرَّقْص، والتَّغَاشِي، والصِّيَاح، وَضَرْبِ الأَقدام عَلَى وزن إيقاع الأَكُفِّ (¬9) أَو الْآلَاتِ، وَمُوَافَقَةِ (¬10) النَّغَمَات. هَلْ فِي كَلَامِ النبي صلّى الله عليه وسلّم أو عمله (¬11) الْمَنْقُولِ فِي الصِّحَاحِ (¬12)، أَوْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَو أَحدٍ من العلماءِ من ذَلِكَ (¬13) أَثر؟ أَو فِي كَلَامِ المُجِيب مَا يُصَرِّحُ بِجَوَازِ مِثْلِ هَذَا؟. بَلْ سُئل عَنْ إِنشاد الأَشعار بالصَّوامع كَمَا يَفْعَلُهُ المؤذِّنون الْيَوْمَ فِي الدعاءِ بالأَسحار؟ فأَجاب بأَن ذَلِكَ بِدْعَةٌ مُضَافَةٌ إِلى بِدْعَةٍ؛ لأَن الدعاءَ بِالصَّوَامِعِ بِدْعَةٌ، وإِنشاد الشِّعْرِ وَالْقَصَائِدِ (¬14) بِدْعَةٌ أُخْرَى، إِذ لَمْ يكن ذلك ¬

(¬1) في (ر): "فأحسن". (¬2) في (خ): "أشجن". (¬3) قوله: "هذا ما قال" مكرر في (غ). (¬4) في (ر) و (غ): "يتعلمه". (¬5) قوله: "عندنا" ليس في (خ) و (م). (¬6) رواه عبد الله بن أحمد في "العلل" (1581) عن أبيه، عن إسحاق بن عيسى الطباع؛ أنه سأل مالكاً ... ، فذكره. وسنده حسن. (¬7) في (خ): "ولكن". (¬8) قوله: "ثم الغناء" ليس في (خ) و (م). (¬9) في (خ) و (م): "الكف". (¬10) في (م): "وموافقات". (¬11) في (خ): "وعمله". (¬12) في (ر) و (غ): "الصحيح". (¬13) قوله: "من ذلك" ليس في (خ): وقوله: "من" ليس في (م). (¬14) في (ر) و (غ) و (م): "وإنشاد القصائد".

فِي زَمَنِ (¬1) السَّلَف المُقْتَدَى بِهِمْ. كَمَا أَنه سُئِلَ عَنِ الذِّكْر الجَهْري أَمام الْجِنَازَةِ، فأَجاب بأَن السُّنَّة فِي اتِّباع (¬2) الْجَنَائِزِ الصَّمْت والتَّفَكُّر والاعتبار، وأَن ذلك فعل السلف. قال (¬3): وَاتِّبَاعُهُمْ سُنّة، وَمُخَالَفَتُهُمْ بِدْعَةٌ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَنْ يأْتِيَ آخرُ هَذِهِ الأُمَّة بأَهدى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوّلُها (¬4). وأَما مَا ذَكَرَهُ (¬5) المُجِيب فِي التَّوَاجُدِ عِنْدَ السَّماع مِنْ أَنَّهُ أَثر رِقَّةِ النَّفس وَاضْطِرَابِ الْقَلْبِ، فإِنه لَمْ يبيِّن ذَلِكَ الأَثر مَا هُوَ، كَمَا أَنه لَمْ يبيِّن مَعْنَى الرِّقَّة، وَلَا عرَّج عَلَيْهَا بتفسيرٍ يُرشد إلى معنى (¬6) التَّوَاجُدِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وإِنما فِي كَلَامِهِ أَن ثَمَّ أَثراً ظَاهِرًا يَظْهَرُ عَلَى جِسْمِ المُتَوَاجِد، وَذَلِكَ الأَثر يَحْتَاجُ إِلى تَفْسِيرٍ. ثُمَّ التَّوَاجُدُ يَحْتَاجُ إِلَى شرحٍ بِحَسَبَ مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ فِيهِ (¬7). وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي التَّوَاجُد (¬8) مَا كَانَ يَبْدُو عَلَى جملةٍ مِنْ أَصحاب رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو البُكاءُ، واقْشِعْرَارُ الجِلْد التَّابِعِ لِلْخَوْفِ، الْآخِذِ (¬9) بمَجَامِع الْقُلُوبِ، وَبِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ ¬

(¬1) في (ر) و (م): "زمان". (¬2) في (غ): "التباع". (¬3) قوله: "قال" ليس في (خ) و (م). (¬4) لم أجده بهذا اللفظ، والظاهر أن المصنف عبَّر بالمعنى عما اشتهر عن الإمام مالك رحمه الله من قوله: "لا يصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله"، وهذا ينسب إليه مباشرة كما في "منهاج السنة" (2/ 444) وغيره. بينما أسنده ابن عبد البر في "التمهيد" (23/ 10) بسند صحيح من طريق أشهب، عن الإمام مالك قال: كان وهب بن كيسان يقعد إلينا، ولا يقوم أبداً حتى يقول لنا: اعلموا أنه لا يُصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله. قلت: يريد ماذا؟ قال: يريد في بادئ الإسلام، أو قال: يريد التقوى. (¬5) في (غ) و (ر): "وأما ما ذكر". (¬6) في (خ) و (م) "فهم". (¬7) قوله: "فيه" ليس في (خ). (¬8) من قوله: "وذلك الأثر" إلى هنا سقط من (غ) و (ر). (¬9) في (ر): "لا لاخذ".

جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬1)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (¬2)، وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬3). وعن عبد الله بن الشِّخِّير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصلّي، وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كأَزِيزِ المِرْجَلِ؛ يَعْنِي مِنَ الْبُكَاءِ (¬4). والأَزِيزُ: صوتٌ يشبه غَلَيان القِدْر. وَعَنِ الْحَسَنِ؛ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ *مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ *} (¬5)، فَرَبَى لَهَا رَبْوةً، عِيد مِنْهَا عِشْرِينَ يَوْمًا (¬6). وعن عُبيد (¬7) بن [عُمَير] (¬8)؛ قال: صلَّى بنا عمر بن الخطاب ¬

(¬1) سورة الزمر: الآية (23). (¬2) سورة المائدة: الآية (83). (¬3) سورة الأنفال: الآيات (2 ـ 4). (¬4) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (109) وأبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص136)، وأحمد في "المسند" (4/ 25 و26)، وأبو داود في "سننه" (904)، والترمذي في "الشمائل" (315)، والنسائي (1214)، وابن خزيمة في "صحيحه" (900)، وابن حبان في "صحيحه" (665، و753/ الإحسان)، جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن أبيه رضي الله عنه، به. وسنده صحيح. (¬5) سورة الطور: الآيتان (7 و8). (¬6) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص136 ـ 137) من طريق هشام بن حسان، عن الحسن البصري، فذكره. وسنده ضعيف؛ لأن الحسن البصري لم يسمع من عمر رضي الله عنه، فإنه إنما ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر كما في "تهذيب الكمال" (6/ 97). والراوي عن الحسن هو هشام بن حسان، وفي روايته عنه مقال، لأنه لم يسمع منه أكثر حديثه فيما يقال، انظر "تهذيب الكمال" (30/ 184 ـ 193). (¬7) قوله: "عبيد" جاء في آخر السطر في نسخة (م)، فألحق به بخط مغاير قوله: "الله"، وهكذا جاء في طبعة رشيد رضا: "عبيد الله". (¬8) في جميع النسخ: "عمر"، والتصويب من مصادر التخريج.

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةَ الْفَجْرَ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ يُوسُفَ فقرأَها، حَتَّى إِذا (¬1) بَلَغَ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (¬2) بكى (¬3) حتى انقطع، فركع (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ: لِمَا انْتَهَى إِلى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (¬5) بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ وراءِ الصُّفوف (¬6). وَعَنْ أَبي صَالِحٍ؛ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَهل الْيَمَنِ فِي زَمَانِ (¬7) أَبي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ سَمِعُوا الْقُرْآنَ، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَقَالَ أَبو بكر: هكذا كُنّا ثُمَّ قَسَت القلوب (¬8). ¬

(¬1) قوله: "إذا" ليس في (غ) و (ر). (¬2) سورة يوسف: الآية (84). (¬3) في (غ) و (ر): "فبكى". (¬4) قوله: "فركع" ليس في (خ) و (م). وهذا الأثر أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص137) من طريق النضر بن إسماعيل، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، به. وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو صدوق، إلا أنه سيء الحفظ جداً كما في "التقريب" (6121). وذكر ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 206) أن ابن المنذر أخرجه من طريق عبيد بن عمير. ولم ينفرد به ابن أبي ليلى. فقد أخرجه أبو عبيد في الموضع السابق من طريق ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن علقمة بن وقاص، عن عمر مثله، إلا أنه ذكر صلاة العتمة بدل الفجر. وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة فقيه فاضل، إلا أنه كان يدلِّس كما في "التقريب" (4221)، ولم يصرِّح بالسماع. ويتقوَّى أيضاً بالطريق الآتية. (¬5) سورة يوسف: آية (86). (¬6) هذه الرواية أخذها المصنف ـ كما أخذ الروايتين قبلها ـ من "فضائل القرآن" لأبي عبيد. ولكن أبا عبيد لم يسند هذه الرواية، وإنما أخرجها مسندة: عبد الرزاق في "المصنف" (2716)، وسعيد بن منصور في "سننه" (1138 / التفسير)، وابن سعد في الطبقات (6/ 126)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (35516)، جميعهم من طريق عبد الله بن شداد بن الهاد؛ قال: سمعت نشيج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني لفي آخر الصفوف: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}. وسنده صحيح. (¬7) في (غ) و (ر): "زمن". (¬8) في (خ) و (م): "هكذا كنا حتى قست قلوبنا".=

وَعَنِ ابْنِ أَبي لَيْلَى: أَنه قرأَ سُورَةَ مَرْيَمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬1)، فَسَجَدَ بِهَا، فَلَمَّا رَفَعَ رأُسه قَالَ: هَذِهِ السَّجْدَةُ قَدْ سَجَدْنَاهَا، فأَين البكاءُ؟ (¬2). إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ الدالَّة عَلَى أَنَّ أَثَرَ الْمَوْعِظَةِ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ تصنُّع إِنَّمَا هُوَ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَمِثْلُهُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (¬3) ـ ذكره بعض المفسرين ـ، وذلك أنهم (¬4) لَمَّا أَلقى اللَّهُ الإِيمان فِي قُلُوبِهِمْ؛ حَضَرُوا عِنْدَ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسَ الْكَافِرِ، فتحرَّكت فأْرة أَو هِرَّة خاف لأَجلها الملك، فنظر الفتية بعضهم إِلى بَعْضٍ، وَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَن (¬5) قَامُوا مصرِّحين بِالتَّوْحِيدِ، مُعْلِنِين بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، مُنْكِرِينَ عَلَى الْمَلِكِ (¬6) نِحْلَةَ الْكُفْرِ، باذِلين أَنفسهم فِي ذَاتِ اللَّهِ، فأَوعدهم، ثم أجّلهم (¬7)، فَتَوَاعَدُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْغَارِ، إِلَى أَن كَانَ مِنْهُمْ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. فليس في شيءٍ من (¬8) ذَلِكَ صَعْقٌ وَلَا صِياح (¬9)، وَلَا شَطح، وَلَا تَغَاشٍ مُسْتَعْمَلٌ، وَلَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ شأْن فقرائنا اليوم. ¬

=والأثر أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص135)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 33 ـ 34)، كلاهما من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح ذكوان السمان، فذكره. وسنده رجاله ثقات، لكنه ضعيف لإرساله؛ فإن أبا صالح لم يسمع من أبي بكر رضي الله عنه كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم (201)، و"جامع التحصيل" (ص174). (¬1) سورة مريم: آية (58). (¬2) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن (ص140) من طريق إسماعيل بن مجالد، عن هلال الوزّان، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، به. وفي سنده إسماعيل بن مجالد بن سعيد الهمداني وهو صدوق، إلا أنه يخطئ كما في "التقريب" (480)، فالحديث ضعيف لأجله. (¬3) سورة الكهف: آية (14). (¬4) في (خ): "أنه"، (¬5) في (خ): "إلى أن". (¬6) قوله: "على الملك" ليس في (غ) و (م). (¬7) في (خ) و (م): "أخلفهم". (¬8) قوله: "شيء من" ليس في (خ). (¬9) قوله: "ولا صياح" ليس في (غ).

وخرَّج (¬1) سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي "تَفْسِيرِهِ" (¬2) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ (¬3) عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ قَالَ: قلت لِجَدَّتي أَسماءَ: كيف كان يصنع (¬4) أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قَرَؤُوا الْقُرْآنَ؟ قَالَتْ: كَانُوا كَمَا نَعَتَهُم اللَّهُ: تَدْمَعُ أَعينهم، وتَقْشَعِرّ جُلُودُهُمْ. قُلْتُ: إِنَّ نَاسًا (¬5) هَاهُنَا إِذا سَمِعُوا ذَلِكَ تأْخذهم عَلَيْهِ غَشْيَة. فَقَالَتْ: أَعوذ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. وخرج أَبو (¬6) عبيد (¬7) من حديث أَبي حَازِمٍ؛ قَالَ: مرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهل الْعِرَاقِ سَاقِطٌ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا (¬8): إِذا قُرِئ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، أَو سَمِعَ اللَّهَ يُذْكَر خرَّ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ إِنا لَنَخْشَى الله وما (¬9) نسقط. وهذا إنكار. ¬

(¬1) في (ر) و (غ) و (م): "خرج". (¬2) وهو جزء من "السنن"، والأثر فيه برقم (95)، وسنده صحيح، وقد خرجته وتكلمت عنه هناك، فانظره إن شئت. (¬3) قوله: "عبد الله بن" مكرر في (غ) و (ر). (¬4) قوله: "يصنع" سقط من (خ) و (م). (¬5) في (خ): "نسا". (¬6) في (خ) و (م): "ابن". (¬7) في "فضائل القرآن" (ص214) من طريق سعيد بن عبد الرحمن الجُمَحي؛ قال: سمعت أبا حازم يقول: مرَّ ابن عمر ... ، فذكره. وسنده حسن، فسعيد بن عبد الرحمن الجُمَحي ليس به بأس كما قال الإمام أحمد، وقد وثقه ابن معين وابن نمير وموسى بن هارون والعجلي وأبو عبد الله الحاكم، وقال عنه أحمد ما تقدم. وقال النسائي: "لا بأس به". وقال ابن عدي: "له أحاديث غرائب حسان، وأرجو أنها مستقيمة، وإنما يهم عندي في الشيء بعد الشيء، فيرفع موقوفاً، أو يصل مرسلاً، لا عَنْ تَعَمُّد". وقال أبو حاتم: "صالح". وقال يعقوب بن سفيان: "ليِّن الحديث". وقال زكريا الساجي: "يروي عن هشام وسهيل أحاديث لا يتابع عليها". وبالغ ابن حبان في تضعيفه. وقال ابن حجر: "صدوق له أوهام، وأفرط ابن حبان في تضعيفه". انظر: "تهذيب الكمال" (10/ 528 ـ 532)، و"تهذيب التهذيب" (2/ 30)، و"التقريب" (2363). وأخرجه البغوي في "تفسيره" (4/ 77)، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص282)، كلاهما من طريق سعيد بن عبد الرحمن، به. (¬8) في (غ) و (ر): "فقا". (¬9) في (خ): "ولا".

وَقِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬1): إِن قَوْمًا إِذا سمعوا القرآن صَعِقُوا (¬2)! فَقَالَتْ: إِنَّ (¬3) الْقُرْآنَ أَكرم مِنْ أَن (¬4) تَنْزِفَ عَنْهُ عُقُولُ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬5). وَعَنْ أَنس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنه سُئِلَ عَنِ الْقَوْمِ يُقرأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فيُصْعَقون، فَقَالَ: ذَلِكَ فِعْلُ الْخَوَارِجِ (¬6). وَخَرَّجَ أَبُو نعيم (¬7) ¬

(¬1) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص214 ـ 215) من طريق هشام بن حسان؛ قال: قيل لعائشة ... ، فذكره. وسنده ضعيف؛ فهشام بن حسان لم يلق أحداً من الصحابة كما قال ابن المديني، انظر: "جامع التحصيل" (ص293). (¬2) قوله: "صعقوا" سقط من (م)، وفي (خ): "إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم". (¬3) قوله: "إن" ليس في (غ) و (ر)، وليس هو في الطبعة التي صار العزو إليها من "فضائل القرآن" لأبي عبيد، وهو مثبت في بعض نسخه؛ كما في النسخة المغربية بتحقيق أحمد الخياضي رقم (374). (¬4) في (م): "أكرم ميزان". (¬5) سورة الزمر: آية (23). (¬6) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص215) من طريق زيد بن الحباب، عن مسيّب العنبري، عن قتادة، عن أنس، به. وفي سنده مسيّب العنبري ولم أجد له ترجمة. والظاهر أنه تصحّف عن "شبيب بن مهران أبي زياد القسملي البصري" المترجم في "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 233)، "والجرح والتعديل" (4/ 360)، فإنه يروي عن قتادة، وعنه زيد بن الحباب، وقد أخرج هذا الأثر من طريقه البخاري في الموضع السابق عن قتادة، وذكر ـ أي البخاري ـ أن زيد بن الحباب رواه عنه. ثم وجدته في الطبعة المغربية من "فضائل القرآن" لأبي عبيد (375): "شبيب العبدي"، وهو ابن مهران، فزال الإشكال والحمد لله. وأخرجه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص282) من طريق إبراهيم بن الحجاج، عن شبيب، به. ولم يتكلم البخاري ولا ابن أبي حاتم عن شبيب بجرح ولا تعديل، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (6/ 443)، وذكره الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3662)، ونقل عن السيف ابن المجد الحافظ قوله: "فيه بعض الكلام". (¬7) في "الحلية" (3/ 167)، ومن طريقه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص282 ـ 283)، من طريق سليمان بن أحمد الطبراني، عن شيخه محمد بن العباس، عن=

عن عامر (¬1) بن عبد الله بن الزبير (¬2)؛ قَالَ: جِئْتُ أَبي، فَقَالَ: أَين كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: وَجَدْتُ أَقواماً يَذْكُرُونَ اللَّهَ فَيَرْعُدُ أَحدُهم حَتَّى يُغشى عَلَيْهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (¬3)، فَقَعَدْتُ مَعَهُمْ. فقال: لا تقعدْ معهم (¬4) بعدها. فرآني كأَنه لَمْ يأَخذ ذَلِكَ فيَّ، فَقَالَ: رأَيت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ، ورأَيت أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَتْلُوَانِ الْقُرْآنَ (¬5)، فَلَا يُصِيبُهُمْ هَذَا، أَفتَرَاهُم أَخشعَ لِلَّهِ مَنْ أَبي بكر وعمر؟ فرأَيت أن ذلك كذلك، فتركتهم. انتهى (¬6). وَهَذَا يُشْعِر (¬7) بأَن ذَلِكَ كلَّه تعمُّلٌ وتكلُّفٌ لَا يُرضى بِهِ أهلُ الدِّين. وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بن سيرين عن الرجل يُقْرَأُ عنده القرآن (¬8) فَيَصْعَقُ؛ فَقَالَ: مِيعَادُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَن يُجْلَسَ عَلَى حَائِطٍ، ثُمَّ يُقرأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَوّله إِلى آخِرِهِ، فإِن وَقَعَ فَهُوَ كما قال (¬9). ¬

=الزبير بن بكار، عن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، به. والطبراني أخرجه في "المعجم الكبير" كما في "مجمع الزوائد" (10/ 377 رقم 17650). والزبير بن بكار أخرجه في "الموفقيات" كما في "الدر المنثور" (7/ 222). وسنده ضعيف لضعف عبد الله بن مصعب كما يتضح من ترجمته في "لسان الميزان" (4/ 360). (¬1) في (خ) و (م): "جابر" بدل "عامر". (¬2) في (خ): "أن ابن الزبير رضي الله عنه". (¬3) سقط لفظ الجلالة "الله" من (ر). (¬4) قوله: "معهم" ليس في (خ)، و (م). (¬5) قوله: "القرآن" ليس في (م). (¬6) قوله: "انتهى" ليس في (خ). (¬7) قوله: "يشعر" ليس في (خ). (¬8) قوله: "القرآن" ليس في (خ). (¬9) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص215) من طريق زيد بن الحباب، عن حمران بن عبد العزيز وجرير بن حازم؛ أنهما سمعا محمد بن سيرين ... ، فذكره. كذا جاء فيه: "حمران بن عبد العزيز"، وصوابه: "عمران". فقد أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 265) من طريق زياد بن يحيى، عن عمران بن عبد العزيز؛ قال: سمعت محمد بن سيرين، فذكره. ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص283). وأخرجه ابن الجوزي أيضاً من طريق أبي عمر حفص بن عمر الضرير، عن جرير بن حازم، عن ابن سيرين، به.=

وهذا الكلام أصل (¬1) حَسَنٌ في الفرق بين (¬2) الْمُحِقِّ والْمُبْطِلِ؛ لأَنه إِنما كَانَ عِنْدَ الْخَوَارِجِ نَوْعًا مِنَ القِحَّة (¬3) فِي النُّفُوسِ الْمَائِلَةِ عَنِ الصَّوَابِ، وَقَدْ تُغَالِطُ النَّفْسُ فِيهِ فَتَظُنُّهُ انْفِعَالًا صَحِيحًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنه لَمْ يظهر على (¬4) أَحدٍ من الصحابة هُوَ (¬5) وَلَا مَا يُشْبِهُهُ، فإِن مَبْنَاهُمْ كَانَ على الحق، فلم يكونوا لِيَسْتَعْمِلوا (¬6) فِي دِينِ اللَّهِ (¬7) هَذِهِ اللُّعَبَ الْقَبِيحَةَ المُسْقِطة للأَدب والمروءَة. نَعَمْ قَدْ لَا يُنكر اتِّفَاقُ الغَشْي وَنَحْوِهِ، أَو الْمَوْتِ لِمَنْ سَمِعَ الْمَوْعِظَةَ بحقٍّ فضعُف عَنْ مُصَابَرَةِ الرِّقَّة الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِهَا، فَجَعَلَ ابْنُ سِيرِينَ ذَلِكَ الضَّابِطَ مِيزَانًا للمُحِقّ والمُبْطِل، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ فإِن القِحَةَ لَا تَبْقَى مَعَ خَوْفِ السُّقوط مِنَ الْحَائِطِ (¬8)، فَقَدِ اتَّفَقَ من ذلك بعض النوادر ظهر (¬9) فيها (¬10) عذر المُتَواجِد (¬11). فحُكي عَنْ أَبي (¬12) وَائِلٍ؛ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وَمَعَنَا الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم (¬13)، فَمَرَرْنَا عَلَى حَدَّاد، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَنْظُرُ إِلى حديدةٍ فِي النَّارِ، فَنَظَرَ الرَّبِيعُ إِليها فَتَمَايَلَ ليَسْقُط. ثُمَّ إِن عَبْدَ اللَّهِ مَضَى كَمَا هُوَ حَتَّى أَتينا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ عَلَى أَتُّون (¬14)، فَلَمَّا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّارُ تَلْتَهِبُ فِي جَوْفِهِ قرأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ¬

=قال حفص بن عمر: وكان محمد بن سيرين يذهب إلى أن هذا تصنُّع، وليس بحقٍّ من قلوبهم. فتبين بهذه الطرق أن سنده صحيح إلى ابن سيرين. (¬1) قوله: "أصل" ليس في (خ). (¬2) قوله "الفرق بين" ليس في (خ) و (م). (¬3) القِحّةُ: الجفاء، والقُحّ: هو الجافي من الناس. انظر: "لسان العرب" (2/ 553). (¬4) في (م): "عن". (¬5) في (خ): "لا هو". (¬6) في (خ): "يستعملوا". (¬7) في (م): "في الدين الله". (¬8) قوله: "من الحائط" من (خ) فقط (¬9) في (خ): "وظهر". (¬10) في (ر) و (غ): "فيه". (¬11) في (خ): "التواجد". (¬12) في (م): "عن ابن أبي". (¬13) في (خ): "خيثمة"، وفي (م): "خيثم". (¬14) الأَتّون: هو موقد النار كما سيأتي عند المصنِّف، وانظر "لسان العرب" (13/ 7). وفي (ر): "أثون" بالثاء.

سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا *}، إلى قوله: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (¬1)؛ قال (¬2): فَصَعِقَ الرَّبِيعُ ـ يَعْنِي غُشي عَلَيْهِ ـ، فَاحْتَمَلْنَاهُ فأَتينا بِهِ أَهله. قَالَ: ورابَطَهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلى الظُّهْرِ فَلَمْ يُفِقْ؛ فَرَابَطَهُ إِلى الْمَغْرِبِ فأَفاق؛ ورجع عبد الله إِلى أَهله (¬3). فهذه حالة (¬4) طرأَت لِوَاحِدٍ (¬5) مَنْ أَفاضل التَّابِعِينَ بِمَحْضَرِ صَحَابِيٍّ، ولم ينكر عليه لعلمه بأَن (¬6) ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ طَاقَتِهِ، فَصَارَ بِتِلْكَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا حَرَجَ إِذاً. وحُكي أَن شابًّا كان يصحب الجنيد إِمام الصُّوفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ (¬7)، فَكَانَ الشَّابُّ إِذا سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الذِّكْرِ يَزْعَقُ، فَقَالَ لَهُ الجنيد يوماً: إِن فعلت ¬

(¬1) سورة الفرقان: الآيتان (12، 13). (¬2) قوله: "قال" ليس في (خ) و (م). (¬3) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص138 ـ 139)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" (6/ 104)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 382)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 110)، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص279)، جميعهم من طريق أبي بكر بن عيّاش، عن عيسى بن سُليم، عن أبي وائل، به. وفي سنده عيسى بن سُليم ذكره العقيلي في "الضعفاء" (3/ 382)، ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: "لا أعرفه". وأنه قال أيضاً: "حدثنا يحيى بن آدم؛ قال: سمعت حمزة الزيات قال لسفيان: ـ أي الثوري ـ إنهم يروون عن ربيع بن خثيم أنه صعق! قال: ومن يروي هذا؟ إنما كان يرويه ذلك القاص، فلقيته فقلت: عمن تروي أنت ذا؟ منكراً له". قال ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص280) عقب ذكره لهذه الحكاية: "فهذا سفيان الثوري ينكر أن يكون الربيع بن خثيم جرى له هذا؛ لأن الرجل كان على السَّمْت الأول، وما كان في الصحابة من يجري له مثل هذا، ولا التابعين. ثم نقول ـ على تقدير الصحة ـ: إن الإنسان قد يغشى عليه من الخوف، فيسكنه الخوف ويسكته، فيبقى كالميت، وعلامة الصادق أنه لو كان على حائط لوقع؛ لأنه غائب، فأما من يدعي الوجد ويتحفظ من أن تزل قدمه، ثم يتعدى إلى تخريق الثياب وفعل المنكرات في الشرع، فإنا نعلم قطعاً أن الشيطان يلعب به". وذكر الذهبي في "ميزان الاعتدال" (6566) عيسى بن سليم هذا وقال: "لا يعرف". (¬4) في (خ): "حالات". (¬5) في (غ) و (ر): "بواحد". (¬6) في (خ): "أن". (¬7) في (خ): "الجنيد رضي الله عنه وهو إمام الصوفية إذ ذاك".

ذَلِكَ مَرَّةً أُخرى لَمْ تَصْحَبْنِي. فَكَانَ إِذا سَمِعَ شَيْئًا يَتَغَيَّرُ، وَيَضْبِطُ نَفْسَهُ حَتَّى كَانَ يقطر كلّ شعرة من بدنه بِقَطْرةٍ (¬1)، فَيَوْمًا مِنَ الأَيام صَاحَ صَيْحَةً تَلِفَتْ نَفْسُهُ (¬2). فَهَذَا الشَّابُّ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ مِصْدَاقُ مَا قَالَهُ السَّلَفُ؛ لأَنه لَوْ كَانَتْ صَيْحَتُهُ الأُولى غَلَبَةً (¬3) لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ، وإِن كَانَ بِشِدَّةٍ، كَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم (¬4)، وَعَلَيْهِ أَدّبه الشَّيْخُ (¬5) حِينَ أَنكر عليه وأوعده (¬6) بالفُرْقَةِ، إِذْ فَهِمَ مِنْهُ أَن تِلْكَ الزَّعْقَةَ مِنْ بَقَايَا رُعُونَةِ النَّفْسِ، فَلَمَّا خَرَجَ الأَمر عَنْ كَسْبِهِ (¬7) ـ بِدَلِيلِ مَوْتِهِ ـ، كَانَتْ صَيْحَتُهُ عَفْوًا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهَا إِن شاءَ اللَّهُ. بِخِلَافِ هؤلاءِ الْقَوْمِ (¬8) الَّذِينَ لَمْ يشُمُّوا مِنْ أَوصاف الفضلاءِ رائحة، فأَخذوا في التشبُّه (¬9) بهم، فأَبرز لهم هواهم التشبه بالخوارج، وياليتهم وقفوا عند هذا الحدّ المذموم، ولكنهم (¬10) زادوا على ذلك الرَّقْص والزَّفَن (¬11) وَالدَّوَرَانَ وَالضَّرْبَ عَلَى الصُّدُورِ، وَبَعْضُهُمْ يَضْرِبُ عَلَى رأْسه، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ الْمُضْحِكِ للحمقى، لكونه من أَعمال الصبيان ¬

(¬1) في (خ): "حَتَّى كَانَ يَقْطُرُ الْعَرَقُ مِنْهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ من بدنه قطرة". (¬2) أخرج هذه الحكاية القشيري في "الرسالة" (ص204) عن شيخه أبي حاتم السجستاني؛ قال: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت عبد الواحد بن علوان يقول: كان شاب يصحب الجنيد ... ، فذكرها. وذكرها أيضاً الغزالي في "الإحياء" (2/ 302)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 399). (¬3) في (خ): "غلبته". (¬4) في (خ) و (م): "خيثم". (¬5) كتب في (خ) بخط دقيق فوق كلمة "الشيخ": (أي الجنيد). (¬6) في (خ) و (م): "ووعده". (¬7) في (غ) و (ر): "على كسبه". (¬8) في (ر) و (غ): "الفقراء". (¬9) في (خ) و (م): "بالتشبه". (¬10) في (خ): "ولكن". (¬11) الزّفَن: هو الرقص، وأصله: اللعب والدفع والضرب بالرجل. انظر: "لسان العرب" (13/ 197)، و"التعاريف" للمناوي (ص386 ـ 387).

والمجانين، المُبْكي للعقلاءِ، رحمةً لمن يَتَّخذ (¬1) مِثْلُ هَذَا طَرِيقًا إِلى اللَّهِ، وتشبُّهاً (¬2) بِالصَّالِحِينَ. وَقَدْ صَحّ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سارية رضي الله عنه؛ أنه (¬3) قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ منها القلوب ... ، الحديث (¬4). ¬

(¬1) في (خ): "رحمة لهم؛ إذْ لم يتخذ"، وفي (م): "رحمة لهم ولم يتخذ". (¬2) في (م): "وتشبيهاً". (¬3) قوله: "أنه" ليس في (خ). (¬4) حديث صحيح كما قال المصنف، وقد روي عن العرباض رضي الله عنه من أربع طرق: 1 و2: طريقا عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي: أخرجهما الإمام أحمد (4/ 126 ـ 127) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا ثور بن يزيد، ثنا خالد بن معدان؛ قال: ثنا عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر؛ قال: أتينا العرباض بن سارية ـ وهو ممن نزل فيه: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} ـ، فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال عرباض: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". ومن طريق أحمد أخرجه أبو داود (4599). وأخرجه ابن أبي عاصم (32 و57)، وابن حبان في "صحيحه" (5/الإحسان)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 97)، ثلاثتهم من طريق الوليد بن مسلم، به، ولفظ ابن أبي عاصم مختصر. وأخرجه أحمد (4/ 126)، والدارمي (1/ 44)، والترمذي (2676)، والحاكم (1/ 95 ـ 96)، جميعهم من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن ثور بن يزيد، به، ولم يذكروا حجر بن حجر. وأخرجه ابن ماجه (44) من طريق عبد الملك بن الصباح، عن ثور، به ولم يذكر حجر بن حجر أيضاً. وكذا أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (31 و54) من طريق عيسى بن يونس، عن ثور، مختصراً. وأخرجه أحمد (4/ 127)، والترمذي في الموضع السابق، وابن أبي عاصم (27)،=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=ثلاثتهم من طريق بقية، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، به، ولم يذكروا حجر بن حجر، ووقع في رواية أحمد: "عن ابن أبي بلال" بدل "عبد الرحمن بن عمرو". وأخرجه أحمد أيضاً (4/ 127)، والحاكم (1/ 96)، كلاهما من طريق محمد بن إبراهيم التيمي، عن خالد بن معدان، به دون ذكر حجر بن حجر أيضاً، ووقع عند أحمد: "عن أبي بلال"، فلعله سقط منه: "ابن"، فيكون كالرواية السابقة، ويبقى النظر: هل هو عبد الرحمن بن عمرو، وكنية أبيه: "أبو بلال"، فتتفق الرواية؟ أو يكون رجلاً آخر، فيكون في الحديث اختلاف؟ ولم يترجم ابن حجر في "تعجيل المنفعة" لابن أبي بلال، ولا لأبي بلال، فالظاهر أنه يرى أنه عبد الله بن أبي بلال الخزاعي المترجم في "التهذيب" (2/ 311)، فإن كان كذلك فهو اختلاف لا يؤثر إلا على طريقي بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم عن خالد، ولا يؤثر على باقي الطرق. وقد صحح الحديث ابن حبان كما تقدم، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم: "هذا إسناد صحيح على شرطهما جميعاً، ولا أعرف له علة". وكان قد قال قبل ذلك: "هذا حديث صحيح ليس له علّة، وقد احتجّ البخاري بعبد الرحمن بن عمرو وثور بن يزيد ... ". وكان قد ذكر قبل ذلك أن البخاري احتجّ بعبد الرحمن بن عمرو، وهو وهم منه، فلعله التبس عليه بغيره ممن روى له البخاري، وأما عبد الرحمن هذا فهو ابن عمرو بن عَبَسَة السُّلَمي، الشامي، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، ولم يرو له البخاري، وهو مقبول كما في "التقريب" (3991)، وقد تابعه حُجْر بن حُجْر الكَلاَعي الحمصي، وهو مقبول مثله كما في "التقريب" (1152). وقد أخرجه أحمد (4/ 126)، وابن أبي عاصم (33 و56 و58)، والحاكم (1/ 96)، من طريق معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن عبد الرحمن بن عمرو، عن العرباض، به. وأخرجه ابن أبي عاصم (30) من طريق يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عمرو، به مختصراً. 3 ـ طريق يحيى بن أبي المطاع، عن العرباض. أخرجه ابن ماجه (42)، وابن أبي عاصم (26 و55)، والحاكم (1/ 97)، ثلاثتهم من طريق عبد الله بن العلاء بن زبر، عن يحيى، به. 4 ـ طريق المهاجر بن حبيب، عن العرباض. أخرجه ابن أبي عاصم (28 و29 و59) مختصراً. وصحح الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله هذا الحديث في تعليقه على "السنة" لابن أبي عاصم.

فقال الإمام العالم السني أبو بكر الآجُرِّي (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬2): مَيِّزوا هَذَا الْكَلَامَ؛ فَإِنَّهُ (¬3) لم يقل (¬4): صَرَخْنا من موعظته، وَلَا زَعَقْنا (¬5)، وَلَا طَرَقْنا عَلَى رَؤُوسِنَا، وَلَا ضَرَبْنَا عَلَى صُدُورِنَا، وَلَا زَفَنّا، وَلَا رَقَصْنَا ـ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ؛ يَصْرُخُونَ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ وَيَزْعَقُونَ، وَيَتَغَاشَوْنَ (¬6) ـ. قَالَ: وَهَذَا (¬7) كُلُّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ يَلْعَبُ بِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَيُقَالُ (¬8) لِمَنْ فَعَلَ هَذَا: اعْلَمْ (¬9) أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصدق النَّاسِ مَوْعِظَةً، وأَنصح النَّاسَ لأُمته، وأَرقّ النَّاسِ قَلْبًا، وَخَيْرَ الناس: من (¬10) جاءَ بعده ـ ولا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ ـ، مَا صَرَخُوا عِنْدَ موعظته، ولا زَعَقُوا، ولا رقصوا، ولا زَفَنُوا، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانُوا أَحقَّ النَّاسِ بِهَذَا (¬11) أَن يَفْعَلُوهُ بَيْنَ يَدَيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ فَاعْلَمْ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَلَا بُدَّ مِنَ النظر في الأَمر (¬12) الْمُوجِبِ للتأَثُّر الظَّاهِرِ فِي السَّلَفِ الأَوَّلين مَعَ هؤلاءِ المُدَّعين، فَوَجَدْنَا الأَوّلين يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الأَثر بسبب سماع (¬13) ذكر الله تعالى، وَبِسَبَبِ سَمَاعِ (¬14) آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (¬15)، وَبِسَبَبِ رُؤْيَةٍ اعتباريَّة؛ كَمَا فِي قِصَّةِ الرَّبِيعِ عِنْدَ رؤيته للحدَّاد وللأَتُّون (¬16) ـ وَهُوَ مَوْقَدُ النَّارِ ـ، وَلِسَبَبِ قراءَةٍ فِي صَلَاةٍ أَو غيرها، ولم نجد أَحداً ¬

(¬1) قوله: "الآجري" متقدم في (خ) على قوله: "العالم". (¬2) مظنَّة كلام الآجري هذا: كتابه "أخلاق أهل القرآن"، ولم أجد فيه هذا الكلام، ونقل بعضه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص281). (¬3) قوله: "فإنه" من (خ) فقط. (¬4) في (غ): "يقولوا". (¬5) قوله: "ولا زعقنا" ليس في (خ). (¬6) في (خ): "ويتناشون". (¬7) في (ر) و (غ): "هذا". (¬8) في (غ) و (ر) و (م): "يقال". (¬9) في (م): "علم". (¬10) في (غ): "فمن"، وفي (ر): "ممن". (¬11) في (خ): "أحق الناس به". (¬12) في (خ): "الأمر كله". (¬13) قوله: "سماع" ليس في (خ). (¬14) في (خ): "ذكر الله أو بسماع". (¬15) قوله: "وبسبب سماع آية من كتاب الله" مكرر في (غ). (¬16) في (خ): "والأتون".

مِنْهُمْ ـ فِيمَا نَقَلَ العلماءُ ـ يَسْتَعْمِلُونَ الترنُّم بالأَشعار لِتَرِقَّ نُفُوسُهُمْ، فتتأَثر ظَوَاهِرُهُمْ، وَطَائِفَةُ الفقراءِ عَلَى الضدّ منهم؛ فإِنهم يسمعون (¬1) الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْوَعْظَ وَالتَّذْكِيرَ فَلَا تتأَثر ظَوَاهِرُهُمْ (¬2)، فإِذا قام المُزَمْزِمُ (¬3) تسابقوا (¬4) إلى حركاتهم المعروفة لهم، فَبِالْحَرِيِّ أَن لا يتأَثَّروا إلا (¬5) عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمَكْرُوهَةِ الْمُبْتَدَعَةِ؛ لأَن الْحَقَّ لَا يُنْتِجُ إِلا حَقًّا، كَمَا أَن الْبَاطِلَ لَا يُنْتِجُ إِلا بَاطِلًا. وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَنْبَنِي النَّظَرُ فِي حَقِيقَةُ الرِّقَّة الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ المحرِّكة لِلظَّاهِرِ. وَذَلِكَ أَن الرِّقَّةَ ضِدُّ الْغِلَظِ، فتقول: هَذَا رَقِيقٌ لَيْسَ بِغَلِيظٍ، وَمَكَانٌ رَقِيقٌ: إِذَا كان ليِّن التراب، ضدُّه (¬6) الغليظ، فإِذ وُصِفَ بِذَلِكَ الْقَلْبُ (¬7) فَهُوَ رَاجِعٌ إِلى لِينِهِ وتأَثره ضِدُّ الْقَسْوَةِ، ويُشْعِر بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬8)؛ لأَن القلب الرقيق إذا وردت عَلَيْهِ الْمَوْعِظَةُ خَضَعَ لَهَا وَلاَنَ وانْقَادَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬9)؛ فإِن الوَجَلَ تأَثُّرٌ وَلِينٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ الْمَوْعِظَةِ، فَتَرَى الْجِلْدَ مِنْ أَجل ذَلِكَ يَقْشَعِرّ، وَالْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَاللِّينُ إِذا حلَّ بِالْقَلْبِ ـ وهو باطن الإِنسان ـ، وَحَلَّ (¬10) بِالْجِلْدِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ ـ وَهُوَ ظَاهِرُ الإِنسان ـ، فَقَدْ حَلَّ الِانْفِعَالُ بِمَجْمُوعِ الإِنسان، وَذَلِكَ يَقْتَضِي السُّكُونَ لا الحركة والانزعاج، والسكوت لا الصياح، ¬

(¬1) في (خ) و (م): "يستعملون". (¬2) من قوله: "وطائفة الفقراء" إلى هنا مُكرر في (خ). (¬3) في (خ): "المزمر". والزَّمْزَمَةُ: الأصوات التي تدار وتتابع من الخياشيم والحلوق ولا تكاد تفهم، ويقال لصوت الرَّعد إذا تتابع: زَمْزَمَة، وزَمْزَمَ الأسد: إذا صوَّت، وَتَزَمْزَمَتْ الإبل: إذا هدرت، وفرس مُزَمْزِمٌ في صوته: إذا كان يطرِّب فيه. انظر "لسان العرب" (12/ 273 ـ 274). (¬4) في (غ) و (ر) و (م): "سابقوا"، والمثبت من (خ). (¬5) قوله: "إلا" ليس في (خ). (¬6) في (خ): "ومثله" بدل: "ضده". (¬7) قوله: "القلب" ليس في (خ). (¬8) سورة الزمر: آية (23). (¬9) سورة الأنفال: آية (2)، وقوله تعالى: "قلوبهم" ليس في (ر) و (غ). (¬10) في (خ): "حل".

وَهِيَ (¬1) حَالَةُ السَّلَف الأوَّلين ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ. فإِذا رأَيت أَحداً سَمِعَ مَوْعِظَةً ـ أَيّ مَوْعِظَةٍ كَانَتْ ـ؛ فظهر (¬2) عَلَيْهِ مِنَ الأَثر مَا ظَهَرَ عَلَى السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ عَلِمْتَ أَنها رِقَّةٌ هِيَ أَوّل الوَجْد، وأَنها صَحِيحَةٌ لَا اعْتِرَاضَ فِيهَا. وإِذا رأَيت أَحداً سَمِعَ مَوْعِظَةً قُرْآنِيَّةً أَو سُنِّية أَو حِكَمِيَّة فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شيء، حتى يسمع شعراً مترنّماً (¬3) به (¬4)، أَو غِنَاءً مُطْرِبًا فتأَثَّر؛ فإِنه لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ انْزِعَاجٌ بِقِيَامٍ، أَو دَوَرَانٍ، أَو شَطح، أَو صِيَاحٍ، أَو مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَسَبَبُهُ: أَن الَّذِي حلَّ بِبَاطِنِهِ لَيْسَ بالرِّقَّة الْمَذْكُورَةِ أَوّلاً، بَلْ هُوَ الطَّرَبُ الَّذِي يُنَاسِبُ الغناءَ؛ لأَن الرِّقَّة ضِدُّ الْقَسْوَةِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ، وَالطَّرَبُ ضِدُّ الْخُشُوعِ ـ كَمَا يَقُولُهُ الصُّوفِيَّةُ ـ، وَالطَّرَبُ مُنَاسِبٌ لِلْحَرَكَةِ؛ لأَنه ثَوَرَانُ الطِّبَاعِ، وَلِذَلِكَ اشترك مع الإِنسان فيه الحيوان (¬5)؛ كالإِبل والخيل (¬6)؛ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الأَطفال، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَالْخُشُوعُ ضِدُّه؛ لأَنه رَاجِعٌ إِلى السُّكُون، وَقَدْ فُسِّر بِهِ لُغَةً، كَمَا فُسِّر الطَّرَب بأَنه خِفّة تصيب (¬7) الإِنسان مِنْ حُزْنٍ، أَو سُرُورٍ. قَالَ (¬8) الشَّاعِرُ (¬9): طربَ الْوَالِهِ (¬10) أَو كالمُخْتَبَل (¬11) ¬

(¬1) في (م): "هي". (¬2) في (خ) و (م): "فيظهر". (¬3) في (خ): "مرقَّما" وفي (م): "مرنّماً". (¬4) قوله: "به" ليس في (خ) و (م). (¬5) في (خ): "اشترك فيه مع الإنسان الحيوان". (¬6) في (خ) و (م): "والنحل". (¬7) في (خ): "تصحب". (¬8) في (ر): "وقال". (¬9) قوله: "قال الشاعر" سقط من (غ). وهذا عجز بيت للنابغة الجعدي، وصدره: وأراني طَرِباً في إثرهم ........................ انظر "أدب الكاتب" لابن قتيبة (1/ 18). (¬10) في (خ): "الوالد". (¬11) في (خ) و (م): "أو كالمتخيل"، وصوبت بهامش (م) بخط مغاير. وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: شطر من أبيات للنابغة الجعدي، والشطر=

وَالتَّطْرِيبُ: مَدُّ الصَّوْتِ وَتَحْسِينُهُ. وَبَيَانُهُ: أَن الشِّعْرَ الْمُغَنَّى بِهِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَمرين: أَحدهما: مَا فِيهِ مِنَ (¬1) الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْقُلُوبِ، فَفِيهَا تَعْمَلُ وَبِهَا تَنْفَعِلُ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُنْسَبُ السَّمَاعُ إِلى الأَرواح. وَالثَّانِي: مَا فِيهِ مِنَ النَّغَمات المُرَتَّبة عَلَى النِّسَب التَّلْحِينِيَّةِ، وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الطِّبَاعِ (¬2) فيُهيِّجها (¬3) إِلى مَا يُنَاسِبُهَا، وَهِيَ الْحَرَكَاتُ عَلَى اخْتِلَافِهَا، فَكُلُّ تأَثر في القلب من جهة السماع يحصُلُ (¬4) عنه آثار السكون وَالْخُضُوعِ فَهُوَ رِقَّة، وَهُوَ التَّوَاجُدُ الَّذِي أَشار إِليه كَلَامُ المُجِيبِ، وَلَا شَكَّ أَنه مَحْمُودٌ. وَكُلُّ تأَثُّر يَحْصُلُ عَنْهُ ضِدّ السُّكُون؛ فَهُوَ طَرَبٌ لَا رِقَّة فِيهِ (¬5) وَلَا تَوَاجُدَ، وَلَا هُوَ عِنْدَ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَحْمُودٌ، لَكِنَّ هؤلاءِ الفقراءِ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ التَّوَاجُدِ ـ فِي الْغَالِبِ ـ إِلا الثَّانِي الْمَذْمُومَ. فَهُمْ إِذاً مُتَوَاجِدُونَ بِالنَّغَمِ وَاللُّحُونِ، لَا يُدْرِكُونَ مِنْ مَعَانِي الْحِكْمَةِ شَيْئًا (¬6)، فَقَدْ بَاؤُوا (¬7) إِذاً بأَخسر الصَّفْقَتَيْنِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ. وإِنما جاءَهم الْغَلَطُ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَاطِ المناطَيْن عَلَيْهِمْ، وَمِنْ جِهَةِ أَنهم استدلُّوا بِغَيْرِ دَلِيلٍ. فقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (¬8)، وَقَوْلُهُ: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} (¬9): لا دليل فيه على هذا الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ (¬10) قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا} (¬11): كذا (¬12) أَيْنَ فيه أَنهم قاموا ¬

=الأول: "وأراني طرباً في إثرهم"، والواله: الثاكل (وكان في نسختنا: الوالد). والمختبل ـ بفتح الباء ـ: من اختبل عقله؛ أي: جُنّ، (وكان في نسختنا: المتخيل). اهـ. (¬1) قوله: "من" ليس في (م). (¬2) في (خ): "الطبائع". (¬3) في (ر) و (غ): "فتهيجها". (¬4) في (خ): "تحصل". (¬5) قوله: "فيه" من (خ) فقط. (¬6) في (ر) و (غ): "شحة". (¬7) في (م): "بانوا"، وفي (ر): "باءو". (¬8) سورة الذاريات: الآية (50). (¬9) سورة الكهف: الآية (18). (¬10) في (غ): "وكذا". (¬11) الآية: (14) من سورة الكهف. وقوله: "ربنا" من (خ) فقط. (¬12) قوله: "كذا" ليس في (خ).

يَرْقُصُونَ؟ أَو يَزْفُنُون؟ أَو يَدُورُونَ عَلَى أَقدامهم؟ أو نحو (¬1) ذَلِكَ؟ فَهُوَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ الدَّاخِلِ تَحْتَ هَذَا الباب (¬2). وَوَقَعَ فِي كَلَامِ المُجيب لَفْظُ السَّمَاعِ غَيْرَ مُفَسَّر، ففهم مِنْهُ الْمُحْتَجُّ أَنه الغناءُ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ (¬3) شِيعَتُهُ، وَهُوَ فَهْمُ عُمُومِ النَّاسِ، لَا فَهْمُ الصُّوفِيَّةِ، فإِنه (¬4) عندهم ينطلق (¬5) عَلَى كُلِّ صَوْتٍ أَفاد حِكْمَةً يَخْضَعُ لَهَا القلب، ويلين لها الجلد، وهو الذي يَجِدُون فيه (¬6) ويتواجدون عِنْدَهُ (¬7) التَّوَاجُدَ الْمَحْمُودَ، فَسَمَاعُ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ سَمَاعٌ، وَكَذَلِكَ سَمَاعُ السُّنَّةِ، وَكَلَامُ الحكماءِ والفضلاءِ، حَتَّى أَصوات الطَّيْرِ وَخَرِيرُ الماءِ، وَصَرِيرُ الْبَابِ. وَمِنْهُ سماع المنظوم أَيضاً إِذا أَعطى حِكْمَةً، وَلَا يَسْتَمِعُونَ هَذَا الأَخير إِلا فِي الْفَرَطِ بَعْدَ الْفَرَطِ (¬8)، وَعَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ، وَعَلَى غَيْرِ وَجْهِ الإلْذاذ (¬9) وَالْإِطْرَابِ، ولا هم ممن يداوم (¬10) عَلَيْهِ أَو يَتَّخِذُهُ عَادَةً؛ لأَن ذَلِكَ كُلَّهُ قَادِحٌ فِي مَقَاصِدِهِمُ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا. وَلِذَلِكَ (¬11) قال الجُنيد رحمه الله: إِذا رأَيت المُرِيد يُحِبُّ السَّمَاع فَاعْلَمْ أَن فِيهِ بقيَّةً مِنَ البَطَالة (¬12). وَإِنَّمَا لَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ إِنِ اتَّفَقَ: وَجْهُ الْحِكْمَةِ ـ إِنْ كَانَ فيه حكمة ـ، ¬

(¬1) في (خ): "ونحو". (¬2) في (خ): "الجواب". (¬3) في (م): "يستعمله". (¬4) في (م): "فإنهم". (¬5) في (خ): "يطلق". (¬6) في (م): "عنده" بدل "فيه". (¬7) في (خ): "وهو الذي يتواجدون عنده". (¬8) قوله: "بعد الفرط" ليس في (خ)، وعلق عليه بهامش (م) بقوله: "الفرط: الحين، وأن تأتيه بعد الأيام، لا لأكثر من خمسة عشر، ولا أقل من ثلاثة". (¬9) في (خ): "الالتذاذ". (¬10) في (م): "يدوم". (¬11) قوله: "ولذلك" ليس في (خ). (¬12) أخرجه القشيري في "الرسالة" (ص203) من طريق شيخه أبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي؛ قال: سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول: سمعت الجنيد يقول ... ، فذكره. وعن القشيري نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 395).

فَاسْتَوَى عِنْدَهُمُ النَّظْم والنَّثْر. وإِن أَطلق أَحد مِنْهُمُ السَّمَاعَ عَلَى الصَّوْتِ الْحَسَنِ الْمُضَافِ إِلَى شعر أو غيره (¬1)، فمن حيث فهم منه (¬2) الْحِكْمَةَ لَا مِنْ حَيْثُ يُلَائِمُ الطِّبَاع؛ لأَن من سمعه منهم مِنْ حَيْثُ يَسْتَحْسِنُهُ فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلْفِتْنَةِ، فَيَصِيرُ إِلى ما صار إليه أهل (¬3) السَّمَاعُ المُلِذّ المُطْرِب. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَن السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ: مَا ذُكر (¬4) عَنْ أَبي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ أَنه قَالَ: مَنِ ادَّعَى السماع ولم يسمع صوت الطيور (¬5) وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مُفْتَرٍ مُدَّعٍ (¬6). وقال الحصري: أَيْشٍ أَعمل بسماع ينقطع إذا انقطع (¬7) من (¬8) يُسمع مِنْهُ؟ يَنْبَغِي (¬9) أَن يَكُونَ سَمَاعُكَ سَمَاعًا مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ (¬10). وَعَنْ أَحمد بْنِ سَالِمٍ (¬11) قَالَ: خَدَمْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيَّ ¬

(¬1) من قوله: "على الصوت الحسن" إلى هنا سقط من (خ). (¬2) قوله: "منه" ليس في (خ). (¬3) قوله: "أهل" ليس في (خ) و (م). (¬4) قوله: "ما ذكر" سقط من (غ). (¬5) في (خ) و (م): "الطير". (¬6) أخرجه القشيري في "الرسالة" (ص201) من طريق شيخه أبي عبد الرحمن السلمي؛ قال: سمعت أبا عثمان المغربي يقول ... ، فذكره. وعن القشيري نقله شيخ الإسلام في "الاستقامة" (1/ 412). (¬7) قوله: "إذا انقطع" ليس في (خ) و (م). (¬8) في (خ): "ممن". (¬9) في (خ): "وينبغي". (¬10) أخرجه القشيري في الموضع السابق من طريق شيخه محمد بن أحمد بن محمد التميمي؛ قال: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الحصري يقول في بعض كلامه ... ، فذكره. وعن القشيري نقله شيخ الإسلام في "الاستقامة" (1/ 416 ـ 417). وذكره الغزالي في "إحياء علوم الدين" (1/ 286). (¬11) كذا في جميع الأصول. ورجّح نور الدين شريبة في تعليقه على "طبقات الصوفية" للسلمي (ص208) أنه محمد بن أحمد بن سالم البصري، وذكر أن كثيراً ما يخلطون بينه وبين أبي الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن سالم. قلت: أبو الحسن أحمد أبوه، فلو قال: يخلطون بينه وبين أبيه لكان أجود. وسبب الخلط أنه وأبوه من تلامذة سهل التستري، فإذا جاء في خبر: "قال ابن سالم" لم يتميز من هو. وانظر سير أعلام النبلاء (16/ 272). وقصة سهل هاهنا يرويها الابن محمد بن أحمد، ومن طريقه أخرجها القشيري في "الرسالة" (ص205).

سِنِينَ، فَمَا رأَيته تَغَيَّرَ عِنْدَ سَمَاعِ شيءٍ يَسْمَعُهُ مِنَ الذِّكْرِ أَو الْقُرْآنِ أَو غَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قُرئ بَيْنَ يديه: {فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1): رأيته (¬2) تغيَّر وارْتَعَدَ وَكَادَ يَسْقُطُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى حَالِ صَحْوه سأَلته عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: يَا حَبِيبِي! ضَعُفْنَا. وَقَالَ السُّلَمى: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ وَوَاحِدٌ يَسْتقي الماءَ مِنَ الْبِئْرِ عَلَى بَكَرة، فَقَالَ لِي: يَا أَبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! تَدْرِي أَيْشٍ تَقُولُ هَذِهِ الْبَكْرَةُ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ (¬3). فَهَذِهِ الْحِكَايَاتُ وأَشباهها تَدُلُّ عَلَى أَن السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وأَنهم لَا يُؤْثِرُونَ سَمَاعَ الأَشعار عَلَى غيرها، فضلاً عن (¬4) أَن يَتَصَنَّعُوا فِيهَا بالأَغاني المُطْربة. وَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ وَبَعُدُوا عَنْ أَحوال السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَخذ الْهَوَى فِي التَّفْرِيعِ فِي السَّمَاعِ حَتَّى صَارَ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ الْمَصْنُوعُ عَلَى قَانُونِ الأَلحان؛ فَتَعَشَّقَتْ بِهِ الطِّباع، وَكَثُرَ الْعَمَلُ بِهِ وَدَامَ ـ وإِن كَانَ قَصْدُهُمْ بِهِ الرَّاحَةَ فَقَطْ ـ، فَصَارَ قَذًى (¬5) فِي طَرِيقِ سُلُوكِهِمْ فَرَجَعُوا بِهِ القَهْقَرى، ثُمَّ طال الأَمَدُ حتى اعتقده الجهال من أهل (¬6) هذا (¬7) الزمان (¬8) وما قاربه قربة (¬9)، وجُزْءًا (¬10) من أَجزاءِ طريقة التصوف، وهو الأَدْهَى والأمَرّ (¬11). وَقَوْلُ المُجِيب: وأَما مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلى منزله فتجاب دعوته، وله في ¬

(¬1) سورة الحديد: الآية (15). وقوله تعالى: {وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ليس في (خ) و (م). (¬2) قوله: "رأيته" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (خ): "الله" مرة واحدة. وقول السلمي هذا أخرجه القشيري في الموضع السابق عنه. وعن القشيري نقله ابن القيم في "مدارج السالكين" (2/ 412 ـ 413). (¬4) في (خ) و (م): "على" بدل "عن". (¬5) في (ر) و (غ): "قد جاء" بدل "قذى" وفي (م): "قد"، والمثبت من (خ) فقط. (¬6) قوله: "أهل" سقط من (م). (¬7) قوله: "هذا" سقط من (غ). (¬8) في (خ): "الجهال في هذا الزمان". (¬9) في (خ): "أنه قربة". (¬10) في (م): "جزءاً". (¬11) قوله: "الأمر" ليس في (خ) و (م).

دعوته (¬1) قصده: مطابق بحسب ما ذُكر أَوْ لا؛ فإن مَنْ (¬2) دَعَا قَوْمًا إِلى مَنْزِلِهِ لتعلُّم آيَةٍ أَو سُورَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (¬3)، أَو سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو مُذَاكَرَةٍ فِي عِلْمٍ، أَو فِي نعم الله، أَو مؤانسة بشعر (¬4) فِيهِ حِكْمَةٌ لَيْسَ فِيهِ غناءٌ مَكْرُوهٌ وَلَا صَحِبَهُ شَطْحٌ وَلَا زَفَن وَلَا صِيَاحٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، ثُمَّ أَلْقَى إِليهم شيئاً مِنَ الطَّعَامِ (¬5) عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التكلُّف وَالْمُبَاهَاةِ، ولم يقصد بذلك بدعة، ولا امتيازاً بفرقة تَخْرُجُ بأَفعالها وأَقوالها عَنِ السُّنَّةِ (¬6)، فَلَا شَكَّ فِي اسْتِحْسَانِ ذَلِكَ؛ لأَنه دَاخِلٌ فِي حُكْمِ المأْدُبَةِ الْمَقْصُودِ بِهَا حُسْنَ العِشْرَةِ بَيْنَ الْجِيرَانِ (¬7) والإِخوان، والتودُّد بَيْنَ الأَصحاب، وَهِيَ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ، فإِن كَانَ فِيهَا تَذَاكُرٌ فِي عِلْمٍ أَو نَحْوِهِ، فَهِيَ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الخير. ومثاله ما يحكى عن محمد بن خفيف؛ قَالَ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْقَاضِي عَلِيِّ بْنِ أَحمد، فَقَالَ لِي: يَا أَبا (¬8) عَبْدِ اللَّهِ! قلت (¬9): لبيك أَيها القاضي، فقال (¬10): هَاهُنَا أَحكي (¬11) لَكُمْ حِكَايَةً تَحْتَاجُ أَن (¬12) تَكْتُبَهَا بِمَاءِ الذَّهَبِ. فَقُلْتُ: أَيها الْقَاضِي! أَما الذَّهَبُ فَلَا أَجده، وَلَكِنِّي أَكتبها بِالْحِبْرِ الْجَيِّدِ. فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنه قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحمد بْنِ حَنْبَلٍ: إِنَّ الْحَارِثَ المُحَاسِبي يَتَكَلَّمُ فِي عُلُومِ الصُّوفِيَّةِ، وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالْآيِ، فَقَالَ أَحمد: أَحب أَن أَسمع كَلَامَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ. فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَجمعك مَعَهُ. فَاتَّخَذَ دَعْوَةً، وَدَعَا الْحَارِثَ وَأَصْحَابَهُ، وَدَعَا أَحمد. فَجَلَسَ أحمد (¬13) بِحَيْثُ يَرَى الْحَارِثَ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فتقدَّم وصلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ، وأَحضر الطَّعَامَ، فَجَعَلَ يأْكل وَيَتَحَدَّثُ معهم، فقال أَحمد: هذا من السنة. ¬

(¬1) قوله: "في دعوته" من (خ) فقط. (¬2) قوله: "من" ليس في (خ) و (م). (¬3) لفظ الجلالة: "الله" ليس في (م). (¬4) في (خ) و (م): "في شعر". (¬5) في (غ): "طعام". (¬6) علق رشيد رضا هنا بقوله: هذا خبر "بأن" في قول: بأن من دعى. اهـ. (¬7) في (م): "الميزان" وكتب في الحاشية: "لعله الجيران". (¬8) في (م): "فقال لي أبا". (¬9) في (ر) و (غ): "فقلت". (¬10) في (خ): "قال". (¬11) قوله: "أحكي" من (خ) فقط. (¬12) قوله: "أن" من (خ) فقط. (¬13) قوله: "أحمد" ليس في (خ) و (م).

فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ وَغَسَلُوا أَيديهم جَلَسَ الْحَارِثُ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: مَنْ أَراد مِنْكُمْ أَن يسأَل شَيْئًا فليسأَل، فَسُئِلَ عَنِ الإِخلاص، وعن الرياءِ، ومسائل كثيرة فأجاب عنها (¬1)، واستشهد بِالْآيِ وَالْحَدِيثِ، وأَحمد يَسْمَعُ لَا يُنْكِرُ شَيْئًا من ذلك. فلما مرَّ (¬2) هَوِيٌّ مِنَ اللَّيْلِ أَمر الْحَارِثُ قَارِئًا يقرأُ شَيْئًا من القرآن على الحَدْرِ (¬3)، فقرأَ، فبكى بعضهم وانْتَحَبَ آخَرُونَ، ثُمَّ سَكَتَ القارئُ، فَدَعَا الْحَارِثُ بِدَعَوَاتٍ خِفَافٍ، ثُمَّ قَامَ إِلى الصَّلَاةِ. فَلَمَّا أَصبحوا قال أَحمد: قد كان بلغني (¬4) أَن ها هنا مَجَالِسَ لِلذِّكْرِ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، فإِن كَانَ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْمَجَالِسِ فَلَا أُنكر مِنْهَا شَيْئًا (¬5). فَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَن أَحوال الصُّوفِيَّةِ تُوزَنُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، وأَن مَجَالِسَ الذِّكْرِ لَيْسَتْ مَا زَعَمَ هؤلاءِ، بَلْ مَا تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُهُ، وأَما (¬6) مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا اعْتَادُوهُ فَهُوَ مما يُنكر. ¬

(¬1) قوله: "فأجاب عنها" ليس في (خ). (¬2) قوله: "مرّ" في موضعه بياض في (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: بياض في الأصل، ولعل الساقط كلمة "مضى"، يقال: مضى هدء، وهدى من الليل، وجئتك بعد هدء من الليل. اهـ. (¬3) في (غ) و (ر): "الحذَر"، وفي (خ) يشبه أن تكون: "الحدو"، والمثبت من (م). (¬4) في (غ) و (ر): "يبلغني". (¬5) هذه الحكاية أخرجها الحاكم ـ كما في "ميزان الاعتدال" (1/ 430)، و"طبقات الشافعية" لابن السبكي (2/ 279) ـ، فقال: سمعت أحمد بن إسحاق الصِّبْغي؛ سمعت إسماعيل بن إسحاق السراج يقول: قال لي أحمد بن حنبل: يبلغني أن الحارث هذا يكثر الكون عندك، فلو أحضرته منزلك وأجلستني في مكان أسمع كلامه ... ، ثم ذكر الحكاية، وفيها: ثم ابتدأ رجل منهم وسأل الحارث، فأخذ في الكلام ـ وكأن على رؤوسهم الطير ـ، فمنهم من يبكي، ومنهم من يخنّ، ومنهم من يزعق، وهو في كلامه، فصعدت الغرفة، فوجدت أحمد قد بكى حتى غُشي عليه ... ، إلى أن قال: فلما تفرقوا قال أحمد: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا، وعلى هذا فلا أرى لك صحبتهم. وأخرجها الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (8/ 214) من طريق محمد بن نعيم الضّبّي ـ وهو أبو عبد الله الحاكم ـ، عن أحمد بن إسحاق الصبغي، به. قال الذهبي عقب ذكره لها في "الميزان": "قلت: إسماعيل وثّقه الدارقطني، وهذه حكاية صحيحة السند منكرة، لا تقع على قلبي، أستبعد وقوع هذا من مثل أحمد". (¬6) في (ر) و (غ): "وأن".

وَالْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ المُقْتدى بِهِمْ (¬1)، فإِذاً لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هؤلاءِ المتأَخِّرون (¬2)؛ إِذ بَايَنُوا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. والأَمثلة فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ لَوْ تُتُبِّعَتْ لَخَرَجْنَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وإِنما ذَكَرْنَا أَمثلة تبيِّن مِنَ اسْتِدْلَالَاتِهِمُ الْوَاهِيَةِ مَا يُضَاهِيهَا، وَحَاصِلُهَا الْخُرُوجُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْضَحَهُ العلماءُ، وَبَيَّنَهُ الأَئمة، وَحَصَرَ أَنواعه الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَمَنْ نَظَرَ إِلى طُرُقِ (¬3) أَهل الْبِدَعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَرَفَ أَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ؛ لأَنها سَيَّالة لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وعلى (¬4) وَجْهٍ يَصِحُّ لِكُلِّ زائغٍ وكافرٍ أَن يَسْتَدِلَّ عَلَى زَيْغِهِ وكفرِهِ؛ حَتَّى يَنْسِبَ النِّحْلَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا إِلى الشَّرِيعَةِ. فَقَدْ رأَينا وَسَمِعْنَا عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنه اسْتَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ؛ كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى تَشْرِيكِ (¬5) عيسى مع الله في الربوبية (¬6) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (¬7)، واستدل ¬

(¬1) لكن أنكر عليه الإمام أحمد وبعض أئمة عصره أموراً ظهرت منه. ذكر الخطيب في "تاريخه" (8/ 215 ـ 216) أن أبا القاسم النصراباذي قال: "بلغني أن الحارث المحاسبي تكلم في شيء من الكلام، فهجره أحمد بن حنبل، فاختفى في دار ببغداد ومات فيها، ولم يصلّ عليه إلا أربعة نفر". وذكر عن سعيد بن عمرو البرذعي أنه قال: "شهدت أبا زرعة ـ وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه ـ، فقال للسائل: إياك وهذه الكتب! هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. قيل له: في هذه الكتب عبرة، قال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمين، صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟ هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم، يأتونا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحمن الديبلي، ومرة بحاتم الأصم، ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع! ". (¬2) في (ر) و (غ): "لهؤلاء المتأخرين". (¬3) في (خ): "طريق". (¬4) في (خ): "وعلى كل". (¬5) في (غ): "تشريع". (¬6) قوله: "في الربوبية" ليس في (خ) و (م). (¬7) سورة النساء: الآية (171).

على كونهم (¬1) مِنْ (¬2) أَهْلِ الْجَنَّةِ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ (¬3) تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (¬4) الْآيَةَ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْيَهُودِ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬5). وبعض الحلولية استدل على قوله بقول الله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (¬6). والتناسُخِيّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ *} (¬7). وكذلك يمكن (¬8) كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَاتِ، أَو حَرَّفَ المَنَاطَات، أَو حمَّل الآيات مالا تحتمله عند السلف الصالح، أَو تمسَّك بالواهية من (¬9) الأحاديث، أَو أَخذ (¬10) الأَدلة (¬11) ببادي الرأْي: أَن (¬12) يَسْتَدِلَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ أَو قَوْلٍ أَو اعْتِقَادٍ وَافَقَ غَرَضَهُ بِآيَةٍ أَو حَدِيثٍ لا يعوز ذلك (¬13) أَصلاً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالُ كُلِّ فِرْقَةٍ شُهِرَتْ بِالْبِدْعَةِ عَلَى بِدْعَتِهَا بِآيَةٍ أَو حَدِيثٍ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ـ، وَسَيَأْتِي لَهُ نَظَائِرُ أَيضاً إِن شاءَ اللَّهُ. فَمَنْ طَلَبَ خَلَاصَ نَفْسِهِ تثبَّت حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الطَّرِيقُ، وَمَنْ تَسَاهَلَ رَمَتْهُ أَيدي الْهَوَى فِي مَعَاطِبَ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهَا، إِلا مَا شاءَ الله. ¬

(¬1) قوله: "كونهم من" سقط من (م). (¬2) في (خ): "أن الكفار" بدل "كونهم". (¬3) في (ر) و (غ): "بقوله". (¬4) سورة البقرة: الآية (62). (¬5) سورة البقرة: الآيتان (47 و122). (¬6) سورة الحجر: الآية (29)، وسورة ص: الآية (72). (¬7) سورة الانفطار: الآية (8). ووقع في (غ): "ربك" بدل "ركبك". (¬8) قوله: "يمكن" ليس في (خ). (¬9) قوله: "من" ليس في (خ). (¬10) في (غ): "وأخذ". (¬11) في (خ): "بالأدلة". (¬12) في (خ): "له أن". (¬13) في (خ): "لا يفوز بذلك".

الباب الخامس في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما

الْبَابُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ والإِضافية والفرق بينهما وَلَا بُدَّ قَبْلَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِ الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ والإِضافية (¬1)، فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: إِن الْبِدْعَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجماع، وَلَا قِيَاسٍ (¬2)، وَلَا اسْتِدْلَالٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَهل الْعِلْمِ، لَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا فِي التَّفْصِيلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِدْعَةً ـ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ـ؛ لأَنها شيءٌ مُخْتَرَعٌ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وإِن (¬3) كَانَ المبتَدِعُ يأْبى أَن (¬4) يُنْسَبَ إِليه الْخُرُوجُ عَنِ الشَّرْعِ، إِذ هُوَ مُدَّعٍ أَنه دَاخِلٌ بِمَا اسْتَنْبَطَ تَحْتَ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، لَكِنَّ تِلْكَ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ لَا فِي نَفْسِ الأَمر وَلَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ. أَما بِحَسَبَ ما في (¬5) نفس الأَمر فبالفرض (¬6)، وأَما بِحَسَبِ الظَّاهِرِ فإِن أَدلته شُبَهٌ لَيْسَتْ بأَدلّة إِن ثَبَتَ (¬7) أَنه اسْتَدَلَّ، وإِلا فالأَمر وَاضِحٌ (¬8). وأَما الْبِدْعَةُ الإِضافية فَهِيَ الَّتِي لَهَا شَائِبَتَانِ: إِحداهما (¬9) لَهَا مِنَ الأَدلة مُتَعَلَّق، فَلَا تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِدْعَةً. والأُخرى لَيْسَ لَهَا مُتَعَلَّق إِلا مِثْلَ مَا (¬10) لِلْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. فَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ الَّذِي لَهُ شَائِبَتَانِ لَمْ ¬

(¬1) في (غ): "والإضافة". (¬2) قوله: "ولا قياس" ليس في (خ). (¬3) في (غ) و (ر): "هذا وإن". (¬4) في (غ) و (ر): "من أن". (¬5) قوله: "ما في" ليس في (خ). (¬6) في (خ): "فبالعرض". (¬7) في (خ): "إن تثبت"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل، ولعله: "إن ثبت"، أو: "هذا إن ثبت".اهـ. (¬8) في (ر): "أوضح". (¬9) في (خ): "أحدهما". (¬10) قوله: "ما" ليس في (غ) و (ر).

يَتَخَلَّصْ لأَحد الطَّرَفَيْنِ؛ وَضَعْنَا لَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ؛ وَهِيَ: "الْبِدْعَةُ الإِضافية"؛ أَي: أَنها بِالنِّسْبَةِ إِلى إِحدى (¬1) الْجِهَتَيْنِ سُنَّةٌ؛ لأَنها مُسْتَنِدَةٌ إِلى دَلِيلٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلى الْجِهَةِ الأُخرى بِدْعَةٌ؛ لأَنها مُسْتَنِدَةٌ إِلى شُبْهَةٍ لَا إِلى دَلِيلٍ، أَو غَيْرِ مُسْتَنِدَةٍ إِلى شيءٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: أَن الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ قَائِمٌ، وَمِنْ جِهَةِ الْكَيْفِيَّاتِ أَو الأَحوال أَو التفاصيل أو الأوقات (¬2) لم يقم عليها (¬3) دليل (¬4)، مَعَ أَنها مُحْتَاجَةٌ إِليه؛ لأَن الْغَالِبَ وُقُوعُهَا فِي التَّعَبُدِيَّاتِ، لَا فِي الْعَادِيَّاتِ (¬5) المَحْضَة؛ كَمَا سيأتي ذكره (¬6) إِن شاء الله. ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ هَذَا: إِن الْحَقِيقِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ أَكثر وأَعم وأَشهر فِي النَّاسِ ذِكْرًا، وبها (¬7) افترقت الْفِرَقُ، وَكَانَ النَّاسُ شِيَعًا، وَجَرَى مِنْ أَمثلتها مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ ـ وَهِيَ أَسبق فِي فَهْمِ العلماءِ ـ؛ تَرَكْنَا الْكَلَامَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الأَحكام، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَلَّمَا تَخْتَصُّ بِحُكْمٍ دُونَ الإِضافية، بل هما معاً تشتركان (¬8) فِي أَكثر الأَحكام الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ تُشْرَحَ (¬9) فِيهِ، بِخِلَافِ الْإِضَافِيَّةِ، فَإِنَّ لَهَا أَحْكَامًا خَاصَّةً وَشَرْحًا خَاصًّا ـ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَابِ ـ، إِلا أَن الإِضافية أَوّلاً عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ حَتَّى تَكَادَ الْبِدْعَةُ تُعَدُّ حَقِيقِيَّةً، وَالْآخَرُ يَبْعُدُ مِنْهَا حتى تكاد تكون (¬10) سُنَّةً مَحْضَة. وَلَمَّا انْقَسَمَتْ هَذَا الِانْقِسَامَ (¬11)؛ صَارَ من الأَكيد الكلام عَلَى كُلِّ قِسْمٍ عَلَى حِدَتِه، فَلْنَعْقِدْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فُصُولًا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الوقت والحال (¬12)، وبالله التوفيق. ¬

(¬1) في (خ): "أحد". (¬2) قوله: "الأوقات" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (غ) و (ر): "معها" بدل: "عليها". (¬4) قوله: "دليل" ليس في (خ) و (م). (¬5) في (خ): "العاديا" وفي (م): "العادات". (¬6) في (خ): "كما سنذكره". (¬7) قوله: "بها" ليس في (خ) و (م). (¬8) في (خ) و (م) "يشتركان". (¬9) في (غ) و (ر): "أو تشرح". (¬10) في (خ): "حتى يكاد يعد" وفي (م): "حتى تعد". (¬11) في (خ): "الأقسام". (¬12) قوله: "والحال" ليس في (خ) و (م).

فصل

فَصْلٌ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي شأْن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬1). فخرَّج عَبْدُ (¬2) بْنُ حُمَيْدٍ وإِسماعيل بْنُ إِسحاق القاضي وغيرهما (¬3) عن ¬

(¬1) سورة الحديد: آية (27). (¬2) في (خ): "عبد الله". (¬3) أخرجه الطيالسي في "مسنده" (376) فقال: حدثنا الصعق بن حزن، عن عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق، عن سويد بن غفلة، عن عبد الله بن مسعود فذكره إلى قوله: "يزحف على استه"، وفيه زيادة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "المسند" (321)، وأبو يعلى في "مسنده" كما في "المطالب العالية" (3038/ 3)، ومحمد بن نصر في "السنة" (ص21)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (23/ 204 ـ 205)، والطبراني في "الكبير" (10/ 220 رقم 10531)، و"الأوسط" (4479)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 480)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 177)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (9510)، جميعهم من طريق الصعق بن حزن، به، وبعضهم ذكره بتمامه، وبعضهم نقص منه. وأخرجه أيضاً عبد بن حميد والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" وابن المنذر وابن مردويه كما في "الدر المنثور" (8/ 64). قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، فتعقبه الذهبي بقوله: "ليس بصحيح، فإن الصعق ـ وإن كان موثقاً ـ، فإن شيخه منكر الحديث، قاله البخاري". وقول البخاري هذا تجده في "التاريخ الكبير" (7/ 53 ـ 54). والحديث ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (1977)، ونقل عن أبيه قوله: "منكر، لا يشبه حديث أبي إسحاق، ويشبه أن يكون عقيل هذا أعرابياً، والصعق لا بأس به". وأخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" ـ كما في "تفسير ابن كثير" (8/ 54 ـ 55)، والطبراني في "الكبير" (10357)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (747)،=

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تَدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعلم؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلم. قَالَ: "أَعلم النَّاسِ أَبصرهم بِالْحَقِّ إِذا اخْتَلَفَ النَّاسُ، وإِن كَانَ مقصِّراً فِي الْعَمَلِ، وإِن كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتهِ (¬1) وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى ثِنْتَيْنِ (¬2) وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا: فِرْقَةٌ آزَتِ (¬3) الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عيسى ابن مريم عليهما السلام حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُؤَازَاةِ الْمُلُوكِ، فَأَقَامُوا عَلَى دِينِ اللَّهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ (¬4) قَوْمِهِمْ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَأَخَذَتْهُمُ الْمُلُوكُ (¬5)، فَقَتَلَتْهُمْ، وقطَّعتهم بِالْمَنَاشِيرِ. وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ (¬6) بمُؤَازَاةِ الْمُلُوكِ، وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَيَدْعُوهُمْ إِلى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (¬7)، فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ وترهَّبوا فِيهَا، هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ (¬8): {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}. فالمؤمنون الذين آمنوا بي ¬

=وابن عساكر في "تاريخه" (10/ 313 مخطوط)، جميعهم من طريق بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده عبد الله. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 515): "رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير بكير بن معروف، وثقه أحمد وغيره، وفيه ضعف". وقال ابن حجر في "التقريب" (776) عن بكير هذا: "صدوق فيه لين"، فالحديث ضعيف بهذا الإسناد لأجله. (¬1) في (خ): يشبه أن تكون: "أليتيه". (¬2) في (خ): "اثنتين". (¬3) أي: قاومت؛ من آزَيْتُه: إذا حاذيته، يقال: فلان إزاءٌ لفلان: إذا كان مقاوماً له. انظر "لسان العرب" (14/ 32). وضبطت في (ر): "أزّت"، وعُلِّق عليها في الهامش بما نصه: "أَزّيت الرجل: ساويته". (¬4) في (م): "ظهران"، وكتب في الهامش: "لعله ظهراني". (¬5) من قوله: "فأقاموا على دين الله" إلى هنا سقط من (غ) و (ر). (¬6) في (ر) و (غ): "طاقات". (¬7) من قوله: "حتى قتلوا" إلى هنا سقط من (خ). (¬8) قوله: "فيهم" من (خ) فقط. (¬9) قوله تعالى: "فما رعوها حق رعايتها" سقط من (غ) و (ر).

وصدَّقوا بِي، وَالْفَاسِقُونَ الَّذِينَ كذَّبوا بِي (¬1) وَجَحَدُوا بي" (¬2). وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحاديث الْكُوفِيِّينَ، وَالرَّهْبَانِيَّةُ فِيهِ بمعنى اعتزال الخلق بالسياحة (¬3) في الجبال (¬4)، واطِّراح الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا مِنَ النساءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْهُ: لُزُومُ الصَّوَامِعِ والدِّيارات (¬5) ـ عَلَى مَا كَانَ عليه كثير من النَّصَارَى (¬6) قَبْلَ الإِسلام ـ، مَعَ الْتِزَامِ الْعِبَادَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَيُحْتَمَلُ أَن يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا. فإِذا بَنَيْنَا عَلَى الِاتِّصَالِ، فكأَنه يَقُولُ: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ بِهَا ابتغاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ. فَالْمَعْنَى: أَنها مِمَّا كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ (¬7)؛ أَي: مِمَّا شُرِعَتْ (¬8) لَهُمْ، لَكِنْ بِشَرْطِ قَصْدِ الرِّضوان، فما رعوها حق رعايتها؛ يُرِيدُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا رِعَايَتَهَا حِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ؛ لأَن قَصْدَ الرِّضْوَانِ إِذا كَانَ شَرْطًا فِي الْعَمَلِ بِمَا شُرِعَ لَهُمْ؛ فَمِنْ حَقِّهِمْ أَن يَتَّبِعُوا ذَلِكَ الْقَصْدَ، فإِلى أَيْنَ سَارَ (¬9) بِهِمْ سَارُوا، وإِنما شَرَعَ لَهُمْ عَلَى شَرْطِ أَنه إِذا نُسخ بِغَيْرِهِ رجعوا إِلى ما أُحكم وتركوا مَا نُسخ، وَهُوَ مَعْنَى ابْتِغَاءَ الرِّضْوَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فإِذا لَمْ يَفْعَلُوا وأَصرُّوا عَلَى الأَوّل كَانَ ذَلِكَ اتِّباعاً لِلْهَوَى لَا اتِّبَاعًا لِلْمَشْرُوعِ، واتباع المشروع هو الذي يحصل به الرضوان، وقصد الرضوان؛ فلذلك قال الله تَعَالَى (¬10): {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}. فَالَّذِينَ آمِنُوا هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ ابتغاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَالْفَاسِقُونَ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الدُّخُولِ فِيهَا بِشَرْطِهَا؛ إِذ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ (ص). ¬

(¬1) قوله: "بى" ليس في (خ). (¬2) قوله: "بي" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (خ) و (م): "في السياحة". (¬4) قوله: "في الجبال" ليس في (خ). (¬5) في (خ): "والديارت". (¬6) في (خ) و (م): "عليه أمر النصارى". (¬7) في (غ) و (ر): "كتب لهم". (¬8) في (غ) و (ر): "شرع". (¬9) في (خ): "أسار"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل! ولعل صوابه: "أسارهم"، أو: "سار بهم". ومعنى "أساره": جعله يسير كسيره، ولا يظهر معه معنى لباء الملابسة والمصاحبة. اهـ. (¬10) في (خ) و (م): "بذلك قال تعالى".

إِلا أَن هَذَا التَّقْرِيرَ يَقْتَضِي أَن الْمَشْرُوعَ لَهُمْ يُسَمَّى (¬1) ابْتِدَاعًا، وَهُوَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدُّ الْبِدْعَةِ. وَالْجَوَابُ أَنه يُسَمَّى (¬2) بِدْعَةً مِنْ حَيْثُ أَخلّوا بِشَرْطِ الْمَشْرُوعِ، إِذ شَرَطَ عليهم فيه شرط (¬3) فَلَمْ يَقُومُوا بِهِ. وإِذا كَانَتِ الْعِبَادَةُ مَشْرُوطَةً بشرط فعُمِلَ (¬4) بِهَا دُونَ شَرْطِهَا لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً عَلَى وَجْهِهَا وَصَارَتْ بِدْعَةً، كَالْمُخِلِّ قَصْدًا بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ؛ مِثْلَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، أَو الطَّهَارَةِ، أَو غيرها، بحيث (¬5) عَرَفَ بِذَلِكَ وعَلِمَه فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ، ودأَب عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ شَرْطِهَا، فَذَلِكَ الْعَمَلُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ. فَيَكُونُ ترهُّب النَّصَارَى صَحِيحًا قَبْلَ بَعْثِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ (¬6) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بُعث وَجَبَ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ كلِّه إِلى مِلَّتِهِ، فالبقاءُ عَلَيْهِ مَعَ نَسْخِهِ بَقَاءً عَلَى مَا هُوَ بَاطِلٌ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ. وإِذا بَنَيْنَا عَلَى أَن الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ ـ وَهُوَ قَوْلُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ـ، فَالْمَعْنَى: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ أَصلاً؛ وَلَكِنَّهُمُ (¬7) ابْتَدَعُوهَا ابتغاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا بِشَرْطِهَا، وَهُوَ الإِيمان بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذ بُعث إِلى النَّاسِ كَافَّةً. وإِنما سُمِّيَتْ بِدْعَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لأَمرين: أَحدهما: يَرْجِعُ إِلى أَنها بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ؛ لأَنها دَاخِلَةٌ تَحْتَ حَدِّ الْبِدْعَةِ. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إِلى أَنها بِدْعَةٌ إِضافية؛ لأَن ظَاهِرَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنها لَمْ تَكُنْ مَذْمُومَةً فِي حَقِّهِمْ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لأَنهم أَخلّوا بِشَرْطِهَا، فَمَنْ لَمْ يُخِلَّ مِنْهُمْ بِشَرْطِهَا، وَعَمَلِ (¬8) بِهَا قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَلَ لَهُ فِيهَا أجر، ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "سمي". (¬2) في (غ) و (ر): "سمي". (¬3) قوله: "فيه شرط" سقط من (خ) و (م). (¬4) في (خ) و (م): "فيعمل". (¬5) في (خ) و (م): "فحيث". (¬6) قوله: "رسول الله" ليس في (غ) و (ر). (¬7) في (غ): "ولكن". (¬8) في (غ) و (ر): "أو عمل".

حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ}؛ أَي: أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِهَا (¬1) فِي وَقْتِهَا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَعْثِهِ وفَّيناه أَجره. وإِنما قُلْنَا: إِنها فِي هَذَا الْوَجْهِ إِضافية؛ لأَنها لَوْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً لَخَالَفُوا بِهَا شَرْعَهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ؛ لأَن هَذَا حَقِيقَةُ الْبِدْعَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بها أَجر، بل كانوا يستحقون بها (¬2) الْعِقَابَ لِمُخَالَفَتِهِمْ لأَوامر اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنهم إنما (¬3) فعلوا ما كان جائزاً لهم فعله، وعند ذلك تكون بدعتهم جائزاً لهم فعلها (¬4)، فَلَا تَكُونُ بِدْعَتُهُمْ حَقِيقِيَّةً، لَكِنَّهُ يُنْظَرُ عَلَى أَي مَعْنَى أُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْبِدْعَةِ، وسيأْتي بعدُ (¬5) بِحَوْلِ اللَّهِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الأُمة مِنْهُ حُكْمٌ؛ لأَنه قد (¬6) نُسِخَ فِي شَرِيعَتِنَا، فَلَا رهبانيَّة فِي الإِسلام (¬7)، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬8). عَلَى أَن ابْنَ الْعَرَبِيِّ (¬9) نَقَلَ فِي الْآيَةِ أَربعة أَقوال: الأَول: مَا تَقَدَّمَ (¬10). وَالثَّانِي: أَن الرَّهْبَانِيَّةَ رَفْضُ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْمَنْسُوخُ فِي شَرْعِنَا (¬11). وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا (¬12) اتخاذ الصوامع للعزلة. والرابع: أنها (¬13) ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "عمل فيها". (¬2) قوله: "بها" ليس في (خ). (¬3) قوله: "إنما" ليس في (خ). (¬4) من قوله: "وعند ذلك تكون" إلى هنا سقط من (خ). (¬5) قوله: "بعد" ليس في (ر). (¬6) قوله: "قد" ليس في (خ) و (م). (¬7) يشير إلى الحديث الآتي تخريجه (ص212). (¬8) هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401)، كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬9) في "أحكام القرآن" (4/ 1744). (¬10) وهو ما سبق في حديث ابن مسعود (ص144)، والرهبانية فيه بمعنى اعتزال الخلق بالسياحة في الجبال والترهب فيها. (¬11) في (غ) و (ر): "شريعتنا". (¬12) قوله: "أنها" ليس في (خ). (¬13) قوله: "أنها" سقط من (خ).

السِّياحة. قَالَ: وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِليه فِي دِينِنَا عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ (¬1). وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي (¬2) أَنها بِدْعَةٌ؛ لأَن الَّذِينَ ترهَّبوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ إِنما فَعَلُوا ذلك فراراً منهم بدينهم، ثم سُمِّيت (¬3) بِدْعَةً، وَالنَّدْبُ إِليها يَقْتَضِي أَن لَا ابْتِدَاعَ (¬4) فِيهَا، فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ؟ وَلَكِنْ للمسأَلة فِقْهُ (¬5) يُذكر بحول الله. وقيل: إِن قوله (¬6) تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} معناه (¬7): أَنهم تَرَكُوا الْحَقَّ، وَأَكَلُوا لُحُومَ الْخَنَازِيرِ، وَشَرِبُوا الْخَمْرَ، وَلَمْ يَغْتَسِلُوا مِنْ جَنَابَةٍ، وَتَرَكُوا الْخِتَانَ، {فَمَا رَعَوْهَا} يعني: الطاعة والملة {حَقَّ رِعَايَتِهَا}، فالهاءُ رَاجِعَةٌ إِلى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الْمِلَّةُ الْمَفْهُومُ (¬8) مَعْنَاهَا مِنْ قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}؛ لأَنه يَفْهَمُ مِنْهُ أَن ثَمَّ مِلَّةٌ مُتَّبَعَةٌ؛ كَمَا دَلَّ (¬9) قَوْلُهُ: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ *} (¬10) على معنى (¬11) الشَّمْسِ، حَتَّى عَادَ عَلَيْهَا (¬12) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {حَتَّى (¬13) تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬14)، وَكَانَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا (¬15) الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلُوهُ، وإِنما أَمرناهم بِالْحَقِّ، فَالْبِدْعَةُ فِيهِ إِذاً حَقِيقِيَّةٌ لَا إِضافية، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ أَكثر الْعُلَمَاءِ، فَلَا نَظَرَ فيه بالنسبة إِلى هذه الأُمة. ¬

(¬1) الذي في أحكام القرآن لابن العربي قوله: الثاني اتخاذ الصوامع للعزلة، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان، اهـ ولم يذكره عند السياحة كما في نقل الشاطبي عنه. (¬2) قوله: "يقتضي" ليس في (غ). (¬3) في (خ): "وسميت"، وفي هامش (م) ما نصه: "ولعلها: سماها". (¬4) في (غ): "أن الابتداع". (¬5) في (خ): "فقد"، ولذا أشكلت العبارة على رشيد رضا، فعلق على قوله: "للمسألة" فقال: كذا! ولعل كلاماً سقط من الناسخ هو "بيان"، أو نحوه. اهـ. (¬6) في (خ): "معنى قوله". (¬7) قوله: "معناه" ليس في (خ). (¬8) في (م): "المفهومة". (¬9) في (غ): "دل عليه". (¬10) سورة ص: الآية (31). وقوله: "الصافنات الجياد" من (ر) فقط. (¬11) قوله: "معنى" من (غ) و (ر) فقط. (¬12) في (م): "عليه". (¬13) قوله تعالى: "حتى" ليس في (خ). (¬14) سورة ص: الآية (32). وعلق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: في تفسير الآية وجه آخر، وهو: أن ضمير "توارت" يرجع إلى الخيل التي عبر عنها بلفظ الخيل. وكذلك ضمير "ردوها علي"، وهذا الوجه أصح لفظاً ومعنى. اهـ. (¬15) قوله: "هذا" ليس في (غ) و (ر).

فصل

فصل (¬1) وخرَّج سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ (¬2) وإِسماعيل الْقَاضِي عَنْ أَبي أُمامة الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنه قَالَ: أَحدثتم قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إِنما كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، فَدُومُوا عَلَى القيام إذ (¬3) فعلتموه ولا تتركوه، فإِن ناساً (¬4) مِنْ بَنِي إِسرائيل (¬5) ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمُ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ، فَلَمْ يَرْعَوْهَا (¬6) حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا فَقَالَ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} إلى آخر (¬7) الآية. وفي رواية سعيد (¬8): فإِن نَاسًا مِنْ بَنِي إِسرائيل ابْتَدَعُوا بِدْعَةً ابتغاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فعاتبهم الله بتركها، فتلا (¬9) هذه ¬

(¬1) قوله: "فصل" ليس في (خ)، وفي موضعه بياض في (م). (¬2) في "سننه" (ل180/أ)، فقال: نا هشيم؛ قال: نا زكريا بن أبي مريم الخزاعي؛ قال: سمعت أبا أمامة يحدث ... ، فذكره. وأخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (23/ 206) من طريق يعقوب بن إبراهيم، عن هشيم، به. وسنده ضعيف لضعف زكريا بن أبي مريم الخزاعي، فقد ذُكر لشعبة، فجعل يتعجب، ثم ذكره فصاح صيحة دلّت على أنه لم يرضه كما قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (3/ 592 ـ 593)، وقال أبو داود: "لم يرو عنه إلا هشيم"، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وقال الساجي: "تكلموا فيه"، وقال الدارقطني: "يعتبر به"؛ كما في "لسان الميزان" (3/ 331 رقم 3520)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (4/ 263). (¬3) المثبت من (م)، وفي باقي النسخ "إذا". (¬4) في (خ): "أناساً". (¬5) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: فيه: أن الذين ابتدعوا الرهبانية أتباع المسيح، لا بني إسرائيل خاصة. اهـ. (¬6) في (خ): "فما رعوها". (¬7) قوله: "إلى آخر" ليس في (خ). (¬8) قوله: "سعيد" ليس في (خ) و (م). (¬9) في (خ): "وتلا".

الآية: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (¬1) إِلَى آخَرِ (¬2) الْآيَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} يُرِيدُ أَنهم قَصَّرُوا فِيهَا وَلَمْ يَدُومُوا عَلَيْهَا. قَالَ بَعْضُ نَقْلَةِ التَّفْسِيرِ: وَفِي (¬3) هَذَا التأْويل لُزُومُ الْإِتْمَامِ لِكُلِّ مَنْ بدأَ بِتَطَوُّعٍ وَنَفْلٍ، وأنه يلزمه (¬4) أن يرعاه (¬5) حَقَّ رَعْيِهِ (¬6). قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (¬7): وَقَدْ زَاغَ قوم (¬8) عن منهج الصواب، فظنوا (¬9) أَنَّهَا رَهْبَانِيَّةٌ كُتِبَتْ (¬10) عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَن الْتَزَمُوهَا. قال: وليس يخرج هذا من (¬11) مَضْمُونِ الْكَلَامِ، وَلَا يُعْطِيهِ أُسْلُوبُهُ وَلَا مَعْنَاهُ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَى أَحد شَيْءٌ إِلا بِشَرْعٍ أَو نَذْرٍ. قَالَ: وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهل الْمِلَلِ، وَاللَّهُ أَعلم (¬12). وَهَذَا الْقَوْلُ محتاج إِلى النظر والتأَمل إِذا بنينا على (¬13) الْعَمَلَ عَلَى وَفْقِهِ، إِذ أَكثر الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الأَول، فإِن هَذِهِ الْمِلَّةَ لَا بِدْعَةَ فِيهَا، وَلَا تَحْتَمِلُ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِابْتِدَاعِ بِحَالٍ؛ للقطع بالدليل؛ إِذ كُلَّ (¬14) بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ (¬15) ـ، فَالْأَصْلُ أَن يُتْبَعَ الدَّلِيلُ، وَلَا عَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا نُخَلِّي ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ قَوْلَ أَبي أُمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ نَظَرٍ صَحِيحٍ (¬16) عَلَى وِفْقِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وإِن كَانَ فِيهِ بُعد بِالنِّسْبَةِ إِلى ظَاهِرِ الأَمر، وَذَلِكَ أَنه عَدَّ عَمَلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جمع الناس في ¬

(¬1) قوله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} من (غ) فقط. (¬2) قوله: "إلى آخر" ليس في (خ). (¬3) في (غ) و (ر): "في". (¬4) قوله: "وأنه يلزمه" ليس في (خ). (¬5) في (غ) و (ر): "يرعه"، وفي (خ): "وأن يرعاه". (¬6) في (خ): "رعايته". (¬7) في "أحكام القرآن" (4/ 1745). (¬8) قوله: "قوم" ليس في (خ) و (م). (¬9) في (خ): "من يظن". (¬10) في (غ): "كتب". (¬11) في (خ): "عن" بدل "من". (¬12) قوله: "أعلم" ليس في (خ). (¬13) قوله: "على" ليس في (خ). (¬14) في (غ): "إن كان". وفي (ر): "إن كل". (¬15) (ص108) من المجلد الأول، وسيأتي تخريجه أيضاً (ص318). (¬16) في (غ): "صح". وفي (ر): "يصح".

الْمَسْجِدِ (¬1) عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي رَمَضَانَ بِدْعَةً؛ لِقَوْلِهِ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ يُصَلُّونَ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفضل (¬2). وَقَدْ مَرَّ أَنه إِنما سمَّاها بدعة بِاعْتِبَارٍ مَّا، وأَن قِيَامَ الإِمام بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ سُنَّةٌ، عَمِلَ بِهَا صَاحِبُ السُّنَّةِ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ الِافْتِرَاضِ (¬3)، فَلَمَّا انْقَضَى زَمَنُ الْوَحْيِ زَالَتِ الْعِلَّةُ فَعَادَ (¬4) الْعَمَلُ بِهَا إِلَى نِصَابِهِ، إِلا أَن ذَلِكَ لَمْ يتأَتَّ لأبي بكر رضي الله تعالى عَنْهُ زَمَانَ (¬5) خِلَافَتِهِ؛ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَولى بِالنَّظَرِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ صَدْرُ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى تَأَتَّى النَّظَرُ فَوَقَعَ مِنْهُ ما عُلم (¬6)، لَكِنَّهُ صَارَ فِي ظَاهِرِ الأَمر كأَنه أَمر لم يَجْر عليه (¬7) عملُ مَنْ تَقَدَّمَهُ دَائِمًا، فَسَمَّاهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ، لَا أَنه أَمر عَلَى خِلَافِ مَا ثَبَتَ من السنة. فكأَنّ أَبا أُمامة رضي الله عنه اعتبر فيه نظر ترك (¬8) الْعَمَلِ بِهِ، فَسَمَّاهُ إِحداثاً، مُوَافَقَةً لِتَسْمِيَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَمر بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَا فَهِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ من أَن ترك الرعاية هو ترك الدوام، وأنهم قصدوا إِلى (¬9) الْتِزَامِ عملٍ لَيْسَ بِمَكْتُوبٍ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ، فَلَمْ يُوفُوا بِمُقْتَضَى مَا الْتَزَمُوهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي التطوُّعات غَيْرِ (¬10) اللَّازِمَةِ، وَلَا السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، يَقَعُ (¬11) عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحدهما أَن تُؤْخَذَ عَلَى أَصلها فِيمَا اسْتَطَاعَ الإِنسان، فَتَارَةً يَنْشَطُ لَهَا (¬12)، وَتَارَةً لَا يَنْشَطُ، أَوْ يُمْكِنُهُ تَارَةً بِحَسْبِ الْعَادَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ أُخْرَى لِمُزَاحَمَةِ أشغالٍ وَنَحْوِهَا، وما أشبه ذلك؛ كالرجل يكون ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "الناس بالمسجد". (¬2) تقدم تخريجه في الجزء الأول (ص50). (¬3) سيأتي تخريجه (ص155). (¬4) في (خ): "فعادت". (¬5) في (غ) و (ر): "زمن". (¬6) قوله: "ما علم" ليس في (خ) و (م). (¬7) في (خ) و (م): "به". (¬8) في (خ): "ذلك". (¬9) في (خ) و (م): "دوامهم على" بدل "الدوام وأنهم قصدوا إلى". (¬10) في (خ): "الغير"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كلمة "غير" لا يدخل عليها حرف التعريف. اهـ. (¬11) قوله: "يقع" ليس في (غ) و (ر). (¬12) في (غ): "له".

لَهُ الْيَوْمَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيَتَصَدَّقُ وَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ غَدًا، أَوْ يَكُونُ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْشَطُ للعطاءِ، أَو يَرَى إِمساكه أَصلح فِي عَادَتِهِ الْجَارِيَةِ لَهُ، أَو غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأَمور الطَّارِئَةِ للإِنسان. فَهَذَا الوجه لا حَرَج على أَحدٍ في ترك (¬1) التطوُّعات كلها (¬2)، ولا عَتَبَ (¬3) وَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ (¬4)، إِذ لَوْ كَانَ ثَمَّ لَوْمٌ أَوْ عُتْبٌ لَمْ يَكُنْ تَطَوُّعًا، وَهُوَ خلاف الفرض. والثاني: أَن تؤخذ مأْخذ الْمُلْتَزِمَاتِ، كَالرَّجُلِ يَتَّخِذُ لِنَفْسِهِ وَظِيفَةً رَاتِبَةً مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوقات، كالتزام قيام حظٍّ من الليل مثلاً، أو صيام (¬5) يَوْمٍ بِعَيْنِهِ لفضلٍ ثَبَتَ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَعَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ (¬6)، أَو يتَّخذ وَظِيفَةً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ (¬7)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ. فَهَذَا الْوَجْهُ أَخذت فِيهِ التَّطَوُعَاتُ مأْخذ الْوَاجِبَاتِ مِنْ وجه؛ لأَنه لما نوى الدؤوب عليها في الاستطاعة، أَشبهت الواجبات أو السنن (¬8) الراتبة، كما أَنه لما (¬9) كَانَ ذَلِكَ الإِيجاب غَيْرَ لَازِمٍ بِالشَّرْعِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا؛ إِذ تَرْكُه أَصلاً لَا حَرَجَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ أَعني تَرْكَ الِالْتِزَامِ. وَنَظِيرُهُ عِنْدَنَا النَّوَافِلُ الرَّاتِبَةُ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي الأَصل، وَمِنْ حَيْثُ صَارَتْ رَوَاتِبَ أَشبهت السُّنَنَ وَالْوَاجِبَاتِ. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حِينَ (¬10) صَلَّاهُمَا فَسُئِلَ عَنْهُمَا، فَقَالَ: "يا ابنة أَبي أُمَيَّة! سأَلت عن ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "أخذ" بدل "ترك"، وفي (م) يشبه أن تكون: "اخر" ووضع عليها إشارة، وكتب في الحاشية: "لعله ترك". (¬2) في (غ) و (م) و (ر): "كلها عليه"، والمثبت من (خ) فقط، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله سقط من هنا كلمة "وفيه".اهـ. (¬3) قوله: "ولا عتب" ليس في (خ) و (م). (¬4) قوله: "عليه" من (خ) فقط، وهو في باقي النسخ بعد قوله: "كلها". (¬5) في (خ): "وصيام". (¬6) في (ر) و (غ): "أو عرفة". وتقدم ذكر الدليل على فضل صيام هذين اليومين (ص27) من هذا الجزء. (¬7) وفي فضله قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} سورة غافر: آية (55) وغيرها من الآيات. (¬8) في (خ): "والسنن". (¬9) في (خ) و (م): "لو" بدل "لما". (¬10) في (خ): "من" بدل "حين"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله "حين صلاهما".اهـ.

الركعتين بعد العصر؟ إنه (¬1) أَتى نَاسٌ مِنْ عَبَدَ الْقَيْسِ (¬2) بالإِسلام مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ" (¬3)؛ لأَنه سُئِلَ عَنْ صَلَاتِهِ لَهُمَا بعد ما نهى عنهما، لأنه (¬4) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظهر كالنوافل الراتبة، فلما فَاتَتَاهُ صَلَّاهُمَا بَعْدَ وَقْتِهِمَا، كالقضاءِ لَهُمَا حَسْبَمَا يقضى الواجب. فصار إذاً (¬5) لهذا النوع من التطوع حالة بَيْنَ حَالَتَيْنِ، إِلا أَنه رَاجِعٌ إِلى خِيْرَةِ المُكَلَّف، بِحَسَبَ مَا فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ فَهِمْنَا مِنْ مَقْصُودِ الشَّرْعِ أَيضاً الأَخذ بالرِّفْق والتيسير، وأَن لا يلتزم (¬6) المُكَلّف مَا لَعَلَّهُ يَعْجِزُ عَنْهُ أَو يَحْرَجُ (¬7) بِالْتِزَامِهِ، فَإِنْ الِالْتِزَامَ (¬8) إِن لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ النذر (¬9) الَّذِي يُكره ابْتِدَاءً، فَهُوَ يَقْرُبُ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي يَجْعَلُهُ الإِنسان بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَصَارَ الإِخلال بِهِ مكروهاً. والدليل على صحة الأَخذ بالرفق والتيسير (¬10)، وأَنه الأَولى وَالْأَحْرَى ـ وإِن كَانَ الدَّوَامُ عَلَى الْعَمَلِ أَيضاً مَطْلُوبًا عَتِيدًا (¬11) ـ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (¬12): {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (¬13) عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَن (¬14) الْكَثِيرَ مِنَ الأَمر وَاقِعٌ فِي التَّكَالِيفِ الإِسلامية. وَمَعْنَى ¬

(¬1) قوله: "إنه" ليس في (خ) و (م). (¬2) في (غ) و (ر): "عبد قيس". (¬3) أخرجه البخاري (1233 و4370)، ومسلم (834). (¬4) في (خ): "فإنه". (¬5) في (خ): "ح" بدل "إذا"، وهو اختصار لقوله: "حينئذٍ". (¬6) في (خ): "لا يلزم". (¬7) في (خ): "يخرج". (¬8) في (خ): "ترك الالتزام". (¬9) في (خ): "القدر". (¬10) قوله: "والتيسير" ليس في (خ) و (م). (¬11) في (غ): "مطلوب عتيد"، وفي (م) و (ر): "مطلوباً عتيد". وعتيد: تأتي بعدة معاني، منها: إذا جَسُمَ الشيء قيل له: عتيد. ومنها: المُعَدّ الحاضر. انظر: "لسان العرب" (3/ 279 ـ 280). (¬12) في (غ) و (ر): "في القرآن والسنة كقوله تعالى"، وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: الظاهر أن قوله: "في الكتاب والسنّة" صفة للدليل، وأن الآية خبر المبتدأ باعتبار لفظها؛ أي: والدليل؛ قوله: {وَاعْلَمُوا} إلخ. اهـ. (¬13) سورة الحجرات: الآية (7). (¬14) في (ر) و (غ): "بأن".

"لَعَنتُّم": لَحَرَجْتُمْ، وَلَدَخَلَتْ عَلَيْكُمُ الْمَشَقَّةُ، وَدِينُ اللَّهِ لَا حَرَجَ فِيهِ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} بالتسهيل والتيسير {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الْآيَةَ. وإِنما بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحة (¬1)، ووَضْعِ الإِصْرِ والأَغلال الَّتِي كَانَتْ عَلَى غَيْرِهِمْ (¬2). وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صفة نبيه صلّى الله عليه وسلّم: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (¬3)، وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬4)، وَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا *} (¬5). وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى الأَخذ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ اعتداءً، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (¬6) {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬7). ¬

(¬1) في (خ): "السمحا". وقد بوب البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان من "صحيحه" (1/ 93) بقوله: باب الدين يسر، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" اهـ. وهذا التعليق قال عنه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 94): "وهذا الحديث المعلق لم يسنده المؤلف في هذا الكتاب؛ لأنه ليس من شرطه. نعم وصله في كتاب "الأدب المفرد"، وكذا وصله أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، وإسناده حسن، استعمله المؤلف في الترجمة لكونه متقاصراً عن شرطه، وقوّاه بما دل على معناه؛ لتناسب السهولة واليسر". والظاهر أن الحافظ حسّن إسناده لوجود محمد بن إسحاق، واستقرّ عنده أن كلًّا من داود بن الحصين وعكرمة ثقة، بل أخرج البخاري لكلٍّ منهما، إلا أنه لم يخرج لداود شيئاً من روايته عن عكرمة، وإنما أخرج له عن شيوخ آخرين، ورواية داود بن الحصين عن عكرمة منكرة، والغريب أن ابن حجر نفسه قال في ترجمة داود هذا في "التقريب" (1789): "ثقة إلا في عكرمة"، فغابت عنه هذه العلة. ثم إن الحافظ ابن حجر رحمه الله أورد لهذا الحديث طرقاً في "تغليق التعليق" (2/ 41 ـ 43) لا يخلو شيء منها من مقال، وبعضها مراسيل جيدة، وقوّى الحديث بمجموعها، وانظر: "هدي الساري" (ص20). (¬2) لقوله سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... } سورة الأعراف: الآية (157). (¬3) سورة التوبة: الآية (128). (¬4) سورة البقرة: الآية (185). (¬5) سورة النساء: الآية (28). (¬6) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م). (¬7) سورة المائدة: الآية (87).

وَمِنَ الأَحاديث كَثِيرٌ؛ كمسأَلة الْوِصَالِ. فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنها قَالَتْ: نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ! قَالَ: "إني لست كهيئتكم، إِني أَبيت عند ربي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" (¬1). وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَوَاصَلَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: "لَوْ مُدَّ لنا الشهر لواصلنا وصالاً يَدَع (¬2) المتعمِّقون تعمُّقَهم" (¬3). وَهَذَا إِنكار. وَعَنْ أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فإِنك يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وأَيكم مِثْلِي؟ إِني أَبيت عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" (¬4). فَلَمَّا أبوا أَن ينتهوا عن الوصال واصل بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رأَوا الْهِلَالَ، فَقَالَ: "لَوْ تأَخَّر الشَّهْرُ لَزِدْتُكُمْ"؛ كالْمُنَكِّل حِينَ أَبوا أَن يَنْتَهُوا (¬5). وَمِنْ ذَلِكَ: مَسْأَلَةُ قِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ (¬6)، فإِنه تَرَكَهُ مَخَافَةَ (¬7) أَن يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، فَيَعْجِزُوا (¬8) عَنْهُ، فَيَقَعُوا فِي الإِثم وَالْحَرَجِ، فَكَانَ ذلك رِفقاً منه بهم. قال القاضي ابن الطَّيِّبُ (¬9): يُحْتَمَلُ أَن يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَوحى إِليه أَنه ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1964)، ومسلم (1105). (¬2) في (خ): "حتى يدع". (¬3) أخرجه البخاري (7241)، ومسلم (1104). (¬4) في (غ) و (ر): "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني"، وعلق رشيد رضا عليه بقوله: المشهور في تفسيره: يعطيني قوة الطاعم والشارب. اهـ. (¬5) أخرجه البخاري (1965)، ومسلم (1103) (¬6) أخرجه البخاري (729 و731)، ومسلم (781 و782) من حديث زيد بن ثابت وعائشة رضي الله عنهما، وفي حديث زيد قال صلّى الله عليه وسلّم: "فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة: صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة". (¬7) في (ر) و (غ): "حماية". (¬8) في (خ): "فيعجزون". (¬9) في (خ) و (م): "أبو الطيب"، والصواب ما أثبته من (غ) و (ر)، فقد ذكر هذا النقل الباجي في "المنتقى" (1/ 205)، فقال: "قال القاضي أبو بكر .. "، ثم ذكره. وأبو بكر هذا هو ابن الطيب المالكي، وهو غير أبي الطيب الطبري الشافعي المعروف بالمحب، علماً بأن الحافظ ابن حجر قال في "فتح الباري" (3/ 13): "وأجاب=

إِن وَاصَلَ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ فُرِضَتْ (¬1) عَلَيْهِمْ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: إِن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعُ العمل وهو يحب أَن يعمل به خشية أَن يعمل به الناس فيفرض عليهم (¬2). وَقَدْ قِيلَ: هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَخُصّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بصيام" (¬3). وقال (¬4) الْمُهَلَّب (¬5): "وجهه: خَشْيَةُ أَن يُسْتَمرَّ عَلَيْهِ فَيُفْرَضَ". وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَجْتَمِعُ النَّهْيُ مَعَ قَوْلِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي "الْمُوَطَّأِ" (¬6)، وَلَا يَكُونُ فِيهِ إِشْكَالٌ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الحَوْلاءِ بِنْتِ تُوَيْت (¬7)؛ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ، فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟ " فَقُلْتُ: امرأَة لَا تَنَامُ تُصَلِّي، فقال: "عليكم من الأعمال ما تطيقون" (¬8). وفي لفظ (¬9): هذه الحولاء بنت تُوَيْت (¬10)، زعموا أنها لا تنام الليل (¬11)، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَنَامُ اللَّيْلَ! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يسأَم الله حتى تسأَموا". ¬

=المحب الطبري بأنه يحتمل ... "، ثم ذكر هذا النقل، فالظاهر أنه تصحيف بسبب تشابه الرسم بين "ابن الطيب" و"أبي الطيب"، والله أعلم. (¬1) في (غ) و (ر): "فرضها". (¬2) أخرجه البخاري (1128)، ومسلم (718). (¬3) أخرجه مسلم (1144). (¬4) في (خ) و (م): "قال". (¬5) هو المهلب بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الأسدي، الأندلسي، أحد شُرّاح "صحيح البخاري"، توفي سنة (435هـ). انظر ترجتمه في "سير أعلام النبلاء" (17/ 579)، و"الديباج المذهب" (601). (¬6) (1/ 311) برواية يحيى الليثي، ونص عبارة مالك: "لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحرّاه". (¬7) في (ر) و (غ): "تريت". (¬8) أخرجه البخاري (43 و1151)، ومسلم (785/ 221)، واللفظ لمسلم. (¬9) عند مسلم (785/ 220). (¬10) في (ر) و (غ): "تريت". (¬11) من قوله: "فقال: عليكم من الأعمال" إلى هنا سقط من (خ) و (م). وبعد هذا الموضع في (ر) زيادة: "منكراً عليها والله أعلم غير راضٍ"، وأشار الناسخ إلى أنها محذوفة.

فأَعاد لفظ: "لا تنام الليل" (¬1) مُنْكِرًا عَلَيْهَا ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ، غَيْرَ راضٍ فِعْلَهَا؛ لما خافه عليها من المَلَلِ (¬2) والسَّآمة، أَو تَعْطِيلِ حَقٍّ آكَدٍ (¬3). وَنَحْوُهُ حَدِيثُ أَنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ ـ وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ ـ، فَقَالَ: "مَا هَذَا"؟! قَالُوا: حَبْلٌ لِزَيْنَبَ تُصَلِّي، فإِذا كَسَلت أَو فَتَرَتْ أَمسكت بِهِ. فَقَالَ: "حُلّوه، لِيُصَلّ أحدُكم نشاطَه، فإِذا كَسَلَ أَو فَتَرَ قَعَدَ". وَفِي رِوَايَةٍ قال (¬4): "لَا، حُلّوه" (¬5). وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (¬6) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَلَغَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَصوم أَسْرُدُ، وأُصلي اللَّيْلَ، فإِما أَرسل إِليَّ، وإِما لَقِيتُهُ، فَقَالَ: "أَلَمْ أُخبر أَنك تَصُومُ لَا تُفْطِرُ، وَتَصِلِي اللَّيْلَ؟ فَلَا تَفْعَلْ؛ فإِن لِعَيْنِكَ حَظًّا، وَلِنَفْسِكِ حَظًّا، ولأَهلك حَظًّا، فَصُمْ وأَفطر، وصَلِّ وَنَمْ ... "، الْحَدِيثَ (¬7). وَفِي رِوَايَةٍ (¬8) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (¬9) قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو (¬10) بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما؛ قَالَ: كُنْتُ أَصوم الدَّهْرَ، وأَقرأُ الْقُرْآنَ كُلَّ ليلة، قال (¬11): فإِما ذُكِرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإِما أَرسل إِليَّ، فأَتيته فَقَالَ: "أَلَمْ أُخبر أَنك تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ " فقلت (¬12): بلى يا رسول الله! ولم أُرِدْ بذلك (¬13) إِلا الخير، قال: "فإن بحسبك (¬14) أَن تصوم كل شهر ثلاثة أَيام"، فَقَلَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِني أُطِيقُ أَفضل مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فإِن لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولزَوْرِك (¬15) عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا". قَالَ: "فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ، فإِنه كَانَ أَعبد النَّاسِ". قَالَ: فَقَلَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَالَ: "كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا". قَالَ: "وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ". قَالَ: فَقَلَتْ (¬16): يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِني أَطيق أَفضل مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ". قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (¬17) "فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ؛ فإِن لِزَوْجِكَ عليك حقًّا، ¬

(¬1) قوله: "الليل" ليس في (خ). (¬2) في (خ) و (م): "الكلل". (¬3) في (خ): "أوكد". (¬4) قوله: "قال" ليس في (خ) و (م). (¬5) أخرجه البخاري (1150)، ومسلم (784)، واللفظ الأول لمسلم، والآخر للبخاري. (¬6) في (خ) و (م): "عبد الله بن عمر"، وبهامش (م) ما نصه: "لعله ابن عمرو بفتح العين". (¬7) أخرجه البخاري (1131 و1975)، ومسلم (1159/ 186)، واللفظ لمسلم. (¬8) عند مسلم برقم (1159/ 182). (¬9) في (خ) و (م): "ابن سلمة". (¬10) في (خ) عمر. (¬11) قوله: "قال" ليس في (خ). (¬12) في (خ): "فقال"، وفي (م): "فقالت". (¬13) في (خ): "ولم أر في ذلك". (¬14) في (خ): "فإن كان كذلك أو فإن كذلك فحسبك"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: نص "صحيح مسلم": فقلت: بلى يا رسول الله، ولم أُرِدْ بذلك إلا الخير، قال: "فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام".

ولزَوْرك (¬1) عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكِ عَلَيْكَ حَقًّا". قَالَ: فشدَّدت فُشدِّد (¬2) عليَّ. قَالَ: وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنك لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ". قَالَ: فَصِرْتُ إِلى الَّذِي قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَني كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ (¬3) قَالَ: "صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَذَلِكَ صِيَامُ داود، وهو أَعدل الصيام". قال: فقلت (¬4): فإِني (¬5) أُطِيقُ أَفضل مِنْ ذَلِكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا أَفضل مِنْ ذَلِكَ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لأَن أَكون قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ الأَيام الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحب إِليَّ مِنْ أَهلي وَمَالِيَ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ (¬6) عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذُكر رَجُلٌ عِنْدَ ¬

(¬1) في (خ) و (م): "ولزوارك"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: الرواية الصحيحة في كل موضع: "ولزورك" بغير ألف، وهم الزائرون؛ كالسفر؛ بمعنى: المسافرين، والشرب؛ بمعنى الشاربين. اهـ. (¬2) في (م): "قلت". (¬3) من قوله: "فاقرأه في كل عشرين" إلى هنا سقط من (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: زاد في "الصحيح" بين الشهر والسبع: قال: "فاقرأه في كل عشرين"، فَقَلَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ من ذلك، قال: "فاقرأه في كل عشر"، قَالَ: فَقَلَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أفضل من ذلك .. إلخ. اهـ. (¬4) في (خ) و (م): "ولزوارك". (¬5) في (خ): "فشدد الله". (¬6) عند مسلم برقم (1159/ 181). (¬7) في (م): "قلت". (¬8) في (خ): "إني". (¬9) برقم (2519) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن نبيه، عن محمد بن المنكدر، عن جابر ... ، فذكره. ثم ضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن نبيه وهو مجهول كما في "التقريب" (6124).

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَةٍ واجتهاد، وذُكر عنده آخر بِدَعَةٍ (¬1)، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُعْدَلُ (¬2) بالدَّعَة" (1). والدَّعَةُ (1) هنا: المراد بها (¬3): الرِّفْقُ وَالتَّيْسِيرُ. قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: "حَسَنٌ غَرِيبٌ" (¬4). وَعَنْ أَنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (¬5): جاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلى بُيُوتِ أَزواج النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأَلون عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كأَنهم تقالُّوها، فَقَالُوا: وأَين نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم؟ قد (¬6) غَفَرَ اللَّهُ لَهُ (¬7) مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (¬8) وَمَا تأَخر. فَقَالَ أَحدهم: أَما أَنا فإِني أُصلي اللَّيْلَ أَبداً، وَقَالَ الْآخَرُ: إِني أَصوم الدَّهْرَ وَلَا أُفطر، وَقَالَ الْآخَرُ: إِني أَعتزل النساءَ فَلَا أَتزوج أَبداً. فجاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَنتم الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَما وَاللَّهِ إِني لأَخشاكم لِلَّهِ وأَتقاكم لَهُ، لَكِنِّي أَصوم وأُفطر، وأُصلي وأَرقد، وأَتزوج النساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سنَّتي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬9). والأَحاديث فِي هَذَا (¬10) الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وهي بجملتها تدلّ على الأَخذ في الأعمال بالتسهيل (¬11) وَالتَّيْسِيرِ، وإِنما يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ عَدَمِ الِالْتِزَامِ، وإِن تُصُوِّر مَعَ الِالْتِزَامِ فَعَلَى جِهَةِ مَا لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ فِيهِ حسبما نفسِّره (¬12) الآن. ¬

(¬1) كذا جاء عند المصنف، والذي في الترمذي: "بِرِعَةٍ"، و"الرِّعَة": المصدر من الورع كما في "النهاية" (5/ 174)، و"لسان العرب" (8/ 388). (¬2) في (غ) و (ر): "لا نعدل". (¬3) في (خ): "والدعة المراد بها هنا". (¬4) هذا جاء في بعض نسخ الترمذي، ويظهر أن النسخ التي حذف منها قوله: "حسن" أجود كما تجد ذلك محكيًّا عن التّرمذي عند المزي في "تحفة الأشراف" (2/ 375)، و"تهذيب الكمال" (25/ 645). (¬5) قوله: "قال" ليس في (غ) و (ر). (¬6) في (خ): "وقد". (¬7) في (غ): "غفر له". (¬8) في (ر): "من ذنبه ما تقدم"، ووضع عليهما الناسخ علامتي التقديم والتأخير. (¬9) تقدم تخريجه ص (147). (¬10) قوله: "هذا" ليس في (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: أي: في هذا المعنى، أو: في المعنى الذي نتكلم فيه. ويوشك أن يكون سقط من النسخ لفظ "هذا".اهـ. (¬11) في (خ) و (م): "الأخذ في التسهيل". (¬12) في (ر) و (غ): "نفسر".

فصل

فَصْلٌ فأَما إِن الْتَزَمَ أَحد ذَلِكَ (¬1) الْتِزَامًا، فعلى أحد (¬2) وَجْهَيْنِ: إِما عَلَى جِهَةِ النَّذْرِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً. أَلا تَرَى إِلى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا (¬3) يَنْهَانَا عَنِ النَّذْرِ؛ يَقُولُ: "إِنه لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وإِنما يُسْتَخرج بِهِ مِنَ الشَّحيح" (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ (¬5): "النَّذْرُ لَا يُقَدِّم شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّره، وإِنما يُسْتَخْرَجُ به من البخيل". وفي رواية (¬6) أخرى: أنه عليه السلام نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وَإِنَّمَا يُسْتَخرج بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ" (¬7)؟ وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (¬8): "لَا تَنْذُرُوا، فإِن النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وإِنما يُستخرج بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ" (¬9). وإِنما وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ تَنْبِيهًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي أَنها كَانَتْ تَنْذُرُ: إِن شَفَى الله مريضي فعليَّ صوم كذا، أو إن (¬10) قَدِمَ غَائِبِي، أَو إِن أَغناني اللَّهُ (¬11) فَعَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا، فَيَقُولُ: لَا يُغْنِي مِنْ قَدَرِ الله ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "ذلك أحد". (¬2) قوله: "أحد"، ليس في (خ) و (م). (¬3) قوله: "يوماً" ليس في (ر) و (غ). (¬4) أخرجه البخاري (6608)، ومسلم (1639/ 2)، واللفظ لمسلم. (¬5) عند مسلم (1639/ 3). (¬6) عند مسلم أيضاً (1639/ 4). (¬7) من قوله: "وفي رواية أخرى" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬8) قوله: "قال" سقط من (ر). (¬9) أخرجه البخاري (6609 و6694)، ومسلم (1640)، واللفظ له. (¬10) في (غ) و (ر): "وإن". (¬11) لفظ الجلالة: "الله" من (خ) فقط.

شيئاً، بل من قدر الله له المرض أو الصحة (¬1)، أَوِ الْغِنَى أَوِ الْفَقْرَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فالنذر لا يوضع (¬2) سبباً لغير ذلك (¬3)؛ كَمَا وُضِعَت صِلَةُ الرَّحِمِ سَبَبًا فِي الزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ مَثَلًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ (¬4) الْعُلَمَاءُ، بَلِ النَّذْرُ وَعَدَمُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ (¬5) يَسْتخرج بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ؛ بِشَرْعِيَّة الْوَفَاءِ بِهِ (¬6)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ} (¬7)، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَذَرَ أَن يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ" (¬8)، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ العلماءِ، كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (¬9). وَوَجْهُ النَّهْيِ: أَنه مِنْ بَابِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي تقدَّم الاستشهاد على كراهيته. وأَما (¬10) عَلَى جِهَةِ الِالْتِزَامِ غَيْرِ النَّذْرِيِّ (¬11)؛ فكأَنه نَوْعٌ مِنَ الْوَعْدِ، والوفاءُ بِالْعَهْدِ (¬12) مَطْلُوبٌ، فكأَنه أَوجب عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، فَهُوَ تَشْدِيدٌ أَيضاً، وَعَلَيْهِ يأْتي مَا تقدم في (¬13) حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَتوا يسأَلون عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِقَوْلِهِمْ (¬14): أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ... إِلَخْ، وَقَالَ أَحدهم (¬15): أَما أَنا (¬16) فأَفعل كَذَا ... إلى آخره (¬17). وَنَحْوُهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخبر أَن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يَقُولُ: لَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ ولأَصومنّ النَّهَارَ مَا عِشْت (¬18). ¬

(¬1) في (خ): "الصحة أو المرض". (¬2) في (خ): "لم يوضع". (¬3) في (خ): "لذلك" بدل "لغير ذلك". (¬4) في (غ) و (ر): "فسره" وفي (م): "ذكر". (¬5) في (ر) و (غ): "ولكن أنه". (¬6) قوله: "به" ليس في (ر) و (غ). (¬7) سورة النحل: الآية (91). (¬8) أخرجه البخاري (6696 و6700). (¬9) انظر "فتح الباري" (11/ 575). (¬10) هذا هو الوجه الثاني. (¬11) في (غ) و (ر): "النذر". (¬12) في (ر): "بالوعد". (¬13) في (خ): "من". (¬14) في (خ): "وقولهم". (¬15) من قوله: "أين نحن" إلى هنا سقط من (غ) و (م) و (ر). (¬16) في (م): "أما نحن". (¬17) تقدم تخريجه (ص147)، وانظر (ص159). (¬18) تقدم تخريج حديث عبد الله بن عمرو (ص157).

وَلَيْسَ بِمَعْنَى النَّذْرِ؛ إِذ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُ: "صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيام"، صم كذا، صُمْ كَذَا (¬1)، وَلَقَالَ لَهُ: أَوف بِنَذْرِكَ؛ لأَنه صلّى الله عليه وسلّم يقول (¬2): "مَنْ نَذَرَ أَن يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ" (¬3). فأَما الِالْتِزَامُ بِالْمَعْنَى النَّذْرِيِّ، فَلَا بُدَّ مِنَ الوفاءِ بِهِ وُجُوبًا لَا نَدْبًا ـ عَلَى مَا قَالَهُ العلماءُ ـ، وجاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَلَا نُطَوِّل (¬4) به. وأَما بالمعنى الثَّانِي: فالأَدلة تَقْتَضِي الوفاءَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، ولكن لا تبلغ مبلغ الإيجاب وإن بلغت (¬5) مَبْلَغَ الْعِتَابِ عَلَى التَّرْكِ (¬6)، حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآية (¬7) فِي مأْخذ أَبي أُمامة (¬8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فإنه لما نظر إلى ترتيب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬9) لِلْقِيَامِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً؛ كَانَ ذَلِكَ بِصُورَةِ النَّوَافِلِ (¬10) الرَّاتِبَةِ (¬11) الْمُقْتَضِيَةِ لِلدَّوَامِ فِي الْقَصْدِ الأَول، فأَمرهم بِالدَّوَامِ (¬12) حَتَّى لَا يَكُونُوا كَمَنْ عَاهَدَ ثُمَّ لَمْ يُوفِ بِعَهْدِهِ فَيَصِيرَ مُعَاتَبًا، لَكِنَّ هَذَا الْقَسَمَ عَلَى وَجْهَيْنِ (¬13): الْوَجْهُ (¬14) الأَول: أَن يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لا يطاق، أَو مما فيه حرج ومَشَقَّة (¬15) فادِحَة، أَو يؤدِّي (¬16) إِلى تَضْيِيعِ مَا هُوَ أَولى، فهذه هي الرهبانية ¬

(¬1) في (خ): "صم كذا" مرة واحدة. (¬2) في (خ): "قال". (¬3) تقدم تخريجه قبل بضعة أسطر. (¬4) في (خ): "نطيل". (¬5) قوله: "مبلغ الإيجاب وإن بلغت" ليس في (خ). (¬6) ومن هذا النوع ـ وهو العتاب على الترك وإن لم يبلغ مبلغ الإيجاب ـ: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: "يَا عَبْدَ اللَّهِ! لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ". أخرجه البخاري (1152)، ومسلم (1159/ 185). (¬7) في (خ): "الأدلة". (¬8) تقدم تخريج حديث أبي أمامة هذا (ص149). (¬9) من قوله: "فإنه لما نظر" إلى هنا ليس في (خ) و (م). (¬10) قوله:: "النوافل" مكرر في (ر). (¬11) في (غ): "المراتبة". (¬12) في (م): "في الدوام". (¬13) في (غ) و (ر): "أوجه". (¬14) قوله: "الوجه" ليس في (غ) و (ر). (¬15) في (خ): "أو مشقة". (¬16) قوله: "أو يؤدي" سقط من (ر) و (غ).

الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬1)، وسيأْتي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِن شاءَ اللَّهُ. وَالْوَجْهُ (¬2) الثَّانِي (¬3): أَنْ لَا يَكُونَ فِي الدُّخُولِ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَلَا حَرَجٌ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الدَّوَامِ عَلَيْهِ تَلْحَقُ بِسَبَبِهِ الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ، أَوْ تَضْيِيعُ مَا هُوَ آكَدُ (¬4)، فَهَاهُنَا أَيضاً يَقَعُ النَّهْيُ ابْتِدَاءً، وَعَلَيْهِ دَلَّتِ الأَدلة الْمُتَقَدِّمَةُ، وجاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ (¬5) تَفْسِيرُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: فشدَّدت فَشُدِّد عليَّ، وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنك لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ". فتأَمَّلوا كَيْفَ اعْتُبِرَ فِي الْتِزَامِ مَا لَا يُلْزَمُ ابْتِدَاءً: أَنْ يَكُونَ بحيث لا يشقّ عليه الدوام (¬6) إِلى الْمَوْتِ! قَالَ: فَصِرْتُ إِلى الَّذِي قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي (¬7) كُنْتُ (¬8) قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى (¬9) يَنْبَغِي أَن يُحْمَلَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبي قَتَادَةَ (¬10) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يوماً؟ قال: "ويطيق ذلك أحد"؟ ثم قال في صيام (¬11) يوم (¬12) وإفطار يومين: "وَدِدْتُ أَني طُوِّقت ذَلِكَ". فَمَعْنَاهُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ: "وَدِدْتُ أَني طُوِّقت الدَّوَامَ عَلَيْهِ"، وإِلا فَقَدْ كَانَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ وَيَقُولُ: "إِني لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِني أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" (¬13). وَفِي الصَّحِيحِ: "كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، ويفطر حتى نقول: لا يصوم" (¬14). ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص147). (¬2) قوله: "والوجه" من (خ) فقط. (¬3) في (غ) و (م) و (ر): "والثاني". (¬4) في (خ): "أوكد". (¬5) تقدم تخريجه (ص158). (¬6) في (خ): "الدوام عليه". (¬7) في (خ): "أنّني". (¬8) قوله: "كنت" ليس في (خ). (¬9) قوله: "المعنى" ليس في (غ) و (ر). (¬10) أخرجه مسلم (1162). (¬11) قوله: "صيام" سقط من (م). (¬12) في (خ): "في يوم صوم". (¬13) تقدم تخريجه (ص 155). (¬14) أخرجه البخاري (1969)، ومسلم (1156/ 175).

فصل

فَصْلٌ إِذا ثَبَتَ هَذَا: فَالدُّخُولُ فِي عَمَلٍ عَلَى نيَّة الِالْتِزَامِ لَهُ إِن كَانَ فِي المُعْتاد بحيث إِذا داوم عليه أَورث ما لا ينبغي (¬1)، فلا ينبغي اعتقاد (¬2) هذا الالتزام؛ لأنه (¬3) مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً، إِذ هُوَ مؤدٍّ إِلى أُمور جَمِيعُهَا منْهِيٌّ عَنْهُ: أَحدها: أَن اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَهدى إليه (¬4) فِي هَذَا الدِّينِ التَّسْهِيلَ وَالتَّيْسِيرَ، وَهَذَا المُلْتَزِمُ يُشْبه مَنْ لَمْ يَقْبَلْ هديَّته، وَذَلِكَ يُضَاهِي ردَّها عَلَى مُهْديها، وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْمَمْلُوكِ مَعَ سَيِّدِهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ؟. وَالثَّانِي: خَوْفُ التَّقْصِيرِ أَوِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بما هو أَولى وآكد في الشرع، وقد قال (¬5) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬6) إِخباراً عَنْ دَاوُدَ عليه السلام: "كَانَ (¬7) يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ (¬8) إِذا لاَقَى"، تَنْبِيهًا عَلَى أَنه لَمْ يُضْعِفْهُ الصيام عن لقاءِ العدو، فِيَفِرّ أو يترك (¬9) الجهاد في مَظَانّ (¬10) تأكيده (¬11) بسبب ضعفه. ¬

(¬1) قوله: "ما لا ينبغي" سقط من (م). (¬2) في (خ): "أورث مللاً ينبغي أن يعتقد أن"، وفي هامش (م) ـ تعليقاً على هذا الموضع ـ: "افتقاد أو ابتعاد". (¬3) قوله: "لأنه" ليس في (خ)، وفي (م): "أنه". (¬4) قوله: "إليه" زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في (خ): "وقال"، بدل "وقد قال". (¬6) في إحدى روايات حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري (1977 و1979)، ومسلم (1159/ 186). (¬7) في (خ): "إنه كان"، وكذا في (ر)، ولكن أشار الناسخ إلى حذف "إنه". (¬8) في (ر): "ولا يعد". (¬9) في (خ): "ويترك". (¬10) في (خ) و (م): "مواطن". (¬11) في (خ): "تكبده".

وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنك لَتُقِلُّ الصَّوْمَ! فَقَالَ: إِنه يَشْغَلُنِي عَنْ قراءَة الْقُرْآنِ، وقراءَة الْقُرْآنِ أَحبّ إِليَّ مِنْهُ (¬1). وَلِذَلِكَ (¬2) كَرِهَ مَالِكٌ إِحياءَ اللَّيْلِ كُلَّه، وَقَالَ: لَعَلَّهُ يُصْبِحُ مَغْلُوبًا، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسوة (¬3). ثُمَّ قَالَ: لَا بأْس بِهِ مَا لَمْ يَضُرّ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ (¬4). وَقَدْ جاءَ فِي صِيَامِ (¬5) يَوْمِ عَرَفَةَ أَنه يُكَفِّرُ سَنْتَيْنِ (¬6)، ثُمَّ إِن الإِفطار فِيهِ لِلْحَاجِّ أَفضل؛ لأَنه قُوَّةٌ عَلَى الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ، ولابن وهب في ذلك حكاية (¬7). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8909)، والطبراني في "الكبير" (9/ 175 رقم 8868)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2018 و2019)، ثلاثتهم من طريق الأعمش، عن شقيق، عن ابن مسعود، به. وتصحف "شقيق" في رواية ابن أبي شيبة وإحدى روايات البيهقي إلى "سفيان". وسنده صحيح. وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (7903)، ومن طريقه الطبراني (8870)، من طريق سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد؛ قال: كان عبد الله يقلّ الصيام، فقلنا له: إنك تقلّ الصيام! قال: إني إذا صمت ضعفت عن الصلاة، والصلاة أحبّ إليّ من الصيام. وسنده صحيح أيضاً. وأخرجه الطبراني (8869 و8875) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، به، وزاد: "فإن صام صام ثلاثاً من الشهر". وله طرق أخرى عند عبد الرزاق والطبراني (¬2) في (م): "وكذلك"، ويشبه أن تكون هكذا في (غ). (¬3) في (ر): "أسوة حسنة"، وأشار الناسخ إلى حذف قوله: "حسنة". (¬4) انظر: "مواهب الجليل شرح مختصر خليل" (1/ 410)، و"الموافقات" (2/ 250). (¬5) في (ر) و (غ): "صوم". (¬6) أخرجه مسلم (1162)، وتقدم (ص27) من هذا الجزء. (¬7) انظرها في "ترتيب المدارك" (3/ 239). وقد ذكر المؤلف هذه الحكاية في "الموافقات" (2/ 250) فقال: "ونحو هذا ما حكى عياض عن ابن وهب: أنه آلى أن لا يصوم يوم عرفة أبداً؛ لأنه كان في الموقف يوماً صائماً، وكان شديد الحر، فاشتد عليه. قال: فكان الناس ينتظرون الرحمة، وأنا أنتظر الإفطار".

وَقَدْ جاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ لأَهلك عَلَيْكَ حقاً، ولزَوْرِك (¬1) عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفَسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا" (¬2)، فَإِذَا انْقَطَعَ إِلى عِبَادَةٍ لَا تَلْزَمُهُ فِي الأَصل، فَرُبَّمَا أَخلّ بشيءٍ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ. وَعَنْ أَبي جحيفة رضي الله تعالى عنه؛ قال: آخَى (¬3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وأَبي الدَّرْداءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبا الدَّرْدَاءِ (¬4)، فرأَى أُم الدَّرْدَاءِ متبذِّلة، فَقَالَ: مَا شأْنك مُتَبَذِّلَةً؟ قَالَتْ: إِن أَخاك أَبا الدَّرْدَاءِ ليس (¬5) لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. قَالَ: فَلَمَّا جاءَ أَبو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِليه طَعَامًا، فَقَالَ (¬6): كُلْ فإِني صَائِمٌ؛ قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تأْكل. قَالَ: فأَكل، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ (¬7)، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ قَالَ لَهُ سلمان: قم الآن، فقاما (¬8) فصلَّيا، فقال (¬9): إِن لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولضيفك عليك حقاً، وإن لأهلك (¬10) عَلَيْكَ حَقًّا، فأَعط لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فأَتيا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "صَدَقَ سَلْمَانُ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ (¬11): "صَحِيحٌ". وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ جَمَعَ التَّنْبِيهَ عَلَى حَقِّ الأَهل بالوطءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَمَا يَرْجِعُ إِليه، والضيف بالخدمة والتّأْنِيس والمُوَاكلة وَغَيْرِهَا، وَالْوَلَدِ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِمْ بِالِاكْتِسَابِ وَالْخِدْمَةِ، وَالنَّفْسِ بِتَرْكِ إِدْخَالِ المشقَّات عَلَيْهَا، وَحَقِّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، وَبِوَظَائِفَ أُخر؛ فَرَائِضَ وَنَوَافِلَ آكد مما هو فيه. ¬

(¬1) في (خ): "ولزوارك". (¬2) تقدم تخريجه (ص157). (¬3) قوله: "آخى" مكرر في (خ). (¬4) قوله: "فزار سلمان أبا الدرداء" سقط من (ر) و (غ). (¬5) في (خ): "ليست". (¬6) في (غ) و (ر): "قال". (¬7) قوله: "فنام" سقط من (ر) و (غ). (¬8) في (غ) و (ر): "فقام". (¬9) في (خ): "فقال سلمان". (¬10) في (خ): "ولأهلك". (¬11) في "جامعه" (2413)، وعنه أخذ المصنف هذا الحديث، وفاته أن البخاري أخرجه في "صحيحه" (1968).

والواجب أَن يُعْطَى كُلُّ (¬1) ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وإِذا الْتَزَمَ الإِنسان أَمراً مِنَ الأُمور الْمَنْدُوبَةِ، أَو أَمرين، أَو ثَلَاثَةً، فَقَدْ يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنِ الْقِيَامِ بِغَيْرِهَا، أَو عن إكماله (¬2) عَلَى وَجْهِهِ، فَيَكُونُ مَلُوماً. وَالثَّالِثُ: خَوْفُ كَرَاهِيَةِ النَّفْسِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ المُلْتَزَم؛ لأَنه قَدْ فُرِضَ (¬3) من جنس ما يشق الدوام عليه، فبدخول (¬4) المشقة لَا يُقَرِّبُ (¬5) مِنْ وَقْتِ الْعَمَلِ إِلا وَالنَّفْسُ تَشْمَئِزّ مِنْهُ، وتَوَدّ لَوْ لَمْ تَعْمَلْ، أَو تتمنَّى لَوْ لَمْ تَلْتَزِمْ، وإِلى هَذَا الْمَعْنَى يشير حديث عائشة رضي الله تعالى عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: "إِن هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فأَوْغِلُوا فيه بِرِفْق، ولا تُبَغِّضوا إِلى أنفسكم (¬6) عِبَادَةَ اللَّهِ، فإِن الْمُنْبَتَّ لَا أَرضاً قَطَعَ وَلَا ظَهَرًا أَبقى" (¬7). فشبَّه المُوغِلَ بالعُنْف بالْمُنْبَتّ؛ وهو المنقطع في بعض الطريق تَعْنِيفًا عَلَى الظَّهْرِ ـ وَهُوَ الْمَرْكُوبُ ـ حَتَّى وَقَفَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السَّيْرِ، وَلَوْ رَفَقَ بِدَابَتِهِ (¬8) لوصل إِلى رأْس المسافة. ¬

(¬1) في (خ): "لكل". (¬2) في (خ) و (م): "كماله". (¬3) في (غ) و (ر): "لأنه بالفرض". (¬4) في (خ): "فتدخل"، وفي (م): "فيدخل". (¬5) في (خ): "بحيث لا يقرب". (¬6) في (خ): "لأنفسكم". (¬7) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3885) من طريق علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن عائشة رضي الله عنها، به. قال البيهقي: "ورواه أبو عقيل يحيى بن المتوكل، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، ورواه أبو معاوية، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً، وهو الصحيح. وقيل غير ذلك". فما دام الراجح إرساله، فهو ضعيف. وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وسيأتي في (ص173)، وآخر مختصر من حديث أنس بن مالك، ولا يصح شيء منهما، ولا يثبت الحديث من هذه الطرق، فانظر الكلام عليه مُطَوَّلاً إن شئت في "كشف الخفاء" (1/ 300)، و (2/ 284)، و"الأجوبة المرضية" للسخاوي (1/ 10 ـ 15 رقم 2) وحاشية المحقق، وحاشية الشيخ مشهور بن حسن على "الموافقات" (2/ 236)، وحاشية الشيخ عبد الرحمن الفريوائي على "الزهد" لوكيع (234). (¬8) في (ر) و (غ): "على دابته".

فَكَذَلِكَ الإِنسان عُمُرُهُ مَسَافَةٌ، وَالْغَايَةُ الْمَوْتُ، وَدَابَّتُهُ نفسه، فكما هو مطلوب بِالرِّفْقِ عَلَى الدَّابَّةِ حَتَّى يَصِلَ بِهَا، فَكَذَلِكَ هُوَ مَطْلُوبٌ بِالرِّفْقِ (¬1) بِنَفْسِهِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهَا قَطْعُ مَسَافَةِ الْعُمُرِ؛ بِحِمْلِ التَّكْلِيفِ، فَنَهَى فِي الْحَدِيثِ عَنِ التسبُّب فِي تَبْغِيض الْعِبَادَةِ لِلنَّفْسِ، وَمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ لَا يَكُونُ حَسَنًا. وخرَّج الطبري (¬2) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *} {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا *}: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا فَقَالَ: "انْطَلِقَا فبشِّرا، ويَسِّرا وَلَا تعسِّرا، فإِني قد أُنزلت عليَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا *}. وخرَّج مُسْلِمٌ (¬3) عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبي بُرْدَةَ عَنْ أَبيه، عَنْ جَدِّهِ: أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلى الْيَمَنِ، فَقَالَ: "بشِّرا وَلَا تُنَفِّرا، ويَسِّرا وَلَا تُعَسِّرا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا". وَعَنْهُ (¬4): أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذا بَعَثَ أَحداً مِنْ أَصحابه فِي بَعْضِ أَمره قَالَ: "بشِّروا وَلَا تُنَفِّروا، ويَسِّروا وَلَا تُعَسِّروا"، وَهَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّعْسِيرِ الَّذِي الْتِزَامُ (¬5) الْحَرَجِ في التعبد نوع منه. ¬

(¬1) من قوله: "على الدابة" إلى هنا سقط من (خ) و (غ) و (ر)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل!. (¬2) لم أجده في "تفسيره"، ولا في المطبوع من "تهذيب الآثار"، ولا في "تاريخه". وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" (6/ 430)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11/ 247 ـ 248 رقم 11841)، كلاهما من طريق عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن شيبان، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، به. وعبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي هذا ضعيف؛ قال أبو حاتم: "ليس بقوي"، وضعفه الدارقطني في رواية، وفي أخرى قال: "متروك الحديث"، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: "يعتبر حديثه من غير روايته عن أبيه". انظر: "الضعفاء" لابن الجوزي (1897)، و"ميزان الاعتدال" (7871)، و"لسان الميزان" (5113). (¬3) برقم (1733)، وأخرجه البخاري أيضاً (3038). (¬4) عند مسلم أيضاً (1732). (¬5) في (غ) و (ر) و (م): "إلزام".

وَفِي الطَّبَرِيِّ (¬1) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (¬2) قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي عَلَى صَخْرَةٍ بِمَكَّةَ، فأَتى نَاحِيَةَ مَكَّةَ، فَمَكَثَ مَلِيًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَجَدَ الرجل يصلي على حاله، فقال: "يا أَيُّهَا (¬3) النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ وَالْقِسْطِ ـ ثَلَاثًا ـ، فإِن الله لا يَمَلُّ (¬4) حَتَّى تَمَلّوا". وَعَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلمي (¬5): أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأَى رَجُلًا يصلي، فقال: "من ¬

(¬1) لعله في المفقود من "تهذيب الآثار"، فإني لم أجده في شيء من كتب الطبري المطبوعة. والحديث أخرجه ابن ماجه (4241)، وأبو يعلى (1796 و1797)، ومن طريقه ابن حبان في "صحيحه" (357/الإحسان)، كلاهما من طريق عيسى بن جارية، عن جابر رضي الله عنه، به. وسنده ضعيف؛ فعيسى بن جارية الأنصاري المدني: فيه لين كما في "التقريب" (5323). وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "فإن الله لن يملّ حتى تملوا" مخرج في "صحيح البخاري" (1970)، ومسلم (782). (¬2) في (م): "جابر أن عبد الله". (¬3) في (خ) و (م): "أيها". (¬4) في (خ) و (م): "لن يمل". (¬5) كذا ذكر المصنف! والراوي إنما هو محجن بن الأدرع، فالظاهر أن المصنف رأى ذكر بريدة في أول الحديث، ثم اختصره فأخذ آخره؛ وهو موضع الشاهد. فالحديث أخرجه الطيالسي (1295 و1296)، وأحمد في "المسند" (4/ 338)، أما الطيالسي فمن طريق أبي عوانة، وأما أحمد فمن طريق شعبة، كلاهما عن أبي بشر ـ جعفر بن إياس ـ، عن عبد الله بن شقيق، عن رجاء بن أبي رجاء؛ قال: كان بريدة على باب المسجد، فمرّ مِحْجن عليه وسَكَبَة يصلي، فقال بريدة ـ وكان فيه مزاح ـ لمحجن: ألا تصلي كما يصلي هذا؟ فقال محجن: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ بيدي، فصعد على أحد، فأشرف على المدينة، فقال: "ويل أمها قرية يدعها أهلها خير ما تكون ـ أو كأخير ما تكون ـ، فيأتيها الدجال فيجد على كل باب من أبوابها ملكاً مصلتاً بجناحه، فلا يدخلها". قال: ثم نزل وهو آخذ بيدي، فدخل المسجد، وإذا هو برجل يصلي، فقال لي: "من هذا؟ " فأثنيت عليه خيراً، فقال: "اسكت! لا تُسمعه فتهلكه". قال: ثم أتى حجرة امرأة من نسائه، فنفض يده من يدي، قال: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره". وهذا لفظ أحمد. وفي سنده رجاء بن أبي رجاء الباهلي، البصري، وهو مقبول كما في "التقريب" (1932).

هَذَا؟ " فَقُلْتُ: هَذَا فُلَانٌ، فَذَكَرْتُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ، فَقَالَ: "إِن خَيْرَ دِينِكُمْ أَيسره" (¬1). وَهَذَا مشعر بِعَدَمِ الرِّضَا بِتِلْكَ الْحَالَةِ، وإِنما ذَلِكَ مَخَافَةَ الكراهية للعمل، وكراهية العمل مظنَّة الترك (¬2) الَّذِي هُوَ مَكْرُوهٌ لِمَنْ أَلزم نَفْسَهُ لأَجل نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ. وَقَدْ مَرَّ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فإِن قوله صلّى الله عليه وسلّم: "فإِن الْمُنْبَتَّ لا أَرضاً قَطَع، ولا ظهرا أَبقى" مع قوله: "ولا تُبَغِّضوا إِلى أَنفسكم (¬3) عبادة الله (¬4) " يَدُلُّ عَلَى أَن بُغْضَ الْعَمَلِ وَكَرَاهِيَتَهُ مَظِنَّةُ الانقطاع، ولذلك مثّل صلّى الله عليه وسلّم بالْمُنْبَتّ ـ وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ (¬5) عَنِ اسْتِيفَاءِ الْمَسَافَةِ ـ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ. وَالْخَامِسُ: الْخَوْفُ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، فإِن الْغُلُوَّ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْأَمْرِ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِيهِ إِلى حَيِّز الْإِسْرَافِ، وَقَدْ دلَّ عَلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ أَشياء، حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: "يَا أَيها النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ (¬6) ... "، الْحَدِيثَ (¬7). وَقَالَ الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (¬8). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال لي رسول الله (ص) غَدَاةَ الْعَقَبَة: "الْقُطْ (¬9) لِي حَصَيَاتٍ (¬10) مِنْ حَصَى الخَذْف، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ (¬11) قَالَ: "بأَمثال هَؤُلَاءِ (¬12)، إِياكم وَالْغُلُوَّ في الدين! فإِنما هلك مَن ¬

(¬1) في (خ): "يسره". (¬2) في (خ) و (م): "للترك". (¬3) في (خ): "إلى نفسكم". (¬4) في (خ): "العبادة". (¬5) قوله: " (ص) بالمنبت وهو المنقطع" مكرر في (م). (¬6) في (خ): "أنفسكم بالقصد". (¬7) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة. (¬8) سورة النساء: الآية (171)، وسورة المائدة: الآية (77). (¬9) في (خ): "اجمع"بدل "القط"، وسقط من أصل (م) وأثبت في الهامش هكذا: "أبغ". (¬10) في (ر) و (غ): "حصاة". (¬11) في (غ) و (ر): "وضعتهن بيده". (¬12) في (خ): "فأمثال هؤلاء، ما مثل هؤلاء".

كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ (¬1) ". فأَشار إِلى أَن الْآيَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْغُلُوِّ يَشْتَمِلُ مَعْنَاهَا عَلَى كُلِّ مَا هُوَ (¬2) غُلُوٌّ وإِفراط، وأَكثر هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُقَيَّدَةِ آنِفًا، خَرَّجَهَا (¬3) الطَّبَرِيُّ (¬4). وخرَّج أَيضاً (¬5) عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ؛ قَالَ: "كَانَ يُقَالُ: اعْمَلْ وأَنت مُشْفِق، وَدَعِ الْعَمَلَ وأَنت تحبه، عملٌ دَائِمٌ وإِن قَلّ (¬6) ". وأَتى معاذاً رجُلٌ فقال: أَوصني؛ قال: أَمطيعني أَنت؟ قَالَ: نَعَمْ؛ قَالَ (¬7): صَلّ وَنَمْ، وصُمْ وأَفطر (¬8)، واكْتَسِبْ، وَلَا تأْت اللَّهَ إِلا وأَنت مسلم، وإِياك ودعوة المظلوم! (¬9). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13907)، وأحمد في "المسند" (1/ 215 و347)، وابن ماجه (3029)، وابن أبي عاصم في "السنة" (98)، والنسائي (4063)، وأبو يعلى (2427 و2472)، وابن الجارود (473)، وابن خزيمة (2867 و2868)، وابن حبان (3871/الإحسان)، والحاكم (1/ 466)، جميعهم من طريق عوف بن أبي جميلة، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس، به. وسنده صحيح، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "الصحيحة" (1283)، وحكى تصحيحه أيضاً عن النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية. (¬2) في (ر) و (غ): "من هو". (¬3) في (خ): "أخرجها". (¬4) في المفقود من "تهذيب الآثار" فيما يظهر. (¬5) وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1333)، ووكيع في "الزهد" (232)، والمروزي في "زوائد الزهد" (1110)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (34971)، جميعهم من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة أنه قال: "كان يقال: اعمل وأنت مشفق، ودع العمل وأنت تحبه، عمل صالح دائم وإن قلّ". ورجاله ثقات، إلا أن حبيب بن أبي ثابت كثير الإرسال والتدليس كما في "التقريب" (1092)، ولم يصرِّح بالسماع. (¬6) كذا في النسخ الثلاث، إلا أن هناك علامة على هذا الموضع في (خ)، وكتب في الهامش: "خير من عمل كثير منقطع"؛ على أنه تكملة لكلام يحيى بن جعدة، وكأنه بخط الناسخ. (¬7) في (خ): "قل". (¬8) في (خ): "وأفطر وصم". (¬9) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (34686)، والإمام أحمد في "الزهد" (ص225)،=

وعن إِسحاق بن سُويد (¬1) قال: تعبَّدَ عبدُ الله (¬2) بن مُطَرِّف، فقال له مُطَرِّف (¬3): "يَا عَبْدَ اللَّهِ! الْعِلْمُ أَفضل مِنَ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ، وَخَيْرُ الأُمور أَوسطها، وشر السَّيْر الحَقْحَقَةُ (¬4) ". ومعنى قوله: "الْحَسَنَةَ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ": أَنَّ الْحَسَنَةَ هِيَ الْقَصْدُ والعدل، والسيئتان (¬5): مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالتَّقْصِيرُ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ... } الْآيَةَ (¬6)، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ... } الآية (¬7). ومعنى الحَقْحَقَة: أَرفع السير، وأَتعبه للظهر (¬8)، وهو راجع إِلى الغلو والإفراط. ¬

=وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 233)، ثلاثتهم من طريق عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن معاذ، به. وزاد أحمد وأبو نعيم بعد قوله: "وهل أنت مطيعني؟ ": "قال: إني على طاعتك لحريص". وفي سنده عبد الله بن سَلِمةَ المرادي، الكوفي، وهو صدوق، إلا أنه تغير حفظه كما في "التقريب" (3384). (¬1) في هذا الموضع إشارة لحق في (خ)، وكتب الناسخ ما نصه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" على أن الكلام الآتي مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (¬2) في (خ): "لعبد الله" بدل "تعبد عبد الله". (¬3) قوله: "فقال له مطرف" ليس في (خ) و (م). (¬4) قول مطرِّف هذا أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" (2/ 397 ـ 398)، ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان" (3888)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 209)، كلاهما من طريق إسماعيل بن عليَّة، عن إسحاق بن سويد، به. وسنده صحيح. وأخرجه الطبري في "تفسيره" (19/ 300) من طريق كعب بن فروخ، عن قتادة، عن مطرِّف بن عبد الله قال: "خير هذه الأمور أوساطها، والحسنة بين السيئتين". فقلت لقتادة: ما الحسنة بين السيئتين؟ فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} ... } الآية. وأخرجه الدارمي في "سننه" (1/ 100) من طريق المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن مطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير أنه قال لابنه: "يا بني! إن العلم خير من العمل بلا علم". (¬5) في (خ): "والسيئتين". (¬6) سورة الإسراء: الآية (29). (¬7) سورة الفرقان: الآية (66). (¬8) في (خ): "وإتعاب الظهر"، ويبدو أنها كانت في (م) كما هو مثبت هنا، وحاول أحد=

وَنَحْوُهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُرّة الجُعْفي قَالَ: "الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ" (¬1). وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ (¬2): إِن هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فلا تُقَذِّرْ (¬3) إِليك دِينَ اللَّهِ، وأَوْغِل بِرِفْقٍ، فإِن المُنْبَتّ لم يقطع بُعْداً ولم يَسْتَبْقِ ظهراً، اعمل (¬4) عَمَلَ المرءِ الَّذِي يَرَى أَنه لَا يَمُوتُ إِلا هرماً (¬5)، وَاحْذَرْ حَذَرَ المرءِ الَّذِي يَرَى أَنه يَمُوتُ غَدًا. وخرَّج ابْنُ وَهْبٍ نَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ الله بن عمرو (¬6) بن العاص (¬7). ¬

=المطالعين إصلاحها كما في (خ)، فصعب عليه ذلك، وصعبت قراءتها، فكتب في الهامش: "وإتعاب"، ولم يتعرض لقوله: "للظهر". (¬1) أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (19/ 300) من طريق ابن حميد، عن حكام، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن يزيد بن مرة الجعفي، به. وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو متهم بالكذب؛ اتهمه جمع من الأئمة، منهم أبو حاتم وأبو زرعة وصالح جزرة وغيرهم كما في "تهذيب الكمال" (25/ 97 ـ 108). (¬2) لم أجد رواية كعب الأحبار هذه. (¬3) في (خ): "فلا تبغض". (¬4) في (خ): ""واعمل". (¬5) في (خ): "اليوم" بدل "إلا هرماً"، وفي (م): "إلا يوماً". (¬6) في (خ): "عمر". (¬7) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1334) عن محمد بن عجلان: أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإن المنبتّ لا بَلَغَ بُعداً، ولا أبقى ظهراً. واعمل عمل امرئٍ يظن أنه لا يموت إلا هرماً. واحذر حذر امرئٍ يحسب أنه يموت غداً". وسنده منقطع إن لم يكن معضلاً، فمحمد بن عجلان لم يدرك عبد الله بن عمرو بن العاص. وخولف فيه عبد الله بن المبارك. فأخرجه البيهقي في "السنن" (3/ 19)، وفي "شعب الإيمان" (3886) من طريق أبي صالح، عن الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن مولى لعمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به هكذا مرفوعاً، وفيه ذكر الواسطة بين ابن عجلان وعبد الله بن عمرو. ورواية ابن المبارك أرجح من هذه، مع أن كلا الطريقين ضعيف، لكن رواية الليث هذه يرويها عنه كاتبه أبو صالح عبد الله بن صالح الجهني وهو صدوق، إلا أنه كثير الغلط، وفيه غفلة، وهو ثبت في كتابه كما في "التقريب" (3409). ومولى عمر بن عبد العزيز مجهول لا يدرى من هو.

وَهَذِهِ إِشارة إِلى الأَخذ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَقْتَضِي المداومة عليه من غير حرج. وعن عمير (¬1) بن إِسحاق قال (¬2): لَمَنْ (¬3) أَدركت مِنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكثر مِمَّنْ سَبَقَنِي مِنْهُمْ، فَمَا رأَيت قَوْمًا أَيسر سِيرَةً، وَلَا أَقل تَشْدِيدًا مِنْهُمْ (¬4). وَقَالَ الْحَسَنُ: دِينُ اللَّهِ وُضِعَ فَوْقَ التَّقْصِيرِ وَدُونَ الْغُلُوِّ (¬5). والأَدلة فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ (¬6)، جَمِيعُهَا رَاجِعٌ إِلى أَنه لَا حَرَجَ فِي الدِّينِ. وَالْحَرَجُ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَرَجِ الْحَالِيِّ ـ كَالشُّرُوعِ فِي عِبَادَةٍ شَاقَّةٍ فِي نَفْسِهَا ـ، كذلك ينطلق على الحرج المآلي (¬7)؛ إذا (¬8) كَانَ الحرجُ لَازِمًا مَعَ الدَّوَامِ؛ كَقِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (¬9) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ (¬10) مِمَّا تَقَدَّمَ. مَعَ أَن الدَّوَامَ مَطْلُوبٌ حسبما اقتضاه قول أَبي أُمامة (¬11) ¬

(¬1) في (خ) و (م): "وعن عمر". (¬2) في (م): "قا"، وهذا وقع بسبب تصويبها والكلامة التي تليها بخط مغاير فيما يظهر. (¬3) قوله: "لمن" سقط من (خ)، وهو مصوب في (م) كما ذكرت في التعليق السابق. (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (7/ 220)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (35549)، والدارمي في "سننه" (1/ 51)، وعبد الله بن أحمد في "زوائد فضائل الصحابة" (1959)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 69)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1049)، جميعهم من طريق عبد الله بن عون، عن عمير بن إسحاق؛ قال: كان من أدركت ... فذكره. وسنده صحيح إلى عمير بن إسحاق. وعمير بن إسحاق أبو محمد مولى بني هاشم هذا مقبول كما في "التقريب" (5214)، وانظر الموضع السابق من "الكامل" لابن عدي. (¬5) أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" (ص344) من طريق محمد بن جعفر، عن عوف، عن الحسن، فذكره. وسنده صحيح. (¬6) قوله: "كثيرة" ليس في (خ). (¬7) أي: الذي يصير إليه حال الإنسان ويرجع. (¬8) كذا في جميع النسخ، وأثبتها رشيد رضا: "إذ"!. (¬9) في (خ): "عمر". (¬10) في (خ): "وغيرها". (¬11) المتقدم (ص149).

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحب الْعَمَلِ إِلى اللَّهِ مَا دَاوَمَ (¬1) عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وإِن قَلّ (¬2) ". فَلِذَلِكَ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا عَمِلَ عَمَلًا أَثبته (¬3)، حَتَّى قَضَى رَكْعَتَيْ (¬4) ما بعد الظهر (¬5) بعد العصر (¬6). هذا وإِن (¬7) كَانَ الْعَامِلُ لَا يَنْوِي الدَّوَامَ فِيهِ، فَكَيْفَ به (¬8) إِذا عَقَدَ فِي نِيَّتِهِ أَن لَا يَتْرُكَهُ؟ فَهُوَ أَحرى بِطَلَبِ الدَّوَامِ، فَلِذَلِكَ (¬9) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (¬10): "يَا عَبْدَ اللَّهِ! لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ الليل"، وهو حديث صحيح (¬11). فنهاه صلّى الله عليه وسلّم أَن يَكُونَ مِثْلَ فُلَانٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي كراهيته للترك (¬12) مِنْ ذَلِكَ الْفُلَانِ (¬13) وَغَيْرِهِ. فَالْحَاصِلُ: أَن هَذَا الْقِسْمَ الَّذِي هُوَ مَظِنَّة للمشقَّة عِنْدَ الدَّوَامِ: مطلوب الترك لعلّة أَكثرية يُفْهَمُ (¬14) عند تقريرها (¬15) أَنها إِذا فُقِدَتْ زَالَ طَلَبُ التَّرْكِ، وإِذا ارْتَفَعَ طَلَبُ التَّرْكِ رَجَعَ إِلى أَصل الْعَمَلِ؛ وَهُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ. فَالدَّاخِلُ فِيهِ عَلَى الْتِزَامِ شَرْطِهَ دَاخِلٌ فِي مَكْرُوهٍ ابْتِدَاءً مِنْ وَجْهٍ؛ لِإِمْكَانِ عدم الوفاءِ بالشرط، وفي مندوبٍ (¬16) إِليه حَمْلًا عَلَى ظَاهِرِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الْوَفَاءِ. فَمِنْ حَيْثُ النَّدْبُ أَمره الشَّارِعُ بِالْوَفَاءِ؛ وَمِنْ حَيْثُ الْكَرَاهِيَةُ كَرِهَ لَهُ أَن يَدْخُلَ فِيهِ. ¬

(¬1) في (خ) و (م): "ما دام". (¬2) أخرجه البخاري (1970)، ومسلم (782). (¬3) كما في "صحيح مسلم" (746/ 141) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) في (غ) و (ر) و (خ): "ركعتين". (¬5) في (خ): "مابين الظهر والعصر" بدل "ما بعد الظهر". (¬6) أخرجه البخاري (1233 و4370). (¬7) في (خ): "إن". (¬8) قوله: "به" ليس في (خ) و (م). (¬9) في (غ) و (ر): "ولذلك". (¬10) في (خ) و (م): ""لعبد الله بن عمر". (¬11) متفق عليه، وتقدم تخريجه (ص162). (¬12) في (خ): "كراهة الترك". (¬13) في (خ): "لفلان". (¬14) في (خ): "تفهم"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في نسختنا! ولعل الأصل: لعلّة كثرته، ففهم. اهـ. (¬15) في (خ) و (م): "تقريره". (¬16) في (خ): "المندوب".

وحين صارت الكراهية (¬1) هي المُقَدَّمة كان دخوله في العمل بقصد (¬2) الْقُرْبَةِ يُشْبِهُ الدُّخُولَ فِيهِ بِغَيْرِ أَمر، فأَشبه الْمُبْتَدِعَ الدَّاخِلَ فِي عِبَادَةٍ غَيْرِ مأْمور بِهَا. فَقَدْ يُسْتَسْهَلُ بِهَذَا (¬3) الِاعْتِبَارِ إِطلاق الْبِدْعَةِ عَلَيْهَا كَمَا اسْتَسْهَلَهُ أَبو أُمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬4). وَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْعَمَلُ مأْموراً بِهِ ابْتِدَاءً قَبْلَ النَّظَرِ فِي الْمَآلِ، أَو مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَشَقَّةِ، أَو مَعَ اعْتِقَادِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ: أَشبه صاحبُه مَنْ دَخَلَ فِي نَافِلَةٍ قَصْدًا للتعبُّد بِهَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ جارٍ عَلَى مُقْتَضَى أَدلة النَّدْبِ، وَلِذَلِكَ أَمر بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ بِالْوَفَاءِ، كَانَ نَذْرًا أَو الْتِزَامًا بِالْقَلْبِ غَيْرَ نَذْرٍ، وَلَوْ كَانَ بِدْعَةً دَاخِلَةً فِي حَدِّ الْبِدْعَةِ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْوَفَاءِ، وَلَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا. وَلِذَلِكَ جاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟ " فَقَالُوا: نَذَرَ أَن لَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَجْلِسُ، وَيَصُومَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: "مره (¬5) فليجلس وليتكلم ويَسْتَظِلّ (¬6)، وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ" (¬7). فأَنت تَرَى كَيْفَ أَبطل عَلَيْهِ التعبُّد (¬8) بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ البتَّةَ (¬9)، وأَمره بِالْوَفَاءِ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الأَصل، فَلَوْلَا أَنَّ لِلْفَرْقِ (¬10) بَيْنَهُمَا مَعْنًى لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مَعْنًى مَفْهُومٌ. وأَيضاً فإِذا كَانَ الدَّاخِلُ مأْموراً بِالدَّوَامِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَن يَكُونَ الدُّخُولُ طَاعَةً، بلا بُدٍّ (¬11)؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ ـ فَضْلًا عَنِ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ ـ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَلَا نَظِيرَ لِذَلِكَ في الشريعة. وعليه ¬

(¬1) في (خ): "الكراهة". (¬2) في (خ): "لقصد". (¬3) في (غ) و (ر): "فقد" بدل "بهذا". (¬4) في حديثه المتقدم (ص149). (¬5) في (خ): "مروه". (¬6) في (خ): "وليستظل". (¬7) تقدم تخريجه (ص28). (¬8) في (خ) و (م): "التبدع". (¬9) قوله: "البتة"، ليس في (خ). (¬10) المثبت من (غ)، وفي باقي النسخ: "فلولا الفرق". (¬11) في (خ): "بل لا بد".

يَدُلُّ (¬1) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَذَرَ أَن يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ (¬2) "، وَلِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ مَنْ أَوفى بِنَذْرِهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (¬3) فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَتَرْتِيبِ (¬4) الْجَزَاءِ الْحَسَنِ، وَفِي آيَةِ الْحَدِيدِ: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} (¬5)، وَلَا يَكُونُ الأَجر إِلا عَلَى مَطْلُوبٍ شَرْعًا. فتأَمّلوا هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمُقْتَضَى الأَدلة، وَبِهِ يَرْتَفِعُ إِشكال التَّعَارُضِ الظَّاهِرِ لِبَادِيَ الرأْي، حَتَّى تَنْتَظِمَ الْآيَاتُ والأَحاديث وَسِيَر مَنْ تقدم، والحمد لله. غير أَنه يبقى بعد هذا (¬6) إِشكالان قويان، بالنظر (¬7) فِي الْجَوَابِ عَنْهُمَا يَنْتَظِمُ مَعْنَى المسأَلة عَلَى تمامه بحول الله (¬8)، فلنعقد في كل إِشكال فصلاً. ¬

(¬1) في (خ): "أيد" بدل "يدل". (¬2) أخرجه البخاري (6696 و6700) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) سورة الإنسان: الآية (7). (¬4) في (خ): "وترتب". (¬5) سورة الحديد: الآية (27). (¬6) في (خ): "بعدها". (¬7) في (خ): "وبالنظر". (¬8) قوله: "بحول الله" ليس في (خ).

فصل

فَصْلٌ الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ إِن مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأدلة على كراهية الالتزامات التي يشق دوامها مُعَارَضٌ بِمَا دلَّ عَلَى خِلَافِهِ. فَقَدَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ حَتَّى تورَّمت قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: أَو لَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ (¬1) مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأَخر؟ فَيَقُولُ: "أَفلا أَكون عَبْدًا شكوراً (¬2)؟ " ويظل في (¬3) الْيَوْمَ الطَّوِيلَ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ صَائِمًا (¬4)، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ وَيَبِيتُ عِنْدَ رَبِّهِ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ (¬5)، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ اجْتِهَادِهِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ. وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أُسوة حسنة، ونحن مأْمورون بالتأَسِّي به. فإِن أَبيتم هَذَا الدَّلِيلَ بِسَبَبِ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ رَبُّهُ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ، وَكَانَ يُطِيقُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا تُطِيقُهُ أُمته، فَمَا قَوْلُكُمْ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وأَئمة الْمُسْلِمِينَ الْعَارِفِينَ بِتِلْكَ الأَدلة الَّتِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَا عَلَى الْكَرَاهِيَةِ؟ حَتَّى إِن بَعْضَهُمْ قعد من رجليه (¬6) من كثرة التَّنَفُّل (¬7)، وصارت جبهة بعضهم كرُكْبة ¬

(¬1) في (م): "غفر لك". (¬2) أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. (¬3) قوله: "في" ليس في (خ) و (م). (¬4) أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في شهر رمضان في حرّ شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعبد الله بن رواحة. (¬5) أخرجه البخاري (7299)، ومسلم (1103/ 58) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (¬6) في (م): "رحله". (¬7) في (خ) و (م): "التبتل".

البَعير (¬1) مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ. وجاءَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (¬2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنه كَانَ إِذا صَلَّى العشاءَ أَوتر بِرَكْعَةٍ يقرأُ فِيهَا الْقُرْآنَ كُلَّه (¬3)، وَكَمْ مِنْ رجلٍ صَلَّى الصُّبْحَ بوضوء العشاء كذا وكذا (¬4) سَنَةً؟! وسَرَدَ الصِّيَامَ (¬5) كَذَا وَكَذَا (¬6) سَنَةً (¬7)؟! وَكَانُوا هُمُ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ لَا يَمِيلُونَ عَنْهَا لَحْظَةً. وروي عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أَنهما كانا يواصلان (¬8) الصيام (¬9)، ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "العنز". (¬2) قوله: "بن عفان" ليس في (غ) و (ر). (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في التفسير من "سننه" (158)، وهو صحيح بمجموع طرقه التي استوفيتها في تعليقي على الموضع السابق من "السنن"، فانظره إن شئت. (¬4) في (خ) و (م): "كذا كذا". (¬5) في (غ) و (ر): "الصوم". (¬6) في (م): "كذا كذا". (¬7) أخرج البخاري في "صحيحه" (2828) عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم من أجل الغزو، فلما قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم لم أره مفطراً إلا يوم فطر أو أضحى. وذكر البيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 63 فما بعد)، و (3/ 430 فما بعد) جملة من ذلك، ومنه: ما أخرجه برقم (3220) بسند صحيح أن المعتمر بن سليمان التيمي قال لمحمد بن عبد الأعلى: لولا أنك من أهلي ما حدثتك هذا عن أبي: مكث أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويصلي صلاة الفجر بوضوء العشاء. وانظر رقم (2950/بتحقيق د. عبد العلي). (¬8) في (غ): "يواصليان". (¬9) قال البيهقي في "الشعب" (3/ 405): "وروينا عن عمر وابن عمر وأبي طلحة وعائشة رضي الله عنهم في سرد الصيام، ورويناه عن سعيد بن المسيب".اهـ. أما ابن عمر: فأخرج الفريابي في "الصيام" (134) من طريق سعيد بن أبي هلال؛ أن نافعاً حدثه؛ أن عبد الله بن عمر كان إذا حضر لم يفطر، وكان يصل شعبان برمضان، ويقول: الليل أفضل. وحسن سنده المحقق، وفي النفس من تفرد سعيد بن أبي هلال بهذا عن نافع!. وانظر "شرح مسلم" للنووي (8/ 40). وأما ابن الزبير: فأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (9599) من طريق وكيع، عن الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل ابن أبي عقرب؛ قال: دخلت على ابن الزبير صبيحة خمسة عشر من الشهر وهو مواصل.=

وأَجاز مَالِكٌ (¬1) ـ وَهُوَ إِمام فِي الِاقْتِدَاءِ ـ صِيَامَ الدهر (¬2)؛ يعني إِذا أَفطر أَيام الأضحى والفطر، وحمل النهي في ذلك على أَن المراد إِذا لم يفطر أَيام (¬3) الْعِيدِ. وَمِمَّا (¬4) يُحْكَى عَنْ أُويس القَرَني رضي الله عنه: أَنه كَانَ يَقُومُ لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَقُولُ: بلغني أَن لله عباداً قياماً أَبداً، ثم يركع أُخرى حتى يصبح، ثم يقول: بلغني أَن لله عباداً ركوعاً أَبداً، ثم يسجد لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَقُولُ: بَلَغَنِي أَن لِلَّهِ عباداً (¬5) سجوداً أَبداً (¬6)، ¬

=وصحح إسناده ابن حجر في "الفتح" (4/ 204). وأخرج ابن جرير في "تفسيره" (3028) عن هشام بن عروة؛ قال: كان عبد الله بن الزبير يواصل سبعة أيام، فلما كبر جعلها خمساً، فلما كبر جدًّا جعلها ثلاثاً. وسنده صحيح إن كان هشام سمع من عمه عبد الله بن الزبير. وأخرج أبو نعيم في "الحلية" (1/ 335)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 549)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" (3613)، كلاهما من طريق روح بن عبادة، عن حبيب بن الشهيد، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام، ثم يصبح يوم الثامن وهو أَلْيَثُنا؛ يعني: أقوانا. وسنده صحيح. (¬1) في (غ): "مالك بن أنس". (¬2) ذكر مالك في "الموطأ" (1/ 300) أنه سمع أهل العلم يقولون: لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صيامها. ثم قال مالك: "وذلك أحب ما سمعت إليّ في ذلك". (¬3) من قوله: "الأضحى والفطر" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬4) في (غ) و (ر): "وما". (¬5) من قوله: "قياماً أبداً" إلى هنا سقط من (خ) و (م)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: للأثر تَتِمَّة، يدلّ باقي الكلام على أنه كان موجوداً في الأصل، وسقط من النسخ، وتلك الزيادة هي: "إن لله عباداً ركوعاً أبداً، وعباداً قياماً أبداً".اهـ. (¬6) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 87) من طريق أبي زرعة الرازي، عن سعيد بن أسد بن موسى، عن ضمرة بن ربيعة، عن أصبغ بن زيد؛ قال: كان أويس القرني إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، فيركع حتى يصبح، وكان يقول إذا أمسى: هذه ليلة السجود، فيسجد حتى يصبح ... ، ثم ذكر كلاماً آخر. وسنده منقطع، فأصبغ بن زيد لم يدرك أويس القرني. وأخرجه ابن عساكر في "تاريخه" (9/ 443) من طريق عبد الله بن أبي زياد، عن سيار، عن جعفر بن سليمان، عن إبراهيم بن عيسى اليشكري، فذكره بنحو ما تقدم وزاد القيام.=

ويريد (¬1) أَنه يَتَنَفَّلُ بِالصَّلَاةِ، فَتَارَةً يُطَوِّلُ فِيهَا الْقِيَامَ، وَتَارَةً الرُّكُوعَ، وَتَارَةً السُّجُودَ. وَعَنِ الأَسود بْنِ يَزِيدَ أَنه كَانَ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الصَّوْمِ وَالْعِبَادَةِ حَتَّى يَخْضَرّ جسدُه ويَصْفَرّ، فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ لَهُ: وَيْحَكَ! لِمَ تُعَذِّبْ هَذَا الْجَسَدَ؟ فَيَقُولُ: إِن الْأَمْرَ جِدٌّ، إِن الْأَمْرَ (¬2) جِدٌّ (¬3). ¬

=وإبراهيم بن عيسى اليشكري له ترجمة في "الجرح والتعديل" (3/ 117 رقم 352)، وذكر أنه يروي عن الحسن البصري، فيبعد أن يكون لحق أويساً القرني الذي قتل بصفين سنة (35) كما في "التقريب" (586). وفي سنده أيضاً سيار بن حاتم العنزي وهو متكلم فيه، وفي "التقريب" (2729): "صدوق له أوهام". (¬1) في (خ): "يريد". (¬2) في (غ) و (ر): "والأمر" بدل "إن الأمر" الثانية. (¬3) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1502) عن محمد بن طلحة؛ أخبرني عبد الرحمن بن ثروان: أن الأسود بن يزيد ... ، فذكره. وعبد الرحمن بن ثروان هذا صدوق، إلا أنه ربما خالف كما في "التقريب" (3847). والراوي عنه محمد بن طلحة بن مصرِّف اليامي، وهو صدوق، إلا أن له أوهاماً كما في "التقريب" (6020). وأخرجه الإمام أحمد في "الزهد" (ص417) من طريق حجاج، عن محمد بن طلحة، به. ومن طريق أحمد أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 103). وأخرجه الإمام أحمد أيضاً من طريق معمر بن سليمان الرَّقّي، عن عبد الله بن بشر ـ وهو قاضي الرّقّة ـ: أن علقمة بن قيس والأسود بن يزيد حجّا، فكان الأسود صاحب عبادة، فصام يوماً، فراح الناس بالهجير وقد تربّد وجهه، فأتاه علقمة، فضرب على فخذه فقال: ألا تتقي الله يا أبا عمرو في هذا الجسد؟ علام تعذب هذا الجسد؟ فقال الأسود: يا أبا شبل! الجدّ الجدّ! ومن طريق أحمد أخرجه أبو نعيم (2/ 104). وسنده ضعيف؛ فعبد الله بن بشر قاضي الرّقّة لا يمكن أن يكون أدرك الأسود وعلقمة، فإنه لم يدرك من بعدهما فضلاً عنهما. فقد قال أبو حاتم الرازي ـ كما في "المراسيل" لابنه (ص115) ـ: "لا يثبت له سماع من الحسن، ولا من ابن سيرين، ولا من عطاء، ولا من الأعمش، وإنما يقول: كتب إليّ أبو بكر بن عياش عن الأعمش ـ، ولا من الزهري، ولا من قتادة، ... " وذكر غيرهم.=

وعن أَنس بن سيرين (¬1): أَن امرأَة مَسْرُوقٍ قَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تورَّمت قَدَمَاهُ، فَرُبَّمَا جَلَسْتُ خَلْفَهُ أَبكي مِمَّا أَراه يَصْنَعُ بِنَفْسِهِ (¬2). وَعَنِ الشَّعْبِيِّ (¬3)؛ قَالَ: غُشي على مسروق في يومٍ صائفٍ وهو ¬

=ومع ذلك فعبد الله هذا متكلم فيه، وفي "التقريب" (3248): "اختلف فيه قول ابن معين وابن حبان، وقال أبو زرعة والنسائي: لا بأس به، وحكى البزار أنه ضعيف في الزهري خاصة". وأخرجه أحمد أيضاً، وأبو نعيم (2/ 104)، كلاهما من طريق أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، عن حنش بن الحارث، عن علي بن مدرك؛ قال: قال علقمة للأسود: لم تعذب هذا الجسد ـ وهو يصوم ـ؟ قال: الراحة أريد له. وعلي بن مدرك النخعي إنما يروي عن تلاميذ الأسود وعلقمة كما في ترجمته من "تهذيب الكمال" (21/ 127)، ولم يذكر أنه روى عنهما. وأخرج أبو نعيم (2/ 103) من طريق يزيد بن عطاء، عن علقمة بن مرثد؛ قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم الأسود بن يزيد، كان مجتهداً في العبادة؛ يصوم حتى يخضرّ جسده ويصفرّ، وكان علقمة بن قيس يقول له: لم تعذب هذا الجسد؟ قال: راحة هذا الجسد أريد. وعلقمة بن مرثد كسابقه علي بن مدرك كما يتضح من ترجمته في "تهذيب الكمال" (20/ 309). والراوي عنه يزيد بن عطاء اليشكري لين الحديث كما في "التقريب" (7808). وقد يخالج النفس شعور بأن هذه الطرق ـ على ما في كل منها من ضعف ـ يشدّ بعضها بعضاً، لكن معظمها مراسيل قد يكون مصدرها واحداً. والمتن يدل على شدة اجتهاد الأسود رحمه الله في العبادة، ويكثر الصيام حتى أضعفه، فاصفرّ لونه، ومن شدة الجهد أحياناً والنصب تعلوه سمرة مع الصفرة، وهو اخضرار اللون في عرف الناس. ولا شك أن هذا اجتهاد من الأسود رحمه الله، لكن السنة أحبّ إلينا من اجتهاده، وتقدم في كلام الشاطبي رحمه الله ما فيه غنية عن الإعادة. (¬1) في (خ) و (م): "وعن أنس بن مالك"، زاد في (خ): "رضي الله عنه"، والمثبت هو الصواب. (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (6/ 81) من طريق عارم بن الفضل، والخطيب في "تاريخه" (13/ 234) من طريق أزهر بن مروان، كلاهما عن حماد بن زيد، عن أنس بن سيرين، به. وسنده صحيح. (¬3) في (خ): "الشعبيني"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله "الشعبي"، أو "الشعباني"،=

صَائِمٌ، فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ: أَفْطِرْ؛ قَالَ: مَا أَردتِ بِي؟ قَالَتْ: الرِّفْقَ؛ قَالَ: يَا بُنَيَّة! إِنما طلبت الرفق لنفسي (¬1) فِي يومٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلف سَنَةٍ (¬2). وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْم أَنه قَالَ: أَتيت أُويساً (¬3) القَرَني فَوَجَدْتُهُ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ وَقَعَدَ، فَقُلْتُ: لَا أَشْغَلُهُ عَنِ التَّسْبِيحِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتَ الصَّلَاةِ قَامَ فَصَلَّى إِلى الظُّهْرِ، فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ صَلَّى إِلى الْعَصْرِ، فَلَمَّا صَلَّى الْعَصْرَ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ إِلى الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا صَلَّى الْمَغْرِبَ صَلَّى إِلى الْعِشَاءِ، فَلَمَّا صَلَّى العشاءَ صَلَّى إِلى الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ جَلَسَ فأَخذته عَيْنُهُ، ثُمَّ انْتَبَهَ (¬4) فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِني أَعوذ بِكَ مِنْ عَيْنٍ نَوّامة، وبطن لا يشبع (¬5) (¬6). وَالْآثَارُ فِي هَذَا (¬7) الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ عَنِ الْأَوَّلِينَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْأَخْذِ بِمَا هُوَ شَاقٌّ فِي الدَّوَامِ، وَلَمْ يَعُدَّهُمْ أَحد بِذَلِكَ مُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ، بَلْ عَدُّوهم مِنَ السَّابِقِينَ، جَعَلَنَا اللَّهُ منهم. ¬

=أو "الشعيثي"، وهذا الأخير هو الأقرب إلى الرسم، وهو نسبة محمد بن عبد الله بن المهاجر، وعبد الرحمن بن حماد. اهـ. (¬1) من قوله: "في يوم صائف" إلى هنا سقط من (خ). (¬2) أخرجه الخطيب في "تاريخه" (13/ 234) من طريق علي بن الحسن الشامي، عن سفيان الثوري، عن فطر بن خليفة، عن الشعبي، به. ومن طريق الخطيب أخرجه المزي في "تهذيب الكمال" (27/ 456)، وفيه: "السامي" بدل "الشامي"، وهو الصواب. وعلي بن الحسن السامي هذا متكلم فيه بشدة، حتى اتهمه الدارقطني بالكذب كما في "لسان الميزان" (5/ 211 ـ 212)، وحكم الأئمة على رواياته بأنها موضوعة. (¬3) في (خ): "أويس". (¬4) في (م): "أتيته". (¬5) في (خ) و (م): "لا تشبع". (¬6) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" (9/ 443) من طريق عبد الرحمن بن صالح، عن سعيد بن عبد الله بن الربيع بن خثيم، عن نسير بن ذعلوق، عن بكر بن ماعز، عن الربيع، به. وسعيد بن عبد الله بن الربيع بن خثيم مجهول الحال؛ سكت عنه البخاري في "تاريخه" (3/ 489 ـ 490)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 38)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (8/ 263). (¬7) قوله "هذا" ليس في (خ).

وأَيضاً فإِن النَّهْيَ لَيْسَ عَنِ الْعِبَادَةِ الْمَطْلُوبَةِ، بَلْ هُوَ (¬1) عَنِ الْغُلُوِّ فِيهَا غُلُوًا يُدْخِل الْمَشَقَّةَ عَلَى الْعَامِلِ، فإِذا فَرَضْنَا مَنْ فُقِدَتْ فِي حَقِّهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ، فَلَا يَنْتَهِضُ النَّهْيُ فِي حَقِّهِ، كَمَا إِذا قَالَ الشَّارِعُ: لَا يقض الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ (¬2) ـ وَكَانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ ـ، اطَّرَدَ النَّهْيُ مَعَ كُلِّ مُشَوِّش، وَانْتَفَى عِنْدَ انْتِفَائِهِ، حَتَّى إِنه مُنْتَفٍ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ. وَهَذَا صَحِيحٌ جارٍ عَلَى الأُصول. وَحَالُ مَنْ فُقدت فِي حَقِّهِ الْعِلَّةُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ غَلَبة الْخَوْفِ أَو الرَّجَاءِ أَو الْمَحَبَّةِ، فإِن الْخَوْفَ سَوْطٌ سائق (¬3)، والرجاءُ حادٍ قائد، والمحبة سيل (¬4) حَامِلٌ. فَالْخَائِفُ إِن وَجَدَ الْمَشَقَّةَ فَالْخَوْفُ مِمَّا هو أَشق يحمله على الصبر على مَا هُوَ أَهون، وإِن كَانَ الْعَمَلُ (¬5) شَاقًّا. وَالرَّاجِي يَعْمَلُ وإِن (¬6) وَجَدَ الْمَشَقَّةَ؛ لِأَنَّ رجاءَ الرَّاحَةِ التَّامَّةِ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى بَعْضِ التَّعَبِ. وَالْمُحِبُّ يَعْمَلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ شَوْقًا إِلى الْمَحْبُوبِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الصَّعْبُ، وَيَقْرُبُ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ، ويَفْنَى الْقُوَى (¬7)، وَلَا يَرَى أَنه أَوفى بِعَهْدِ الْمَحَبَّةِ، ولا قام بشكر النعمة، ويعمر الْأَنْفَاسَ وَلَا يَرَى أَنه قَضَى نَهْمَتَهُ (¬8). وإِذا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَجَازَ الدُّخُولُ فِي الْعَمَلِ الْتِزَامًا مَعَ الْإِيغَالِ فِيهِ، إِما مُطْلَقًا، وإِما مَعَ ظَنِّ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وإِن دَخَلَتِ الْمَشَقَّةُ فِيمَا بَعْدُ، إِذا صَحَّ من (¬9) العامل الدوام على العمل، ويكون ذلك ¬

(¬1) قوله: "هو" ليس في (ر) و (غ). (¬2) أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717)، من حديث أبي بكرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان". (¬3) في (غ) و (ر): "شرط سابق". (¬4) في (م): "سبيل". (¬5) قوله: "العمل" ليس في (غ). (¬6) في (غ) و (ر): "إن". (¬7) في (م): "وهي القوى"، وفي موضعها طمس في (خ)، وأثبتها رشيد رضا هكذا: "وهو القوي"، واعتماده على (خ). (¬8) في (خ): "تهمته". (¬9) في (خ): "مع" بدل "من".

جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ وَعَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ رضي الله عنهم. وَالْجَوَابُ: أَن مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدلة النَّهْيِ صحيح صريح، وما نُقل عن الأوَّلين من الإيغال (¬1) يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوجه: أَحدها: أَن يُحْمَلَ عَلَى (¬2) أَنهم إِنما عَمِلُوا عَلَى التَّوَسُّطِ، الَّذِي هُوَ مظنة الدوام، فلم يلزموا أَنفسهم ما لَعَلَّه (¬3) يُدْخِل عَلَيْهِمُ الْمَشَقَّةَ حَتَّى يَتْرُكُوا بِسَبَبِهِ مَا هُوَ أَولى، أَو يَتْرُكُوا الْعَمَلَ، أَو يُبَغِّضُوهُ لِثِقَلِهِ عَلَى أَنفسهم، بَلِ الْتَزَمُوا مَا كَانَ عَلَى النُّفُوسِ سَهْلًا فِي حَقِّهِمْ، فإِنما طَلَبُوا الْيُسْرَ لَا الْعُسْرَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالَ مَنْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِنَاءً عَلَى أَنهم إِنما عَمِلُوا بمَحْض السنَّة وَالطَّرِيقَةِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ المُكَلَّفين، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الطَّبَرِيِّ فِي الْجَوَابِ. وَمَا تَقَدَّمَ فِي السُّؤَالِ مِمَّا يَظْهَرُ مِنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ فَقَضَايَا أَحوال يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، إِذا ثَبَتَ أَن الْعَامِلَ مِمَّنْ يُقتدى بِهِ. وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَن يَكُونُوا (¬4) عَمِلُوا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا، لَكِنْ على غير جِهَةِ (¬5) الِالْتِزَامِ، لَا بِنَذْرٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَقَدْ يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ فِي أَعمال (¬6) يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَيْهَا (¬7)، وَلَا يَشُقُّ فِي الْحَالِ، فيَغْتَنِم نَشَاطَهُ فِي حَالِهِ خَاصَّةٍ، غَيْرَ نَاظِرٍ فِيهَا (¬8) فِيمَا يأَتي، ويكون فيه جارياً (¬9) عَلَى أَصل رَفْعِ الْحَرَجِ، حَتَّى إِذا لَمْ يَسْتَطِعْهُ تَرَكَهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ لَا حَرَجَ فِي تَرْكِهِ فِي الْجُمْلَةِ. ويُشْعِر بهذا المعنى: ما فِي الْحَدِيثِ (¬10) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ¬

(¬1) قوله: "من الإيغال" ليس في (خ) و (م). (¬2) قوله: "على" ليس في (خ). (¬3) في (خ): "بما لعله". (¬4) في (غ): "يكون". (¬5) في (خ): "لكن لا على جهة". (¬6) في (غ) و (ر): "عمل". (¬7) في (غ) و (ر): "عليه". (¬8) قوله: "فيها" ليس في (غ) و (ر). (¬9) في (خ): "جارياً فيه". (¬10) في (خ): "ما في هذا الحديث".

قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رأَيته اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلا رَمَضَانَ ... ، الْحَدِيثَ (¬1). فتأَمّلوا وَجْهَ اعْتِبَارِ النَّشَاطِ وَالْفَرَاغِ (¬2) مِنَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ، أَو القوة في الأَعمال. وكذلك قوله (¬3) ـ في صيام يوم وإِفطار يومين ـ: "ليتني طُوِّقْتُ ذلك" (¬4): إِنما يريد ـ والله أَعلم ـ (¬5) الْمُدَاوَمَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ (¬6) كَانَ يُوَالِي الصِّيَامَ حَتَّى يقولوا: لا يفطر. ولا يُعْتَرَضُ هذا المأْخذ بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحب الْعَمَلِ إِلى اللَّهِ مَا دَاوَمَ (¬7) عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وإِن قَلّ" (¬8)، وأنه (¬9) كان عمله دِيمَةً (¬10)؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَشُقُّ (¬11) فِيهِ الدوام. وأَما ما نقل عنهم من إِدامة (¬12) صَلَاةِ الصُّبْحِ بوضوءِ الْعِشَاءِ، وَقِيَامُ جَمِيعِ اللَّيْلِ، وَصِيَامُ الدَّهْرِ، وَنَحْوُهُ، فَيُحْتَمَلُ أَن يَكُونَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَن لَا يَلْتَزِمَ ذَلِكَ. وإِنما يَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ حَالًا يَغْتَنِمُ نَشَاطَهُ، فإِذا أَتى زَمَانٌ آخَرُ وَجَدَ فِيهِ النشاط أَيضاً، ولم (¬13) يخلّ بما هو أَولى، عمل به (¬14) كَذَلِكَ، فَيَتَّفِقُ أَن يَدُومَ لَهُ (¬15) هَذَا النَّشَاطُ زَمَانًا طَوِيلًا، وَفِي كُلِّ حَالَةٍ هُوَ فِي فُسْحَةِ التَّرْكِ، لَكِنَّهُ يَنْتَهِزُ (¬16) الْفُرْصَةَ مَعَ الأَوقات، فَلَا بُعْدَ فِي أَن يَصْحَبَهُ النَّشَاطُ إِلَى آخر العمر، فيظنه (¬17) الظان التزاماً ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص163). (¬2) في (ر) و (غ): "وجه اغتنام النشاط أو الفراغ". (¬3) قوله: "قوله" ليس في (ر) و (غ)، وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: "أي: عبد الله بن عمرو".اهـ. (¬4) تقدم تخريجه في (ص163). (¬5) قوله: "والله أعلم" ليس في (خ) و (م). (¬6) قوله: "قد" ليس في (غ). (¬7) في (خ) و (م): "ما دام". (¬8) تقدم تخريجه (ص174). (¬9) في (خ) و (م): "وأن". (¬10) في (خ) و (م): "دائماً". (¬11) في (م): "لا يشق"، و"لا" ملحقة. (¬12) في (خ): "أدلة" بدل "إدامة". (¬13) في (خ) و (م): "وإذا لم". (¬14) قوله: "به" ليس في (خ) و (م). (¬15) في (غ): "يدوم له على". (¬16) في (غ) و (ر): "الترك لا ينتهز". (¬17) في (غ): "فيظن".

وليس بالتزام. وهذا (¬1) صحيح، ولاسيما (¬2) مَعَ سَائِقِ (¬3) الْخَوْفِ، أَو حَادِي الرَّجَاءِ، أَو حامل المحبة، وهو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" (¬4). ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "وهو". (¬2) في (غ) و (ر): "لا سيما". (¬3) في (غ) و (ر): "سابق". (¬4) روي من حديث أنس والمغيرة، ومن طريق سليمان بن طرخان التيمي وليث بن أبي سليم مرسلاً. أما حديث أنس، فله عنه ثلاث طرق: الأول: طريق ثابت البناني، وله عنه أربع طرق: 1 ـ طريق سلام بن سليمان أبي المنذر القارئ. أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 128 و199 و285)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (322 و323) و"النسائي (3939)، وأبو يعلى (3482 و3530)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 160)، والبيهقي في "السنن" (7/ 78)، جميعهم من طريق سلام أبي المنذر، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "حبّب إليّ من الدنيا: النساء، والطيب، وجعلت قرّة عيني في الصلاة". وسلام بن سليمان أبو المنذر القارئ صدوق يهم كما في "التقريب" (2720). 2 ـ طريق جعفر بن سليمان الضُّبعي. أخرجه النسائي برقم (3940)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 160)، كلاهما من طريق سيار بن حاتم العنزي، عن جعفر، عن ثابت، عن أنس، به كسابقه. قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". وفي سنده سيار بن حاتم العنزي، وهو صدوق له أوهام كما في "التقريب" (2729). 3 ـ طريق سلام بن أبي خبزة. أخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/ 303) من طريقه، عن ثابت وعلي بن زيد، عن أنس، به كسابقه. قال ابن عدي: "وقد رواه أيضاً عن أنس: سلام أبو المنذر وجعفر بن سليمان الضبعي من رواية سيار عنه، وأما حديث علي بن زيد عن أنس فلا أعرفه إلا من رواية سلام بن أبي خبزة". وسلام بن أبي خبزة العطار، البصري متروك كما قال النسائي، وقال ابن المديني: "يضع الحديث"، وقال أبو حاتم الرازي: "ليس بقوي، وليس بكذاب"، وقال أبو زرعة: "منكر الحديث"، وقال الساجي: "متروك الحديث، وكان عابداً"، وقال البخاري: "ضعفه قتيبة جداً". انظر ترجمته في الموضع السابق من "الكامل"، و"لسان الميزان" (4/ 59 ـ 60).=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=وقد ذهب الدارقطني إلى إعلال رواية ثابت هذه بالإرسال، فنقل عنه الضياء في "المختارة" (5/ 113) قوله: "رواه سلام أبو المنذر وسلامة بن أبي الصهباء وجعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس. وخالفهم حماد بن زيد، عن ثابت، مرسلاً. والمرسل أشبه بالصواب". 4 ـ طريق قتادة. أخرجه النسائي (3941) من طريق إبراهيم بن طهمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: "لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد النساء من الخيل". وهذا متن غير السابق، ولكنه يدل على جزء من الحديث؛ وهو محبة النبي صلّى الله عليه وسلّم للنساء، وقد يكون المذكور في الحديث السابق ـ "النساء والطيب" ـ من جملة ما يحب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس كل ما يحب، ولذلك ذكر في هذا الحديث الخيل. وربما أراد النسائي بهذا إعلال أحد الحديثين بالآخر، والله أعلم. الثاني: طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. أخرجه المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (321)، والطبراني في "الأوسط" (5772)، و"الصغير" (741)، والخطيب في "تاريخه" (14/ 190)، جميعهم من طريق يحيى بن عثمان، عن الهقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، به مرفوعاً. قال الطبراني: "لم يروه عن الأوزاعي إلا الهقل، تفرد به يحيى". وقال الخطيب: "تفرد برواية هذا الحديث هكذا موصولاً هقل بن زياد، عن الأوزاعي، ولم أره إلا من رواية يحيى بن عثمان عن هقل. وخالفه الوليد بن مسلم، فرواه عن الأوزاعي، عن إسحاق، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً، لم يذكر فيه أنساً"، ثم ساقه بسنده إلى الوليد. وأخرج الضياء في "المختارة" (1533) هذا الحديث من طريق الطبراني، ونقل قول الطبراني في تفرد هقل عن الأوزاعي، ويحيى بن عثمان عن هقل، ثم تعقبه بقوله: "لم ينفرد به يحيى، فقد رواه عنه عمرو كما قدمنا". وكان قد قدّم رواية الحديث برقم (1532) من طريق أبي محمد الحسن بن محمد المخلدي بسنده عن عمرو بن هاشم البيروتي، عن هقل، به. ونقل الضياء أيضاً عن البرديجي أنه أعلّ هذا الحديث بقول: "إنما العلّة من قبل الراوي الذي هو دون الأوزاعي". وتعقبه الضياء بأنه أعلّ رواية في الصحيحين أو أحدهما غير هذه، وهي من رواية إسحاق عن أنس، وقال إنها منكرة. وذهب الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله إلى تصحيح هذه الرواية في "الصحيحة"=

فلذلك (¬1) قام صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ (¬2)، وَامْتَثَلَ أَمر رَبِّهِ فِي قوله تعالى: ¬

= (1809)، وذكر إعلال الخطيب البغدادي، وردّه بأمرين: أـ أن هقل بن زياد زاد الوصل، وزيادة الثقة مقبولة. ب ـ أنه ـ أي هقل بن زياد ـ في الأوزاعي أوثق من الوليد. ثم ذكر أقوال الموثقين ليحيى بن عثمان، وذكر متابعة عمرو بن هاشم له عند المخلدي في "الفوائد" (ق290/ 1)، وهي التي رواها الضياء من طريقه كما سبق. ويحيى بن عثمان الحربي هذا متكلم فيه، وإن وثقه بعض الأئمة، ويظهر أن كلامهم فيه متجه إلى روايات يرويها عن هقل بن زياد وهم فيها، ولذلك قال عنه ابن حجر في "التقريب" (7657): "صدوق تكلموا في روايته عن هقل". وأما متابعة عمرو بن هاشم له عند المخلدي في "فوائده": فإن عمرو بن هاشم البيروتي متكلم فيه، ولذا يقول عنه الحافظ ابن حجر في "التقريب" (5162): "صدوق يخطئ". ويمكن أن تتقوى رواية يحيى بن عثمان برواية عمرو بن هاشم لو لم يكن هناك مخالفة، أما مع وجود المخالفة في رواية الأوزاعي له مرسلاً، فلا يتجه كلام الشيخ الألباني في اعتراضه على إعلال الخطيب البغدادي للحديث، بل إعلال هذه الرواية بالإرسال هو الأقوى، وقد أشار لهذا الضياء في نهاية كلامه حيث قال: "وقد رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن إسحاق: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم". وأما حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: فأخرجه الطبراني في "الكبير" (20/ 420 رقم 1012) من طريق أبي حذيفة، عن سفيان، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "جعلت قرة عيني في الصلاة". وسنده ضعيف؛ فيه أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي، وهو صدوق سيئ الحفظ، وكان يصحِّف كما في "التقريب" (7059). وأما مرسل التيمي وليث: فأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (7939) من طريق ابن التيمي ـ وهو معتمر بن سليمان ـ، عن أبيه، وعن ليث؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "حبب إليّ الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة". وسنده ضعيف لإرساله. هذا ما وجدته من طرق لهذا الحديث، وهي كما ترى لا تخلو طريق منها من مقال، وأحسنها الطريق الأولى لحديث أنس ـ من رواية سلام أبي المنذر وجعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس ـ، وقد صحح سندها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (11/ 345)، وحسّنها في "التلخيص الحبير" (1530)، وقال عنها الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/ 177): "وإسناده قوي"، وصححه الشيخ الألباني في الموضع السابق من "الصحيحة"، والله أعلم. (¬1) في (غ) و (ر): "فكذلك". (¬2) تقدم تخريجه (ص178).

{قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً *} (¬1) الآية، والله أعلم (¬2). وَالثَّالِثُ: أَن دُخُولَ المَشَقَّة وَعَدَمَهُ عَلَى المكلَّف فِي الدَّوَامِ أَو غَيْرِهِ لَيْسَ أَمْرًا مُنْضَبِطًا، بل هو إضافي يختلف (¬3) بِحَسَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي قوَّة أَجسامهم، أَو فِي (¬4) قُوَّةِ عَزَائِمِهِمْ، أَو فِي قُوَّةَ يَقِينِهِمْ، أَو نحو ذلك من أَوصاف أَجسامهم وأَنْفُسِهِمْ (¬5)، فَقَدْ يَخْتَلِفُ الْعَمَلُ الْوَاحِدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَجُلَيْنِ؛ لأَن أَحدهما أَقوى جِسْمًا، أَو أَقوى عَزِيمَةً، أَو يقيناً بالموعود، وَالْمَشَقَّةُ قَدْ تَضْعُفُ بِالنِّسْبَةِ إِلى قُوَّةِ هَذِهِ الأُمور وأَشباهها، وَتَقْوَى (¬6) مَعَ ضَعْفِهَا. فَنَحْنُ نَقُولُ: كُلُّ عَمَلٍ يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَى مِثْلِهِ (¬7) بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَيْدٍ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَا يَشُقُّ على عمرو فَلَا يُنْهَى عَنْهُ. فَنَحْنُ نَحْمِلُ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الأَوّلون مِنَ الأَعمال عَلَى أَنه لَمْ يَكُنْ شَاقًّا عَلَيْهِمْ؛ وإِن كَانَ مَا هُوَ أَقل مِنْهُ شَاقًّا عَلَيْنَا، فَلَيْسَ عَمَلُ مِثْلِهِمْ بِمَا عَمِلُوا بِهِ حُجَّةً لَنَا أَن نَدْخُلَ فيما دخلوا فيه، إلا بشرط أَن يتّحد (¬8) مَنَاطُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَهُوَ أَن يَكُونَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَى مثله علينا (¬9). وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي هَذَا لِمُشَاهَدَةِ (¬10) الْجَمِيعِ، فإِن التوسُّط والأَخذ بالرفق (¬11) هو الأَحرى (¬12) بِالْجَمِيعِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الأَدلة، دُونَ الإِيغال الَّذِي لَا يَسْهُلُ مِثْلُهُ عَلَى جَمِيعِ الخلق ولا أَكثرهم، بل (¬13) على القليل النادر منهم. ¬

(¬1) سورة المزمل: الآية (2). (¬2) قوله: "والله أعلم" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (خ) و (م): "مختلف". (¬4) قوله: "في" ليس في (غ) و (ر). (¬5) في (م): "وأنفاسهم"، وفي (خ): "أو أنفاسهم". (¬6) في (م): "ويقوى". (¬7) في (ر) و (غ): "عليه" بدل: "على مثله". (¬8) في (خ): "يتمد" وفي (غ) و (ر): "يتخذ". (¬9) قوله: "علينا" ليس في (خ) و (م). (¬10) في (ر) و (غ): "لشهادة". (¬11) في (غ): "بالأفق". (¬12) في (خ): "هو الأولى والأحرى". (¬13) في (خ): و (م): "إلا" بدل "بل".

وَالشَّاهِدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِني لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِني أَبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" (¬1)، يريد صلّى الله عليه وسلّم: أَنه لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْوِصَالُ، وَلَا يَمْنَعُهُ عَنْ قضاءِ حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ. فَعَلَى هذا: من رُزِقَ أنموذجاً مما أُعطيه صلّى الله عليه وسلّم فَصَارَ يُوغِلُ فِي الْعَمَلِ مَعَ قوَّته وَنَشَاطِهِ وَخِفَّةِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ، فَلَا حَرَجَ. وأَما رَدُّهُ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (¬2): فَيُمْكِنُ أَن يَكُونَ شَهِدَ بأَنه لَا يُطِيقُ الدَّوَامَ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ لَهُ مَا كَانَ مُتَوقَّعاً، حَتَّى قَالَ: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ عَمَلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عُمَرَ (¬3) وَغَيْرِهِمَا فِي الْوِصَالِ جَارِيًا عَلَى أَنهم أُعطوا حَظًّا مِمَّا أُعطيه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصلٍ مَذْكُورٍ فِي كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (¬4) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَمَلِ الْمَنْقُولِ عن السلف مخالفة لما سبق. ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص155). (¬2) في (خ) و (م): "عمر". وانظر تخريج حديث عبد الله بن عمرو هذا وردّ النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه (ص157). (¬3) تقدم تخريجه (ص179). (¬4) انظر: "الموافقات" (2/ 239 ـ 245).

فصل

فَصْلٌ لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وأَنه يقتضي انتفاءَه عند انتفاءِ العلَّة، وَمَا ذَكَرُوهُ فِيهِ صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِيهِ فِي التَّفْصِيلِ نَظَرٌ. وَذَلِكَ أَن العِلّة رَاجِعَةٌ إِلى أَمرين: أَحدهما: الْخَوْفُ مِنْ الِانْقِطَاعِ والتَّرْك إِذا التزم الدوام (¬1) فِيمَا يَشُقُّ فِيهِ الدَّوَامُ، وَالْآخَرُ: الْخَوْفُ (¬2) مِنَ التقصير فيما هو آكَدُ (¬3) مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ. أَما الأَول: فإِن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَصَّل فِيهِ أَصلاً رَاجِعًا إِلى قَاعِدَةٍ مَعْلُومَةٍ لَا مَظْنُونَةٍ، وَهِيَ (¬4): بَيَانُ أَن الْعَمَلَ الْمُوَرِّثَ لِلْحَرَجِ عِنْدَ الدَّوَامِ مَنْفِيٌّ عَنِ الشَّرِيعَةِ، كَمَا أَن أَصل الْحَرَجِ مَنْفِيٌّ عَنْهَا؛ لأَنه صلّى الله عليه وسلّم بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ (¬5)، وَلَا سَمَاحَ مَعَ دُخُولِ الحرج. فكل من أَلزم نفسه ما يلقاه (¬6) فيه الحرج فقد خرج (¬7) عَنْ الِاعْتِدَالِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَصَارَ إِدْخَالُهُ لِلْحَرَجِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تلقاءِ نَفْسِهِ، لَا مِنَ الشَّارِعِ؛ فإِن دَخَلَ فِي الْعَمَلِ عَلَى شَرْطِ الوفاءِ؛ فإِن وفَّى (¬8) فَحَسَنٌ بَعْدَ الْوُقُوعِ، إِذْ قَدْ ظَهَرَ أَن ذَلِكَ الْعَمَلَ إِما غَيْرُ شَاقٍّ؛ لأَنه قَدْ أَتى بِهِ بِشَرْطِهِ، وإِما شاقٌّ صَبَرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُوَفّ النَّفْسَ حَقَّها مِنَ الرِّفْقِ، وَسَيَأْتِي. وإِن لَمْ يُوَفّ، فكأَنه نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدٌ، فَلَوْ بَقِيَ عَلَى أَصل بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ الِالْتِزَامِ لم يدخل عليه ما يُتّقى منه. ¬

(¬1) قوله: "الدوام" ليس في (خ) و (م). (¬2) قوله: "الخوف" ليس (غ). (¬3) في (خ): "الآاكد". (¬4) في (غ) و (ر): "وهو". (¬5) تقدم تخريجه (ص154). (¬6) في (خ): "ما يلقى". (¬7) في (خ) و (م): "يخرج". (¬8) في (غ) و (ر): "فأوفى" بدل "فإن وفى".

لَكِنْ لِقَائِلٍ أَن يَقُولَ: إِن النَّهْيَ هَاهُنَا مُعَلَّل (¬1) بِالرِّفْقِ الرَّاجِعِ إِلى الْعَامِلِ؛ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله تعالى عنها: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة بهم" (¬2)، فكأَنه قَدِ اعْتَبَرَ حَظّ النَّفْسِ فِي التعبُّد، فَقِيلَ لَهُ: افْعَلْ وَاتْرُكْ؛ أَي: لَا تَتَكَلَّفْ ما يشق عليك، كما لم تُكلّف (¬3) فِي الْفَرَائِضِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ؛ لأَن اللَّهَ إِنما وَضَعَ الْفَرَائِضَ عَلَى الْعِبَادِ عَلَى وجهٍ مِنَ التَّيْسِيرِ مُشْتَرَك لِلْقَوِيِّ (¬4) وَالضَّعِيفِ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالرَّجُلِ والمرأَة، حَتَّى إِذَا كَانَ بعض الفرائض يُدْخِل الحرج على المُكَلّف أُسقط (¬5) عَنْهُ جُمْلَةً أَو عُوِّض (¬6) عَنْهُ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ، كَذَلِكَ النَّوَافِلُ المتكلَّم فِيهَا. وإِذا رُوعِيَ حَظُّ النَّفْسِ: فَقَدْ صَارَ الأَمر فِي الإِيغال إِلى الْعَامِلِ، فَلَهُ أَن لَا يمكِّنها مِنْ حظِّها، وأَن (¬7) يَسْتَعْمِلَهَا (¬8) فِيمَا قَدْ يَشُقُّ عَلَيْهَا بِالدَّوَامِ، بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُؤَصَّلَةِ فِي أُصول "الْمُوَافَقَاتِ" (¬9) فِي إِسقاط الْحُظُوظِ، فَلَا يَكُونُ إِذاً مَنْهِيًّا ـ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ ـ. فَكَمَا يَجِبُ عَلَى الإِنسان حَقٌّ لِغَيْرِهِ مَا دَامَ طَالِبًا لَهُ، وَلَهُ الخِيرة فِي تَرْكِ الطَّلَبِ بِهِ فَيَرْتَفِعُ الْوُجُوبُ، كَذَلِكَ جاءَ النَّهْيُ حِفْظًا عَلَى حظوظ النفوس (¬10)، فَإِذَا أَسقطها صَاحِبُهَا زَالَ النَّهْيُ، وَرَجَعَ الْعَمَلُ إِلى أَصل النَّدْبِ. وَالْجَوَابُ: أَن حُظُوظَ النُّفُوسِ بِالنِّسْبَةِ إِلى الطَّلَبِ بِهَا قَدْ يُقَالُ: إِنه مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنه من حقوق العباد. فإِن قلنا: إِنه ¬

(¬1) في (خ): "معلق". (¬2) في (خ) و (م): "رحمة لهم". وحديث عائشة هذا أخرجه البخاري (1964)، ومسلم (1105). (¬3) في (خ): "كما تتكلف". (¬4) في (خ): "يشترك فيه القوي". (¬5) في (خ): "يسقط". (¬6) في (خ): "يعوض". (¬7) قوله: "وأن" ليس في (غ) و (ر). (¬8) في (غ) و (ر): "ويستعملها". (¬9) انظر: "الموافقات" (1/ 233 وما بعدها)، و (1/ 357 وما بعدها)، و (2/ 251 وما بعدها). (¬10) في (خ): "النفس".

من حقوق الله (¬1) فَلَا يَنْهَضُ مَا قُلْتُمْ؛ إِذ لَيْسَ للمكلَّف خِيَرَةٌ فِيهِ. فَكَمَا أَنه مُتعبَّد بِالرِّفْقِ بِغَيْرِهِ، كَذَلِكَ هُوَ مكلَّفٌ بِالرِّفْقِ بِنَفْسِهِ، وَدَلَّ عَلَى ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم (¬2): "إِن لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ... " (¬3)، إِلى آخَرِ الْحَدِيثِ. فَقَرَنَ حَقَّ النَّفْسِ بِحَقِّ الْغَيْرِ فِي الطَّلَبِ فِي (¬4) قَوْلِهِ: "فأَعط كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ حَقًّا مِنَ الْحُقُوقِ. وَلَا يُطلق هَذَا اللَّفْظُ إِلا عَلَى مَا كَانَ لَازِمًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: أَنه لَا يَحِلُّ للإِنسان أَن يُبِيحَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ دَمَهُ، وَلَا قَطْعَ طرفٍ مِنْ أَطرافه، وَلَا إِيلامه بشيءٍ مِنَ الْآلَامِ. وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَثِمَ وَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وإِن قُلْنَا: إِنه مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ وَرَاجِعٌ إِلى خِيَرَتِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الإِطلاق؛ إِذ قَدْ تَبَيَّنَ فِي الأُصول أَن حُقُوقَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَةً مِنْ حَقِّ اللَّهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ـ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ـ: أَنه لَوْ كَانَ إِلى خِيَرَتِنَا بإِطلاق لَمْ يَقَعِ النَّهْيُ فِيهِ عَلَيْنَا، بَلْ كُنَّا نُخَيَّر فيه ابتداءً، وإلى ذلك؛ فإِنه لو كان لخِيرَةِ (¬5) المُكَلَّفِ مَحْضاً؛ لجاز للناذر لِعِبَادةٍ (¬6) أَن يَتْرُكَهَا مَتَى شاءَ وَيَفْعَلَهَا مَتَى شاءَ. وَقَدِ اتَّفَقَ الأَئمة عَلَى وُجُوبِ الوفاءِ بِالنَّذْرِ، فيجري ما أَشبهه (¬7) مَجْرَاهُ. وأَيضاً فَقَدْ فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ أَنه حبَّب إِلينا الإِيمان وزيَّنه فِي قُلُوبِنَا، وَمِنْ جُمْلَةِ التَّزْيِينِ: تَشْرِيعُهُ عَلَى وجهٍ يُستحسن الدُّخُولُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مَعَ شَرْعِيَّةِ الْمَشَقَّاتِ. وإِذا كَانَ الإِيغال فِي الأَعمال مِنْ شأْنه فِي الْعَادَةِ أَن يُورثَ الكَلَلَ (¬8) وَالْكَرَاهِيَةَ وَالِانْقِطَاعَ ـ الذي هو كالضِّدّ لتحبيب الإِيمان ¬

(¬1) قوله: "فإن قلنا: إنه من حقوق الله" سقط من (خ) و (م). (¬2) تقدم تخريجه (ص157). (¬3) قوله: "حقاً" ليس في (م). (¬4) في (غ) و (ر): "الذي هو" بدل "في". (¬5) في (خ): "بخيرة". (¬6) في (خ): "العبادة". (¬7) في (خ): "ما أشبه". (¬8) في (غ) و (ر): "الكلال".

وَتَزْيِينِهِ فِي الْقُلُوبِ (¬1) ـ، كَانَ مَكْرُوهًا؛ لأَنه عَلَى خِلَافِ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ، فَلَمْ يَنْبَغِ أَن يَدْخُلَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ. وأَما (¬2) الثَّانِي: فإِن الْحُقُوقَ المتعلِّقة بالمكلَّف عَلَى أَصناف كَثِيرَةٍ، وأَحكامها تَخْتَلِفُ حَسْبَمَا تُعْطِيهِ أُصول الأَدلة، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنه إِذَا تَعَارَضَ عَلَى المكلَّف حَقَّان وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ مَا هُوَ آكَدُ فِي مُقْتَضَى الدَّلِيلِ. فَلَوْ تَعَارَضَ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ لقُدِّم الْوَاجِبَ عَلَى الْمَنْدُوبِ، وَصَارَ الْمَنْدُوبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرَ مَنْدُوبٍ، بَلْ صَارَ واجبَ التَّرْكِ عَقْلًا أَو شَرْعًا؛ مِنْ بَابِ "مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ". وإِذا صَارَ وَاجِبَ التَّرْكِ، فَكَيْفَ يَصِيرُ الْعَامِلُ بِهِ إِذ ذَاكَ متعبِّداً لله (¬3) به، بل هو متعبد بمطلوب الترك في الجملة، فأَشبه التعبد بالبدعة من هذا الوجه، ولكنه مع ذلك مُتَعَبِّدٌ (¬4) بِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي أُصول الأَدلة؛ لأَن دليل الندب عتيد، ولكنه عرض فيه (¬5) بالنسبة إِلى هذا المتعبّد (¬6) مَانِعٌ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ حُضُورُ الْوَاجِبِ، فإِن عَمِلَ بِالْوَاجِبِ فَلَا حَرَجَ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْجُمْلَةِ، إِلا أَنه غَيْرُ مُخْلِصٍ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الِالْتِزَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ. وإِن عَمِلَ بِالْمَنْدُوبِ عَصَى بِتَرْكِ الواجب. ويبقى (¬7) النظر في المندوب: هل وقع موقعه من النَّدْبِ أَم لَا؟ فإِن قُلْنَا (¬8): إِن تَرْكَ الْمَنْدُوبِ هُنَا وَاجِبٌ عَقْلًا، فَقَدْ يَنْهَضُ الْمَنْدُوبُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ مَعَ مَا فِيهِ؛ مِنْ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ أَداءِ الْوَاجِبِ. وإِن قُلْنَا (¬9): إِنه وَاجِبٌ شَرْعًا، بَعُدَ مِنَ انْتِهَاضِهِ سَبَبًا لِلثَّوَابِ إِلا عَلَى وَجْهٍ مَا، وَفِيهِ أَيضاً مَا فِيهِ. فأَنت تَرَى مَا فِي الْتِزَامِ النَّوَافِلِ على كل تقدير فُرِضَ (¬10) إِذا كان ¬

(¬1) علق عليه رشيد رضا بقوله: جواب "وإذا كان الإيغال" إلخ. اهـ. (¬2) قوله: "وأما" في مكانه بياض في (غ). (¬3) في (غ) و (ر): "إليه" بدل "لله". (¬4) من قوله: "بمطلوب الترك" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬5) في (خ) و (م): "مع ذلك" بدل "عرض فيه". (¬6) في (خ) و (م): "التعبد". (¬7) في (خ) و (م): "وبقي". (¬8) في (خ): "قلت". (¬9) علق رشيد رضا هنا بقوله: المناسب للشق الأول من الترديد: "وإن قلت".اهـ. (¬10) في (خ): "فرضاً".

مؤدِّياً لِلْحَرَجِ (¬1)، وَهَذَا كُلُّهُ إِذا كَانَ الِالْتِزَامُ صَادًّا عَنِ الوفاءِ بِالْوَاجِبَاتِ مُبَاشَرَةً، قَصْدًا أَو غَيْرَ قَصْدٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ مَعَ أَبي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬2)، إِذ كَانَ الْتِزَامُ قِيَامِ اللَّيْلِ مَانِعًا له من أَداءِ حَقِّ (¬3) الزَّوْجَةِ؛ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ الْتِزَامُ صِيَامِ النَّهَارِ. وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ الْتِزَامُ صَلَاةِ الضُّحَى أَو غَيْرِهَا مِنَ النَّوَافِلِ مُخِلاًّ بقيامه على مريضه المُشْرِف، أَو القيام (¬4) على إِعانة أَهله بِالْقُوتِ، أَو مَا أَشبه (¬5) ذَلِكَ. وَيَجْرِي مَجْرَاهُ ـ وإِن لَمْ يَكُنْ فِي رُتْبَتِهِ ـ: أَن لَوْ كَانَ ذَلِكَ الِالْتِزَامُ يُفْضِي بِهِ إِلى ضَعْفِ بَدَنِهِ، أَو نَهْكِ (¬6) قُوَاهُ، حَتَّى لَا يقدر على الاكتساب على أَهله (¬7)، أَو أَداءِ فَرَائِضِهِ عَلَى وَجْهِهَا، أَو الْجِهَادِ، أَو طَلَبِ الْعِلْمِ، كَمَا نَبَّه عَلَيْهِ حَدِيثُ داود عليه السلام (¬8): أَنه كان يصوم يوما وَيُفْطِرُ يَوْمًا (¬9)، وَلَا يَفِرُّ إِذا لَاقَى. وَقَدْ جاءَ فِي مَفْرُوضِ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ مِنَ التَّخْيِيرِ مَا جاءَ، ثُمَّ إِن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَامَ الْفَتْحِ: "إِنكم قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عدوِّكم، وَالْفِطْرُ أَقوى لَكُمْ". قَالَ أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فأَصبحنا مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ. قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا فَنَزَلْنَا مَنْزَلًا، فَقَالَ: "إِنكم تصبِّحون عدوَّكم وَالْفِطْرُ أَقوى لَكُمْ، فأَفطروا". قَالَ: فَكَانَتْ عَزِيمَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬10). وَهَذِهِ إِشارة إِلى أَن الصِّيَامَ رُبَّمَا أَضعف عَنْ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ وَعَمَلِ الْجِهَادِ، فَصِيَامُ النفل أَولى بهذا الحكم. ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "إلى الحرج". (¬2) تقدم تخريجه (ص166). (¬3) في (خ) و (م): "حقوق". (¬4) في (خ): "والقيام". (¬5) في (غ) و (ر): "وما أشبه". (¬6) في (غ) و (ر): "ونهك". (¬7) في (خ): "لأهله". (¬8) تقدم تخريجه (ص157). (¬9) قوله: "يوماً" الثاني سقط من (خ). (¬10) أخرجه مسلم (1120) من حديث أبي سعيد.

وعن (¬1) جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأَى رَجُلًا يُظَلَّل عَلَيْهِ، وَالزِّحَامُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" (¬2)؛ يَعْنِي: أَن الصِّيَامَ فِي السَّفَرِ وإِن كان واجباً، ليس بِرّاً (¬3)، إِذا بلغ به الإِنسان إلى (¬4) ذَلِكَ الْحَدَّ، مَعَ وُجُودِ الرُّخْصَةِ. فَالرُّخْصَةُ إِذاً مَطْلُوبَةٌ فِي مِثْلِهِ، بِحَيْثُ تَصِيرُ بِهِ (¬5) آكَدَ مِنْ أَداءِ الْوَاجِبِ، فَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي أَصله أَولى. فَالْحَاصِلُ (¬6) أَن كُلَّ (¬7) مَنْ أَلزم نَفْسَهُ شَيْئًا يَشُقُّ عَلَيْهِ (¬8)، فَلَمْ يأْت طَرِيقَ البِرِّ على حَدِّه. ¬

(¬1) قوله: "وعن" في موضعه بياض في (غ). (¬2) أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115). (¬3) في (خ) و (م): "ليس برّاً في السفر". (¬4) قوله: "إلى" ليس في (خ) و (م). (¬5) قوله: "به" ليس في (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): "فحصل". (¬7) قوله: "كل" ليس في (غ) و (ر)، وقوله: "أن كل" ملحق في (م). (¬8) علق رشيد رضا هنا بقوله: جملة "يشق عليه" خبر إن، بمعنى: أن الإلزام يستتبع المشقة دائماً، ولكن تقدم ما ينافي الكلية. وقوله: "فلم يأت" إلخ: عطف للماضي على المستقبل، ولعل في العبارة تحريفاً. اهـ.

فصل

فَصْلٌ إِذا ثَبَتَ مَا تَقَدَّمَ وَرَدَ الإِشكال الثَّانِي: وَهُوَ أَن الْتِزَامَ النَّوَافِلِ الَّتِي يَشُقُّ الْتِزَامُهَا مُخَالَفَةٌ لِلدَّلِيلِ، وإِذا خَالَفَتْ فَالْمُتَعَبِّدُ بِهَا على ذلك التَّقْدِيرِ مُتَعَبِّدٌ بِمَا لَمْ يُشْرَعْ، وَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ. فإِما أَن تَنْتَظِمَهَا أَدلة ذَمِّ الْبِدْعَةِ، أَو لَا؟ فإِن انْتَظَمَتْهَا أَدلة الذَّمِّ، فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لأَمرين: أَحدهما: أَن رَسُولَ اللَّهِ (ص) لَمَّا كَرِهَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (¬1) مَا كره فقال (¬2) لَهُ (¬3): إِني أُطيق أَفضل مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ (¬4) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا أَفضل مِنْ ذَلِكَ"، تَرَكَهُ بَعْدُ عَلَى الْتِزَامِهِ. وَلَوْلَا أَن عبد الله بن عمرو (¬5) فَهِمَ مِنْهُ بَعْدَ نَهْيِهِ الإِقرار عَلَيْهِ لَمَا الْتَزَمَهُ وَدَاوَمَ (¬6) عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ: لَيْتَنِي قَبِلْتُ رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فَلَوْ قُلْنَا: إِنها (¬7) بِدْعَةٌ ـ وَقَدْ ذُمَّ كُلُّ بِدْعَةٍ عَلَى الْعُمُومِ ـ، لَكَانَ مُقِرّاً لَهُ عَلَى خطإٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، كَمَا أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يُعْتَقَدَ فِي الصَّحَابِيِّ أَنه خَالَفَ أَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قَصْدًا لِلتَّعَبُّدِ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ. فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَتقى لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِ (¬8) مِنْ وِصَالِ الصِّيَامِ وأَشباهه. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَن يقال: إِنها بدعة. والثاني (¬9): أَن الْعَامِلَ بِهَا دَائِمًا بِشَرْطِ الوفاءِ إِن الْتَزَمَ الشرط فأَداها ¬

(¬1) في (م): "عمر". وحديث عبد الله بن عمرو هذا تقدم (ص 157 ـ 158). (¬2) في (خ): "وقال". (¬3) قوله: "له" ليس في (غ) و (ر). (¬4) في (خ): "فقال له". (¬5) قوله: "بن عمرو" ليس في (خ) و (م). (¬6) في (غ) و (ر): "ودام". (¬7) في (ر) و (غ): "إنه". (¬8) يعني: عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، وتقدم تخريج حديثيهما (ص179 ـ 180). (¬9) في (خ) و (م): "الثاني".

عَلَى وَجْهِهَا فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَارْتَفَعَ النَّهْيُ إِذاً، فَلَا مُخَالَفَةَ لِلدَّلِيلِ، فَلَا ابْتِدَاعَ. وإِن لم يلتزم أَداءَها، فإِن كان باختياره (¬1) فَلَا إِشكال فِي الْمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ كالنَّاذِرِ (¬2) يَتْرُكُ المنذور (¬3) من غير (¬4) عُذْرٍ، وَمَعَ (¬5) ذَلِكَ فَلَا يُسَمَّى تَرْكُهُ بِدْعَةً، ولا عمله في وقت العمل بدعة، فلا (¬6) يُسَمَّى بِالْمَجْمُوعِ (¬7) مُبْتَدِعًا. وإِن كَانَ لعارضٍ (¬8) ـ مرضٍ أَو غَيْرِهِ مِنَ الأَعذار ـ، فَلَا نُسَلِّم (¬9) أَنه مُخَالِفٌ، كَمَا لَا يَكُونُ مُخَالِفًا فِي الْوَاجِبِ إِذا عَارَضَهُ فِيهِ عَارِضٌ؛ كَالصِّيَامِ لِلْمَرِيضِ، وَالْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، فَلَا ابْتِدَاعَ إِذاً. وأَما إِن لَمْ تَنْتَظِمْهَا (¬10) أَدلة الذَّمِّ، فَقَدْ ثَبَتَ أَن مِنْ أَقسام الْبِدَعِ مَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ (¬11)، بَلْ هُوَ مِمَّا يُتَعَبَّد بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَلَا غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ أَصل عَلَى الْجُمْلَةِ. وَحِينَئِذٍ يَشْمَلُ هَذَا الأَصل كُلَّ مُلْتَزَمٍ تعبُّديٍّ، كَانَ لَهُ أَصل أَم لا؟ لكن بحيث (¬12) يَكُونُ لَهُ أَصل عَلَى الْجُمْلَةِ، لَا عَلَى التَّفْصِيلِ؛ كَتَخْصِيصِ لَيْلَةِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِيَامِ فِيهَا، وَيَوْمِهِ بِالصِّيَامِ، أَو بِرَكَعَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقِيَامِ ليلةِ أَول جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَالْتِزَامِ الدعاءِ جهراً بآثار الصلوات مع انتصاب الإِمام لذلك (¬13)، وما أَشبه ذلك مما له أَصل جُمليّ (¬14)، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْخَرِمُ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ تأْصيله. والجواب عن الأَول ـ أَي (¬15) الإِقرار (¬16) ـ: صَحِيحٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَن يَجْتَمِعَ (¬17) مَعَ نهي (¬18) الْإِرْشَادُ لأَمر خَارِجِيٍّ؛ فإِن النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ لأَجل ¬

(¬1) في (خ) و (م): "باختيار". (¬2) في (م): "فالناذر"، وأشار بهامش (خ) إلى أنه كذلك في نسخة. (¬3) في (خ) و (م): "المندوب". (¬4) في (خ): "بغير". (¬5) في (ر) و (غ): "وقع" بدل "ومع". (¬6) في (خ): "ولا". (¬7) في (خ): "بالجموع". (¬8) في (غ) و (ر): "العارض". (¬9) في (ر) و (غ): "فلا يسلم". (¬10) في (غ) و (ر): "ينتظمها". (¬11) قوله: "عنه" ليس في (خ). (¬12) في (خ): "فحيث". (¬13) قوله: "لذلك" ليس في (خ) و (م). (¬14) في (خ): "جلي". (¬15) في (م): "أن" بدل "أي". (¬16) قوله: "أي الإقرار" ليس في (غ) و (ر). (¬17) أي: الإقرار. (¬18) في (خ): "النهي".

خَلَلٍ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ، وَلَا فِي رُكْنٍ مِنْ أَركانها، وإِنما كَانَ لأَجل الْخَوْفِ مِنْ أَمر متوقَّع؛ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: إِن النَّهْيَ عَنِ الْوِصَالِ إِنما كان رحمة بالأُمّة، وَقَدْ وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ تَبِعَهُ فِي الْوِصَالِ (¬1) كالمنكِّل (¬2) بِهِمْ (¬3)، وَلَوْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِليهم لَمَا فعل (¬4). فانظروا (¬5) كَيْفَ اجْتَمَعَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ كَوْنُهُ عِبَادَةً وَمَنْهِيًّا عَنْهُ، لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْفِقْهِيَّاتِ: مَا يَقُولُهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ نداءِ الْجُمُعَةِ، فإِنه نُهِيَ عَنْهُ (¬6)، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَيْعًا، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ، فَيُجِيزُونَ الْبَيْعَ بعد الوقوع، ولا يجعلونه (¬7) فَاسِدًا، وإِن وُجِدَ التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ فِيهِ، لِلْعِلْمِ بأَن النَّهْيَ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلى نَفْسِ الْبَيْعِ، بل إِلى أَمر يجاوره، ولذلك يعلل جماعة ممن قال (¬8) بفسخ البيع بأَنه (¬9) زَجْرٌ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، لَا لأَجل النَّهْيِ عَنْهُ، فَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ أَيضاً، وَلَا النَّهْيُ رَاجِعٌ إِلى نَفْسِ الْبَيْعِ. فالأَمر بِالْعِبَادَةِ شيءٌ، وَكَوْنُ المكلَّف يُوفِي بِهَا أَوْ لَا شيءٌ آخَرُ. فَإِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن عمرو (¬10) رضي الله عنهما عَلَى مَا الْتَزَمَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا الْتَزَمَ (¬11)، وَنَهْيُهُ إِيّاه ابْتِدَاءً لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، وإِلا لَزِمَ التَّدَافُعُ، وَهُوَ مُحَالٌ. إِلا أَن هَاهُنَا نَظَرًا (¬12) آخَرَ، وَهُوَ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَالْمُرْشِدِ للمكلَّف، وكالمتبرِّع (¬13) بِالنَّصِيحَةِ عِنْدَ ¬

(¬1) من قوله: "إنما كان رحمة" إلى هنا سقط من (خ). (¬2) في (خ): "كالتنكيل". (¬3) تقدم تخريجه (ص193). (¬4) في (ر) و (غ): "فصل". (¬5) في (خ): "فانظر". (¬6) قوله: "عنه" ليس في (غ) و (م) و (ر). (¬7) في (خ) و (م): "ويجعلونه". (¬8) في (خ): "يقول". (¬9) في (غ): "فإنه"، وأثبتها رشيد رضا في طبعته: "لأنه"، ثم استشكل العبارة، فعلق على قوله: "للمتبايعين" فقال: "هذا نص نسختنا فليتأمل! ".اهـ، مع أن الذي في نسخة (خ) ـ التي اعتمدها رشيد رضا ـ: "بأنه" كما هنا!. (¬10) في (خ) و (م): "فَإِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عمر". (¬11) قوله: "دليل على صحة ما التزم" سقط من (خ). (¬12) في (خ): "نظر". (¬13) في (خ): "وكالمبتدع".

وُجُودِ مَظِنَّة الِاسْتِنْصَاحِ، فَلَمَّا اتَّكل (¬1) المكلَّف عَلَى اجْتِهَادِهِ دُونَ نَصِيحَةِ النَّاصِحِ الأَعرف بِعَوَارِضِ النُّفُوسِ، صَارَ كَالْمُتَّبِعِ لرأْيه مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وإِن كَانَ (¬2) بتأْويل، فإِن سُمِّيَ فِي اللَّفْظِ بِدْعَةً فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وإِلا فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ الْمَنْصُوصِ مِنْ صَاحِبِ النَّصِيحَةِ، وَهُوَ الدَّال عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ. وَمِنْ هُنَا قِيلَ فِيهَا: إِنها بِدْعَةٌ إِضافية لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا إِضافية: أَن الدَّلِيلَ فِيهَا مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلى من (¬3) يَشُقُّ عَلَيْهِ الدَّوَامُ (¬4) عَلَيْهَا، وَرَاجِحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلى مَنْ وفَّى (¬5) بِشَرْطِهَا، وَلِذَلِكَ وفَّى (5) بِهَا عَبْدُ الله بن عمرو (¬6) رضي الله عنهما بعد ما ضَعُفَ، وإِن دَخَلَ عَلَيْهِ فِيهَا بَعْضُ الْحَرَجِ، حَتَّى تَمَنّى قَبُولَ الرُّخْصَةِ، بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، فإِن الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مَفْقُودٌ حَقِيقَةً، فَضْلًا عَنْ أَن يَكُونَ مَرْجُوحًا. فَهَذِهِ المسأَلة تُشْبِهُ مسأَلة خطإِ الْمُجْتَهِدِ، فَالْقَوْلُ فِيهِمَا (¬7) مُتَقَارِبٌ، وسيأْتي الْكَلَامُ فيها إِن شاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وأَما قَوْلُ السَّائِلِ فِي الْإِشْكَالِ: إِنِ الْتَزَمَ الشَّرْطَ فأَدَّى الْعِبَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا ... ، إِلى آخِرِهِ، فَصَحِيحٌ، إِلا (¬8) قَوْلَهُ (¬9): "إِن (¬10) تَرَكَهَا لِعَارِضٍ فَلَا حَرَجَ كَالْمَرِيضِ"، فإِن مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ثمَّ قِسْمٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَن يَتْرُكَهَا بسببٍ تسبَّبَ هُوَ فيه، وإِن ظهر أَنه ليس من سببه. فإِن تارك الْجِهَادِ ـ مَثَلًا ـ بِاخْتِيَارِهِ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ، وتَرْكَه لِمَرَضٍ ونَحْوِهِ (¬11) لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ. فإِن عَمِلَ فِي سبب يُلْحِقُهُ عادة بالمرضى، حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْجِهَادِ، فَهَذِهِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَمِنْ حَيْثُ تَسَبُّبُهُ فِي الْمَانِعِ لا يكون ¬

(¬1) في (خ): "تكلف". (¬2) في (غ) و (ر): "كانت". (¬3) في (خ): "بالنسبة لمن". (¬4) في (غ): "الدليل". (¬5) في (ر) و (غ): "أوفى"، وكانت هكذا في (م) ثم صوّبت. (¬6) في (خ) و (م): "عمر". (¬7) في (غ) و (ر): "فيها". (¬8) في (ر) و (غ): "إلى" بدل" "إلا". (¬9) يعني في الإشكال المتقدم (ص198). (¬10) في (خ): "فإن". (¬11) في (خ): "أو نحوه".

مَحْمُودًا عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْإِيغَالِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ فِي كَرَاهِيَةِ الْعَمَلِ، أَو في (¬1) التقصير عن (¬2) الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْمُكَلَّفُ قَدْ خَالَفَ النَّهْيَ. وَمِنْ حيث وقع له الحرج المانع في العادة (¬3) من أَداء العبادة (¬4) عَلَى وَجْهِهَا قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا. فَصَارَ هُنَا نَظَرٌ بَيْنَ نَظَرَيْنِ لَا يتخلَّص مَعَهُ الْعَمَلُ إِلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وأَما قَوْلُهُ: ثَبَتَ أَن مِنْ أَقسام الْبِدَعِ مَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ (¬5) عَنْهُ، فليس كما قال؛ وذلك أَن المندوب مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْدُوبٌ يُشْبِهُ الْوَاجِبَ مِنْ جِهَةِ مُطْلَقِ الأَمر، وَيُشْبِهُ الْمُبَاحَ مِنْ جِهَةِ رفع الحرج عن (¬6) التارك، فهو واسطة بين الطرفين لا يتخلَّص (¬7) إِلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِلا أَن قَوَاعِدَ الشَّرْعِ شَرَطَتْ فِي نَاحِيَةِ الْعَمَلِ شَرْطًا، كَمَا شَرَطَتْ فِي نَاحِيَةِ تَرْكِهِ شَرْطًا، فَشَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ أَن لَا يَدْخُلَ فِيهِ مُدْخَلًا يُؤَدِّيهِ إِلى الْحَرَجِ المؤَدّي إِلى انْخِرَامِ النَّدْبِ فِيهِ رأْساً، أَو انْخِرَامِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَمَا وراءَ هَذَا مَوْكُولٌ إِلى خِيَرَةِ المكلَّف، فإِذا دَخَلَ فِيهِ فَلَا يَخْلُو أَن يَدْخُلَ فِيهِ عَلَى قَصْدِ انْخِرَامِ الشَّرْطِ أَوْ لَا، فإِن كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ الْقِسْمُ الَّذِي يأْتي إِن شاءَ الله، وحاصله أَن الشارع طلبه (¬8) بِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَهُوَ يُطَالِبُ نَفْسَهُ بِوَضْعِهِ، وإِدخاله عَلَى نَفْسِهِ، وَتَكْلِيفِهَا مَا لَا يُسْتَطَاعُ، مَعَ زِيَادَةِ الإِخلال بِكَثِيرٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ الَّتِي هِيَ أَولى مِمَّا دَخَلَ فِيهِ، وَمَعْلُومٌ أَن هَذِهِ (¬9) بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ. وإِن دَخَلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْقَصْدِ، فَلَا يَخْلُو أَن يَجْرِيَ الْمَنْدُوبُ عَلَى مَجْرَاهُ أَوْ لَا، فإِن أَجراه كَذَلِكَ بأَن يَفْعَلَ مِنْهُ (¬10) مَا اسْتَطَاعَ إِذا وَجَدَ نَشَاطًا، وَلَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَولى مِمَّا دخل فيه (¬11)، فهذا هو (¬12) محض ¬

(¬1) قوله: "في" ليس في (خ). (¬2) في (خ): "على" بدل "عن". (¬3) في (خ) و (م): "العبادة". (¬4) في (خ): "من أدائها". (¬5) في (غ): "منهي". (¬6) في (خ): "على" بدل "عن". (¬7) في (خ): "لا يتخلى". (¬8) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولعله: "طالبه".اهـ. (¬9) في (ر) و (غ): "هذا". (¬10) في (م): "منهما". (¬11) قوله: "مما دخل فيه" من (خ) فقط. (¬12) في (خ) و (م): "فهو" بدل "فهذا هو".

السُّنَّةِ الَّتِي لَا مَقَالَ فِيهَا؛ لِاجْتِمَاعِ الأَدلة عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، إِذ قَدْ أُمر، فَهُوَ غَيْرُ تَارِكٍ، وَنُهِيَ عَنِ الْإِيغَالِ وإِدخال الْحَرَجِ، فَهُوَ مُتَحَرِّز، فَلَا إِشكال فِي صِحَّتِهِ، وهو كان (¬1) شأْنَ القرن (¬2) الأَول وما بعده (¬3)، وإِن لَمْ يُجْرِهِ عَلَى مَجْراه، وَلَكِنَّهُ أَدخل فِيهِ رأْي الِالْتِزَامِ وَالدَّوَامِ، فَذَلِكَ الرأْي مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً. لَكِنْ فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ أَن الوفاءَ ـ إِن حَصَلَ ـ فَهُوَ ـ إِن شاءَ اللَّهُ ـ كَفَّارَةُ النَّهْيِ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ معنى البدعة؛ لأَن الله تعالى مَدَحَ الْمُوفِينَ بِالنَّذْرِ (¬4) وَالْمُوفِينَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عَاهَدُوا (¬5)، وإِن لَمْ يَحْصُلِ الوفاءُ تَمَحَّضَ وَجْهُ النَّهْيِ، وربما أَثِمَ في الالتزام النَّذْرِيّ (¬6)، ولأَجل احْتِمَالِ عَدَمِ الْوَفَاءِ أَطلق عَلَيْهِ لَفْظُ الْبِدْعَةِ، لَا لأَجل أَنه عَمَلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَائِمٌ. وَلِذَلِكَ إِذا الْتَزَمَ الإِنسان بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ أَو يَظُنُّ أَن الدَّوَامَ فِيهَا لَا يُوقِعُ فِي حَرَجٍ أَصلاً ـ وَهُوَ (¬7) الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الأَوجه الثَّلَاثَةِ المنبَّه عَلَيْهَا ـ لَمْ يَقَعْ فِي نهي، بل في محض المندوب (¬8)؛ كَالنَّوَافِلِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الصَّلَوَاتِ، وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ في آثارها، وذكر اللسان (¬9) المُلْتَزَمِ بالعَشِيّ والإِبكار، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا لَا يُخِلُّ بِمَا هُوَ أَولى، وَلَا يُدْخِلُ حَرَجًا بِنَفْسِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ. ¬

(¬1) في (غ): "كون". (¬2) قوله: "القرن" سقط من (م)، وفي (خ): "السلف" بدل "القرن". (¬3) في (خ): "ومن بعدهم". (¬4) في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *} سورة الدهر: الآية (7). (¬5) في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ... } إلى أن قال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} سورة البقرة: الآية (177). (¬6) في (خ): "غير النذري". (¬7) في (ر): "وهذا"، والظاهر أنها هكذا أيضاً في (غ)، إلا أنها لم تتضح في مصورتها. (¬8) في (خ): "المندوبات". (¬9) في (خ): "والذكر اللساني".

وَفِي هَذَا الْقِسْمِ جاءَ التَّحْرِيضُ عَلَى الدَّوَامِ صَرِيحًا، وَمِنْهُ كَانَ جَمْعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ (¬1)، وَمَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ؛ لأَنه كَانَ أَولاً سُنَّةً ثَابِتَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬2)، ثُمَّ إِنه أَقام لِلنَّاسِ بِمَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ وَمُحِبِّينَ فِيهِ، وَفِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مِنَ السَّنَةِ لَا دَائِمًا، وَمَوْكُولًا إِلى اخْتِيَارِهِمْ؛ لأَنه قَالَ: وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفضل. وَقَدْ فَهِمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَن الْقِيَامَ فِي الْبُيُوتِ أَفضل، فَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ (¬3) يَنْصَرِفُونَ فَيَقُومُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ: "نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ! "، فأَطلق عَلَيْهَا لَفْظَ الْبِدْعَةِ ـ كَمَا تَرَى ـ نَظَرًا ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ إِلى اعْتِبَارِ الدَّوَامِ، وإِن كَانَ شهراً في السنة، أَو أَنه (¬4) لَمْ يَقَعْ فِيمَنْ قَبْلَهُ عَمَلًا دَائِمًا، أَو أَنه أَظهره فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مُخَالِفًا لِسَائِرِ النَّوَافِلِ، وإِن كَانَ ذَلِكَ فِي أَصله وَاقِعًا (¬5) كَذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ عَلَى الْخُصُوصِ وَاضِحًا قَالَ: "نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ! "، فَحَسَّنَهَا بِصِيغَةِ "نِعْم" الَّتِي تَقْتَضِي مِنَ الْمَدْحِ مَا تَقْتَضِيهِ (¬6) صِيغَةُ التَّعَجُّبِ؛ لَوْ قَالَ: مَا أَحسنها مِنْ بِدْعَةٍ! وَذَلِكَ يُخْرِجُهَا قَطْعًا عَنْ كَوْنِهَا بِدْعَةً. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَرَى كَلَامُ أَبي أُمامة رضي الله عنه (¬7) مستشهداً ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2010) من حديث عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ قال: خرجت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئٍ واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أُبَيّ بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد: آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله. اهـ. (¬2) يشير إلى حديث عائشة الذي أخرجه البخاري (729)، ومسلم (761) في قيامه صلّى الله عليه وسلّم في رمضان، وقيام أناس معه لما رأوه، فصنع ذلك ليلتين أو ثلاثاً، ثم لم يخرج لهم بعد ذلك، وقال: "إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل". (¬3) في (ر) و (غ): "منهم كثير". (¬4) في (خ): "وأنه". (¬5) في (خ): "واقعاً في أصله". (¬6) في (ر) و (غ): "يقتضيه". (¬7) الذي تقدم تخريجه (ص149).

بِالْآيَةِ حَيْثُ قَالَ: أَحدثتم قِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إِنما مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، ولأَجله قَالَ: فَدُومُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ بِدْعَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ لنَهى عَنْهُ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَجْرَيْنَا الكلام على ما نهى صلّى الله عليه وسلّم عَنْهُ مِنَ التعبُّد المخوِّفِ الحَرَجَ فِي الْمَآلِ؛ وَاسْتَسْهَلْنَا وَضْعَ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ؛ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِهَا وَوَضْعِهَا فِي الشَّرْعِ مَوَاضِعَهَا، حَتَّى لَا يغترَّ بِهَا مُغْتَرٌّ فيأْخذها عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَيَحْتَجَّ بِهَا عَلَى الْعَمَلِ بِالْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ قِيَاسًا عَلَيْهَا، وَلَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وإِنما تجشَّمنا إِطلاق اللَّفْظِ هُنَا؛ وكان ينبغي أَن لا نفعل (¬1) لولا الضرورة؛ وبالله التوفيق. ¬

(¬1) في (خ) و (م): "لا يفعل".

فصل

فصل قال الله تبارك (¬1) وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ *} (¬2). رُوِيَ (¬3) فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَخبار (¬4) جُمْلَتُهَا تَدُورُ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ تَحْرِيمُ مَا أَحل اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ تديُّناً، أَو شبه التديُّن، وأَن (¬5) الله (¬6) نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ اعْتِدَاءً، وَاللَّهُ لَا يحب المعتدين. ثم قرّر الإباحة تقريراً زائداً عَلَى مَا تَقَرَّرَ بِقَوْلِهِ (¬7): {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا}، ثُمَّ أَمرهم بِالتَّقْوَى، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بأَن تَحْرِيمَ مَا أَحل اللَّهُ خَارِجٌ عَنْ دَرَجَةِ التَّقْوَى. فخرَّج إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ حَدِيثِ أَبي قِلَابَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَراد نَاسٌ مِنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يَرْفُضُوا الدُّنْيَا، ويتركوا (¬8) النساءَ، ويترهَّبوا (¬9)، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغلَّظ فِيهِمُ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ: "إِنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ؛ شدَّدوا عَلَى أَنفسهم، فشدَّد اللَّهُ عَلَيْهِمْ (¬10)، فأُولئك بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ، اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وحُجّوا، واعتمروا، واستقيموا يُسْتَقَمْ (¬11) بكم" (¬12). قال: ونزلت فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬

(¬1) قوله: "تبارك" من (ر) فقط. (¬2) سورة المائدة: الآيتان (87، 88). (¬3) قوله: "روي" في موضعه بياض في (غ). (¬4) سيذكرها المصنف فيما يلي. (¬5) قوله: "وأن" ليس في (خ) و (م). (¬6) في (خ) و (م): "والله". (¬7) في (غ) و (ر): "لقوله". (¬8) في (خ) و (م): "وتركوا". (¬9) في (خ) و (م): "وترهبوا". (¬10) في (ر) و (غ): "فشدد عليهم". (¬11) في (خ) و (م): "يستقيم". (¬12) قوله: "بكم" سقط من (غ) و (ر).

آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (¬1). ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 192)، والمروزي في "زياداته على الزهد" (ص365 رقم 1031)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (4/ 18 رقم 3224)، و (10/ 515 رقم 12341)، ثلاثتهم من طريق أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، به، مرسلاً. وسنده ضعيف لإرساله، وضعفه الطبري فقال عقب روايته له ولغيره من الأحاديث: "فإن هذه أخبار لا يثبت بمثلها في الدين حجة؛ لِوَهْي أسانيدها". وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" (7/ 216 رقم 6897) من طريق عمران القطان، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة؛ قال: قال رسول الله (ص): "أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا واعتمروا، واستقيموا يُستقم بكم". وقد جوّد إسناده المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 584 رقم 1105)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 202): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط والصغير، وفي إسناده عمران القطان، وقد استشهد به البخاري، ووثقه أحمد وابن حبان، وضعفه آخرون". ومع ما في عمران القطان من جرح، فإن الحديث من رواية الحسن البصري عن سمرة، وهو لم يسمع منه إلا أحاديث معروفة، وليس هذا منها. وأخرج البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 97)، والطبراني في "الكبير" (6/ 73 رقم 5551)، والبيهقي في "الشعب" (3884)، ثلاثتهم من طريق عبد الله بن صالح، عن أبي شريح، عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "لا تشددوا على أنفسكم، فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات". وفي سنده عبد الله بن صالح الجهني، أبو صالح المصري كاتب الليث، وهو صدوق، إلا أنه كثير الغلط، وهو ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة؛ كما في "التقريب" (3409). وأخرجه أبو داود في "سننه" (4868) من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء؛ أن سهل بن أبي أمامة حدثه: أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة؛ فقال أنس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدَّد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات {وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا}. وفي سنده سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء الكناني، المصري، وهو مقبول كما في "التقريب" (2366)، وتقدم الحديث والكلام عنه (ص27 ـ 28). وأخشى أن يكون هذا اختلافاً بين سعيد هذا وأبي شريح على سهل بن أبي أمامة، ولولاه لكان الحديث حسناً بمجموع هذه الطرق.=

وَفِي التِّرْمِذِيِّ (¬1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: إِن رَجُلًا أَتى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِني إِذا أَصَبْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ وأَخذتني شَهْوَتِي، فحرَّمت علَيّ اللَّحْمَ"، فأَنزل اللَّهُ الْآيَةَ. حَدِيثٌ حَسَنٌ (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ: أَبو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وعبد الله بن مَسْعُودٍ (¬3) وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعون والمِقْداد بْنُ الأَسود الكِنْدي وسالم مولى أَبي حذيفة رضي الله عنهم؛ اجْتَمَعُوا فِي دَارِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعون الجُمَحي، فتوافقوا أَن يَجُبّوا (¬4) أَنفسهم، وأَن (¬5) يَعْتَزِلُوا النِّسَاءَ، وَلَا يأْكلوا لَحْمًا وَلَا دَسَماً، وأَن يَلْبَسُوا المُسُوح (¬6)، وَلَا يأْكلوا مِنَ الطَّعَامِ إِلا قُوتاً، وأَن يَسِيحُوا فِي الأَرض كَهَيْئَةِ الرُّهْبَانِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم من أَمرهم، ¬

=وانظر تعليقي على الحديث رقم (771) من "سنن سعيد بن منصور"، وانظر (ص27 ـ 28 و154) من هذا المجلد. (¬1) أخرجه الترمذي برقم (3054)، والطبري (12350)، وابن أبي حاتم (6687)، والطبراني في الكبير (11/ 277 رقم 11981)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 170)، جميعهم من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن عثمان بن سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، به. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم من غير حديث عثمان بن سعد مرسلاً ليس فيه: عن ابن عباس. ورواه خالد الحذّاء عن عكرمة مرسلاً".اهـ. وعثمان بن سعد الكاتب ضعيف كما في "التقريب" (4503)، فالحديث ضعيف لأجله. ومع هذا فقد خالفه الثقة خالد الحذّاء، فرواه عن عكرمة مرسلاً، ليس فيه ذكر لابن عباس، وسيذكره المصنف (ص211). وقد أخرجه ابن جرير الطبري (12337 و12338 و12340 و12351)، وفصّلت الكلام عنه في تعليقي على الحديث رقم (771) من "سنن سعيد بن منصور". (¬2) القائل: "حديث حسن" هو الترمذي كما في التعليق السابق. (¬3) في (خ) و (م): "وابن مسعود". (¬4) أي: يقطعوا مذاكيرهم كما سيأتي في آخر الرواية. (¬5) في (خ) و (م): "بأن". (¬6) الْمُسُوح: الأكسية من الشعر. انظر: "لسان العرب" (2/ 596).

فأَتى عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فِي مَنْزِلِهِ فَلَمْ يجده في منزله (¬1)، وَلَا إِيَّاهُمْ، فَقَالَ لِامْرَأَةِ عُثْمَانَ ـ أُم حَكِيمٍ ابْنَةِ أَبي أُمية بْنِ حَارِثَةَ السُّلَمِيِّ ـ: "أَحقّ مَا بَلَغَنِي عَنْ زَوْجِكِ وأَصحابه؟ " قَالَتْ: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فأَخبرها، فَكَرِهَتْ أَن لَا تحدِّث (¬2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم حين سألها (¬3)، وكرهت أَن تبدي على زوجها، فقالت: يا رسول الله! (¬4) إِن كان أَخبرك عثمان فقد صدقك (¬5). فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُولِي لِزَوْجِكِ وأَصحابه إِذا رَجَعُوا: إِن رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ لَكُمْ: إِني آكُلُ وأَشرب، وَآكُلُ اللَّحْمَ والدَّسَم، وأَنام، وَآتِي النساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". فَلَمَّا رَجَعَ عثمان وأَصحابه أَخبرته (¬6) امرأَته بِمَا أَمر بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: لَقَدْ بَلَغَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمرُنا فَمَا أَعجبه، فذَرُوْا مَا كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، ونزل فيهم (¬7): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ـ قَالَ: مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ ـ {وَلاَ تَعْتَدُوا} ـ قَالَ: فِي قَطْعِ الْمَذَاكِيرِ ـ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}؛ قال: الحلال (¬8) إلى الحرام (¬9). ¬

(¬1) في (خ): "فلم يجده فيه". (¬2) في (ر) و (غ): "أن تحدث". (¬3) قوله: "حين سألها" ليس في (خ) و (م). (¬4) قوله: "يا رسول الله" ليس في (خ) و (م). (¬5) في (خ): "صدق". (¬6) في (خ): "أخبرتهم". (¬7) في (خ) و (م): "فيها". (¬8) في (م): "الجدال". (¬9) هذا الحديث أورده القرطبي في "تفسيره" (2/ 19)، ولم يعزه لأحد. ولم أجد أحداً أخرج هذا الحديث بهذا السياق، وفيه ذكر أن اسم زوجة عثمان: أم حكيم ابنة أبي أمية. ولكن ذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (13/ 196) أن هذه رواية الكلبي في "تفسيره"، عن أبي صالح، عن ابن عباس. والكلبي هذا هو محمد بن السائب، وهو متهم بالكذب، ورمي بالرفض كما في "التقريب" (5938). ومع ذلك فهو يروي عن أبي صالح باذام، وقد روى ابن عدي في "الكامل" (2/ 69) عن سفيان الثوري؛ قال: قال لي الكلبي: قال لي أبو صالح: "كل ما حدثتك كذب". فهو كذب علي أي الحالين: إن صدق الكلبي في هذا أو كذب.

وَفِي الصَّحِيحِ (¬1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلا نَخْتَصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ؛ فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَن نتزوج المرأَة بالثوب (¬2) ـ يَعْنِي وَاللَّهُ أَعلم: نِكَاحَ الْمُتْعَةِ (¬3) الْمَنْسُوخَ ـ، ثُمَّ قرأَ (¬4) ابن مسعود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. وَذَكَرَ إِسماعيل عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَر: أَن عثمان بن مَظْعون رضي الله عنه همَّ بِالسِّيَاحَةِ، وَهُوَ يَصُومُ (¬5) النَّهَارَ، وَيَقُومُ (¬6) اللَّيْلَ، وَكَانَتِ امرأَته امرأَةً عَطِرَةً، فَتَرَكَتِ الكُحْل والخِضَاب، فَقَالَتْ لَهَا امرأَة مِنْ أَزواج النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم: أَمُشْهِدٌ (¬7) أَنت أَم مُغِيب (¬8)؟ فقالت: بل مُشْهِد (¬9)، غَيْرَ أَن عُثْمَانَ لَا يُرِيدُ النساءَ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له (¬10): "يا عثمان (¬11)! أَتؤْمن بِمَا نؤْمن (¬12) بِهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَاصْنَعْ مِثْلَ مَا نَصْنَعُ" (¬13)، {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية (¬14). ¬

(¬1) تقدم تخريجه (ص28). (¬2) زاد رشيد رضا هنا قوله: "إلى أجل"، وعلق عليه بقوله: سقط من نسختنا فقط "إلى أجل"، وهو ثابت في "الصحيح".اهـ. (¬3) قوله: "المتعة" ثابت في نسخة (خ) التي اعتمد عليها رشيد رضا، ومع ذلك علق على هذا الموضع بقوله: سقط لفظ "المتعة" من نسختنا، ولا يصح المعنى بدونه. اهـ. (¬4) في (م): "ثم قال قرأ". (¬5) في (ر) و (غ): "صوم". (¬6) في (ر) و (غ): "وقيام". (¬7) في (خ): "أشهيد"، وفي (م): "أشهد". (¬8) امرأة مُشهِد: إذا كان زوجها حاضراً عندها، وامرأة مُغيب: إذا كان زوجها غائباً عنها. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 515). (¬9) في (خ): "شهيد" وفي (م): "شهد". (¬10) قوله: "فقال له" سقط من (م)، وقوله: "له" ليس في (غ) و (ر). (¬11) قوله: "يا عثمان" ليس في (خ) و (م). (¬12) في (غ): "تؤمن". (¬13) في (م): "تصنع". (¬14) كذا ذكر المصنف عن إسماعيل بن إسحاق أنه رواه من طريق يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ ... ، فذكره مرسلاً. ولم أجد رواية إسماعيل بن إسحاق هذه. لكن الحديث أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 106) من طريق مؤمّل بن=

وخرَّج سعيد بن منصور (¬1) عن حصين (¬2)، عَنْ أَبي مَالِكٍ (¬3)؛ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وأَصحابه؛ كَانُوا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ كَثِيرًا مِنَ الطَّعَامِ والنساءِ، وهمَّ بَعْضُهُمْ أَن يَقْطَعَ ذكره، فأَنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ} الآية. وعن عكرمة (¬4): قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم همّوا بترك النساء واللحم والخصاء، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ ... } الْآيَةَ (¬5). وَعَنْ قَتَادَةَ: قَالَ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ من أصحاب رسول الله (ص) أَرادوا أَن يتخلّوا من الدُّنْيَا (¬6)، وَتَرَكُوا (¬7) النساءَ وترهَّبوا (¬8)، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالب (¬9) وعثمان بن مظعون (¬10). ¬

=إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر وأبي فاختة، عن عائشة، به. وسنده ضعيف لضعف مؤمل من قبل حفظه. وانظر الأحاديث الآتية. (¬1) في "سننه" (4/ 1515 رقم 771). وأوضحت في تعليقي على الحديث هناك من أخرجه، وأنه ضعيف لإرساله، وذكرت له شواهد تدلّ على صحة معناه، فانظره إن شئت. (¬2) في (خ) و (م): "خضير". وهو: حصين بن عبد الرحمن السُّلَمي. (¬3) هو: غزوان الغفاري. (¬4) في (م): "فأنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} ". (¬5) قوله تعالى: "طيبات" من (غ) فقط. (¬6) صنيع المصنف هذا يوهم أن حديث عكرمة هذا أخرجه أيضاً سعيد بن منصور، وهو لم يخرجه. وتقدم تخريجه (ص208) في الكلام على حديث ابن عباس، وهو مرسل أيضاً. (¬7) من قوله: "وعن عكرمة" إلى هنا ليس في (خ) و (م). (¬8) في (خ): "عن الدنيا" وفي (غ): "من ذلك الدنيا". (¬9) في (غ): "ويترك"، وفي (ر): "ويتركوا". (¬10) في (ر) و (غ): "ويترهبوا". (¬11) قوله: "طالب" ليس في (م). (¬12) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 191 ـ 192) عن معمر، عن قتادة، به. ومن طريق عبد الرزاق وطريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (12342 و12344).=

وخرَّج ابْنُ الْمُبَارَكِ (¬1) أَن عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَتى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: ائذن لنا (¬2) فِي الاختصاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَصَى وَلَا اخْتَصَى (¬3)، إِن خصاءَ (¬4) أُمتي الصِّيَامُ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لنا فِي السِّيَاحَةِ، قَالَ: "إِن سِيَاحَةَ أُمتي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائذن لنا فِي الترهُّب (¬5)، قَالَ: "إِن ترهُّب أُمتي الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ (¬6) لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ". وَفِي الصَّحِيحِ (¬7): ردَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التبتُّل على عثمان بن مظعون، ولو أَذِنَ له لَاخْتَصَيْنَا (¬8). وَهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ فِي أَن جَمِيعَ هَذِهِ الأَشياء تَحْرِيمٌ لِمَا هُوَ حَلَالٌ فِي الشَّرْعِ، وإِهمال لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ إِعماله ـ وإِن كَانَ يَقْصِدُ سُلُوكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ ـ؛ لأَنه نَوْعٌ من الرهبانية، ولا رهبانية (¬9) في الإِسلام (¬10). ¬

=وسنده ضعيف لإرساله أيضاً. (¬1) في "الزهد" (845) من طريق رِشدين بن سعد، عن ابن أنعم، عن سعد بن مسعود: أن عثمان بن مظعون ... ، فذكره. وسنده ضعيف لإرساله، فسعد بن مسعود تابعي كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص71)، ورشدين بن سعد ضعيف كما في "التقريب" (1953). (¬2) في (خ): "لي". (¬3) علق رشيد رضا هنا بقوله: الذي نعرفه من الحديث: "أو اختصى".اهـ. (¬4) في (خ) و (م): "اختصاء". (¬5) في (ر) و (غ): "الترهيب". (¬6) قوله: "في المساجد" سقط من (غ) و (ر). (¬7) أخرجه البخاري (5073 و5074)، ومسلم (1402) من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (¬8) في (خ): "لاختصى". (¬9) قوله: "ولا رهبانية" ليس في (خ) و (م). (¬10) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 111): "وأما حديث: "لا رهبانية في الإسلام" فلم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني: "إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة"، وعن ابن عباس رفعه: "لا صرورة في الإسلام". أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم".اهـ. وفي (9/ 118) ذكر أن حديث: "إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة" أخرجه=

وإِلى مَنْعِ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ (¬1) ذَهَبَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ إِلا أَنه إِذا كَانَ التَّحْرِيمُ غير مَحْلوف عليه فلا كفَّارة فيه (¬2)، وإِن كَانَ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ، فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَيَعْمَلُ (¬3) الْحَالِفُ بِمَا أَحل اللَّهُ لَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ إِسماعيل الْقَاضِي عَنْ مَعْقِل بْنِ مُقَرِّن (¬4): أَنه سأَل ابن مسعود رضي الله عنه فقال: إِني حلفت على (¬5) أَن لَا أَنام عَلَى فِرَاشِي سَنَةً (¬6)، قَالَ (¬7): فتلا عبد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا ... } الْآيَةَ (¬8)، ادنُ فَكُلْ (¬9)، وكَفِّر (¬10) عَنْ يَمِينِكَ، ونَمْ على فراشك. وفي (¬11) رواية: أن معقلاً كان (¬12) يكثر الصوم والصلاة، فحلف أَن ¬

=الطبراني من طريق سعيد بن العاص، لا سعد بن أبي وقاص، وهذا هو الصحيح، والأول تصحيف. فالحديث أخرجه الطبراني (6/ 62 رقم 5519) من طريق إبراهيم بن زكريا، ثنا أبو أمية الطائفي، حدثني جدي، عن جده سعيد بن العاص: أن عثمان بن مظعون قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي فِي الاختصاء، فقال له: "يا عثمان! إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنفية السمحة، والتكبير على كل شَرَف، فإن كنت منا فاصنع كما نصنع". والحديث بهذا الإسناد ضعيف جداً؛ فيه إبراهيم بن زكريا العبدسي وهو ضعيف جداً؛ قال أبو حاتم: حديثه منكر، وقال ابن عدي: حدث بالبواطيل، وقال: يأتي عن مالك بأحاديث موضوعة. انظر: "لسان الميزان" (1/ 146 ـ 148). وانظر ما تقدم (ص27 ـ 28)، وتخريج حديث: "أحبّ الدين إلى الله الحنيفية السمحة" (ص151 ـ 152)، وانظر (ص101 ـ 102). (¬1) أي: على النفس كما صنع عثمان بن مظعون وأصحابه، وكما في قوله تعالى في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، وما ذكر في سبب نزولها. وأما تحريم الحلال المجمع عليه كحكم شرعي، فهذا كفر، وليس من هذا الباب؛ كما سينبه عليه المصنف (ص218 فما بعد). (¬2) قوله: "فيه" ليس في (خ). (¬3) في (ر) و (غ): "وليعمل". (¬4) قوله: "ابن مقرن" ليس في (خ)، وفي (غ) و (ر): "مغرق". (¬5) قوله: "على" ليس في (خ) و (م). (¬6) قوله: "سنة" سقط من (غ) و (ر). (¬7) قوله: "قال" ليس في (خ) و (م). (¬8) سورة المائدة: آية (87). (¬9) قوله: "ادن فكل" من (خ) فقط. (¬10) في (غ) و (ر) و (م): "كفر". (¬11) في (غ): "ففي". (¬12) في (خ): ""كان معقل"، وفي (م): "كان معقلاً".

لا ينام على فراشه، فأَتى عبد الله بن مسعود (¬1) رضي الله عنه فسأَله عَنْ ذَلِكَ؟ فقرأَ عَلَيْهِ الْآيَةَ (¬2). وَعَنِ مغيرة؛ قَالَ: قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ ـ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ـ: أَهو الرَّجُلُ يحرِّم الشيءَ مِمَّا أَحل اللَّهُ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ (¬3). وَعَنْ مَسْرُوقٍ؛ قَالَ: أُتِي عَبْدُ اللَّهِ (¬4) بضَرْع (¬5)، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوَا، فأَخذوا يَطْعَمُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِني حَرَّمت الضَّرْع (¬6). فَقَالَ عبد الله: هذا من (¬7) خطوات الشيطان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ (¬8) مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية (¬9)، ادنُ فكُلْ، وكفِّر عَنْ يَمِينِكَ (¬10). وَعَلَى ذَلِكَ جَرَّتِ الفُتيا فِي الإِسلام: أَن كُلَّ مَنْ حرَّم عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحل اللَّهُ لَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ بشيءٍ، فليأْكل إِن كان مأْكولاً، ¬

(¬1) في (خ) و (م): "فأتى ابن مسعود". (¬2) هو حديث صحيح أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (773)، فانظر تخريجه هناك إن شئت، وانظر معه رقم (772 و774). (¬3) أخرج ابن جرير الطبري في "تفسيره" (12339) من طريق شيخه سفيان بن وكيع، عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ـ؛ قال: كانوا حرّموا الطِّيب واللحم، فأنزل الله تعالى هذا فيهم. وسنده ضعيف جداً. فسفيان بن وكيع كان صدوقاً، إلا أنه ابتلي بورّاقه؛ فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه كما في "التقريب" (2469). ومغيرة بن مقسم ثقة متقن، إلا أنه كان يدلِّس؛ ولا سيّما عن إبراهيم كما في "التقريب" (6899)، وهذا من روايته عن إبراهيم. (¬4) أي: ابن مسعود. (¬5) الضَّرْع: هو الخِلْفُ، مَدَرُّ اللبن لكل ذات ظِلْفٍ أو خُفّ. انظر: "لسان العرب" (8/ 222 ـ 223). (¬6) في (ر) و (غ): "الزرع". (¬7) قوله: "من" ليس في (خ) و (م). (¬8) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (م). (¬9) قوله: "الآية" ليس في (خ). (¬10) أخرجه سعيد بن منصور (772) بسند صحيح، وقد استوفيت تخريجه هناك.

وَلْيَشْرَبْ إِن كَانَ مَشْرُوبًا، وَلْيَلْبَسْ إِن كَانَ مَلْبُوسًا، وَلْيَمْلِكْ إِن كَانَ مَمْلُوكًا. وكأَنه إِجماع مِنْهُمْ مَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ وأَبي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجَةِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَن التحريم طلاق كطلاق الثَّلَاثِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ (¬1) بَاطِلٌ (¬2)؛ لأَن الْقُرْآنَ شَهِدَ بِكَوْنِهِ اعْتِدَاءً، حَتَّى إِنه إِن حرم على نفسه وَطْءَ أَمته غير قاصد (¬3) بِهِ الْعِتْقَ، فَوَطْؤُهَا حَلَالٌ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَشياء: من اللباس والمسكن (¬4) والكلام (¬5) وَالصَّمْتِ وَالِاسْتِظْلَالِ والاسْتِضْحَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ (¬6) الْحَدِيثُ فِي النَّاذِرِ لِلصَّوْمِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ سَاكِتًا، فإِنه تَحْرِيمٌ لِلْجُلُوسِ، وَالِاسْتِظْلَالِ، وَالْكَلَامِ (¬7)، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمره بِالْجُلُوسِ وَالتَّكَلُّمِ وَالِاسْتِظْلَالِ. قَالَ مَالِكٌ (¬8): أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ (¬9) فيه طاعة، ويترك ما كان عليه فيه مَعْصِيَةٌ. فتأَملوا كَيْفَ جَعَلَ مَالِكٌ تَرْكَ الْحَلَالِ مَعْصِيَةً! وَهُوَ مُقْتَضَى الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا} الْآيَةَ، وَمُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ (¬10) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصَاحِبِ الضَّرْع: هَذَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ. وَقَدْ ضعَّف ابْنُ رُشْدٍ الحَفِيدُ (¬11) الِاسْتِدْلَالَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْحَدِيثِ، وَتَفْسِيرَ مَالِكٍ لَهُ، وَذَكَرَ أَن قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ: "وَيَتْرُكْ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ" لَيْسَ بِالظَّاهِرِ أَن تَرْكَ الْكَلَامِ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ أَخبر اللَّهُ تَعَالَى أَنه نَذْر مَرْيَمَ (¬12). قَالَ: وَكَذَلِكَ يُشْبِهُ أَن يَكُونَ الْقِيَامُ [في الشمس] (¬13) ليس ¬

(¬1) قوله: "فهو" ليس في (غ) و (ر). (¬2) في (ر) و (غ): "فباطل". (¬3) في (خ): "وطء أمة غيره قاصداً" وفي (م): "وطء أمة غيره قاصد". (¬4) قوله: "والمسكن" ليس في (غ). (¬5) قوله: "والكلام" ليس في (خ). (¬6) تقدم تخريجه (ص176). (¬7) في (خ): "والكلام والاستظلال". (¬8) في "الموطأ" (2/ 476) بنحو ما هنا. (¬9) في (خ) و (م): "أمره ليتم ما كان له". (¬10) المتقدم في الصفحة السابقة. (¬11) في "بداية المجتهد" (1/ 310). (¬12) في قوله تعالى في سورة مريم (26): {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}. (¬13) في جميع النسخ: "للشمس"، والمثبت من "بداية المجتهد".

بمعصية (¬1)، إِلا ما يتعلق بذلك (¬2) مِنْ جِهَةِ تَعَبِ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ، وَقَدْ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَن لَا يَسْتَظِلَّ (¬3). فإِن قِيلَ: فِيهِ معصية، فبالقياس عَلَى مَا نُهي عَنْهُ مِنَ التَّعَبِ، لَا بِالنَّصِّ، والأَصل فِيهِ أَنه مِنَ الْمُبَاحَاتِ. وَمَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَلَمْ يَقُلْ مَالِكٌ فِي الْحَدِيثِ مَا قَالَ اسْتِنْبَاطًا مِنْهُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنه اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ المتكلَّم فِيهَا، وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَيْهَا، فَتَرْكُ الْكَلَامِ ـ وإِن كَانَ في الشرائع الأُوَل مَشْرُوعًا ـ، فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ عَمَلٌ فِي مَشْرُوعٍ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ. وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ فِي الشمس زيادة في العبادة (¬4) مِنْ بَابِ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وإِن استُحبّ فِي موضعٍ، فلا يلزم استحبابه في آخر. ¬

(¬1) في (خ) و (م): "معصية"، والمثبت من (غ) و (ر)، وهو موافق لما في "بداية المجتهد". (¬2) قوله: "بذلك" ليس في (خ). (¬3) هذا الاستحباب يحتاج إلى دليل يدل عليه، ولا أعلم في ذلك دليلاً. (¬4) قوله: "في العبادة" ليس في (خ) و (م).

فصل

فَصْلٌ وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مَسَائِلُ إِحْدَاهَا (¬1): أَن تحريم الحلال وما أَشبه ذلك يُتَصَوَّر على (¬2) أَوجه: الأَول: التَّحْرِيمُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ الْوَاقِعُ مِنَ الْكُفَّارِ، كالبَحِيْرَةِ، والسَّائِبَةِ، والوَصِيْلَةِ، والحَامِي، وَجَمِيعِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تحريمَه عَنِ الْكَفَّارِ بالرأْي المَحْض. ومنه قول الله تبارك وتعالى (¬3): {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (¬4)، وَمَا أَشبهه مِنَ التَّحْرِيمِ الْوَاقِعِ فِي الإِسلام رأْياً مجرَّداً. والثاني (¬5): أَن يَكُونَ مجرَّدَ تركٍ لَا لِغَرَضٍ؛ بَلْ لأَن النفس تكرهه بطبعها، أَو لا تتذكَّره (¬6) حَتَّى تَسْتَعْمِلَهُ، أَو لَا تَجِدُ ثَمَنَهُ، أَو تشتغل بما هو آكد منه (¬7)، أَو ما (¬8) أَشبه ذَلِكَ. وَمِنْهُ تَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَكل الضَّبّ لِقَوْلِهِ فِيهِ: "إِنه لَمْ يَكُنْ بأَرض قَوْمِي، فأَجدني أَعافه" (¬9)، وَلَا يُسَمّى مِثْلُ هَذَا تَحْرِيمًا؛ لأَن التَّحْرِيمَ يَسْتَلْزِمُ القصد إِليه، وهذا ليس كذلك. والثالث (¬10): أَن يَمْتَنِعَ لنَذْرهِ التحريمَ، أَو مَا يَجْرِي مجرى النذر من ¬

(¬1) في (خ): "أحدهما"، وفي (م): "أحدها". (¬2) في (خ): "في" بدل "على". (¬3) في (خ): "ومنه قوله تعالى"، وفي (م): "ومنه قول الله تعالى". (¬4) سورة النحل: الآية (116). (¬5) في (خ) و (م): "الثاني". (¬6) في (خ): "تكرهه". (¬7) قوله: "منه" ليس في (خ) و (م). (¬8) في (خ): "وما". (¬9) أخرجه البخاري (5391 و5537)، ومسلم (1945 و1946). (¬10) في (خ) و (م): "الثالث".

الْعَزِيمَةِ الْقَاطِعَةِ لِلْعُذْرِ، كَتَحْرِيمِ النَّوْمِ عَلَى الْفِرَاشِ سَنَةً، وَتَحْرِيمِ الضَّرْع، وَتَحْرِيمِ الِادِّخَارِ لغدٍ، وَتَحْرِيمِ الليِّن من الطعام واللباس، وتحريم الوَطْءِ أو (¬1) الاسْتِلْذاذ بالنساءِ في الجملة، وما أَشبه ذلك. والرابع (¬2): أَن يَحْلِفَ عَلَى بَعْضِ الْحَلَالِ أَن لَا يَفْعَلَهُ؛ وَمِثْلُهُ قَدْ يُسَمَّى تَحْرِيمًا. قَالَ إِسماعيل الْقَاضِي: إِذا قَالَ الرَّجُلُ لأَمته (¬3): وَاللَّهِ لَا أَقربك (¬4)! فَقَدْ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْيَمِينِ، فإِذا غَشِيَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. وأَتى بِمَسْأَلَةِ ابْنِ مُقَرِّن فِي سُؤَالِهِ ابنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذ قَالَ: إِني حَلَفْتُ أَن لَا أَنام عَلَى فِرَاشِي سَنَةً. قَالَ: فَتَلَا عبد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (¬5) الْآيَةَ، وَقَالَ لَهُ (¬6): كَفِّر عَنْ يَمِينِكَ، وَنَمْ عَلَى فِرَاشِكَ (¬7). فأَمره أَن لَا يحرِّم مَا أَحلّ اللَّهُ لَهُ (¬8)، وأَن يكفِّر مِنْ أَجل الْيَمِينِ. فَهَذَا الإِطلاق يَقْتَضِي أَنه نَوْعٌ مِنَ التَّحْرِيمِ، وَلَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ؛ فَقَدْ أَشار إِسْمَاعِيلُ (¬9) إِلى أَن الرَّجُلَ كَانَ إِذا حَلَفَ أَن لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، حَتَّى نَزَلَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فلأجل (¬10) ما كان قَبْلُ من التحريم ـ وإن (¬11) وردت الكفارة ـ يُسَمَّى (¬12) تَحْرِيمًا، وَمِنْ ثَمَّ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ سُمِّيت كَفّارة. المسأَلة (¬13) الثَّانِيَةُ (¬14): أَن الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا يَنْظُرُ فِيهَا عَلَى أَي مَعْنًى يُطلق التَّحْرِيمُ مِنْ تلك المعاني (¬15). ¬

(¬1) في (خ): "و". (¬2) في (خ) و (م): "الرابع". (¬3) من هنا سقط من نسخة (غ) ورقة واحدة. (¬4) في (خ): "أقربها". (¬5) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (م) و (ر). (¬6) سورة المائدة: الآية (87). (¬7) قوله: "وقال له" سقط من (م) و (ر). (¬8) تقدم تخريجه (ص 213 ـ 214). (¬9) قوله: "له" سقط من (م). (¬10) في (خ): "إليه إسماعيل"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل "إليه" زائدة، إلا أن يكون في الكلام حذف بعد كلمة "إسماعيل".اهـ. (¬11) في (خ): "لأجل". (¬12) في (خ): "ولما". (¬13) في (خ): "سمي". (¬14) قوله: "المسألة" من (خ) فقط. (¬15) في (ر) و (م): "والثانية". (¬16) قوله: "من تلك المعاني" سقط من (خ).

أَما الأَوّل: فلا مدخل له ها هنا؛ لأَن التَّحْرِيمَ تَشْرِيعٌ كَالتَّحْلِيلِ، وَالتَّشْرِيعُ لَيْسَ إِلا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ، اللَّهُمَّ إِلا أَن يُدْخِلَ مبتدعٌ رأْياً كَانَ مِنْ أَهل الْجَاهِلِيَّةِ، أَو مِنْ أَهل الإِسلام؛ فَهَذَا أَمر آخَرُ يُجَلُّ السلفُ الصَّالِحُ عَنْ مِثْلِهِ؛ فَضْلًا عَنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُصُوصِ. وَقَدْ وَقَعَ للمُهَلَّب (¬1) فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مَا قَدْ يُشعر بأَن الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ التَّحْرِيمُ بِالْمَعْنَى الأَول، فَقَالَ: التَّحْرِيمُ إِنما هُوَ لِلَّهِ ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، فَلَا (¬2) يحلُّ لأَحد أَن يحرِّم شَيْئًا، وَقَدْ وَبَّخَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (¬3)، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الاعتداءِ. وَقَالَ: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا (¬4) تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (¬5). قَالَ: فَهَذَا كلُّه حُجَّة فِي أَن تَحْرِيمَ النَّاسِ لَيْسَ بشيءٍ. وَمَا قَالَهُ المُهَلَّب يردُّه السبب في نزول الآية، وليس فيه ما يُشْعِرُ بهذا المعنى، وإنما نصّت الأسباب على التحريم بالمعنى الثالث (¬6) كَمَا تَقَرَّرَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدِّ المُحرِّمُ الحكمَ لِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ شأْن التَّحْرِيمِ بِالْمَعْنَى الأَول، فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَى المحرِّمِ دُونَ غَيْرِهِ. وأَما التَّحْرِيمُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي: فَلَا حَرَجَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لأَن بَوَاعِثَ النُّفُوسِ عَلَى الشَّيْءِ أَو صوارفها (¬7) عنه لا تنضبط لقانون (¬8) معلوم، فقد يمتنع الإِنسان من الحلال لأَلَمٍ (¬9) يَجِدُهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ، كَكَثِيرٍ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ مِنْ شُرْبِ الْعَسَلِ لوَجَعٍ يَعْتريه بِهِ، حَتَّى يحرِّمه على نفسه، لا بمعنى التحريم ¬

(¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 372). (¬2) في (ر): "قال لا" بدل "فلا". (¬3) سورة المائدة: الآية (87). (¬4) سورة النحل: الآية (116). (¬5) في (خ): "لم". (¬6) من قوله: "فيه ما يشعر بهذا" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬7) في (خ): "أو صارفها"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل في الأصل: "أو صوارفها"؛ ليناسب جميع البواعث. اهـ. (¬8) في (خ): "بقانون". (¬9) في (خ): "لأمر" بدل "لألم".

الأَول، وَلَا الثَّالِثِ، بَلْ بِمَعْنَى التوقِّي مِنْهُ كما يتوقَّى (¬1) سائر المُؤْلِمات. ويدخل ها هنا بِالْمَعْنَى امْتِنَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَكل الثُّومِ؛ لأَنه كَانَ يُنَاجِي الْمَلَائِكَةَ (¬2)، وهي تتأَذَّى من رائحته (¬3)، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تُكْرَهُ (¬4) رَائِحَتُهُ. وَلَعَلَّ هَذَا الْمَحْمَلَ (¬5) أَولى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِن الثُّومَ وَنَحْوَهُ (¬6) كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ (¬7) بِالْمَعْنَى المُخْتَصّ بِالشَّارِعِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَعْنَى الآية (¬8). وأَما التحريم بالمعنى الرَّابِعِ فَيُحْتَمَلُ أَن يَدْخُلَ فِي عِبَارَةِ التَّحْرِيمِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (¬9) قَدْ (¬10) شَمِلَ التَّحْرِيمَ بِالنَّذْرِ، وَالتَّحْرِيمَ بِالْيَمِينِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: ذِكْرُ الْكَفَّارَةِ (¬11) بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (¬12) إلى آخرها. وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنه كَانَ تَحْرِيمًا مجرَّداً قَبْلَ نُزُولِ الْكَفَّارَةِ، وأَن جَمَاعَةً مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قالوا في قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬13): إِن التَّحْرِيمَ كَانَ بِالْيَمِينِ حِينَ حَلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن لَا يَشْرَبَ العسل (¬14)، وسيأْتي ذكر ذلك بحول الله تعالى. فإِن قِيلَ: هَلْ يَكُونُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِني إِذا أَصبت اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ للنساءِ (¬15) ... ، الْحَدِيثَ: مِنْ قَبِيلِ التحريم الثاني لا من ¬

(¬1) في (خ): "تتوقى". (¬2) أخرجه البخاري (855)، ومسلم (564). (¬3) في (ر) و (م): "رائحتها". (¬4) في (ر): "وكذلك سائر ما تكره". (¬5) في (خ) و (م): "المحل". (¬6) في (ر) و (م): "ونحوها". (¬7) قال الحافظ في "الفتح" (9/ 575): واختُلف في حقه هو صلّى الله عليه وسلّم، فقيل: كان ذلك محرماً عليه، والأصح أنه مكروه لعموم قوله: "لا" في جواب: "أحرام هو" اهـ. (¬8) في (خ): "الأمر" بدل: "الآية". (¬9) سورة المائدة: الآية (87). (¬10) في (م): "فقد". (¬11) في (خ): "الكفار". (¬12) سورة المائدة: الآية (89). (¬13) سورة التحريم: الآية (1). (¬14) أخرجه البخاري (4912)، ومسلم (1474). (¬15) تقدم تخريجه (ص208).

الثَّالِثِ؛ لأَن الرَّجُلَ قَدْ يُحَرِّمُ الشيءَ لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا أَنه لَيْسَ بتحريم في الحقيقة (¬1)، فكذلك ها هنا لَا يُرِيدُ بِالتَّحْرِيمِ النَّذْرَ (¬2)، بَلْ يُرِيدُ بِهِ التَّوَقِّي خاصة (¬3)؛ أَي: إِني أَخاف عَلَى نَفْسِي العَنَتَ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ هُوَ مَقْصُودَ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فَالْجَوَابُ: أَن مَنْ يَلْحَقُه الضرر وقتاً مّا بِتَناول شيءٍ (¬4)، يُمْكِنُهُ أَن يُمسك عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ؛ إِذ التارك (¬5) لأَمر لَا يَلْزَمُهُ أَن يَكُونَ محرِّماً لَهُ، فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ تَرَكَ (¬6) الطَّعَامَ الْفُلَانِيَّ، أَو النكاح لأَنه في الْوَقْتِ (¬7) لَا يَشْتَهِيهِ، أَو لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَعذار، حَتَّى إِذا زَالَ عُذْرُهُ تَنَاوُلَ مِنْهُ، وقد ترك صلّى الله عليه وسلّم أَكل الضَّبّ (¬8)، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِتَحْرِيمِهِ له (¬9). وَالدَّلِيلُ عَلَى أَن الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيمِ الظَّاهِرُ، وأَنه لَا يَصِحُّ ـ وإِن كَانَ لِعُذْرٍ ـ (¬10): أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ، فَلَوْ كَانَ وُجُودُ مِثْلِ تِلْكَ الأَعذار مُبِيحًا لِلتَّحْرِيمِ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ لَوَقَعَ التَّفْصِيلُ فِي الْآيَةِ بالنسبة إِلى من حرَّم لعذر أَو لغير عُذْرٍ. وأَيضاً فإِن الِانْتِشَارَ لِلنِّسَاءِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ؛ فإِن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الباءَة فَلْيَتَزَوَّجْ" (¬11) الْحَدِيثَ؛ فإِذا أَحب الإِنسان قضاءَ الشَّهْوَةِ تَزَوَّجَ فَحَصَلَ لَهُ مَا فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةً إِلى النَّسْل الْمَطْلُوبِ فِي المِلَّة؛ فكأَن مُحرِّم مَا يَحْصُلُ بِهِ الانتشار ساعٍ في التشبه بالرهبانية، فكان (¬12) ذَلِكَ مُنْتَفِيًا (¬13) عَنِ الإِسلام كَسَائِرِ مَا ذُكر في الآية. ¬

(¬1) في (خ): "ليس بتحريم حقيقة". (¬2) في (ر): "التدين" بدل "النذر". (¬3) قوله: "خاصه" سقط من (خ). (¬4) في (خ): "وقت ما يتناول شيئاً". (¬5) في (خ): "والتارك" بدل "إذ التارك". (¬6) في (ر): "يترك". (¬7) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعل الأصل: "في ذلك الوقت"؛ أي الذي ترك فيه ما ذُكر. اهـ. (¬8) تقدم تخريجه قريباً (ص217). (¬9) قوله: "له" من (ر) فقط. (¬10) في (خ): "تقدم" بدل "لعذر". (¬11) أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400). (¬12) في (خ): "وكان". (¬13) في (ر): "منهياً".

والمسألة (¬1) الثالثة (¬2): أَن هَذِهِ الْآيَةَ يُشْكِلُ مَعْنَاهَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} (¬3) الْآيَةَ، فإِن اللَّهَ أَخبر عَنْ نَبِيٍّ مِنْ أَنبيائه ـ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ أَنه حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ حَلَالًا، فَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ (¬4) مِثْلِهِ. وَالْجَوَابُ: أَنه لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ؛ لأَن مَا تَقَدَّمَ يُقَرِّرُ أَن لَا تَحْرِيمَ فِي الإِسلام، فَيَبْقَى مَا كَانَ شَرْعًا لِغَيْرِنَا مَنْفِيًّا، عَنْ شَرْعِنَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأُصول. خرَّج الْقَاضِي إِسماعيل وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: أَن إِسرائيل ـ وهو يعقوب النبي (¬5) عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ أَخذه عِرْقُ النَّسَا (¬6)، فَكَانَ يَبِيتُ وله (¬7) زُقَاءٌ (¬8)، فجعل عليه إِن شفاه الله لَيُحَرِّمَنَّ عليه الْعُرُوقَ، وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ. قَالُوا: فَلِذَلِكَ تَسُلّ (¬9) اليهود العروق (¬10)؛ أن (¬11) لا يأكلوها (¬12). وَفِي رِوَايَةٍ: جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَن لَا يأْكل لحوم الإِبل. قال (¬13): فحرَّمته اليهود (¬14). ¬

(¬1) قوله: "والمسألة" ليس في (م) و (ر). (¬2) في (ر) و (م): "والثالثة". (¬3) سورة آل عمران: الآية (93). (¬4) إلى هنا انتهى سقط الورقة من (غ). (¬5) في (خ) و (م): "أن إسرائيل النبي يعقوب". (¬6) النَّسا: على وزن عصا: عرق من الوَرك إلى الكعب، والأفصح أن يقال له: "النَّسا" لا: "عرق النَّسا". انظر: "لسان العرب" (15/ 321). (¬7) في (م) و (خ): "وعليه". (¬8) زُقاءٌ: أي: صياح كما جاء مُصَرَّحاً به في بعض الطرق. (¬9) في (خ): "نسل". (¬10) قوله: "العروق" سقط من (خ) و (م). (¬11) قوله: "أن" ليس في (خ). (¬12) في (خ) "لا يأكلونها". (¬13) قوله: "قال" ليس في (غ) و (ر). (¬14) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 126)، ويزيد بن هارون في كتاب "النكاح" كما في "الفتح" (9/ 372) ومن ـ طريقه البيهقي (10/ 8) ـ، وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (3/ 1067) رقم (508)، والطبري في "تفسيره" (7/ 10 ـ 12) من طرق عن ابن عباس، به. وسنده صحيح كما بينته في تعليقي على "سنن سعيد بن منصور"، وقد صححه الحافظ ابن حجر في الموضع السابق من "الفتح".

وَعَنِ الكَلْبي (¬1): أَن يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنِ اللهُ شَفَاني لأُحَرِّمَنَّ أَطيبَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ـ أَو قال: أَحبَّ الطعام والشراب (¬2) ـ إِليَّ. فَحَرَّمَ لُحُومَ الإِبل وأَلبانها. قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي نَحْسَبُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ: أَن إِسرائيل حِينَ حرَّم على نفسه ما حرَّم من الحلال (¬3) لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ، وأَنهم كَانُوا إِذا حرَّموا عَلَى أَنفسهم شيئاً من الحلال حُرِّم عليهم، كما كان الحالف إِذا حلف أَلاّ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ (¬4) لَمْ يَجُزْ لَهُ (¬5) أَن يفعله (¬6)، حَتَّى نَزَلَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬7). وَالْحَالِفُ إِذا حَلَفَ عَلَى شيءٍ وَلَمْ يَقُلْ: "إِن شاءَ اللَّهُ" كَانَ بِالْخِيَارِ، إِن شاءَ فَعَلَ وكَفَّر، وإِن شاءَ لَمْ يَفْعَلْ. قَالَ: وَهَذِهِ الأَشياءُ (¬8) وَمَا أَشبهها مِنَ الشَّرَائِعِ يَكُونُ فِيهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، فَكَانَ النَّاسِخُ فِي هَذَا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (¬9). قَالَ: فَلَمَّا وَقَعَ النهيُ لَمْ يَجُزْ للإِنسان أَن يَقُولَ: الطَّعَامُ عليَّ حَرَامٌ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِنَ الْحَلَالِ. فإِن قَالَ إِنسان شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ بَاطِلًا، وإِن حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِاللَّهِ كَانَ لَهُ أَن يَأْتيَ الذي هو خير، ويُكَفِّر عن يمينه. والمسألة (¬10) الرَّابِعَةُ (¬11): أَن نَقُولَ: مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ: قَوْلُهُ تعالى: ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 126). والكلبي هو: محمد بن السائب، متهم بالكذب، ورمي بالرفض كما في "التقريب" (5938). قال الطبري بعد أن ذكر الأقوال في تفسير الآية: "وأولى هذه الأقوال بالصواب: قول ابن عباس الذي رواه الأعمش، عن حبيب، عن سعيد، عنه: أن ذلك العروق ولحوم الإبل ... ". انظر: "تفسير الطبري" (7/ 15). (¬2) في (خ): "أو الشراب". (¬3) في (خ): "على نفسه من الحلال ما حرم". (¬4) من قوله: "حرم عليهم" إلى هنا سقط من (خ). (¬5) في (خ): "لهم". (¬6) في (خ) و (م): "يفعلوه". (¬7) سورة التحريم: الآية (2). (¬8) قوله: "الأشياء" سقط من (غ) و (ر). (¬9) سورة المائدة: الآية (87). (¬10) قوله: "والمسألة" من (خ) فقط. (¬11) في (ر) و (غ) و (م): "والرابعة".

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬1) الآية؛ لأن (¬2) فِيهَا (¬3) إِخباراً (¬4) بأَنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّم عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحلَّه اللَّهُ (¬5)؛ وَقَدْ نَزَلَ (¬6) عَلَيْهِ: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (¬7). وَمِثْلُ هَذَا يُجَلُّ مَقَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِيهِ، وأَن يكون منهيّاً عن شيء (¬8) هو اعتداء (¬9) ثُمَّ يأْتيه، حَتَّى يُقَالَ لَهُ فِيهِ: لِمَ تفعل؟ فلا بد من النظر في هذا (¬10) الْمُعَارِض (¬11). وَالْجَوَابُ: أَن آيَةَ التَّحْرِيمِ إِن كَانَتْ هِيَ السابقةَ عَلَى آيَةِ العُقُود، فَظَاهِرٌ أَنها مُخْتَصَّة بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذ لَوْ أُريد: الأُمّة ـ على قول من قال به (¬12) مِنَ الأُصوليين ـ لَقَالَ: لِم تُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ؟ كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (¬13) الْآيَةَ، وَهُوَ بَيِّن؛ لأَن سُورَةَ التَّحْرِيمِ قَبْلَ آية الأَحزاب، ولذلك لَمَّا آلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا بِسَبَبِ هَذِهِ الْقِصَّةِ نَزَلَ عليه في سورة الأَحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ (¬14) تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *} (¬15) إلى آخرها (¬16). وأَيضاً فيُحتمل أَن يكون التحريم بمعنى الحلف على أَن لا ¬

(¬1) سورة التحريم: الآية (1). (¬2) في (خ) و (م): "فإن". (¬3) في (غ): "فيه". (¬4) في (خ): "إخبار". (¬5) في (غ) و (ر): "ما أُحلّ له". (¬6) في (خ): "يدل". (¬7) سورة المائدة: الآية (87). (¬8) قوله: "شيء" سقط من (م). (¬9) في (خ): "وأن يكون منهياً عنه اعتداء". (¬10) في (خ): "هذه". (¬11) في (خ) و (م): "المصارف" بدل "المعارض". (¬12) قوله: "به" سقط من (خ). (¬13) سورة الطلاق: الآية (1). (¬14) إلى هنا انتهت الآية في (خ) و (م). (¬15) سورة الأحزاب: الآية (28). (¬16) في (خ): "إلخ" بدل "إلى آخرها". وحديث التخيير أخرجه البخاري (4785)، ومسلم (1475) من حديث عائشة رضي الله عنها؛ قالت: لما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: "إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك". قالت: قد علم أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: "إن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا *} =

يَفْعَلَ، وَالْحَلِفُ إِذا وَقَعَ فَصَاحِبُهُ مُخَيّر بَيْنَ أَن يَتْرُكَ المَحْلوف عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَن يَفْعَلَهُ ويُكَفِّر. وَقَدْ جاءَ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬1)، فدل على أَنه كان يميناً حَلَفَ صلّى الله عليه وسلّم بِهَا. وَذَلِكَ أَن النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا التحريم، فقال جماعة: إِنه كَانَ تَحْرِيمًا لأُم وَلَدِهِ مَارِيَةَ القِبْطِيَّة (¬2) ـ بِنَاءً على أَن الآية نزلت في شأْنها، ¬

= [الأحزاب: 28، 29]. قالت: فقلت: في أيِّ هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما فعلت. وأخرج البخاري أيضاً (2468)، ومسلم (1479) قصة الإيلاء بطولها من رواية ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. (¬1) سورة التحريم: الآية (2). (¬2) جاء ذلك عن جمع من الصحابة؛ منهم ابن عباس، وعمر، وأبو هريرة، وأنس رضي الله عنهم. 1 ـ أما حديث ابن عباس: فأخرجه البزار (2274/كشف الأستار)، والطبراني في "الكبير" (11/ 86)، والبيهقي (7/ 352) من طريق مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس، به. ومسلم هو: ابن كيسان الأعور ضعيف كما في "التقريب" (6685). وأخرجه البيهقي (7/ 353) من طريق الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، به. وإسناده مسلسل بالضعفاء. وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (8764)، وابن مردويه في "تفسيره" كما في "الفتح" (9/ 377 و289) من طريق سعيد بن أبي هلال، عن يزيد بن رومان، عن ابن عباس في قصة طويلة، وفيها الجمع بين ذكر العسل وذكر مارية في سبب النزول. والذي في "الصحيحين" ذكر العسل فحسب؛ على خلاف في التي سقت العسل للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وفي غيرهما ذكر مارية فحسب كما سيأتي. قال الحافظ: "رواته لا بأس بهم". لكن يزيد بن رومان لا يعرف له سماع من ابن عباس، وبين وفاتيهما أكثر من ستين سنة، وقد ذُكر في ترجمته أنه لم يسمع من أبي هريرة، ووفاة أبي هريرة قبل وفاة ابن عباس بنحو عشر سنين. وسعيد بن أبي هلال نقل الساجي عن أحمد أنه اختلط. وأخرجه ابن مردويه كما في "الفتح" (9/ 289) من طريق الضحاك، عن ابن عباس، وفيه زيادة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لحفصة: لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة: إن أباك يلي هذا الأمر بعد أبي بكر إذا أنا مِتّ.=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=والضحّاك لم يسمع من ابن عباس، ولذلك ضعفه الحافظ ابن حجر. 2 ـ وأما حديث عمر: فأخرجه الهيثم بن كليب في "مسنده"، ومن طريقه الضياء في "المختارة" (1/ 300)؛ قال: ثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، به. قال ابن كثير في "تفسيره" (8/ 186): إسناده صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "المستخرج". قلت: عبد الملك هذا قال فيه الدارقطني: لا يُحتج بما انفرد به. وقال أيضاً: صدوق، كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، كان يحدِّث من حفظه، فكثرت الأوهام منه. اهـ. ولعل هذا منها؛ فإن هذا الإسناد مما تتوافر الدواعي على تحصيله ونقله؛ ولو كان عند غيره لصاح به، فكيف يتفرد به؟ والله أعلم. وأخرجه الدارقطني في "سننه" (4/ 41 رقم 122) من طريق عبد الله بن شبيب، عن إسحاق بن محمد، عن عبد الله بن عمر، عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، ثم أخرجه بعده (4/ 42 رقم 123) من طريق عبد الله بن شبيب أيضاً، عن أحمد بن محمد بن عبد العزيز، عن كتاب أبيه، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، به. وفي إسنادهما عبد الله بن شبيب: واهٍ، قال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث. 3 ـ وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه الطبراني في "الأوسط" (2316)، والعقيلي في "الضعفاء (4/ 155)، كلاهما من طريق هشام بن إبراهيم المخزومي، عن موسى بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، مولاهم، عن عمه، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، به، وفيه ذكر أن الذي يلي الخلافة من بعده أبو بكر، ثم من بعده عمر. وفي سنده موسى بن جعفر، قال العقيلي: "مجهول بالنقل، لا يتابع على حديثه، ولا يصح إسناده، ولا يعرف إلا به". وذكره الذهبي في "الميزان" (8853) وقال: "لا يعرف، وخبره ساقط"، ثم ذكر الحديث، وقال: "قلت: هذا باطل"، وضعفه الحافظ في "الفتح" (9/ 289). 4 ـ وأما حديث أنس: فهو أمثلها، وقد أخرجه النسائي (7/ 71)، والضياء في "المختارة" (5/ 70) من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، به. وصححه الحافظ في "الفتح" (9/ 376) فقال: "وهو أصح طرق هذا السبب، وله شاهد مرسل أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم".=

وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: الْحَسَنُ، وَقَتَاَدَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ ـ، أَو كَانَ تَحْرِيمًا لِعَسَلِ زَيْنَبَ (¬1) ـ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ـ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنما كَانَ تَحْرِيمًا بِيَمِين. قَالَ إِسماعيل بْنُ إِسحاق: يُمْكِنُ أَن يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهَا ـ يَعْنِي جاريته ـ بيمين بالله (¬2)؛ لأَن الرَّجُلَ إِذا قَالَ لأَمته: وَاللَّهِ! لَا أَقْرَبُكِ، فَقَدْ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْيَمِينِ، فإِذا غَشِيَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفّارة الْيَمِينِ، ثُمَّ أَتى بمسأَلة ابْنِ مُقَرِّن (¬3). وَيُمْكِنُ أَن يَكُونَ السّببُ شُرْبَ العَسَلِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ (¬4) مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيج؛ قَالَ فيه: "بل (¬5) شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْش، فَلَنْ أَعُودَ لَهُ؛ وَقَدْ حَلَفْتُ، فَلَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحداً". وإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ فِي المسأَلة إِشكال. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَارِيَةِ وَالْعَسَلِ فِي الْحُكْمِ؛ لأَن تَحْرِيمَ الْجَارِيَةِ كَيْفَ مَا (¬6) كان؛ بمنزلة تحريم ما يؤكل ويُشرب. ¬

=وأخرجه الحاكم (2/ 493)، وعنه البيهقي (7/ 353) من طريق محمد بن بكير الحضرمي، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، به. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. ومحمد بن بكير لم يرو له مسلم شيئاً، وهو صدوق يخطئ كما قال الحافظ في "التقريب" (5802). قال الحافظ في "الفتح" (8/ 657) بعد أن ذكر طرق الحديث: "وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً". وقال في "التلخيص" (3/ 422): "وبمجموع هذه الطرق يتبين أن للقصة أصلاً أحسب، لا كما زعم القاضي عياض أن هذه القصة لم تأت من طريق صحيح، وغفل رحمه الله عن طريق النسائي التي سلفت فكفى بها صحة. والله الموفق".اهـ. وقال في "اللسان" (7/ 174): "وأما قصة مارية فلها طرق كثيرة؛ تشعر بأن لها أصلاً". وصحح الحافظ أيضاً في "الفتح" (12/ 343) نزول الآية في القصتين: العسل ومارية. (¬1) أخرجه البخاري (4912)، ومسلم (1474). (¬2) في (خ) و (م): "بيمين الله". (¬3) وهو الذي حرم على نفسه أن ينام على فراشه سنة. وتقدم صفحة (213). (¬4) تقدم تخريجه في التعليق رقم (1). (¬5) قوله: "بل" ليس في (خ) و (م). (¬6) قوله: "ما" من (خ) فقط.

وأَما إِن فَرَضْنَا أَنَّ آيَةَ الْعُقُودِ هِيَ السابقةُ عَلَى آيَةِ التَّحْرِيمِ: فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ كالأَول: أَحَدُهُمَا: أَن يَكُونَ التَّحْرِيمُ ـ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ ـ بِمَعْنَى الحَلِف. وَالثَّانِي: أَن تَكُونَ آيَةُ الْعُقُودِ غَيْرَ مُتَنَاوِلَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا} (¬1) لَا يَدْخُلُ (¬2) فِيهِ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنَ الأُصوليين، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي الْقَضِيَّةِ مَا يُنظر فِيهِ، وَلَا يكون للمُحْتَجّ بالآية مُتَعَلَّق، والله أَعلم. ¬

(¬1) سورة المائدة: الآية (87). (¬2) في (خ): "لا تدخل".

فصل

فَصْلٌ إِذا ثَبَتَ هَذَا، فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ (¬1) فَعَمَلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لأَنه عَامِلٌ إِما بِغَيْرِ شَرِيعَةٍ؛ لأَنه لَمْ يَتَّبِعْ أدلَّتها (¬2)، وإِما عَامِلٌ بِشَرْعٍ مَنْسُوخٍ، وَالْعَمَلُ بِالْمَنْسُوخِ مَعَ الْعِلْمِ بِالنَّاسِخِ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لأَن الترهُّب وَالِامْتِنَاعَ مِنَ اللَّذَّاتِ (¬3) والنساءِ (¬4) وَغَيْرِ ذَلِكَ إِن كَانَ مَشْرُوعًا فَفِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَكِنِّي أَصوم وأُفطر، وأُصلي (¬5) وَأَرْقُدُ (¬6)، وأَتزوج النساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬7)، وَهُوَ مَعْنَى الْبِدْعَةِ. فإِن قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ (¬8) مِنْ نَقْلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ: أَنَّهَا السِّيَاحة واتِّخاذ الصَّوَامِعِ للعُزْلَة. قَالَ: وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِليه فِي دِينِنَا عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ. وَقَدْ بَسَطَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي "الإِحياء" (¬9) حين (¬10) ذَكَرَ الْعُزْلَةِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ "آدَابِ النِّكَاحِ" (¬11) مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَحَاصِلُهُ: أَن ذَلِكَ مَشْرُوعٌ، بَلْ هُوَ الأَولى عِنْدَ عُرُوضِ الْعَوَارِضِ، وَعِنْدَمَا يَصِيرُ النِّكَاحُ وَمُخَالَطَةُ النَّاسِ وَبَالًا عَلَى الإِنسان، ومؤدِّياً إِلى اكْتِسَابِ الْحَرَامِ وَالدُّخُولِ ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "العهد". (¬2) في (م): "أدلته". (¬3) قوله: "اللذات" ليس في (خ). (¬4) في (خ): "النساء". (¬5) في (غ): قدم قوله: "وأصلي" على قوله: "وأفطر"، ثم وضع عليهما علامتي التقديم والتأخير (مـ مـ). (¬6) في (خ) و (م): "وأنام". (¬7) تقدم تخريجه (ص147). (¬8) تقدم (ص147). (¬9) (2/ 222). (¬10) في (خ): "عند". (¬11) من "الإحياء" (2/ 22 ـ 37).

فِيمَا لَا يَجُوزُ، كَمَا جاءَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُوشِكُ أَن يَكُونَ خيرَ مالِ الْمُسْلِمِ غنمٌ (¬1) يَتْبَعُ بها شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْر، يَفِرّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَن" (¬2). وَسَائِرُ مَا جاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَأَيْضًا فإِن اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً *} (¬3). والتَّبَتُّلُ ـ عَلَى مَا قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسلم ـ: رَفْضُ الدُّنْيَا؛ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَتَلْتُ الحَبْلَ بَتْلاً: إِذا قطعته، ومعناه: انقطع مِنْ كُلِّ شيءٍ إِلا مِنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ (¬4) وغيره: بَتِّل إِليه نفسَكَ واجْتَهِد. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ (¬5): تفرَّغْ لِعِبَادَتِهِ. هَذَا إِلى مَا جاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الِانْقِطَاعِ إِلى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَفْضِ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، والتخلِّي عَنِ الْحَوَاضِرِ إِلى الْبَوَادِي، وَاتِّخَاذِ الخَلَوَات فِي الْجِبَالِ والبَرارِي، حَتَّى إِن بَعْضَ الْجِبَالِ الشاميَّة قد خصَّها الله بالأَولياءِ والمنقطعين؛ كجبل (¬6) لُبْنَانَ وَنَحْوِهِ. فَمَا وَجْهُ ذَلِكَ (¬7)؟ فَالْجَوَابُ: أَن الرَّهبانية إِن كانت بالمعنى (¬8) المقرَّر في الشرائع (¬9) الأُوَلِ، فَلَا نسلِّم أَنَّهَا فِي شَرْعِنَا؛ لِمَا تقدم من الأَدلة الدالّة (¬10) عَلَى نَسْخِهَا، كَانَتْ لعارِضٍ أَوْ لِغَيْرٍ عارِض، إِذ لا رهبانية في الإِسلام (¬11)، ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "غنماً". (¬2) أخرجه البخاري (19). (¬3) سورة المزمل: الآية (8). (¬4) أخرجه الطبري في "التفسير" (23/ 688) من طريق أشعث بن سَوّار، عن الحسن البصري، وسنده ضعيف لضعف أشعث بن سَوّار؛ كما في "التقريب" (528). (¬5) هو: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ وقوله هذا: أخرجه الطبري في "التفسير" (23/ 689) بسند صحيح إليه. (¬6) في (م) و (خ): "إلى" بدل "كجبل". (¬7) أي: ما وجه كلام ابن العربي؟ وقوله: "ذلك" سقط من (غ) و (ر). (¬8) في (م): "بمعنى". (¬9) في (خ): "في شرائع" وفي (م): "بالشرائع". (¬10) قوله: "الدالة" ليس في (خ). (¬11) تقدم تخريج حديث: "لا رهبانية في الإسلام" (ص27 ـ 28 و212).

وقد ردَّ رسول الله (ص) (¬1) التبُّتل (¬2) حَسْبَمَا تَقَدَّمَ (¬3). وإِن كَانَتْ بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ إِلى اللَّهِ حَسْبَمَا شَرَع، وَعَلَى (¬4) حدِّ مَا انْقَطَعَ إِلَيْهِ (¬5) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ المُخَاطَب بِقَوْلِهِ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (¬6)، فهذا هو الذي نحن في تقريره: أنه (¬7) السُّنَّة المُتَّبَعَةُ، والهَدْيُ الصَّالِحُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ زَيْدِ بْنِ أَسلم وَغَيْرِهِ فِي معنى التبتُّل ما يُنَافِرُ (¬8) هَذَا الْمَعْنَى؛ لأَن رَفْض الدُّنْيَا لَيْسَ بِمَعْنَى طَرْح اتِّخَاذِهَا جُمْلَةً، وَتَرْكِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، بَلْ بِمَعْنَى تَرْكِ الشُّغل بِهَا عَمَّا كُلِّف الإِنسان بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ. وَاجْعَلْ سِيَرَ السَّلَفِ الصالح فيها (¬9) مِرْآةً لَكَ تَنْظُرُ فِيهَا مَعْنَى التبتُّل عَلَى وجهه (¬10)؛ اقْتِداءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَقَدْ كَانُوا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مُكْتَسِبِينَ لِلْمَالِ، متمتِّعين (¬11) بِهِ فِيمَا أُبيح لَهُمْ، مُنْفِقِين لَهُ حَيْثُ نُدبوا، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقُلُوبِهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ، إِذا عَنَّ لَهُمْ أَمر أَو نَهْي، بَلْ قَدَّموا أَمر اللَّهِ وَنَهْيَهُ عَلَى حُظُوظِ أَنْفُسِهِمُ الْعَاجِلَةِ (¬12) عَلَى وجهٍ لَمْ يُخِلَّ بِحُظُوظِهِمْ فِيهِ، وَهُوَ التوسُّط الذي تقدم تقريره (¬13). ثُمَّ نَدَبَهُمُ الشَّارِعُ إِلى اتِّخَاذِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، فَبَادَرُوا إِلى الِامْتِثَالِ، وَلَمْ يَقُولُوا: هُوَ شَاغِلٌ لَنَا عَمَّا أُمرنا بِهِ؛ لأَن هَذَا الْقَوْلَ مُشْعِرٌ بِالْغَفْلَةِ عَنْ مَعْنَى التَّكْلِيفِ بِهِ، فإِن الأَصل الشَّرْعِيَّ: أَن كلَّ مَطْلُوبٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتعبَّد بِهِ إِلى اللَّهِ تَعَالَى، ويُتقرب بِهِ إِلَيْهِ. فَالْعِبَادَاتُ (¬14) المَحْضَة ظاهرٌ فِيهَا ذَلِكَ، وَالْعَادَاتُ (¬15) كلُّها إِذا قُصد بِهَا امْتِثَالُ أمر الله عبادات؛ إِلا أنه إِذا ¬

(¬1) قوله: "رسول الله" ليس في (خ). (¬2) في (ر) و (غ): "المتبتل". (¬3) انظر صفحة (206 ـ 208). (¬4) في (غ) و (ر): "على". (¬5) في (م): "ما انقطع إلى الله". (¬6) سورة المزمل: الآية (8). (¬7) في (خ) و (م): "وأنه". (¬8) في (خ) و (م): "ما يناقض". (¬9) قوله: "فيها" ليس في (خ) و (م). (¬10) في (خ): "على وجه". (¬11) قوله: "متمتعين" سقط من (خ) و (م). (¬12) في (خ): "الفاصلة". (¬13) في (خ) و (م): "ذكره" بدل "تقريره". (¬14) في (ر) و (غ): "بالعبادات". (¬15) في (غ) و (ر) و (خ): "والعبادات".

لم (¬1) يقصد بها ذلك القصد (¬2)، ونَحَى (¬3) بِهَا نَحْوَ الْحَظِّ مُجَرَّداً، فَإِذْ ذَاكَ لَا تَقَعُ مُتَعَبَّداً بِهَا، وَلَا مُثَابًا عَلَيْهَا، وإِن صَحّ وُقُوعُهَا شَرْعًا. فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى تَعَالَى عَنْهُمْ قَدْ فَهِمُوا هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يُمْكِنُ مَعَ فَهْمِه أَنْ تَتَعَارَضَ (¬4) الأَوامر فِي حَقِّهِمْ، وَلَا فِي حَقٍّ مَنْ فَهِمَ مِنْهَا ما فهموا (¬5)، فالتبتُّل عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحِيحٌ أَصِيلٌ فِي الْجَرَيَانِ عَلَى السُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ صَحِيحٌ إِذا "أَخَذَ هَذَا المأْخذ؛ أي: لا تتبع الهوى (¬6) وَاتَّبِعْ أَمر رَبِّكَ؛ فإِنه الْعَلِيمُ بِمَا يَصْلُح لَكَ، وَالْقَائِمُ عَلَى تَدْبيرك، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَى أَثرها: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً *} (¬7)؛ أَيْ: فَكَمَا أَنَّهُ (¬8) وَكِيلٌ لَكَ بِالنِّسْبَةِ إِلى مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِك، فَكَذَلِكَ هُوَ وَكِيلٌ عَلَى مَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ كَسْبك؛ مِمَّا هُوَ (¬9) تَكْلِيفٌ فِي حَقِّك. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَوَكّل لَكَ فِيهِ: أَنْ لَا تُدخِل نَفْسَكَ في عملٍ تُحرَج بسببه حالاً أو مآلاً. وَقَدْ فُسِّرَ التبتُّلُ بأَنه الإِخلاص، وَهُوَ قَوْلُ مجاهد (¬10) والضحاك (¬11). ¬

(¬1) في (خ): "إلا أنه لم"، وفي (م): "إلا أنه ما لم". (¬2) في (غ): "المقصود". (¬3) في (خ) و (م): "يجيء". (¬4) في (م): "يتعارض". (¬5) في (خ): "ما فهموا منها". (¬6) في (خ): "أي: اتبع الهوى"، فأصلحها رشيد رضا هكذا: "أي اتبع الهدى"، ثم علق عليه بقوله: في الأصل: "اتبع الهوى" بالواو، ولعل في الكلام تحريفاً ونقصاً. اهـ .. (¬7) سورة المزمل: الآية (9). (¬8) في (خ): "أي: بك وإنه". (¬9) قوله: "هو" سقط من (ر). (¬10) أخرجه آدم بن أبي إياس في "تفسيره" المطبوع باسم "تفسير مجاهد" (ص700) عن شيبان بن عبد الرحمن النحوي، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}؛ يقول: أخلص إليه إخلاصاً. وسنده صحيح. وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (23/ 688) من طريق سفيان الثوري وجرير بن عبد المجيد، كلاهما عن منصور به. (¬11) أخرجه ابن جرير الطبري من الموضع السابق، فقال: حُدِّثت عن الحسين؛ قال: سمعت أبا معاذٍ يقول: ثنا عبيد؛ قال: سمعت الضحاك يقول ـ في قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} ـ؛ قال: أخلص إليه إخلاصاً. وسنده ضعيف لإبهام شيخ ابن جرير.

وَقَالَ قَتَادَةُ: أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ وَالدَّعْوَةَ (¬1). فَعَلَى هذا التفسير لا مُتَعَلَّق (¬2) فيها لمَوْرِدِ السؤال. وإِذا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْفِرَارُ مِنَ الْعَوَارِضِ بِالسِّيَاحَةِ (¬3)، وَاتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ، وسُكْنَى الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ؛ إِن كَانَ عَلَى شَرْطِ أَن لَا يُحرِّموا مَا أَحل اللَّهُ مِنَ الأُمور الَّتِي حَرَّمها الرُّهبان، بَلْ عَلَى حدِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ (¬4) فِي الحَوَاضِر (¬5) ومَجَامع النَّاسِ، لَا يشدِّدون عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمِقْدَارِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، فَلَا إِشكال فِي صِحَّةِ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةِ، غَيْرَ أَنها لَا تُسَمَّى رَهْبَانِيَّةً إِلا بنوعٍ مِنَ المَجَاز، أَو النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ الَّذِي لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مُعْتَادُ اللُّغَةِ، فَلَا تَدْخُلُ في مقتضى قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً (¬6) ابْتَدَعُوهَا} (¬7)، لَا فِي الِاسْمِ، وَلَا فِي الْمَعْنَى. وإِن كان على التزام ما التزمه الرهبان المتقدمون (¬8)، فَلَا نسلِّم أَنه فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مَنْدُوبٌ إِليه ولا مباح، بل هو مما لا يجوز؛ لأَنه كالتشريع (¬9) بِغَيْرِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَنْتَظِمُهُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خيرُ مالِ الْمُسْلِمِ غنماً يَتْبَعُ بها شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ القَطْر، يَفِرّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ" (¬10)، وإِنما ينتظمه معنى قوله عليه السلام (¬11): "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (¬12). وأَما مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ تَفْضِيلِهِ الْعُزْلَةَ على المخالطة، وترجيح العُزْبَةِ على اتّخاذ الأَهل (¬13) عِنْدَ اعْتِوَارِ (¬14) الْعَوَارِضِ، فَذَلِكَ (¬15) يُسْتَمَدّ مَنْ أَصلٍ آخر، لا من هنا. ¬

(¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" (23/ 688) بسند حسن. (¬2) في (خ): "لا تعلق". (¬3) في (خ): "وإذا تقرر هذا فالسياحة". (¬4) قوله: "عليه" من (خ) فقط. (¬5) في (م): "الخواص". (¬6) في (غ) و (ر): "رهبانية". (¬7) سورة الحديد: الآية (27). (¬8) قوله: "المتقدمون" ليس في (خ) و (م). (¬9) في (خ) و (م): "كالشرع". (¬10) تقدم تخريجه صفحة (230). (¬11) من قوله: "يوشك أن يكون" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬12) تقدم تخريجه صفحة (147). (¬13) في (خ) و (م): "أهل". (¬14) في (ر) و (غ): "عند اعتراض". (¬15) في (ر) و (غ): "فكذلك".

وَبَيَانُهُ: أَن الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَخْلُو (¬1) أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ قَادِرًا عَلَى الِامْتِثَالِ فِيهَا، مَعَ سلامته عند العمل بها من (¬2) وقوعه في وجه (¬3) مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ بِحَيْثُ لَا يُعَارِضُهُ مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّم، فَلَا إِشكال فِي كَوْنِ الطَّلَبِ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ، عَلَى حَدّ مَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِتَنِ، وإِن لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ إِلا بِوُقُوعِهِ فِي مَكْرُوهٍ أَو مُحَرَّمٍ، فَفِي بقاءِ الطَّلَبِ هُنَا تَفْصِيلٌ ـ بِحَسْبَ مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أَبي حَامِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ؛ إِذ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ مَنْدُوبًا، لَكِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهِ إِلا بِوُقُوعِهِ فِي مَمْنُوعٍ، فَالْمَنْدُوبُ سَاقِطٌ عَنْهُ بِلَا إِشكال، كالمندوب للصدقة على المحتاج لا يجد (¬4) بِيَدِهِ إِلا مَالُ الْغَيْرِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِالنَّدْبِ؛ لأَنه يَقَعُ بِسَبَبِهِ فِي التصرُّف في مال الغير بغير إِذنه، وذلك لَا يَجُوزُ (¬5)، فَهُوَ كَالْفَاقِدِ لِمَا يَتَصَدَّق بِهِ. وكالقائم عَلَى مَرِيضِهِ الْمُشْرف (¬6)، أَوْ دَفْنِ مَيِّتٍ يَخَافُ عليه (¬7) تَغَيُّرَهُ (¬8) بِتركه، ثُمَّ يَقُومُ يُصَلّي نَافِلَةً، وَالْمُتَزَوِّجُ لَا يَجِدُ إِلا مَالًا حَرَامًا، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ وَاجِبًا، إِلا أَنَّ وُقُوعَهُ فِيهِ يُدْخِلُه فِي مَكْرُوهٍ ـ وَهَذَا غيرُ معتدِّ بِهِ؛ لأَن الْقِيَامَ بِالْوَاجِبِ آكَدُ ـ، أَوْ يُوقِعُهُ فِي مَمْنُوعٍ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَارَضُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلا أَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَيْسَتْ عَلَى وزَانٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّ المحرَّمات كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُوَازَنَةِ، فإِن ترجَّح جَانِبُ الْوَاجِبِ صَارَ المُحَرَّمُ في حكم العَفْو، أو في حُكْمِ التَّلافِي إِن كَانَ مِمَّا تُتَلاَفَى مفسدَتُه، وإِن تَرَجَّحَ جَانِبُ المُحَرّم سَقَطَ حُكْمُ الْوَاجِبِ، أو طُلب بالتَّلافِي، وإِن تَعادلا (¬9) ¬

(¬1) في (م): "لا يخلو". (¬2) في (ر) و (غ): "ومن". (¬3) قوله: "وجه" ليس في (خ) و (م). (¬4) قوله: "يجد" سقط من (خ) و (م). (¬5) في (خ) و (م): "بغير إذنه ولا يجوز"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله حذف من هنا كلمة؛ هي: "هو" أو "ذلك".اهـ. (¬6) أي: مُشْرف على الوفاة. (¬7) قوله: "عليه" ليس في (خ) و (م). (¬8) في (خ): "تغييره". (¬9) في (خ): "وإن كان تعادلا"، وفي (م): "وإن تعادل"، وعلق رشيد رضا عليها بقوله: "كان" زائدة لا حاجة إليها. اهـ.

فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَهُوَ مَجَالُ نظرِ المُجْتَهِدين، والأَولى ـ عِنْدَ جَمَاعَةٍ ـ رعايةُ جَانِبِ المُحَرَّم؛ لأَن درءَ الْمَفَاسِدِ آكَدُ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ. فإِذا كَانَتِ الْعُزْلَةُ مُؤَدِّيَةً إِلى السَّلَامَةِ، فَهِيَ الأَولى فِي أَزمنة الْفِتَنِ، وَالْفِتَنُ لَا تَخْتَصّ بِفِتَنِ الحروب فقط؛ بل (¬1) هي (¬2) جَارِيَةٌ فِي الْجَاهِ وَالْمَالُ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مُكْتَسَبات الدُّنْيَا، وَضَابِطُهَا: مَا صَدّ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، ومثل هذا النَّظَر (¬3) يَجْرِي بَيْنَ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، وَبَيْنَ الْمَكْرُوهِينَ. وإِن كَانَتِ العزلةُ مُؤَدِّيَةً إِلى تَرْك الجُمُعات، وَالْجَمَاعَاتِ، والتعاون على الطاعات، وأشباه ذلك؛ فإِنها أَيْضًا سَلَامَةٌ (¬4) مِنْ جِهَةٍ أُخرى (¬5)، وَيَقَعُ التَّوَازُنُ بَيْنَ المأْمورات وَالْمَنْهِيَّاتِ. وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ، إِذا أَدَّى إِلى الْعَمَلِ بِالْمَعَاصِي، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهِ مَعْصِيَةٌ كَانَ تَرْكُهُ أَولى. وَمِنْ أَمثلة ذَلِكَ ـ غَيْرَ أَنه مُشْكِلٌ ـ: مَا ذَكَرَهُ (¬6) الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ بِسَنَدِهِ إِلى حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنه قال لمَعْن بن ثَوْر السُّلَمي (¬7): هَلْ تَدْرِي لِمَ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الدِّيَارَاتِ؟ قَالَ مَعْن: ولِمَ؟ قال: إِنه لما أحدثت (¬8) الملوك في دينها (¬9) البدع، وضيَّعوا أَمر النبيين، وأكلوا الخنزير (¬10)، اعْتَزَلُوهُمْ فِي الدِّيارات، وَتَرَكُوهُمْ وَمَا ابْتَدَعُوا، فتَخَلَّوا للعبادة. قال حبيب لمَعْن: فهل لك؟ قال: ليس بيوم ذلك (¬11). ¬

(¬1) قوله: "بل" ليس في (خ) و (م). (¬2) في (م) و (خ): "فهي". (¬3) قوله: "النظر" ليس في (خ) و (م). (¬4) في (م): "سالمة". (¬5) في عبارة المؤلف اختصار شديد والذي يظهر من معناها: أن العزلة في بعض الأزمان قد تكون سلامة من الفتن؛ وإن كان سيترتب عليها فوات مصلحة الجمعات والجماعات والتعاون على الطاعات، فتقع الموازنة بين المصلحة الفائتة والمفسدة المدفوعة وترجح أولاهما بالتحصيل أو الدفع. (¬6) في (غ) و (ر): "ما ذكر". (¬7) قوله: "السلمي" ليس في (خ) و (م). (¬8) في (خ) و (م): "أحدث". (¬9) قوله: "في دينها" ليس في (خ) و (م). (¬10) في (خ) و (م): "الخنازير". (¬11) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (59/ 432) من طريق أحمد بن المعلى، عن العباس بن عثمان، عن الوليد بن مسلم، نا ابن جابر وعبد الله بن العلاء بن زَبْر؛ قالا: سمعنا عطية بن قيس يقول: قال حبيب ... ، فذكره.=

فاقْتَضَى أَنَّ مِثْلَ مَا فَعَلَتْهُ (¬1) النَّصَارَى مَشْرُوعٌ في ديننا، وليس (¬2) كَذَلِكَ، وَمُرَادُهُ: أَنَّ اعْتِزَالَ النَّاسِ عِنْدَ اشْتِهَارِهِمْ بِالْبِدَعِ وَغَلَبَةِ الأَهواءِ عَلَى حدِّ مَا شُرع فِي دِينِنَا مَشْرُوعٌ (¬3)، لَا أَنَّ نَفْسَ مَا فعلت النصارى في رهبانيتها يشرع (¬4) لَنَا؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ نَسَخِهِ. فَعَلَى هَذِهِ الأَحْرُف جَرَى كَلَامُ الإِمام أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ نَقَلَ هُوَ عَنْهُمْ، وَاحْتَجَّ بِهِمْ. وَيَدُلُّ عى ذَلِكَ: أَنَّ جَمَاعَةً مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُمُ التَّرْغِيبُ في العُزْبة (¬5) كانوا متزوّجين، ولم يكن ذلك مانعاً لهم (¬6) مِنَ البقاءِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى التَّحَرِّي فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَا يَلْحَقُهُمْ بِسَبَبِ التزوُّج؛ فَلَا إِشكال إِذاً عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَلَا غَيْرِهِ (¬7) مِمَّنْ سَلَكَ مسْلَكَه؛ لأَنهم بَنَوْا عَلَى أَصلٍ قَطْعي فِي الشَّرْعِ، مُحْكَمٍ لَا يَنْسَخُهُ شَيْءٌ؛ وَلَيْسَ مِنْ مسأَلتنا بِسَبِيلٍ، وَلَكِنْ ثَمَّ تَحْقِيقٌ زَائِدٌ لَا يَسَعُ إِيراده هَاهُنَا، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ"، مَنْ تَمَرَّنَ فِيهِ حَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى التَّمَامِ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَالْحَاصِلُ: أَن مَضْمون هَذَا الْفَصْلِ يَقْتَضِي أَن العمل على الرهبانيَّة المنفيَّة في الآية قصداً (¬8) بِدْعَةٌ مِنَ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا الإِضافية، لِرَدّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا أصلاً وفرعاً. ¬

=وإسناده لا بأس به. وقد ترجم ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (8/ 276) لمعن بن ثور، فقال: معن بن ثور: قال: اجتمع هو وحبيب بن مسلمة، فسألا راهباً في صومعته عن سبب احتباسه. روى عنه عطية بن قيس، سمعت أبي يقول ذلك. وذكر ابن عساكر عبارة ابن أبي حاتم، ثم قال: كذا قال! والمحفوظ ما تقدم. اهـ؛ أي: باللفظ الذي ساقه الشاطبي، والله أعلم. (¬1) في (غ) و (ر): "ما فعلت". (¬2) قوله: "وليس" من (غ) و (ر) فقط. (¬3) قوله: "مشروع" سقط من (خ). (¬4) في (خ): "متيسر" وفي (م): "مشروع". (¬5) في (م) و (خ): "العزلة". (¬6) قوله: "لهم" ليس في (خ) و (م). (¬7) في (ر) و (غ): "وغيره". (¬8) قوله: "قصداً" سقط من (خ) و (م).

فصل

فَصْلٌ ثَبَتَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْفُصُولِ المتقدِّمة آنِفًا أَنَّ الحَرَج مَنْفِيٌّ عَنِ الدِّينِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا؛ وإِن كَانَ قَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الأُصول الْفِقْهِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْبُرْهَانِ أَبْلَغَ، فَلْنَبْنِ عليه فنقول: قد فهم قوم من أحوال (¬1) السَّلَفِ الصَّالِحِ وأَهل الِانْقِطَاعِ إِلى اللَّهِ ـ مِمَّنْ ثبتت وِلَايَتُهُمْ ـ أَنَّهُمْ كَانُوا يشدِّدون عَلَى أَنفسهم، ويُلزمون غيرهم الشدَّة أيضاً، فأقرّ هؤلاء الشدَّة (¬2) وَالْتِزَامَ (¬3) الحَرَج دَيْدَناً فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وعَدُّوا (¬4) مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الِالْتِزَامِ (¬5) مقصِّراً مَطْرُودًا (¬6) وَمَحْرُومًا وربَّما فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الإِطلاقات الشَّرْعِيَّةِ، فرشَّحوا (¬7) بِذَلِكَ مَا الْتَزَمُوهُ، فأَفضى الأَمر بِهِمْ إِلى الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ إِلى الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَو الإِضافية. فَمِنْ ذَلِكَ: أَن يَكُونَ للمُكَلَّف طَرِيقَانِ فِي سُلُوكِهِ لِلْآخِرَةِ: أَحدهما: سَهْلٌ، وَالْآخِرُ صَعْبٌ، وَكِلَاهُمَا فِي التوصُّل إِلى الْمَطْلُوبِ عَلَى حدٍّ وَاحِدٍ؛ فيأْخذ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ بِالطَّرِيقِ الأَصعب الَّذِي يشقُّ عَلَى المكلَّف مثلُه، وَيَتْرُكُ الطَّرِيقَ الأَسهل؛ بِنَاءً عَلَى التَّشْدِيدِ على النفس، كالذي يجد للطهارة ¬

(¬1) في (خ): "أصول"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كلمة "أصول" لا يظهر لها معنى هاهنا. اهـ. (¬2) قوله: "فأقر هؤلاء الشدة" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (ر) و (غ): "وإلزام". (¬4) في (خ): "وعدول". (¬5) في (ر) و (غ): "الإلزام". (¬6) في (غ) و (ر): "ومطروداً". (¬7) أي: فَقَوَّوا ودعموا، يقال: ترشح: إذا قوي على المشي مع أمه. وقال الأصمعي: إذا وضعت الناقة ولدها فهو شليل، فإذا قوي ومشى فهو راشح. "لسان العرب" (2/ 449)

ماءَين: سخن وبارد، فيتحرَّى الباردَ الشاقَّ استعمالُه، ويتركُ الْآخَرَ؛ فَهَذَا لَمْ يُعْطِ النَّفْسَ حقَّها الَّذِي طَلَبَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ، وَخَالَفَ دَلِيلَ رَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى زَائِدٍ، فَالشَّارِعُ لَمْ يَرْضَ بشرعيَّة مِثْلِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (¬1): {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬2)، فَصَارَ متَّبعاً لِهَوَاهُ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَلا أَدلكم عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟: إِسْباغ الوضوءِ عِنْدَ الكَرِيهَات ... " (¬3) الْحَدِيثَ؛ مِنْ حَيْثُ كَانَ الإِسباغ مَعَ كَرَاهِيَةِ النَّفْسِ سَبَبًا لمَحْو الْخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ للإِنسان أَن يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ هَذَا الأَجر، وذلك (¬4) بإِكراه النَّفْسِ، وَلَا يَكُونُ إِلا بتَحَرِّي إِدخال الْكَرَاهِيَةِ عَلَيْهَا؛ لأَنا نَقُولُ: لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا قُلْتُمْ، وإِنما فِيهِ أَنَّ الإِسباغ مَعَ وُجُودِ الْكَرَاهِيَةِ، فَفِيهِ أَمر زَائِدٌ؛ كَالرَّجُلِ يَجِدُ مَاءً بَارِدًا فِي زَمَانِ الشتاءِ، وَلَا يَجِدُهُ سُخْنًا، فَلَا يَمْنَعُهُ شدَّةُ بَرْدِه عَنْ كَمَالِ الإِسباغ. وأَما الْقَصْدُ إِلى الْكَرَاهِيَةِ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِيهِ، بَلْ فِي الأَدلة الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَنِ الْعِبَادِ، وَلَوْ سُلِّم أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِيهِ؛ لَكَانَتْ أَدِلَّةُ رَفْعِ الْحَرَجِ تَعَارُضُهُ، وَهِيَ قطعيَّة (¬5)، وخبر الواحد ظَنّي (¬6)؛ ¬

(¬1) في (م): "قال تعالى". (¬2) سورة النساء: الآية (29). (¬3) أخرجه مُسْلِمٌ (251) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه. (¬4) قوله: "وذلك" ليس في (خ) و (م). (¬5) من قوله: "بل في الأدلة المتقدمة" إلى هنا مكرر في (خ). (¬6) رحم الله الشاطبي! فقد سرت إليه هذه المقولة التي لا تتناسب مع منهجه الذي دعى إليه؛ منهج الالتزام بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. فإطلاق القول بأن خبر الواحد ظني ليس بصحيح؛ لأن خبر الواحد عندهم يعم ما ليس بمتواتر، وإن كان مرويّاً من طرقٍ عدّة لم تبلغ حدّ التواتر عندهم، وهذا يتنافى أولاً مع حكم الله تعالى في الشهادة. قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}؛ فشهادة الشاهدين تراق بها الدماء، وتستباح الأموال والفروج، فهل يمكن أن يقبل في شرع الله ما هو ظني، والظن أكذب الحديث! ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم إذا استثبتوا يزيدون على شهادة آخر مع الواحد؛ كما في قصة عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في حديث الاستئذان، وشهادة أبي سعيد الخدري لأبي موسى بذلك. فإن قيل: لعلّ الشاطبي يعني خبر الواحد الفرد، ولا يعني ما اصطلح عليه أهل=

فَلَا تَعَارُضَ بَيْنِهِمَا؛ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى تَقْدِيمِ الْقَطْعِيِّ، وَمِثْلُ الْحَدِيثِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ (¬1). وَمِنْ ذَلِكَ: الِاقْتِصَارُ مِنَ المأْكول عَلَى أَخْشَنِه (¬2) وأَفْظَعهِ لمجرَّد التَّشْدِيدِ، لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ، فَهُوَ مِنَ النَّمَطِ الْمَذْكُورِ فَوْقَه؛ لأَن الشَّرْعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلى تَعْذِيبِ النَّفْسِ فِي التَّكْلِيفِ (¬3)، وَهُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِن لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا" (¬4). وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأْكل الطَّيِّب إِذا وَجَدَهُ (¬5) وَكَانَ يُحِبُّ الحلواءَ وَالْعَسَلَ (¬6)، وَيُعْجِبُهُ لَحْمُ الذِّرَاعِ (¬7)، ويُسْتَعْذَب لَهُ الماءُ (¬8)، فأَين التَّشْدِيدُ مِنْ هذا؟ ¬

=الكلام؛ قلنا: وهذا فيه ما فيه! ولكنه لا يعنيه، ولو عناه لكان أهون. فخبر الواحد الفرد ليس بصحيح أنه ظني بإطلاق، بل إذا احتفت به قرائن فإنه يفيد العلم؛ كما تجد تفصيله في كثير من الكتب التي تناولت هذا الموضوع بالتفصيل، ومن ذلك: "مختصر الصواعق" لابن القيم، و"حجية خبر الآحاد" للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين. ومع هذا فالشاطبي متابع لأهل الكلام في مصطلحهم هذا. (¬1) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م). (¬2) سورة التوبة: الآية (120). (¬3) في (ر) و (غ): "خشنه". (¬4) أخرج البخاري (1865)، ومسلم (642) من حديث أنس: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شيخاً يُهَادى بين ابنيه، فقال: "ما بال هذا؟ " قالوا: نذر أن يمشي. قال: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"، وأمره أن يركب. (¬5) تقدم تخريجه صفحة (157). (¬6) ومنه أكله اللحم. انظر: "صحيح البخاري" (4712) (5097)، و"صحيح مسلم" (194). (¬7) أخرجه البخاري (5268)، ومسلم (1474) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬8) أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬9) أخرجه أحمد (6/ 108)، وأبو داود (3735)، وابن حبان (5332)، والحاكم (4/ 138) من طريق الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يُستعذب له الماء من بيوت السُّقيا. قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم". قال الحافظ في "الفتح" (10/ 74): "إسناده جيد". وقد توبع عليه الدَّرَاوَرْدي من أوجهٍ لا يصح منها شيء؛ فقد تابعه:= 1 ـ عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير:

وَلَا يَدْخُلُ الِاسْتِعْمَالُ الْمُبَاحُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (¬1)؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الإِسراف الْخَارِجُ عَنْ حَدّ المباح، بدليل ما تقدم. ¬

=أخرج حديثه ابن عدي في "الكامل" (5/ 83)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم" (3/ 432)، وعامر هذا متروك الحديث كما في "التقريب" (3113). 2 ـ محمد بن المنذر، وأخوه عبيد الله، وعبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة. أخرجه أبو الشيخ (3/ 432)، والبغوي في "شرح السنّة" (3050) من طريق محمد بن المنذر. وأخرجه أبو الشيخ (3/ 432) من طريق عبيد الله بن المنذر وعبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، ثلاثتهم عن هشام بن عروة، به. ومحمد بن المنذر يروي الأحاديث الموضوعة عن هشام كما قال الحاكم وأبو نعيم، وقال ابن حبان: "لا يحلّ كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار" انظر "الميزان" (8208) و"لسان الميزان" (1274). وعبد الله بن محمد متروك الحديث ضعيف الحديث جداً كما قال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 158 رقم 729). وعبيد الله بن المنذر ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/ 152)، والحافظ في "اللسان" (4/ 116)، وأحال فيه إلى ترجمة أخيه محمد (5/ 394)، والعراقي في "ذيل الميزان" صفحة (352)، وذكر له ولأخيه محمد حديثاً عن هشام بن عروة، استغربه الدارقطني وقال: "لم يتابعا عليه"، والله أعلم. وأخرج مسلم (3013) حديث جابر الطويل وفيه: "وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الماء في أشجاب له على حمارة من جريد". وأخرج البخاري (5611)، ومسلم (998) من حديث أنس قال: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبّ مالِهِ إليه بَيْرُحاء، وكانت مستقبل المسجد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدخلها، ويشرب من ماء فيه طيب ... " الحديث. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 74 ـ 75): وذكر الواقدي من حديث سلمى امرأة أبي رافع: "كان أبو أيوب حين نزل عنده صلّى الله عليه وسلّم يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس"، ثم كان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا، وكان رباح الأسود عبده يستقي له من بئر عرس مرة، ومن بيوت السقيا مرة. قال ابن بطال: استعذاب الماء لا ينافي الزهد ولا يدخل في الترفُّه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه، فقد كرهه مالك لما فيه من السَّرَف، وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح، فقد فعله الصالحون، وليس في شرب الماء الملح فضيلة. اهـ. (¬1) سورة الأحقاف: الآية (20).

فإِذاً الاقتصار على البشيع في المأْكول مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ تنطُّعٌ، وَقَدْ مرَّ مَا في (¬1) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (¬2) الْآيَةَ (¬3). وَمِنْ ذَلِكَ: الِاقْتِصَارُ فِي الْمَلْبَسِ عَلَى الخَشْن مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فإِنه مِنْ قَبِيلِ التَّشْدِيدِ والتنطُّع الْمَذْمُومِ، وَفِيهِ أَيضاً مِنْ قَصْد الشُّهْرة مَا فِيهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ الْحَارِثِيِّ أَنه قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبي طالب رضي الله عنه: اعْدِني (¬4) عَلَى أَخي عَاصِمٍ. قَالَ: مَا بَالَهُ؟ قَالَ: لَبِسَ العباءَ يُرِيدُ النُّسُك. فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عليَّ بِهِ. فأُتي بِهِ مُؤْتَزِرًا (¬5) بعباءَة (¬6)، مُرْتَدِيًا بالأُخرى (¬7)، شَعْثَ الرأْس وَاللِّحْيَةِ، فعبَّس فِي وَجْهِهِ وَقَالَ: وَيْحَكَ! أَما اسْتَحْيَيْتَ مِنْ أَهلك؟ أَما رَحِمْتَ وَلَدَكَ؟ أَترى اللَّهَ أَباح لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَن تَنَالَ مِنْهَا شَيْئًا؟ بَلْ أَنت أَهون عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ (¬8)! أَما سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ *} إِلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ *} (¬9)؟ أَفترى اللَّهُ أَبَاحَ هَذِهِ لِعِبَادِهِ إِلا لِيَبْتَذِلُوهُ (¬10) ويحمدوا الله عليه؛ فيثيبهم عَلَيْهِ؟ وإِن ابْتِذَالَكَ نِعَمَ اللَّهِ بِالْفِعْلِ خَيْرٌ مِنْهُ بِالْقَوْلِ. قَالَ عَاصِمٌ: فَمَا بَالَكَ فِي خُشُونة مأْكَلِك وَخُشُونَةِ مَلْبسك؟ قَالَ: وَيْحَكَ! إِن اللَّهَ فَرَضَ عَلَى أَئمة الْحَقِّ أَن يُقَدِّرُوا أَنفسهم بضعفة الناس (¬11). ¬

(¬1) في (خ) و (م): "وقد مرّ ما فيه في". (¬2) سورة المائدة: الآية (87). (¬3) قوله: "الآية" من (خ) و (م) فقط. (¬4) كذا في جميع النسخ، وكأن ناسخ (م) استشكلها فوضع عليها ثلاث نقاط (. . .)، وأما رشيد رضا فأثبتها: "اغد بي". (¬5) في (ر) و (غ): "متزرراً". (¬6) في (خ): "العباءة". (¬7) في (غ) و (ر): "بأخرى". (¬8) في (خ): "منها من ذلك". (¬9) سورة الرحمن: الآيات (10 ـ 22). (¬10) علق رشيد رضا هنا بقوله: الابتذال ضد الصون، وما يستعمل يبتذل؛ فالمراد استعمال النعم والطيبات والانتفاع بها، ويستعمل الابتذال في لازمه، وهو الامتحان والاحتقار، وليس بمراد هنا. اهـ. (¬11) رواه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" صفحة (247) من طريق ابن الأنباري، عن أبيه، عن أبي عكرمة الضبي، عن مسعود بن بشر، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى به. وإسناده معضل؛ فبين أبي عبيدة والربيع مفاوز، ومسعود وأبو عكرمة لم أقف لهما على ترجمة، والله أعلم.

فتأَمّلوا كَيْفَ لَمْ يُطَالِبِ اللَّهُ الْعِبَادَ بِتَرْكِ الْمَلْذُوذَاتِ؛ وإِنما طَالَبَهُمْ بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا إِذا تَنَاوَلُوهَا. فالمُتَحَرِّي لِلِامْتِنَاعِ مَنْ تَنَاوَلَ مَا أَباحه اللَّهُ من غير مُوجِبٍ شَرْعي مُفْتَئِت عَلَى الشَّارِعِ (¬1)، وَكُلُّ مَا جاءَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ من الامتناع عن بعض المتناولات ليس (¬2) مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وإِنما امْتَنَعُوا مِنْهُ لِعَارِضٍ شَرْعِيٍّ يَشْهَدُ الدَّلِيلُ بِاعْتِبَارِهِ، كَالِامْتِنَاعِ مِنَ التوسُّع لضيق الحلال (¬3) في يده، أَو لأَن التناول (¬4) ذَرِيعَةٌ (¬5) إِلى مَا يُكْرَهُ أَو يُمْنَعُ، أَو لأَن فِي المُتَنَاوَلِ وَجْهُ شُبْهَةٍ تَفَطَّنَ إِليه التَّارِكُ وَلَمْ يَتَفَطَّنْ إِليه غَيْرُهُ مِمَّنْ عَلِمَ بِامْتِنَاعِهِ. وَقَضَايَا الأَحوال لَا تُعَارِضُ الأَدلة بِمُجَرَّدِهَا؛ لِاحْتِمَالِهَا فِي أَنفسها. وَهَذِهِ المسأَلة مذكورةٌ عَلَى وجهها في كتاب "الموافقات" (¬6)، والحمد لله (¬7). وَمِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ فِي الأَفعال وَالْأَحْوَالِ (¬8) عَلَى مَا يُخَالِفُ مَحَبَّةَ النُّفُوسِ، وَحَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ شيءٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْدِيدِ. أَلا تَرَى أَن الشَّارِعَ أَباح أَشياءَ مِمَّا فِيهِ قضاءُ نَهْمَةِ النَّفْسِ وتمتُّعها واستلذاذُها؟ فَلَوْ كَانَتْ مخالفتُها بِرًّا لشُرِعَ، ولنُدِبَ النَّاسَ إِلى تَرْكِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُبَاحًا، بَلْ مندوبَ التَّرْكِ، أَو مكروهَ الْفِعْلِ. وأَيضاً فإِن اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ فِي الأُمور المُتَنَاوَلةِ ـ إِيجاباً أَو نَدْبًا ـ أَشياءَ مِنَ المُسْتَلَذَّات الْحَامِلَةِ عَلَى تَنَاوُلِ تِلْكَ الْأُمُورِ، لِتَكُونَ تِلْكَ اللَّذَّاتِ كَالْحَادِيَ إِلى الْقِيَامِ بِتِلْكَ الأُمور، كَمَا جَعَلَ فِي الأَوامر إَذا امْتُثلت، وَفِي النَّوَاهِي إِذا اجْتُنبت أُجوراً (¬9). مُنْتَظَرَةً؛ وَلَوْ شاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وجعل في ¬

(¬1) علق رشيد رضا هنا بقوله: يقال: افتأت على فلان افتئاتاً، وافتأت افتياتاً: إذا تصرف بشيء من شؤونه بدون إذنه ولا رضاه. اهـ. (¬2) قوله: "ليس" ليس في (خ). (¬3) في (خ): "الحال". (¬4) في (خ) و (م): "المتناول". (¬5) في (ر) و (غ): "خديعة". (¬6) انظر "الموافقات" (4/ 8 و87). (¬7) قوله: "والحمد لله" ليس في (خ) و (م). (¬8) في (غ) و (ر): "والأقوال". (¬9) في (خ): "أجروا".

الأَوامر إِذا تُركت وَالنَّوَاهِي إِذا ارتُكبت جَزَاءً عَلَى خِلَافِ الأَول؛ لِيَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُنْهِضًا لِعَزَائِمِ المكلَّفين فِي الِامْتِثَالِ، حَتَّى إِنه وَضَعَ لأَهل الامتثال المثابرين على المتابعة (¬1) فِي أَنفس التَّكَالِيفِ أَنواعاً مِنَ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ، والأَنوار الشَّارِحَةِ لِلصُّدُورِ، مَا لَا يَعْدِلُهُ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ سَبَبًا لاسْتِلْذاذ الطَّاعَةِ، والفِرَار إِليها، وَتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا، فَيَخِفَّ عَلَى الْعَامِلِ العملُ، حَتَّى يَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا قبلُ عَلَى (¬2) تحمُّله إِلا بالمشقَّة (¬3) الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؛ فإِذا سَقَطَتْ سَقَطَ النَّهْيُ. بَلْ تأَمّلوا كَيْفَ وَضَعَ للأَطعمة عَلَى اخْتِلَافِهَا (¬4) لذّاتٍ مُخْتَلِفَاتِ الأَلوان، وللأَشربة (¬5) كَذَلِكَ، وَلِلْوِقَاعِ (¬6) الْمَوْضُوعِ سبباً لاكتساب العيال ـ وهو أَشد تَعَباً (¬7) على النَّفْسِ ـ لذَّةً أَعْلَى مِنْ لَذَّةِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، إِلى غير ذلك من الأُمور الخارجة عَنْ نَفْسِ المُتَنَاوَلِ (¬8)، كَوَضْعِ الْقَبُولِ فِي الأَرض، وَتَرْفِيعِ الْمَنَازِلِ، والتقدُّم (¬9) عَلَى سَائِرِ النَّاسِ فِي الأُمور العِظَام (¬10)، وهي أَيضاً تقتضي لذّاتٍ تُسْتَصْغَرُ في جَنْبَهَا لذّاتُ الدُّنْيَا. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فأَين هذا الوَضْع (¬11) الْكَرِيمُ مِنَ الرَّبِّ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؟ فَمَنْ يأْتي مُتَعَبِّدًا ـ بِزَعْمِهِ ـ بِخِلَافِ مَا وَضَعَ الشَّارِعُ لَهُ مِنَ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ والأَسباب الْمُوصِلَةِ إِلى مَحَبَّتِهِ، فيأْخذ بالأَشق والأَصعب، ويجعله ¬

(¬1) في (خ): "الثائرين على المبايعة". (¬2) قوله: "على" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (غ) و (ر): "لا بالمشقة". (¬4) في (غ) و (ر): "اختلاف". (¬5) في (ر) و (غ): "والأشربة". (¬6) في (غ) و (ر): "للوقاع". (¬7) في (ر) و (غ): "نصباً". (¬8) في (غ) و (ر): "التناول". (¬9) في (غ) و (ر): "والتقديم". (¬10) في (خ) و (م): "العظائم". (¬11) في (خ): "الموضع".

هُوَ السُّلَّمَ الْمُوصِلَ وَالطَّرِيقَ الأَخص؛ هَلْ هَذَا كُلُّهُ إِلا غَايَةٌ فِي الْجَهَالَةِ وتَلَفٌ فِي تِيهِ (¬1) الضَّلَالَةِ؟ عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. فإِذا سَمِعْتُمْ بِحِكَايَةٍ تَقْتَضِي تَشْدِيدًا عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، أَو (¬2) يَظْهَرُ مِنْهَا تنطُّع أَو تكلُّف، فإِما أَن يَكُونَ صَاحِبُهَا مِمَّنْ يُعتبر كَالسَّلَفِ الصالح رضي الله عنهم، أَو مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُعرف وَلَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ أَهل الحَلّ والعَقْد مِنَ العلماءِ، فإِن كَانَ الأَول فَلَا بُدَّ أَن يَكُونَ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ لِبَادِيَ الرأْي ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ، وإِن كَانَ الثَّانِي فَلَا حُجّة فِيهِ، وإِنما الحُجَّة فِي الْمُقْتَدِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم. فهذه أمثلة (¬3) خمسة في التشديد على النفس (¬4) فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ يُقَاسُ عَلَيْهَا مَا سواها. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "من تيه". (¬2) قوله: "أو" ليس في (غ) و (ر). (¬3) قوله: "أمثلة" ليس في (خ) و (م). (¬4) قوله: "على النفس" ليس في (خ) و (م).

فصل

فَصْلٌ قَدْ يَكُونُ أَصل الْعَمَلِ مَشْرُوعًا، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ جَارِيًا مَجْرَى الْبِدْعَةِ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ، وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي فَرَغْنَا مِنْ ذِكْرِهِ. وَبَيَانُهُ: أَن الْعَمَلَ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِليه ـ مَثَلًا ـ فيَعمل بِهِ الْعَامِلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ عَلَى وَضْعِهِ الأَول مِنَ النَّدْبِيَّة، فَلَوِ اقْتَصَرَ الْعَامِلُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بأْس، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ إِذا دَامَ عَلَيْهِ فِي خَاصِّيَّتِهِ (¬1) غَيْرَ مُظْهِرٍ لَهُ دَائِمًا، بَلْ إِذا أَظهره لَمْ يُظْهِرْهُ عَلَى حُكْمِ الْمُلْتَزَمَاتِ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَالْفَرَائِضِ اللَّوَازِمِ، فَهَذَا صَحِيحٌ لَا إِشكال فِيهِ. وأَصله نَدْبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِخفاء النَّوَافِلِ وَالْعَمَلِ بِهَا فِي الْبُيُوتِ، وَقَوْلُهُ: "أَفضل الصَّلَاةِ صَلَاتُكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ إِلا الْمَكْتُوبَةَ" (¬2). فَاقْتَصَرَ فِي الإِظهار عَلَى الْمَكْتُوبَاتِ ـ كَمَا تَرَى ـ؛ وإِن كَانَ ذَلِكَ فِي مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَو فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَو في مسجد بيت المقدس، حتى قَالُوا: إِن النَّافِلَةَ فِي الْبَيْتِ أَفضل مِنْهَا فِي أَحد هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، بِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَجَرَى مَجْرَى الْفَرَائِضِ فِي الْإِظْهَارِ: السُّنَنُ (¬3)؛ كَالْعِيدَيْنِ وَالْخُسُوفِ والاستسقاءِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَبَقِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ حُكْمُهُ الإِخفاء، وَمِنْ هُنَا ثَابَرَ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى إِخفاءِ الأَعمال فيما استطاعوا وخفَّ (¬4) عَلَيْهِمْ الاقتداءُ (¬5) بِالْحَدِيثِ، وَبِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لأَنه القدوة والأسوة. ¬

(¬1) في (ر) و (غ) "خاصته". (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (731 و6113 و7290)، ومسلم (781). (¬3) في (خ): "والسنن". (¬4) في (خ) و (م): "أو خف". (¬5) في (غ) و (ر): "اقتداء".

وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا إِذا عُمِلَ بها في البيوت دائماً (¬1) أَن تقام (¬2) جَمَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ البتَّةَ، مَا عَدَا رَمَضَانَ ـ حَسْبَمَا (¬3) تَقَدَّمَ ـ، وَلَا فِي الْبُيُوتِ دَائِمًا، وإِن وَقَعَ (¬4) ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الأَول فِي الفَرَط (¬5)؛ كَقِيَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ (¬6)، وَمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "قُومُوا (¬7) فلأُصلِّ لَكُمْ" (¬8). وَمَا فِي "الموطإِ" (¬9) مِنْ صَلَاةِ يَرْفَأ (¬10) مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقْتَ الضُّحَى، فَمِنْ فِعْلِهِ فِي بَيْتِهِ وَقْتًا مَّا، فلا حَرَج، وقد نصّ (¬11) العلماءُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِهَذَا الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ ـ وإِن كَانَ الْجَوَازُ قَدْ وَقَعَ فِي "الْمُدَوَّنَةِ" (¬12) مُطْلَقًا ـ، فَمَا ذَكَرَهُ تَقْيِيدٌ لَهُ، وأَظن ابْنَ حبيب نقله (¬13) عَنْ مَالِكٍ مُقَيَّدًا، فإِذا اجْتَمَعَ فِي النَّافِلَةِ أَن تُلْتَزَم (¬14) التزام السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ، إِما دَائِمًا، وإِما فِي أَوقات مَحْدُودَةٍ وَعَلَى وَجْهٍ مَحْدُودٍ، وأُقيمت فِي الْجَمَاعَةِ، وكان ذلك (¬15) فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْفَرَائِضُ، أَو المواضع التي تقام ¬

(¬1) قوله: "دائماً" ليس في (غ) و (ر). (¬2) في (خ) و (م): "أن يقام". (¬3) في (غ) و (ر): "كما". (¬4) في (غ) و (ر): "وإنما وقع". (¬5) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولا يظهر لهذه الكلمة هنا معنى. والمثل الذي ذكره ثابت في "الصحيح"؛ هو أن ابن عباس أراد أن يعرف صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الليل، فبات عند خالته ميمونة في ليلتها، فلما قام النبي صلّى الله عليه وسلّم من الليل قام معه، واقتدى به، فصلى إحدى عشرة ركعة، فهي قيامه ووتره صلّى الله عليه وسلّم. اهـ. (¬6) أخرجه البخاري (117)، ومسلم (763). (¬7) تكرر قوله "قوموا" في (غ). (¬8) أخرجه البخاري (380)، ومسلم (658) عن أنس رضي الله عنه. (¬9) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 154) عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة، فوجدته يسبِّح، فقمت وراءه، فقرّبني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، فلما جاء يرفأ؛ تأخّرت، فصففنا وراءه. وسنده صحيح .. (¬10) في (م): "يرقا". وأوضح رشيد رضا أن يرفأ هذا هو خادم عمر رضي الله عنه. (¬11) في (خ): "ونص". (¬12) "المدونة" (1/ 96). (¬13) في (خ): "نقل"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: "نقله"، أو: "نقل ذلك".اهـ. (¬14) في (خ) و (م): "يلتزم". (¬15) قوله: "وكان ذلك" ليس في (خ) و (م).

فِيهَا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ؛ فَذَلِكَ ابْتِدَاعٌ (¬1). وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنه لَمْ يأْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَحد مِنَ (¬2) أَصحابه، ولا التَّابِعِينَ لَهُمْ بإِحسان (¬3) فعلُ هَذَا الْمَجْمُوعِ هَكَذَا مَجْمُوعًا، وإِن أَتى مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تِلْكَ التقييدات مشروعاً (¬4). فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت (¬5) بدليل الشرع تقييدها رأيٌ (¬6) في التشريع، كما أَن إِطلاق المُقَيَّدات شرعاً رأْي فِي التَّشْرِيعِ (¬7)، فَكَيْفَ إِذا عَارَضَهُ الدَّلِيلُ؛ وَهُوَ الأَمر بإِخفاءِ النَّوَافِلِ مَثَلًا؟ وَوَجْهُ دُخُولِ الِابْتِدَاعِ هُنَا: أَن كُلَّ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من النَّوَافِلِ وأَظهره فِي الْجَمَاعَاتِ فَهُوَ سُنَّة، فَالْعَمَلُ بِالنَّافِلَةِ الَّتِي (¬8) لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ ـ عَلَى طَرِيقِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ ـ إِخراج لِلنَّافِلَةِ عَنْ مَكَانِهَا الْمَخْصُوصِ بِهَا شَرْعًا. ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اعْتِقَادُ الْعَوَامِّ فِيهَا، وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَهَذَا فَسَادٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ اعْتِقَادَ مَا لَيْسَ بِسُنَّةٍ سُنَّةً (¬9)، وَالْعَمَلَ بِهَا عَلَى حَدِّ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ: نحوٌ مِنْ تَبْدِيلِ الشَّرِيعَةِ (¬10)، كَمَا لَوِ اعْتَقَدَ فِي الْفَرْضِ أَنه لَيْسَ بِفَرْضٍ، أَو فيما (¬11) ليس بفرض أَنه فرض، ثم عمل على وَفْقَ اعْتِقَادِهِ، فإِنه فَاسِدٌ، فَهَبِ العَمَلَ فِي الأَصل صَحِيحًا، فإِخراجه عَنْ بَابِهِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا مِنْ بَابِ إِفساد الأَحكام الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْ هُنَا ظهر عذر السلف الصالح رضي الله عنهم فِي تَرْكِهِمْ سُنَناً قَصْداً؛ لِئَلَّا يَعتقد الجاهلُ أَنها مِنَ الْفَرَائِضِ؛ كالأُضحية وَغَيْرِهَا؛ كَمَا تَقَدَّمَ ذكره (¬12). ¬

(¬1) في (خ): "اتباع". (¬2) قوله: "أحد من" ليس في (خ) و (م). (¬3) في (ر) و (غ): "لهم بإحسان لهم". (¬4) قوله: "مشروعاً" ليس في (خ). (¬5) في (م): "تثبت". (¬6) في (غ): "برأي". (¬7) من قوله: "كما أن إطلاق" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬8) قوله: "التي" ليس في (م). (¬9) قوله: "سنة" ليس في (خ). (¬10) في (ر) و (غ): "الشرعية". (¬11) في (خ): "أو ما" وفي (م): "أو بما". (¬12) في (خ) و (م): "ذلك" بدل "ذكره". وترك بعض السلف الأضحية لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض لم يتقدم الكلام عنه، ولكنه سيأتي (ص346).

ولأَجله أَيضاً نَهَى أَكثرهم عَنِ اتِّبَاعِ الْآثَارِ؛ كَمَا خَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ وَضَّاحٍ وغيرُهما عَنْ مَعْرُور (¬1) بْنِ سُوَيد الأَسدي قَالَ: وَافَيْتُ الْمَوْسِمَ مَعَ أَمير الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه، فلما انصرف (¬2) إِلَى الْمَدِينَةِ انْصَرَفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا صَلَّى لَنَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ فقرأَ فِيهَا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *} (¬3) و {لإِِيلاَفِ قُرَيْشٍ *} (¬4)، ثُمَّ رأَى نَاسًا يَذْهَبُونَ مَذْهَبًا، فَقَالَ: أَيْنَ يَذْهَبُ هؤلاءِ؟ قَالُوا: يَأْتُونَ مَسْجِدًا هَاهُنَا صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ (¬5): إِنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، يَتَّبعون آثَارَ أَنبيائهم، فاتّخَذوها كَنَائِسَ وبِيَعاً، مَنْ أَدركته الصَّلَاةُ فِي شيءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيُصَلِّ فِيهَا، وإِلا فَلَا يتعمَّدْها (¬6). وَقَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ (¬7): سَمِعْتُ عِيسَى بْنَ يُونُسَ مُفْتِي أَهل طَرَسُوس يَقُولُ: أَمر عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَطْعِ الشَّجَرَةِ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَطَعَهَا؛ لأَن النَّاسَ كَانُوا يَذْهَبُونَ فَيُصَلُّونَ تحتها، فخاف عليهم الفتنة (¬8). ¬

(¬1) في (خ): "معزوز". (¬2) في (خ): "انصرفنا". (¬3) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م). (¬4) سورة الفيل: الآية (1). (¬5) سورة قريش: الآية (1). (¬6) في (ر) و (غ) و (م): "قال". (¬7) أخرجه عبد الرزاق (2/ 118)، وابن أبي شيبة (2/ 153)، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (104، 105) جميعهم من طريق الأعمش، عن معرور بن سويد به. وإسناده صحيح. وقال الحافظ في "الفتح" (1/ 569): ثابت عن عمر. (¬8) في "البدع والنهي عنها" (106). (¬9) زاد ابن وضاح قوله: قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون، عن نافع: أن الناس كانوا يأتون الشجرة، فقطعها عمر. وهذا الأثر أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 100) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، وابن أبي شيبة في "المصنف" (7545) من طريق معاذ بن معاذ، كلاهما عن عبد الله بن عون، عن نافع؛ قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها: شجرة الرضوان، فيصلّون عندها؛ قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فأوعدهم فيها، وأمر بها فقُطعت. وسنده رجاله ثقات، لكنه منقطع بين نافع وعمر رضي الله عنه، ولذا صححه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (7/ 448) إلى نافع، فقال: "ثم وجدت عند ابن سعد بإسناد=

قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ (¬1): وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنس وَغَيْرُهُ مِنَ علماءِ الْمَدِينَةِ يَكْرَهُونَ إِتيان تِلْكَ الْمَسَاجِدِ، وَتِلْكَ الْآثَارِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، ما عدا قُباءَ وحده (¬2). قال: وَسَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَ أَن سُفْيَانَ (¬3) دَخَلَ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّى فِيهِ، وَلَمْ يَتَّبِعْ تِلْكَ الْآثَارَ، وَلَا الصَّلَاةَ (¬4) فِيهَا. وَكَذَلِكَ فَعَلَ غَيْرُهُ أَيضاً مِمَّنْ يُقتدى بِهِ. وَقَدِمَ وَكِيعٌ أَيضاً مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَمْ يعدُ فعلَ سُفْيَانَ. قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ (¬5): فَعَلَيْكُمْ بِالِاتِّبَاعِ لأَئمة الْهُدَى الْمَعْرُوفِينَ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ مَضَى: كَمْ مِنْ أَمر هُوَ الْيَوْمَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ كَانَ مُنْكَرًا عِنْدَ مَنْ مَضَى؟ وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ كُلَّ بِدْعَةٍ وإِن كَانَتْ فِي خَيْرٍ (¬6). وَجَمِيعُ هَذَا ذَرِيعَةٌ لِئَلَّا يُتّخذ سُنَّةً مَا لَيْسَ بِسُنَّةٍ، أَو يُعَدّ مَشْرُوعًا ما ليس بمشروع (¬7). وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْمَجِيءَ إِلى بَيْتِ المَقْدِس خِيفَةَ أَن يُتَّخذ ذَلِكَ سُنَّةً، وَكَانَ يَكْرَهُ مجيءَ قُبُورِ الشُّهَدَاءِ (¬8)، وَيَكْرَهُ مجيءَ قُباءَ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ، مَعَ مَا جاءَ فِي الآثار من الترغيب فيه (¬9). ¬

=صحيح عن نافع ... "، فذكره. وقد أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (5/ 2876) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عُلَيَّة؛ ثنا ابن عون؛ قال: بلغ عمر ... ، فذكره هكذا بإسقاط نافع من الإسناد، وهذا أشد انقطاعاً، لكن رواية ابن أبي شيبة وابن سعد أرجح، لاتفاق ثقتين على روايته عن ابن عون، عن نافع. (¬1) في "البدع والنهي عنها" صفحة (88). (¬2) وقع في المطبوع من "البدع والنهي عنها": "وأحداً". (¬3) أي: الثوري. (¬4) في (ر): "إلا الصلاة"، ويشبه أن تكون هكذا في (غ). (¬5) في "البدع والنهي عنها" صفحة (89). (¬6) المصدر السابق صفحة (91). (¬7) في (خ) و (م): "ما ليس معروفاً". (¬8) أي: لمن كان بالمدينة من غير شدّ رحل إليها؛ لأن شدّ الرحال للقبور محرّم. (¬9) انظر "البدع والنهي عنها" صفحة (91).

وَلَكِنْ لَمَّا خَافَ العلماءُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ تَرَكُوهُ. وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ وأَشْهَب: سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ لما أَتاها (¬1) سَعْدُ (¬2) بْنُ أَبي وَقَّاصٍ؛ قَالَ: وَدِدْتُ أَن رِجْلِي تَكَسَّرت وأَني لَمْ أَفعل (¬3) (¬4). وَسُئِلَ ابْنُ كِنَانَةَ عَنِ الْآثَارِ الَّتِي تَرَكُوا بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: أَثبت مَا فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا قُباءَ (¬5)، إِلا أَن مَالِكًا كَانَ يَكْرَهُ مَجِيئَهَا خَوْفًا مِنْ أَن تُتَّخَذَ (¬6) سُنَّةً (¬7). وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ حَسَّانَ (¬8): كُنْتُ أَقرأُ عَلَى ابْنِ نَافِعٍ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِحَدِيثِ التَّوْسعة ليلة عاشوراءَ (¬9) ¬

(¬1) في (خ) و (م): "أتاه". (¬2) في (م): "سعيد". (¬3) في (ر) و (غ): "أن رجلي تكسر ولم أفعل"، والمثبت موافق لما في "البدع والنهى عنها". (¬4) انظر: "البدع والنهي عنها" صفحة (91). (¬5) في (ر) و (غ): "أثبت ما عندنا في ذلك". (¬6) في (خ) و (م): "يتخذ". (¬7) انظر "البدع والنهي عنها" صفحة (91). (¬8) كما في المصدر السابق. (¬9) حديث التوسعة على العيال يوم عاشوراء: ورد من حديث عبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وموقوفاً على عمر بن الخطاب. 1 ـ أما حديث عبد الله بن مسعود: فأخرجه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 252)، وابن حبان في "المجروحين" (3/ 97)، والطبراني في "الكبير" (10/ 77 رقم 10007)، والبيهقي في "الشعب" (3513)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 211)، والخطيب في "الموضح" (2/ 277)، جميعهم من طريق الهَيْصَم بن الشَّدَّاخ، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من وسَّع على عياله يوم عاشوراء؛ لم يزل في سعةٍ سائرَ سنته". ووقع عند العقيلي: "يحيى بن وثاب" بدل "إبراهيم". قال العقيلي: "ولا يثبت في هذا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء، إلا شيء يروى عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر مرسلاً، به". ذكر العقيلي هذا الحديث في ترجمة علي بن المهاجر العيشي، وذكر أنه يروي عن هيصم بن الشماخ [كذا!]، ثم قال: "كلاهما مجهول، والحديث غير محفوظ". وذكره ابن حبان في ترجمة هيصم بن الشداخ من "المجروحين"، وقال عنه: "شيخ يروي عن الأعمش الطّامّات في الروايات، لا يجوز الاحتجاج به". وأما ابن عدي فذكره في ترجمة علي بن أبي طالب الدهّان الراوي له عن الهيصم، ثم قال: "وهذا=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=الحديث بهذا الإسناد لا أعلم يرويه غير علي بن أبي طالب". قلت: وفي بعض المصادر المتقدمة التي أخرجته جاء من رواية علي بن المهاجر، وهذا يوهم أن علي بن أبي طالب الدّهان توبع عليه، فيستدرك على ابن عدي، وليس كذلك، فقد أخرج الخطيب في الموضع السابق من "الموضح" هذا الحديث من طريق علي بن مهاجر، ثم قال: "وهو علي بن أبي طالب الدهّان ... "، ثم أخرج الحديث مرة أخرى بتسميته علي بن أبي طالب، ثم قال: "قال لنا أبو نعيم: لم يروه عن الأعمش إلا الهيصم، وعنه علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب: مهاجر". وذكر ابن الجوزي في "الموضوعات" (1142) هذا الحديث، وذكر قول العقيلي وابن حبان، وتَعَقَّبَه السيوطي في "اللآلئ" (2/ 111) بالطرق الآتية. وقال الذهبي في ترجمة علي بن مهاجر من "الميزان" (3/ 158 رقم 5950): "لا يُدرى من هو، والخبر موضوع". ويدلّ على وضعه: تفرُّد علي بن المهاجر به، عن شيخه الهيصم بن الشَّدَّاخ، عن الأعمش، وعلي وشيخه متكلم فيهما بما سبق ذكره، والأعمش إمام مشهور مكثر جدّاً من الحديث، والرواة عنه كُثُر، ومنهم أئمة كشعبة والثوري، فأين كانوا عن هذا الحديث الذي لا يعرف إلا من طريق هذا المتهم: الهيصم؟!! وانظر "لسان الميزان" (7/ 277). 2 ـ وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه: العقيلي في "الضعفاء" (4/ 65)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 200)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 198)، والبيهقي في "الشعب" (3515) ـ من طريق ابن عدي ـ، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (910) ـ من طريق العقيلي ـ، جميعهم من طريق حجاج بن نصير، عن محمد بن ذكوان، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن أبي عبد الله، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ... ، فذكره. ذكر العقيلي هذا الحديث فيما ينتقد على محمد بن ذكوان، وزاد عقب إخراجه له قوله: "وسليمان بن أبي عبد الله مجهول بالنقل، والحديث غير محفوظ". وذكره ابن عدي فيما ينتقد على محمد بن ذكوان. وأعله ابن الجوزي بكلام العقيلي، وكذا صنع في "الموضوعات" (2/ 572 ـ 573). وللحديث ثلاث علل. أـ حجاج بن نُصير الفَسَاطيطي ضعيف، كان يقبل التلقين كما في "التقريب" (1148). ب ـ محمد بن ذكوان الأزدي الطّاحي، ويقال: الجَهْضَمي؛ قال عنه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 79 رقم 206): "منكر الحديث"، وكذا قال أبو حاتم الرازي=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=كما في "الجرح والتعديل" (7/ 251 رقم 1378)، وكذا قال النسائي كما في الموضع السابق من "الكامل" لابن عدي، وقال مرة: "ليس بثقة، ولا يكتب حديثه"؛ كما في "تهذيب الكمال" (25/ 182). فإن قيل: وثقه يحيى بن معين؛ قلنا: لعله التبس عليه بآخر، وانظر رَدّ المعلِّمي لتوثيقه في تعليقه على "الفوائد المجموعة" (ص98 ـ 99). جـ الراوي عن أبي هريرة: سليمان بن أبي عبد الله، وهو مقبول كما في "التقريب" (2597)، وتقدم قول العقيلي عنه: "مجهول بالنقل، والحديث غير محفوظ". وبهذه العلل الثلاث يتضح أن الحديث ضعيف جداً، ولا ينجبر ضعفه بتعدد طرقه، فضلاً عن أن يكون صحيحاً أو حسناً. ومن هنا يتضح ما في قول الحافظ العراقي من البعد؛ حيث قال في "أماليه": "لحديث أبي هريرة طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" من طريق سليمان بن أبي عبد الله عنه، وقال: سليمان مجهول، وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات، فالحديث حسن على رأيه" اهـ من "المقاصد الحسنة" (ص431). 3 ـ وأما حديث أبي سعيد الخدري: فقال إسحاق بن راهويه في "مسنده" ـ كما في "اللآلئ (2/ 112) ـ: أنبأنا عبد الله بن نافع؛ حدثني أيوب بن سليمان بن ميناء، عن رجل، عن أبي سعيد الخدري؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من وسع على عياله ... "، الحديث. وأخرجه البيهقي في "الشعب" (3514) و"فضائل الأوقات" (245) من طريقين عن عبد الله بن نافع، به. وهذا سند ضعيف جدّاً أيضاً فيه ثلاث علل: أـ الراوي عن أبي سعيد مبهم لا يُدْرَى من هو؟ ب ـ الراوي عنه: أيوب بن سليمان بن ميناء غير معروف، ولم يرو عنه سوى عبد الله بن نافع ـ وسيأتي بيان حاله ـ، وذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 417 رقم 1331) وقال: "روى عنه عبد الله بن نافع الصائغ المدني، مرسل"، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وكذا ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 248 رقم 885). وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (6/ 61) وقال: "يروي المقاطيع"، وقاعدة ابن حبان معروفة في توثيق المجاهيل. جـ عبد الله بن نافع الصائغ المخزومي، مولاهم، أبو محمد المدني: ثقة إذا حدث من كتابه، وأما حفظه فضعيف، ولذا يقول عنه ابن حجر في "التقريب" (3683): "ثقة صحيح الكتاب، في حفظه لين"، ولم يتبين أن هذا الحديث من كتابه، ولو تبين فالعلتان الأوليان فيهما كفاية في إعلاله. ولحديث أبي سعيد هذا طريق أخرى أخرجها الطبراني في "الأوسط" (9302) من=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=طريق محمد بن إسماعيل الجعفري؛ ثنا عبد الله بن سلمة الرَّبَعي، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة، عن أبيه، عن أبي سعيد، به. ثم قال الطبراني: "لا يُروى هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به محمد بن إسماعيل الجعفري". وقال الهيثمي في "المجمع" (3/ 189): "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن إسماعيل الجعفري؛ قال أبو حاتم: منكر الحديث". قلت: الجعفري؛ هذا قال عنه أبو حاتم الرازي: "منكر الحديث، يتكلمون فيه"؛ كما في "الجرح والتعديل" (7/ 189 رقم 1073)، وقال عنه أبو نعيم: متروك، كما في "لسان الميزان" (6/ 151 رقم 7123)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (9/ 88) وقال: "يغرب". وفي سنده أيضاً عبد الله بن سلمة الرَّبعَي، وهو متروك؛ كما في "لسان الميزان" (4/ 295 رقم 4663 و4664). 4 ـ وأما حديث جابر: فله عنه طريقان: أـ أخرجه البيهقي في "الشعب" (3512) من طريق محمد بن يونس، عن عبد الله بن إبراهيم الغفاري، عن عبد الله بن أبي بكر ـ ابن أخي محمد بن المنكدر ـ، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به. قال البيهقي: "هذا إسناد ضعيف". وقال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "تمام المنة" (ص410 ـ 411): "فهذا إسناد موضوع من أجل محمد بن يونس ـ وهو الكُدَيمي ـ، فإنه كذاب، قال ابن عدي: قد اتُّهم الكديمي بالوضع، وقال ابن حبان: لعله قد وضع أكثر من ألف حديث. وشيخه: عبد الله بن إبراهيم الغفاري؛ قال الذهبي: وهو عبد الله بن أبي عمرو المدني، يدلِّسونه لوهنه، نسبه ابن حبان إلى أنه يضع الحديث، وذكر له ابن عدي في فضل أبي بكر وعمر حديثين، وهما باطلان، قال الحاكم: يروي عن جماعة من الضعفاء أحاديث موضوعة. قلت [أي: الألباني]: وهذا منها، فإن شيخه عبد الله بن أبي بكر ـ ابن أخي محمد بن المنكدر ـ ضعيف كما في "الميزان" اهـ. ب ـ أخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/ 140 رقم 14294) من طريق محمد بن معاوية؛ قال: حدثنا الفضل بن الحباب؛ قال: حدثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي؛ قال: حدثنا شعبة، عن أبي الزبير، عن جابر؛ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... ، فذكره. قال جابر: جرّبناه فوجدناه كذلك. وقال أبو الزبير وقال شعبة مثله. وهذا الحديث ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمة أبي خليفة الفضل بن الحباب من=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

="لسان الميزان" (6/ 19)، فقال: "روى عنه ابن عبد البر في الاستذكار من طريقه حديثاً منكراً جدّاً، ما أدري من الآفة فيه! ... وشيوخ ابن عبد البر الثلاثة مُوَثّقون، وشيخهم محمد بن معاوية هو ابن الأحمر راوي السنن عن النسائي وثقه ابن حزم وغيره، فالظاهر أن الغلط فيه من أبي خليفة، فلعل ابن الأحمر سمعه منه بعد احتراق كتبه، والله أعلم". قلت: ولو كان الحديث مروياً عن شعبة بهذه الصفة لما غفل عنه أصحاب المصنفات المشهورة ودواوين الإسلام المعروفة ولم يوجد إلا عند ابن عبد البر المتأخر! 5 ـ وأما حديث عبد الله بن عمر: فأخرجه الدارقطني في "الأفراد" ـ كما في "اللآلئ" (2/ 112)، و"كشف الخفاء" (2/ 284) ـ، ومن طريقه أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (909)، من طريق محمد بن موسى بن سهل؛ قال: نا يعقوب بن خرة الدّبّاغ؛ قال: نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... ، فذكره. قال ابن الجوزي: "حديث ابن عمر منكر من حديث الزهري عن سالم، وإنما يُروى هذا من قول إبراهيم بن محمد بن المنتشر، ويعقوب بن خرة ضعيف"، وهذا قول الدارقطني. وذكر الحافظ ابن حجر في "اللسان" قول الذهبي في يعقوب بن خرة الدباغ: "عن سفيان بن عيينة، ضعفه الدارقطني. قلت: له خبر باطل لعله وهم". ثم قال ابن حجر: "قال الدارقطني في الأفراد: حدثنا محمد بن موسى بن سهل ... "، فذكر هذا الحديث، ثم ذكر قول الدارقطني الذي حكاه ابن الجوزي، ثم قال: "وقال ـ أي الدارقطني ـ في المؤتلف والمختلف: يعقوب بن خرة ـ بالخاء المعجمة ـ شيخ من أهل فارس، يحدِّث عن أزهر بن سعد السَّمّان وسفيان بن عيينة وغيرهما، لم يكن بالقوي في الحديث". ولحديث ابن عمر هذا طريق آخر: أخرجه الخطيب في "رواة مالك" ـ كما في اللآلئ (2/ 113) ـ، من طريق هلال بن خالد، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... ، فذكره. قال الخطيب: "في إسناده غير واحد من المجهولين، ولا يثبت عن مالك". وقال المعَلِّمي في "حاشيته على الفوائد المجموعة" (ص99): "سند مظلم"، ثم ذكر كلام الخطيب، ثم قال: "وآخر المجهولين: هلال بن خالد، روى عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وفي ترجمته من لسان الميزان: هذا باطل". 6 ـ وأما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموقوف عليه: فأخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار" (14297) من طريق ابن وضّاح؛ قال: حدثنا أبو محمد العابد، عن بهلول بن راشد، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب؛=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=قال: قال عمر بن الخطاب: من وسَّع على أهله يوم عاشوراء؛ وسَّع الله عليه سائر السنة. قال يحيى بن سعيد: جربنا ذلك فوجدناه حقّاً. وأبو محمد العابد شيخ ابن وضاح لم أعرفه، وسعيد بن المسيب روايته عن عمر مرسلة، والحديث موقوف وليس بمرفوع. ومن خلال ما تقدم يتضح أن الحديث لا ينجبر ضعفه بهذه الطرق، وقد ذهب البيهقي إلى أنه يتقوَّى بها فقال في "الشعب" (7/ 379) بعد أن ذكر طرقه: "هذه الأسانيد وإن كانت ضعيفة، فهي إذا ضُمَّ بعضها إلى بعض أخذت قوَّة، والله أعلم". وذهب إلى تصحيحه أيضاً الحافظ أبو الفضل ابن ناصر، والعراقي كما في "المقاصد الحسنة" (ص431 رقم 1193)، والسيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (2/ 111 ـ 113)، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص98 ـ 100) حيث قال: "طرقه يقوي بعضها بعضاً"، وذهب إلى تضعيفه الإمام أحمد كما سيأتي، والعقيلي، وابن عدي، وابن حبان كما سبق نقله عنهم، وابن الجوزي؛ فذكره في "العلل المتناهية" و"الموضوعات" ـ كما سبق ـ، ونقد طرقه التي أوردها. كما ذهب إلى تضعيفه الذهبي ـ كما سبق ـ، ومن المتأخرين: الشيخ عبد الرحمن المعلمي، والشيخ ناصر الدين الألباني رحمهما الله، وتقدم النقل عنهما. ومن أجود من نقد الحديث وأعلّه: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله. أما ابن القيم فقال في "المنار المنيف" (ص111 ـ 113): "ومنها [يعني: الأحاديث الباطلة]: أحاديث الاكتحال يوم عاشوراء، والتزيُّن، والتوسعةِ، والصلاة فيه، وغير ذلك من فضائل لا يصح منها شيء، ولا حديث واحد، ولا يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه شيء غير أحاديث صيامه، وما عداها فباطل، وأمثل ما فيها: "من وسَّع على عياله يوم عاشوراء؛ وسّع الله عليه سائر سنته"، قال الإمام أحمد: لا يصحّ هذا الحديث. وأما حديث الاكتحال، والادّهان، والتطيُّب: فمن وضع الكذّابين، وقابلهم آخرون فاتخذوه يوم تألُّم وحُزن، والطائفتان مبتدعتان خارجتان عن السنّة. وأهل السنّة يفعلون فيه ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الصوم، ويجتنبون ما أمر به الشيطان من البدع" اهـ. وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فتكلم عنه في مواضع عدَّة؛ "كمنهاج السنة" (7/ 39)، و"اقتضاء الصراط المستقيم" (1/ 300). وسئل في "الفتاوى" (25/ 299 ـ 301) عما يفعله الناس في يوم عاشوراء؛ من الكحل، والاغتسال، والحنّاء، والمصافحة، وطبخ الحبوب، وإظهار السرور، وغير ذلك إلى الشارع، فهل ورد في ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث صحيح أم لا؟ وإذا لم يَرِدْ حديث صحيح في شيء من ذلك، فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ وما تفعله=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=الطائفة الأخرى من المأْتَمِ، والحزن، والعطش، وغير ذلك؛ من النَّدْبِ، والنِّياحة، وقراءة المصروع، وشَقّ الجيوب، هل لذلك أصل أم لا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لم يَرِدْ في شيءٍ من ذلك حديث صحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولا رَوى أهلُ الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً، لا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا الصحابة، ولا التابعين، لا صحيحاً، ولا ضعيفاً، لا في كتب الصحيح، ولا في السنن، ولا المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة، ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث؛ مثل ما رووا: أن من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام، ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، وأمثال ذلك ... ، ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء، ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم، واستواء السفينة على الجودِيّ، ورَدَّ يوسف على يعقوب، وإنجاء إبراهيم من النار، وفداء الذبيح بالكبش، ونحو ذلك. ورووا في حديثٍ موضوع مكذوب على النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه من وسَّع على أهله يوم عاشوراء؛ وسَّع الله عليه سائر السنة. ورواية هذا كله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كذب، ولكنه معروف من رواية سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه؛ قال: بلغنا أنه من وسَّع على أهله يوم عاشوراء؛ وسّع الله عليه سائر سنته، وإبراهيم بن محمد بن المنتشر من أهل الكوفة، وأهل الكوفة كان فيهم طائفتان: طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت، وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة، وإما جهال وأصحاب هوى، وطائفة ناصِبَة تبغض عليّاً وأصحابه؛ لمّا جرى من القتال في الفتنة ما جرى. وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: سيكون في ثقيف كذّاب ومُبِيرٌ، فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان يظهر موالاة أهل البيت، والانتصار لهم وقتل عبيد الله بن زياد أمير العراق الذي جهّز السَّرِيَّة التي قتلت الحسين بن علي رضي الله عنهما، ثم إنه أظهر الكذب، وادّعى النبوة، وأن جبريل عليه السلام ينزل عليه، حتى قالوا لابن عمر وابن عباس؛ قالوا لأحدهما: إن المختار بن أبي عبيد يزعم أنه ينزل عليه؟ فقال: صدق، قال الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ *تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ *} [الشعراء: 221، 222] وقالوا للآخر: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه؟ فقال: صدق {وَإِنَّ الشَّيْاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]. وأما المبير: فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان منحرفاً عن علي وأصحابه، فكان هذا من النواصب، والأول من الروافض اهـ. وقال في (25/ 312 ـ 313): والصحيح: أنه يستحب لمن صامه أن يصوم معه التاسع؛ لأن هذا آخر أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لقوله: لئن عشت إلى قابل؛ لأصومنَّ التاسع مع العاشر؛ كما جاء ذلك=

قال لي: حَوِّقْ (¬1) عَلَيْهِ، قُلْتُ: وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَبا مُحَمَّدٍ؟ قال: خوفاً من أَن يُتّخذ سنة. ¬

=مُفَسَّراً في بعض طرق الحديث، فهذا الذي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما سائر الأمور؛ مثل اتخاذ طعامٍ خارجٍ عن العادة، إما حبوب، وإما غير حبوب، أو تجديد لباس، أو توسيع نفقة، أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم، أو فعل عبادة مختصة؛ كصلاة مختصة به، أو قصد الذبح، أو ادّخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب، أو الاكتحال، أو الاختضاب، أو الاغتسال، أو التصافح، أو التزاور، أو زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك، فهذا من البدع المنكرة التي لم يسنّها رسول الله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين، لا مالك، ولا الثوري، ولا الليث بن سعد، ولا أبو حنيفة، ولا الأوزاعي، ولا الشافعي، ولا أحمد بن حنبل، ولا إسحاق بن راهويه، ولا أمثال هؤلاء من أئمة المسلمين وعلماء المسلمين، وإن كان بعض المتأخرين من أتباع الأئمة قد كانوا يأمرون ببعض ذلك، ويروون في ذلك أحاديث وآثاراً، ويقولون: إن بعض ذلك صحيح، فهم مخطئون غالطون بلا ريبٍ عند أهل المعرفة بحقائق الأمور، وقد قال حرب الكرماني في "مسائله": سُئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث: من وسَّع على أهله يوم عاشوراء؟ فلم يره شيئاً، وأعلى ما عندهم: أثر يُروى عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه أنه قال: بلغنا: أنه من وسّع على أهله يوم عاشوراء؛ وسّع الله عليه سائر سنته. قال سفيان بن عيينة: جرّبناه منذ ستّين عاماً فوجدناه صحيحاً. وإبراهيم بن محمد كان من أهل الكوفة، ولم يذكر ممن سمع هذا، ولا عمَّن بلغه، فلعل الذي قال هذا من أهل البدع الذين يبغضون عليّاً وأصحابه، ويريدون أن يقابلوا الرافضة بالكذب مقابلة الفاسد بالفاسد، والبدعة بالبدعة. وأما قول ابن عيينة: فإنه لا حُجَّة فيه، فإن الله سبحانه أنعم عليه برزقه، وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء، وقد وسع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار، ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشوراء بخصوصه، وهذا كما أن كثيراً من الناس ينذرون نذراً لحاجة يطلبها، فيقضي الله حاجته، فيظن أن النذر كان السبب اهـ، والله أعلم. (¬1) في (خ) و (م): "حرق"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الصواب. ومعنى "حَوِّقْ": أي: اجعل عليه دائرة؛ كما يتضح من "لسان العرب" (10/ 71)، كأنه قال: اضرب عليه. وقد اعتمد رشيد رضا رحمه الله على نسخة (خ) فقط، وفيها: "حرق" بالراء، فعلّق عليه بقوله: لعلّها: "حوق" بالواو؛ يقال: حوق عليه الكلام: إذا خلطه وأفسده عليه بحيث لا يفهم، أو لا يقرأ إلا إذا كان مكتوباً. وهو من الحُوَاقة؛ أي: الكناسة التي يختلط بها ما يكنس بعضه ببعض. ويقال: حَاقَ الدار بالمِحْوَقَة: كنسها. ومما حفظته من صبيان المكتب ـ إذ كنا نتعلّم الخطّ ـ: "حَوِّق عليه"؛ أي السطر ـ مثلاً ـ؛ أي:=

فَهَذِهِ أُمور جَائِزَةٌ أَو مَنْدُوبٌ إِليها، وَلَكِنَّهُمْ كَرِهُوا فِعْلَهَا خَوْفًا مِنَ الْبِدْعَةِ؛ لأَن اتِّخَاذَهَا سُنَّةً إِنما هُوَ بأَن يُوَاظِبَ النَّاسُ عَلَيْهَا مُظْهِرِينَ لَهَا، وَهَذَا شأْن السُّنَّةِ، وإِذا جَرَتْ مَجْرَى السُّنَنِ صَارَتْ مِنَ الْبِدَعِ بِلَا شَكٍّ. فإِن قيل: فكيف (¬1) صَارَتْ هَذِهِ الأَشياءُ مِنَ الْبِدَعِ الإِضافية، وَالظَّاهِرُ مِنْهَا أَنها بِدَعٌ حَقِيقِيَّةٌ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ إِذَا عُمل بِهَا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ إِذْ لَمْ يضَعْها صاحبُ السُّنّة؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم على هَذَا الْوَجْهِ (¬2)، فَصَارَتْ (¬3) مِثْلَ مَا إِذا صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَاعْتَقَدَهَا عِبَادَةً، فإِنها بِدْعَةٌ مِنْ غَيْرِ إِشكال، هَذَا إِذَا نَظَرْنَا إِلَيْهَا بمآلِها، وإِذا نَظَرْنَا إِليها أَوّلاً فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ إِلى بِدْعَةٍ أَصلاً؟ فَالْجَوَابُ: أَن السُّؤَالَ صَحِيحٌ، إِلا أَن لِوَضْعِهَا أَولاً نَظَرَيْنِ: أَحدهما: مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشْرُوعَةٌ؛ فَلَا كَلَامَ فِيهَا. وَالثَّانِي: مِنْ حَيْثُ صَارَتْ كَالسَّبَبِ الْمَوْضُوعِ لِاعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ أَو لِلْعَمَلِ بِهَا عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، فَهِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (¬4) غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ؛ لأَن وَضْعَ الأَسباب لِلشَّارِعِ لَا للمُكَلَّف، وَالشَّارِعُ لَمْ يَضَعِ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ قباءَ أَو بَيْتِ الْمَقْدِسِ ـ مَثَلًا ـ سَبَبًا لأَنْ تُتَّخَذَ سُنَّةً، فَوَضْعُ المُكَلَّف لَهَا كَذَلِكَ رأْي غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إِلى الشَّرْعِ، فَكَانَ ابْتِدَاعًا. ¬

=رمِّجْه، أو اجعل حوله خطّاً ليُعلم أنه غير مقصود. وهو استعمال عربي. وأما "حرق عليه" بالراء، فلا يظهر له معنى هنا، إلا إذا كانوا استعملوا التحريق بمعنى برد المعدن بالمبرد في حكّ الحروف المكتوبة بِمِبْراةِ القلم، ولم أره" اهـ. (¬1) في (خ) و (م): "كيف". (¬2) في (خ): "لم توجه"، وعلق رشيد رضا عليه بقوله: "لعلّه: على هذا الوجه" اهـ. (¬3) في (ر) و (غ): "وصارت". (¬4) في (خ): "البدعة" بدل "الوجه"، ووضع الناسخ عليها ما يدل على استشكاله لها: (سـ)، ولذا لم يثبتها رشيد رضا في طبعته، وعلق على موضعها بقوله: لعل الأصل: "من هذا القبيل"، أو: "من هذا الوجه"، وكتب في الأصل: "فهي من هذه البدعة غير مشروعة"، ووضع فوق كلمة البدعة علامة الترميج. اهـ.

وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهَا بِدْعَةً إِضافية. أَما إِذا استقرَّ السَّبَبُ وَظَهَرَ عَنْهُ مُسَبِّبُهُ الَّذِي هُوَ اعْتِقَادُ الْعَمَلِ سُنَّةً، وَالْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهِ، فَذَلِكَ بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا إِضافية، وَلِهَذَا الأَصل أَمثلة كَثِيرَةٌ وَقَعَتِ الإِشارة إِليها فِي أَثناءِ (¬1) الْكَلَامِ، مَعْنَى لِلتَّكْرَارِ. وإِذا ثَبَتَ فِي الأُمور الْمَشْرُوعَةِ أَنها قَدْ تُعَدُّ بِدَعًا بالإِضافة، فَمَا ظَنُّكَ بالبدع الحقيقية؛ فإِنها قد يجتمع (¬2) فِيهَا أَن تَكُونَ حَقِيقِيَّةً وإِضافية مَعًا لَكِنْ من جهتين، فإِن (¬3) بِدْعَةُ "أَصْبِحْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ" (¬4) فِي نداءِ الصُّبح ظَاهِرَةٌ، ثُمَّ لَمَّا عُمِلَ بِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ، مُوَاظَباً عَلَيْهَا، لَا تُتْرَكُ كَمَا لَا تترك الواجبات وما أشبهها، كان تشريعُها (¬5) أَولاً يلزمه أَن يُعتقد فيها الْوُجُوبَ أَو السُّنَّةَ، وَهَذَا ابْتِدَاعٌ ثانٍ إِضافي. ثُمَّ إِذا اعتُقِد فِيهَا ثَانِيًا السُّنِّيَّة (¬6) أَو الفَرَضِيَّة صَارَتْ بِدْعَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَوجه، وَمِثْلُهُ يَلْزَمُ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ أُظهرت والتُزِمَتْ. وأَما إِذا خَفِيَتْ وَاخْتُصَّ بِهَا صَاحِبُهَا فالأَمر عَلَيْهِ أخفّ، فيالله وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ! مَاذَا يَجْنِي الْمُبْتَدِعُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَكُونُ فِي حِسَابِهِ؟ وَقَانَا اللَّهُ شرور أَنفسنا بفضله. ¬

(¬1) في (م): "استثناء". (¬2) في (خ) و (م): "تجتمع". (¬3) في (خ) و (م): "فإذاً". (¬4) انظر (ص87 ـ 89) من هذا المجلد. (¬5) في (خ) و (م): "تشريعاً". (¬6) في (ر) و (غ): "السنة".

فصل

فَصْلٌ مِنْ تَمَامِ مَا قَبْلَهُ وَذَلِكَ أَنه وقعت نازلة بإمام (¬1) مسجدٍ تَرَك مَا عَلَيْهِ النَّاسُ بالأَندلس؛ مِنَ الدعاءِ لِلنَّاسِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ بِالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَلَى الدَّوَامِ ـ وَهُوَ أَيضاً مَعْهُودٌ فِي أَكثر الْبِلَادِ، فإِن الإِمام إِذا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ يَدْعُو لِلنَّاسِ ويؤمِّن الْحَاضِرُونَ ـ، وَزَعَمَ التَّارِك أَن تَرْكَهُ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنه لَمْ يَكُنْ مِنْ (¬2) فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا فعل الأَئمة بعده؛ حَسْبَمَا نَقَلَهُ العلماءُ فِي دَوَاوِينِهِمْ عَنِ السَّلَفِ والفقهاءِ. أَما أَنه لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَاهِرٌ؛ لأَن حَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَدبار الصَّلَوَاتِ ـ مكتوبات أَو نوافل ـ كان بَيْنَ أَمرين: إِما أَن يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرًا هُوَ فِي العُرف غَيْرُ دُعَاءٍ، فَلَيْسَ لِلْجَمَاعَةِ مِنْهُ حَظٌّ، إِلا أَن يَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِ، أَو نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ؛ كَمَا فِي غَيْرِ أَدبار الصَّلَوَاتِ؛ كَمَا جاءَ أَنه كَانَ (¬3) يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: "لَا إِله إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعطيت، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَتْ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ" (¬4). وَقَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ أَنت السَّلَامُ، وَمِنْكَ السلام تباركت ذا (¬5) الجلال ¬

(¬1) في (خ) و (م): "إمام". (¬2) قوله: "من" ليس في (خ) و (م). (¬3) قوله: "كان" ليس في (غ) و (ر). (¬4) أخرجه البخاري (844)، ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة. (¬5) في (خ) و (م): "تباركت وتعاليت يا ذا".

والإِكرام" (¬1). وَقَوْلُهُ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * (¬2) وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ *} {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3)، ونحو ذلك، فإِنما كان يقوله فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ كَسَائِرِ الأَذكار، فَمَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ فَحَسَنٌ، وَلَا يُمْكِنُ فِي هَذَا كله هيئة اجتماع. وإِن كان دعاءً فَعَامَّةُ مَا جاءَ مِنْ دَعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الصَّلَاةِ ـ مِمَّا سُمِعَ مِنْهُ ـ إِنما كَانَ يَخُصُّ بِهِ نَفْسَهُ دُونَ الْحَاضِرِينَ، كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ (¬4) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه كَانَ إِذا قَامَ إِلى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ ... ، الْحَدِيثَ، إِلى قَوْلِهِ: وَيَقُولُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أَسررت وَمَا أَعلنت، أَنت إِلهي (¬5) لَا إِله إِلا أَنت". حسن صحيح (¬6). ¬

(¬1) أخرجه مسلم (591) من حديث ثوبان، و (592) من حديث عائشة، وهو موافق لسياق نسختي (ر) و (غ)، وأما ما جاء في (خ) و (م) من زيادة: "وتعاليت"، فلم أجده في شيء من طرق هذا الحديث، فأظنه خطأ من الناسخين بسبب ما اعتاده العامة من ذكر هذه الزيادة غير الصحيحة في هذا الذكر. (¬2) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م)، وبعده قال: "الآية". (¬3) الآيات: (180 و181 و182) من سورة الصافات. والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 303)، والطيالسي (2312)، وعبد بن حميد (952) و (954)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (190/بغية الباحث)، وأبو يعلى (1118)، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (2/ 31)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (119)، والطبراني في "الدعاء" (651)، والخطيب في "التاريخ" (13/ 138) وفي "الموضح" (2/ 485)، والحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 288)، من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سلّم من الصلاة قال ـ ثلاث مرات ـ: ... ، فذكر الآيات. وأبو هارون العبدي: متروك، ومنهم من كذبه كما في "التقريب" (4874). (¬4) برقم (3423)، وهو في مسلم (201) و (202) فكان عزوه له أولى. (¬5) قوله: "أنت إلهي" سقط من (غ) و (ر). (¬6) هذا كلام الترمذي، والحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" كما تقدم.

وَفِي رِوَايَةِ أَبي دَاوُدَ (¬1): كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: "اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي مَا قدَّمت، وَمَا أَخَّرت، وَمَا أَسررت، وَمَا أَعلنت، وَمَا أَسرفت، وَمَا أَنت أَعلم بِهِ مِنِّي، أَنت الْمُقَدِّم، وأَنت المُؤَخِّر، لَا إِله إِلا أَنت". وخرَّج أَبو دَاوُدَ (¬2): كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم يقول دُبُرَ صلاته (¬3): "اللَّهُمَّ ربَّنا وربَّ كُلِّ شيءٍ، أَنا شَهِيدٌ [أَنك أَنت الرب وحدَكَ لا شريكَ لك، اللَّهُمَّ ربَّنا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنا شَهِيدٌ] (¬4) أَن مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، اللَّهُمَّ ربَّنا وَرَبَّ كُلِّ شيءٍ، أَنا شَهِيدٌ أَن الْعِبَادَ كلَّهم إِخوة، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ (¬5) شيءٍ اجْعَلْنِي مُخْلَصًا لَكَ وأَهلي فِي كُلِّ سَاعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَا ذَا الْجَلَالِ والإِكرام، اسْمَعْ واستجب، الله أَكبر الأكبر (¬6)، الله نور السموات والأَرض، الله أَكبر الأَكبر (¬7)، حسبي الله ونعم الوكيل". ولأَبي داود في الباب (¬8): "رَبِّ أَعنِّي وَلَا تُعِنْ عليَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عليَّ (¬9)، وامْكُرْ لي ولا تَمْكُر (¬10) عليَّ، واهدني ويَسِّر هدايَ إِليَّ، ¬

(¬1) في "سننه" برقم (756). (¬2) في "سننه" برقم (1503). وأخرجه أحمد (4/ 369)، والنسائي في "الكبرى" (9929)، وأبو يعلى (7216) والطبراني في "الكبير" (5122) وابن السني (114)، والبيهقي في "الشعب" (1/ 433) من طريق داود الطُّفاوي، عن أبي مسلم البجلي، عن زيد بن أرقم ... ، فذكره. وإسناده ضعيف؛ داود هو: ابن راشد الطفاوي، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال الحافظ في "التقريب": (1793) "لين الحديث". وأبو مسلم البجلي لا يعرف كما قال الذهبي في "الميزان" (10604). (¬3) في (غ) و (م): "كل صلاته"، وفي (خ): "كل صلاة". (¬4) ما بين المعقوفين سقط من جميع النسخ، فاستدركته من "سنن أبي داود". (¬5) قوله: "كل" سقط من (م). (¬6) في (خ) و (م): "الله أكبر، الله أكبر". (¬7) في (خ) و (م): "الله أكبر، الله أكبر". (¬8) قوله: "الباب" سقط من (خ) و (م)، واجتهد رشيد رضا فوضع بدلاً منه: "رواية"، وعلق عليها بقوله: حذف لفظ "رواية" من نسختنا. اهـ. (¬9) قوله: "علي" سقط من (ر). (¬10) في (خ) و (م): "وأمكن لي ولا تمكن عليّ" والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الموافق لما في "سنن أبي داود".

وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عليَّ ... " إِلى آخَرَ الْحَدِيثِ (¬1). وَفِي النَّسَائِيِّ (¬2) أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يقول في دبر الفجر إِذا ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1510)، وابن أبي شيبة (10/ 280 ـ 281)، وعبد بن حميد (717)، وأحمد (1/ 227)، والبخاري في "الأدب المفرد" (664) و (665)، والترمذي (3551)، وابن ماجه (3830)، والنسائي في "الكبرى" (10443)، وابن أبي عاصم في "السنة" (384)، وابن حبان (947) و (948)، والطبراني في "الدعاء" (1411)، والحاكم (1/ 519 ـ 520)، جميعهم من طريق طليق بن قيس، عن ابن عباس، به. وسنده صحيح، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". (¬2) في "الكبرى" (9930)، وكذا أخرجه الطيالسي (1710)، وابن أبي شيبة (10/ 234)، وأحمد (6/ 305، 318، 322) وابن ماجه (915)، وغيرهم من طريق موسى بن أبي عائشة، عن مولى لأم سلمة، عن أم سلمة به. وإسناده ضعيف لجهالة مولى أم سلمة. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 114): "هذا إسناد رجاله ثقات، خلا مولى أم سلمة فإنه لم يُسَمّ، ولم أر أحداً ممن صنف في المبهمات ذكره، ولا أدري ما حاله". اهـ. وأخرجه الدارقطني في "الأفراد" كما في "النكت الظراف" للحافظ ابن حجر (13/ 46)، ومن طريقه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 39)، عن المحاملي، عن أحمد بن إدريس المخرمي، حدثنا شاذان، حدثنا سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن أم سلمة. قال الدارقطني: لم يقل فيه: "عن عبد الله بن شداد" عدا المخرمي عن شاذان. اهـ. قال الخطيب: غيره يرويه عن سفيان، عن موسى، عن مولى لأم سلمة. قلت: وأحمد بن إدريس الذي في سنده ذكره الخطيب ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ثم هو مخالف لرواية أصحاب سفيان الثقات أمثال وكيع وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق حيث رووه على الوجه المتقدم، خلا عبد الرحمن بن مهدي حيث قال: عن سفيان، عن موسى، عمَّن سمع أم سلمة؛ كما عند أحمد في "المسند" (6/ 318). ولم أقف في مصادر ترجمة عبد الله بن شداد على وصفه بأنه مولى لأم سلمة. وأخرجه الطبراني في "الصغير" (735) من طريق عامر بن إبراهيم، عن النعمان بن عبد السلام، عن سفيان، عن الشعبي، عن أم سلمة به. قال الطبراني: "لم يروه عن سفيان إلا النعمان، تفرد به عامر". قلت: الصواب من حديث سفيان: ما رواه أصحابه الثقات كما مضى، ثم الشعبي لا يُعرف له سماع من أم سلمة، والله أعلم.

صَلَّى: "اللَّهُمَّ إِني (¬1) أَسأَلك عِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلاً، وَرِزْقًا طَيِّبًا". وَعَنْ بَعْضِ الأَنصار قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي، وتُبْ عليَّ إِنك أَنت التَّوَّابُ الْغَفُورُ (¬2) ... "، حَتَّى بلغ (¬3) مِائَةَ مَرَّةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَن هَذِهِ الصَّلَاةَ كَانَتْ صَلَاةَ الضُّحَى (¬4). فتأَملوا سِيَاقَ هَذِهِ الأَدعية كلِّها مَسَاقَ تَخْصِيصِ نَفْسِهِ بِهَا دُونَ النَّاسِ، أفيكون (¬5) مِثْلَ هَذَا حُجَّةً لِفِعْلِ النَّاسِ الْيَوْمَ؟! إِلا أَن يُقَالَ: قَدْ جاءَ الدعاءُ لِلنَّاسِ فِي مَوَاطِنَ، كَمَا فِي الْخُطْبَةِ الَّتِي اسْتَسْقَى فِيهَا للناس (¬6)، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَيُقَالُ: نَعَمْ! فأَين الْتِزَامُ ذَلِكَ جهراً للحاضرين في دبر كل صلاة؟ ¬

(¬1) في (غ): "إنك". (¬2) في (غ): "الرحيم" بدل "الغفور"، وكذا كانت في (ر)، ثم صوبت في الهامش. (¬3) في (خ) و (م): "يبلغ". (¬4) هذا الحديث يرويه حصين بن عبد الرحمن السلمي، واختلف عليه فيه: فرواه شعبة، وابن فضيل، وعباد بن العوام، وعبد العزيز بن مسلم، عن هلال بن يِسَاف، عن زاذان، عن رجل من الأنصار به. أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 34)، وأحمد (5/ 371)، والنسائي في الكبرى (6/ 31) رقم (9931) و (9932) و (9933) و (9934). وصرح زاذان بالتحديث عند ابن أبي شيبة والنسائي. وإسناده صحيح، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 143): "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح". وخالفهم خالد بن عبد الله، فرواه عن حصين، عن هلال، عن زاذان، عن عائشة. أخرجه النسائي في "الكبرى" (9935). قال النسائي عقبه: حديث شعبة، وعبد العزيز بن مسلم، وعباد بن العوام أولى عندنا بالصواب من حديث خالد وبالله التوفيق. وقد كان حصين بن عبد الرحمن اختلط في آخر عمره. اهـ. قلت: اختلاط حصين بن عبد الرحمن لا يضر هنا، فشعبة ممن روى عنه قبل الاختلاط، وكذا خالد بن عبد الله، فعاد الأمر إلى ترجيح رواية شعبة ومن معه على رواية خالد لكثرة عددهم أولاً، ولأن شعبة أحفظ من خالد ثانياً، والله أعلم. (¬5) في (خ) و (م): "فيكون". (¬6) قوله: "للناس" ليس في (خ) و (م). وخطبته صلّى الله عليه وسلّم التي استسقى فيها للناس أخرج حديثها البخاري في "صحيحه" (932)، ومسلم (897).

ثُمَّ نَقُولُ: إِن العلماءَ يَقُولُونَ فِي مِثْلِ الدعاءِ وَالذِّكْرِ الْوَارِدِ عَلَى إِثْرِ الصَّلَاةِ: إِنه مُسْتَحَبٌّ، لَا سُنَّةٌ وَلَا وَاجِبٌ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَمرين: أَحَدُهُمَا: أَن هَذِهِ الأَدعية لَمْ تكن منه عليه السلام عَلَى الدَّوَامِ. وَالثَّانِي: أَنه لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا دَائِمًا، وَلَا يُظْهِرُهَا لِلنَّاسِ فِي غَيْرِ مُوَاطِنِ التَّعْلِيمِ، إِذ لَوْ كَانَتْ عَلَى الدَّوَامِ وَعَلَى الإِظهار لَكَانَتْ سُنَّةً، وَلَمْ يسعِ العلماءَ أَن يقولوا فيها بغير السنة، إِذ خاصية السنة (¬1) ـ حَسْبَمَا ذَكَرُوهُ ـ: الدَّوَامُ والإِظهار فِي مَجَامِعِ النَّاسِ. وَلَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ دُعَاؤُهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ سِرًّا لَمْ يُؤْخَذْ عَنْهُ، لأَنا نَقُولُ: مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الإِسرار فَلَا بُدَّ أَن يَظْهَرَ منه، أَو يظهر منه وَلَوْ مَرَّةً، إِما بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وإِما (¬2) بِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى التَّشْرِيعِ. فإِن قِيلَ: ظَوَاهِرُ الأَحاديث (¬3) تدل على الدوام (¬4)؛ بِقَوْلِ الرُّوَاةِ: "كَانَ يَفْعَلُ"، فإِنه يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ؛ كَقَوْلِهِمْ: "كَانَ حَاتِمٌ يُكْرِمُ الضِّيفَانِ". قُلْنَا: ليس كذلك، بل تطلق (¬5) على الدوام، وعلى الكثرة (¬6) وَالتَّكْرَارِ عَلَى الْجُمْلَةِ، كَمَا جاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ (¬7). وَرَوَتْ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ من غير أَن يَمَسَّ ماء (¬8). ¬

(¬1) في (خ) و (م): " إذ خاصيته". (¬2) قوله: "وإما" ليس في (خ) و (م)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: يظهر أن في العبارة تحريفاً وحذفاً، ولعل الأصل: "فلا بدّ أن يظهر منه إِمَّا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَإِمَّا بِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى التشريع".اهـ. (¬3) في (ر) و (غ): "الحديث". (¬4) في (خ) و (م): "على أن الدوام". (¬5) كذا في (غ) و (ر)، وفي (خ) و (م): "يطلق"، والمثبت أصوب؛ لأن الضمير يعود على ظواهر الأحاديث التي يتكلم عنها المؤلف. (¬6) في (خ): "الكثير" وفي (م): "الكثر". (¬7) أخرجه البخاري (286) ومسلم (305). (¬8) أخرجه أبو داود (228)، والترمذي (118)، وابن ماجه (581 ـ 583)، والنسائي في "الكبرى" (9052 ـ 9054) وغيرهم من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن الأسود، عن عائشة، به. وأعله يزيد بن هارون، وأحمد وغيرهما، يرون أنه غلط من أبي إسحاق. انظر تفصيل ذلك في "الإمام" لابن دقيق العيد (3/ 87).

بل قد تأتي (¬1) فِي بَعْضِ الأَحاديث: "كَانَ يَفْعَلُ" فِيمَا لَمْ يَفْعَلْهُ إِلا مَرَّةً وَاحِدَةً، نَصَّ عَلَيْهِ أَهل الْحَدِيثِ (¬2). وَلَوْ كَانَ يُدَاوِمُ (¬3) الْمُدَاوَمَةَ التَّامَّةَ لَلَحِقَ بِالسُّنَنِ؛ كَالْوَتْرِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ سُلِّم، فأَين هَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِ؟ فَقَدْ حَصَلَ أَن الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ دَائِمًا لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا لَمْ يَكُنْ من (¬4) قوله، ولا من (3) إِقراره. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ (¬5) مِنْ حَدِيثِ أُم سَلَمَةَ: أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُث إِذا سَلَّم يَسِيرًا. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَتَّى ينصرف النساء (¬6) فِيمَا نَرَى. وَفِي مُسْلِمٍ (¬7) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬8) كَانَ إِذا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَنت (¬9) السَّلَامُ وَمِنْكَ السلام تباركت ذَا (¬10) الْجَلَالِ والإِكرام". وأَما فِعْلُ الأَئمة بَعْدَهُ: فَقَدْ نَقَلَ الفقهاءُ مِنْ حَدِيثِ أَنس ـ فِي غير كتب الصحيح ـ: صلّيت خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم، فَكَانَ إِذا سَلَّمَ (¬11) يَقُومُ، وَصَلَّيْتُ خَلَفَ أَبي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَ إِذا سَلَّمَ وَثَبَ كأَنه عَلَى رَضْفَةٍ (¬12)؛ يَعْنِي: الحَجَر المُحْمَى. ¬

(¬1) في (خ) و (م): "يأتي"، والمثبت من (غ) و (ر)، وهو أصوب؛ لأن الضمير يعود إلى ظواهر الأحاديث أيضاً. (¬2) انظر "فتح الباري" (2/ 247)، و"توضيح الأفكار" (1/ 279). (¬3) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: أي: على ما ذكر من الأدعية والأذكار، ويوشك أن يكون قد سقط من الناسخ ما يدل على ذلك. اهـ. (¬4) قوله: "من" ليس في (خ) و (م). (¬5) برقم (849) و (875). (¬6) في (خ) و (م): "الناس". (¬7) برقم (592)، وتقدم (ص244). (¬8) قوله: "أن النبي صلّى الله عليه وسلّم" ليس في (خ). (¬9) في (ر) و (غ): "إنك أنت". (¬10) في (خ) و (م): "يا ذا". (¬11) في (ر) و (غ): "فكان يسلم". (¬12) أخرجه عبد الرزاق (3231) عن ابن جريج؛ حُدِّثت عن أنس، به. وإسناده ضعيف لإبهام شيخ ابن جريج. وسمّاه عبدُ الله بن فرّوخ عطاءً؛ ولا يثبت: أخرجه ابن خزيمة (1717)، وابن عدي (4/ 199 ـ 200)، والطبراني في "الكبير" (1/ 252 رقم 727)، والحاكم (1/ 216)، وعنه البيهقي (2/ 182)، وأخرجه الضياء في "المختارة" (2334) (2335) جميعهم من طريق عبد الله بن فرّوخ، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أنس.=

وَنَقَلَ ابْنُ يُونُسَ الصِّقِلِّي عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ خَارِجَةَ: أَنه كَانَ يَعِيب عَلَى الأَئمة قعودَهم بَعْدَ السَّلَامِ، وَقَالَ: إِنما كَانَتِ الأَئمة سَاعَةَ تسلِّم (¬1) تَقُومُ (¬2). وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: جُلُوسُهُ بدعة (¬3). ¬

=قال الحاكم: "هذا حديث صحيح رواته [ثقات] غير عبد الله بن فرّوخ؛ فإنهما لم يخرجاه، لا لجرح فيه، وهذه سنة مستعملة لا أحفظ لها غير هذا الإسناد". فتعقبه الذهبي بقوله: "قال البخاري يعرف وينكر. وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة". وقال البيهقي: "تفرد به عبد الله بن فرّوخ المصري، وله أفراد، والله أعلم، والمشهور: عن أبي الضحى، عن مسروق: كان أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ إذا سلم قام كأنه جالس على الرضف، وروينا أنه سلم ثم قام" اهـ. وقال الهيثمي في "المجمع" (2/ 146): "وفيه عبد الله بن فروخ، قال إبراهيم الجوزجاني: أحاديثه مناكير". وأخرجه ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" رقم (227) من طريق يحيى بن عثمان بن صالح، عن سعيد بن أبي مريم، وعمرو بن الربيع بن طارق، كلاهما عن ابن فرّوخ، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس به. وسنده ضعيف لمخالفة يحيى بن عثمان لباقي الرواة الذين جعلوه عن أنس، ويحيى هذا صدوق، لكن ليّنه بعضهم لكونه حدّث من غير أصله؛ كما في "التقريب" (7655). ورواية مسروق التي أشار إليها البيهقي أخرجها عبد الرزاق (3214)، والطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 270). ورواية مسروق عن أبي بكر مرسلة. انظر "جامع التحصيل" صفحة (277). (¬1) في (خ) و (م): "يسلم". (¬2) الأثر في "المدونة" (1/ 135) من طريق عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد؛ أن أبا الزناد أخبره؛ قال: سمعت خارجة بن زيد بن ثابت يعيب على الأئمة قعودهم بعد التسليم، وقال: إنما كانت الأئمة ساعة تسلم تنقلع مكانها. وهذا سند صحيح. وأخرجه البيهقي في "سننه" (2/ 182) من طريق ابن جريج؛ أخبرني زياد، عن أبي الزناد؛ قال: سمعت خارجة ... ، فذكره. (¬3) كذا ذكره الشاطبي هنا عن ابن عمر!! وهو مذكور في "المدونة" (1/ 135) عن ابن وهب؛ قال: بلغني عن أبي بكر الصديق أنه كان إذا سلم لكأنه على الرضف حتى يقوم، وأن عمر بن الخطاب قال: جلوسه بعد السلام بدعة. ولما ذكر البيهقي في الموضع السابق أثر خارجة بن زيد المتقدم؛ قال: "وروينا عن=

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لأَن يَجْلِسَ عَلَى الرَّضْف (¬2) خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي "الْمُدَوَّنَةِ" (¬3): إِذا سَلَّمَ فَلْيَقُمْ وَلَا يَقْعُدْ، إِلا أَن يَكُونَ فِي سفرٍ أَو فِي فِنَائِه. وعدَّ الفقهاءُ إِسراع الْقِيَامِ سَاعَةَ يُسَلِّمُ مِنْ فَضَائِلِ الصَّلَاةِ، وَوَجَّهُوا ذَلِكَ بأَن جُلُوسَهُ هُنَالِكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِيهِ كبر وترفُّعٌ على الجماعة، وانفراده بموضع عَنْهُمْ يَرى بِهِ الداخلُ أَنه إِمامهم، وأَما انفراده به حال (¬4) الصلاة فضرورة (¬5). قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا الَّذِينَ اسْتَفَدْنَا بِهِمْ (¬6): وإِذا كَانَ هَذَا فِي انْفِرَادِهِ فِي الْمَوْضِعِ، فَكَيْفَ بِمَا انْضَافَ إِليه مِنْ تقدُّمه أَمامهم فِي التوسُّل بِهِ بالدعاءِ وَالرَّغْبَةِ، وتأْمينهم عَلَى دُعَائِهِ جَهْرًا؟ قَالَ: وَلَوْ كَانَ هَذَا حَسَنًا لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَنقل ذَلِكَ (¬7) أَحد مِنَ العلماءِ، مَعَ تَوَاطُئِهِمْ (¬8) عَلَى نَقْلِ جَمِيعِ أُموره، حَتَّى: هَلْ كَانَ يَنْصَرِفُ مِنَ الصَّلَاةِ عَنِ الْيَمِينِ؟ أَو عَنِ (¬9) الشِّمَالِ؟ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّال (¬10) عَنْ علماءِ السَّلَفِ إِنكارَ ذَلِكَ، وَالتَّشْدِيدَ فِيهِ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. ¬

=الشعبي وإبراهيم النخعي أنهما كرهاه، ويُذكر عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، والله تعالى أعلم" اهـ. وقد ذكر ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (2/ 462) أن ابن عمر قال: "الإمام إذا سلم قام"، ثم نقل عن عمر قوله: "جلوس الإمام بعد السلام بدعة". (¬1) أخرجه في "المدونة" (1/ 135) عن ابن وهب؛ قال: قال ابن مسعود: يَجْلِسَ عَلَى الرَّضْفِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وسنده معضل بين ابن وهب وابن مسعود. (¬2) الرَّضْفُ: الحجارة المُحْماة كما في "النهاية" (2/ 231)، وتقدم (ص266) بيان المصنف لمعناها. (¬3) (1/ 135). (¬4) في (غ) و (ر): "حالة". (¬5) في (خ) و (م): "فضروري". (¬6) في (خ): "منهم" وكتب فوقها "صح". (¬7) قوله: "ذلك" ليس في (خ)، ولذا علق رشيد رضا على موضعه بقوله: الظاهر أنه قد سقط من الكلام مفعول قوله: "ولم يقل"، ولعل الأصل: "ولم ينقل ذلك أحد من العلماء".اهـ. (¬8) في (ر) و (غ): "تواظبهم". (¬9) في (ر) و (غ): "على اليمين أو على". (¬10) في "شرح صحيح البخاري" (2/ 461 ـ 462).

هَذَا مَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ بَعْدَ أَن جَعَلَ الدعاءَ بإِثر الصَّلَاةِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ دَائِمًا بِدْعَةً قَبِيحَةً، وَاسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الأَول بسرعة القيام للانصراف (¬1)؛ لأَنه مُنَافٍ للدعاءِ لَهُمْ وتأْمينهم عَلَى دُعَائِهِ، بِخِلَافِ الذِّكْر، وَدُعَاءِ الإِنسان لِنَفْسِهِ، فإِن الِانْصِرَافَ وَذَهَابَ الإِنسان لِحَاجَتِهِ غَيْرُ منافٍ لَهُمَا. فَبَلَغَتِ الْكَائِنَةُ (¬2) بَعْضَ شُيُوخِ الْعَصْرِ فَرَدَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمام رَدًّا أَقْذَعَ (¬3) فِيهِ، عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ (¬4) الرَّاسِخُونَ، وَبَلَغَ مِنَ الرَّدِّ ـ بِزَعْمِهِ (¬5) ـ إِلى أَقصى غَايَةِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ بأُمور إِذا تأَمّلها الفَطِن عَرَفَ مَا فِيهَا، كالأَمر بالدعاءِ إِثر الصَّلَاةِ قُرْآنًا وَسُنَّةً، وَهُوَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ لَا دَلِيلَ فِيهِ، ثُمَّ ضَمَّ إِلى ذَلِكَ جَوَازَ الدعاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، لا فِي (¬6) أَدبار الصَّلَوَاتِ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ أَيضاً ـ كما تقدم ـ؛ لاختلاف المَنَاطَيْن (¬7). وأَما فِي التَّفْصِيلِ: فَزَعَمَ أَنه مَا زَالَ (¬8) مَعْمُولًا بِهِ فِي جَمِيعِ أَقطار الأَرض ـ أَو فِي جُلِّها (¬9) ـ مِنَ الأَئمة فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، إِلا نَكِيرَ أَبي عَبْدِ الله البارُوني (¬10)، ثم أَخذ في ذَمِّه. ¬

(¬1) في (خ): "والانصراف"، وفي (م): "الانصراف". (¬2) أي: الواقعة التي ذكرها في أول الفصل (ص260). وعلق رشيد رضا هنا بقوله: المراد بالكائنة: الواقعة التي ذكرها في أول الفصل من ترك بعض أئمة الصلاة ما جرى عليه الناس من دعاء الإمام وتأمين الناس. اهـ. (¬3) في (م): "أمرع"، ويشبه أن تكون كذلك في (خ). (¬4) في (غ) و (ر): "على خلاف ما فعله". (¬5) في (خ): "على زعمه". (¬6) في (خ) و (م): "إلا في". (¬7) في (خ) و (م): "المتأصلين". (¬8) في (ر) و (غ): "مازل". (¬9) قوله: "أو في جلها" ليس في (غ). (¬10) قوله: "الباروني" ليس في (خ). والباروني هو: محمد بن الحسن بن محمد اليحصبي، نزيل تلمسان. قال ابن الخطيب: كان من صدور الفقهاء، حسن التعليم، أخذ عن القاضي أبي الحسن الصغير وأبي زيد الجزولي وغيرهما، ودرس في غرناطة وسبتة وغيرهما. وكانت فيه خدمة وجرت عليه بسببها محنة. مات بتلمسان سنة (734). انظر: "الدرر الكامنة" للحافظ ابن حجر (5/ 165).

وهذا النقل تَجَوُّزٌ (¬1) بِلَا شَكٍّ؛ لأَنه نَقْلُ إِجماعٍ يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ فِيهِ والمُحْتَجّ بِهِ (¬2) ـ قَبْلَ الْتِزَامِ عُهْدَتِهِ ـ أَن يبحث عنه بحث أَهل العلم (¬3) عَنِ الإِجماع؛ لأَنه لَا بُدَّ مِنَ النَّقْلِ عَنْ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمة، مِنْ أَول زَمَانِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلى الْآنِ، هَذَا أَمر مَقْطُوعٌ بِهِ. وَلَا خِلَافَ أَنه لَا اعْتِبَارَ بإِجماع الْعَوَامِّ وإِن ادَّعَوُا الإِمامة. وَقَوْلُهُ: "مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ": تَجَوُّزٌ، بَلْ مَا زَالَ الإِنكار عَلَيْهِمْ مِنَ الأَئمة. فَقَدْ نَقَلَ الطَّرْطُوشِي (¬4) عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ أَشياء تخدم المسأَلة، فحصل إِنكار مالك لما فِي زَمَانِهِ، وإِنكار الإِمام الطَّرْطُوشِيِّ فِي زَمَانِهِ، وَاتَّبَعَ هَذَا أَصحابه، وَهَذَا أَصحابه. ثُمَّ القَرَافي (¬5) قَدْ عَدَّ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ عَلَى مذهب مالك، وسلّمه وَلَمْ يُنْكِرْهُ (¬6) عَلَيْهِ أَهلُ زَمَانِهِ ـ فِيمَا نَعْلَمُهُ ـ، مَعَ زَعْمِهِ أَن مِنَ الْبِدَعِ مَا هُوَ حَسَنٌ. ثُمَّ الشُّيُوخُ الَّذِينَ كَانُوا بالأَندلس حِينَ دَخَلَتْها هَذِهِ الْبِدْعَةُ ـ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ قد أَنكروها، وكان من معتقدهم في تركها (¬7): أَنه مذهب مالك. وكان الزاهد أَبو عبد الله ابن مُجَاهِدٍ (¬8) وَتِلْمِيذُهُ أَبو عَمْرَانَ المِيْرَتُلِّي (¬9) ـ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ـ مُلْتَزِمَيْنِ لِتَرْكِهَا، حَتَّى اتَّفَقَ لِلشَّيْخِ أَبي عَبْدِ الله في ذلك ما سيذكر (¬10) إِن شاءَ الله (¬11). ¬

(¬1) في (خ): "تهور". (¬2) قوله: "به" ليس في (غ) و (ر). (¬3) قوله: "العلم" سقط من (خ) و (م). وقوله: "أهل" يشبه أن تكون "أصل" في (خ). (¬4) في "الحوادث والبدع" صفحة (65 ـ 66). (¬5) في "الفروق" (4/ 491) في الفرق الرابع والسبعين بعد المئتين، وهو آخر الفروق. (¬6) في (ر) و (غ): "ينكر". (¬7) في (خ) و (م): "في ذلك". (¬8) هو: الزاهد القدوة: محمد بن أحمد بن عبد الله الأنصاري، أبو عبد الله ابن المجاهد الأشبيلي، الأندلسي، قرأ العربية، ولازم أبا بكر ابن العربي مدة، وتوفي سنة أربع وسبعين وخمس مئة، عن بضع وثمانين سنة. ترجمته في "العبر" (3/ 66)، و"السير" (20/ 543). (¬9) هو: الإمام العارف، زاهد الأندلس، أبو عمران موسى بن حسين بن موسى بن عمران القيسي، الميْرَتُلّي، صاحب الشيخ أبي عبد الله ابن المجاهد، توفي سنة أربع وست مئة، عن اثنتين وثمانين سنة. ترجمته في "السير" (21/ 478 رقم 242)، و"تاريخ الإسلام" (ص164 رقم 217/وفيات 601 ـ 610). (¬10) في (م): "ما سيذكره"، وفي (خ) يشبه أن تكون: "ما سنذكره". (¬11) انظر المجلد الثالث (ص231).

قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا ـ رَادًّا عَلَى بَعْضِ مَنْ نصر هذا العمل: بأَنا (¬1) قَدْ شَاهَدْنَا الأَئمة (¬2) الْفُقَهَاءَ الصُّلَحَاءَ، الْمُتَّبِعِينَ لِلسُّنَّةِ، المُتَحَفِّظين بأُمور دِينِهِمْ يَفْعَلُونَ (¬3) ذَلِكَ أَئمة ومأَمومين، وَلَمْ نَرَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ إِلا مَنْ شَذّ فِي أَحواله ـ، فَقَالَ (¬4): وأَما احْتِجَاجُ (¬5) مُنْكِرِ ذَلِكَ بأَن هَذَا لَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ، فَلَمْ يأْت بشيءٍ؛ لأَن النَّاسَ الَّذِينَ يُقْتَدى بِهِمْ ثَبَتَ أَنهم لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ. قَالَ: ولما كثرت (¬6) البدع والمخالفات، وتواطَأَ النَّاسِ عَلَيْهَا؛ صَارَ الْجَاهِلُ (¬7) يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا مُنْكَرًا لَمَا فَعَلَهُ النَّاسُ. ثُمَّ حَكَى أَثر "الْمُوَطَّأِ" (¬8): "مَا أَعرف شَيْئًا مِمَّا أَدركت عَلَيْهِ النَّاسَ إِلا النداءَ بِالصَّلَاةِ". قَالَ: فإِذا كَانَ هَذَا فِي عَهْدِ التَّابِعِينَ يَقُولُ: كَثُرَتِ الإِحداثات، فَكَيْفَ بِزَمَانِنَا؟! ثُمَّ هَذَا الإِجماع لَوْ ثَبَتَ لَزِمَ مِنْهُ مَحْظُورٌ؛ لأَنه مُخَالِفٌ لِمَا نُقِلَ عَنِ الأَوّلين مِنْ تَرْكِهِ، فَصَارَ نَسْخُ إِجماع بإِجماع، وَهَذَا مُحَالٌ فِي الأُصول. وأَيضاً فلا يكون (¬9) مُخَالَفَةُ المتأَخرين لإِجماع الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى سُنَّةٍ حُجَّةً عَلَى تِلْكَ السُّنَّةِ أَبداً، فَمَا أَشبه هَذِهِ المسأَلة بما حُكي عن أَبي علي بن شَاذَان (¬10) ¬

(¬1) في (خ) و (م): "فإنا". والمعنى: أن من نصر هذا العمل يقول: إنا قد شاهدنا الأئمة ... إلخ، وسيأتي الرد عليه. (¬2) في (خ): "العمل الأئمة"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: "من الأئمة".اهـ. (¬3) في (غ): "يفعل"، وفي (م): "يعفلون". (¬4) أي: الشيخ في ردّه. (¬5) في (خ): "اجتماع". (¬6) في (خ) و (م): "كانت" بدل "كثرت". (¬7) في (م): "الجهال". (¬8) ساقه الإمام مالك رحمه الله في "الموطأ" (1/ 72) عن عمِّه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه؛ أنه قال ... ، فذكره. (¬9) في (غ) و (ر): "يجوز" بدل "يكون". (¬10) في (خ) و (م): "أبي علي بشاذان"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: "شاذان لقب رجلين من رواة الحديث، أحدهما: الأسود بن عامر أبو عبد الرحمن الشامي، نزيل بغداد، مات سنة 208، وثانيهما عبد العزيز بن عثمان بن جبلة، مات سنة 221، وظاهر أن في عبارة نسختنا تحريفاً" اهـ. وليس ابن شاذان هذا واحداً ممن ذكر، بل هو: الإمام الفاضل، مسند العراق، أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، البغدادي، البزّاز. انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (17/ 415 ـ 418). وقد أخرج هذه الحكاية من طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (27/ 372).

بسند يرفعه إِلى عَبْدِ اللَّهِ (¬1) بْنِ إِسحاق الجَعْفَري؛ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ ـ يَعْنِي ابْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ يُكْثِرُ الْجُلُوسَ إِلى رَبِيعَةَ (¬2)، فَتَذَاكَرُوا (¬3) يَوْمًا [السنن] (¬4)، فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى (¬5) هَذَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَرأَيت إِن كَثُرَ الْجُهَّالُ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الحُكّام، أَفهم الْحُجَّةُ عَلَى السُّنَّة؟ فَقَالَ رَبِيعَةُ: أَشهد أَن هَذَا كَلَامُ أَبناء الأَنبياءِ. انْتَهَى. إِلا أَني لا أَقول الجهال، بل (¬6) أَقول: أَرأَيت إِن كَثُرَ المُقَلِّدون، ثُمَّ أَحدثوا بِآرَائِهِمْ فَحَكَمُوا بِهَا، أَفهم الْحُجَّةُ عَلَى السُّنّة؟ لا (¬7) وَلَا كَرَامَةَ! ثُمَّ عَضَّدَ مَا ادَّعَاهُ بأَشياء مِنْ جُملتها: قَوْلُهُ: وَمِنْ أَمثال النَّاسِ: "أَخطئ مَعَ النَّاسِ وَلَا تُصِبْ وَحْدَكَ"؛ أَي: إِن خطأَهم هُوَ الصَّوَابُ، وَصَوَابَكَ هُوَ الخطأُ. قَالَ: وهو معنى (¬8) ما جاءَ في الحديث (¬9): "عليك بالجماعة، فإِنما يأْكل الذِّئبُ (¬10) القَاصِيَةَ" (¬11). فَجَعَلَ تاركَ الدُّعَاءِ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ ¬

(¬1) في (خ) و (م): "أبي عبد الله". (¬2) يعني ابن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي. (¬3) في (ر) و (غ): "فتذاكرا". (¬4) ما بين معقوفتين زيادة من "تاريخ دمشق". (¬5) قوله: "على" ليس في (خ) و (م)، ولذا علق رشيد رضا عليه بقوله: لعل الأصل: "ليس العمل على هذا"؛ أي: الذي تقولونه. اهـ. (¬6) قوله: "لا أقول الجهال بل" ليس في (خ) و (م). (¬7) قوله: "لا" ليس في (خ) و (م). (¬8) في (خ) و (م): "قال: ومعنى". (¬9) في (خ) و (م): "حديث". (¬10) قوله: "الذئب" سقط من (خ) و (م)، ولذا علق عليه رشيد رضا بقوله: لفظ الحديث: "فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية". (¬11) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1034)، وأحمد (5/ 196) و (6/ 446)، وأبو داود (547)، والنسائي (2/ 106 ـ 107 رقم 847)، وابن خزيمة (1476)، وابن حبان (2101/الإحسان)، والبغوي (793)، والحاكم (1/ 211) و (2/ 482)، والبيهقي في "السنن" (3/ 54)، وفي "الشعب" (3/ 57)، جميعهم من طريق زائدة بن قدامة، عن السائب بن حُبيش، عن مَعْدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء؛ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد=

مُخَالِفًا للإِجماع ـ كَمَا تَرَى ـ، وَحَضَّ عَلَى اتِّبَاعِ النَّاسِ وَتَرْكِ الْمُخَالَفَةِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ" (¬1)، وكُلُّ ذَلِكَ مَبْنيٌّ عَلَى الإِجماع الَّذِي ذَكَرُوا (¬2): أَن الْجَمَاعَةَ هُمْ جماعة الناس كيف كانوا، وسيأْتي (¬3) بيان (¬4) مَعْنَى الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ الفِرَق، وأَنها المُتَّبِعَةُ للسُّنَّة وإِن كَانَتْ رَجُلًا وَاحِدًا فِي الْعَالَمِ. قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ (¬5): "لَا تعبأَ بِمَا يُفْرَضُ (¬6) مِنَ الْمَسَائِلِ، ويُدَّعى فِيهَا الصِّحَّة بمُجَرَّد التَّهْويل، أَو بِدَعْوَى أَن لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَقَائِلُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُ أَحداً قَالَ فِيهَا بِالصِّحَّةِ فَضْلًا عَنْ نَفْيِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا مِنَ الجَلِيَّات الَّتِي لَا يُعْذَرُ (¬7) المخالف فيها (¬8). قَالَ: وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَالَ الإِمام أَحمد بن حنبل (¬9): "من ¬

=استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية". قال السائب: يعني بالجماعة: الصلاة في الجماعة. قال الحاكم: هذا حديث صدوق رواته، شاهد لما تقدَّمه، متفق على الاحتجاج برواته، إلا السائب بن حبيش، وقد عُرِفَ من مذهب زائدة أنه لا يحدث إلا عن الثقات اهـ. وإسناده حسن، فالسائب قال فيه الدارقطني: صالح الحديث، ووثقه ابن حبان والعجلي، وقال الذهبي في "الكاشف" (1788): صدوق، وصححه النووي في "الخلاصة" كما في "نصب الراية" (2/ 24). (¬1) أخرجه مسلم (432) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا في نسختنا، والظاهر أن الناسخ قد أسقط كلاماً من هذا الموضع، وأقل ما يفهم به الكلام أن يقال: "وأن الجماعة" إلخ. اهـ. (¬3) في الجزء الثالث (ص210) وانظر (206). (¬4) قوله: "بيان" ليس في (خ) و (م). (¬5) هو شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وكلامه هذا في "إقامة الدليل على بطلان التحليل" المطبوع ضمن "الفتاوى الكبرى" (3/ 370) أفاده الشيخ بكر أبو زيد في مقدمته لكتاب "الموافقات" للشاطبي (1/و). قال: وربما أن الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ لم يسمّه، ولم يسترسل بذكره والنقل عنه؛ اتقاءً لما وقع في الخُلوف من عداوته، والنفرة منه. اهـ. (¬6) في (خ) و (م): "يعرض". (¬7) في (خ): يشبه أن تكون: "لا يقدر". (¬8) قوله: "فيها" سقط من (خ) و (م)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: "كذا في نسختنا". (¬9) أخرجه ابن حزم في "إحكام الأحكام" (4/ 573)، و"المحلى" (9/ 365)، و (10/ 422) من طريق عبد الله بن أحمد، عن أبيه.

ادَّعى الإِجماع فَهُوَ كَاذِبٌ، وإِنما هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ (¬1)، وَابْنِ عُلَيَّة (¬2)، يُرِيدُونَ أَن يُبْطِلُوا السُّنَنَ بِذَلِكَ". يَعْنِي أَحمد: أَن المتكلِّمين فِي الْفِقْهِ من (¬3) أَهل الْبِدَعِ إِذا نَاظَرْتَهُمْ بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ قَالُوا: هَذَا خِلَافُ الإِجماع (¬4)، وَذَلِكَ الْقَوْلُ الَّذِي يُخَالِفُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَا يَحْفَظُونَهُ إِلا عَنْ بَعْضِ فقهاءِ أَهل (¬5) الْمَدِينَةِ أَوْ فقهاءِ (¬6) الْكُوفَةِ ـ مَثَلًا ـ، فيدَّعون الإِجماع مِنْ قلَّة مَعْرِفَتِهِمْ بأَقاويل العلماءِ، واجْتِرَائهم عَلَى رَدِّ السُّنن بالآراءِ، حتى كان بعضهم تُسْرَدُ عَلَيْهِ الأَحاديث الصَّحِيحَةُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ من الأَحكام فلا يجد له (¬7) مُعْتَصَماً إِلا أَن يَقُولَ: هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحد مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ إِلا أَبا حنيفة أَو مالكاً (¬8) [وأصحابهما] (¬9)، لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ لرأَى مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مِمَّنْ (¬10) قَالَ بِذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا" (¬11). فَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِرشاد لِمَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ، وأَنه لَا يَنْبَغِي أَن يُنقل حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عَنْ أَحد مِنْ أَهل الْعِلْمِ إِلا بَعْدَ تحقُّقه والتثبُّت؛ لأَنه مُخْبِرٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ، فإِياكم وَالتَّسَاهُلَ! فإِنه مَظِنَّة (¬12) الخروج عن الطريق الواضح إِلى البُنَيَّات (¬13). ¬

(¬1) في (خ): "كفر" بدل "بشر". وبشر هذا هو: ابن غياث المرِّيسي، الجهمي. (¬2) هو: إبراهيم بن إسماعيل بن علية، جهمي هالك، قال الشافعي: هو ضال. انظر ترجمته في "اللسان" (1/ 120). (¬3) في (خ) و (م): "على". (¬4) قوله: "الإجماع" سقط من (خ) و (م). (¬5) قوله: "أهل، ليس في (خ). (¬6) في (غ) و (ر): "وفقهاء". (¬7) في (خ) و (م): "لها". (¬8) في في (خ) و (م): "أو مالك". (¬9) ما بين المعقوفين زيادة من "الفتاوى الكبرى". (¬10) في (خ): "فمن". (¬11) إلى هنا انتهى النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية. (¬12) في (غ) و (ر): "فهو مظنة". (¬13) لم تنقط الباء والنون في (خ) و (م)، فأشبهت: "السيئات".

ثُمَّ عَدَّ مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي (¬1) مُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ: أَنه يرميهم بالتجهيل أو التضليل (¬2)، وهذه (¬3) دعوى على (¬4) مَنْ خَالَفَهُ فِيمَا قَالَ، وَعَلَى تَسْلِيمِهَا، فَلَيْسَتْ بمَفْسَدة عَلَى فَرْضِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَقَدْ جاءَ عَنِ السَّلَفِ الْحَضُّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْحَقِّ، وَعَدَمِ (¬5) الاسْتِيحَاشِ مِنْ قِلَّةِ أَهله (¬6). وأَيضاً فَمَنْ شَنَّع عَلَى الْمُبْتَدَعِ بِلَفْظِ الِابْتِدَاعِ، فأَطلق الْعِبَارَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلى الْمُجْتَمَعِينَ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ للدعاءِ (¬7) فِي غَيْرِ عَرَفَةَ ... ، إِلى نَظَائِرِهَا، فتَشْنِيعُهُ حَقّ كما نقوله (¬8) بِالنِّسْبَةِ إِلى بِشْرٍ المِرِّيسي ومَعْبدٍ الجُهَني وَفُلَانٍ وفلان، ولا نَدْخُلُ (¬9) بِذَلِكَ ـ إِن شاءَ اللَّهُ ـ فِي حَدِيثِ: "مَنْ قَالَ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُم" (¬10)؛ لأَن الْمُرَادَ أَن يَقُولَ ذَلِكَ ترفُّعاً عَلَى النَّاسِ وَاسْتِحْقَارًا، وأَما إِن قاله تَحَزُّناً وتحسُّراً عليهم (¬11) فلا بأْس. قال بعضهم: ونحن نرجو أَن نُؤْجَرَ (¬12) عَلَى ذَلِكَ إِن شاءَ اللَّهُ. فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ ليس على وجهه (¬13). ¬

(¬1) قوله: "في" سقط من (غ) و (ر). (¬2) في (خ) و (م): "والتضليل". (¬3) في (خ) و (م): "وهذا". (¬4) قوله: "على" ليس في (خ) و (م). (¬5) في (ر) و (غ): "وعن". (¬6) أخرج البيهقي في "الزهد" (238) من طريق أبي حاتم الرازي؛ ثنا أبو عبد الله النَّجَّار ـ ثقة ـ؛ قال: قال سفيان بن عينية: الْزَم الحق، ولا تستوحش لقلة أهله. وأخرج أيضاً برقم (239) من طريق الحسن بن عمرو؛ قال: سمعت بشراً يقول: قال سفيان: اسلك طريق الحق، ولا تستوحش منه وإن كان أهله قليلاً. وأخرجه أيضاً برقم (240) عن الحسين بن زياد قال: إنما رضيت بكلمة سمعتها من الفضيل بن عياض؛ قال الفضيل: لا تستوحش طريق الهدى لقلّة أهله، ولا تغترّ بكثرة الناس. وأخرج الخطيب البغدادي في "تاريخه" (9/ 377) من طريق أحمد بن بشر بن سليمان الشيباني قال: كتب رجل إلى رجل: أما بعد: فليكن أوّل عملك الهداية بالطريق، ولا تستوحش لقلّة أهله، فإن إبراهيم كان أمة قانتاً لله، لا للملوك، فلا تستوحش مع الله، ولا تستأنس بغير الله. (¬7) انظر التفصيل فيه فيما يأتي (ص278)، وانظر (ص316 و355). (¬8) في (خ) و (م): "يقوله". (¬9) في (خ) و (م): "ولا يدخل". (¬10) أخرجه مسلم (2623). (¬11) قوله: "عليهم" ليس في (خ) و (م). (¬12) في (خ): "نعرج". (¬13) في (غ) و (ر): "وجه".

وعَدَّ مِنَ الْمَفَاسِدِ: الخوفَ مِنْ فَسَادِ نيَّته بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ العُجْب والشُّهرة الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، فكأَنه يَقُولُ: اتْرُكْ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِي زَمَانِ الْغُرْبَةِ خَوْفَ الشُّهرة وَدُخُولِ العُجْب. وَهَذَا شَدِيدٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ مُعَارَض (¬1) بِمِثْلِهِ، فإِن انْتِصَابه لأَن يَكُونُ دَاعِيًا لِلنَّاسِ بإِثر (¬2) صَلَوَاتِهِمْ دَائِمًا مَظِنَّةٌ لِفَسَادِ نيَّته بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ العُجْب والشُّهرة، وَهُوَ تَعْلِيلُ القَرَافي (¬3)، وَهُوَ أَوْلَى؛ لأَنه (¬4) فِي طَرِيقِ الِاتِّبَاعِ، فَصَارَ تَرْكُهُ لِلدُّعَاءِ لَهُمْ مَقْرُونًا بالاقتداءِ (¬5)، بِخِلَافِ الدَّاعِي، فإِنه فِي غَيْرِ طَرِيقِ مَنْ تَقَدَّمَ؛ فَهُوَ أَقرب إِلى فَسَادِ النِّيَّةِ. وعَدَّ مِنْهَا مَا يُظَنّ بِهِ مِنَ (¬6) الْقَوْلِ برأْي أَهل الْبِدَعِ الْقَائِلِينَ بأَن الدعاءَ غَيْرُ نَافِعٍ، وَهَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ؛ لأَنه يَقُولُ لِلنَّاسِ: اتْرُكُوا اتِّبَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ بَعْدَ الصلوات لئلا يُظَنَّ بك (¬7) الِابْتِدَاعُ، وَهَذَا كَمَا تَرَى. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (¬8): وَلَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبو بَكْرٍ الفِهْري (¬9) يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَعِنْدَ رَفْعِ الرأْس مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَتَفْعَلُهُ الشِّيعَةُ. قَالَ: فحضر عندي يوماً في مَحْرَس ابن الشَّوَّاء (¬10) بالثَّغْر ـ مَوْضِعِ تَدْرِيسِي ـ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنَ المَحْرس الْمَذْكُورِ، فَتَقَدَّمَ إِلى الصَّفِّ الأَول وأَنا فِي مُؤَخَّرِهِ قاعدٌ عَلَى طَاقَاتِ البحر، أَتَنَسَّم الريح ¬

(¬1) في (غ): "من القول ومعارض". (¬2) في (ر) و (غ): "بآثار". (¬3) في "الفروق" (4/ 491) آخر الفروق. (¬4) قوله: "لأنه" سقط من (خ). (¬5) في (غ): "بالابتداء". (¬6) قوله: "من" سقط من (غ) و (ر). (¬7) كذا في جميع النسخ، وعلق الشيخ رشيد رضا ـ رحمه الله ـ عليه بقوله: المناسب لقوله: "اتركوا": أن يقول هنا: "بكم"، ويعبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى، فيقال: ابتدعوا بالفعل لئلا يظن ـ باطلاً ـ أنكم ابتدعتم، أو اتركوا السُّنَّة بالفعل لئلا تتهموا ـ بتركها ـ بسوء الظن. اهـ. (¬8) في "أحكام القرآن" (4/ 1912) ونقله عنه القرطبي في "تفسيره" (19/ 281). (¬9) هو الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي صاحب كتاب "الحوادث والبدع" انظر ترجمته في "السير" (19/ 490 ـ 496). (¬10) في (خ): "أبي الشعراء"، وفي (م): "أبي الشواء".

مِنْ شِدَّةِ الحَرّ، وَمَعِي فِي صَفٍّ وَاحِدٍ أَبو ثمنة رايس (¬1) البحر وقائده مع نفرٍ (¬2) مِنْ أَصحابه يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، ويتطلَّع عَلَى مَرَاكِبَ الْمَنَارِ (¬3)، فَلَمَّا رَفَعَ الشَّيْخُ الفِهْري يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي رَفْعِ الرأْس مِنْهُ؛ قَالَ أَبو ثَمَنَةَ وأَصحابه: أَلا تَرَوْنَ إِلى هَذَا المَشْرِقي كَيْفَ دَخَلَ مَسْجِدَنَا؟ قُومُوا إِليه فَاقْتُلُوهُ، وَارْمُوا بِهِ فِي الْبَحْرِ؛ فَلَا يَرَاكُمْ أَحد. فَطَارَ قَلْبِي مِنْ بَيْنِ جَوَانِحِي، وَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! هَذَا الطَّرْطُوشي فَقِيهُ الْوَقْتِ! فَقَالُوا لِي (¬4): ولِمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ؟ فَقُلْتُ: كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ (¬5)، وَهُوَ مَذْهَبُ مالك (¬6) في رواية أَهل المدينة عنه، وجعلت أُسَكِّنُهم وأُسَكِّتُهم (¬7) حَتَّى فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ، وَقُمْتُ مَعَهُ إِلى المَسْكَن من المَحْرس، ورأَى تَغَيُّر (¬8) وجهي فأَنكره، وسأَلني فأَعلمته، فضحك، وقال: ومن (¬9) أَين لِي أَن أُقتل عَلَى سُنَّة؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَيَحِلُّ لَكَ هَذَا؟! فإِنك بَيْنَ قَوْمٍ إِن قُمْتُ بِهَا قَامُوا عَلَيْكَ، وَرُبَّمَا ذَهَبَ دَمُكَ، فَقَالَ: دَعْ هَذَا الْكَلَامَ وَخُذْ فِي غيره. فتأَملوا هَذِهِ (¬10) القصَّة فَفِيهَا الشفاءُ؛ إِذ لَا مَفْسَدَةَ في الدنيا توازي ¬

(¬1) كذا في جميع النسخ! وفي "أحكام القرآن" و"تفسير القرطبي": "رئيس"، وهو الذي أثبته رشيد رضا رحمه الله. (¬2) في (خ) و (م): "في نفر". (¬3) في "أحكام القرآن" و"تفسير القرطبي": "على مراكب تحت الميناء". (¬4) قوله: "فقالوا لي" مكرر في (غ). (¬5) ورد في ذلك عدّة أحاديث، منها: حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حَذْوَ منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبِّر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع. أخرجه البخاري (736)، ومسلم (390)، وأخرجا (737) و (391) عن مالك بن الحويرث نحوه. وللبخاري في ذلك "جزء رفع اليدين في الصلاة"، فانظره إن شئت. (¬6) نقل ابن أبي زيد في "النوادر" (1/ 170) عن ابن وهب أنه قيل لمالك: أيرفع يديه إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع؟ قال: نعم. وانظر "البيان والتحصيل" (1/ 374 ـ 376). (¬7) في (خ): "أسكتهم وأسكنهم". (¬8) في (خ) و (م): "تغيير". (¬9) في (خ) و (م): "من" (¬10) في (خ): "في هذه".

مفسدة إِماتة النفس (¬1)، وَقَدْ حَصَلَتِ النِّسْبَةُ إِلى الْبِدْعَةِ، وَلَكِنَّ الطَّرْطُوشي رحمه الله لم (¬2) ير ذَلِكَ شَيْئًا، فَكَلَامُهُ لِلِاتِّبَاعِ أَولى مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّادّ، إِذ بَيْنَهُمَا فِي الْعِلْمِ مَا بَيْنَهُمَا. وأَيضاً فَلَوِ اعتُبر مَا قَالَ لَزِمَ اعتبار مثله (¬3) فِي كُلِّ مَنْ أَنكر الدعاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ، وَمِنْهُمْ: نَافِعٌ مولى ابن عمر (¬4)، ومالك (¬5)، ¬

(¬1) الظاهر أنه يعني المفاسد الدنيوية، ولعل هذا مراده بقوله: "في الدنيا"، وأما إن أراد: في هذه الحياة، فمفسدة الدين أعظم من مفسدة إماتة النفس، كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]. والسياق واضح ـ فيما أرى ـ، فهو يتحدث عن رغبة ذاك الجاهل في قتل الطرطوشي رحمه الله، وقد استشكله رشيد رضا رحمه الله، فعلّق عليه بقوله: "قوله: النفس، الصواب أن يقال: السنّة، كما يقتضيه سياق الكلام". (¬2) قوله: "لم" سقط من (خ) و (م)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في نسختنا! والسياق يقتضي النفي؛ أي: كان لا يرى ذلك شيئاً. والأظهر أن تكون العبارة: لم ير ذلك شيئاً. اهـ. (¬3) في (خ) و (م): "اعتباره بمثله". (¬4) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (114) بسند صحيح إلى أبي حفص المدني؛ قال: اجتمع الناس يوم عرفة في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعون بعد العصر، فخرج نافع مولى ابن عمر من دار آل عمر، فقال: أيها الناس! إن الذي أنتم عليه بدعة، وليست بسنّة، إنا أدركنا الناس ولا يصنعون مثل هذا، ثم رجع فلم يجلس، ثم خرج الثانية ففعل مثلها، ثم رجع. وأبو حفص المدني هذا هو عمر بن عبد الله مولى غُفْرة، وهو ضعيف كما في "التقريب" (4968)، لكن أرى أن مثل هذا يحتمل منه، فإن الراوي المضعف من قبل حفظه يحتمل الأئمة روايته إذا كان فيها قصة حدثت له. (¬5) قال في "العتبية" (1/ 274 /البيان والتحصيل): "وسئل مالك عن الجلوس يوم عرفة في المساجد في البلدان بعد العصر للدعاء، فكره ذلك، فقيل له: فإن الرجل يكون في مجلسه، فيجتمع إليه الناس ويكبِّرون؟ قال: ينصرف، ولو أقام في منزله كان أحبّ إليّ". وقال الطرطوشي في "الحوادث والبدع" (ص127): "قال مالك بن أنس: ولقد رأيت رجالاً ممن أقتدي بهم يتخلّفون عشيَّة عرفة في بيوتهم. قال: وإنما مفاتيح هذه الأشياء من البدع، ولا أحب للرجل الذي قد عَلِمَ أن يقعد في المسجد في تلك العشيَّة مخافة أن يُقتدى به، وليقعد في بيته". وذكر نقولا أخرى عن مالك. وانظر ما تقدم (ص275)، وما يأتي (ص316 و355)، و"الموافقات" للمصنف (3/ 497 ـ 498).

والليث (¬1)، وعطاء (¬2)، وَغَيْرُهُمْ مِنَ السَّلَفِ (¬3)، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ لَازِمٍ فمسأَلتنا كَذَلِكَ. ثُمَّ خَتَمَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الإِجماعي بِقَوْلِهِ: وَقَدِ اجْتَمَعَ أَئمة الإِسلام فِي مساجد الجماعات في هذه الأَعصار في (¬4) جميع الأَقطار على الدعاءِ أَدبار الصلوات (¬5)، فَيُشْبِهُ أَن يَدْخُلَ ذَلِكَ مَدْخَلَ حُجَّة إِجماعيَّة عصريَّة. فإِن أَراد الدعاءَ عَلَى هَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ دَائِمًا لَا يُتْرَكُ كَمَا يُفْعَلُ بِالسُّنَنِ ـ وَهِيَ مسأَلتنا المفروضة ـ، فقد تقدم ما فيه. ¬

(¬1) قال الطرطوشي في الموضع السابق: "قال الحارث بن مسكين: كنت أرى الليث بن سعد ينصرف بعد العصر يوم عرفة، فلا يرجع إلى قرب المغرب". (¬2) أي الخراساني، نقله عنه الطرطوشي في الموضع السابق فقال: "وقال عطاء الخراساني: إِن استطعت أَن تخلو عشية عرفة بنفسك فافعل". (¬3) من الواضح أن المصنف أخذ هذه النقول عن الطرطوشي رحمه الله، فإنه حكى جميع الأقوال السابقة وزاد عليها النقل عن إبراهيم النخعي أنه قال: "الاجتماع يوم عرفة أمرٌ مُحْدَث"، ونقل عن أبي وائل شقيق بن سلمة أنه كان لا يأتي المسجد عشيّة عرفة. وهذان النقلان أسندهما ابن وضّاح في "البدع والنهي عنها" (115، 116) بسندين صحيحين عنهما. (¬4) في (خ): "في". (¬5) في (خ) و (م): "الصلاة".

فصل

فَصْلٌ ثُمَّ أَتى بمأْخذ آخَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّة مَا زَعَمَ، وَهُوَ أَن الدعاءَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ نَهْيٌ عَنْهُ، مَعَ وُجُودِ التَّرْغِيبِ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَوُجُودِ الْعَمَلِ بِهِ، فإِن صَحّ أَن السَّلَفَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، فَالتَّرْكُ لَيْسَ بموجبٍ لحكمٍ فِي الْمَتْرُوكِ؛ إِلا جَوَازَ التَّرْكِ وَانْتِفَاءَ الْحَرَجِ خَاصَّةً، لَا تَحْرِيمَ وَلَا كَرَاهِيَةَ. وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ، وَخُصُوصًا فِي الْعِبَادَاتِ ـ الَّتِي هِيَ مسأَلتنا ـ، إِذ لَيْسَ لأَحد مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَن يَخْتَرِعَ فِي الشريعة من رأْيه أَمراً لا يدُلّ (¬1) عَلَيْهِ مِنْهَا دَلِيلٌ؛ لأَنه عَيْنُ الْبِدْعَةِ، وَهَذَا كَذَلِكَ، إِذ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى اتِّخَاذِ الدُّعَاءِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا، عَلَى حَدِّ مَا تُقَامُ السُّنَنُ (¬2)، بِحَيْثُ يُعَدّ الخارج عنها (¬3) خَارِجًا عَنْ جَمَاعَةِ أَهل الإِسلام، مُتَحَيِّزاً (¬4) ومتميِّزاً إِلى سَائِرِ مَا ذُكر. وَكُلُّ مَا لَا دليلَ (¬5) عليه فَهُوَ الْبِدْعَةُ. وإِلى هَذَا (¬6): فإِن ذَلِكَ الْكَلَامَ يُوهِمُ أَن اتِّبَاعَ المتأَخرين المقلِّدين خَيْرٌ مِنَ اتباع السلف الصالحين (¬7)، ولو كان في أَحدِ جائِزَيْن، فكيف إِذا كان في أَمرين أَحدهما مُتَيَقَّنٌ أَنه صَحِيحٌ، وَالْآخِرُ مَشْكُوكٌ فيه؟ فيتّبع ¬

(¬1) في (خ): "لا يوجد"، وفي (م): "لا يدخل". (¬2) قوله: "السنن" سقط من (خ)، وفي (غ) "السنة". (¬3) في (خ) و (م): "عنه". (¬4) في (خ) و (م): "متجزاً"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل! ولعله: "متحيزاً ومتميزاً".اهـ. (¬5) في (خ): "ما لا يدل"، وقد أثبت رشيد رضا العبارة هكذا: "وكل ما لا يدل عليه دليل"، فزاد قوله: "دليل"، وقال في الحاشية: سقط لفظ "دليل" من الأصل. اهـ. (¬6) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "وعلى هذا".اهـ. (¬7) في (خ) و (م): "الصالحين من السلف".

الْمَشْكُوكُ فِي صِحَّتِهِ، وَيُتْرَكُ مَا لَا مِرْيَةَ في صحته، ويؤنِّب (¬1) مَنْ يَتَّبِعُهُ. ثُمَّ إِطلاقه الْقَوْلَ بأَن التَّرْكَ لَا يُوجِبُ حُكْمًا فِي الْمَتْرُوكِ إِلا جَوَازَ التَّرْك، غَيْرَ جارٍ عَلَى أُصول الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ. فلنقرِّر (¬2) هُنَا أَصلاً لِهَذِهِ المسأَلة لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُ به من أَنصف من نَفْسِهِ: وَذَلِكَ أَن سُكُوتَ الشَّارِعِ عَنِ الْحُكْمِ في مسأَلة مّا، أَو تَرْكِهِ لأَمر مَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحدهما: أَن يَسْكُتَ عَنْهُ أَو يَتْرُكَهُ لأَنه لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ، وَلَا مُوجِبَ يُقَرَّرُ لأَجله، وَلَا وَقَعَ سببُ تقريرِه؛ كَالنَّوَازِلِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإِنها لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ سَكَتَ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا، وإِنما حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاحْتَاجَ أَهل الشَّرِيعَةِ إِلى النَّظَرِ فِيهَا وإِجرائها عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي الكُلِّيَّات الَّتِي كَمُلَ بِهَا الدِّينُ، وإِلى هَذَا الضَّرْبِ يَرْجِعُ جَمِيعُ مَا نَظَرَ فيه السلف الصالح مما لم (¬3) يُبَيِّنْهُ (¬4) رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْخُصُوصِ مِمَّا هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى؛ كَتَضْمِينِ الصُّنَّاع، ومسأَلة الْحَرَامِ (¬5)، والجَدّ مَعَ الإِخوة، وعَوْل الْفَرَائِضِ، وَمِنْهُ: جَمْعُ الْمُصْحَفِ، ثُمَّ تَدْوِينُ الشَّرَائِعِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُحْتَجْ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلى تَقْرِيرِهِ؛ لِتَقْدِيمِ (¬6) كُلِّيَّاته الَّتِي تستنبط مِنْهَا، إِذا (¬7) لَمْ تَقَعْ أَسباب الْحُكْمِ فِيهَا، ولا الفتوى بها منه عليه الصلاة والسلام، فَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ. فَهَذَا الضَّرْب إِذا حَدَثَتْ أَسبابه فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فيه وإِجرائه على ¬

(¬1) في (م): "ويؤلب"، ولم تتضح في (خ) بسبب كثافة حبر التصوير عليها، لكن أثبتها رشيد رضا هكذا: "ولولعا"، وقال: "كذا في الأصل". (¬2) في (خ) و (م): "فنقول". (¬3) قوله: "لم" سقط من "غ". (¬4) في (خ) و (م): "يسنّه". (¬5) أي: إذا قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، أيقع طلاقاً؟ أو يكفّر كفارة يمين؟. انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (11/ 59). (¬6) في (خ): "للتقديم". وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "كذا في الأصل! وهو محرف، ولعل في الكلام حذفاً أيضاً، والمعنى المراد ظاهر، وهو: أن ما لم يحتج إلى تقريره في عصر النبوة من جزئيات الأحكام؛ قد وجد في الشريعة من القواعد الكلية ما يدخل فيه، ويستنبط هو منه".اهـ. (¬7) في (خ) و (م): "إذ".

أُصوله إِن كَانَ مِنَ العادِيَّات، أَو مِنَ العباديات (¬1) الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مَا سُمِعَ، كَمَسَائِلِ السَّهْو والنِّسيان فِي أَجْزَاء (¬2) الْعِبَادَاتِ. وَلَا إِشكال فِي هَذَا الضَّرْبِ؛ لأَن أُصول الشَّرْعِ عَتِيدة، وأَسباب تِلْكَ (¬3) الأَحكام لَمْ تَكُنْ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ، فَالسُّكُوتُ عَنْهَا عَلَى الْخُصُوصِ لَيْسَ بِحُكْمٍ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّرْكِ أَو غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ إِذا عُرِضَتِ النَّوَازِل رُوجِعَ بِهَا أُصولها فَوُجِدَتْ فِيهَا، وَلَا يَجِدُهَا مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ، وإِنما يَجِدُهَا الْمُجْتَهِدُونَ الْمَوْصُوفُونَ فِي عِلْمِ أُصول الْفِقْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن يَسْكُتَ الشَّارِعُ عَنِ الْحُكْمِ الْخَاصِّ، أَو يَتْرُكَ أَمراً مَا مِنَ الأُمور (¬4)، ومُوجِبُهُ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ، وَسَبَبُهُ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مَوْجُودٌ ثَابِتٌ، إِلا أَنه لَمْ يُحدَّدْ فِيهِ أَمرٌ زَائِدٌ على ما كان في ذلك الوقت، فالسكوت في هذا الضرب كالنص على أَن القصد الشرعي فيه أَن لا يزاد فيه عَلَى مَا كَانَ (¬5) مِنَ الْحُكْمِ الْعَامِّ فِي أَمثاله، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ؛ لأَنه لَمَّا كَانَ المعنى المُوجِبُ لشرعيَّة الحكم العملي (¬6) الْخَاصِّ مَوْجُودًا، ثُمَّ لَمْ يُشْرَعْ، وَلَا نَبَّهَ على استنباطه (¬7)؛ كَانَ صَرِيحًا فِي أَن الزَّائِدَ عَلَى مَا ثَبَتَ هُنَالِكَ بِدْعَةٌ زَائِدَةٌ، وَمُخَالِفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ إِذ فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حدَّ هُنَالِكَ، لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ. وَلِذَلِكَ مِثَالٌ فِيمَا نُقل عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنس فِي سَمَاعِ أَشهب وَابْنِ نَافِعٍ هُوَ غايةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَن مَذْهَبَهُ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ الْكَرَاهِيَةُ، وأَنه لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَعَلَيْهِ بَنَى كَلَامَهُ. قَالَ فِي "الْعُتْبِيَّةِ" (¬8): وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يأْتيه الأَمر يُحِبُّهُ ¬

(¬1) في (خ): "العبادات". (¬2) في (خ): "إجراء". (¬3) في (خ) و (م): "ذلك". (¬4) قوله: "من الأمور" سقط من (غ) و (ر). (¬5) من قوله: "في ذلك الوقت" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬6) في (خ) و (م): "العقلي". (¬7) في (خ) و (م): "السبطا"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: "كذا! ". (¬8) انظر "البيان والتحصيل" (1/ 392)، و"الموافقات" للمصنف (3/ 158 و271 ـ 272). وأخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (111) بسنده عن أشهب؛ قال: سألت مالكاً عن الحديث الذي جاء: أن أبا بكر الصدّيق لما أتاه خبر اليمامة سجد ... ، فذكره.

فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرًا؟ فَقَالَ: لَا يفعل! ليس (¬1) هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمر النَّاسِ. قِيلَ لَهُ: إِن أَبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فِيمَا يَذْكُرُونَ ـ سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ (¬2)، أَفسمعت ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ، وأَنا أَرى أَن (¬3) قَدْ كَذَبُوا عَلَى (¬4) أَبي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَن يَسْمَعَ المرءُ الشيءَ فَيَقُولُ: هَذَا شيء (¬5) لم أَسمع له خلافاً. فقيل له: إِنما نسأَلك لنعلم رأْيك فنرد ذلك به. فقال: نأْتيك بشيء آخر أَيضاً (¬6) لم تسمعه مني: قد فُتِحَ على رسول الله (¬7) صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ، أَفسمعت أَن أَحداً مِنْهُمْ فعل مثل هذا؟ إِذا جاءك مثل هذا (¬8) مما قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيديهم لا يسمع (¬9) عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ، فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ، فإِنه لَوْ كان لذُكر؛ لأَنه من أَمر ¬

(¬1) قوله: "ليس" سقط من (خ) و (م). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8413)، والبيهقي في "سننه" (2/ 371)، كلاهما من طريق مِسْعَر، عن أبي عون الثقفي محمد بن عبيد الله، عن رجل لم يُسَمِّه: أن أبا بكر لما فتح اليمامة سجد. وهذا سند ضعيف لإبهام شيخ أبي عون، وذكر البيهقي أنه قيل: عن مِسْعر، عن أبي عون محمد بن عبيد الله، عن يحيى بن الجزار؛ أي: هو المبهم، ولكن البيهقي لم يسنده، ولعله يعني ما أسنده ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (8414) من طريق وكيع، عن مسعر، عن أبي عون الثقفي، عن يحيى بن الجزار: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرَّ به رجل به زمانة، فسجد، وأبو بكر، وعمر. فإن كان قصد هذا: فليس هو في فتح اليمامة، وإن كان يشهد لمسألة سجود الشكر في الجملة، ومع ذلك فهو ضعيف؛ لأن يحيى بن الجزار لم يُذكر له سماع من أبي بكر رضي الله عنه، ولا أظنه أدركه؛ كما يتضح من "الجرح والتعديل" (9/ 133 رقم 561) و"تهذيب الكمال" (31/ 251 ـ 253). وأخرج هذا الأثر عبد الرزاق في "المصنف" (5963) عن سفيان الثوري، عن أبي سلمة، عن أبي عون؛ قال: سجد أبو بكر حين جاءه فتح اليمامة. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 288 رقم 2882). وهذا الوجه أشد انقطاعاً من سابقه، لكن طريق مسعر أرجح، والله أعلم. (¬3) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "أنهم".اهـ. (¬4) في (غ): "على ذلك". (¬5) قوله: "شيء" سقط من (خ). (¬6) من قوله: "لم أسمع له خلافاً" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬7) في (خ) و (م): "فتح الله على رسول الله". (¬8) قوله: "جاءك مثل هذا" سقط من (خ) و (م). (¬9) في (خ) و (م): "على أيديهم سمع".

النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ، فَهَلْ سَمِعْتَ أَن أَحداً منهم سجد؟ فهذا إِجماع، إِذا (¬1) جاءَك أَمر لا تعرفه فدعه. هذا (¬2) تَمَامَ الرِّوَايَةِ. وَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى فَرْضِ سُؤَالٍ والجواب عنه (¬3) بِمَا تَقَدَّمَ. وَتَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَن يُقَالَ فِي الْبِدْعَةِ ـ مَثَلًا ـ: إِنها فعلٌ سَكَتَ الشارعُ عَنْ حُكمه فِي الفِعل والتَّرك، فَلَمْ يَحْكم عَلَيْهِ بِحُكْمٍ عَلَى الْخُصُوصِ، فالأَصل جَوَازُ فِعْلِهِ، كَمَا أَن الأَصل (¬4) جواز تركه، إِذ هو في (¬5) مَعْنَى الْجَائِزِ، فإِن كَانَ لَهُ أَصل جُمْلي فأَحْرَى أَن يَجُوزَ فِعْلُهُ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِهِ أَو كَرَاهَتِهِ (¬6)، وإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ هُنَا مُخَالَفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَلَا ثَمَّ دَلِيلٌ خَالَفَهُ هَذَا النَّظَرُ، بَلْ حَقِيقَةُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنه (¬7) أَمر مَسْكُوتٌ عَنْهُ عِنْدَ الشارع، والسكوت من الشَّارِعِ لَا يَقْتَضِي مُخَالَفَةً وَلَا مُوَافَقَةً، وَلَا يُعَيِّن الشَّارِعُ قَصْدًا مَا دُونَ ضِدِّهِ وَخِلَافِهِ، وإِذا ثَبَتَ هَذَا فَالْعَمَلُ بِهِ لَيْسَ بمخالفٍ؛ إِذ لَمْ يَثْبُتُ فِي الشَّرِيعَةِ نَهْيٌ عَنْهُ. وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَن السُّكُوتَ (¬8) عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ أَو التَّرْك هُنَا إِذا وُجِدَ الْمَعْنَى المُقْتَضي لَهُ إِجماعٌ مِنْ كلِّ سَاكِتٍ عَلَى أَن لَا زَائِدَ عَلَى مَا كَانَ؛ إِذ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَائِقًا شَرْعًا أَو سَائِغًا لَفَعَلُوهُ، فَهُمْ كَانُوا أَحقَّ بإِدراكه وَالسَّبْقِ إِلى الْعَمَلِ به، وذلك إِذا نظرنا إِلى المصالح (¬9)؛ فإِنه لَا يَخْلُو: إِما (¬10) أَن يَكُونَ فِي هذا (¬11) الْأَحْدَاثِ مَصْلَحَةٌ أَوْ لَا. وَالثَّانِي لَا يَقُولُ بِهِ أَحد. والأَول إِما أَن تَكُونَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ الْحَادِثَةُ آكَدَ (¬12) مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زمان التشريع (¬13) أَو لا. ولا يمكن أَن تكون (¬14) ¬

(¬1) في (خ) و (م): "وإذا". (¬2) قوله: "هذا" ليس في (خ) و (م). (¬3) قوله: "عنه" ليس في (خ). (¬4) في (خ) و (م): "أصل". (¬5) قوله: "في" ليس في (خ) و (م). (¬6) في (غ) و (ر): "كراهيته". (¬7) قوله: "أنه" سقط من (غ) و (ر). (¬8) في (خ) و (م): "التشديد" بدل "السكوت". (¬9) في (خ) و (م): "المصلحة". (¬10) قوله: "إما" ليس في (غ) و (ر). (¬11) في (خ) و (م): "هذه". (¬12) في (خ): "أوكد". (¬13) في (خ) و (م): "التكليف" بدل "التشريع". (¬14) في (خ) و (م): "يكون".

آكد (¬1) مع كون المُحْدَثَةِ زيادةً؛ لأَنها زِيَادَةَ (¬2) تَكْلِيفٍ، وَنَقْصُهُ (¬3) عَنِ المُكلَّف أَحْرَى بالأَزمنة المتأَخِّرة؛ لِمَا يُعْلَم مِنْ قُصُورِ الهِمَم وَاسْتِيلَاءِ الْكَسَلِ، ولأَنه خلافُ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بالحَنِيفية السَّمْحَة (¬4)، ورَفْعِ الحَرَجِ عَنِ الأُمَّة، وَذَلِكَ فِي تَكْلِيفِ الْعِبَادَاتِ؛ لأَن الْعَادَاتِ أَمر آخَرُ ـ كَمَا سيأْتي ـ وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ (¬5)، فَلَمْ يَبْقَ إِلا أَن تَكُونُ (¬6) الْمَصْلَحَةُ الظَّاهِرَةُ الْآنَ مُسَاوِيَةً لِلْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ، أَو أَضعف مِنْهَا. وعند ذلك يصير هذا (¬7) الإِحداث عَبْثًا، أَو اسْتِدْرَاكًا عَلَى الشَّارِعِ؛ لأَن تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ إِن حَصَلَتْ للأَولين مِنْ غَيْرِ هَذَا الإِحداث، فالإِحداث (¬8) إِذاً عَبَثٌ، إِذ لَا يَصِحُّ أَن يَحْصُلَ للأَولين دون الآخرين، مع فرض التزام العمل بما عمل به الأَوَّلون من ترك الزيادة، وإِن لم تحصل للأَولين وحصلت للآخرين (¬9)، فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَشْرِيعًا بَعْدَ الشَّارِعِ يسبب (¬10) للآخرين (¬11) ما فات للأَولين (¬12)، فَلَمْ يَكْمُلِ (¬13) الدِّينُ إِذاً دُونَهَا، وَمَعَاذَ اللَّهِ من هذا المأْخذ. ¬

(¬1) قوله: "آكد" سقط من (خ) و (م)، فعلق عليه رشيد رضا بقوله: "انظر أين اسم يكون وخبره؟ الظاهر أنه سقط من الناسخ، والمعنى الذي يقتضيه السياق، ويتعين مما يأتي هو: نفي كون المصلحة الحادثة آكد؛ لأنه سيقول: إنها مساوية أو أضعف. فلعل أصل الكلام: "ولا يمكن أن تكون آكد"، وقوله: "مع كون المحدثة" إلخ؛ تعليل للنفي".اهـ. (¬2) قوله: "لأنها زيادة" سقط من (خ) و (م). (¬3) في (خ): "ونقضه"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "كذا! ولعل الأصل: "نقصه" بالصاد المهملة؛ أي: نقص التكليف وتخفيفه". اهـ. (¬4) حديث "بعثت بالحنيفية السمحة" تقدم تخريجه (ص154). (¬5) كذا في جميع النسخ. وعلق الشيخ رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "كذا ولعل الأصل: (وقد مر شيء منه) أو ما هو بمعنى هذا". (¬6) في (ر) و (غ): "يكون". (¬7) في (خ): "هذه". (¬8) قوله: "فالإحداث" سقط من (خ)، و (م)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل الأصل: فهي إذاً عبث. اهـ. (¬9) من قوله: "مع فرض التزام" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬10) في (خ) و (م): "بسبب". (¬11) في (خ) و (م): "الأخرى". (¬12) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعل إلا بسبب للآخرين ما فات الأولين. اهـ. (¬13) في (غ): "يكن".

وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ: أَن تَرْكَ الأَولين لأَمر مَا مِنْ غَيْرِ أَن يُعَيِّنوا فِيهِ وَجْهًا مَعَ احْتِمَالِهِ فِي الأَدلّة الجُمْليَّة، وَوُجُودِ المَظِنَّة (¬1)، دَلِيلٌ عَلَى أَن ذَلِكَ الأَمر لَا يُعْمَلُ بِهِ، وأَنه إِجماع مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِهِ. قَالَ ابْنُ رُشْد (¬2) فِي شَرْحِ مسأَلة "الْعُتْبِيَّةِ": الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنه (¬3) لم يَرَهُ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ ـ يَعْنِي سُجُودَ الشُّكْرِ ـ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا، إِذ لَمْ يأْمر (¬4) بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَعَلَهُ، وَلَا أَجمع الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ، وَالشَّرَائِعُ لا تثبت إِلا من أَحد هذه الوجوه (¬5). قَالَ: وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ: بأَن ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ: صحيحٌ (¬6)؛ إِذ لا يَصِحّ أَن تتوفَّر دواعي المسلمين (¬7) عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعَ الدِّينِ، وقد أُمروا بِالتَّبْلِيغِ. قَالَ: وَهَذَا أَصل مِنَ الأُصول (¬8)، وَعَلَيْهِ يأْتي إِسقاط الزَّكَاةِ مِنَ الخُضَر والبُقُول ـ مَعَ وجوب (¬9) الزكاة فيها بعموم قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِيمَا سَقَتِ السَّماءُ وَالْعُيُونُ والبَعْلُ: العُشُر، وَفِيمَا سُقِيَ بالنَّضْح: نصف العشر" (¬10) ـ؛ لأَنا لو أَنزلنا (¬11) ترك نقل أَخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم الزَّكَاةَ مِنْهَا كالسُّنَّة الْقَائِمَةِ فِي أَن لَا زكاة فيها، فكذلك نُنْزِل (¬12) تَرْكُ نَقْلِ السُّجُودِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَن لا سجود فيها. ثم حَكَى (¬13) ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "ووجوداً مظنة". (¬2) في "البيان والتحصيل" (1/ 393). (¬3) أي: الإمام مالك. (¬4) في (خ) و (م): "يؤمر". (¬5) كذا في (غ) و (ر)، وهو الموافق لما في "البيان والتحصيل"، وفي (خ) و (م): "الأمور" بدل "الوجوه". (¬6) خبر: "واستدلاله"؛ أي: واستدلاله صحيح. (¬7) في (خ) و (م): "أن تتوفر الدواعي". (¬8) في "البيان والتحصيل": "وهذا أيضاً من الأصول". (¬9) في (خ) و (م): "وجود". (¬10) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 270) واللفظ له، والبخاري (1483) من حديث ابن عمر. وأخرجه مسلم (981) بنحوه من حديث جابر. (¬11) في (خ) و (م): "لأنا نزلنا". (¬12) في (خ): "نزل" وفي (م): "تنزل". (¬13) يعني: ابن رشد.

خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامَ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ المسأَلة: تَوْجِيهُ مَالِكٍ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنها بِدْعَةٌ، لَا تَوْجِيهُ أَنها بِدْعَةٌ عَلَى الإِطلاق (¬1). وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ جَرَى بَعْضُهُمْ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ المحلِّل، وأَنه بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ؛ مِنْ حَيْثُ وُجِد فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَعْنَى المُقْتَضي لِلتَّخْفِيفِ والترخيص للزوجين بإِجازة التحليل ليتراجعا كما كانا أَوّل مرَّة، وأَنه لَمَّا لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ مَعَ حِرْصِ امرأَة رِفَاعَةَ (¬2) عَلَى رُجُوعِهَا إِليه؛ دَلّ عَلَى أَن التَّحْلِيلَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا. وَهُوَ أَصل صَحِيحٌ، إِذا اعتُبِر؛ وَضَحَ بِهِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ؛ لأَن الْتِزَامَ الدعاءِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي مَسَاجِدِ الجماعات لو كان مُسْتَحسناً (¬3) شَرْعًا ـ أَو جَائِزًا ـ؛ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَولى بِذَلِكَ (¬4) أَن يَفْعَلَهُ. وَقَدْ عَلَّل المُنْكِرُ هَذَا الْمَوْضِعَ بِعلَلٍ تَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ، وَبَنَى عَلَى فَرْضِ أَنه لَمْ يأْت مَا يُخَالِفُهُ، وأَن الأَصل الْجَوَازُ فِي كُلِّ مَسْكُوتٍ عنه. أَما أَن الأَصل الجواز فيُمنع (¬5)؛ لأَن طَائِفَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ يَذْهَبُونَ إِلى أَن الأَشياءَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَنْعِ دُونَ الإِباحة، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ مِنَ الْجَوَازِ؟ وإِن سَلَّمَنَا لَهُ مَا قَالَ، فَهَلْ هُوَ عَلَى الإِطلاق أَم لَا؟ أَما فِي العاديَّات فمُسَلَّم، وَلَا نُسَلِّم أَن مَا نَحْنُ فيه من العاديَّات، بل من العباديَّات، وَلَا يَصِحُّ أَن يُقَالَ فِيمَا فِيهِ تعبُّد: إِنه مُخْتَلِفٌ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: هَلْ هُوَ عَلَى الْمَنْعِ، أَم هُوَ عَلَى الإِباحة؟ بَلْ هو أبداً (¬6) على المنع؛ لأَن ¬

(¬1) تقدم في بداية بحث المسألة ذكر ما يستدل به على مشروعية سجود الشكر. (¬2) حديث امرأة رفاعة: أخرجه البخاري (5260)، ومسلم (1433)، من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن امرأة رفاعة جاءت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فَبَتّ طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القُرَظي، وإنما معه مثل الهَدَبَة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا! حتى يذوق عُسَيْلتك، وتذوقي عُسَيْلته". (¬3) في (خ) و (م): "صحيحاً" بدل "مستحسناً". (¬4) في (م): "بأولى فذلك". (¬5) في (خ): "فيمتنع"، ويبدو أنها كانت هكذا في (م)، ثم طمست التاء. (¬6) في (خ) و (م): "أمر زائد" بدل "أبداً".

التعبُّدِيَّات (¬1) إِنما وَضْعُها (¬2) لِلشَّارِعِ، فَلَا يُقَالُ فِي صلاةٍ سادسةٍ ـ مَثَلًا ـ: إِنها عَلَى الإِباحة، فللمُكَلَّف وَضْعُهَا ـ عَلَى أَحد الْقَوْلَيْنِ ـ لِيَتَعَبَّدَ بِهَا لِلَّهِ؛ لأَنه بَاطِلٌ بإِطلاق، وَهُوَ أَصل كُلِّ مُبْتَدَعٍ يُرِيدُ أَن يَسْتَدْرِكَ عَلَى الشَّارِعِ. وَلَوْ سُلِّم أَنه مِنْ قَبِيلِ العاديَّات، أَو مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْقَل مَعْنَاهُ، فَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ أَيضاً؛ لأَن تركَ الْعَمَلِ بِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَتَرْكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُ عَلَى تَوَالي أَزْمِنَتِهم قَدْ تقدَّم أَنه نصٌّ فِي التَّرْك، وإِجماعٌ مِنْ كُلِّ مَنْ تَرَك؛ لأَن عَمَلَ الإِجماع كنصِّه، كما أَشار إِليه مالك في كلامه (¬3). وأَيضاً فما يُعَلِّل به (¬4) لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ، وَقَدْ أَتى الرَّادُّ بأَوجه مِنْهُ: أَحدها: أَن الدعاءَ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ لِيُظْهِرَ وَجْهَ التَّشْرِيعِ فِي الدعاءِ، وأَنه بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ مَطْلُوبٌ. وَمَا قَالَهُ يَقْتَضِي أَن يَكُونَ سُنَّةً بِسَبَبِ الدَّوَامِ والإِظهار فِي الْجَمَاعَاتِ وَالْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ اتِّفَاقًا (¬5) مِنَّا وَمِنْهُ، فَانْقَلَبَ إِذاً وَجْهُ التَّشْرِيعِ. وأَيضاً فإِن إِظهار التَّشْرِيعِ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَولى، فَكَانَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ المتكلَّم فِيهَا أَولى بالإِظهار (¬6)، ولَمّا (¬7) لَمْ يَفْعَلْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ دلَّ على الترك مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى المُقْتَضي، فَلَا يُمْكِنُ بَعْدَ زَمَانِهِ فِي تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ إِلا التَّرْكُ. وَالثَّانِي: أَن الإِمام يَجْمَعُهُمْ عَلَى الدعاءِ لِيَكُونَ بِاجْتِمَاعِهِمْ أَقربَ إِلى الإِجابة. وهذه العلة كانت موجودة (¬8) في زمانه عليه الصلاة والسلام؛ لأَنه لَا يَكُونُ أَحدٌ أَسرعَ إِجابةً لِدُعَائِهِ مِنْهُ؛ إِذ كَانَ مجابَ الدَّعْوَةِ بِلَا إِشكال، بِخِلَافِ غَيْرِهِ ـ وإِن عَظُم قَدْرُهُ فِي الدِّينِ ـ، فَلَا يَبْلُغُ رُتْبَتَهُ، فَهُوَ كَانَ أَحقَّ بأَن يَزِيدَهُمُ الدُّعَاءَ لَهُمْ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ والليلة زيادة إِلى دعائهم لأَنفسهم. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "التعبدات". (¬2) في (خ): "وضعوا"، ولذا علق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: إنما وضعها للشارع. اهـ. (¬3) أي: المتقدم (ص284). (¬4) في (خ) و (م): "له". (¬5) في (غ) و (ر): "سنة باتفاق". (¬6) في (خ) و (م): "للإظهار"، وفي (ر): "بالإظها". (¬7) في (غ): "لما". (¬8) قوله: "موجودة" سقط من (خ).

وأَيضاً: فإِن قَصْدَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدعاءِ لَا يَكُونُ بَعْدَ زَمَانِهِ أَبلغ فِي الْبَرَكَةِ مِنَ اجتماعٍ يَكُونُ فِيهِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وأَصحابه، فكانوا بالتَّنَبُّه (¬1) لِهَذِهِ المَنْقَبَة أَولى. وَالثَّالِثُ: قَصْدُ التَّعْلِيمِ للدعاءِ؛ ليأْخذوا مِنْ دُعَائِهِ مَا يَدْعُونَ بِهِ لأَنفسهم؛ لِئَلَّا يَدْعُوَا بِمَا لَا يَجُوزُ عَقْلًا أَو شَرْعًا. وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَنْهَضُ؛ فإِن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ المعلِّمَ الأَوَّل، وَمِنْهُ تلقَّينا أَلفاظ الأَدعية وَمَعَانِيهَا، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْهَلُ قَدْرَ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَقُولُ (¬2): ربَّ العبادِ ما لنا وما لَكَا (¬3) ... أَنْزِلْ عَلَيْنا الغَيْثَ لا أَبالَكَا (¬4) وقال الآخر (¬5): لا هُمَّ إِن كُنْتَ الَّذِي بعَهْدِي ... ولَمْ تُغَيِّرْكَ الأُمورُ بَعْدِي وَقَالَ الْآخَرُ: أَبَنِيَّ لَيْتي (¬6) لَا أُحِبُّكُمُ ... وَجَدَ الإِلهُ بكُمُ كما أَجِدُ ¬

(¬1) في (خ) و (م): "بالتنبيه". (¬2) قال المُبَرِّد في "الكامل" (3/ 1139/تحقيق د. محمد الدالي): وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة جَدْبَةٍ يقول: ربَّ العبادِ ما لَنا ومالَكا ... قد كنت تَسْقينا فما بدا لكَ أنزل علينا الغيث لا أبا لكا فأخرجه سليمانُ أحسنَ مُخْرَجٍ، فقال: أشهد أن لا أبا له، ولا ولد، ولا صاحبة. اهـ. وانظر الخبر أيضاً في "لسان العرب" (14/ 12). وكان المبرِّد قد قال قبل سياق القصة ـ وهو يتحدّث عن كلمة "لا أبا لك" ـ: "وهذه كلمة فيها جفاء، والعرب تستعملها عند الحثّ على أخذ الحق والإغراء، وربما استعملتها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: انظر في أمر رعيّتك لا أبا لك! ... "، ثم ساق القصة. (¬3) في (خ) و (م): ومالك". (¬4) في (خ) و (م): "لا أبالك". (¬5) ذكر هذا الرَّجَز ابن سيده في "المخصّص" (3/ 4)، وابن منظور في "لسان العرب" (2/ 461/مادة "روح") بلفظ: لا هُمَّ إنْ كنتَ الذي كَعَهدي ... ولم تُغَيِّرْك السِّنونَ بعدي وذكرا أنه من جفاء الأعراب، ولم ينسباه لأحد. (¬6) كذا في (خ)، وفي باقي النسخ: "ليتني".

وَهِيَ أَلفاظ يَفْتَقِرُ أَصحابها إِلى التَّعْلِيمِ، وَكَانُوا قريبي (¬1) عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، تُعَامِلُ الأَصنامَ معاملةَ الربِّ الْوَاحِدِ سُبْحَانَهُ، وَلَا تُنَزِّهه كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَلَمْ يُشْرِعْ لَهُمْ دُعَاءً بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي آثَارِ الصلوات دائماً ليعلِّمهم أَو يغنيهم عن (¬2) التعلُّم (¬3) إِذا صَلَّوْا مَعَهُ، بَلْ علَّم فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ إِثر الصَّلَاةِ حِينَ بَدَا لَهُ ذَلِكَ؛ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِذ ذَاكَ إِلى النَّظَرِ لِلْجَمَاعَةِ، وَهُوَ كَانَ أَولى الْخَلْقِ بِذَلِكَ. وَالرَّابِعُ: أَن فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدعاءِ تَعَاوُنًا عَلَى البِرّ وَالتَّقْوَى، وَهُوَ مأْمور بِهِ. وهذا الاحتجاج (¬4) ضَعِيفٌ؛ فإِن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أُنزل عَلَيْهِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى} (¬5)، وَكَذَلِكَ فَعَلَ، وَلَوْ كَانَ الِاجْتِمَاعُ للدعاءِ إِثر الصَّلَاةِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ مِنْ بَابِ البرِّ وَالتَّقْوَى؛ لَكَانَ أَوّل سَابِقٍ إِليه، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَصلاً، وَلَا أَحدٌ بَعْدَهُ حَتَّى حَدَثَ مَا حَدَثَ، فَدَلَّ عَلَى أَنه لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ الوجه ببرٍّ (¬6) وَلَا تَقْوَى. وَالْخَامِسُ: أَن عامَّة النَّاسِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَرُبَّمَا لَحَن، فَيَكُونُ الَّلحْنُ سَبَبَ عدمِ الإِجابة. وحَكَى عَنِ الأَصْمَعي في ذلك حكاية شعريَّة لا فقهيَّة (¬7). ¬

(¬1) في (خ): "قرب" وفي (م): "قربى". (¬2) في (خ): "أو يعينهم على". (¬3) في (غ) و (ر): "التعليم". (¬4) في (خ) و (م): "الاجتماع". (¬5) سورة المائدة: الآية (2). (¬6) في (خ) و (م): "بر". (¬7) الظاهر أنه يعني ما أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (4/ 320 رقم 1565) من طريق أبي عبد الله الحاكم؛ قال: سمعت أبا بكر الإسماعيلي يقول: أخبرني المرزباني؛ حدثني محمد بن الفضل؛ حدثني الرياشي؛ قال: مرّ الأصمعي برجل يدعو ويقول في دعائه: يا ذو الجلال والإكرام، فقال له الأصمعي: يا هذا! ما اسمك؟ فقال: ليث، فقال الأصمعي: يُناجي ربَّه باللَّحْن لَيْثٌ ... لِذاكَ إذا دعاه لا يُجيب ومن طريق البيهقي رواها ابن عساكر في "تاريخه" (37/ 80 ـ 81). وفي سند الحكاية محمد بن الفضل ولم يتضح لي من هو؟ والراوي عنه هو محمد بن عمران بن موسى المرزباني معتزلي متكلم فيه. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (3/ 135 رقم 1159)، و"سير أعلام النبلاء" (16/ 447 ـ 449)، و"لسان الميزان" (5/ 326 رقم 1077).

وهذا الاحتجاج (¬1) إِلى اللَّعِبِ أَقرب مِنْهُ إِلى الْجَدِّ، وأَقرب مَا فِيهِ أَن أَحداً مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِي الدعاءِ أَن لَا يَلْحَنَ كَمَا يَشْتَرِط الإِخلاصَ وصدقَ التَّوَجُّه (¬2)، وعزمَ المسأَلة، وغيرَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ. وتعلُّمُ (¬3) اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لإِصلاح الأَلفاظ فِي الدعاءِ ـ وإِن كَانَ الإِمامُ أَعرفَ بِهِ ـ؛ هُوَ كَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِليه الإِنسان مِنْ أَمر دِينِهِ. فإِن كَانَ الدُّعَاءُ مُسْتَحَبًّا، فالقراءَة وَاجِبَةٌ، وَالْفِقْهُ فِي الصَّلَاةِ كَذَلِكَ، فإِن كَانَ تعليمُ (¬4) الدُّعَاءِ إِثر الصَّلَاةِ مَطْلُوبًا، فَتَعْلِيمُ (¬5) فِقْهِ الصَّلَاةِ آكَدُ، فَكَانَ مِنْ حَقِّه أَن يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ وَظَائِفِ آثار الصلوات (¬6). فإِن قال (¬7) بموجبه في الحِزْبِ (¬8) الْمُتَعَارَفِ، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَجْتَثّ أَصله؛ لأَن السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا أَحقَّ بالسَّبْق إِلى فَضْلِهِ؛ لِجَمِيعِ مَا ذُكر فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مالك بن أنس (¬9) فِيهَا: أَترى النَّاسَ الْيَوْمَ كَانُوا أَرغبَ فِي الْخَيْرِ مِمَّنْ مَضَى؟ وَهُوَ إِشارة إِلى الأَصل الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَن الْمَعْنَى المُقْتَضي للإِحداث ـ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ ـ كَانَ أَتمَّ فِي السَّلَفِ الصالح، وهم لم يفعلوه، فدل أَنَّهُ لَا يُفْعَل. وأَما مَا ذُكِرَ مِنْ آداب (¬10) الدعاءِ: فكُلُّه مما لَا يتعيَّن لَهُ (¬11) إِثر الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ: أَن رسول الله صلّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّم مِنْهَا جُمْلَةً كَافِيَةً، وَلَمْ يُعَلِّم مِنْهَا شَيْئًا إِثر الصَّلَاةِ، وَلَا تَرَكَهُمْ دُونَ تَعْلِيمٍ ليأْخذوا ذَلِكَ مِنْهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، أَو لِيَسْتَغْنُوا بِدُعَائِهِ (¬12) عَنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ، وَمَعَ أَن الْحَاضِرِينَ للدعاءِ لَا يَحْصُلُ لهم من الإِمام فِي ذَلِكَ كَبِيرُ شَيْءٍ، وإِن حَصَلَ فَلِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ دُونَ مَنْ بَعُدَ. ¬

(¬1) في (خ) و (م): "الاجتماع". (¬2) في (خ) و (م): "التوجيه"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: أي: توجيه القلب إلى الله تعالى المأخوذ من قوله تعالى: {وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}، ويحتمل أن يكون: "التوجه" الذي مطاوع التوجيه. اهـ. (¬3) في (ر) و (غ): "وتعليم". (¬4) في (غ) و (ر): "تعلم". (¬5) في (ر) و (غ): "فتعلم". (¬6) في (خ) و (م): "الصلاة". (¬7) في (خ) و (م): "فإن قيل". (¬8) في (م): "المحزب"، وفي (خ) يشبه أن تكون: "المحرف". (¬9) قوله: "ابن أنس" من (غ) و (ر) فقط، ونقل المصنف كلام مالك هذا في "الموافقات" (3/ 497). (¬10) في (غ) و (ر): "أدب". (¬11) قوله: "له" ليس في (غ). (¬12) في (غ): "عن دعائه".

فصل

فَصْلٌ ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُسْتَنصر (¬1) بِالْقِيَاسِ، فَقَالَ: وإِن صَحَّ أَن السَّلَف لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ؛ فَقَدَ عَمِلَ السَّلَفُ بِمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِمَّا (¬2) هُوَ خَيْرٌ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقضية بِقَدْرِ مَا أَحدثوا مِنَ الْفُجُورِ" (¬3)، فَكَذَلِكَ تَحْدُثُ لَهُمْ مُرَغِّبات فِي (¬4) الْخَيْرِ بِقَدْرِ مَا أَحدثوا مِنَ الفُتُور. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ غيرُ جارٍ عَلَى الأُصول: أَمّا أَوّلاً: فإِنه فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَهُوَ مَا أَشار إِليه مَالِكٌ فِي مسأَلة "العتبيَّة" (¬5)، فَذَلِكَ من باب فساد الاعتبار. ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "المنتصر". (¬2) في (خ): "بما". (¬3) لم أجده مسنداً، وإنما ذكره ابن أبي زيد القيرواني في "الرسالة" (ص245) في "باب في الأقضية والشهادات" تعليقاً. وقال ابن فرحون المالكي في "تبصرة الحكام" في المسألة (217): "مسألة: قال ابن وضاح: قلت لسحنون: إن ابن عجلان قال لي: إنه يُحَلِّف اليهوديَّ يوم السبت، والنصرانيَّ يوم الأحد، وقال: إني رأيتهم يرهبون ذلك. فقال لي سحنون: ومن أين أخذه ابن عجلان؟ قال: قلت: من قول مالك: يُحَلّفون حيث يعظِّمون، فسكت. قال ابن وضاح: فكأنه أعجبه. وقلت له أيضاً: إن ابن عاصم عندنا يحلِّف الناس بالطلاق، يغلِّظ عليهم. فقال لي: ومن أين أخذ ذلك؟ قلت له: من الأثر المروي من قول عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. فقال لي: مثل ابن عاصم يتأوّل هذا! قاله ابن الهندي في وثائقه. وابن عاصم هذا: حسين بن عاصم، روى عن ابن القاسم وأشهب، ودخل الأندلس، وكان محتسباً بها في السوق".اهـ. ويرد هذا القول كثيراً في كتب المالكية، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/ 144) نقلاً عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ونسبه لمالك، وكذا الزرقاني في "شرح الموطأ" (4/ 44). (¬4) في (غ) و (ر): "من" بدل "في". (¬5) المتقدمة (ص282 ـ 283).

وأَما ثَانِيًا: فإِنه قِيَاسٌ عَلَى نَصٍّ لَمْ يثبت بعدُ من طريقٍ صحيح؛ إِذ من الناس من طعن فيه، ومن شرط الأَصل الْمَقِيسِ عليه أن يثبت النقل فيه مِنْ طريقٍ (¬1) مَرْضِيٍّ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وأَما ثَالِثًا: فإِن كَلَامَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فرعٌ اجتهاديٌّ جَاءَ عَنْ رجلٍ مجتهدٍ يُمْكِنُ أَن يخطىء فِيهِ؛ كَمَا يُمْكِنُ أَن يُصِيبَ، وإِنما حَقِيقَةُ الأَصل أَن يأْتي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو عَنْ أَهل الإِجماع، وَهَذَا لَيْسَ عَنْ (¬2) وَاحِدٍ (¬3) مِنْهُمَا. وأَما رَابِعًا: فإِنه قِيَاسُ بِغَيْرِ مَعْنًى جَامِعٍ، أَو بِمَعْنَى جَامِعٍ طَرْدِيٍّ (¬4)، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ سيأْتي ـ إِن شاءَ اللَّهُ ـ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالْبِدَعِ. وَقَوْلُهُ: "إِن السَّلَفَ عَمِلُوا بِمَا لَمْ يَعْمَلْ به من قبلهم": حاشا لِلَّهِ أَن يَكُونُوا مِمَّنْ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ. وَقَوْلُهُ: "مِمَّا هُوَ خَيْرٌ": أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلى السلف فما عملوا به (¬5) خير، وأَما فرعه المقيس فَكَوْنُهُ خَيْرًا دَعْوَى؛ لأَن كَوْنَ الشَّيْءِ خَيْرًا أَوْ شَرّاً لَا يَثْبُتُ إِلا بِالشَّرْعِ، وأَما العقل فبمعزل عن ذلك، فليُثْبِتْ (¬6) أَوّلاً أَن (¬7) الدعاءَ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ خَيْرٌ شَرْعًا. وأَما قِيَاسُهُ عَلَى قَوْلِهِ: "تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ": فَمِمَّا تقدم (¬8). وفيه ¬

(¬1) من قوله: "صحيح إذ من الناس" إلى هنا سقط من (خ) و (م). (¬2) قوله: "عن" ليس في (غ) و (ر). (¬3) في (ر): "واحداً". (¬4) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "لعل الأصل: غير طردي". (¬5) قوله: "به" ليس في (خ) و (م). (¬6) من قوله: "وأما العقل فبمعزل" إلى هنا سقط من (خ). (¬7) في (خ): "أو لأن". (¬8) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: كذا والظاهر أنه سقط منه شيء، ولعل أصله: "فمما تقدم يعلم بطلانه".اهـ. والذي يظهر لي أنه لم يسقط منه شيء، وإنما عنى المؤلف: أن هذا القول مردود بالأمور الأربعة التي ذكرها قبل عدة أسطر.

أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ التَّصْرِيحُ بأَن إِحداث الْعِبَادَاتِ جَائِزٌ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ، وإِنما كَلَامُ عُمَرَ ـ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ ـ فِي مَعْنًى عَادِيٍّ يَخْتَلِفُ فِيهِ مَنَاطُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِيمَا تقدم؛ كتضمين الصُّنّاع واشتراط الخلطة (¬1)، أَو الظِّنّة فِي تَوْجِيهِ الأَيْمَان، دُونَ مُجَرَّدِ الدَّعَاوَى، فَيَقُولُ: إِن الأَولين تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الأَحكام لِصِحَّةِ الأَمانة وَالدِّيَانَةِ وَالْفَضِيلَةِ، فَلَمَّا حَدَثَتْ (¬2) أَضدادها اخْتَلَفَ الْمَنَاطُ فَوَجَبَ اخْتِلَافُ الْحُكْمِ، وَهُوَ حكمٌ رادعٌ أَهلَ الْبَاطِلِ عَنْ بَاطِلِهِمْ، فأَثَرُ هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرٌ مُنَاسِبٌ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فإِنه عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، أَلا ترى أَن الناس قد (¬3) وَقَعَ فِيهِمُ الْفُتُورُ عَنِ الْفَرَائِضِ فَضْلًا عَنِ النوافل ـ وهي ما هي في (¬4) الْقِلَّةِ وَالسُّهُولَةِ ـ؟ فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ إِذا زِيدَ عليهم أَشياء أُخَرُ يرغبون فيها، ويُحَرِّضون (¬5) عَلَى اسْتِعْمَالِهَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَظَائِفَ تَتَكَاثَرُ حَتَّى يؤديَ إِلى أَعظم مِنَ الْكَسَلِ الأَول، أَو إِلى (¬6) ترك الجميع، فإِن حدث للعامل بالبدعة هوىً (¬7) فِي بِدْعَتِهِ، أَو لِمَنْ شَايَعَهُ فِيهَا، فَلَا بد من كسله عَمَّا (¬8) هُوَ أَولى (¬9). فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَن سَاهِرَ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ (¬10) لِتِلْكَ الصَّلَاةِ المُحْدَثة لَا يأْتيه الصُّبْحُ إِلا وَهُوَ نَائِمٌ، أَو فِي غاية الكسل، فيُخِلّ ¬

(¬1) قوله: "واشتراط الخلطة" سقط من (خ) و (م). (¬2) في (غ): "حصلت". (¬3) في (خ): "إذا". (¬4) في (خ): "من". (¬5) في (خ) و (م): "ويرخصون"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! والترخيص هنا غير مناسب، ولا يتعدى بعلى، فلعل الأصل: "ويحضون" اهـ. (¬6) في (خ): "وإلى". (¬7) في (خ) و (م): "هو". (¬8) في (خ) و (م): "مما". (¬9) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: ظاهرٌ أن في هذه العبارة غلطاً، والمعنى المفهوم من السياق: أن صاحب البدعة إذا كان يعرض له الكسل في بدعته ولمن شايعه عليها، فلا بدّ من عروض الكسل له في غيرها من الأعمال بالأَولى؛ لأن نظرية البدعة أنها ـ بجدَّتها ـ تُحدث نشاطاً بعد الفتور كما تقدم. اهـ. (¬10) انظر ما تقدم (ص20).

بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُحْدَثَاتِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَائِدَةً عَلَى مَا هُوَ أَولى مِنْهَا بالإِبطال أَو الإِخلال. وقد مرَّ في النقل (¬1) أَن بدعة لا تُحْدَثُ (¬2) إِلا وَيَمُوتُ مِنَ السُّنَّة مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا. وأَيضاً فإِن هَذَا الْقِيَاسَ مُخَالِفٌ لأَصل شَرْعِيٍّ، وَهُوَ طَلَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بالسهولة وَالرِّفْقَ وَالتَّيْسِيرَ وَعَدَمَ التَّشْدِيدِ (¬3)، وَزِيَادَةُ وَظِيفَةٍ لَمْ تُشْرَعْ، فَتَظْهَرُ وَيُعْمَلُ بِهَا دَائِمًا فِي مَوَاطِنِ السُّنَنِ، فَهُوَ تَشْدِيدٌ بِلَا شَكٍّ. وإِن سَلَّمْنَا مَا قَالَ، فَقَدْ وَجَدَ كُلُّ مُبْتَدَعٍ مِنَ الْعَامَّةِ السَّبِيلَ إِلى إِحداث الْبِدَعِ، وأَخذ هَذَا الْكَلَامِ بِيَدِهِ حجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ مَا يُحْدِثُهُ كَائِنًا مَا كَانَ، وَهُوَ مَرْمًى بَعِيدٌ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الدعاءِ إِثر الصَّلَاةِ في الجملة، ونقل في ذلك ¬

(¬1) قوله: "في النقل" سقط من (خ) و (م). (¬2) في (خ) و (م): "أن كل بدعة تحدث". (¬3) في ذلك عدة أحاديث، منها: ما أخرجه البخاري (2935 و6024)، ومسلم (2165)، كلاهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم. قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللعنة. قالت: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مهلاً يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله"، فقلت: يا رسول الله! أو لم تسمع ما قالوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد قلت: وعليكم". وأخرج مسلم برقم (2593): عنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم قال: "يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه". وأخرج أيضاً برقم (2594) عنها رضي الله عنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه". فهذا ما يتعلق بالسهولة والرفق. وأما ما يتعلق بالتيسير وعدم التشديد: فقد أخرج البخاري (3038)، ومسلم (1733)، كلاهما من حديث أبي موسى الأشعري: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن، قال: "يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا". وأخرج البخاري أيضاً (69)، ومسلم (1734)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا". ولفظ مسلم: "وسكِّنوا" بدل "وبشروا".

عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنواعاً مِنَ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ محلَّ النِّزَاعِ (¬1)، بَلْ جَعَلَ الأَدلةَ شَامِلَةً لِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَحاديث وَالْآثَارُ وَعَمَلُ النَّاسِ وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَمَا قَدْ ظَهَرَ. قَالَ: وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنه عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الإِمام فِي الصَّلَوَاتِ، وأَنه لَمْ يَكُنْ لِيَخُصَّ نَفْسَهُ بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ، إِذ قَدْ جاءَ مِنْ سُنَّتِهِ: "لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَن يَؤُمَّ قَوْمًا إِلا بإِذنهم، وَلَا يَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ؛ فإِن فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ" (¬2). فتأَملوا يَا أُولي الأَلباب! فَإِنَّ عَامَّةَ النُّصُوصِ فِيمَا سُمِعَ مِنْ أَدعيته فِي أَدبار الصَّلَوَاتِ إِنما كَانَ دُعَاءً لِنَفْسِهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَخُصَّ نفسه بالدعاء دون الجماعة، وهذا تناقض، واللهَ (¬3) نسأَل التوفيق. ¬

(¬1) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لفظ "محل" منصوب؛ خبر ليس؛ أي: وليس هذا محل النزاع. اهـ. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 280)، وأبو داود (91)، والترمذي (357)، وابن ماجه (923)، والفسوي في "المعرفة" (2/ 355)، والطبراني في "مسند الشاميين" (1042) جميعهم من طريق حبيب بن صالح، عن يزيد بن شريح، عن أبي حي المؤذن، عن ثوبان، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا يحل لامرئ من المسلمين أن ينظر في جوف بيت امرئ حتى يستأذن، فإن نظر فقد دخل، ولا يؤم قوماً فيختص نفسه بدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا يصلي وهو حقن حتى يتخفف". واللفظ لأحمد. وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1093) من طريق محمد بن الوليد، عن يزيد بن شريح، به، ثم قال: "أصح ما يروى في هذا الباب هذا الحديث". وقال الترمذي: "حديث ثوبان حديث حسن. وقد روي هذا الحديث عن معاوية بن صالح، عن السفر بن نسير، عن يزيد بن شريح، عن أبي أمامة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وروي هذا الحديث عن يزيد بن شريح، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكأن حديث يزيد بن شريح عن أبي حي المؤذن، عن ثوبان في هذا: أجود إسناداً وأشهر". وهذا الاختلاف الذي ذكره الترمذي على يزيد بن شريح ذكره الدارقطني أيضاً في "العلل" (1568)، ومال ـ كالترمذي ـ إلى ترجيح رواية من رواه عن يزيد، عن أبي حي، عن ثوبان. وكيفما كان الحديث فهو ضعيف؛ فمداره على يزيد بن شريح الحضرمي، الحمصي، وهو مقبول كما في "التقريب" (7779)، ولم يتابع، ولذا ضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "ضعيف الجامع" (6334). (¬3) قوله: "والله" مكرر في (ر)، وفي (خ): "ومن الله".

وإِنما حَمَلَ النَّاسُ الْحَدِيثَ عَلَى دعاءِ الإِمام فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ مِنَ السُّجُودِ وَغَيْرِهِ، لَا فِيمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ هَذَا المتأوِّل، وَلَمَّا لَمْ يصحَّ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ عِنْدَ مَالِكٍ؛ أَجاز للإِمام أَن يَخُصَّ نَفْسَهُ بالدعاءِ دُونَ المأْمومين، ذَكَرَهُ فِي "النَّوَادِرِ" (¬1). وَلَمَّا اعْتَرَضَهُ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ وَكَلَامُ السَّلَفِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، أَخذ يتأَوَّل ويوجّه كلامهم على طريقته المرتكبة (¬2)، ووقع له فيه (¬3) كَلَامٌ عَلَى غَيْرِ تأَمُّل لَا يَسْلَم ظَاهِرُهُ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالتَّدَافُعِ لِوُضُوحِ أَمره، وَكَذَلِكَ فِي تأْويل الأَحاديث الَّتِي نَقَلَهَا، لَكِنْ تَرَكْتُ هُنَا اسْتِيفَاءَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا لِطُولِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ (¬4). ¬

(¬1) واسمه الكامل: "النوادر والزيادات على ما في المدونة وغيرها من الأمهات" لابن أبي زيد القيرواني. انظر (1/ 193) منه. (¬2) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: كذا ولعله: "المرتبكة"، وفي (ر) يشبه أن تكون: "المرتكية". (¬3) في (خ) و (م): "في" بدل "فيه". (¬4) في (غ): "والله أعلم" بدل "والحمد لله على ذلك"، وقوله: "على ذلك" ليس في (ر). وقد علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: هاهنا ينتهي النصف الأول من الكتاب بحسب التقسيم الأول الذي وجدنا عليه نسختنا. اهـ. وفي (خ): بعد هذا الموضع ما نصه: كمل النصف الأول من كتاب الاعتصام للعلامة النّحرير الشيخ أبي إسحاق الشاطبي بحمد الله وحسن عونه، على يد العبد الفقير الذليل المرسي حسونة بن محمد الشيلي الأمين السوسي، غفر الله ذنوبه، وستر بمنِّه عيوبه والمسلمين آمين. وكان الفراغ منه في شوال المبارك يوم الأربعاء من عام 1294 عرفنا الله خيره وخير ما بعده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأسَدِّ الكريم، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. أول النصف الثاني قول المؤلف: فصل، ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه، أو غير بدعة فيعمل به ... إلخ.

فصل

فَصْلٌ (¬1) وَيُمْكِنُ أَن يَدْخُلَ فِي الْبِدَعِ الإِضافية كُلُّ عَمَلٍ اشْتَبَهَ أَمره فَلَمْ يتبيَّن: أَهو بِدْعَةٌ فيُنْهَى عَنْهُ؟ أَم غَيْرُ بِدْعَةٍ فيُعمل به؟ فإِنا إِذا اعتبرناه بالأَحكام الشرعية وجدناه من المشتبهات التي نُدِبنا (¬2) إِلى تَرْكِهَا حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ (¬3)، وَالْمَحْظُورُ هُنَا هُوَ الْعَمَلُ بِالْبِدْعَةِ. فإِذاً العاملُ بِهِ لَا يَقْطَعُ أَنه عَمِلَ بِبِدْعَةٍ، كَمَا أَنه (¬4) لَا يَقْطَعُ أَنه عَمِلَ بسُنَّة، فَصَارَ مِنْ جِهَةِ هَذَا التَّرَدُّدِ غَيْرَ عَامِلٍ بِبِدْعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَلَا يُقَالُ أَيضاً: إِنه خَارِجٌ عَنِ الْعَمَلِ بِهَا جُمْلَةً. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَن النَّهْيَ الْوَارِدَ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ (¬5) إِنما هُوَ حِمَايَةٌ أن يوقع (¬6) فِي ذَلِكَ الْمَمْنُوعِ الْوَاقِعِ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ، فإِذا اخْتَلَطَتِ الْمَيْتَةُ بالذَّكِيَّة نَهَيْنَاهُ عَنِ الْإِقْدَامِ، فإِن أَقدم أَمكن عِنْدَنَا أَن يَكُونَ آكِلًا لِلْمَيْتَةِ (¬7) فِي الِاشْتِبَاهِ (¬8)؛ فَالنَّهْيُ الأَخف إِذاً مُنْصَرِفٌ نَحْوَ الْمَيْتَةِ فِي الِاشْتِبَاهِ، كَمَا انْصَرَفَ إِليها النَّهْيُ الأَشدّ في التحقُّق. ¬

(¬1) هذا الفصل هو بداية الجزء الثاني من نسخة (خ)، وجاء في بداية الجزء قبل ذكر الفصل ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم. صلى الله على سيدنا محمد وسلم". ومن بداية هذا الجزء ابتدأت نسخة (ت)، وأولها قبل ذكر الفصل ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قال العلامة النحرير، ناصر السنة، ولسان الدين، النظار، المحقق، الشيخ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى، آمين". (¬2) في (خ): "ندبني ندبنا". (¬3) يشير إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم: "الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن، وبينهما مُشَبَّهات لا يعلمها كثير من الناس ... " الحديث. أخرجه البخاري في صحيحه برقم (52)، ومسلم برقم (1599). (¬4) قوله: "أنه" ليس في (ت). (¬5) في (ر) و (غ): "المتشابهات". (¬6) في (خ) و (ت): "يقع". بدل "يوقع". (¬7) في (ر) و (غ): "الميتة". (¬8) قوله: "في الاشتباه" ليس في (غ) و (ر).

وَكَذَلِكَ اخْتِلَاطُ الرَّضِيعة بالأَجنبية: النَّهْيُ فِي الِاشْتِبَاهِ مُنْصَرِفٌ إِلى الرَّضِيعَةِ كَمَا انْصَرَفَ إِليها فِي التحقُّق، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُشْتَبِهَاتِ، إِنما يَنْصَرِفُ نَهْيُ الإِقدام عَلَى الْمُشْتَبَهِ إِلى خُصُوصِ الْمَمْنُوعِ الْمُشْتَبَهِ، فإِذاً الْفِعْلُ الدَّائِرُ بَيْنَ كَوْنِهِ سُنَّةً أَو بدعة إِذا نهي عنه؛ من (¬1) باب الاشْتِباه، فالنهي منصرف إِلى العمل بالبدعة؛ كما انصرف إِليه عند تعيُّنها، فهو إِذاً في الِاشْتِبَاهِ (¬2) نَهْيٌ عَنِ الْبِدْعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَمَنْ أَقدم على الْعَمَلِ فَقَدْ أَقدم عَلَى (¬3) منهيٍّ عَنْهُ فِي بَابِ الْبِدْعَةِ؛ لأَنه مُحْتَمَلٌ أَن يَكُونَ بِدْعَةً فِي نَفْسِ الأَمر، فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْعَامِلِ بِالْبِدْعَةِ المنهيِّ عَنْهَا. وَقَدْ مرَّ أَن الْبِدْعَةَ الإِضافية هِيَ الْوَاقِعَةُ ذَاتُ وَجْهَيْنِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِن هَذَا الْقِسْمَ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ الإِضافية، ولهذا النوع أَمثلة: أَحدها: إِذا تَعَارَضَتِ الأَدلة عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي أَن الْعَمَلَ الفلانيَّ مَشْرُوعٌ يُتَعَبَّد بِهِ، أَو غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يُتعبَّد بِهِ (¬4)، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ جمع بين الدليلين (¬5)، ولا إِسقاط (¬6) أَحَدهما (¬7) بِنَسْخٍ أَوْ تَرْجِيحٍ أَو غَيْرِهِمَا؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الأُصول أَن فَرْضَهُ التوقُّف. فَلَوْ عَمِل بمَقتضى دَلِيلِ التَّشْرِيعِ مِنْ غَيْرِ مرجِّح لَكَانَ عَامِلًا بِمُتَشَابِهٍ؛ لِإِمْكَانِ صحَّة الدَّلِيلِ بعدم المشروعية. وقد نهى الشرع عن الإقدام على المتشابهات، كما أنه لو أَعمل دليل عدم المشروعية من غير مرجِّح، لكان عاملاً بمتشابه (¬8)، فَالصَّوَابُ الْوُقُوفُ عَنِ الْحُكْمِ رأْساً، وَهُوَ الْفَرْضُ في حقِّه. ¬

(¬1) في (خ) و (م) و (ت): "في" بدل "من". (¬2) من قوله: "فالنهي منصرف" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬3) قوله: "العمل فقد أقدم على" سقط من (خ). (¬4) قوله: "به" سقط من (غ) و (ر). (¬5) في (ت): "الدليل"، ثم صوبت في الهامش. (¬6) في (خ): "أو إسقاط". وفي (م): "والإسقاط"، وفي (ت): "وإسقاط"، وصوبت في الهامش هكذا: "أو إسقاط". (¬7) في (م): "لأحدهما". (¬8) من قوله: "وقد نهى الشرع" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).

وَالثَّانِي: إِذا تَعَارَضَتِ الأَقوال عَلَى المقلِّد فِي المسأَلة بِعَيْنِهَا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَكُونُ الْعَمَلُ بِدْعَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَلَمْ يتبَّين لَهُ الأَرجح مِنَ العالِمَيْن بأَعْلَمِيَّةٍ أَو غَيْرِهَا؛ فَحَقُّهُ الْوُقُوفُ وَالسُّؤَالُ عَنْهُمَا حَتَّى يتبيَّن لَهُ الأَرجح، فَيَمِيلُ إِلى تَقْلِيدِهِ دُونَ الْآخَرِ، فإِن أَقدم عَلَى تَقْلِيدِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ (¬1) مرَجِّح؛ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْعَمَلِ بأَحد الدَّلِيلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، فَالْمِثَالَانِ فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصِّحاح (¬2) عن الصحابة رضي الله عنهم: أَنهم كَانُوا (¬3) يَتَبَرَّكُونَ (¬4) بأَشياء مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفِي الْبُخَارِيِّ (¬5) عَنْ أَبي جُحَيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهَاجِرَة، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فتوضّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يأْخذون مِنْ فَضْلِ وَضُوئِه فيتمسَّحون بِهِ ... ، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: كَانَ إِذا توضأَ يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضوئه. وَعَنِ المِسْوَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬6) ـ فِي حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ ـ: "وَمَا تَنَخَّم (¬7) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامة إِلا وَقَعَتْ فِي كَفّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ". وَخَرَّجَ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا؛ في التبرُّك بشعره، (¬8) وثوبه، (¬9) ¬

(¬1) في (ت): "بدون" بدل: "من غير". (¬2) في (م): "الصحايح". (¬3) قوله: "كانوا" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬4) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعل الأصل: "كانوا يتبركون".اهـ. برقم (187)، ولكن قوله: "كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه" ليس في رواية أبي جحيفة هذه، وإنما في رواية المسور بن مخرمة الآتية. (¬5) أخرجه البخاري (2731 و2732). في (خ) و (م) و (ت): "انتخم". (¬6) أخرج مسلم في "صحيحه" (1305) من حديث أنس: أنه صلّى الله عليه وسلّم في حجّته قال للحلاَّق: "خذ"، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس. وأخرجه البخاري (171) من حديثه أيضاً: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ. (¬7) أخرج مسلم في "صحيحه" (2069) من طريق عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أن أسماء أخرجت له جبّة رسول الله (ص)، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قُبِضَتْ، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يُستشفى بها.

وغيرهما (¬1)، حتى إنه صلّى الله عليه وسلّم (¬2) مَسَّ ناصِيَةَ (¬3) أَحدِهم بِيَدِهِ، فَلَمْ يَحْلِقْ ذَلِكَ الشَّعْرَ (¬4) الَّذِي مَسَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى مَاتَ (¬5). وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرِبَ دَمَ حِجَامته (¬6)، إِلى أَشياء ¬

(¬1) كاحتفاظ أنس رضي الله عنه بإنائه صلّى الله عليه وسلّم؛ كما في "صحيح البخاري" (3109 و5638). (¬2) قوله: " (ص) " زيادة من (ت) فقط. (¬3) في (خ) و (م) و (ت): "بإصبعه" بدل "ناصيته". (¬4) قوله: "الشعر" ليس في (غ) و (ر). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1779) عن شيخه ابن جريج؛ قال: حدثني عثمان بن السائب مولاهم، عن أبيه السائب مولى أبي محذورة، وعن أم عبد الملك بن أبي محذورة؛ أنهما سمعاه من أبي محذورة، قال أبو محذورة: خرجت في عشرة فتيان مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين ... ، الحديث، وفيه: فكان أبو محذورة لا يجزّ ناصيته ولا يفرقها؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح عليها. وفي إسناد المطبوع من "المصنف" تصحيف في الإسناد أقمته من "مسند أحمد" (3/ 408) حيث رواه من طريق عبد الرزاق. وهذا سند ضعيف، فعثمان بن السائب الجُمَحي، المكي، مولى أبي محذورة مقبول كما في "التقريب" (4502). وأبوه مقبول كذلك كما في "التقريب" (2216). وأم عبد الملك بن أبي محذورة مقبولة كذلك كما في "التقريب" (8845). (¬6) ورد فيه عدة أحاديث تجدها في "العلل المتناهية" لابن الجوزي (285 و286)، و"التلخيص الحبير" (17 ـ 19) لابن حجر، ولا يثبت منها شيء، وأحسنها: ما رواه موسى بن إسماعيل، عن هنيد بن القاسم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير؛ أن أباه حدثه: أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: "يا عبد الله! اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد". فلما برز عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عمد إلى الدم فشربه، فلما رجع قال صلّى الله عليه وسلّم: "يا عبد الله! ما صنعت؟ " قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى عن الناس. قال صلّى الله عليه وسلّم: "لعلك شربته؟ " قال: نعم. قال صلّى الله عليه وسلّم: "ولم شربت الدم؟ ويل للناس منك، وويل لك من الناس". أخرجه البزار (2210)، وأبو يعلى في "مسنده" كما في "المطالب" (3829/ 1)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (578)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 554)، والبيهقي في "السنن" (7/ 67)، ورواه الطبراني كما في الموضع السابق من "التلخيص الحبير"، ومن طريقه رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 329 ـ 330). ورواه الضياء في "المختارة" (266 و267) من طريق أبي يعلى والطبراني. والحديث سكت عنه الحاكم والذهبي، وقال الحافظ ابن حجر: "وفي إسناده الهنيد بن القاسم ولا بأس به، لكنه ليس بالمشهور بالعلم".=

لهذا (¬1) كَثِيرَةٍ. فَالظَّاهِرُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يكون مشروعاً في حق كل (¬2) مَنْ ثَبَتَتْ وَلاَيَتُه وَاتِّبَاعُهُ لسُنَّة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَن يُتَبَرَّكَ بِفَضْلِ وَضُوئِهِ، ويتدلَّك بِنُخَامَتِهِ، ويُسْتشفى بِآثَارِهِ كلِّها، ويُرجى فيها (¬3) نحوٌ مما كان يُرجى (¬4) فِي آثَارِ المَتْبوعِ الأَعظم (¬5) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬6). إِلا أَنه عَارَضَنَا (¬7) فِي ذَلِكَ أَصل مقطوعٌ بِهِ فِي مَتْنه، مشكلٌ فِي تَنْزِيلِهِ، وَهُوَ أَن الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ موته صلّى الله عليه وسلّم لَمْ يَقَعْ مِنْ أَحد مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلى مَنْ خَلَّفَهُ، إِذ لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ فِي الأُمة أَفضلَ مِنْ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (¬8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ كَانَ خليفتَه، وَلَمْ يُفعل بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (¬9)، وَلَا عُمَرَ بن الخطاب (¬10)، وهو كان أَفضلَ الأُمة بعده، ثم كذلك عثمان بن عفان (¬11)، ثم عليّ بن أبي طالب (¬12)، ثُمَّ (¬13) سَائِرُ (¬14) الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَا أَحد أَفضل مِنْهُمْ فِي الأُمة، ثُمَّ (¬15) لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ مَعْرُوفٍ أَن متبرِّكاً تَبَرَّكَ بِهِ عَلَى أَحد تِلْكَ الْوُجُوهِ أَو نَحْوِهَا، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيهِمْ عَلَى الاقتداءِ بالأَفعال والأَقوال والسِّيَر التي اتّبعوا ¬

=قلت: هنيد بن القاسم مجهول الحال، لم يرو عنه سوى موسى بن إسماعيل، ولم يذكر فيه البخاري (8/ 249) ولا ابن أبي حاتم (9/ 121) جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 515)، فالحديث ضعيف لأجله. (¬1) كذا في جميع النسخ، وعلق عليه رشيد رضا رحمه الله بقوله: "لعله: كهذا". (¬2) قوله: "كل" من (غ) و (ر) فقط. (¬3) قوله: "فيها" سقط من (خ). (¬4) قوله: "يرجى" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬5) في (خ): "الأصل" بدل "الأعظم"، وفي (ت): "الأصلي"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "يظهر أن الجملة محرفة". (¬6) علق رشيد رضا هنا بقوله: قد استفاض أنه صلّى الله عليه وسلّم كان ينهى عن الغلو في تعظيمه. اهـ. (¬7) في (غ) و (ر): "عارضها". (¬8) قوله: "الصديق" ليس في (ت). (¬9) قوله: "ذلك" سقط من (خ). (¬10) قوله: "ابن الخطاب" من (غ) و (ر) فقط، وفي (خ) و (ت) زيادة: "رضي الله عنهما". (¬11) قوله: "ابن عفان" من (غ) و (ر) فقط. (¬12) قوله: "ابن أبي طالب" من (غ) و (ر) فقط. (¬13) قوله: "ثم" سقط من (خ). (¬14) في (ت): "وسائر" بدل "ثم سائر". (¬15) قوله: "ثم" ليس في (غ) و (ر).

فِيهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ إِذاً إِجماع مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِ تِلْكَ الأَشياء كُلِّهَا. وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي وَجْهِ تَرْكِ مَا تركوا منه، وهو يحتمل (¬1) وَجْهَيْنِ: أَحدهما: أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ (¬2) الِاخْتِصَاصَ، وَأَنَّ مَرْتَبَةَ (¬3) النُّبُوَّةِ يَسَعُ فِيهَا ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِلْقَطْعِ بِوُجُودِ مَا الْتَمَسُوا (¬4) مِنَ الْبَرْكَةِ وَالْخَيْرِ؛ لأَنه صلّى الله عليه وسلّم كَانَ نُورًا كلُّه فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ (¬5)، فَمَنِ الْتَمَسَ مِنْهُ نُورًا وَجَدَهُ عَلَى أَي جِهَةٍ الْتَمَسَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الأُمة، فإِنه (¬6) وإِن حَصَلَ لَهُ مِنْ نُورِ الاقتداءِ بِهِ والاهتداءِ بِهَدْيِهِ مَا شاءَ اللَّهُ؛ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَهُ على حال، ولا يوازيه (¬7) فِي مَرْتَبَتِهِ، وَلَا يُقَارِبُهُ (¬8)، فَصَارَ هَذَا النَّوْعُ مُخْتَصًّا بِهِ كَاخْتِصَاصِهِ بِنِكَاحِ مَا زَادَ عَلَى الأَربع (¬9)، وإِحْلالِ بُضْع الواهِبَةِ نفسَها لَهُ (¬10)، وَعَدَمِ ¬

(¬1) في (خ): "ما تركوا منه ويحتمل". (¬2) في (ر) و (غ): "فيها". (¬3) في (خ) و (م): "مرتبته". (¬4) في (ر) و (غ): "ما التمسوه". (¬5) لقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]. قال ابن جرير في "تفسيره" (10/ 143): "يعني بالنور محمداً صلّى الله عليه وسلّم، الذي أنار الله به الحق، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به ... " إلخ. (¬6) قوله: "فإنه" سقط من (خ) و (ت). (¬7) في (خ) و (ت): "حال توازيه"، وفي (م): "حال وتوازيه". (¬8) في (خ) و (ت): "ولا تقاربه". (¬9) أخرجه أحمد (2/ 44)، والترمذي (1128)، وابن ماجه (1953)، وابن حبان (4156 و4157 و4158)، وغيرهم من طريق معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه: أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: "اختر منهن أربعاً". وهذا سند ظاهره الصحة، لكنه معلول من قبل كثير من الأئمة، وصوابه: أنه عن الزهري مرسلاً كما تجد تفصيل ذلك في "إرواء الغليل" (1883)، وحاشية "المسند" بتحقيق الأرناؤوط (8/ 221 ـ 224). ولكن الحديث جرى عليه عمل أهل العلم كما حكاه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، ولذا صححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله بهذا الاعتبار، وبماله من شواهد، والله أعلم. (¬10) حديث الواهبة نفسها أخرجه البخاري (2310)، ومسلم (1425)، كلاهما من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله! إني قد وهبت لك من نفسي ... ، الحديث.

وُجُوبِ القَسْم عَلَى الزَّوْجَاتِ (¬1) وَشِبْهِ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا المأْخذ: لَا يَصِحُّ لِمَنْ بَعْدَهُ الاقتداءُ بِهِ فِي التبرُّك عَلَى أَحد تِلْكَ الْوُجُوهِ وَنَحْوِهَا، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِ كَانَ اقْتِدَاؤُهُ بِدْعَةً، كَمَا كَانَ الاقتداءُ بِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَربع نسوة بدعة. والثاني (¬2): أَن لَا يَعْتَقِدُوا الِاخْتِصَاصَ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ خَوْفًا مِنْ أَن يُجعل ذَلِكَ سُنَّة ـ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي اتِّبَاعِ الْآثَارِ وَالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ ـ، أَو لأَن (¬3) الْعَامَّةَ لَا تَقْتَصِرُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدّ، بَلْ تَتَجَاوَزُ فِيهِ الْحُدُودَ، وَتُبَالِغُ (¬4) بِجَهْلِهَا فِي الْتِمَاسِ الْبَرَكَةِ؛ حَتَّى يُدَاخِلَهَا للمتبرَّك بِهِ تعظيمٌ يَخْرُجُ (¬5) به عن الحَدّ، فربما اعتقدت (¬6) فِي المتبرَّك بِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَهَذَا التبرُّك هُوَ أَصل الْعِبَادَةِ، ولأَجله قَطَعَ عُمَرُ بن الخطاب (¬7) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّجَرَةَ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬8)، بَلْ هُوَ كَانَ أصلَ عِبَادَةِ الأَوثان فِي الأُمم الْخَالِيَةِ ـ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ أَهل السِّيَرِ (¬9) ـ، فَخَافَ عُمَرُ ¬

(¬1) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "لعل أصله: وعدم وجوب القسم عليه للزوجات". والدليل على هذا الحكم قوله تعالى في سورة الأحزاب (51): {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ}. قال القرطبي في "تفسيره" (14/ 214): "واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، وأصح ما قيل فيها: التوسعة على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته، وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى، وهو الذي ثبت معناه في "الصحيح" ... ، ثم استدل بحديث عائشة رضي الله عنها الذي أخرجه البخاري (4788)، ومسلم (1464)، قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ}؛ قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. (¬2) في (خ) و (م) و (ت): "الثاني". (¬3) في (غ) يشبه أن تكون: "أو كأن". (¬4) في (غ) و (ر): "وتبلغ". (¬5) في (م): "تخرج". (¬6) في (خ) و (م) و (ت): "اعتقد". (¬7) قوله: "ابن الخطاب" من (غ) و (ر) فقط. (¬8) تقدم تخريجه (ص248) من هذا المجلد. (¬9) أخرج البخاري (4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بَعْدُ. أما ودّ فكانت لكَلْب بدُومة الجَنْدل، وأما سُوَاع فكانت لهُذيل، وأما يَغُوث فكانت لمُراد، ثم لبني غُطَيف بالجُرْف عند سبأ، وأما=

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَن يَتَمَادَى الْحَالُ فِي الصَّلَاةِ إِلى تِلْكَ الشَّجَرَةِ حَتَّى تُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ يتَّفِق عِنْدَ التوغُّل فِي التَّعْظِيمِ. وَلَقَدْ حَكَى الْفَرْغَانِيُّ مذيِّل "تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ" عَنِ الحَلاَّج أَن أَصحابه بَالَغُوا فِي التَّبَرُّكِ بِهِ حَتَّى كَانُوا يَتَمَسَّحُونَ بِبَوْلِهِ، وَيَتَبَخَّرُونَ بِعَذْرَتِهِ، حَتَّى ادَّعَوْا فِيهِ الإِلهية، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (¬1). ولأَن الْوِلَايَةَ وإِن ظَهَرَ لَهَا فِي الظَّاهِرِ آثَارٌ، فَقَدْ يَخْفَى أَمرها؛ لأَنها فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَةٌ إِلى أَمر بَاطِنٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ، فَرُبَّمَا ادُّعيت الْوِلَايَةُ لِمَنْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ، أَو ادَّعَاهَا (¬2) هُوَ لِنَفْسِهِ، أَو أَظهر (¬3) خَارِقَةً مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ هِيَ مِنْ بَابِ الشَّعْوَذَة، لَا مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ، أَو من باب السِّيميَاء (¬4)، أَو الْخَوَاصِّ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْجُمْهُورُ (¬5) لَا يعرفون الْفَرْقَ بَيْنَ (¬6) الْكَرَامَةِ وَالسِّحْرِ، فيعظِّمون مَنْ لَيْسَ بِعَظِيمٍ، وَيَقْتَدُونَ بِمَنْ لَا قُدْوَةَ فِيهِ ـ وَهُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ـ، إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ. فترك الصحابة رضي الله عنهم (¬7) الْعَمَلَ بِمَا تَقَدَّمَ ـ وإِن كَانَ لَهُ أَصل ـ؛ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ. ¬

=يعوق فكانت لهَمْدان، وأما نسر فكانت لحِمْيَر لآل ذي الكِلاَع؛ أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عُبدت. (¬1) وتجد ذلك محكياً في "سير أعلام النبلاء" (14/ 337 و339 و347). (¬2) في (ر) و (غ): "وادعاها". (¬3) في (ر) و (غ): "وأظهر". (¬4) قوله: "السّيميا" مكانها بياض في (خ) و (م)، وفي (ت): "السِّحر". وعلق رشيد رضا عليه بقوله: بياض في الأصل، ولعل الساقط لفظ: "السحر"، فإنه سيذكره قريباً. اهـ. وتجد تعريف السيمياء في "كشف الظنون" (2/ 1020)، وخلاصته: أنها ضرب من السحر، وانظر التعليق الآتي برقم (1) (ص323). (¬5) يعني: عامة الناس، لا جمهور أهل العلم. (¬6) في (ت): "والجمهور لا يفرقون بين". (¬7) قوله: "فترك الصحابة رضي الله عنهم" من (ت) فقط، وبدلاً منها في باقي النسخ: "فتركوا".

وَقَدْ يَظْهَرُ بأَول وَهْلَةٍ (¬1) أَن هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَرجح؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الأُصول الْعِلْمِيَّةِ: أَنَّ كُلَّ مَزِيَّةٍ (¬2) أَعطيَها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فإِن لأُمته أنموذجاً منها، مالم يدلَّ دليل على الاختصاص؛ كما ثبت أَن كل ما عمل به عليه السلام فإِن اقتداء الأمة به مشروع، مالم يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ (¬3). إِلا أَن الْوَجْهَ الأَول أَيضاً رَاجِحٌ (¬4) مِنْ جِهَةٍ أُخرى، وَهُوَ إِطباقهم عَلَى التَّرْك (¬5)؛ إِذ لَوْ كَانَ اعْتِقَادُهُمُ التَّشْرِيعَ لَعَمِلَ به بَعْضُهُمْ بَعْدَهُ، أَو عَمِلُوا بِهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الأَحوال، إِما وُقُوفًا مَعَ أَصل الْمَشْرُوعِيَّةِ، وإِما بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ انتفاءِ العِلَّة الْمُوجِبَةِ لِلِامْتِنَاعِ. وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ فِي "جَامِعِهِ" (¬6) من حديث يونس بن يزيد، عن ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "النظر" بدل: "وهلة". (¬2) في (خ): يشبه أن تكون: "قربة"، وفي (غ) و (ر): "أن كل ما مزية". (¬3) من قوله: "كما ثبت" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬4) في (ت): "راجح أيضاً". (¬5) في (خ) و (م): "التبرك". (¬6) لم أجده في المطبوع من "جامع ابن وهب". وقد أخرجه عبد الرزاق في "جامع معمر" الملحق بـ"المصنف" (19748)، عن معمر، عن الزهري؛ قال: حدثني من لا أتهم من الأنصار ... ، فذكره بنحوه. وأخرجه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (273) من طريق الأوزاعي، عن الزهري مرسلاً دون ذكر القصة. وذكر الشيخ ناصر الدين الألباني هذا الحديث في "الصحيحة" (2998)، وقال عقب ذكره لهذا الطريق: "وهذا الإسناد رجاله ثقات، غير الرجل الأنصاري. فإن كان تابعيّاً فهو مرسل، ولا بأس به في الشواهد، وإن كان صحابياً فهو سند صحيح؛ لأن جهالة اسم الصحابي لا تضر كما هو مقرر في علم الحديث. ويغلب على الظن أنه أنس بن مالك رضي الله عنه الذي في الطريق الأولى؛ فإنه أنصاري، ويروي عنه الإمام الزهري كثيراً" اهـ. ويعني الشيخ بالطريق الأولى: ما نقله عن الخلعي في "الفوائد" (18/ 73/1) من أنه روى هذا الحديث من طريق عمرو بن بكر السكسكي، عن ابن جابر، عن أنس ... ، فذكره. ثم قال الشيخ: "وهذا سند ضعيف جداً، عمرو بن بكر السكسكي متروك كما في "التقريب"، لكن الحديث قد روي جلّه من وجوه أخرى يدل مجموعها على أن له أصلاً ثابتاً"، ثم ذكر هذا الطريق والطريق الآتي.=

ابْنِ شِهَابٍ؛ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الأَنصار: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا توضأَ أَو تَنَخَّمَ ابْتَدَرَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وضوءَه وَنُخَامَتَهُ فَشَرِبُوهُ وَمَسَحُوا بِهِ جُلُودَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ سأَلهم: "لِمَ تَفْعَلُونَ هَذَا؟ " قَالُوا: نَلْتَمِسُ الطُّهُورَ وَالْبَرَكَةَ بذلك، فقال لِهَمِّ (¬1) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من كان منكم يحب أَن يحبه اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلْيَصْدُقِ الْحَدِيثَ، وَلْيُؤَدِّ الأَمانة، وَلَا يُؤْذِ جَارَهُ". فإِن صَحَّ هَذَا النَّقْلُ فَهُوَ مُشْعِرٌ بأَن الأَولى تركُه (¬2)، وأَن يتحرَّى مَا ¬

=فقد أخرجه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (266)، وأبو نعيم في "المعرفة" (2/ 50/ب)، والبيهقي في "الشعب" (1533)، ثلاثتهم من طريق مسلم بن إبراهيم، عن الحسن بن أبي جعفر، عن أبي جعفر الأنصاري، عن الحارث بن الفضل ـ أو ابن الفضيل ـ، عن عبد الرحمن بن أبي قراد، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ يوماً ... ، فذكره بنحوه. والحسن بن أبي جعفر الجُفْري ضعيف الحديث مع عبادته وفضله كما في "التقريب" (1232). وخالفه يحيى بن أبي عطاء، فرواه عن أبي جعفر ـ واسمه عمير بن يزيد الخطمي ـ، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبي قراد ... ، فذكره. أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1397)، والطبراني في "الأوسط" (6517)، وأبو نعيم في الموضع السابق، جميعهم من طريق عبيد بن واقد القيسي، عن يحيى بن أبي عطاء. فالمخالفة هنا وقعت في أمرين: 1 ـ في تسمية الصحابي أبا قراد بدل عبد الرحمن بن أبي قراد. 2 ـ وفي تسمية الراوي عنه عبد الرحمن بن الحارث بدل الحارث بن فضيل. وهذه الطريق أضعف من سابقتها؛ فيحيى بن أبي عطاء مجهول كما في "الميزان" (9588). والراوي عنه عبيد بن واقد القيسي ضعيف كما في "التقريب" (4431). وقد حسن الشيخ الألباني الحديث بمجموع هذه الطرق في الموضع السابق من "الصحيحة"، وعندي فيه توقف، والله أعلم. (¬1) قوله: "لهم" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬2) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "قد يقال: إن هذا يدل على الإنكار وكراهة النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذا الفعل، ويؤيده: ما ثبت من مجموع سيرته؛ من كراهة الغلوّ فيه، وإطرائه، وحبه التواضع، ومساواة الناس بنفسه في المعاملات كلها، إلا ما=

هو الآكَدُ والأَحْرَى (¬1) من وظائف التكليف، وما يَلْزَمُ (¬2) الإِنسان فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلا مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الرُّقْية وَمَا يَتْبَعُهَا، أَو دُعَاءِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ عَلَى وجهٍ سيأْتي بِحَوْلِ اللَّهِ. فَقَدْ صَارَتِ المسأَلة مَنْ أَصلها دَائِرَةً بَيْنَ أَمرين: أَن تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وأَن تَكُونَ بِدْعَةً (¬3)، فَدَخَلَتْ تحت حكم المتشابه، والله أَعلم. ¬

=خصّه الله به، حتى إنه طلب أن يقتصّ منه مَنْ لعلّه آذاه ـ وهو القائد والمربّي الذي جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ، ولم يعرف من الأحوال التي تبرّكوا فيها بفضل وضوئه وببصاقه إلا يوم الحديبية. وظهر له يومئذٍ حكمة؛ فإن مندوب المشركين في صلح الحديبية لما حدثهم بما رأى من ذلك؛ هابوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وخافوا قتال المسلمين، فلعلّ المسلمين قصدوا هذا لهذا". اهـ. (¬1) في (غ) و (ر): "الآكد الأحرى". (¬2) في (خ) و (م): "ولا يلزم" ـ وكذا كانت في (ت)، ثم صوبت في الهامش هكذا: "مما يلزم". (¬3) قوله: "وأن تكون بدعة" سقط من (خ) و (ت)، ولأجله علق رشيد رضا في نهاية الفصل بقوله: ينظر أين الأمر الثاني؟ ولعل الساقط: "أو تكون غير مشروعة".اهـ.

فصل

فَصْلٌ وَمِنَ الْبِدَعِ الإِضافية الَّتِي تَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ (¬1): أَن يَكُونَ أَصل الْعِبَادَةِ مَشْرُوعًا، إِلا أَنها تُخْرَج عَنْ أَصل شَرْعِيَّتِهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، توهُّماً أَنها بَاقِيَةٌ عَلَى أَصلها تَحْتَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ بأَن يُقَيَّد إِطلاقها بالرأْي، أَو يُطْلَق تقييدُها، وَبِالْجُمْلَةِ فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّها الَّذِي حُدَّ لَهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَن يُقَالَ: إِن الصَّوْمَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْدُوبٌ إِليه لَمْ يخصَّه الشَّارِعُ (¬2) بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا حَدَّ فِيهِ زَمَانًا (¬3) دُونَ زَمَانٍ، مَا عَدَّا مَا نُهي عن صيامه على الخصوص كالعيدين (¬4)، أو نُدِب (¬5) إِليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء (¬6). يقول (¬7): فأنا أخصّ (¬8) مِنْهُ يَوْمًا مِنَ الْجُمْعَةِ (¬9) بِعَيْنِهِ، أَو أَياماً مِنَ الشَّهْرِ بأَعيانها، لَا مِنْ جِهَةِ مَا عيَّنه الشارع، فإِن ذلك ظاهر، بل (¬10) مِنْ جِهَةِ اخْتِيَارِ المُكَلّف؛ كَيَوْمِ الأَربعاء مَثَلًا فِي الْجُمْعَةِ، وَالسَّابِعِ وَالثَّامِنِ فِي الشَّهْرِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ وَجْهًا بعينه مما يقصده العاقل؛ كفراغه في ذلك الوقت من الأشغال المانعة من الصوم، أَو تَحَرِّي أَيام النشاط والقوة، بل يُصَمِّم على تلك ¬

(¬1) في (خ): "الحقيقة". (¬2) في (ر) و (غ): "الشرع". (¬3) في (خ) و (م): "زمان". (¬4) ورد النهي في عدة أحاديث، منها: ما أخرجه البخاري (1993)، ومسلم (1138)، كلاهما مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الأضحى ويوم الفطر. (¬5) في (خ) و (م) و (ت): "وندب". (¬6) تقدم ما ورد في فضل عرفة وعاشوراء (ص27). (¬7) قوله: "يقول" سقط من (ت) (¬8) في (خ) و (ت): "فإذا خص". (¬9) الجمعة هنا بمعنى الأسبوع. (¬10) في (خ) و (ت): "بأنه" بدل "بل".

الأَيام تصميماً (¬1) لَا يَنْثَنِي عَنْهُ. فإِذا قِيلَ لَهُ: لِمَ خَصَّصَتْ تِلْكَ الأَيام دُونَ غَيْرِهَا؟ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِذَلِكَ حُجَّةٌ غَيْرَ التَّصْمِيمِ، أَو يَقُولُ: إِن الشَّيْخَ الْفُلَانِيَّ مَاتَ فِيهِ، أَو مَا أَشبه ذَلِكَ. فَلَا شَكَّ أَنه رَأْيٌ مَحْضٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، ضَاهَى بِهِ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ أَياماً بأَعيانها (¬2) دون غيرها، فصار ذلك (¬3) التَّخْصِيصُ مِنَ المُكَلَّف بِدْعَةً؛ إِذ هِيَ تَشْرِيعٌ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ. وَمِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الأَيام الْفَاضِلَةِ بأَنواع مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ لَهَا تَخْصِيصًا؛ كَتَخْصِيصِ الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الرَّكَعَاتِ، أَو بِصَدَقَةِ كَذَا وَكَذَا، أَو اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ بِقِيَامِ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ، أَو بِخَتْمِ الْقُرْآنِ فِيهَا، أَو مَا أَشبه ذَلِكَ (¬4)، فإِن ذَلِكَ التَّخْصِيصَ وَالْعَمَلَ بِهِ إِذا لَمْ يَكُنْ بِحُكْمِ الْوِفَاقِ، أَو بقصدٍ يَقْصِدُ مِثْلَهُ أَهلُ العقل؛ كالفراغ (¬5) وَالنَّشَاطِ، كَانَ تَشْرِيعًا زَائِدًا. وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي أَن يَقُولَ: إِن هَذَا الزَّمَانَ (¬6) ثَبَتَ فَضْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَحْسُنُ فِيهِ إِيقاع الْعِبَادَاتِ؛ لأَنا نَقُولُ: هَذَا الحُسن هَلْ ثَبَتَ لَهُ أَصل أَم لا؟ فإِن ثبت فليست مسأَلتنا (¬7)؛ كَمَا ثَبَتَ الْفَضْلُ فِي قِيَامِ لَيَالِي رَمَضَانَ (¬8)، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيام مِنْ كُلِّ شَهْرٍ (¬9)، وَصِيَامِ الإثنين (¬10) ¬

(¬1) من قوله: "يقصده العاقل" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬2) في (ت): "بعينها". (¬3) قوله: "ذلك" من (غ) و (ر) فقط. (¬4) قوله: "ذلك" سقط من (ر). وعلق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "ومنه: صلاة الرغائب، وصلاة ليلة النصف من شعبان. ومنه: تخصيص أيام معينة لزيارة القبور والصدقة عندها؛ كأول جمعة من رجب، كل ذلك من البدع والتشريع الذي لم يأذن به الله. وقد يتصل بالبدعة الواحدة بدع ومعاصٍ أخرى توجب تركها ـ ولو لم تكن بدعة ـ؛ لسدّ ذريعة هذه المفاسد". اهـ. (¬5) في (خ) و (ت): "والفراغ". (¬6) في (ر) و (غ): "القرآن" بدل "الزمان". (¬7) في (خ) و (م) و (ت): "فإن ثبت فمسئلتنا"، وعلق رشيد رضا بقوله: "أي: فهو مسألتنا".اهـ. (¬8) أخرج البخاري (2008)، ومسلم (759) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". (¬9) أخرج البخاري (1981)، ومسلم (721) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: أوصاني خليلي صلّى الله عليه وسلّم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام. (¬10) أخرج مسلم (1162) من حديث أبي قتادة: أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن صوم يوم الإثنين، قال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت ـ أو أنزل عليَّ ـ فيه"، وانظر التعليق الآتي.

والخميس (¬1)، وإِن (¬2) لَمْ يَثْبُتْ فَمَا مُسْتَنَدُكَ فِيهِ وَالْعَقْلُ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، وَلَا شَرْعَ يُسْتَنَدُ إِليه؟ فَلَمْ يَبْقَ إِلا أَنه ابْتِدَاعٌ فِي التَّخْصِيصِ؛ كإِحداث الْخُطَبِ، وتحرِّي خَتْمِ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ. وَمِنْ ذَلِكَ: التحدُّث مَعَ الْعَوَامِّ بِمَا لَا تَفْهَمُهُ وَلَا تَعْقِلُ مَغْزاه (¬3)، فإِنه مِنْ بَابِ وَضْعِ الْحِكْمَةِ غَيْرَ مَوْضِعِهَا، فَسَامِعُهَا إِما أَن يَفْهَمَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا ـ وَهُوَ الغالب ـ، وذلك (¬4) فتنة تؤدي إِلى التكذيب بالحق، أَو إِلى (¬5) العمل بالباطل. وإِما أَن لَا يَفْهَمُ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ أَسلم، وَلَكِنَّ المُحَدِّث لَمْ يُعْطِ الْحِكْمَةَ حَقَّها مِنَ الصَّوْن، بل صار في التحدُّث بها كالعابث بنعمة الله. ¬

(¬1) وردت عدة أحاديث في فضل صيام الإثنين والخميس، ذكرها الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" (948 و949)، وصحح الحديث بمجموعها، ومنها: حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه الذي أخرجه الإمام أحمد (5/ 201)، والنسائي (2358)، وفيه: قلت: يا رسول الله! إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم، إلا يومين، إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما! قال: "أي يومين"؟ قلت: يوم الإثنين ويوم الخميس، قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". وقد روياه من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن ثابت بن قيس، عن أبي سعيد المقبري، عن أسامة، به. وثابت بن قيس هذا هو الغفاري، أبو الغصن المدني، وهو صدوق يهم كما في "التقريب" (836)، وقد حسن حديثه هذا الشيخ الألباني في الموضع السابق، كما حسنه قبله المنذري في "مختصر السنن" (3/ 320). وقد توبع ثابت؛ فأخرجه أبو داود (2428) من طريق مولى قدامة بن مظعون، عن مولى أسامة، عن أسامة. ومولى قدامة ومولى أسامة كلاهما مجهول. انظر "تهذيب الكمال" (35/ 97). وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2119) من طريق أبي بكر بن عياش، عن عمر بن محمد، عن شرحبيل بن سعد، عن أسامة، به. وشرحبيل بن سعد المدني صدوق اختلط بآخره كما في "التقريب" (2779)، فالحديث حسن بمجموع هذه الطرق، ويتقوى بالطرق الأخرى على ما فيها من ضعف. (¬2) في (خ) و (م) و (ت): "فإن". (¬3) في (خ) و (ت): "معناه". (¬4) في (خ) و (م): "وهو". (¬5) في (خ): "وإلى".

ثُمَّ إِنْ أَلقاها (¬1) لِمَنْ لَا يَعْقِلُهَا (¬2) فِي معرض الانتفاع بها (¬3) بَعْدَ تعقُّلها؛ كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَقَدْ جاءَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ. فَخَرَّجَ أَبو دَاوُدَ (¬4) حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم: أَنه نهى عن الغَلُوطات (¬5). قَالُوا: وَهِيَ صِعَابُ (¬6) الْمَسَائِلِ، أَو شِرَارُ الْمَسَائِلِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ ـ أَو غَيْرِهِ (¬7) ـ: أَن رَجُلًا أَتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "إلقاءها". (¬2) في (ر) و (غ): "لمن يعقلها". (¬3) قوله: "بها" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬4) في "سننه" (3648) من طريق عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن سعد، عن الصُّنَابِجي، عن معاوية؛ أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الغلوطات. وأخرجه الإمام أحمد (5/ 435)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (5/ 106)، والفسوي في "المعرفة" (1/ 305)، والطبراني في "الكبير" (19/ 380 رقم 892)، وفي "الأوسط" (8/ 137 رقم 8204)، جميعهم من طريق عيسى بن يونس، به. زاد بعضهم عن الأوزاعي قوله: "الغلوطات: صعاب المسائل وشدادها". وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" بتحقيق الأعظمي (1179) عن عيسى بن يونس، به، إلا أنه لم يسمّ معاوية رضي الله عنه، وإنما قال: "عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم". ثم قال سعيد: "هذا عن معاوية، ولكنه لم يسمِّه". وكذا رواه الإمام أحمد في الموضع السابق من "مسنده"، والحارث في "مسنده" (62/ بغية الباحث)، كلاهما من طريق روح، عن الأوزاعي. ومدار الحديث على عبد الله بن سعد بن فروة البجلي وهو مجهول كما قال أبو حاتم. وقال دُحَيم: لا أعرفه. وقال الساجي: ضعفه أهل الشام في الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يخطئ. اهـ من "تهذيب الكمال" (5/ 20)، و"تهذيب التهذيب" (2/ 344). ومع ذلك ففي الحديث اختلاف على الأوزاعي أشار إليه الدارقطني في "العلل" (7/ 67)، ورجح رواية عيسى بن يونس. ومنه يتبيّن أن الحديث ضعيف، وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في "ضعيف الجامع" (6035). (¬5) في (ت): "الأغلوطات". (¬6) في (خ): "صفات". وعلق عليه رشيد رضا رحمه الله بقوله: في نسختنا: "صفات"، وهو غلط، والغلوطات جمع غلوطة ـ بالفتح ـ؛ قيل: هي غلوط؛ من الغلط؛ كحلوب، أو ركوب، جعلت أسماء، فألحقت بها التاء؛ كحلوبة، وركوبة. وقيل: أصلها: أغلوطة، حذفت همزاتها المضمومة للتخفيف. والأغلوطة: ما يغلط فيه، وما يغلط به من المسائل الصعاب. اهـ. (¬7) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 24)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"=

رَسُولَ اللَّهِ! أَتيتك لتعلِّمني مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (¬1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا صَنَعْتَ فِي رأْس الْعِلْمِ؟ " قَالَ: وَمَا رأْس الْعِلْمِ؟ قَالَ: "هَلْ عَرَفْتَ الرَّبَّ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَمَا صَنَعْتَ فِي حَقِّهِ؟ " قَالَ: مَا شاءَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اذْهَبْ فأَحكم مَا هُنَالِكَ، ثُمَّ تَعَالَ أُعَلِّمْكَ مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ". وَهَذَا المعنى هو مقتضى الحكمة: أَلاّ تعلَّم (¬2) الْغَرَائِبُ إِلا بَعْدَ إِحكام الأُصول، وإِلا دَخَلَتِ الْفِتْنَةُ. وَقَدْ قَالُوا فِي الْعَالِمِ الرَّبَّانِيِّ: إِنه الَّذِي يُرَبِّي بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ (¬3). وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ شَاهِدُهَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَشْهُورٌ. وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ (¬4)، فَقَالَ: "بَابُ مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ (¬5) أَن لَا يَفْهَمُوا"، ثُمَّ أَسند (¬6) عَنْ عليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنه قَالَ: "حَدِّثوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحبّون أَن يُكَذَّب اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ " (¬7)، ثُمَّ ذَكَرَ (¬8) حَدِيثَ مُعَاذٍ الَّذِي أَخبر بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ تأَثُّماً، وإِنما لَمْ يَذْكُرْهُ إِلا عِنْدَ مَوْتِهِ؛ لأَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يأْذن لَهُ فِي ذَلِكَ لِمَا خَشِيَ مِنْ تَنْزِيلِهِ غَيْرَ منزلته، وعلّمه معاذاً لأنه من أَهله. ¬

= (1/ 691)، كلاهما من طريق خالد بن أبي كريمة، عن عبد الله بن المسور: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلّم ... ، فذكره هكذا معضلاً؛ فإن عبد الله بن المسور بن عون الهاشمي إنما يروي عن التابعين، ومع ذلك فقد رماه جمع من أهل العلم بالكذب ووضع الحديث كما في "لسان الميزان" (4/ 358 ـ 359). (¬1) قوله: "رسول الله" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬2) في (خ) و (م): "لا تعلم"، وفي (ت): "فلا تعلم". (¬3) علق هذا القول البخاري في "صحيحه" (1/ 160) في كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل. (¬4) في كتاب العلم من "صحيحه" (1/ 225). (¬5) في (غ) و (ر): "كراهة". (¬6) برقم (127). (¬7) علق رشيد رضا هنا بقوله: حديث علي هذا أورده البخاري موقوفاً عليه. ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" عنه مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و"يعرفون" في الحديث: ضدّ ينكرون، لا ضد يجهلون؛ أي: حدثوهم بما تصل عقولهم إلى فهمه دون ما يعزّ عليها فتعدّه منكراً ومحالاً، فهو بمعنى حديث ابن مسعود الذي يذكر بعده عن مسلم. اهـ. (¬8) برقم (128).

وفي مسلم (¬1) موقوفاً (¬2) على (¬3) ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مَا أَنت بمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً". قَالَ ابْنُ وَهْبٍ (¬4): وَذَلِكَ أَن يتأَوَّلوه غَيْرَ تأْويله، وَيَحْمِلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ. وَخَرَّجَ شُعْبَة (¬5) عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ أَنه قَالَ: إِن عَلَيْكَ فِي عِلْمِكَ حَقًّا، كَمَا أَن عَلَيْكَ فِي مَالِكِ حَقًّا، لَا تحدِّث بِالْعِلْمِ غَيْرَ أَهله فَتَجْهَلُ، وَلَا تَمْنَعِ الْعِلْمَ أَهله فتأْثم، وَلَا تحدِّث بِالْحِكْمَةِ عِنْدَ السفهاءِ فيكذِّبوك (¬6)، وَلَا تحدِّث بِالْبَاطِلِ عِنْدَ الحكماءِ فَيَمْقَتُوكَ. وَقَدْ ذَكَرَ العلماءُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُتُبِهِمْ وَبَسَطُوهُ بَسْطًا شَافِيًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وإِنما نبَّهنا عَلَيْهِ لأَن كَثِيرًا مِمَّنْ لَا يَقْدُر قدرَ هَذَا الْمَوْضِعِ يَزِلّ فِيهِ، فيحدِّث النَّاسَ بِمَا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الأُمة. وَمِنْ ذَلِكَ أَيضاً: جَمِيعُ مَا تقدم في فصل: السُّنَّةِ الَّتِي يَكُونُ الْعَمَلُ بِهَا ذَرِيعَةً إِلى البدعة (¬7)؛ من حيث إِنها أَنواع (¬8) عُمِلَ بها لم (¬9) يعمل ¬

(¬1) في مقدمة "صحيحه" (1/ 11). (¬2) في (خ): "مرفوعاً". (¬3) في (خ) و (ت) و (م): "عن" بدل "على". (¬4) لم أجده. (¬5) كذا في (ت)، ويشبه أن تكون هكذا في (خ) "أيضاً"، وفي (م): "سقية"، وفي (غ) و (ر): "شقبة"، وفي ظَني أنها متصحفة إما عن "سعيد" وهو ابن منصور الذي يخرج المصنف عنه كثيراً، أو عن "سنيد"، ـ وهو لقب لحسين بن داود ـ، وهذا أخرج الحديث من طريقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (708)، عن عيسى بن يونس، عن حريز بن عثمان، عن سليمان بن سمير، عن كثير بن مرة، به. وأخرجه الإمام أحمد في "الزهد" (ص462)، والدارمي في "مقدمة السنن" (1/ 105)، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص575)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1630/ ط السلفية)، وفي "المدخل" (618)، والخطيب في "الجامع" (754 و782)، جميعهم من طريق حريز بن عثمان، عن سلمان ـ أو سليمان ـ بن سمير، عن كثير، به. وسلمان ـ أو سليمان ـ بن سُمَير الألهاني، الشامي مقبول كما في "التقريب" (2488). (¬6) في (ت) و (م): "فيكذبونك". (¬7) انظر (ص229). (¬8) قوله: "أنواع" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬9) في (ت) و (خ): "ولم".

بِهَا (¬1) سَلَفُ هَذِهِ (¬2) الأُمة. وَمِنْهُ: تَكْرَارُ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي التِّلَاوَةِ أَو فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، فإِن التِّلَاوَةَ لَمْ تُشْرَعْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَلَا أَن يُخَصَّ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ (¬3) دُونَ شيءٍ، لَا فِي صَلَاةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا، فَصَارَ المخصِّص لَهَا عَامِلًا برأْيه فِي التعُّبد لِلَّهِ. وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ (¬4) عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: سُئِل سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ يُكْثِرُ قراءَة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}، لَا يقرأُ غَيْرَهَا كَمَا يَقْرَؤُهَا، فَكَرِهَهُ وَقَالَ: إِنما أَنتم مُتَّبِعُونَ، فَاتَّبِعُوا الأَوّلين، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ نَحْوُ هَذَا، وإِنما أُنزل الْقُرْآنُ ليُقرأ وَلَا يُخَصّ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ. وَخَرَّجَ أَيضاً (¬5) ـ وَهُوَ فِي "العتبيَّة" (¬6) مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ ـ عن مالك رحمه الله: أَنه سُئِل عن قراءَة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} مراراً في ركعة واحدة (¬7)، فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا مِنْ مُحْدَثَاتِ الأُمور الَّتِي أَحدثوا. وَمَحْمَلُ هَذَا عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ (¬8) مِنْ بَابِ الذَّرِيعة، ولأَجل ذَلِكَ لَمْ يأْت مِثْلُهُ عَنِ السَّلَفِ (¬9)، وإِن كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن؛ كما في "الصحيح" (¬10)، وهو صحيح من التأويل (¬11)، فتأَمله في الشرح (¬12). ¬

(¬1) قوله: "بها" سقط من (م)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر في التصوير. (¬2) قوله: "هذه" ليس في (غ) و (ر). (¬3) في (خ) و (ت) و (م): "شيئاً". (¬4) في "البدع والنهي عنها" (108) من طريق شيخه محمد بن عمرو الغزي، عن مصعب، به. وأعله المحقق بالانقطاع بين محمد بن عمرو الغزي ومصعب ـ وهو إما ابن ماهان، أو ابن المقدام ـ؛ فإنه لم يدرك أيًّا منهما. (¬5) أي ابن وضاح برقم (109) بسند صحيح عن مالك. (¬6) كما في شرحها: "البيان والتحصيل" لابن رشد (1/ 371). (¬7) في (خ) و (ت) و (م): "الركعة الواحدة". (¬8) في الموضع السابق من "البيان والتحصيل". (¬9) في (غ): "السبب" بدل "السلف". (¬10) أي: "صحيح البخاري" (5013) من حديث أبي سعيد، ومسلم (811 و812) من حديث أبي الدرداء وأبي هريرة. (¬11) قوله: "من التأويل" ليس في (خ) و (ت) و (م). (¬12) أي: "البيان والتحصيل" شرح "العتبيّة".

وَفِي الْحَدِيثِ أَيضاً مَا يُشْعِرُ بأَن التَّكْرَارَ كَذَلِكَ عَمَلٌ مُحْدث فِي مَشْرُوعِ الأَصل بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِيهِ. وَمِنْ ذلك قراءَة القرآن بهيئة الاجتماع، وكذلك الِاجْتِمَاعِ (¬1) عشيَّة عَرَفَةَ فِي الْمَسْجِدِ للدعاءِ؛ تشبُّهاً بأَهل عَرَفة (¬2)، ونقل الأَذان يوم الجمة مِنَ الْمَنَارِ وَجَعْلُهُ قُدَّامَ الإِمام. فَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ (¬3): وَسُئِلَ (¬4) عَنِ القُرى الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا إِمام إِذا صَلَّى بِهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمُ الْجُمْعَةَ: أَيخطب بِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ! لَا تَكُونُ الْجُمْعَةُ إِلا بِخِطْبَةٍ. فَقِيلَ لَهُ: أَفيؤذِّن قُدَّامه؟ قَالَ: لَا، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِ أَهل الْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ (¬5): الأَذان بَيْنَ يَدَيِ الإِمام فِي الْجُمْعَةِ مَكْرُوهٌ؛ لأَنه مُحْدَثٌ. قَالَ: وأَول مَنْ أَحدثه هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وإِنما كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا زَالَتِ (¬6) الشَّمْسُ وَخَرَجَ؛ رَقَى الْمِنْبَرَ، فإِذا رَآهُ الْمُؤَذِّنُونُ ـ وَكَانُوا ثَلَاثَةً ـ قَامُوا فأَذّنوا في المَشْرُبَة (¬7) واحداً بعد واحد كما يؤذِّنون (¬8) فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ، فإِذا فَرَغُوا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ (¬9). ¬

(¬1) قوله: "وكذلك الاجتماع" سقط من (ت) و (خ) و (م). (¬2) انظر ما تقدم (ص275 و278)، وما سيأتي (ص355)، وعلق رشيد رضا هنا بقوله: ومثله بالأَوْلى: ما استُحدث بعدُ من الاجتماع لقراءة الختمات والتهاليل والموالد ونحو ذلك في أيام مخصوصة، أو عند حدوث حوادث مخصوصة، وقد صار بعض ذلك من شعائر الدين؛ تُرِكَ كثير من الفرائض والسنن، وحلّت هذه البدع محلّها. اهـ. (¬3) أي: في "العتبية" كما في "البيان والتحصيل" (1/ 243). (¬4) أي: الإمام مالك. (¬5) في الموضع السابق من "البيان والتحصيل". (¬6) قوله: "إذا زالت" مكرر في (غ). (¬7) في (خ): "المشرفة" وكانت في (ت): "المشربة"، ثم صوبت في الهامش: "المشرفة"، وربما كان ذلك إشارة إلى أنه في نسخة. والمشرُبَة ـ بضمّ الراء، ويجوز فتحها ـ: هي الغرفة المرتفعة كما في "فتح الباري" (1/ 488). (¬8) في (خ): "يؤذن". (¬9) أخرج البخاري (913) من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه: أن الذي زاد التأذين=

ثم تلاه على ذلك (¬1) أَبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فزاد عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ ـ أَذاناً بالزَّوْرَاءِ (¬2) عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، يُؤْذِنُ النَّاسُ فِيهِ بِذَلِكَ أَن الصَّلَاةَ قَدْ حَضَرَتْ، وتَرَكَ الأَذان في المَشْرُبَة (¬3) بَعْدَ جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَاسْتَمَرَّ الأَمر عَلَى ذَلِكَ إِلى زَمَانِ هشام بن عبد الملك (¬4)، فنقل الأَذان الذي كان بالزَّوْراءِ إِلى المَشْرُبَة (3)، ونقل الأَذان الذي كان بالمَشْرُبَة (3) بَيْنَ يَدَيْهِ، وأَمرهم أَن يؤذِّنوا صَفًّا (¬5). وَتَلَاهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ بَعْدِهِ مِنَ الخلفاءِ إِلى زَمَانِنَا هَذَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهُوَ بِدْعَةٌ. قَالَ: وَالَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ هُوَ السُّنَّةُ. وذكر ابن حبيب ما كان من (¬6) فعله عليه السلام وفعل (¬7) الخلفاء ¬

=الثالث يوم الجمعة: عثمان بن عفان رضي الله عنه حين كثر أهل المدينة، ولم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلّم مؤذِّن غير واحد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام؛ يعني على المنبر. وعن قوله: "مؤذن واحد" قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 396): وعُرِفَ بهذا الرد على ما ذكر ابن حبيب: أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا رقى المنبر وجلس أذّن المؤذنون ـ وكانوا ثلاثة ـ واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام فخطب، فإنه دعوى تحتاج لدليل، ولم يرد ذلك صريحاً من طريق متصلة يثبت مثلها، ثم وجدته في "مختصر البويطي" عن الشافعي. اهـ. كذا جاء في أصل "الفتح"، وعلق عليها بأن في مخطوطة الرياض: "المزني" بدل "البويطي"، وهو الصواب ـ فيما يظهر ـ؛ ففي "مختصر المزني" (ص27): أن الشافعي قال: "وحُكي في أداء الخطبة استواء النبي صلّى الله عليه وسلّم على الدرجة التي تلي المستراح قائماً، ثم سلّم وجلس على المستراح حتى فرغ المؤذنون ... " إلخ. ولم يذكر الشافعي رحمه الله دليلاً على هذا، وحديث البخاري يردّ هذا القول، والله أعلم. (¬1) قوله: "على ذلك" ليس في (خ) و (ت). (¬2) أخرجه البخاري (912) عن السائب بن يزيد رضي الله عنه، وتقدم ذكر إحدى طرقه في التعليق قبل السابق. والزَّوْراء: قيل: إنه حجر كبير عند باب المسجد، وقيل: هي دار في السوق يقال لها: الزوراء، انظر: "فتح الباري" (2/ 394). (¬3) في (خ): "المشرفة". (¬4) قوله: "بن عبد الملك" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬5) كذا في جميع النسخ، والذي في "البيان والتحصيل": "أن يؤذنوا معاً"، ولعله أصوب. (¬6) قوله: "من" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬7) في (ت): "وفعله".

بعده كما ذكره (¬1) ابْنُ رُشْدٍ ـ وكأَنه (¬2) نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ ـ، وَذَكَرَ قصة هشام، ثم قال: والذي كان مِنْ (¬3) فِعْلِ (¬4) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم هو (¬5) السَّنَّةُ. وَقَدْ حَدَّثَنِي أَسد بْنُ مُوسَى، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْم، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (¬6): أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "أَفضل الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمور مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" (¬7). وَمَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ ـ مِنْ أَن (¬8) الْأَذَانَ عِنْدَ صُعُودِ الإِمام على المنبر كان باقياً في زمان عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ مُوَافِقٌ لِمَا نَقَلَهُ أَرْبَابُ النَّقْلِ الصَّحِيحِ، وأَن عُثْمَانَ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ إِلَّا الْأَذَانَ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَصَارَ إِذاً نَقْلُ هِشَامٍ الأَذانَ المشروعَ فِي المَنَار إِلى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِدْعَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَشْرُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَذَلِكَ أَذان الزَّوْراء مُحْدَث أَيضاً، بَلْ هُوَ مُحْدَثٌ مِنْ أَصله، غَيْرُ مَنْقُولٍ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَالَّذِي يُقَالُ هُنَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي أَذان هِشَامٍ، بَلْ هو أَخفّ منه. ¬

(¬1) في (خ) و (ت) و (م): "ذكر". (¬2) أي: ابن رشد. (¬3) قوله: "من" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬4) في (ت): "فعله". (¬5) في (خ) و (م) و (ت): "هي". (¬6) في (خ) و (م) و (ت): "جعفر بن محمد بن جابر بن عبيد الله". (¬7) كذا جاءت رواية الحديث في جميع النسخ! وقد سقط من إسناده الواسطة بين جعفر بن محمد وجابر؛ وهو محمد بن علي بن الحسين والد جعفر. فالحديث أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (56) من طريق أسد بن موسى؛ قال: نا يحيى بن سليم الطائفي؛ قال: سمعت جعفر بن محمد يحدِّث عن أبيه، عن جابر بن عبد الله ... ، فذكره. وأخرجه الدارمي في "سننه" (1/ 69)، من طريق محمد بن أحمد بن أبي خلف، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ محمد، عن أبيه، عن جابر. وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 310) من طريق مصعب بن سلام عن جعفر، عن أبيه، عن جابر. وكذا رواه مسلم في "صحيحه" (867) من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وسليمان بن بلال وسفيان الثوري، ثلاثتهم عن جعفر، ولفظه: "خير الهدي" بدل "أفضل الهدي". (¬8) قوله: "أن" ليس في (غ) و (ر).

فَالْجَوَابُ: أَن أَذان الزَّوْراء وُضِعَ هُنَالِكَ عَلَى أَصله؛ مِنَ الإِعلام بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَجَعَلَهُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لأَنه لَمْ يَكُنْ ليُسْمَعَ إِذا وُضِع بِالْمَسْجِدِ كَمَا كَانَ فِي زمانِ مَنْ قَبْله، فَصَارَتْ كَائِنَةً أُخرى لَمْ تَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَاجْتَهَدَ لَهَا كَسَائِرِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. وَحِينَ كَانَ مَقْصُودَ الأَذان الإِعلام فَهُوَ باقٍ كَمَا كَانَ، فَلَيْسَ وَضْعُهُ هُنَالِكَ بمنافٍ؛ إِذ لَمْ تُخْتَرع فِيهِ أَقاويل مُحْدَثَةٌ، وَلَا ثَبْتَ أَن الأَذان بِالْمَنَارِ أَو فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ تَعَبُّد (¬1) غَيْرُ معقول المعنى، فهو من (¬2) المُلائم مِنْ أَقسام الْمُنَاسِبِ، بِخِلَافِ نَقْلِهِ (¬3) مِنَ (¬4) الْمَنَارِ إِلى مَا بَيْنَ يَدَيِ الإِمام، فإِنه قَدْ أُخرج بِذَلِكَ أَولاً عَنْ أَصله مِنَ الإِعلام؛ إِذ لَمْ يُشرع لأَهل الْمَسْجِدِ إِعلام بِالصَّلَاةِ إِلا بالإِقامة، وأَذان جَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى محلِّه، ثُمَّ أَذانهم عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ زِيَادَةٌ فِي الْكَيْفِيَّةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَاضِحٌ، وَلَا اعْتِرَاضَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. وَمِنْ ذَلِكَ الأَذان والإِقامة فِي الْعِيدَيْنِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (¬5) اتِّفَاقَ الفقهاءِ عَلَى أَن لَا أَذان وَلَا إِقامة فِيهِمَا (¬6)، وَلَا فِي شيءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَسْنُونَاتِ وَالنَّوَافِلِ، وإِنما الأَذان لِلْمَكْتُوبَاتِ، وَعَلَى هَذَا مَضَى عَمَلُ الخلفاءِ: أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَفُقَهَاءِ الأَمصار. وأَول مَنْ أَحدث الأَذان والإِقامة فِي الْعِيدَيْنِ ـ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ ـ: هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ؛ أَراد أَن يُؤْذِنَ النَّاسَ بالأَذان بِمَجِيءِ (¬7) الإِمام، ثُمَّ بدأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَمَا بدأَ بِهَا مروان (¬8)، ¬

(¬1) قوله: "تعبد" ليس في (غ) و (ر). (¬2) قوله: "من" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬3) قوله: "بخلاف نقله" مكرر في (ت). (¬4) في (غ) و (ر): "عن" بدل "من"، وفي (خ): "إلى"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "لعل الأصل: من المنار". اهـ. (¬5) في "الاستذكار" (7/ 12). (¬6) ويدل عليه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (887) من حديث جابر رضي الله عنه قال: صليت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة. (¬7) في (غ) و (ر): "لمجيء". (¬8) كما في "صحيح البخاري" (956) و"صحيح مسلم" (889).

ثُمَّ أَمر بالإِقامة بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ ليُؤْذِنَ الناسَ (¬1) بِفَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ (¬2) وَدُخُولِهِ فِي الصلاة لبعدهم عنه. قال: وذلك حين كثُر الناس فكان يخفى عليهم مجيء إمامهم وفراغه مِنَ الْخُطْبَةِ وَدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ لِبُعْدِهِمْ عَنْهُ (¬3). قَالَ: وَلَمْ يَرِدْ مَرْوَانُ وَهِشَامٌ إِلَّا الِاجْتِهَادَ (¬4) فِيمَا رأَيا (¬5)، إِلا أَنه لَا يَجُوزُ اجْتِهَادٌ فِي خِلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي ابْنُ الماجِشُون: أَنه سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ: مِنْ أَحدث فِي هَذِهِ الأُمة شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا، فَقَدْ زَعَمَ أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لأَن اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (¬6)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا (¬7). وَقَدْ رُوِيَ أَن الَّذِي أَحدث الأَذان معاوية (¬8) رضي الله عنه، وَقِيلَ: زِيَادٌ، وأَن ابْنَ الزُّبَيْرِ فَعَلَهُ آخِرَ إِمارته (¬9)، وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّقْلِ. وَلِقَائِلٍ أَن يَقُولَ: إِن الأَذان هَنَا نَظِيرُ أَذان الزَّوْراء لعثمان ¬

(¬1) في (غ) "ليؤذن الناس فيه". (¬2) من قوله: "ليؤذن الناس" إلى هنا سقط من أصل (ر)، واستدرك في الهامش، ولم يتضح بأكمله في المصورة. (¬3) من قوله: "قال وذلك حين كثر الناس" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬4) المثبت من (غ) و (ر) و (ت)، وفي (خ) و (م): "ولم يرد مروان وهشام الاجتهاد"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: "لعل الأصل: إلا الاجتهاد".اهـ. (¬5) في (ر) و (غ): "رأياه". (¬6) سورة المائدة: الآية (3). (¬7) أخرجه ابن حزم في "إحكام الأحكام" (6/ 225) من طريق عبد الملك بن حبيب، به. (¬8) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5664)، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 453). (¬9) أخرج البخاري في "صحيحه" (959) من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج؛ قال: أخبرني عطاء أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له: إنه لم يكن يؤذّن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصلاة. وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5662) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج، عن عطاء: أن ابن الزبير سأل ابن عباس، ـ قال: وكان الذي بينهما حسن ـ فقال: لا تؤذن ولا تقم، فلما ساء الذي بينهما أذّن وأقام.

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَا (¬1) تَقَدَّمَ فِيهِ مِنَ التَّوْجِيهِ الِاجْتِهَادِيِّ جارٍ هُنَا. وَلَا يَكُونُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُخَالِفًا للسُّنّة؛ لأَن قِصَّةَ هِشَامٍ نَازِلَةٌ لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إِعلام بِمَجِيءِ الإِمام لِخَفَاءِ مَجِيئِهِ عَنِ النَّاسِ لِبُعْدِهِمْ عَنْهُ، ثُمَّ الإِقامة للإِعلام (¬2) بِالصَّلَاةِ، إِذ لَوْلَا هِيَ لَمْ يَعْرِفُوا دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَمراً لَا بُدّ مِنْهُ كأَذان الزَّوْراء. والجواب: أَن مجيء الإِمام لَمَّا (¬3) لم يشرع فيه أذان (¬4) ـ وإِن خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ لِبُعْدِهِ بِكَثْرَةِ النَّاسِ ـ، فَكَذَلِكَ لَا يُشْرَعُ فِيمَا بَعْدُ؛ لأَن العلة كانت موجودة ثم لم يشرع (¬5)، إِذ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ العِلَّة غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ثُمَّ تَصِيرُ مُؤَثِّرَةً. وأَيضاً: فإِحداث الأَذان والإِقامة انْبَنَى عَلَى إِحداث تَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمَا انْبَنَى عَلَى المُحْدَث مُحْدَث. ولأَنه لَمَّا لَمْ يُشْرَعْ فِي النَّوَافِلِ أَذان وَلَا إِقامة عَلَى حَالٍ؛ فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ لِئَلَّا تَكُونَ (¬6) النَّوَافِلُ كَالْفَرَائِضِ فِي الدعاءِ إِليها، فَكَانَ إِحداث الدُّعَاءِ إِلَى النَّوَافِلِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا. وَبِهَذِهِ الأَوجه الثَّلَاثَةِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَذان الزَّوْراء وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ أَن يُقَاسَ أَحدهما عَلَى الْآخَرِ، والأَمثلة فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَمِنْ نَوَادِرِهَا الَّتِي لَا يَنْبَغِي (¬7) أَن تُغفل: مَا جَرَى بِهِ عَمَلُ جُمْلَةٍ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى طَرِيقَةِ (¬8) الصُّوفِيَّةِ؛ مِنْ تربُّصهم (¬9) ببعض العبادات أَوقاتاً معلومة (¬10) غَيْرَ مَا وقَّته الشَّرْعُ فِيهَا، فَيَضَعُونَ نَوْعًا من العبادات المشروعة ¬

(¬1) في (خ) و (ت) و (م): "فيما". (¬2) قوله: "للإعلام" سقط من (غ) و (ر). (¬3) قوله: "لما" سقط من (خ) و (ت). (¬4) في (خ): "الأذان". (¬5) في (خ) و (م) و (ت): "تشرع". (¬6) في (خ) و (ت) و (م): "يكون". (¬7) في (غ): "لا تنبغي". (¬8) في (غ): "طريق". (¬9) في (ر) و (غ): "بتربصهم" بدل "من تربصهم". (¬10) في (خ) و (م): "معطوفة"، واجتهد رشيد رضا رحمه الله، فأثبتها: "مخصوصة"، والمثبت من (غ) و (ر) و (ت).

فِي زَمَنِ (¬1) الرَّبِيعِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ (1) الصَّيْفِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ (1) الْخَرِيفِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ (1) الشتاءِ. وَرُبَّمَا وَضَعُوا لأَنواعٍ (¬2) مِنَ الْعِبَادَاتِ لِبَاسًا مَخْصُوصًا، وَطِيبًا مَخْصُوصًا (¬3)، وَأَشْبَاهُ ذلك من الأَوضاع الفلسفية، يضعونها شرعيَّة؛ أَي مُتَقرَّباً بِهَا إِلى الْحَضْرَةِ الإِلهية فِي زَعْمِهِمْ، وَرُبَّمَا وَضَعُوهَا عَلَى مَقَاصِدَ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ؛ كأَهل التَّصْرِيفِ بالأَذكار (¬4) وَالدَّعَوَاتِ لِيَسْتَجْلِبُوا بِهَا الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ والجَاهِ والحُظْوَة ورِفْعة الْمَنْزِلَةِ، بَلْ لِيَقْتُلُوا بِهَا إِن شَاؤُوا أَو يُمْرِضوا، أَو يَتَصَرَّفُوا وَفْقَ أَغراضهم، فَهَذِهِ كُلُّهَا بِدَعٌ مُحْدَثَاتٌ بَعْضُهَا أَشد مِنْ بَعْضٍ؛ لِبُعْدِ هَذِهِ الأغراض عن (¬5) مقاصد الشريعة الأُمِّيَّة (¬6) الْمَوْضُوعَةِ (¬7)، مُبَرَّأَة (¬8) عَنْ مَقَاصِدِ المتخرِّصين (¬9)، مُطَهَّرة لِمَنْ تمسَّك بِهَا عَنْ أَوْضَارِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، إِذ كُلُّ مُتَدَيِّن (¬10) بِهَا، عَارِفٌ بِمَقَاصِدِهَا؛ ينزِّهها عَنْ أَمثال هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْوَاهِيَةِ. فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى بُطْلَانِ دَعَاوِيهِمْ فِيهَا مِنْ بَابِ شُغْلِ الزَّمَانِ بِغَيْرِ مَا هُوَ أَولى. وَقَدْ تَقَرَّرَ ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ فِي أَصْلِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (¬11) مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُ هَذَا النَّمَط وَالْبُرْهَانِ عَلَى بُطْلَانِهِ، لَكِنْ (¬12) عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ مُفِيدٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَهَذَا كُلُّهُ إِن فَرَضْنَا أَصل الْعِبَادَةِ مَشْرُوعًا، فإِن كَانَ أَصلها غَيْرَ مَشْرُوعٍ؛ فَهِيَ بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ؛ كالأَذكار وَالْأَدْعِيَةِ الَّتِي يَزْعُمُ (¬13) ¬

(¬1) في (غ): "زمان". (¬2) في (خ) و (غ): "الأنواع". (¬3) قوله: "وطيباً مخصوصاً" سقط من (خ). (¬4) في (م): "بأذكار". (¬5) في (ر) و (غ): "من". (¬6) أثبتها رشيد رضا رحمه الله ـ اجتهاداً ـ: "الشريعة الإسلامية"، والنسخ كلها متفقه على ما هو مثبت. (¬7) قوله: "الموضوعة" سقط من (ت). (¬8) في (ت): "المبرأة". (¬9) في (م) يشبه أن تكون: "المتحرضين". (¬10) في (غ): "متزين". (¬11) أطال المصنف رحمه الله في "الموافقات" في الكلام على المقاصد بقسميها: ما يتعلق بمراد الشارع، وما يتعلق بمراد المكلف، فانظره إن شئت (2/ 7) فما بعد. (¬12) في (م): "لاكل". (¬13) في (ت) و (خ) و (م): "والأدعية بزعم".

أهلها أَنها مبنيَّة عَلَى عِلْمِ الْحُرُوفِ (¬1)، وَهُوَ الَّذِي اعْتَنَى بِهِ الْبَوْنِيُّ (¬2) وَغَيْرُهُ مِمَّنْ حَذَا حَذْوَه أَو قَارَبَهُ، فإِن ذَلِكَ الْعِلْمَ فَلْسَفَةٌ أَلطف من فلسفة معلِّمهم الأَوّل؛ وهو أَرُسْطَاطَالِيس (¬3)، فردّوها إِلى أَوضاع الحروف المعجمة (¬4)، وَجَعَلُوهَا هِيَ الْحَاكِمَةَ فِي الْعَالَمِ، وَرُبَّمَا أَشاروا عِنْدَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الأَذكار وَمَا قُصِدَ بِهَا إِلى تحرِّي الأَوقات والأَحوال الْمُلَائِمَةِ لِطَبَائِعِ الْكَوَاكِبِ؛ لِيَحْصُلَ التأْثير عِنْدَهُمْ وَحْيًا، فَحَكَّمُوا الْعُقُولَ والطبائع ـ كما ترى ـ، وتوجّهوا شطرها، وأَعرضوا ¬

(¬1) وهو المسمى: "علم السيمياء" الذي يزعمون فيه أن لحروف الهجاء أسراراً وخواص مركّبة ومفردة، والحق أنه من التنجيم، وداخل في ضروب السحر وإن قيل فيه ما قيل، وهو الذي يُعنى به المتصوِّفة الذين يجنحون إلى كشف حجاب الحسّ، ويرغبون في حصول الخوارق على أيديهم، فانظر ـ إن شئت ـ تعريفه بتوسع في "كشف الظنون" (1/ 413 و650)، وانظر كلام المصنف الآتي، والتعليق المتقدم برقم (4) (ص305). (¬2) هو أبو العباس أحمد بن علي بن يوسف القرشي، البوني، المتوفى سنة (622هـ)، وقيل: سنة (630هـ)، صاحب كتاب "شمس المعارف ولطائف العوارف"، وكتاب "لطائف الإشارات في أسرار الحروف العلويات" و"أسرار الأدوار وتشكيل الأنوار في الطلسمات"، و"أسرار الحروف والكلمات"، و"إظهار الرموز وإبداء الكنوز"، و"تنزيل الأرواح في قوالب الأشباح"، و"رسالة الشهود في الحقائق على طريقة علم الحروف"، و"شرف التشكيليات الشكليات وأسرار الحروف العدديات"، وغيرها من الكتب كما في "كشف الظنون" (1/ 82 و83 و118 و494 و875)، و (2/ 1045 و1062 و1161 و1270 و1411 و1551 و1553 و1891). وهذه الكتب تنبئك عن حاله الذي لا يُعرف إلا على سبيل الذم كما عند المصنف هنا، أو عند من غرق في التصوف فَعَدّ السحرة والدجالين شيوخاً عارفين كما في نقل المناوي عنه في مواطن متعددة من "فيض القدير"، وكما في المواضع المتقدمة من "كشف الظنون"، وإلا فالواجب على أهل الإسلام التحذير من كتب هذا الرجل، والتوجيه بإحراقها وإتلافها، فإنك أول ما تجد عند السحرة والدجالين في هذا الزمن كتاب "شمس المعارف" مع غيره من الكتب التي يأكل بها السحرة أموال الناس بالباطل، وكلها تحوم حول الحروف وأسرارها المكتومة زعموا، والتجربة؛ كما في "كشف الظنون" (2/ 1720) عند ذكره لكتاب "مطلع العزائم" للبوني هذا؛ قال: "استخرجه من السرّ المكتوم، وذكر فيه خواصّ غريبة، وتأثيرات مجرَّبة جرّبها بنفسه ... " إلخ. (¬3) كذا في (خ) و (م)، وفي (ت): "أرسطاليس"، وفي (غ) و (ر): "أرطسوطاليس". (¬4) قوله: "المعجمة" ليس في (خ) و (م) و (ت).

عَنْ رَبِّ الْعَقْلِ وَالطَّبَائِعِ، وإِن ظَنُّوا أَنهم يَقْصِدُونَهُ اعْتِقَادًا (¬1) فِي اسْتِدْلَالِهِمْ لِصِحَّةِ مَا انْتَحَلُوا عَلَى وُقُوعِ الْأَمْرِ وَفْقَ مَا يَقْصِدُونَ. فإِذا تَوَجَّهُوا بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ (¬2) الْمَفْرُوضِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ حصل، سواء عليهم أَنفعاً كان (¬3) أَم ضُرًّا، وَخَيْرًا كَانَ أَم شَرًّا، وَيَبْنُونَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَ بُلُوغِ النِّهَايَةِ فِي إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، أَو حصول (¬4) نَوْعٌ مِنْ كَرَامَاتِ الأَولياء، كَلَّا! لَيْسَ طَرِيقُ الحق (¬5) مِنْ مُرَادِهِمْ، وَلَا كَرَامَاتِ الأَولياء أَو إِجابة الدُّعَاءِ مِنْ نَتَائِجِ أَورادهم، فَلَا تَلَاقِي بَيْنَ الأَرض والسماءِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ النَّارِ والماءِ. فإِن قُلْتَ: فَلِمَ يَحْصُلُ التأْثير حَسْبَمَا قَصَدُوا؟ فَالْجَوَابُ: أَن ذَلِكَ فِي الأَصل مِنْ قَبِيلِ الْفِتْنَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا فِي الْخَلْقِ: {ذَلِكَ} (¬6) {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (¬7) فَالنَّظَرُ (¬8) إِلى وَضْعِ الأَسباب والمسبَّبات أَحكامٌ وَضَعَهَا الْبَارِي تَعَالَى فِي النُّفُوسِ يَظْهَرُ عِنْدَهَا مَا شاءَ اللَّهُ مِنَ التأْثيرات (¬9)، عَلَى نَحْوِ مَا ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "اعتماداً". (¬2) في (ت): "بالدعاء والذكر". (¬3) قوله: "كان" سقط من (ت) و (خ) و (م). (¬4) في (خ) و (م): "أو حصل"، وفي (ت): "ولو حصل". (¬5) قوله: "الحق" سقط من (ت) و (خ) و (م) و (ت). (¬6) قوله: "ذلك" ليس في (غ) و (ر). (¬7) سورة فصلت: الآية (12). (¬8) في (غ) و (ر): "وبالنظر". (¬9) هذا من الأخطاء التي وقع فيها المصنف رحمه الله بسبب تأثره بمعتقد الأشاعرة في مسألة السبب والمسبَّب. وقد نبّه على هذا الأخ الفاضل الشيخ ناصر الفهد في كتابه "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام" (ص112 ـ 116)، ومن جملة ما قال: "وهذا الكلام كلام الأشاعرة ـ الذين اقتفوا آثار الجهمية في إنكار الأسباب ـ، فإنهم أنكروا أن يكون للأسباب أي تأثير على المسبَّبات، وقالوا: إنه ليس في النار قوة الإحراق، ولا في الماء قوة الإغراق، ولا في السِّكِّين قوة القطع. قالوا: ولكن الله يخلق المسببات عند وجود هذه الأسباب، لا بها. فعند وجود النار يخلق الله الإحراق، بلا تأثير من النار، وعند وجود السكِّين يخلق الله القطع بلا تأثير من السكّين، وهكذا. ويقولون: إن الله قد أجرى العادة بخلق المسببات عند وجود هذه الأسباب، وكل هذا طرداً لعقيدتهم في الجبر، وأنه لا فاعل إلا الله ... "، ثم أخذ في بيان الحق في هذه المسألة، فانظره إن شئت.

يظهر على المعين (¬1) عند الإِصابة بالعين (¬2)، وَعَلَى الْمَسْحُورِ عِنْدَ عَمَلِ السِّحْرِ، بَلْ هُوَ بِالسِّحْرِ أَشبه؛ لِاسْتِمْدَادِهِمَا مِنْ أَصل وَاحِدٍ. وَشَاهِدُهُ: مَا جاءَ فِي الصَّحِيحِ ـ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ (¬3) ـ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِن اللَّهَ يَقُولُ: أَنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وأَنا مَعَهُ إِذا دَعَانِي". وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ (¬4): "أَنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ"، وَشَرْحُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لَا يَلِيقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ. وَالْحَاصِلُ: أَن وَضْعَ الأَذكار وَالدَّعَوَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ: مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، لَكِنْ تَارَةً تَكُونُ الْبِدْعَةُ فِيهَا إِضافية؛ بِاعْتِبَارِ أَصل الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَتَارَةً تَكُونُ حَقِيقِيَّةً (¬5). ¬

(¬1) في (ت) و (خ): "المعيون". (¬2) قوله: "بالعين" من (غ) و (ر) فقط. (¬3) في "صحيحه" (2675) وأخرجه البخاري أيضاً (7405 و7505)، وفي لفظه: "وأنا معه إذا ذكرني". (¬4) أخرج هذه الرواية: الإمام أحمد في "المسند" (4/ 106)، وابن حبان في "صحيحه" (633 و634 / الإحسان)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 240)، جميعهم من طريق هشام بن الغاز، عن حيّان أبي النضر، عن واثلة بن الأسقع، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وسنده صحيح. حيان أبو النضر الأسدي وثقه ابن معين، وقال: أبو حاتم: صالح كما في "الجرح والتعديل" (3/ 244 ـ 245 رقم 1088). وهشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي، الدمشقي، نزيل بغداد: ثقة كما في "التقريب" (7355). وأخرجه الإمام أحمد أيضاً (3/ 491) من طريق الوليد بن سليمان وسعيد بن عبد العزيز، كلاهما عن حيان أبي النضر، به. (¬5) قوله: "وتارة تكون حقيقية" سقط من (خ) و (ت).

فصل

فَصْلٌ فإِن قِيلَ: فَالْبِدَعُ الإِضافية هَلْ يُعْتَدُّ بِهَا عباداتٍ حَتَّى تَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مُتَقَرَّباً بِهَا إِلى اللَّهِ تَعَالَى، أَم لَا تَكُونُ كَذَلِكَ؟ فإِن كَانَ الأَول فَلَا تأْثير إِذاً لِكَوْنِهَا بِدْعَةً، وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ، إِذ لَا يَخْلُو (¬1) مِنْ أَحد الأَمرين (¬2): إِما أَن لَا يُعتبر بِجِهَةِ الِابْتِدَاعِ فِي الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَتَقَعُ مَشْرُوعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا، فَتَصِيرُ جِهَةَ الِابْتِدَاعِ مُغْتَفِرَةً، فَلَا عَلَى الْمُبْتَدَعِ (¬3) فِيهَا أَن يَبْتَدِعَ. وإِما أَن يُعتبر بِجِهَةِ الِابْتِدَاعِ، فَقَدْ صَارَ لِلِابْتِدَاعِ أَثر فِي ترتُّب الثَّوَابِ، فَلَا يصح أَن يكون منهيّاً (¬4) عَنْهُ بإِطلاق، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ عُمُومِ الذَّمِّ فِيهِ. وإِن كَانَ الثَّانِي: فَقَدِ اتَّحَدَتْ البدعة الإِضافية مع الحقيقية؛ فالتقسيم (¬5) الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ الْبَابُ الَّذِي نَحْنُ فِي شرحه لا فَائِدَةَ فِيهِ. فَالْجَوَابُ: أَن حَاصِلَ الْبِدْعَةِ الإِضافية أَنها لَا تَنْحاز إِلى جَانِبٍ مَخْصُوصٍ فِي الجملة، بل يتجاذبها الأَصلان ـ أَصل السُّنَّةِ وأَصل الْبِدْعَةِ ـ، لَكِنْ مِنْ وَجْهَيْنِ. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ اقْتَضَى النَّظَرُ السَّابِقُ لِلذِّهْنِ أَن يُثَابَ الْعَامِلُ بِهَا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ، ويُعاتب مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، إِلا أَن هَذَا النَّظَرَ لا يتحصل؛ لأَنه مجمل. ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "لا تخلو". (¬2) في (ر) و (غ): "أمرين". (¬3) في (ر) و (غ): "جهة الابتداع معتبرة بما على المبتدع". (¬4) في (ت) و (خ) و (م): "منفياً" بدل "منهياً". (¬5) تصحَّفت الكلمة على رشيد رضا رحمه الله هكذا: "بالتقسيم"، فأشكل عليه باقي العبارة، فعلّق في نهاية هذا السطر ـ بعد قوله: "لا فائدة فيه" ـ بقوله: "كذا! ولعل أصله: ولا فائدة فيه".

والذي ينبغي أن يقال: إِن (¬1) جهة البدعة في العمل لا تخلو (¬2) أَن تَنْفَرِدَ أَو تَلْتَصق، وإِن الْتَصَقَتْ فَلَا تَخْلُو أَن تَصِيرَ وَصْفًا لِلْمَشْرُوعِ غَيْرَ مُنْفَكٍّ؛ إِما بالقصد، أَو بالوضع الشرعي، أو (¬3) الْعَادِيِّ، أَو لَا (¬4) تَصِيرُ وَصْفًا. وإِن لَمْ تَصِرْ وصفاً، فإِما أَن يكون وضعها ذريعة (¬5) إِلى أَن تَصِيرَ وَصْفًا أَوْ لَا. فَهَذِهِ أَربعة أَقسام لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا فِي تحصيل هذا المطلوب بحول الله تعالى: فأَما الْقِسْمُ الأَول ـ وَهُوَ أَن تَنْفَرِدَ الْبِدْعَةُ عَنِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ ـ: فَالْكَلَامُ فِيهِ ظَاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ، إِلا أَنَّهُ إِن كَانَ وَضْعُهُ عَلَى جِهَةِ التعبُّد فَبِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وإِلا فَهُوَ فِعْلٌ مِنْ جُمْلَةِ الأَفعال الْعَادِيَّةِ، لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. فَالْعِبَادَةُ سَالِمَةٌ وَالْعَمَلُ الْعَادِيُّ خَارِجٌ (¬6) مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. مِثَالُهُ: الرَّجُلُ يُرِيدُ القيام إِلى الصلاة فيَتَنَحْنَحُ مثلاً، أَو يَمْتَخِطُ (¬7)، أَو يَمْشِي خُطُوَاتٍ، أَو يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يقصد بذلك (¬8) وَجْهًا رَاجِعًا إِلى الصَّلَاةِ، وإِنما يَفْعَلُ ذَلِكَ عادة أَو تعزُّزاً (¬9)، فَمِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلى الصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَادَاتِ الْجَائِزَةِ، إِلا أَنه يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيضاً أَن لَا يَكُونَ بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْضِمَامُ إِلى الصَّلَاةِ (¬10) عَمَلًا أَو قَصْدًا، فإِنه إِذ ذَاكَ يَصِيرُ بِدْعَةً. وسيأْتي بَيَانُهُ إِن شاءَ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ أَيضاً إِذا فَرَضْنَا أَنه فَعَلَ فعلاً قَصْدَ التقرُّب مما لم يشرع ¬

(¬1) في (ت) و (خ): "في" بدل "إن". (¬2) في (ت) و (م) و (خ): "لا يخلو". (¬3) قوله: "أو" سقط من (خ). (¬4) في (ت) و (خ) و (م): "ولا". (¬5) قوله: "ذريعة" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬6) في (ر) و (غ): "خارجي". (¬7) في (خ) و (ت): "يتمخَّط". (¬8) في (خ) و (م): "بذا" بدل "بذلك". (¬9) كذا في (غ) و (ر)! وفي (خ) و (م) و (ت): "تغرزاً"، أو "تقرزاً". وأما رشيد رضا فأثبتها: "تقززاً"، ولم تنقط الراء في نسخة (خ) التي اعتمد هو عليها!. (¬10) من قوله: "وهو من جملة العادات" إلى هنا سقط من (غ).

أَصلاً، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ إِلى الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَمْ يَقْصِدْ فِعْلَهُ لأَجل الصَّلَاةِ، وَلَا كَانَ مَظِنَّةً لأَن (¬1) يُفْهَمَ مِنْهُ انْضِمَامُهُ إِليها، فَلَا يَقْدَحُ فِي الصَّلَاةِ، وإِنما يَرْجِعُ الذَّمُّ فِيهِ إِلى الْعَمَلِ بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ. وَمِثْلُهُ: لَوْ أَراد الْقِيَامَ إِلى الْعِبَادَةِ، فَفَعَلَ عِبَادَةً مَشْرُوعَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الِانْضِمَامِ، وَلَا جَعْلِهِ (¬2) عُرْضَةً لِقَصْدِ انْضِمَامِهِ، فَتِلْكَ الْعِبَادَتَانِ عَلَى أَصالتهما (¬3). وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَو الْعِتْقِ: اللَّهُمَّ مِنْكَ وإِليك، عَلَى غَيْرِ الْتِزَامٍ (¬4) وَلَا قَصْدِ الِانْضِمَامِ، وَكَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ لَا بِقَصْدِ الطَّوَافِ وَلَا عَلَى الِالْتِزَامِ، فَكُلُّ عِبَادَةٍ هُنَا مُنْفَرِدَةٌ عَنْ صَاحِبَتِهَا؛ فَلَا حَرَجَ فِيهَا (¬5). وَعَلَى ذَلِكَ نَقُولُ: لَوْ فَرَضْنَا (¬6) أَن الدعاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ وقع من أَئمة الصلوات في (¬7) المساجد في بعض الأَوقات للأَمر يحدث؛ من قَحْطٍ، أَو خوفٍ، ونحوه (¬8) مِنْ مُلِمٍّ؛ لَكَانَ جَائِزًا (¬9)؛ لأَنه (¬10) عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، إِذ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ عَلَى وجهٍ يُخاف مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ الِانْضِمَامِ، وَلَا كَوْنُهُ سُنَّةً تُقَامُ فِي الْجَمَاعَاتِ وَيُعْلَنُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ، كَمَا (¬11) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاءَ الاستسقاءِ بِهَيْئَةِ (¬12) الِاجْتِمَاعِ وَهُوَ يَخْطُبُ (¬13)، وَكَمَا أَنَّهُ دَعَا أَيضاً (¬14) فِي غَيْرِ أَعقاب ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "أن". (¬2) في (خ) و (م): "ولأجله". (¬3) في (ر) و (غ): "فكلتا العبادتين على أصالتها". (¬4) في (ر) و (غ): "على غير الالتزام". (¬5) في (ر) و (غ): "فيهما". (¬6) قوله: "لو فرضنا" مكرر في (م). (¬7) قوله: "الصلوات في" من (غ) و (ر) فقط. (¬8) قوله: "ونحوه" من (غ) و (ر) فقط. (¬9) في (م): "جائز". (¬10) في (ر) و (غ): "إلا أنه". (¬11) في (غ) و (ر): "وكما". (¬12) في (غ): "على هيئة". (¬13) رواه البخاري (1029) تعليقاً، وفيه: "فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون" الحديث. ووصله الإسماعيلي وأبو نعيم والبيهقي كما قال الحافظ في "الفتح"، ثم رواه في "تغليق التعليق" (2/ 392) من طريق المحاملي، عن محمد بن إسماعيل الترمذي، عن أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس رضي الله عنه به. (¬14) في (ت): "وكما أنه أيضاً دعا".

الصَّلَوَاتِ عَلَى هَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ (¬1)، لَكِنْ فِي الفَرْطِ، وَفِي بَعْضِ الأَحَايِين كَسَائِرِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الَّتِي لَا يُتربَّص بها وقت (¬2) بِعَيْنِهِ، وكيفيَّة بِعَيْنِهَا. وَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ (¬3) عَنْ أَبي سعيد مولى [أبي] (¬4) أَسيد؛ قَالَ: كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذا صَلَّى العشاءَ أَخرج النَّاسَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَتَخَلَّفَ لَيْلَةً مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فأَتى عَلَيْهِمْ (¬5) فَعَرَفَهُمْ، فأَلقى دِرَّتَه وَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا فُلَانُ! ادْعُ اللَّهَ لَنَا، يَا فُلَانُ! ادْعُ اللَّهَ لَنَا، حَتَّى صَارَ الدعاءُ إِلى عمر (¬6)، فَكَانُوا يَقُولُونَ: عُمَرُ فَظٌّ غَلِيظٌ، فَلَمْ أَر أَحداً مِنَ النَّاسِ تِلْكَ السَّاعَةَ أَرقَّ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لَا ثَكْلَى وَلَا أَحداً (¬7). ¬

(¬1) كما جاء في الحديث الذي رواه الفضل بن العلاء؛ قال: حدثنا إسماعيل بن أمية، عن محمد بن قيس، عن أبيه؛ أنه أخبره: أن رجلاً جاء زيد بن ثابت فسأله عن شيء؟ فقال له زيد: عليك بأبي هريرة؛ فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله ونذكر ربنا خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال: "عودوا للذي كنتم فيه". قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤمِّن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي هذان، وأسألك علماً لا يُنسى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "آمين"، فقلنا: يا رسول الله! ونحن نسأل الله علماً لا يُنسى، فقال: "سبقكما بها الغلام الدوسي". أخرجه النسائي في "الكبرى" (5870)، والطبراني في "الأوسط" (1228)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 508)، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل إلا الفضل، ولا يروى عن زيد بن ثابت إلا بهذا الإسناد". (¬2) في (خ): "وقتا". (¬3) قوله: "الطبري" سقط من (خ)، وفي (غ): "الطبراني"، والمثبت من (ر) و (م) و (ت)، وهو الصواب، ويدل عليه قول المصنف (ص333): "وهذه الآثار من تخريج الطبري في تهذيب الآثار". (¬4) ما بين المعقوفين زيادة من مصادر التخريج وترجمته الآتية. (¬5) في (ر) و (غ): "إليهم". (¬6) في (خ) و (ت) و (م): "غير". (¬7) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 294) من طريق يزيد بن هارون، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 330) من طريق شعبة، كلاهما عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد ـ وعند الطحاوي: مولى الأنصار ـ؛ قال: كان عمر بن الخطاب يعسّ المسجد بعد العشاء ... ، فذكره بلفظ أطول من هذا. وسنده رجاله ثقات، عدا أبي سعيد مولى أبي أسيد الساعدي الأنصاري، فقد ذكره ابن سعد في "الطبقات" (5/ 88) و (7/ 128)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً،=

وَعَنْ سَلْم (¬1) العَلَوي (¬2) قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لأَنس رضي الله عنه يوماً: يا ¬

=وذكر أنه روى عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وذكره مسلم في "الكنى" (1356)، وذكر أنه شهد مقتل عثمان رضي الله عنه، وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 588)، وروى بسند فيه ضعف عنه أنه قال: كان في بيتي أبو ذر وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان، فحضرت الصلاة، فتقدم أبو ذر، فجذبه حذيفة، فالتفت إلى ابن مسعود، فقال: كذلك يا ابن مسعود؟ قال: نعم، قال: فقدّموني وكنت أصغرهم، فصليت بهم. وذكر ابن حجر في القسم الثالث من "الإصابة" (11/ 187) أبا سعيد هذا، وقال: ذكره ابن مندة في الصحابة، ولم يذكر ما يدل على صحبته، لكن ثبت أنه أدرك أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فيكون من أهل هذا القسم. قال ابن مندة: "روى عنه أبو نضرة [العَوَقي] قصة مقتل عثمان بطولها"، وهو كما قال، وقد رويناها من هذا الوجه، وليس فيها ما يدل على صحبته. اهـ. والقسم الثالث من "الإصابة" جعله ابن حجر للمخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام. وأما قصة مقتل عثمان، فقد رواها أبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (2/ 237 ـ 238) من طريق أبي سعيد هذا. (¬1) في (ت): "وعن سالم". (¬2) هو سَلْم بن قيس العَلَوي، البصري، ضعيف كما في "التقريب" (2486). وهذا الحديث من الأحاديث التي ذكر المصنف (ص333) أنه خرجها من "تهذيب الآثار" للطبري، ولم أجد من أخرجه من هذا الطريق سواه. لكن أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (633) من طريق عمر بن عبد الله الرومي؛ قال: أخبرني أبي، عن أنس بن مالك؛ قال: قيل له: إن إخوانك أتوك من البصرة ـ وهو يومئذٍ بالزاوية ـ لتدعو لهم. قال: اللهم اغفر لنا وارحمنا، وآتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. فاستزادوه، فقال مثلها، فقال: إن أوتيتم هذا فقد أوتيتم خير الدنيا والآخرة. وعمر بن عبد الله الرومي مقبول، وأبوه كذلك؛ كما في "التقريب" (4964 و3462)، وقد توبعا. فالحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (3397) من طريق شيخه إبراهيم بن الحجاج السَّامي؛ حدثنا حماد ـ وهو ابن سلمة ـ، عن ثابت؛ أنهم قالوا لأنس: ادع لنا، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا، فأعادها، قالوا: زدنا، قال: ما تريدون؟ سألت لكم خير الدنيا والآخرة. قال أنس: فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يدعو: "اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار".=

أَبا حَمْزَةَ! لَوْ دَعَوْتَ لَنَا بِدَعَوَاتٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ـ قَالَ: فأَعادها مِرَارًا ثَلَاثًا ـ، فَقَالَ: يَا أَبا حمزة! لو دعوت لنا (¬1)، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ. فإِذا كَانَ الأَمر عَلَى هَذَا فَلَا إِنكار فِيهِ، حَتَّى إِذا دَخَلَ فِيهِ أَمر زَائِدٌ صَارَ الدعاءُ بِتِلْكَ (¬2) الزِّيَادَةِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ. فَقَدْ جاءَ فِي دعاءِ الإِنسان لِغَيْرِهِ (¬3) الْكَرَاهِيَةُ عَنِ السَّلَفِ (¬4)، لَا عَلَى حُكْمِ الأَصالة، بَلْ بِسَبَبِ مَا يَنْضَمُّ إِليه مِنَ الأُمور المُخْرِجَةِ عَنِ الْأَصْلِ. وَلِنَذْكُرَهُ هُنَا لِاجْتِمَاعِ أَطراف المسأَلة فِي التَّنْبِيهِ (¬5) عَلَى الدعاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ دَائِمًا. فَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ (¬6) عَنْ مُدْرِك بْنِ عِمْرَانَ؛ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ إِلى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: إني أصبت ذنباً (¬7) فَادْعُ اللَّهَ لِي. فَكَتَبَ إِليه عُمَرُ: إِني لَسْتُ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنْ إِذا أُقيمت الصَّلَاةُ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِذَنْبِكَ. فإِبَايَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَصل الدعاءِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةٍ أُخرى، وإِلا تَعَارَضَ كلامه مع ما تقدم، فكأَنه فهم ¬

=وسنده صحيح، وصححه ابن حبان؛ فأخرجه في "صحيحه" (938/ الإحسان) من طريق أبي يعلى. وأصل الحديث في "الصحيحين". فأخرجه البخاري (4522 و6398)، ومسلم (2690)، كلاهما من طريق عبد العزيز بن صهيب ـ واللفظ لمسلم ـ؛ قال: سأل قتادة أنساً: أي دعوة كان يدعو بها النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: "اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حسنة، وقنا عذاب النار". قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإن أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه. (¬1) قوله: "لنا" ليس في (خ) و (ت) و (م). (¬2) في (خ): "الدعاء فيه بتلك". (¬3) في (م): "في دعائه الإنسان لغير". (¬4) سيأتي نقل المصنف لبعض الآثار في ذلك. (¬5) في (خ): "التشبيه". (¬6) أي: في "تهذيب الآثار" كما قال المصنف (ص333). ومدرك بن عمران لم أجد من ترجم له، وقد يكون في نسبه تصحيف، فيكون إما مدرك بن عمارة بن عقبة بن أبي مُعَيط المترجم في "الجرح والتعديل" (8/ 327 رقم 1511)، و"تعجيل المنفعة" (1015)، أو مدرك بن عوف البَجلي الذي ذكره ابن أبي حاتم في الموضع السابق من "الجرح والتعديل" برقم (1509)، وذكر أنه يروي عن عمر، ولم أجد من وثقهما من المعتبرين. (¬7) قوله: "إني أصبت ذنباً" سقط من (خ) و (م) و (ت).

من السائل أَمراً زائداً على التماس (¬1) الدعاءِ، فَلِذَلِكَ قالَ: لستُ بِنَبِيٍّ. ويدلُّك عَلَى هَذَا: مَا رُوِيَ (¬2) عَنْ سَعْدِ (¬3) بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنه لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ أَتاه رَجُلٌ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي (¬4)، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ أَتاه آخَرٌ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلَا لِذَاكَ (¬5)، أَنبي أَنا؟!. فَهَذَا أَوضح فِي أَنه فَهِمَ مِنَ السَّائِلِ (¬6) أَمْرًا زَائِدًا، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ مِثْلُ النَّبِيِّ، أَوْ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلى أَن يَعْتَقِدَ ذَلِكَ، أَو يعتقد أَنه سنة تُلْتَزَم (¬7)، أَو تجري (¬8) فِي النَّاسِ مَجْرَى السُّنَنِ المُلْتَزَمة (¬9). وَنَحْوُهُ (¬10) عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ: أَن رَجُلًا قَالَ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اسْتَغْفِرْ لِي. فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ! ثُمَّ قَالَ: هَذَا يَذْهَبُ إِلى نسائه فيقول: استغفرَ لي حذيفة، أَترضى أَن أَدعو الله أَن يجعلك (¬11) مِثْلَ حُذَيْفَةَ؟ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنه وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَمر زَائِدٌ يَكُونُ الدعاءُ لَهُ ذَرِيعَةً حَتَّى يَخرُج عَنْ أَصله؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ مَا دَعَا (¬12) عَلَى الرَّجُلِ (¬13): هَذَا يَذْهَبُ إِلى نسائه فيقول كذا؛ أَي: فيأْتي نساؤه (¬14) أيضاً (¬15) لِمِثْلِهَا، ويَشْتهر الأَمر حَتَّى يُتَّخذ سُنّة، ويُعتقَد في حذيفة ما لا يدعيه هُوَ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَخْرُجُ الْمَشْرُوعُ عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا، ويؤدِّي إِلى التشيُّع وَاعْتِقَادِ أَكثر مِمَّا يحتاج إِليه. ¬

(¬1) قوله: "التماس" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬2) وقد تكون: "ما رَوَى" على المبني للمعلوم، فيكون الضمير عائداً إلى الطبري، فيكون أخرجه في "تهذيب الآثار" أيضاً. (¬3) في (م): "سعيد". (¬4) في (غ): "استغفر لي الله". (¬5) في (ر) و (غ): "لذلك". (¬6) في (م): "المسائل". (¬7) في (خ) و (ت) و (م): "تلزم". (¬8) في (خ) و (ت) و (م): "يجري". (¬9) في (م): "المتزمة". (¬10) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 277) من طريق جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان. ومن طريق شعبة، عن الأعمش، عن زيد بن وهب به. وسنده صحيح، والاختلاف في شيخ الأعمش لا يؤثر في صحة الأثر؛ فإما أن يكون للأعمش فيه شيخان ـ أبو ظبيان وزيد بن وهب ـ، وإما أن ترجح رواية شعبة، وعلى كلا الوجهين فالأثر صحيح، والله أعلم. (¬11) في (ت) و (خ): "تكن" وفي (م): "تكون" بدل "يجعلك". (¬12) في (خ) و (م): "ما دل" بدل "ما دعا". (¬13) في (ت): "لقوله بعدُ ما يدل على قصد الرجل". (¬14) في (خ): "نساءه". (¬15) قوله: "أيضاً" ليس في (خ) و (م) و (ت).

وَقَدْ تبيَّن هَذَا الْمَعْنَى بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّة، عَنِ ابْنِ عَوْن؛ قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلى إِبراهيم فَقَالَ: يَا أَبا عِمْرَانَ! ادْعُ اللَّهَ أَن يَشْفِيَنِي. فِكْرَهَ ذَلِكَ إِبراهيم وقَطَّبَ (¬1)، وَقَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلى حُذَيْفَةَ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَن يَغْفِرَ لِي. فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ! فتنحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ قَالَ: فأَدخلك اللَّهُ مُدْخَلَ حُذَيْفَةَ، أَقد رَضِيتَ الْآنَ؟ يأْتي أَحدكم الرَّجُلَ كأَنه قد أَحْصَى شأْنه، كأنه (¬2). ثُمَّ ذَكَرَ إِبراهيم السُّنَّة، فرغَّب فِيهَا، وَذَكَرَ مَا أَحدث النَّاسُ؛ فَكَرِهَهُ (¬3). وَرَوَى مَنْصُورٌ، عَنْ إِبراهيم قَالَ: كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فَيَتَذَاكَرُونَ فَلَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اسْتَغْفِرْ لَنَا (¬4). فتأَملوا يَا أُولي الأَلباب ماذا كَرِهَ (¬5) العلماءُ مِنْ هَذِهِ الضَّمَائِم (¬6) المُنْضَمَّة إِلى الدعاءِ، حَتَّى كَرِهُوا الدعاءَ إِذا انْضَمَّ إِليه مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمة. فَقِسْ بِعَقْلِكَ (¬7) مَاذَا كانوا يقولون في دعائنا اليوم بآثار الصلوات (¬8)، بَلْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُوَاطِنِ، وَانْظُرُوا إِلى إشارة (¬9) إِبراهيم بترغيبه (¬10) فِي السُّنَّةِ وَكَرَاهِيَةِ (¬11) مَا أَحدث النَّاسُ؛ بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذِهِ الْآثَارُ مِنْ تَخْرِيجِ الطبري في "تهذيب (¬12) الآثار" (¬13) له. ¬

(¬1) في (غ): "ونطق". ومعنى "قَطَّبَ": أي زَوَى ما بين عينيه، وعَبَس من الغضب. "لسان العرب" (1/ 680). (¬2) قوله: "كأنه" سقط من (خ) و (ت)، وهو مكرر في (ر). (¬3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 276) من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن عبد الله بن عون، به. وإسناده صحيح. وإبراهيم هذا هو: النخعي. (¬4) لم أقف عليه، والمصنف أخذه عن "تهذيب الآثار" للطبري كما سيأتي. (¬5) في (ت) و (خ) و (م)؛ "ما ذكره". (¬6) في (خ): "الاضام"، وفي (ت): "العظائم". (¬7) في (غ) و (ر): "بفضلك". (¬8) في (خ) و (ت) و (م): "الصلاة". (¬9) في (خ) و (م): "استبارة". (¬10) في (خ): "ترغيبه". (¬11) في (خ): "وكراهيته". (¬12) في (م): "تهديث". (¬13) في القسم المفقود منه فيما يظهر.

وعلى هذا ينبغي (¬1) أن يُحْمل (¬2) مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهان، عَنْ أَيوب، عَنْ أَبي قِلَابَةَ، عَنْ أَبي الدرداءِ رضي الله عنه: أَنا ناساً من أَهل الكوفة قالوا (¬3): إن إخوانك (¬4) من أهل الكوفة (¬5) يقرؤون عَلَيْكَ السَّلَامَ، ويأْمرونك أَن تدعُوَ لَهُمْ وَتُوصِيَهُمْ. فقال: اقرؤوا (¬6) عليهم السلام، ومروهم أَن يعطوا القرآن [بخزائمهم] (¬7)، فإِنه يَحْمِلُهُمْ ـ أَو يأْخذ بِهِمْ ـ عَلَى الْقَصْدِ وَالسُّهُولَةِ، ويجنِّبهم الجَوْرَ والحُزُونة (¬8)، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنه دَعَا لَهُمْ. وأَما الْقِسْمُ الثَّانِي ـ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ الْعَادِيُّ أَو غَيْرُهُ كَالْوَصْفِ لِلْعَمَلِ المشروع، إِلا أَن الدليل دلَّ (¬9) عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوعَ لَمْ يَتَّصِفْ فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ ـ: فَظَاهِرُ (¬10) الأَمر انْقِلَابُ الْعَمَلِ المشروع غير ¬

(¬1) في (ت) و (خ): "ينبني". (¬2) قوله: "أن يحمل" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬3) في (م): "قال"، وفي (ت): "قالوا له"، إلا أن قوله: "له" ملحق في الهامش. (¬4) في (غ) و (ر): "لإخوانك". (¬5) من قوله: "قالوا إن إخوانك" إلى هنا سقط من (خ). (¬6) في (م): "اقرأ". (¬7) في (غ) و (ر): "بحزائمهم" بالحاء، وفي (م): "بحرائهم"، أو: "بحرابهم"، وفي (خ) و (ت): "حقه"، والتصويب من مصادر التخريج، وهو قريب مما في (غ) و (ر). وأما معناه: فقال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" (2/ 29): "الخزام: جمع خِزَامة، وهي حَلَقة من شعر تجعل في أحد جانبي مَنْخِرَي البعير، ومنه: حديث أبي الدرداء: "اقرأ عليهم السلام، ومُرْهم أن يُعْطوا القرآن بخزائمهم"؛ هي: جمع خِزَامة؛ يريد به الانقياد لحكم القرآن، وإلقاء الأزِمَّة إليه. ودخول الباء في "خزائمهم" ـ مع كون أعطى يتعدّى إلى مفعولين ـ؛ كدخولها في قوله: أعطى بيده: إذا انقاد ووكل أمره إلى من أطاعه ... " إلخ. (¬8) أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 141 رقم 30162)، وعبد الرزاق (3/ 368 رقم 5996)، والدارمي (2/ 526) من طريق أيوب به. وأبو قلابة لم يسمع من أبي الدرداء كما قال أبو حاتم. انظر (ص211) من "جامع التحصيل". (¬9) قوله: "دل": سقط من (خ). (¬10) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: جواب "أمّا"؛ أي: فظاهر الأمر فيه ... إلخ، وما قبله اعتراض. اهـ.

مَشْرُوعٍ. ويبيِّن (¬1) ذَلِكَ مِنَ الأَدلة: عُمُومُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ عملٍ ليسَ عَلَيْهِ أَمرُنا فَهُوَ رَدٌّ" (¬2). وَهَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ اتِّصَافِهِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ عملٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمره عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَهُوَ إِذاً ردٌّ؛ كَصَلَاةِ (¬3) الْفَرْضِ مَثَلًا إِذا صَلَّاهَا الْقَادِرُ الصَّحِيحُ قَاعِدًا، أَو سبَّح فِي مَوْضِعِ القراءَة، أَو قرأَ (¬4) فِي مَوْضِعِ التَّسْبِيحِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ. وَقَدْ نَهَى ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ (¬5)، وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا (¬6)، فَبَالَغَ كَثِيرٌ مِنَ العلماءِ فِي تَعْمِيمِ النَّهْيِ، حَتَّى عَدُّوا صَلَاةَ الْفَرْضِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ، فَبَاشَرَ النهيُ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ اتِّصَافِهَا بأَنها وَاقِعَةٌ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، كَمَا اعْتَبَرَ فِيهَا الزَّمَانَ بِاتِّفَاقٍ فِي الْفَرْضِ، فَلَا تُصَلَّى الظُّهْرُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا الْمَغْرِبُ قَبْلَ الْغُرُوبِ. وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ صِيَامِ الْفِطْرِ والأَضحى (¬7)، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى بُطْلَانِ الْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشهر الْحَجِّ. فكلُّ مَنْ تعبَّد لِلَّهِ تَعَالَى بشيءٍ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي غَيْرِ أَزمانها فقد تعبَّد بِبِدْعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ لَا إِضافية، فَلَا جِهَةَ لَهَا إِلى (¬8) الْمَشْرُوعِ، بَلْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا جِهَةُ الِابْتِدَاعِ، فَلَا ثَوَابَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ. فَلَوْ فَرَضْنَا قَائِلًا يَقُولُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ في وقت الكراهية، أَو ¬

(¬1) في (خ): "وتبين"، وفي (م): "ويتبين" وفي (ت) "وتبيين". (¬2) أخرجه البخاري (2697) بلفظ: "من أحدث في أمرنا ... "، ومسلم (1718) (18) بلفظ: "من عمل عملاً ... ". (¬3) في (ر) و (غ): "فهو إذاً مردود كالصلاة". (¬4) في (غ) و (ر) و (م): "وقرأ". (¬5) أخرجه البخاري (581)، ومسلم (826) من حديث عمر رضي الله عنه. (¬6) أخرجه البخاري (582)، ومسلم (828) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (¬7) تقدم تخريجه (ص309). (¬8) في (غ): "على".

صِحَّةِ (¬1) الصَّوْمِ الْوَاقِعِ يَوْمَ (¬2) الْعِيدِ. فَعَلَى فَرْضِ (¬3) أَن النَّهْيَ رَاجِعٌ إِلى أَمرٍ لَمْ يَصِرْ للعبادة كالوصف (¬4)، بل لأَمرٍ (¬5) مُنْفَكٍّ مُنْفَرِدٌ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ بِحَوْلِ اللَّهِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ: مَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي بَعْضِ النَّاسِ؛ كَالَّذِي حَكَى القَرَافي (¬6) عَنِ العَجَم فِي اعْتِقَادِ كَوْنِ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، فإِن قراءَة سُورَةِ السَّجْدَةِ لَمَّا الْتُزِمَتْ فِيهَا وحُوفظ عَلَيْهَا؛ اعْتَقَدُوا فِيهَا الرُّكْنِيّة، فَعَدُّوهَا رَكْعَةً ثَالِثَةً، فَصَارَتِ السَّجْدَةُ إِذاً وصفاً (¬7) لازماً، أو جزءًا (¬8) مِنْ صَلَاةِ صُبْحِ الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ أَن تَبْطُلَ. وَعَلَى هَذَا (¬9) التَّرْتِيبِ: يَنْبَغِي أَن تَجْرِيَ الْعِبَادَاتُ الْمَشْرُوعَةُ إِذا خُصَّت بأَزمان مَخْصُوصَةٍ بالرأْي المُجَرَّد، من حيث فهمنا أَن للزمان تلبُّساً بالأَعمال. وعلى الجملة (¬10): فصيرورة ذلك الزائد وصفاً للمزيد فِيهِ مُخْرِجٌ لَهُ عَنْ أَصله، وَذَلِكَ أَن الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ ـ مِنْ حَيْثُ (¬11) هِيَ صِفَةٌ له لا تفارقه ـ هي من جملته. ولذلك لا نقول (¬12): إِن الصفة غير الموصوف (¬13) إِذا كانت لازمة له ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "وصحة". (¬2) قوله: "يوم" غير مقروء في (م)، يشبه أن يكون: "بين". (¬3) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: قوله: "فعلى فرض" إلخ: معناه: فقول هذا القائل مبني ـ أو يبنى ـ على فرض كذا. اهـ. (¬4) علق رشيد رضا أيضاً على هذا الموضع بقوله: قوله: "لم يصر" إلخ: لا يصحّ إلا إذا كان قد سقط من الكلام وصف لكلمة "أمر"؛ كأن يكون أصل الكلام: راجع إلى أمر عارض، وفرّع عليه قوله: "لم يصر" إلخ. ويحتمل أن يكون الأصل: "إلى أمر لم يصر للعبادة كالوصف".اهـ. ولا أرى لازماً لهذا التعليق. (¬5) في (ت) و (خ): "الأمر". (¬6) في الفرق الخامس بعد المائة من كتاب "الفروق" (2/ 315). (¬7) في (ر) و (غ): "وضعاً". (¬8) في (ت) و (خ): "وجزءاً". (¬9) في (غ): "وهذا على". (¬10) في (خ) و (م) و (ت): "على الجملة". (¬11) قوله: "حيث" سقط من (م). (¬12) في (خ) و (ت): "وذلك لأنا نقول". (¬13) في (خ) و (م): "الصفة مع غير الموصوف"، وعلق عليها بهامش (خ) بما نصه:=

حَقِيقَةً أَو اعْتِبَارًا، وَلَوْ فَرَضْنَا (¬1) ارْتِفَاعَهَا عَنْهُ لَارْتَفَعَ الْمَوْصُوفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهَا؛ كَارْتِفَاعِ الإِنسان بِارْتِفَاعِ النَّاطِقِ أَو الضَّاحِكِ. فإِذا كَانَتِ الصِّفَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْمَشْرُوعِ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ؛ صَارَ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، فَارْتَفَعَ اعتبار المشروع الأَصل (¬2). وَمِنْ أَمثلة ذَلِكَ أَيضاً (¬3): قراءَة الْقُرْآنِ بالإِدارة عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، فإِن تِلْكَ الْهَيْئَةَ زَائِدَةٌ على مشروعية القراءَة، وكذلك الذِّكر (¬4) الجَهْري (¬5) الَّذِي اعْتَادَهُ أَربابُ الزَّوايا. وَرُبَّمَا لطُفَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ فَيَشُكُّ فِي بُطْلَانِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، كَمَا وَقَعَ فِي "الْعُتْبِيَّةِ" (¬6) عَنْ مَالِكٍ؛ فِي مسأَلة الِاعْتِمَادِ في الصلاة حتى (¬7) لَا يحرِّك رِجْلَيْهِ، وأَن أَول مَنْ أَحدثه رَجُلٌ قَدْ عُرِفَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ مُسَاءً (¬8) ـ أَي: يساءُ الثناءُ (¬9) عَلَيْهِ ـ، فَقِيلَ لَهُ: أَفَعِيبَ ذلك عليه (¬10)؟ قال: قد عِيبَ ذلك عليه (¬11)، هذا مَكْرُوهٌ مِنَ الْفِعْلِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَن الصَّلَاةَ بَاطِلَةٌ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ وَصْفِ الِاعْتِمَادِ أَن يُؤَثِّرَ فِي الصَّلَاةِ، ولُطْفُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلى كَمَالِ هَيْئَتِهَا. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَن يَكُونَ النَّظَرُ فِي المسأَلة بِالنِّسْبَةِ إِلى اتِّصَافِ الْعَمَلِ بِمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، أَو لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ. فإِذا غَلَبَ الوصف على العمل؛ كان أَقربَ ¬

="صوابه ـ والله أعلم ـ: أن الصفة هي عين الموصوف"، وهذا هو المثبت في (ت). (¬1) في (غ) و (ر) و (م): "فرضت". (¬2) في (ت): "الأصلي"، والمثبت من باقي النسخ، وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: كذا! ولعلها: "الأصلي"، أو: "في الأصل".اهـ. (¬3) قوله: "أيضاً" سقط من (ت). (¬4) قوله: "الذكر" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬5) في (خ): "الجهر". (¬6) كما في "البيان والتحصيل" (1/ 296). (¬7) قوله: "حتى" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬8) في "البيان": "مسمتاً". (¬9) في (خ) و (م): "إلينا". (¬10) قوله: "ذلك عليه" سقط من (خ) و (م). (¬11) من قوله: "قد عرف" إلى هنا في موضعه بياض في (ت).

إِلى الْفَسَادِ، وإِذا لَمْ يَغْلِبْ لَمْ يَكُنْ أَقربَ، وبقي في حكم النظر، فيدخل ها هنا نظرُ الاحتياطِ لِلْعِبَادَةِ إِذا (¬1) صَارَ الْعَمَلُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ. وَاعْلَمُوا أَنه (¬2) حَيْثُ قُلْنَا: إِن الْعَمَلَ الزَّائِدَ عَلَى الْمَشْرُوعِ (¬3) يَصِيرُ وَصْفًا له (¬4) ـ أَو كَالْوَصْفِ ـ فإِنما يُعْتَبَرُ بأَحد أُمور ثَلَاثَةٍ: إِما بِالْقَصْدِ، وإِما بِالْعَادَةِ، وإِما بِالشَّرْعِ. أَما بالقصد: فظاهر (¬5)، بل هو أصل التغيير (¬6) فِي الْمَشْرُوعَاتِ بِالزِّيَادَةِ (¬7) أَو النُّقْصَانِ (¬8). وأَما (¬9) بِالْعَادَةِ (¬10): فَكَالْجَهْرِ وَالِاجْتِمَاعِ فِي الذِّكْرِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ متصوِّفة الزَّمَانِ؛ فإِن بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ بَوْنًا بَعِيدًا؛ إِذ هُمَا كالمتضادَّين عَادَةً. وَكَالَّذِي حَكَى ابْنُ وضَّاح، عَنِ الأَعمش، عَنْ بَعْضِ أَصحابه؛ قَالَ: مَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بِرَجُلٍ يقُصّ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى أَصحابه وَهُوَ يَقُولُ: سبِّحوا (¬11) عَشْرًا، وَهَلِّلُوا عَشْرًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنكم لأَهدى مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو أَضل؛ بل هذه (¬12)؛ يعني: أضل (¬13). ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "إذ". (¬2) في (ت): "واعلموا أننا". (¬3) في (غ) و (ر): "إن العمل على الزائد على المشروع". (¬4) في (خ) و (م) و (ت): "لها". (¬5) في (غ) و (ر): "أما القصد فظاهره". (¬6) في (م): "التشريع". (¬7) من قوله: "أما بالقصد" إلى هنا سقط من (خ). (¬8) في (غ) و (ر): "والنقصان". ومن قوله: "أما بالقصد" إلى هنا سقط من (ت). (¬9) في (خ): "أما". (¬10) في (ر) و (غ): "وأما العادة". (¬11) في (غ) و (ر): "فسبحوا". (¬12) قوله: "بل هذه" مكرر في (ر). (¬13) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (23) من طريق يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن بعض أصحابه، به. وشيخ الأعمش لم يُسمَّ، ويحيى بن عيسى صدوق يخطئ، كما في "التقريب" (7669).=

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَن رَجُلًا كَانَ يَجْمَعُ النَّاسَ فَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً: سُبْحَانَ اللَّهِ! قَالَ: فَيَقُولُ الْقَوْمُ، وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: فَيَقُولُ الْقَوْمُ. قَالَ: فَمَرَّ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنه فقال لهم: لقد (¬1) هديتم لما لم يُهْدَ له (¬2) نَبِيُّكُمْ! وإِنكم لتُمْسِكون بِذَنَبِ ضَلَالَةٍ (¬3). وذُكِر لَهُ: أَن أناساً بِالْكُوفَةِ يسبِّحون بالحَصَى فِي الْمَسْجِدِ، فأَتاهم وَقَدْ كَوَّمَ كلُّ رجل (¬4) منهم بين يديه كُومَةً (¬5) مِنْ حَصَى. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَحْصُبُهُم بِالْحَصَى حَتَّى أَخرجهم مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيَقُولُ: لَقَدْ أَحدثتم بِدْعَةً وَظُلْمًا، وَقَدْ فَضَلتم أَصحاب مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلّم علماً (¬6)!. ¬

=لكن الأثر ثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه، وجاء عنه من طرق كثيرة: فقد أخرجه الطبراني في "الكبير" (9/ 128) رقم (8639) من طريق إسرائيل، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود به بنحوه. وإسناده صحيح. وأخرجه عبد الرزاق (5408) ـ ومن طريقه الطبراني (9/ 125) رقم (8629) ـ عن ابن عيينة، عن بيان، عن قيس بن أبي حازم؛ قال: ذكر لابن مسعود ... ، فذكره بنحوه. وإسناده صحيح. وأخرجه الدارمي في "سننه" (1/ 60 ـ 61)، والطبراني (9/ 127) رقم (8636) من طريقين عن عمرو بن سَلِمة، عن ابن مسعود به، وفيه قصة. (¬1) قوله: "لقد" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬2) قوله: "له" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬3) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (24) من طريق الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة: أن رجلاً ... ، فذكره. وإسناده صحيح إلى عبدة، وعبدة لا تعرف له رواية عن ابن مسعود؛ وإنما يروي عن أصحاب ابن مسعود، وانظر ما قبله. (¬4) في (غ) و (ر): "واحد" بدل "رجل". (¬5) في (ت) و (خ): "كوماً". (¬6) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (21) من طريق عبيد الله بن عمر العمري، عن سيار (في المطبوع: "يسار" وهو خطأ) أبي الحكم: أن عبد الله بن مسعود حُدِّث: أن أناساً ... ، فذكره. وإسناده صحيح إلى سيار أبي الحكم، وهو لم يسمع من ابن مسعود، لكن يشهد له ما قبله، والله أعلم.

فهذه أُمور أَخرجت الذكر (¬1) المشروع عن وَصْفه المعتبر شرعاً إلى وَصْفٍ آخر، فلذلك جعله بدعة، والله أعلم. وأَما الشرع (¬2): فكالذي (¬3) تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الأَوقات الْمَكْرُوهَةِ (¬4)، أَو الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ إِذا صُلِّيَتْ قَبْلَ أَوقاتها، فإِنا قَدْ فَهِمَنَا مِنَ الشَّرْعِ الْقَصْدَ إِلى النَّهْيِ عَنْهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يَكُونُ مُتَعَبَّداً بِهِ (¬5). وَكَذَلِكَ صِيَامُ يَوْمِ الْعِيدِ (¬6). وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاح (¬7) مِنْ حَدِيثِ أَبان بْنِ أَبِي عياش (¬8)؛ قَالَ: لَقِيتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: قَوْمٌ مِنْ إِخوانك مِنَ أَهل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَطْعَنُونَ عَلَى أَحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا وَفِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، وَيَجْتَمِعُونَ يَوْمَ النَّيْروز والمَهْرجان ويصومونهما؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: بِدْعَةٌ مِنْ أَشدّ (¬9) الْبِدَعِ، وَاللَّهِ لَهُمْ أَشدّ تَعْظِيمًا للنَّيْروز والمَهْرجان مِنْ عِيدِهِمْ (¬10). ثُمَّ اسْتَيْقَظَ أَنس بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَقَيْتُ إِلَيْهِ وسأَلته كَمَا سأَلت طَلْحَةَ، فردَّ عليّ مثل قول طلحة، كأَنهما كانا على مِيعاد. ¬

(¬1) قوله: "الذكر" ليس في (غ) و (ر). (¬2) من قوله: "عن وصفه المعتبر" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬3) في (ت) و (خ): "كالذي". (¬4) انظر: (ص335). (¬5) قوله: "به" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬6) انظر: (ص309). (¬7) في "البدع والنهي عنها" رقم (30) من طريق الربيع بن صَبِيح، عن أَبان بن أبي عياش، به. وأَبان: متروك الحديث كما في "التقريب" (143)، والربيع: صدوق سيء الحفظ كما في "التقريب" أيضاً (1905). (¬8) في (خ) و (م): "عباس" وهو خطأ. (¬9) في هامش (ت) ما نصه: "من أشر البدع"؛ كأنه تصويب لما في الأصل، أو نقله من نسخة أخرى. (¬10) في (ت) و (خ): "عبادتهم"، وفي المطبوع من "البدع والنهي عنها": "غيرهم".

فَجَعَلَ صَوْمَ تِلْكَ الأَيام مِنْ تَعْظِيمِ مَا تعظِّمه النصارى (¬1)، وذلك (¬2) القصد لو كان (¬3)؛ أَفسدَ (¬4) العبادة، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ نَحْوَهُ. وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَن رَجُلًا قَالَ لِلْحَسَنِ (¬5): يَا أَبا سَعِيدٍ! مَا تَرَى فِي مَجْلِسِنَا هَذَا؟ قَوْمٌ مِنَ أَهل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا يَطْعَنُونَ عَلَى أَحد نَجْتَمِعُ (¬6) فِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، وَفِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، فنقرأُ كِتَابَ اللَّهِ وَنَدْعُو ربنا، ونصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم (¬7)، وَنَدْعُو لأَنفسنا وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَنَهَى الْحَسَنُ عَنْ ذَلِكَ أَشد النَّهْيِ (¬8). وَالنَّقْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، فَلَوْ لَمْ يَبْلُغِ؛ الْعَمَلُ الزَّائِدُ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ كَانَ أَخف، وَانْفَرَدَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهِ، وَالْعَمَلُ الْمَشْرُوعِ بِحُكْمِهِ، كَمَا حَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبي بَكْرَةَ؛ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الأَسود بْنِ سَرِيع، وَكَانَ مَجْلِسُهُ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ بني إِسرائيل حتى بلغ {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} (¬9)، فَرَفَعَ أَصواتهم الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ جُلُوسًا، فجاءَ مُجَالِدُ بْنُ مَسْعُودٍ متوكِّئاً (¬10) عَلَى عَصَاهُ، فَلَمَّا رآه القوم قالوا: مرحباً، مَرْحَبًا (¬11) اجْلِسْ. قَالَ: مَا كُنْتُ لأَجلس إِليكم، وإِن كان ¬

(¬1) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: لعل الصواب: "المجوس"؛ فإنه من أعيادهم. اهـ. (¬2) في (خ): "وذاك". (¬3) علق رشيد رضا أيضاً هنا بقوله: "كان" تامّة؛ أي: لو وُجِد. اهـ. (¬4) في (ت): "لأفسد". (¬5) أي: البصري. (¬6) في (خ): "تجتمع". (¬7) من قوله: "وندعو ربنا" إِلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬8) أَخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (29) من طريق الربيع بن صَبيح، عن يونس بن عبيد به. والربيع بن صَبيح: تقدم قريباً أنه صدوق سيء الحفظ. (¬9) سورة الإسراء، الآية: (111). (¬10) كذا في (خ) و (ت)، وفي باقي النسخ: "فتوكأ"، وعند ابن وضاح: "يتوكأ". (¬11) قوله: "مرحباً" الثانية من (ر) و (غ) فقط، وهو موافق لما في المطبوع من "البدع والنهي عنها" لابن وضاح.

مجلسكم حسناً، ولكنكم (¬1) صنعتم (¬2) قُبَيْل (¬3) شيئاً أَنكر الْمُسْلِمُونَ، فإِياكم وَمَا أَنكر الْمُسْلِمُونَ (¬4)!. فَتَحْسِينُهُ الْمَجْلِسَ كَانَ لقراءَة الْقُرْآنِ، وأَما رَفْعُ الصَّوْتِ فَكَانَ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْضَمَّ إِلى الْعَمَلِ الْحَسَنِ، حَتَّى إِذا انضمَّ إِليه صَارَ المجموعُ غيرَ مَشْرُوعٍ. وَيُشْبِهُ هَذَا (¬5) مَا فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ (¬6)، عَنْ مَالِكٍ فِي الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ جميعاً فيقرؤون فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهل الإِسكندرية، فكره ذلك، وأَنكر أَن يكون هذا (¬7) مِنْ عَمَلِ النَّاسِ (¬8). وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيضاً عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَحَكَى الْكَرَاهِيَةَ عَنْ مَالِكٍ، وَنَهَى عَنْهَا، وَرَآهَا بِدْعَةً (¬9). وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخرى عن مالك (¬10): وسئل عن القراءَة في المسجد (¬11)، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ بالأَمر الْقَدِيمِ، وإِنما هُوَ شيءٌ أُحدِث (¬12). قال: (¬13) وَلَمْ يأْت آخِرُ هَذِهِ الأُمة بأَهدى مِمَّا كان عليه أَولها، والقرآن حسن. ¬

(¬1) قوله: "ولكنكم" سقط من (غ) و (ر). (¬2) في (ر) و (غ): "وصنعتم". (¬3) في (خ) و (ت): "قبلي"، وفي المطبوع من "البدع": "قبل". (¬4) أَخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (34) من طريق علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أَبي بكرة به. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد، وهو ابن جدعان؛ كما في "التقريب" (4768). (¬5) في (ت): "ويشبه ذلك". (¬6) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 298)، و"الحوادث والبدع" للطرطوشي صفحة (162)، و"الموافقات" للمصنف (3/ 497). (¬7) قوله: "هذا" سقط من (خ) و (ت) و (م). (¬8) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "أي: من عمل جماعة المسلمين في المدينة وهو ما كان يحتجّ به مالك؛ أي: فهو بدعة". (¬9) انظر: "البيان والتحصيل" (2/ 17). (¬10) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 242)، و"الموافقات" للمصنف (3/ 497). (¬11) في (خ) و (م) و (ت): "بالمسجد". (¬12) في (خ): "وأحدث". (¬13) قوله: "قال" من (غ) و (ر) فقط.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ (¬1): يُرِيدُ التِزَام (¬2) القراءَة فِي الْمَسْجِدِ بإِثر صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَلَى (¬3) وَجْهٍ مَّا مَخْصُوصٌ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ كُلُّهُ (¬4) سُنَّةً، مِثْلَ مَا بِجَامِعِ (¬5) قُرْطُبَةَ إِثر صَلَاةِ الصُّبْحِ. قَالَ: فرأَى ذَلِكَ بِدْعَةً. فَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ: "وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ" يَحْتَمَلُ أَن يُقَالَ: إِنه يَعْنِي أَن تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ، وَجَعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُنْفَصِلٌ لَا يَقْدَحُ فِي حُسْنِ قراءَة الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمَلُ ـ وَهُوَ الظَّاهِرُ ـ أَنه يَقُولُ: قراءَة (¬6) القرآن (¬7) حسن على غير هذا (¬8) الوجه، لا على هذا الْوَجْهِ (¬9)؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (¬10): "مَا يُعْجِبُنِي أَن يقرأَ الْقُرْآنُ إِلا فِي الصَّلَاةِ وَالْمَسَاجِدِ، لَا فِي الأَسواق والطُّرُق"، فَيُرِيدُ أَنه لا يقرأُ إِلا على النحو الذي كان يَقْرَؤُهُ السَّلَفُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قراءَة الإِدارة مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُ فَلَا تُفعل أَصلاً، وتحرَّزَ بقوله: "والقرآن حسن" من توهُّم مُتَوهِّم (¬11) أَنه يَكره قراءَة الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، فَلَا يَكُونُ فِي كَلَامِ مَالِكٍ دَلِيلٌ عَلَى انْفِكَاك الِاجْتِمَاعِ مِنَ القراءَة، وَاللَّهُ أَعلم. وأَما الْقِسْمُ الثَّالِثُ ـ وَهُوَ أَن يَصِيرَ الوَصْف عُرْضَةً لِأَنْ يَنْضَمَّ إِلى الْعِبَادَةِ حَتَّى يُعتقد فِيهِ أَنه مِنْ أَوصافها أَو جزءٌ مِنْهَا ـ: فَهَذَا الْقِسْمُ يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ عَنِ الذَّرائع، وَهُوَ وإِن كَانَ فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفِقًا عَلَيْهِ، فَفِيهِ فِي التَّفْصِيلِ نِزَاعٌ بَيْنَ العلماءِ؛ إِذ لَيْسَ كُلُّ ما هو ذَريعة إِلى ممنوع يُمْنَع، ¬

(¬1) في "البيان والتحصيل" (1/ 242). (¬2) في "البيان والتحصيل": "يريد أن التزام". (¬3) في "البيان والتحصيل": "أو على". (¬4) في "البيان والتحصيل": "كأنه". ولعله أشبه بالصواب. (¬5) في "البيان والتحصيل": "ما يفعل بجامع". (¬6) في (ت): "قراءته". (¬7) قوله: "القرآن" سقط من (خ) و (ت). (¬8) قوله: "هذا" سقط من (م)، وفي (خ) و (ت): "ذلك" بدل "هذا". (¬9) قوله: "لا على هذا الوجه" ليس في (خ). (¬10) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 242). (¬11) قوله: "متوهم" سقط من (خ).

بدليل الخلاف الواقع في أَصل (¬1) بُيُوعِ الْآجَالِ، وَمَا كَانَ نَحْوَهَا، غَيْرَ أَن أَبا بَكْرٍ الطَّرْطُوشي يَحْكِي الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا النَّوْعِ اسْتِقْرَاءً مِنْ مَسَائِلَ وَقَعَتْ لِلْعُلَمَاءِ مَنَعُوهَا سَدًا لِلذَّرِيعَةِ، وإِذا ثَبَتَ الْخِلَافُ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ لَمْ يُنْكَر أَن يَقُولَ بِهِ قَائِلٌ فِي بَعْضِ مَا نَحْنُ (¬2) فِيهِ، ولنُمَثِّله أَوَّلاً، ثُمَّ نَتَكَلَّمْ عَلَى حُكْمِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ. فَمِنْ ذلك: ما جاءَ في الحديث مِنْ نَهي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُتَقَدَّم شهرُ رَمَضَانَ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَو يومين (¬3). ووجه ذَلِكَ عِنْدَ العلماءِ: مَخَافةَ أَن يُعَدَّ ذَلِكَ مِنْ جُملة رَمَضَانَ. وَمِنْهُ: مَا ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (¬4) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنه كان لا يقصر في السفر (¬5)، فيقال له: أَلست (¬6) قَصَرْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى! وَلَكِنِّي إِمام النَّاسِ، فيَنْظر إِليَّ الأَعرابُ وأَهل الْبَادِيَةِ أُصلي رَكْعَتَيْنِ، فَيَقُولُونَ: هكذا فُرِضَت (¬7). ¬

(¬1) قوله: "أصل" سقط من (ت) و (خ) و (م). (¬2) في (م): "ما نحو". (¬3) أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (¬4) قوله: "ابن عفان" من (غ) و (ر) فقط. (¬5) علّق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "أخطأ من قال: إن عثمان لم يكن يقصر في السفر مطلقاً، وإنما نُقل عنه أنه صلى تماماً في منى في آخر خلافته، وأنكر عليه ابن مسعود، وكان هذا من أسباب التّأَلُّب عليه، أو: من حجج الذين تألّبوا عليه. وما علل به هنا أحد الأجوبة عنه، ولكنه معزوّ إليه، ولو صحّ عنه لما اعتذر العلماء عنه بعدّة أعذار، أقواها: أنه كان قد تزوّج ونوى الإقامة، أو أن الزواج بعد إقامة". (¬6) في (غ) و (ر): "أليس". (¬7) أما إتمام عثمان رضي الله عنه للصلاة بمنى: فثابت في "الصحيحين" من عدّة طرق، منها: ما أخرجه البخاري (1084)، ومسلم (695) من طريق عبد الرحمن بن يزيد؛ قال: صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فاسترجع! ثم قال: صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان. وأما جعل سبب إتمام عثمان رضي الله عنه، مراعاة حال الأعراب: فأخرجه أبو داود=

فَالْقَصْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ أَو وَاجِبٌ، وَمَعَ ذلك تَرَكَه (¬1) خوفاً أَن يُتَذرَّعَ بِهِ لأَمرٍ (¬2) حادثٍ فِي الدِّينِ غير مشروع. ومنه قصة عمر بن الخطاب (¬3) رضي الله عنه في غَسْله الاحتلام (¬4) من ثوبه (¬5) حَتَّى أَسفر (¬6)، وَقَوْلُهُ لِمَنْ رَاجَعَهُ فِي ذَلِكَ، وأَن يَأْخُذَ مِنْ أَثْوَابِهِمْ مَا يُصَلِّي بِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ عَلَى السِّعَةِ: لَوْ فعلتُه لَكَانَتْ سُنَّة، بَلْ أَغْسِلُ مَا رأَيت، وأَنْضَحُ مالم أَرَ (¬7). ¬

= (1964)، والطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 425) من طريق أيوب، عن الزهري: أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب، لأنهم كثروا عَامَئذٍ، فصلى بالناس أربعاً ليعلمهم أن الصلاة أربع. وأخرجه البيهقي (3/ 144) من طريق عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه، عن عثمان: أنه أتم الصلاة بمنى، ثم خطب الناس فقال: يا أيها الناس! إن السنة سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسنة صاحبيه؛ ولكنه حدث العام من الناس [طَغَامٌ] فخفت أَن يَسْتَنّوا. وأخرجه عبد الرزاق (4277) عن ابن جريج؛ قال: بلغني أنه أوفى أربعاً بمنى قطُّ من أجل أن أعرابياً ناداه في مسجد الخيف بمنى: يا أمير المؤمنين! مازلت أصليها ركعتين منذ رأيتك عام أول صليتها ركعتين، فخشي عثمان أن يظن جهال الناس إنما الصلاة ركعتين؛ وإنما كان أوفاها بمنى قطُّ. قال الحافظ في "الفتح" (2/ 571): "وهذه طرقٌ يقوِّي بعضها بعضاً، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام". (¬1) في (غ) و (ر): "فتركه". (¬2) في (ت): "إلى أمر". (¬3) قوله: "ابن الخطاب" من (غ) و (ر) فقط. (¬4) في (خ): "في غسله من الاحتلام"، وفي (ت): "في عدم غسله ثوبه من الاحتلام حتى أسفر". (¬5) قوله: "من ثوبه" سقط من (خ). (¬6) علق رشيد رضا أيضاً على هذا الموضع بقوله: "هذا نص نسخة الكتاب. والمراد: أنه تأخر عن الصلاة إلى وقت الإسفار؛ اشتغالاً بغسل ثوبه من أثر الاحتلام؛ إذ لم يكن له سواه". (¬7) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 50)، ومن طريقه الطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 52)، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب ... ، فذكره. قال ابن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بعضهم يقول: سمعت عمر، وهذا باطل؛ إنما هو: عن أبيه؛ سمع عمر. انظر: "تهذيب الكمال" (31/ 436).=

وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسيد: شَهِدْتُ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَا لَا يُضَحِّيَان؛ مَخَافَةَ أَن يُرَى أَنها وَاجِبَةٌ (¬1). وَنَحْوُ ذَلِكَ عن [أبي] (¬2) مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِني لأَترك أُضحيتي ـ وإِني (¬3) لمن أَيْسَرِكم ـ مخافة أَن يَظُنّ الجيران أَنها واجبة (¬4). ¬

=وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1446) عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه: أن عمر أصابته جنابة ... ، فذكره هكذا بزيادة أبيه. وتابع معمراً عليه ابن جريج، فقد أخرجه عبد الرزاق (935) عن معمر وابن جريج ـ قرنهما ـ، عن هشام بن عروة، به كسابقه. ولكن عبد الرزاق عاد فأخرجه (1445) عن ابن جريج وحده، ولم يذكر "عن أبيه". ثم أخرجه عبد الرزاق برقم (1448) من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه. وهذا سند صحيح، وتؤيده الطريق السابقة، وقال الزرقاني في "شرحه للموطأ" (1/ 150): قال أبو عبد الملك: هذا مما عُدَّ أن مالكاً وهم فيه؛ لأن أصحاب هشام: الفضل بن فضالة، وحماد بن سلمة، ومعمراً قالوا: عن هشام، عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه، فسقط لمالك "عن أبيه". (¬1) ذكره الشافعي في "الأم" (2/ 224) بلاغاً قال: بلغنا أن أبا بكر وعمر ... فذكره. وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (4/ 381)، والطبراني في "الكبير" (3/ 182)، والطحاوي في "شرح المعاني" (4/ 174)، والبيهقي (9/ 265)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 358) من طريق جماعة عن الشعبي، عن حذيفة بن أَسِيد به. وعلقه ابن عبد البر في "التمهيد" (3/ 194). قال الدارقطني في "العلل" (1/ 286): "محفوظ عن الشعبي، عنه". وصححه النووي في "المجموع" (8/ 279)، والحافظ في "الدراية" (2/ 215)، والشيخ الألباني في "الإرواء" (4/ 355). (¬2) في جميع النسخ: "ابن"، والتصويب من مصادر التخريج. (¬3) في (غ) و (ر): "قال وإني". (¬4) أخرجه عبد الرزاق (4/ 383)، وسعيد بن منصور كما في "التلخيص الحبير" (4/ 145)، والبيهقي (9/ 265)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 358) من طريق أبي وائل، عن أبي مسعود به. وعلّقه ابن عبد البر في "التمهيد" (23/ 194). وإسناده صحيح، وصححه الحافظ في "التلخيص" (4/ 145)، والشيخ الألباني في "الإرواء" (4/ 355).

وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَدْ كَرِهَ (¬1) مَالِكٌ (¬2) إِتْباعَ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَوَافَقَهُ أَبو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: لَا أَستحبها، مَعَ مَا جاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (¬3)، وأَخبر مَالِكٌ (¬4) عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُقتدى بِهِ (¬5): أَنهم كَانُوا لَا يَصُومُونَهَا وَيَخَافُونَ بِدَعَتَهَا. وَمِنْهُ: ما تقدم (¬6) في اتباع الآثار (¬7)؛ كمجيءِ "قبا" (¬8)، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ: فكلُّ عَمَلٍ أَصله ثَابِتٌ شَرْعًا، إِلا أَن فِي إِظهار (¬9) الْعَمَلِ بِهِ والمُدَاومة (¬10) عَلَيْهِ مَا يُخاف أَن يُعتقد أَنه سُنَّةٌ، فَتَرْكُهُ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ أَيضاً، مِنْ بَابِ سَدّ الذَّرائع، وَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ دعاءَ التوجُّه بَعْدَ الإِحرام، وَقَبْلَ القراءَة (¬11)، وَكَرِهَ غَسْلَ اليد قبل الطعام (¬12)، وأَنكر على ¬

(¬1) في (خ): "وقد ذكره". (¬2) في "الموطأ" (1/ 311). وانظر ما تقدم (ص357 ـ 358) من المجلد الأول، وما سيأتي (ص355 و491 ـ 493). (¬3) أخرج مسلم (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعاً: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر". (¬4) في الموضع السابق من "الموطأ". (¬5) قوله: "به" سقط من (ر). (¬6) (ص248) من هذا المجلد. (¬7) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "أي: ترك الصحابة اتباع الأماكن التي صلى فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو جلس فيها، ونهيهم عند ذلك". (¬8) انظر "البدع والنهي عنها" لابن وضاح (ص91). (¬9) في (ر) و (غ): "الإظهار". (¬10) في (ر) و (غ): "أو المداومة". (¬11) المقصود بالإحرام هنا: التكبير للصلاة، قال في "المدونة" (1/ 66): " .... وكان مالك لا يرى هذا الذي يقوله الناس، سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، وكان لا يعرفه". وقال: "قال مالك: ومن كان وراء الإمام، ومن هو وحده، ومن كان إِماماً، فلا يَقُل: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ولكن يكبروا، ثم يبتدؤا القراءة". وهو في كتب المالكية، ففي "التاج والإكليل" (1/ 538): أن ابن حبيب قال في دعاء التوجه: "يقوله بعد الإقامة، وقبل الإحرام". (¬12) ذكر القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (2/ 99) أن الإمام مالكاً دخل على=

مَنْ جَعَلَ ثَوْبَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَمامه فِي الصف (¬1). فلنرجع (¬2) إِلى مَا كُنَّا فِيهِ: فَاعْلَمُوا أَنه إِن ذَهَبَ مجتهدٌ إِلى عَدَمِ سَدِّ الذَّرِيعة فِي غَيْرِ مَحلِّ النَّصِّ مِمَّا يَتَضَمَّنُهُ (¬3) هَذَا الْبَابُ، فَلَا شَكَّ أَن الْعَمَلَ الْوَاقِعَ عِنْدَهُ مَشْرُوعٌ، وَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَجْره. وَمَنْ ذَهَبَ إِلى سَدِّها ـ وَيَظْهَرُ (¬4) ذَلِكَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ ـ، فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مَمْنُوعٌ، وَمَنْعُهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنه مَلُوم عليه، وموجب للذَّم، إِلا أَن يذهب ذاهب (¬5) إِلى أَن النَّهْيَ فِيهِ رَاجِعٌ إِلى أَمر مُجَاوِرٍ، فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاشْتِبَاهٍ رُبَّمَا يُتَوَهَّم فِيهِ انْفِكَاكُ الأَمرين، بِحَيْثُ يَصِحُّ أَن يَكُونَ الْعَمَلُ مأْموراً بِهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ جِهَةِ مَآلِهِ. وَلَنَا فِيهِ مَسْلَكَانِ: أَحدهما: التمسُّك بمجرَّد النَّهْيِ فِي أَصل المسأَلة؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا} (¬6)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬7). وفي الحديث: أَنه عليه الصلاة والسلام نهى أَن يُجْمَعَ بين المُتَفَرِّق (¬8)، ويُفَرَّقَ بين (¬9) ¬

=عبد الملك بن صالح أمير المدينة، فجلس ساعة، ثم دعا بالطعام والوضوء، فقال: ابدأوا بأبي عبد الله، فقال مالك: إن أبا عبد الله ـ يعني نفسه ـ لا يغسل يده، فقال: لِمَ؟! قال: ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، إنما هو من زيّ الأعاجم، وقد نهى عمر عن أمر الأعاجم، وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه. فقال له عبد الملك: أأترك يا أبا عبد الله؟! فقال: إي والله! فما عاد إلى ذلك ابن صالح. قال مالك: ولا آمر الرجل أن لا يغسل يده، ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه، فلا! أميتوا سنة العجم، وأحيوا سنن العرب، أما سمعت قول عمر رحمه الله: تمعددوا، واخشوشنوا، وامشوا حفاة، وإياكم وزيّ الأعاجم؟!. (¬1) وقصته في ذلك مع ابن مهدي سيذكرها المؤلف بتمامها (ص 408) فراجعها هناك. (¬2) في (خ): "ولنرجع". (¬3) في (غ) و (ر): "ينتضمه". (¬4) في (م): "وتظهر". (¬5) قوله: "ذاهب" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬6) سورة البقرة: الآية (104). (¬7) سورة الأنعام: الآية (108). (¬8) في (ر) و (غ): "المفترق". (¬9) قوله: "بين" ليس في (خ) و (م) و (ت).

المُجْتَمِع خشية الصدقة (¬1). ونهى عن البيع والسَّلَف (¬2)، وَعَلَّلَهُ العلماءُ بِالرِّبَا المُتَذَرَّع إِليه فِي ضِمْنِ السَّلَفِ. وَنَهَى عَنِ الخَلْوة بالأَجنبيات، وَعَنْ سَفَرِ المرأَة مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ (¬3)، وأَمر النساءَ بِالِاحْتِجَابِ عَنْ أَبصار الرِّجَالِ (¬4)، وَالرِّجَالَ بغَضّ الأَبصار (¬5)، إِلى أَشباه ذَلِكَ مِمَّا عَلَّلُوا الأَمر فِيهِ وَالنَّهْيَ بالتذرُّع لَا بِغَيْرِهِ. وَالنَّهْيُ أَصله أَن يَقَعَ عَلَى المنهيِّ عَنْهُ وإِن كَانَ مُعَلَّلاً، وصَرْفُهُ إِلى أَمر مُجَاوِرٍ (¬6) خِلَافُ أَصل الدَّلِيلِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنِ الأَصل إِلا بِدَلِيلٍ. فكلُّ عِبَادَةٍ نُهِيَ عَنْهَا فَلَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ؛ إِذ لَوْ كَانَتْ عِبَادَةً لَمْ يُنْهَ عَنْهَا، فَالْعَامِلُ بِهَا عَامِلٌ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَإِذَا اعتَقد فِيهَا التعبُّد مَعَ هَذَا النَّهْيِ كَانَ مُبْتَدِعًا بِهَا. لَا يُقَالُ: إِن نَفْسَ التَّعْلِيلِ يُشْعِر بالمُجاورة، وإِن الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ غَيْرُ الَّذِي أُمر بِهِ، وانفكاكها مُتَصَوَّر؛ لأَنا نَقُولُ: قَدْ تقرَّر أَن المجاوِر إِذا صَارَ كَالْوَصْفِ اللَّازِمِ انْتَهَضَ النَّهْيُ عَنِ الْجُمْلَةِ، لَا عَنْ نَفْسِ الْوَصْفِ بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ مُبَيَّن في القسم الثاني. ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1450) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لعل الأصل: "عن بيع السلف".اهـ. والحديث أخرجه الطيالسي (2257)، وابن أبي شيبة (4/ 451)، وأحمد (2/ 174 ـ 175، و178 ـ 179)، وأبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (7/ 288)، والحاكم (2/ 17)، والبيهقي (5/ 340) وغيرهم من طريق عمرو بن شعيب؛ قال: حدثني أبي، عن أبيه، حتى ذكر عبد الله بن عمرو؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: "لا يحلّ سلف وبيع ... " الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم، وابن عبد البر. كما في "التمهيد" (24/ 384). (¬3) أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341)، كلاهما مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب؛ يقول: "لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم". (¬4) لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} الآية ولقوله صلّى الله عليه وسلّم لسودة: "واحتجبي منه". أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457). (¬5) لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية. (¬6) في (م): "مجاوز".

والمسلك (¬1) الثَّانِي: مَا دلَّ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ على أَن الذريعة (¬2) فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ المُتَذرَّع إِليه، وَمِنْهُ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (¬3) مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "إن (¬4) مِنْ أَكبر الْكَبَائِرِ أَن يَسُبَّ الرجلُ وَالِدَيْهِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهَلْ يسبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ (¬5)؟! قَالَ: "نَعَمْ (¬6)؛ يسبُّ أَبا الرَّجُلِ فيسُبّ أباه (¬7)، ويسبُّ أُمَّه فيسبُّ أُمَّه" (¬8). فَجَعَلَ سَبَّ الرَّجُلِ لِوَالِدَيْ (¬9) غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ سَبِّه لوالدي (¬10) نفسه، حتى عَدَّها (¬11) تَرْجَمَهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: "أَن يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ"، وَلَمْ يَقُلْ: أَن يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْ مَنْ يَسُبُّ وَالِدَيْهِ، أَو نَحْوَ ذَلِكَ. وَهُوَ غَايَةُ في مَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَعَ أُمّ وَلَد زَيْدِ بْنِ أَرْقَم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَوْلُهَا: أَبلغي (¬12) زيدَ بْنَ أَرقم أَنه قَدْ أَبطل جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِن لَمْ يَتُبْ (¬13). وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ فِيمَنْ فَعَلَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، لَا ¬

(¬1) في (ت) و (خ) و (م): "المسلك". (¬2) في (ت) و (خ): "الذرائع". (¬3) أخرجه البخاري (5973)، ومسلم (90) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬4) قوله: "إن" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬5) قوله: "والديه" مكرر في (ر). (¬6) قوله: "نعم" سقط من (غ) و (ر). (¬7) في (ت) و (خ): "فيسب أباه وأمه". (¬8) قوله: "ويسب أمه فيسب أمه" سقط من (ت) و (خ)، وقوله: "فيسب أمه" سقط من (م). (¬9) في (غ): "والدي". (¬10) في (خ) و (م) و (ت): "لوالديه". (¬11) قوله: "عدها" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬12) في (خ) و (م): "أبلغني". (¬13) في (خ): "يبت"، ولذا علق عليها رشيد رضا بقوله: "العبارة كما ترى مبتورة، ولعل ها هنا حذفاً، وفي سائر الكلام تحريفاً. والحديث أخرجه عبد الرزاق (8/ 184 ـ 185) واللفظ له، وأحمد كما في "إعلام الموقعين" (3/ 167)، و"نصب الراية" (4/ 16)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 546)، والدارقطني (3/ 52)، والبيهقي (5/ 330 ـ 331) من طريق أبي إسحاق، عن امرأته: أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية، فبعتها من زيد بن أرقم بثمان مئة إلى أجل، ثم اشتريتها منه بست مئة، فنقدته الست مئة وكتبت عليه ثمان مئة. فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت! وبئس والله ما اشترى! أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أن يتوب. فقالت المرأة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل؟ قالت:=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} الآية أو قالت: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الآية. وأخرجه عبد الرزاق (8/ 185)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 49) من طريق سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن امرأته قالت: سمعت امرأة أبي السفر سألت عائشة فذكرته. وامرأة أبي السفر ذكرها ابن سعد في "الطبقات" (8/ 488)، وابن حجر في "تعجيل المنفعة" (1722). وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (8/ 487)، والدارقطني (3/ 52) ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 184)، وأخرجه البيهقي (5/ 331) من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أمه العالية بنت أيفع قالت: حججت أنا وأم محبة فدخلنا على عائشة فسلمنا عليها ... فقالت لها أم محبة: كانت لي جارية ... فذكرته. قال الدارقطني: أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما. وكذا أعله الشافعي في "الأم" (3/ 38)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 29) و (9/ 47، 49). ورد هذا الإعلال ابن القيم، وابن التركماني، وابن الجوزي، وابن عبد الهادي بأن العالية معروفة غير مجهولة. قال ابن التركماني: "العالية معروفة، روى عنها زوجها وابنها وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، ومالك، وابن حنبل، والحسن بن صالح ... ". "الجوهر النقي" (5/ 330). وقال ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 184): قالوا: العالية امرأة مجهولة، فلا يقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأة جليلة القدر معروفة، ذكرها محمد بن سعد في كتاب "الطبقات" فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة. اهـ وانظر: "الطبقات" (8/ 487) وقال ابن القيم: "وفي الحديث قصة تدل على أنه محفوظ، وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها، بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها فيها وحفظها لها ... ". انظر: "تهذيب السنن" (9/ 246). وقال في "إعلام الموقعين" (3/ 167): "رواه أحمد وعمل به، وهذا حديث فيه شعبة، وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه ... " إلخ كلامه رحمه الله. وقال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 484): "وهذا الأثر مشهور". وقال ابن عبد الهادي في "التنقيح" ـ كما في "نصب الراية" (4/ 16) ـ: "إسناده جيد". وانظر ترجمة امرأة أبي السفر في "الطبقات" (8/ 488)، و"تعجيل المنفعة" (1722)، وترجمة أم محبة في "الطبقات" (8/ 488).

مِمَّا (¬1) فِعْلُهُ كَبِيرَةٌ، حَتَّى نَزَعَتْ (¬2) آخِرًا بِالْآيَةِ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (¬3)، وهي نازلة في عَيْن (¬4) الْعَمَلِ بِالرِّبَا، فعدَّت الْعَمَلَ بِمَا يُتَذَرَّعُ بِهِ إِلى الرِّبَا (¬5) بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالرِّبَا، مَعَ أَنا نَقْطَعُ أَن زَيْدَ بْنَ أَرقم وأُمَّ وَلَدِهِ لم يقصدا قَصْدَ الرِّبَا، كَمَا لَا يُمْكِنُ ذَا عَقْلٍ أَن يَقْصِدَ وَالِدَيْهِ بالسَّبّ. وإِذا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الذَّرَائِعِ؛ ثَبَتَ فِي الْجَمِيعِ، إِذ لا فرق يُدَّعى (¬6) فيما (¬7) لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، إِلا أُلزِمَ (¬8) الخصمُ مِثْلَهُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. فَلَا عِبَادَةَ أَو مُبَاحًا يُتَصَوَّر فِيهِ أَن يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلى غَيْرِ جَائِزٍ، إِلا وَهُوَ غَيْرُ عِبَادَةٍ وَلَا مُبَاحٍ. لكن هذا القسم إِنما يكون النهي عنه (¬9) بِحَسَبِ مَا يَصِيرُ وَسِيلَةً إِليه فِي مَرَاتِبِ النَّهي، إِن كَانَتِ الْبِدْعَةُ مِنْ قَبِيلِ الْكَبَائِرِ، فَالْوَسِيلَةُ كَذَلِكَ، أَو مِنْ (¬10) قَبِيلِ الصَّغَائِرِ، فَهِيَ كَذَلِكَ، أَو من قبيل المكروهات فَهِيَ كَذَلِكَ (¬11)، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ المسأَلة يتَّسع، وَلَكِنَّ هَذِهِ الإِشارة كَافِيَةٌ فِيهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ¬

(¬1) في (خ) و (م) و (ت): "لا ممن". (¬2) في (خ): "ترغب". ومعنى "نزعت": استشهدت. (¬3) سورة البقرة: الآية (275). (¬4) في (خ) و (ت) و (م): "غير". (¬5) قوله: "إلى الربا" سقط من (ت). (¬6) في (خ) و (م): "فيما لم يدعى". (¬7) في (ت): "إذ لا فرق فيما يدعى وفيما". (¬8) في (ت): "إلا إلزام". (¬9) قوله: "عنه" سقط من (خ) و (م)، وفي (ت): "فيه" بدل "عنه". (¬10) في (خ) و (م): "كذلك ومن". (¬11) قوله: "أو من قبيل المكروهات فهي كذلك" سقط من (خ) و (م) و (ت).

الباب السادس في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة

الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَحكام الْبِدَعِ وأَنها لَيْسَتْ على رتبة واحدة اعْلَمْ أَنا (¬1) إِذا بَنَيْنَا عَلَى أَن الْبِدَعَ مُنْقَسِمَةٌ إِلى الأَحكام الْخَمْسَةِ؛ فَلَا إِشكال فِي اختلاف رُتبها (¬2)؛ لأَن النَّهْيَ مِنْ جِهَةِ انْقِسَامِهِ إِلى نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ وَنَهْيِ التَّحْرِيمِ يَسْتَلْزِمُ (¬3) أَن أَحدهما أَشد فِي النَّهْيِ مِنَ الْآخَرِ، فإِذا انْضَمَّ إِليهما (¬4) قِسْمُ الإِباحة؛ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِي الأَقسام، فإِذا اجْتَمَعَ إِليها قِسْمُ النَّدْبِ وَقِسْمُ الْوُجُوبِ؛ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا أَوضح، وَقَدْ مَرَّ مِنْ أَمثلتها أَشياءَ كَثِيرَةٌ؛ لَكِنَّا لَا نَبْسُطُ الْقَوْلَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ، وَلَا بَيَانِ رُتَبِهِ بالأَشد والأَضعف؛ لأَنه إِما أَن يكون تقسيماً حقيقياً أَو لا، فإِن لم يكن (¬5) حقيقياً فالكلام فيه عناءٌ، وإِن كان حقيقياً (¬6) فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنه غَيْرُ صَحِيحٍ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّفْرِيعِ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ، وإِن عَرَضَ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ أَو تَفْرِيعٌ فإِنما يذكرُ بِحُكْمِ التَّبَعِ بِحَوْلِ اللَّهِ (¬7). فإِذا خَرَجَ عَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ ثَلَاثَةُ أَقسام: قِسْمُ الْوُجُوبِ، وَقِسْمُ النَّدْبِ، وَقِسْمُ الإِباحة؛ انْحَصَرَ النَّظَرُ فِيمَا بقي، وهو الذي يثبت (¬8) مِنَ التَّقْسِيمِ، غَيْرَ أَنه وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا على وجه واحد، وَنِسْبَةٍ (¬9) إِلَى الضَّلَالَةِ وَاحِدَةٌ؛ فِي قَوْلِهِ: "إِياكم وَمُحْدَثَاتِ الأُمور؛ فإِن كل محدثة بدعة، ¬

(¬1) في (م): "أن". (¬2) في (خ) و (ت) و (م): "رتبتها". (¬3) في (م) و (خ): "يستلزم من". (¬4) في (خ) و (م): "إليها". (¬5) من قوله: "تقسيماً حقيقياً" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬6) في (ت) و (خ): "وإن كان غير حقيقي". (¬7) لفظ الجلالة: "الله" سقط من (خ) و (م)، واستشكله ناسخ (خ)، فوضع ثلاث نقاط (. . .) فوق قوله: "بحول"، وفي (ت): "فنقول" بدل "بحول الله". (¬8) في (خ): "ثبت". (¬9) في (خ) و (م): "ونسبته".

وكل (¬1) بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ (¬2) " (¬3). وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ. فَيَقَعُ السُّؤَالُ: هَلْ لَهَا حكمٌ وَاحِدٌ أَم لَا (¬4)؟ فَنَقُولُ: ثَبَتَ في الأُصول أَن الأَحكام الشرعية خمسة، يخرج عَنْهَا الثَّلَاثَةُ، فَيَبْقَى حُكْمُ الْكَرَاهِيَةِ وَحُكْمُ التَّحْرِيمِ، فَاقْتَضَى النَّظَرُ انْقِسَامَ الْبِدَعِ إِلى الْقِسْمَيْنِ؛ فَمِنْهَا بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَمِنْهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَذَلِكَ أَنها داخلة تحت جنس المنهيَّات؛ والمنهيات (¬5) لا تعدو الكراهة أَو التحريم، فَالْبِدَعُ كَذَلِكَ. هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ ثَانٍ: أَن (¬6) البدع إِذا تُؤُمِّل معقولُها وجدت رتبها مُتَفَاوِتَةً. فَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ؛ كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّه عَلَيْهَا الْقُرْآنُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (¬7) الآية، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (¬8) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} (¬9)، وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ اتَّخَذُوا الدِّينَ ذَرِيعَةً لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ (¬10)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا لا يُشَكّ أَنه كُفْرٌ صُرَاحٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بِكُفْرٍ، أَو يُخْتَلَفُ (¬11): هَلْ هِيَ كُفْرٌ أَم لَا! كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَمَنْ (¬12) أَشبههم مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ. ¬

(¬1) قوله "محدثة بدعة وكل" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬2) قوله: "وكل ضلالة في النار" سقط من (غ) و (ر). (¬3) سبق تخريجه (ص108) من المجلد الأول، و (ص318) من هذا المجلد. (¬4) في (ت): "أو لا". (¬5) قوله: "والمنهيات" سقط من (خ) و (م) و (ت)، ولذا أشكلت العبارة على رشيد رضا فعلّق على هذا الموضع بقوله: لعله سقط من هنا كلمة: "وهي". اهـ. (¬6) في (ت): "وهو أن". (¬7) سورة الأنعام: الآية (136). (¬8) سورة الأنعام: الآية (139). (¬9) سورة المائدة: الآية (103). (¬10) كما في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [الآية: (2) من سورة المنافقون]. (¬11) في (ت): "أو يختلف فيها". (¬12) في (ر) و (غ): "وما".

ومنها ما هو معصية ويُتَّفَقُ على أَنها (¬1) ليست بِكُفْرٍ؛ كَبِدْعَةِ التَّبَتُّل (¬2)، وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ (¬3)، والخِصَاءِ (¬4) بِقَصْدِ قَطْعِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ (¬5). وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ فِي إِتباع رَمَضَانَ بسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ (¬6)، وقراءَة الْقُرْآنِ بالإِدارة (¬7)، وَالِاجْتِمَاعِ للدعاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ (¬8)، وَذِكْرُ السَّلَاطِينِ فِي خُطْبَةِ الْجُمْعَةَ ـ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيُّ (¬9) ـ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ (¬10). فَمَعْلُومٌ أَن هذه البدع ليست في رتبة واحدة، ولا على نسبة واحدة (¬11)، فلا يصح على (¬12) هَذَا أَن يُقَالَ: إِنها عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، هُوَ (¬13) الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، أَو التَّحْرِيمُ (¬14) فَقَطْ. وَوَجْهٌ (¬15) ثَالِثٌ: أَن الْمَعَاصِيَ مِنْهَا صَغَائِرُ، وَمِنْهَا كَبَائِرُ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي الضَّرُورِيَّاتِ، أَوِ الْحَاجِيَّاتِ، أَو التَّكْمِيلِيَّاتِ (¬16)، فإِن كَانَتْ فِي الضَّرُورِيَّاتِ فهي أَعظم الكبائر، وإِن وقعت في التحسينّيات فَهِيَ أَدنى رُتْبَةٍ بِلَا إِشكال، وإِن وَقَعَتْ في الحاجيّات فمتوسطة بين الرتبتين. ¬

(¬1) في (خ) و (م): "عليها" بدل: "على أنها"، وفي (ت): "عليها أنها". وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لعل الأصل، "على أنها ليست بكفر".اهـ. (¬2) تقدم (ص206 ـ 209) تخريج حديث ردّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التبتُّل عَلَى عُثْمَانَ بن مظعون. (¬3) تقدم (ص28) تخريج حديث ابن عباس في قصة نذر أبي إسرائيل أن يصوم ولا يستظلّ. (¬4) تقدم (ص28) حديث ابن مسعود في النهي عن الخصاء خشية العنت. (¬5) في (ر) و (غ): "النكاح". (¬6) انظر: (ص347). (¬7) راجع صفحة (337). (¬8) انظر: ما تقدم (ص275 و278 و316). (¬9) قال العز بن عبد السلام في "فتاويه" (ص393 ـ 395، تحقيق محمد جمعة): "ذكر الصحابة والخلفاء رضي الله عنهم والسلاطين بدعة غير محبوبة، ولا يذكر في الخطبة إلا ما يوافق مقاصدها .. " إلخ ما قال. (¬10) قوله: "ذلك" سقط من (ر). (¬11) قوله: "ولا على نسبة واحدة" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬12) في (ت) و (م) و (خ): "مع" بدل "على". (¬13) في (غ): "وهو". (¬14) في (خ) و (م): "والتحريم". (¬15) في (م) و (خ): "وجه"، ولذا علق عليها رشيد رضا بقوله: لعل الأصل: "ووجه ثالث".اهـ. (¬16) قوله: "أو التكميليات" سقط من (ت).

ثُمَّ إِن كُلَّ رُتْبَةٍ مِنْ هَذِهِ الرُّتَب لَهَا مُكَمِّل، وَلَا يُمْكِنُ فِي المُكَمِّل أَن يَكُونَ فِي رُتْبَةِ المكمَّل؛ فإِن المُكَمِّل (¬1) مَعَ المُكَمَّل (¬2) فِي نِسْبَةِ الْوَسِيلَةِ مَعَ الْمَقْصِدِ، وَلَا تَبْلُغُ الْوَسِيلَةُ رُتْبَةَ الْمَقْصِدِ، فَقَدْ ظَهَرَ تَفَاوُتُ رُتَب المعاصي والمخالفات. وأَيضاً فإِن الضَّرُورِيَّاتِ إِذا تُؤُمِّلَتْ وُجِدَتْ عَلَى مَرَاتِبَ فِي التأْكيد وَعَدَمِهِ، فَلَيْسَتْ مَرْتَبَةُ النَّفْسِ كَمَرْتَبَةِ الدِّينِ، ولذلك (¬3) تُسْتَصْغَرُ حُرْمَةُ النَّفْسِ فِي جَنْبِ حُرْمَةِ الدِّينِ، فَيُبِيحُ الكفرُ الدمَ (¬4)، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الدِّينِ مُبِيحٌ لِتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ والإِتلاف (¬5)؛ فِي الأَمر بِمُجَاهَدَةِ (¬6) الْكُفَّارِ وَالْمَارِقِينَ عَنِ الدِّين (¬7). وَمَرْتَبَةُ الْعَقْلِ وَالْمَالِ (¬8) لَيْسَتْ كَمَرْتَبَةِ النَّفْسِ، أَلا تَرَى أَن قَتْلَ النفس يُبيح القصاص (¬9) بالقتل، بِخِلَافِ الْعَقْلِ (¬10) وَالْمَالِ (¬11)؟ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا بَقِيَ (¬12). وإِذا نُظِر فِي مَرْتَبَةِ النَّفْسِ (¬13) تَبَايَنَتِ الْمَرَاتِبُ، فَلَيْسَ قَطْعُ الْعُضْوِ كَالذَّبْحِ، وَلَا الْخَدْشُ كَقَطْعِ الْعُضْوِ، وَهَذَا كلُّه محلُّ بيانه الأُصول. ¬

(¬1) في (غ) و (ر) و (م): "فإن التكميل". (¬2) قوله: "المكمل" سقط من (م). (¬3) في (خ) و (ت): "وليس" بدل "ولذلك". لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ... } الآية، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "لا يحلّ دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1776). (¬4) في (ر) و (غ): "ولإتلاف". (¬5) في (ر) و (غ): "بجهاد" وفي (م): "مجاهد". (¬6) لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية. (¬7) في (ر) و (غ): "أو المال". (¬8) في (خ) و (ت): "مبيح للقصاص". (¬9) قوله: "بخلاف العقل" سقط من (ر)، وفي موضعه بياض في (غ). (¬10) لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .. } الآية. (¬11) قوله: "سائر ما بقي" سقط من (ر)، وفي موضعه بياض في (غ). (¬12) قوله: "مرتبة النفس" سقط من (ر) وفي موضعه بياض في (غ).

فصل

فصل وإِذا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْبِدَعُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي، وَقَدْ ثَبَتَ التَّفَاوُتُ فِي الْمَعَاصِي، فَكَذَلِكَ يُتَصَوَّر مِثْلُهُ فِي الْبِدَعِ. فَمِنْهَا (¬1): مَا يَقَعُ فِي رتبة (¬2) الضَّرُورِيَّاتِ؛ أَي: أَنه إِخلال بِهَا، وَمِنْهَا: مَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الحاجِيَّات، وَمِنْهَا: مَا يَقَعُ في رتبة التحسينيَّات، وَمَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ: مِنْهُ (¬3) مَا يَقَعُ فِي الدِّينِ، أَو النَّفْسِ، أَو النَّسْلِ، أَوِ الْعَقْلِ، أَو الْمَالِ. فَمِثَالُ وُقُوعِهِ فِي الدِّينِ: مَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِرَاعِ الْكُفَّارِ وَتَغْيِيرِهِمْ (¬4) ملة إِبراهيم عليه السلام، في نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} (¬5). فَرُوِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا أَقوال كَثِيرَةٌ، وَفِيهَا عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ (¬6): أَن الْبَحِيرَةَ مِنَ الإِبل: هي التي يُمْنَعُ (¬7) دَرُّها للطواغيت، والسائبة: هي التي ¬

(¬1) في (م): "فمنهما". (¬2) قوله: "رتبة" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬3) في (خ) و (م): "ومنه"، وفي (ت): "ومنها". (¬4) في (خ) و (م): "وتغيرهم". (¬5) سورة المائدة: الآية (103). (¬6) أخرجه البخاري (4623)، ومسلم (2856)، وابن جرير في "تفسيره" (11/ 131) رقم (12840). قال الأستاذ محمود شاكر ـ رحمه الله ـ في تحقيقه لـ"تفسير ابن جرير": "في المطبوعة والمخطوطة: "يمنع" بالعين، وصوابه بالحاء".اهـ. كذا قال؛ وفيه نظر. قال أبو عبيدة: كانوا يحرمون وبرها ولحمها وظهرها ولبنها على النساء، ويحلون ذلك للرجال، وما ولدت فهو بمنزلتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها. انظر "الفتح" (8/ 284). (¬7) في (ت) و (خ): "يمنح"، وفي باقي النسخ: "يمنع" بالعين، وكتب بجوارها بهامش (م):=

يسيِّبونها لِطَوَاغِيتِهِمْ، وَالْوَصِيلَةُ: هِيَ النَّاقَةُ تبكِّر بالأُنثى، ثُمَّ تُثنِّي بالأُنثى؛ يَقُولُونَ: وَصَلَتْ أُنْثَيَيْنِ (¬1) لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ، فَيَجْدَعُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ. وَالْحَامِي: هُوَ الْفَحْلُ مِنَ الإِبل، كَانَ يَضْرِبُ الضِّراب الْمَعْدُودَةَ؛ فإِذا بَلَغَ ذَلِكَ قَالُوا: حَمِيَ ظَهْرُهُ، فيُترك، فيسمُّونه: الْحَامِيَ. وَرَوَى إِسماعيل الْقَاضِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسلَم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: "إِني لأَعلم ـ أَو إِني (¬2) لأَعرف ـ أَول مَنْ سَيَّبَ السَّوائِب، وأَول من غير عهد إِبراهيم عليه السلام". قَالُوا (¬3): مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَمْرُو (¬4) بْنُ لُحَيٍّ أَبو بَنِي كَعْبٍ، لَقَدْ رأَيته يجُرّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، يُؤْذِي ريحُه أَهلَ النَّارِ، وإِني لأَعرف أَول مَنْ بَحَّر البَحَائِر. قَالُوا: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِج، وَكَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ فجَدَع (¬5) أُذُنَيهما (¬6) وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا، ثُمَّ شَرِبَ أَلبانهما بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَقَدْ رأَيته فِي النَّارِ هو وهما يَعَضَّانه بأَفواههما، ويَخْبِطانه (¬7) بأَخفافهما" (¬8). ¬

="يمنح"، وكأنه يشير إلى أنها في نسخة كذلك، أو جعله تصويباً. وانظر التعليق السابق. (¬1) في (ر) و (غ) و (م): "اثنتين". (¬2) قوله: "لأعلم أو إني" سقط من (خ) و (ت). (¬3) في (خ): "قال: قالوا". (¬4) في (ت): "عمر". (¬5) في (غ) و (م) و (ت): "فجذع". (¬6) في (ر) و (غ): "آذانهما"، وفي (م): "أذناهما". (¬7) في (ر) و (غ): "ويخبطان". (¬8) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 197)، ومن طريقه ابن جرير في "تفسيره" (11/ 120) عن معمر. وأخرجه ابن أبي شيبة (7/ 255 رقم 35819) من طريق هشام بن سعد. كلاهما عن زيد بن أسلم به. وإسناده ضعيف لإرساله. وأخرجه البخاري (4623) عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيّب السوائب". قال الحافظ في "الفتح" (8/ 285): "زاد في رواية أبي صالح عن أبي هريرة عند مسلم: "وبحّر البحيرة، وغيّر دين إسماعيل". وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم مرسلاً ... فذكره، ثم قال: "والأول أصح".اهـ.=

وَحَاصِلُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تَحْرِيمُ مَا أَحلّ اللَّهُ عَلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ بِهِ إِليه، مَعَ كَوْنِهِ حَلَالًا بِحُكْمِ (¬1) الشَّرِيعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَلَقَدْ هَمَّ بَعْضُ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أَن يحرموا على أَنفسهم بعض (¬2) ما أَحل الله لهم (¬3)، وإِنما كَانَ قَصْدُهُمْ بِذَلِكَ الانقطاعَ إِلى اللَّهِ عَنِ الدُّنْيَا وأَسبابها وَشَوَاغِلِهَا، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *} (¬4). وسيأْتي شَرْحُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ إِن شاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُوَ دليلٌ عَلَى أَن تَحْرِيمَ مَا أَحل اللَّهُ ـ وإِن كَانَ بِقَصْدِ سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ ـ منهيٌّ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الشَّرْعِ وَلَا تَغْيِيرٌ لَهُ، وَلَا قُصِدَ فِيهِ الِابْتِدَاعُ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ (¬5) إِذا قُصِدَ بِهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ كَمَا فَعَلَ الكفار؛ أَو قصد به الابتداع في الشريعة، وتمهيد سبيل الضلالة؟ ¬

=أي أن طريق أبي صالح عن أبي هريرة التي فيها أن عمرو بن لحي هو الذي بحر البحائر أصح من طريق زيد بن أسلم التي فيها أنه رجل من بني مدلج، والله أعلم. (¬1) في (ت): "يحكم". (¬2) قوله: "بعض" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬3) قوله: "لهم" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬4) سورة المائدة: الآية (87)، والحديث تقدم تخريجه (ص206 ـ 207). (¬5) قوله: "به" سقط من (ت).

فصل

فصل وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ: مَا ذُكر مِنْ نِحَلِ الْهِنْدِ فِي تَعْذِيبِهَا (¬1) أَنفسها بأَنواع العذاب الشنيع، والتمثيل الفظيع، وَالْقَتْلِ بالأَصناف الَّتِي تَفْزَعُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، كلُّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى (¬2) ـ فِي زَعْمِهِمْ ـ، وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الأَكمل، بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْعَاجِلَةِ، ومبنيٌّ عَلَى (¬3) أُصول لَهُمْ فَاسِدَةٍ اعْتَقَدُوهَا، وبنوا عليها أَعمالهم، حتى (¬4) حَكَى الْمَسْعُودِيُّ (¬5) وَغَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ أَشياءَ فَطَالَعَهَا مِنْ هُنَالِكَ. وَقَدْ وَقَعَ الْقَتْلُ فِي الْعَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَهُوَ قتل الأَولاد لسببين (¬6): أَحَدُهُمَا: خَوْفُ الإِملاق، وَالْآخِرُ: دَفْعُ الْعَارِ الَّذِي كَانَ لَاحِقًا لَهُمْ بِوِلَادَةِ الإِناث، حَتَّى أَنزل اللَّهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (¬7)، وقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ *} (¬8)، وَقَوْلَهُ {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *} (¬9). ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "الهندي تعذيبها". (¬2) في (غ): "العليا". (¬3) في (ر) و (غ): "ومبني عن"، وفي (ت): "وهو مبني على". (¬4) قوله: "حتى" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬5) في "مروج الذهب" (1/ 74 ـ 83). (¬6) في (خ) و (م): "لشيئين". (¬7) سورة الإسراء: الآية (31). (¬8) سورة التكوير: الآيتان (8، 9). (¬9) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (ت) و (خ) و (م)، وبعدها قال: "الآية". (¬10) الآيتان (58، 59) من سورة النحل.

وَهَذَا الْقَتْلُ مُحْتَمَلٌ (¬1) أَن يَكُونَ دِينًا وَشِرْعَةً ابْتَدَعُوهَا، وَيُحْتَمَلُ أَن يَكُونَ عَادَةً تعوَّدوها (¬2)، بِحَيْثُ لَمْ يَتَّخِذُوهَا شِرْعَةً، إِلا أَن اللَّهَ تَعَالَى (¬3) ذمَّهم عَلَيْهَا، فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِالْبِدْعَةِ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْمَعْصِيَةِ، فَنَظَرْنَا هَلْ نَجِدُ لأَحد المُحْتَمَلَيْن عَاضِدًا يَكُونُ هُوَ الأَولى (¬4) فِي حَمْلِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ؟ فَوَجَدْنَا قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} (¬5)، فإِن الْآيَةَ صرَّحت أَن لِهَذَا التَّزْيِينِ سَبَبَيْنِ: أَحدهما: الإِرداءُ وَهُوَ الإِهلاك، وَالْآخَرُ: لَبْس الدِّينِ، وهو قوله: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلا بِتَغْيِيرِهِ وَتَبْدِيلِهِ، أَو الزِّيَادَةِ فِيهِ، أَو النُّقْصَانِ مِنْهُ، وَهُوَ الِابْتِدَاعُ بِلَا إِشكال، وإِنما كَانَ دِينُهُمْ أَولاً دينَ أَبيهم إِبراهيم (¬6)؛ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا بَدَّلُوا فِيهِ، كالبَحيرة، والسَّائبة، ونَصْب الأَصنام، وَغَيْرِهَا، حَتَّى عُدَّ مِنْ جُمْلَةِ دِينِهِمُ الَّذِي يَدِينُونَ بِهِ. وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، فَنَسَبَهُمْ إِلى الافتراءِ ـ كَمَا تَرَى ـ، وَالْعِصْيَانُ مِنْ حيث هو عصيان لا يكون افتراءاً، وإِنما يقع الافتراءُ في نفس التشريع، وفي أَن هَذَا الْقَتْلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا جاءَ مِنَ الدِّينِ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى عَلَى إِثر ذَلِكَ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا} (¬7)، فَجَعَلَ قَتْلَ الْأَوْلَادِ مَعَ تَحْرِيمِ مَا أَحل اللَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الِافْتِرَاءِ، ثُمَّ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: {قَدْ ضَلُّوا}، وَهَذِهِ خاصِّيَّة الْبِدْعَةِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ، فإِذاً ما فعلت الهند نحوٌ مما فعلت الجاهلية. وسيأْتي ذكر (¬8) مَذْهَبُ الْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ فِي شَرْعِيَّةِ الْقَتْلِ. عَلَى (¬9) أَن بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ ¬

(¬1) في (ت): "يحتمل". (¬2) في (خ) و (م) "تعودها". (¬3) في (غ): "أن تعالى". (¬4) في (ر) و (غ): "أولى". (¬5) سورة الأنعام: الآية (137). (¬6) قوله: "إبراهيم" سقط من (خ) و (ت) و (م). (¬7) قوله: "قد ضلوا" ليس في (غ) و (ر). (¬8) قوله: "ذكر" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬9) في (غ): "مع".

لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}: أَنَّهُ (¬1) قَتْلُ الأَولاد (¬2) عَلَى جِهَةِ النَّذْرِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلى اللَّهِ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم (¬3). ¬

(¬1) في (ت): "أن" بدل "أنه". (¬2) قوله: "شركاؤهم أنه قتل الأولاد" سقط من (غ)، وقوله: "شركاؤهم" ليس في (ر). (¬3) أخرجه ابن جرير في "تاريخه" (2/ 327) قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى؛ قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، أنه أخبره: أن امرأة نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة في أمر إن فعلته، ففعلت ذلك الأمر، فقدمت المدينة لتستفتي عن نذرها، فجاءت عبد الله بن عمر، فقال لها عبد الله بن عمر: لا أعلم الله أمر في النذر إلا الوفاء به، فقالت المرأة: أفأنحر ابني؟ قال ابن عمر: قد نهاكم الله أن تقتلوا أنفسكم، فلم يزدها عبد الله بن عمر على ذلك. فجاءت عبد الله بن عباس فاستفتته، فقال: أمر الله بوفاء النذر، والنذر دين، ونهاكم أن تقتلوا أنفسكم، وقد كان عبد المطلب بن هاشم نذر إن توافى له عشرة رهط، أن ينحر أحدهم، فلما توافى له عشرة، أقرع بينهم أيهم ينحر؟ فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب، وكان أحب الناس إلى عبد المطلب، فقال عبد المطلب: اللهم هو أو مئة من الإبل! ثم أقرع بينه وبين الإبل، فطارت القرعة على المئة من الإبل، فقال ابن عباس للمرأة: فأرى أن تنحري مئة من الإبل مكان ابنك ... ". وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/ 88) عن الواقدي، عن محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن ابن عباس بنحوه. لكن هذه متابعة لا يُفرح بها، فمحمد بن عمر الواقدي متروك كما في "التقريب" (6215). وظاهر إسناد ابن جرير الصحة، لكن يشكل عليه أن الحديث أخرجه عبد الرزاق (5/ 313) رقم (9718) عن معمر عن الزهري قال: إن أول ما ذكر من عبد المطلب ... ، فذكره في قصة. فهذا يدلّ على أن الحديث مرسل، وأن الطريق الموصولة معلولة. وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (21/ 85)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (56/ 200)، والخلعي في "فوائده" كما في "إتحاف المهرة" (13/ 364) من طريق عبيد الله بن محمد العتبي، عن أبيه، حدثني عبد الله بن سعيد، عن الصُّنابحي قال: حضرنا مجلس معاوية بن أبي سفيان، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم، فقال بعضهم: الذبيح إسماعيل، وقال بعضهم: بل إسحاق الذبيح، فقال معاوية: سقطتم على الخبير؛ كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاه الأعرابي فقال: يا رسول الله! خلَّفتُ البلاد يابسةً، والماء يابساً، هلك المال، وضاع العيال، فعد عليَّ بما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين! فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينكر عليه. فقلنا: يا أمير المؤمنين،=

وهذا القول (¬1) قَدْ يُشْكِلُ؛ إِذ يُقَالُ: لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اقْتَدَوْا فِيهِ بأَبيهم إِبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لأَن اللَّهَ أَمره بِذَبْحِ ابْنِهِ، فَلَا يكون ذلك اختراعاً وافتراءاً؛ لرجوعه (¬2) إِلى أَصل صحيح، وهو عمل أَبيهم إبراهيم (¬3) عليه السلام. وإِن صح هذا القول تُؤُوِّل (¬4) فعلُ إِبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنه لَمْ يكن شريعة لمن بعده من ذريته، فوجه اختراعه ديناً ظاهرٌ، لاسيما عِنْدَ عُرُوضِ شُبْهَةِ الذَّبْحِ، وَهُوَ شأْن أَهل الْبِدَعِ، إِذ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ شُبْهَةٍ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا؛ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَكَوْنُ ما يفعل (¬5) أَهل الْهِنْدِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ظَاهِرٌ جِدًّا. وَيَجْرِي مَجْرَى إِتلاف النَّفْسِ: إِتلاف بَعْضِهَا؛ كَقَطْعِ عُضْوٍ مِنَ الأَعضاء، أَو تَعْطِيلِ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِهِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلى اللَّهِ بِذَلِكَ، فَهُوَ من ¬

=وما الذبيحان؟ قال: إن عبد المطلب لما أُمر بحفر زمزم؛ نذر لله إن سهَّل الله أمرها أن ينحر بعض ولده، فأخرجهم فأسهم بينهم، فخرج السهم لعبد الله، فأراد ذبحه، فمنعه أخواله من بني مخزوم، وقالوا: أَرْضِ ربَّك وَافْدِ ابنك. قال: ففداه بمائة ناقة. قال: فهو الذبيح، وإسماعيل الثاني. وأخرجه الحاكم (2/ 554) من طريق عبيد الله بن محمد العتبي، عن عبد الله بن سعيد، عن الصُّنابحي به. كذا جاء الراوي عن الصُّنابحي: "عبد الله بن سعيد" عند ابن جرير، والحاكم، وفي الأصلين الخطيين لـ"إتحاف المهرة"، وكذا فيما عزاه السخاوي والسيوطي وغيرهما. ووقع في "تاريخ ابن عساكر": "عبد الله بن سعد"، وهو الذي أثبته محقق "إتحاف المهرة"، فاقتضى التنبيه. والحديث سكت عليه الحاكم. وقال الذهبي: إسناده واهٍ. وقال ابن الجوزي في "المنتظم" (1/ 278): لا يثبت. وقال ابن كثير في "تفسيره" (7/ 30): وهذا الحديث غريب جداً. وقال السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 105) بعد أن عزاه للآمدي في "مغازيه" وابن مردويه: سنده ضعيف. وقال في "الفتاوى" (2/ 35): هذا حديث غريب، وفي إسناده من لا يعرف حاله. وانظر "السلسلة الضعيفة" (1677) للألباني رحمه الله، والله أعلم. (¬1) في (م) و (ت) و (خ): "القتل" بدل "القول". (¬2) في (م) و (خ): "لرجوعها". (¬3) قوله: "إبراهيم" زيادة من (ت) فقط. (¬4) في (ت) و (خ) و (م): "وتؤول". (¬5) في (خ) و (م): "ما تفعل".

جُمْلَةِ الْبِدَعِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ حَيْثُ قَالَ: ردَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التبتُّلَ [على] (¬1) عثمان بن مظعون، ولو أَذن لَهُ لَاخْتَصَيْنَا (¬2). فالخصاءُ بِقَصْدِ (¬3) التَّبَتُّلِ وَتَرْكِ الْاشْتِغَالِ بِمْلَابَسَةِ النِّسَاءِ وَاكْتِسَابِ الأَهل وَالْوَلَدِ مَرْدُودٌ مَذْمُومٌ، وَصَاحِبُهُ مُعْتَدٍ غَيْرُ مَحْبُوبٍ عِنْدَ اللَّهِ، حَسْبَمَا بيَّنه (¬4) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬5)، وكذلك فقؤ العينين (¬6) لئلا ينظر إِلى مالا يحل له، أو ما أَشبه ذلك (¬7). ¬

(¬1) في (ت) و (خ) و (م): "عن"، والتصويب مما تقدم (ص212). (¬2) تقدم تخريجه (ص212). (¬3) من قوله: "التبتل على عثمان" إلى هنا سقط من (ر) و (غ). (¬4) في (خ) و (ت) و (م): "نبه". (¬5) سورة المائدة: الآية (87). (¬6) في (غ) و (ر) و (ت): "العين". (¬7) قوله: "أو ما أشبه ذلك" سقط من (خ) و (م) و (ت).

فصل

فصل وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي النَّسْلِ: مَا ذُكِر من أنكحة الجاهلية التي كانت معهودة فيهم (¬1)، ومعمولاً بها، ومُتَّخذة (¬2) فيها (¬3) كالدين المُسْتَتِبّ (¬4)، وَالْمِلَّةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِي شَرِيعَةِ إِبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَا اخْتَرَعُوا وَابْتَدَعُوا، وَهُوَ عَلَى أَنواع: فجاءَ عَنْ عَائِشَةَ أُم الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَن النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَربعة أَنْحَاءَ: الأَول مِنْهَا: نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ يخطُب الرَّجُلُ إِلى الرَّجُلِ وليَّته أَو ابْنَتَهُ (¬5) فيُصْدِقُها ثُمَّ يَنِكحُها. وَالثَّانِي: نِكَاحُ الِاسْتِبْضَاعِ؛ كَالرَّجُلِ يَقُولُ لامرأَته إِذا طهرتْ مَنْ (¬6) طَمْثِها: أَرسلي إِلَى فُلَانٍ فاستَبْضِعي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زوجها، ولا يمسُّها أَبداً حتى يتبيَّن حملُها من ذلك الرجل الذي تَسْتَبْضِعُ (¬7) مِنْهُ، فإِذا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا؛ أَصابها زَوْجُهَا إِذا أَحب، وإِنما يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابة الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ. وَالثَّالِثُ: أَن يجتمع (¬8) الرَّهْط ما دون العشرة، فيدخلون (¬9) على ¬

(¬1) في (خ) و (ت): "فيها". (¬2) في (ت): "ومتحدة". (¬3) قوله: "فيها" ليس في (غ) و (ر). (¬4) في (ت) و (خ): "المنتسب". (¬5) في (ر) و (غ): "وليته وابنته". (¬6) قوله: "من" سقط من (م). (¬7) في (ت) و (خ) و (م): "يستبضع". (¬8) في (خ): "يجمع". (¬9) في (خ) و (م): "فيدلون"، وكذا في "أصل نسخة (ت) كما ذكر ناسخها، ولكنه أثبتها: "فيتداولون".

المرأَة، كلهم يصيبها، فإِذا حملت ووضعته، ومرَّت ليالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا؛ أَرسلت إِليهم، فَلَمْ يَسْتَطِعْ مِنْهُمْ رَجُلٌ (¬1) أَن يَمْتَنِعَ؛ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، تَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُمُ (¬2) الَّذِي كَانَ مَنْ أَمركم، وَقَدْ وَلَدْتُ، فَهُوَ ابْنُكَ يا فلان! تُسمِّي (¬3) مَنْ أحبَّت بِاسْمِهِ، فيُلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ الرَّجُلُ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يجتمع الناس الكثير (¬4) فَيَدْخُلُونَ عَلَى المرأَة لَا تَمْنَعُ مَنْ جاءَها، وهُنَّ الْبَغَايَا، كُنْ يَنْصِبن عَلَى أَبوابهن راياتٍ تَكُونُ عَلَماً، فَمَنْ أَرادهن دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فإِذا حَمَلَتْ إِحداهن وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا؛ جَمَعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهَا (¬5) الْقَافَةَ، ثُمَّ أَلحقوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ، فالْتَاطَ (¬6) بِهِ ودُعيَ ابْنَهُ، لَا يَمْتَنِعُ (¬7) مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ؛ هَدَمَ نِكَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِلا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ (¬8) مَذْكُورٌ (¬9). وَكَانَ لَهُمْ أَيضاً سننٌ أُخرُ فِي النكاح (¬10) خارجةٌ (¬11) عن مقتضى (¬12) الْمَشْرُوعِ؛ كَوِرَاثَةِ النساءِ كُرْهاً (¬13)، وَكَنِكَاحِ مَا نَكَحَ الأَب (¬14)، وأَشباه ذلك، كلُّها (¬15) جَاهِلِيَّةٌ جَارِيَةٌ (¬16) مَجْرَى الْمَشْرُوعَاتِ عِنْدَهُمْ، فَمَحَا الإِسلامُ ذلك كلَّه والحمد لله. ¬

(¬1) في (غ): "رجل منهم". (¬2) في (ر) و (غ) و (م): "عرفت". (¬3) في (خ): "فتسمي". (¬4) في (ت) و (خ): "الكثيرون". (¬5) في (ر) و (غ): "لهم". (¬6) أي: التزق به. "لسان العرب" (7/ 395). (¬7) في (ر): "ألا يمتنع"، وكذا كان في (غ)، ثم ضرب على الألف. (¬8) "صحيح البخاري" (5127). (¬9) في (ر) و (غ): "مذكور في البخاري". (¬10) في (ت): "سنن في النكاح أخر". (¬11) في (خ) و (ت) و (م): "خارج". (¬12) قوله: "مقتضى" من (ر) و (غ) فقط. (¬13) قال ابن عباس: "كانوا إذا مات الرجل؛ كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت الآية" يعني قوله تعالى في سورة النساء [الآية: 19]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}. أخرجه البخاري (4579). (¬14) في (ر) و (غ): "الآباء" ودل على وجود هذا النكاح عندهم: قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]. (¬15) قوله: "كلها" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬16) في (م): "خارجية".

ثُمَّ أَتى بَعْضُ مَنْ نُسِبَ إِلى الْفِرَقِ ممَّن حرَّف التأْويل فِي كِتَابِ اللَّهِ، فأَجاز نِكَاحَ أَكثر مِنْ أَربع نِسْوَةٍ (¬1)، إِما اقْتِدَاءً ـ فِي زَعْمِهِ ـ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أُحِلّ لَهُ أَكثرُ مِنْ ذَلِكَ أَن يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلى إِجماع الْمُسْلِمِينَ: أَن ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (¬2)، وإِما تَحْرِيفًا (¬3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (¬4)؛ فأَجاز الجمع بين تسع نسوة في ملك (¬5)، ولم يفهم المراد من الواو (¬6)، ولا من قوله: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}، فأَتى بِبِدْعَةٍ أَجراها فِي هَذِهِ الأُمة لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَلَا مُسْتَنَدَ فِيهَا. وَيُحْكَى عَنِ الشِّيعَةِ (¬7) أَنها تَزْعُمُ أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسقط عَنْ أَهل بَيْتِهِ وَمَنْ دَانَ بحبِّهم جَمِيعَ الأَعمال، وأَنهم غَيْرُ مُكَلَّفِينَ إِلا بما تطوّعوا به (¬8)، وأَن الْمَحْظُورَاتِ مُبَاحَةٌ لَهُمْ؛ كَالْخِنْزِيرِ، وَالزِّنَا، وَالْخَمْرِ، وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ، وَعِنْدَهُمْ نِسَاءٌ يُسَمَّيْنَ: النَّوابات (¬9) يَتَصَدَّقْنَ بِفُرُوجِهِنَّ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ رَغْبَةً فِي الأَجر، وَيَنْكِحُونَ ما شاؤوا من الأَخوات والبنات ¬

(¬1) وهم: الشيعة. (¬2) قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" (1/ 451): "قال الشافعي: وقد دلّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله: أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة. وهذا الذي قاله الشافعي مجمع عليه بين العلماء؛ إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة: أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع".اهـ. (¬3) المثبت من (ت)، وفي (خ): "تحريكاً" وفي (م): "تحريك" وفي (ر) و (غ): "لقويفاً". (¬4) سورة النساء: الآية 3. (¬5) في (خ): "ذلك". (¬6) في (ت) و (خ): "الراوي"، وفي (م): "الراو". (¬7) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "يريد بعض فرق الشيعة الباطنية المارقين من الإسلام كما سيأتي في كلامه من عزو ذلك إلى العبيدية المعروفين بالفاطميين، فلا يتوهمنّ أحد أن الشيعة الإمامية أو الزيدية يقولون بذلك".اهـ. (¬8) قوله: "به" سقط من (خ) و (ت). (¬9) في (ر) و (غ): "التوابات"، وفي (ت): "الثوابات".

والأُمهات، لا حرج عليهم (¬1)، ولا في تكثير النساءِ. ومِنْ هؤلاء هم (¬2) العُبَيْديَّة الَّذِينَ مَلَكُوا مِصْرَ وإِفريقية (¬3). وَمِمَّا يُحْكَى عنهم في ذلك: أَنه يكون للمرأَة منهم (¬4) ثلاثة (¬5) أَزواج وأَكثر في بيت واحد يستولدونها، وتَنسب (¬6) الْوَلَدَ لِكُلِّ (¬7) وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَهْنَأُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، كَمَا الْتَزَمَتِ الْإِبَاحِيَّةُ خَرْقَ هَذَا الْحِجَابَ بِإِطْلَاقٍ، وَزَعَمَتْ أَن الأَحكام الشَّرْعِيَّةَ إِنما هي خاصة بالعوام، وأَما الخواص عندهم (¬8) فَقَدْ تَرَقَّوا عَنْ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ، فالنساءُ بإِطلاقٍ حلالٌ لَهُمْ، كَمَا أَن جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ رَطْبٍ ويابسٍ حلالٌ لَهُمْ أَيضاً، مُسْتَدِلِّينَ (¬9) عَلَى ذَلِكَ بِخُرَافَاتِ عَجَائِزَ لَا يَرْضَاهَا ذو عقل {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬10)، فَصَارُوا أَضرَّ عَلَى الدِّين مِنْ مَتْبُوعِهِمْ إِبليس، وكأنّ الشاعر إنما كَنَى عنهم (¬11) لعنهم الله بقوله (¬12): وكنتُ امرَءاً مِنْ جُنْد إِبليسَ فَانْتَهَى ... بيَ الفسقُ حتَّى صَارَ إِبليسُ مِنْ جُنْدِي فَلَوْ ماتَ قَبْلي كنتُ أُحْسِنُ بعدَه ... طرائقَ فِسْقٍ ليسَ يُحْسنُها بعدي ¬

(¬1) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله سقط من هنا: "في ذلك".اهـ. (¬2) كذا في جميع النسخ! وعلّق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لا بد أن تكون كلمة "من" أو كلمة "هم" زائدة. (¬3) في (ت): "أفريقية ومصر". (¬4) قوله: "منهم" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬5) في (ت): "ثلاث". (¬6) في (ر) و (غ): "وينسب". (¬7) في (ر) و (غ): "إلى كل". (¬8) في (ت) و (خ): "منهم" وفي (م): "عنهم". (¬9) قوله: "مستدلين" مكرر في (ت). (¬10) الآية: (30) من سورة التوبة، والآية: (4) من سورة المنافقون. (¬11) قوله: "وكأن الشاعر إنما كنى عنهم" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬12) علق رشيد رضا هنا بقوله: "أي: قول الشاعر منهم".

فصل

فصل وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي الْعَقْلِ: أَن الشَّرِيعَةَ بَيَّنَتْ أَن حُكْمَ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ لَا يَكُونُ إِلا بِمَا شَرَعَ فِي دِينِهِ عَلَى أَلسنة أَنبيائه وَرُسُلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (¬1)، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (¬2) إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ} (¬3) وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (¬4)، وأَشباه ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ والأَحاديث. فخرجتْ عَنْ هَذَا الأَصل فرقةٌ زَعَمَتْ أَن الْعَقْلَ لَهُ مَجَالٌ فِي التَّشْرِيعِ، وأَنه مُحَسِّنٌ ومُقَبِّحٌ، فَابْتَدَعُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ: أَن الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمت، وَنَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شأْن مَنْ مَاتَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وهو يشربها (¬5) قولُه تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} (¬6) الْآيَةَ؛ تأَوّلها قَوْمٌ ـ فِيمَا ذُكِر ـ عَلَى أَن الْخَمْرَ حَلَالٌ، وأَنها دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: {فِيمَا طَعِمُوا} (¬7). فَذَكَرَ إِسماعيل بْنُ إِسحاق، عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (¬8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: شَرِبَ نفرٌ مِنْ أَهل الشَّامِ الخمرَ وَعَلَيْهِمْ يزيد بن أَبي سفيان، ¬

(¬1) سورة الإسراء: الآية (15). (¬2) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م) و (ت). (¬3) سورة النساء: الآية (59). (¬4) سورة الأنعام: الآية (57). (¬5) في (ت): "يشير بها". (¬6) الآية: (93) من سورة المائدة. وقوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} من (ر) و (غ) فقط. (¬7) من قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} إلى هنا سقط من (ت). (¬8) قوله: "ابن أبي طالب" من (ر) و (غ) فقط.

فَقَالُوا: هِيَ لَنَا حَلَالٌ، وتأَوّلوا هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ... }، الْآيَةَ. قَالَ: فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلى عُمَرَ. قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ إِليه: أَن ابْعَثْ بِهِمْ إِليَّ قَبْلَ أَن يُفْسِدوا مَنْ قِبَلَكَ. فَلَمَّا قَدِمُوا على (¬1) عُمَرَ؛ اسْتَشَارَ فِيهِمُ النَّاسَ، فَقَالُوا: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! نَرَى أَنهم قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، [وشَرَعوا] (¬2) فِي دِينِهِ مَا لَمْ يأْذن بِهِ، فَاضْرِبْ أَعناقهم، وعليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَاكِتٌ؛ قَالَ: فَمَا تَقُولُ يَا أَبا الْحَسَنِ؟! فَقَالَ: أَرى أَن تَسْتَتِيبَهُمْ، فإِن تَابُوا جَلَدْتَهُمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ لِشُرْبِهِمُ الْخَمْرَ، وإِن لَمْ يَتُوبُوا ضربتَ أَعناقهم، فإِنهم قَدْ (¬3) كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ [وَشَرَعُوا] (3) فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يأْذن بِهِ الله (¬4). فاستتابهم (¬5)، فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين (¬6). ¬

(¬1) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م) و (ت). (¬2) في (م) و (خ): "إلى". (¬3) في جميع النسخ: "أشرعوا"، والتصويب من مصادر التخريج. (¬4) قوله: "قد" سقط من (م) و (ر) و (غ). (¬5) لفظ الجلالة: "الله" من (غ) فقط، ولم يتضح في (ر)، وسقط من باقي النسخ. (¬6) قوله: "فاستتابهم" في موضعه بياض في (غ). (¬7) أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 499 رقم 28400)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/ 154) عن ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، به. وإسناده ضعيف، عطاء بن السائب اختلط، وابن فضيل ممن روى عنه بعد الاختلاط. قال أبو حاتم: وما روى عنه ابن فضيل ففيه غلط واضطراب، رفع أشياء كان يرويها عن التابعين، فرفعها إلى الصحابة. انظر: "الجرح والتعديل" (6/ 334). وقال الفسوي: وكان عطاء تغير بأَخَرَةٍ، فرواية جرير وابن فضيل وطبقتهم ضعيفة. انظر: "المعرفة والتاريخ" (3/ 84). واختلف على عطاء فيه أيضاً: فرواه ابن حزم في "الإحكام" (7/ 451) من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء، عن محارب بن دثار: أن ناساً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شربوا الخمر ... ، الحديث. وحماد بن سلمة ممن قيل: إنه سمع من عطاء قبل الاختلاط وبعده، ثم هو مرسل كما قال ابن حزم.=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=وهذا الأثر له عن علي طرق أخرى: 1 ـ فمنها: ما أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 842)، وعنه الشافعي في "مسنده" (ص286)، وابن حزم في "إحكام الأحكام" (7/ 450) عن ثور بن زيد: أن عمر ... فذكره. وهذا معضل؛ فإن ثور بن زيد الديلي من أتباع التابعين. انظر: "تهذيب الكمال" (4/ 416). ووصله النسائي في "الكبرى" (3/ 252، 253)، والدارقطني (3/ 166)، والحاكم (4/ 375)، والبيهقي (8/ 320 ـ 321) من طريق يحيى بن فليح، عن ثور، عن عكرمة، عن ابن عباس به مطولاً. ويحيى بن فليح قال فيه ابن حزم: مجهول البتة، والحجة لا تقوم بمجهول. وقال مرة: ليس بالقوي. انظر: "الإحكام" (7/ 453)، و"اللسان" (7/ 342). 2 ـ ومنها: ما أخرجه عبد الرزاق (7/ 378) ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (7/ 450) عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أن عمر شاور الناس في جلد الخمر ... ، وهذا مرسل؛ فعكرمة إنما ولد بعد وفاة عمر رضي الله عنه. 3 ـ ومنها: ما أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" (3/ 153)، والدارقطني (3/ 157)، والحاكم (4/ 374 ـ 375)، والبيهقي (8/ 320) من طريق أسامة بن زيد، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن وبرة الكلبي؛ قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر فذكره. ووقع عند الدارقطني والبيهقي: ابن وبرة. وإسناده ضعيف؛ وبرة الكلبي ذكره الحافظ في "اللسان" (9105) وقال: قال ابن حزم في "الإنصاف": مجهول. وأسامة بن زيد هو الليثي صدوق يهم ولا يحتمل هذا منه عن الزهري. وأخرجه أبو داود (4489) من طريق أسامة بن زيد، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن أزهر فذكره. وأخرجه أحمد (4/ 88)، من طريق أسامة ولم يذكر قصة خالد، وفيه تصريح الزهري بالسماع من عبد الرحمن بن أزهر. ووهم فيه أسامة على الزهري، فقد صرّح الإمام أحمد أن الزهري لم يسمع من عبد الرحمن بن أزهر، نقله ابن أبي حاتم في ترجمة الزهري من "المراسيل" له صفحة (191). وقد بيّن أبو داود في "سننه" أن بينهما عبد الله بن عبد الرحمن بن الأزهر. أخرجه أبو داود (4488)، ومن طريقه البيهقي في "السنن" (8/ 320)، وأخرجه النسائي في "الكبرى" (5283) من طريق عقيل بن خالد، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر عن أبيه، به.=

فَهَؤُلَاءِ اسْتَحَلُّوا بالتأْويل مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِنَصِّ (¬1) الْكِتَابِ، وَشَهِدَ فِيهِمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ بأَنهم شَرَعُوا (¬2) فِي دِينِ اللَّهِ، وَهَذِهِ هِيَ الْبِدْعَةُ بِعَيْنِهَا، فَهَذَا وَجْهٌ. وأَيضاً فإِن بَعْضَ الْفَلَاسِفَةِ الإِسلاميين تأَول فِيهَا غَيْرَ هَذَا (¬3)، وأَنه إِنما يَشْرَبُهَا لِلنَّفْعِ لَا لِلَّهْوِ، وَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، فكأَنها عِنْدَهُمْ (¬4) دواء (¬5) مِنَ الأَدوية، أَوْ غِذَاءٌ صَالِحٌ يَصْلُحُ لِحِفْظِ الصِّحَّة، وَيُحْكَى هَذَا الْعَهْدُ عَنِ ابْنِ سِينَا (¬6). ورأَيت في كلام بعض (¬7) الناس ممن عرف به أَنه كَانَ يَسْتَعِينُ فِي سَهَرِهِ لِلْعِلْمِ وَالتَّصْنِيفِ وَالنَّظَرِ بِالْخَمْرِ، فإِذا رأَى مِنْ نَفْسِهِ كَسَلًا أَو فَتْرة؛ شَرِبَ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُنَشِّطه وَيَنْفِي عَنْهُ الْكَسَلَ. بَلْ ذَكَرُوا فِيهَا (¬8) أَن لَهَا حَرَارَةً خَاصَّةً (¬9) تَفْعَلُ أَفعالاً (¬10) كَثِيرَةً: تُطَيِّبُ (¬11) النفسَ، وتُصَيِّر الإِنسان مُحِبّاً لِلْحِكْمَةِ، وتجعلهُ حسنَ الْحَرَكَةِ، وَالذِّهْنِ، وَالْمَعْرِفَةِ؛ فإِذا اسْتَعْمَلَهَا عَلَى الِاعْتِدَالِ عرف الأَشياء، وفهمها، وتذكرها بعد النسيان (¬12). ¬

=وعبد الله هذا لم يوثقه إلا ابن حبان، وقال الحافظ في "التقريب": مقبول، والله تعالى أعلم. (¬1) في (خ): "وبنص" وعلق عليه رشيد رضا بقوله: إما أن يكون أصل العبارة: "بنص الكتاب" بغير واو، وإما أن يكون: "بالإجماع وبنص الكتاب".اهـ. (¬2) المثبت من (خ)، وفي باقي النسخ: "أشرعوا". (¬3) في (ر) و (غ): "هذه". (¬4) في (ر) و (غ): "عنده". (¬5) قوله: "دواء" من (ر) و (غ) فقط. (¬6) نقل الذهبي في "السير" (17/ 532) عن ابن سينا قوله: وكنت أسهر، فمهما غلبني النوم شربت قدحاً. (¬7) في (ت) و (خ) و (م): "في بعض كلام". (¬8) قوله: "فيها" سقط من (ت). (¬9) في (م): "خالصة". (¬10) في (خ) و (م): "أفعال". (¬11) في (غ): "وتطب"، وفي (ر) و (م): "وتطيب". (¬12) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "كان المفتونون بالخمر من الأطباء والشعراء ينسبون إليها هذه الخواص. نعم! إن سُمَّها يحدث تنبيهاً في الأعصاب، ولكن يعقبه فتور وضعف بمقتضى سنّه ردّ الفعل، فإن عاودها الشارب ـ على حدّ قول أبي نوّاس: وداوني بالتي كانت هي الداء ـ؛ زاد ذلك الضعف والفتور، حتى ينتهي=

فَلِهَذَا ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ كَانَ ابْنُ سِينَا لَا يَتْرُكُ اسْتِعْمَالَهَا ـ عَلَى مَا ذُكر عَنْهُ ـ، وَهُوَ كُلُّهُ ضَلَالٌ مُبِينٌ، عِيَاذًا (¬1) بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَلَا يُقَالُ: إِن هَذَا دَاخِلٌ تَحْتِ مسأَلة التَّدَاوِي بِهَا، وَفِيهَا خِلَافٌ شَهِيرٌ؛ لأَنا نَقُولُ: إِنما ثَبَتَ عَنِ ابْنِ سِينَا أَنه كَانَ يستعملها استعمال الأُمور المنشِّطة من الكسل، والحافظة (¬2) لِلصِّحَّةِ، وَالْقُوَّةِ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الأَعمال، أَو مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، لَا فِي الأَمراض المؤثِّرة فِي الأَجسام. وإِنما الْخِلَافُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الأَمراض لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ متقوِّلون عَلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ، مُبْتَدِعُونَ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ رأْي أَهل الإِباحة فِي الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا، وَلَا تَوْفِيقَ إِلا بِاللَّهِ. ¬

=بالجنون أو غيره من الأمراض القاتلة بإجماع أطباء هذا العصر".اهـ. (¬1) في (ر) و (غ) و (م): "عائذاً". (¬2) في (خ) و (ت): "والحفظ".

فصل

فصل وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي الْمَالِ (¬1): أَن الْكُفَّارَ قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (¬2)، فإِنهم لما استحلّوا العمل به؛ احتجّوا بقياسٍ فاسدٍ، فَقَالُوا: إِذا فَسَخَ الْعَشَرَةَ الَّتِي اشْتَرَى بِهَا إِلى شَهْرٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ إِلى شَهْرَيْنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ إِلى شَهْرَيْنِ، فأَكذبهم اللَّهُ تَعَالَى وَرَدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}؛ أَي (¬3): لَيْسَ الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا. فَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ أَخذوا بِهَا مُسْتَنِدِينَ إِلى رأْيٍ فاسدٍ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ المُحْدَثات؛ كَسَائِرِ مَا أَحدثوا فِي الْبُيُوعِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمُ، الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْخَطَرِ (¬4) وَالْغَرَرِ. وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ قَدْ شَرَعَتْ أَيضاً أَشياءَ فِي الأَموال؛ كَالْحُظُوظِ الَّتِي (¬5) كَانُوا يُخْرِجُونَهَا للأَمير مِنَ الغنيمة، حتى قال شاعرهم (¬6): ¬

(¬1) في (غ): "الآمال". (¬2) سورة البقرة: الآية (275). (¬3) قوله: "أي" سقط من (خ)، وعلق رشيد رضا على موضعه بقوله: لعله سقط من هنا كلمة "أي".اهـ. (¬4) في (ر) و (غ): "الخطار". (¬5) في (خ) و (ت) و (م): "الذي". (¬6) هو عبد الله بن عَنَمَةَ الضّبِّي شاعر مخضرم كما في "تهذيب التهذيب" (5/ 345 ـ 346 رقم 599)، وهذه القصيدة قالها يرثي بها بسطام بن قيس لما قُتل، ومطلعها: لأُِمّ الأرضِ وَيْلٌ ما أَجنَّتْ ... غَدَاةَ أضرَّ بالحَسَن السبيلُ وقد نسبت هذه القصيدة للأصمعي؛ كما في "الأصمعيات" (ص32)، ولعلّه اعتماداً على قول أبي علي القالي في "الأمالي" (1/ 142): "وأنشدنا الأصمعي: لك المرباع منها والصفايا ـ وحكمك والنشيطة والفضول"، ولا يلزم من إنشاد الأصمعي لها أن يكون هو القائل. وانظر "البيان والتبيين" للجاحظ (1/ 199)، و"الحماسة" لأبي تمَّام (1/ 420)، و"معجم مقاييس اللغة" لابن فارس (2/ 479)، و"تاريخ دمشق" لابن=

لَكَ المِرْبَاعُ فِيهَا والصَّفَايا ... وحُكْمُكَ والنَّشِيطَةُ والفُضُولُ فالمِرْباع: رُبع المَغْنَم يأْخذه الرَّئِيسُ. والصَّفَايا: جَمْعُ صَفِيّ (¬1)، وَهُوَ مَا يَصْطَفِيهِ الرَّئِيسُ لِنَفْسِهِ مِنَ المغنم. والحُكْمُ: ما يَحكم (¬2) فيه مِنَ الْمَغْنَمِ (¬3). والنَّشِيطَةُ: مَا يَغْنَمُهُ الْغُزَاةُ فِي الطَّرِيقِ، قَبْلَ بُلُوغِهِمْ إِلى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَصَدُوهُ، فَكَانَ (¬4) يَخْتَصُّ بِهِ الرَّئِيسُ دُونَ غَيْرِهِ. والفُضُولُ: مَا يَفْضُلُ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ. وَكَانَتْ تَتَّخِذُ الأَرضين تَحْمِيهَا عَنِ النَّاسِ أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا وَلَا يَرْعَوْهَا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِقِسْمَةِ الغنيمة في قوله تعالى: {(¬5) عع {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ... } (¬6) إلى آخر الْآيَةَ (¬7)؛ ارْتَفَعَ حُكْمُ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، إِلا بَعْضُ مَنْ جَرَى فِي الإِسلام عَلَى حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَعَمِلَ بأَحكام الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ عَلَى الْعَمَلِ بأحكام الله تعالى. وكذلك جاءَ (¬8): "لا حِمَى إِلا لِلّه (¬9) ورسولِه (¬10) "، ثُمَّ جَرَى بَعْضُ النَّاسِ (¬11) ـ مِمَّنْ (¬12) آثَرَ الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ـ عَلَى سَبِيلِ حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ (¬13)، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬14). ولكن الآية ¬

=عساكر (33/ 296)، و"الكامل" لابن الأثير (1/ 488)، و"لسان العرب" (7/ 414 ـ 415)، و (8/ 101)، و (11/ 526)، و (14/ 462). (¬1) في (ت): "صفية". (¬2) في (ر) و (غ): "ما تحكم". (¬3) قوله: "والحكم ما يحكم فيه من المغنم" سقط من (خ) و (ت). (¬4) في (غ) و (م) و (ر): "فكأنه" (¬5) قوله: "واليتامى" سقط من (غ). (¬6) سورة الأنفال: الآية (41). (¬7) من قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} إلى هنا ليس في (خ) و (م)، ومن قوله تعالى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} إلى هنا ليس في (ت). (¬8) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لعله سقط من هنا كلمة: "في الحديث".اهـ. (¬9) في (خ) و (م) و (ت): "لا حمى إلا حمى الله". (¬10) أخرجه البخاري (2370) و (3012). (¬11) قوله: "الناس" ليس في (غ) و (ر). (¬12) في (غ) و (ر) و (م): "من". (¬13) بعد هذا الموضع في (ت) زيادة: "وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} ". (¬14) الآية: (50) من سورة المائدة.

والحديث وما كان في معناهما أَثبتت (¬1) أَصلاً فِي الشَّرِيعَةِ مُطَّرِدًا لَا يَنْخَرِم، وَعَامًّا لَا يَتَخَصَّص، ومُطْلَقاً لَا يَتَقَيَّد (¬2)؛ وَهُوَ أَن الصَّغِيرَ مِنَ المُكَلَّفين وَالْكَبِيرَ، وَالشَّرِيفَ وَالدَّنِيءَ، وَالرَّفِيعَ وَالْوَضِيعَ؛ فِي أَحكام الشَّرِيعَةِ سَوَاءٌ، فَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى هَذَا الأَصل خَرَجَ مِنَ السُّنَّةِ إِلى الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الِاسْتِقَامَةِ إِلى الِاعْوِجَاجِ. وَتَحْتَ هَذَا الرَّمْزِ تَفَاصِيلُ عظيمةُ الموقعِ، لَعَلَّهَا تُذكر فيما (¬3) بعد إِن شاءَ الله تعالى، وقد أُشير إِلى جملة منها (¬4). ¬

(¬1) في (خ): "أثبت". (¬2) في (ت): "لا يقيد". (¬3) قوله: "فيما" سقط من (غ) و (ر). (¬4) قوله: "وقد أشير إلى جملة منها" سقط من (غ) و (ر).

فصل

فصل إِذا تَقَرَّرَ أَن الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي الذَّمِّ وَلَا فِي النَّهْيِ عَلَى رُتْبَةٍ (¬1) وَاحِدَةٍ، وأَن مِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، كَمَا أَن مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، فَوَصْفُ الضَّلَالَةِ لَازِمٌ لَهَا، وشاملٌ لأَنواعها؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" (¬2). لَكِنْ يَبْقَى هَاهُنَا إِشكال، وَهُوَ: أَنَّ الضَّلَالَةَ ضِدَّ الْهُدَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اُشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} (¬3)، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} (¬4)، وأَشباه ذَلِكَ مِمَّا قُوبِلَ فِيهِ (¬5) بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، فإِنه يَقْتَضِي أَنهما ضِدَّان، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ تُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ، فَدَلَّ عَلَى أَن الْبِدَعَ الْمَكْرُوهَةَ خُرُوجٌ عَنِ الهُدَى. وَنَظِيرِهِ فِي المخالفات التي ليست ببدع: المكروه (¬6) مِنَ الأَفعال؛ كَالِالْتِفَاتِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غير حاجة (¬7)، والصلاة وهو يدافعه ¬

(¬1) في (ت): "درجة" بدل "رتبة". (¬2) سبق تخريجه (1/ 108)، و (ص318) من هذا المجلد. (¬3) سورة البقرة: الآية (16). (¬4) سورة الزمر: الآيتان (36، 37). (¬5) في (غ) و (م) و (ر): "به". (¬6) في (خ) و (م) و (ت): "المكروهة". (¬7) لما أخرجه البخاري (751) من حديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد". قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 234): قوله: "باب الالتفات في الصلاة": لم يبيِّن المؤلف [يعني البخاري] حكمه، لكن الحديث دلّ على الكراهة، وهو إجماع؛ لكن الجمهور على أنها للتنزيه، وقال المتولي: يحرم إلا للضرورة، وهو قول أهل الظاهر. وورد في كراهية الالتفات صريحاً على غير شرطه عدة أحاديث، منها عند أحمد وابن خزيمة من حديث أبي ذر رفعه: "لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه عنه انصرف. اهـ.

الأَخبثان (¬1)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ. وَنَظِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ: "نهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعْزَم (¬2) عَلَيْنَا" (¬3). فَالْمُرْتَكِبُ لِلْمَكْرُوهِ لَا يَصِحُّ أَن يُقَالَ فِيهِ: مخالفٌ (¬4) وَلَا عاصٍ، مَعَ أَن الطَّاعَةَ ضدُّها الْمَعْصِيَةُ، وَفَاعِلُ الْمَنْدُوبِ مُطِيعٌ لأَنه فَاعِلُ ما أُمر بِهِ، فإِذا اعْتَبَرْتَ الضِّدَّ؛ لَزِمَ أَن يَكُونَ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا؛ لأَنه فاعلٌ مَا نُهِيَ عَنْهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عاصٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ فَاعِلُ الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ ضَالًّا (¬5)، وإِلا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اعْتِبَارِ الضِّدِّ فِي الطَّاعَةِ وَاعْتِبَارِهِ فِي الْهُدَى، فَكَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ، فَكَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ، وإِلا فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ، كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ. إِلا أَنه قَدْ تَقَدَّمَ عُمُومُ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ، فليَعُمّ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ لِكُلِّ فِعْلٍ مَكْرُوهٍ، لَكِنَّ (¬6) هَذَا بَاطِلٌ، فَمَا لَزِمَ عَنْهُ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ: أَن عُمُومَ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ ثَابِتٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بسطه ـ، وما أَلْزَمتم (¬7) في الفعل المكروه غير لازم. أَما أَوَّلاً (¬8): فإِنه لَا يَلْزَمُ فِي الأَفعال أَن تُجرى عَلَى الضِّدِّية الْمَذْكُورَةِ إِلا بَعْدَ استقراءِ الشَّرْعِ، ولمّا استقرأنا موارد الأَحكام الشرعية؛ وجدنا بين الطاعة (¬9) وَالْمَعْصِيَةِ وَاسِطَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا ـ أَو كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ـ؛ وهي المباح، وحقيقته: أَنه ليس بطاعة ولا معصية (¬10) من حيث هو مباح. ¬

(¬1) لما أخرجه مسلم (560) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان". (¬2) في (خ) و (ت) و (م): "يحرم". (¬3) أخرجه البخاري (313)، ومسلم (938) من حديث أم عطية رضي الله عنها. (¬4) في (خ): "مخالفاً". (¬5) قوله: "ضالاً" ليس في (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): "ولكن". (¬7) في (خ) و (م) و (ت): "التزمتم". (¬8) قوله: "أما أولاً" سقط من (خ) و (ت). (¬9) في (خ) و (ت): "وجدنا للطاعة". (¬10) قوله: "ولا معصية" سقط من (خ).

فالأَمر وَالنَّهْيُ ضِدَّان، بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَمر وَلَا نَهْيٌ، وإِنما يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّخْيِيرُ. وإِذا تأَمّلنا الْمَكْرُوهَ ـ حَسْبَمَا قَرَّرَهُ الأُصوليون ـ؛ وَجَدْنَاهُ ذَا طَرَفَيْنِ: طَرَفٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ منهيٌّ عَنْهُ، فَيَسْتَوِي مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَق النَّهْيِ، فَرُبَّمَا يُتَوهَّمُ أَن مُخَالَفَةَ نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ مَعْصِيَةً مِنْ حَيْثُ اشْتَرَكَ مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ. غَيْرَ أَنه يَصُدُّ عَنْ هَذَا الإِطلاق الطَّرَفَ الْآخَرَ، وَهُوَ أَن يُعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَاعِلِهِ ذَمّ شَرْعِيٌّ، وَلَا إِثْمٌ وَلَا عِقَابٌ (¬1)، فَخَالَفَ الْمُحَرَّمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَشَارَكَ الْمُبَاحَ فِيهِ؛ لأَن الْمُبَاحَ لَا ذَمّ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلَا إِثْمَ وَلَا عِقَابَ (¬2)، فَتَحَامَوْا أَن يُطْلِقُوا (¬3) عَلَى مَا هَذَا شأْنه عِبَارَةَ الْمَعْصِيَةِ. وإِذا ثَبَتَ هَذَا وَوَجَدْنَا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أَن يدخل تحتها المكروه؛ لم يصح أن يتناوله ضد الطاعة، فلا يطلق عليه لفظ المعصية، بخلاف الهدى والضلال؛ فإنه لا واسطة بينهما في الشرع يصح أن (¬4) ينسب إِليها لفظ (¬5) الْمَكْرُوهُ مِنَ الْبِدَعِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} (¬6). فليس إِلا حق، وهو الهدى، أَو الضلال (¬7)، وهو باطل (¬8)، فالبدع المكروهة ضلال. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "عتاب". (¬2) من قوله: "فخالف المحرم" إلى هنا سقط من (غ) و (ر). (¬3) قوله: "أن يطلقوا" سقط من (غ) و (ر). (¬4) من قوله: "يدخل تحتها" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬5) قوله: "لفظ" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬6) سورة يونس: الآية (32). (¬7) في (خ): "والضلال". (¬8) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: كان الظاهر أن يكون الضلال المعطوف على خبر ليس مساوياً له في التعريف والتنكير، وكلٌّ من خبري المبتدأ مساوياً للآخر كذلك؛ بأن يقول: "فليس إلا حق، وهو الهدى، وضلال هو الباطل"، ويجوز تعريف [الجميع].اهـ.

وأَما ثَانِيًا: فإِن إِثبات قَسْمِ الْكَرَاهَةِ فِي الْبِدَعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا يُنْظَرُ (¬1) فِيهِ، فَلَا يَغْتَرّ (¬2) المُغْتَرّ بإِطلاق الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الفقهاءِ لَفْظُ الْمَكْرُوهِ عَلَى بَعْضِ الْبِدَعِ (¬3)، وإِنما حَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَن الْبِدَعَ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الذَّمِّ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ـ، وأَما تَعْيِينُ الْكَرَاهَةِ (¬4) الَّتِي مَعْنَاهَا نَفْيُ إِثم فَاعِلِهَا، وَارْتِفَاعُ الْحَرَجِ عنه (¬5) البتَّةَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ كَلَامِ الأَئمة عَلَى الْخُصُوصِ. أَما الشَّرْعُ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لأَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: أَما أَنا فأَقوم اللَّيْلَ وَلَا أَنام، وَقَالَ الْآخَرُ (¬6): أَما أَنا فَلَا أَنكح النساءَ ... ، إِلى آخِرِ مَا قَالُوا، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سنتي فليس مني" (¬7). وهذه العبارة من (¬8) أَشد شيءٍ فِي الإِنكار، وَلَمْ يَكُنْ مَا الْتَزَمُوا إِلا فِعْلَ مَنْدُوبٍ أَو تَرْكَ مَنْدُوبٍ إِلى فِعْلِ مَنْدُوبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الحديث: أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟ " فَقَالُوا (¬9): نذر أَن لا يستظل ولا يتكلم ولا يَجْلِسُ وَيَصُومَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: "مُرْهُ (¬10) فليجلس وليتكلم وَلِيَسْتَظِلَّ وَلِيُتِمَّ صَوْمَهُ" (¬11). قَالَ مَالِكٌ (¬12): "أَمره أَن يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ طَاعَةٌ، وَيَتْرُكُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ". وَيُعَضِّدُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ: مَا فِي الْبُخَارِيِّ (¬13) عن قيس بن أَبي ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "ما ينظر". (¬2) في (غ) و (ر): "يغترن". (¬3) قوله: "البدع" سقط من (خ) و (ت)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: ربما سقط من هنا كلمة: "البدع".اهـ. (¬4) في (ر): "الكراهية". (¬5) قوله: "عنه" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬6) قوله: "الآخر" سقط من (غ) و (ر). (¬7) تقدم تخريجه (ص147) من هذا المجلد. (¬8) قوله: "من" سقط من (خ)، و (م) و (ت). (¬9) قوله: "فقالوا" سقط من (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! ولعل الأصل: "قالوا: نذر"، أو: "قيل: نذر" إلخ. اهـ. (¬10) في (ت): "مروه". (¬11) تقدم تخريجه صفحة (28). (¬12) في "الموطأ" (2/ 476)، مع اختلاف يسير. (¬13) انظر "صحيح البخاري" رقم (3834).

حَازِمٍ قَالَ: دَخَلَ أَبو بَكْرٍ (¬1) عَلَى امرأَةٍ من قيسٍ (¬2) يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ، فَرَآهَا لَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: مالها لا تتكلم (¬3)؟ قالوا (¬4): حَجَّتْ مُصْمِتَةً (¬5). قَالَ لَهَا: تكلَّمي؛ فإِن هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فتكلَّمت ... ، الحديث إلى آخره (¬6). وَقَالَ مَالِكٌ أَيضاً (¬7) ـ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مِنْ نَذَرَ أَن يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ" (¬8) ـ: إِن ذَلِكَ أَن يَنْذُرَ الرَّجُلُ أَن يمشي إِلى الشام، أَو إِلى مصر، أَو أَشباه ذلك (¬9) مما ليس لله (¬10) فيه طاعة، إن كَلَّم فُلَانًا (¬11)، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إِن هُوَ (¬12) كلَّمه؛ لأَنه (¬13) لَيْسَ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الأَشياء طَاعَةٌ (¬14)، وإِنما يُوفِي لِلَّهِ بِكُلِّ نَذْرٍ له (¬15) فِيهِ طَاعَةٌ؛ مِنْ مَشْيٍ إِلى بَيْتِ اللَّهِ، أَو صيامٍ، أَو صدقةٍ، أَوْ صلاةٍ، فَكُلُّ ما كان لِلَّهِ (¬16) فِيهِ طَاعَةٌ؛ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ نذره. ¬

(¬1) قوله: "أبو بكر" سقط من (خ)، وعلق على موضعه رشيد رضا بقوله: "أي: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلخ". (¬2) كذا في جميع النسخ! والذي في "صحيح البخاري": "امرأة من أحْمَس". (¬3) قوله: "لا تتكلم" سقط من (خ). (¬4) في (خ) و (م): "فقال"، وفي (ت) "فقيل". (¬5) في (غ) و (ر): "مضمنة". (¬6) في (ت): "فتكلمت إلى آخر الحديث". (¬7) في "الموطأ" أيضاً (2/ 476) برواية يحيى الليثي، وانظر رواية أبي مصعب (2/ 217)، ورواية سويد بن سعيد (ص219)، مع اختلاف يسير فيها جميعها. (¬8) تقدم تخريجه (ص177). (¬9) في (خ): "وإلى مصر وأشباه ذلك". (¬10) قوله: "لله" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬11) في (خ): "أو أن لا أكلم فلاناً"، وفي أصل (ت): "أو إن كلم فلاناً"، وكتب في الهامش: "لا أكلم"، وهي بهذا تكون موافقة لـ (خ)، والمثبت من (م)، وهو الموافق لـ"الموطأ"، وجميع هذا سقط من (غ) و (ر) كما سيأتي. (¬12) في (م): "أهو" بدل "إن هو". (¬13) في (خ): "إن هو كلمه؛ لأنه إن كلم فلاناً فليس عليه في ذلك شيء أهو كلمه لأنه"، وهو تكرار. (¬14) من قوله: "إن كلم فلاناً" إلى هنا سقط من (غ) و (ر). (¬15) قوله: "له" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬16) في (خ) و (م) و (ت): "فكل ما لله".

فتأَمّل (¬1) كَيْفَ جَعَلَ الْقِيَامَ [فِي الشَّمْسِ] (¬2)، وتَرْكَ الْكَلَامَ، ونَذْرَ المَشْيِ إِلى الشَّامِ أَو مِصْرَ معاصيَ، حتى فسر بها (¬3) الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ، مَعَ أَنها فِي أَنفسها أَشياء مُبَاحَاتٍ (¬4)، لَكِنَّهُ لَمَّا أَجراها مَجْرَى مَا يُتَشَرَّعُ (¬5) به، ويُدانُ اللهُ بِهِ؛ صَارَتْ عِنْدَ مالكٍ معاصيَ لِلَّهِ، وكُلِّيَّةُ قَوْلِهِ: "كلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْجَمِيعُ يَقْتَضِي التأْثيم وَالتَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَهِيَ خَاصِّيَّةُ المُحَرَّم. وَقَدْ مرَّ (¬6) مَا رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّار عن مالك (¬7) وأَتاه (¬8) رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبا عَبْدِ اللَّهِ! من أَين أُحْرِم؟ قال: من ذي الحليفة؛ مِنْ حَيْثُ أَحرم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: إِني أُريد أَن أُحْرِمَ من المسجد، فقال: لا تفعل. قال: إِني أُريد أَن أحرم من المسجد من (¬9) عند الْقَبْرِ (¬10): قَالَ: لَا تَفْعَلْ؛ فإِني أَخشى عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ. قَالَ: وأَي فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إِنما هِيَ أَميال أَزيدها، قَالَ: وأَي فِتْنَةٍ أَعظم من أَن ترى أَنك سبقت إِلى فضيلةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِني سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬11). فأَنت تَرَى أَنه خَشِيَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي الإِحرام مِنْ مَوْضِعٍ فَاضِلٍ لَا بُقْعَةَ أَشرف منه (¬12)، ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "تأمل". (¬2) في جميع النسخ: "للشمس". (¬3) في (خ) و (م): "فيها". (¬4) في (غ) و (ر): "أنفسنا أشياء مباحة". (¬5) في (م): "ما يشرع". (¬6) في الجزء الأول (ص230 ـ 231)، وهناك نقله عن أبي بكر ابن العربي، والنص عند ابن العربي في كتابه "أحكام القرآن" (3/ 1412 ـ 1413)؛ حيث ساقه بسنده عن الزبير بن بكار؛ قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل ... ، فذكر القصة. وأخرجها ابن بطة في "الإبانة" (1/ 261 ـ 262 رقم 98) من طريق حميد بن الأسود؛ قال: قال رجل لمالك بن أنس ... ، فذكرها. (¬7) قوله: "عن مالك" سقط من (خ) و (م). (¬8) في (ت): "أنه أتاه". (¬9) قوله: "من" ليس في (غ) و (ر). (¬10) في (ت): "من عند القبر الشريف". (¬11) الآية: (63) من سورة النور. (¬12) قول المصنف هذا مما لا دليل عليه، بل الدليل يعارضه، يوضح ذلك ويُجَلّيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (27/ 37) حين سئل عن التربة التي دُفِن فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل هي أفضل من المسجد الحرام؟ فأجاب بقوله: "وأما التربة التي=

وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ (¬1)، لَكِنَّهُ أَبعدُ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَهُوَ زيادةٌ فِي التَّعَبِ قَصْدًا لِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَبَيَّنَ أَن مَا اسْتَسْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الأَمر اليسير في بادي الرأْي يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ الْفِتْنَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ (¬2). فَكُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ (¬3) ذَلِكَ دَاخِلٌ ـ عِنْدَ مَالِكٍ ـ فِي مَعْنَى الْآيَةِ؛ فأَين كَرَاهِيَةُ (¬4) التَّنْزِيهِ فِي هَذِهِ الأُمور الَّتِي يَظْهَرُ بأَول النَّظَرِ أَنها سَهْلَةٌ وَيَسِيرَةٌ (¬5)؟ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَخبرني ابْنُ الْمَاجِشُونِ: أَنه سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ: التَّثْوِيبُ (¬6) ضَلَالٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ أَحدث فِي هَذِهِ الأُمة شَيْئًا (¬7) لم يكن ¬

=دُفن فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا أعلم أحداً من الناس قال إنها أفضل من المسجد الحرام، أو المسجد النبوي، أو المسجد الأقصى؛ إلا القاضي عياض، فذكر ذلك إجماعاً، وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه، ولا حجة عليه، بل بدن النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل من المساجد، وأما ما فيه خُلِقَ، أو ما فيه دُفِنَ فلا يلزم ـ إذا كان هو أفضل ـ أن يكون ما منه خُلِق أفضل، فإن أحداً لا يقول: إن بدن عبد الله أبيه أفضل من أبدان الأنبياء؛ فإن الله يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، ونوح نبي كريم، وابنه الْمُغْرَقُ كافر، وإبراهيم خليل الرحمن، وأبوه آزر كافر. والنصوص الدالّة على تفضيل المساجد مطلقة لم يُسْتَثْنَ منها قبور الأنبياء، ولا قبور الصالحين. ولو كان ما ذكره حقَّاً؛ لكان مَدْفَنُ كل نبي، بل وكل صالح أفضل من المساجد التي هي بيوت الله، فيكون بيوت المخلوقين أفضل من بيوت الخالق التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وهذا قول مبتدع في الدين، مخالف لأصول الإسلام". وسئل أيضاً في نفس الموضع عن رجلين تجادلا، فقال أحدهما: إن تربة محمد النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل من السموات والأرض، وقال الآخر: الكعبة أفضل، فمع من الصواب؟ فأجاب: "الحمد لله، أما نفس محمد صلّى الله عليه وسلّم فما خلق الله خلقاً أكرم عليه منه، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضّل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه، ولا وافقه أحد عليه، والله أعلم".اهـ. (¬1) في (ت): "قبره الشريف". (¬2) في (خ) و (م): "في الآية". (¬3) في (غ) و (ر): "بمثل". (¬4) في (ت): "فإن كراهة". (¬5) في (ت): "سهلة يسيرة". (¬6) سيأتي معنى التثويب. (¬7) في (ت): "ومن أحدث شيئاً في هذه الأمة".

عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ (¬1)؛ لأَن اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬2)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا؛ لَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا (¬3). وإِنما التَّثْوِيبُ الَّذِي كَرِهَهُ: أَن الْمُؤَذِّنَ كَانَ إِذا أَذَّنَ فأَبطأَ النَّاسُ؛ قَالَ بَيْنَ الأَذان والإِقامة: "قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ" (¬4)، وَهُوَ قَوْلُ إِسحاق بن رَاهَوَيْهِ: أَنه التَّثْوِيبُ المُحْدَث. قَالَ التِّرْمِذِيُّ (¬5) ـ لَمَّا نقل هذا عن إِسحاق (¬6) ـ: "وَهَذَا الَّذِي قَالَ (¬7) إِسحاق هُوَ التَّثْوِيبُ الَّذِي قَدْ كَرِهَهُ أَهل الْعِلْمِ، وَالَّذِي أَحدثوه بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". وإِذا اعتُبِر هَذَا اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ فَكُلُّ أَحد يَسْتَسْهِلُّهُ في بادي الرأْي؛ إِذ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى التَّذْكِيرِ بِالصَّلَاةِ. وقصَّة صبيغٍ الْعِرَاقِيِّ ظَاهِرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. فَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ؛ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنس؛ قَالَ: جَعَلَ صَبِيغ يَطُوفُ بِكِتَابِ اللَّهِ (¬8) مَعَهُ، وَيَقُولُ: مَنْ يَتَفَقَّهْ يُفقِّهه اللَّهُ، مَنْ يَتَعَلَّمْ يُعلِّمْه اللَّهُ؛ فأَخذه عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضَرَبَهُ بِالْجَرِيدِ الرَّطْب، ثُمَّ سَجَنَهُ حَتَّى إِذا خَفَّ الَّذِي بِهِ؛ أَخرجه فَضَرَبَهُ، فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! إِن كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فأَجهز عَلَيَّ، وإِلا فَقَدْ شفيتني شفاك الله، فخلاّه عمر بن الخطاب (¬9). ¬

(¬1) في (خ) و (م) و (ت): "خان الدين"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الموافق لما في "الإحكام" لابن حزم، ولما تقدم في الجزء الأول (ص65 ـ 66)، ولما سيأتي (ص398 و401). (¬2) سورة المائدة: الآية (3). (¬3) أخرجه ابن حزم في "إحكام الأحكام" (6/ 791)، وتقدم هذا القول في الجزء الأول (ص65 ـ 66)، وسيأتي (398 و401) من هذا الجزء. (¬4) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 435). (¬5) في "جامعه" (1/ 380). (¬6) في (خ) و (ت) و (م): "سحنون" بدل "إسحاق". (¬7) قوله: "قال" سقط من (م). (¬8) لفظ الجلالة "الله" ليس في (غ) و (ر). (¬9) قوله: "ابن الخطاب" من (غ) و (ر) فقط.

قال ابن وهب: قال لي (¬1) مَالِكٌ: وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبِيغًا حِينَ بَلَغَهُ مَا يَسأَل عنه من القرآن، وغير ذلك (¬2). انتهى. وَهَذَا الضَّرْبُ إِنما كَانَ لِسُؤَالِهِ عَنْ أُمورٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ، وَرُبَّمَا نُقل عَنْهُ أَنه كَانَ يسأَل عَنِ السَّابِحَاتِ سَبْحًا، وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا وأَشباه ذَلِكَ، وَالضَّرْبُ إِنما يَكُونُ لِجِنَايَةٍ أَرْبَتْ (¬3) عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ؛ إِذ لَا يُسْتَبَاحُ دَمُ (¬4) امرئٍ (¬5) مُسْلِمٍ، وَلَا عرضُه بمكروه كراهية تنزيه (¬6)، ووجه ضَرْبُهُ إِياه: خَوَّفَ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ؛ أَن يَشْتَغِلَ مِنْهُ (¬7) بِمَا لَا يَنْبَني عَلَيْهِ عَمَلٌ، أَو أَن (¬8) يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِئَلَّا يَبْحَثَ عَنِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ (¬9)، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا *} (¬10)؛ قَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ، فَمَا الأَبّ؟ ثُمَّ قَالَ (¬11): ما أمرنا بهذا. ¬

(¬1) قوله: "لي" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬2) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (152). وإسناده معضل؛ مالك لم يلقَ عمر. وقصة عمر مع صبيغ مشهورة جاءت عنه بأسانيد متعددة، أمثلها ما أخرجه الدارمي (1/ 66)، والآجري في "الشريعة" (1/ 210) من طريق يزيد بن خصيفة، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ؛ قَالَ: أَتَى عُمَرَ ... ، فذكره. قال الحافظ في "الإصابة" (5/ 169: ترجمة صبيغ): إسناده صحيح. وانظر: ترجمة صبيغ في "تاريخ ابن عساكر" (23/ 408). (¬3) كذا في جميع النسخ، غير أن ترتيب نقط الكلمة في (خ) أوهم أن تكون: "أرتب"، فعلق رشيد رضا عليها بقوله: في الأصل: "أرتب"، وهو تحريف ظاهر، والمعنى: أن الضرب لا يمكن أن يُرَتّب على كراهية التنزيه. اهـ. (¬4) في (خ): "ذم". (¬5) قوله: "امرئ" سقط من (ت). (¬6) في (غ) و (ر): "التنزيه". (¬7) في (ر) و (غ): "عنه" بدل "منه". (¬8) في (خ): "وأن". (¬9) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "المشهور في قصة صبيغ: أنه كان يسأل عن المتشابهات، فيفتح بها باب التشكيك في القرآن، وأن عمر ضربه ثم نفاه من المدينة، وأمر باجتنابه لأجل ذلك. وقد ذكره الحافظ في القسم الثالث من الإصابة، وذكر ملخص الروايات في قصته مع عمر" اهـ. (¬10) سورة عبس: الآية (31). (¬11) قوله: "قال" سقط من (ر) و (غ).

وَفِي رِوَايَةٍ: نُهينا عَنِ التكلُّف (¬1) (¬2). وَجَاءَ فِي قِصَّةِ صَبيغ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنِ اللَّيْثِ: أَنه ضَرَبَهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَراد أَن يَضْرِبَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ لَهُ صَبيغ: إِن كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلًا، وإِن كُنْتَ تُرِيدُ أَن تُدَاوِيَنِي فَقَدْ وَاللَّهِ بَرِئْتُ. فأَذن لَهُ إِلى أَرضه، وَكَتَبَ إِلى أَبي مُوسَى الأَشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَن لَا يُجَالِسَهُ أَحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبو مُوسَى إِلى عُمَرَ: أَن قَدْ حَسُنت هيئته (¬3)، فكتب عَمَرُ: أَن يأْذن لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ (¬4). وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَن الهيِّن عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْبِدَعِ شديدٌ وَلَيْسَ بهيِّن، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (¬5). وأَما كَلَامُ الْعُلَمَاءِ: فإِنهم وإِن أَطلقوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الأُمور الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؛ لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ (¬6) التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وإِنما هَذَا اصْطِلَاحٌ للمتأَخرين (¬7) حين أَرادوا أَن يفرِّقوا بين القَبِيلَيْن، فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، ويخصّون كراهية التحريم بلفظ التحريم، أو المنع، وأَشباه ذلك. وأَما المتقدمون من السلف: فإِنه لَمْ يَكُنْ مِنْ شأْنهم فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَن يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ ¬

(¬1) في (خ): "التكليف". (¬2) هذا الأثر يرويه أنس عن عمر، وإسناده صحيح، وله عن أنس ستة طرق تجدها مفصّلة في تخريجي لـ"سنن سعيد بن منصور" (1/ 181) فما بعدها. وقوله: "نهينا عن التكلف": أخرجه البخاري (7293). (¬3) في (خ): "سيئته". (¬4) أخرجه الدارمي (1/ 67)، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (151) من طريق الليث، عن محمد بن عجلان، عن نافع، به. ورواية نافع عن عمر مرسلة. وسبق قريباً تخريج قصة صبيغ وبيان صحتها. (¬5) سورة النور: الآية (15). (¬6) في (غ): "كراهة". (¬7) في (ر) و (غ): "المتأخرين".

وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (¬1)، وحَكى مَالِكٌ عمَّن تقدَّمه هَذَا الْمَعْنَى (¬2). فإِذا وُجِدَتْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَو غَيْرِهَا "أَكره هَذَا، وَلَا أُحِبُّ هَذَا، وَهَذَا مَكْرُوهٌ" وَمَا أَشبه ذَلِكَ، فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنهم يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ فإِنه إِذا دَلَّ الدَّلِيلُ فِي (¬3) جَمِيعِ الْبِدَعِ عَلَى أَنها (¬4) ضَلَالَةٌ فَمِنْ أَين يُعَدُّ فِيهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ (¬5)؟ اللَّهُمَّ إِلا أَن يُطْلِقُوا لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ أَصل فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُ أَمر آخَرُ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ فَيُكْرَهُ لأَجله، لَا لأَنه بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ؛ عَلَى تفصيل يذكر في موضعه إن شاء الله (¬6). وأَما ثَالِثًا: فإِنا إِذا تأَملنا حَقِيقَةَ الْبِدْعَةِ ـ دَقَّتْ أَوجَلَّت ـ وَجَدْنَاهَا (¬7) مُخَالِفَةً لِلْمَكْرُوهِ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ الْمُخَالَفَةَ التَّامَّةَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوجه: أَحدها: أَن مُرْتَكِبَ الْمَكْرُوهِ إِنما قَصْدُهُ نَيْلُ غَرَضِهِ وَشَهْوَتِهِ الْعَاجِلَةِ متَّكلاً عَلَى الْعَفْوِ اللَّازِمِ فِيهِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ الثَّابِتِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ إِلى الطَّمَعِ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ أَقرب. وأَيضاً: فَلَيْسَ عَقَدُهُ الْإِيمَانِيُّ بِمُتَزَحْزِحٍ، لأَنه يَعْتَقِدُ الْمَكْرُوهَ مَكْرُوهًا كَمَا يَعْتَقِدُ الْحَرَامَ حَرَامًا وإِن ارْتَكَبَهُ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ وَيَرْجُوهُ، وَالْخَوْفُ والرجاءُ شُعْبَتَانِ مِنْ شُعَبِ الإِيمان. فَكَذَلِكَ مُرْتَكِبُ الْمَكْرُوهِ يَرَى أَن التُّرْكَ أَولى في حقه من الفعل، وأَن ¬

(¬1) سورة النحل: الآية (116). (¬2) قال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 1075 رقم 2091): "وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب: أنهما سمعا مالك بن أنس يقول: لم يكن من أمر الناس ولا مَنْ مضى من سلفنا، ولا أدري أحداً أقتدي به يقول في شيءٍ: هذا حلال، وهذا حرام، ما كانوا يجترؤون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره هذا ... " إلخ. ونقل نحوه القرطبي في "تفسيره" (10/ 196)، وابن رجب في "جامع العلوم" (ص525). (¬3) في (ت): "على أن" بدل "في". (¬4) قوله: "على أنها" ليس في (ت). (¬5) في (ت): "كراهة تنزيه". (¬6) قوله: "إن شاء الله" من (ر) و (غ) فقط. (¬7) في (خ): "وجدنا".

نَفْسَهُ الأَمّارة زَيَّنت لَهُ الدُّخُولَ فِيهِ. ويَوَدُّ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ، وأَيضاً فَلَا يَزَالُ ـ إِذا تَذَكَّرَ ـ منكسرَ الْقَلْبِ؛ طَامِعًا فِي الإِقلاع، سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَخذ فِي أَسباب الإِقلاع أَم لَا. وَمُرْتَكِبُ أَدنى الْبِدَعِ يَكَادُ يَكُونُ عَلَى ضِدِّ هَذِهِ الأَحوال، فإِنه يَعُدُّ مَا دَخَلَ فِيهِ حسناً، بل يراه أَولى مما (¬1) حدَّ له الشارع، فأَين مع هذا خَوْفُهُ أَو رَجَاؤُهُ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَن طَرِيقَهُ أَهدى سَبِيلًا، وَنِحْلَتَهُ أَولى بِالِاتِّبَاعِ؟ هَذَا وإِن كان زعمه لشبهة (¬2) عَرَضَتْ فَقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِالْآيَاتِ والأَحاديث أَنه مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى. وسيأْتي لِذَلِكَ تَقْرِيرٌ إِن شاءَ اللَّهُ. وَقَدْ مَرَّ فِي أَول الْبَابِ الثَّانِي تَقْرِيرٌ لِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُعَظِّمُ أَمر الْبِدَعِ عَلَى الإِطلاق، وَكَذَلِكَ مَرَّ فِي آخِرِ الْبَابِ أَيضاً أُمور ظَاهِرَةٌ فِي بُعْدِ مَا بينها (¬3) وَبَيْنَ كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ، فَرَاجِعْهَا هُنَالِكَ يَتَبَيَّنْ لَكَ مِصْدَاقَ مَا أُشير إِليه هَاهُنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَالْحَاصِلُ: أَن النِّسْبَةَ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ مِنَ الأَعمال وبين أَدنى البدع (¬4) بعيدُ المُلْتَمَس. ¬

(¬1) في (خ): "بما". (¬2) في (م): "بشبهة". (¬3) في (خ) و (م): "بينهما". (¬4) قوله: "وبين أدنى البدع" سقط من (ت).

فصل

فصل إِذا (¬1) ثَبَتَ هَذَا انْتَقَلْنَا مِنْهُ إِلى مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَن المُحَرَّم يَنْقَسِمُ فِي الشَّرْعِ إِلى مَا هُوَ صَغِيرَةٌ، وإِلى مَا هُوَ كَبِيرَةٌ ـ حَسْبَمَا تبيَّن فِي عِلْمِ الأُصول الدِّينِيَّةِ ـ، فَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ: إِنها تَنْقَسِمُ إِلى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ اعْتِبَارًا بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بأَن الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إِلى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ. وَلَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَوجه وَجَمِيعُ مَا قَالُوهُ لَعَلَّهُ لَا يُوفِي بِذَلِكَ الْمَقْصُودِ عَلَى الْكَمَالِ فَلْنَتْرُكِ التَّفْرِيعَ عَلَيْهِ. وأَقرب وَجْهٍ (¬2) يُلْتَمَسُ لِهَذَا الْمَطْلَبِ مَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ "الْمُوَافِقَاتِ" (¬3) أَن الْكَبَائِرَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الإِخلال بِالضَّرُورِيَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّ مِلَّة، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْعَقْلُ، وَالْمَالُ، وكل ما نُصَّ عليه منها (¬4) رَاجِعٌ إِليها، وَمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ جَرَتْ في الاعتبار النظري (¬5) مَجْرَاهَا، وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ أَشتات مَا ذَكَرَهُ العلماءُ وَمَا لَمْ يَذْكُرُوهُ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ. فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي كَبَائِرَ الْبِدَعَ: مَا أَخَلَّ مِنْهَا بأَصل مِنْ هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فَهُوَ كبيرة، وما لا، فهي صَغِيرَةٌ (¬6)، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لِذَلِكَ أَمثلة أَول الْبَابِ. فَكَمَا انْحَصَرَتْ كَبَائِرُ الْمَعَاصِي أَحسن انْحِصَارٍ ـ حَسْبَمَا أُشِيرَ إِليه فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ ـ؛ كَذَلِكَ تَنْحَصِرُ كَبَائِرُ الْبِدَعِ أَيضاً، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْتَرِضُ (¬7) فِي ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "وإذا". (¬2) في (ت): "شيء" بدل "وجه". (¬3) (2/ 511). (¬4) قوله: "منها" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬5) في (خ) و (ت) و (م): "النظر". (¬6) في (ت): "فهو صغيرة". (¬7) في (غ) و (ر): "يفترض".

المسأَلة إِشكال عَظِيمٌ عَلَى أَهل الْبِدَعِ يَعْسُر التخلّص منه (¬1) فِي إِثبات الصَّغَائِرِ فِيهَا. وَذَلِكَ أَن جَمِيعَ الْبِدَعِ رَاجِعَةٌ إِلى الإِخلال بِالدِّينِ، إِما أَصلاً، وإِما فَرْعًا؛ لأَنها إِنما أُحدثت لتُلْحَقَ بِالْمَشْرُوعِ؛ زِيَادَةً فِيهِ، أَو نُقْصَانًا (¬2) مِنْهُ، أَو تَغْيِيرًا لقوانينه (¬3)، أَو مَا يَرْجِعُ إِلى ذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بمختص بالعبادات دون العادات ـ إِن قلنا بدخولها في العادات (¬4) ـ، بل تشمل (¬5) الْجَمِيعِ (¬6). وإِذا كَانَتْ بِكُلِّيَّتِهَا إِخلالاً بِالدِّينِ؛ فَهِيَ إِذاً إِخلال بَأَوّل الضَّرُورِيَّاتِ، وَهُوَ الدِّينُ، وَقَدْ أَثبت الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ (¬7) أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَقَالَ فِي الفِرَقِ: "كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةٌ" (¬8)، وَهَذَا (¬9) وَعِيدٌ أَيضاً (¬10) لِلْجَمِيعِ عَلَى التَّفْصِيلِ. هذا وإِن تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُهَا فِي الإِخلال بِالدِّينِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بمُخْرِجٍ لَهَا عَنْ أَن تَكُونَ كَبَائِرَ، كَمَا أَن الْقَوَاعِدَ الْخَمْسَ أَركان الدِّينِ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي التَّرْتِيبِ، فَلَيْسَ الإِخلال بِالشَّهَادَتَيْنِ (¬11) كالإِخلال بِالصَّلَاةِ، وَلَا الْإِخْلَالُ بِالصَّلَاةِ كالإِخلال بِالزَّكَاةِ، وَلَا الإِخلال بِالزَّكَاةِ كالإِخلال بِرَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا، مَعَ أن (¬12) الإِخلال بكل واحدٍ (¬13) مِنْهَا كَبِيرَةٌ، فَقَدْ آلَ النَّظَرُ (¬14) إِلى أَن كل بدعة كبيرة. ¬

(¬1) المثبت من (ت)، وفي باقي النسخ: "عنه" بدل "منه". (¬2) في (ر) و (غ): "أو نقصاً". (¬3) في (خ) و (ت): "لقوافيه" وفي (م): "أو تغيير القوانية". (¬4) في (ت): "في العبادات". (¬5) في (خ): "تمنع" بدل "تشمل"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: لعل هنا كلمة "في" ساقطة. اهـ. (¬6) في (ت): "بل تقع في الجميع". (¬7) تقدم تخريجه صفحة (108) من المجلد الأول، و (ص318) من هذا المجلد. (¬8) أخرجه أحمد (4/ 102)، وأبو داود (4597)، والدارمي (2/ 241) وغيرهم من حديث معاوية رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: حديث صحيح مشهور، وجوّد أسانيده العراقي، وحسّنه الحافظ ابن حجر؛ كما في "السلسلة الصحيحة" (204) وانظر (ص108) من المجلد الأوّل. (¬9) في (ر) و (غ): "وهو". (¬10) في (ت): "وهذا أيضاً وعيد". (¬11) في (خ) و (م): "في الشهادتين". (¬12) قوله: "أن" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬13) قوله: "واحد" من (ر) و (غ) فقط. (¬14) في (ر) و (غ): "آل هذا النظر".

ويجاب عنه بأَنه إن كان (¬1) هذا النظر (¬2) يدل على ما ذُكر؛ فَفِي (¬3) النَّظَرِ مَا يَدُلُّ مِنْ جِهَةٍ أُخرى عَلَى إِثبات الصَّغِيرَةِ مِنْ أَوجه: أَحدها: أَنا نَقُولُ: الإِخلال بِضَرُورَةِ النَّفْسِ كَبِيرَةٌ بِلَا إِشكال، وَلَكِنَّهَا عَلَى مَرَاتِبَ، أَدناها لَا يُسَمَّى كَبِيرَةً، فَالْقَتْلُ كَبِيرَةٌ، وَقَطْعُ الأَعضاءِ مِنْ غَيْرِ إِجهاز (¬4) كبيرة دونها، وقطع عُضْوٍ واحد فقط (¬5) كَبِيرَةٌ دُونَهَا، وهَلُمّ جَرَّا إِلى أَن تَنْتَهِيَ (¬6) إِلى اللَّطْمَةِ، ثُمَّ إِلى أَقل خَدْشٍ يُتَصَوَّرُ، فَلَا يَصِحُّ أَن يُقَالَ فِي مَثَلِهِ كَبِيرَةٌ، كَمَا قَالَ (¬7) العلماءُ فِي السَّرِقَةِ: إِنها كَبِيرَةٌ؛ لأَنها إِخلال بِضَرُورَةِ الْمَالِ. فإِن كَانَتِ السَّرِقَةُ فِي لُقمة، أَو تطفيفٍ بِحَبَّةٍ (¬8)، فَقَدْ عَدُّوهُ من الصغائر، وهكذا (¬9) فِي ضَرُورَةِ الدِّينِ أَيْضًا. فَقَدْ جاءَ فِي بَعْضِ الأَحاديث عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَول مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمانة، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةَ، ولتُنْقَضَنّ عُرَى الإِسلام (¬10) عُرْوَةً عُرْوَةً (¬11)، ولَيُصَلِّيَنّ نِسَاءٌ وهُنَّ حُيَّضٌ"، ثُمَّ قال: "وَحَتَّى (¬12) تَبْقَى فِرْقَتَانِ مِنْ فِرَقٍ كَثِيرَةٍ تَقُولُ إِحداهما: مَا بَالُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؟ لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلنا، إِنما قَالَ اللَّهُ: {وَأَقِمِ (¬13) الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} (¬14)، لا تُصَلّون إِلا ثلاثاً. وتقول الأُخرى (¬15): إِنا لمؤمنون (¬16) بِاللَّهِ إِيمان الْمَلَائِكَةِ، مَا فِينَا كَافِرٌ، حقٌّ على الله أَن يحشرهما مع الدجال" (¬17). ¬

(¬1) قوله: "كان" سقط من (م). (¬2) في (خ) و (ت): "ويجاب عنه بأن هذا النظر". (¬3) في (ت): "وفي". (¬4) أي: من غير قتل. (¬5) قوله: "فقط" من (ر) و (غ) فقط. (¬6) في (ر) و (غ): "ينتهي". (¬7) في (ر) و (غ): "يقول". (¬8) في (ت): "حبة". (¬9) في (خ) و (م) و (ت): "وهذا". (¬10) في (خ): "الإيمان" بدل "الإسلام". (¬11) قوله: "عروة" الثانية سقط من (م). (¬12) في (خ) و (م) و (ت): "حتى". (¬13) في جميع النسخ: "أقم". (¬14) الآية: (114) من سورة هود. (¬15) في (خ) و (م): "أخرى". (¬16) في في (خ) و (م) و (ت): "لنؤمن". (¬17) أخرجه الخلال في "السنة" (ق123/ب)، وابن بطة في "الإبانة" (8)، كلاهما من=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=طريق الإمام أحمد، عن أبي عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، عن عكرمة بن عمار، عن أبي عبد الله الفلسطيني؛ قال: حدثني عبد العزيز أخو حذيفة، عن حذيفة بن اليمان ... ، فذكره. وأخرجه الخلال أيضاً (ق/123/ب ـ 124/أ) من طريق الإمام أحمد، عن عبد العزيز بن عبد الوارث، عن عكرمة، به، إلا أنه قال: "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع". وأخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (155) من طريق أسد بن موسى، والحاكم في "المستدرك" (4/ 469) من طريق الإمام أحمد، كلاهما عن عبد الرحمن بن مهدي، عن عكرمة بن عمار، به. وأخرجه أحمد في "الزهد" (ص263 رقم 1000)، وابن أبي شيبة (7/ 140)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 281) ثلاثتهم من طريق وكيع، عن عكرمة، به بلفظ: "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة". وسنده ضعيف لجهالة حال حميد أبي عبد الله الفلسطيني وعبد العزيز أخي حذيفة. وأخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن" (271) من طريق ليث بن أبي سُلَيم، عن ابن حصين، عن حميد أبي عبد الله؛ قال: سمعت حذيفة ... ، فذكره هكذا بإسقاط عبد العزيز أخي حذيفة من الإسناد، ولعل هذا من تخليط ليث بن أبي سليم. وأخرجه الآجري في "الشريعة" (35) من طريق هشام بن عمار، عن عبد الحميد بن حبيب، عن الأوزاعي، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن الصنابحي، عن حذيفة، به موقوفاً. ومن طريق الآجري أخرجه الداني في "الفتن" (225 و274). وأخرجه الداني أيضاً (273) من طريق موسى بن أعين، عن الأوزاعي، عن رجل من أهل الحجاز، عن الصنابحي، عن حذيفة قال: "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول نقضه الخشوع حتى لا ترى خاشعاً".اهـ. وأخرجه ابن وضاح (192) من طريق نعيم بن حماد؛ قال: نا عثمان بن كثير، عن محمد بن مهاجر؛ قال: حدثني أيوب بن جندب بن بشر، عن حذيفة، به ببعضه وزيادة لم ترد في باقي الروايات. وذكر بعضه مختصراً البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 333) من طريق أبي قيس، عن حذيفة. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 528 ـ 529) من طريق محمد بن سنان القزاز؛ ثنا [عمر] بن يونس بن القاسم اليمامي؛ ثنا جهضم بن عبد الله القيسي، عن عبد الأعلى بن عامر، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: كنت في الحطيم مع حذيفة، فذكر حديثاً، ثم قال: لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليكونن أئمة مضلون ... ، فذكر حديثاً طويلاً ليس من حديثنا، وصرح فيه=

فهذا الأَثر ـ وإِن لم نلتزم (¬1) عُهْدَةَ صحَّتِه ـ مِثَالٌ مِنْ أَمثلة (¬2) المسأَلة. فَقَدْ نَبَّه عَلَى أَن فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ (¬3) يَرَى أَن الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ ثَلَاثٌ (¬4) لَا خَمْسٌ، وبَيَّن أَن مِنَ النساءِ مَنْ يُصَلِّينَ وَهُنَّ حُيَّضٌ، كأَنه يُعْنَى بِسَبَبِ التَّعَمُّق وَطَلَبِ الِاحْتِيَاطِ بالوَسْوَاسِ الْخَارِجِ عَنِ السُّنَّة، فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ دُونَ الأُولى. وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ (¬5) أَن بَعْضَ النَّاسِ زَعَمَ أَن الظُّهْرَ خَمْسُ رَكْعَاتٍ لَا أَربع رَكْعَاتٍ. ثُمَّ وَقَعَ فِي "الْعُتْبِيَّةِ" (¬6): قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَمِعْتُ (¬7) مَالِكًا يَقُولُ: أَول مَنْ أَحدث الِاعْتِمَادَ فِي الصَّلَاةِ ـ حَتَّى لَا يُحَرِّكَ رِجْلَيْهِ ـ رَجُلٌ قَدْ عُرِفَ وسُمِّيَ، إِلا أَني لَا أُحِبُّ أَن أَذكره، وقد كان مُسَاءً (¬8). فقيل له: أفعيب ذلك عَلَيْهِ (¬9)؟ قَالَ (¬10): قَدْ عِيبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مكروه من الفعل. قالوا: ومعنى (¬11) مُسَاءً (¬12)؛ أي: يساءُ الثناءُ عليه. ¬

=بأنه سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم. وصححه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: بل منكر؛ فعبد الأعلى ضعفه أحمد وأبو زرعة، وأما جهضم فثقة، ومحمد بن سنان كذبه أبو داود". وانظر كلامي عن الحديث في تعليقي على "مختصر المستدرك" (1143). (¬1) في (خ) و (م): "تلتزم". (¬2) في (خ) و (م): "الأمثلة المسألة"، ثم صوبت في (م). وعلق رشيد رضا عليها بقوله: لعل "الـ" الداخلة على كلمة: "الأمثلة" زائدة. اهـ. (¬3) في (م): "أن من". (¬4) في (ت): "ثلاثة". (¬5) لم أجد قول ابن حزم هذا. (¬6) كما في شرحها: "البيان والتحصيل" (17/ 549) وتقدم صفحة (337). (¬7) في (ت): "سمعت". (¬8) زاد في (ت) و (خ) و (م) في هذا الموضع قوله: "أي: يساء الثناء عليه"، وهي زيادة لا داعي لها مع وجود تفسير المصنف لمعنى "مساء" في آخر النص. (¬9) من قوله: "فقيل له" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬10) في (خ): "فقال". (¬11) قوله: "ومعنى" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬12) في (خ) و (ت) و (م): "ومساء".

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ (¬1): جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ أَن يُرَوِّحَ (¬2) الرَّجُلُ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَهُ فِي "الْمُدَوَّنَةِ" (¬3)، وإِنما كَرِهَ أَن يُقْرِنَهُمَا حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ عَلَى إِحداهما دُونَ الأُخرى، لأَن ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُدُودِ الصَّلَاةِ، إِذ لَمْ يأْت ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَحد مِنَ السَّلَفِ، وَالصَّحَابَةِ المَرْضِيِّين الكرام (¬4)، وَهُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الأُمور. انْتَهَى. فَمِثْلُ هَذَا إِن كَانَ يَعُدُّه فاعلُه مِنْ مَحَاسِنِ الصَّلَاةِ ـ وإِن لم يأْت به أَثر ـ أَفَيُقَال (¬5) في مثله: إِنه من كبائر الْبِدَعِ، كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْخَامِسَةِ في الظهر أو نحوها؟! (¬6) بَلْ إِنما يُعَدّ مِثْلُهُ مِنْ صَغَائِرِ الْبِدَعِ؛ إِن سَلَّمْنَا أَن لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ فِيهِ مَا لا يُراد (¬7) بِهِ (¬8) التَّنْزِيهُ، وإِذا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ فِي قَاعِدَةِ الدِّينِ، فَمِثْلُهُ يُتَصَوَّرُ فِي سَائِرِ الْبِدَعِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَرَاتِبِ، فَالصَّغَائِرُ فِي الْبِدَعِ ثَابِتَةٌ؛ كَمَا أَنها فِي الْمَعَاصِي ثَابِتَةٌ. وَالثَّانِي: أَن الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا هِيَ كُلِّيَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وإِلى جُزْئِيَّةٍ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَن يَكُونَ الْخَلَلُ الْوَاقِعُ بِسَبَبِ الْبِدْعَةِ كُلِّيًّا فِي الشَّرِيعَةِ، كَبِدْعَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ، وَبِدْعَةِ إِنكار الأَخبار السُّنِّيَّةِ اقْتِصَارًا عَلَى الْقُرْآنِ، وَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا حُكْمَ إِلا لِلَّهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي لَا تَخُصُّ فَرْعًا مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ دُونَ فَرْعٍ، بَلْ تجدها تَنْتَظِمُ مَا لَا يَنْحَصِرُ مِنَ الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، أَو يَكُونُ الْخَلَلُ الْوَاقِعُ جُزْئِيًّا إِنَّمَا يأْتي فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ دُونَ بَعْضٍ، كَبِدْعَةِ التَّثْوِيبِ بِالصَّلَاةِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ: التَّثْوِيبُ ضَلَالٌ (¬9)، وبدعة الأَذان والإِقامة في ¬

(¬1) في الموضع السابق من "البيان والتحصيل". (¬2) في (ر) و (غ): "يتروح". (¬3) (1/ 107). (¬4) قوله: "الكرام" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬5) في (خ) و (ت): "فيقال". (¬6) في (خ): "ونحوها". (¬7) (خ) و (م): "ما يراد"، وفي (ت): "مما يراد". (¬8) في (ر) و (غ): "بها". (¬9) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 435)، و"مواهب الجليل" (1/ 431) وتقدم (ص383)، وسيأتي (ص9 و410).

الْعِيدَيْنِ (¬1)، وَبِدْعَةِ (¬2) الِاعْتِمَادِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى إِحدى (¬3) الرِّجْلَيْنِ (¬4)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ. فَهَذَا الْقِسْمُ لَا تَتَعَدَّى فِيهِ الْبِدْعَةُ مَحَلَّهَا، وَلَا تَنْتَظِمُ (¬5) تَحْتَهَا غيرَها حَتَّى تَكُونَ أَصلاً لَهَا. فَالْقِسْمُ الأَول إِذا عُدَّ مِنَ الْكَبَائِرِ اتَّضَحَ مَغْزَاهُ، وأَمكن أَن يَكُونَ مُنْحَصِرًا دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَيَكُونُ الْوَعِيدُ الْآتِي فِي الْكِتَابِ والسنة مخصوصاً به لاعامّاً فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَيَكُونُ مَا عَدَا ذَلِكَ ـ وهو القسم الثاني (¬6) ـ مِنْ قَبِيلِ اللَّمَم الْمَرْجُوِّ فِيهِ الْعَفْوُ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ إِلى ذَلِكَ الْعَدَدِ، فَلَا قَطْعَ على أَن جميعها من قَبِيلِ الكبائر (¬7)، وَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ انْقِسَامِهَا. وَالثَّالِثُ: أَن الْمَعَاصِيَ قَدْ ثَبَتَ انْقِسَامُهَا إِلى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، وَلَا شَكَّ أَن الْبِدَعَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي ـ عَلَى مُقْتَضَى الأَدلة الْمُتَقَدِّمَةِ ـ، وَنَوْعٌ مِنْ أَنواعها، فَاقْتَضَى إِطلاق التَّقْسِيمِ أَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ أَيضاً، وَلَا تُخَصُّ وحدها (¬8) بِتَعْمِيمِ الدُّخُولِ فِي الْكَبَائِرِ، لأَن ذَلِكَ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّص، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا لَاسْتُثْنِيَ مَنْ تَقَدَّم مِنَ العلماءِ الْقَائِلِينَ (¬9) بِالتَّقْسِيمِ قِسْمُ الْبِدَعِ، فَكَانُوا يَنُصّون عَلَى أَن الْمَعَاصِيَ ـ مَا عَدَّا الْبِدَعَ ـ تَنْقَسِمُ إِلى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، إِلا أَنهم لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلى الاستثناءِ، وأَطلقوا الْقَوْلَ بِالِانْقِسَامِ، فَظَهَرَ أَنه شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنواعها. فإِن (¬10) قِيلَ: إِن ذَلِكَ التَّفَاوُتَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إِثبات الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا، وإِنما يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنها تَتَفَاضَلُ، فَمِنْهَا ثَقِيلٌ وأَثقل، ومنها خفيف ¬

(¬1) تقدمت الإشارة إليه صفحة (319). (¬2) في (ر) و (غ): "وبدعة ترك". (¬3) في أصل (ت): "كلا"، وأشار في الهامش إلى أن في نسخة: "إحدى" بدل "كلا". (¬4) تقدمت الإشارة إليه في الصفحة السابقة. (¬5) في (ر) و (غ): "ينتظم". (¬6) قوله: "وهو القسم الثاني" من (ر) و (غ) فقط. (¬7) قوله: "الكبائر" سقط من (م)، وفي (خ) و (ت) بدلاً منه: "واحد". (¬8) في (خ) و (م): "ولا يخصص وجوهاً" وفي (ت): "ولا تخصص وجوهاً". (¬9) قوله: "القائلين" سقط من (غ). (¬10) قوله: "فإن" سقط من (م).

وأَخف، وَالْخِفَّةُ هَلْ تَنْتَهِي إِلى حَدٍّ تُعَدُّ الْبِدْعَةُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ اللَّمَم؟ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فِي الْمَعَاصِي غَيْرِ الْبِدَعِ. وأَما فِي الْبِدَعِ فَثَبَتَ (¬1) لَهَا أَمران: أَحدهما: أَنها مُضَادَّةٌ لِلشَّارِعِ (¬2) وَمُرَاغَمَةٌ لَهُ، حَيْثُ نَصَّبَ الْمُبْتَدِعُ نَفْسَهُ نَصْبَ الْمُسْتَدْرِكِ عَلَى الشَّرِيعَةِ، لَا نَصْبَ الْمُكْتَفِي بِمَا حُدَّ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ـ وإِن قَلَّت ـ تشريعٌ زَائِدٌ أَو نَاقِصٌ، أَو تَغْيِيرٌ للأَصل الصَّحِيحِ، وكلُّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَقَدْ يَكُونُ مُلْحَقاً بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ، فَيَكُونُ قَادِحًا فِي الْمَشْرُوعِ. وَلَوْ فَعَلَ أَحد مِثْلَ هذا في نفس (¬3) الشريعة عامداً لكفر، إِذِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا أَوِ التَّغْيِيرُ ـ قلَّ أَو كَثُر ـ كُفْرٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَلَّ مِنْهُ وَمَا كَثُرَ (¬4)، فَمَنْ فَعَلَ مِثْلِ ذَلِكَ بتأْويل فَاسِدٍ، أَو برأْي (¬5) غالطٍ رَآهُ، وأَلْحَقَه (¬6) بالمشروع، إِذا لم نُكَفِّرْه (¬7)؛ لَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِهِ فَرْقٌ بَيْنَ مَا قَلّ مِنْهُ (¬8) وَمَا كَثُرَ، لأَن الجميعَ جِنَاية لا تحتملها (¬9) الشَّرِيعَةُ بقليلٍ وَلَا بكثيرٍ. وَيُعَضِّدُ هَذَا النَّظَرَ: عُمُومُ الأَدلة فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ غَيْرِ استثناء، فلا فرق إذاً (¬10) بَيْنَ بِدْعَةٍ جُزْئِيَّةٍ، وَبِدَعَةٍ كُلِّيَّةٍ، وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الأَول وَالثَّانِي. وأَما الثَّالِثُ: فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لأَن قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" (¬11)، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ السلف الصالح رضي الله عنهم (¬12)؛ يدل ¬

(¬1) في (ت): "فظهر" بدل "فثبت". (¬2) في (م): "للشارعة". (¬3) في (ر) و (غ): "تفسير". (¬4) في (ت): "ما قلّ منه أو كثر". (¬5) في (ت): "أو رأي". (¬6) في (خ) و (م) و (ت): "أو ألحقه". (¬7) في (خ): "تكفره"، وفي (ت): "يكفر". (¬8) قوله: "منه" ليس في (ر) و (غ). (¬9) في (ت) و (م) و (خ): "لا تحملها". (¬10) في (خ) و (م) و (ت): "فالفرق" بدل قوله: "فلا فرق إذاً". (¬11) تقدم تخريجه صفحة، (108) من المجلد الأول، و (ص318) من هذا المجلد. (¬12) قوله: "الصالح رضي الله عنهم" من (ر) و (غ) فقط.

عَلَى عُمُومِ الذَّمِّ فِيهَا. وَظَهَرَ أَنها مَعَ الْمَعَاصِي لَا تَنْقَسِمُ ذَلِكَ الِانْقِسَامَ، بَلْ إِنما يَنْقَسِمُ مَا سِوَاهَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَاعْتَبِرْ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي يَتَبَيَّنْ لَكَ عدم الفرق فيها. وأَقرب (¬1) عِبَارَةً تُنَاسِبُ هَذَا التَّقْرِيرَ أَن يُقَالَ: كُلُّ بدعةٍ كبيرةٌ عظيمةٌ (¬2)، بالإِضافة (¬3) إِلى مُجَاوَزَةِ حُدُودِ اللَّهِ بِالتَّشْرِيعِ، إِلا أَنها وإِن عَظُمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فإِذا نُسِبَ بَعْضُهَا إِلى بَعْضٍ تَفَاوَتَتْ رُتَبُها (¬4)، فَيَكُونُ مِنْهَا صِغَارٌ وَكِبَارٌ (¬5)، إِما بِاعْتِبَارِ أَن بَعْضَهَا أَشد عِقَابًا مِنْ بَعْضٍ، فَالْأَشَدُّ عِقَابًا أَكبر مِمَّا دُونَهُ، وإِما بِاعْتِبَارِ فَوْتِ الْمَطْلُوبِ فِي الْمَفْسَدَةِ، فَكَمَا انْقَسَمَتِ الطَّاعَةُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ إِلى الْفَاضِلِ والأَفضل، لِانْقِسَامِ مَصَالِحِهَا إِلى الْكَامِلِ، والأَكمل، انْقَسَمَتِ الْبِدَعُ لِانْقِسَامِ مَفَاسِدِهَا إِلى الرَّذِلِ والأَرْذَلِ، والصِّغَرِ والكِبَرِ، مِنْ بَابِ النِّسَبِ والإِضافات، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ كَبِيرًا فِي نَفْسِهِ، لَكِنَّهُ صَغِيرٌ (¬6) بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكبر مِنْهُ، كما يكون كبيراً بالنسبة إلى ما هو (¬7) أصغر مِنْهُ (¬8). وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ قَدْ سَبَقَ إِليها إِمام الْحَرَمَيْنِ (¬9) لَكِنْ فِي انْقِسَامِ الْمَعَاصِي إِلى الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ فَقَالَ: الْمَرَضِيُّ عِنْدَنَا أَن كُلَّ ذَنَبٍ كبيرة وَعَظِيمٌ بالإِضافة إِلى مُخَالَفَةِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: مَعْصِيَةُ اللَّهِ أَكبر مِنْ مَعْصِيَةِ الْعِبَادِ قَوْلًا مُطْلَقًا، إِلا (¬10) أَنها وإِن عَظُمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فإِذا نُسِبَ بَعْضُهَا إِلى بَعْضٍ تَفَاوَتَتْ رُتَبُهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنًى مَا تَقَدَّمَ. وَلَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ عَلَى مَا قَالَ، وإِن كَانَ لَهُ وَجْهٌ فِي النَّظَرِ وَقَعَتِ الإِشارة إِليه فِي كتاب "الموافقات" (¬11). ¬

(¬1) في (خ): "وأقرب منها". (¬2) في (ر) و (غ): "وعظيمة". (¬3) في (ت): "بالنسبة" بدل "بالإضافة". (¬4) في (م) و (ت) و (خ): "رتبتها". (¬5) في (خ) و (م) و (ت): "صغاراً وكباراً". (¬6) في (ت) و (خ) و (م): "صغيراً". (¬7) من قوله: "أكبر منه" إلى هنا سقط من (م). (¬8) من قوله: "كما يكون كبيراً" إلى هنا سقط من (خ) و (ت). (¬9) أي: الجويني في كتاب "الإرشاد" (ص328)، والمصنف نقلها بتصرف، ونقلها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" عن الجويني (10/ 409)، وأطال في ذكر الخلاف في ضابط الكبيرة، فانظره إن شئت. (¬10) في (م): "إلى". (¬11) راجع الموافقات (3/ 537).

ولكن الظواهر تأْبى (¬1) ذَلِكَ ـ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنَ العلماءِ ـ، وَالظَّوَاهِرُ فِي الْبِدَعِ لَا تأْبى كَلَامَ الإِمام إِذا نُزِّل عَلَيْهَا ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ـ فَصَارَ اعْتِقَادُ الصَّغَائِرِ فِيهَا يَكَادُ يَكُونُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، كَمَا صَارَ اعتقاد نفي كراهة التَّنْزِيهُ (¬2) عَنْهَا مِنَ الْوَاضِحَاتِ. فليُتَأَمَّلْ هَذَا الموضعُ أَشدّ التأَمل، ولْيُعْطَ مِنَ الإِنصاف حقَّه، وَلَا يُنظر إِلى خِفَّةِ الأَمر فِي الْبِدْعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلى صُورَتِهَا وإِن دَقَّت، بَلْ يُنظر إِلى مُصَادَمَتِهَا لِلشَّرِيعَةِ، وَرَمْيِهَا لَهَا بِالنَّقْصِ وَالِاسْتِدْرَاكِ، وأَنها لَمْ تُكَمَّلْ بَعْدُ حَتَّى يُوضَعَ فِيهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فإِنها لَا تَعُودُ عَلَى الشَّرِيعَةِ بتنقيصٍ وَلَا غضٍّ مِنْ جَانِبِهَا، بَلْ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ مُتَنَصِّل مِنْهَا، مُقِرٌّ لله بمخالفته لِمُحْكَمِها (¬3). وَحَاصِلُ الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُعْتَقَدُ صِحَّتَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَالْبِدْعَةُ حَاصِلُهَا مُخَالَفَةٌ فِي اعْتِقَادِ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنس: مِنْ أَحدث فِي هَذِهِ الأُمة شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم خان الرسالة، لأَن اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬4) ... ، إِلى آخِرِ الْحِكَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ (¬5). وَمِثْلُهَا جَوَابُهُ لِمَنْ أَراد أَن يُحْرِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَقَالَ: أَي فِتْنَةٍ فِي هَذَا (¬6)؟ إِنما هِيَ أَميال أَزيدها. فَقَالَ: وأَي فِتْنَةٍ أَعظم مِنْ أَن تَظُنَّ أَنك فَعَلْتَ فِعْلًا قَصَّرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ... ، إِلى آخِرِ الْحِكَايَةِ، وقد تقدمت أَيضاً (¬7). ¬

(¬1) في (خ) و (ت): "الظاهر يأبى"، وفي (م): "الظاهر تأبى". (¬2) في (خ) و (م): "الكراهية التنزيه"، وفي (ت): "الكراهية التنزيهية". (¬3) في (خ): "لحكمها"، وفي (ت): "في حكمها"، وفي (م): "محكمها". (¬4) سورة المائدة: الآية (3). (¬5) (ص65 ـ 66) من الجزء الأول، و (ص384، وستأتي (ص401) من هذا الجزء ووقع في (خ) و (ت) و (م): "وقدمت". (¬6) في (خ) و (م) و (ت): "أي فتنة فيها". (¬7) انظر: صفحة (250) من القسم الأول.

فإِذاً لا (¬1) يَصِحُّ أَن يَكُونَ فِي الْبِدَعِ مَا هُوَ صغيرة ولا كبيرة (¬2). فَالْجَوَابُ: أَن ذَلِكَ يَصِحُّ بِطَرِيقَةٍ يُظْهِرُ إِن شاءَ الله أَنها تحقيق في تشعيب (¬3) هَذِهِ المسأَلة. وَذَلِكَ أَن صَاحِبَ الْبِدْعَةِ يُتَصَوَّر أَن يَكُونَ عَالِمًا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً، وأَن يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ، وَغَيْرُ الْعَالِمِ بِكَوْنِهَا بِدْعَةً عَلَى ضَرْبَيْنِ، وَهُمَا: الْمُجْتَهِدُ (¬4) فِي اسْتِنْبَاطِهَا وَتَشْرِيعِهَا، وَالْمُقَلِّدُ لَهُ فِيهَا. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فالتأْويل يُصَاحِبُهُ فِيهَا وَلَا يُفَارِقُهُ إِذا حَكَمْنَا لَهُ بحكم أهل الإِسلام، فأما العالم بها فإنه لو لم يتأول لم يصح أن ينسب إلى أَهْلِ الْإِسْلَامِ (¬5)، لأَنه مُصَادِمٌ لِلشَّارِعِ مُرَاغَمٌ لِلشَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ، أَوِ النُّقْصَانِ مِنْهُ، أَو التَّحْرِيفِ لَهُ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تأْويل كَقَوْلِهِ: هِيَ بِدْعَةٌ، وَلَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ، أَو يَقُولُ: إِنها بِدْعَةٌ، وَلَكِنِّي رأَيت فُلَانًا الْفَاضِلَ يَعْمَلُ بِهَا، أَو يأمر بِهَا (¬6)، أَو يقِرُّ بِهَا، وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُهَا لِحَظٍّ عاجل؛ كفاعل الذنب (¬7) لقضاءِ حَظِّه (¬8) العاجل مِنْ خَوْفٍ (¬9) عَلَى حَظِّه (¬10)، أَو فِرَارًا مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، كَمَا هُوَ الشأْن الْيَوْمَ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ يُشَارُ إِليه، وما أَشبه ذلك (¬11). وأَما غير العالم بها (¬12)، وهو (¬13) الواضع لها: فإِنه لا يمكن أَن ¬

(¬1) قوله: "لا" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬2) قوله: "ولا كبيرة" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬3) في (خ) و (م): "تشغيب" وفي (ت): "تَشَعُّب"، وذكر في الحاشية أن في نسخة: "تشعيب". (¬4) في (خ) و (ت) و (م): "المجتهد والمقلد"، وفي هامش (ت) ما نصه: "أظن صوابه ـ والله أعلم ـ: بحذف المقلد الأول". (¬5) من قوله: "فأما العالم" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬6) قوله: "أو يأمر بها" سقط من (خ) و (ت). (¬7) في (ت): "كفاعل الذهب"، ثم صوبت في الهامش هكذا: "المذهب". (¬8) في (ر) و (غ): "حقه" بدل "حظه". (¬9) في (ت): "خوفاً" بدلاً من "من خوف". (¬10) في (خ): "لِقَضَاءِ حَظِّهِ الْعَاجِلِ خَوْفًا عَلَى حَظِّهِ، أَوْ فراراً من خوف على حظه". (¬11) قوله: "وما أشبه ذلك" سقط من (ت). (¬12) قوله: "بها" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬13) قوله: "وهو" سقط من (ت).

يَعْتَقِدَهَا (¬1) بِدَعَةً، بَلْ هِيَ عِنْدَهُ مِمَّا يلحق بالمشروعات، كَقَوْلِ مِنْ جَعْلِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ يُصَامُ لأَنه يَوْمُ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعْلَ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الأَول مُلْحَقًا بأَيام الأَعياد لأَنه عَلَيْهِ السَّلَامُ وُلِدَ فِيهِ، وَكَمَنَ عَدَّ السَّمَاعَ وَالْغَنَاءَ مِمَّا يُتقرَّب بِهِ إِلى اللَّهِ بِنَاءً عَلَى أَنه يَجْلِبُ الأَحوال السُّنِّيَّةَ، أَو رَغِبَ فِي الدعاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدبار الصَّلَوَاتِ دَائِمًا بِنَاءً عَلَى مَا جاءَ في ذلك حالة الوحدة، أَو زَادَ فِي الشَّرِيعَةِ أَحاديث مَكْذُوبَةً لِيَنْصُرَ فِي زَعْمِهِ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنك تَكْذِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ: "مِنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فليتبوأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (¬2)؛ قَالَ: لَمْ أَكذب عَلَيْهِ، وإِنما كَذَبْتُ لَهُ. أَو نَقَّصَ مِنْهَا تأْويلاً عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬3)، فأَسقط اعْتِبَارَ الأَحاديث الْمَنْقُولَةِ بِالْآحَادِ لِذَلِكَ، وَلِمَا أَشبهه (¬4)؛ لأَن خبر الواحد ظني (¬5)، فهذا كله من قبيل التأْويل. وأَما الْمُقَلِّدُ: فَكَذَلِكَ أَيضاً؛ لأَنه يَقُولُ: فلانٌ المُقْتَدَى به يعمل بهذا العمل، أو يُفتي به (¬6)؛ كَاتِّخَاذِ الْغِنَاءِ جُزْءًا مِنْ أَجزاءِ طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ بناءً منهم عَلَى أَنَّ شُيُوخَ التَّصَوُّفِ قَدْ سَمِعُوهُ وَتَوَاجَدُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ بِسَبَبِهِ، وَكَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ عِنْدَ التَّوَاجُدِ بِالرَّقْصِ وَسِوَاهُ لأَنهم قَدْ فَعَلُوهُ، وأَكثر مَا يَقَعُ مِثْلَ هَذَا فِي هؤلاءِ المنتمين إِلى التصوف. وربما احتجوا على بدعهم (¬7) بالجُنَيد، والبِسْطامي، والشِّبْلي، ¬

(¬1) قوله: "يعتقدها" في موضعه بياض في (ر) و (غ). (¬2) قوله صلّى الله عليه وسلّم: "مِنْ كَذَبَ عَلِيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النار": ورد عن عدد كثير من الصحابة، منهم: أبو هريرة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري (110) و (6197)، ومسلم في "المقدمة" (3). (¬3) سورة النجم: الآية (28). (¬4) في (خ): "أشبه". (¬5) سبق أن بيّنتُ (ص238 ـ 239) أن المصنف رحمه الله متأثر بموقف الأشاعرة من أخبار الآحاد، فانظر تعليقي على عبارته هناك إن شئت. (¬6) في (خ): "ويتني" وفي (م): "أو يثني به"، وفي (ت): "أو يثني عليه". (¬7) في (ت): "بدعتهم".

وغيرهم؛ فيما صَحَّ عنهم (¬1)، أَو لَمْ يَصِحّ، وَيَتْرُكُونَ أَن يَحْتَجُّوا (¬2) بِسُنَّةِ الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهي التي لا شائبة في هداها (¬3)، إذَا نَقَلها الْعُدُولُ، وفسَّرها أَهلُها المُكِبّون عَلَى فَهْمِهَا وَتَعَلُّمِهَا (¬4)، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقرّون بالخلاف للسنّة بَحْتاً (¬5)، بَلْ يَدْخُلُونَ تَحْتَ أَذيال التَّأْوِيلِ، إِذ لَا يَرْضَى مُنْتَمٍ إِلى الإِسلام بإِبداءِ صَفْحَةِ الْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ (¬6) أَصلاً. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ مَالِكٍ: من أَحدث في هذه الأَمة شيئا لم يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ (¬7)، وَقَوْلُهُ لِمَنْ أَراد أَن يُحْرِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ: أَيُّ فِتْنَةٍ أَعظم مِنْ أَن تَظُنَّ (¬8) أَنك سَبَقْتَ إِلى (¬9) فَضِيلَةٍ قصَّر عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ... ، إِلى آخِرِ الْحِكَايَةِ ـ وَقَدْ تقدم (¬10) ذكر (¬11) ذلك (¬12) ـ: إنما (¬13) هو (¬14) إِلزام لِلْخَصْمِ (¬15) عَلَى عَادَةِ أَهل النَّظَرِ، كأَنه يقول له (¬16): يلزمك في هذا القول كذا، لا أنه (¬17) يقول له (¬18): قَصَدْتَ إِليه قَصْداً؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ إِلَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ. وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ: هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَم لَا؟ هِيَ مسأَلة مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَهل الأُصول، وَالَّذِي كَانَ يَقُولُ (¬19) بِهِ شُيُوخُنَا البِجَائِيّون (¬20) والمغربيون ¬

(¬1) في (خ) و (م) و (ت): "عندهم" بدل "عنهم". (¬2) لو قال: "ويتركون الاحتجاج" لكان أجود. (¬3) في (خ) و (م) و (ت): "فيها" بدل "في هداها". (¬4) في (ر) و (غ): "تفهمها ونقلها". (¬5) في (خ): "بختاً" وفي (م): "تحتاً". والبَحْتُ: الخالص من الشيء. (¬6) قوله: "للسنة" سقط من (ر) و (غ). (¬7) تقدم قريباً (ص384 و398)، فانظره إن شئت. (¬8) في (ر) و (غ): "يظن". (¬9) قوله: "إلى" سقط من (م). (¬10) تقدمت صفحة (250) من القسم الأول. (¬11) قوله: "ذكر" تصحف في (غ) إلى "صدر". (¬12) قوله: "وقد تقدم ذكر ذلك" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬13) في (ر) و (غ): "وإنما". (¬14) قوله: "هو" سقط من (خ) و (م). (¬15) المعنى: أن قول مالك إلزام للخصم. (¬16) قوله: "له" من (ر) و (غ) فقط. (¬17) في (م) و (خ): "لأنه". (¬18) قوله: "له" ليس في (خ) و (م). (¬19) في (ر) و (غ): "يفتي" بدل "يقول". (¬20) في (م) يشبه أن تكون: "البجابيون". والبِجَائيّون: نسبة إلى بِجَايَةَ ـ بالكسر، وتخفيف=

وَيَرَوْنَ أَنه رأْي الْمُحَقِّقِينَ أَيضاً: أَن لَازِمَ المذهب ليس بمذهب، فلذلك (¬1) إِذا قُرِّر عليه (¬2) الْخَصْمِ أَنكره غَايَةَ الإِنكار، فإِذاً اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَى التَّحْقِيقِ لَا يَنْهَضُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تستوي البدعة مع المعصية، فكما أن المعاصي (¬3) صَغَائِرٌ وَكَبَائِرٌ (¬4)، فَكَذَلِكَ الْبِدَعُ. ثُمَّ إِن الْبِدَعَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: كُلِّيَّةٌ وجُزئيَّة: فَأَمَّا الْكُلِّيَّةُ: فَهِيَ السَّائِرة (¬5) فِيمَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ فُرُوعِ (¬6) الشَّرِيعَةِ، وَمِثَالُهَا: بِدَعُ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ، فإِنها مُخْتَصَّة بالكُلِّيّات مِنْهَا دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ، حَسْبَمَا يتبيَّن (¬7) بعدُ إِن شاءَ الله تعالى. وأَما الْجُزْئِيَّةُ: فَهِيَ الْوَاقِعَةُ (¬8) فِي الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ دُخُولُ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبِدَعِ تحت الوعيد بالنار، وإِن دخل (¬9) تحت وَصْفِ الضَّلال (¬10)، كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي سَرِقَةِ لِقِمَّةٍ، أَو التَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، وإِن كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ وَصْفِ السَّرِقَةِ، بَلِ الْمُتَحَقِّقُ دُخُولُ عَظَائِمِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا كَالنِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ، فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الأَدلةُ واضحةَ الشمولِ لَهَا، أَلَّا تَرَى أَنَّ خَوَاصَّ الْبِدَعِ (¬11) غَيْرُ ظَاهِرَةٍ فِي أَهل الْبِدَعِ الْجُزْئِيَّةِ غَالِبًا؟ كالفُرْقة وَالْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وإِنما تَقَعُ الْجُزْئِيَّاتُ فِي الْغَالِبِ كالزَّلَّة والفَلْتَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِيهَا مَعَ حُصُولِ التأْويل فِي فَرْدٍ مِنْ أَفراد الْفُرُوعِ، وَلَا الْمَفْسَدَةُ الحاصلة بالجزئية كالمفسدة الحاصلة بالكلية. ¬

=الجيم، وألف، وياء، وهاء ـ: وهي مدينة على ساحل البحر بين إفريقية والمغرب. انظر: "معجم البلدان" (1/ 339). (¬1) قوله: "فلذلك" سقط من (ر) و (غ). (¬2) في (خ) و (ت): "على". (¬3) قوله: "فكما أن المعاصي" سقط من (خ). (¬4) في (ت): "كبائر وصغائر". (¬5) في (خ) و (ت): "السارية". (¬6) في (م): "مرفوع" بدل: "من فروع". (¬7) في (خ): "يتعين"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "لعله: يتبين". (¬8) في (ر) و (غ): "الرابعة". (¬9) في (خ) و (م) و (ت): "دخلت". (¬10) في (خ) و (م) و (ت): "الوصف بالضلال". (¬11) في (ر) و (غ): "البدعة".

فَعَلَى هَذَا: إِذا اجْتَمَعَ فِي الْبِدْعَةِ وَصْفَانِ: كَوْنُهَا جُزْئِيَّةً، وَكَوْنُهَا بالتأْويل (¬1)؛ صَحَّ أَن تَكُونَ صَغِيرَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِثَالُهُ: مسأَلة مَنْ نَذَرَ أَن يصوم قائماً لا يجلس، وضاحياً لا يَسْتَظِلُّ (¬2)، وَمَنْ حرَّم عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحل اللَّهُ؛ مِنَ النَّوْمِ، أَو لَذِيذِ الطَّعَامِ، أَو النِّسَاءِ، أَو الأَكل (¬3) بِالنَّهَارِ، وَمَا أَشبه ذلك مما تقدم ذكره (¬4)، أَو يأْتي. غَيْرَ أَن الْكُلِّيَّةَ وَالْجُزْئِيَّةَ قَدْ تَكُونُ ظَاهِرَةً، وَقَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً، كَمَا أَن التأْويل قَدْ يُقَرِّبُ مأْخذه وَقَدْ يُبَعِّدُ، فَيَقَعُ الإِشكال فِي كَثِيرٍ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْفَصْلِ، فَيَعُدُّ كَبِيرَةً مَا هُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَبِالْعَكْسِ، فَيُوكَلُ النَّظَرُ فيه إِلى الاجتهاد، وبالله التوفيق (¬5). انتهى (¬6). ¬

(¬1) قوله: "بالتأويل"سقط من (غ)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر اللحق في التصوير. (¬2) تقدم تخريجه صفحة (28) من هذا الجزء. (¬3) من قوله: "شيئاً مما أحل الله" إلى هنا بياض في (غ)، وسببه: أنها منقولة عن (ر)، وهذا ملحق بالهامش كما سيأتي، ولم يتضح موضع البياض. (¬4) انظر: صفحة (28 و359 و363 ـ 364 و380 فما بعدها). (¬5) قوله: "وبالله التوفيق" من (ر) و (غ) فقط. (¬6) قوله: "انتهى" ليس في (ر) و (غ). ومن قوله: "شيئاً مما أحل الله من النوم" إلى آخر الفصل ملحق بهامش (ر)، ولم يتضح بعضه بسبب التصوير، ومن الواضح أن بعضه قد تآكل لمجيئه في طرف الورقة، ولذا بيّض ناسخ (غ) لبعضه ـ كما تقدم ـ، وهو الجزء الذي في طرف الورقة.

فصل

فصل وإذا سلَّمنا (¬1): إِنَّ مِنَ الْبِدَعِ مَا يَكُونُ صَغِيرَةً؛ فَذَلِكَ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَن لَا يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، فإِن الصَّغِيرَةَ مِنَ الْمَعَاصِي لِمَنْ دَاوَمَ عَلَيْهَا تَكْبُرُ بِالنِّسْبَةِ إِليه؛ لأَن ذَلِكَ نَاشِئٌ عَنِ (¬2) الإِصرار عَلَيْهَا، والإِصرار عَلَى الصَّغِيرَةِ يُصَيِّرها كَبِيرَةً، وَلِذَلِكَ قَالُوا: "لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصرار، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ" (¬3)، فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، إِلا أَن الْمَعَاصِيَ مِنْ شأْنها فِي الْوَاقِعِ (¬4) أَنها قَدْ يُصِرُّ عَلَيْهَا، وَقَدْ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا، وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَني طرحُ الشَّهَادَةِ، وسُخْطَةُ الشَّاهِدِ بِهَا أَو عَدَمُهُ، بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ فإِن شأْنها في الواقع المداومة عليها (¬5)، وَالْحِرْصِ عَلَى أَن لَا تُزَالَ (¬6) مِنْ مَوْضِعِهَا، وأَن تَقُومَ عَلَى تَارِكِهَا الْقِيَامَةُ، وَتَنْطَلِقَ عَلَيْهِ أَلسنة الْمَلَامَةِ، وَيُرْمَى بالتَّسْفِيهِ والتَّجْهِيل، ويُنْبَزُ بالتَّبْديع والتَّبْديل (¬7)، ضِدَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الأُمة، والمُقْتَدَى بِهِمْ مِنَ الأَئمة. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: الاعتبار والنقل. ¬

(¬1) في (خ) و (م) و (ت): "وإذا قلنا" بدل: "وإذا سلمنا". (¬2) في (م): "على". (¬3) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (8/ 245)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 934)، واللالكائي في "السنة" (1919)، ثلاثتهم من طريق شبل بن عباد، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رجلاً سأله عن الكبائر: أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعمئة أقرب، إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وإسناده صحيح. (¬4) في (ت): "إلا أن المعاصي في الواقع من شأنها". (¬5) قوله: "عليها" من (ر) و (غ) فقط. (¬6) في (م): "ألا نزال". (¬7) في (خ) و (م) و (ت): "والتضليل" بدل "والتبديل".

أما الاعتبار (¬1): فإِن أَهل الْبِدَعِ كَانَ مِنْ شأْنهم الْقِيَامُ بِالنَّكِيرِ عَلَى أَهل السُّنَّةِ إِن كَانَ لَهُمْ عُصْبَة، أَو لَصَقُوا بِسُلْطَانٍ تَجْرِي أَحكامه فِي النَّاسِ، وَتَنْفُذُ أَوامره فِي الأَقطار، وَمَنْ طَالَعَ سَيْرَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى. وأَما النَّقْلُ: فَمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ مِنْ أَن الْبِدْعَةَ إِذا أُحدثت، لَا تَزِيدُ إِلا مُضِيًّا، وَلَيْسَتْ (¬2) كَذَلِكَ الْمَعَاصِي، فَقَدْ يَتُوبُ صَاحِبُهَا ويُنيب إِلى اللَّهِ، بَلْ قَدْ جاءَ مَا يَشُدّ (¬3) ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الفِرَق، حَيْثُ جاءَ فِي بَعْضُ الرِّوَايَاتِ: "تَتَجَارَى (¬4) بِهِمْ تِلْكَ الأَهواءُ كَمَا يَتَجَارَى (¬5) الكَلَبُ بِصَاحِبِهِ" (¬6). وَمِنْ هُنَا جَزَمَ السَّلَفُ بأَن الْمُبْتَدِعَ لَا تَوْبَةَ لَهُ مِنْهَا حسبما تقدم. وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَن لَا يَدْعُوَ (¬7) إِلَيْهَا، فإِن الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ صَغِيرَةً بالإِضافة، ثُمَّ يَدْعُو مبتدعها إِلى القول بها، والعمل بمقتضاها (¬8)، فَيَكُونُ إِثم ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَيْهِ؛ فإِنه الَّذِي (¬9) أَثارها، وبسببه كَثُرَ (¬10) وقوعُها والعملُ بِهَا؛ فإِن الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ (¬11) قَدْ أَثبت (¬12) أَن كُلَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً؛ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يُنْقِص ذَلِكَ مِنْ أَوزارهم شَيْئًا، وَالصَّغِيرَةُ مع الكبيرة إِنما تفاوتهما (¬13) بِحَسَبِ كَثْرَةِ الإِثم وقِلَّته، فَرُبَّمَا تُسَاوِي الصغيرةُ ـ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ـ الكبيرةَ، أَو تُرْبي عَلَيْهَا. فَمِنْ حَقِّ الْمُبْتَدِعِ إِذا ابْتُلِيَ بِالْبِدْعَةِ أَن يقتصر بها (¬14) عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَحْمِلَ مَعَ وِزْرِهِ وَزَرَ غيره. ¬

(¬1) قوله: "أما الاعتبار" ليس في جميع النسخ، سوى (ت)، فإنه ملحق بهامشها، وهو المتفق مع السياق. (¬2) في (ر) و (غ): "ليس". (¬3) في (ت): "ما يؤيد" بدل "ما يشد". (¬4) في (ر) و (غ): "تتجازى". (¬5) في (غ): "يتجازى". (¬6) انظر: صفحة (390) من هذا الجزء. (¬7) في (ر) و (غ): "يدعى". (¬8) في (خ) و (م) و (ت): "على مقتضاها". (¬9) قوله: "الذي" ليس في (غ) و (ر). (¬10) في (خ) و (م): "ونسبة كثرة"، وفي (ت): "وسبب كثرة". (¬11) أخرجه مسلم في "صحيحه" (1017). (¬12) في (ر) و (غ): "أنبأ" بدل "أثبت". (¬13) في (م) و (خ): "تفاوتها". (¬14) قوله: "بها" ليس في (خ) و (م) و (ت).

وفي هذا الوجه قد يتعذّر الخروج عنه (¬1)؛ فإِن الْمَعْصِيَةَ فِيمَا بَيْنُ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ يَرْجُو فِيهَا مِنَ التَّوْبَةِ وَالْغُفْرَانِ مَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مع الدعاءِ إِليها، وقد مَرّ من ذلك (¬2) فِي بَابِ ذَمِّ الْبِدَعِ، وَبَاقِي الْكَلَامِ فِي المسأَلة سيأْتى إِن شاء الله. وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَن لَا تَفْعَلُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعَاتُ النَّاسِ، أَو الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ، وَتُظْهَرُ فِيهَا أَعلام الشَّرِيعَةِ؛ فأَما إِظهارها فِي الْمُجْتَمَعَاتِ مِمَّنْ يُقْتَدى بِهِ، أَو ممن يُحَسَّن (¬3) بِهِ الظَّنَّ؛ فَذَلِكَ مِنْ أَضرّ الأَشياءِ على سنة الإِسلام، فإِنها لا تعدو أحد (¬4) أَمرين: إِما أَن يُقْتَدى بِصَاحِبِهَا فِيهَا، فإِن الْعَوَامَّ أَتباع كلِّ ناعِقٍ؛ لَا سِيَّمَا الْبِدَعَ الَّتِي وُكِّل الشَّيْطَانُ بِتَحْسِينِهَا (¬5) لِلنَّاسِ، وَالَّتِي لِلنُّفُوسِ فيها هَوًى (¬6)، وإِذا اقتُدي بِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ الصَّغِيرَةِ كَبُرت بِالنِّسْبَةِ إِليه، لأَن كُلَّ مَنْ دَعَا إِلى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، فَعَلَى حَسَبِ (¬7) كَثْرَةِ الأَتباع يَعْظُمُ عَلَيْهِ الوِزْرُ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي صَغَائِرَ الْمَعَاصِي، فإِن الْعَالِمَ مَثَلًا إِذا أَظهر الْمَعْصِيَةَ ـ وإِن صَغُرَتْ ـ؛ سَهُلَ عَلَى النَّاسِ ارْتِكَابُهَا، فإِن الْجَاهِلَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ كَمَا قَالَ (¬8) مِنْ أَنه ذَنْبٌ، لَمْ يَرْتَكِبْهُ، وإِنما ارْتَكَبَهُ لأَمر عَلِمَه دُونَنَا، فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ إِذا أَظهرها العالم، اقتُدِيَ (¬9) به (¬10) فيها لا محالة (¬11)؛ فإِنها مَظِنَّة (¬12) التقرُّب فِي ظَنِّ الْجَاهِلِ؛ لأَن الْعَالِمَ يَفْعَلُهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، بَلِ الْبِدْعَةُ أَشدّ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ إِذ الذَّنْبُ قَدْ لَا يُتّبعُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ، فَلَا يَتَحَاشَى أَحد عَنِ اتِّبَاعِهِ، إِلا مَنْ كَانَ عَالِمًا بأَنها بدعة ¬

(¬1) قوله: "عنه" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬2) قوله: "من ذلك" من (ر) و (غ) فقط. (¬3) قوله: "يحسن" سقط من (خ) و (م) و (ت)، وعلق رشيد رضا على موضعه بقوله: لعل الأصل: "بمن يحسن به الظن".اهـ. (¬4) قوله: "أحد" من (ر) و (غ) فقط. (¬5) في (ر) و (غ): "لتحسينها". (¬6) في طبعة رشيد رضا: "للنفوس في تحسينها هوى"، مع أن نسخة (خ) موافقة لما هنا! (¬7) قوله: "حسب" سقط من (ت). (¬8) في (ر) و (غ): "قيل". (¬9) في (خ) و (م) و (ت): "المقتدى". (¬10) قوله: "به" سقط من (خ) و (م). (¬11) في (ر) و (غ): "لا مخالفة". (¬12) في (ت) و (خ) و (م): "فإنها في مظنة".

مذمومة، فحينئذ تصير (¬1) فِي دَرَجَةِ الذَّنْبِ، فإِذا كَانَتْ (¬2) كَذَلِكَ صَارَتْ كَبِيرَةً بِلَا شَكٍّ، فإِن كَانَ دَاعِيًا إِليها فَهُوَ (¬3) أَشد، وإِن كَانَ الْإِظْهَارُ بَاعِثًا عَلَى الِاتِّبَاعِ؛ فبالدعاءِ يَصِيرُ (¬4) أَدعى إِليه. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: أَن رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسرائيل ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَدَعَا النَّاسَ إِليها فَاتُّبعَ، وأَنه لَمَّا عَرَفَ (¬5) ذَنْبَهُ عَمَدَ إِلى تَرْقُوَتِهِ فَنَقَبَهَا، فأَدخل (¬6) فِيهَا حَلْقَةً، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا سِلْسِلَةً، ثم أوثقها في شجرة؛ فجعل يَبْكِي ويَعِجّ إِلى رَبِّهِ، فأَوحى اللَّهُ إِلى نَبِيِّ تِلْكَ الأُمة: أَن لَا تَوْبَةَ لَهُ (¬7)، قَدْ غُفِرَ لَهُ الَّذِي أَصاب؛ فَكَيْفَ بِمَنْ أَضَلَّ (¬8) من الناس (¬9)، فَصَارَ مِنْ أَهل (¬10) النَّارِ (¬11) (¬12)؟!. وأَما اتِّخَاذُهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ: فَهُوَ كالدعاءِ إِليها بالتصريح؛ لأَن محل (¬13) إِظهار الشعائر (¬14) الإِسلامية يوهم (¬15) أَن كل ما ¬

(¬1) في (م) و (ت) و (خ): "يصير". (¬2) في (ر) و (غ): "كان". (¬3) في (ت): "فهي". (¬4) كذا في (خ) و (ت)، وفي (ر) و (غ): "فالدعاء نصاً" وفي (م): "فالدعاء نصٌ". (¬5) في (ت): "علم" بدل "عرف". (¬6) في (ت): "فثقبها وأدخل". (¬7) قوله: "له" سقط من (ر) و (غ). (¬8) في (خ) و (م) و (ت): "ضل". (¬9) قوله: "من الناس" من (ر) و (غ) فقط. (¬10) قوله: "أهل" في موضعه بياض في (م). (¬11) قوله: "فصار من أهل النار" سقط من (ر) و (غ) وفي "البدع" لابن وضاح (72): "فكيف من أضل فصار إلى النار". (¬12) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (72) من طريق أسد بن موسى، قال: نا بعض أصحابنا، عن إسماعيل بن عياش، عن أبان بن أبي عياش، عن الحسن به. وإسناده ضعيف جداً؛ لإبهام شيخ أسد، ولأن أبان بن أبي عيّاش البصري متروك؛ كما في "التقريب" (143)، ولأن إسماعيل بن عيّاش الحمصي ضعيف إذا روى عن غير الشاميين، ففي "التقريب" (477): "صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلِّط في غيرهم"، وهذا من روايته عن أبان، وهو بصري، ثم لو صَحّ هذا عن الحسن البصري لما كان حجّة؛ لأنه من الإسرائيليات، وليس هناك ما يحوج الشاطبي رحمه الله لإيراد مثل هذه الحكايات التي لا تصح، وتنافي ما هو معلوم من الدين بالضرورة من فتح باب التوبة!!. (¬13) في (خ): "عمل" بدل "محل"، وفي (م): "محمل"، وفي (ت): "محال". (¬14) في (ت) و (خ): "الشرائع". (¬15) في (ت) و (خ): "توهم".

أُظهر فِيهَا فَهُوَ مِنَ الشَّعَائِرِ، فكأَنّ المُظْهِرَ لَهَا يَقُولُ: هَذِهِ سُنَّةٌ فَاتَّبِعُوهَا. قَالَ أَبو مُصْعَبٍ (¬1): قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، فصلَّى، وَوَضَعَ رداءَه بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ، فَلَمَّا سلَّم الإِمام رَمَقَهُ (¬2) النَّاسُ بأَبصارهم، ورَمَقوا مَالِكًا ـ وَكَانَ قَدْ صَلَّى خَلْفَ الإِمام ـ، فَلَمَّا سلَّم قَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنَ الحَرَس؟ فجاءَه نَفْسَانِ، فَقَالَ: خُذَا صَاحِبَ هَذَا الثَّوْبِ فَاحْبِسَاهُ، فحُبِسَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنه ابْنُ مَهْدِيٍّ، فوجَّه إِليه وَقَالَ لَهُ (¬3): أَمَا خِفْتَ (¬4) اللَّهَ واتَّقَيْتَه أَن وَضَعْتَ ثَوْبَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ فِي الصَّفِّ، وَشَغَلْتَ الْمُصَلِّينَ بِالنَّظَرِ إِليه، وَأَحْدَثْتَ فِي مَسْجِدِنَا شَيْئًا مَا كُنَّا نَعْرِفُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي مَسْجِدِنَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجمعين" (¬5)؟ فَبَكَى ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَن لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ أَبداً فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ عن ابن مهدي (¬6) قال: فقلت للحرسِيَّيْن: تذهبان بي إلى أبي (¬7) عبد الله؟ قالا: إِن شئت، فذهبا (¬8) بي (¬9) إِليه، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! تُصَلِّي مُسْتَلباً (¬10)؟! فَقُلْتُ: يَا أَبا عَبْدِ اللَّهِ! إِنه كَانَ يَوْمًا حارًّا ـ كما ¬

(¬1) ذكرها القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (2/ 40)، وتقدمت في الجزء الأول (ص204 ـ 205). (¬2) في (غ): "رمقوا"، ويشبه أن تكون هكذا في (ر). (¬3) قوله: "له" ليس في (ر) و (غ). (¬4) في (خ) و (م) و (ت): "ما خفت". (¬5) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (1867 و7306)، ومسلم (1366 و1367)، كلاهما من طريق عاصم بن سليمان الأحول؛ قال: قلت لأنس بن مالك: أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة؟ قال: نعم! ما بين كذا إلى كذا، فمن أحدث فيها حدثاً، قال: ثم قال لي: هذه شديدة: "مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يوم القيامة صَرْفاً ولا عَدْلاً". قال: فقال ابن أنس: أو آوى مُحْدثاً. اهـ. واللفظ لمسلم. ولا شك أن أول ما ينصرف إليه هذا الحديث من المدينة: مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك جعل مالك رحمه الله السياق هكذا: "من أحدث في مسجدنا ... " إلخ، وأما لفظ الحديث، فهو الذي تقدم. (¬6) ذكرها القاضي عياض في الموضع السابق. (¬7) قوله: "أبي" سقط من (م) ". (¬8) في (خ): و (ت): "فذهبنا". (¬9) قوله: "بي" من (ر) و (غ) فقط، والمثبت موافق لما في "ترتيب المدارك". (¬10) في (ر) و (غ): "متسلباً"، وفي (م): "مستلب".

رأَيت ـ، فَثَقُلَ رِدَائِي عَلَيَّ، فَقَالَ: آللَّهُ! مَا أَردت بِذَلِكَ (¬1) الطَّعْنَ عَلَى مَنْ مَضَى وَالْخِلَافَ عَلَيْهِ (¬2)؟ قُلْتُ: آللَّهُ (¬3)! قَالَ: خَلِّيَاهُ. وَحَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ (¬4) قَالَ: ثوَّبَ الْمُؤَذِّنُ بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ مَالِكٍ، فأَرسل إِليه مَالِكٌ فجاءَه، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: مَا هَذَا الَّذِي (¬5) تَفْعَلُ؟ فَقَالَ: أَردت أَن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: لَا تَفْعَلْ! لَا تُحْدِثْ (¬6) فِي بَلَدِنَا شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ! قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْبَلَدِ عَشْرَ سِنِينَ، وأَبو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَلَمْ يَفْعَلُوا هَذَا، فَلَا تُحْدِثْ فِي بَلَدِنَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ! فكَفَّ الْمُؤَذِّنُ عَنْ ذَلِكَ، وأَقام زَمَانًا، ثُمَّ إِنه تَنَحْنَحَ فِي المَنارة عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فأَرسل إِليه مالك، فقال له: ما هذا (¬7) الَّذِي تَفْعَلُ؟ قَالَ: أَردت أَن يَعْرِفَ النَّاسُ طُلُوعَ الْفَجْرِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ أَنْهَك أَن لَا تُحْدِثَ عِنْدِنَا مَا لَمْ يَكُنْ؟ فَقَالَ: إِنما نهيتني عن التَّثْويب (¬8)! فقال له مالك (¬9): لا تفعل! فَكَفَّ أيضاً (¬10) زَمَانًا، ثُمَّ جَعَلَ يَضْرِبُ الْأَبْوَابَ، فأَرسل إِليه مالك (¬11)، فقال له (¬12): مَا هَذَا الَّذِي تَفْعَلُ؟ فَقَالَ (¬13): أَردت أَن يَعْرِفَ النَّاسُ طُلُوعَ الْفَجْرِ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: لَا تَفْعَلْ! لَا تُحْدِثْ (¬14) فِي بَلَدِنَا مَا لم يكن فيه!. ¬

(¬1) في (م): "أبذلك". (¬2) في (ر) و (غ): "عليهم". (¬3) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: هذا قسم حذفت أداته؛ لقّنه القَسَم، فحلف على ما لقّنه، فكأنه قال له: قل: والله! ما أردت بهذا الطعن ... ، إلخ، فقال: والله؛ أي: ما أردت ذلك. اهـ. (¬4) في "البدع والنهي عنها" (103) تعليقاً. (¬5) قوله: "الذي" سقط من (خ) و (م) و (ت)، وقوله: "مالك ما هذا الذي" مكرر في (غ). (¬6) في (ت): "ولا تحدث". (¬7) قوله: "هذا" سقط من (خ). (¬8) في (م): "الثويب". (¬9) قوله: "مالك" من (ر) و (غ) فقط، وهو مثبت في "البدع والنهي عنها". (¬10) قوله: "أيضاً" من (ر) و (غ) فقط، وهو مثبت في "البدع والنهي عنها". (¬11) في (ر) و (غ): "فأرسل مالك فيه". (¬12) قوله: "له" من (ر) و (غ) فقط، وهو مثبت في "البدع والنهي عنها". (¬13) في (ت): "قال". (¬14) في (م): "لا تجدث".

قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ التَّثْوِيبَ. قال (¬1): وإِنما أُحدث هذا بالعراق. قيل لابن وَضَّاحٍ: فَهَلْ كَانَ يُعمل بِهِ بِمَكَّةَ (¬2)، أَو الْمَدِينَةِ، أَو مِصْرَ، أَو غَيْرِهَا مِنَ الأَمصار؟ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُهُ إِلا عِنْدَ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ والإِباضيين (¬3). فتأَمّل كَيْفَ مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ إِحداث أَمرٍ يَخِفُّ شأْنه عند الناظر فيه ببادي الرأْي، وَجَعْلِهِ أَمراً مُحْدَثًا، وَقَدْ قَالَ فِي التَّثْوِيبِ: إِنه ضَلَالٌ (¬4). وَهُوَ بَيِّنٌ؛ لأَن كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَلَمْ يُسَامِحْ المؤذن (¬5) فِي التَّنَحْنُحِ، وَلَا فِي ضَرْبِ الأَبواب؛ لأَن ذَلِكَ جَدِيرٌ بأَن يُتَّخَذَ سُنَّةً، كَمَا مَنَعَ مِنْ وَضْعِ الرِّدَاءِ (¬6) عبدَ الرحمن بنَ مهدي خوفاً (¬7) أَن يَكُونَ حَدَثًا أَحدثه. وَقَدْ أَحدث بِالْمَغْرِبِ المُتَسَمِّي (¬8) بِالْمَهْدِيِّ (¬9) تَثْوِيبًا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: "أَصبح وَلِلَّهِ الْحَمْدُ"؛ إِشعاراً بأَن الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ، لإِلزام الطَّاعَةِ، وَلِحُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وللْغُدوِّ (¬10) لكل (¬11) ما يؤمرون به، فَمَحَضَهُ (¬12) هؤلاءِ المتأَخرون تَثْوِيبًا بِالصَّلَاةِ كالأَذان. وَنَقَلَ أَيضاً إِلى أَهل الْمَغْرِبِ الْحِزْبَ الْمُحْدَثَ بالإِسكندرية، وَهُوَ الْمُعْتَادُ فِي جَوَامِعِ الأَندلس وَغَيْرِهَا، فَصَارَ ذَلِكَ كُلُّهُ سَنَةً فِي الْمَسَاجِدِ إِلى الْآنَ، فإِنا لله وإِنا إِليه راجعون!. ¬

(¬1) أي: ابن وضاح. (¬2) في (ت): "في مكة". (¬3) إلى هنا انتهى كلام ابن وضاح من كتابه السابق عقب ذكره لحكاية مالك. (¬4) تقدم تخريجه صفحة (383 و394). (¬5) في (خ) و (م) و (ت): "للمؤذن". (¬6) في (خ) و (ت): "رداء". (¬7) في (ت) و (خ): "خوف". (¬8) في (ت): "المسمى". (¬9) هو: محمد بن عبد الله بن تومرت. انظر ترجمته مطوَّلة في "سير أعلام النبلاء" (19/ 539)، وانظر طرفاً من أخباره وإحداثاته فيما ساقه المؤلف (ص84 فما بعد). (¬10) قوله: "وللغدو" في موضعه بياض في (ت). (¬11) في (ت): "ولكل"، ويبدو أنها واو "وللغدو". (¬12) كذا في (ر) و (غ)، وفي (خ): "فيخصه"، وفي (م): "فبحصه"، وفي (ت) يشبه أن=

وَقَدْ فُسِّرَ التَّثْوِيبَ الَّذِي أَشار إِليه مَالِكٌ: بأَن الْمُؤَذِّنَ كَانَ إِذا أَذَّن فأَبطأَ النَّاسُ؛ قَالَ بَيْنَ الأَذان والإِقامة: "قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ" (¬1)، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ عِنْدَنَا: الصَّلَاةُ، رَحِمَكُمُ اللَّهُ!. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (¬2) بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أَنه دخل مسجداً يريد (¬3) أَن يُصَلِّيَ فِيهِ، فثوَّب الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: اخْرُجْ بِنَا (¬4) مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدَعِ! وَلَمْ يَصُلِّ فيه (¬5). قال ابن رشد (¬6): وهو (¬7) نَحْوٌ مِمَّا كَانَ يُفعل عِنْدَنَا بِجَامِعِ قُرْطُبَةَ؛ مِنْ أَنْ يُفْرِدُ (¬8) الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ أَذَانِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ النداءَ عِنْدَ الْفَجْرِ بِقَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصلاة، ثم تُرِكَ. قَالَ: وَقِيلَ: إِنما عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَ الْمُؤَذِّنِ فِي أَذانه: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ؛ لأَنها كَلِمَةٌ زَادَهَا فِي الأَذان مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ من الشيعة. ¬

=تكون: "فتخصه". ومعنى "فمحضه": أي: جعلوه خالصاً للصلاة؛ بمعنى خصّوها به، وهذا يقرب مما في (خ) و (ت)، والله أعلم. (¬1) انظر ما تقدم (ص383 ـ 384 و394) من هذا الجزء. (¬2) قوله: "عبد الله" من (ر) و (غ) فقط. (¬3) قوله: "يريد" ليس في (م)، وفي (خ) و (ت): "أراد". (¬4) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: "يظهر أنه كان معه صاحب قال له ذلك. وهل كان في كلام المصنف تصريح بذلك سقط من الناسخين أم لا؟ الله أعلم".اهـ. وليس هناك سقط، ولكن المصنف لم يذكر اسم مجاهد في الرواية، وهو كان مع ابن عمر. (¬5) هذا الأثر أخذه المصنف ـ فيما يظهر ـ من "البيان والتحصيل" لابن رشد (1/ 435)؛ فإنه ذكره هناك، ثم ذكر الكلام الآتي نقله عنه. وقد أخرجه أبو داود (538) ـ ومن طريقه البيهقي (1/ 424) ـ من طريق سفيان الثوري، عن أبي يحيى القتّات، عن مجاهد؛ قال كنت مع ابن عمر ... ، فذكره. قال: النووي في "المجموع" (3/ 106): "ليس إسناده بالقوي".اهـ. وعِلّته أبو يحيى القتات فإنه لين الحديث كما في "التقريب" (8512). وأخرجه عبد الرزاق (1/ 475) عن ابن عيينة، عن ليث، عن مجاهد، به، وليث هو: ابن أبي سُليم، وهو ضعيف. انظر "التقريب" (5721). (¬6) في "البيان والتحصيل" (1/ 435 ـ 436). (¬7) كذا في (ر) و (غ) و"البيان والتحصيل"، وفي باقي النسخ: "وهذا". (¬8) كذا في جميع النسخ، وفي "البيان والتحصيل" "يعود" بدل "يفرد".

وَوَقَعَ فِي الْمَجْمُوعَةِ (¬1): أَن مَنْ سَمِعَ التَّثْوِيبَ وَهُوَ (¬2) فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ عَنْهُ، كَفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَفِي المسأَلة كَلَامٌ، والمقصود (¬3) مِنْهُ التَّثْوِيبُ الْمَكْرُوهُ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ: إِنه ضَلَالٌ، وَالْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الأُمور الْمُحْدَثَةِ أَن تَكُونَ فِي مَوَاضِعِ الْجَمَاعَةِ (¬4)، أَو فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ، ويُحَافَظُ فيها (¬5) عَلَى الْمَشْرُوعَاتِ أَشد الْمُحَافَظَةِ، لأَنها إِذا أُقيمت هُنَالِكَ أَخذها النَّاسُ وَعَمِلُوا بِهَا، فَكَانَ وِزْرُ ذَلِكَ عَائِدًا عَلَى الْفَاعِلِ أَوَّلاً، فيَكْثُر (¬6) وِزْرُهُ، ويَعْظُم خطر بدعته. وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَن لَا يَسْتَصْغِرَهَا وَلَا يَسْتَحْقِرُهَا ـ وإِن فَرَضْنَاهَا صَغِيرَةً ـ، فإِن ذَلِكَ اسْتِهَانَةٌ بِهَا، وَالِاسْتِهَانَةُ بِالذَّنْبِ أَعظم مِنَ الذَّنْبِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعِظَمِ مَا هُوَ صَغِيرٌ. وَذَلِكَ أَن الذَّنْبَ لَهُ نَظَرَانِ: نَظَرٌ (¬7) مِنْ جِهَةِ رُتْبَتِهِ في الشرع (¬8)، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَةِ الرَّبِّ الْعَظِيمُ بِهِ. فأَما النَّظَرُ الأَول: فَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ يُعَدّ صَغِيرًا إِذا (¬9) فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ أَنه صَغِيرٌ، لأَنا نضعه حيث وضعه الشرع. وأَما النظر (¬10) الْآخَرُ: فَهُوَ رَاجِعٌ إِلى اعْتِقَادِنَا فِي الْعَمَلِ به؛ حيث نَسْتَحْقِرُ مواجهة (¬11) الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْمُخَالَفَةِ، وَالَّذِي كَانَ يَجِبُ فِي حَقِّنَا أَن نَسْتَعْظِمَ ذَلِكَ جِدًّا، إِذ لَا فَرْقَ فِي التَّحْقِيقِ بَيْنَ الْمُوَاجَهَتَيْنِ: الْمُوَاجَهَةُ بِالْكَبِيرَةِ، والمواجهة بالصغيرة. ¬

(¬1) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 435 و436). (¬2) قوله: "وهو" ليس في (ر) و (غ). (¬3) في (خ): "المقصود". (¬4) في (ت): أن لا تكون في مواضع الجماعات". (¬5) في (خ) و (ت) و (م): "والمحافظة" بدل "ويحافظ فيها". (¬6) في (ر) و (غ): "فيكبر". (¬7) قوله: "نظر" ليس في (خ). (¬8) في (خ) و (م): "الشرط". بدل "الشرع"، وفي هامش (م) كتب: "لعله الشرع". (¬9) في (ت) و (م): "إذ". (¬10) قوله: "النظر" ليس في (خ) و (ت) و (م). (¬11) في (م): "نستحر مواجهة" وفي (خ) و (ت): "نستحرم جهة".

وَالْمَعْصِيَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ لَا يُفَارِقُهَا (¬1) النَّظَران فِي الْوَاقِعِ أَصلاً؛ لأَن تصوُّرَها (¬2) مَوْقُوفٌ عَلَيْهِمَا (¬3)، فَالِاسْتِعْظَامُ لِوُقُوعِهَا مَعَ كَوْنِهَا يُعْتَقَدُ فِيهَا أَنها صَغِيرَةٌ لَا يَتَنَافَيَانِ، لأَنهما اعْتِبَارَانِ مِنْ جهتين: فالعاصي وإِن تعمد (¬4) الْمَعْصِيَةَ لَمْ يَقْصِدْ بِتَعَمُّدِهِ الِاسْتِهَانَةَ بِالْجَانِبِ العَلِيِّ الرَّبَّانِيِّ، وإِنما قَصَدَ اتِّبَاعِ شَهْوَتِهِ مَثَلًا فِيمَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا، فَيَقَعُ الإِثم عَلَى حَسَبِهِ، كَمَا أَن الْبِدْعَةَ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا صَاحِبُهَا مُنَازَعَةَ الشَّارِعِ وَلَا التَّهَاوُنَ بِالشَّرْعِ، وإِنما قَصَدَ الْجَرْيَ عَلَى مُقْتَضَاهُ، لَكِنْ بتأْويلٍ زَادَهُ وَرَجَّحَهُ عَلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذا تَهَاوَنَ بِصِغَرِهَا فِي الشَّرْعِ فإِنه إِنما تَهَاوَنَ بِمُخَالَفَةِ الْمَلِكِ الْحَقِّ، لأَن النَّهْيَ حَاصِلٌ، وَمُخَالَفَتُهُ حَاصِلَةٌ، وَالتَّهَاوُنُ بِهَا عَظِيمٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: "لَا تَنْظُرْ إِلى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ، وَانْظُرْ إِلى عَظَمَةِ من واجهته (¬5) بها" (¬6). ¬

(¬1) في (غ): "لا يوافقها". (¬2) في (غ): "تصورهما". (¬3) في (خ) و (م): "عليها". (¬4) في (خ) و (ت) و (م): "يعمل" بدل "تعمد"، وعلق رشيد رضا قبلها بقوله: لعله سقط من هنا كلمة: "كان".اهـ. (¬5) في (خ): "أوجهته". (¬6) هذا نصُّ حديثٍ رُوي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلَا يصحُّ؛ وإنما المشهور أنه من قول بلال بن سعد. فأما المرفوع: فقد جاء من حديث ابن عمر، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة رضي الله عنهم. أخرجها ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1289 و1290 و1291) من طريقهم، ثم قال: فهذا مشهور من كلام بلال بن سعد، وإنما رفعه إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكذابون. فأما حديث ابن عمر: ففيه غالب بن عبيد الله، قال يحيى: ليس بثقة، وقال ابن حبان يروي المعضلات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به. وأما حديث عمرو: ففيه محمد بن إسحاق العكاشي، وهو الذي تفرد به، وقد سبق ذكره في كتابنا هذا، وأنه كذاب، وقال الدارقطني: يضع الحديث. وأما حديث أبي هريرة: ففيه سليمان بن عمرو، وهو أبو داود النخعي، وقد سبق في كتابنا أن أحمد بن حنبل قال: هو كذاب، وقال مرّة: كان يضع الحديث، وكذلك قال يحيى: هو ممن يعرف بالكذب ووضع الحديث". وأخرج العقيلي في "الضعفاء" (3/ 431) حديث ابن عمر من طريق غالب بن عبيد الله، ثم قال: "ليس له أصل مسند، ولا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به، وإنما=

وَفِي الصَّحِيحِ أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "أَي يَوْمٍ هَذَا؟ "، قَالُوا: يَوْمُ الْحَجِّ الأَكبر، قَالَ: "فإِن دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأَعراضكم بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا، ألا (¬1) لَا يَجْنِي جانٍ إِلا عَلَى نَفْسِهِ، أَلا لَا يَجْنِي جانٍ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا مَوْلُودٌ على والده، أَلا وإِن الشيطان قد أيِسَ (¬2) أَن يُعبد (¬3) في بلدكم هذا (¬4) أَبداً، ولكن ستكون (¬5) لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تَحْتَقِرون (¬6) مِنْ أَعمالكم، فَسَيَرْضَى به" (¬7). ¬

=يروى هذا عن بلال بن سعد"، ثم رواه بإسناده عن بلال بن سعد، ثم قال: "وهذا أولى من رواية غالب". ونحوه كلام أبي نعيم في "الحلية" (6/ 78). وانظر: لقول بلال بن سعد: "الزهد" لابن المبارك (1/ 24)، و"الزهد" للإمام أحمد (1/ 384)، و"تاريخ بغداد" (3/ 280)، و"شعب الإيمان" (1/ 269) و (5/ 430)، و"تهذيب الكمال" (4/ 295)، و"السير" (5/ 91)، و"طبقات الحنابلة" (1/ 321). (¬1) قوله: "ألا" من (ر) و (غ) فقط. (¬2) في (خ) و (م) و (ت) "يئس". (¬3) في (ت) و (خ) و (م): "أن لا يعبد". (¬4) في (ر) و (غ): "بلادكم هذه" وفي (م): "بلدكم هذه". (¬5) في (خ) و (ت) و (م): "ولا تكون" بدل "ولكن ستكون". (¬6) في (خ) و (م): "يحتقرون". (¬7) الحديث لم يخرج في "الصحيحين" بهذا اللفظ، ولذا علق رشيد رضا عليه بقوله: كذا في نسخة الكتاب! ولا أذكر لأحد روايته بهذا اللفظ، وفي حديث عمرو بن الأحوص عند أصحاب السنن ـ ما عدا أبا داود ـ: "ألا إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحقرون من أعمالكم، فيرضى بها".اهـ. ولعل المصنف أراد: "وفي الحديث الصحيح"، فالحديث أخرجه بهذا اللفظ الترمذي (2159)، وابن ماجه (3055)، والنسائي في "الكبرى" (4100) من طريق أبي الأحوص، عن شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه، به. قال الترمذي: "حسن صحيح، ولا نعرفه إلا من حديث شبيب بن غرقدة". وفي إسناده ضعف؛ سليمان بن عمرو قال فيه ابن القطان: مجهول كما في "تهذيب التهذيب" (4/ 186 رقم 363)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (4/ 314)،. وقال الحافظ في "التقريب" (2613): مقبول. وأخرجه أحمد (2/ 368) وغيره من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: "إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي منكم بما تحقرون".=

فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فَسَيَرْضَى بِهِ": دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ الخَطْبِ فِيمَا يُسْتَحْقَرُ. وَهَذَا الشَّرْطُ مِمَّا اعْتَبَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فإِنه ذَكَرَ فِي "الإِحياءِ" (¬1): أَن مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الصَّغِيرَةُ: أَن يَسْتَصْغِرَهَا. قَالَ: فإِن الذَّنْبَ كُلَّمَا اسْتَعْظَمَهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ صَغُرَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكُلَّمَا اسْتَصْغَرَهُ كَبُرَ عِنْدَ اللَّهِ: ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ وَبَسَطَهُ. فإِذا تَحَصَّلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ؛ فإِذْ ذَاكَ يُرْجَى أَن تَكُونَ صغيرُتها صَغِيرَةً (¬2)، فإِن تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْهَا أَو أَكثر؛ صَارَتْ كَبِيرَةً، أَو خِيفَ أَن تَصِيرَ كَبِيرَةً (¬3)، كَمَا (¬4) أَن المعاصي كذلك، والله أعلم. ¬

=وإسناده صحيح. وأخرجه الحميدي (1/ 54 رقم 98) من طريق إبراهيم الهجري؛ أنه سمع أبا الأحوص يقول: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الشيطان قد أيس أن تُعبد الأصنام بأرضكم هذه، أو بلدكم هذا؛ ولكنه قد رضي منكم بالمحقِّرات من أعمالكم، فاتقوا المحقرِّات، فإنهن من الموبقات ... "، الحديث. وفي سنده إبراهيم بن مسلم الهَجَري وهو مُتَكلَّم فيه، لكن الراوي عنه هنا سفيان بن عيينة، وروايته عنه جيدة كما بينته في تعليقي على "سنن سعيد بن منصور" (1/ 44 رقم 7). والحديث أصله في "الصحيحين" دون موضع الشاهد. فقد أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679)، كلاهما من حديث أبي بكرة رضي الله عنه؛ في ذكر خطبته صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع، لكن المخرج منه مما يتفق مع هذا الحديث إلى قوله: "في بلدكم هذا". وأخرج مسلم (2812) حديث جابر رضي الله عنه؛ قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"، والله أعلم. (¬1) (4/ 32). (¬2) قوله: "صغيرة" سقط من (ر) و (غ). (¬3) قوله: "أو خيف أن تصير كبيرة" ليس في (ر) و (غ). (¬4) في (غ): "مع" بدل "كما"، ثم صوبت في الهامش.

الباب السابع في الابتداع هل يدخل في الأمور العادية؟ أم يختص بالأمور العبادية؟

الْبَابُ السَّابِعُ فِي الِابْتِدَاعِ (¬1) هَلْ يَدْخُلُ فِي الأُمور (¬2) العادية؟ أَم يختص بالأُمور الْعِبَادِيَّةِ؟ قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِّ الْبِدْعَةِ مَا يَقْتَضِي الْخِلَافَ فِيهِ: هَلْ يَدْخُلُ فِي الأُمور الْعَادِيَّةِ؟ أَم لَا؟ أَما الْعِبَادِيَّةُ: فَلَا إِشكال فِي دُخُولِهِ (¬3) فِيهَا، وَهِيَ عَامَّةُ (¬4) الْبَابِ، إِذ الأُمور الْعِبَادِيَّةُ إِما أَعمال قَلْبِيَّةٌ وأُمور اعْتِقَادِيَّةٌ، وإِما أَعمال جَوَارِحَ مِنْ قَوْلٍ، أَو فِعْلٍ، وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ قَدْ دَخَلَ فِيهِ الِابْتِدَاعُ؛ كَمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، وَالْمُرْجِئَةِ، وَالْخَوَارِجِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ (¬5) الإِباحة (¬6)، وَاخْتِرَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَلَا أَصل مرجوع إِليه. وأَما الْعَادِيَّةُ (¬7): فَاقْتَضَى النَّظَرُ وُقُوعَ الْخِلَافِ فِيهَا، وأَمثلتها ظَاهِرَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَقْسِيمِ الْبِدَعِ، كالمُكُوس، والمحدثات (¬8) مِنَ المَظَالِم (¬9)، وَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى العلماءِ فِي الولايات العلمية، وتولية المناصب الشريفة (¬10) من ¬

(¬1) في (ت): "في أن الابتداع". (¬2) قوله: "الأمور" سقط من (ت). (¬3) قوله: "في دخوله" ليس في (ر) و (غ). (¬4) قوله: "وهي عامة" مكرر في (غ). (¬5) في (ر) و (غ): "مذاهب". (¬6) في (ت) و (م): "الإباحية". (¬7) في (غ): "العبادية". (¬8) في (خ) و (م) و (ت): "والمحدثة". (¬9) في (خ): "الظالم". (¬10) كذا في جميع النسخ، والمصنف استفاد هذه العبارة من "الفروق" للقرافي (4/ 346)، كما يدل عليه ذكره له فيما يأتي، ووقع عند القرافي: "الشرعية" بدل "الشريفة".

ليس لها بأَهل؛ بل (¬1) بِطْرِيقِ الْوِرَاثَةِ، وإِقامة صُوَرِ الأَئمة وَوُلَاةِ الأُمور وَالْقُضَاةِ، وَاتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ، وَغَسْلِ الْيَدِ بالأَشنان، وَلُبْسِ الطَّيَالِسِ (¬2)، وَتَوْسِيعِ الأَكمام (¬3)، وأَشباه ذَلِكَ مِنَ الأُمور الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي الزَّمَنِ (¬4) الْفَاضِلِ، وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، فإِنها أُمور جَرَتْ فِي النَّاسِ، وكثُر الْعَمَلُ بِهَا، وَشَاعَتْ وَذَاعَتْ، فَلَحِقَتْ بِالْبِدَعِ، وَصَارَتْ كَالْعِبَادَاتِ المُخْتَرعة الْجَارِيَةِ فِي الأُمة، وَهَذَا مِنَ الأَدلة الدَّالَّةِ عَلَى مَا قُلْنَا، وإِليه مَالَ الْقَرَافِيُّ (¬5) وَشَيْخُهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ (¬6)، وَذَهَبَ إِليه بَعْضُ السَّلَفِ. فَرَوَى أَبو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ (¬7) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسلم أَنه وُلد لَهُ وَلَدٌ ـ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الطُّوسِيُّ ـ فَقَالَ لِي (¬8): اشْتَرِ كَبْشَيْنِ (¬9) عَظِيمَيْنِ. وَدَفَعَ إِليَّ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَيْتُ له، وأَعطاني عشرة دراهم، فقال (¬10) لي: ¬

(¬1) قوله: "بل" من (ر) و (غ) فقط. (¬2) في (ر) و (غ): "الطيالسة". (¬3) قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (1/ 140). " ... وأما هذه الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج: فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البَتَّة، وهي مخالفة لسنته، وفي جوازها نظر، فإنها من جنس الخيلاء ... ". وقال الشوكاني رحمه الله في "نيل الأوطار" (2/ 108) بعد أن نقل كلام ابن القيم: "وقد صار أشهر الناس بمخالفة هذه السنة في زماننا هذا العلماء، فيُرى أحدهم وقد جعل لقميصه كُمّين يصلح كل واحد منهما أن يكون جُبّة أو قميصاً لصغير من أولاده، أو يتيم، وليس في ذلك شيء من الفوائد الدنيوية إلا العبث، وتثقيل المؤنة على النفس، ومنع الانتفاع باليد في كثير من المنافع، وتعريضه لسرعة التمزق وتشويه الهيئة، ولا الدينية إلا مخالفة السنة والإسبال والخيلاء". (¬4) في (ر) و (غ): "الزمان". (¬5) في الفرق الثاني والخمسون والمئتان من "الفروق" (4/ 348 ـ 349). (¬6) في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/ 195 ـ 196)، وتقدم نقل المصنف لكلام القرافي وابن عبد السلام بطوله، والردّ عليه في (1/ 321 ـ 325 فما بعد)، ونقله النووي أيضاً في "تهذيب الأسماء واللغات" (3/ 20) عن العز ابن عبد السلام. (¬7) في "حلية الأولياء" (9/ 243 ـ 244). (¬8) قوله: "لي" ليس في (خ) و (ت) في هذا الموضع، بل جاء متأخراً بعد الكلمة الآتية. (¬9) في (خ) و (ت): "اشتر لي كبشين"، وانظر التعليق السابق. (¬10) في (خ) و (م) و (ت): "عشرة أخرى وقال".

اشتر (¬1) بها (¬2) دقيقاً وَاخْبِزْهُ (¬3). قَالَ: فَنَخَلْتُ الدَّقِيقَ، وَخَبَزْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ، فَقَالَ: نَخَلْتَ هَذَا؟ وأَعطاني عَشَرَةً أُخرى وَقَالَ (¬4): اشْتَرِ بِهِ دَقِيقًا وَلَا تَنْخُلْهُ وَاخْبِزْهُ، فَخَبَزْتُهُ وَحَمَلْتُهُ إِليه، فَقَالَ لِي: يَا أَبا عَبْدِ اللَّهِ! الْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ، وَنَخْلُ الدَّقِيقِ بِدْعَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَن يَكُونَ فِي السُّنَّةِ بِدْعَةٌ، وَلَمْ أُحِبَّ أَن يَكُونَ ذَلِكَ الْخُبْزُ فِي بيتي بعد أَن يكون (¬5) بِدْعَةً. وَمُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ هَذَا: هُوَ الَّذِي فَسَّر به الحديثَ إِسحاقُ بن رَاهَوَيْهِ (¬6) ـ حَيْثُ سُئِلَ عَنِ السَّوَادِ الأَعظم فِي قوله صلّى الله عليه وسلّم: "عليكم بالسواد الأَعظم" (¬7)؟ ـ، ¬

(¬1) في (م): "اشتر لي" بدل "لي اشتر". (¬2) في (م): "به" بدل "بها". (¬3) في (خ) و (م) و (ت): "دقيقاً ولا تنخله واخبزه". (¬4) في (خ): "وقال لي". (¬5) قوله: "يكون" سقط من (م)، وفي (خ) و (ت): "كان". (¬6) كما في "الحلية" (9/ 238 ـ 239) لأبي نعيم، وسيورد المصنف السياق كاملاً في الجزء الثالث (ص218) نقلاً عن أبي نعيم. (¬7) الحديث أخرجه عبد بن حميد (1220)، وابن ماجه (3950)، وابن أبي عاصم في "السنة" (84)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 79)، و (6/ 328)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (153) جميعهم من طريق معان بن رفاعة، عن أبي خلف الأعمى، عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم". وإسناده ضعيف جداً. أبو خلف الأعمى: متروك ورماه ابن معين بالكذب كما في "التقريب" (8143)، ومعان لين الحديث كما في "التقريب" (6795). قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/ 228): وهذا إسناد ضعيف لضعف أبي خلف الأعمى ... ، وقد روي هذا الحديث من حديث أبي ذر، وأبي مالك الأشعري، وابن عمر، وأبي نضرة، وقدامة بن عبد الله الكلابي وفي كلها نظر، قاله شيخنا العراقي ـ رحمه الله ـ اهـ. وقال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في "ظلال الجنة" (1/ 41): إسناده ضعيف جداً. وأخرجه الترمذي (2167)، وابن أبي عاصم في "السنة" (80)، والحاكم (1/ 116)، وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة" في "الفتن" (368) من طريق المعتمر بن سليمان، عن أبي سفيان سليمان بن سفيان المدني، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر به. ووقع عند الداني: "عمرو بن دينار" وكذا في المطبوع من "المستدرك"، وهو اختلاف=

فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ (¬1) وأَصحابه، حَسْبَمَا يأْتي ـ إِن شاءَ الله تعالى ـ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ (¬2). وأَيضاً فإِن تُصُوِّر في العبادات (¬3) وقوع الابتداع (¬4)؛ تُصُوِّر (¬5) فِي الْعَادَاتِ؛ لأَنه لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فالأُمور الْمَشْرُوعَةُ تَارَةً تَكُونُ عِبَادِيَّةً وَتَارَةً عَادِيَّةً، فَكِلَاهُمَا مَشْرُوعٌ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ (¬6)، فَكَمَا تَقَعُ الْمُخَالَفَةُ بِالِابْتِدَاعِ فِي أَحدهما؛ تَقَعُ فِي الْآخَرِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَن الشَّرْعَ جاءَ بِالْوَعْدِ بأَشياء تَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ هِيَ خَارِجَةً عَنْ سُنَّتِهِ، فَتَدْخُلُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ؛ لأَنها مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. فَفِي الصَّحِيحِ (¬7) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (¬8) رضي الله عنه قال: قال لَنَا (¬9) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنكم سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وأُموراً (¬10) تُنْكِرُونَهَا"، قَالُوا: فَمَا تأْمرنا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَدّوا إِليهم حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ (¬11) حقَّكم". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: "مَنْ كَرِهَ مِنْ أَميره شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ". وَفِي رِوَايَةٍ: "مَنْ رأَى من أَميره شيئاً يكرهه فليصبر ¬

=في إسناد هذا الحديث على سبعة أوجه كما ذكر الحاكم؛ ومرجعها جميعها إلى أبي سفيان سليمان بن سفيان المدني، وهو ضعيف كما في "التقريب" (2578)، ولذا ضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب من هذا الوجه". وقال الحافظ في "إتحاف المهرة" (8/ 531): ويظهر من هذا ضعف الحديث لا قوته؛ لأن سليمان ضعفه ابن معين وابن المديني وأبو حاتم وغيرهم. اهـ. وقد جاء الحديث من أوجه أخرى، وفيها كلها نظر كما نقل البوصيري عن شيخه العراقي. (¬1) قوله: "بن أسلم" ليس في (خ) و (ت). (¬2) انظر (ص218) من الجزء الثالث. (¬3) في (م): "العباديات". (¬4) في (ت): "وقوع البدع". (¬5) في (خ) و (ت) و (م): "وقع" بدل "تصور". (¬6) في (ت): "الشرع". (¬7) أخرجه البخاري (3604) و (7052)، ومسلم (1843). (¬8) يعني: ابن مسعود. (¬9) قوله: "لنا" من (ر) فقط. (¬10) في (م): "وأمور" وفي (ت) صوب قوله: "أثرة وأموراً" في الهامش إلى "إمرة وأمراء". (¬11) قوله: "الله" من (ر) و (غ) فقط.

عَلَيْهِ، فإِنه مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، مَاتَ مِيتةً جَاهِلِيَّةً" (¬1). وَفِي الصَّحِيحِ (¬2) أَيضاً: "إِذا أُسْنِدَ الأَمر إِلى غَيْرِ أَهله فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ". وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ (¬3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَتَقَارَبُ الزمان، وينقص (¬4) الْعِلْمُ، ويُلْقَى الشُّحُّ (¬5)، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، ويَكْثُر الهَرْجُ". قالوا (¬6): يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّما (¬7) هُوَ؟ قَالَ: "القَتْل القَتْل". وَعَنْ أَبي مُوسَى (¬8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِن بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ (¬9) لأَياماً (¬10) يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرَجْ". والهَرْجُ: الْقَتْلُ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ (¬11) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ، رأَيت أَحدَهما، وأَنا أَنتظر الْآخَرَ، حدثنا أَن الأَمانة نزلت في جذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها؛ قال: "ينام الرجل النَّوْمة، فتُقبض الأَمانة مِنْ قَلْبِهِ، فيَظَلّ أَثَرُهَا مثل الوَكْتِ (¬12)، ثم ¬

(¬1) أخرجه البخاري (7053)، ومسلم (1849). (¬2) أخرجه البخاري (59 و6496). (¬3) أخرجه البخاري (85) و (7061)، ومسلم (157). (¬4) أثبتها رشيد رضا في طبعته: "ويقبض" بدل "وينقص". (¬5) علق رشيد رضا هنا بقوله: في رواية أحمد والشيخين هنا زيادة: "ويظهر الجهل".اهـ. (¬6) في (خ) و (ت) و (م): "قال". (¬7) في (ر) و (غ): "أيُّم". (¬8) أخرجه البخاري (7062)، ومسلم (2672). (¬9) قوله: "الساعة" سقط من (خ) و (ت). (¬10) تقدم في التعليق السابق أن قوله: "الساعة" سقط من (خ) و (ت)، فعلق رشيد رضا هنا بقوله: روي بلفظ: "إن من ورائكم أياماً" إلخ. رواه الترمذي وابن ماجه عنه. اهـ. (¬11) أخرجه البخاري (6497) و (7086) و (7276)، ومسلم (143). (¬12) في هامش (ت): "الكَوْيت"، كأنه تصويب، وهو غريب! والوَكْتُ: الأثر اليسير في الشيء، والنقط فيه من غير لونه. انظر: "النهاية" لابن الأثير (5/ 217)، و"لسان العرب" (2/ 108).

يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثرها مِثْلَ أَثر (¬1) المَجْلِ (¬2)، كجَمْرٍ دَحْرَجْتَه (¬3) على رجلك فَنَفِطَ (¬4)، فتراه مُنْتَبِراً (¬5) وَلَيْسَ فِيهِ شيءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ (¬6) يَتَبَايَعُونَ، وَلَا يَكَادُ أَحد يُؤَدِّي الأَمانة، فَيُقَالُ: إِن فِي بَنِي فَلَانٍ رَجُلًا أَميناً، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعقله! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجلده! وَمَا فِي قلبه مثقالُ حبة من (¬7) خَرْدَلٍ مِنْ إِيمان ... "، الْحَدِيثَ. وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ (¬8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يَكُونُ (¬9) بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عظيمة، دعواهما وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى (¬10) يُبعثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ (¬11) أَنه رَسُولٌ، وَحَتَّى يُقْبَضَ العلمُ، ثُمَّ قَالَ: وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ" ... ، إِلى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "يخرج (¬12) في آخر الزمان قوم (¬13) أَحداث الأَسنان، سفهاءُ الأَحلام، يقرؤون الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَراقِيَهم، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ البَرِيَّة، يَمْرُقون مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُق ¬

(¬1) قوله: "أثر" سقط من (ر) و (غ). (¬2) قوله: "المجل" في موضعه بياض في (ت)، وفي (م): "المحل". والمَجْلُ: هو أثر العمل في الكف يعالج بها الإنسان الشيء حتى يغلظ جلدها. انظر: "النهاية" (4/ 300)، و"لسان العرب" (11/ 616). (¬3) في (ت): "كجمرة طرحت" بدل "كجمر دحرجته". (¬4) في (ت): "فنفطت". والنَّفَط، بالتحريك: المَجْل، وقد نفِطت يده ـ بالكسر ـ نَفْطاً ونفيطاً، وتنفّطت: قرحت من العمل. وقيل: هو ما يصيبها بين الجلد واللحم. انظر: "لسان العرب" (7/ 416)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 169). (¬5) في (م): "منتفراً" وفي (خ) تحتمل: "منتثر" و"منتبر"، وفي موضعها بياض في (ت). والنَّبْر بالكلام: الهمز. وكل شيء رَفَعَ شيئاً فقد نَبَرَهُ. والنَّبْرَةُ: الوَرْم في الجسد. انظر "النهاية" (5/ 7)، و"لسان العرب" (5/ 189)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 169). (¬6) قوله: "الناس" سقط من (م). (¬7) قوله: "من" من (ر) و (غ) فقط. (¬8) أخرجه البخاري (3608 و3609 و6935 و7121)، ومسلم (157). (¬9) في (ر) و (غ): "تكون". (¬10) في (خ): "حتى". (¬11) في (خ): "زعم". (¬12) في (ت) و (خ): "تخرج". (¬13) قوله: "قوم" سقط من (ت) و (خ).

السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّة" (¬1). وَمِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ (¬2): "بَادِرُوا بالأَعمال فِتَنًا (¬3) كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يصبح الرجل مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَاَفِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَاَفِرًا (¬4)؛ يبيع (¬5) دينَه بِعَرَضٍ من (¬6) الدُّنْيَا" (¬7). وفسَّر ذَلِكَ الْحَسَنُ (¬8)؛ قَالَ: "يُصْبِحُ محرِّماً لِدَمِ أَخيه وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ، وَيُمْسِي مُسْتَحِلًّا لَهُ، ويمسي محرِّماً لدم أخيه وعرضه وماله، ويصبح مُسْتَحِلًّا لَهُ" (¬9)؛ كأَنه تأَوّله عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "لا ترجعوا بعدي كفاراً ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (10/ 536) و (15/ 304)، وأحمد (1/ 404)، والترمذي (2188)، وابن ماجه (168)، وأبو يعلى (5402) من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حُبيش، عن ابن مسعود به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وإسناده حسن من أجل عاصم هذا فهو صدوق حسن الحديث. وأصل الحديث متفق عليه من حديث علي وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. أما حديث علي: فأخرجه البخاري (3611)، ومسلم (1066) بلفظ: "يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة". وأما حديث أبي سعيد: فأخرجه البخاري (3344)، ومسلم (1064) بلفظ: "يخرج في هذه الأمة قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، فيقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرميّة، فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله، إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء؟ ". (¬2) المثبت من (ت)، وفي باقي النسخ: "عنه عليه السلام قال". (¬3) علق رشيد رضا هنا بقوله: هذا الحديث رواه مسلم وأحمد والترمذي، لكن بغير هذا اللفظ الذي أورده المؤلف هنا. والمراد: الاجتهاد في الأعمال قبل حصول الشواغل؛ بسبب الفتن الكثيرة. اهـ. (¬4) قوله: "ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً" سقط من (ت) و (خ) و (م). (¬5) في (غ): "يبلغ"، وفي (خ): "فيبيع" (¬6) قوله: "من" سقط من (خ) و (ت). (¬7) أخرجه مسلم في "صحيحه" (118). (¬8) أي: البصري. (¬9) من قوله: "ويمسي محرماً" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). وقول الحسن هذا أخرجه الترمذي (2198) من طريق هشام بن حسان، عن الحسن به.=

يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" (¬1)، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِن مِنْ أَشراط السَّاعَةِ أَن يُرفع الْعِلْمُ، ويظهر الجهل، ويفشوَ الزنا، وتُشْرَبَ (¬2) الخمر، ويكثر (¬3) النساءُ، ويَقِلّ الرجال، حتى يكون لخمسين (¬4) امرأَة قَيِّمٌ وَاحِدٌ" (¬5). وَمِنْ غَرِيبِ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذا فعلتْ أُمتي خَمْسَ عَشْرَةَ (¬6) خَصْلَةً حلَّ بها البلاءُ. قيل: وما هُنَّ (¬7) يا رسول الله؟ قال: إِذا كان (¬8) الْمَغْنَمُ دُوَلاً، والأَمانة مَغْنَماً (¬9)، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وأَطاع الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وعقَّ أُمه، وبرَّ صَدِيقَهُ، وَجَفَا أَباه، وَارْتَفَعَتِ الأَصوات فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ زعيمُ الْقَوْمِ أَرذَلهم، وأُكرم الرجلُ مَخَافَةَ شَرِّه، وشُرِبت (¬10) الْخُمُورُ، ولُبِس الْحَرِيرُ، واتُّخِذَت القِيَان وَالْمَعَازِفُ، ولَعَنَ آخرُ هَذِهِ الأُمة أَوَّلَها، فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ ريحاً حمراءَ، أو خسفاً، أَو مَسْخاً" (¬11). ¬

=وفي رواية هشام عن الحسن مقال؛ لأنه كان يرسل عنه؛ كما في "التقريب" (7289). (¬1) أخرجه البخاري (121)، ومسلم (65) من حديث جرير رضي الله عنه. (¬2) في (خ) و (م): "ويشرب"، وفي (ت): "وشرب". (¬3) في (ت): "وتكثر". (¬4) في (خ) و (ت): "للخمسين". (¬5) أخرجه البخاري (80)، ومسلم (2671). (¬6) في (م): "عشر". (¬7) في (خ): "وما هي". (¬8) قوله: "كان" سقط من (م)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر شيء في الهامش، وفي (خ) و (ت): "صار" بدل "كان". (¬9) في (م) و (ت) و (خ): "مغرماً". (¬10) في (م): "وشرب". (¬11) أخرجه الترمذي (2210)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 206 ـ 207)، والطبراني في "الأوسط" (469)، وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن" (3/ 683)، والخطيب (3/ 158)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 850)، جميعهم من طريق فرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن علي، عن علي، به ووقع عند الترمذي: محمد بن عمرو بن علي عن علي. قال الذهبي في "الميزان" (3/ 345): وشذَّ الترمذي فقال: "عن محمد بن عمرو بن=

وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه قريب من هذا، وفيه: "وتُعُلِّم لغير الدين" (¬1). وفيه: "وساد (¬2) الْقَبِيلَةَ فاسقُهم، وَكَانَ زعيمُ الْقَوْمِ أَرذلهم". وَفِيهِ: "وظهرت (¬3) القَيْنات وَالْمَعَازِفُ". وَفِي آخِرِهِ: "فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حمراءَ، وَزَلْزَلَةً، وَخَسْفًا، وَمَسْخًا، وَقَذْفًا، وآياتٍ تَتَابَعُ، كنِظامٍ بَالٍ (¬4) قُطِعَ سلكُه فتتابع" (¬5). ¬

=علي عن علي"، كذا قال!.اهـ. وقال أيضاً: "ولا يعرف من اسمه عمرو في أولاد علي". وسند هذا الحديث ضعيف لضعف فرج بن فضالة، كما في "التقريب" (5418)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث علي بن أبي طالب إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحداً رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري غير الفرج بن فضالة، والفرج بن فضالة قد تكلم فيه بعض أهل الحديث، وضعفه من قبل حفظه". وجاء الحديث عن فرج بن فضالة بإسناد آخر وفيه زيادة. أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/ 358) من طريق سويد بن سعيد، عن فرج بن فضالة، عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، عن حذيفة، به. قال أبو نعيم: غريب من حديث عبد الله بن عبيد بن عمير، لم يروه عنه فيما أعلم إلا فرج بن فضالة. اهـ. ومع ضعف فرج بن فضالة فعبد الله بن عبيد عن حذيفة مرسل كما قال أبو نعيم نفسه في (3/ 356). وسويد بن سعيد ضعيف، وفي "التقريب" (2690): "صدوق في نفسه، إلا أنه عمي، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول". وانظر: "السلسلة الضعيفة" للألباني رحمه الله (1170) و (1171). والله أعلم. (¬1) قوله: "وتعلم لغير الدين" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬2) في (خ) و (م): "ساد". (¬3) في (خ): "ظهرت". (¬4) قوله: "بال" ليس في (غ) و (ر). (¬5) أخرجه الترمذي (2211) من طريق المستلم بن سعيد، عن رميح الجذامي، عن أبي هريرة، به. وضعّفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وإسناده ضعيف؛ رميح هذا قال فيه الذهبي في "الميزان" (2/ 54): "لا يعرف"، وقال الحافظ في "التقريب" (1957): "مجهول".

فَهَذِهِ الأَحاديث وأَمثالها مِمَّا أَخبر بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه يَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمة بَعْدَهُ: إِنما هُوَ ـ فِي الْحَقِيقَةِ ـ تبديل للأَعمال (¬1) الَّتِي كَانُوا أَحقَّ بالعَمل بِهَا، فَلَمَّا عُوِّضُوا منها غيرها، وفشا فيها حتى (¬2) كأَنه مِنَ الْمَعْمُولِ بِهِ تَشْرِيعًا، كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ الطَّارِئَةِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّن القرافي (¬3) ومن ذهب مذهبه، فأكثرها جارٍ في العادات، لا في العبادات؛ فليكن الابتداع ثابتاً في العادات كما اتفق على جريانه (¬4) فِي الْعِبَادَاتِ. وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلى أَنه مُخْتَصٌّ بالعبادات لا يُسَلِّمون جميع ما ذكره (¬5) الأَوّلون (¬6). أَما مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْقَرَافِيِّ وَشَيْخِهِ (¬7): فَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ (¬8)، فإِنها (¬9) معاصٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَمُخَالَفَاتٌ لِلْمَشْرُوعِ، كالمُكُوس، وَالْمَظَالِمِ، وَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى العلماءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمُبَاحُ مِنْهَا (¬10) كَالْمَنَاخِلِ، إِنْ فُرِضَ مُبَاحًا ـ كَمَا قَالُوا ـ: فإِنما إِباحته بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَلَا ابْتِدَاعَ (¬11) فِيهِ. وإِن فُرِضَ مكروهاً ـ كما أَشار إليه كلام (¬12) محمد بن أَسلم ـ (¬13): ¬

(¬1) في (ت) و (خ) و (م): "الأعمال". (¬2) قوله: "حتى" من (ر) و (غ) فقط. (¬3) في "الفروق" (4/ 348 ـ 349)، وتقدم هذا (ص375). (¬4) من قوله: "القرافي ... " إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬5) قوله: "ما ذكره" سقط من (خ) وجاء في (ت) و (م): "ذلك" بدلاً منه. وبسبب سقط قوله: "ما ذكره" أشكلت العبارة على رشيد رضا، فعلّق على هذا الموضع بقوله: كذا! ولا بدّ أن يكون قد سقط من هذا كلام، ولعل أصله: "لا يسلمون جميع ما قاله الأولون"، أو: "جميع ما ذهب إليه الأولون".اهـ. (¬6) في (ت): "ويقولون" بدل "الأولون". (¬7) أي: العز بن عبد السلام. راجع ص (416 ـ 417). (¬8) انظر (ص327) فما بعد من المجلد الأول. (¬9) في (ت): "بأنها". (¬10) قوله: "منها" ليس في (غ) و (ر). (¬11) في (ت) و (خ) و (م): "اتباع". (¬12) قوله: "كلام" سقط من (خ) و (ت). (¬13) المتقدم ص (417 ـ 418).

فَوَجْهُ الْكَرَاهِيَةِ عِنْدَهُ كَوْنُهَا عُدَّت مِنَ الْمُحْدَثَاتِ؛ إِذ في الأَثر (¬1): "أَول مَا أُحدث بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنَاخِلُ" (¬2)، أَو كَمَا قَالَ، فَأَخَذَ (¬3) بِظَاهِرِ اللَّفْظِ مَنْ أَخذ بِهِ، كَمُحَمَّدِ بن أَسلم. وظاهرٌ (¬4) أَن ذَلِكَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّرَف والتَّنَعُّم الَّذِي أَشار إِلى كَرَاهِيَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (¬5) الْآيَةَ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنه بِدْعَةٌ. وَقَوْلُهُمْ: كَمَا يُتَصَوَّر ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ يُتَصَوَّر فِي الْعَادَاتِ: مُسَلَّم، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، وإِنما كلامنا (¬6) فِي الْوُقُوعِ، وَفِيهِ النِّزَاعُ. وأَما مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الأَحاديث: فَلَيْسَ فِيهَا عَلَى المسأَلة دَلِيلٌ وَاحِدٌ، إِذ لَمْ يُنَصَّ عَلَى أَنها بِدَعٌ أَو مُحْدَثَاتٌ، أَو مَا يُشِيرُ إِلى ذَلِكَ الْمَعْنَى. وأَيضاً إِن عدُّوا كُلَّ مُحْدَثِ من (¬7) الْعَادَاتِ بِدَعَةً، فَلْيَعُدّوا جَمِيعَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْكَلَامِ وَالْمَسَائِلِ النَّازِلَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا (¬8) فِي الزَّمَانِ الأَول بِدَعاً، وَهَذَا شَنِيعٌ، فإِن مِنَ الْعَوَائِدِ (¬9) ما يختلف (¬10) بحسب الأَزمان والأَمكنة والاسم، أفيكون (¬11) كُلُّ مَنْ خَالَفَ الْعَرَبَ الَّذِينَ أَدركوا الصَّحَابَةَ رضي الله تعالى عنهم واعتادوا مثل عوائدهم ¬

(¬1) في (خ) و (م): "الأمر"، وفي موضعه بياض في (ت)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل. اهـ. ويعني بالأصل: (خ). (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقال الغزالي في "الإحياء" (1/ 126): ويقال: أول ما ظهر من البدع بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع: المناخل، والأسنان، والموائد، والشبع. وفي "صحيح البخاري" (5413) عن سهل بن سعد قال: ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منخلاً من حين ابتعثه الله حتى قبضه. وفي "الطبقات" لابن سعد (1/ 408) عن سهل بن سعد: ما رأيت منخلاً في ذاك الزمان ... ". (¬3) في (ر) و (غ): "وأخذ". (¬4) في (خ) و (ت): "وظاهره". (¬5) سورة الأحقاف: الآية (20). (¬6) في (خ) و (م): "وإنما الكلام". (¬7) قوله: "من" من (ر) و (غ) فقط. (¬8) في (ر) و (غ): "لها" بدل "بها". (¬9) في (ر) و (غ): "شنيع ومن العوائد" وفي (م): "شنيعاً من العوائد"، والمثبت من (خ) و (ت). (¬10) في (خ) و (م) و (ت): "ما تختلف". (¬11) في (ت) و (خ): "فيكون".

غيرَ مُتَّبعين لَهُمْ؟! هَذَا مِنَ (¬1) المُسْتنكَر جِدًّا!!. نَعَمْ لَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ فِي الْعَوَائِدِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى الْحُدُودِ (¬2) الشَّرْعِيَّةِ، وَالْقَوَانِينِ الْجَارِيَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَيْضًا: فَقَدْ يَكُونُ الْتِزَام الزِّيِّ (¬3) الواحد، أو الحالة (¬4) الْوَاحِدَةِ، أَوِ الْعَادَةِ الْوَاحِدَةِ تَعَبًا (¬5) ومشقَّة؛ لِاخْتِلَافِ الأَخلاق والأَزمنة والبقاع والأَحوال، والشريعة تأْبى التضييق (¬6) والحرج في كل ما دَلَّ (¬7) الشَّرْعُ عَلَى جَوَازِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ثمَّ مُعَارِض. وإِنما جَعَلَ الشَّارِعُ مَا تَقَدَّمَ فِي الأَحاديث الْمَذْكُورَةِ مِنْ فَسَادِ الزَّمَانِ وأَشراط السَّاعَةِ: لِظُهُورِهَا وفُحْشِها بِالنِّسْبَةِ (¬8) إِلى مُتَقَدَّمِ الزَّمَانِ، فإِن الْخَيْرَ كَانَ أَظهر، والشرَّ كَانَ أَخفى وأَقلّ، بِخِلَافِ آخِرِ الزَّمَانِ فإِن الأَمر فِيهِ عَلَى العكس، فالشر (¬9) فِيهِ أَظهر، وَالْخَيْرُ أَخفى وَأَقَلُّ (¬10). وأَما كَوْنُ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ بِدَعًا: فَغَيْرُ مَفْهُومٍ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ فِي حَدِّ الْبِدْعَةِ، فَرَاجِعِ النَّظَرَ فِيهَا (¬11) تَجِدْهُ كَذَلِكَ. وَالصَّوَابُ فِي المسأَلة طَرِيقَةٌ أُخرى وَهِيَ (¬12) تَجْمَعُ (¬13) شَتَاتَ النَّظَرَيْنِ، وَتُحَقِّقُ الْمَقْصُودَ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي بُني عَلَيْهِ تَرْجَمَةُ هَذَا الْبَابِ، فَلْنُفْرِدْهُ فِي فصلٍ عَلَى حِدَته، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ للصواب. ¬

(¬1) قوله: "من" سقط من (ر)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر شيء في التصوير، ويبدو أنه مما تآكل من أطراف النسخة؛ لأن ناسخ (غ) بيّض لموضع "من"، مما يدل على عدم وقوفه على اللحق؛ لأنها منقولة عنها (¬2) قوله: "على الحدود" سقط من (ت). (¬3) قوله: "الزي" في موضعه بياض في (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: بياض في الأصل، ولعل مكانه: "الزي".اهـ. (¬4) في (ت) و (خ): "والحالة". (¬5) في (ر) و (غ): "عناء" بدل "تعباً". (¬6) في (غ): "الضييق". (¬7) في (خ) و (م) و (ت): "والحرج فيما دل". (¬8) قوله: "بالنسبة" سقط من (م). (¬9) في (خ) و (ت) و (م): "والشر". (¬10) قوله: "وأقل" سقط من (خ) و (ت). (¬11) في (ت) و (غ): "فيه". (¬12) في (م): "هي". (¬13) في (ر) و (غ): "لجمع".

فصل

فصل أَفعال الْمُكَلَّفِينَ ـ بِحَسَبِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ فِيهَا ـ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَن تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التعبُّدات. وَالثَّانِي: أَن تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ. فأَما الأَول: فَلَا نَظَرَ فِيهِ هَاهُنَا. وأَما الثَّانِي ـ وَهُوَ الْعَادِيُّ ـ: فَظَاهِرُ النَّقْلِ عَنِ السَّلَف الأَوَّلين أَن المسأَلة مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرشِدُ كلامُه إِلى أَن الْعَادِيَّاتِ كَالْعِبَادِيَّاتِ، فَكَمَا أَنا مأَمورون فِي الْعِبَادَاتِ بأَن لا نُحْدِثَ فيها، فكذلك في (¬1) الْعَادِيَّاتُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسلم (¬2)، حَيْثُ كَرِه فِي سُنَّة الْعَقِيقَةِ مُخَالَفَةَ مَنْ قَبِلَهُ فِي أَمرٍ عاديٍّ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ المَنَاخِل، مَعَ الْعِلْمِ (¬3) بأَنه مَعْقُولُ الْمَعْنَى، نَظَرًا مِنْهُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ إِلى أَن الأَمر بِاتِّبَاعِ (¬4) الأَوّلين ـ عَلَى الْعُمُومِ ـ غَلَبَ عَلَيْهِ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، وَيَظْهَرُ أَيضاً مِنْ كَلَامِ مَنْ قَالَ: أَول مَا أَحدث النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنَاخِلُ (¬5). ويُحكى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبي (¬6) راشد أَنه قال: لولا أن أخالف (¬7) مَنْ كَانَ قَبْلِي؛ لَكَانَتِ الجَبَّانَةُ (¬8) مَسْكَنِي إِلى أَن أَموت (¬9). ¬

(¬1) قوله: "في" من (ر) و (غ) فقط. (¬2) تقدم تخريجه صفحة (417 ـ 418). (¬3) قوله: "مع العلم" مكرر في (ر). (¬4) في (ت): "إلى أن اتباع". (¬5) راجع صفحة (417 ـ 418 و425 ـ 426). (¬6) قوله: "أبي" سقط من (ر) و (غ). (¬7) في (م): "لولا أني أخالف" وفي (خ) و (ت): "لولا أني أخاف". (¬8) الجَبَّانَةُ: الصحراء. انظر "لسان العرب" (13/ 85). (¬9) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 77) من طريق أبيه، عن عبد الله بن محمد بن عمر،=

والسُّكْنَى (¬1) عَادِيٌّ بِلَا (¬2) إِشكال. وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَكُونُ قِسْمُ الْعَادِيَّاتِ دَاخِلًا فِي قِسْمِ الْعِبَادَيَّاتِ، فَدُخُولُ الِابْتِدَاعِ فِيهِ ظَاهِرٌ، والأَكثرون عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَعَلَيْهِ نَبْنِي الْكَلَامَ فَنَقُولُ: ثَبَتَ فِي الأُصول الشَّرْعِيَّةِ أَنه لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَادِيٍّ مِنْ شائبةِ التعبُّد؛ لأَن مَا لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ مِنَ المأْمور بِهِ، أَو المنهيِّ عَنْهُ (¬3) فَهُوَ الْمُرَادُ بالتعبُّديّ، وَمَا عُقِلَ معناه وعُرِفَت (¬4) مصلحته أَو مفسدته على التفصيل (¬5) فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْعَادِيِّ. فَالطَّهَارَاتُ وَالصَّلَوَاتُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ ¬

=عن محمد بن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن خلف بن حوشب؛ قال: كنا مع الربيع بن أبي راشد، فسمع رجلاً يقرأ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الآية: (5) من سورة الحج]، فقال: لولا أن أخالف من كان قبلي ما زايلت مسكني حتى أموت. ونقل محقق "الحلية" عن "تحصيل البغية" أن في رواية: "لولا أن أخالف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني حتى أموت". وهو الموافق لما عند المصنف. والنص أورده ابن الجوزي في "صفة الصفوة" (3/ 109) الذي هو مختصر للحلية دون إسناد. وإسناد أبي نعيم رجاله ثقات، عدا عبد الله بن محمد بن عمر، فلم أعرفه، وقد يكون عبد الله بن محمد بن يحيى بن أبي عمر، أو عبد الله بن محمد بن عمران، والله أعلم. وقد أخرجه أبو نعيم أيضاً من طريق سعيد بن سلمة الثوري، عن محمد بن يحيى العبدي، عن أبي غسان، عن عبد السلام بن حرب، عن خلف بن حوشب؛ قال: قال لي الربيع بن أبي راشد: اقرأ علي، فقرأت عليه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ}، فقال: لولا أن تكون بدعة، لسِحْتُ ـ أوهِمْتُ ـ في الجبال. ولم أعرف سعيد بن سلمة الثوري، ولا شيخه محمد بن يحيى العبدي، إلا أن يكون محمد بن يحيى الذهلي، فإنه الذي يروي عن أبي غسان مالك بن إسماعيل. (¬1) علق رشيد رضا هنا بقوله: ربما سقط من هنا كلمة: "أمر".اهـ. (¬2) في (ر) و (غ): "فلا". (¬3) قوله: "عنه" سقط من (م). (¬4) في (ر) و (غ): "وما عرف معناه وعقلت مصلحته". (¬5) قوله: "على التفصيل" سقط من (خ) و (ت).

كلها تعبدي، والبيع والشراء والنكاح وَالطَّلَاقُ (¬1) والإِجارات وَالْجِنَايَاتُ كُلُّهَا عَادِيٌّ؛ لأَن أَحكامها معقولة المعنى. ومع أنها معقولة المعنى (¬2) لا بُدَّ (¬3) فِيهَا مِنَ التعبُّد، إِذ هِيَ مُقَيَّدة بأُمور شَرْعِيَّةٍ لَا خِيرَةَ للمُكَلَّف فِيهَا، كَانَتِ اقْتِضَاءً أَو تَخْيِيرًا، فإِن التَّخْيِيرَ فِي التعبُّدات إِلزام؛ كَمَا أَن الاقتضاءَ إِلزام حَسْبَمَا تَقَرَّرَ بُرْهَانُهُ فِي كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (¬4) ـ. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ ظَهَرَ اشْتِرَاكُ الْقِسْمَيْنِ فِي مَعْنَى التَّعَبُّدِ. فإِن جاءَ الِابْتِدَاعُ فِي الأُمور الْعَادِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، صَحَّ دُخُولُهُ فِي الْعَادِيَّاتِ كَالْعِبَادِيَّاتِ، وإِلا فَلَا. وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي يَدُورُ عليها حكم الباب، ويتبين ذلك بِبَسْطِ الأَمثلة (¬5): فَمِمَّا أَتى بِهِ الْقَرَافِيُّ (¬6): وَضْعُ المُكُوس فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، فَلَا يَخْلُو هَذَا الْوَضْعُ الْمُحَرَّمُ أَن يَكُونَ عَلَى قصدِ حَجْرِ التصرُّفات وَقْتًا مَا، أَو فِي حَالَةٍ مَّا، لِنَيْلِ حُطام الدنيا، على هَيْئة غَصْب الْغَاصِبِ، وسَرِقة السَّارِقِ، وقَطْع الْقَاطِعِ لِلطَّرِيقِ، وَمَا (¬7) أَشبه ذَلِكَ، أَو يَكُونَ عَلَى قَصْدِ وَضْعِهِ عَلَى النَّاس (¬8)؛ كالدَّيْن الْمَوْضُوعِ، والأَمر المَحْتوم (¬9) عليهم دائماً، ¬

(¬1) في (خ) و (ت) و (م): "والبيع والنكاح والشراء والطلاق"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو أنسب للسياق. (¬2) قوله: "ومع أنها معقولة المعنى" سقط من (خ) و (ت). (¬3) في (خ) و (ت): "ولا بد". (¬4) (2/ 529). (¬5) في (خ) و (م) و (ت): "ويتبين ذلك بالأمثلة". (¬6) في "الفروق" (4/ 346)؛ حيث قسم البدع إلى خمسة أقسام، وفي القسم الثاني منها قال: "القسم الثاني: محرَّم، وهو بِدْعَةٍ تَنَاوَلَتْهَا قَوَاعِدُ التَّحْرِيمِ وَأَدِلَّتُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ؛ كالمكوس، والمحْدثات من المظالم الْمُنَافِيَةِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ؛ كَتَقْدِيمِ الجُهّال عَلَى الْعُلَمَاءِ، وتَوْلية المناصب الشرعية من لا يصلح لها بطريق التوارث، وجعل المستند لذلك كَوْنَ الْمَنْصِبِ كَانَ لِأَبِيهِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ ليس بأهل". وانظر (ص321) فما بعد من المجلد الأول. وقد استشكل رشيد رضا قول المصنف هنا: "فمما أتى به القرافي: وضع المكوس"، فقال: لعله سقط من هنا كلمة "من جواز"، أو "في مسألة".اهـ. ولا أرى في العبارة إشكالاً، فمعناها: مما أتى به القرافي ـ أي: ذكره ـ في أقسام البدع: فرض المكوس. (¬7) في (ر) و (غ): "أو ما". (¬8) في (م) يشبه أن تكون: "التاس". (¬9) في (م): "المحترم".

أَو في أَوقات محدودة، وعلى (¬1) كيفيات مضروبة، بحيث تضاهي التشريع (¬2) الدَّائِمَ الَّذِي يُحمل عَلَيْهِ الْعَامَّةُ، وَيُؤْخَذُونَ بِهِ، وتُوجَّه عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ (¬3)، كَمَا فِي أَخذ زَكَاةِ الْمَوَاشِي وَالْحَرْثِ وَمَا أَشبه ذَلِكَ. فأما الأول: فلا إشكال أنه مجرّد معصية إذا كان ظُلماً وتعدِّياً من غير سبب ظاهر، ولا يقال في هذا: إنه بدعة؛ لخروجه عن حدِّ البدعة (¬4). وأما (¬5) الثَّانِي: فَظَاهِرٌ أَنه بِدْعَةٌ، إِذ هُوَ تَشْرِيعُ زَائِدٌ، وإِلزامٌ للمكلَّفين يُضَاهِي إِلزامهم الزَّكَاةَ (¬6) الْمَفْرُوضَةَ، وَالدِّيَاتِ الْمَضْرُوبَةَ، وَالْغَرَامَاتِ الْمَحْكُومِ بِهَا فِي أَموال الغُصَّاب والمتعدين، بَلْ صَارَ فِي حقِّهم كَالْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَاللَّوَازِمِ (¬7) الْمَحْتُومَةِ، أَو مَا أَشبه ذَلِكَ. فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَصِيرُ بِدْعَةً بِلَا شَكٍّ؛ لأَنه شَرْعٌ مُستدرك، وسَنن (¬8) فِي التَّكْلِيفِ مَهْيَعٌ (¬9)، فَتَصِيرُ المُكُوسُ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ لَهَا نَظَرَانِ: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَى الْفَاعِلِ أَن يَفْعَلَهَا، كَسَائِرِ أَنواع الظُّلْمِ. وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا اخْتِرَاعًا لِتَشْرِيعٍ يُؤخذ بِهِ النَّاسُ إِلى الْمَوْتِ (¬10) كَمَا يُؤْخَذُونَ بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ. فَاجْتَمَعَ فِيهَا نَهْيَانِ: نَهْيٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَنَهْيٌ عَنِ الْبِدْعَةِ، وَلَيْسَ ذلك بموجود (¬11) في البدع في القسم الأَوّل، ¬

(¬1) في (ت) و (خ): "على" بدون واو. (¬2) في (خ) و (ت): "المشروع". (¬3) في (ر) و (غ): "العقوبات". (¬4) من قوله: "فأما الأول ... " إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬5) في (خ): "فأما". (¬6) في (ر) و (غ): "الزكوات". (¬7) في (ت): "والإلزامات". (¬8) في (خ): "وسن". (¬9) مَهْيَعٌ: واضح وبيِّن. انظر "لسان العرب" (8/ 379). (¬10) من قوله: "كسائر أنواع ... " إلى هنا سقط من (غ) و (ر). (¬11) في (خ) و (ت): "موجوداً" وفي (م): "موجود".

وإِنما يوجد فيه (¬1) النهي من جهة كونه (¬2) تَشْرِيعًا مَوْضُوعًا عَلَى النَّاسِ أَمرَ وجوبٍ أَو ندبٍ، إِذ لَيْسَ فِيهِ جِهَةٌ أُخرى يَكُونُ بِهَا مَعْصِيَةً؛ بَلْ نَفْسُ التَّشْرِيعِ هُوَ نَفْسُ الْمَمْنُوعِ. وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْجُهَّالِ عَلَى العلماءِ، وَتَوْلِيَةُ الْمَنَاصِبِ الشَّرْعِيَّةِ (¬3) مَنْ لَا يَصْلُحُ (¬4) بِطَرِيقِ التَّوْرِيثِ، هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ، فإِن جَعْلَ الْجَاهِلِ (¬5) فِي مَوْضِعِ الْعَالِمِ حَتَّى يَصِيرَ مُفْتِيًا فِي الدِّينِ، وَمَعْمُولًا بِقَوْلِهِ فِي الأَموال والدماءِ والأَبضاع وَغَيْرِهَا مُحَرَّمٌ فِي الدِّينِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ يُتّخذ (¬6) دَيْدَنًا حَتَّى يَصِيرَ (¬7) الِابْنُ مُسْتَحِقًّا لِرُتْبَةِ الأَب ـ وإِن لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الأَب فِي ذَلِكَ الْمَنْصِبِ ـ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ أَو غَيْرِ ذَلِكَ، بحيث يشيع هذا العمل ويطَّرد، ويَعُدّه (¬8) النَّاسُ كَالشَّرْعِ الَّذِي لَا يُخالف؛ بِدَعَةً (¬9) بِلَا إِشكال، زِيَادَةً إِلى الْقَوْلِ بالرأْي غَيْرِ الْجَارِي عَلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ بِدْعَةٌ، أَو سببُ البدعةِ كَمَا سيأْتي تَفْسِيرُهُ إِن شاءَ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "حَتَّى إِذا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ؛ اتَّخَذَ الناس رؤساءَ (¬10) جهالا، فَسُئلوا، فأَفتوا بغير علم، فضَلّوا وأَضلوا" (¬11)، وإِنما ضلوا وأضلوا؛ لأَنهم أَفتوا بالرأْي؛ إِذ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ. وأَما إِقامة صُوَرِ الأَئمة وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الأُمور (¬12) عَلَى خِلَافِ ما كان ¬

(¬1) في (خ) و (م) و (ت): "به". (¬2) في (خ) و (ت) و (م): "كونها". (¬3) في (ت) و (خ): "الشريفة". (¬4) في (ر) و (غ): "لا يصلح بها"، وفي (ت): "لا يصلح لها"، وعلّق رشيد رضا هنا بقوله: أي: لا يصلح هنا. اهـ. (¬5) في (م): "الجهال". (¬6) في (ت): "يصير"، وذكر بهامشها أن في نسخة: "يتخذ". (¬7) في (ت): "يكون" بدل "يصير". (¬8) في (خ) و (ت) و (م): "ويرده". (¬9) قال رشيد رضا: قوله: "بدعة": هو خبر: "وكذلك تقديم الجهال".اهـ. (¬10) في (خ): "رءوساً". (¬11) أخرجه البخاري (100) و (7307)، ومسلم (2673) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬12) في (خ) و (ت) و (م): "الأمر".

عَلَيْهِ السَّلَفُ: فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا تُتَصوّر هُنَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ (¬1)؛ فإِن تَكَلَّفَ أَحد فِيهَا ذَلِكَ فَيَبْعُدُ جِدًّا، وَذَلِكَ بِفَرْضِ أَن يُعْتَقَدَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ أَنه مِمَّا يَطلب بِهِ الأَئمةُ عَلَى الْخُصُوصِ تَشْرِيعًا خَارِجًا عَنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، بِحَيْثُ يُعَدّ مِنَ الدِّينِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ هؤلاءِ الْمَطْلُوبُونَ بِهِ، أَو يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ خَاصًّا بالأَئمة دُونَ غَيْرِهِمْ، كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَن خَاتَمَ الذَّهَبِ جَائِزٌ لِذَوِي (¬2) السُّلْطَانِ، أَو يَقُولُ: إِن الْحَرِيرَ جَائِزٌ لَهُمْ لُبْسُهُ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا أَقرب مِنَ الأَول فِي تَصَوُّرِ الْبِدْعَةِ فِي حَقِّ هَذَا الْقِسْمِ. وَيُشْبِهُهُ عَلَى قُرْبٍ: زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ، إِذ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنها مِنْ قَبِيلِ تَرْفِيعِ بُيُوتِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الثُريَّات (¬3) الْخَطِيرَةِ الأَثمان، حَتَّى يُعَدّ الإِنفاق فِي ذَلِكَ إِنفاقاً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إِذا اعتُقِدَ فِي زَخَارِفِ الْمُلُوكِ وإِقامة صُوَرِهِمْ أَنها مِنْ جُمْلَةِ تَرْفِيعِ الإِسلام، وإِظهار (¬4) مَعَالِمِهِ وَشَعَائِرِهِ، أَو قصد ذلك في فعله أَوّلاً فإنَّه (¬5) ترفيع للإِسلام بما (¬6) لَمْ يأْذن اللَّهُ بِهِ. وَلَيْسَ مَا حَكَاهُ القرافي عن معاوية رضي الله عنه (¬7) مِنْ قَبِيلِ هَذِهِ الزَّخَارِفِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ المُعتاد فِي اللِّبَاسِ، وَالِاحْتِيَاطِ (¬8) فِي الْحِجَابِ مَخَافةً من انْخِراقِ خَرْقٍ يَتّسع (¬9) فلا يُرْقَع، هَذَا إِن صَحَّ مَا قَالَ، وإِلا فَلَا يُعَوّل (¬10) عَلَى نَقْلِ الْمُؤَرِّخِينَ وَمَنْ لَا يُعتبر مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ، وأَحرى أَلَّا (¬11) يَنْبَنِيَ عَلَيْهِ حُكْمٌ. وأَما مسأَلة الْمَنَاخِلِ: فَقَدْ مَرَّ مَا فِيهَا، وَالْمُعْتَادُ فِيهَا أَنه (¬12) لَا يُلْحِقها أَحد بالدِّين وَلَا بِتَدْبِيرِ الدُّنْيَا، بِحَيْثُ لَا يَنْفَكّ عَنْهُ؛ كالتشريع، فلا نطوِّل به. ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "وذلك وهو صحيح". (¬2) في (ر) و (غ): "لذي". (¬3) في (ر): "الثرييات". (¬4) في (م): "وظهار". (¬5) في (خ) و (ت) و (م): "بأنه". (¬6) في (ت): "مما" بدل "بما". (¬7) في (ت): "عن سيدنا معاوية". (¬8) في (ر) و (غ): "والاحتفاظ". (¬9) في (ر) و (غ): "يتبع". (¬10) في (ر) و (غ): "يعدل". (¬11) في (ت) و (خ) و (م): "أن" بدل: "ألا"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل الأصل: "وأحرى ألا ينبني عليه حكم".اهـ .. (¬12) في (خ): "والمعتاد ما فيها أنه" وفي (غ): "والمعتاد فيها أنها".

وَعَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ يُنظر فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عبد السلام (¬1) من غير فرق، فيتبيّن (¬2) مَجَالَ الْبِدْعَةِ فِي الْعَادِيَّاتِ (¬3) مِنْ مَجَالِ غَيْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيضاً (¬4) فِيهَا كَلَامٌ فَرَاجِعْهُ إِن احْتَجْتَ إِليه (¬5). وأَما وَجْهُ النَّظَرِ فِي أَمثلة الْوَجْهِ الثَّالِثِ (¬6) مِنْ أَوجه دُخُولِ الِابْتِدَاعِ فِي الْعَادَاتِ (¬7) عَلَى مَا أُريد تَحْقِيقُهُ: فَنَقُولُ: إِن مدار (¬8) تِلْكَ الأَحاديث عَلَى بِضْعَ عَشْرَةَ (¬9) خَصْلَةً، يُمْكِنُ ردُّها إِلى أُصول هِيَ كُلُّهَا أَو غَالِبُهَا بِدَعٌ، وَهِيَ: قِلّةُ الْعِلْمِ، وَظُهُورُ الْجَهْلِ، والشُّحُّ، وقبضُ الأَمانة، وتحليلُ الدِّماءِ، وَالزِّنَا، والحريرِ، والغِناءِ، والرِّبا والخمرِ، وكونُ المَغْنَمِ دُوَلاً، وَالزَّكَاةُ مَغْرِماً، وارتفاعُ الأَصوات فِي الْمَسَاجِدِ، وتقديمُ الأَحداث، ولَعْنُ آخرِ الأُمّةِ أَوَّلَها، وخروجُ الدَّجَّالِينَ، ومفارقةُ الْجَمَاعَةِ (¬10). أَما قِلّةُ الْعِلْمِ، وَظُهُورُ الْجَهْلِ: فَبِسَبَبِ التفقُّه للدنيا (¬11)، وهذا إِخبارٌ بمُقَدِّمةٍ نتيجتُها (¬12): الفُتيا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ حَسْبَمَا جاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "إِن اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ ... " (¬13)، إِلى آخِرِهِ (¬14)، وَذَلِكَ أَن النَّاسَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ قائدٍ يَقُودُهُمْ في الدين بخزائمهم (¬15)، وإِلا ¬

(¬1) تقدم (ص416 ـ 417). (¬2) في (ت) و (خ) و (م): "فتبين". (¬3) في (م): "العديات". (¬4) انظر (ص321 و325 فما بعد) من المجلد الأول. (¬5) قوله: "إن احتجت إليه" ليس في (ت). (¬6) أي المتقدم (ص419). (¬7) في (ت) و (خ): "العاديات". (¬8) في (خ) و (م): "مدارك". بدل "مدار"، وكذا في أصل (ت)، ثم صوبت في الهامش. (¬9) في (ت): "عشر". (¬10) انظر: حديث علي رضي الله عنه صفحة (423). (¬11) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "التفرغ للدنيا".اهـ. ولا داعي لهذا الاستدراك، فكلام المصنف لا غموض فيه. (¬12) في (خ): "نتجتها". (¬13) تقدم تخريجه صفحة (432). (¬14) في (ت): "إلى آخر الحديث". (¬15) في (خ): "بحرائمهم"، وفي (ت) و (م): "بجرائمهم" وتقدم تعريف الخزامة (ص334).

وقع الهَرْجُ (¬1)، وفسد النظام، فيضطرون إِلى الرجوع (¬2) إِلى مَنِ انْتَصَبَ لَهُمْ مَنْصِبَ الْهِدَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عَالِمًا، فَلَا بُدَّ أَن يَحْمِلَهُمْ عَلَى رأْيه فِي الدِّينِ، لأَن الْفَرْضَ أَنه جَاهِلٌ، فيُضِلّهم عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ كَمَا أَنَّهُ ضَالٌّ (¬3) عَنْهُ، وَهَذَا عَيْنُ الِابْتِدَاعِ؛ لأَنه التَّشْرِيعُ بِغَيْرِ (¬4) أَصلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنه لَا يُؤتى الناسُ قَطّ مِنْ قِبل (¬5) عُلَمَائِهِمْ (¬6)؛ وإِنما يؤتَون مِنْ قِبَلِ أَنه إِذا مَاتَ عُلَمَاؤُهُمْ؛ أَفتى مَنْ لَيْسَ بِعَالَمٍ، فَيُؤْتَى (¬7) النَّاسُ مَنْ قِبَلِهِ؛ وسيأْتي (¬8) لِهَذَا الْمَعْنَى بَسْطٌ أَوسع مِنْ هَذَا إِن شاءَ اللَّهُ. وأَما الشحُّ: فإِنه مُقَدِّمَةٌ لِبِدْعَةِ الِاحْتِيَالِ عَلَى تَحْلِيلِ الْحَرَامِ؛ وَذَلِكَ أَن النَّاسَ يشحُّون بأَموالهم، فَلَا يَسْمَحُونَ بِتَصْرِيفِهَا فِي مَكَارِمِ الأَخلاق، وَمَحَاسِنِ الشِّيَم؛ كالإِحسان بِالصَّدَقَاتِ، والهِبَات، والمُواساة، والإِيثار عَلَى النَّفْسِ، وَيَلِيهِ أَنواع الْقَرْضِ الْجَائِزِ، ويليه التجاوز في المعاملات بإِنظار المعسر، أو بالإِسقاط (¬9)؛ كما قال تعالى (¬10): {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬11)؛ وَهَذَا كَانَ شأْن مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، ثُمَّ نَقَصَ الإِحسان بِالْوُجُوهِ الأُوَل؛ فَتَسَامَحَ النَّاسُ بِالْقَرْضِ، ثُمَّ نَقَصَ (¬12) ذَلِكَ؛ حَتَّى صَارَ الْمُوسِرُ لَا يَسْمَحُ بِمَا فِي يَدَيْهِ، فَيُضْطَرُّ المعسر ¬

(¬1) المقصود بالهَرْج هنا ـ فيما يظهر ـ: كثرة الفتن المفضية إلى كثرة القتال. فالهَرْجُ يطلق على الاختلاط، والفتنة في آخر الزمان، وشدّة القتل وكثرته، وكثرة النكاح، وأصل الهرج: الكثرة في الشيء. انظر "النهاية" (5/ 256)، و"لسان العرب" (2/ 389). (¬2) في (ت) و (خ): "الخروج". (¬3) في (ت): "ضل". (¬4) في (ر) و (غ): "لغير". (¬5) في (م): "قبيل". (¬6) في (ت) و (خ): "العلماء". (¬7) في (ت) و (خ): "فتؤتى". (¬8) (ص99) من المجلد الثالث. (¬9) كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: "من سره أن ينجيه الله فلينفس عن معسر، أو يضع عنه". أخرجه مسلم (1563). وفي (خ) و (م) و (ت): "وبالإسقاط". (¬10) قوله: "تعالى" ليس في (خ). (¬11) سورة البقرة: الآية (280). (¬12) في (خ): "نقض".

إِلى أَن يَدْخُلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ، وَبَاطِنُهَا الْمَنْعُ؛ كَالرِّبَا، والسَّلَف الَّذِي يَجُرّ النَّفْع (¬1)، فَيُجْعَلُ بَيْعًا فِي الظَّاهِرِ، وَيَجْرِي فِي النَّاسِ شَرْعًا شَائِعًا، وَيَدِينُ (¬2) بِهِ الْعَامَّةُ، وَيَنْصِبُونَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مَتَاجِرَ، وأَصلها الشُّحّ بالأَموال، وحُبّ الزَّخَارِفِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةِ، فإِذا كَانَ كَذَلِكَ؛ فبالحَرِيّ (¬3) أَن يَصِيرَ ذَلِكَ ابْتِدَاعًا فِي الدِّينِ، وأَن يُجعل مِنْ أَشراط السَّاعَةِ. فإِن قِيلَ: هَذَا انْتِجَاعٌ (¬4) مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وتكلُّفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. فَالْجَوَابُ: أَنه لَوْلَا أَن (¬5) ذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنَ الشَّرْعِ لَمَا قِيلَ بِهِ. فَقَدْ رَوَى أَحمد فِي "مُسْنَدِهِ" (¬6) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ¬

(¬1) في (م): "المنع". (¬2) في (ت): "وتدين". (¬3) في (خ): "فالجري". (¬4) المعنى: أن هذا استنباط بعيد. والانْتِجاع: طلب الكلأ ومساقط الغيث؛ كما في "النهاية" (5/ 21)، و"لسان العرب" (8/ 347)؛ وذلك بالتكلّف في طلبه عن بعد. (¬5) قوله: "أن" سقط من (ر) و (غ). (¬6) (2/ 28 رقم 4825) من طريق أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، به. وأخرجه الطرسوسي في "مسند ابن عمر" (22)، والطبراني في "الكبير" (12/ 432 رقم 13583)، والبيهقي في "الشعب" (4224)، ثلاثتهم من طريق أبي بكر بن عياش، به. قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 295 ـ 296): "حديث صحيح رجاله ثقات". وتعقَّب الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 45 رقم 1183) ابن القطان بقوله: "وعندي: أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً؛ لأن الأعمش مدلِّس، ولم [يذكر] سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون عطاء الخراساني، فيكون منه تدليس التسوية؛ بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر، فرجع الحديث إلى الإسناد الأول، وهو المشهور".اهـ. وقول الحافظ عن عطاء المذكور هنا: "يحتمل أن يكون عطاء: الخراساني": ينفيه التصريح في بعض الطرق بأنه ابن أبي رباح!. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (3/ 133): "وهذان إسنادان=

قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذا ضَنَّ الناسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بالعِيْنَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذناب الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ في سبيل الله، أَنزل الله بهم بلاءًا، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم". ¬

=حسنان أحدهما يشدّ الآخر ويقوّيه"؛ يعني: هذا الطريق، وطريق عطاء الخراساني عن نافع الآتي ذكره. ثم قال شيخ الإسلام: "فأما رجال الأول: فإنهم مشاهير، لكن نخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء، أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر. والإسناد الثاني: يبيِّن أن للحديث أصلاً محفوظاً عن ابن عمر ... " إلخ كلامه الآتي ذكره. وقال في "القواعد النورانية" (ص15): "وقد ورى أحمد وأبو داود بإسنادين جيِّدين ... "، ثم ذكره. وحسّنه أيضاً ابن القيم كما سيأتي. وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (5659) من طريق إسماعيل بن عليّة، والطبراني في "الكبير" (12/ 433 رقم 13585) من طريق عبد الوارث بن سعيد، كلاهما عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عمر، به. وأخرجه الروياني في "مسنده" (1422) من طريق محمد بن حميد الرازي، عن جرير، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 313 ـ 314)، و (3/ 319) من طريق أبي كدينة البجلي، كلاهما ـ جرير وأبو كدينة ـ عن ليث، عن عطاء، عن ابن عمر، به هكذا بإسقاط عبد الملك بن أبي سليمان من سنده، فلست أدري هل هذا من تخليط ليث بن أبي سليم، أو ممن دونه؟ فليث قال عنه الحافظ ابن حجر في "التقريب" (5721) "صدوق اختلط جداً، ولم يتميّز حديثه، فتُرك". قال أبو نعيم بعد أن رواه: "رواه الأعمش عن عطاء ونافع، ورواه راشد الحمّاني، عن ابن عمر نحوه". وقال أيضاً: "حديث غريب من حديث عطاء، عن ابن عمر، رواه الأعمش أيضاً عنه، ورواه فضالة بن حصين، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر". وطريق فضالة هذه التي أشار إليها أبو نعيم: أخرجها العسكري في "تصحيفات المحدثين" (1/ 191)، وابن شاهين في "الأفراد" (1/ 1) ـ كما في "السلسلة الصحيحة" للألباني (11) ـ، كلاهما عن فضالة بن حصين، عن نافع، عن ابن عمر، به. ثم قال ابن شاهين: "تفرّد به فضالة". وفضالة هذا قال فيه أبو حاتم: "مضطرب الحديث". "الجرح والتعديل" (7/ 78). وللحديث طريق أخرى يرويها عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر، به، وسيأتي الكلام عنها في التعليق الآتي.

وَرَوَاهُ أَبو دَاوُدَ أَيضاً (¬1)، وَقَالَ فِيهِ: "إِذا تبايعتم بالعينة، وأَخذتم ¬

(¬1) في "سننه" (3462). وأخرجه الدولابي في "الكنى" (2/ 65)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 360)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 208 ـ 209)، والبيهقي (5/ 316) جميعهم من طريق حيوة بن شريح، عن إسحاق أبي عبد الرحمن، عن عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر، به. قال أبو نعيم: "غريب من حديث عطاء عن نافع، تفرد به حيوة عن إسحاق". وقال المنذري في "مختصر السنن" (5/ 102 ـ 103): "في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني، نزيل مصر، لا يحتج بحديثه، وفيه أيضاً عطاء الخراساني وفيه مقال". وضعف هذه الطريق ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 295). ومدار هذا الطريق على عطاء بن أبي مسلم الخراساني، وهو صدوق يهم كثيراً ويرسل ويدلس كما في "التقريب" (4633). وإسحاق بن أَسيد أبو عبد الرحمن الخراساني قال عنه ابن حجر في "التقريب" (344): "فيه ضعف". وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "إقامة الدليل" من "الفتاوى الكبرى" (3/ 133) إسناد عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر السابق، وهذا الإسناد، ثم قال: "والإسناد الثاني يبين أن للحديث أصلاً محفوظاً عن ابن عمر، فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور، وحيوة بن شريح كذلك وأفضل، وأما إسحاق بن عبد الرحمن [كذا!] فشيخ روى عنه أئمة المصريين؛ مثل حيوة بن شريح، والليث بن سعد، ويحيى بن أيوب وغيرهم"، ثم ذكر رواية ليث بن أبي سليم، عن عطاء، عن ابن عمر، ثم قال: "وهذا يبيِّن أن للحديث أصلاً عن عطاء"، وذكر ابن القيم كلامه هذا في "تهذيب السنن" (5/ 104)، وأقرّه. وذكر الحديث أيضاً في "الجواب الكافي" (ص30) وحسَّنه. وأخرجه أحمد (2/ 42 و82)، والخطيب في "تاريخه" (4/ 307)، وابن عساكر في "تاريخه" (1/ 161) من طريق أبي جناب، عن شهر بن حوشب، عن ابن عمر، به. وأبو جناب هو: يحيى بن أبي حية ضعفوه لكثرة تدليسه. وشهر بن حوشب صدوق كثير الإرسال والأوهام كما في "التقريب" (2846). وله شاهد من حديث جابر: أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 455 من طريق بشير بن زياد الخراساني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، به. قال ابن عدي: "وبشير بن زياد هذا ليس بالمعروف، إلا أنه يروي عن المعروفين ما لا يتابعه أحد عليه ... ". وبالجملة فجميع طرق الحديث لا تخلو من ضعف، وتقدم أن ابن القطان صححه، وقوّاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة=

أَذناب الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه حَتَّى تَرْجِعُوا إِلى دِينِكُمْ". فتأَمل كَيْفَ قَرَنَ التبايُعَ بالعِيْنَة بِضِنَّةِ النَّاسِ (¬1)؟ فأَشعر بأَن (¬2) التَّبَايُعَ بِالْعِينَةِ يَكُونُ عَنِ الشُّحِّ بالأَموال، وَهُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ، فإِن الرَّجُلَ لَا يَتَبَايَعُ أَبداً هَذَا التَّبَايُعَ وَهُوَ يَجِدُ مَنْ يُسْلِفُه، أَو مَنْ يُعينه فِي حَاجَتِهِ، إِلا أَن يَكُونَ سَفِيهًا لَا عَقْلَ لَهُ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى مَا خَرَّجَهُ أَبو دَاوُدَ أَيضاً (¬3) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سيأْتي عَلَى النَّاسِ زمانٌ عَضُوضٌ، يَعَضُّ المُوسِرُ عَلَى مَا فِي يديه، ولم يؤْمر بذلك؛ قال الله تعالى: {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (¬4)، ويُبَايِعُ المُضْطَرّون، وقد نهى ـ عليه السلام ـ عن بيع المُضْطَرّ، وبيع الغَرَر، وبيع الثمر قبل أن يُدرك. وخرَّجه أحمد بن حنبل وسعيد بن منصور (¬5). ¬

=الصحيحة" (11)، والله أعلم. (¬1) في (ت): "بشحَّة الناس"، وصوبت في الهامش، وفي (م): "بضحة". (¬2) في (ت): "فأشعر أن أن". (¬3) في "سننه" (3382)، وسيأتي تخريجه، والكلام عليه. (¬4) سورة البقرة: الآية (237). (¬5) الحديث أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" ومن طريقه البيهقي (6/ 17)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 22)، وضعّفه. وأخرجه أحمد (1/ 116)، وأبو داود في الموضع السابق، جميعهم من طريق هشيم؛ أخبرنا صالح بن رستم، عن شيخ من بني تميم؛ قال: خطبنا علي ... ، فذكره. وإسناده ضعيف؛ لإبهام الشيخ من بني تميم. وصالح بن رستم قال فيه الحافظ ابن حجر في "التقريب" (2877): صدوق كثير الخطأ. وأخرجه ابن مردويه كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 426) من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن عبد الله بن عبيد، عن عَلَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم قال .. ، فذكره هكذا مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، لا من قول علي. وإسناده ضعيف لضعف عبيد الله بن الوليد الوَصَّافي كما في "التقريب" (4381). وعبد الله بن عبيد هو ابن عمير الليثي ثقة؛ لكنه لا يعرف له سماع من علي، وبين=

وخرج سعيد (¬1) عن حذيفة في معنى الحديث (¬2) أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ بعد زمانكم هذا زماناً عَضُوضاً، يَعَضُّ الموسر على ما في يديه، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (¬3): {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬4)، ويَنْهَدُ (¬5) شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرّ، أَلا إِن بَيْعَ الْمُضْطَرِّ حَرَامٌ، الْمُسْلِمُ أَخو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخُونُهُ، إِن كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فعُدْ بِهِ عَلَى أَخيك، وَلَا تَزِدْه (¬6) هَلَاكًا إِلى هَلَاكِهِ". وَهَذِهِ الأَحاديث الثَّلَاثَةُ ـ وإِن كانت أَسانيدها ليست هناك ـ: فهِيَ (¬7) مِمَّا يُعَضِّدُ (¬8) بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهُوَ خَبَرٌ حَقٌّ في نفسه يشهد له الواقع. ¬

=وفاتيهما أكثر من سبعين سنة، وقد ذُكر في ترجمته أنه لم يسمع من عائشة، فعلي من باب أولى، والله أعلم. انظر "تهذيب الكمال" (15/ 259 ـ 261)، و"تهذيب التهذيب" (5/ 308). (¬1) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" كما في "المحلى"، (9/ 22)، و"إعلام الموقعين" (3/ 170) عن هشيم، عن كوثر بن حكيم، عن مكحول؛ بلغني عن حذيفة ... ، فذكره. وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"، وأبو يعلى في "مسنده" كما في "تفسير ابن كثير" (5/ 510)، كلاهما من طريق هشيم، به. وسنده ضعيف جداً. فكوثر بن حكيم قال عنه البخاري ويعقوب بن شيبة: منكر الحديث، وقال أحمد والدارقطني: متروك الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. انظر: "لسان الميزان" (6/ 74 ـ 75). ويضاف إليه جهالة الواسطة بين مكحول وحذيفة. وضعفه ابن حزم، وقال ابن كثير: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي إسناده ضعف". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الإسناد وإن لم تجب به حجة، فهو يعضد الأول، مع أنه خبر صدق، بل هو من دلائل النبوة؛ فإن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض ... " "الفتاوى الكبرى" (3/ 137). (¬2) يعني: الحديث السابق. (¬3) من قوله: " {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} " إلى هنا سقط من (ت) و (خ) و (م). (¬4) سورة سبأ: الآية (39). (¬5) في (خ) يشبه أن تكون: "وينشد"، وفي (ت): "ويشهد". ومعنى: يَنْهَدُ: ينهض. انظر: "النهاية (5/ 133). (¬6) في (م): "تزيده". (¬7) قوله: "فهي" ليس في (خ) و (م)، وفي (غ): "فهذا". (¬8) في (غ): "يعضده".

قَالَ بَعْضُهُمْ (¬1): عَامَّةُ الْعِينَةِ (¬2) إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ رَجُلٍ يُضْطَرُّ إِلى نَفَقَةٍ يَضِنّ عَلَيْهِ الْمُوسِرِ بالقرض، إِلا أَن يُربحه في المائة ما أَحب (¬3)، فيبيعه ثَمَنُ الْمِائَةِ بِضَعْفِهَا أَو نَحْوِ ذَلِكَ، ففسَّر بَيْعُ الْمُضْطَرِّ بِبَيْعِ العِينة، وَبَيْعُ الْعِينَةِ إِنما هُوَ الْعَيْنُ (¬4) بأَكثر مِنْهَا إِلى أَجل ـ حَسْبَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْفِقْهِيَّاتِ ـ، فَقَدْ صَارَ الشُّحُّ إِذاً سَبَبًا فِي دُخُولِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ فِي البيوع. فإِن قيل: كلامنا في البدعة، لا فِي فَسَادِ (¬5) الْمَعْصِيَةِ؛ لأَن هَذِهِ الأَشياء بُيُوعٌ فَاسِدَةٌ، فَصَارَتْ مِنْ بَابٍ آخَرَ لَا كَلَامَ لَنَا فِيهِ. فَالْجَوَابُ: أَن مَدْخَلَ الْبِدْعَةِ هَاهُنَا مِنْ بَابِ الِاحْتِيَالِ الَّذِي أَجازه بَعْضُ النَّاسِ، فَقَدْ عَدَّهُ العلماءُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كتابٍ (¬6) وضِعَ فِي الحِيَل (¬7): "من وضعَ هذا الكتاب (¬8) فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَمِعَ بِهِ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ كُورة إِلَى كُورَةٍ (¬9) فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَذَلِكَ أَنه وَقَعَ (¬10) فِيهِ احتيالات (¬11) بأَشياء مُنْكَرَةٍ، حَتَّى احْتَالَ عَلَى فِرَاقِ الزَّوْجَةِ زوجها بأَن تَرْتَدَّ". ¬

(¬1) هو شيخ الإسلام ابن تيمية في "إقامة الدليل" (3/ 137/الفتاوى الكبرى)، وعنه ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 170) مع اختلاف يسير. (¬2) في (ر) و (غ): "الفتنة". (¬3) في (ت): "ما يحب". (¬4) في (ت): "إنما هو بيع العين"، لكن قوله: "بيع" ملحق، وليس في الأصل. (¬5) في (خ) و (م): "في البدعة في فساد"، وكذا كان في (ت)، وألحق الناسخ في الهامش حرف "لا" قبل قوله: "فساد". (¬6) في (ت): "في حق كتاب". (¬7) نقله عن ابن المبارك أيضاً شيخُ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (3/ 168 ـ 169). وانظر: "الموافقات" للمصنف (3/ 124 ـ 125) و (5/ 188)، و"الفتاوى الكبرى" (3/ 170) و"الفتح" لابن حجر (12/ 326). (¬8) قوله: "الكتاب" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬9) كُوَرة ـ على وزن صُورة ـ: المدينة. انظر: "لسان العرب" (5/ 154). (¬10) في (ر) و (غ): "وضع" بدل "وقع". (¬11) في (خ) و (ت) و (م): "الاحتيالات".

وقال إِسحاق بن رَاهَوَيْهِ عَنْ سُفْيَانَ (¬1) بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: أَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكَ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ (¬2) أَبي رَوْح حَيْثُ أُمرت بِالِارْتِدَادِ، وَذَلِكَ فِي أَيام أَبي غَسَّانَ (¬3)، فَذَكَرَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغَضَّبٌ (¬4): "أَحدثوا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَانَ أَمر بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ أَو فِي بَيْتِهِ ليأْمر به أَو صَوَّبَهُ (¬5) وَلَمْ يأْمر بِهِ فَهُوَ (¬6) كَافِرٌ". ثُمَّ قَالَ ابْنُ المُبَارَكٍ: "مَا أَرى الشيطان كان (¬7) يُحْسِن مِثْلَ هَذَا، حَتَّى جاءَ هؤلاءِ فأَفادها منهم فأَشاعها حينئذ، أو كان (¬8) يحسنها ولم يَجِدْ (¬9) مَنْ يُمْضِيهَا فِيهِمْ، حَتَّى جاءَ هؤلاءِ" (¬10). وإِنما وُضِعَ هَذَا الْكِتَابُ وأَمثاله لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى زَعْمِهِمْ فِي أَن يَحْتَالُوا لِلْحَرَامِ حَتَّى يصير حلالاً (¬11)، وللواجب حتى يصير (¬12) غَيْرَ وَاجِبٍ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِنَ الأُمور الْخَارِجَةِ عَنْ نِظَامِ الدِّينِ، كَمَا أَجازوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ، وَهُوَ احتيالٌ عَلَى رَدّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِمَنْ طَلَّقَهَا، وأَجازوا إِسقاط فَرْضِ الزَّكَاةِ بِالْهِبَةِ المستعارة (¬13) (¬14)، وأَشباه ذلك فقد ظهر وجه ¬

(¬1) قوله: "عن سفيان" جاء مكرراً في (غ)، وفي (خ): "عن سفيان عن عبد الملك". (¬2) في (ر) و (غ): "ابن". (¬3) في (ت): "أيام بني غسان". (¬4) في (ر) و (غ): "معضب" بالعين المهملة. (¬5) في "الفتاوى الكبرى": "هَوِيَه". (¬6) قوله: "فهو" ليس في (ر) و (غ). (¬7) قوله: "كان" من (ر) و (غ) فقط. (¬8) في (خ) و (م): "وكان" والمثبت من (ت) و"الفتاوى الكبرى" (3/ 168) وهو الأنسب، والله أعلم. (¬9) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعل الأصل: "ولو كان يحسنها لم يجد".اهـ. وسبب قوله هذا ما تقدم في التعليق السابق. (¬10) من قوله: "فأفادها منهم" إلى هنا سقط من (ر) و (غ). (¬11) في (م): "حتى يصير حراماً"، وعليها علامة، فالظاهر أنها صوبت في الهامش، ولم يظهر التصويب في التصوير. (¬12) في (خ) و (م) و (ت): "يكون" بدل "يصير". (¬13) في (ت): "المستعادة". (¬14) بيَّن المصنف هذا في "الموافقات" (5/ 187) فقال: " ... ومنها قاعدة الحيل؛ فإن حقيقتها المشهورة: تقديم عمل ظاهرِ الجواز لإبطال=

الإِشارة فِي الأَحاديث الْمُتَقَدِّمَةِ الْمَذْكُورِ (¬1) فِيهَا الشُّحُّ، وأَنها (¬2) تتضمن ابتداعاً كما تتضمن معاصي جملة (¬3). وأَما قبض الأَمانة فعبارة عن شياع الْخِيَانَةِ، وَهِيَ مِنْ سِمَاتِ أَهل النِّفَاقِ، وَلَكِنْ قد سَارَ (¬4) فِي النَّاسِ بَعْضُ أَنواعها تَشْرِيعًا، وحُكيت عَنْ قَوْمٍ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلى الْعِلْمِ، كَمَا حُكيت عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الأُمراءِ، فإِن أَهل الْحِيَلِ الْمُشَارِ إِليهم إِنما بَنَوْا فِي بَيْعِ الْعِينَةِ عَلَى إِخفاءِ مَا لَوْ أَظهروه لَكَانَ الْبَيْعُ فاسداً، فأَخفوه ليُظْهِرَ (¬5) صحته، فإِن بيعه الثوب بمئةٍ وَخَمْسِينَ إِلى أَجل (¬6) لَكِنَّهُمَا (¬7) أَظهرا وَسَاطَةَ الثَّوْبِ، وأَنه هُوَ الْمَبِيعُ وَالْمُشْتَرَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ الواقع. وكالذي (¬8) يَهَبُ مَالَهُ عِنْدَ رأْس الْحَوْلِ قَائِلًا بِلِسَانِ حاله أو مقاله (¬9): أَنا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلى هَذَا (¬10) الْمَالِ، وأَنت أَحوج إِليه مِنِّي، ثُمَّ يَهَبُهُ، فإِذا جاءَ الْحَوْلُ الْآخَرُ قَالَ الْمَوْهُوبُ (¬11) لَهُ لِلْوَاهِبِ مِثْلَ المقالة الأُولى، والجميع فِي الْحَوْلَيْنِ (¬12) فِي تَصْرِيفِ الْمَالِ سواءٌ، أَليس هذا خلاف ¬

=حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر؛ فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول فراراً من الزكاة؛ فإن أصلَ الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعاً؛ فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد؛ صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة ـ وهو مفسدة ـ ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية". (¬1) في (خ) و (م): "المذكورة". (¬2) في (ر) و (غ): "وإنما". (¬3) علق رشيد رضا هنا بقوله: قوله: "جملة": الأظهر أن يقال: "جمة".اهـ. (¬4) في (م): "قد صار" وفي (خ): "ولكن يوجد"، وفي (ت): "ولكن قد يوجد". (¬5) كذا في جميع النسخ، وأثبتها رشيد رضا: "لتظهر"، والمعنى: ليظهر البائع صحته، وقد يكون صحيح العبارة: "ليظهروا". (¬6) كذا في جميع النسخ، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: أين خبر "إنّ"؟.اهـ. أقول: لعل خبرها: جملة قوله: بمئةٍ وخمسين إلى أجل، فيكون المعنى: فإنه يبيع الثوب المئة بمئةٍ وخمسين إلى أجل. (¬7) في (ت): "كأنهما" بدل "لكنهما". (¬8) في (خ): "وكذلك". (¬9) في (خ): "ومقاله". (¬10) في (ت): "لهذا". (¬11) في (ت) و (خ) و (م): "المهاب". (¬12) في (خ) و (م): "والجميع في الحالين، بل في الحولين"، وليست الزيادة في أصل (ت)، وإنما ذكرت في الهامش على أنها في نسخة، وليس الأمر كذلك، بل هذا من=

الأَمانة؟ وَالتَّكْلِيفُ مَنْ أَصله أَمانة فِيمَا بَيْنُ العبد وربه، فالعمل بخلافها (¬1) خِيَانَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ يُجيز (¬2) الزِّينَةَ، وَيَرُدُّ مِنَ الْكَذِبِ، وَمَعْنَى الزِّينَةِ التَّدْلِيسُ بِالْعُيُوبِ، وَهَذَا خِلَافُ الأَمانة وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. وأَيضاً فإِن كثيراً من الأُمراءِ يَحْتَجِنُون (¬3) أَموال المسلمين لأنفسهم (¬4) اعْتِقَادًا مِنْهُمْ أَنها لَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ نَوْعًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ المأَخوذة عُنْوةً مِنَ الْكُفَّارِ، فَيَجْعَلُونَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، ويَحْرِمون الْغَانِمِينَ (¬5) مِنْ (¬6) حُظُوظِهِمْ مِنْهَا تأْويلاً عَلَى الشَّرِيعَةِ بِالْعُقُولِ، فَوَجْهُ الْبِدْعَةِ هَا هَنَا ظَاهِرٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَمْثِيلِ الْبِدَعِ الدَّاخِلَةِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ فِي الْبَابِ قَبْلَ هَذَا. وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا النَّمَطِ (¬7): كَوْنُ الْغَنَائِمِ تَصِيرُ (¬8) دُوَلاً (¬9)، وَقَوْلُهُ: "سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وأُموراً (¬10) تُنْكِرُونَهَا"، ثُمَّ قَالَ: "أَدّوا إِليهم حقَّهم، وَسَلُوا الله حَقَّكُم" (¬11) (¬12). ¬

=الإضراب عن الخطأ، وتقدم مثل هذا. (¬1) في (ت) و (خ) و (م): "بخلافه". (¬2) في (خ) و (م) و (ت): "يحقر" بدل "يجيز". (¬3) في (ت) و (خ): "يحتاجون"، وفي (م): "يحتحنون". ومعنى قوله: "يحتجنون" أي: يختصّون به لأنفسهم دون الناس، أو يقتطعون ويسرقون. انظر: "لسان العرب" (13/ 108 و109). (¬4) في (خ) و (ت): "أموال الناس" بدل "أموال المسلمين لأنفسهم". (¬5) في (م): "الغنائم"، وكتب في هامشها: "لعله: الغانمين". (¬6) قوله: "من" ليس في (ر) و (غ). (¬7) قوله: "النمط" ليس في (ت). (¬8) قوله: "تصير" ليس في (ر) و (غ). (¬9) يعني المصنف بكلامه هذا: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي تقدم تخريجه ص (423 ـ 424)، وهو حديث ضعيف. (¬10) في (خ): "وأمراء". وفي هامش (ت) ما نصه: "صوابه ـ والله أعلم ـ:،إِمْرَةً وأُمَرَاءَ". (¬11) في (خ) يشبه أن تكون: "حقهم"، أو: "دقهم". (¬12) تقدم تخريجه صفحة (419).

وأَما تحليل الدماء والزنى (¬1) والحرير والغناء والربا (¬2) وَالْخَمْرِ: فَخَرَّجَ أَبو دَاوُدَ وأَحمد وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبي مَالِكٍ الأَشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (¬3): "ليشربنَّ نَاسٌ مِنْ أُمتي الْخَمْرَ يُسَمّونها بِغَيْرِ اسْمِهَا". زَادَ ابْنُ مَاجَهْ: "يُعْزَفُ عَلَى رؤوسهم بِالْمَعَازِفِ والقَيْنات، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأَرض، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ" (¬4). وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبي عامر أو أبي مَالِكٍ (¬5) الأَشعري؛ قَالَ فِيهِ: "لِيَكُونَنَّ مِنْ أُمتي أَقوام (¬6) يَسْتَحِلّون الخَزَّ (¬7)، وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ، وَالْمَعَازِفَ، ولينزلنَّ أَقوام إِلى جَنْبِ عَلَمٍ (¬8)، تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سارِحَةٌ (¬9) لَهُمْ، يأْتيهم رَجُلٌ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلينا غداً، فيُبيِّتهم الله، ويضعُ العَلَم، ¬

(¬1) في (ت) و (خ) و (م): "والربا" بدل "والزنى". (¬2) قوله: "والربا" من (ر) و (غ) فقط. (¬3) قوله: "يقول" ليس في (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: ربما سقط من هنا كلمة: "يقول".اهـ. (¬4) أخرجه أحمد (5/ 432)، والبخاري في "تاريخه" (1/ 305) و (7/ 221)، وأبو داود (3688)، وابن ماجه (4020)، وابن حبان (6758) وغيرهم من طريق حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن غنم حدثني أبو مالك الأشعري به. ومالك بن أبي مريم وثقه ابن حبان وقال الذهبي: لا يعرف. وللحديث شواهد كثيرة يصح بها أفاض بذكرها الشيخ الألباني في "الصحيحة" (90) فلا نطيل بذكرها. (¬5) في (خ): "وأبي مالك". (¬6) قوله: "أقوام" سقط من (م). (¬7) كذا في جميع النسخ بالمعجمتين! وعلق عليه رشيد رضا بقوله: الرواية المشهورة بمهملتين، وسيأتي ذكر هذا اللفظ وتفسيره في حديث آخر في (ص88 و89).اهـ. يعني به رواية أبي داود الآتية، وتفسير المصنف للخَزّ. وهذه الرواية ـ "الخَزّ" بالمعجمتين ـ خطأ، والصواب: "الحِرَ" بالمهملتين. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 55): ضبطه ابن ناصر بالحاء المهملة المكسورة، والراء الخفيفة، وهو الفَرْجُ، وكذا هو في معظم الروايات من "صحيح البخاري"، ولم يذكر عياض ومن تبعه غيره. وأغرب ابن التين فقال: إنه عند البخاري بالمعجمتين. وقال ابن العربي: هو بالمعجمتين تصحيف؛ وإنما رويناه بالمهملتين، وهو الفرج، والمعنى: يستحلون الزنى. اهـ. (¬8) هو: الجبل كما سيأتي. (¬9) في بعض نسخ البخاري: "يروح عليهم بسارحة".

وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (¬1). وَفِي "سُنَنِ أَبي دَاوُدَ" (¬2): "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمتي أَقوام يَسْتَحِلُّونَ الخزَّ وَالْحَرِيرَ"، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: "يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". والخزُّ هُنَا: نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ، لَيْسَ الخَزَّ المأْذون فيه (¬3) الْمَنْسُوجُ مِنْ حَرِيرٍ (¬4) وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "وَلِيَنْزِلَنَّ (¬5) أَقْوَامٌ": يَعْنِي ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ مِنْ هؤلاءِ المُسْتَحِلّين، وَالْمَعْنَى: إِنَّ هؤلاءِ المُسْتَحِلّين يَنْزِلُ مِنْهُمْ أَقوام إِلى جَنْبِ عَلَمٍ ـ وَهُوَ (¬6) الْجَبَلُ ـ، فَيُوَاعِدُهُمْ رجل (¬7) إِلى الغد؛ فَيُبَيِّتُهُم الله ¬

(¬1) أخرجه البخاري (5590) تعليقاً فقال: "باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه". وقال هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثني عبد الرحمن بن غنم، حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري فذكره. ووصله ابن حبان (6754)، والطبراني (3417)، والبيهقي (3/ 272) و (10/ 221)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (67/ 188)، والحافظ في "تغليق التعليق" (5/ 17 ـ 18). قال الحافظ: وهذا حديث صحيح لا علة له، ولا مطعن له، وقد أعلّه أبو محمد ابن حزم بالانقطاع بين البخاري وصدقة بن خالد، وبالاختلاف في اسم أبي مالك، وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً؛ فيهم مثل: الحسن بن سفيان، وعبدان، وجعفر الفريابي، وهؤلاء حفاظ أثبات. وقال أيضاً: ثم إن الحديث لم ينفرد به هشام بن عمار ولا صدقة كما ترى. وقال أيضاً: وله عندي شواهد أُخر، كرهت الإطالة بذكرها، وفيما أوردته كفاية لمن عقل وتدبر، والله الموفق. اهـ. "تغليق التعليق" (5/ 22). وانظر: "تهذيب السنن" لابن القيم (5/ 270 ـ 272)، و"السلسلة الصحيحة" (91). (¬2) (4039). (¬3) في (خ) و (م): "فيها". (¬4) في (ر) و (غ): "الحرير". (¬5) في (ر) و (غ): "لينزلن" بلا واو. (¬6) قوله: "علم وهو" سقط من (ر)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر اللحق في التصوير، ويبدو أنه ليس هناك لحق، أو أنه تآكل من هامشها؛ لأن ناسخ (غ) بيض لهاتين الكلمتين، وهي منسوخة من (ر). (¬7) قوله: "رجل" ليس في (خ).

ـ وَهُوَ أَخذ الْعَذَابِ لَيْلًا ـ، وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ؛ كما في حديث أَبي داود، وكما (¬1) في الحديث قَبْلُ (¬2)؛ حَيْثُ قَالَ (¬3): يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأَرض، وَيَمْسَخُ منهم قردة وخنازير. وكأَن الخسف ها هنا (¬4) هو التَّبْيِيتُ الْمَذْكُورَ فِي الْآخَرِ. وَهَذَا نَصٌّ فِي أَن هؤلاءِ الَّذِينَ اسْتَحَلّوا هَذِهِ الْمَحَارِمَ كَانُوا متأَوِّلين فِيهَا؛ حَيْثُ زَعَمُوا [أَن] (¬5) الشَّرَابَ الَّذِي شَرِبُوهُ لَيْسَ هُوَ الْخَمْرُ، وإِنما لَهُ اسْمٌ آخَرُ، إِما النَّبِيذُ أَو غَيْرُهُ، وإِنما الْخَمْرُ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيْءِ، وَهَذَا رأْي طَائِفَةٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَن كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ (¬6). قَالَ بَعْضُهُمْ (¬7): وإِنما أَتى (¬8) عَلَى هؤلاءِ حَيْثُ اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَاتِ بِمَا ظَنُّوهُ مِنِ انْتِفَاءِ الِاسِمِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلى وُجُودِ الْمَعْنَى المُحَرِّم وَثُبُوتِهِ. قَالَ: وَهَذِهِ بِعَيْنِهَا شُبْهَةُ (¬9) الْيَهُودِ فِي اسْتِحْلَالِهِمْ بيع الشَّحْم بعد جَمْلِه (¬10)، ¬

(¬1) في (خ): "كما". (¬2) في (م): "قيل". (¬3) قوله: "قال" سقط من (خ). (¬4) في (ر) و (غ): "الخسف هنا". (¬5) ما بين معقوفين سقط من جميع النسخ، والسياق يقتضيه، وقد أثبته أيضاً محمد رشيد رضا. (¬6) أخرجه مسلم (2003) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام ... " الحديث. (¬7) هو شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ، وقوله هذا في "إقامة الدليل" من "الفتاوى الكبرى" (3/ 129)، ومن الجدير بالذكر أن المصنف رحمه الله قد استفاد في كثير من مباحث هذا الفصل ـ وهو الحيل ـ من كلام شيخ الإسلام رحمه الله حيث نقل كثيراً من عباراته، والمصنف إنما لم يصرح باسمه "اتقاءً لما وقع في الخُلُوف من عداوته، والنفرة منه" كما سبق نقله عن الشيخ بكر أبو زيد في تقديمه لـ" الموافقات " (ا/و)، والله أعلم. (¬8) في (ت): "أوتي". (¬9) في (ت): "هي شبهة". (¬10) أي: بعد إذابته. والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (2223 و3460)، ومسلم (1582)، كلاهما من رواية ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم؛ أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "لعن الله اليهود؛ حُرِّمت عليهم الشحوم، فجَمَلوها، فباعوها". وأخرجه البخاري (2224)، ومسلم (1583) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها".

واستحلال (¬1) أَخذ الحِيْتان يومَ الأَحد (¬2) بِمَا أَوقعوها بِهِ يَوْمَ السَّبْتِ فِي الشِّبَاك والحَفائِر مِنْ فِعْلِهِمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ؛ حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ هَذَا بصيدٍ، ولا عملٍ في (¬3) يوم السبت، وليس هذا باستباحة الشحم (¬4) (¬5). ¬

(¬1) قوله: "بيع الشحم بعد جمله، واستحلال" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬2) في (خ): "الأخذ". (¬3) قوله: "في" ليس في (خ) و (ت). (¬4) في (خ) و (ت) و (م): "الشح"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! ولعله "السبت"، والعبارة كلها مضطربة ليست سالمة من التحريف. اهـ. (¬5) الحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 322 ـ 323) من طريق الإمام الشافعي؛ أخبرني يحيى بن سُلَيم؛ ثنا ابن جريج، عن عكرمة؛ قال: دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما وهو يقرأ في المصحف قبل أن يذهب بصره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك؟ قال: فقال: هل تعرف أَيْلَة؟ قلت: وما أيلة؟ قال: قرية كان بها ناس من اليهود، فحرّم الله عليهم الحيتان يوم السبت، فكانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم شُرَّعاً بيضاء سمان كأمثال المخاض بأفنائهم وأبنياتهم، فإذا كان في غير يوم السبت لم يجدوها ولم يدركوها إلا في مشقة ومؤونة شديدة، فقال بعضهم لبعض ـ أَوْ مَنْ قال ذلك منهم ـ: لعلّنا لو أخذناها يوم السبت وأكلناها في غير يوم السبت! ففعل ذلك أهل بيت منهم، فأخذوا فشووا، فوجد جيرانهم ريح الشوي، فقالوا: والله ما نرى إلا أصاب بني فلان شيء، فأخذها آخرون، حتى فشا ذلك فيهم وكثر ... ، الحديث بطوله. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ومن طريق الحاكم أخرجه البيهقي في "السنن" (10/ 92). وأخرج ابن جرير الطبري في "تفسيره" (13/ 188 رقم 15271) قطعة منه من طريق سلام بن سالم الخزاعي، عن يحيى بن سليم، وليس فيها موضع الشاهد. والحديث شديد الضعف جداً؛ له علّة خفيت على الحاكم، وهي أن ابن جريج لم يسمع من عكرمة كما نص عليه المزي في "تهذيب الكمال" (18/ 342). وأكّد ذلك: أن عبد الرزاق أخرجه في "تفسيره" (2/ 240) عن ابن جريج؛ قال: حدثني رجل، عن عكرمة ... ، فذكره بطوله. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن جرير في الموضع السابق برقم (15272). وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (8447 و8455 و8457) مفرَّقاً، فقال: ذكر أحمد بن محمد بن عثمان الدمشقي؛ ثنا محمد بن شعيب بن شابور؛ أخبرني عبد الله بن المبارك: أنه سمع أبا بكر الهُذلي وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي يحدِّثان عن عكرمة مولى ابن عباس ... ، فذكره. فأوضحت هذه الرواية أن أبا بكر الهذلي يروي الحديث عن عكرمة، والهذلي هذا=

بَلِ الَّذِي يَسْتَحِلّ الْخَمْرَ زَاعِمًا أَنه (¬1) لَيْسَ خمراً، مع علمه (¬2) بأَن معناه معنى الْخَمْرَ، وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ الْخَمْرُ، أَفسدُ (¬3) تأْويلاً؛ مِنْ جِهَةِ أَن أَهل الْكُوفَةِ مِنْ أَكثر (¬4) النَّاسِ قِيَاسًا (¬5)؛ فَلَئِنْ كَانَ مِنَ الْقِيَاسِ مَا هُوَ حَقٌّ، فإِن قِيَاسَ الْخَمْرِ المَنْبوذةِ عَلَى الْخَمْرِ العَصِيرةِ مِنَ الْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الأَصل، وَهُوَ مِنَ الْقِيَاسِ الجَليّ؛ إِذ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ مَا يُتوهَّم أَنه مُؤَثِّرٌ فِي التَّحْرِيمِ. فإِذا كَانَ هؤلاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي الْحَدِيثِ إِنما شَرِبُوا الْخَمْرَ اسْتِحْلَالًا لَهَا؛ لَمَّا ظَنُّوا أَن المُحَرَّمَ مجردُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَظَنُّوا أَن لَفْظَ الْخَمْرِ لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيْءِ، فشُبهتهم فِي اسْتِحْلَالِ الْحَرِيرِ والمعازف أَظهر، فإِنه قد (¬6) أُبيح الحرير للنساءِ (¬7) مطلقاً (¬8)، ¬

=من شيوخ ابن جريج، مع كونه من أقرانه؛ كما في "تهذيب الكمال" (33/ 159). فبما أن ابن جريج معروف بالتدليس، وهو لم يسمع من عكرمة، ورواية عبد الرزاق للحديث عنه أوضحت أنه يرويه عن واسطة أبهمه، عن عكرمة، ورواية ابن المبارك أوضحت أن أبا بكر الهذلي يروي هذا الحديث عن عكرمة، والهذلي هذا من شيوخ ابن جريج، فالذي يغلب على الظن أنه هو الذي أبهمه ابن جريج ودلّسه، وهو أخباري متروك الحديث كما في "التقريب" (8059). وأما رواية الحاكم: ففيها يحيى بن سُلَيم الطائفي، وهو صدوق سيِّء الحفظ كما في "التقريب" (7663)، والله أعلم. (¬1) قوله: "أنه" سقط من (خ). (¬2) في (ت): "مع العلم". (¬3) في (خ): "فسد". (¬4) قوله: "من أكثر" مكرر في (ت). (¬5) كذا جاءت العبارة في جميع النسخ، وتقدم أن المصنف أخذها عن شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "إقامة الدليل على إبطال التحليل" (ص128 ـ 129) المطبوع في الجزء الثالث من "الفتاوى الكبرى"، ونص العبارة هناك: "أفسد تأويلاً من جهة أن الخمر اسم لكل شراب أسكر كما دلّت عليه النصوص، ومن جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياساً". (¬6) قوله: "قد" من (ر) و (غ) فقط. (¬7) قوله: "للنساء" سقط من (خ). (¬8) لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ وقد كان بإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب ـ: "هذان حرامان على ذكور أمتي حلال لإناثهم". أخرجه عبد بن حميد (80)، وابن أبي شيبة (8/ 351)، وأحمد (1/ 96)، والنسائي (8/ 160 ـ 161 رقم 5144 و5145 و5146 و5147)، وابن ماجه (3595) =

وَلِلرِّجَالِ (¬1) فِي بَعْضِ الأَحوال (¬2)، فَكَذَلِكَ (¬3) الْغِنَاءُ والدَّفُّ قَدْ أُبيح فِي العُرْسِ وَنَحْوِهِ (¬4)، وأُبيح مِنْهُ الحِدَاء (¬5) وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ دلائل التحريم ما في الخمر (¬6)، فظهر أَن القوم الَّذِينَ (¬7) يُخْسَفُ بِهِمْ وَيُمْسَخُونَ (¬8)، إِنما فُعِلَ (¬9) ذَلِكَ بهم (¬10) من جهة التأْويل الفاسد الذي ¬

=وغيرهم، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وفي إسناده ضعف واختلاف، وفي الباب عن جمع من الصحابة منهم: عمر، وابن عباس، وأبو موسى، وعبد الله بن عمرو، وزيد بن أرقم، وواثلة بن الأسقع، وعقبة بن عامر، رضي الله عنهم أجمعين. وأسانيدها لا تخلو من مقال. قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 99): "وهذه الطرق متعاضدة بكثرتها، ينجبر الضعف الذي لم تخل منه واحدة منها". وصححه بمجموع طرقه الشيخ الألباني رحمه الله في "الإرواء" (277)، وانظر: "نصب الراية" (4/ 222). قال النووي في "شرح مسلم" (14/ 32): "هذا الذي ذكرناه من تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء هو مذهبنا ومذهب الجماهير". (¬1) في (ر) و (غ): "وللنساء" بدل "وللرجال". (¬2) أخرج البخاري في "صحيحه" (1919) و (5839)، ومسلم (2076) من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رخص للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكَّة بهما. (¬3) في (ت): "وكذلك". (¬4) أخرج البخاري (5162) من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها زَفّت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم: "يا عائشة! ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو". وأخرج أيضاً (5147) من حديث خالد بن ذكوان قال: قالت الرُّبَيِّع بنت معوِّذ بن عفراء: جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخل حين بُني عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدَّف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين". (¬5) أخرج البخاري (6149) ومسلم (2323) واللفظ له من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره وغلام أسود يقال له أنجشة يحدو. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "يا أنجشة! رويدك سوقاً بالقوارير". (¬6) في (ر) و (غ): "التحريم في الخمر". (¬7) في (خ) و (ت) و (م): "فظهر ذم الذين". (¬8) قوله: "ويمسخون" ليس في (ر) و (غ). (¬9) في (ر) و (غ): "يفعل". (¬10) في (ت): "إنما فعل بهم ذلك".

اسْتَحَلُّوا بِهِ الْمَحَارِمَ بِطَرِيقِ الحِيْلَةِ، وأَعرضوا (¬1) عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَحِكْمَتِهِ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الأَشياء. وَقَدْ خَرَّجَ ابنُ بَطَّة (¬2) عَنِ الأَوزاعي: أَن (¬3) النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يأْتي على الناس زمانٌ يَسْتَحِلّون الرِّبَا (¬4) بِالْبَيْعِ". قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْعِينَةَ. ورُوي في استحلال الزنا (¬5) حديثٌ رَوَاهُ إِبراهيم الْحَرْبِيُّ، عَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (¬6): "أَوَّلُ دينكم نبوّةٌ ورحمة، ثم ملك وَرَحْمَةٌ (¬7)، ثُمَّ مُلْكٌ وجَبْرِيَّة، ثُمَّ مُلْكٌ عَضُوضٌ يُسْتَحَلُّ فيه الحِر والحرير" (¬8)؛ يريد ¬

(¬1) في (خ) و (ت) و (م): "واعترضوا". (¬2) لأبي عبد الله ابن بطَّة رحمه الله جزء في إبطال الحيل كما في "الفتاوى الكبرى" (3/ 530) لشيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا الحديث أخذه المصنف عن ابن تيمية، فإنه ذكره في "إقامة الدليل" (3/ 130/ الفتاوى الكبرى) هكذا عن ابن بطة، ثم قال: "وهذا المرسل بيِّن في تحريم هذه المعاملات التي تسمّى بيعاً في الظاهر، وحقيقتها ومقصودها حقيقة الربا، والمرسل صالح للاعتضاد باتفاق الفقهاء، وله من المسند ما يشهد له، وهي الأحاديث الدالّة على تحريم العينة ... " إلخ. وعن شيخ الإسلام ابن تيمية أخذه تلميذه ابن القيم، فذكره في "إعلام الموقعين" (2/ 166) و"مختصر السنن" (5/ 107). (¬3) في (ر) و (غ): "عن" بدل "أن". (¬4) في (خ): "يستحلون فيه الربا". (¬5) في (خ) و (م) و (ت): "الربا" بدل "الزنا" والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الصواب الموافق لسياق الحديث، ويوافق ما في "إقامة الدليل" (3/ 130/ الفتاوى الكبرى). (¬6) في (ت): "أنه قال". (¬7) قوله: "ثم ملك ورحمة" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬8) كذا في (ر) و (غ)، وهو الموافق لما في "بيان الدليل". وفي (م): "الحرير والحر"، وفي (ت): "والخز" بدل "والحرير"، ويشبه أن تكون هكذا في (خ)، أو: "والخمر". والحديث أخرجه الطيالسي (225) ومن طريقه البيهقي في "السنن" (8/ 159)، و"الدلائل" (6/ 340)، و"الشعب" (5/ 16 ـ 17). وأخرجه أبو يعلى (873)، والطبراني (1/ 156 ـ 157 رقم 367) و (20/ 53 رقم 91)، من طريق ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة، عن أبي عبيدة ومعاذ رضي الله عنهما. وأخرجه البزار (4/ 109) رقم (1283) عن أبي عبيدة رضي الله عنه فقط. وسنده ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم كما في "التقريب" (5721)، وعبد الرحمن بن=

اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ الْحَرَامِ. والحِر ـ بِكَسْرِ الحاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ (¬1) ـ: الفَرْجُ. قَالُوا: وَيُشْبِهُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ أَن يُرَادَ بِذَلِكَ: ظُهُورُ اسْتِحْلَالِ نِكَاحِ المُحَلِّل، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ المُحَرّمة، فإِن الأُمة لَمْ يَسْتَحِلّ أَحدٌ مِنْهَا الزِّنَا الصَّرِيحَ، وَلَمْ يُرِدْ بِالِاسْتِحْلَالِ مُجَرّدَ الْفِعْلِ، فإِن هذا لم يزل موجوداً (¬2) فِي النَّاسِ، ثُمَّ لَفْظُ الِاسْتِحْلَالِ إِنما يُستعمل فِي الأَصل فِيمَنِ اعْتَقَدَ الشَّيْءَ حَلَالًا، وَالْوَاقِعُ كَذَلِكَ، فإِن هَذَا المُلْكَ العَضُوضَ الَّذِي كَانَ بَعْدَ المُلْكِ والجَبْرِيَّة (¬3) قَدْ كَانَ فِي أَواخر عصر التابعين، وفي تِلْكَ الأَزمان صَارَ فِي أُولي الأَمر مَنْ يُفْتِي بِنِكَاحِ المُحَلِّل وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذلك من يفتي به أَصلاً. ¬

=سابط لم يدرك أبا ثعلبة كما في "تهذيب الكمال" (33/ 168)، و"الإصابة" (7/ 325). وأخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن وأشراط الساعة" (334) من طريق إسحاق بن أبي يحيى الكعبي، عن المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً. وإسحاق هذا هالك كما في "الميزان" (1/ 205). وأخرجه الدارمي (2/ 155)، والبزار (4/ 108) رقم (1282)، والطبراني في "الكبير" (22/ 323 رقم 591) و"مسند الشاميين" (1369) من طريق مكحول، عن أبي ثعلبة، عن أبي عبيدة، وإسناده منقطع، فمكحول لم يدرك أبا ثعلبة. انظر "تهذيب الكمال" (28/ 466). وله شاهد بنحوه من حديث حذيفة رضي الله عنه دون قوله: "يستحل فيه الحر والحرير". أخرجه الطيالسي (439)، وعنه أحمد (4/ 273). وشاهد آخر من حديث عمر رضي الله عنه أخرجه الباغندي في "مسند عمر" صفحة (6). انظر: "السلسة الضعيفة" (3055). والحديث صححه الألباني رحمه الله في "الصحيحة" رقم (5)، وقوله: "يستحل فيه الحر والحرير" صحيح كما سبق، والله أعلم. (¬1) في (ر) و (غ): "الخفيفة". (¬2) في (خ) و (م) و (ت): "معمولاً" بدل "موجوداً". (¬3) في (خ): "والخيرية".

ويؤيد ذلك: أَن (¬1) فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَشْهُورِ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لعن آكل الربا، ومُوكِلَهُ (¬2)، وشاهِدَيه، وَكَاتِبَهُ، والمُحَلِّلَ، والمُحَلَّلَ لَهُ (¬3). وَرَوَى أَحمد (¬4) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا ¬

(¬1) في (خ): "أنه". (¬2) قوله: "وموكله" سقط من (خ). (¬3) أخرجه الطيالسي في "مسنده" (401)، وعبد الرزاق في "المصنف" (5100 و10793 و15350)، وأحمد في "المسند" (3881 و4090 و4428)، والنسائي (5102)، وأبو يعلى في "مسنده" (5241)، وابن حبان في "صحيحه" (3252)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1726)، جميعهم من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مرَّة، عن الحارث بن عبد الله الأعور، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: إن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، والواشمة، والمستوشمة للحُسْن، والمُسْتَحِلّ، والمُسْتَحَلّ له، ولاوي الصدقة، والمرتدّ أعرابياً بعد هجرته؛ ملعونون على لسان محمد يوم القيامة. اهـ، وهذا لفظ الطيالسي. وسنده ضعيف لضعف الحارث الأعور؛ كما في "التقريب" (1036)، وفي سنده اختلاف تجده عند الدارقطني في "العلل" (692)، وصوب الدارقطني منه هذا الوجه الذي ذكرته. وأخرج مسلم في "صحيحه" (1597) من طريق علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود؛ قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا، وموكله. قال علقمة: قلت: وكاتبه، وشاهديه؟ قال: إنما نحدِّث بما سمعنا. اهـ. فهذا الحديث فيه دلالة على ضعف رواية الحارث الأعور السابقة، وجميع الروايات التي رويت عن ابن مسعود بذكر "وكاتبه وشاهديه"؛ لأنه يخبر هنا أنه ما سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم. وإنما تصح هذه اللفظة من غير طريقه، فقد أخرجه مسلم أيضاً (1598) من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: "هم سواء". وأما لعن المحلِّل والمحلَّل له: فقد روي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الواشمة والمتوشّمة، والواصلة والموصولة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا ومطعمه. أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 448 و462 رقم 4283 و4284 و4403)، والنسائي في "سننه" (3416)، كلاهما من طريق سفيان الثوري، عن أبي قيس عبد الرحمن بن ثروان، عن هزيل بن شرحبيل، عن عبد الله بن مسعود، به. وسنده حسن، وانظر التعليق الآتي. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 402 رقم 3809)، وأبو يعلى في "مسنده"=

ظهر في قوم الربا والزنى (¬1) إِلا أَحلُّوا بأَنفسهم عقابَ اللَّهِ". فَهَذَا يُشْعِرُ بأَن التحليل من الزنا؛ كما يشعر بأَن (¬2) الْعِينَةَ مِنَ الرِّبَا. وَقَدْ جاءَ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما ـ موقوفاً ومرفوعاً ـ قَالَ: "يأْتي عَلَى النَّاسِ زمانٌ يُستحَلُّ فِيهِ خمسةُ أَشياء بخمسة أَشياء (¬3): يَسْتَحِلُّونَ الخمرَ بأَسماء يُسَمّونها بِهَا، والسُّحْتَ بالهديَّة، والقتلَ بالرَّهْبة، وَالزِّنَا بِالنِّكَاحِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ" (¬4)، فإِن الثلاثة (¬5) المذكورة أَولاً قد بُيِّنَتْ (¬6)، وأَما استحلال (¬7) السُّحْت الَّذِي هُوَ العَطِيَّة لِلْوَالِي وَالْحَاكِمِ وَنَحْوِهِمَا باسم ¬

= (4981)، ومن طريقه ابن حبان في "صحيحه" (4410)، كلاهما من طريق شريك، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه". قال: وقال: "ما ظهر في قوم الربا والزنى إلا أحلّوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل". وفي سنده شريك بن عبد الله النخعي، القاضي، وهو صدوق، إلا أنه يخطئ كثيراً كما في "التقريب" (2802)، فالحديث ضعيف لأجله. ويدلّ على ضعفه: ما تقدم في الحديث السابق من اعتراض عبد الله بن مسعود على رواية: "وكاتبه وشاهديه"، وإخباره بأنه ما سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم. (¬1) قوله: "والزنى" سقط من (ر) و (غ). (¬2) في (خ) و (ت) و (م): "أن". (¬3) قوله: "بخمسة أشياء" سقط من (خ) و (ت). (¬4) نقل المصنف هذا الحديث من "إقامة الدليل" (3/ 131/ الفتاوى الكبرى) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال: "روي موقوفاً على ابن عباس، ومرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ... "، ثم ذكر الحديث، ثم قال: "وهذا الخبر صدق، فإن الثلاثة المقدّم ذكرها قد بُيِّنت ... " إلخ. ولم أجده من طريق ابن عباس، ولكن أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" (1/ 218) من طريق سويد، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به. وسنده معضل، فالأوزاعي من أتباع التابعين. وقد ذكره الديلمي في "الفردوس" (3459) عن أبي أمامة، ولم أقف على سنده. (¬5) في "إقامة الدليل" لشيخ الإسلام ابن تيمية المطبوع ضمن "الفتاوى الكبرى" (3/ 131): "وهذا الخبر صدق؛ فإن الثلاثة"، وهذا النص منقول من هناك كما تقدم. (¬6) في (خ) و (م) و (ت): "سُنّتْ"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الموافق لما في "إقامة الدليل". (¬7) قوله: "استحلال" سقط من (خ) و (ت).

الهدية: فهو ظاهر، وأما وَاسْتِحْلَالُ (¬1) الْقَتْلِ بِاسْمِ الإِرهاب الَّذِي يُسَمِّيهِ (¬2) ولاةُ الظُّلْمِ سِيَاسَةَ، وأُبَّهَةَ الْمُلْكِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَظَاهِرٌ أَيضاً (¬3)؛ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنواع شَرِيعَةِ (¬4) الْقَتْلِ الْمُخْتَرَعَةِ. وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْخِصَالِ (¬5)، فَقَالَ: "إِن مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا (¬6) يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يجاوز حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهل الإِسلام، ويَدَعون أَهل الأَوثان، يَمْرُقون مِنَ الدِّين (¬7) كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" (¬8). وَلَعَلَّ هؤلاءِ المُرادون (¬9) بُقُولُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ... " (¬10)، الْحَدِيثَ (¬11)؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ قَالَ: يُصْبِحُ مُحَرِّماً لِدَمِ أَخيه وَعِرْضِهِ، وَيُمْسِي مُسْتَحِلاًّ ... ، إِلى آخِرِهِ (¬12). وقد وَضَعَ القتل أيضاً (¬13) شَرْعًا مَعْمُولًا بِهِ عَلَى غَيْرِ (¬14) سُنَّةِ اللَّهِ، وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم: المُتَسَمِّي بِالْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ (¬15) الَّذِي زَعَمَ أَنه المُبَشَّرُ بِهِ فِي الأَحاديث، فَجَعَلَ الْقَتْلَ عِقَابًا فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ صِنْفاً، ذَكَرُوا مِنْهَا: الْكَذِبَ، وَالْمُدَاهَنَةَ، وأَخَذَهم أَيضاً بِالْقَتْلِ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ أَمر مَنْ يُسْتَمَعُ ¬

(¬1) في (خ) و (ت): "فهو ظاهر واستحلال"، وفي (م): "فهو ظاهر باستحلال". (¬2) في (ر) و (غ): "تسميه"، والمثبت موافق لما في "إقامة الدليل". (¬3) إلى هنا انتهى نقله من "إقامة الدليل". (¬4) في (ر) و (غ): "شرعية". (¬5) قوله: "الخصال" في موضعه بياض في (ت). (¬6) في (غ): "قوم". (¬7) في (ر) و (غ): "الإسلام" بدل "الدين". (¬8) أخرجه البخاري (3344) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬9) في (ر) و (غ): "مرادون"، وفي (ت): "هم المرادون". (¬10) تقدم تخريجه صفحة (422). (¬11) قوله: "الحديث" ليس في (ت). (¬12) تقدم تخريجه صفحة (422 ـ 423). (¬13) قوله: "أيضاً" من (ر) و (غ) فقط. (¬14) قوله: "غير" ليس في (غ) و (ر). (¬15) هو محمد بن عبد الله بن تومرت. انظر أخباره في "سير أعلام النبلاء" (19/ 539)، وسبق (ص84 فما بعد) أن ساق المصنف بعض أخباره وبدعه التي أحدثها.

أَمْرُهُ، وَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَعِظُهم (¬1) فِي كُلِّ وَقْتٍ ويُذَكِّرُهم، وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ أُدِّب، فإِن تَمَادَى قُتِلَ، وكلُّ مَنْ لَمْ (¬2) يتأَدَّبْ بِمَا أَدَّبَ بِهِ ضُرب بِالسَّوْطِ المَرَّة وَالْمَرَّتَيْنِ، فإِن ظَهَرَ مِنْهُ عِنادٌ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ الأَوامر قُتِلَ، وَمَنْ داهَنَ عَلَى أَخيه، أَو أَبيه، أَو ابنه (¬3)، أَو مَنْ يَكْرُمُ عَلَيْهِ (¬4)، أَو المُقَدَّم عَلَيْهِ (¬5)؛ قُتِلَ، وكُلُّ مَنْ شَكَّ (¬6) فِي عِصْمَتِهِ قُتِلَ، أَو شَكّ فِي (¬7) أَنه المهديُّ المُبَشَّرُ بِهِ، وكُلُّ من خالف أَمره؛ أَمر أَصحابه فَعَرَّوْهُ (¬8)، فَكَانَ أَكثرُ تأْديبه القتلَ ـ كَمَا تَرَى ـ، كَمَا أَنه كَانَ مِنْ رأْيه أَن لَا يُصَلَّى خَلَفَ إِمام أَو خَطِيبٍ يأْخذ أَجراً عَلَى الإِمامة أَو الْخَطَابَةِ، وَكَذَلِكَ لُبْسُ الثِّيَابِ الرَّفِيعَةِ ـ وإِن كَانَتْ حَلَالًا ـ، فَقَدْ حَكَوْا عَنْهُ قَبْلَ أَن يَسْتَفْحِلَ أَمرُه (¬9) أَنه تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَ خَطِيبِ أَغْمَات (¬10) بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَقَدِم خطيبٌ آخر فجاء (¬11) في ثيابٍ حَفِيلَةٍ (¬12) تُبَايِنُ التواضع ـ زعموا (¬13) ـ، فتَرَكَ الصلاة خلفه أَيضاً (¬14). وَكَانَ مِنْ رأْيه: تركُ الرأْي، واتباعُ مَذَاهِبِ (¬15) الظاهرية. قال ¬

(¬1) في (غ): "يعظمهم". (¬2) قوله: "لم" سقط من (ر) و (غ)، وفي موضعه بياض في (غ) وعلامة لحق في (ر)، ولم يظهر اللحق في الهامش. (¬3) قوله: "أو ابنه" من (ر) و (غ) فقط. (¬4) قوله: "عليه" سقط من (خ) و (ت). (¬5) قوله: "عليه" سقط من (غ). (¬6) في (ر) و (غ): "يشك". (¬7) قوله: "في" ليس في (ر) و (غ). (¬8) في (ر) و (غ): "بغزوه"، وفي موضعها بياض في (ت). (¬9) قوله: "أمره" سقط من (غ). (¬10) أَغْمات: ناحية في بلاد البربر من أرض المغرب قرب مراكش. "معجم البلدان" (1/ 225). (¬11) قوله: "فجاء" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬12) التحفيل: التزيين. انظر "القاموس المحيط" (1/ 1273). (¬13) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: كلمة "زعموا" جملة معترضة تؤذن بالبراءة مما يُحكى عنهم، وأفصح منه أن يقال: بزعمهم؛ كما قال تعالى: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}.اهـ. (¬14) قوله: "أيضاً" ليس في (خ) و (ت). (¬15) في (ت): "مذهب".

العلماءُ (¬1): وَهُوَ (¬2) بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ فِي الشَّرِيعَةِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ (¬3). وَمِنْ رأْيه: أَن التَّمَادِيَ عَلَى ذَرَّةٍ مِنَ الْبَاطِلِ كَالتَّمَادِي عَلَى الْبَاطِلِ كُلِّه. وذَكَر فِي كِتَابِ "الإِمامة" أَنه هُوَ الإِمام، وأَصحابه هُمُ الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ قِيلَ (¬4) فِيهِمْ: "بدأَ الإِسلام (¬5) غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بدأَ (¬6)، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ" (¬7). وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: "جاءَ اللَّهُ بِالْمَهْدِيِّ، وَطَاعَتُهُ صَافِيَةٌ نَقِيَّة، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، وَأَنَّ بِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ والأَرض، وَبِهِ تَقُومُ، وَلَا ضِدّ لَهُ، وَلَا (¬8) مِثْلَ، ولا نِدّ". انتهى (¬9). وكذب (¬10)! فالمهدي: عيسى ابن مريم (¬11) عَلَيْهِ السَّلَامُ (¬12). وَكَانَ يأْمرهم بِلُزُومِ الحِزْب بَعْدَ صلاة الصبح، وبعد المغرب (¬13)، وأَمر (¬14) الْمُؤَذِّنِينَ إِذا طَلَعَ الْفَجْرُ أَن يُنَادُوا: "أَصبح وَلِلَّهِ الْحَمْدُ" (¬15)، إِشعاراً ـ زَعَمُوا ـ بأَن الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ لإِلزام الطَّاعَةِ، وَلِحُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وللغُدُوِّ لِكُلِّ ما يؤمرون به. ¬

(¬1) قوله: "العلماء" ليس في (ر) و (غ). (¬2) أي: مذهب الظاهرية. (¬3) قوله: "بعد المائتين" سقط من (غ). (¬4) قوله: "قيل" سقط من (م). (¬5) في (ت) "بُدئ الدين"، وذكر بهامشها أن في نسخة: "الإسلام" بدل "الدين". (¬6) في (ت): "كما بُدئ". (¬7) أخرجه مسلم (145). (¬8) قوله: "ولا" سقط من (ر) و (غ). (¬9) قوله: "انتهى" في موضعه بياض في (ت). (¬10) في (ت): "وقد كذب". (¬11) قوله: "ابن مريم" من (ر) و (غ) فقط. (¬12) قال المصنف رحمه الله كلامه هذا بناء على حديث: "لا مهدي إلا عيسى". أخرجه ابن ماجه (4039) وغيره، وهو حديث ضعيف جداً، ومتنه منكر كما بينته في تخريجي لـ"مختصر استدراك الذهبي على مستدرك الحاكم" لابن الملقن (7/ 3276 رقم 1095)، فانظره إن شئت. (¬13) في (ت): "وبعد صلاة المغرب". (¬14) في (خ) و (م) و (ت): "فأمر". (¬15) سبق الكلام على هذه البدعة صفحة (87 و88).

وَلَهُ (¬1) اخْتِرَاعَاتٌ وَابْتِدَاعَاتٌ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَجَمِيعُ ذلك راجع (¬2) إِلى أَنه قَائِلٌ (¬3) برأْيه فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، مع زعمه أَنه غير قَائِلٌ بالرأْي؛ وَهُوَ التَّنَاقُضُ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ ظَهَرَ إِذاً (¬4) جَرَيَانُ تِلْكَ الأَشياء عَلَى الِابْتِدَاعِ. وأَما كَوْنُ الزَّكَاةِ مَغْرَمًا: فَالْمَغْرَمُ مَا (¬5) يَلْزَمُ أَداؤه مِنَ الدُّيُونِ وَالْغَرَامَاتِ، كَانَ (¬6) الْوُلَاةُ يُلْزِمُونَهَا النَّاسَ بشيءٍ مَعْلُومٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلى قِلَّةِ مَالِ الزَّكَاةِ أَو كَثْرَتِهِ، أَو قُصُورِهِ عَنِ النِّصَابِ أَو عَدَمِ قُصُورِهِ، بَلْ يأْخذونهم بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلى الْمَوْتِ، وَكَوْنُ هَذَا بِدَعَةً ظَاهِرٌ. وأَما ارْتِفَاعُ الأَصوات فِي الْمَسَاجِدِ: فَنَاشِئٌ عَنْ بِدْعَةِ الْجِدَالِ فِي الدِّينِ، فإِن مِنْ عادة قراءَة العلم وإِقرائه، وسماعه وإِسماعه (¬7) أَن يَكُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَمِنْ آدَابِهِ (¬8) أَن لَا تُرْفَعَ فِيهِ الأَصوات فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ، فَمَا ظَنُّك بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ؟ فَالْجِدَالُ فِيهِ زِيَادَةُ الْهَوَى؛ فإِنه غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الأَصل. فَقَدْ جَعَلَ العلماءُ مِنْ عَقَائِدِ الإِسلام: تَرْكَ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ الْكَلَامُ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ (¬9) فِي الْكَلَامِ فِيهِ؛ كَالْكَلَامِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ مِنَ الصِّفَاتِ والأَفعال وَغَيْرِهِمَا (¬10)، وَكَمُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِ. ولأَجل (¬11) ذَلِكَ جاءَ (¬12) فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنها قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ... } (¬13) الآية، ¬

(¬1) في (غ): "ولعله". (¬2) قوله: "راجع" سقط من (خ) و (م) و (ت)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل! والمعنى الوارد يدل على أنه قائل برأيه. اهـ. (¬3) في (ت): "قال". (¬4) في (غ): "أيضاً" بدل "إذاً". (¬5) قوله: "ما" سقط من (خ) و (ت). (¬6) في (ت): "كأن". (¬7) قوله: "وإسماعه" ليس في (ر) و (غ). (¬8) في (ر) و (غ): "أدبه". (¬9) في (خ) و (م): "يأذن". (¬10) انظر تعليقي على كلام الشاطبي (ص54)؛ حيث عدّ نصوص الصفات من المتشابه، وهو مذهب المفوِّضة من نفاة الصفات. (¬11) في (ر) و (غ): "لأجل" بلا واو. (¬12) قوله: "جاء" سقط من (ر) و (غ). (¬13) سورة آل عمران: الْآيَةَ (7).

قَالَ: "فإِذا رَأَيْتُم الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنى اللَّهُ، فَاحْذَرُوهُم" (¬1). وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا ضلَّ قومٌ بَعْدَ (¬2) هُدًى إِلا أُوتوا الْجَدَلَ" (¬3). وجاءَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنه قَالَ: "لَا تُماروا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ المِراء (¬4) فِيهِ كُفْرٌ" (¬5). ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "فاحذرهم". والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (4547)، ومسلم (2665). (¬2) قوله: "بعد" مكرر في (ت). (¬3) في (ت): "الجدال". والحديث أخرجه أحمد (5/ 252 و256)، والترمذي (3253)، وابن ماجه (8)، والروياني في "مسنده" (2/ 274)، والطبري في "تفسيره" (21/ 629)، والعقيلي (1/ 286)، والطبراني في "الكبير" (8/ 277)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (1/ 73)، والحاكم (2/ 447 ـ 448) من طرق عن الحجاج بن دينار، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، به. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح، إنما نعرفه من حديث حجاج بن دينار، وحجاج ثقة مقارب الحديث، وأبو غالب اسمه حَزَوَّر". وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والحديث حسنه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" (5633)، والله أعلم. (¬4) في (ر) و (غ): "مراء". (¬5) حديث صحيح ورد عن عدد من الصحابة، وأحسنها حديثا أبي هريرة وأبي جهيم بن الحارث. أولاً: أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فيرويه عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وروي عن أبي سلمة من خمس طرق: 1 ـ طريق محمد بن عمرو بن علقمة: أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 286 و424 و475 و503 و528 رقم 7848 و9479 و10143 و10539 و10834)، ومن طريقه أبو داود في "سننه" (4603)، وأخرجه البزار في "مسنده" (2313/كشف)، وابن حبان في "صحيحه" (1464/الإحسان)، والطبراني في "الأوسط" (2478)، والآجري في "الشريعة" (140)، والهروي في "ذم الكلام" (165)، وابن بطة في "الإبانة" (791 و792)، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (181 و182)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 223)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 134 و215)، و (8/ 213)، وفي "أخبار أصبهان" (1/ 272 و292)، و (2/ 123)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2059). قال الهروي ـ بعد أن رواه ـ: "وهذا الحديث قد اضطُرِبَ فيه على أبي سلمة من=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=وجوه: فرواه محمد بن عمرو هكذا، وليس هو بالمحفوظ، وإن كان أشهر في الناس، فإن الحفاظ ـ منصور بن المعتمر، وسفيان الثوري، وابن أبي زائدة ـ خالفوه فيه ... "، ثم أخذ في ذكر الخلاف، وخلاصته ترجيحه لرواية من رواه منقطعاً ليس فيه ذكر لأبي سلمة، وهو إعلال عجيب لم أجد من سبقه إليه، أو وافقه عليه! وقد ذكر الدارقطني هذا الحديث في "العلل" (1790)، وذكر الاختلاف فيه، وذكر رواية محمد بن عمرو هذه، ولم يعلّها، وهي من أجود طرق هذا الحديث، وباقي الطرق توافقها ـ كما سيأتي ـ، ولا تعلّها. 2 ـ طريق عمر بن أبي سلمة، عن أبيه: أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 478 رقم 10202) من طريق شيخيه وكيع وعبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "جدال في القرآن كفر". وكذا أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2060) من طريق محمد بن يوسف الفريابي وأبي أحمد الزبيري، كلاهما عن سفيان، به. ورواه الهروي في "ذم الكلام" (169) من طريق محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، فأسقط أبا سلمة من الإسناد، وجعل الهروي هذه الرواية من الروايات التي أعلّ بها رواية محمد بن عمرو؛ كما سبق نقله عنه، مع أن الإمام أحمد رواه ـ كما سبق ـ عن عبد الرحمن بن مهدي بإثبات أبي سلمة في إسناده، فرواية الهروي هذه خطأ بلا شك، والوهم إما من محمد بن المثنى، أو ممن دونه. وأخرجه الإمام أحمد أيضاً (2/ 494 رقم 10414) عن شيخه حجاج بن محمد الأعور، عن شيبان بن عبد الرحمن النحوي، عن منصور بن المعتمر، عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، به. وكذا أخرجه الدارقطني في "العلل" (9/ 317) من طريق آدم بن أبي إياس، عن شيبان؛ بذكر أبي سلمة في إسناده. وكذا أخرجه الهروي (166) من طريق موسى بن سهل الرملي، عن آدم بن أبي إياس، ثم حكم عليها بأنها وهم، وصوّب رواية الباغندي، عن طاهر بن خالد، عن آدم؛ بإسقاط أبي سلمة من الإسناد، مع أن الدارقطني أخرجه فيما سبق من طريق شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد الحمال، عن طاهر بن خالد؛ بإثبات أبي سلمة، ولم يذكر الدارقطني في رواية منصور هذه أن أحداً أسقط منها أبا سلمة، وهذا يؤكد خطأ رواية الهروي، وخطأ الهروي في إعلال هذا الحديث. لكن هناك اختلاف آخر في رواية منصور هذه، وهو: أن ابن أبي شيبة أخرج هذا الحديث في "المصنف" (10/ 529 رقم 10218/الهندية) فقال: حدثنا يحيى بن يعلى=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= التيمي، عن منصور، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ... ، فذكره هكذا بإسقاط عمر بن أبي سلمة. ومن طريق ابن أبي شيبة رواه الآجري في "الشريعة" (141). ورواه أبو يعلى في "مسنده" (5897) من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن يعلى كذلك، ورواية يحيى بن يعلى هذه شاذة، والصواب رواية شيبان، وهذا الذي رجحه الدارقطني كما سيأتي، ويؤكد ذلك: أن عمرو بن أبي قيس رواه عن منصور كرواية شيبان؛ بزيادة عمر بن أبي سلمة؛ كما ذكر الدارقطني. وقد أخرج رواية عمرو بن أبي قيس هذه الهروي (166)، لكن ليس فيها ذكر لأبي سلمة، وأرى أنه لا يُعَوَّل على هذه الطرق التي أخرجها الهروي بإسقاط أبي سلمة؛ لمخالفتها لما ذكره الأئمة ورووه. وأخرج الحديثَ أيضاً الإمامُ أحمد في "المسند" (3/ 258 رقم 7508) من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به هكذا بإسقاط عمر بن أبي سلمة. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 223) من طريق عبد الملك بن محمد الرقاشي، عن أبي عاصم الضحَّاك بن مخلد النبيل، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، به. وهذه الطريق غريبة جداً! ولو كان هذا الحديث مرويًّا من طريق شعبة لما تفرَّد به الحاكم المتأخر، والظاهر أن الخطأ فيه من عبد الملك الرقاشي، فإنه قد اختلط. تنبيه: وقع في "المستدرك" المطبوع: "سعيد" بدل "شعبة"، وهذا يحصل كثيراً في الكتب بسبب تشابه الرسم، وقد نقله الحافظ ابن حجر في "إتحاف المهرة" (16/ 148 ـ 149 رقم 20534)، على الصواب. وللحديث طرق أخرى عن سعد بن إبراهيم سيأتي ذكرها في كلام الدارقطني. فهذه الطرق تبيِّن أنه اختُلِفَ في هذا الحديث على سعد بن إبراهيم، فرواه سفيان الثوري عنه، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، ورواه زكريا بن أبي زائدة عن سعد، فأسقط عمر بن أبي سلمة، ورواه منصور بن المعتمر فاختُلِفَ عليه، فرواه يحيى بن يعلى عنه، عن سعد بن إبراهيم بإسقاط عمر بن أبي سلمة، ورواه شيبان بن عبد الرحمن وعمرو بن أبي قيس عن منصور، عن سعد بزيادة عمر، فترجح روايتهما على رواية يحيى بن يعلى، وترجح رواية منصور هذه ورواية سفيان الثوري على رواية زكريا بن أبي زائدة، وهذا الذي رجحه الدارقطني، فإنه سئل عن هذا الحديث في "العلل" (1790)؟ فقال: "يرويه سعد بن إبراهيم ومحمد بن عمرو، واختُلِفَ فيه على سعد: فرواه منصور بن المعتمر عن سعد، واختلف عنه: فرواه أبو المحيّاة يحيى بن يعلى عن منصور، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=وخالفه عمرو بن أبي قيس وشيبان، فروياه عن منصور، عن سعد، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة. وكذلك روي عن أيوب السَّختياني، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة. وكذلك رواه الثوري عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه. واختُلِفَ عن ليث بن أبي سُليم: فرواه أبو كدينة يحيى بن المهلّب عن ليث، عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، وأرسله معتمر والطفاوي عن ليث، فقالا عنه: عن سعد، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وقال زهير وزائدة وجرير: عن ليث، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وكذلك قال زكريا بن أبي زائدة وسليمان التيمي: عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقال إبراهيم [يعني: ابن سعد] عن أبيه: عن أبي سلمة ـ أو: عن حميد ـ، مرسلاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. والصحيح قول الثوري ومن تابعه".اهـ. وبناء على ما تقدم فالحديث صحيح بمجموع طريقي محمد بن عمرو وعمر بن أبي سلمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، ويتقوى بالطرق الأخرى الآتية. 3 ـ طريق أبي حازم سلمة بن دينار، عن أبي سلمة؛ لا أعلمه إلا عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف، المراء في القرآن كفر ـ ثلاث مرات ـ، فما عرفتم منه فاعملوا، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه". أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 300 رقم 7989)، والنسائي في "الكبرى" (8093)، وابن جرير في "تفسيره" (1/ 21 رقم 7)، وأبو يعلى في "مسنده" (6016)، ومن طريقه ابن حبان في "صحيحه" (74/الإحسان)، وأخرجه الدارقطني في "الأفراد" (5576/أطرافه)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 26). وذكر ابن كثير في "تفسيره" (1/ 348) طريق أبي يعلى، ثم قال: "وهذا إسناد صحيح، ولكن فيه علّة بسبب قول الراوي: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة". ولكن هذه العلة الناشئة من شك الراوي مرتفعة بالطرق السابقة التي ترجح أنه عن أبي هريرة، وقد صححه ابن حبان بإخراجه له في "صحيحه". 4 ـ طريق عروة بن الزبير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "المراء في القرآن كفر". أخرجه الطبراني في "الأوسط" (4212)، و"الصغير" (574)، والخطيب في "تاريخه" (11/ 136)، كلاهما من طريق محمد بن حمير، عن شعيب بن أبي الأشعث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، به. قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن هشام بن عروة إلا شعيب بن أبي الأشعث، تفرد به محمد بن حمير". وأعلّ أبو حاتم الرازي هذا الطريق بقوله في "العلل" (1714): "هذا حديث=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=مضطرب ليس هو صحيح الإسناد، عروة عن أبي سلمة لا يكون، وشعيب مجهول". 5 ـ طريق الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "المراء في القرآن كفر". أخرجه الطبراني في "الأوسط" (3666)، والصغير (496) من طريق يحيى بن المتوكل، عن عنبسة الحدّاد، عن الزهري، به، ثم قال: "لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا عنبسة الحداد". وذكر محقق "علل الدارقطني" (7/ 280) أن البزار أخرجه في "مسنده" (ق31/ 2/مسند أبي هريرة)، من طريق يحيى بن المتوكل، ثم قال: "وهذا الحديث لا نعلم أحداً رواه عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة إلا عنبسة، وهو رجل ليس بالقوي". وسئل عنه الدارقطني في "العلل" (1351)؟ فقال: "يرويه عنبسة بن مهران أبو محمد، عن الزهري، واختُلِفَ عنه: فرواه يحيى بن المتوكل وحفص بن عمر النجار أبو عمران، عن عنبسة، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، ورواه أبو عاصم [يعني: النبيل] وعبد الله [يعني: ابن رجاء] وبحر السَّقَّاء، عن عنبسة، عن الزهري، عن سعيد وحده، عن أبي هريرة. ورواه أبو مسلم الكجي، عن أبي عاصم موقوفاً، وغيره يرويه عن أبي عاصم مرفوعاً، وهو محفوظ عن أبي عاصم، وعنبسة ضعيف". ثانياً: أما حديث أبي الجُهَيم: فأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 169 ـ 170 رقم 17542)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 43 ـ 44 رقم 41)، والهروي في "ذم الكلام" (175)، وابن عبد البر في "التمهيد" (8/ 281 ـ 282)، جميعهم من طريق سليمان بن بلال، عن يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد؛ قال: حدثني أبو جهيم: أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقّيتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال الآخر: تلقيّتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسألا النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: "القرآن يُقرأ على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن مراء في القرآن كفر". واللفظ للإمام أحمد، ومن طريقه أخرجه ابن بطة في "الإبانة" (801). وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص337)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (724/بغية الباحث)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2069)، والخطيب في "تالي التلخيص" (29)، والبغوي في "شرح السنّة" (1228)، جميعهم من طريق إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة، عن مسلم بن سعيد مولى ابن الحضرمي، عن أبي جهيم، به. وجاء في رواية أبي عبيد: "عن يزيد بن خصيفة، عن مسلم بن سعيد مولى ابن الحضرمي، وقال غيره: عن بسر بن سعيد، عن أبي جهيم".=

وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الْقُرْآنَ يصدِّق بعضُه بَعْضًا (¬1)، فَلَا تُكَذِّبوا بَعْضَهُ (¬2) بِبَعْضِ، ما علمتم منه فاقبلوه، وما لم تعلموا منه فَكِلُوه إِلى عالمه" (¬3). ¬

= وأخرجه الحارث أيضاً مرة أخرى (725) من طريق خالد بن القاسم، عن إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد مولى الحضرمي، عن أبي جهيم. وأخشى أن يكون هذا خطأ من خالد بن القاسم؛ لأن الذين رووه عن إسماعيل بن جعفر ـ ومنهم أبو عبيد ـ؛ قالوا: عن مسلم بن سعيد. وقد أشار البخاري في "تاريخه" (7/ 262 رقم 1106) لهذا الاختلاف بين روايتي سليمان بن بلال وإسماعيل بن جعفر، فقال: "مسلم بن سعيد مولى ابن الحضرمي: عن أبي جهيم، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، قاله إسماعيل بن جعفر عن يزيد بن خصيفة، وقال سليمان بن بلال: عن يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد، عن أبي جهيم". وهذا الاختلاف يحتمل أحد أمرين: 1 ـ ترجيح أحد الوجهين. 2 ـ الحكم بصحة الوجهين، وإلى هذا مال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، فقال في تعليقه على "تفسير ابن جرير" (1/ 44): "للحديث طريقان: إسماعيل بن جعفر يرويه عن يزيد بن خصيفة، عن مسلم بن سعيد، وسليمان بن بلال يرويه عن يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد، وهو أخو مسلم بن سعيد"، وذكر أن أبا عبيد أشار أثناء الإسناد إلى الرواية الأخرى، دون أن يذكر إسنادها، ثم قال: "فيكون يزيد بن خصيفة سمع الحديث من الأخوين: مسلم وبسر ابني سعيد".اهـ. فإن كان الحديث محفوظاً عن مسلم وبسر ابني سعيد كليهما، أو عن بسر وحده فهو صحيح الإسناد، وإن كان محفوظاً عن مسلم وحده فهو شاهد قوي لحديث أبي هريرة السابق، وقد صحح سنده الحافظ ابن كثير في "فضائل القرآن" (ص19)، والله أعلم. (¬1) قوله: "بعضاً" ليس في (غ). (¬2) في (م): "بعضها". (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "جامع معمر" (11/ 216 رقم 20367/المصنف) عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ قال: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوماً يتدارؤون في القرآن، فقال ... ، فذكره. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 185 رقم 6741)، والبخاري في "خلق أفعال العباد" (218)، والطبراني في "الأوسط" (2995)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2062)، و"المدخل إلى السنن" (790).=

وقال عليه السلام: "اقرؤوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قلوبُكم، فإِذا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَقُومُوا عَنْهُ" (¬1). وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: إِياكم وَالْخُصُومَاتِ فِي الدِّينِ! فإِنها تُحْبِطُ الأَعمال (¬2). وَقَالَ النَّخْعِيُّ فِي قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (¬3) قال: الجدال والخصومات في الدين (¬4). ¬

=وأخرجه الإمام أحمد أيضاً (2/ 178 و195 ـ 196 رقم 6668 و6845 و6846)، وابن ماجه (85) كلاهما من طريق داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، به. وأخرجه أحمد أيضاً (2/ 181 رقم 6702) من طريق أبي حازم سلمة بن دينار، عن عمرو بن شعيب، به. وسنده حسن لأجل الخلاف في عمرو بن شعيب. وأصل الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" (2666) من طريق عبد الله بن رباح الأنصاري؛ أن عبد الله بن عمرو قال: هجّرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُعرف في وجهه الغضب، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب". (¬1) أخرجه البخاري (5060)، ومسلم (2667) من حديث جندب بن عبد الله البجلي. (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (723) ومن طريقه الهروي في "ذم الكلام" (2/ 162/أ). وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (10/ 137 رقم 11600)، والآجري في "الشريعة" (1/ 188)، وابن بطة في "الإبانة" (2/ 501 ـ 502، رقم 562، 564)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 301)، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (1/ 145 ـ 146 رقم (221)، وعنه الأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة" (1/ 313 ـ 314)، جميعهم من طريق العوام بن حوشب عن معاوية به. وإسناده صحيح. ولفظ أبي نعيم وابن بطة (563): "كان يقال: الخصومات ... "، وقد استوفيت الكلام عليه في تخريجي لـ"سنن سعيد بن منصور". (¬3) سورة المائدة: الآية (64). (¬4) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (722)، وابن جرير (10/ 137 رقم 11599) وابن بطة (2/ 500 رقم 558)، والهروي في "ذم الكلام" (2/ 168/ب)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 114)، وإسناده صحيح.

وَقَالَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى (¬1): انْصَرَفَ مَالِكٌ يَوْمًا إِلى الْمَسْجِدِ وَهُوَ متكئٌ عَلَى يَدِي، فَلَحِقَهُ رجل يقال له: أَبو الجويرة (¬2) يُتَّهم بالإِرجاءِ، فَقَالَ: يَا أَبا عَبْدِ اللَّهِ! اسمع مني شيئاً أُكلمك به، وأُحاجُّك، وأُخبرك برأْيي. فَقَالَ لَهُ: احْذَرْ أَن أَشهد عَلَيْكَ! قَالَ: وَاللَّهِ! مَا أُريد إِلا الْحَقَّ، اسْمَعْ مِنِّي (¬3)، فإِن كَانَ صَوَابًا فَقُلْ بهِ، أَو فَتَكَلَّم. قَالَ (¬4): فإِن غَلَبَتْنِي؟ قَالَ: اتَّبِعْني. قَالَ: فإِن غَلَبْتُكَ؟ قَالَ اتَّبعتك (¬5). قَالَ (4): فإِن جاءَ رجل فكلمناه فغَلَبنا؟ قال: اتبعناه. فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا بِدِينٍ وَاحِدٍ، وأَراك تَنْتَقِلُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضاً لِلْخُصُومَاتِ أَكثر التَّنَقُّل (¬6). وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الْجِدَالُ في الدين بشيءٍ (¬7). ¬

(¬1) هذه الحكاية نقلها المصنف من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض (2/ 38)، وذكرها الذهبي في "السير" (8/ 106) عن القاضي عياض. وأسندها الآجري في "الشريعة" (117) عن الفريابي، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي، عن معن بن عيسى. وسندها صحيح. ومن طريق الآجري أخرجها ابن بطة في "الإبانة" (583)، ولها عنده طريق أخرى (584) يرويها الوليد بن مسلم، عن مالك. ولها طرق أخرى مختصرة انظرها في "ذم الكلام" للهروي (4/ 113 ـ 114رقم 869 ـ 871)، و"شرح أصول الاعتقاد" للالكائي (293 و294)، "والحلية" لأبي نعيم (6/ 324)، و"شعب الإيمان" للبيهقي (14/ 531 ـ 352). (¬2) في (م) و (ت) و (خ): "الجديرة"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو موافق لبعض النسخ الخطية لـ"ترتيب المدارك" كما ذكر المحقق. وجاءت الكلمة مضطربة في مصادر التخريج التي ذكرتها. (¬3) قوله: "مني" ليس في (ر) و (غ). (¬4) في (ت): "قال له مالك". (¬5) في (ر) و (غ): "أتبعك". (¬6) أخرجه الدارمي (1/ 91)، والآجري في "الشريعة" (1891)، وابن بطة (566، 568، 569، 577، 578، 580)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1770) واللالكائي (216). وإسناده صحيح. (¬7) ذكره ابن عبد البر في "الانتقاء" (ص34)، ويشهد له ما تقدم عنه قبل هذا.

وَالْكَلَامُ فِي ذَمِّ الْجِدَالِ (¬1) كَثِيرٌ، فإِذا كَانَ مَذْمُومًا؛ فَمَنْ جَعَلَهُ مَحْمُودًا وعَدَّه (¬2) مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ بإِطلاق فَقَدِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ. وَلَمَّا كَانَ اتباعُ الْهَوَى أَصلَ الِابْتِدَاعِ؛ لَمْ يُعْدَم صاحبُ الْجِدَالِ أَن يماريَ ويطلبَ الغَلَبة، وَذَلِكَ مَظِنَّة رَفْعِ الأَصوات. فإِن قِيلَ: عددتَ رَفْعَ الأَصوات من فروع الجدل وخواصِّه، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَرَفْعُ الأَصوات قَدْ يَكُونُ في العلم، ولذلك كُرِه رفع الصوت (¬3) فِي الْمَسْجِدِ (¬4)، وإِن كَانَ فِي الْعِلْمِ أَو فِي غَيْرِ الْعِلْمِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي "الْمَبْسُوطِ": رأَيت مَالِكًا يَعِيبُ عَلَى أَصحابه رَفْعَ (¬5) أَصواتهم فِي الْمَسْجِدِ (¬6). وَعَلَّلَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة بعلَّتين: إِحداهما: أَنه يجب أَن يُنَزَّهَ الْمَسْجِدَ عَنْ مِثْلِ هَذَا؛ لأَنه مما أُمر بِتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنه مبنيٌّ لِلصَّلَاةِ، وقد أُمرنا أَن نأَتيها وعلينا السكينة ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "الجدل". (¬2) في (غ): "وظنه" بدل "وعده". (¬3) في (خ) و (ت): "الأصوات". (¬4) أخرج البخاري في "صحيحه" (470) عن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما. قال: من أنتما ـ أو من أين أنتما؟ ـ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما! ترفعان أصواتكما فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 561): "ووردت أحاديث في النهي عن رفع الصوت لكنها ضعيفة؛ أخرج ابن ماجه بعضها". (¬5) في (ر) و (غ): "رفعهم". (¬6) ذكره محمد بن يوسف العبدري في "التاج والإكليل" (6/ 15) عن ابن القاسم. هكذا، ونقل ابن أبي زيد القيرواني في "النوادر والزيادات" (1/ 536) أن ابن القاسم قال في "المجموعة": "قال مالك: ولا ينبغي رفع الصوت في المسجد في العلم ولا في غيره، وكان الناس ينهون عن ذلك".

وَالْوَقَارُ، فأَن (¬1) يُلْزَمَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهَا المتَّخذ لَهَا أَولى (¬2). وَرَوَى مَالِكٌ: أَن عُمَرَ بْنَ الخطاب رضي الله عنه بنى رَحْبَةً في نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ تسمَّى البُطَيْحاء (¬3)، وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَن يَلْغَط، أَو يُنْشِدَ شِعْرًا، أَو يَرْفَعَ صَوْتَهُ؛ فَلْيَخْرُجْ إِلى هَذِهِ الرَّحْبَةِ (¬4). فإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فَمِنْ أَين يَدُلُّ ذَمُّ رَفْعِ (¬5) الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى الْجَدَلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحدهما: أَن رَفْعَ (¬6) الصَّوْتِ مِنْ خَوَاصِّ الْجَدَلِ الْمَذْمُومِ، أَعني فِي أَكثر الأَمر دُونَ الفَلتات؛ لأَن رَفْعَ الصَّوْتِ (¬7) وَالْخُرُوجَ عَنِ الِاعْتِدَالِ فِيهِ ناشئٌ عَنِ الْهَوَى فِي الشيءِ المتكلَّم فِيهِ، وأَقرب الْكَلَامِ الْخَاصِّ بِالْمَسْجِدِ إِلى رَفْعِ الصَّوْتِ: الْكَلَامُ فِيمَا لَمْ يُؤْذَن فِيهِ، وَهُوَ الْجِدَالُ (¬8) الَّذِي نبَّه عَلَيْهِ الْحَدِيثُ المتقدم. ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "فَبِأن"، وفي (م): "بأن". (¬2) في (ت): "وعلينا السكينة والوقار، فإن كان يلزم ذلك في نفسها، ففي موضعها المتخذ لها أولى"، وفي الهامش: "في غير محلها"؛ كأنه يريده بدلاً من قوله: "في نفسها". (¬3) في (ر) و (غ): "البطحاء". (¬4) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 175)، هكذا: أنه بلغه: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بنى رحبة ... إلخ. كذا جاء بلاغاً في رواية يحيى الليثي عن مالك. وأخرجه البيهقي في "السنن" (10/ 103) من طريق يحيى بن بكير، عن مالك؛ حدثني أبو النضر، عن سالم بن عبد الله؛ أن عمر بن الخطاب ... ، فذكره. وذكر ابن عبد البر في "الاستذكار" (6/ 355) أن في رواية القعنبي، ومطرِّف، وأبي مصعب عنه، عن أبي النضر، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب ... ، فذكره. وهذا إسناد صحيح. (¬5) في (ر): "رفع ذم"، وكتب الناسخ عليهما علامتي التقديم والتأخير. (¬6) في (خ): "يرفع". (¬7) قوله: "الصوت" سقط من (م)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر اللحق في التصوير. (¬8) في (ر) و (غ): "الجدل".

وأَيضاً: لَمْ يَكْثُرِ الْكَلَامُ جِدًّا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنواع الْعِلْمِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ إِلا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وإِلى غَرَضِهِ تَصَوَّبَتْ (¬1) سِهَامُ النقد والذم، فهو إِذاً هو. وَقَدْ رُوي عَنْ عَمِيرَةَ (¬2) بْنِ أَبي نَاجِيَةَ المصري أَنه رأَى قوماً يتمارون (¬3) فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ عَلَتْ أَصواتهم، فَقَالَ: هؤلاءِ قَوْمٌ قَدْ مَلّوا الْعِبَادَةَ، وأَقبلوا عَلَى الْكَلَامِ، اللَّهُمَّ! أَمِتْ عُمَيْرَةَ، فَمَاتَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ، فرأَى رَجُلٌ (¬4) فِي النَّوْمِ قَائِلًا يقول له (¬5): مات هذه الليلة نصف الناس، فعرف (¬6) تلك الليلة، فجاءَ فيها (¬7) مَوْتُ عُمَيْرَةَ هَذَا (¬8). وَالثَّانِي: أَنا لَوْ سَلَّمْنَا أَن مجرد رفع الصوت لا يَدُلُّ (¬9) عَلَى مَا قُلْنَا؛ لَكَانَ أَيضاً مِنَ الْبِدَعِ إِذا عُدَّ كأَنه مِنَ الْجَائِزِ فِي جَمِيعِ أَنواع الْعِلْمِ، فَصَارَ مَعْمُولًا بِهِ لَا يُتَّقَى (¬10)، وَلَا يُكَفّ عَنْهُ، فَجَرَى (¬11) مَجْرَى الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ. وأَما تَقْدِيمُ الأَحداث عَلَى غَيْرِهِمْ: فَمِنْ (¬12) قَبِيلِ ما تقدم في كثرة الجهل (¬13)، وقلة العلم، كان ذلك التقديم في رُتَب العلم أَو غيره، لأَن ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "عربت" بدل: "تصوبت". (¬2) في (م): "غيره" بدل "عميرة". (¬3) في (خ) و (م): "يتعارون" بالعين المهملة، وفي (ت): "يتغايرون"، وصوبها في الهامش: "يتعازرون"، وذكر أن في نسخة: "ويتعارون". (¬4) في (م): "رجلاً". (¬5) قوله: "له" ليس في (خ). (¬6) في (ت) و (خ): "فعرفت". (¬7) قوله: "فيها" ليس في (خ) و (ت). (¬8) أورد هذه القصة المزي في "تهذيب الكمال" (22/ 400). (¬9) في (ت) و (م) و (خ): "رفع الأصوات يدل". (¬10) في (م): "لا نقي"، وفي (ت): "لا ينهى"، وفي (خ): "لا نفي"، أو "لا يفي"؛ لم تنقط نوناً ولا ياءً، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: الكلمة غير منقوطة في الأصل، وتحتمل بالتصحيف والتحريف عدة احتمالات. اهـ. (¬11) قوله: "فجرى" سقط من (خ)، وعلق على موضعه رشيد رضا بقوله: كذا! ولعل أصله: فجرى مجرى البدع المحدثات. اهـ. (¬12) قوله: "فمن" لم يتضح في مصورة (خ)، وأثبته رشيد رضا: "من"، وعلق عليه بقوله: لعل الأصل: "فمن".اهـ. (¬13) في (خ) و (ت) و (م): "الجهال".

الحَدَثَ أَبداً أَو فِي غَالِبِ الأَمر غِرٌّ لم يَتَحنَّكْ، ولم يرتَضْ في صناعته (¬1) رياضةً تُبَلِّغه مبالغ الشيوخ الراسخي (¬2) الأَقدام فِي تِلْكَ الصِّنَاعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي المَثَلِ: وابنُ اللَّبُون إِذا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ (¬3) هَذَا إِن حملنا الحَدَثَ على حداثة السن، وهو نصٌّ فِي (¬4) حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فإِن حَمَلْنَاهُ (¬5) عَلَى حَدَثَانِ الْعَهْدِ بِالصِّنَاعَةِ، وَيَحْتَمِلُهُ قوله في الحديث (¬6): "وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرذلهم" (¬7)، وَقَوْلُهُ: "وَسَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ" (¬8) وَقَوْلُهُ: "إِذا أُسند الأَمر إِلى غَيْرِ أَهله" (¬9)، فَالْمَعْنَى فِيهَا وَاحِدٌ، فإِن الْحَدِيثَ الْعَهْدَ بالشيءِ لَا يَبْلُغُ مَبَالِغَ الْقَدِيمِ الْعَهْدِ فِيهِ. ولذلك يحكى عن الشيخ أَبي مَدْيَن (¬10) رحمه الله: أَنه سئل عن ¬

(¬1) في (م): "صناعة". (¬2) في (خ): "الراسخين". (¬3) البيت لجرير بن عطية، انظر: "ديوانه" برواية محمد بن حبيب (1/ 128). و"ابن اللبون": هو ولد الناقة إذا استكمل سنتين، فأمه لبون؛ لأنها وضعت غيره، فصار لها لبن، وهو في هذه الحالة ضعيف. و"لُزَّ": شُدّ. و"القَرَن": الحبل. والبعيران إذا قُرِنا في قَرَنٍ واحدٍ فقد لُزّا. و"البُزْلُ": جمع بازِلٍ، وهو من الإبل ما كان في التاسعة؛ لأن نابه يَبْزُل؛ أي: ينْشَقّ ويطلع. و"القناعيس": جمع قِنْعاس، وهو الجمل الضخم العظيم. و"الصولة": الوثبة والسَّطوة وهذا البيت قاله جرير بن عطيّة يعرِّض فيه بِعَدِيّ بن الرِّقاع العاملي، ويقول له: إن ابن اللبون إذا ما قُرِن ببازِلٍ؛ لم يُطِقْ ما يطيقه البازل من الصبر على السير العنيف، فكذلك الشاعر الضعيف لا يستطيع مصاولة الشاعر الفحل، ولا مجاراته؛ أراد بذلك الفخر على مَهْجُوِّه عدي بن الرقاع. انظر شرح العلاّمة محمود محمد شاكر لـ"طبقات فحول الشعراء" للجُمَحي (2/ 385). (¬4) قوله: "في" ليس في (ر) و (غ). (¬5) في (م): "عملناه". (¬6) قوله: "في الحديث" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬7) تقدم تخريجه (ص423). (¬8) تقدم تخريجه صفحة (424). (¬9) تقدم تخريجه صفحة (420). (¬10) هو: شعيب بن حسين الأندلسي، الزاهد، شيخ أهل المغرب، كان من أهل العمل والاجتهاد، منقطع النظير في العبادة والنسك. انظر: "السير" (21/ 219).

الأَحداث الذين نهى شيوخ الصوفية عن صحبتهم (¬1)؟ فَقَالَ: الحَدَث: الَّذِي لَمْ يَسْتَكْمِلِ الأَمر بَعْدُ، وإِن كَانَ ابنَ ثَمَانِينَ سَنَةً. فإِذاً: تَقْدِيمُ الأَحداث عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْجُهَّالِ (¬2) عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: "سُفَهَاءَ الأَحلام" (¬3)، وقال (3): "يقرؤُون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ... "، إِلى آخِرِهِ، وَهُوَ مُنَزَّلٌ عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الْخَوَارِجِ: "إِن (¬4) مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا (¬5) قَوْمًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ... " (¬6)، إِلى آخِرِ الْحَدِيثِ؛ يَعْنِي: أَنهم لَمْ يَتَفَقَّهُوا (¬7) فِيهِ، فَهُوَ فِي أَلسنتهم لَا فِي قُلُوبِهِمْ. وأَما لعنُ آخرِ هَذِهِ (¬8) الأُمّة أَوَّلَها: فظاهر مما ذكره (¬9) العلماءُ عَنْ بَعْضِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ، فإِن الْكَامِلِيَّةَ (¬10) مَنَ الشِّيعَةِ كَفَّرَتِ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ حِينَ لَمْ يَصْرِفُوا الْخِلَافَةَ إِلى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬11) بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَفَّرَتْ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حين لم يأْخذ بحقه فيها. وأَما ما دون (¬12) ذلك مما يوقف فيه عند السبب (¬13): فمنقول موجود (¬14) في الكتب (¬15)، وإِنما فعلوا ذلك لمذاهب سوء لهم رأَوها، ¬

(¬1) في (ت) و (م) و (خ): "عنهم". (¬2) في (خ): "الجهل". (¬3) تقدم تخريجه صفحة (421 ـ 422). (¬4) قوله: "إن" ليس في (خ). (¬5) قوله: "هذا" سقط من (م). (¬6) تقدم تخريجه صفحة (455). (¬7) في (م): "يتفهموا" بدل "يتفقهوا". (¬8) قوله: "هذه" سقط من (ر) و (غ). (¬9) في (خ) و (ت) و (م): "ذكر". (¬10) الكاملية: أصحاب أبي كامل، الذي كفَّر جميع الصحابة بتركهم بيعة علي رضي الله عنه، وطعن في علي أيضاً بتركه طلب حقه، ولم يعذره في القعود. قال: وكان عليه أن يخرج ويظهر الحق. وكان يقول: الإمامة نور يتناسخ من شخص إلى شخص، وذلك النور في شخص يكون نبوة، وفي شخص يكون إمامة، وربما تتناسخ الإمامة فتصير نبوة، وقال بتناسخ الأرواح وقت الموت. انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني (1/ 174 ـ 175). (¬11) من قوله: "حين لم يصرفوا" إلى هنا سقط من (غ)، وفي (م): "إلى علي رضي الله عنهم". (¬12) في (م): "وأما دون". (¬13) في (م): "السب". (¬14) في (ت): "فموجود منقول". (¬15) في (غ): "الكتاب".

فبنوا عليها ما يضاهيها من السوءِ والفحشاءِ، فلذلك عُدُّوا من فرق أَهل البدع. قَالَ مُصْعَبُ الزُّبَيْري (¬1) وَابْنُ نَافِعٍ: دَخَلَ هَارُونُ ـ يَعْنِي الرَّشِيدَ ـ الْمَسْجِدَ (¬2) فَرَكَعَ، ثُمَّ أَتى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتى مَجْلِسَ (¬3) مَالِكٍ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ ورحمة الله وبركاته، قال له مالك: وعليكَ السلام ـ يا أَمير المؤمنين ـ ورحمة الله وبركاته (¬4). ثم قال لمالك: هَلْ لِمَنْ سَبَّ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الفَيْء حَقٌّ؟ قَالَ: لَا! وَلَا كَرَامَةَ وَلَا مَسَرَّة! قَالَ: مَنْ أَين قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (¬5)، فَمَنْ عَابَهُمْ (¬6) فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا حَقَّ لِكَافِرٍ (¬7) فِي الْفَيْءِ. وَاحْتَجَّ مَرَّةً أُخرى فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} {وَأَمْوَالِهِمْ} (¬8)} (¬9)، إِلى آخر الآيات الثلاث، قال: فهم أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَهُ، وأَنصاره، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (¬10)، فَمَنْ عَدَا هؤلاءِ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ (¬11). ¬

(¬1) في (ت) و (م): "الزبيدي". (¬2) في (ت): "للمسجد". (¬3) في (غ): "مسجد" بدل "مجلس". (¬4) من قوله: "قال له مالك" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬5) سورة الفتح: الآية (29). (¬6) في (ر) و (غ): "عانهم". (¬7) في (ر) و (غ): "للكافر". (¬8) زاد في (ت): "يبتغون فضلاً من الله". سورة الحشر: الآية (8). (¬9) سورة الحشر: الآية (10). (¬10) ذكره القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (2/ 46) كما هنا، والظاهر أن المصنف أخذه عنه. ولم أجده مسنداً من طريق مصعب الزبيري وابن نافع، ولكن أخرجه اللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (2400)، والبيهقي في "سننه" (6/ 372)، وابن عبد البر في "الانتقاء" ص (36) ثلاثتهم من طريق إبراهيم بن المنذر، عن معن بن عيسى، عن مالك، بذكر شطره الثاني المتعلق بآيات سورة الحشر، ولم يذكر قصة هارون الرشيد. وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 391) من طريق البيهقي.=

وَفِي فِعْلِ خَوَاصِّ الْفَرْقِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى كثير (¬1). وأَما بعث الدجّالين (¬2): فقد كان من (¬3) ذَلِكَ جُمْلَةً، مِنْهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ فِي زَمَانِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَعَدٌّ مِنَ (¬4) الْعُبَيْدِيَةِ (¬5) الَّذِينَ مَلَكُوا إِفريقية، فَقَدَ حُكِيَ عَنْهُ أَنه جَعَلَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: أَشهد أَن مَعَدّاً رَسُولَ اللَّهِ، عِوَضًا مِنْ كَلِمَةِ الْحَقِّ: "أَشهد أَن محمداً رسول الله"، ففعل المؤذن (¬6)، فَهَمَّ المسلمون بقتله، ثم رأوا (¬7) رفعه (¬8) إِلى مَعَدٍّ لِيَرَوْا هَلْ هَذَا عَنْ أَمره؟ فَلَمَّا انْتَهَى كَلَامُهُمْ إِليه، قَالَ: ارْدُدْ عَلَيْهِمْ أَذانهم لعنهم الله. ¬

=وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 327) من طريق سوار بن عبد الله العنبري، عن أبيه، عن مالك نحو سياق معن بن عيسى، ثم أخرجه من طريق أبي عروة ـ وهو رجل من ولد الزبير ـ؛ قال: كنا عند مالك، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ} حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، فقال مالك: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقد أصابته الآية. ومن طريق أبي نعيم أخرجهما الضياء المقدسي في "النهي عن سب الأصحاب" (32 و33). وقال ابن العربي في "أحكام القرآن" (4/ 1778): "رواه عنه سوار بن عبد الله وأشهب وغيرهما؛ قالوا: قال مالك: من سبّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا حقّ له في الفيء، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} اهـ. وذكر القرطبي في "تفسيره" (16/ 296 ـ 297) قول مالك هذا من طريق أبي عروة الزبيري السابق، وعزاه للخطيب البغدادي، ثم قال: "قلت: لقد أحسن مالك في مقالته، وأصاب في تأويله، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته، فقد ردّ على ربّ العالمين، وأبطل شرائع المسلمين ... "، ثم أخذ في ذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنّة الدالة على فضل الصحابة رضي الله عنهم. (¬1) قوله: "كثير" سقط من (ر) و (غ). (¬2) في (م): "الداجلين". (¬3) قوله: "من" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬4) علق رشيد رضا هنا بقوله: هو اسم أول خلفاء العبيديين، الملقب بالمعز لدين الله. اهـ. (¬5) في (ت): "العبيديين". (¬6) قوله: "ففعل المؤذن" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬7) قوله: "رأوا" سقط من (م). (¬8) في (خ) و (ت): "رفعوه" بدل "رأوا رفعه".

ومن يدَّعي لنفسه العصمة، فهو يشبه مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ، وَمَنْ يَزْعُمُ أَنه بِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ والأَرض، فَقَدْ جَاوَزَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الْمَغْرِبِيُّ المُتَسَمِّي بِالْمَهْدِيِّ (¬1). وَقَدْ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْقَرِيبِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْفَازَازِيَّ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهَا بأُمور مُوْهِمَةٍ لِلْكَرَامَاتِ، والإِخبار بالمُغَيَّبات، وَمُخَيَّلَةٍ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، تَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ من العوام جملة، ولقد سمعت أَن (¬2) بَعْضَ طَلَبَةِ ذَلِكَ الْبَلَدَ الَّذِي احْتَلَّهُ (¬3) هَذَا البائس (¬4) ـ وهو (¬5) مالقة (¬6) ـ أَخذ (¬7) ينظر في قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬8)، وَهَلْ (¬9) يُمْكِنُ تأْويله؟ وَجَعَلَ يُطَرِّقُ إِليه الِاحْتِمَالَاتِ (¬10)، ليُسَوِّغ إِمكانَ بعثِ نبيٍّ بَعْدَ (¬11) مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مقتلُ هَذَا الْمُفْتَرِي على يَدَي (¬12) شيخ شيوخنا الأُستاذ (¬13) أَبي جعفر ابن الزبير رحمه الله (¬14). ¬

(¬1) في (ت): "وهو المهدي المغربي". وانظر ما ذكره المصنف من أخبار هذا المتسمِّي بالمهدي (ص84 ـ 89) من هذا المجلد. (¬2) قوله: "أن" ليس في (خ) و (ت) و (م). (¬3) في (خ): "اختله" بالخاء المعجمة. (¬4) في (خ): "الباس". (¬5) في (ت): "وهي". (¬6) مالقة: مدينة بالأندلس، عامرة، من أعمال رية، سورها على شاطئ البحر بين الجزيرة الخضراء والمرية. "معجم البلدان" (5/ 43). (¬7) في (خ) و (ت): "آخذاً"، وفي (م): "آخر". (¬8) سورة الأحزاب: الآية (40). (¬9) في (ت): "وأنه هل". (¬10) في (خ): "الاحتمال"، وصححت فوقها. (¬11) قوله: "بعد" سقط من (ر) و (غ). (¬12) في (خ) و (ت): "يد". (¬13) قوله: "الأستاذ" من (ر) و (غ) فقط. (¬14) أبو جعفر ابن الزبير هذا اسمه: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي، ترجم له الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" (1/ 89 ـ 91 رقم 232)، وذكر قصته مع الفازازي هذا، فقال: ومن مناقبه أن الفازازي الساحر لما ادعى النبوة قام عليه أبو جعفر بمالقة، فاستظهر عليه بتقرُّبه إلى أميرها بالسحر، وأوذي أبو جعفر، فتحوّل إلى غرناطة، فاتفق قدوم الفازازي رسولاً من أمير مالقة، فاجتمع أبو جعفر بصاحب غرناطة، ووصف له حال الفازازي فأذن له إذا انصرف بجواب رسالته أن يخرج إليه ببعض أهل البلد،=

وَلَقَدْ حَكَى بَعْضُ مُؤَلِّفِي الْوَقْتِ؛ قَالَ: حَدَّثَنِي شيخنا أَبو الحسن بن الجياب رحمه الله (¬1)؛ قَالَ: لَمَّا أُمر بالتأَهُّب يَوْمَ قَتْلِهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ الَّذِي أُخرج مِنْهُ إِلى مَصْرَعِهِ؛ جهر بتلاوة سورة {يس *}، فقال له أَحد الدَّعَرَةِ (¬2) ممن جمع السجن بينهما: واقرأ (¬3) قرآنك، لأَي شيءٍ تَتَطَفَّلْ (¬4) على قرآننا (¬5) اليوم (¬6)؟ أَو ما (¬7) فِي مَعْنَى هَذَا، فَتَرَكَهَا مَثَلًا بِلَوْذَعِيَّتِهِ (¬8). وأَما مفارقة الجماعة: فبدعتها ظاهرة، ولذلك يُجَازَى (¬9) بالمِيْتَةِ الجاهلية (¬10)، وقد ظهر هذا (¬11) فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ؛ كَالْعُبَيْدِيَّةِ وأَشباههم. فهذا أَيضاً مِنْ جُمْلَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الأَحاديث، وباقي ¬

=ويطالبه من باب الشرع، ففعل، فثبت عليه الحدّ، وحكم بقتله، فضُرب بالسيف، فلم يَجُلْ فيه، فقال أبو جعفر: جرِّدوه، فوجدوا جسده مكتوباً، فغسل، ثم وجد تحت لسانه حجراً لطيفاً فنزعه، فجال فيه السيف حينئذٍ. اهـ. (¬1) هو: علي بن محمد بن سليمان، أبو الحسن ابن الجياب الأنصاري، الغرناطي، من مشايخ لسان الدين ابن الخطيب صاحب كتاب "الإحاطة"، مولده عام ثلاث وسبعين وستمئة، وتوفي سنة تسع وأربعين وسبعمئة. انظر ترجمته في "الديباج المذهب" (2/ 111 رقم 20)، و"نفح الطيب" (5/ 434). (¬2) في (خ): "الذعرة"، وفي (م): "الزعرة". والمقصود: أحد الفسّاق الفجرة. انظر "لسان العرب" (4/ 286). (¬3) في (ت): "اقرأ". (¬4) في (م) و (خ): "تتفضل" بدل "تتطفل". (¬5) في (غ): "قراءتنا". (¬6) قوله: "اليوم" سقط من (ت). (¬7) قوله: "ما" ليس في (خ) و (ت). (¬8) في (ت): "فتركها امتثالاً للوذعيته"، وذكر في الهامش أن في نسخة: "فتركها مثلاً بلوذعيته". واللَّوْذَعي: هو الظريف الحديد الفؤاد واللسان. انظر "لسان العرب" (8/ 317). (¬9) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: أي: يجازى مفارقها، ولعل الفاعل قد سقط من الأصل بسهو الناسخ. اهـ. (¬10) لما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري (7053)، ومسلم (1849)، عن ابن عباس مرفوعاً: " ... فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية". (¬11) قوله: "هذا" ليس في (خ) و (م) و (ت).

الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ عَائِدٌ إِلى نَحْوٍ آخَرَ؛ كَكَثْرَةِ النساءِ، وقِلَّةِ الرِّجَالِ (¬1)، وتَطاوُلِ (¬2) النَّاسِ فِي الْبُنْيَانِ (¬3)، وتَقَارُبِ الزمان (¬4). فالحاصل: أَن أَكثر هذه (¬5) الْحَوَادِثِ الَّتِي أَخبر بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنها تَقَعُ وَتَظْهَرُ وَتَنْتَشِرُ (¬6) في الأُمة (¬7) أُمور مُبْتَدَعَةٌ عَلَى مُضَاهَاةِ التَّشْرِيعِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ التعبُّد، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا عاديَّة، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ بِدْعَةٌ، والمعصية التي لَيْسَتْ (¬8) بِبِدْعَةٍ. وإِن الْعَادِيَّاتِ مِنْ حيثُ هِيَ عَادِيَّةٌ لَا بِدْعَةَ فِيهَا، وَمِنْ حَيْثُ يُتعبَّدُ بِهَا أَو تُوضَعُ وَضْعَ التعبُّد تَدْخُلُهَا الْبِدْعَةُ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ اتِّفَاقُ الْقَوْلَيْنِ، وَصَارَ الْمَذْهَبَانِ مَذْهَبًا واحداً، وبالله التوفيق. ¬

(¬1) تقدم تخريجه صفحة (423). (¬2) في (ر) و (غ): "وتتطاول". (¬3) تقدم تخريجه صفحة (421). (¬4) تقدم تخريجه صفحة (421). (¬5) قوله: "هذه" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬6) في (م): "وتنشر". (¬7) قوله: "في الأمة" سقط من (خ). (¬8) في (خ): "التي هي ليست".

فصل

فصل فإِن قِيلَ: أَما الِابْتِدَاعُ؛ بِمَعْنَى أَنه نَوْعٌ مِنَ التَّشْرِيعِ عَلَى وَجْهِ التعبُّد فِي العادِيّات من حيث هو (¬1) توقيت معلوم مَقُولٌ (¬2) بإِيجابه (¬3) أَو إِجازته (¬4) بالرأْي ـ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجة عَنِ الْجَادَّةِ ـ: فَظَاهَرَ (¬5). وَمِنْ (¬6) ذَلِكَ: الْقَوْلُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَالْقَوْلِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ. فَالْقَوْلُ بأَنه بِدْعَةٌ قَدْ تبيَّن وَجْهُهُ وَاتَّضَحَ مَغْزاه، وإِنما يَبْقَى وَجْهٌ آخَرُ يُشْبِهُهُ وَلَيْسَ بِهِ، وَهُوَ أَن الْمَعَاصِي وَالْمُنْكِرَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ قَدْ تَظْهَرُ وَتَفْشُو (¬7)، وَيَجْرِي الْعَمَلُ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ عَلَى وجهٍ لَا يَقَعُ لَهَا إِنكار مِنْ خَاصٍّ وَلَا عَامٍّ، فَمَا كَانَ مِنْهَا هَذَا شأْنه: هَلْ يُعَدُّ مِثْلُهُ بِدَعَةً أَم لَا؟ فَالْجَوَابُ: أَن مِثْلَ هَذِهِ المسأَلة لها نظران: ¬

(¬1) قوله: "هو" سقط من (ت)، ولم يتضح في (خ)، وفي (ر) و (غ): "هي"، والمثبت من (م). (¬2) كذا في (ر) و (غ)، وفي باقي النسخ: "معقول". (¬3) أثبتها رشيد رضا: "فإيجابه"، وانظر التعليق بعد الآتي. (¬4) في (م): "أو إجارته". (¬5) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: قوله: "فظاهر": جواب "أما الابتداع" في أول الفصل، وما بينهما اعتراض. وقوله فيه: "فإيجابه": مبتدأ، خبره: "من أمثلة بدع الخوارج". (¬6) في (ر) و (غ): "من". (¬7) في (م) و (غ) و (ت): "وتفشوا".

أَحدهما: نظر من حيث وقوعها عملاً وَاعْتِقَادًا فِي الأَصل، فَلَا شَكَّ أَنها مخالَفَةٌ لَا بِدْعَةٌ، إِذ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الممنوع أَو المكروه غير بدعة أَن لا يَنْتَشِر ولا يظهر (¬1)، كما (¬2) أَنه ليس من شرط (¬3) البدعة (¬4) أَن تشتهر (¬5) ولا تُسَرّ (¬6)، بل المخالفة (¬7) مخالفة (¬8)؛ ظهرت (¬9) أَمْ لا (¬10)، واشتهرت (¬11) أَم لا، والبدعة بدعة؛ ظهرت أَم لَا، وَاشْتُهِرَتْ أَم لَا (¬12)، وَكَذَلِكَ دَوَامُ الْعَمَلِ بها (¬13) أَو عَدَمِ دَوَامِهِ: لَا يؤثِّر فِي وَاحِدَةٍ منهما، فالمبتدع (¬14) قد يقلع عن بدعته، وَالْمُخَالِفُ قَدْ يَدُومُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ إِلى الْمَوْتِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ!. وَالثَّانِي: نظرٌ مِنْ جِهَةِ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ خَارِجٍ، فَالْقَرَائِنُ قَدْ تَقْتَرِنُ، فَتَكُونُ سَبَبًا فِي مَفْسَدَةٍ حاليَّة، وَفِي مَفْسَدَةٍ مآليَّة، كِلَاهُمَا رَاجِعٌ إِلى اعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ. أَما الْحَالِيَّةُ فبأَمرين: الأَول: أَن يَعْمَلَ بِهَا الْخَوَاصُّ مِنَ النَّاسِ عُمُومًا، وَخَاصَّةً الْعُلَمَاءَ خُصُوصًا، وَتَظْهَرُ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ فِي الإِسلام ينشأُ عَنْهَا عَادَةً مِنْ جِهَةِ الْعَوَامِّ اسْتِسْهالُها واسْتِجَازَتُها؛ لأَن العالم المنتصب مُفْتٍ (¬15) ¬

(¬1) في (خ) و (ت): "أن لا ينشرها ولا يظهرها"، وفي (م): "أن لا ينشر ولا يظهر". (¬2) قوله: "كما" ليس في (خ). (¬3) في (ت): "شرطها". (¬4) قوله: "البدعة" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬5) في (خ) و (م) و (ت): "تنشر". (¬6) قوله: "ولا تسر" ليس في (خ) و (ت)، وفي (م): "ولا تر". (¬7) في (خ) و (ت): "بل لا تزول المخالفة". (¬8) قوله: "مخالفة" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬9) في (ت): "سواء ظهرت". (¬10) في (خ) و (م) و (ت): "أو لا". (¬11) في (ت): "أو اشتهرت". (¬12) من قوله: "والبدعة بدعة ... " إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬13) قوله: "بها" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬14) في (خ) و (م) و (ت): "والمبتدع". (¬15) في (خ) و (ت): "مفتياً".

لِلنَّاسِ (¬1) بِعَمَلِهِ (¬2) كَمَا هُوَ مُفْتٍ بِقَوْلِهِ (¬3)، فإِذا نظر الناس إِليه وهو يعمل بأَمر هو مخالفة (¬4)؛ حَصَلَ فِي اعْتِقَادِهِمْ جَوَازُهُ، وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا أَو مَكْرُوهًا لَامْتَنَعَ مِنْهُ العالِمُ. هَذَا، وإِن نصَّ عَلَى مَنْعه أَو كَرَاهَتِهِ (¬5)، فإِن عَمَلَهُ معارِضٌ لِقَوْلِهِ، فإِما أَن يَقُولَ الْعَامِّيُّ: إِن العالِمَ خَالَفَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ (¬6) مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُمْ عُقَلَاءُ النَّاسُ، وَهُمُ الأَقلون. وإِما أَن يَقُولَ: إِنه وَجَدَ فِيهِ رُخْصَةً، فإِنه لو كان كما قال؛ لم يعمل (¬7) به، فيُرَجِّح (¬8) بين قوله وفعله، والفعل أَبلغ (¬9) مِنَ الْقَوْلِ فِي جِهَةِ التأَسِّي ـ كَمَا تبيَّن فِي كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (¬10) ـ، فَيَعْمَلُ العامِّيُّ بِعَمَلِ الْعَالِمِ؛ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، فَيَعْتَقِدُهُ جَائِزًا، وهؤلاءِ هُمُ الأَكثرون. فَقَدْ صَارَ عَمَلُ الْعَالِمِ عِنْدَ الْعَامِّيِّ حُجَّةً، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَى الإِطلاق وَالْعُمُومِ فِي الفُتيا، فَاجْتَمَعَ عَلَى الْعَامِّيِّ الْعَمَلُ مع اعتقاد الجواز بشُبْهَةِ دليل، وهذا هو (¬11) عين البدعة. بل قد وقع مثل هذا في طائفة ممن تَمَيَّزَ عن العامّة بانتصابٍ في رتبة ¬

(¬1) قوله: "مفت للناس" سقط من (غ)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر اللحق في التصوير. (¬2) في (ت) و (خ) و (م): "بعلمه". (¬3) في (ت): "بفعله"، وذكر الناسخ في الهامش أن في نسخة: "بقوله". (¬4) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: كذا في الأصل! وهو تحريف ظاهر، والمعنى مفهوم من القرينة، وهو: فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ يَعْمَلُ مَا يَأْمُرُ هو بمخالفته ـ أي بتركه ـ؛ حصل في اعتقادهم جوازه. اهـ. (¬5) في (م): "أو كراهيته". (¬6) أي: على العالِمِ. (¬7) قوله: "يعمل" سقط من (خ). (¬8) في (ر) و (غ): "فيترجح"، وفي (م): "فترجح". (¬9) في (ت) و (خ) و (م): "أغلب" بدل "أبلغ". (¬10) (4/ 91). (¬11) قوله: "هو" ليس في (خ) و (م) و (ت).

الْعُلَمَاءِ، فَجَعَلُوا العملَ بِبِدْعَةِ الدعاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ، وقراءةَ الحِزْب حُجَّةً فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْبِدَعِ فِي الْجُمْلَةِ، وأَن مِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ ارْتَسَمَ فِي طَرِيقَةِ التصوُّف، فأَجاز التعبُّدَ لِلَّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَاحْتَجَّ بالحِزْب والدعاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنه مَا عَمِلَ بِهِ إِلا لمُسْتَند، فَوَضَعَهُ فِي كِتَابٍ، وَجَعَلَهُ فقهاً؛ كبعض أَماريد (¬1) البربر (¬2) ممن قيَّد على رسالة ابن أَبي زَيْدٍ (¬3). وأَصل جَمِيعَ ذَلِكَ (¬4): سُكُوتُ الْخَوَاصِّ عَنِ البيان، أَو العمل (¬5) بِهِ عَلَى الغَفْلة، وَمِنْ هُنَا تُسْتَشْنَعُ زَلَّةُ العالم؛ فقد قالوا (¬6): ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ (¬7) الدِّينَ: زَلّةُ الْعَالِمِ (¬8)، وجِدَالُ منافقٍ بالقرآن، وأَئِمَة مُضِلّون (¬9). ¬

(¬1) في (ر) و (غ): "أفاريد". (¬2) في (ت) و (خ) و (م): "الرس" بدل "البربر". (¬3) في (خ): "على الأمة ابن زيد"، وفي (م): "على الآلة ابن أبي نريد"، وأصل (ت) موافق لما هو مثبت هنا، لكن كتب في الهامش: "على الآلة ابن زيد"، وكأنه تصويب للعبارة. (¬4) في (ت): "ذلك كله". (¬5) في (خ): "والعمل". (¬6) ورد ذلك عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1475)، والفريابي في "صفة المنافق" (ص54)، كلاهما من طريق مالك بن مغول، عن أبي حصين، عن زياد بن حُدَير؛ قال: قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: يهدم الزمان ثلاث: ضيعة عالم، ومجادلة منافق بالقرآن، وأئمة مضلّون. وسنده صحيح. وأخرجه الدارمي (1/ 71) من طريق أبي إسحاق السبيعي، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 196) من طريق مغيرة، كلاهما عن الشعبي، عن زياد بن حُدَير؛ قال: أتيت عمر بن الخطاب ... ، فذكره. وتصحف "حدير" عند أبي نعيم إلى "جرير". وأخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن" (832) من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عمر، ليس فيه ذكر لزياد بن حدير. (¬7) في (ت) و (خ): "تهدم"، وفي (م): "يهدم". (¬8) في (ر) و (غ): "عالم". (¬9) في (خ): "ضالون".

وَكُلُّ ذَلِكَ عَائِدٌ وبالُه (¬1) عَلَى الْعَالَمِ (¬2). وزلَلُهُ المذكورُ عِنْدَ العلماءِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحدهما: زَلَلُه (¬3) فِي النَّظَرِ، حَتَّى يُفْتيَ بِمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَيُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الفُتْيَا بِالْقَوْلِ. وَالثَّانِي: زَلَلُه في العمل بالمخالفات، فَيُتَابَعُ أَيضاً عليها على التأَويل المذكور، وهو في الاعتبار قائمٌ مَقَامَ الفُتيا بالقول؛ إِذ قد عَلِمَ أَنه مُتَّبَعٌ ومنظورٌ إِليه، وهو مع ذلك يُظْهِر بفعله (¬4) ما ينهى عنه الشارع، فكأَنه مُفْتٍ به؛ على ما تقرر في الأُصول. وَالثَّانِي: مِنْ قِسْمَيِ الْمُفْسِدَةِ الحاليَّة: أَن يَعْمَلَ بها العوام، وتشيع فيهم، وتظهر فيما بينهم (¬5)، فلا ينكرها الخواصّ، ولا يرفعون لها رأْساً (¬6)، وَهُمْ (¬7) قَادِرُونَ عَلَى الإِنكار، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَالْعَامِّيُّ مِنْ شأْنه إِذا رأَى أَمراً يَجْهل حكمَه يعمل العامل به فلا يُنْكر عَلَيْهِ، اعْتَقِدُ أَنه جَائِزٌ، وأَنه حَسَنٌ، أَو أَنه مَشْرُوعٌ، بِخِلَافِ مَا إِذا أُنكر عَلَيْهِ (¬8)، فإِنه يَعْتَقِدُ أَنه عَيْبٌ، أَو أَنه غَيْرُ مَشْرُوعٌ، أَو (¬9) أَنه لَيْسَ مَنْ فِعْلِ الْمُسْلِمِينَ. هَذَا أَمر يَلْزَمُ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ (¬10) بِالشَّرِيعَةِ؛ لأَن مستنده الخواصّ والعلماءُ في الجائز مع غَيْرِ الْجَائِزِ. فإِذا عُدِمَ الإِنكار مِمَّنْ شأْنه الإِنكار، مَعَ ظُهُورِ الْعَمَلِ وَانْتِشَارِهِ، وَعَدَمِ خَوْفِ الْمُنْكِرِ، وَوُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفعل (¬11)، دَلَّ عند العوام ¬

(¬1) في (ت): "وباله عائد". (¬2) في (خ): "عالم". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! ولعل أصله: "على العالم" بفتح اللام؛ على حدّ قولهم: إذا زلّ العالِم ـ بالكسر ـ زل العالَم ـ بالفتح ـ اهـ. (¬3) قوله: "زلله" ليس في (ر) و (غ). (¬4) في (خ) و (م): "بقوله". (¬5) قوله "فيما بينهم" ليس في (ت) و (خ) و (م). (¬6) في (ت) و (خ) و (م): "رؤوسهم". (¬7) قوله: "وهم" سقط من (خ). (¬8) قوله: "عليه" سقط من (ر) و (غ). (¬9) قوله: "أو" سقط من (خ) و (م). (¬10) في (ت): "عالم". (¬11) أي: لم يفعل العالم إنكار المنكر.

أَنه فِعْلٌ جَائِزٌ لَا حَرَجَ فِيهِ (¬1)، فنشأَ فِيهِ هَذَا الاعتقادُ الفاسدُ بتأْويلٍ يُقْنَعُ بِمِثْلِهِ مِنَ الْعَوَامِّ (¬2)، فَصَارَتِ الْمُخَالَفَةُ بِدَعَةً؛ كَمَا فِي الْقِسْمِ الأَول. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الأُصول أَن العالِمَ فِي النَّاسِ قائِمٌ مقامَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، والعلماءُ وَرَثَةُ الأَنبياءِ (¬3)، فَكَمَا أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى الأَحكام بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وإِقراره، كَذَلِكَ وارِثُهُ يَدُلُّ عَلَى الأَحكام بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وإِقراره. واعْتَبِرْ ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا أُحدِثَ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ الأُمور الْمَنْهِيّ عَنْهَا فَلَمْ يُنْكِرْهَا (¬4) العلماءُ، أَو عَمِلُوا بِهَا فَصَارَتْ بَعْدُ (¬5) سُنَنًا وَمَشْرُوعَاتِ؛ كَزِيَادَتِهِمْ مَعَ الأَذان: "أَصبح ولله الحمد"، و"الوضوء للصلاة"، و"تأَهّبوا للصلاة (¬6) "، ودعاء المؤذّنين بالليل في الصوامع؛ ¬

(¬1) قوله: "فيه" سقط من (ر) و (غ). (¬2) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولعل الأصل: "من كان من العوام" اهـ. (¬3) هو جزء من حديث أبي الدرداء الطويل في فضل العلم والعلماء، وقد أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 196)، والدارمي في "سننه" (1/ 98)، وأبو داود (3636)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وابن حبان (88/الإحسان)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (169 ـ 177)، والخطيب في "الرحلة" (4 ـ 6)، جميعهم من طريق عاصم بن رجاء، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء، به، وفي بعض طرقه اختلاف تجد الكلام عليه عند الترمذي وابن عبد البر وغيرهما. وسنده ضعيف لضعف داود بن جميل، وكثير بن قيس الشامي، كما في "التقريب" (1788 و5659). وأخرجه أبو داود (3637) من طريق محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد ـ وهو ابن مسلم ـ؛ قال: لقيت شبيب بن شيبة فحدثني به عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي الدرداء ... ، فذكره. وسنده ضعيف لجهالة شبيب بن شيبة الشامي، كما في "التقريب" (2756)، وقد حسن بعض أهل العلم هذا الحديث بهذين الطريقين، وأطال محقق "جامع بيان العلم" في الكلام عليه، فانظره إن شئت، وللحافظ ابن رجب رسالة مفردة في "شرح حديث أبي الدرداء" هذا، وهي مطبوعة. (¬4) لم يتضح قوله: "ينكرها" في (م)، فأشبه: "ينظرها"، أو كلمة نحوها، وكذا في (ت)؛ تشبه أن تكون: "ينهزها"، ثم صوبت في الهامش هكذا: "يغيرها". (¬5) في (ر) و (غ): "تعد". (¬6) قوله: "للصلاة" سقط من (ت) و (خ) و (م).

وربما احْتَجّ (¬1) على صحّة (¬2) ذلك (¬3) بعضُ الناس بما وقع (¬4) في "نوازل ابن سهل" (¬5) غفلة منه (¬6) عما عَلَيْهِ فِيهِ (¬7)، وَقَدْ قَيَّدْنَا فِي ذَلِكَ جُزْءًا مُفْرَدًا، فَمَنْ أَراد الشفاءَ فِي المسأَلة فَعَلَيْهِ به، وبالله التوفيق. وخرج أَبو داود (¬8) قَالَ: اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له (¬9): انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، فإِذا رأَوها أَذِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ. قَالَ: فذُكِرَ لَهُ القُنْعُ (¬10) ـ يَعْنِي الشَّبُّور، وَفِي رِوَايَةٍ: شَبّور اليهود ـ، فلم يعجبه ذلك (¬11)، وَقَالَ: "هُوَ مِنْ أَمر الْيَهُودِ". قَالَ: فذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ، فَقَالَ: "هُوَ مِنْ أَمر النَّصَارَى". فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ (¬12) بْنِ عَبَدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُرِيَ الأَذان فِي مَنَامِه ... ، إِلى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَفِي مُسْلِمٍ (¬13) عَنْ أَنس (¬14) بْنِ مَالِكٍ أَنه قَالَ: ذَكَرُوا أَن يُعْلِمُوا (¬15) ¬

(¬1) في (خ) و (م): "احتجوا". (¬2) قوله: "على صحة" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬3) في (ت): "في ذلك". (¬4) في (خ): "بما وضع". (¬5) طبع بعنوان: "ديوان الأحكام الكبرى، النوازل والأعلام لابن سهل"، والموضع المشار إليه هنا تجده فيه في (2/ 1158). (¬6) قوله: "منه" ليس في (ت) و (خ) و (م). (¬7) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لعل الأصل؛ "وَرُبَّمَا احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَبِمَا وُضِعَ فِي نَوَازِلِ ابْنِ سَهْلٍ غفلة عما أخذ عليه فيه"، أو أن في الكلام حذفاً غير ما ذكر تصح به العبارة. اهـ. (¬8) في "سننه" (498)، ومن طريقه البيهقي في "السنن" (1/ 390)، وصححه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 81)، ونقل تحسين ابن عبد البر له، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في "صحيح سنن أبي داود" (468). (¬9) قوله: "له" ليس في (ت) و (خ) و (م). (¬10) في (ت) و (خ) و (م): "القمع". والقُنْعُ ـ بضم القاف وسكون النون ـ: البوق، كما سيأتي، وانظر: "النهاية في غريب الحديث" (4/ 115). (¬11) قوله: "ذلك" ليس في (ت) و (خ) و (م). (¬12) في (ت) و (م): "يزيد". (¬13) انظر: "صحيح مسلم" رقم (378)، وأخرجه البخاري أيضاً (603 و605 و607 و3457). (¬14) في (م): "ابن أنس". (¬15) في (ت) و (م): "يعملوا"، وصوبت في هامش (ت): "يُعَلِّموا" هكذا مضبوطة!.

وَقْتَ الصَّلَاةِ بشيءٍ يَعْرِفُونَهُ، فَذَكَرُوا أَن يُنَوِّرُوا نَارًا، أَو يَضْرِبُوا نَاقُوسًا، فأُمر بلالٌ أَن يَشْفَعَ الأَذان وَيُوَتِرَ الإِقامة. والقُنْعُ والشَّبّور: هُوَ (¬1) الْبُوقُ، وَهُوَ القَرْنُ الَّذِي وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬2). فأَنت تَرَى كَيْفَ كَرِهَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شأَنَ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يَعْمَلْ عَلَى مُوَافَقَتِهِ. فَكَانَ ينبغي لمن ارْتَسَمَ (¬3) بِسِمَةِ الْعِلْمِ أَن يُنْكِرَ مَا أُحدث مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ إِعلاماً بالأَوقات، أَو غيرَ إِعلامٍ بِهَا. أَما الرَّايَةُ: فَقَدْ وُضِعَت إِعلاماً بالأَوقات، وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، حَتَّى إِن الأَذان مَعَهَا قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ التَّبَع (¬4). وأَما البوق: فهو العَلَم عندنا (¬5) فِي رَمَضَانَ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَدُخُولِ وَقْتِ الإِفطار، ثُمَّ هُوَ عَلَمٌ أَيضاً بِالْمَغْرِبِ والأَندلس عَلَى وَقْتِ السُّحُورِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. والحديثُ قَدْ جَعَلَ علماً على الانتهاء (¬6): نداءَ ابن أُم مكتوم؛ لقوله عليه السلام (¬7): "إِن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى يناديَ ابنُ أُم ¬

(¬1) في (خ): "وهو". (¬2) يعني الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" (604)، ومسلم (377)، كلاهما من طريق نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحيّنون الصلوات، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود ... ، الحديث. (¬3) لم تتضح الكلمة في (خ)، وأثبتها رشيد رضا في طبعته: "اتسم". (¬4) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "في بعض بلاد الشام يرفعون علماً من منارة الجامع الذي يكون فيه الموقِّت لأجل أن يراه المؤذنون من سائر المنارات فيؤذنون في وقت واحد، وإنما يكون ذلك في وقت الظهر والعصر والمغرب" اهـ. (¬5) قوله: "عندنا" من (ر) و (غ) فقط. (¬6) في (ت) و (خ) و (م): "قد جعل علماً لانتهاء". (¬7) أخرجه البخاري (617 و2656)، ومسلم (1092)، ولم يذكر مسلم قوله: "وكان ابن أم مكتوم ... " إلخ.

مَكْتُومٍ" (¬1). قَالَ ابْنُ شِهَابٍ (¬2): وَكَانَ ابْنُ أُم مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعمى لَا يُنادي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصبحت أَصبحت. وَفِي مُسْلِمٍ وأَبي دَاوُدَ: "لَا يَمْنَعَنَّ أَحدَكم نداءُ (¬3) بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ (¬4)؛ فإِنه يؤذِّن لِيَرْجِعَ قائمَكُم، وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ ... " (¬5)، الْحَدِيثَ. فقد جعل أَذان بلال لأَن يُنَبِّه (¬6) النائمَ لِمَا يَحْتَاجُ إِليه مِنْ سَحُورِهِ وَغَيْرِهِ. فَالْبُوقُ مَا شأْنه وَقَدْ كَرِهَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ وَمِثْلُهُ النَّارُ الَّتِي تُرفع دَائِمًا فِي أَوقات الليل، وبالعِشاءِ (¬7)، والصبح (¬8)، وفي (¬9) رَمَضَانَ أَيضاً، إِعلاماً بِدُخُولِهِ، فَتُوقَدُ (¬10) فِي دَاخِلِ المسجد، ثم في وقت السحور تُرْفَعُ (¬11) فِي المَنار إِعلاماً بِالْوَقْتِ (¬12)، والنارُ شِعَارُ (¬13) الْمَجُوسِ فِي الأَصل. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (¬14): أَولُ من اتّخذ البخور في المساجد (¬15) بَنُو بَرْمَك: يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خالد، ملَّكهما الوالي أَمرَ الدِّين (¬16)، ¬

(¬1) من قوله: "لقوله عليه السلام ... " إلى هنا سقط من (ت) و (خ) و (م). (¬2) هو الراوي للحديث عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، ولكن لم يعينه البخاري في روايته، وإنما جاء تعيينه في رواية الإسماعيلي والطحاوي كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 100). (¬3) في (ر) و (غ): "أذان" بدل "نداء". (¬4) في (م): "سحور". (¬5) أخرجه البخاري (621) ومسلم (1093)، وأبو داود (2339) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬6) كذا في (ر) و (غ)، وفي باقي النسخ: "ينتبه". (¬7) في (ت) و (ر) و (غ): "بالعشاء" بدون واو. (¬8) في (م): "الصبح" بدون واو. (¬9) في (خ): "في" بدون واو. (¬10) في (ت): "والصبح إعلاماً بدخولها، وفي رمضان أيضاً توقد". (¬11) في (ت) و (خ) و (م): "ثم ترفع". (¬12) في (غ): "إعلاماً بالنار". (¬13) في (ت): "من شعار". (¬14) في "العواصم" (ص62). (¬15) في (ت) و (م) و (خ): "المسجد". (¬16) بهامش (ت): "الدولة"؛ يعني بدل "الدين".

فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، حَاجِبًا، وَيَحْيَى وَزِيرًا، ثُمَّ ابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى. قَالَ: وَكَانُوا بَاطِنِيَّةً؛ يَعْتَقِدُونَ آراءَ الْفَلَاسِفَةِ، فأَحيوا المجوسيَّة، وَاتَّخَذُوا البخور في المساجد ـ وإِنما كانت (¬1) تُطَيَّبُ بالخَلوق ـ، فزادوا التَّجْمير ليَعْمُروها (¬2) بالنار منقولة؛ حتى يجعلوها عند الأُنس (¬3) بِبَخُورِهَا ثَابِتَةً. انْتَهَى (¬4). وَحَاصِلُهُ أَن النَّارَ لَيْسَ إِيقادُها فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ شأْن السَّلف الصَّالِحِ، وَلَا كَانَتْ مِمَّا تُزَيَّن بِهَا المساجدُ البتَّةَ، ثُمَّ أُحدث التَّزْيِينُ (¬5) بِهَا حَتَّى صَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُعَظَّم بِهِ رَمَضَانُ، وَاعْتَقَدَ الْعَامَّةُ هَذَا كَمَا اعْتَقَدُوا طَلَبَ الْبُوقِ فِي رَمَضَانَ في المساجد، حتى لقد سأَل بعض الناس (¬6) عنه: ¬

(¬1) قوله: "كانت" سقط من (خ) و (م) و (ت). (¬2) في (خ): "ويعمرونها"، وفي (م): "ويعمروها"، وفي (ت): "وتعميرها بالنار"، ثم بياض مكان قوله: "منقولة ... " إلى "ثابتة"، ثم ذكر في الهامش أن في نسخة: "وَيُعَمِّرُونَهَا بِالنَّارِ مَنْقُولَةً حَتَّى يَجْعَلُوهَا عِنْدَ الْأَنْدَلُسِ ببخورها ثابتة". (¬3) في (خ) و (م): "الأندلس"، وكذا بهامش (ت) كما سبق. (¬4) الذي يظهر أن مقصود ابن العربي رحمه الله من قوله: "أول من اتخذ البخور في المساجد بنو برمك ... ": إنما هو البخور الذي كان يصاحبه إيقادٌ للنار في المساجد؛ والذي فيه إحياء لدين المجوسية، ويؤيده قوله: "ليعمروها بالنار ... "، وهذا الذي فهمه المصنف رحمه الله حيث قال: "وحاصله أن النار ليس إيقادها في المساجد من شأن السَّلف الصالح". أما أصل تبخير المساجد على غير هذا النحو فمعروف عند السَّلف؛ بل وُصِفَ غيرُ واحد ممن كان يفعل ذلك بـ"المُجْمِر". قال الحافظ في "الفتح" (1/ 235) عن نُعيم بن عبد الله المُجْمِر: "وُصِفَ هو وأبوه بذلك؛ لأنهما كانا يبخران مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم". ويؤيد هذا ما نقله رشيد رضا رحمه الله عن بعض المؤرخين: "أن البرامكة زينوا للرشيد وضع المجامر في الكعبة المشرفة، ليأنس المسلمون بوضع النار في أعظم معابدهم، والنار معبودُ المجوس، والظاهر أن البرامكة كانوا من رؤساء جمعيات المجوس السرية التي تحاول هدم الإسلام وسلطة العرب وإعادة الملك للمجوس، وإنما فتك بهم هارون الرشيد لأنه وقف على دخائلهم". اهـ. والله أعلم. (¬5) في (ت) و (م) و (خ): "التزين". (¬6) قوله: "الناس" سقط من (خ) و (م) و (ت).

أَهو سُنَّةٌ أَم لَا؟ وَلَا يَشُكُّ أَحد (¬1) أَن غَالِبَ الْعَوَامِّ يَعْتَقِدُونَ أَن مِثْلَ هَذِهِ الأُمور مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ تَرْكِ الْخَوَاصِّ الإِنكار عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ أَيضاً: لمَّا لَمْ يُتَّخَذِ النَّاقُوسُ للإِعلام، حَاوَلَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِمَكِيدَةٍ أُخرى؛ فَعُلِّق بِالْمَسَاجِدِ، واعتُدَّ بِهِ فِي جُمْلَةِ الْالَآتِ الَّتِي تُوقَدُ عَلَيْهَا النِّيرَانَ، وتُزخرف بِهَا الْمَسَاجِدُ، زِيَادَةً إِلى زَخْرَفَتِهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا تُزَخْرَفُ الْكَنَائِسُ والبِيَع. وَمِثْلُهُ: إِيقادُ الشَّمعِ بجبل عرفة (¬2) لَيْلَةَ الثَّامِنِ (¬3)، ذَكَرَ (¬4) النَّوَوِيُّ أَنها مِنَ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ، وأَنها ضَلَالَةٌ فَاحِشَةٌ جُمِعَ فِيهَا أَنواعٌ مِنَ الْقَبَائِحِ؛ مِنْهَا: إِضاعة الْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ، وَمِنْهَا: إِظهار شَعَائِرِ الْمَجُوسِ، وَمِنْهَا: اخْتِلَاطُ الرِّجَالِ والنساءِ، وَالشَّمْعُ بَيْنَهُمْ، وَوُجُوهُهُمْ بَارِزَةٌ، وَمِنْهَا: تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع (¬5). انتهى. وَقَدْ ذَكَرَ الطَّرْطُوشِيُّ (¬6) فِي إِيقاد الْمَسَاجِدِ فِي رَمَضَانَ بَعْضَ هَذِهِ الأُمور، وَذَكَرَ أَيضاً قَبَائِحَ سِوَاهَا. فأَين هَذَا كُلُّهُ مِنْ إِنكار مَالِكٍ تَنَحْنُحَ (¬7) المؤذِّن، أَو ضَرْبِهِ الْبَابَ ليُعْلِمَ بِالْفَجْرِ، أَو وضعَ الرداءِ (¬8)، وَهُوَ أَقرب مَرَامًا وأَيسرُ خَطْباً؟ فمن هنا ¬

(¬1) قوله: "أحد" ليس في (ت). (¬2) في (ت) و (خ) و (م): "إيقاد الشمع بعرفة". (¬3) كذا! والمعروف ليلة التاسع، وهي ليلة عرفة؛ كما ذكره النووي في الموضع الآتي ذكره. (¬4) في (غ): "ذكره". (¬5) انظر: "الإيضاح في مناسك الحج والعمرة" للإمام النووي صفحة (295). (¬6) في كتابه "الحوادث والبدع". (ص103) فما بعد، لكن لم أر له كلاماً عن إيقاد المساجد، وإنما تكلم عن بدع المساجد. (¬7) في (خ): "لتنحنح" وفي (م): "تنحنحن". (¬8) تقدم إنكار مالك صفحة (408 ـ 409).

تنشأْ (¬1) بِدَعٌ مُحْدَثَاتٌ، يَعْتَقِدُهَا الْعَوَامُّ سُنَنًا بِسَبَبِ سكوت العلماءِ والخواص عن الإِنكار، أَو بسبب (¬2) عَمَلِهِمْ بِهَا. وأَما الْمَفْسَدَةُ الْمَالِيَّةُ: فَهِيَ عَلَى فرض (¬3) أَن يكون الناس عالمين (¬4) بحكم المخالفة، وأَنها مخالفة (¬5) قد ينشأُ الصغير على رؤيتها وظهورها، أَو يدخل فِي الإِسلام أَحد مِمَّنْ يَرَاهَا شَائِعَةً ذَائِعَةً فَيَعْتَقِدُونَهَا جَائِزَةً أَو مَشْرُوعَةً؛ لأَن الْمُخَالَفَةَ إِذا فَشَا فِي النَّاسِ فعلُها مِنْ غَيْرِ إِنكار؛ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجَاهِلِ بِهَا فَرْقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ أَو الطَّاعَاتِ (¬6). وَعِنْدَنَا (¬7): كَرَاهِيَةُ العلماءِ أَن يَكُونَ الْكُفَّارُ صَيَارِفَةً فِي أَسواق الْمُسْلِمِينَ؛ لِعَمَلِهِمْ (¬8) بِالرِّبَا، فَكُلُّ مَنْ يَرَاهُمْ مِنَ العامة؛ صيارفةً وَتُجَّارًا فِي أَسواقنا مِنْ غَيْرِ إِنكار؛ يَعْتَقِدُ أَن ذلك جائز؛ كذلك المعصية (¬9). وأَنت تَرَى مَذْهَبَ مَالِكٍ الْمَعْرُوفَ فِي بِلَادِنَا: أَن الحلِيَّ المَصُوغَ (¬10) مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (¬11) لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ إِلا وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيمَةِ الصِّياغة أَصلاً (¬12)، والصَّاغَةُ عندنا كلهم أَو غالبهم إِنما يتبايعون ذلك ¬

(¬1) في (خ) و (ت) و (م): "وأيسر خطباً من أن تنشأ". (¬2) في (ت) و (خ) و (م): "وبسبب". (¬3) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: قوله: "على فرض": ظرف خبر قوله: "فهي"، والجملة من المبتدأ والخبر؛ خبر قوله: "وأما المفسدة المالية".اهـ. (¬4) في (ت) و (م) و (خ): "عاملين". (¬5) قوله: "مخالفة" ليس في (ت) و (خ) و (م). (¬6) في (ر) و (غ): "والطاعات". (¬7) في (ر) و (غ): "فعندنا". (¬8) في (خ): "لعلمهم" وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل أصله: "لعملهم"، أو: "لتعاملهم بالربا". (¬9) قوله: "المعصية" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬10) في (خ) و (م): "الموضوع". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: قوله: "الموضوع": لعل الصواب: "المصنوع". (¬11) في (م): "أو الفضة". (¬12) علق رشيد رضا هنا بقوله: في كتاب "إعلام الموقعين" للمحقق ابن القيم بيان وتحقيق لاعتبار قيمة الصياغة، وجواز بيع الحلي بأكثر من زنته لأجل ذلك. اهـ.

على (¬1) أَن يَسْتَفْضِلوا (¬2) قِيمَةَ الصِّيَاغَةِ أَو إِجارَتَها (¬3)، وَيَعْتَقِدُونَ أَن ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، وَلَمْ يَزَلِ العلماءُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ ومَنْ بَعْدَهُمْ يتحفَّظون مِنْ أَمثال هَذِهِ الأَشياء، حَتَّى كَانُوا يَتْرُكُونَ السُّنن خَوْفًا مِنِ اعْتِقَادِ الْعَوَامِّ أَمراً هُوَ أَشد مِنْ تَرْكِ السُّنَنِ، وأَولى أَن يَتْرُكُوا الْمُبَاحَاتِ أَنْ لَا (¬4) يُعتقد فِيهَا أَمر (¬5) لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ الْبَيَانِ مِنْ كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (¬6) .. فَقَدْ ذَكَرُوا أَن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَليس قَدْ قَصَرْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى! وَلَكِنِّي إِمام النَّاسِ، فَيَنْظُرُ إِليَّ الأَعراب وأَهل الْبَادِيَةِ أُصلي رَكْعَتَيْنِ فَيَقُولُونَ: هَكَذَا فُرِضَتْ الصلاة (¬7) (¬8). قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ (¬9): تأَملوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ! فإِن فِي الْقَصْرِ قَوْلَيْنِ لأَهل الإِسلام: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فريضة، ومن أَتَمَّ فإِنه يأْثم (¬10) وَيُعِيدُ أَبداً. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سُنَّةٌ، يُعِيدُ مَنْ أَتَمَّ فِي الْوَقْتِ؛ ثُمَّ اقْتَحَمَ عُثْمَانُ تَرْكَ الْفَرْضِ أَو السُّنَّةِ (¬11)؛ لَمَّا خَافَ مِنْ سوءِ العاقبة، وأَن (¬12) يعتقد الناس أَن الفرض ركعتان. ¬

(¬1) في (ت) و (خ) و (م): "يتبايعون على ذلك". (¬2) في (ت): "بأن يستفصلوا". (¬3) في (م): "أو إجازتها". (¬4) في (ت): "لئلاّ". (¬5) في (م): "أمراً". (¬6) (4/ 102) وما بعدها. (¬7) قوله: "الصلاة" ليس في (ت) و (خ) و (م). (¬8) تقدم صفحة (344). وعلق عليه رشيد رضا بقوله: تقدم ذكر هذه المسألة مع تنبيه في الحاشية على ما أجابوا به عن عثمان فيها. اهـ. (¬9) في "الحوادث والبدع" (ص43). (¬10) في (ت) و (خ) و (م): "فإنما يتم". (¬11) في (ت): "السنة أو الفرض". (¬12) في (ت) و (خ) و (م): "أن" بدون واو.

وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يُضَحُّون؛ يعني أَنهم لا يلتزمون ذلك (¬1). قال حُذَيْفَةُ بْنُ أَسيد: شَهِدْتُ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَا (¬2) لَا يُضَحِّيان مَخَافَةَ أَن يُرى أَنها وَاجِبَةٌ (¬3). وَقَالَ بِلَالٌ: لَا أُبالي أَن أُضَحِّيَ بكبش (¬4) أَو بِدِيكٍ (¬5). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنه كَانَ يَشْتَرِي لَحْمًا بِدِرْهَمٍ يَوْمَ الأَضحى، وَيَقُولُ لِعِكْرِمَةَ: مَنْ سأَلك فَقُلْ: هَذِهِ أُضحية ابن عباس (¬6). ¬

(¬1) قوله: "ذلك" ليس في (خ) و (ت)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل المفعول وهو "الأضحية" سقط من قلم الناسخ. اهـ. (¬2) قوله: "وكانا" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬3) تقدم تخريجه صفحة (346). (¬4) في (ت) و (خ): "بكبشين". (¬5) أخرجه عبد الرزاق (8156)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 358) من طريق سويد بن غَفَلَة؛ سمعت بلالاً ... ، فذكره ولم يذكر قوله: "بكبش". وإسناده صحيح. وذكره الطرطوشي في "الحوادث" (ص43). (¬6) أثر ابن عباس هذا علّقه الشافعي في "الأم" (2/ 224)، وابن عبد البر في "التمهيد" (3/ 194) عن عكرمة، عن ابن عباس. وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (8146) من طريق أبي معشر، عن رجل مولى لابن عباس؛ قال: أرسلني ابن عباس أشتري له لحماً بدرهمين، وقال: قل: هذه ضحيّة ابن عباس. وسنده ضعيف؛ لضعف أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن السِّندي؛ كما في "التقريب" (7150). وأما شيخه المبهم: فقد أوضحته رواية ابن حزم؛ حيث ذكر في "المحلى" (7/ 358) أنه يرويه من طريق وكيع، عن أبي معشر المديني، عن عبد الله بن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أنه أعطى مولى له درهمين وقال: اشتر بهما لحماً، ومن لقيك فقل: هذه أضحية ابن عباس. وعبد الله بن عمير هذا ثقة، كما في "التقريب" (3537). وأخرجه البيهقي في "سننه" (9/ 265) من طريق أبي محمد يحيى بن منصور القاضي، عن محمد بن عمرو بن النضر الحَرَشي المعروف بقشمرد، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن سلمة بن بخت، عن عكرمة، به.=

وقال [أبو] (¬1) مَسْعُودٍ: إِني لأَترك أُضحيتي ـ وإِني لَمِنْ أَيْسَرِكُم ـ مَخَافَةَ أَن يَظُنَّ الجيران أَنها وَاجِبَةٌ (¬2). وَقَالَ طَاوُسٌ (¬3): مَا رأَيت بَيْتًا أَكثر لَحْمًا وَخُبْزًا وَعِلْمًا (¬4) مِنْ بَيْتِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ، ثُمَّ لَا يذبح يوم العيد! وإِنما كان يَفْعَلُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنها وَاجِبَةٌ، وَكَانَ إِماماً يُقْتَدَى بِهِ. قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ (¬5): وَالْقَوْلُ فِي هَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ، وإِن لأَهل الإِسلام قَوْلَيْنِ فِي الأُضحية. أَحدهما: سُنَّة. وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ، ثُمَّ اقْتَحَمَتِ الصَّحَابَةُ تركَ السُّنَّة حَذَرًا مِنْ أَن يَضَعَ الناسُ الأَمرَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، فيعتقدونها (¬6) فريضة. وقال (¬7) مالك في "الموطأ" (¬8) في صيام ستة أَيام (¬9) بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ: "إِنه لَمْ يَرَ أَحداً مِنْ أَهل الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا". قَالَ: "وَلَمْ يَبْلُغْني ذَلِكَ عَنْ أَحد مِنَ السَّلَف، وإِنّ أَهل الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وأَن يُلْحِق أَهلُ الْجَهَالَةِ والجَفاءِ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ لَوْ رأَوا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً من أَهل العلم، ورأَوهم يفعلون (¬10) ذلك (¬11) ". ¬

=وسنده رجاله ثقات، عدا محمد بن عمرو، فلم أجد من ترجم له، سوى الحافظ ابن حجر فإنه قال في "نزهة الألباب" (2/ 91 ـ 92 رقم 2249): "قَشْمُرَد: هو محمد بن عمرو بن النضر النيسابوري، الحافظ، ويقال له: كشْمُرَد؛ بالكاف". (¬1) في جميع النسخ: "ابن"، وتقدم تصويبه (ص346). (¬2) تقدم تخريجه صفحة (346). (¬3) لم أجد من أخرج قول طاوس هذا، ولكن ذكره الطرطوشي هكذا في "الحوادث والبدع" (ص43)، فالظاهر أن المصنف أخذه عنه. (¬4) في (ت) و (خ) و (م): "وعملاً". (¬5) في "الحوادث والبدع" (ص43 ـ 44). (¬6) في (ر) و (غ): "فيعتقدوها". (¬7) في (خ) و (م) و (ت): "قال". (¬8) (1/ 311)، وانظر ما تقدم (1/ 357 ـ 358)، و (ص347 و355) من هذا المجلد. (¬9) قوله: "أيام" سقط من (خ). (¬10) في (ت) و (م) و (خ): "يقولون". (¬11) في (م): "تلك" بدل "ذلك".

فَكَلَامُ مَالِكٍ هُنَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنه لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ (¬1) كَمَا توهَّم بعضُهم، بَلْ لَعَلَّ كَلَامَهُ مُشْعِرٌ بأَنه يَعْلَمُهُ، لَكِنَّهُ (¬2) لَمْ يَرَ الْعَمَلَ عَلَيْهِ وإِن كَانَ مُسْتَحَبًّا فِي الأَصل؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً لِمَا قَالَ، كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الأُضحية، وَعُثْمَانُ فِي الإِتمام فِي السَّفَرِ (¬3). وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ مَا هُوَ أَغرب مِنْ هَذَا ـ وإِن كَانَ هُوَ الأَصل ـ، فَذَكَرَ: أَن النَّاسَ كَانُوا إِذا صَلّوا فِي الصَّحْن مِنْ جَامِعِ الْبَصْرَةِ أَو الكوفة، وَرَفَعُوا مِنَ السُّجُودِ؛ مَسَحُوا جِباهَهُمْ مِنَ التُّراب؛ كأَنه (¬4) كان مفروشاً بالتراب، فأَمر زياد بإِلقاءِ الحصى في صحن المسجد، وقال: لستُ آمَنُ أَن يَطُولَ (¬5) الزَّمَانُ، فَيَظُنُّ الصَّغِيرُ إِذا نشأَ أَن مَسْحَ الْجَبْهَةِ مِنْ أَثر السُّجُودِ سُنَّة فِي الصَّلَاةِ. وَهَذَا فِي مُبَاحٍ، فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَكْرُوهِ أَو الْمَمْنُوعِ؟ وَلَقَدْ بَلَغَنِي فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ بَعْضِ مَنْ هُوَ حَدِيثُ عهد بالإِسلام أَنه قال في الخمر: إِنها (¬6) لَيْسَتْ بحرامٍ، وَلَا عَيْبَ فِيهَا، وإِنما الْعَيْبُ أَن يُفْعَلَ بِهَا مَا لَا يصلُح؛ كَالْقَتْلِ وشِبْهِه. وَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَوْ كَانَ مِمَّنْ نشأَ في الإِسلام لكان (¬7) كُفْرًا، لأَنه إِنكارٌ لِمَا (¬8) عُلِمَ مِنْ دِينِ الأُمة ضَرُورَةً، وَسَبَبُ ذَلِكَ: تركُ الإِنكار مِنَ الوُلاة عَلَى شَارِبِهَا، والتَّخْلِيَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اقْتِنَائِهَا، وشهرةُ تجارة (¬9) أَهل الذمة فيها، وأَشباه ذلك. ¬

(¬1) يعني: حديث أبي أيوب في فضل صيام ست من شوال، وتقدم تخريجه (ص347). (¬2) في (ر) و (غ): "لكن". (¬3) تقدم تخريجها في الصفحة السابقة والتي قبلها. (¬4) في (ت): "لأنه" بدل "كأنه"، وذكر في الهامش أن في نسخة: "كأنه". (¬5) في (ت) و (خ): "من أن يطول". (¬6) قوله: "إنها" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬7) في (ت) و (خ) و (م): "كان". (¬8) في (غ): "كما". (¬9) كذا في (ر) و (غ)، وفي (م): "بجاره"، أو: "فجاره"، وفي (ت): "وشهرته بحارة"،=

وَلَا مَعْنَى لِلْبِدْعَةِ، إِلا أَن يَكُونَ الْفِعْلُ في اعتقاد المعتقد (¬1) مشروعاً، وليس بمشروع (¬2). وهذا المآل مُتَوَقَّعٌ أَو وَاقِعٌ؛ فَقَدْ حَكَى الْقَرَافِيُّ (¬3) عَنِ العجم ما يقتضي أَن ستة الأَيام مِنْ شَوَّالٍ مُلْحَقَةٌ عِنْدَهُمْ بِرَمَضَانَ؛ لإِبقائهم حَالَةَ رَمَضَانَ الْخَاصَّةَ بِهِ كَمَا (¬4) هِيَ إِلى تَمَامِ السِّتَّةِ الأَيام، وَكَذَلِكَ وَقَعَ عِنْدَنَا مِثْلُهُ، وقد مَرَّ منه (¬5) فِي الْبَابِ الأَول (¬6). وجميعُ هَذَا مَنُوطٌ إِثمه بِمَنْ يَتْرُكُ الإِنكار مِنَ الْعُلَمَاءِ أَو غَيْرِهِمْ، أَو مَنْ (¬7) يَعْمَلُ بِبَعْضِهَا بمرأَى مِنَ النَّاسِ، أَو في جوامعهم (¬8)، فإِنهم الأَصل في انْتِشاءِ (¬9) هذه الاعتقادات في المعاصي أَو غيرها. وإِذا تَقَرَّرَ هَذَا: فَالْبِدْعَةُ تنشأُ عَنْ (¬10) أَربعة أَوجه: أَحدها ـ وَهُوَ أَظهر الأَقسام ـ: أَن يَخْتَرِعَهَا الْمُبْتَدِعُ. وَالثَّانِي: أَن يَعْمَلَ بِهَا الْعَالِمُ عَلَى وجه المخالفة، فيفهمها الجاهل مشروعة. ¬

=أو: "وشهرته لجارة"، ولم تتضح في (خ)، وأثبتها رشيد رضا رحمه الله "وشهرته بحارة" واستشكل معناها وقال: "ينظر ما مراده بهذه الجملة، والظاهر أنه كان لأهل الذمّة في الأندلس حارات يسكنونها وحدهم، أو يكثرون فيها، وأن الخمر كانت تباع فيها؛ كما هي الحال في بعض بلاد المسلمين بالمشرق".اهـ. (¬1) في (ت) و (خ): "المبتدع" بدل "المعتقد". (¬2) في (ت): "وليس هو بمشروع". (¬3) في الفرق الخامس بعد المئة من "كتاب الفروق" (2/ 314)؛ حيث ذكر عن المالكية أن تأخير صيام ستة أيام من شوال أفضل؛ لئلا يتطاول الزمان، فيلحق برمضان عند الجهال. ثم نقل عن شيخه عبد العظيم المنذري أنه قال: إن الذي خشي منه مالك رحمه الله تعالى قَدْ وَقَعَ بِالْعَجَمِ، فَصَارُوا يَتْرُكُونَ المسحِّرين عَلَى عادتهم، والقوانين وشعائر رمضان، إلى آخر الستة الأيام، فحيئذٍ يظهرون شعائر العيد. اهـ. (¬4) في (ت) و (خ) و (م): "الخاصة بكما". (¬5) قوله: "منه" ليس في (خ) و (م) و (ت). (¬6) انظر (1/ 50). (¬7) في (غ): " أو ممن". (¬8) في (ت) و (خ) و (م): "مواقعهم". (¬9) يعني: ابتداء، ويدل عليه كلام المصنف الآتي. ووقع في (ت) و (خ) و (م): "انتشار". (¬10) في (ر) و (غ): "على".

وَالثَّالِثُ: أَن يَعْمَلَ بِهَا الْجَاهِلُ مَعَ سُكُوتِ الْعَالِمِ عَنِ الإِنكار، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَيَفْهَمَ الْجَاهِلُ أَنها لَيْسَتْ بِمُخَالَفَةٍ. وَالرَّابِعُ: مِنْ بَابِ الذرائع، وهو (¬1): أَن يَكُونَ الْعَمَلُ فِي أَصله مَعْرُوفًا، إِلا أَنه يَتَبَدَّلُ الِاعْتِقَادُ فِيهِ مَعَ طُولِ الْعَهْدِ بِالذِّكْرَى (¬2). إِلا أَن هَذِهِ الأَقسام لَيْسَتْ عَلَى وزانٍ واحدٍ، وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْبِدْعَةِ عَلَيْهَا بِالتَّوَاطُؤِ، بَلْ هِيَ فِي القُرب وَالْبُعْدِ عَلَى تَفَاوُتٍ: فالأَول: هُوَ الْحَقِيقُ بِاسْمِ الْبِدْعَةِ، فإِنها تؤخذ عنه (¬3) بِالنَّصِّ عَلَيْهَا. وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الثَّانِي: فإِن الْعَمَلَ يشبه (¬4) التَّنْصِيصُ بِالْقَوْلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَبلغ مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ ـ كَمَا تبَّين فِي الأُصول ـ، غَيْرَ أَنه لا يتنزَّل (¬5) هاهنا من كل وجه منزلته؛ بدليل (¬6): أَن العالِمَ قَدْ يَعْمَلُ وَيَنُصُّ عَلَى قُبح عَمَلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا (¬7): لَا تَنْظُرْ إِلى عَمَلِ الْعَالِمِ، وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحمد أَو غَيْرُهُ: اعْمَلْ بعِلْمِي وَلَا تَنْظُر إِلى عَمَلِي ... يَنْفَعْكَ عِلْمِي وَلا يَضْرُرْكَ (¬8) تَقْصِيرِي (¬9) ¬

(¬1) في (خ) و (م): "وهي". (¬2) في (ت): "بالأصلي" بدل "بالذكرى". (¬3) في (ت) و (خ) و (م): "علة". (¬4) في (خ) و (م): "يشبهه". (¬5) في (ت) و (م) و (خ): "لا ينزل". (¬6) في (خ): "منزلة الدليل". وفي (ت) و (م): "منزلة دليل". (¬7) القائل هو: إياس بن معاوية القاضي، وقوله هذا أخرجه وكيع في "أخبار القضاة" (1/ 350)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (1/ 213 رقم 328)، كلاهما من طريق حماد بن سلمة، عن إياس بن معاوية قال: لا تنظر إلى ما يعمل الفقيه، فإنه يصنع الأشياء يكرهها، ولكن سَلْه يخبرك بالحق. هذا لفظ وكيع، ونحوه لفظ السهمي، إلا أنه قال: "العالم" بدل "الفقيه"، وقال: "ولكن قل له" بدل "ولكن سله". وذكر المزي في "تهذيب الكمال" (3/ 433) أن عمر بن شبّة قال: حدثنا موسى بن إسماعيل؛ قال: حدثنا حماد بن سلمة؛ قال: قال إياس ... ، فذكره مثل لفظ السهمي. وذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 169) معلَّقاً عن إياس. (¬8) في (ت) و (خ) و (م): "يضرك". (¬9) انظر: "جمهرة خطب العرب" (2/ 277).

وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فإِن تَرْكَ الإِنكار ـ مَعَ أَن رُتبة المُنْكِر رتبةُ مَنْ يُعَدُّ (¬1) ذَلِكَ مِنْهُ إِقراراً ـ يَقْتَضِي أَن الْفِعْلَ غيرُ مُنْكَر، ولكن لا يتنزَّل (¬2) مَنْزِلَةَ مَا قَبْلَهُ؛ لأَن الصَّوَارِفَ لِلْقُدْرَةِ كثيرة، فقد (¬3) يَكُونُ التَّرْكُ لِعُذْرٍ؛ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فإِنه لَا عُذْرَ فِي فِعْلِ الإِنسان بِالْمُخَالَفَةِ، مَعَ عِلْمِهِ بكونها مُخَالَفَةً. وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الرَّابِعُ: لأَن الْمَحْظُورَ الحاليَّ فيما تقدم غير واقع (¬4) فيه بالفرض، فلا تبلغ المفسدة المُتَوَقَّعة أَن تُعَدَّ في رُتْبَةَ (¬5) الْوَاقِعَةِ أَصلاً، فَلِذَلِكَ كَانَتْ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ، فَهِيَ إِذاً لَمْ تَبْلُغْ أَن تَكُونَ فِي الْحَالِ بِدْعَةً، فَلَا تَدْخُلُ بِهَذَا النَّظَرِ تَحْتَ حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ. وأَما الْقِسْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: فَالْمُخَالَفَةُ فِيهِ بِالذَّاتِ، وَالْبِدْعَةُ مِنْ خَارِجٍ، إِلا أَنها لَازِمَةٌ لُزُومًا عَادِيًّا، وَلُزُومُ الثَّانِي أَقوى من لزوم الثالث، والله أَعلم. ¬

(¬1) في (ت) و (خ) و (م): "بعد". (¬2) في (ت) و (خ) و (م): "ولكن يتنزل". (¬3) في (خ) و (م): "قد". (¬4) في (غ) يشبه أن تكون "واقف". (¬5) في (ت) و (خ) و (م): "أن تعدّى رتبة".

الباب الثامن في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان

الْبَابُ الثَّامِنُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِدَعِ وَالْمَصَالِحِ المرسلة والاستحسان هَذَا الْبَابُ يُضْطَرُّ إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيمَا هُوَ/ بِدْعَةٌ وَمَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ؛ فإن كثيراً من الناس عدُّوا أكثر (صور) (¬1) الْمَصَالِحِ/ الْمُرْسَلَةِ (¬2) بِدَعًا، وَنَسَبُوهَا إِلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجَعَلُوهَا حُجَّةً فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ (مِنْ) (¬3) اخْتِرَاعِ الْعِبَادَاتِ. وَقَوْمٌ جَعَلُوا الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ بِأَقْسَامِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ؛ فَقَالُوا: إِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ، وعدُّوا مِنَ الْوَاجِبِ كَتْبَ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ، وَمِنَ الْمَنْدُوبِ الِاجْتِمَاعُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى اعْتِبَارِ الْمُنَاسِبِ (¬4) الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَى هَذَا شاهد شرعي على الخصوص، ¬

(¬1) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬2) اختلفت تعريفات الأصوليين للمصلحة المرسلة، وأفضلها هو تعريف الشاطبي والذي سيأتي في (ص8)، والموافقات (1 16)، وانظر بقية التعريفات في المراجع التالية: المستصفى للغزالي (1 286)، وروضة الناظر (ص148)، ومعالم طريقة السلف في أصول الفقه (ص413 ـ 418)، رحلة الحج للشنقيطي (ص175)، رسالة المصالح المرسلة للشنقيطي، منهج الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام (ص340 ـ 348)، وهي رسالة ماجستير بجامعة أم القرى إعداد عبد الرحمن السديس. وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية بكلام مهم في المصالح المرسلة والعمل بها في مجموع الفتاوى (11 342). (¬3) في (م): كلمة غير واضحة. (¬4) المناسب سيذكره الشاطبي مشروحاً (ص7).

ولا كونه (مناسباً) (¬1) بِحَيْثُ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْبِدَعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ؛ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أُمُورٍ فِي الدِّينِ مَصْلَحِيَّةٍ ـ فِي زَعْمِ وَاضِعِيهَا ـ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ حَقًّا، فَاعْتِبَارُ الْبِدَعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ حَقٌّ، لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ. /وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ الْبِدَعِ حَقًّا، لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، بَلْ قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْأُصُولِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْقَاضِي (¬2) وَطَائِفَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى رَدِّهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَصْلٍ، وَذَهَبَ مَالِكٌ (¬3) إِلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ (وَبَنَى) (¬4) الْأَحْكَامَ عَلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْمَعْنَى/ الَّذِي لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ، لَكِنْ بِشَرْطِ قُرْبِهِ مِنْ مَعَانِي الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ، هَذَا مَا حَكَى الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ (¬5). وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ إِنْ وَقَعَ فِي رُتْبَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ لَمْ يُعْتَبَرْ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ أصل لمعين، وَإِنْ/ وَقَعَ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيِّ فَمَيْلُهُ إِلَى قَبُولِهِ، لَكِنْ (بِشَرْطٍ) (¬6). قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يؤدي إليه اجتهاد/ مجتهد. ¬

(¬1) في (ط): "قياسا". (¬2) وهو القاضي الباقلاني ووافقه أكثر الشافعية، والمتأخرون من الحنابلة، وبعض الحنفية. انظر: تيسير التحرير (4 171)، والإحكام للآمدي (4 160). (¬3) ذهب مالك إلى أنه حجة مطلقاً، وهو منقول عن الشافعي في القديم. انظر: شرح تنقيح الفصول (446 ـ 447)، وشرح الإسنوي (3 135). (¬4) في (غ) و (ر): "وبناء". (¬5) انظر: البرهان (2 1113). (¬6) في (غ) و (ر): "بشروط".

وَاخْتَلَفَ (قَوْلُهُ) (¬1) فِي الرُّتْبَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ، وَهِيَ رُتْبَةُ الْحَاجِيِّ (¬2)، فَرَدَّهُ فِي/ الْمُسْتَصْفَى (¬3) وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْهِ، وقبله في شفاء الغليل (¬4) كَمَا قَبِلَ مَا قَبْلَهُ. وَإِذَا اعْتُبِرَ مِنَ الْغَزَالِيِّ اخْتِلَافُ قَوْلِهِ، فَالْأَقْوَالُ خَمْسَةٌ، فَإِذًا الرَّادُّ لِاعْتِبَارِهَا لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْوَقَائِعِ (¬5) الصَّحَابِيَّةِ مستند إلا أنها (بدع) (¬6) / مُسْتَحْسَنَةٌ ـ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الِاجْتِمَاعِ لِقِيَامِ رَمَضَانَ: نِعْمَتِ البدعة هذه ـ إذ لا يمكنهم ردها لإجماعهم عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الِاسْتِحْسَانِ فَإِنَّهُ ـ عَلَى ما (بينه) (¬7) الْمُتَقَدِّمُونَ ـ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَالنَّافِي لَهُ لَا يَعُدُّ الِاسْتِحْسَانَ سَبَبًا، فَلَا يُعْتَبَرُ في الأحكام (الحكمة) (¬8) البتة، فصار كالمصالح المرسلة (إذ) (¬9) قِيلَ بِرَدِّهَا. فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مَزَلَّةَ قَدَمٍ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى بِدْعَتِهِمْ من جهته، كان (من) (¬10) الْحَقُّ الْمُتَعَيَّنُ النَّظَرَ فِي مَنَاطِ الْغَلَطِ الْوَاقِعِ لِهَؤُلَاءِ، حَتَّى (يَتَبَيَّنَ) (¬11) أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْبِدَعِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ، بِحَوْلِ الله، والله الموفق. فنقول:/ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ (¬12) الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ الْحُكْمُ لَا يخلو من ثلاثة أقسام: ¬

(¬2) (¬1) ما بين القوسين ساقط من (م). رتبة الحاجيات: هي ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب. انظر: الموافقات (2/ 4). (¬3) انظر: المستصفى (1 293 وما بعدها). (¬4) انظر: شفاء الغليل (ص209)، وللوقوف على تفصيل مسألة المصالح المرسلة راجع المحصول للرازي (2 218 ـ 225)، والإبهاج (3 177 ـ 188)، وفصلها الواعي في البدعة والمصالح المرسلة (ص241 ـ 287)، وحقيقة البدعة وأحكامها لسعيد الغامدي (2 146 ـ 189). (¬5) في: (م) و (ط) و (خ): "في الواقع له في الوقائع الصحابية". وكذلك في (ت) إلا أنه في هامشها كتب: "بحذف في الواقع له". (¬6) في (ط): "بدعة". (¬7) في (م) وفي (خ): "بياض بقدر كلمة وفي (غ) و (ر): صوّر. (¬8) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (ط) و (غ) و (ر): "إذا". (¬10) ما بين القوسين ساقط من (ط). (¬11) في (م): تبين. (¬12) انظر: رسالة المصالح المرسلة للشنقيطي (ص9)، ورحلة الحج (ص175 ـ 181)،=

أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدَ الشَّرْعُ بِقَبُولِهِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي إِعْمَالِهِ، وَإِلَّا كان مناقضة للشريعة/ (كشرعية) (¬1) الْقِصَاصِ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَغَيْرِهَا. وَالثَّانِي: مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِرَدِّهِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى قَبُولِهِ، إِذِ الْمُنَاسَبَةُ لَا تَقْتَضِي الْحُكْمَ لِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا ذلك مذهب أهل التحسين (والتقبيح) (¬2) الْعَقْلِيِّ (¬3)، بَلْ (إِذَا) (¬4) ظَهَرَ الْمَعْنَى وَفَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ اعْتِبَارَهُ فِي اقْتِضَاءِ الْأَحْكَامِ، فَحِينَئِذٍ نَقْبَلُهُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَصْلَحَةِ عِنْدَنَا:/ مَا (فُهِمَ) (¬5) رِعَايَتُهُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِدَرْكِهِ عَلَى حَالٍ، فَإِذَا لَمْ يَشْهَدِ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِ ذلك المعنى، بل (برده) (¬6) كان مردوداً باتفاق المسلمين. (ومثاله) (¬7) مَا حَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ أنه دخل على ¬

=والمحصول (3 218 ـ 219)، والمدخل لابن بدران (ص293 ـ 294). (¬1) في باقي النسخ ما عدا (غ) و (ر) كشريعة. (¬2) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: "وأما مسألة تحسين العقل وتقبيحه ففيها نزاع مشهور بين أهل السنة والجماعة من الطوائف الأربعة وغيرهم. فالحنفية وكثير من المالكية والشافعية والحنبلية يقولون بتحسين العقل وتقبيحه، وهو قول الكرامية والمعتزلة، وهو قول أكثر الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، وكثير من الشافعية والمالكية والحنبلية ينفون ذلك، وهو قول الأشعرية، لكن أهل السنة متفقون على إثبات القدر ... والمعتزلة وغيرهم من القدرية يخالفون في هذا ... وقد ظن بعض الناس أن من يقول بتحسين العقل وتقبيحه ينفي القدر ويدخل مع المعتزلة في مسألة التعديل والتجوير وهذا غلط بل جمهور المسلمين لا يوافقون المعتزلة على ذلك ولا يوافقون الأشعرية على نفي الحكم والأسباب، بل جمهور طوائف المسلمين يثبتون القدر ويقولون إن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها ... إلخ. انظر مجموع الفتاوى (8 428 ـ 436)، باختصار. وقد فصل الكلام فيها ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة (ص334 ـ 446)، وشفاء العليل (ص391 ـ 434). (¬4) في (غ) و (ر): "بياض بمقدار كلمة" وساقطة من (ر). (¬5) في (غ) و (ر): "فهم الشرع". (¬6) في (ط): "يرده". (¬7) في (ط): "ومثال"

بَعْضِ السَّلَاطِينِ فَسَأَلَهُ عَنِ الْوِقَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: عَلَيْكَ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَلَمَّا خَرَجَ رَاجَعَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (وَقَالُوا لَهُ) (¬1): الْقَادِرُ عَلَى إِعْتَاقِ الرَّقَبَةِ كَيْفَ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى الصَّوْمِ، وَالصَّوْمُ وَظِيفَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَهَذَا الْمَلِكُ يَمْلِكُ عَبِيدًا غَيْرَ مَحْصُورِينَ؟ فَقَالَ (لَهُمْ) (¬2): لَوْ قُلْتُ لَهُ عَلَيْكَ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ لَاسْتَحْقَرَ ذَلِكَ وَأَعْتَقَ عَبِيدًا مِرَارًا، فَلَا يَزْجُرُهُ إِعْتَاقُ الرَّقَبَةِ، وَيَزْجُرُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَهَذَا الْمَعْنَى مُنَاسِبٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنْهَا الزَّجْرُ، وَالْمَلِكُ لَا يَزْجُرُهُ الْإِعْتَاقُ، وَيَزْجُرُهُ الصِّيَامُ. وَهَذِهِ الْفُتْيَا بَاطِلَةٌ/ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ/ بَيْنَ قائلَين: قَائِلٌ بِالتَّخْيِيرِ، وَقَائِلٌ بِالتَّرْتِيبِ، فَيُقَدِّمُ الْعِتْقَ عَلَى الصِّيَامِ، فَتَقْدِيمُ الصِّيَامِ بالنسبة (للغني) (¬3) لَا قَائِلَ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ شَيْءٌ يُشْبِهُ هَذَا، لَكِنَّهُ عَلَى صَرِيحِ الْفِقْهِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ (¬4): "حَنَثَ الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا (على) (¬5) أَنَّ عَلَيْهِ/ عِتْقَ رَقَبَةٍ. فَسَأَلَ مَالِكًا، فَقَالَ: صيام ثلاثة أيام. (فقال: ثم أنا معدم؟ وقال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} فأقمتني مقام المعدم؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين كل ما في يديك ليس لك فعليك صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) (¬6). وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ إِسْحَاقُ بن إبراهيم من فقهاء قرطبة (¬7). ¬

(¬1) في (م) و (غ) و (ر): "وقال". (¬2) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر). (¬3) في (غ) و (ر): "إلى الغني". (¬4) هو: يحيى بن عبد الله بن بكير المصري ولد سنة 155هـ سمع من مالك، والليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهم، وأخرج له الشيخان وابن ماجه، ومات 231هـ. انظر: التاريخ الكبير (8 284)، والجرح والتعديل (9 165)، وسير أعلام النبلاء (10 612)، وتهذيب التهذيب (1 237). (¬5) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬6) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬7) هو: شيخ المالكية بقرطبة، أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مسرة التجيبي، فقيه قدوة، مات في 352هـ، هكذا قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (16 79 ـ 80)، وكرر ترجمته في (16 107)، وذكر أنه توفي في 354هـ، وذكر الضبي ترجمته في بغية الملتمس (1 287)، أنه توفي سنة 352 هـ، ومثله الحميدي في جذوة المقتبس (1 258)، ومثله ابن الفرضي في تاريخ علماء الأندلس (1/ 143).

(حَكَى) (¬1) ابْنُ بِشْكُوَالَ (¬2) أَنَّ الْحَكَمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (¬3) أرسل (للفقهاء) (¬4) وَشَاوَرَهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ نَزَلَتْ بِهِ، (فَذَكَرَ) (¬5) لَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ عَمَدَ إِلَى إِحْدَى كَرَائِمِهِ (¬6) وَوَطِئَهَا فِي رَمَضَانَ؛ فَأَفْتَوْا بِالْإِطْعَامِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَاكِتٌ. فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: مَا يَقُولُ الشَّيْخُ فِي فَتْوَى أَصْحَابِهِ؟ / فَقَالَ لَهُ (إسحاق) (¬7): لَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، وَأَقُولُ بِالصِّيَامِ./ فَقِيلَ لَهُ: أليس مذهب مالك الإطعام؟ فقال لهم: (لم تحفظوا) (¬8) مَذْهَبَ مَالِكٍ، (إِلَا إِنْ كُنْتُمْ) (¬9) تُرِيدُونَ مُصَانَعَةَ أمير المؤمنين (¬10)،/ إنما أمر مالك بِالْإِطْعَامِ لِمَنْ لَهُ مَالٌ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا مال له، إنما هو (مال بيت) (¬11) المسلمين. فأخذ بقوله أمير المؤمنين (وشكره) (¬12) عليه. انتهى. وَهَذَا صَحِيحٌ، نَعَمْ حَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّهُ اتَّفَقَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ مِثْلُ هَذَا فِي رَمَضَانَ، فَسَأَلَ الْفُقَهَاءَ عَنْ تَوْبَتِهِ مِنْ ذلك ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "بياض بمقدار كلمة". (¬2) هو الإمام محدث الأندلس أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال الأنصاري القرطبي، ولد سنة 494هـ؛ وله عدة تصانيف، ومات في سنة 578هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (21 139)، والوفيات لابن خلكان (2 240)، وابن كثير في البداية والنهاية (12 312)، وابن العماد في شذرات الذهب (4 261). (¬3) هو: الحكم بن عبد الرحمن بن محمد المستنصر بالله، كان حسن السيرة، جامعاً للعلم، مكرماً للأفاضل، جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك، ولد في سنة 302هـ، ومات سنة 366هـ. انظر: تاريخ علماء الأندلس (1 31)، وبغية الملتمس (1 40)، وجذوة المقتبس (1 42)، وسير أعلام النبلاء (8 269)، وكررها في (16 230)، ونفح الطيب (1 386). (¬4) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "في الفقهاء". (¬5) في (ت): "وذكر". (¬6) علق رشيد رضا (2 114)، هنا فقال: المراد بكرائمه عقائل نسائه الحرائر، لا بناته كما هو المستعمل في عرف زماننا. (¬7) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تحفظون". (¬9) في (ط) و (ت) و (خ): "أنكم". (¬10) في (م) زيادة: "فقال لهم". وفي (غ) و (ر): "قال لهم". (¬11) في (غ) و (ر): "بيت مال". (¬12) في سائر النسخ ما عدا (ت): "وشكر له".

(وَكَفَّارَتِهِ) (¬1). فَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى (¬2): يُكَفِّرُ ذَلِكَ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَلَمَّا (بَرَزَ) (¬3) ذَلِكَ مِنْ يَحْيَى سَكَتَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالُوا لِيَحْيَى: مَا لَكَ لَمْ تُفْتِهِ بِمَذْهَبِنَا عَنْ مَالِكٍ (مِنْ) (¬4) أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ العتق (والإطعام) (¬5) وَالصِّيَامِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ فَتَحْنَا (لَهُ) (¬6) هَذَا الْبَابَ سَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ كُلَّ يَوْمٍ وَيُعْتِقَ رَقَبَةً، وَلَكِنْ حَمَلْتُهُ عَلَى أَصْعَبِ الْأُمُورِ لِئَلَّا يَعُودَ (¬7). فَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ كَلَامُهُ عَلَى ظاهره، كان مخالفاً للإجماع. (القسم) (¬8) الثَّالِثُ: مَا سَكَتَتْ عَنْهُ الشَّوَاهِدُ الْخَاصَّةُ، فَلَمْ تَشْهَدْ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا بِإِلْغَائِهِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: /أَحَدُهُمَا: (أَنْ) (¬9) يَرِدَ نَصٌّ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ المعنى، كتعليل منع (القاتل الميراث بالمعاملة) (¬10) بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ (عَلَى) (¬11) تَقْدِيرِ أَنْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى وَفْقِهِ، (فَإِنَّ) (¬12) هَذِهِ الْعِلَّةَ لَا عَهْدَ بِهَا فِي تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ بِالْفَرْضِ/ وَلَا (تلائمها) (¬13) بِحَيْثُ يُوجَدُ لَهَا جِنْسٌ مُعْتَبَرٌ، فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهَا، وَلَا بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقٍ، وَمِثْلُ هَذَا تَشْرِيعٌ مِنَ الْقَائِلِ بِهِ/ فَلَا يمكن قبوله. ¬

(¬1) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر). (¬2) هو: يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس بن شملال فقيه الأندلس المصمودي القرطبي، ولد سنة 152هـ، ومات سنة 234هـ. انظر: تاريخ علماء الأندلس (2 898)، وبغية الملتمس (2 685) وجذوة المقتبس (2 609)، وسير أعلام النبلاء (10 519)، وتهذيب التهذيب (11 300)، وغيرها. (¬3) في (ر): "بدر". (¬4) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (ت): "الطعام". (¬6) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬7) انظر القصة في: ترتيب المدارك (2/ 542)، ووفيات الأعيان (6/ 145)، ونفح الطيب (2/ 10 ـ 11). (¬8) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬9) في (م): "ألا". (¬10) في باقي النسخ مع عدا (غ) و (ر): "القتل للميراث فالمعاملة". (¬11) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬12) في (غ) و (ر): "بأن". (¬13) في باقي النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بملائمها".

وَالثَّانِي: أَنْ يُلَائِمَ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى جِنْسٌ اعْتَبَرَهُ (الشَّارِعُ) (¬1) فِي الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ الْمُرْسَلُ (¬2) الْمُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ/ وَلَا بُدَّ مِنْ بَسْطِهِ بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله تعالى. ولنقتصر على عشرة أمثلة: (أَحَدُهَا) (¬3): أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم اتفقوا على جمع (القرآن في) (¬4) الْمُصْحَفِ، وَلَيْسَ ثَمَّ نَصٌّ عَلَى جَمْعِهِ وكَتْبه أَيْضًا، بَلْ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ نَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ/ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَقْتَلَ (أَهْلِ) (¬5) الْيَمَامَةِ، وإذا عنده عمر رضي الله عنه فقال أَبُو بَكْرٍ: (إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ) (5): إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ استحرَّ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يستحرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا، فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ لِي: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لَهُ، وَرَأَيْتُ فِيهِ الَّذِي رَأَى عُمَرُ./ قَالَ زَيْدٌ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا (نَتَّهِمُكَ) (¬6)، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. قَالَ زَيْدٌ: فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ ¬

(¬1) في (م) و (غ) و (ر): "الشرع". (¬2) الاستدلال يقصد به أحد معنيين: أحدهما: مثل الاستصلاح تماماً، والاستصلاح هو: ترتيب الحكم الشرعي على المصلحة المرسلة. فهو ـ كما يقول ابن بدران ـ: اتباع المصلحة المرسلة. والثاني: ما يشمل الأدلة المختلف فيها، وترتيب الأحكام على وفقها كالاستصحاب والاستحسان وغيرهما. انظر: المدخل لابن بدران (ص293)، وضوابط المصلحة للبوطي (ص352). (¬3) في (ط): "المثال الأول". (¬4) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬5) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في (م): "كلمة غير واضحة". وفي (خ): "لا تقصر".

ذَلِكَ. فَقُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ يراجعني في ذلك أبو بكر (وعمر) (¬1) حتى شرح الله صدري للذي شرح (صدورهما له) (¬2) فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب (¬3) واللخاف (¬4) ومن صدور (الرجال) (¬5). (فوجدت آخر سورة براءة مع حذيفة بن ثابت {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} حتى ختم السورة) (¬6). فَهَذَا عَمَلٌ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ خِلَافٌ عَنْ أحد من الصحابة رضي الله عنهم. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ كَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ (مع أهل) (¬7) الْعِرَاقِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ (¬8) وَأَذْرَبِيجَانَ (¬9)، فَأَفْزَعَهُ اخْتِلَافُهُمْ/ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلى حفصة: (أن) (¬10) ¬

(¬1) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في (ط) و (غ) و (ر): "له صدورهما". وفي (خ) و (ت): "صدورهما". (¬3) العسب هو جريد النخل. انظر: لسان العرب مادة عسب. (¬4) اللخاف: بالكسر: هو حجارة بيض عريضة رقاق واحدتها (لخْفة)، انظر: لسان العرب مادة لخف. (¬5) في باقي النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الرجل". (¬6) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر)، والحديث أخرجه البخاري (4986 و7191)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (ص3)، وأبو عبيد في فضائل القرآن (3 ـ 49) (ص152)، وبرقم (8 ـ 49) (ص155)، وأحمد في المسند (77 و21135)، والترمذي (3103)، والنسائي في السنن الكبرى (7995 و8002 و8288)، وأبو بكر المروزي في مسند الصديق (45)، وأبو يعلى في مسنده (64، 65، 71، 91)، وابن أبي داود في المصاحف (12 و13 و14) وابن حبان (4506 و4507)، والطبراني في الكبير (4901 ـ 4903)، والبيهقي في السنن (2202 و20193)، وأخرجه مختصراً جداً أبو علي الأشيب في جزئه (47). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وأهل". (¬8) بفتح الهمزة وقيل بكسرها، بلاد واسعة تقع بين أران وبلاد الكرج والروم والجزيرة وأذربيجان. معجم البلدان (1 160). (¬9) تقع بين أران وإرمينية والجزيرة والعراق وجيلان والديلم، وأهم مدنها تبريز. انظر: معجم البلدان (1 128). (¬10) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).

أَرْسِلِي (إِلَيَّ بِالصُّحُفِ) (¬1) / نَنْسَخُهَا/ فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نردها عليك. فأرسلت حفصة (به) (¬2) إِلَى عُثْمَانَ، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بن العاصي (¬3) وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ (¬4) فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْسَخُوا (الصُّحُفَ) (¬5) فِي الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ:/ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ (أَنْتُمْ) (¬6) وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ؛ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. قَالَ: فَفَعَلُوا، حَتَّى (إِذَا) (¬7) نَسَخُوا (الصُّحُفَ) (¬8) فِي الْمَصَاحِفِ، بَعَثَ عُثْمَانُ فِي كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِنْ تِلْكَ الْمَصَاحِفِ/ الَّتِي نَسَخُوهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ (¬9). فَهَذَا أَيْضًا إِجْمَاعٌ آخَرُ فِي كَتْبِهِ، وَجَمْعِ الناس على قراءة (لا) (¬10) ¬

(¬1) في (م) و (غ) و (ر): "بالصحف". وفي (ت): "بالمصحف" وكتب في هامشها: "بالصحيفة". (¬2) في (م): "بالصحف". وفي (خ) و (ت): "إلي بالمصحف. وفي رواية البخاري والترمذي: إلينا بالصحف. (¬3) هو: سعيد بن العاص بن أبي أحيحة القرشي الأموي، قال أبو حاتم: له صحبة، وقال الذهبي: لم يرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وروى عن عمر وعائشة، وهو مقل. مات سنة 57 أو 58هـ. انظر: التاريخ الكبير (3 502)، وطبقات ابن سعد (5 30)، وتاريخ الطبري (5 293)، ومعجم الطبراني الكبير (6 73). وسير أعلام النبلاء (3 444). (¬4) هو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، قال الذهبي: ولا صحبة لعبد الرحمن، بل له رؤية، وتلك صحبة مقيدة. وروى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وعلي، وأم المؤمنين حفصة، وطائفة ومات قبل معاوية. انظر: التاريخ الكبير (5 272)، وطبقات ابن سعد (5 5)، وسير أعلام النبلاء (3 484). (¬5) في (م) و (خ) و (ت): "المصحف"، وفي (غ) و (ر)، ورواية البخاري والترمذي: الصحف في المصاحف. (¬6) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر). (¬7) زيادة من (ط) و (غ) و (ر). (¬8) في (خ): "المصحف". (¬9) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن (4987)، والترمذي (3104)، والنسائي في السنن الكبرى (7988)، وأبو يعلى (92)، وابن حبان (4507). (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لم".

يحصل منها فِي الْغَالِبِ اخْتِلَافٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا فِي الْقِرَاءَاتِ حَسْبَمَا نَقَلَهُ الْعُلَمَاءُ الْمُعْتَنُونَ بِهَذَا الشَّأْنِ. فَلَمْ يُخَالِفْ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَإِنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ طَرْحِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَصَاحِفِ عُثْمَانَ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَيَا أَهْلَ الْكُوفَةِ اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1)، (فالقوا الله بِالْمَصَاحِفِ) (¬2). فَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي جَمْعِهِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ (أَمْرًا) (¬3) آخَرَ، وَمَعَ ذَلِكَ فقد قال ابن (شهاب) (¬4): بَلَغَنِي أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬5). وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا صَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْهُ مَصْلَحَةً تُنَاسِبُ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ قَطْعًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ/ وَالْأَمْرُ بِحِفْظِهَا مَعْلُومٌ، وَإِلَى مَنْعِ الذَّرِيعَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِهَا الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ عُلم النَّهْيُ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. وَإِذَا اسْتَقَامَ هَذَا الْأَصْلُ فَاحْمِلْ عَلَيْهِ كَتْبَ الْعِلْمِ مِنَ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا، إِذَا خِيفَ عَلَيْهَا الِانْدِرَاسُ، زِيَادَةً عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنَ الْأَمْرِ بكَتْبِ الْعِلْمِ. وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ كَتْبَ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي وَضَعْتُ يَدِي فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُ بَابَ الْبِدَعِ فِي كَلَامِ العلماء مُغْفَلاً جداً إلا من النقل (الجملي) (¬6) / كما (نقل) (¬7) ابن وضاح (¬8)، أو يؤتى (فيه) (¬9) بأطراف من ¬

(¬1) سورة آل عمران: الآية (161). (¬2) في سائر النسخ: "وألقوا إليه بالمصاحف، والمثبت من (غ) و (ر) وسنن الترمذي، والأثر أخرجه الترمذي بعد سياقه للحديث السابق، وأخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (6 ـ 49). (¬3) في (غ) و (ر): "في أمر". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هشام"، والصواب ابن شهاب، وفي الترمذي (3104) قال الزهري. (¬5) انظر: الترمذي (3104). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الجلي". (¬7) في (ر): "فعل". (¬8) الإمام الحافظ المحدث أبو عبد الله محمد بن وضاح المرواني، تقدمت ترجمته (1 39). (¬9) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).

الْكَلَامِ لَا (يَشْفِي) (¬1) الْغَلِيلَ بِالتَّفَقُّهِ فِيهِ/ كَمَا ينبغي، ولم (أجده) (¬2) عَلَى شِدَّةِ بَحْثِي عَنْهُ إِلَّا مَا وَضَعَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ (¬3)، وَهُوَ يَسِيرُ فِي جَنْبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَإِلَّا مَا وَضَعَ النَّاسُ فِي الْفِرَقِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، وَهُوَ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْبَابِ وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فأخذت نفسي بالعناء فيه، عسى (الله أن ينفع) (¬4) به واضعه، وقارئه، وَنَاشِرُهُ، وَكَاتِبُهُ، وَالْمُنْتَفِعُ بِهِ، وَجَمِيعُ (الْمُسْلِمِينَ) (¬5)، إِنَّهُ ولي ذلك ومسديه (بسعة) (¬6) رحمته. /الْمِثَالُ الثَّانِي: اتِّفَاقُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ (¬7)، وَإِنَّمَا مُسْتَنَدُهُمْ فِيهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَصَالِحِ وَالتَّمَسُّكُ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمْ يَكُنْ فِيهِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا جَرَى الزَّجْرُ فِيهِ مَجْرَى التَّعْزِيرِ، وَلَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى أبي بكر رضي الله عنه (قدره) (¬8) عَلَى طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَرْبَعِينَ، ثُمَّ/ انْتَهَى الْأَمْرُ إلى (عمر) (¬9) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَتَابَعَ النَّاسُ، فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عنه/ ¬

(¬1) في (ت): "تشفي". (¬2) في (ط) و (خ) و (ت): "أجد" وفي (ر): "لم أجده". (¬3) في (غ) و (ر): "أبو الوليد الطرطوشي"، والمشهور أنه أبو بكر وهو أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان الأندلسي الطرطوشي، تقدمت (¬4) ترجمة (1 261). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أن ينتفع". (¬6) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر). (¬7) في (م): "سعة". (¬8) ضرب شارب الخمر ثمانين أخرجه من حديث السائب بن يزيد، البخاري برقم (6779) وأحمد (3/ 449) والبيهقي في السنن الكبرى (17314)، وأخرجه من حديث أنس بن مالك، البيهقي في السنن الكبرى (17310 ـ 17313) وأخرجه من حديث عبد الرحمن بن أزهر، أبو داود (4488، 4489) والطبراني في الأوسط (1916) وفي الكبير (1003) والدارقطني في سننه (227) والبيهقي في السنن الكبرى (17315 ـ 17320)، وأخرجه من حديث وبرة الكلبي البيهقي في الكبرى (17317)، وأخرجه من حديث ابن عباس، البيهقي في الكبرى (17321، 17322) وأخرجه من حديث علي بن أبي طالب، البيهقي في الكبرى (17324، 17325) وأخرجه من حديث عبد الله بن أبي الهذيل، البيهقي (17323). (¬9) في (غ) و (ر) و (ط): "قرره". (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عثمان".

مَنْ سَكِرَ (هَذَى) (¬1) وَمَنْ (هَذَى) (13) افْتَرَى، فَأَرَى عَلَيْهِ حَدَّ الْمُفْتَرِي (¬2). وَوَجْهُ إِجْرَاءِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الاستدلال المرسل (¬3) أن الصحابة (رأوا) (¬4) الشَّرْعَ (يُقِيمُ) (¬5) الْأَسْبَابَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَقَامَ الْمُسَبَّبَاتِ، وَالْمَظِنَّةَ مَقَامَ الْحِكْمَةِ، فَقَدْ جَعَلَ الْإِيلَاجَ/ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ يَجْرِي مَجْرَى الْإِنْزَالِ، وَجَعَلَ الْحَافِرَ لِلْبِئْرِ فِي مَحَلِّ الْعُدْوَانِ وَإِنْ لَمْ يكن ثم مُرد كَالْمُرْدِي نَفْسَهُ، وَحَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ حَذَرًا مِنَ الذَّرِيعَةِ إِلَى الْفَسَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ (المسائل) (¬6)، فَرَأَوُا الشُّرْبَ ذَرِيعَةً إِلَى الِافْتِرَاءِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ (كثرة) (¬7) الهذيان (عند السكر) (¬8) فإنه (أول) (¬9) سابق إلى السكران. ¬

(¬1) في (ط): "هذر"، والهذر: الكلام الذي لا يعبأ به، وهو قريب من الهذيان، لأن الهذيان: كلام غير معقول، وهذى: إذا هذر بكلام لا يفهم. انظر: لسان العرب، مادة هذر وهذى. (¬2) انظر: الموطأ (1533)، ومصنف عبد الرزاق (7 378) برقم (13542)، ومسند الشافعي (ص286) وبنحوه أخرجه النسائي في السنن الكبرى (5289) والحاكم (8131، 8132)، وذكر الأثر ابن حجر في التلخيص الحبير (4 75)، وبيّن أنه منقطع من رواية مالك، وقد وصله النسائي والحاكم، وقال: "وفي صحته نظر لما ثبت في الصحيحين عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر"، ولا يقال: يحتمل أن يكون عبد الرحمن وعلي أشارا بذلك جميعاً لما ثبت في صحيح مسلم عن علي في جلد الوليد بن عقبة أنه جلده أربعين وقال: جلد رسول الله أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلُّ سنة، وهذا أحبّ إليّ، فلو كان هو المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر، ولم يعمل بها لكن يمكن أن يقال: إنه قال لعمر باجتهاده، ثم تغير اجتهاده". (¬3) وانظر ما ذكره الغزالي في هذه المسألة، وإجرائها على المصالح المرسلة في: المستصفى (1 305 ـ 306). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أو". (¬5) في (م) و (خ): "تقيم". وفي تعليق المطبوعة (في نسخة ثانية ـ الشريعة تقيم ـ كما يستفاد من هامش الأصل). (¬6) في (ط) و (م) و (خ): "الفساد". وفي (ت): "المفاسد". وصححت في هامشها بـ"المسائل". (¬7) في (م): "كثرة هذا". (¬8) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (م): "أو".

قَالُوا: فَهَذَا مِنْ/ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى (إِسْنَادِ) (¬1) الْأَحْكَامِ إِلَى الْمَعَانِي الَّتِي (لَا أَصُولُ) (¬2) لَهَا ـ يعني على (الخصوص) (¬3) ـ وهو مقطوع (به) (¬4) من الصحابة رضي الله عنهم. المثال الثالث: إن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم قَضَوْا بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا ذَاكَ (¬5). وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ لَهُمْ حَاجَةٌ إِلَى الصُّنَّاعِ، وَهُمْ يَغِيبُونَ عَنِ الْأَمْتِعَةِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَغْلَبُ عَلَيْهِمُ التَّفْرِيطُ، وَتَرْكُ الْحِفْظَ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ تَضْمِينُهُمْ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِهِمْ لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَرْكُ الِاسْتِصْنَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى/ الْخَلْقِ، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا (عند دعواهم) (¬6) الْهَلَاكَ وَالضَّيَاعَ، فَتَضِيعُ الْأَمْوَالُ، وَيَقِلُّ الِاحْتِرَازُ، وَتَتَطَرَّقُ الخيانة، فكانت المصلحة (في) (¬7) التَّضْمِينَ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا (ذَاكَ) (¬8). /وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا (نَوْعٌ) (¬9) من الفساد؛ وهو تضمين البريء، إذ ¬

(¬1) في (م): "إسقاط". (¬2) في (م): "الأصول". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الخصوص به". (¬4) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬5) أخرجه الشافعي في الأم (7/ 96) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (11444). وقال الشافعي: وقد روى من وجهٍ لا يثبت أهل الحديث مثله أن علي بن أبي طالب ضمّن الغسّال والصباغ وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك". وأخرجه من نفس الطريق ابن أبي شيبة (4/ 360) رقم (21051)، وابن حزم في المحلى (8/ 202) وضعف سند الأثر ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 61) ثم ذكر متابعتين للأثر. وانظر مسألة تضمين الصناع والكلام فيها في: المغني (6 105 ـ 115)، والمعيار المعرب (13 162 ـ 171)، والمدونة (3 372 ـ 385). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ذلك بدعواهم". (¬7) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في (م) و (غ) و (ر): "ذلك". (¬9) في (م) و (خ): "النوع".

لَعَلَّهُ مَا أَفْسَدَ وَلَا فَرَّطَ؛ فَالتَّضْمِينُ مَعَ/ (هذا) (¬1) (الإمكان نوع) (¬2) مِنَ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إِذَا تَقَابَلَتِ الْمَصْلَحَةُ والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت، ووقوع التَّلَفِ مِنَ الصُّنَّاعِ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبٍ وَلَا تفريط بعيد، (والغالب) (¬3) (عند فوات) (¬4) الأموال (أنها) (¬5) لَا تَسْتَنِدُ إِلَى التَّلَفِ السَّمَاوِيِّ، بَلْ تَرْجِعُ إلى صنع العباد على (وجه) (¬6) الْمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّفْرِيطِ. وَفِي الْحَدِيثِ: (لَا ضَرَرَ ولا ضرار) (¬7)، وتشهد لَهُ الْأُصُولُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم (نهى) (¬8) أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَقَالَ: (دَعِ النَّاسَ (¬9) يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ) (¬10)، وَقَالَ: (لَا تلقوا الركبان بالبيع، حتى يهبط ¬

(¬1) في (ط) و (ت): "ذلك". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "كان نوعاً". (¬3) في (ت): "وغالب". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الفوت فوت". (¬5) في (ط) و (خ) و (ت): "وأنها". (¬6) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬7) قال الألباني في إرواء الغليل (896): صحيح، روي من حديث عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، جابر بن عبد الله، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة رضي الله عنهم. ثم ساق التخريج مطولاً، وأهم من عزى إليه الحديث هم: ابن ماجه (2340 و2341)، والإمام أحمد في المسند (1 313) و (5 326 ـ 327)، والطبراني في الكبير (3 136 1) و (1 70 1)، وفي الأوسط (1 141)، والدارقطني (522)، والبيهقي في السنن الكبرى (6 69)، ومالك في الموطأ (2 745 31). ثم قال ـ حفظه الله ـ: فهذه طرق كثيرة لهذا الحديث قد جاوزت العشر، وهي وإن كانت ضعيفة مفرداتها؛ فإن كثيراً منها لم يشتد ضعفها، فإذا ضم بعضها إلى بعض تقوى الحديث ... انظر: الإرواء (3 408 ـ 414). (¬8) في (ط) و (م): "نهى عن". (¬9) في (ت): "الناس في غفلاتهم". (¬10) هذا الحديث أخرجه جم كبير من أهل العلم، منهم البخاري في الصحيح (2158 ـ 2163)، ومسلم (1413 و1515 و1520 ـ 1523)، ومالك في الموطأ (1366) وأبو داود الطيالسي (1752 و1930) وأحمد في المسند (1 163 و368) (2 42 و153 و238 و243 و254 و274 و379 و394 و402 و420 و465 و481 و484، و487 و491، 501 و512 و525)، (3 307 و312 و386 و392)، (4 314)، (5 11)، وإسحاق بن راهويه (159)، وابن الجعد (2637 و2775 و3014)، وابن ماجه (2175 ـ 2177)، والترمذي (1222 و1223)، والنسائي (3239 و4492 ـ 4497=

بِالسِّلَعِ (إِلَى) (¬1) الْأَسْوَاقِ) (¬2) وَهُوَ مِنْ بَابِ تَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ، فَتَضْمِينُ الصُّنَّاعِ من ذلك القبيل. /الْمِثَالُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الضَّرْبِ بِالتُّهَمِ (¬3)، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ السَّجْنِ فِي التُّهَمِ (¬4)، وَإِنْ كَانَ السَّجْنُ نَوْعًا مِنَ الْعَذَابِ/، وَنَصَّ أَصْحَابُهُ عَلَى جَوَازِ الضَّرْبِ (¬5)، وَهُوَ عِنْدَ الشُّيُوخِ مِنْ قَبِيلِ تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ ¬

=و4500 و4502 و4506 و4507)، وابن الجارود في المنتقى (563 و573 و577)، وأبو يعلى (643 و644 و1839 و2169 و2767 و2776 و2838 و5807 و5884 و5887 و6187 و6345)، وابن حبان (4960 ـ 4967)، والطبراني في الصغير (466)، وفي الأوسط (1139)، وفي الكبير (6930 و7487 و10923 و13280 و13545 و13547) وغيرهم. من حديث جابر رضي الله عنه، بلفظ: (لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض). (¬1) ساقطة من (م) و (غ) و (ر). (¬2) أخرجه البخاري (2165)، ومسلم (1517)، ومالك (1366)، وأحمد (2 156 و394 و465)، (4 314)، وابن ماجه (2179)، وأبو داود برقم (3436)، والنسائي (4487 و4496)، وأبو يعلى (6321 و6345)، والدارقطني (3 275)، والبيهقي في السنن الكبرى (10697) وغيرهم. (¬3) اختلف العلماء، في الإقرار بالإكراه سواء كان الإكراه بالضرب أو بغيره على قولين: الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية إلى إلغاء الإقرار وعدم ترتب أي أثر عليه. الثاني: مذهب المالكية في العموم، عدم لزوم الإقرار للمستكره بغير حق؛ أي أن المستكره بعد زوال الإكراه مخير بين أن يجيز الإقرار وبين ألا يجيزه. انظر عدد من المسائل في الضرب بالتهم في: المعيار المعرب (2 379 ـ 380 و403 و433 ـ 434)، وانظر: جامع أحكام القرآن للقرطبي (10 118 ـ 125) في تفسير سورة النحل: الآية (106)، وأحكام القرآن لابن العربي (1 233 ـ 234)، في تفسير سورة البقرة: الآية (356) وفي (3 1086)، في تفسير سورة يوسف: الآية (33) وفي (3 1176)، في تفسير سورة النحل: الآية (106)، وفي (3 1297 ـ 1298)، في تفسير سورة الحج: الآية (40)، وراجع المستصفى للغزالي (1 141). وتفصيل الخلاف في الفقه الإسلامي للزحيلي (5 408 ـ 409). (¬4) انظر تفصيل المسألة في: الطرق الحكمية لابن القيم (ص110 وما بعدها). (¬5) وذكر الغزالي أن مالكاً قال بجواز ضرب المتهم للاستنطاق، انظر: المستصفى (1 141).

لَمْ (يَكُنِ) (¬1) (الضَّرْبُ وَالسَّجْنُ) (¬2) بِالتُّهَمِ لَتَعَذَّرَ اسْتِخْلَاصُ الْأَمْوَالِ مِنْ أَيْدِي السرَّاق، والغصَّاب، إِذْ قَدْ يَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي التَّعْذِيبِ وسيلة إلى التحصيل بالتعيين (أو) (¬3) الإقرار. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَتْحُ بَابِ (تَّعْذِيبِ) (¬4) الْبَرِيءِ. (قِيلَ) (¬5): (فَفِي) (¬6) الْإِعْرَاضِ عَنْهُ إِبْطَالُ اسْتِرْجَاعِ الْأَمْوَالِ، بَلِ الْإِضْرَابُ عَنِ التَّعْذِيبِ أَشَدُّ ضَرَرًا، إِذْ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ (لِمُجَرَّدِ) (¬7) الدَّعْوَى، بَلْ مَعَ اقْتِرَانِ (قَرِينَةٍ) (¬8) تَحِيكُ فِي النَّفْسِ، وَتُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ نَوْعًا مِنَ الظَّنِّ؛ فَالتَّعْذِيبُ ـ فِي الْغَالِبِ ـ لا يصادف البريء، وإن أمكن مصادفته (فمغتفر) (¬9)، كما اغتفر فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ. فَإِنْ قِيلَ:/ لَا فَائِدَةَ (فِي الضَّرْبِ) (¬10)، وَهُوَ لَوْ أَقَرَّ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. فَالْجَوَابُ: إِنَّ لَهُ فائدتين (¬11): أحدهما: أَنْ يُعَيِّنَ الْمَتَاعَ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لِرَبِّهِ، وَهِيَ/ فَائِدَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يَزْدَجِرُ حَتَّى لَا يَكْثُرَ الْإِقْدَامُ/ فَتَقِلَّ أَنْوَاعُ هَذَا الْفَسَادِ. /وَقَدْ عَدَّ لَهُ سَحْنُونُ (¬12) فَائِدَةً ثالثة: وهو الإقرار حالة التعذيب؛ ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "يثبت". (¬2) في (ر): كتبت هكذا: (السجنخ والضربق) إشارة إلى تقديم كلمة (الضرب) على كلمة (السجن). (¬3) في (ط) و (خ): "و". (¬4) في (ط): "التعذيب". وفي (ت): "لتعذيب". (¬5) ما بين القوسين ساقط من (غ). (¬6) في (ت): "في". (¬7) في (غ) و (ر): "بمجرد". (¬8) في (غ) و (ر): "تهمة". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فتغتفر". (¬10) في (غ) و (ر): "للضرب". (¬11) في (ت): "فائدتان". (¬12) هو: فقيه المغرب أبو سعيد، عبد السلام بن حبيب بن حسان التنوخي تقدمت ترجمته.

(فإنه) (¬1) يؤخذ عنده بما (أقر) (¬2) (به) (¬3) فِي تِلْكَ الْحَالِ. قَالُوا: وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (¬4) (وَلَكِنْ) (¬5) / نَزَّلَهُ سَحْنُونُ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ، أَمَّا إِذَا أُكْرِهَ بِطْرِيقٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ يؤخذ به كالكافر يُسْلِمُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهِ، وقد تتفق له (هذه) (¬6) الْفَائِدَةِ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِ سَحْنُونَ إِذَا أَقَرَّ حَالَةَ التَّعْذِيبِ ثُمَّ تَمَادَى عَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَ أمنه، فيؤخذ به. قال الغزالي ـ بعد ما حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ ـ: وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ـ قَالَ ـ: ولسنا نحكم (ببطلان مذهب) (¬7) مَالِكٍ عَلَى الْقَطْعِ، فَإِذَا وَقَعَ النَّظَرُ فِي تَعَارُضِ الْمَصَالِحِ، كَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنَ النَّظَرِ في تعارض الأقيسة المؤثرة. المثال الخامس: إنا إذا (قدَّرنا) (¬8) إِمَامًا مُطَاعًا (مُفْتَقِرًا) (¬9) إِلَى تَكْثِيرِ الْجُنُودِ لِسَدِّ الثُّغُورِ وَحِمَايَةِ الْمُلْكِ الْمُتَّسِعِ الْأَقْطَارِ، وَخَلَا بَيْتُ المال (عن الْمَالِ) (¬10)، (وَارْتَفَعَتْ) (¬11) حَاجَاتُ الْجُنْدِ إِلَى مَا (لَا) (¬12) يَكْفِيهِمْ، فَلِلْإِمَامِ إِذَا كَانَ عَدْلًا أَنْ يُوَظِّفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مَا يَرَاهُ كَافِيًا لَهُمْ فِي الحال، إلى أن يظهر مال (في) (¬13) بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ إِلَيْهِ النَّظَرُ فِي تَوْظِيفِ ذَلِكَ عَلَى الْغَلَّاتِ وَالثِّمَارِ (أَوْ) (¬14) غَيْرِ ذَلِكَ، كَيْلَا يُؤَدِّيَ تَخْصِيصُ النَّاسِ بِهِ (إِلَى) (¬15) إِيحَاشِ الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ يَقَعُ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ، بِحَيْثُ لا يجحف بأحد ويحصل ¬

(¬1) في (ط): "بأنه". (¬2) في (ط): "أقد". (¬3) ما بين القوسين زيادة من (غ). (¬4) سورة البقرة: الآية (256). (¬5) في (غ) و (ر): "وقد". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ): "بهذه". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بمذهب". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (م): "قررنا". (¬9) في (م): "مفتقر". (¬10) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬11) في (غ): "وارهقت". (¬12) زيادة من (ط). (¬13) زيادة من (غ) و (ر). (¬14) في (ط): "و". (¬15) زيادة من (ط) و (خ) و (غ) و (ر).

(الْغَرَضُ) (¬1) الْمَقْصُودُ. /وَإِنَّمَا لَمْ يُنْقَلْ مِثْلُ (هَذَا) (¬2) عَنِ الْأَوَّلِينَ لِاتِّسَاعِ (مَالِ) (¬3) بَيْتِ الْمَالِ فِي زمانهم بخلاف زماننا؛ فإن القضية فيه (أخرى) (¬4)، وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ هَنَا/ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يفعل الإمام ذلك (لانحلَّ) (¬5) النظام (وبطلت) (¬6) شَوْكَةُ الْإِمَامِ، وَصَارَتْ دِيَارُنَا عُرْضَةً لِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ. وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام (بعدته) (¬7) (فالذين يحذرون) (¬8) من الدواهي لو (تنقطع) (¬9) عَنْهُمُ الشَّوْكَةُ، (يَسْتَحْقِرُونَ) (¬10) بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهَا أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا، فَضْلًا عَنِ الْيَسِيرِ/ مِنْهَا، فَإِذَا عُورِضَ هَذَا الضَّرَرُ الْعَظِيمُ بِالضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهُمْ بِأَخْذِ الْبَعْضِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلَا يُتَمَارَى فِي تَرْجِيحِ الثَّانِي (على) (¬11) الْأَوَّلِ/ وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ مَقْصُودِ الشَّرْعِ قبل النظر في الشواهد (والملاءمة) (¬12) (ألا ترى) (¬13) أَنَّ الْأَبَ/ فِي طِفْلِهِ، أَوِ الْوَصِيَّ فِي يَتِيمِهِ، أَوِ الْكَافِلَ فِيمَنْ يَكْفُلُهُ، مَأْمُورٌ بِرِعَايَةِ الْأَصْلَحِ لَهُ، وَهُوَ يَصْرِفُ مَالَهُ إِلَى وُجُوهٍ مِنَ النَّفَقَاتِ أَوِ الْمُؤَنِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، وَكُلُّ مَا يَرَاهُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ مَالِهِ أَوْ حِرَاسَتِهِ مِنَ التَّلَفِ جَازَ لَهُ بَذْلُ الْمَالِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَمَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَامَّةٌ لَا تَتَقَاصَرُ عَنْ مَصْلَحَةِ طِفْلٍ، وَلَا نَظَرُ (إِمَامِ) (¬14) الْمُسْلِمِينَ (يَتَقَاعَدُ) (¬15) عَنْ نَظَرِ وَاحِدٍ مِنَ الْآحَادِ فِي حَقِّ محجوره. ¬

(¬1) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬2) في (غ) و (ر): "ذلك". (¬3) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (خ) و (ط) و (م): "أحرى" وكذا في (ت) لكنها صححت في الهامش بـ"أخرى". (¬5) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بطلت". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بعدله". (¬8) في (م): "فالذي يحذر". (¬9) في (م): "انقطع". وفي (غ) و (ر): "انقطعت". (¬10) في (م) و (غ) و (ر): "يستحقر". (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عن". (¬12) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والملاءمة الأخرى". (¬14) في (غ) و (ر): "لإمام". (¬15) في (غ) و (ر): "يتقا".

ولو وطئ الكفار أرض الإسلام لوجب (على الكافة) (¬1) بِالنُّصْرَةِ، وَإِذَا دَعَاهُمُ الْإِمَامُ وَجَبَتِ الْإِجَابَةُ، وَفِيهِ (إِتْعَابُ) (¬2) النُّفُوسِ وَتَعْرِيضُهَا إِلَى الْهَلَكَةِ، زِيَادَةً إِلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِحِمَايَةِ الدِّينِ، وَمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا قَدَّرْنَا هُجُومَهُمْ، وَاسْتَشْعَرَ الْإِمَامُ فِي الشَّوْكَةِ ضَعْفًا وَجَبَ عَلَى الْكَافَّةِ إِمْدَادُهُمْ، كَيْفَ وَالْجِهَادُ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاجِبٌ عَلَى الْخَلْقِ (¬3). وَإِنَّمَا يَسْقُطُ (بِاشْتِغَالِ) (¬4) الْمُرْتَزَقَةِ (بِهِ) (¬5)، فَلَا يُتَمَارَى فِي بَذْلِ الْمَالِ لِمِثْلِ ذَلِكَ. (وَإِذَا) (¬6) قَدَّرْنَا انْعِدَامَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ/ (يُخَافُ) (¬7) مِنْ جِهَتِهِمْ، فَلَا يُؤْمَنُ (مِنَ) (¬8) انْفِتَاحِ بَابِ الْفِتَنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا كَمَا كَانَتْ، وَتَوَقُّعُ الْفَسَادِ عَتِيدٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْحُرَّاسِ. فَهَذِهِ مُلَاءَمَةٌ صَحِيحَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا فِي مَحَلِّ ضَرُورَةٍ، فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْحُكْمُ إِلَّا مَعَ وُجُودِهَا، وَالِاسْتِقْرَاضُ فِي (الْأَزَمَاتِ) (¬9) إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ (يُرْجَى) (¬10) / لِبَيْتِ الْمَالِ دَخْلٌ يُنْتَظَرُ أَوْ يُرْتَجَى، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُنْتَظَرْ شَيْءٌ وَضَعُفَتْ وُجُوهُ الدَّخْلِ (بِحَيْثُ) (¬11) لَا يُغْنِي كَبِيرُ شَيْءٍ، فلا بد من جريان حكم التوظيف. ¬

(¬1) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في (غ) و (ر): "إتباع". (¬3) اختلف العلماء في وجوب الجهاد على المسلمين في كل عام على قولين: الأول: الجمهور على أن غزوة واحدة في العام تسقط الفريضة، والباقي تطوع، وحجتهم على ذلك أن الجزية تجب بدلاً عن الجهاد، والجزية لا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقاً، فليكن بدلها كذلك. الثاني: أنه يجب غزو الكفار في عقر دارهم كلما أمكن ذلك من غير تحديد، وقوى هذا المذهب ابن حجر. انظر أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية (ص131 ـ 133)، وانظر مصادره التالية: المبسوط للسرخسي (10 3)، وتفسير القرطبي (8 152)، وفتح الباري (6 28). (¬4) في (غ) و (ر): "لاشتغال". (¬5) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): "وإن". (¬7) في (غ) و (ر): "نخاف". (¬8) ما بين القوسين ساقط من (خ) و (ت) و (غ) و (ر). (¬9) في (غ) و (ر): "الأوقات". (¬10) في (غ) و (ر): "يرجى أن يكون". (¬11) في (ط): "بحديث".

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَصَّ عَلَيْهَا الْغَزَالِيُّ فِي مَوَاضِعَ من كتبه (¬1)، وَتَلَاهُ فِي تَصْحِيحِهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ (¬2) لَهُ، وَشَرْطُ جَوَازِ/ ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَهُمْ عَدَالَةُ الْإِمَامِ، وَإِيقَاعُ التَّصَرُّفِ فِي أَخْذِ الْمَالِ (وإعطائه) (¬3) على الوجه المشروع (والله أعلم) (¬4). الْمِثَالُ السَّادِسُ: أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات (¬5)، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ (¬6). عَلَى أَنَّ الطَّحَاوِيَّ حَكَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِهِ (¬7). فَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ/ قَبِيلِ الْغَرِيبِ الَّذِي لَا عَهْدَ بِهِ/ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يُلَائِمُ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الْخَاصَّةَ لَمْ تَتَعَيَّنْ، لِشَرْعِيَّةِ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِالسِّجْنِ وَالضَّرْبِ (وَغَيْرِهِمَا) (¬8). قَالَ:/ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَاطَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي مَالِهِ، حَتَّى أَخَذَ رَسُولُهُ (فَرْدَ) (¬9) نَعْلِهِ وَشَطْرَ عِمَامَتِهِ (¬10). قُلْنَا: الْمَظْنُونُ مِنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِعِ الْعِقَابَ بِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى خِلَافِ الْمَأْلُوفِ مِنَ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِعَلَمِ عُمَرَ (باختلاط ماله) (¬11) بالمال/ المستفاد من الولاية وإحطاته بتوسعته (ولعله سبر) (¬12) المال فرأى شطر ماله ¬

(¬1) انظر: المستصفى (1 303 ـ 304). (¬2) أحكام القرآن (1/ 460). (¬3) ساقط من (ت). (¬4) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬5) هكذا في (ط) و (م) و (غ) و (ر)، وعلق رشيد رضا فقال: ينظر أين جواب (لو)، وما موقع الفاء في قوله (فاختلف العلماء). (¬6) انظر: شفاء الغليل (1 243). (¬7) انظر: شرح معاني الآثار (3 145). (¬8) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬9) في (ط) و (خ): "برد". (¬10) انظر: تاريخ ابن جرير (3 436 ـ 437). (¬11) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "باختلاطهما له". (¬12) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "فلعله ضمن".

مِنْ فَوَائِدَ الْوِلَايَةِ، فَيَكُونُ اسْتِرْجَاعًا لِلْحَقِّ لَا عُقُوبَةً فِي الْمَالِ، لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْغَرِيبِ الَّذِي لَا يُلَائِمُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ هَذَا مَا قال. (وَلِمَا فَعَلَ) (¬1) عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجْهٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا، وَلَكِنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْعُقُوبَةِ (بِالْمَالِ) (¬2)، كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ. /وَأَمَّا مذهب مالك رحمه الله (¬3)، فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ فِي الْمَالِ عِنْدَهُ (ضَرْبَانِ) (¬4): أَحَدُهُمَا: كَمَا صَوَّرَهُ الْغَزَالِيُّ، فَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، عَلَى أَنَّ ابْنَ الْعَطَّارِ (¬5) فِي (وثائقه) (¬6) صغى إلى إجازة ذلك، فقال: في (إجارة) (¬7) أَعْوَانِ الْقَاضِي إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ، أنها على الطالب، فإن (أدين) (¬8) المطلوب كانت الإجارة عَلَيْهِ. وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ (¬9)، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ (ابن الفخار) (¬10) القرطبي وقال: إن ¬

(¬1) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب: ولفعل عمر ... إلخ. أو يكون المعنى: (وللذي فعل عمر ... ) باعتبار (ما): موصولة. (¬2) في (غ) و (ر): "في المال". (¬3) مسألة التعزير بالعقوبات المالية بسطها ابن القيم رحمه الله تعالى في الطرق الحكمية (ص273 ـ 277). (¬4) في (غ) و (ر): "على ضربين". (¬5) هو محمد بن أحمد بن عبد الله المعروف بابن العطار، كان فقيهاً نحوياً، وكان يزري بأصحابه المفتين، فحملوا عليه بالعداوة، توفي سنة 399هـ. انظر: ترتيب المدارك (4 650)، والديباج المذهب (2 231). (¬6) في (ط): "رقائقه". وهو خطأ، والصواب (وثائقه) كما في (م) و (خ) و (ت) و (غ) و (ر)، وفي معلمة الفقه المالكي (ص21): (الوثائق: هي العقود التي يسجلها الموثقون العدول) وهي كثيرة جداً في المغرب وبلاد الأندلس. انظر: المصدر السابق (ص21 ـ 23). (¬7) في (ط) و (خ) و (ت): "إجازة". (¬8) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "كلمة غير واضحة". وفي (ر): "لدّ". (¬9) هو: أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي (الجد)، وهو شارح العتبية المسمى (البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل)، توفي سنة 520هـ. انظر: بغية الملتمس (1 74)، وأزهار الرياض (3 59)، والسير (19 501)، وشذرات الذهب (4 62). (¬10) في (خ) و (ط): "ابن النجار". والصواب: "ابن الفخار" وهو: محمد بن عمر بن=

ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى حَالٍ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جِنَايَةُ الْجَانِي فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْمَالِ أَوْ فِي عِوَضِهِ، فَالْعُقُوبَةُ فِيهِ عِنْدَهُ ثَابِتَةٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الزَّعْفَرَانِ الْمَغْشُوشِ إِذَا وُجِدَ بِيَدِ الَّذِي غَشَّهُ: إِنَّهُ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ. (وَذَهَبَ) (¬1) ابْنُ الْقَاسِمِ (¬2)، وَمُطَرِّفٌ (¬3)، وَابْنُ الْمَاجِشُونَ (¬4) إِلَى أَنَّهُ يُتَصَدَّقُ بِمَا قَلَّ منه دون ما كثر. وذلك محكي (نحوه) (¬5) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ أَرَاقَ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ بِالْمَاءِ (¬6)، وَوَجَّهَ ذَلِكَ التَّأْدِيبَ لِلْغَاشِّ، وَهَذَا التَّأْدِيبُ لَا نَصَّ يَشْهَدُ له (ولكنه) (¬7) مِنْ بَابِ الْحُكْمِ عَلَى الْخَاصَّةِ لِأَجْلِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ، فِي مَسْأَلَةِ تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ (¬8). ¬

=يوسف المالكي القرطبي أبو عبد الله كان من أهل العلم والذكاء والحفظ والفهم. مات عام 419هـ. ترجمته في: الصلة لابن بشكوال (2/ 747)، والديباج المذهب (2/ 235). (¬1) في (خ): "ذهب". (¬2) هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة أبو عبد الله تلميذ الإمام مالك وعالم ديار مصر ومفتيها، تقدمت ترجمته (1 79). (¬3) لم يحدد من هو، وفي تاريخ علماء الأندلس (11) شخصاً اسمه (مطرف)، وكلهم متقاربون في الذكر بالفقه والعلم. انظر: المصدر السابق (2 833 ـ 837). (¬4) هو: أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، تلميذ الإمام مالك رحمه الله، توفي سنة 213هـ وقيل سنة 214هـ، وقال المعلق على السير: (والماجشون: بكسر الجيم وفتحها وضمها، وعلى كسرها اقتصر السمعاني في الأنساب، وابن خلكان في الوفيات، والنووي في شرح مسلم، وابن حجر في التقريب، وابن فرحون في الديباج المذهب، وفي شرح الشفاء: معناه: الأبيض المشرب بحمرة، معرب (ماه كون) معناه: لون القمر. انظر: شرح القاموس (4 348). انظر: السير (10 359)، وطبقات ابن سعد (5 442)، وترتيب المدارك (2 360)، ووفيات الأعيان (3 166)، وتهذيب التهذيب (6 408). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) ذكر ابن تيمية أن مالك روى عن عمر بن الخطاب أنه طرح اللبن المغشوش بالماء، انطر: مجموع الفتاوى (28/ 115)، وذكره ابن القيم في الطرق الحكمية (ص275). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لكن". (¬8) انظر: (ص18).

عَلَى أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ اللَّخْمِيَّ (¬1)، قَدْ وَضَعَ له أصلاً شرعياً، وذلك أنه/ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي (أُغْلِيَتْ) (¬2) بِلُحُومِ الْحُمُرِ قَبْلَ أَنْ تُقَسَّمَ (¬3)، وَحَدِيثُ الْعِتْقِ بِالْمُثْلَةِ (¬4) (أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ) (¬5). وَمِنْ مَسَائِلِ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ: (إذا) (¬6) اشترى مسلم/ من نصراني خمراً (فإنها تكسر) (¬7) عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيُتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ أَدَبًا لِلنَّصْرَانِيِّ/ إِنْ كَانَ النَّصْرَانِيُّ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَرَّعَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ كُلُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ، إِلَّا أَنَّ وَجْهَهُ مَا تقدم. /الْمِثَالُ السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ طَبَّقَ الْحَرَامُ الْأَرْضَ، أَوْ نَاحِيَةً مِنَ الْأَرْضِ يَعْسُرُ الِانْتِقَالُ (مِنْهَا) (¬8) وَانْسَدَّتْ طُرُقُ الْمَكَاسِبِ (الطَّيِّبَةِ) (¬9)، ومسَّت الْحَاجَةُ إِلَى الزيادة ¬

(¬1) هو: علي بن موسى بن زياد اللخمي، من أهل قرطبة، يكنى أبا الحسن، توفي بعد السبعين وثلثمائة. انظر: تاريخ علماء الأندلس (2 533). (¬2) في (غ) و (ر): "غليت". (¬3) أخرجه البخاري برقم (2477، 4196، 5496. 6148، 6891)، ومسلم (1937 ـ 1938)، وأحمد في المسند (2 21 و143)، (3 125 و164)، (4 291، 354 و356)، وابن ماجه (3196)، وأبو يعلى (1728 و2828 و5526)، وابن حبان (5274)، والبيهقي في السنن الكبرى (19238 و19245 و19246 و19250). (¬4) وردت عدة أحاديث في العتق بالمُثلة، منها ما أخرجه ابن ماجه (2680)، وأبو داود برقم (4519)، أنه جاء رجل مستصرخ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: (ما لك؟ قال: شر، أبصر لسيده جارية له فغار، فجبَّ مذاكيره. فقال: اذهب فأنت حر، قال: يا رسول الله، على من نصرتي؟ قال: نصرتك على كل مسلم)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، وذكر ابن سعد في الطبقات (7 505)، أن اسم العبد هو سندر، وذكر الحديث السابق فيه، وأخرج الحاكم في المستدرك (8102)، من حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: (من مثَّل بعبده فهو حر وهو مولى الله ورسوله)، وقال الذهبي: "حمزة هو النصيبي يضع الحديث". وفي الباب عن سمرة بن جندب وأبي هريرة، انظرها في: جامع الأصول (8 76 ـ 78) ونصب الراية (4 176). (¬5) في (ت): "من ذلك أيضاً". (¬6) في (غ) و (ر): "ما إذا". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فإنه يكسر". (¬8) في (م) و (غ) و (ر): "عنها". (¬9) في (م): "الطيب".

عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَائِغٌ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَيَرْتَقِيَ إِلَى قَدْرِ الحاجة في الوقت والملبس والمسكن، إذ لو (اقتصروا) (¬1) عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ لَتَعَطَّلَتِ الْمَكَاسِبُ وَالْأَشْغَالُ/، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ فِي مُقَاسَاةِ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَهْلِكُوا، وَفِي ذَلِكَ خَرَابُ الدِّينِ، لَكِنَّهُ لَا ينتهي إلى (مقدار) (¬2) التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ، كَمَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مِقْدَارِ الضَّرُورَةِ. وَهَذَا مُلَائِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى عَيْنِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَجَازَ أَكْلَ/ الْمَيْتَةِ (لِلْمُضْطَرِّ) (¬3)، وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ الشِّبَعِ عِنْدَ تَوَالِي الْمَخْمَصَةِ (¬4)، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ (تَتَوَالَ) (¬5) هَلْ يَجُوزُ لَهُ الشِّبَعُ أَمْ لَا؟ وَأَيْضًا فَقَدَ أَجَازُوا أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَيْضًا، فَمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ بَسَطَ الْغَزَالِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْإِحْيَاءِ بَسْطًا شَافِيًا جداً (¬6)، وذكرها (أيضاً) (¬7) في كتبه الأصولية كالمنخول (¬8)، وشفاء (الغليل) (¬9). الْمِثَالُ الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَالْمُسْتَنَدُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ؛ إِذْ لَا نَصَّ عَلَى عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنَّهُ (مَنْقُولٌ) (¬10) عَنْ عُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه (¬11)، ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "اقتصر". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) ساقطة من (غ) و (ر). (¬4) انظر: أحكام القرآن (1 55)، في تفسير سورة البقرة: الآية (173). (¬5) في (م) و (ت): "تتوالى". (¬6) انظر: الإحياء (4 191). (¬7) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬8) المنخول (ص365). (¬9) في (ط): "العليل". وانظر: شفاء الغليل (ص245 ـ 246). (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المنقول". (¬11) قتل الجماعة بالواحد: أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم برقم (6896) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غلاماً قتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم. وروى ابن أبي شيبة في المصنف (9 296) برقم (7529)، عن سعيد بن المسيب: أن عمر قتل ثلاثة نفر من=

وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (¬1). وَوَجْهُ/ الْمَصْلَحَةِ أَنَّ الْقَتِيلِ مَعْصُومٌ، وَقَدْ قُتِلَ عَمْدًا، فَإِهْدَارُهُ دَاعٍ إِلَى خَرْمِ أَصْلِ الْقَصَاصِ، وَاتِّخَاذِ الِاسْتِعَانَةِ وَالِاشِتِرَاكَ ذريعة إلى (التشفي) (¬2) بِالْقَتْلِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا قَصَاصَ فِيهِ، وَلَيْسَ أَصْلُهُ قَتْلَ/ الْمُنْفَرِدِ فَإِنَّهُ قَاتِلٌ تَحْقِيقًا، وَالْمُشْتَرِكُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ تَحْقِيقًا. /فَإِنْ قِيلَ: هَذَا أَمْرٌ بَدِيعٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ قَتْلُ غَيْرِ الْقَاتِلِ؟ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَمْ يُقْتَلُ إِلَّا الْقَاتِلُ، وَهُمْ الْجَمَاعَةُ مِنْ حَيْثُ الِاجْتِمَاعُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِمْ تَحْقِيقًا إِضَافَتُهُ/ إِلَى الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ فِي تَنْزِيلِ الْأَشْخَاصِ مَنْزِلَةَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ؛ وَقَدْ دَعَتْ إِلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ، فَلَمْ يَكُنْ مُبْتَدِعًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ فِي حَقْنِ الدِّمَاءِ، وَعَلَيْهِ يَجْرِي عِنْدَ مَالِكٍ قَطْعُ الْأَيْدِي باليد الواحدة، وقطع الأيدي في النصاب (الواحد) (¬3). ¬

=أهل صنعاء بامرأة، ونحوه أنه قتل سبعة من أهل صنعاء برجل، وأنه قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعهم. انظر: المصنف لابن أبي شيبة (9 347) برقم (7743 ـ 7745)، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما، انظر: المصدر السابق (7746 ـ 7749)، وانظر: مصنف عبد الرزاق (18069 ـ 18071) و (18073 ـ 18079)، وهو مذهب ابن عباس كما في المصنف لعبد الرزاق (9 475 ـ 480)، وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (8 40 ـ 41)، والموطأ (1584). (¬1) ذهب جمع من العلماء إلى قتل الجماعة بالواحد، ذكر منهم ابن قدامة: عمر، وعلي، والمغيرة بن شعبة، وابن عباس رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، والحسن، وأبو سلمة، وعطاء وقتادة، وهو مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي. وحكي عن الإمام أحمد في رواية أنهم لا يقتلون وتجب عليهم الدية، وهو قول ابن الزبير، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وربيعة، وداود، وابن المنذر وحكي عن ابن عباس، وذهب معاذ بن جبل وابن الزبير وابن سيرين والزهري أنه يقتل منهم واحد ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية. انظر: المغني (9 366 ـ 367)، وفتح الباري (12 236 ـ 237). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "السعي". (¬3) في (ط) و (خ) و (م): "الواجب"، وكذا في (ت) لكن صححت في الهامش بـ: "الواحد".

الْمِثَالُ التَّاسِعُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ نَقَلُوا الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا لِمَنْ نَالَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى فِي عُلُومِ الشَّرْعِ (¬1)، كَمَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا أَيْضًا ـ أَوْ كَادُوا أَنْ يَتَّفِقُوا ـ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بَيْنَ النَّاسِ لَا يحصل إلا لمن رقي (رُتْبَةِ) (¬2) الِاجْتِهَادِ (¬3)، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ إِذَا فُرِضَ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ يَظْهَرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَافْتَقَرُوا إِلَى إِمَامٍ يُقَدِّمُونَهُ لِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ وَتَسْكِينِ ثَوْرَةِ الثَّائِرِينَ، وَالْحِيَاطَةِ عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْأَمْثَلِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ (¬4)، لِأَنَّا بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُتْرَكَ النَّاسُ فَوْضًى، وَهُوَ عَيْنُ الْفَسَادِ وَالْهَرَجِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَدِّمُوهُ فَيَزُولُ الْفَسَادُ بَتَّةً، وَلَا يَبْقَى إِلَّا فَوْتُ الِاجْتِهَادِ، وَالتَّقْلِيدُ كَافٍ بِحَسَبِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ/ هَذَا فَهُوَ نَظَرٌ مَصْلَحِيٌّ يشهد له وضع أصل الإمامة (بل هو) (¬5) مَقْطُوعٌ/ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَفْتَقِرُ فِي صِحَّتِهِ وَمُلَاءَمَتِهِ إِلَى شَاهِدٍ. هَذَا ـ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ (مخالفاً) (¬6) لما نقلوا من الإجماع (فإن ¬

(¬1) اختلف العلماء في اشتراط بلوغ مرتبة الاجتهاد في إمام المسلمين، فذهب بعض العلماء إلى اشتراط الاجتهاد فيه، حكاه الجويني في غياث الأمم، وقال الرملي: وهو مذهب الشافعي، وهو قول الماوردي وأبي يعلى، وعبد القاهر البغدادي، والقرطبي صاحب أحكام القرآن وابن خلدون. وذهب آخرون من العلماء إلى عدم اشتراط الاجتهاد، ذكر ذلك الشهرستاني، ورأي ابن حزم أنه من الشروط المستحبة لا من الواجبة، وهو مذهب أكثر الحنفية وقول الغزالي. انظر تفصيل المسألة في الإمامة العظمى للدكتور عبد الله الدميجي (ص247 ـ 251). (¬2) في (ط) و (خ) و (ت): "في رتبة". (¬3) حكى ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 86) أنه لا يجوز لغير المجتهد أن يتقلد القضاء، ولا يجوز للإمام توليته. (¬4) جاء في هامش نسخة (ت) ما نصه: "قلت: رأيت في أجوبة الشيخ محمد بن سحنون أنه إذا اتفق أن أهل بلد كلهم فساق فلا بد من إقامة وظائف الدين فيهم من القضاء والإمامة والعدالة واختيار الأمثل فالأمثل منهم لذلك، وإلا تعطلت أحوال الناس، وبطلت مراسم الدين". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وهو". (¬6) في (م): "مخالف".

الْإِجْمَاعِ) (¬1) (فِي) (¬2) الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا انْعَقَدَ/ عَلَى فَرْضِ أَنْ لَا يَخْلُوَ الزَّمَانُ (مِنْ) (¬3) مُجْتَهِدٍ، فَصَارَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، فصح الاعتماد فيه على المصلحة. الْمِثَالُ الْعَاشِرُ: إِنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ فِي بَيْعَةِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ: إِنْ رَدَدْنَا فِي مبدأ التولية بين مجتهد في علوم (الشريعة) (¬4) وَبَيْنَ مُتَقَاصِرٍ عَنْهَا، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُ الْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّ اتّباعَ/ الناظرِ علمَ نفسهِ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى (صاحب) (¬5) اتّباعِ عِلْمِ غَيْرِهِ (بِالتَّقْلِيدِ) (¬6) وَالْمَزَايَا لَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مُرَاعَاتِهَا. أَمَّا إِذَا انْعَقَدَتِ الْإِمَامَةُ (بِالْبَيْعَةِ) (¬7) أَوْ تَوْلِيَةِ الْعَهْدِ لِمُنْفَكٍّ عَنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، وَقَامَتْ لَهُ الشَّوْكَةُ، وَأَذْعَنَتْ لَهُ الرِّقَابُ، بِأَنْ خَلَا الزَّمَانُ عَنْ قُرَشِيٍّ مُجْتَهِدٍ مُسْتَجْمِعٍ جَمِيعَ الشَّرَائِطِ، وَجَبَ الِاسْتِمْرَارُ. وإن قدر حضور قرشي (¬8) مجتهد مستجمع (للورع) (¬9) وَالْكِفَايَةِ وَجَمِيعِ شَرَائِطِ الْإِمَامَةِ، وَاحْتَاجَ/ الْمُسْلِمُونَ فِي خلع الأول إلى (تعرض) (¬10) لِإِثَارَةِ فِتَنٍ وَاضْطِرَابِ أُمُورٍ،/ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ خلعه والاستبدال به، بل تجب عليهم ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وفي". (¬3) في (غ) و (ر): "عن". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الشرائع". (¬5) زيادة من هامش (ت). وفي (ر): "على اتباعه". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فالتقليد". (¬7) في (غ) و (ر): "بالبدعة". (¬8) اشتراط القرشية وردت به نصوص صريحة، وهو قول جمهور علماء المسلمين، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج وبعض المعتزلة والأشاعرة. انظر: الإمامة العظمى (ص265 ـ 295). (¬9) في (م): "لنردع". وفي (ت) و (ط) و (خ): "للفروع". (¬10) في (ط) و (خ): "تعرضه".

الطَّاعَةُ لَهُ، وَالْحُكْمُ بِنُفُوذِ وِلَايَتِهِ، وَصِحَّةِ إِمَامَتِهِ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ (الْعِلْمَ) (¬1) مَزِيَّةٌ رُوعِيَتْ فِي الْإِمَامَةِ تَحْصِيلًا لِمَزِيدِ الْمَصْلَحَةِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّقْلِيدِ، وَأَنَّ الثَّمَرَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنَ (الإمامة) (¬2) تُطْفِئُةُ الْفِتَنُ الثَّائِرَةُ مِنْ تَفَرُّقِ الْآرَاءِ الْمُتَنَافِرَةِ، فَكَيْفَ (يَسْتَجِيزُ) (¬3) الْعَاقِلُ تَحْرِيكَ الْفِتْنَةِ، وَتَشْوِيشَ النِّظَامِ، وَتَفْوِيتَ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْحَالِ، تَشَوُّفًا إِلَى مَزِيدِ دَقِيقَةٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّظَرِ وَالتَّقْلِيدِ؟. /قَالَ: وَعِنْدَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِيسَ الْإِنْسَانُ مَا يَنَالُ الْخَلْقَ مِنَ الضَّرَرِ بِسَبَبِ عُدُولِ الْإِمَامِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى التَّقْلِيدِ بِمَا يَنَالُهُمْ لَوْ تَعَرَّضُوا لِخَلْعِهِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِ، أَوْ حَكَمُوا بِأَنَّ إِمَامَتَهُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ (¬4). هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ بِحَسَبَ النَّظَرِ الْمَصْلَحِيِّ، وَهُوَ مُلَائِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يُعَضِّدْهُ نَصٌّ عَلَى التَّعْيِينِ. وَمَا قَرَّرَهُ هُوَ أَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ؛ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ يَحْيَى: الْبَيْعَةُ مَكْرُوهَةٌ؟ قَالَ: لَا. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانُوا أَئِمَّةَ جَوْرٍ؟ فَقَالَ: قَدْ بَايَعَ ابْنُ عُمَرَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَبِالسَّيْفِ أَخَذَ الْمُلْكَ. أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مَالِكٌ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم. قَالَ يَحْيَى: وَالْبَيْعَةُ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ. قَالَ: وَلَقَدْ أَتَى مَالِكًا الْعُمَرِيَّ (¬5) فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، بَايَعَنِي أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ، وَأَنْتَ تَرَى سِيرَةَ أَبِي جَعْفَرٍ، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: أَتَدْرِي مَا الَّذِي مَنَعَ عُمَرَ بن عبد العزيز رحمه الله/ أن يولي رجلاً صالحاً؟ فقال/ ¬

(¬1) في (ت): "للعلم". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الإمام". (¬3) في (م): "يستجر" وفي (ت): "يستحل". (¬4) انظر: فضائح الباطنية (ص119). (¬5) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من أقران مالك، كان مشهوراً بالوعظ عابداً زاهداً، توفي سنة 184هـ. انظر: السير (8 373)، وتهذيب التهذيب (5/ 302).

العمري: لا أدري، فقال مَالِكٌ: لَكِنِّي أَنَا أَدْرِي، إِنَّمَا كَانَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ بَعْدَهُ، فَخَافَ عُمَرُ إِنْ وَلَّى رَجُلًا صَالِحًا أَنْ لَا يَكُونَ لِيَزِيدَ بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ، فَتَقُومُ هَجْمَةٌ، فَيَفْسَدُ مَا لَا يُصْلَحُ، فَصَدَرَ رَأْيُ هَذَا الْعُمَرِيِّ (عَلَى رَأْيِ) (¬1) مَالِكٍ. فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إِذَا خِيفَ عِنْدَ خَلْعِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، وَإِقَامَةِ الْمُسْتَحِقِّ أَنْ تَقَعَ فِتْنَةٌ وَمَا لَا يَصْلُحُ، فَالْمَصْلَحَةُ فِي التَّرْكِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ/ الْقِيَامَةِ) وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعَةِ/ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلْعَهُ وَلَا تَابَعَ/ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ (¬2). (قَالَ) (¬3) ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْخَيَّاطِ: إِنَّ بَيْعَةَ عَبْدِ اللَّهِ لِيَزِيدَ كَانَتْ كُرْهًا، وَأَيْنَ يَزِيدُ مَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَكِنْ رَأَى بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ التَّسْلِيمَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْفِرَارَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِفِتْنَةٍ فِيهَا مِنْ ذَهَابِ الأموال والأنفس ما لا يخفى، (بخلع) (¬4) يَزِيدَ، (لَوْ) (¬5) تَحَقَّقَ أَنَّ الْأَمْرَ يَعُودُ فِي نصابه، فكيف ولا يعلم ذلك؟ (قال) (¬6): وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فَتَفَهَّمُوهُ (وَالْزَمُوهُ) (¬7) تَرْشُدُوا إِنْ شاء الله. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "عن". (¬2) قصة ابن عمر والحديث الذي رواه، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8 159 ـ 160)، (9 142 ـ 320)، وقد روى الحديث عدد من الصحابة، انظر البخاري كتاب الجزية والموادعة، باب إثم الغادر للبر والفاجر برقم (3186 ـ 3188 و6177 ـ 7111، 6966، 6178)، ومسلم (3 1359 ـ 1361)، من رقم (1735 ـ 1738)، والترمذي برقم (2191، 1581)، وابن ماجه برقم (2873، 2872)، وأبو داود برقم (2756). (¬3) في (غ) و (ر): "بياض بمقدار كلمة". (¬4) في (ط) و (م) و (خ): "فخلع". (¬5) في (م): "أو". وفي (ت): "و". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) في (غ) و (ر): "والتزموه".

فصل

فَصْلٌ فَهَذِهِ (أَمْثِلَةٌ عَشَرَةٌ) (¬1) تُوَضِّحُ لَكَ (الْوَجْهَ الْعَمَلِيَّ) (¬2) فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَتُبَيِّنُ لَكَ اعْتِبَارَ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: الْمُلَاءَمَةُ لِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ بِحَيْثُ لَا تُنَافِي أَصْلًا مِنْ أُصُولِهِ، وَلَا دَلِيلًا مِنْ (أدلته) (¬3). والثاني: أَنَّ عَامَّةَ النَّظَرِ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا عقل (معناه) (¬4) وجرى على (ذوق) (¬5) المناسبات المعقولة (المعنى) (¬6) الَّتِي إِذَا عُرِضَتْ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّعَبُّدَاتِ، وَلَا مَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ عَامَّةَ التَّعَبُّدَاتِ لَا يُعْقَلُ لَهَا مَعْنًى عَلَى التَّفْصِيلِ (¬7)، كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ دُونَ غيره، والحج، ونحو ذلك (¬8). فليتأمل/ النَّاظِرُ الْمُوَفَّقُ كَيْفَ وُضِعَتْ عَلَى التَّحَكُّمِ الْمَحْضِ المنافي للمناسبات التفصيلية (¬9). ¬

(¬1) في (ت): "الأمثلة العشرة". (¬2) في (ت): "أوجه العلم". (¬3) في (ط) و (خ): "دلائله". (¬4) في (ط): "منها". (¬5) في (ط): "دون". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) في هامش (ت) ما نصه: "قوله: على التفصيل؛ يعني لما كانت الصلوات خمساً؟ ولماذا كان الركوع كذا والسجود كذا؟ إلى غير ذلك من سائر العبادات في صورها وأزمنتها وأمكنتها كلية وجزئية، وأما من حيث معقوليتها إجمالاً وهو وضعها لأجل التعبد لله وحده بالطاعة، في التذلل له سبحانه والخضوع لعزته وجلاله، فإنها من هذه الجهة معقولة معلومة". (¬8) مسألة تعليل العبادات واختلاف العلماء فيها، فصَّلها أحمد الريسوني في رسالته: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي (ص185 ـ 232). (¬9) في هامش (ت) ما نصه: "قلت: وكذلك لتحقق كمال الطاعة والعبودية من العبد العاجز=

أَلَا تَرَى/ أَنَّ الطَّهَارَاتِ ـ عَلَى اخْتِلَافِ/ أَنْوَاعِهَا ـ قَدِ اخْتَصَّ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا بِتَعَبُّدٍ مُخَالِفٍ جِدًا لِمَا يَظْهَرُ (لِبَادِي) (¬1) الرَّأْيِ؟ فَإِنَّ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ خَارِجَانِ نَجِسَانِ يَجِبُ بِهِمَا تَطْهِيرُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ دُونَ الْمَخْرَجَيْنِ فَقَطْ، وَدُونَ جَمِيعِ الْجَسَدِ، فَإِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ أَوْ دَمُ الْحَيْضِ وَجَبَ غسل جميع الجسد دون المخرج فقط، ودون أعضاء الوضوء. ثم (ذلك) (¬2) التطهير واجب مع نظافة/ الأعضاء، وَغَيْرُ وَاجِبٍ مَعَ قَذَارَتِهَا بِالْأَوْسَاخِ وَالْأَدْرَانِ، إِذَا فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ. ثُمَّ التُّرَابُ ـ وَمِنْ شَأْنِهِ التَّلْوِيثُ ـ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ التَّنْظِيفُ، ثُمَّ نَظَرْنَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا مُنَاسَبَةً لِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا، لِاسْتِوَاءِ الْأَوْقَاتِ فِي ذَلِكَ. وَشُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِهَا أَذْكَارٌ مَخْصُوصَةٌ/ لَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا/، فَإِذَا أُقِيمَتِ ابْتَدَأَتْ إِقَامَتُهَا بِأَذْكَارٍ أَيْضًا، ثُمَّ شُرِعَتْ (رَكَعَاتُهَا) (¬3) مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَكُلُّ رَكْعَةٍ لَهَا رُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسُجُودَانِ دُونَ الْعَكْسِ، إِلَّا صَلَاةَ (خُسُوفِ/ الشَّمْسِ) (¬4) فَإِنَّهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَتْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ دُونَ أَرْبَعٍ أو ست أو غير ذَلِكَ مِنَ الْأَعْدَادِ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُتَطَهِّرُ الْمَسْجِدَ أمر بتحيته بركعتين دون واحدة (كالوتر) (¬5)، أَوْ أَرْبَعٍ كَالظُّهْرِ، فَإِذَا سَهَا فِي صَلَاةٍ سجد سجدتين دون سجدة واحدة، وإذا قرأ سَجْدَةٍ، سَجَدَ وَاحِدَةً دُونَ اثْنَتَيْنِ. ثُمَّ أُمِرَ بِصَلَاةِ النَّوَافِلِ، وَنُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَعَلَّلَ النَّهْيَ بِأَمْرٍ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى. ¬

=الضعيف لسيده ومولاه القادر القوي، لأن معرفة علة الخدمة تكسر سورة المهابة والتعظيم لجانب المخدوم". (¬1) في (غ) و (ر): "ببادي". (¬2) في (م): "ذكر". وفي (ط) و (خ) و (ت): "إن". (¬3) في (م): "ركعتاها". (¬4) في (غ) و (ر): "الخسوف". (¬5) في (ط) و (خ): "كالموتر".

ثُمَّ شُرِعَتِ الْجَمَاعَةُ فِي بَعْضِ النَّوَافِلِ، كَالْعِيدَيْنِ، وَالْخُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، دُونَ صَلَاةِ اللَّيْلِ (¬1)، وَرَوَاتِبِ النَّوَافِلِ. فَإِذَا صِرْنَا إِلَى غُسْلِ الْمَيِّتِ وَجَدْنَاهُ لَا معنى له معقولاً، لأنه غَيْرُ مُكَلَّفٍ، ثُمَّ أُمِرْنَا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِالتَّكْبِيرِ دُونَ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ تَشَهُّدٍ وَالتَّكْبِيرُ (عليه) (¬2) أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ دُونَ اثْنَتَيْنِ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْدَادِ (¬3). فَإِذَا صِرْنَا إِلَى الصِّيَامِ وَجَدْنَا فِيهِ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ غَيْرِ المعقولة (المعنى) (¬4) كثيراً (أيضاً) (¬5)، كَإِمْسَاكِ النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، وَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، دُونَ الْمَلْبُوسَاتِ وَالْمَرْكُوبَاتِ، وَالنَّظَرِ/ وَالْمَشْيِ/ وَالْكَلَامِ، وأشباه ذلك، وكان (الإمساك عن) (¬6) الْجِمَاعُ (وَهُوَ) (¬7) رَاجِعٌ إِلَى الْإِخْرَاجِ ـ كَالْمَأْكُولِ ـ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الضِّدِّ ـ. وَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ ـ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ـ وَلَمْ يَكُنْ أَيَّامَ الْجُمَعِ، وَإِنْ كَانَتْ خَيْرَ أَيَّامٍ طَلَعَتْ عَلَيْهَا الشَّمْسُ، أَوْ كَانَ الصِّيَامُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ، ثُمَّ الْحَجُّ أَكْثَرَ تَعَبُّدًا مِنَ الْجَمِيعِ. وَهَكَذَا تَجِدُ عَامَّةَ التَّعَبُّدَاتِ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ. (فَاعْلَمُوا) (¬8) أَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ مَعْنًى يُعْلَمُ مِنْ مَقَاصِدِ الشرع أنه قصد قصده، ونحى نَحْوَهُ،/ (وَاعْتُبِرَتْ جِهَتُهُ) (¬9)؛ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ من ¬

(¬1) ويستثنى من ذلك قيام الليل من شهر رمضان، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعله، ثم تركه خوفاً أن يفرض على الأمة، ثم أعاد ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، والمسألة مشهورة. (¬2) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬3) ثبت عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كبر على الميت أربع وخمس وست وسبع وتسع تكبيرات. انظر تفصيل المسألة في فتح الباري (3 240 ـ 241)، وشرح صحيح مسلم (7 32 ـ 24)، وأحكام الجنائز للألباني (ص111 ـ 114). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬6) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬7) في (خ): "هو". (¬8) في (ط) و (خ): "ما علموا". (¬9) سقط من (غ) و (ر).

التَّكَالِيفِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ (فيه) (¬1) أَنْ يُوقِفَ (عِنْدَهُ) (¬2) وَيَعْزِلَ عَنْهُ النَّظَرَ الِاجْتِهَادِيَّ جُمْلَةً، وَأَنْ يُوكَلَ إِلَى وَاضِعِهِ وَيُسَلَّمَ لَهُ فيه، سواء عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّ التَّكَالِيفَ مُعَلَّلَةٌ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، أَمْ لَمْ نَقُلْهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ مَسَائِلِهَا/ ظَهَرَ فِيهَا مَعْنًى فَهِمْنَاهُ مِنَ الشَّرْعِ، فَاعْتَبَرْنَا بِهِ أَوْ شَهِدْنَا فِي بَعْضِهَا بِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ، فَلَا حَرَجَ حِينَئِذٍ، فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ، فَهُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى لِلْمُتَفَقِّهِ فِي الشَّرِيعَةِ والوَزَر (¬3) الْأَحْمَى. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تعبَّدوها؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلْآخِرِ مَقَالًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، وَخُذُوا بِطَرِيقِ مَنْ كَانَ قبلكم)، ونحوه لابن مسعود أيضاً (¬4). ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في (م): "عند". (¬3) الوزر بفتح الواو والزاي: هو الملجأ. انظر: لسان العرب مادة (وزر). (¬4) أثر حذيفة بن اليمان أخرجه ابن المبارك في الزهد (47) وبنحوه ابن أبي شيبة في المصنف (16651 و18985)، والبخاري (7282)، نحوه مختصراً، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (10 و11 و12 و15 و16)، وعبد الله في السنة (106)، ومحمد بن نصر المروزي في السنة (86 و87)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1809)، وابن بطة في الإبانة (196 و197)، واللالكائي (119)، وأبو نعيم في الحلية (1 280)، والخطيب في تاريخه (3 446). وهذا النص يظهر أن الشاطبي أخذه من الطرطوشي في كتابه الحوادث والبدع كما في (ص298). وأثر ابن مسعود أخرجه وكيع في الزهد (315) بلفظ: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة)، وعنه أحمد في الزهد (ص202)، والدارمي برقم (205)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها برقم (14)، والطبراني في الكبير برقم (8770)، وابن بطة برقم (175)، ومحمد بن نصر المروزي في السنة برقم (78)، واللالكائي برقم (104)، والبيهقي في المدخل (204)، والأصبهاني في الترغيب والترهيب (1 218)، كلهم من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود، وأخرجه أبو خيثمة في كتاب العلم برقم (54) عن جرير عن العلاء عن حماد عن إبراهيم، قال: قال عبد الله بن مسعود .. ، بنحوه، وأخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (12) من طريق قتادة عن ابن مسعود، بنحوه.

وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَلِذَلِكَ الْتَزَمَ مَالِكٌ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي وَإِنْ ظَهَرَتْ/ لِبَادِي الرَّأْيِ، وُقُوفًا مَعَ مَا فُهِمَ مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيمِ (لها) (¬1) عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ/ فِي إِزَالَةِ الْأَخْبَاثِ/ وَرَفْعِ الْأَحْدَاثِ، إِلَى مُطْلَقِ النَّظَافَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا غَيْرُهُ، حَتَّى اشْتَرَطَ فِي رَفْعِ الْأَحْدَاثِ النِّيَّةَ، وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُ الْمَاءِ مَقَامَهُ عِنْدَهُ وَإِنْ حَصَلَتِ النَّظَافَةُ، حَتَّى يَكُونَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَامْتَنَعَ مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَقَامَهَا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ/ وَالْإِجْزَاءِ، وَمَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ القِيَم فِي الزَّكَاةِ، (وَاقْتَصَرَ) (¬2) فِي الْكَفَّارَاتِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْعَدَدِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَدَوَرَانِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْوُقُوفِ مَعَ مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ ـ إِنْ تَصَوَّرَ ـ لِقِلَّةِ ذَلِكَ فِي التَّعَبُّدَاتِ وَنُدُورِهِ، بِخِلَافِ قِسْمِ الْعَادَاتِ الَّذِي هُوَ جَارٍ عَلَى الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ الظَّاهِرِ لِلْعُقُولِ؛ فَإِنَّهُ اسْتَرْسَلَ فِيهِ اسْتِرْسَالَ الْمُدِلِّ الْعَرِيقِ/ فِي فَهْمِ الْمَعَانِي الْمَصْلَحِيَّةِ، نَعَمْ (مَعَ) (¬3) مُرَاعَاةِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهُ، وَلَا يُنَاقِضَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِهِ، حَتَّى لَقَدِ اسْتَشْنَعَ الْعُلَمَاءُ كَثِيرًا مِنْ وُجُوهِ اسْتِرْسَالِهِ زَاعِمِينَ أَنَّهُ خَلَعَ الرِّبْقَةَ (¬4)، وَفَتَحَ بَابَ التَّشْرِيعِ، وَهَيْهَاتَ مَا أَبْعَدَهُ مِنْ ذَلِكَ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ بَلْ هُوَ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ فِي فِقْهِهِ بِالِاتِّبَاعِ، بِحَيْثُ يُخَيَّلُ لِبَعْضٍ (الناس) (¬5) أَنَّهُ مُقَلِّدٌ لِمَنْ قَبْلُهُ، بَلْ هُوَ صَاحِبُ البصيرة في دين الله ـ حسبما بين (ذلك) (¬6) أصحابه في (كتب) (¬7) سِيَرِهِ. بَلْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يُبْغِضُ مَالِكًا ¬

(¬1) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬2) في (ط) و (خ): "واختصر". (¬3) ساقطة من (غ) و (ر). (¬4) الربق بكسر الراء المشددة وفتحها: الخيط، واستعيرت للإسلام، فتقول: خلع ربقة الإسلام: أي عقده. انظر لسان العرب مادة ربق. (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) زيادة من (م). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "كتاب".

فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ (¬1). وَهَذِهِ غَايَةٌ/ فِي الشَّهَادَةِ بِالِاتِّبَاعِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَخْشَى عَلَيْهِ الْبِدْعَةَ ـ يعني المبغض لمالك (¬2) ـ. وقال ابن مهدي (¬3): إِذَا رَأَيْتَ الْحِجَازِيَّ يُحِبُّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ، وَإِذَا رَأَيْتَ أَحَدًا يَتَنَاوَلُهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ (السُّنَّةِ) (¬4). وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى (بْنِ هِشَامٍ) (¬5): مَا سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ لَعَنَ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا/ رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا رَجُلٌ ذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ لَعَنَ مَالِكًا، وَالْآخَرُ بِشْرُ الْمُرَيْسِيُّ (¬6). وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَغَيْرُ مَالِكٍ أَيْضًا مُوَافِقٌ لَهُ فِي أَنَّ أَصْلَ الْعِبَادَاتِ عَدَمُ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التفاصيل، فالأصل متفق عليه (بين) (¬7) الْأُمَّةِ، مَا عَدَّا الظَّاهِرِيَّةَ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بين العبادات والعادات، بل الكل تعبد غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَهُمْ أَحْرَى بِأَنْ لَا يَقُولُوا بِأَصلِ الْمَصَالِحِ، فَضلًا عَنْ أَنْ يَعْتَقِدُوا المصالح المرسلة. والثالث: أَنَّ حَاصِلَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ، وَرَفْعِ حَرَجٍ لَازِمٍ فِي الدِّينِ، وأيضاً (فرجوعها) (¬8) إلى حفظ الضروري من ¬

(¬1) انظر: ترتيب المدارك (1 169 ـ 170). (¬2) المصدر السابق (1 170). (¬3) هو: الإمام عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري، تقدمت ترجمته (1 84). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر)، وقول ابن مهدي أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1 25) وانظر: ترتيب المدارك (1 170). (¬5) في (م) و (ت) و (خ) و (ر): "بن بسام"، وفي (غ) و (ر): "إبراهيم بن يحيى". فقط بدون زيادة ولم أقف له على ترجمة، ووقفت على من اسمه: إبراهيم بن يحيى بن هشام في تفسير ابن كثير في تفسير سورة النمل: الآية (15). والله أعلم. (¬6) هو بشر بن غياث بن أبي كريمة العدوي مولاهم البغدادي المريسي تقدمت ترجمته. (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عند". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): مرجعها.

بَابِ مَا (لَا) (¬1) يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ/ فَهِيَ إِذًا مِنَ الْوَسَائِلِ لَا مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَرُجُوعُهَا إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ رَاجِعٌ إِلَى بَابِ التَّخْفِيفِ لَا إِلَى التَّشْدِيدِ. /أَمَّا رُجُوعُهَا إِلَى ضَرُورِيٍّ (فَقَدْ ظَهَرَ) (¬2) مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَكَذَلِكَ رُجُوعُهَا إِلَى رَفْعِ حَرَجٍ لَازِمٍ، وَهُوَ إِمَّا لَاحِقٌ بِالضَّرُورِيِّ، وَإِمَّا مِنَ الْحَاجِيِّ، وَعَلَى كُلِّ تقدير فليس فيها ما يرجع إلى (التحسين) (¬3) وَالتَّزْيِينِ الْبَتَّةَ، فَإِنْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فإما من باب آخر (لا) (¬4) مِنْهَا،/ كَقِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ (¬5) ـ وَإِمَّا مَعْدُودٌ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ الَّتِي أَنْكَرَهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ كَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَالتَّثْوِيبِ بِالصَّلَاةِ (¬6)، وهو من قبيل ما (لا) (¬7) يُلَائِمُ. وَأَمَّا كَوْنُهَا فِي الضَّرُورِيِّ مِنْ قَبِيلِ الْوَسَائِلِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ (فظاهر من الأمثلة المذكورة وأشباهها، وحقيقة ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ) (¬8)، إِنْ نُصَّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ، فَهُوَ شَرْطٌ شَرْعِيٌّ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ نَصَّ الشَّارِعِ فِيهِ قَدْ كَفَانَا مُؤْنَةَ النَّظَرِ فِيهِ. وَإِنْ لَمْ يُنَصَّ/ عَلَى اشْتِرَاطِهِ، فَهُوَ إِمَّا عَقْلِيٌّ أَوْ عَادِيٌّ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا، كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ؛ فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا حِفْظَ/ الْقُرْآنِ والعلم بغير (الكتب عادياً) (¬9) مطرداً لصح (لنا حفظه به) (¬10) ¬

(¬1) في (ط): "لم". (¬2) في (غ) و (ر): "فظاهر". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التقبيح". (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ط). (¬5) في (ص5). (¬6) التثويب بالأذان ذكره الشاطبي في الاعتصام (2 70) قال: وَقَدْ فَسَّرَ التَّثْوِيبَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ بأن المؤذن كان إذا أبطأ النَّاسُ قَالَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ عِنْدَنَا: الصَّلَاةُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ. (¬7) ما بين القوسين زيادة من (غ). (¬8) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (ط) و (خ): "كتب". (¬10) هكذا في (غ)، وفي باقي النسخ كتبت هكذا: (ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ يَصِحُّ لَنَا حفظها) وهو انتقال نظر من النسَّاخ، فإنك إذا تأملت النص تجد بعد سطر جملة (لصح ذلك .... إلى ـ الضرورية) وهي مقحمة في غير مكانها، والصواب=

كَمَا أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا حُصُولَ مَصْلَحَةِ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى بِغَيْرِ إِمَامٍ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ النَّصِّ بِهَا لَصَحَّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ، وإذا ثَبَتَ هَذَا، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ بَابِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِوَسَائِلَ. وَأَمَّا كَوْنُهَا فِي الْحَاجِيِّ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ (الرَّافِعِ لِلْحَرَجِ) (¬1)؛ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَشْدِيدٍ وَلَا زِيَادَةِ تَكْلِيفٍ، وَالْأَمْثِلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِهَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا. إِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، عُلِمَ أَنَّ الْبِدَعَ كَالْمُضَادَّةِ لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مَا عُقِلَ مَعْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَالتَّعَبُّدَاتُ مِنْ حَقِيقَتِهَا أَنْ لَا يُعْقَلَ مَعْنَاهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْعَادَاتِ إِذَا دَخَلَ فِيهَا الِابْتِدَاعُ فَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا مِنْ جِهَةٍ مَا فِيهَا مِنَ التَّعَبُّدِ لَا بِإِطْلَاقٍ. /وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْبِدَعَ فِي عَامَّةِ أَمْرِهَا لَا تُلَائِمُ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ، بَلْ إِنَّمَا/ تُتَصَوَّرُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا مُنَاقِضَةً لِمَقْصُودِهِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفْتِي لِلْمَلِكِ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ـ وَإِمَّا مَسْكُوتًا (عَنْهَا) (¬2) فِيهِ، كَحِرْمَانِ الْقَاتِلِ وَمُعَامَلَتِهِ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ النَّصِّ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ (¬3) نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى اطِّرَاحِ الْقِسْمَيْنِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ يَلْحَقُ بِالْمَأْذُونِ فِيهِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْعَادَاتِ فِي أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ كَالْمَأْذُونِ فيه، إن قيل بذلك (بل هي) (¬4) تُفَارِقُهَا. إِذْ لَا يُقْدَمُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ عِبَادَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا/ مَخْصُوصَةٌ بِحُكْمِ الْإِذْنِ الْمُصَرَّحِ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَادَاتِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنِ اهْتِدَاءِ الْعُقُولِ لِلْعَادِيَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَدَمِ اهْتِدَائِهَا لِوُجُوهِ التَّقَرُّبَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وقد أشير إلى هذا ¬

=أن سائر النسخ ما عدا (غ) الجملة تكون هكذا (لصح لنا حفظها) ما عدا (م) فهي: حفظه. وأمّا نسخة (غ) فهي المثبتة أعلاه. (¬1) ساقط من (غ) وفي (ر) بياض. (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عنه". (¬3) انظر: (ص9) من النص المحقق. (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فهي".

الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الْمُوَافِقَاتِ (¬1) وَإِلَى هَذَا (¬2). / (فَإِذَا) (¬3) ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إِلَى حِفْظِ ضَرُورِيٍّ مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ أَوْ إِلَى التَّخْفِيفِ، فَلَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ الْبِدَعِ مِنْ جِهَتِهَا وَلَا الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ، لِأَنَّ الْبِدَعَ من باب/ (المقاصد لا مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ) (¬4)، لِأَنَّهَا مُتَعَبَّدٌ (بِهَا) (¬5) بِالْفَرْضِ، ولأنها زيادة في التكليف، وهو مضاد لِلتَّخْفِيفِ. فَحَصَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ لَا تَعَلُّقَ (لِلْمُبْتَدِعِ) (¬6) بِبَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا الْقِسْمَ الْمُلْغَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَحَسْبُكَ بِهِ مُتَعَلِّقًا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. وَبِذَلِكَ كُلِّهِ (يُعْلَمُ) (¬7) مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ أَنَّهُ لَمْ يَكِلْ شَيْئًا مِنَ التَّعَبُّدَاتِ إِلَى آرَاءِ الْعِبَادِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ؛ كَمَا أَنَّ النُّقْصَانَ مِنْهُ بِدْعَةٌ، وَقَدْ مَرَّ لَهُمَا أَمْثِلَةٌ كثيرة (وستأتي أخرٌ) (¬8)، في أثناء الكتاب بحول الله. ¬

(¬1) الموافقات (1 137 ـ 138) و (2 211 ـ 215). (¬2) هكذا في جميع النسخ. (¬3) في (غ): "فقد". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الوسائل". (¬5) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬6) في (غ) و (ر): "لمبتدعٍ". (¬7) في (غ) و (ر): "تعلم". (¬8) في (ط): "وسيأتي أخيراً"، وفي (خ) و (ت): "وسيأتي آخراً"، وفي م: "سيأتي أخرى".

فصل

/فصل وَأَمَّا الِاسْتِحْسَانُ (¬1)، فَلِأَنَّ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَيْضًا تَعَلُّقًا بِهِ؛ فَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا (بمستحسِن) (¬2)، وَهُوَ إِمَّا الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ. أَمَّا الشَّرْعُ فَاسْتِحْسَانُهُ وَاسْتِقْبَاحُهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، فَلَا فَائِدَةَ لِتَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَلَا لِوَضْعِ تَرْجَمَةٍ لَهُ زَائِدَةٍ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ/ والإجماع، وما ينشأ (عنهما) (¬3) مِنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَالِ؛ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْلُ هُوَ المستحسِن، فَإِنْ كَانَ بِدَلِيلٍ فَلَا فَائِدَةَ لِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، لِرُجُوعِهِ إِلَى الْأَدِلَّةِ لَا إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ/ كَانَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ/ فَذَلِكَ هُوَ البدعة التي تُستحسن. (ويشبهه) (¬4) قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ (مَا يستحسنه) (¬5) المجتهد بعقله، ويميل إليه برأيه (¬6). ¬

(¬1) ذكر ابن قدامة ثلاث تعريفات للاستحسان، فقال: له ثلاثة معان: أحدها: أن المراد به العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة. الثاني: أنه ما يستحسنه المجتهد بعقله. الثالث: قولهم: الْمُرَادَ بِهِ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، لا يقدر على التعبير عنه. انظر: روضة الناظر (ص147) وهناك تعريفات أخرى، انظر: التعريفات للجرجاني (ص18 ـ 19)، والإحكام للآمدي (4 156 ـ 160)، والموافقات (4 205 ـ 206)، والاستصلاح لمصطفى الزرقا (ص23). (¬2) في (م): "مستحسن". وفي (غ) و (ر): "من مستحسن". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عنها". (¬4) في (ط) و (م) و (خ): "ويشهد"، وفي (ت): "يشهد لذلك". (¬5) في (م) و (ط): "يستحسنه". (¬6) هذا القول هو قول أبي حنيفة، ذكره عنه السبكي في الإبهاج (3 190)، وابن قدامة في روضة الناظر (ص147).

قَالُوا: وَهُوَ عِنْدُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ مَا يُسْتَحْسَنُ فِي الْعَوَائِدِ، وَتَمِيلُ إِلَيْهِ الطِّبَاعُ؛ فَيَجُوزُ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ إِذَا لَمْ يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ (ما ينافيه، ففي هَذَا) (¬1) الْكَلَامُ مَا بيَّن أَنَّ ثَمَّ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ مَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالْبِدْعَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ اسْتِحْسَانٍ (باطلاً، كما أنه لَيْسَ كُلُّ اسْتِحْسَانٍ) (¬2) حَقًّا. وَأَيْضًا فَقَدْ يَجْرِي عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي لِلْأُصُولِيِّينَ فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ لَا تُسَاعِدُهُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ، وَلَا يَقْدِرُ على إظهاره (¬3)، وهذا التأويل (للاستحسان يساعد البدعة) (¬4) لِأَنَّهُ يَبْعُدُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ أَنْ يَبْتَدِعَ أحد بدعة من غير شبهة دليل (تنقدح) (¬5) لَهُ، بَلْ عَامَّةُ الْبِدَعِ لَا بُدَّ لِصَاحِبِهَا مِنْ مُتَعَلِّقِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، لَكِنْ قَدْ يُمْكِنُهُ إِظْهَارُهُ وَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ ـ وَهُوَ الْأَغْلَبُ ـ فَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ. وَرُبَّمَا/ يَنْقَدِحُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَجْهٌ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا أَهْلُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلُونَ، وَقَدْ أَتَوْا بِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ/ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬6)، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (¬7)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ *الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬8)، (فأحسنه) (¬9) هو ما تستحسنه عقولهم. والثاني: (قَوْلُهُ) (¬10) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حسناً فهو ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ما ينافي هذا". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) انظر: روضة الناظر (ص148)، والإحكام للآمدي (4 157). (¬4) في (ط) و (غ) و (م): "فالاستحسان يساعده لبعده"، وفي (ت): "للاستحسان لا يساعده لبعده". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ينقدح". (¬6) سورة الزمر: الآية (55). (¬7) سورة الزمر: الآية (23). (¬8) سورة الزمر: الآية (17، 18). (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) في (م): "في قوله".

عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ" (¬1). وَإِنَّمَا (يَعْنِي) (¬2) بِذَلِكَ مَا رأوه بعقولهم، وإلا (فلو) (¬3) كَانَ حُسْنُهُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، لَمْ يَكُنْ مِنْ حُسْنِ مَا يَرَوْنَ، إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي التَّشْرِيعِ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَدِيثِ فَائِدَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا (رأوه) (¬4) برأيهم. والثالث: أَنَّ الْأُمَّةَ قَدِ اسْتَحْسَنَتْ دُخُولَ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ/ أُجْرَةٍ، وَلَا تَقْدِيرِ مُدَّةِ اللَّبْثِ وَلَا تَقْدِيرِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلَا سَبَبَ لِذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْمُشَاحَّةَ فِي مِثْلِهِ (قَبِيحَةٌ) (¬5) فِي الْعَادَةِ، فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ/ تَرْكَهُ، مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ (بأن) (¬6) الْإِجَارَةَ الْمَجْهُولَةَ، أَوْ مُدَّةَ الِاسْتِئْجَارِ أَوْ مِقْدَارَ الْمُشْتَرَى إِذَا جُهِلَ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ، وَقَدِ اسْتُحْسِنْتَ إِجَارَتُهُ مَعَ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، فَأَوْلَى أَنْ يُجَوَّزَ إذا لم يخالف دليلاً. ¬

(¬1) قال الألباني في السلسلة الضعيفة (2 16)، برقم (532): موضوع، رواه الخطيب (4 165) ... وقال: تفرد به النخعي قلت (الألباني): وهو كذاب ... ولهذا قال الحافظ ابن عبد الهادي: إسناده ساقط، والأصح وقفه على ابن مسعود، نقله في الكشف (2 188)، انتهى كلام الألباني. والحديث ثبت موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الإمام أحمد في المسند (5 211)، برقم (3600)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وهو في مجمع الزوائد (1 177 ـ 178) وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، ورجاله موثقون. انتهى كلام أحمد شاكر، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (533) عن حديث ابن مسعود: لا أصل له مرفوعاً، وإنما ورد عن ابن مسعود ... أخرجه أحمد (رقمه 3600)، والطيالسي في مسنده (23)، وأبو سعيد الأعرابي في معجمه (84 2)، من طريق عاصم عن زر بن حبيش عنه، وهذا إسناد حسن، وروى الحاكم ... وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ السخاوي: هو موقوف حسن. قلت (الألباني): وكذا رواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (100 2)، من طريق المسعودي عن عصام به، إلا أنه قال: أبي وائل بدل زر بن حبيش ... إلخ. ثم علق الألباني على الحديث تعليقاً مهما فانظره في السلسلة الضعيفة (2 17 ـ 19). (¬2) في (م): "ينبغي". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لو". (¬4) في (خ): "رواه". (¬5) في (م) و (غ) و (ر): "قبيح". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أن".

فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مَزَلَّةُ قَدَمٍ أَيْضًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَدِعَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنِ اسْتَحْسَنْتُ كَذَا وَكَذَا فَغَيْرِي مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِ اسْتَحْسَنَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا (بُدَّ) (¬1) مِنْ فَضْلِ اعْتِنَاءٍ بِهَذَا الْفَصْلِ، حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهِ جَاهِلٌ أَوْ زَاعِمٌ أَنَّهُ عَالَمٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، فَنَقُولُ: إِنَّ الِاسْتِحْسَانَ يَرَاهُ مُعْتَبَرًا فِي الْأَحْكَامِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ (¬2) فَإِنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ جِدًّا حَتَّى قَالَ: من استحسن فقد شرَّع (¬3). والذي يُستقرى مِنْ/ مَذْهَبِهِمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَمَلِ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، (هَكَذَا) (¬4) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: فَالْعُمُومُ إِذَا اسْتَمَرَّ، وَالْقِيَاسُ إِذَا اطَّرَدَ، فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ مَعْنَى ـ قَالَ ـ وَيَسْتَحْسِنُ مَالِكٌ أَنْ يَخُصَّ بِالْمَصْلِحَةِ، وَيَسْتَحْسِنُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَخُصَّ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ الْوَارِدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ـ قَالَ ـ: وَيَرَيَانِ مَعًا تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ ونقض الْعِلَّةِ، وَلَا يَرَى الشَّافِعِيُّ لِعِلَّةِ الشَّرْعِ/ ـ إِذَا ثَبَتَ ـ تَخْصِيصًا. هَذَا مَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. ويشعر بذلك تفسير الكرخي (¬5): أَنَّهُ الْعُدُولُ عَنِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِحُكْمِ نَظَائِرِهَا إِلَى خِلَافِهِ لِوَجْهٍ أَقْوَى (¬6). وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ الْقِيَاسُ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لأن العلة (لمَّا) (¬7) كَانَتْ عِلَّةً بِأَثَرِهَا، سَمَّوْا الضَّعِيفَ الْأَثَرِ قِيَاسًا، والقوي الأثر ¬

(¬1) زيادة من (ط) و (ت) و (غ) و (ر). (¬2) انظر: روضة الناظر ص147 ـ 148، علم أصول الفقه لخلاف ص79 ـ 83، ومصادر التشريع لخلاف ص70، وأدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها للربيعة ص175 ـ 168، والاستصلاح للزرقا ص23 ـ 33. (¬3) لم أجد هذا النص في كتب الشافعي، ولكن ذكره عن الشافعي جمع من العلماء منهم الآمدي في الإحكام (4 209) والإبهاج شرح المنهاج (3 188). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وهكذا". (¬5) هو أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال البغدادي الكرخي، انتهت إليه رئاسة المذهب، توفي سنة 340هـ. انظر: تاريخ بغداد (10 353)، والجواهر المضية (1 306)، السير (15 426)، وغير ذلك. (¬6) انظر: الإحكام للآمدي (4 158). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). وفي هامش (ت): "إن".

اسْتِحْسَانًا، أَيْ قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا، وَكَأَنَّهُ/ نَوْعٌ مِنَ الْعَمَلِ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ، وَهُوَ يَظْهَرُ مِنِ اسْتِقْرَاءِ مَسَائِلِهِمْ فِي الِاسْتِحْسَانِ بِحَسَبِ النَّوَازِلِ الْفِقْهِيَّةِ. بَلْ قَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ/ الِاسْتِحْسَانَ تِسْعَةُ أعشار العلم (¬1). ورواه أَصْبُغُ (¬2) عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ أَصْبُغُ فِي الِاسْتِحْسَانِ: قَدْ يَكُونُ أَغْلَبَ مِنَ القياس (¬3). وجاء عن مالك: إن المغرق فِي/ الْقِيَاسِ يَكَادُ يُفَارِقُ السُّنَّةَ (¬4). وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلُ، وَأَنَّهُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ/ أَوْ أَنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَعَسُرُ عِبَارَتُهُ عَنْهُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْعِلْمِ، وَلَا أَغْلَبَ مِنَ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ. /وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الِاسْتِحْسَانُ إِيثَارُ تَرْكِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّرَخُّصِ، (لِمُعَارَضَةِ) (¬5) مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ، وقسَّمه أَقْسَامًا عدَّ مِنْهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامِ، وَهِيَ: تَرْكُ الدَّلِيلِ للعرف، وتركه للمصلحة، (وتركه للإجماع) (¬6)، وتركه (في اليسير) (¬7) لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ (وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ) (¬8). وحدَّه غَيْرُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ: اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ. قَالَ: فَهُوَ تَقْدِيمُ الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ. وَعَرَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ فَقَالَ: الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي يَكْثُرُ استعماله حتى يكون ¬

(¬1) أخرجه ابن حزم في الإحكام بسند متصل (6 16). (¬2) هو أصبغ بن الفرج بن نافع المصري المالكي، تقدمت ترجمته (1/ 26). (¬3) انظر: الإحكام لابن حزم (6 16). (¬4) لم أجده عن مالك، وقد جعله المصنف من قول أصبغ لا مالكاً كما في الموافقات (4 210). (¬5) في هامش (ت) كتبت: "لمعاوضة". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) في (ط) و (خ) و (ت): "لليسير". (¬8) في (ت): "وإيثاراً للتوسعة".

أعم من القياس هو: أن يكون (طرد القياس) (¬1) يُؤَدِّي إِلَى غُلُوٍّ فِي الْحُكْمِ وَمُبَالَغَةٍ فِيهِ، فَيُعْدَلَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَعْنًى يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ. وَهَذِهِ تَعْرِيفَاتٌ قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَإِذَا كَانَ هذا معناه (عند) (¬2) مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَلَيْسَ بِخَارِجٍ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ يُقَيِّدُ بَعْضُهَا وَيُخَصِّصُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَمَا فِي الْأَدِلَّةِ/ السُّنِّيَّةِ/ مَعَ الْقُرْآنِيَّةِ، وَلَا يَرُدُّ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ هَذَا أَصْلًا، فَلَا حُجَّةَ فِي تَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا لِمُبْتَدَعٍ عَلَى حَالٍ. وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِأَمْثِلَةٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَنَقْتَصِرُ عَلَى عَشَرَةِ أَمْثِلَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْدَلَ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا بِدَلِيلِ الْكِتَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬3) فَظَاهِرُ اللَّفْظِ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ/ مَا (يُتَمَوَّلُ) (¬4) بِهِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي الشَّرْعِ بِالْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ خاصة، فلو قال قائل: مالي صَدَقَةٌ. فَظَاهِرُ لَفْظِهِ يَعُمُّ كُلَّ مَالٍ، وَلَكِنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى مَالِ الزَّكَاةِ، لِكَوْنِهِ ثَبَتَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَكَأَنَّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِعَادَةِ فَهْمِ خِطَابِ الْقُرْآنِ. وَهَذَا الْمِثَالُ أَوْرَدَهُ الْكَرْخِيُّ تَمْثِيلًا لِمَا قاله في/ الاستحسان. والثاني: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ نَجِسٌ، قِيَاسًا عَلَى سِبَاعِ الْبَهَائِمِ. وَهَذَا ظَاهِرُ الْأَثَرِ، وَلَكِنَّهُ ظَاهِرٌ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ السَّبْعَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ لِضَرُورَةِ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ، فَثَبَتَتْ نَجَاسَتُهُ (لمجاورة) (¬5) رُطُوبَاتِ لُعَابِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَارَقَهُ الطَّيْرُ، لِأَنَّهُ يَشْرَبُ بِمِنْقَارِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ سُؤْرِهِ، لِأَنَّ هَذَا أَثَرٌ قَوِيٌّ وإن خفي، فترجح على ¬

(¬1) في (ط): "طرحا لقياس". (¬2) في (ط): "عن". (¬3) سورة التوبة: الآية (103). (¬4) في (م): "يتعول". (¬5) في (ط): "بمجاورة".

الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ أَمْرُهُ جَلِيًّا، وَالْأَخْذُ بِأَقْوَى القياسين متفق عليه. والثالث: أَنْ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إِذَا/ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا، وَلَكِنْ عيَّن كُلُّ وَاحِدٍ (جهة) (¬1) غير الجهة التي عيَّنها (غيره) (¬2)، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدَّ، وَلَكِنِ اسْتُحْسِنَ حَدُّهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إِلَّا مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ، فَإِذَا عيَّن كُلُّ وَاحِدٍ ((منهم) (¬3) دَارًا، فَلَمْ يَأْتِ عَلَى كُلِّ مَرْتَبَةٍ بِأَرْبَعَةٍ؛ لِامْتِنَاعِ/ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا عيَّن كُلُّ وَاحِدٍ) (¬4) زَاوِيَةً فَالظَّاهِرُ تَعَدُّدُ الْفِعْلِ، وَيُمْكِنُ التزاحف. فإذا قيل: الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحد، فَمَعْنَاهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعِ الْأَرْبَعَةُ عَلَى زِنًا وَاحِدٍ، ولكنه (يقول) (¬5) فِي الْمَصِيرِ إِلَى الْأَمْرِ الظَّاهِرِ تَفْسِيقُ (الْعُدُولِ) (¬6)؛ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا صَارَ الشُّهُودُ فَسَقَةً، وَلَا سَبِيلَ إِلَى (ذَلِكَ) (¬7) مَا وَجَدْنَا إِلَى/ الْعُدُولِ عَنْهُ سَبِيلًا، فَيَكُونُ حَمْلُ الشُّهُودِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَدَالَةِ عِنْدَ/ الْإِمْكَانِ يَجُرُّ ذَلِكَ الْإِمْكَانَ الْبَعِيدَ، فَلَيْسَ هَذَا حُكْمًا بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا/ تَمَسُّكٌ بِاحْتِمَالِ تَلَقِّي الْحُكْمِ مِنَ (الْقُرْآنِ) (¬8)، وَهَذَا يرجع في الحقيقة إلى تحقيق (مناطه) (¬9). والرابع: أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنْ يَتْرُكَ الدَّلِيلَ (لِلْعُرْفِ) (¬10)، فَإِنَّهُ رَدَّ الْأَيْمَانَ (إِلَى الْعُرْفِ) (¬11)، مَعَ أَنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي فِي أَلْفَاظِهَا غير ما ¬

(¬1) زيادة من (غ). (¬2) في (ط) و (غ): "الآخر"، وساقطة من (خ) و (م). (¬3) زيادة من (ت). (¬4) ساقط من (غ). (¬5) كذا في جميع النسخ، وقال رشيد رضا: لعل أصله (يؤول) فإن الزنا إذا لم يثبت بشهادة من شهدوا به، يؤول الأمر إلى قذفهم للمشهود عليه وهو فسق، والله أعلم. (¬6) في (غ): "الأمور". (¬7) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬8) في (ت): "القرائن" ولعلها أصوب، وكتب في هامشها: "القرآن". (¬9) في (م) و (خ) و (ت): "مناط". (¬10) ما بين القوسين ساقط من (ت). وانظر: الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة للمشاط (ص269 ـ 272)، وكتاب أصول الفقه وابن تيمية للمنصور (2 509 ـ 530). (¬11) في (ت): "للعرف".

يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ مَعَ فلان بيتاً. فلا يحنث (بدخوله) (¬1) (معه المسجد وما أشبه ذلك ووجهه أن اللفظ يقتضي الحنث بِدُخُولِ) (¬2) كُلِّ مَوْضِعٍ يُسَمَّى بَيْتًا (فِي اللُّغَةِ) (¬3) وَالْمَسْجِدِ يُسَمَّى بَيْتًا فَيَحْنَثُ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ عُرْفَ النَّاسِ أَنْ لَا يُطْلِقُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ بِالْعُرْفِ (عَنْ) (¬4) مُقْتَضَى اللَّفْظِ، فلا يحنث. /والخامس: ترك الدليل للمصلحة، كَمَا فِي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ (¬5)، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَانِعًا، فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَتَضْمِينِ صَاحِبِ الحمَّام الثِّيَابَ، وَتَضْمِينِ صَاحِبِ السَّفِينَةِ، وَتَضْمِينِ السَّمَاسِرَةِ الْمُشْتَرِكِينَ، وَكَذَلِكَ حمَّال الطَّعَامِ ـ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ ـ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ، ولاحق عنده بالصنَّاع، والسبب في ذلك (عين) (¬6) السَّبَبِ فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَا مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ. قُلْنَا: نَعَمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ (صَوَّرُوا الِاسْتِحْسَانَ تصور الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْقَوَاعِدِ) (¬7) بِخِلَافِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي مَسْأَلَةِ التَّضْمِينِ، فَإِنَّ/ الْأُجَرَاءَ مُؤْتَمَنُونَ بِالدَّلِيلِ/ لَا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَصَارَ تَضْمِينُهُمْ فِي حَيِّزِ (الْمُسْتَثْنَى) (¬8) مِنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَدَخَلَتْ تحت معنى ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بدخول". (¬2) زيادة من (غ). (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "على". (¬5) الأجير المشترك: هو الذي يقع العقد معه على عمل معين، كخياطة ثوب، وبناء حائط، وحمل شيء إلى مكان معين، أو على عمل في مدة لا يستحق جميع نفعه فيها، كالكحَّال والطبيب، سمي مشتركاً لأنه يقبل أعمالاً لاثنين وثلاثة وأكثر في وقت واحد، ويعمل لهم، فيشتركون في منفعته واستحقاقها، فسمي مشتركاً لاشتراكهم في منفعته. انظر: المغني لابن قدامة (6 105 ـ 106). (¬6) في (ط) و (خ) و (م): "بعد". وفي (غ) و (ر): "هو". (¬7) في (غ): "تصوير الاستحسان من العوايد". وفي (ت): "صورا الاستحسان بصور ... ". وفي هامشها: "تصورا الاستحسان تصور ... إلخ". (¬8) في (ت): "الاستثناء" وكتبت في هامشها: "المستثنى".

الاستحسان (بذلك) (¬1) (النظر) (¬2). والسادس: أنهم يحكون الإجماع عَلَى إِيجَابِ الْغَرْمِ عَلَى مَنْ (قَطَعَ) (¬3) ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي، يُرِيدُونَ غَرْمَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ لَا قِيمَةَ النَّقْصِ الْحَاصِلِ فِيهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ، فإن (مثل) (¬4) بَغْلَةَ الْقَاضِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا إِلَّا لِلرُّكُوبِ، وَقَدِ امْتَنَعَ رُكُوبُهُ لَهَا بِسَبَبِ فُحْشِ ذَلِكَ العيب، حتى صارت بالنسبة إلى (ركوبه أو) (¬5) رُكُوبِ مِثْلِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، فَأَلْزَمُوا الْفَاعِلَ غَرْمَ قِيمَةِ الْجَمِيعِ، وَهُوَ/ مُتَّجِهٌ بِحَسَبِ الْغَرَضِ الْخَاصِّ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَغْرَمَ إِلَّا قِيمَةَ مَا نَقَّصَهَا الْقَطْعُ خَاصَّةً، لَكِنِ اسْتَحْسَنُوا/ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْأَشْهَرَ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ مَا تَقَدَّمَ حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب (¬6). والسابع: تَرْكُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي الْيَسِيرِ لِتَفَاهَتِهِ وَنَزَارَتِهِ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ، وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْخَلْقِ، فَقَدْ أَجَازُوا التَّفَاضُلَ الْيَسِيرَ فِي الْمُرَاطِلَةِ (¬7) الْكَثِيرَةِ، وَأَجَازُوا البيع (والصرف) (¬8) إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ، وَأَجَازُوا بَدَلَ الدِّرْهَمِ النَّاقِصِ بِالْوَازِنِ (¬9) لِنَزَارَةِ مَا بَيْنَهُمَا، وَالْأَصْلُ الْمَنْعُ فِي الْجَمِيعِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ/ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبَ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سواء بسواء، وأن مَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى (¬10)، وَوَجْهُ ذلك أن التافه في حكم ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "بهذا". (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬3) في (م): "قط". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) هو القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر التغلبي المالكي صاحب كتاب التلقين، وهو مختصر في الفقه المالكي، يقول عنه الذهبي: وهو من أجود المختصرات، توفي سنة 422هـ. انظر: السير (17 429)، وتاريخ بغداد (11 31)، وترتيب المدارك (4 691). (¬7) يعني الوزن بالرطل، انظر: لسان العرب مادة رطل. (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ): "بالصرف". (¬9) يعني: درهم تام الوزن، المصدر السابق مادة وزن. (¬10) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الشعير بالشعير برقم (2174 ـ 2177)،=

الْعَدَمِ، وَلِذَلِكَ لَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْأَغْرَاضُ فِي الْغَالِبِ، وَأَنَّ الْمَشَاحَّةَ فِي الْيَسِيرِ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَهُمَا مَرْفُوعَانِ عَنِ الْمُكَلَّفِ. والثامن: أَنَّ فِي الْعُتْبِيَّةِ (¬1) مِنْ سَمَاعِ أَصْبُغَ (¬2) فِي الشَّرِيكَيْنِ يَطَآنِ الْأَمَةَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَتَأْتِي بِوَلَدٍ فَيُنْكِرُ أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ دُونَ الْآخَرِ: أَنَّهُ/ يَكْشِفُ مُنْكِرَ الْوَلَدِ عَنْ/ وَطْئِهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ، (فَإِنْ كَانَ فِي صِفَتِهِ مَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْإِنْزَالُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَكَانَ كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي الْعَزْلَ مِنَ الْوَطْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ) (¬3) فَقَالَ أصبغ: إني أستحسن ها هنا أَنْ أُلْحِقَهُ بِالْآخَرِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً، فَلَعَلَّهُ غَلَبَ وَلَا يَدْرِي. وَقَدْ قَالَ عَمْرُو بن العاص رضي الله عنه فِي (نَحْوِ) (¬4) هَذَا: إِنَّ الْوِكَاءَ قَدْ يَنْقَلِبُ ـ قال ـ: (والاستحسان فِي الْعِلْمِ) (¬5)، قَدْ يَكُونُ أَغْلَبَ مِنَ الْقِيَاسِ،/ ثُمَّ حَكَى عَنْ مَالِكٍ مَا تَقَدَّمَ (ووجَّهَ) (¬6) ذلك ابن رشد بأن الأصل: (أن) (¬7) مَنْ وَطِئَ أَمَتَهُ فَعَزَلَ عَنْهَا وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لحق به وإن كان له منكراً، ووجب على قياس ذلك إذا كانت (أمة) (¬8) بين رجلين (فوطئاها) (¬9) جميعاً ¬

=ومسلم برقم (1584)، والترمذي برقم (1243، 1240)، وأبو داود (48 ـ 49)، والنسائي (7 273 ـ 275)، وابن ماجه (2259، 2160). (¬1) (¬2) العتبية، وتسمى (المستخرجة من السماعات مما ليس في المدونة) وشرحها ابن رشد ـ الجد ـ في كتابه: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة. والعتبية هي من تأليف محمد بن أحمد العتبي القرطبي ـ المالكي (ت355هـ) له ترجمة في تاريخ علماء الأندلس (2/ 634) والسير (12/ 335)، وأصبغ هو: أصبغ بن الفرج الذي مرت ترجمته (1/ 26)، وهو الذي يرد في العتبية ويروي غالباً عن ابن القاسم تلميذ الإمام مالك. انظر: دراسات في مصادر الفقه المالكي (ص110 ـ 139). (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (ت): "مثل". (¬5) في (ط) و (م) و (خ): [والاستحسان ها هنا أَنْ أُلْحِقَهُ بِالْآخَرِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَا فِي العلم]. وهو خطأ وجملة "ها هنا ... ـ إلى قوله ـ أن يكونا" يظهر أنها انتقال نظر من الناسخ، فهي موجودة بعينها قبل سطر. وفي نسخة ت: والاستحسان ها هنا أن ألحقه بالآخر (ثم بياض بمقدار نصف سطر) ثم تكملة النص من قول: ثم حكى عن مالك ... إلخ. (¬6) في (م) و (غ) و (ر): "وجه". (¬7) زيادة من (ت) و (غ) و (ر). (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (م): "فوطئها".

فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَعَزَلَ أَحَدُهُمَا (عَنْهَا) (¬1) (فَأَنْكَرَ) (¬2) الْوَلَدَ وَادَّعَاهُ الْآخَرُ الَّذِي لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا، أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا كَانَا جَمِيعًا يَعْزِلَانِ أَوْ يُنْزِلَانِ، وَالِاسْتِحْسَانُ ـ كَمَا قَالَ ـ أَنْ (يَلْحَقَ) (¬3) الْوَلَدُ بِالَّذِي ادَّعَاهُ وأقر أنه كان ينزل، (ويبرأ) (¬4) مِنْهُ الَّذِي أَنْكَرَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ/ مَعَ الْإِنْزَالِ غَالِبًا، وَلَا يَكُونُ مَعَ الْعَزْلِ إِلَّا نَادِرًا، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّذِي ادَّعَاهُ وَكَانَ يُنْزِلُ، لَا الَّذِي أَنْكَرَهُ وَهُوَ يَعْزِلُ، وَالْحُكْمُ (بِغَلَبَةِ) (¬5) الظَّنِّ أَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ (تَأْثِيرٌ) (¬6)، فَوَجَبَ أَنْ يُصَارَ إليه استحساناً كما قال أصبغ. (انتهى) (¬7)، وهو ظاهر فيما نحن فيه. والتاسع: ما تقدم أولاً من أن الأمة اسْتَحْسَنَتْ دُخُولَ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ، وَلَا تَقْدِيرِ مُدَّةِ/ اللَّبْثِ، وَلَا تَقْدِيرِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْمَنْعُ إِلَّا أَنَّهُمْ (أجازوه) (¬8) لا (لما) (¬9) قَالَ الْمُحْتَجُّونَ عَلَى الْبِدَعِ، بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ/ الَّذِي لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنِ الْأَدِلَّةِ، فَأَمَّا تَقْدِيرُ الْعِوَضِ فَالْعُرْفُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ فَلَا/ حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ، وَأَمَّا مُدَّةُ اللَّبْثِ وَقَدْرُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقَدَّرًا بِالْعُرْفِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ لِلضَّرُورَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِقَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ، وَهِيَ: أَنَّ نَفْيَ/ جَمِيعِ الْغَرَرِ فِي الْعُقُودِ لَا يُقَدَرُ عليه، وهو يضيق أبواب المعاملات (ويحسم) (¬10) أبواب (المعاوضات) (¬11). ونفي (الغرر) (¬12) إِنَّمَا يَطْلُبُ تَكْمِيلًا وَرَفْعًا لِمَا عَسَى أَنْ يقع من نزاع، ¬

(¬1) ساقط من (غ) و (ر). (¬2) في (ت): "وأنكر". (¬3) في (م): "تلحق". (¬4) في (م): "سرى". وفي (ط) و (خ): "وتبرأ". (¬5) في (غ) و (ر): "لغلبة". (¬6) في (م): "تأثر". (¬7) زيادة من (م). (¬8) في (ط) و (خ): "أجازوا". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "كما". (¬10) في (ط): "وهو تحسيم". وفي (م) و (خ) و (ت): "وهو يحسم". (¬11) في (م): "العارضات". وفي (غ) و (ر): "المعارضات" والتصحيح من (ت) حيث كتبت في الهامش مصححة "المعاوضات" وفي (ط) و (خ): "المفاوضات". (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الضرر".

فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُكَمِّلَةِ، وَالتَّكْمِيلَاتِ إِذَا أَفْضَى اعْتِبَارُهَا إِلَى إِبْطَالِ الْمُكَمِّلَاتِ سَقَطَتْ جُمْلَةً؛ تَحْصِيلًا لِلْمُهِمِّ ـ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأُصُولِ ـ فَوَجَبَ أَنْ يُسَامِحَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ الَّتِي (لَا) (¬1) يَنْفَكُّ عَنْهَا، إِذْ يَشُقُّ طَلَبُ الِانْفِكَاكِ عَنْهَا، فَسُومِحَ الْمُكَلَّفُ بِيَسِيرِ الْغَرَرِ، لِضِيقِ الِاحْتِرَازِ مَعَ تَفَاهَةِ مَا يَحْصُلُ مِنَ (الْغَرَرِ) (¬2)، وَلَمْ يُسَامَحْ فِي كَثِيرِهِ إِذْ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَلِعَظِيمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَرِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ بَعْضِ (أَنْوَاعِهِ) (¬3) مِمَّا يَعْظُمُ فِيهِ الْغَرَرُ، فَجُعِلَتْ أُصُولًا يقاس عليها (غيرها) (¬4) (فصار) (¬5) الْقَلِيلِ أَصْلًا فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ وَفِي الْجَوَازِ، (وصار) (¬6) الكثير (أصلاً) (¬7) في المنع، ودار في الأصلين فروع تجاذب الْعُلَمَاءُ النَّظَرَ فِيهَا، فَإِذَا (قلَّ الْغَرَرُ) (¬8) وَسَهُلَ الْأَمْرُ، وَقَلَّ النِّزَاعُ، وَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمُسَامَحَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِهَا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَسْأَلَةُ التَّقْدِيرِ فِي مَاءِ الْحَمَّامِ، وَمُدَّةِ اللبث. قال العلماء: ولقد/ بالغ مالك رحمه الله في هذا الباب وأمعن فيه، فجوَّز أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَجِيرَ بِطَعَامِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْضَبِطُ مِقْدَارُ أَكْلِهِ، لِيَسَارِ أَمْرِهِ وَخِفَّةِ خَطْبِهِ، وَعَدَمِ الْمُشَاحَّةِ، وَفَرْقٌ/ (بَيْنَ تَطَرُّقٍ) (¬9) يَسِيرِ الْغَرَرِ إِلَى الْأَجَلِ فَأَجَازَهُ، وَبَيْنَ تَطَرُّقِهِ/ لِلثَّمَنِ فَمَنَعَهُ، فَقَالَ: يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً إِلَى الْحَصَادِ أَوْ (إِلَى) (¬10) الْجَذَاذِ، وَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ بِعَيْنِهِ لَا يَنْضَبِطُ، وَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِدِرْهَمٍ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ لَمْ يَجُزْ، وَالسَّبَبُ فِي التفرقة (أن) (¬11) الْمُضَايَقَةُ فِي تَعْيِينِ الْأَثْمَانِ وَتَقْدِيرِهَا لَيْسَتْ فِي العرف (كالمضايقة) (¬12) فِي الْأَجَلِ، إِذْ قَدْ يُسَامِحُ الْبَائِعُ فِي التَّقَاضِي الْأَيَّامَ، وَلَا يُسَامِحُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ على حال. ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (ت): "الغرض". (¬3) في (م) و (خ): "أعوانه". (¬4) في (ط) و (خ) و (ت): "غير". (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في (ر): "صار". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في (م): "قال الخطر". وفي (غ) و (ر): "قلَّ الخطر". (¬9) في (غ) و (ر): "بين يسير تطرق". (¬10) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬11) زيادة من (غ) و (ت) و (ر). (¬12) في (م): "والمضايقة".

/وَيُعَضِّدُهُ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أَمَرَ بِشِرَاءِ الْإِبِلِ إِلَى خُرُوجِ الْمُصَدِّقِ (¬2) وَذَلِكَ لا (ينضبط) (¬3) يومه ولا (تُعين) (¬4) / سَاعَتَهُ، وَلَكِنَّهُ عَلَى التَّقْرِيبِ وَالتَّسْهِيلِ. فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ وَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ (بِالْحَرَجِ) (¬5) وَالْمَشَقَّةِ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ زَعْمِ الزَّاعِمِ (أَنَّهُ) (¬6) اسْتِحْسَانُ العقل بحسب العوائد فقط، (يتبين لكم) (¬7) (بَوْنُ) (¬8) مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الِاسْتِحْسَانِ مُرَاعَاةَ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ (¬9) وَهُوَ أَصْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، يَنْبَنِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ. مِنْهَا: أَنَّ الْمَاءَ الْيَسِيرَ إِذَا حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْيَسِيرَةُ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ/ أَوْصَافِهِ أَنَّهُ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ بَلْ يَتَيَمَّمُ وَيَتْرُكُهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ (بِهِ) (¬10) وَصَلَّى، أَعَادَ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ، وَلَمْ يُعِدْ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، مُرَاعَاةً لقول من يقول: إنه طاهر مطهر (ويرى) (¬11) جَوَازُ الْوُضُوءِ بِهِ ابْتِدَاءً، وَكَانَ قِيَاسُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُعِيدَ أَبَدًا إِذْ لَمْ (يَتَوَضَّأْ) (¬12) إِلَّا بِمَاءٍ يَصِحُّ لَهُ تَرْكُهُ، وَالِانْتِقَالُ عَنْهُ إلى التيمم. ¬

(¬1) هكذا في جميع النسخ والصواب: عبد الله بن عمرو بن العاص. (¬2) أخرجه أحمد في المسند ـ طبعة الأرناؤوط ـ (11/ 164) برقم (6593) وبرقم (7025) واستفاض المحقق في دراسة إسناده وذكر شواهده. وأخرجه أبو داود (3357)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4 60)، والدارقطني في السنن (261 ـ 264) والحاكم في المستدرك (2340)، والبيهقي في السنن الكبرى (10308 ـ 10309)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (3357)، وقال ابن حجر في فتح الباري (4 420): "إسناده قوي"، وضعفه ابن القطان، وأعلّه باضطراب السند، كما في نصب الراية (4 47). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (ت): يضبط. (¬4) في (ط) و (خ) و (م): يعين. (¬5) في (غ): "للحرج". (¬6) في (غ) و (ر): "أنها". (¬7) في (ط) و (خ) و (م): فتبين لك. (¬8) في ت: بالوزن. (¬9) مسألة مراعاة خلاف العلماء، انظر ما ذكره ابن عرفة في المعيار المعرب (6 377 ـ 379) والموافقات (4 8 ـ 86). (¬10) ساقط من (غ) و (ر). (¬11) في (ط) و (خ): "ويروى". (¬12) في م: يتضوا.

وَمِنْهَا: قَوْلُهُمْ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَجِبُ فَسْخُهُ: إِنْ لَمْ يُتَّفَقْ/ /عَلَى فَسَادِهِ فَيُفْسَخُ بِطَلَاقٍ، وَيَكُونُ فِيهِ الْمِيرَاثُ، وَيَلْزَمُ فِيهِ الطَّلَاقُ عَلَى حَدِّهِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَإِنِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى فَسَادِهِ، فُسِخَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ مِيرَاثٌ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ طَلَاقٌ. ومنها: (مِنْ) (¬1) نَسِيَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وكبَّر لِلرُّكُوعِ، وَكَانَ مع الإمام (أنه) (¬2) يتمادى (مراعاة) (¬3) لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ، فَإِذَا سلَّم/ الْإِمَامُ/ أَعَادَ هَذَا الْمَأْمُومُ. /وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْمَذْهَبِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ رَاعَى دَلِيلَ الْمُخَالِفِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ تَرَجَّحَ عنده (فيها) (¬4)، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ فِي بَعْضِهَا فَلَمْ يُرَاعِهِ. ولقد كتبت في مسألة مراعاة الخلاف (¬5) (سؤالاً) (¬6) إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَإِلَى بِلَادِ أَفْرِيقِيَّةَ لِإِشْكَالٍ عَرَضَ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِمَّا يَخُصُّ هَذَا الْمَوْضِعَ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهَا، وَهُوَ مَا أَصْلُهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ (وعلامَ) (¬7) تُبْنَى مِنْ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ الْآنَ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الْمُتَّبَعُ فَحَيْثُمَا صَارَ صِيرَ إِلَيْهِ، ومتى (ما ترجح) (¬8) لِلْمُجْتَهِدِ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ـ وَلَوْ بِأَدْنَى وُجُوهِ التَّرْجِيحِ ـ وَجَبَ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَإِلْغَاءُ مَا سِوَاهُ، عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، فإذن رُجُوعُهُ ـ أَعْنِي الْمُجْتَهِدَ ـ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ إِعْمَالٌ لدليله المرجوح (عنده) (¬9)، وإهمال ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مسألة من". وحذفها يناسب أسلوب المصنف. (¬2) في (م) و (ط) و (خ): "أن". (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬5) وهي موجودة في المعيار المعرب (6 387 ـ 396). (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (ط): "على ما". والصواب هو المثبت؛ لأن "ما" الاستفهامية إذا دخلت عليها حروف الجرِّ تحذف ألفها. (¬8) في (ط) و (خ): "رجح". (¬9) في (م): "عند".

(لِلدَّلِيلِ) (¬1) الرَّاجِحِ عِنْدَهُ، الْوَاجِبِ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ (وَذَلِكَ) (¬2) عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ. فَأَجَابَنِي (بَعْضُهُمْ) (¬3) بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ، إِلَّا أَنِّي رَاجَعْتُ بَعْضَهُمْ بِالْبَحْثِ، وَهُوَ أَخِي وَمُفِيدِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقِبَابِ (¬4) رحمة الله عليه، فكتب إلي بما (أردت أن أثبته ها هنا لأن فيه شرحاً لما نحن فيه، وذلك أنه كتب إلي ما) (¬5) نَصُّهُ: (وَتَضَمَّنَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ عَوْدَةَ السُّؤَالِ فِي مَسْأَلَةِ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ، وَقُلْتُمْ: إِنَّ رُجْحَانَ إِحْدَى الأمارتين على الأخرى إن (اقتضى) (¬6) / تقديمها على الأخرى، اقتضى ذلك عدم (اعتبار) (¬7) (الْمَرْجُوحَةِ) (¬8) مُطْلَقًا، وَاسْتَشْنَعْتُمْ أَنْ (يَقُولَ الْمُفْتِي: هَذَا لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً) (¬9)، وَبَعْدَ الْوُقُوعِ يَقُولُ بِجَوَازِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَمْنُوعُ إِذَا فُعِلَ جَائِزًا. وَقُلْتُمْ: إنه إنما يتصور الجمع في (مثل) (¬10) هذا النحو في منع التنزيه لا (في) (¬11) مَنْعِ التَّحْرِيمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا (أَوْرَدْتُمْ) (¬12) في المسألة. وكلها إيرادات (سديدة) (¬13) صَادِرَةٌ عَنْ قَرِيحَةٍ قِيَاسِيَّةٍ مُنْكِرَةٍ/ لِطَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ،/ وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَيْلُ فَحَوْلٍ (مَنِ) (¬14) الْأَئِمَّةِ والنظار، حتى ¬

(¬1) في (م): "الدليل". (¬2) في (م): "وكذلك". (¬3) في (غ) و (ر): "جماعة". (¬4) هو أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن الجذامي، أبو العباس القباب، فقيه مالكي، ولي القضاء بجبل طارق، توفي سنة 778، وقيل 779هـ. انظر: الديباج المذهب (1 187)، وشجرة النور (1 235). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) زيادة من (غ) و (ر) والمعيار. وجميع الزيادات التي في المعيار أضعها بين قوسين هكذا ()، وهي في المعيار (6 387 ـ 396). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في (ت): "المرجوحية". (¬9) في المعيار هكذا: يقول المفتي ابتداء: "هذا لا يجوز"، ونصّ المعيار أقرب إلى الصواب. (¬10) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬11) زيادة من المعيار. (¬12) في المعيار: أودعتموه. (¬13) في (ط) و (خ): "شديدة". (¬14) ساقط من (غ) و (ر).

قال الإمام أبو عبد الله الشافعي ـ (رحمه الله) ـ: مَنِ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ. وَلَقَدْ ضَاقَتِ الْعِبَارَةُ عن معنى أصل الاستحسان ـ/ كما في (كريم) (¬1) عِلْمِكُمْ ـ حَتَّى قَالُوا: أَصَحُّ عِبَارَةٍ فِيهِ أَنَّهُ مَعْنًى يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَعْسُرُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلُهُ الَّذِي (تَرْجِعُ) (¬2) / فروعه إليه، فكيف (ما) (¬3) يبنى/ عليه؟ (لا بُدَّ) (¬4) أَنْ تَكُونَ الْعِبَارَةُ عَنْهَا أَضْيَقَ. وَلَقَدْ كُنْتُ أَقُولُ: (بِمِثْلِ مَا قَالَ) (¬5) هَؤُلَاءِ الْأَعْلَامُ فِي طَرْحِ الِاسْتِحْسَانِ، وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ، لَوْلَا أنه اعتضد وتقوى (بوجدانه) (¬6) كثيراً في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة (بمحضر جمهورهم) (¬7) مَعَ عَدَمِ النَّكِيرِ، فَتُقَوِّي ذَلِكَ عِنْدِي غَايَةً، وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَانْشَرَحَ إِلَيْهِ الصَّدْرُ، وَوَثِقَ بِهِ الْقَلْبُ، لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِمْ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَمِنْ ذَلِكَ، الْمَرْأَةُ يَتَزَوَّجُهَا رَجُلَانِ ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره (عليه) (¬8) إِلَّا بَعْدَ الْبِنَاءِ، (فَأَبَانَهَا عَلَيْهِ) (¬9) بِذَلِكَ عُمَرُ (¬10) ومعاوية (¬11) ¬

(¬1) زيادة من المعيار. (¬2) في (م) و (غ) و (ر): "مرجع"، وفي المعيار: ترجح، وفي (خ): "يرجع". (¬3) في (ت): "بما". (¬4) هكذا في (م) و (غ) و (ر): "وفي المعيار"، وفي (ط) و (خ): فلا بد. (¬5) في (ت): بما قال به. وفي (غ) و (ر): "مقال". (¬6) في (ط): "لوجدانه". (¬7) في جميع النسخ: وجمهورهم، والتصحيح من المعيار و (غ) و (ر). (¬8) زيادة من المعيار و (غ) و (ر). (¬9) في المعيار و (ت) و (غ) و (ر): "فأفاتها". (¬10) أثر عمر مذكور في المدونة (4/ 169) من طريق ابن وهب عن معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد أنه قال: (إن عمر بن الخطاب قضى في الوليين ينكحان المرأة ولا يعلم أحدهما بصاحبه إنها للذي دخل بها، فإن لم يكن دخل بها أحدهما فهي للأول). ويحيى بن سعيد لم يسمع من عمر. (¬11) أثر معاوية أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 233) برقم (10636) قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن موسى بن طلحة أنكح بالشام يزيد بن معاوية .... إلخ، فظاهر السند صحيح.

والحسن (¬1) (رضي الله تعالى عنهم جميعهم، ونسب مثله أيضاً لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (¬2)) (¬3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكُلُّ مَا (أَوْرَدْتُمْ) (¬4) فِي قَضِيَّةِ السُّؤَالِ وَارِدٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبِنِ هُوَ الْأَوَّلُ، فَدُخُولُ الثَّانِي بِهَا دُخُولٌ بزوج غيره، وكيف يكون غلطه على زوج (غيره) (¬5) / مبيحاً (لوطئها) (¬6) عَلَى الدَّوَامِ، وَمُصَحِّحًا لِعَقْدِهِ الَّذِي لَمْ يُصَادِفْ مُحِلًّا، (وَمُبْطِلًا) (¬7) لِعَقْدِ نِكَاحٍ مُجْمَعٍ عَلَى صِحَّتِهِ (ولزومه) (¬8)، لِوُقُوعِهِ عَلَى وَفْقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؟ وَإِنَّمَا (الْمُنَاسِبُ) (¬9) أَنَّ الْغَلَطَ يَرْفَعُ عَنِ الْغَالِطِ الْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ، لَا إِبَاحَةَ زَوْجِ غَيْرِهِ دَائِمًا، وَمَنْعَ زَوْجِهَا مِنْهَا. وَمِثْلُ (ذَلِكَ) (¬10) مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْأَلَةِ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: أَنَّهُ إِنْ قَدِمَ الْمَفْقُودُ قَبْلَ نِكَاحِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ نِكَاحِهَا وَالدُّخُولِ بِهَا (بَانَتْ) (¬11)، وَإِنْ (كَانَ) (¬12) بَعْدَ الْعَقْدِ، وَقَبْلَ الْبِنَاءِ فَقَوْلَانِ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: الْحُكْمُ لَهَا بِالْعِدَّةِ مِنَ الْأَوَّلِ إِنْ كَانَ/ قَطْعًا (لِعِصْمَتِهِ) (¬13) فَلَا حَقَّ لَهُ فيها ¬

(¬1) إن كان الحسن هو ابن علي بن أبي طالب فهو مذكور في أثر معاوية السابق، وإن كان الحسن البصري، فلم أقف على قوله. (¬2) أثر علي أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 231) برقم (10626) عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الكريم أن أبا موسى أخبره أن وليين كلاهما جائز نكاحه ... إلخ وعبد الكريم لم يتبيّن لي من هو؟ فمحتمل أن يكون عبد الكريم بن أبي المخارق البصري، وهو ضعيف كما في التقريب (4156) ومحتمل أن يكون: عبد الكريم بن مالك الجزري وهو ثقة كما في التقريب (4154)، كما أن أبا موسى المذكور في الأثر، جاء في بقية الأثر أنه جار لعبيد الله بن الحر الجعفي أحد أفراد القصة اللذين نكحا امرأة واحدة، فيكون أبو موسى مجهولاً، والله أعلم. وجاء بنحوه في السنن الكبرى للبيهقي (7/ 141) برقم (13587) من طريق خلاس بن عمرو الهجري عن علي، وفي روايته عن علي كلام، قيل أنه كتاب وقع له ولم يسمع من علي. انظر: جامع التحصيل (ص172). (¬3) زيادة من المعيار و (غ) و (ر). (¬4) في (غ) و (ر): "أورد". (¬5) في (م): "غير". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) في (م): "ولا مبطلاً". (¬8) زيادة من المعيار. (¬9) ساقط من (غ) و (ر). (¬10) ساقط من (غ) و (ر). (¬11) في (م) و (غ) و (ر): "فاتت". (¬12) في (ط) و (خ) و (ت): "كانت". (¬13) في المعيار: بعصمته.

وَلَوْ قَدِمَ قَبْلَ تَزَوُّجِهَا، أَوْ لَيْسَ بِقَاطِعٍ للعصمة، فكيف تباح لغيره وهي فِي عِصْمَةِ الْمَفْقُودِ؟. وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ (¬1) فِي ذَلِكَ أَغْرَبُ وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا قَدِمَ الْمَفْقُودُ يخيَّر بَيْنَ امْرَأَتِهِ أَوْ صداقها، فإن (اختارها بقيت له، وإن) (¬2) اخْتَارَ صَدَاقَهَا بَقِيَتْ لِلثَّانِي، (فَأَيْنَ) (¬3) هَذَا مِنَ الْقِيَاسِ؟ وَقَدْ صَحَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا النَّقْلَ عَنِ الْخَلِيفَتَيْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَنَقَلَ/ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَوْ أَمْضَى الْحُكْمَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَشْهَرُ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَمِثْلُهُ في قضايا الصحابة كثير (من) (¬4) ذلك (رضي الله عن جميعهم) (¬5). (قال ابن المعذل) (¬6): لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ حَضَرَهُمَا وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَقَامَ أَحَدُهُمَا فَأَوْقَعَ الصَّلَاةَ/ بِثَوْبٍ نَجِسٍ (مِجَاناً) (¬7)، وَقَعَدَ الآخر حتى خرج الوقت ((ثم صلاها) (¬8) بثوب طاهرٍ ما استوت (حالتهما) (¬9) عند مسلم، ولا تقاربت. يعني/ أن الذي صلى في الوقت بالنجاسة عامداً أجمع الناس أنه لا يساويه مؤخرها حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ) (¬10) (وَلَا يُقَارِبُهُ) (¬11) مَعَ نَقْلِ غير واحد ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 85) برقم (12317) عن عمر وعثمان، وورد بنحوه عن عثمان وعلي في السنن الكبرى للبيهقي (7/ 247) برقم (15352) وبنحوه قصة الذي اختطفته الجن وتخيير عمر له. أخرجها ابن أبي شيبة (3/ 523)، وابن حزم في المحلى (10/ 134)، وذكرها ابن عبد البر في التمهيد (13/ 265 ـ 266)، (¬2) زيادة من المعيار و (غ) و (ر). (¬3) في (غ) و (ر): "فليس". (¬4) في (غ) و (ر): "ومن". (¬5) ما بين القوسين زيادة من (ت) (¬6) في (ط): "قال ابن المعدل"، وفي (غ) و (ر): "قال ابن معذل"، وفي المعيار: قول ابن المعدل، وهو أحمد بن المعذل بن غيلان العبدي، من كبار فقهاء المالكية، لم يذكروا سنة وفاته. انظر: الديباج المذهب (1 141)، والسير (11 519)، والتنكيل (1 202). (¬7) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬8) في المعيار: وصلاها. (¬9) في (غ) و (ر): "حالهما". (¬10) زيادة في المعيار و (غ) و (ر). (¬11) في (ط): "ولا يغار به". في (ت): "لم يستويا عند مسلم".

من الأشياخ الإجماع على وجوب (الإعادة على من صلى بالنجاسة عامداً ووجوب الطهارة من) (¬1) النَّجَاسَةِ (¬2) حَالَ الصَّلَاةِ، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ اللَّخْمِيُّ، وَالْمَازِرِيُّ (¬3) وصحَّحه الْبَاجِيُّ (¬4)، وَعَلَيْهِ مَضَى عَبْدُ الْوَهَّابِ (¬5) فِي تَلْقِينِهِ. وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَوْرَدْتُمْ، أَنَّ الْمَنْهِيَّ/ عنه ابتداء غير معتبر، أحرى (أن يكون) (¬6) أَمْرِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِعَكْسِ مَا قَالَ (ابْنُ معذل) (¬7)؛ لِأَنَّ الَّذِي صلَّى بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَى مَا فرط فيه؛ والآخر لم (يصل) (¬8) كَمَا أُمِرَ، وَلَا قَضَى شَيْئًا، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ابْتِدَاءً غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَعْدَ وُقُوعِهِ. وَقَدْ صَحَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ (¬9) حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ التي تزوج نفسها) (¬10). ¬

(¬1) ما بين القوسين زيادة من (ت). وفي (غ) و (ر): "بدل الجملة بجانية". (¬2) بعد هذه الكلمة في (ط) و (خ) هكذا: عَامِدًا جَمْعَ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يُسَاوِي مُؤَخِّرَهَا (حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ وَلَا يُقَارِبُهُ مَعَ نَقْلِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْيَاخِ الْإِجْمَاعَ) عَلَى وُجُوبِ النجاسة حال الصلاة. وما بين القوسين زيادة من (م). والجملة هكذا لا تفهم أبداً، والتصحيح هو كما ورد في المعيار و (ت). (¬3) هو محمد بن عني بن عمر التميمي المازري المالكي، صاحب كتاب المعلم بفوائد شرح مسلم، كان من أئمة المالكية، توفي في سنة 536هـ. انظر: السير (20 104)، وشجرة النور (1 127)، وأزهار الرياض (3 165). (¬4) هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد الباجي، ولد سنة 403هـ. وله تصانيف كثيرة، وتوفي سنة 474هـ. انظر: السير (18 535)، نفح الطيب (2 67). (¬5) هو القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي، تقدمت ترجمته (3/ 52). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (ت): "بكون". (¬7) في (ط) و (خ) و (ت): "ابن المعدل". (¬8) في (ط) و (خ) و (ت): "يعمل". (¬9) أورده الدارقطني في سننه (3 227) ولم يتكلم عليه بتصحيح أو تضعيف، ومسند أبي هريرة من العلل لم يطبع بعد، ويحتمل أن يكون تصحيحه فيه، والله تعالى أعلم. (¬10) أخرجه ابن ماجه (1882)، والدارقطني (3 227)، برقم (25 و26 و29)، والبيهقي في السنن الكبرى (13410 و13412 و13413)، وغيره، ويظهر أن الجملة الأخيرة، وهي قوله: (فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) موقوفة على أبي هريرة رضي الله عنه.=

وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها: (أيما امرأة نكحت بغير إذن (وليها) (¬1) فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَالْمَهْرُ لَهَا بِمَا (أَصَابَ) (¬2) مِنْهَا) (¬3)، فَحَكَمَ أَوَّلًا بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، وَأَكَّدَهُ بِالتَّكْرَارِ ثَلَاثًا،/ وَسَمَّاهُ زِنًا، وَأَقَلُّ (مُقْتَضَيَاتِهِ) (¬4) عَدَمُ اعْتِبَارِ هَذَا الْعَقْدِ جُمْلَةً، لَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّبَهُ بِمَا اقْتَضَى اعْتِبَارَهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ بِقَوْلِهِ: وَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا. وَمَهْرُ الْبَغِيِّ حَرَامٌ (¬5). وَقَدْ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} (¬6)، (فعلل) (¬7) النهي عن استحلالهم (¬8) بِابْتِغَائِهِمْ فَضْلَ اللَّهِ وَرِضْوَانَهُ مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تعالى، ¬

=أشار إلى ذلك البيهقي في السنن الكبرى عقب الحديث ونقله الزيلعي عن ابن معين كما في نصب الراية (3 188)، وقال الألباني في إرواء الغليل: صحيح دون الجملة الأخيرة ـ يقصد قوله: (فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) ـ انظر: إرواء الغليل (6 248 ـ 249). (¬1) في (ط) و (خ) و (ت) و (غ): "مواليها"، وما أثبته هو ما يوجد في (م) ويوافق رواية الدارقطني. (¬2) في (م): "استحل". (¬3) الحديث أخرجه جمع كبير من العلماء منهم الدارقطني ـ وهي الرواية التي ذكرت في النص ـ انظر: سنن الدارقطني (3 221 و225 ـ 226)، وأبو داود برقم (2083)، والترمذي (3 407)، برقم (1102)، وابن ماجه (1 605)، برقم (1879)، والإمام أحمد في المسند (6 165، 47)، والدارمي (2 137)، وعبد الرزاق في المصنف (10472)، وابن أبي شيبة (4 128)، وابن حبان (9 384)، برقم (4074)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن. والحاكم (2 168)، والبيهقي (7 124، 113، 105 ـ 138، 125)، والبغوي في شرح السنة (9 38) برقم (2262)، وغيرهم من أصحاب كتب السنة، وقد تكلم العلماء في إسناد هذا الحديث كلاماً طويلاً، انظر ما ذكره ابن حبان في صحيحه (9 384 ـ 386)، والترمذي في السنن (1 405 ـ 411)، والبيهقي في السنن الكبرى (7 107 ـ 110)، وابن حجر في التلخيص الحبير (3 157)، والألباني في إرواء الغليل (6 243)، واستفدت هذا التخريج من التخريج الموسع لأبي إسحاق الحويني في جنة المرتاب (ص407 ـ 429). (¬4) في (م): "مقتضاته". (¬5) أخرجه البخاري (2237)، ومسلم (1568). (¬6) سورة المائدة: الآية (2). (¬7) في (غ) و (ر): "فلعل". (¬8) في المعيار: فصل النهي عن استحلالهم. وفي (ط) و (خ) و (م) و (ت): "استحلاله".

الَّذِي لَا يَصِحُّ مَعَهُ عِبَادَةٌ، وَلَا يُقْبَلُ عَمَلٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ الْآنَ مَنْسُوخًا، فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ (الِاسْتِدْلَالَ بِهِ) (¬1) فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَسَتَجِدُ (أَقْوَامًا) (¬2) (زَعَمُوا أَنَّهُمْ) (¬3) حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ له (¬4). ولهذا/ (لا) (¬5) يسبى الراهب (ويترك) (¬6) له ماله (أو) (¬7) ما قل منه، على خلاف فِي ذَلِكَ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ يُسْبَى وَيُمْلَكُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَا زَعَمَ أَنَّهُ حَبَسَ نَفْسَهُ لَهُ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ عِبَادَتُهُ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ/ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ اعْتِبَارُ عبادة (المسلم) (¬8) عَلَى (وَفْقِ) (¬9) / دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يُقْطَعُ بِخَطَأٍ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ ذَلِكَ ظَنًّا، وَتَتَبُّعُ (مِثْلِ هَذَا) (¬10) يَطُولُ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا تَحَقَّقَ فِيهِ نَهْيٌ مِنَ الشَّارِعِ: هَلْ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؟ وَفِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ مَا لا يخفى عليكم، فكيف بهذا؟ ¬

(¬1) في المعيار: الاستبدال به. (¬2) في (غ) و (ر): "قوماً". (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9377)، من طريق الزهري عن أبي بكر، وبرقم (9378)، من طريق أبي عمران الجوني عن أبي بكر، وأخرجه مالك في الموطأ (965)، والبيهقي في السنن الكبرى (19727)، كلاهما من طريق يحيى بن سعيد عن أبي بكر، وأخرجه أبو بكر المروزي في مسند أبي بكر (21) من طريق كوثر بن حكيم، قال عنه الإمام أحمد: "متروك الحديث" وضعفه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة كما في الجرح والتعديل (7 176). وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5 179)، من طريق ابن المسيب عن أبي بكر وذكر عقبه إنكار الإمام أحمد لهذه الرواية، وأخرجه أيضاً برقم (19728)، من طريق صالح بن كيسان عن أبي بكر، وبرقم (19728)، من طريق يزيد بن أبي مالك الشامي عن أبي بكر، فجميع الطرق منقطعة بين أبي بكر الصديق ومن روى عنه، ما عدا رواية المروزي وهي ضعيفة الإسناد. (¬5) ساقطة من المعيار. (¬6) في (ت) و (خ): وترك. (¬7) في (ت): و. (¬8) في (ت) و (غ) و (ر): مسلم. (¬9) في المعيار: وجه. (¬10) في (ت): ذلك.

وَإِذَا خَرَجَتِ الْمَسْأَلَةُ (الْمُخْتَلَفُ فِيهَا) (¬1) إِلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ، ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك (المسائل) (¬2)، وَيُرَجِّحُ كُلُّ أَحَدٍ مَا ظَهَرَ لَهُ بِحَسَبِ مَا وُفِّقَ لَهُ، وَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. /انْتَهَى مَا كَتَبَ لِي بِهِ، وَهُوَ بَسْطُ أَدِلَّةٍ شَاهِدَةٍ لِأَصْلِ الِاسْتِحْسَانِ، فَلَا/ يُمْكِنُ مَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ كُلِّهِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْسِنَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ (شرعي) (¬3) أصلاً. ¬

(¬1) ساقطة من المعيار. (¬2) في (م) و (غ) و (ر): "المذاهب". (¬3) زيادة من (غ) و (ر).

فصل

فصل فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا احْتَجُّوا بِهِ أَوَّلًا، فَأَمَّا مَنْ حَدَّ الِاسْتِحْسَانَ بِأَنَّهُ: مَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ. فَكَانَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ هَذَا النَّوْعَ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّز أَنْ يَرِدَ الشَّرْعَ بِذَلِكَ، بَلْ يُجَوِّز أَنْ يَرِدَ بِأَنَّ مَا سَبَقَ إِلَى أَوْهَامِ الْعَوَامِّ ـ مَثَلًا ـ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَيَلْزَمُهُمُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ مِثْلُ (هَذَا) (¬1)، وَلَمْ (يُعْرَفِ) (¬2) التَّعَبُّدُ بِهِ، لَا بِضَرُورَةٍ، وَلَا بِنَظَرٍ، وَلَا بِدَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ قَاطِعٍ وَلَا مَظْنُونٍ، فَلَا يَجُوزُ (إِسْنَادُهُ لِحُكْمِ اللَّهِ) (¬3) لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ تَشْرِيعٍ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَصَرُوا نَظَرَهُمْ فِي الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا فِي الِاسْتِنْبَاطِ، وَالرَّدِّ إِلَى مَا فَهِمُوهُ مِنَ الْأُصُولِ الثابتة، ولم يقل أحد منهم (قط) (¬4): إِنِّي حَكَمْتُ فِي هَذَا بِكَذَا/ لِأَنَّ طَبْعِي مَالَ إِلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ مَحَبَّتِي/ وَرِضَائِي. وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَاشْتَدَّ عَلَيْهِ النَّكِيرُ، وَقِيلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنْ تَحْكُمَ عَلَى عباد اللَّهِ بِمَحْضِ مَيْلِ النَّفْسِ وَهَوَى الْقَلْبِ؟ هَذَا مَقْطُوعٌ بِبُطْلَانِهِ. بَلْ كَانُوا يَتَنَاظَرُونَ وَيَعْتَرِضُ بَعْضُهُمْ (¬5) عَلَى مَأْخَذِ بَعْضِ، (وَيَنْحَصِرُونَ إِلَى) (¬6) ضَوَابِطِ الشَّرْعِ. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "ذلك". (¬2) في (غ) و (ر): "يقع". (¬3) في (غ) و (ر): "إسناد الحكم إليه". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في (ط) و (خ): "ويعترض بعضهم بعضا". (¬6) في (ط): "ويحصرون"، وفي (خ): "ويحصرون إلى".

وَأَيْضًا فَلَوْ رَجَعَ الْحُكْمُ إِلَى مُجَرَّدِ الِاسْتِحْسَانِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُنَاظَرَةِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّ النَّاسَ تَخْتَلِفُ أَهْوَاؤُهُمْ/ وَأَغْرَاضُهُمْ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. /وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى مُنَاظَرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، لمَ كَانَ هَذَا الْمَاءُ (أَشْهَى) (¬1) عِنْدَكَ مِنَ الْآخَرِ؟ وَالشَّرِيعَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. عَلَى أَنَّ أَرْبَابَ الْبِدَعِ الْعَمَلِيَّةِ أَكْثَرُهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ يُنَاظِرُوا أَحَدًا، وَلَا يُفَاتِحُونَ عَالِمًا وَلَا غَيْرَهُ فِيمَا (يبتدعون) (¬2)، خَوْفًا مِنَ الْفَضِيحَةِ أَنْ لَا يَجِدُوا مُسْتَنَدًا شَرْعِيًّا، وَإِنَّمَا شَأْنُهُمْ/ إِذَا وَجَدُوا عَالِمًا أَوْ لَقَوْهُ أَنْ يُصَانِعُوا، وَإِذَا وَجَدُوا جَاهِلًا عَامِّيًّا أَلْقَوْا عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ الطَّاهِرَةِ إِشْكَالَاتٍ، حَتَّى (يزلزلوه) (¬3) ويخلطوا (عليه) (3)، (ويلبسوا) (¬4) (دينه) (3)، فإذا عرفوا (منه) (3) الحيرة والالتباس ألقوا إليه مِنْ بِدَعِهِمْ عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَذَمُّوا أَهْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا الْمُكِبُّونُ عَلَيْهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ، وَرُبَّمَا أَوْرَدُوا عَلَيْهِمْ مِنْ كَلَامِ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ شَوَاهِدَ عَلَى مَا يُلْقُونَ (إِلَيْهِمْ) (3)، حَتَّى يَهْوُوا (بِهِمْ) (3) فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا أَنْ يَأْتُوا الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ وَيُنَاظِرُوا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ فَلَا. وَتَأَمَّلْ مَا نَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي اسْتِدْرَاجِ الْبَاطِنِيَّةِ غَيْرَهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِمْ، تَجِدُهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ إِلَّا عَلَى خَدِيعَةِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ تَقْرِيرِ عِلْمٍ، وَالتَّحَيُّلِ/ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ، حَتَّى يُخْرِجُوهُمْ (عن) (¬5) السُّنَّةِ، أَوْ عَنِ الدِّينِ جُمْلَةً، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ لأتيت بكلامه، فطالعه في كتابه:/ (فَضَائِحُ) (¬6) الْبَاطِنِيَّةِ (¬7). وَأَمَّا الْحَدُّ الثَّانِي (¬8) فَقَدْ رُد بِأَنَّهُ لَوْ فَتَحَ هَذَا الْبَابَ لَبَطَلَتِ الْحُجَجُ وَادَّعَى كُلُّ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ، وَاكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ؛ فَأَلْجَأَ الْخَصْمَ إِلَى الْإِبْطَالِ، وَهَذَا ¬

(¬1) زيادة من (ط) و (خ). وفي (غ) و (ر): "أطيب". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يبتغون". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (ت): "جميع الضمائر بالجمع". (¬4) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر). (¬5) في (ط) و (خ) و (ت): "من". (¬6) في (غ) و (ر): "في فضائح". (¬7) انظر: فضائح الباطنية (ص21 ـ 32). (¬8) راجع (ص45).

يجر فساداً لا خفاء (به) (¬1)، وَإِنْ سلَّم فَذَلِكَ الدَّلِيلُ إِنْ كَانَ فَاسِدًا فَلَا عِبْرَةَ/ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ. وأما الدليل الأول فلا متعلق (فيه) (¬2)، فَإِنَّ (أَحْسَنَ الِاتِّبَاعِ إِلَيْنَا) (¬3) اتِّبَاعُ الْأَدِلَّةِ (الشَّرْعِيَّةِ) (¬4)، وَخُصُوصًا الْقُرْآنَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ/ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (¬5)، وَجَاءَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ ـ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "أَمَّا بَعْدُ، فَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ" (¬6)، فَيَفْتَقِرُ أَصْحَابُ/ الدَّلِيلِ أَنْ يُبَيِّنُوا أَنَّ مَيْلَ الطِّبَاعِ أَوْ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، فضلاً عن أن (يكون) (¬7) مِنْ أَحْسَنِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬8) يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ مَيْلَ النُّفُوسِ يُسَمَّى قَوْلًا، وَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ إِلَى (كَوْنِهِ) (¬9) أَحْسَنَ الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ. ثُمَّ إِنَّا نُعَارِضُ هَذَا الِاسْتِحْسَانَ بِأَنَّ عُقُولَنَا تَمِيلُ إِلَى إِبْطَالِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ الْأَدِلَّةُ (الشَّرْعِيَّةُ) (¬10) الْمُتَلَقَّاةُ مِنَ الشَّرْعِ. وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانُ الْعَوَامِّ وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، إِذَا فَرَضَ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَّبِعُ مُجَرَّدَ مَيْلِ (النفوس) (¬11) وهوى الطباع، وذلك محال، ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "له". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "به". (¬3) في (م): "الاتباع أحسن إلينا"، وفي (غ) و (ر): "اتباع ما أنزل إلينا". (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬5) سورة الزمر: الآية (23). (¬6) أخرجه مسلم برقم (867)، وأحمد في المسند (3 310 و319 و371)، والدارمي (1 80) برقم (206)، وابن ماجه (1 17) برقم (45)، والنسائي في السنن الكبرى (1 550) برقم (1786) و (3 449)، برقم (5892) وفي المجتبى (3 188)، برقم (1578)، وأبو يعلى في المسند (4 85)، برقم (2111)، وابن الجارود في المنتقى (297)، وابن خزيمة في صحيحه (3 143)، برقم (1785)، وابن حبان في صحيحه (1 186)، برقم (10)، والبيهقي في السنن الكبرى (3 206 و213 و214)، برقم (5544 و5589 ـ 5591). (¬7) في (ط): "يقول". (¬8) سورة الزمر: الآية (18). (¬9) في (غ) و (ر): "قوله". (¬10) ساقط من (غ) و (ر). (¬11) ساقط من (غ) و (ر).

لِلْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُضَادٌّ لِلشَّرِيعَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَدِلَّتِهَا. وَأَمَّا الدَّلِيلُ الثَّانِي، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ (بجملتهم) (¬1) حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى بَاطِلٍ، فَاجْتِمَاعُهُمْ عَلَى حُسْنِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى حسنه شرعاً، لأن الإجماع يَتَضَمَّنُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا؛ فَالْحَدِيثُ/ دَلِيلٌ عَلَيْكُمْ لَا لكم (¬2). والثاني: أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ فَلَا يسمع (¬3) والثالث: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُرَدْ بِهِ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ، وأريد (به) (¬4) بَعْضُهُمْ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانُ الْعَوَامِّ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ، لَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ اسْتِحْسَانُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اشْتِرَاطِ الاجتهاد؛ لأن المستحسن بالفرض (لا ينحو إلى الْأَدِلَّةِ) (¬5) فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ؟. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ حَذَرًا مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَدِلَّةِ/ فَإِنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَعْرِفُهَا. قِيلَ:/ بَلِ الْمُرَادُ اسْتِحْسَانٌ يَنْشَأُ عَنِ الْأَدِلَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَصَرُوا أَحْكَامَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ، وَفَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ. (فَالْحَاصِلُ) (¬6) أنَّ تَعَلُّقَ الْمُبْتَدِعَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ تَعَلُّقٌ بِمَا لَا يُغْنِيهِمْ وَلَا يَنْفَعُهُمُ الْبَتَّةَ،/ لَكِنْ/ رُبَّمَا يَتَعَلَّقُونَ في آحاد (بدعهم) (¬7) بِآحَادٍ شُبَهٍ سَتُذْكَرُ فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ الله، ومنها ما قد قضى. ¬

(¬1) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬2) في هامش (ت): "قلت: بل الإجماع أول أدلة الدين وأساسهما لأن الكتاب والسنّة إنما ثبت أمرهما ووصل إلينا بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فمن هذه الحيثية كان له فضل التقدم والمزية". (¬3) يرى الشاطبي أن خبر الآحاد دليل ظني، ولا يعمل به إلا إذا استند إلى أصل قطعي في الشريعة وأن خبر الآحاد لا يؤخذ به في الأمور القطعية، هذا ما صرح به في الجزء الأول من الاعتصام (ص235 ـ 236) (نسخة رشيد رضا)، وهذا الرأي خلاف مذهب أهل السنة في هذه المسألة، إذ يرون وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في المسائل العلمية والعملية. (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في (ط): "لا ينحصر في الأدلة، وفي (خ) و (ت) و (غ) و (ر): "لا ينحصر إلى الأدلة". (¬6) في (ر): "فالجاهل". (¬7) في (ط) و (خ) و (ت): "بدعتهم".

فصل

فصل فإن قيل: أفليس في (بعض) (¬1) الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ (وَيَحِيكُ) (¬2) فِي النَّفْسِ، وَإِنْ لَمْ/ يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلَا غَيْرُ صَرِيحٍ؟ فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ" (¬3). وخرَّج مُسْلِمٌ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: "الْبِرُّ (حُسْنُ) (¬4) الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ الناس عليه" (¬5). ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في (ط): "ويجري". (¬3) قول الشاطبي: فقد جاء في الصحيح. لعله يقصد به صحيح ابن حبان وابن خزيمة لأن الحديث ليس في الصحيحين، ولا أحدهما، وإنما أخرج الحديث أبو داود الطيالسي في مسنده (1178)، وأحمد في المسند (1 200) و (3 112)، والدارمي في سننه (2532 و2789)، والترمذي (2518)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (416)، والنسائي (8 327)، وفي الكبرى (5220)، وأبو يعلى في مسنده (6762 و7492)، وابن خزيمة في الصحيح (2348)، والطبراني في الصغير (284)، وفي الكبير (2708 و2711) و (22 81 برقم 197) و (22 147 برقم 399)، وأبو الشيخ في طبقات أصبهان (1 191) و (4 91)، والحاكم في المستدرك (2169)، وصححه الذهبي، وبرقم (2170)، وبرقم (7046)، وقال الذهبي: "سنده قوي". وأخرجه ابن حبان (722)، والخطيب في تاريخ بغداد (2 220 و386)، (6 385)، والبيهقي في السنن الكبرى (10601). (¬4) في (م): "خلق". (¬5) أخرجه مسلم برقم (2553)، وأحمد في المسند (4 82)، والبخاري في الأدب المفرد (295 و302)، والترمذي (2389)، والطبراني في مسند الشاميين (980)، وابن حبان=

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ/ مَا الْإِيمَانُ؟ قال: "إذا سرتك (حسناتك) (¬2) وساءتك (سيئاتك) (¬3) فأنت مؤمن قال: يا رسول الله، فما الإثم؟ قَالَ: إِذَا حَاكَ شَيْءٌ فِي صَدْرِكَ فَدَعْهُ" (¬4). وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ" (¬5). وَعَنْ وَابِصَةَ (¬6) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: "يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ" (¬7). وَخَرَّجَ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ رَجُلًا سأل ¬

= (397)، والحاكم (2172)، والبيهقي في السنن الكبرى (20574)، والقضاعي في مسنده (53). (¬1) هو صُدي بن عجلان بن وهب بن عريب الباهلي، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزيل حمص، توفي سنة 86هـ. انظر: السير (3 359)، وطبقات ابن سعد (7 411)، وأسد الغابة (3 16). (¬2) في (م) و (غ) و (ر): "حسنتك". (¬3) في (غ) و (ر): "سيئتك". (¬4) أخرجه معمر في الجامع (20104)، وابن المبارك في الزهد (825)، وأحمد في المسند (5 252 ـ 256)، والحارث في مسنده ـ بغية الباحث ـ (11)، والطبراني في الكبير (7539 و7540)، وفي مسند الشاميين (233)، وابن حبان في الصحيح (176)، والحاكم (33)، وقال الذهبي: "على شرطهما". وبرقم (34 و2171). (¬5) أخرجه الإمام أحمد (3/ 153) وأخرجه موقوفاً على أنس رضي الله عنه في المسند (3 112)، وتقدم تخريج الحديث بتوسع في الصفحة السابقة. (¬6) هو وابصة بن معبد بن عتبة بن الحارث الأسدي، وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة تسع، وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأم قيس بنت محصن وغيرهم. انظر: الإصابة (3 262). (¬7) أخرجه أحمد (4 228)، والدارمي في السنن (2533)، والحارث في مسنده ـ بغية الباحث ـ (260)، وأبو يعلى (1586 و1587)، والطبراني في الكبير (22 148 ـ 149).

رسول الله صلى الله عليه وسلم/ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِي مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَسْكُتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ ـ وَنَقَرَ بِإِصْبَعِهِ ـ: "مَا أَنْكَرَ قَلْبُكَ فَدَعْهُ" (¬1). وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الْإِثْمُ (حُوَازُّ) (¬2) الْقُلُوبِ، فَمَا حَاكَ مِنْ شَيْءٍ فِي قَلْبِكَ فَدَعْهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهِ نَظْرَةٌ فَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ مَطْمَعًا (¬3). وَقَالَ أَيْضًا: الْحَلَالُ بيِّن وَالْحَرَامُ بيِّن، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ (¬4). وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْخَيْرَ طُمَأْنِينَةٌ، وَأَنَّ الشَّرَّ رِيبَةٌ، فَدَعْ مَا يريبك إلى ما لا يريبك (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (824 و1162) وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (2230): (هذا إسناد مرسل صحيح، رجاله ثقات، فإن ابن لهيعة صحيح الحديث إذا روى عنه العبادلة، وابن المبارك أحدهم). وذكر الحديث ابن حجر في الإصابة (5 244) وبيّن أن عبد الرحمن بن معاوية تابعي. (¬2) في (م) و (خ): "خوار"، وفي (غ) و (ر): "حراز". والصواب حواز: وهي الأمور التي تحز في القلوب، أي تؤثر فيها، كما يؤثر الحز في الشيء. انظر مادة حوز من لسان العرب. (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير (9 163) برقم (8749، 8748)، وقال الهيثمي في المجمع (1 176): رواه الطبراني كله بأسانيد رجالها ثقات. وذكره في كنز العمال (3 434)، برقم (7320)، وروي مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي تخريجه قريباً. (¬4) أخرجه موقوفاً على ابن مسعود النسائي في المجتبى (5397، 5398)، وفي السنن الكبرى (5945، 5946)، وقال النسائي عقبه: "هذا حديث جيد جيد". وأخرجه الدارمي (165، 168)، والطبراني في الكبير (8920)، والبيهقي في السنن الكبرى (20130). والحديث أصله مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير برقم (52)، ومسلم (1599)، وابن ماجه (3984)، والترمذي (1205)، وأبو داود (3329، 3330)، والنسائي (4453، 5710). والحديث مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مروي في غالب الكتب المسندة من رواية النعمان بن بشير وابن عمر وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله. (¬5) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (29 7)، في تفسير سورة الملك: آية (15)،=

وقال شريح: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَوَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْتُهُ ابْتِغَاءَ وجه الله (¬1). فهذه (الأحاديث والآثار) (¬2) ظَهَرَ مِنْ مَعْنَاهَا الرُّجُوعُ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى مَا يَقَعُ بِالْقَلْبِ/ وَيَهْجِسُ بِالنَّفْسِ وَيَعْرِضُ بِالْخَاطِرِ، وَأَنَّهُ إِذَا اطْمَأَنَّتِ النَّفْسُ/ إِلَيْهِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ، وَإِذَا تَوَقَّفَتْ أَوِ ارْتَابَتْ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ، وَهُوَ عَيْنُ مَا وَقَعَ إِنْكَارُهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ/ الَّذِي يَقَعُ بِالْقَلْبِ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الْخَاطِرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَالِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ أَوْ كَانَ هَذَا (التَّقْرِيرُ) (¬3) مُقَيَّدًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يُحِلْ بِهِ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ وَلَا عَلَى مَا يَقَعُ بِالْقُلُوبِ، مَعَ أَنَّهُ عِنْدَكُمْ عَبَثٌ وَغَيْرُ مُفِيدٍ، كَمَنْ يُحِيلُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْأُمُورِ الْوِفَاقِيَّةِ، أَوِ (الْأَفْعَالِ) (¬4) الَّتِي لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ (لِاسْتِحْسَانِ) (¬5) الْعُقُولِ وَمَيْلِ النُّفُوسِ أَثَرًا فِي شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا قَدْ زَعَمَ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ (¬6) أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ قَالُوا بِتَصْحِيحِهَا، وَالْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ (ظَاهِرُهَا) (¬7)، وَأَتَى بِالْآثَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ آخَرِينَ الْقَوْلَ بِتَوْهِينِهَا وَتَضْعِيفِهَا، وإحالة معانيها. ¬

=وأصله حديث مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أخرجه من حديث الحسن بن علي، الترمذي (2518)، وصححه الألباني، وأخرجه النسائي (5711)، والحاكم في المستدرك (2169)، وصححه الذهبي، وبرقم (2170)، وبرقم (7046)، وقال الذهبي: "سنده قوي". وأخرجه مرفوعاً من حديث واثلة بن الأسقع الطبراني في الكبير (22 81). (¬1) أخرجه ابن سعد في الطبقات (6 136)، وهناد في الزهد (939)، ونعيم بن حماد في زوائد الزهد لابن المبارك (38). (¬2) في (م): "الأدلة"، وهو ساقط من (ط) و (خ). وفي (غ) و (ر): "أدلة". (¬3) في (ت): "بياض بمقدار كلمة". (¬4) في (غ) و (ر): "الأعمال". (¬5) في (م): "الاستحسان". (¬6) لم أجده في المطبوع من تهذيب الآثار. (¬7) في (خ): "ظاهر"، وفي (غ) و (ر): "ظاهر هذه".

/ (ورأيت كلامه) (¬1) وترتيبه بالنسبة إلى ما نحن فيه/ (لائقاً) (¬2) أَنْ/ يُؤْتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ عَلَى تَحَرِّي مَعْنَاهُ دُونَ (لَفْظِهِ) (¬3) لِطُولِهِ، فَحَكَى عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا شَيْءَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَصٍّ عَلَيْهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ حَلَالًا فَعَلَى الْعَامِلِ بِهِ ـ إِذَا كَانَ عَالِمًا ـ تَحْلِيلُهُ، أَوْ حَرَامًا فَعَلَيْهِ تَحْرِيمُهُ، أَوْ مَكْرُوهًا غَيْرَ حَرَامٍ، فَعَلَيْهِ اعْتِقَادُ التَّحْلِيلِ أَوِ التَّرْكِ (تَنْزِيهًا) (¬4). فأما العمل بِحَدِيثِ النَّفْسِ وَالْعَارِضِ فِي الْقَلْبِ فَلَا، فَإِنَّ اللَّهَ حَظَرَ ذَلِكَ عَلَى نَبِيِّهِ فَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ/ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬5) فَأَمَرَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا أَرَاهُ (اللَّهُ) (¬6) لَا بِمَا رآه، وحدثته (به) (¬7) نفسه، (فغيره) (¬8) من البشر أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ جَاهِلًا فَعَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْعُلَمَاءِ دُونَ مَا حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ (¬9). وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ (النَّاسَ) (¬10) فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، (إِلَّا) (¬11) أَنْ تَضِلُّوا (بِالنَّاسِ) (¬12) يَمِينًا وَشِمَالًا (¬13). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حلال أو ¬

(¬1) في (م): "كلامه"، وفي سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وكلامه". (¬2) في (ط) و (ت): "لائق". (¬3) في (م) و (غ) و (ر): "نصه". (¬4) في (غ) و (ر): "تنزها". (¬5) سورة النساء: الآية (105). (¬7) (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) في (م): "فغير". (¬9) في هامش (ت) ما نصّه: "قلت ـ والله أعلم ـ إن مورد هذه الأحاديث وما في معناها ليس هو مما يتعلق بشيء من إحداث الشريعة المنزهة عن صدورها من آراء الخلق وأنظارهم، والخواطر والهواجس الفائضة من أنفسهم وقلوبهم، وإنما المراد بذلك ما يشبه معنى الاستخارة في الأمور العادية من الإقدام على شيء أو الإحجام عنه، ولا يبعد أن يكون ذلك في المتشابهات، وإن كان المأمور به من الشارع الترك استبراءً للدين، وأما المعنى الذي حاولوا الاحتجاج به أهل البدع، فلا سبيل إلى دخوله في الشرعيات أصلاً". (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) زيادة من (غ) و (ر). (¬12) في (غ) و (ر): "بين الناس". (¬13) تقدم تخريجه (1 135).

حرام (بين) (¬1) فَهُوَ كَذَلِكَ، وَمَا سُكِتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ (¬2). /وَقَالَ مَالِكٌ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ (فَيَنْبَغِي) (¬3) أَنْ تُتَّبَعَ آثَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَلَا تتبع الرأي، فإنه (من اتَّبَعَ) (¬4) الرَّأْيَ (جَاءَهُ) (¬5) رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى فِي الرَّأْيِ (مِنْهُ فَاتَّبَعَهُ) (¬6)، (فَكُلَّمَا غَلَبَهُ رَجُلٌ اتَّبَعَهُ أُري أن هذا الأمر بَعْدُ لَمْ يَتِمَّ) (¬7). / (وَاعْمَلُوا) (¬8) مِنَ الْآثَارِ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي إِذَا اعتصمتم به، كتاب الله) (¬9). (وفي حديث أبي هريرة: (إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدي أبداً ما أخذتم بهما، وعملتم بما فيهما: كِتَابَ اللَّهِ) (¬10) وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا علي (الحوض) (¬11)) (¬12). ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) أخرجه أبو داود (3800) والحاكم في المستدرك (7113) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9 330) برقم (19243). (¬3) في جامع بيان العلم: فإنما ينبغي. (¬4) في (م): "متى ما اتبع"، وفي جامع بيان العلم: متى اتبع. (¬5) في (م): "وجامع بيان العلم": جاء. (¬6) في (م): "منك فاتبعته"، وفي جامع بيان العلم: منك فاتبعه. (¬7) في (م): "فكلما غلبك رجل اتبعته، أرى هذا بعد لم تتم. وفي جامع بيان العلم: "فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَ رَجُلٌ غَلَبَكَ اتَّبَعْتَهُ، أَرَى هذا لا يتم" جامع بيان العلم (2072، 2117). (¬8) في (م): "وأعتلو". (¬9) أخرجه مسلم (1218)، وابن ماجه (3074)، وأبو داود (1905)، والنسائي في السنن الكبرى (4001)، والمنتقى لابن الجارود (469)، وابن خزيمة في الصحيح (2809)، وابن حبان في الصحيح (1457 و3944)، والبيهقي في السنن الكبرى (8609). (¬10) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬11) في (م): "حوضي". (¬12) أخرجه الحاكم (319)، والبيهقي في السنن الكبرى (20124)، وابن عدي في الكامل (4 68). وقد وردت روايات أخرى للحديث منها: رواية زيد بن أرقم أخرجها الترمذي (3788)، والنسائي في السنن الكبرى (8148 و8464)، والطبراني في الكبير (2681=

وروي عن عمرو بن (شعيب) (¬1) خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً وهم يجادلون في القرآن، فخرج وجهه أَحْمَرُ كَالدَّمِ فَقَالَ: (يَا قَوْمُ، عَلَى هَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، جَادَلُوا فِي الْقُرْآنِ وَضَرَبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَمَا كَانَ مِنْ حَلَالٍ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَرَامٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ، وَمَا كَانَ مِنْ مُتَشَابِهٍ فَآمِنُوا بِهِ) (¬2). وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْفَعُهُ/ قَالَ: (مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فِيهِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهَ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ/ لَمْ يَكُنْ (لِيَنْسَى) (¬3) شَيْئًا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (¬4)) (¬5). ¬

=و4969 و4971 و4980 و4981 و4986)، والحاكم (4576 و4711 و6272). ومن رواية أبي سعيد الخدري أخرجها ابن الجعد في مسنده (2711)، وأحمد في المسند (3 17)، وفي فضائل الصحابة (990 و1382 و1383)، وأبو يعلى في المسند (1027)، والطبراني في الكبير (2979)، وأبو الشيخ في طبقات أصبهان (2 194)، وابن عدي في الكامل (6 66)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (2 250) و (4 362). ومن رواية ابن عباس أخرجها الحاكم (318)، والبيهقي في السنن الكبرى (20123). ومن رواية حذيفة بن أسيد أخرجها الطبراني في الكبير (2683 و3052). ومن رواية زيد بن ثابت أخرجها أحمد في الفضائل (1032)، وعبد بن حميد في المنتخب (240)، والطبراني في الكبير (4921 ـ 4923). ومن رواية ابن عمر أخرجها عبد بن حميد في المنتخب (858). (¬1) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬2) رواية عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج على بعض أصحابه وهو يتجادلون في القدر ـ وليس في القرآن كما في المتن ـ أخرجه أحمد في المسند (2 178)، والبخاري في خلق أفعال العباد (ص63)، وبنحوه في المسند (2 185 و192)، والنسائي في السنن الكبرى (5 33)، برقم (8095)، وبنحوه أخرجه مسلم في الصحيح (4 2053) برقم (2666) وغيره. (¬3) في (م): "ينسى"، وفي رواية الحاكم (نسيا). (¬4) سورة مريم: الآية (64). (¬5) أخرجه الدارقطني في سننه (2 137)، برقم (12)، والحاكم (2 406)، برقم (3411)، وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وقال الذهبي: (صحيح)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10 12)، برقم (19508)، وورد بنحوه عن سلمان=

/قَالُوا: فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَرَدَتْ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْعَامِلَ بِهِ لَنْ يَضِلَّ، وَلَمْ يَأْذَنْ (لِأَحَدٍ) (¬1) فِي الْعَمَلِ بِمَعْنًى ثَالِثٍ غَيْرِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ ثَمَّ ثَالِثٌ لَمْ يَدَعْ بَيَانَهُ، (فَدَلَّ) (¬2) على (أنه) (¬3) لا ثالث، و (أن) (¬4) من ادَّعَاهُ فَهُوَ مُبْطِلٌ. قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهُ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ سنَّ لِأُمَّتِهِ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ قَوْلُهُ: (اسْتَفْتِ قَلْبَكَ) (¬5)، وَقَوْلُهُ: (الْإِثْمُ حُوَّازُ) (¬6) الْقُلُوبِ) (¬7) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قُلْنَا: لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ لَكَانَ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِأَمْرِهِ بِالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذا صحَّا مَعًا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ تَرِدْ بِمَا اسْتَحْسَنَتْهُ النُّفُوسُ وَاسْتَقْبَحَتْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ وَجْهًا ثَالِثًا لَوْ خَرَجَ شَيْءٌ مِنَ الدِّينِ عَنْهُمَا، (وَلَيْسَ) (¬8) بِخَارِجٍ، فَلَا ثَالِثَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ: (اسْتَفْتِ قَلْبَكَ) وَنَحْوَهُ أَمْرًا لِمَنْ لَيْسَ فِي مَسْأَلَتِهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ، فَيُعَدُّ وَجْهًا ثَالِثًا. قُلْنَا: (لَا يَجُوزُ) (¬9) ذَلِكَ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِعَيْنِهِ قَدْ نُصِبَتْ عَلَى حُكْمِهِ دَلَالَةٌ، فَلَوْ كَانَ فَتْوَى/ الْقَلْبِ، وَنَحْوِهِ دَلِيلًا لَمْ يَكُنْ (لِنَصْبِ) (¬10) الدَّلَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ معنى، فيكون/ عبثاً، وهو باطل. ¬

=الفارسي في سنن ابن ماجه (2 1117)، برقم (3367)، والترمذي (4 220)، برقم (1726) ـ وحسنه الألباني ـ والطبراني في المعجم الكبير (6 250 و261)، برقم (6124 و6159)، والبيهقي في السنن الكبرى (9 320 و10 12) برقم (19175 و19506 و19507)، وورد بنحوه عن ابن عباس موقوفاً، انظر (ص75). (¬1) في (غ) و (ر): "لأمته". (¬2) في (ط): "فعدل". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أن". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) سبق تخريجه (ص71) ت7. (¬6) في (م): "جواز"، وفي (خ) و (ت): "خوار". (¬7) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5434)، وورد موقوفاً، حيث تقدم (ص72) ت3. (¬8) في (ت): "ولا". (¬9) في (خ): "يجوز". (¬10) في (ط): "لنصت".

وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1)، فَأَمَرَ الْمُتَنَازِعِينَ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ دُونَ حديث النفوس وفُتيا القلوب. والثالث: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬2)، فَأَمَرَهُمْ بِمَسْأَلَةِ أَهْلِ الذِّكْرِ لِيُخْبِرُوهُمْ بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَسْتَفْتُوا فِي ذلك أنفسهم. والرابع: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ/ لِنَبِيِّهِ احْتِجَاجًا عَلَى من أنكر وحدانيته: {ت ث ج ح خ د} (¬3) إِلَى آخِرِهَا، فَأَمَرَهُمْ بِالِاعْتِبَارِ (بِعِبْرَتِهِ) (¬4) / وَالِاسْتِدْلَالِ بِأَدِلَّتِهِ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أن يستفتوا فيه نفوسهم ويصدروا عَمَّا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ قُلُوبُهُمْ، وَقَدْ وَضَعَ الْأَعْلَامَ وَالْأَدِلَّةَ، فَالْوَاجِبُ/ فِي كُلِّ مَا وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ الدَّلَالَةَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِأَدِلَّتِهِ عَلَى مَا دلت (عليه) (¬5) دُونَ فَتْوَى النُّفُوسِ، وَسُكُونِ الْقُلُوبِ/ مِنْ أَهْلِ الجهل بأحكام الله. هذا مَا حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَمَّنْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ (اخْتَارَ) (¬6) إِعْمَالَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ، إِمَّا لِأَنَّهَا صَحَّتْ عِنْدَهُ (أَوْ صَحَّ) (¬7) مِنْهَا عِنْدَهُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ معانيها؛ كحديث: "الْحَلَالُ بيِّن وَالْحَرَامُ بيِّن وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ" (¬8) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ خرَّجه الْإِمَامَانِ، ولكنه لم يُعملها في كل (شيء) (¬9) مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي تَشْرِيعِ الْأَعْمَالِ وَإِحْدَاثِ التَّعَبُّدَاتِ، فَلَا يُقَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَاثِ الْأَعْمَالِ: إِذَا اطْمَأَنَّتْ نَفْسُكَ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ فَهُوَ بِرٌّ، أَوِ اسْتَفْتِ قَلْبِكَ فِي إِحْدَاثِ هَذَا الْعَمَلِ، فَإِنِ اطْمَأَنَّتْ إليه نفسك فاعمل به وإلا فلا. ¬

(¬1) سورة النساء: الآية (59). (¬2) سورة النحل: الآية (43). (¬3) سورة الغاشية: الآية (17). (¬4) في (م) و (غ) و (ر): "بعبرة". (¬5) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬6) في (م): "اخبار". (¬7) في (ر): "وأصح". (¬8) تقدم تخريجه (1/ 183). (¬9) زيادة من (غ) و (ر).

وكذلك (بالنسبة) (¬1) إِلَى التَّشْرِيعِ التُّرْكِيِّ، لَا يَتَأَتَّى تَنْزِيلُ مَعَانِي الْأَحَادِيثِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُقَالَ: إِنِ اطْمَأَنَّتْ نَفْسُكَ إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ الْفُلَانِيِّ فَاتْرُكْهُ، وَإِلَّا فَدَعْهُ، أَيْ فَدَعِ التَّرْكَ وَاعْمَلْ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِعْمَالُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا أَعْمَلَ فِيهِ قَوْلَهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الْحَلَالُ بيِّن وَالْحَرَامُ بيِّن" الْحَدِيثَ. وَمَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَمِنْهُ مَا هُوَ بَيِّنُ الْحِلِّيَّةِ وَمَا هُوَ بَيِّنُ التَّحْرِيمِ/ وَمَا فِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُشْتَبَهُ الَّذِي لَا يُدْرَى أَحَلَالٌ/ هُوَ أَمْ حَرَامٌ؟ (فَإِنَّ تَرْكَ الْإِقْدَامِ أَوْلَى مِنَ الْإِقْدَامِ مَعَ جَهَلَةٍ بِحَالِهِ، نَظِيرَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إِنِّي لِأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، (فَلَوْلَا) (¬2) أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا" (¬3). فَهَذِهِ التَّمْرَةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ إِحْدَى (الحالتين) (¬4): إِمَّا مِنَ الصَّدَقَةِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِ/ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ حَلَالٌ لَهُ، فَتَرَكَ أَكْلَهَا حَذَرًا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَكَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تعالى عَلَى الْعَبْدِ ـ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فِي سَعَةٌ مِنْ تَرْكِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، أَوْ مما هو غير واجب (عليه) (¬5) أن يدع ما يريبه فيه إِلَى مَا لَا يُرِيبُهُ، إِذْ يَزُولُ بِذَلِكَ عن نفسه الشك، كمن يريد ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "في النسبة". (¬2) في (خ): "فلو". (¬3) أخرجه البخاري برقم (2055 و2431)، ومسلم (1070 و1071)، وبنحوه في صحيفة همام بن منبه (94)، وإسحاق بن راهويه في المسند (483)، وأحمد في المسند (2 180 و193 و317) و (3 119 و132 و184 و258 و291)، وأبو داود (1651 و1652)، وأبو يعلى في مسنده (2862 و2975 و3011 و3094)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2 9 و10)، وابن حبان في صحيحه (3292 و3296)، والبيهقي في السنن الكبرى (10600 و11876 و11877 و13012 ـ 13014). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحالين". (¬5) زيادة من (غ) و (ر).

خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَتُخْبِرُهُ امْرَأَةٌ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْهُ وَإِيَّاهَا، وَلَا يَعْلَمُ صِدْقَهَا مَنْ كَذِبِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا/ أَزَالَ عَنْ نَفْسِهِ الرِّيبَةَ اللَّاحِقَةَ لَهُ بِسَبَبِ إِخْبَارِ الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ (تَزَوُّجُهُ) (¬1) إِيَّاهَا بِوَاجِبٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقْدَمَ، فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَى حِلِّيَّة تِلْكَ (الزَّوْجَةِ) (¬2). وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْبُيُوعِ فَلَمْ يَدْرِ (أَحَلَالٌ) (¬3) هُوَ أَمْ (حَرَامٌ) (¬4)؟ فَفِي تَرْكِهِ سُكُونُ النَّفْسِ وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ، كَمَا فِي الْإِقْدَامِ شَكٌّ، هَلْ هُوَ آثِمٌ أَمْ لَا؟ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّوَّاسِ وَوَابِصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الْمُشْتَبِهَاتِ، لَا مَا ظَنَّ أُولَئِكَ مِنْ أنه أمر للجهال أن يعملوا بِمَا رَأَتْهُ أَنْفُسُهُمْ، وَيَتْرُكُوا مَا/ اسْتَقْبَحُوهُ دُونَ أَنْ يَسْأَلُوا عُلَمَاءَهُمْ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتَ عليَّ حَرَامٌ، فَسَأَلَ/ الْعُلَمَاءَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ بَانَتْ (مِنْكَ) (¬5) بِالثَّلَاثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا حَلَالٌ غَيْرَ أَنَّ عَلَيْكَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ إِلَى نِيَّتِهِ إِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ، أَوِ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ، أَوْ يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. أَيَكُونُ هَذَا اخْتِلَافًا فِي الْحُكْمِ كَإِخْبَارِ الْمَرْأَةِ بِالرِّضَاعِ فَيُؤْمَرُ هُنَا بِالْفِرَاقِ، كَمَا يُؤْمَرُ هُنَاكَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ (أَوْ لَا) (¬6)؟ قِيلَ: حُكْمُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَأَمَانَتِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ، ثُمَّ يُقَلِّدُ/ الْأَرْجَحَ. فَهَذَا مُمْكِنٌ، (وَالْحَزَّازَةُ) (¬7) مرتفعة بهذا ¬

(¬1) في (م) و (غ) و (ر): "تزويجها". (¬2) في (غ) و (ر): "الزوجية". (¬3) في (ط): "حلال". (¬4) في (م) و (غ) و (ر): "لا". (¬5) في (غ) و (ر): "منه". (¬6) في (م): "أولى"، وفي (غ) و (ر): "أم لا". (¬7) في (م): "الحزارة".

الْبَحْثِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا بَحَثَ مَثَلًا عَنْ أَحْوَالِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ (الْحَزَّازَةَ) (¬1) لَا تَزُولُ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْبَحْثُ أَنَّ أَحْوَالَهَا غَيْرُ حَمِيدَةٍ، فَهُمَا عَلَى (هَذَا) (¬2) مُخْتَلِفَانِ، وَقَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْحُكْمِ إِذَا بَحَثَ عَنِ الْعُلَمَاءِ فَاسْتَوَتْ أَحْوَالُهُمْ عِنْدَهُ، (بحيث) (¬3) لَمْ يَثْبُتْ لَهُ تَرْجِيحٌ لِأَحَدِهِمْ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ الِاجْتِنَابِ كَالْمَعْمُولِ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ المُخبرة بِالرَّضَاعِ سَوَاءٌ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. انْتَهَى مَعْنَى كَلَامِ الطَّبَرِيِّ. وَقَدْ أَثْبَتَ فِي مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنَّهُ غَيْرُ مخيَّر، بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ مَنِ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَلَمْ يَدْرِ أحلال هو أو حَرَامٌ) (¬4)، فَلَا خَلَاصَ لَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ إِلَّا باتباع أفضلهم وَالْعَمَلُ بِمَا (أَفْتَى) (¬5) بِهِ، وَإِلَّا (فَالتُّرْكُ) (¬6) إِذْ لَا تَطْمَئِنُّ النَّفْسُ إِلَّا بِذَلِكَ حَسْبَمَا اقْتَضَتْهُ الأدلة المتقدمة. ¬

(¬1) في (م): "الحزارة". (¬2) ساقط من (غ) و (ر). (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) ما بين القوسين () من الصفحة السابقة إلى هنا سقط من (ت)، وهو قريب من صفحتين. (¬5) في (غ) و (ر): "أتى". (¬6) في (غ) و (ر): "الترك".

فصل

/فصل ثُمَّ يَبْقَى فِي هَذَا الْفَصْلِ الَّذِي فَرَغْنَا مِنْهُ إِشْكَالٌ عَلَى كُلِّ مَنِ اخْتَارَ اسْتِفْتَاءَ الْقَلْبِ مُطْلَقًا أَوْ بِقَيْدٍ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ الطبري، وذلك أَنَّ حَاصِلَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي أَنَّ فَتَاوَى الْقُلُوبِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ التَّشْرِيعُ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ (وسكون) (¬1) الْقَلْبُ مُجَرَّدًا عَنِ الدَّلِيلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً أَوْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً فَهُوَ خِلَافُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ (تِلْكَ) (¬2) الْأَخْبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ (بِتِلْكَ) (¬3) الْأَدِلَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فَقَدْ صَارَ ثَمَّ قسم ثالث غير الكتاب والسنة، وهو (عين) (¬4) مَا نَفَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تُعْتَبَرُ فِي الْإِحْجَامِ دُونَ الْإِقْدَامِ، لَمْ (تَخْرُجْ) (¬5) (بذلك) (¬6) عَنْ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فِعْلٌ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ به حكم شرعي، وهو الجواز أو عدمه، وَقَدْ عُلِّقَ ذَلِكَ بِطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ عَدَمِ طمأنينتها، فإن كان ذلك عن دليل: (فالحكم مبني على الدليل لا على نفس الطمأنينة أو عدمها وإن لم يكن عن دليل) (¬7) فهو ذلك الأول بعينه (فالإشكال) (¬8) بَاقٍ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَالْجَوَابُ: / أَنَّ الْكَلَامَ الأوّل صحيح، وإنما النظر في تحقيقه. ¬

(¬1) في (م): "والسكون". (¬2) ساقط من (غ) و (ر). (¬3) في (غ) و (ر): "فتلك". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "غير". (¬5) في (غ) و (ر): "يخرج". (¬6) في (ط) و (م) و (خ): "تلك". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) ما بين القوسين ساقط من (ط).

/فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ تَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرَيْنِ، نَظَرٍ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ، وَنَظَرٍ فِي مَنَاطِهِ (¬1)، فأما النظر في دليل الحكم (فإن الدليل) (¬2) لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ (أو السنة) (¬3) أَوْ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمَا (مِنْ) (¬4) إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَلَا نَفْيُ رَيْبِ الْقَلْبِ إِلَّا مِنْ/ جِهَةِ اعْتِقَادِ كَوْنِ الدَّلِيلِ/ دَلِيلًا أَوْ غَيْرَ دليل، ولا يقول (بذلك) (¬5) أحد ـ إِلَّا أَهْلَ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَسْتَحْسِنُونَ (الْأَمْرَ) (¬6) بِأَشْيَاءَ لَا دَلِيلَ (عَلَيْهَا) (¬7)، أَوْ يَسْتَقْبِحُونَ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ إِلَّا طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ ـ أَنَّ الْأَمْرَ كما زعموا، وهو مخالف لإجماع المسلمين. وأما النظر (الثاني الذي هو) (¬8) فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْمَنَاطَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا/ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَقَطْ، بل (قد) (¬9) (يَثْبُتُ) (¬10) بِدَلِيلٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ، أَوْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فلا يشترط (في تحقيقه) (¬11) بُلُوغَ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ فَضْلًا عَنْ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا سَأَلَ عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ جِنْسِ/ الصَّلَاةِ إِذَا فَعَلَهُ الْمُصَلِّي هَلْ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ (له) (¬12) (العالم) (¬13): إِنْ كَانَ يَسِيرًا فَمُغْتَفَرٌ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فمبطل. (لم يفتقر) (¬14) في اليسير إِلَى أَنْ يُحَقِّقَهُ (لَهُ) (¬15) الْعَالِمُ، بَلِ الْعَاقِلُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفِعْلِ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ، فَقَدِ انْبَنَى ها هنا الْحُكْمُ ـ وَهُوَ الْبُطْلَانُ أَوْ عَدَمُهُ ـ عَلَى مَا يَقَعُ بِنَفْسٍ الْعَامِّيُّ، وَلَيْسَ وَاحِدًا مِنَ الْكِتَابِ أو ¬

(¬1) المناط: هي علة الحكم، لأنها مكان نوطه أي تعليقه. انظر مذكرة الشنقيطي (ص291). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في (ط) و (خ): "والسنة". (¬4) في (ط) و (خ): "عن". (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في (ت): "الأمور". (¬7) ساقطة من (م). (¬8) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) في (م): "تثبت". (¬11) في (ط) و (خ) و (ن): "فيه"، وهي ساقطة من (م). (¬12) زيادة من (غ) و (ر). (¬13) في (ط) و (خ) و (ت): "العامي". (¬14) في (ط): "لم يغتفر". وفي (ت): "ولم يفتقر". (¬15) ساقط من (غ) و (ر).

السُّنَّةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَا وَقَعَ بِقَلْبِهِ دَلِيلًا على حكم، وإنما هو (تحقيق) (¬1) مَنَاطُ الْحُكْمِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ لَهُ الْمَنَاطُ بِأَيِّ وَجْهٍ تَحَقَّقَ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَيَقَعُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِدَلِيلِهِ الشَّرْعِيِّ. وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْفَوْرِ فِي الطَّهَارَةِ، وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ فِي التَّفْرِيقِ الْحَاصِلِ أَثْنَاءَ الطَّهَارَةِ (¬2)، فَقَدْ يَكْتَفِي الْعَامِّيُّ بِذَلِكَ حَسْبَمَا يَشْهَدُ قَلْبُهُ فِي الْيَسِيرِ أَوِ الْكَثِيرِ، فَتَبْطُلُ طَهَارَتَهُ أَوْ تَصِحُّ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْوَاقِعِ فِي الْقَلْبِ، لِأَنَّهُ نَظَرَ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ. /فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ مَلَكَ لَحْمَ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ حلَّ لَهُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ حلّيته ظاهرة عنده، (إذ) (¬3) حصل له شرط الحلية (فتحقق) (¬4) مَنَاطِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، أَوْ مَلَكَ لَحْمَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ ظاهر من جهة/ فقده شرط الحلية (وهو الذكاة) (¬5) فتحقق (مناطه) (¬6) بالنسبة إليه، وكل واحد من (هذين) (¬7) الْمَنَاطَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَقَعَ بِقَلْبِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، لَا بِحَسَبِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّحْمَ قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَيَعْتَقِدُ وَاحِدٌ حِلِّيَّتَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَحَقَّقَ لَهُ مِنْ (مَنَاطِهِ) (¬8) بِحَسَبِهِ، وَيَعْتَقِدُ آخَرُ تَحْرِيمَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَحَقَّقَ لَهُ مِنْ مَنَاطِهِ بِحَسَبِهِ، فَيَأْكُلُ أَحَدُهُمَا حَلَالًا وَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِ الِاجْتِنَابُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ،/ وَلَوْ كَانَ مَا يَقَعُ بِالْقَلْبِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمِثَالُ، وَكَانَ محالاً (شرعاً) (¬9)، لأن (أدلة) (¬10) الشرع لا (تتناقض) (¬11) / أبداً. ¬

(¬1) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬2) في (خ) تكرار وهو: وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ فِي التَّفْرِيقِ الْحَاصِلِ أثناء الطهارة. (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إذا". (¬4) في (م): "يتحقق"، وفي (ت) و (خ) و (ط): "لتحقق". (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مناطها". (¬7) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬8) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "مناطها". (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) في (م): "الدلة". (¬11) في (ط): "تناقض".

فَإِذَا فَرَضْنَا لَحْمًا أَشْكَلَ عَلَى الْمَالِكِ تَحْقِيقُ مَنَاطِهِ (لَمْ) (¬1) يَنْصَرِفْ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ، كَاخْتِلَاطِ الميتة (بالذكية) (¬2)، واختلاط الزوجة بالأجنبية. فها هنا قَدْ وَقَعَ الرَّيْبُ وَالشَّكُّ وَالْإِشْكَالُ وَالشُّبْهَةُ. وَهَذَا الْمَنَاطُ مُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يبيِّن حُكْمَهُ، (وهو) (¬3) تِلْكَ الْأَحَادِيثُ/ الْمُتَقَدِّمَةُ، كَقَوْلِهِ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلا مَا لَا يَرِيبُكَ"، وَقَوْلُهُ: "الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ" (¬4)، كأنه يقول: إذا (اعتبرت) (¬5) بِاصْطِلَاحِنَا مَا تَحَقَّقْتَ مَنَاطَهُ فِي الْحِلِّيَّةِ أَوِ الْحُرْمَةِ؛ فَالْحُكْمُ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ بيِّن، وَمَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ تَحْقِيقُهُ فَاتْرُكْهُ وَإِيَّاكَ وَالتَّلَبُّسَ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ـ إِنْ صَحَّ ـ: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ" (¬6)، فَإِنَّ تَحْقِيقَكَ لِمَنَاطِ مَسْأَلَتِكَ أَخَصُّ (بِكَ) (¬7) مِنْ تَحْقِيقِ غَيْرِكَ لَهُ إِذَا كَانَ مِثْلَكَ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ الْمَنَاطُ وَلَمْ يُشْكِلْ عَلَى غَيْرِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ مَا عَرَضَ لَكَ. /وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ أَفْتَوْكَ)، أَيْ: إِنْ نَقَلُوا (إِلَيْكَ) (¬8) الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فَاتْرُكْهُ وَانْظُرْ مَا يُفْتِيكَ بِهِ قَلْبُكَ، فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ، وَتَقَوُّلٌ عَلَى التَّشْرِيعِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا/ الْمُرَادُ مَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ. نَعَمْ قَدْ لَا يَكُونُ (لَكَ دُرْبَةٌ) (¬9) أو (أنس) (¬10) بتحقيقه، فيحققه لك ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "فلم". وأشار المحقق لنسخة (ط) أن أصل المخطوط عنده (فلم) فعدلها لأنها جواب (فإذا). (¬2) في (م) و (ت): "بالمذكية". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وهي". (¬4) تقدم تخريجه (ص71). (¬5) في (م) و (غ) و (ر): "عبرنا". وفي (ط) و (خ): "اعتبرنا". (¬6) تقدم تخريجه (ص71). (¬7) في (غ) و (ر): "به". (¬8) في (غ) و (ر): "لك". (¬9) في (ط): "ذلك درية". وفي (خ): "لك درية". (¬10) في (ط): "أنسا".

غَيْرُكَ، وَتَقَلِّدُهُ فِيهِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَدِيثِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أَيْضًا (مَوْقُوفًا) (¬1) عَلَى تَعْرِيفِ الشَّارِعِ، كَحَدِّ الْغِنَى الْمُوجِبِ لِلزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَحَقَّقَهُ الشَّارِعُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا (أَوْ) (¬2) مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا/ النَّظَرُ هُنَا فِيمَا وُكِلَ تَحْقِيقُهُ إِلَى الْمُكَلَّفِ. فَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِاقْتِنَاصِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ مَيْلِ الْقَلْبِ كَمَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ الْمُسْتَشْكِلُ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ بَالِغٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الذي بنعمته تتم الصالحات. ¬

(¬1) في (م): "موقوف". (¬2) في (ط): "و".

الباب التاسع في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعةعن (جماعة المسلمين)

/ الْبَابُ التَّاسِعُ فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ افْتَرَقَتْ فرق المبتدعةعن (جماعة المسلمين) (¬1) فَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَمِّ/ الْبِدْعَةِ، وَكَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ أَشْعَرَتْ بِوَصْفٍ لِأَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَهُوَ الْفِرْقَةُ الْحَاصِلَةُ، حَتَّى يَكُونُوا بسببها شيعاً متفرقة، لا ينتظم شملهم (الإسلام) (¬2)، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَحَكَمَ (لَهُمْ) (¬3) بِحُكْمِهِ. أَلَّا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬4)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (¬5)، وقوله تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا/ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬6)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وصف التفرق. وفي الحديث: "ستفترق أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً" (¬7)، وَالتَّفَرُّقُ/ نَاشِئٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ إِنْ جَعْلَنَا التَّفَرُّقَ مَعْنَاهُ بِالْأَبْدَانِ ـ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ ـ وَإِنْ جَعْلَنَا مَعْنَى التَّفَرُّقِ فِي الْمَذَاهِبِ، فَهُوَ الِاخْتِلَافُ، كَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (¬8). ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "أهل السنة". (¬2) في (ط) و (خ) و (ت): "بالإسلام". (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) سورة الأنعام: الآية (159). (¬5) سورة الروم: الآيتان (31، 32). (¬6) سورة الأنعام: الآية (153). (¬7) سيأتي تخريجه ـ إن شاء الله تعالى ـ (ص122). (¬8) سورة آل عمران: الآية (105).

فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا سَبَبُهُ؟ وَلَهُ سَبَبَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا كَسْبَ للعباد فِيهِ، وَهُوَ الرَّاجِعُ إِلَى سَابِقِ الْقَدَرِ. وَالْآخَرُ: هُوَ الْكَسْبِيُّ؛ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ/ عَلَيْهِ فِي هذا الباب، إلا (أنا) (¬1) نَجْعَلَ السَّبَبَ الْأَوَّلَ مُقَدِّمَةً، فَإِنَّ فِيهَا مَعْنًى أصيلاً يجب (التنبه) (¬2) لَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّفَقُّهَ فِي الْبِدَعِ، فَنَقُولُ ـ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ـ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (¬3)، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ أَبَدًا، مَعَ أَنَّهُ (لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مُتَّفِقِينَ لكان (قادراً) (¬4) على ذلك، لَكِنْ سَبَقَ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ أَنَّهُ) (¬5) إِنَّمَا خَلَقَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الآية وأن قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} مَعْنَاهُ: وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: خَلَقَهُمْ لِيَكُونُوا فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي السَّعِيرِ (¬6). وَنَحْوَهُ عَنِ الْحَسَنِ (¬7). فَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُمْ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ إِلَّا مَا سَبَقَ (في) (¬8) العلم، وليس المراد ها هنا الِاخْتِلَافُ فِي الصُّوَرِ، كالحَسَنِ (وَالْقَبِيحِ) (¬9)، وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَلَا فِي الْأَلْوَانِ كَالْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَلَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالتَّامِّ الْخَلْقِ (وَالنَّاقِصِ الْخَلْقِ) (¬10)، وَالْأَعْمَى والبصير، والأصم ¬

(¬1) في (ط): "أن". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التثبت". (¬3) سورة هود: الآيتان (118 ـ 119). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ) و (ت). (¬6) أخرجه ابن جرير في تفسيره (18742)، واللالكائي برقم (968). (¬7) أخرجه أبو داود في سننه (4615)، وصححه الألباني، وبنحوه أخرجه عبد الله في السنة (2 430)، برقم (950)، والطبري في تفسيره (15 532، 536)، برقم (18706 و18729)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6 2095)، برقم (11295 و11297 و11298)، والآجري في الشريعة (313 و314)، واللالكائي (968). (¬8) في (غ) و (ر): "به". (¬9) في (م) و (غ) و (ر): والقبح. (¬10) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ) و (ت).

وَالسَّمِيعِ، وَلَا فِي/ الْخُلُقِ كَالشُّجَاعِ وَالْجَبَانِ، وَالْجَوَادِ وَالْبَخِيلِ، وَلَا فِيمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ اخْتِلَافٌ آخَرُ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ لِيَحْكُمُوا فِيهِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى/: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً/ وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} (¬1)، وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي الْآرَاءِ وَالنِّحَلِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا يَسْعَدُ الْإِنْسَانُ بِهِ أَوْ يَشْقَى في الآخرة والدنيا. هَذَا هُوَ/ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق، (إلا) (¬2) أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَوْجُهٍ: /أَحَدُهَا: الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ النِّحْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ قَالَ: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (قَالَ) (¬3): "الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، وَالْحَنِيفِيَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ رَحِمَ رَبُّكَ (الْحَنِيفِيَّةُ) " (¬4). خرَّجه ابْنُ وَهْبٍ (¬5). /وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لِبَادِيِ الرَّأْيِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ هُوَ فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّوَجُّهُ لِلْوَاحِدِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ لَمْ يَخْتَلِفُوا (فِي) (¬6) أَنَّ لَهُمْ مدبَّراً يدبِّرهم، وَخَالِقًا أَوَجَدَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ عَلَى آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْ قَائِلٍ بِالِاثْنَيْنِ أو ¬

(¬1) سورة البقرة: الآية (213). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ط). (¬3) في (ط) و (خ): "قال ـ قال". (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ت). والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (11288)، وابن جرير في تفسيره (15 531 ـ 532)، برقم (18700 و18701)، ولم أجد الأثر في الجزء المطبوع من جامع ابن وهب ـ وهو في مجلدين ـ وتوجد منه قطعة مخطوطة، لكني لم أجد الأثر فيه، وباقي كتاب الجامع في حكم المفقود. (¬5) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم المصري، ولد سنة 125هـ. ومات سنة 197هـ، وهو إمام ثقة، وله عدة كتب منها الجامع، وهو الذي يكثر الشاطبي من النقل عنه انظر: طبقات ابن سعد (7 518)، والتاريخ الكبير (5 218)، والسير (9 223). (¬6) في (م): "من".

بالخمسة، أو بالطبيعة أو بالدهر، أَوْ بِالْكَوَاكِبِ، إِلَى أَنْ قَالُوا بِالْآدَمِيِّينَ (وَالشَّجَرِ وَالْحِجَارَةِ) (¬1) وَمَا يَنْحِتُونَ بِأَيْدِيهِمْ (¬2). وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ الْحَقِّ لَكِنْ عَلَى آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ أَيْضًا، إِلَى أَنْ بَعْثَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ مُبَيِّنِينَ لِأُمَمِهِمْ حَقَّ مَا اخْتَلَفُوا (فِيهِ) (¬3) مِنْ بَاطِلِهِ، فَعَرَفُوا بِالْحَقِّ عَلَى مَا يَنْبَغِي، ونزَّهوا رَبَّ الْأَرْبَابِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنْ نِسْبَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَإِضَافَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ، فَأَقَرَّ بِذَلِكَ مَنْ أَقَرَّ بِهِ، وَهُمُ الدَّاخِلُونَ تَحْتَ مُقْتَضَى قوله: {إِلاَّ مَنْ/ رَحِمَ رَبُّكَ} وَأَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ، فَصَارَ إِلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (¬4)، وَإِنَّمَا دَخَلَ الْأَوَّلُونَ تَحْتَ وَصْفِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ وَصْفِ الِاخْتِلَافِ إِلَى وَصْفِ الْوِفَاقِ/ وَالْأُلْفَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (¬5)، وهو منقول عن جماعة من المفسرين. ¬

(¬1) في (خ) و (ت): "والشجر بالحجارة". وفي (ط): "وبالشجر والحجارة". (¬2) القائلون في الربوبية بالاثنين هم الثنوية، وهم القائلون بأن النور والظلمة أزليان قديمان. وهم فرق، وهي المانوية: أصحاب ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير. والمزدكية: أصحاب مزدك، وهو الذي ظهر في أيام قباذ والد أنوشروان. والديصانية: أصحاب ديصان، أثبتوا أصلين، نوراً وظلاماً. والمرقيونية: أصحاب مرقيون، أثبتوا أصلين متضادين، النور والظلمة، وأثبتوا أصلاً ثالثاً، وهو المعدل الجامع، وهو سبب المزاج، فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلا بجامع. والذين قالوا بخمسة آلهة هم الكينوية: فزعموا بالأصلين، النور والظلمة، وزعموا أن هناك أصولاً ثلاثة: النار والأرض والماء، وأن هذه الموجودات حدثت من هذه الأصول، دون الأصلين اللذين أثبتهما الثنوية، وهما النور والظلمة. انظر: الملل والنحل للشهرستاني (1 244 ـ 255)، والفصل لابن حزم (1 86 ـ 92). والقائلون بعبادة الكواكب: هم أصحاب الهياكل، التي هي السيارات السبع، وهم من فرق الصابئة. انظر: الملل للشهرستاني (2 49 ـ 51). وأما عباد الآدميين فهم كثير، فاليهود عبدوا عُزيراً، والنصارى عبدوا عيسى بن مريم، والباطنية عبدوا أئمتهم، وغيرهم من أهل الشرك. (¬3) زيادة من (ط) و (غ) و (ر). (¬4) سورة هود: الآية (119). (¬5) سورة آل عمران: الآية (103).

/وخرَّج ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}: خَلَقَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا (¬1). وَهُوَ معنى ما نقل عن مالك وطاووس فِي جَامِعِهِ (¬2). وَبَقِيَ الْآخَرُونَ عَلَى وَصْفِ الِاخْتِلَافِ، إِذْ خَالَفُوا الْحَقَّ الصَّرِيحَ، وَنَبَذُوا الدِّينَ الصَّحِيحَ. وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا قَالَ: الَّذِينَ رَحِمَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا (¬3). وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ/ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (¬4) (معنى) (¬5): كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، (أنه تعالى أخبر) (¬6) فِي الْآيَةِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَتَّفِقُوا، فَبَعَثَ النَّبِيِّينَ لِيَحْكُمُوا بَيْنَهُمْ فِيمَا (اخْتَلَفُوا) (¬7) فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هَدَاهُمُ (اللَّهُ) (¬8) لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "نَحْنُ الْآخَرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مَنْ قَبِلْنَا، وَأُوتِينَاهُ مَنْ بَعْدِهِمْ، هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فاليهود غداً والنصارى بعد غد" (¬9). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 2095) برقم (11296)، وبنحوه أخرجه الفريابي في كتاب القدر (61). (¬2) أثر مالك تقدم تخريجه (3/ 86)، وأما أثر طاووس فقد أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 2095) برقم (11293) من طريق ابن وهب. (¬3) لم أجده عن الإمام مالك رحمه الله تعالى بهذا النص، ولكن ورد بنحوه كما تقدم في (3/ 88)، كما ورد بنحوه عن ابن المبارك، كما في تفسير ابن جرير (15 533)، برقم (18710). (¬4) سورة البقرة: الآية (213). (¬5) في (ط) و (م) و (خ): "ومعنى". (¬6) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "فبعث الله النبيين فأخبر". (¬7) زيادة من (ط) و (غ) و (ر). (¬8) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬9) أخرجه البخاري (7495، 7036، 6887، 6624، 3486، 6926، 896، 876، 238)، ومسلم برقم (855)، وفي صحيفة همام بن منبه (1)، وإسحاق بن راهويه في=

وخرَّج ابْنُ وَهْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (¬1) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، فَهَذَا يَوْمُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مبشِّرين/ ومنذرين، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الحق بإذنه. وَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةَ، فَاتَّخَذَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَاتَّخَذَ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَوْمِ الْجُمْعَةِ. وَاخْتَلَفُوا/ فِي الْقِبْلَةِ، فَاسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ، وَاسْتَقْبَلَتِ الْيَهُودُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهَدَى اللَّهُ أَمَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقِبْلَةِ. /وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَعُ وَلَا/ يَسْجُدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ وَلَا يَرْكَعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يصلي (وهو) (¬2) يَتَكَلَّمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي، وَهَدَى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم (عن) (¬3) بعض الطعام، وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النصارى: (كان) (¬4) نَصْرَانِيًّا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ حَنِيفًا/ مُسْلِمًا، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَقِّ من ذلك. ¬

=مسنده (291)، وأحمد في مسنده (2 249 و274 و312 و341 و473، 502 و504)، والنسائي في المجتبى (1367)، وفي السنن الكبرى (1654)، وأبو يعلى في مسنده (6269)، والطبراني في مسند الشاميين (136)، والدارقطني في سننه (2 3)، والخطيب في تاريخ بغداد (2 160 و257)، والبيهقي في السنن الكبرى (1320 و5354 و5453)، وأخرجه بلفظ مقارب مسلم (856)، وابن ماجه (1083)، والنسائي في المجتبى (1368)، وفي الكبرى (1652)، وأبو يعلى في المسند (6216). (¬1) هو أبو عبد الله زيد بن أسلم العدوي العمري، أحد فقهاء التابعين، توفي سنة 136هـ. انظر: الجرح والتعديل (3 554)، وتهذيب التهذيب (3 395). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ولا". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من". (¬4) زيادة من (غ) و (ر).

وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَفَرَتْ بِهِ الْيَهُودُ، وَقَالُوا لِأُمِّهِ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا وَوَلَدًا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ رَوْحَهُ وَكَلِمَتَهُ، فَهَدَى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك (¬1). ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَّفِقِينَ قَدْ يَعْرِضُ لَهُمُ الاختلاف بحسب القصد الثاني (لا بالقصد) (¬2) الأول، فإن الله تعالى (حكم) (¬3) بِحِكْمَتِهِ أَنْ تَكُونَ فُرُوعُ هَذِهِ (الْمِلَّةِ) (¬4) قَابِلَةً لِلْأَنْظَارِ، وَمَجَالًا لِلظُّنُونِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ النُّظَّارِ أن النظريات لا يمكن الاتفاق (عليها) (¬5) عَادَةً، فَالظَّنِّيَّاتُ/ عَرِيقَةٌ فِي إِمْكَانِ الِاخْتِلَافِ، لَكِنْ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ، وَفِي الْجُزْئِيَّاتِ دُونَ الْكُلِّيَّاتِ، فَلِذَلِكَ (لَا يَضُرُّ) (¬6) هَذَا الِاخْتِلَافُ. وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ/ اخْتِلَافًا (يَضُرُّهُمْ) (¬7). يَعْنِي لِأَنَّهُ فِي مسائل الاجتهاد التي لا نص/ فيها يقطع (¬8) الْعُذْرِ، بَلْ لَهُمْ فِيهِ أَعْظَمُ الْعُذْرِ، وَمَعَ أَنَّ الشَّارِعَ (لَمَّا عَلِمَ) (¬9) أَنَّ هَذَا (النَّوْعَ) (9) مِنَ الِاخْتِلَافِ وَاقِعٌ، أَتَى فِيهِ بِأَصْلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬10)، فكل اختلاف من هذا القبيل ¬

(¬1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (4/ 284) برقم (4061) ـ طبعة أحمد شاكر ـ قال: حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد ... إلخ، وهذا سند صحيح عن ابن زيد، لكن الأثر عن زيد وليس عن ابنه عبد الرحمن، والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 378) برقم (1994) عن يونس بن عبد الأعلى قال: أنبأ ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ... إلخ، وهذا سند صحيح إن شاء الله. (¬2) في (ط) و (خ): "لا بقصد". (¬3) في (م): "حكيم". (¬4) في (غ) و (ر): "الأمة". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيها". (¬6) في (م): "لا يصير". وفي (غ) و (ر): "لا يضير". (¬7) في (م) و (غ) و (ر): "يضيرهم، والأثر تقدم تخريجه (3/ 88) حاشية (7). (¬8) في (ط) و (خ): "بقطع". (¬9) ساقط من (غ) و (ر). (¬10) سورة النساء: الآية (59).

حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ رَدُّهُ إِلَى كِتَابِهِ، وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ رَدُّهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ حَيًّا، وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَلْ هُمْ دَاخِلُونَ تحت قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (¬1) أَمْ لَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ مُقْتَضَاهَا أَهْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ أَنَّ أَهْلَ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِينَ مُبَايِنُونَ لِأَهْلِ الرَّحْمَةِ لِقَوْلِهِ: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ/ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (¬2) فإنها اقتضت قسمين: أهل الاختلاف ومرحومين، فَظَاهِرُ التَّقْسِيمِ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ، وَإِلَّا كَانَ قَسْمُ الشَّيْءِ قَسِيمًا لَهُ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قال فيها: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ وَصْفَ الِاخْتِلَافِ لَازِمٌ لَهُمْ حَتَّى أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُشْعِرِ بالثبوت، وأهل الرحمة مبرؤون مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ/ وَصْفَ الرَّحْمَةِ يُنَافِي الثُّبُوتَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، بَلْ إِنْ خَالَفَ أَحَدُهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ/ فَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهَا تَحَرِّيًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِيهَا رَاجَعَ نَفْسَهُ وَتَلَافَى أَمْرَهُ، فَخِلَافُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالْعَرْضِ لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَكُنْ وَصْفُ الاختلاف لازماً (له) (¬3) وَلَا ثَابِتًا، فَكَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي الْعِلَاجَ وَالِانْقِطَاعَ أَلْيَقَ فِي الْمَوْضِعِ. //وَالثَّالِثُ: أَنَا نَقْطَعُ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَاقِعٌ مِمَّنْ حَصَلَ لَهُ مَحْضُ الرَّحْمَةِ/ وَهُمُ الصحابة رضي الله عنهم، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ إِدْخَالُهُمْ فِي قِسْمِ الْمُخْتَلِفِينَ بِوَجْهٍ، ¬

(¬1) سورة هود: الآية (118). (¬2) سورة هود: الآيتان (118، 119). (¬3) زيادة من (غ) و (ر).

فَلَوْ كَانَ الْمُخَالِفُ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَعْدُودًا مَنْ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ ـ وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا ـ لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَعَلُوا اخْتِلَافَ الْأُمَّةِ فِي الْفُرُوعِ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الرَّحْمَةِ (¬1)، وَإِذَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ خَارِجًا مَنْ قِسْمِ أَهْلِ الرَّحْمَةِ. وَبَيَانُ كَوْنِ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ رَحْمَةً مَا رُوِيَ/ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ (¬2) قَالَ: لَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي (الْعَمَلِ) (¬3)، لا يعمل العامل بعلم رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَّا رَأَى أَنَّهُ فِي سَعَةٍ (¬4). وعن (ضمرة عن رجاء بن جميل) (¬5) قَالَ: اجْتَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَجَعَلَا يَتَذَاكَرَانِ الْحَدِيثَ ـ قَالَ ـ: فَجَعَلَ عُمَرُ يَجِيءُ بِالشَّيْءِ يُخَالِفُ فِيهِ الْقَاسِمَ ـ قَالَ ـ: (وجعل ذلك يشق على القاسم) (¬6) حتى ¬

(¬1) سيذكر الشاطبي بعد قليل عدداً ممن جعل الاختلاف في الفروع ضرباً من ضروب الرحمة، وانظر كذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (30 79 ـ 81)، (37 24 ـ 25)، وانظر ما ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 96 وما بعدها). (¬2) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولد في خلافة علي رضي الله عنه، وتوفي سنة 105 وقيل 106هـ. انظر: طبقات ابن سعد (5 187)، وحلية الأولياء (2 183)، والسير (5 53). (¬3) في جامع بيان العلم: (أعمالهم). (¬4) خرَّجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 900) برقم (1686). (¬5) في سائر النسخ: "وعن ضمرة بن رجاء قال"، والتصحيح من جامع بيان العلم (2 901). وضمرة هو: ضمرة بن ربيعة الفلسطيني أبو عبد الله الرملي، وثقه ابن معين والنسائي وابن سعد، توفي سنة 202هـ. انظر: طبقات ابن سعد (7 471)، والتاريخ الكبير (4 337)، وتهذيب الكمال (13 316) ورجاء بن جميل هو الأيلي، روى عن القاسم بن محمد والزهري وربيعة، قال عنه أبو حاتم: "شيخ". انظر: التاريخ الكبير (3 313)، والجرح والتعديل (3 502)، والثقات لابن حبان (6 306). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وجعل القاسم يشق ذلك عليه". والتصحيح من (غ) و (ر)، وهو موافق لرواية ابن عبد البر في جامع بيان العلم.

تبين فِيهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا تَفْعَلُ، فَمَا يسرني (أن لي) (¬1) بِاخْتِلَافِهِمْ حُمُر النَّعَمِ (¬2). وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنِ القاسم (عن أبيه) (¬3) أيضاً (أنه) (¬4) قَالَ: لَقَدْ أَعْجَبَنِي قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا أَحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلّم (لم يختلفوا) (¬5)، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلًا وَاحِدًا لَكَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ، وَإِنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، فَلَوْ أخذ رجل بقول أحدهم كان (في سِعَةً) (¬6). وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ فَتَحُوا لِلنَّاسِ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَفْتَحُوهُ لَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي ضِيقٍ، لِأَنَّ مَجَالَ الاجتهاد (مجالات) (¬7) الظنون،/ (والظنون) (¬8) لَا تَتَّفِقُ عَادَةً ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ فَيَصِيرُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ مَعَ (تَكْلِيفِهِمْ) (¬9) / بِاتِّبَاعِ مَا غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ مُكَلَّفِينَ بِاتِّبَاعِ (خِلَافِهِ) (¬10)، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الضِّيقِ، فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَّةِ بِوُجُودِ الْخِلَافِ/ الْفُرُوعِي فِيهِمْ، فَكَانَ فَتْحُ بَابِ لِلْأُمَّةِ لِلدُّخُولِ فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُونَ فِي قِسْمِ (مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْفُرُوعِ كاتفاقهم فيها، والحمد لله. ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر): "وجامع بيان العلم". (¬2) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 901) برقم (1688). (¬3) ساقط من جميع النسخ، والتصحيح من جامع بيان العلم، وأبو القاسم هو: محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولد في حجة الوداع وقت الإحرام، ورواية ابنه عنه مرسلة على ما ذكر الذهبي في السير (3 481 ـ 482) وانظر: التاريخ الكبير (1 124) والكامل (3 352). (¬4) زيادة من (غ) و (ر): "وجامع بيان العلم". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وجامع بيان العلم": لا يختلفون. (¬6) في (ط): "سنة"، وفي (م) و (خ): "سعة"، والتصحيح من (غ) و (ر) وجامع بيان العلم، والأثر مخرج فيه (2 901) برقم (1689). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ومجالات". (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (م): "تكليهم". (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "خلافهم".

وبين هذين (الطرفين) (¬1) واسطة أدنى من (المرتبة) (¬2) الأولى، وأعلى من (المرتبة) (2) الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أَنْ يَقَعَ/ الِاتِّفَاقُ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَيَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي بَعْضِ قَوَاعِدِهِ الْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّفَرُّقِ شِيَعًا. فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَنْتَظِمُ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُمَّتَهُ تَفْتَرِقُ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً (¬3)، وَأَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَتَّبِعُ سَنن مَنْ كان (قبلها) (¬4) شبراً بشبر وذراعاً بذراع (¬5)، (ويشمل) (¬6) ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ فِي الْأُمَمِ قَبِلْنَا، وَيُرَشِّحُهُ وَصْفُ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالضَّلَالَةِ وَإِيعَادُهُمْ بِالنَّارِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْ تَمَامِ الرَّحْمَةِ. وَلَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرِيصًا عَلَى أُلْفَتِنَا وَهِدَايَتِنَا، حَتَّى (إنه) (¬7) ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ ـ لَمَّا حَضَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم (الوفاة) (¬8) قَالَ: وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الخطاب رضي الله عنهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: "هلمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ"، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يقول: قرِّبوا (دواة) (¬9) يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَمَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا (كَثُرَ) (¬10) اللَّغَطُ وَالِاخْتِلَافُ/ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُومُوا عَنِّي،/ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إن الرزيَّة كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ (¬11). ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الطريقين". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الرتبة". (¬3) سيأتي تخريجه (ص122). (¬4) في (غ) و (ر): "قبلنا". (¬5) سيأتي تخريجه (ص122). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وشمل". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) زيادة من (ت). (¬9) زيادة من (ت). (¬10) في (ت) و (غ) و (ر): "أكثروا". (¬11) أخرجه البخاري (114) و (5669، 4432، 4431، 3168، 3053، 7366)، ومسلم (1637)، والحميدي في مسنده (526)، وأحمد في مسنده (1 222، 324، 330، 355)، والنسائي في السنن الكبرى (5854)، وأبو يعلى في مسنده (2409)، والطبراني في المعجم الكبير (12507)، والبيهقي في السنن الكبرى (18527).

فَكَانَ ذَلِكَ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ كَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لَمْ يَضِلُّوا بَعْدَهُ الْبَتَّةَ، فَتَخْرُجُ الْأُمَّةُ عَنْ مقتضى قوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} بِدُخُولِهَا تَحْتَ قَوْلِهِ: {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمَهُ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ، كَمَا اخْتَلَفَ غَيْرُهُمْ، رَضِيَنَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُمِيتَنَا عَلَى ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. (وَقَدْ ذَهَبَ) (¬1) جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخْتَلِفِينَ فِي الْآيَةِ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَأَنَّ مَنْ رَحِمَ ربك أهل السنة، ولكن لهذا (الاختلاف) (¬2) أَصْلٌ يَرْجِعُ إِلَى سَابِقِ الْقَدَرِ/ لَا مُطْلَقًا، بَلْ مَعَ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُحْتَمِلُ الْعِبَارَةِ لِلتَّأْوِيلِ، وهذا مما لَا بُدَّ مِنْ/ بَسْطِهِ. فَاعْلَمُوا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي بَعْضِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ/ لَا يَقَعُ فِي (العادة) (¬3) الْجَارِيَةِ بَيْنَ المتبحِّرين فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، الْخَائِضِينَ فِي لُجَّتِهَا الْعُظْمَى، (الْعَالِمَيْنِ) (¬4) (بِمَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا) (¬5). وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَعَامَّةُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي القسم المفروغ منه آنفاً، بل كل خلاف عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ أَسْبَابٌ ثَلَاثَةٌ قَدْ تَجْتَمِعُ وَقَدْ تَفْتَرِقُ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ ـ وَلَمْ يَبْلُغْ/ تِلْكَ (الدَّرَجَةَ) (¬6) ـ فَيَعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَعُدُّ رَأْيَهُ رَأْيًا وَخِلَافُهُ خِلَافًا، وَلَكِنْ تَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ فِي جُزْئِيٍّ وَفَرْعٍ مِنَ الفروع، وتارة (يكون) (¬7) / في كلي وأصل مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ـ كَانَ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ أو من الأصول العملية ـ فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "فذهب". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الكتاب" ومثلها في هامش (ت). (¬3) في (ط) و (ت): "العاديات" وصححت في الهامش، وفي (خ): "العاديا". (¬4) في (غ) و (ر): "العالم". (¬5) في (ت): "بمصادرها ومواردها". (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) ساقط من (غ) و (ر).

هدم/ كلياتها، حتى يصير منها (إلى) (¬1) مَا ظَهَرَ لَهُ بَادِيَ رَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ بِمَعَانِيهَا وَلَا رُسُوخٍ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُبْتَدَعُ، وَعَلَيْهِ نَبَّهَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " (إِنَّ الله لا يقبض العلم) (¬2) انتزاعاً يتنزعه مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رؤساء جهالا فسئلوا، (فأفتوا) (¬3) بغير علم، فضلوا وأضلوا" (¬4). قال بعض (أهل العلم) (¬5): (تدبروا) (¬6) هذا الحديث (فإنه) (¬7) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ مِنْ قِبَلِ عُلَمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا يؤتَون مِنْ قِبل أَنَّهُ إِذَا مَاتَ عُلَمَاؤُهُمْ أَفْتَى مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ، فَيُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِهِ، وَقَدْ صُرِّف (¬8) هَذَا الْمَعْنَى تَصْرِيفًا، (فَقِيلَ) (¬9): مَا خَانَ أَمِينٌ قَطُّ وَلَكِنَّهُ ائْتَمَنَ غَيْرَ أَمِينٍ فَخَانَ. قَالَ: وَنَحْنُ نَقُولُ: مَا ابْتَدَعَ عَالِمٌ قَطُّ، وَلَكِنَّهُ استفتي من ليس بعالم (فضل وأضل) (¬10). قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: بَكَى رَبِيعَةُ يَوْمًا بُكَاءً شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ: مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِكَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ (¬11). وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: "قِبل الساعة سنون (خدَّاعات) (¬12) يصدَّق فيهن الكاذب، (ويكذَّب) (¬13) فيهن/ ¬

(¬1) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لا يقبض الله العلم". (¬3) ساقطة من (م). (¬4) تقدم تخريجه (1/ 117). (¬5) في (م) و (غ) و (ر): "العلماء"، وهو أبو بكر الطرطوشي، كما في الباعث (ص174). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تقدير". وفي الحوادث والبدع: فتدبروا. (¬7) زيادة من (غ) و (ر): "والحوادث والبدع". (¬8) في الباعث: "صرف عمر". (¬9) في الباعث: "فقال". (¬10) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر): "والباعث"، وساقط من (ط) و (خ) وفي (ت): "فضل" فقط. (¬11) ذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص175)، وبنحوه في جامع بيان العلم (2/ 1225) برقم (2410)، والتمهيد (3/ 5)، والكواكب النيرات (1/ 31). (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والحوادث والبدع": خداعاً. (¬13) في (م): "ويذكر".

الصَّادِقُ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ، وَيَنْطِقُ/ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ" (¬1). قَالُوا: هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الْحَقِيرُ ينطق في أمور العامة، (لأنه) (¬2) لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ الْعَامَّةِ، فَيَتَكَلَّمُ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ (مَتَى) (¬3) يَهْلِكُ النَّاسُ، إِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قَبِلَ الصَّغِيرِ اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَإِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قِبَلِ الْكَبِيرِ تَابَعَهُ الصَّغِيرُ فَاهْتَدَيَا (¬4). وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ مِنْ (أَكَابِرِهِمْ) (¬5)، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا (¬6). وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَرَادَ عُمَرُ بِالصِّغَارِ (¬7) / فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ (¬8) (وَهُوَ) (¬9) مُوَافِقٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ أَصَاغِرُ فِي الْعِلْمِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَارُوا أَهْلَ بدع. ¬

(¬1) الحديث لم يخرجه البخاري، بل هو في مسند أحمد (2 291 و338) و (3 220)، وقال أحمد شاكر (15 37)، برقم (7899): "إسناده حسن، ومتنه صحيح". وفي (16 194) برقم (8440)، وصحح سنده أحمد شاكر كما في تعليقه على حديث رقم (7899)، وأخرجه ابن ماجه (4036)، وأبو يعلى في مسنده (3715)، والطبراني في المعجم الكبير (18 67)، برقم (123 ـ 125)، وفي مسند الشاميين (47 ـ 48)، والحاكم في المستدرك (8439 و8564)، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقال الذهبي: "صحيح". وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (1887). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (ت): "كأنه". (¬3) في (ط) و (خ): "من". (¬4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1055 و1056)، وصححه ابن حجر في فتح الباري (13 301 ـ 302)، وعزاه إلى مصنف قاسم بن أصبغ. (¬5) في (غ) و (ر): "كبرائهم". (¬6) أخرجه معمر بن راشد في جامعه المطبوع مع مصنف عبد الرزاق (11/ 246) برقم (20446)، وابن المبارك في الزهد (815)، والطبراني في الكبير (1419) برقم (8589 ـ 8592)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 616) برقم (1057 ـ 1060)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 49)، واللالكائي برقم (101)، وعزاه ابن حجر في الفتح (13/ 291) ليعقوب بن شيبة وأبي عبيد. (¬7) وذكر الخلاف ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1 610 وما بعدها). (¬8) انظر: الزهد لابن المبارك (1 20)، حاشية رقم (2) و (2 281)، حاشية رقم (1)، وذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1 612)، واللالكائي برقم (102). (¬9) في (غ) و (ر): "وهذا".

وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَصَاغِرُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ ـ قَالَ ـ: وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يستشير الصغار، وكان القراء (أصحاب) (¬1) مُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا وَشُبَّانًا ـ قَالَ ـ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَصَاغِرِ مَنْ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا حَالَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَبْذِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ، فَأَمَّا مَنِ الْتَزَمَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْمُوَ أَمْرُهُ، وَيَعْظُمُ قَدْرُهُ. /وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ بِسَنَدٍ مَقْطُوعٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ على غير الطريق، وَالْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ مَا يُفْسِدُ/ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ، فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ طَلَبًا (لَا يَضُرُّ بترك) (¬2) العبادة، واطلبوا الْعِبَادَةَ طَلَبًا (لَا يَضُرُّ بِتَرْكِ) (1) الْعِلْمِ، فَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْعِبَادَةَ وَتَرَكُوا الْعِلْمَ حَتَّى خَرَجُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لَمْ يَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا (¬3). يَعْنِي الْخَوَارِجَ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ لِأَنَّهُمْ قرأوا القرآن ولم (يتفقّهوا) (¬4) حَسْبَمَا أَشَارَ/ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ: "يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ" (¬5). وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ (¬6) أَنَّهُ قَالَ: تفقه الرعاع فساد (الدنيا) (¬7)، وتفقه السفلة فساد (الدين) (¬8). ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والحوادث والبدع": أهل. (¬2) في جامع بيان العلم (1 164) ـ الطبعة القديمة ـ: لا يضر وفي طبعة الزهيري (905): "لا تضروا". (¬3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (905). (¬4) في (م) و (خ) و (ت): "يتفهموا". (¬5) سيأتي تخريجه (ص114). (¬6) هو أبو عبد الله مكحول الدمشقي: عالم أهل الشام، وهو من أوساط التابعين وأقران الزهري، واختلفوا في وفاته، فقيل: سنة 112، وقيل 113، وقيل 114، وقيل 116هـ. انظر: طبقات ابن سعد (7 453) وحلية الأولياء (5 177)، وتهذيب التهذيب (10 289). (¬7) في جميع النسخ ما عدا (غ) و (ر)، والحوادث للطرطوشي: (الدين والدنيا)، وفي جامع بيان العلم (الدين). (¬8) في جامع بيان العلم (الدنيا). والأثر أخرجه ابن عبد البر في المصدر السابق برقم (1071).

وَقَالَ (الْفِرْيَابِيُّ) (¬1): كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ النَّبْطَ يَكْتُبُونَ الْعِلْمَ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَ هؤلاء يكتبون العلم يشتد/ عليك، فقال: كَانَ الْعِلْمُ فِي الْعَرَبِ وَفِي سَادَاتِ النَّاسِ، وَإِذَا خَرَجَ عَنْهُمْ وَصَارَ إِلَى هَؤُلَاءِ النَّبْطِ وَالسَّفَلَةِ غُيِّر الدِّينُ (¬2). وَهَذِهِ الْآثَارُ أَيْضًا إِذَا حملت على التأويل المتقدم (استدت) (¬3) وَاسْتَقَامَتْ، لِأَنَّ ظَوَاهِرَهَا مُشَكَّلَةٌ، وَلَعَلَّكَ إِذَا اسْتَقْرَيْتَ/ أَهْلَ الْبِدَعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ وَجَدْتَهُمْ من أبناء سبايا الأمم، (وممن) (¬4) / لَيْسَ لَهُ أَصَالَةٌ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَعَمَّا قَرِيبٍ يُفْهَمُ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي مَقَاصِدِ الشريعة فهمها على غير وجهها. /وَالثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَهْلُ الْبِدَعِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَلَمْ يَأْخُذُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْهَا، بَلْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى آرَائِهِمْ، ثُمَّ جَعَلُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْظُورًا فِيهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ (هُمْ) (¬5) أَهْلُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَمِنْ مال (إلى جانبهم من) (¬6) الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَيَدْخُلُ فِي غِمَارِهِمْ مَنْ كَانَ منهم (يغشى) (¬7) السَّلَاطِينَ لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُمْ، أَوْ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَمِيلَ مَعَ النَّاسِ بِهَوَاهُمْ، وَيَتَأَوَّلَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَرَادُوا، حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ ونقله الثقات من مصاحبي السلاطين. ¬

(¬1) ما بين القوسين ساقط من (ت). والفريابي هو محمد بن يوسف بن واقد الفريابي، لأنه هو المشهور بالرواية عن سفيان الثوري، ولد سنة بضع وعشرين ومائة وهو من رجال الكتب الستة، وتوفي سنة 212هـ. انظر: التاريخ الكبير (1 264) والجرح والتعديل (8 119) وتهذيب التهذيب (9 335). (¬2) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1072). (¬3) في (ط) و (خ) و (م): "اشتدت". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (ت): "ومن". (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) في (م): "إلى ـ بياض ـ من الفلاسفة"، وفي (ط): "إلى من". (¬7) في (ط): "يخشى". وفي (م): "غشى".

فَالْأَوَّلُونَ ردُّوا كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِعُقُولِهِمِ، وأساءوا الظَّنَّ بِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحسَّنوا ظَنَّهُمْ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، حَتَّى رَدُّوا كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا مِنَ الصراط والميزان، وحشر الأجساد، والنعيم والعذاب (الجسمي) (¬1)، وَأَنْكَرُوا رُؤْيَةَ الْبَارِي، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، بَلْ صيُّروا الْعَقْلَ شَارِعًا جَاءَ الشَّرْعُ أَوْ لَا، بَلْ إِنْ جَاءَ فَهُوَ كَاشِفٌ لِمُقْتَضَى مَا حَكَمَ بِهِ الْعَقْلُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّنَاعَاتِ. وَالْآخَرُونَ خَرَجُوا عَنِ الْجَادَّةِ إِلَى الْبَنِيَّاتِ، وَإِنْ كانت مخالفة (لصلب) (¬2) الشَّرِيعَةِ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَغْلِبَ عَدْوُهُ، أَوْ يفيد وليه، أو يجر إلى (نفعه) (¬3). /كَمَا ذَكَرُوا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ لبابة (¬4) ((ابن أَخِي) (¬5) الشَّيْخِ ابْنِ لُبَابَةَ) (¬6) الْمَشْهُورِ/ فَإِنَّهُ عُزِلَ عَنِ قَضَاءِ الْبِيرَةِ (¬7) ثُمَّ عُزِلَ عَنِ الشُّورَى لِأَشْيَاءَ نُقِمَتْ/ عَلَيْهِ ـ وَسَجَّلَ/ بِسَخْطَتِهِ الْقَاضِي حَبِيبُ بن زياد (¬8)، وَأَمَرَ بِإِسْقَاطِ عَدَالَتِهِ وَإِلْزَامِهِ بَيْتَهُ، وَأَنْ لَا يفتي أحداً. ¬

(¬1) في (م): "الجسيمين". (¬2) ساقط من (غ) و (ر). (¬3) في سائر النسخ (نفسه) وصححت في هامش (ت) بـ: "نفعه". (¬4) هو محمد بن يحيى بن لبابة أبو عبد الله الملقب ببرجون، كان أحفظ أهل الزمان للمذهب، توفي سنة 336هـ. انظر: الديباج المذهب (2 200). (¬5) في النسخ: أخي، والصواب من كتب التراجم، وسيأتي. (¬6) ما بين () ساقط من (غ) و (ر): "وابن لبابة" هو محمد بن عمر بن لبابة القرطبي، انتهت إليه الإمامة في المذهب، وتوفي سنة 314هـ. (تنبيه): ذكر الذهبي اسمه: محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة، والصواب محمد بن عمر وهو عم محمد بن يحيى الآنف الذكر، وهذا يظهر من سيرة الرجلين ووفاتهما بالمقارنة من خلال المصادر التالية: السير (14 495)، والديباج المذهب (2 189 و200)، وجذوة المقتبس (1 127)، وبغية الملتمس (1 147)، والله تعالى أعلم. (¬7) ألبيرة: قرية كبيرة من قرى الأندلس، متصلة بأراضي قرية قبرة، قريبة من قرطبة. انظر: معجم البلدان (1 289). (¬8) هو القاضي: أحمد بن محمد بن زياد بن عبد الرحمن اللخمي، من أهل قرطبة يكنى أبا القاسم، ويعرف بالحبيب، سمع من ابن وضاح وغيره، واستقضي في صدر أيام الإمام الناصر لدين الله، وتوفي سنة 312هـ. انظر ترجمته في: قضاة قرطبة (ص204)، وتاريخ علماء الأندلس (1 71).

ثُمَّ إِنَّ النَّاصِرَ احْتَاجَ إِلَى شِرَاءِ مُجَشِّرٍ (¬1) مِنْ أَحْبَاسِ الْمَرْضَى بِقُرْطُبَةَ (بِعَدْوَةِ) (¬2) النَّهْرِ، فَشَكَا إلى القاضي ابن بقي (¬3) ضرورته إليه لمقابلته مَنْزَهَهُ، وَتَأَذِّيهِ بِرُؤْيَتِهِمْ (أَوَانَ) (¬4) تَطَلُّعِهِ مِنْ عَلَالِيهِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ بَقِيٍّ: لَا حِيلَةَ عِنْدِي فِيهِ/ وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُحَاطَ بِحُرْمَةِ الْحَبْسِ. فَقَالَ لَهُ: (تَكَلَّمْ) (¬5) مَعَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَعَرِّفْهُمْ رَغْبَتِي، وَمَا أَجْزَلَهُ مِنْ أَضْعَافِ الْقِيمَةِ فِيهِ، فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَجِدُوا لِي فِي ذَلِكَ رُخْصَةً. فَتَكَلَّمَ ابْنُ بَقِيٍّ مَعَهُمْ فَلَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَغَضِبَ النَّاصِرُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ (الْوُزَرَاءَ) (¬6) بِالتَّوْجِيهِ فِيهِمْ إِلَى الْقَصْرِ، وَتَوْبِيخِهِمْ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ الْوُزَرَاءِ مُكَالَمَةٌ، وَلَمْ يَصِلِ النَّاصِرُ مَعَهُمْ إِلَى مَقْصُودِهِ. وَبَلَغَ ابْنَ لُبَابَةَ هَذَا الْخَبَرُ (فرفع إلى) (¬7) الناصر (يغضُّ) (¬8) من أصحابه الفقهاء، ويقول (له) (¬9): إِنَّهُمْ حَجَرُوا عَلَيْهِ وَاسِعًا، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا لأفتاه بجواز المعاوضة، وتقلد حقاً، وناظر أصحابه فيها، فوقع (هذا) (9) الْأَمْرُ بِنَفْسِ النَّاصِرِ، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ مُحَمَّدِ بْنِ لُبَابَةَ إِلَى الشُّورَى عَلَى حَالَتِهِ الْأَوْلَى، ثُمَّ أَمَرَ الْقَاضِي بِإِعَادَةِ الْمَشُورَةِ/ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَاجْتَمَعَ الْقَاضِي وَالْفُقَهَاءُ وَجَاءَ ابْنُ لَبَابَةَ آخِرَهُمْ، وَعَرَّفَهُمُ الْقَاضِي ابْنُ بَقِيٍّ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَمَعَهُمْ (مِنْ أَجْلِهَا) (¬10) وَغِبْطَةِ الْمُعَاوَضَةِ (فِيهَا) (¬11)، فَقَالَ جَمِيعُهُمْ بِقَوْلِهِمُ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ تَغْيِيرِ الْحَبْسِ عَنْ وَجْهِهِ ـ وَابْنِ لُبَابَةَ سَاكِتٌ ـ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: ما ¬

(¬1) المجشر: هو حوض لا يستقى فيه لجشره، أي وسخه وقذره، انظر: المعجم الوسيط مادة جشر (1 724). (¬2) في (م): "بفدوة". (¬3) هو القاضي: أحمد بن بقي بن مخلد بن يزيد أبو عبد الله، كان بليغ اللسان، أنيس المجلس، له أخلاق كريمة، توفي سنة 344هـ. انظر ترجمته في: قضاة قرطبة (ص222)، وتاريخ علماء الأندلس (1 80)، والديباج المذهب (1 170). (¬4) في (خ): "وأن". (¬5) في (غ) و (ر): "فتكلم". (¬6) في (م): "الازراء". (¬7) في (ط): "فدفع". وكلمة (إلى) ساقطة من (م). (¬8) في (خ) و (ط) و (ت): "بعضاً". (¬9) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬10) في (غ) و (ر): "لأجلها". (¬11) زيادة من (م).

تَقُولُ أَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَمَّا قَوْلُ إِمَامِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَالَّذِي قَالَهُ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ الْحَبْسَ أَصْلًا، وَهُمْ عُلَمَاءُ/ أَعْلَامٌ (يَقْتَدِي) (¬1) بِهِمْ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ، وَإِذَا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْحَاجَةِ/ إِلَى هَذَا الْمُجَشِّرِ مَا بِهِ، فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ عَنْهُ، وَلَهُ فِي السنة فسحة، وأنا أقول (فيه) (¬2) بِقَوْلِ أَهَّلِ الْعِرَاقِ، وَأَتَقَلَّدُ ذَلِكَ رَأْيًا. فَقَالَ لَهُ الْفُقَهَاءُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَتْرُكُ قَوْلَ مَالِكٍ الَّذِي أَفْتَى بِهِ أَسْلَافَنَا وَمَضَوْا عَلَيْهِ وَاعْتَقَدْنَاهُ بعدهم، وأفتينا به لا نحيد (عنه) (¬3) بِوَجْهٍ، وَهُوَ رَأْيُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَأْيُ الْأَئِمَّةِ آبَائِهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: (نَاشَدْتُكُمُ) (¬4) اللَّهَ الْعَظِيمَ، أَلَمْ تَنْزِلْ/ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ مَلَمَّةٌ بَلَغَتْ بِكُمْ أَنْ أَخَذْتُمْ فِيهَا بِغَيْرِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِكُمْ، وَأَرْخَصْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فِي ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَخُذُوا بِهِ مَأْخَذَكُمْ، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ مَنْ يُوَافِقُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَكُلُّهُمْ قُدْوَةٌ، فَسَكَتُوا. فَقَالَ لِلْقَاضِي: أَنْهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فُتْيَايَ. فَكَتَبَ الْقَاضِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِصُورَةِ الْمَجْلِسِ، وَبَقِيَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِمَكَانِهِمْ إِلَى أَنْ أَتَى الْجَوَابُ/ بأن يؤخذ له بفتيا محمد بن يحيى بْنِ لُبَابَةَ/ وَيُنَفَّذَ ذَلِكَ وَيُعَوَّضَ الْمَرْضَى مِنْ هذا المجشر (بأملاكه بمِنْيَة عَجَب) (¬5)، وَكَانَتْ عَظِيمَةَ الْقَدْرِ جِدًّا، تَزِيدُ أَضْعَافًا عَلَى الْمِجْشَرِ. ثُمَّ جِيءَ (بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ أمير المؤمنين) (¬6) منه إلى ابن لبابة (بولايته) (¬7) خُطَّةِ الْوَثَائِقِ لِيَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِعَقْدِ هَذِهِ المعاوضة، فهنئ ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "يهتدي". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في (ط) و (خ): "عنهم". (¬4) في (خ): "أنشدتكم". (¬5) في (ط) و (ت): "بأملاك ثمينة عجيبة". وفي (م): "بأملاك ثمينة عجب". ومِنْية عَجَب من أرباض قرطبة وهي القرى حولها، والنسبة إليها الميني، ومنها المحدّث محمد بن عبد الله الميني. انظر: التكملة لكتاب الصلة (1/ 296)، ونفح الطيب (1/ 465، 2/ 257)، ومعجم البلدان (5/ 218). (¬6) في (غ) و (ر): "من عند أمير المؤمنين بكتاب". (¬7) في جميع النسخ ما عدا (غ): "بولاية".

بِالْوِلَايَةِ، وَأَمْضَى الْقَاضِي الْحُكْمَ بِفَتْوَاهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ وَانْصَرَفُوا، فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ لُبَابَةَ يَتَقَلَّدُ خُطَّةَ الْوَثَائِقِ وَالشُّورَى إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (¬1). قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَاكَرْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا مَرَّةً بِهَذَا الْخَبَرِ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي حَلَّ سِجِلَّ السُّخْطَةِ إِلَى سِجِلِّ السُّخْطَةِ، فَهُوَ أَوْلَى وَأَشَدُّ فِي السُّخْطَةِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ ـ أَوْ كَمَا قَالَ (¬2) ـ. فَتَأَمَّلُوا كيف اتباع الهوى (وإلى أين) (¬3) يَنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ. فَشَأْنُ مِثْلِ هَذَا لَا يَحُلُّ أَصْلًا مِنْ وَجْهَيْنِ: /أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ (يَتَحَقَّقِ) (¬4) الْمَذْهَبُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ لَا يُبْطِلُونَ الْإِحْبَاسَ هَكَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَنْ حكى عنهم ذلك، فإما على غير تثبت، وَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ قَوْلًا لَهُمْ رَجَعُوا عَنْهُ، بَلْ مَذْهَبُهُمْ يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ حَسْبَمَا هو مذكور في كتب الحنفية (¬5). والثاني: أَنَّهُ إِنْ سَلَّمَنَا صِحَّتَهُ فَلَا يَصِحُّ لِلْحَاكِمِ أن (يرجِّح) (¬6) في حكمه (أحد) (¬7) القولين (بالصحبة أو الإمارة) (¬8) أو قضاء الحاجة، وإنما التَّرْجِيحُ بِالْوُجُوهِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَكُلُّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى تَقْلِيدِ قَوْلٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ، أَوْ رَجَّحَ بِغَيْرِ مَعْنَى مُعْتَبَرٍ، فَقَدْ خَلَعَ الرِّبْقَةَ، وَاسْتَنَدَ إِلَى غَيْرِ شَرْعٍ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي الْفُتْيَا مِنْ جُمْلَةِ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ في دين الله تعالى، ¬

(¬1) في (ط) و (خ): "كتاب التاريخ أولاً بالأرقام ثم كتابة". (¬2) انظر القصة بطولها في: ترتيب المدارك (2 398 ـ 402). (¬3) في (ط) و (خ): "وأولى أن". (¬4) في (غ) و (ر): "يحقق". (¬5) لمعرفة الخلاف في الأحباس وأقوال العلماء فيه، انظر: الحجة، لمحمد بن الحسن 3 46 والهداية شرح البداية (3 13) والمبسوط (12 27) والأم (4 58) ومواهب الجليل (6 18) والمغني (6 185 ـ 186) والمبدع لابن مفلح (5 312). (¬6) في (ط) و (خ) و (ت): "يرجع". (¬7) في (ط) و (خ) و (ت): "في أحد". (¬8) في (ط) و (خ) و (ت): "بالمحبة والإمارة".

كَمَا أَنَّ تَحْكِيمَ/ الْعَقْلِ عَلَى الدِّينِ مُطْلَقًا مُحْدَثٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بَعْدُ إِنْ شَاءَ الله. وقد ثبت بهذا الوجه اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ أَصْلُ الزَّيْغِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ـ (أَيْ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ) (¬1) ـ {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (¬2)، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْآيَةِ؛ فَمِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا/ الْوَاضِحَ ويتَّبعوا الْمُتَشَابِهَ، عَكْسَ مَا عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ وَذُكِرَتِ الْخَوَارِجُ (عِنْدَهُ) (¬3) وَمَا يُلْقُونَ فِي الْقُرْآنِ ـ فَقَالَ: يُؤْمِنُونَ بِمُحَكِّمِهِ، وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ. وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآيَةَ. خرَّجه ابْنُ وَهْبٍ (¬4). /وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذمِّه الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (¬5) وَلَمْ يَأْتِ/ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْهَوَى إِلَّا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ. حَكَى ابْنُ وَهَبٍ عَنْ طاووس أَنَّهُ قَالَ: مَا ذَكَرَ اللَّهُ (هَوًى فِي الْقُرْآنِ) (¬6) إِلَّا ذَمَّهُ (¬7). وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (¬8)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. /وَحَكَى أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّ رَجُلًا سأل إبراهيم ¬

(¬1) ساقطة من (ر). (¬2) سورة آل عمران: الآية (7). (¬3) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬4) تقدم تخريجه (3/ 76). (¬5) سورة الجاثية: الآية (23). (¬6) في (غ) و (ر): "الهوى". (¬7) أخرجه اللالكائي برقم (228). وأخرجه الهروي في ذم الكلام ـ ت الأنصاري ـ برقم (471) من قول سليمان الأحوال، بينما رواية اللالكائي رفعها سليمان الأحول إلى طاووس. (¬8) سورة القصص: الآية (50).

النَّخَعِيَّ عَنِ الْأَهْوَاءِ، أَيُّهَا خَيْرٌ؟ فَقَالَ: مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ من خير، وما هي إلا زينة (من) (¬1) الشَّيْطَانِ وَمَا الْأَمْرُ إِلَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ (¬2)، يَعْنِي: مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ (¬3). وَخَرَّجَ عَنِ الثوري أن رجلاً أتى إلى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فقال (له) (¬4): أَنَا عَلَى هَوَاكَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَوَى كُلُّهُ ضَلَالَةٌ، أَيُّ شَيْءٍ أَنَا عَلَى هواك (¬5). والثالث مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ: (التَّصْمِيمُ عَلَى اتِّبَاعِ الْعَوَائِدِ وَإِنْ فَسَدَتْ أَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلْحَقِّ) (¬6). وَهُوَ اتِّبَاعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَالْأَشْيَاخُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَهُوَ التَّقْلِيدُ الْمَذْمُومُ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ بذلك في كتابه، كقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} (¬7) ثُمَّ قَالَ: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ *} (¬8) وَقَوْلُهُ: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *} (¬9) (فَنَبَّهَهُمْ) (¬10) عَلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَاسْتَمْسَكُوا بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ/ فَقَالُوا: {بَلْ وَجَدْنَا/ آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (¬11) وهو مقتضى ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) أخرجه الآجري في الشريعة برقم (125). (¬3) بنحوه أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على بشر ـ ت السماري ـ (214)، والآجري في الشريعة برقم (125)، وأخرجه الدارمي مختصراً في سننه (1/ 63) برقم (224). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) المصدر السابق برقم (126)، وصحح المحقق سنده، وعزاه إلى عبد الرزاق في المصنف (11 126)، برقم (20102)، وبنحوه في اللالكائي (1 130)، برقم (225)، والإبانة في الكبرى برقم (238)، والهروي في ذم الكلام (ق54 أ)، وهو في المطبوعة ـ ت الأنصاري ـ برقم (494). (¬6) في هامش (ت) ما نصّه: "قلت: وهذا أقوى الأسباب في إقامة أهل الضلال على ضلالتهم وشدة التمسك بها من الكفر فما دونه عياذاً بالله". (¬7) سورة الزخرف: الآية (23). (¬8) سورة الزخرف: الآية (24). (¬9) سورة الشعراء: الآيتان (72، 73). (¬10) في (ت): "بياض بمقدار كلمة". (¬11) سورة الشعراء: الآية (74).

الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: "اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوساً جُهَّالًا" (¬1) إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الِاسْتِنَانِ بِالرِّجَالِ كَيْفَ كَانَ. وَفِيمَا يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ/ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ/ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ، فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ (¬2). فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ على عمل أحد البتة، حتى (يتثبت) (¬3) فيه ويسأل عن حكمه، إذ لعل (الرجل) (¬4) الْمُعْتَمِدَ عَلَى عَمَلِهِ يَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَا تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الْعَالِمِ، ولكن سله يصدقك. وقالوا: (أضعف العلم الرؤية) (¬5) أن يكون رأى فلاناً (يعمل فيعمل) (¬6) مِثْلَهُ. وَلَعَلَّهُ فَعَلَهُ سَاهِيًا (¬7). وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ ثَابِتٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ) نُكْتَةٌ فِي الْمَوْضِعِ. يَعْنِي الصحابة رضي الله عنه وَمَنْ جَرَى (مَجْرَاهُمْ) (¬8) مِمَّنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فَتْوَاهُ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَحُلَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ فَلَا، كَأَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ رَجُلًا ¬

(¬1) سبق تخريجه (1/ 117). (¬2) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1881)، وابن حزم في الإحكام (6/ 318)، وابن بطة في الإبانة قسم القدر (1572). (¬3) في (م): "يثبت". وفي (ر): ينتسب. (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في (ط) و (م) و (خ): "ضعف الرؤية". (¬6) في (غ) و (ر): "يفعل فيفعل". (¬7) أخرجه ابن حزم في الإحكام (6/ 219) من قول عطاء الخرساني. (¬8) ساقطة من (م).

يحسن اعتقاده فيه فيفعل فِعْلًا مُحْتَمَلًا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَيَقْتَدِي بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي التَّعَبُّدِ، وَيَجْعَلُهُ حُجَّةً فِي دِينِ اللَّهِ؛ فهذا هو الضلال/ بعينه، ما لَمْ يُتَثَبَّتْ بِالسُّؤَالِ وَالْبَحْثِ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ ممن هو أهل (للفتوى) (¬1). //وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي مَالَ بِأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عَوَامِّ الْمُبْتَدِعَةِ، (إِذَا اتَّفَقَ أَنْ) (¬2) يَنْضَافَ إِلَى شَيْخٍ جَاهِلٍ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْعُلَمَاءِ، فَيَرَاهُ يَعْمَلُ عَمَلًا فَيَظُنُّهُ عِبَادَةً فَيَقْتَدِي بِهِ، كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ، مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ أَوْ مُخَالِفًا، وَيَحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ يُرْشِدُهُ/ وَيَقُولُ: كَانَ الشَّيْخُ فُلَانٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَكَانَ يَفْعَلُهُ، وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَدَى بِهِ من علماء الظَّاهِرِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ (رَاجِعٌ) (¬3) إِلَى (تَقْلِيدِ) (¬4) مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ فِيهِ أَخْطَأَ أَوْ أَصَابَ، كالذين قلدوا/ آبائهم سَوَاءً، وَإِنَّمَا قُصَارَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ آبَاءَنَا أَوْ شُيُوخَنَا لَمْ يَكُونُوا يَنْتَحِلُونَ مِثْلَ هذه الأمور سدى، وما هي إلا (معضودة) (¬5) بالدلائل (ومنصورة بالبراهين) (¬6) مَعَ أَنَّهُمْ (يَرون ويُرون) (¬7) أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَلَا بُرْهَانَ يَقُودُ إِلَى الْقَوْلِ بِهَا. ¬

(¬1) في (ط) و (م) و (خ): "الفتوى". (¬2) ساقطة من (م) و (غ) و (ر). (¬3) في (غ) و (ر): "رجوع". (¬4) في (م) و (خ) و (ت): "التقليد". (¬5) في (ط) و (خ) و (ت) و (م): "مقصودة". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والبراهين". (¬7) في (ط) و (خ) و (ت): "يرون، وضبطها بالشكل" من (غ) و (ر).

فصل

فصل هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ رَاجِعَةٌ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَالتَّخَرُّصِ على معانيها بالظن من غير تثبت، (و) (¬1) الْأَخْذِ فِيهَا بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَكُونُ/ ذَلِكَ من راسخ في العلم، ألا ترى أَنَّ الْخَوَارِجَ (¬2) كَيْفَ خَرَجُوا عَنِ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ (الصَّيْدِ الْمَرْمِيِّ) (¬3) لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ (¬4)، يَعْنِي ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ أنهم لا يتفقهون فيه حَتَّى يَصِلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ الْفَهْمَ رَاجِعٌ إِلَى الْقَلْبِ؛ فَإِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْقَلْبِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ فَهْمٌ عَلَى حَالٍ، وَإِنَّمَا يَقِفُ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ (الْمَسْمُوعَةِ) (¬5) (فَقَطْ) (¬6)، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ مَنْ يَفْهَمُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ، وَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعَلَمَ انْتِزَاعًا" إِلَى آخِرِهِ (¬7). /وَقَدْ وَقَعَ لِابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فخرَّج أَبُو عُبَيْدٍ (¬8) فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ (¬9) فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ إبراهيم التيمي (¬10) قَالَ: خَلَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاتَ يوم، فجعل يحدث نفسه: ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أو". (¬2) الخوارج: تقدم تعريفهم (1 15). (¬3) في (ت): "يد الرامي". (¬4) سيأتي تخريجه (3/ 114). (¬5) زيادة من (م). (¬6) في (م) و (غ) و (ر): "قط". (¬7) سبق تخريجه (1/ 117). (¬8) هو أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله البغدادي، تقدمت ترجمته. (¬9) هو الحافظ سعيد بن منصور بن شعبة، شيخ الحرم أبو عثمان الخرساني المروزي، تقدمت ترجمته (1 94). (¬10) هو إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، تقدمت ترجمته (1/ 143).

كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ/ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ ـ زَادَ سَعِيدٌ وَكِتَابُهَا وَاحِدٌ ـ (قَالَ) (¬1): فَقَالَ: ابن عباس يا أمير المؤمنين: (إنّا) (¬2) أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا (فِيمَ أنزل) (¬3) وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيمَ نزل، فيكون (لهم) (¬4) فِيهِ رَأْيٌ فَإِذَا كَانَ (كَذَلِكَ) (¬5) اخْتَلَفُوا وَقَالَ سَعِيدٌ: فَيَكُونُ لِكُلِّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِذَا كان لَكُلِّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقتتلوا. قال: (فزجره) (¬6) عمر، (وانتهره) (¬7). فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيمَ قَالَ/ فَعَرَفَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَقَالَ: (أَعِدْ) (¬8)، عَلَيَّ مَا قُلْتَهُ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ؛ (فَعَرَفَ) (¬9) / عُمَرُ قَوْلَهُ وَأَعْجَبَهُ (¬10). وَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّهُ إِذَا عَرَفَ الرَّجُلَ فيمَ (نَزَلَتِ) (¬11) الْآيَةُ أَوِ السُّورَةُ عَرَفَ مَخْرَجَهَا وَتَأْوِيلَهَا وَمَا قُصِدَ بِهَا، فَلَمْ يَتَعَدَّ ذَلِكَ (فِيهَا) (¬12) وإذا جهل فيمَ (أُنْزِلَتِ) (¬13) احْتَمَلَ النَّظَرُ فِيهَا أَوْجُهًا، فَذَهَبَ كُلُّ إِنْسَانٍ مَذْهَبًا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْآخَرُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ مَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الصَّوَابِ، أَوْ يَقِفُ بِهِمْ دُونَ اقْتِحَامِ حِمَى الْمُشْكِلَاتِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْأَخْذِ بِبَادِيِ الرَّأْيِ، أَوِ التَّأْوِيلِ بِالتَّخَرُّصِ الَّذِي لَا يغني من ¬

(¬1) ما بين القوسين ساقط من (ت) و (غ) و (ر). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ): "إنما". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيما أنزل". (¬4) في (ط): "لكل قوم". (¬5) في (م) و (غ) و (ر): "لهم فيه رأي". (¬6) في (غ) و (ر): "فزبره". (¬7) في (ط): "وانتهره علي". (¬8) في (ط): "أعده". (¬9) في (ط) و (م) و (خ): "فعرفه". (¬10) أخرجه أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ (17 ـ 6) وَسَعِيدُ بْنُ منصور في سننه ـ تحقيق الحميد ـ برقم (42)، والبيهقي في شعب الإيمان (2086)، والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1587) وهو منقطع لأن إبراهيم التيمي لم يدرك عمر بن الخطاب، لكن الأثر صحّ بسند صحيح أخرجه معمر بن راشد في جامعه (20368) عن علي بن بَذِيمة عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس .. (¬11) في (غ) و (ر): "أنزلت". (¬12) ساقط من (غ) و (ر). (¬13) في (غ) و (ر): "نزلت".

الْحَقِّ شَيْئًا، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ بُكَيْرٍ (¬1) أَنَّهُ سَأَلَ نافعاً: كيف (كان) (¬2) رَأْيُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَرُورِيَّةِ (¬3)؟ قَالَ: يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ/ اللَّهِ، (إِنَّهُمُ) (¬4) انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين (¬5). (وفسَّر) (¬6) سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مِمَّا يَتَّبِعُ الْحَرُورِيَّةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬7) وَيَقْرِنُونَ مَعَهَا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (¬8)، فَإِذَا رَأَوُا الْإِمَامَ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ/ قَالُوا: قد كفر، ومن كفر عَدَلَ بِرَبِّهِ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَهَذِهِ/ الْأُمَّةُ مُشْرِكُونَ فَيَخْرُجُونَ (فَيَقْتُلُونَ) (¬9) مَا رَأَيْتُ، لِأَنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ (¬10). فَهَذَا مَعْنَى الرَّأْيِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ النَّاشِئُ عَنِ الْجَهْلِ بِالْمَعْنَى الذي (نزل فيه) (¬11) القرآن. وَقَالَ نَافِعٌ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْحَرُورِيَّةِ قَالَ: يُكَفِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ؛ وَيَنْكِحُونَ النِّسَاءَ فِي عِدَدِهِنَّ، وَتَأْتِيهِمُ المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج [فتكون المرأة عندهم لها زوجان] زيادة من الموطأ. فلا أعلم أحداً أحق بالقتال (والقتل) (¬12) (من الحرورية) (¬13). ¬

(¬1) هو بكير بن عبد الله الأشج الثقة الحافظ أبو عبد الله القرشي المدني، من صغار التابعين، توفي سنة 127هـ. انظر: التاريخ الكبير (2 113) والسير (6 170)، وتهذيب التهذيب (10 412). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) تقدم تعريفهم (1/ 15). (¬4) في (ت): "لأنهم". (¬5) أخرجه ابن وهب كما في كتاب المحاربة من الموطأ تحقيق موراني (ص42). وعلقه البخاري في صحيحه (12 295 مع الفتح)، وذكر ابن حجر أن الأثر أخرجه ابن جرير في تهذيب الأثار في مسند علي بسند صحيح، وأضاف في تغليق التعليق (5 259)، أن ابن عبد البر عزاه إلى ابن وهب في جامعه. (¬6) في (ط) و (م) و (خ): "فسر". (¬7) سورة المائدة: الآية (44). (¬8) سورة الأنعام: الآية (1). (¬9) في (غ) و (ر): "فيفعلون". (¬10) أخرجه ابن المنذر كما في الدر المنثور (2/ 146). (¬11) في (غ) و (ر): "فيه نزل". (¬12) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "منهم". والأثر أخرجه ابن وهب كما في كتاب المحاربة من الموطأ تحقيق موراني (43).

فَإِنْ قِيلَ: فَرَضْتُ الِاخْتِلَافَ الْمُتَكَلَّمَ (فِيهِ) (¬1) فِي وَاسِطَةٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ (¬2) فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تردد النظر فيه عليهما (ولم) (¬3) تَفْعَلْ، بَلْ رَدَدْتُهُ إِلَى الطَّرَفِ الْأَوَّلِ فِي الذَّمِّ وَالضَّلَالِ، وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ بِجَانِبِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا (يُضِيرُ) (¬4)، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ. فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَاسِطَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ إِلَّا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، أَمَّا الْجِهَةُ الْأُخْرَى فإن (ذِكْرِهِمْ) (¬5) فِي هَذِهِ/ الْأُمَّةِ وَإِدْخَالِهِمْ فِيهَا/ أَوْضَحَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مُلْحِقًا لَهُمْ بِهِ لَمْ يَقَعْ فِي الْأُمَّةِ اخْتِلَافٌ وَلَا فُرْقَةَ، وَلَا أَخْبَرَ الشَّارِعَ بِهِ، وَلَا نَبَّهَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيْهِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَا اتِّفَاقَ الْخَلْقِ على الملة بعد (أن) (¬6) كَانُوا مُفَارِقِينَ لَهَا لَمْ نَقُلْ: اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ بَعْدَ اخْتِلَافِهَا، كَذَلِكَ لَا نَقُولُ: اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ، وافترقت الأمة بعد اتفاقها، (لو) (¬7) خَرَجَ بَعْضُهُمْ/ إِلَى الْكَفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يقال: افترقت أو تفترق الْأُمَّةُ، إِذَا كَانَ الِافْتِرَاقُ وَاقِعًا فِيهَا مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْأُمَّةِ هَذَا/ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" (¬8)، ثُمَّ قَالَ: وَتَتَمَارَى فِي الفوق ـ وفي رواية ـ ¬

(¬1) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬2) الطرفان هما: الاختلاف في أصل الدين والنحلة كاليهودية والنصرانية والإسلام، والطرف الثاني الاختلاف في الفروع مع الاتفاق في أصل الدين كاختلاف الصحابة، والواسطة هو الاختلاف في بعض قواعد الدين الكلية مع الاتفاق في أصل النحلة. وانظر ما تقدم ذكره (ص97 ـ 98). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فلم". (¬4) في (ت): "يضر". (¬5) في (ط) و (خ) وهامش (ت): "عدم ذكرهم". (¬6) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أو". (¬8) حديث ذم الخوارج أخرجه جمع كبير من أهل العلم منهم مالك في الموطأ (478)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (168 و448 و2687)، والحميدي في مسنده (749 و1271)، وابن الجعد في مسنده (2595)، وأحمد في مسنده (1 81 و88 و113 و131 و160 و404) و (3 4 و15 و33 و52 و56 و60 و64 و65 و183 و189=

فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي (الْفُوقَةِ) (¬1): هَلْ عَلِقَ بِهَا من الدم شيء/ والتماري في الفوق (هَلْ فِيهِ) (¬2) فَرْثٌ وَدَمٌ أَمْ لَا) شَكٌّ بِحَسَبِ التَّمْثِيلِ: هَلْ خَرَجُوا مِنَ الْإِسْلَامِ حَقِيقَةً (أم لا) (¬3) وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لَا يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّنْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالِارْتِدَادِ مَثَلًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ أَصْحَابِ الْبِدَعِ الْعُظْمَى، وَلَكِنَّ الَّذِي يَقْوَى فِي النَّظَرِ وَبِحَسَبِ الْأَثَرِ عَدَمُ الْقَطْعِ بِتَكْفِيرِهِمْ (¬4) وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عَمَلُ/ السَّلَفِ الصالح فيهم. ¬

=و224 و353 و354 و486) و (4 145 و421 و424) و (5 42 و176)، والبخاري في صحيحه (6930، 5057، و3611، 3610)، وفي خلق أفعال العباد (ص53)، وفي الأدب المفرد (774)، ومسلم (1064 ـ 1068)، وابن ماجه (168 ـ 172)، والترمذي (2188)، وأبو داود (4765 ـ 4767)، والنسائي في المجتبى (4101 و4102)، وفي السنن الكبرى (3564 و3565 و8088 ـ 8090 و8558 ـ 8568 و11220)، وابن الجارود في المنتقى (1083)، وأبو يعلى في مسنده (261 و324 و478 و1022 و1193 و3117 و3908 و4066 و5402)، والطبراني في الصغير (1049)، وفي الكبير (1753 و5433 و5608 و7553 و8260)، وابن حبان في صحيحه (25 و5964 و6737 و6739)، والحاكم (2645 و2647 و2649 و2650 و2659)، والبيهقي في السنن الكبرى (5649 و12962 و16474 و16475 و16480 و16558). (¬1) في (م) و (خ): "الفرقة". (¬2) في (ط): "فيه هل فيه". (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) مسألة تكفير أهل البدع، من المسائل المختلف فيها بين أهل العلم، وأذكر هنا المسألة مختصرة على النحو التالي: (أ) يمكن إطلاق القول بتكفير بعض الفرق، كالجهمية والقدرية الذين نفوا العلم والكتابة، حيث كفرهم جمهور الأئمة والسلف، ولكن لا يستلزم ذلك كفر جميع أفراد هذه الفرق؛ لأن تكفير المعين لا بد فيه من ثبوت شروطه وانتفاء موانعه، وقد كفر الإمام أحمد من قال بخلق القرآن وأنه جهمي، وهو تكفير مطلق، ولكنه لم يكفر كل فرد بعينه ممن قال هذه المقالة، اعتماداً على قاعدة الفرق بين التكفير المطلق وتكفير المعين. (ب) هناك فرق اتفق الأئمة والسلف على عدم تكفيرهم، كالشيعة المفضلة، ومرجئة الفقهاء، وأمثالهم. (ج) وهناك فرق اختلف حكم الأئمة في تكفيرهم، كالخوارج والمعتزلة وغيرهم،=

ألا ترى إلى صنع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فِي الْخَوَارِجِ؟ (وَكَوْنِهِ) (¬1) عَامَلَهُمْ فِي قِتَالِهِمْ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (¬2)، فَإِنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحَرُورِيَّةُ وَفَارَقَتِ الْجَمَاعَةَ لَمْ يُهَيِّجْهُمْ عَلِيٌّ وَلَا قَاتَلَهُمْ، (وَلَوْ) (¬3) كَانُوا بِخُرُوجِهِمْ مرتدين لم يتركهم؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" (¬4)، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ، فَدَلَّ ذلك على اختلاف ما بين المسألتين. ¬

=وهو اختلاف في تكفيرهم بإطلاق، لكن الحكم على أفرادهم ـ وهو المهم ـ تجري عليه قاعدة الفرق بين التكفير المطلق وتكفير المعين. (هـ) أن الفرق سواء قيل بكفرها أو عدم كفرها تكفيراً مطلقاً، أفرادها إما مؤمن ضال جاهل بالسنة وهذا لا يكفر، وإما منافق زنديق يريد هدم الإسلام، وهذا يكفر، والذي يدل على ذلك: أن من المنافقين وأعداء الإسلام من دخل في الإسلام ظاهراً، وبث فيه البدع ليهدم الدين، وهذا لا شك في كفره وردته، بينما من اتبعه قد يكون مسلماً جاهلاً غرر به، والله تعالى أعلم. راجع: مجموع فتاوى ابن تيمية (3 229 ـ 231 و351 ـ 254)، و (6 61) و (7 472 و618 ـ 619 و507 ـ 508) و (12 466 و487 ـ 501) و (28 500 و518)، والمسائل الماردينية (65 ـ 69)، والمعيار المعرب للونشريسي (2 339 ـ 341)، وشرح الطحاوية (358 ـ 359)، ومعارج القبول (2 616)، وضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة (252 ـ 266) والتكفير والمكفرات (581 ـ 593)، وحقيقة البدعة وأحكامها (2 223 ـ 309). (¬1) في (غ) و (ر): وفي كونه. (¬2) سورة الحجرات: الآية (9). (¬3) في (م): "ولا". (¬4) أخرجه البخاري (6922، 3017)، والطيالسي في مسنده (2689)، والحميدي في مسنده (533)، وأحمد في مسنده (1 217 و282 و322)، وابن ماجه (2535)، والترمذي (1458)، وأبو داود (4351)، والنسائي في المجتبى (4059 ـ 4065)، وفي السنن الكبرى (3522 ـ 3528)، والحارث في مسنده ـ بغية الباحث ـ (509)، وابن الجارود في المنتقى (843) وأبو يعلى في مسنده (2532 و2533)، والطبراني في المعجم الكبير (10638 و11835 و11850) و (19 419 برقم 1013)، والدارقطني (3 108 و113)، وابن حبان (4475)، والحاكم (6295)، والبيهقي في السنن الكبرى (16597 و16635 ـ 16637 و16654 و17841).

وأيضاً حين ظَهَرَ مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ (¬1) وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ (¬2) لم يكن (لهم من السلف الصالح) (¬3) إِلَّا الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْهِجْرَانُ، وَلَوْ كَانُوا خَرَجُوا إِلَى كُفْرٍ مَحْضٍ لَأَقَامُوا عَلَيْهِمُ الْحَدَّ (بالقتل كالمرتدين) (¬4)، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا لَمَّا خَرَجَ فِي زَمَانِهِ الْحَرُورِيَّةُ بِالْمَوْصِلِ/ أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ (على مَا) (¬5) أَمَرَ بِهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ/ ولم يعاملهم معاملة المرتدين (¬6). ومن جهة (النظر) (¬7) إِنَّا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ (لِلْهَوَى) (¬8)، وَلِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى بِإِطْلَاقٍ، وَلَا مُتَّبِعِينَ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ (فَرَضْنَا أَنَّهُمْ) (¬9) كَذَلِكَ لَكَانُوا كُفَّارًا، إِذْ لا يتأتى ذلك (إلا ممن أخذ به في الشريعة مَعَ) (¬10) رَدِّ مُحْكَمَاتِهَا عِنَادًا وَهُوَ كُفْرٌ، وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ (بِالشَّرِيعَةَ) (¬11) وَمَنْ جَاءَ بِهَا، وَبَلَغَ فِيهَا مَبْلَغًا يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ (فمثله) (¬12)، لا يقال (فيه) (¬13): أَنَّهُ صَاحِبُ هَوًى بِإِطْلَاقٍ بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ للشرع في نظره، لكن ¬

(¬1) هو معبد بن عبد الله بن عويم الجهني البصري، أخذ عنه غيلان الدمشقي القول بالقدر، وخرج مع ابن الأشعث على الحجاج، فقتله الحجاج عام 80هـ. انظر: تهذيب التهذيب (10 225). (¬2) تقدم تعريف القدرية (1 14). (¬3) في (ط) و (م) و (خ): "من السلف الصالح لهم". وفي (غ) و (ر): "من السلف الصالح إليهم". (¬4) في (ط) و (غ) و (ر): "المقام على المرتدين"، وفي (م) و (خ): "العظام على المرتدين". (¬5) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "أخذ". (¬6) انظر قصة خروج الخوارج على عمر في: الموطأ لابن وهب ـ كتاب المحاربة تحقيق موراني ـ ص 44 ـ 46 والمنتظم لابن الجوزي (7/ 53 ـ 54)، وطرفاً من معاملته لهم في سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (ص76). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المعنى". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الهوى". (¬9) في (غ) و (ر): "فرضناهم". (¬10) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "من أخذ ـ في ط: أحد ـ في الشريعة إلا مع". (¬11) في (ط) و (م) و (خ): "الشريعة". (¬12) في (ط): "بمثله". (¬13) زيادة من (م) و (خ).

بِحَيْثُ (يُمَازِجُهُ) (¬1) الْهَوَى فِي (مَطَالِبِهِ) (¬2) / مِنْ جِهَةِ إِدْخَالِ الشَّبَهِ فِي الْمُحَكَّمَاتِ بِسَبَبِ اعْتِبَارِ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَشَارَكَ أَهْلُ الْهَوَى فِي دُخُولِ الْهَوَى فِي نِحْلَتِهِ، وَشَارَكَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا دَلَّ/ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْجُمْلَةِ. /وَأَيْضًا فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اتِّحَادُ الْقَصْدِ مع/ أهل السنة على (الجملة) (¬3) في مَطْلَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ أَشَدِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ـ مَثَلًا ـ مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَقَاصِدَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَائِمًا حَوْلَ حِمَى التَّنْزِيهِ، وَنَفْيِ النَّقَائِصِ، وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْأَدِلَّةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا، فَحَصَلَ فِي هَذَا الْخِلَافِ (الشبه) (¬4) الْوَاقِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي الْفُرُوعِ (¬5). وَأَيْضًا فَقَدْ يُعْرَضُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُخَالِفِ مِنْهُمْ فَيَرْجِعُ إِلَى الْوِفَاقِ لِظُهُورِهِ عِنْدَهُ، كَمَا رَجَعَ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ/ الْخَارِجِينَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْفَانِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَدَمَ الرُّجُوعِ، كما تقدم في أن المبتدع ليس له توبة. حكى ابن عبد البر بسند يرفعه إلى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا اجتمعت (الحرورية يخرجون على علي، قال) (¬6) جعل يأتيه الرجل فيقول: يا أمير المؤمنين (إن) (¬7) القوم خارجون عليك، قال: (دعهم) (¬8) ¬

(¬1) في (م): "بمزاجه". وفي (غ) و (ر): "يزاحمه". (¬2) في (م): "مطالب". (¬3) في (ط) و (خ): "الجماعة". (¬4) في (ط): "أشبه". (¬5) يرى الشاطبي أن نصوص الصفات من المتشابه، كما في هذا النص، وصرح به في كتاب الموافقات (3 94)، وهو خلاف مذهب السلف في اعتقادهم أن نصوص الصفات من المحكم، وقد فصل هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب: الإكليل في المتشابه والتأويل وهي ضمن مجموع الفتاوى (13 270). (¬6) في (ت): بعلي رضي الله عنه فت الذي يريد الخوارج أن يخرجوا عليه. (¬7) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (ت): "دعوهم".

حتى يخرجوا. فلما كان ذات (يوم) (¬1) قلت: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم ـ قال ـ فدخلت عليهم وهم قائلون، فإذا هم مُسهمة (¬2) / وجوههم من السهر، قد أثر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفن (¬3) الإبل، عليهم قمص مرحَّضة (¬4) فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ (قال) (¬5): قلت: ما تعيبون من ذلك؟ فلقد رَأَيْتُ (رَسُولَ) (¬6) اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وعليه حلة) (¬7) أحسن ما يكون من (الثياب اليمنية) (¬8) ـ قال ـ/ ثم قرأت هذه الآية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (¬9)، فقالوا: ما جاء بك؟ (قلت) (¬10): جئتكم من عند (أصحاب) (¬11) رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله، (جئت) (¬12) لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (¬13) فقال بعضهم: بلى (فلنكلمه) (¬14). قال: فكلمني منهم رجلان، أو ثلاثة، قال: قلت: ماذا نقمتم عليه؟ قالوا: ثلاثاً. فقلت: ما هن؟ قالوا: حكَّم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (¬15)، قال: (قلت) (¬16): هذه واحدة، وماذا أيضاً؟ / قالوا: فإنه قاتل فلم يَسْبِ ولم يغنم، (فلئن) (¬17) كانوا مؤمنين ما حل قتالهم، (ولئن) (¬18) ¬

(¬1) ساقطة من (خ). (¬2) أي متغير لون وجوههم. انظر: لسان العرب، مادة سهم. (¬3) هو ما يقع على الأرض من أعضاء الإبل إذا استناخ، كالركبتين، انظر لسان العرب، مادة ثفن. (¬4) أي مغسولة. انظر لسان العرب، مادة رحض. (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): "على رسول". (¬7) ساقطة من (م) و (غ) و (ر). وفي (ط) و (خ): "وعليه". (¬8) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "ثياب اليمنة". (¬9) سورة الأعراف: الآية (32). (¬10) في (غ) و (ر): "فقال". (¬11) ساقطة من (م). (¬12) في (م) و (ت): "حيث". (¬13) سورة الزخرف: الآية (58). (¬14) في (غ) و (ر): "فلنكلمنه". (¬15) سورة يوسف: الآية (40). (¬16) ساقطة من (ط). (¬17) في (ت): "فإن". (¬18) في (ت): "وإن".

كانوا كافرين لقد حلَّ/ قتالهم (وسبيهم) (¬1)، قال: قلت: وماذا أيضاً؟ قالوا: ومحا نفسه من إمرة المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين قال: قلت: أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله بما ينقض قولكم/ هذا، أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟ قال: قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فإن الله قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬2)، وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬3) فصيَّر الله ذلك إلى حكم الرجال، فناشدتكم (الله) (¬4) أتعلمون (أن) (¬5) حكم الرجال في (حقن) (¬6) دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم أفضل أو في (دم أرنب ثمنه) (¬7) ربع درهم؟ وفي (بضع) (¬8) امرأة؟ قالوا: (بل) (¬9)، هذا أفضل. قال: (أخرجتم) (¬10) من هذه؟ قالوا: نعم! قال: وأما/ قولكم: قاتل (ولم يسب) (¬11) ولم يغنم (أتسبون) (¬12) أمكم عائشة؟ فإن قلتم:/ نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، (وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم) (¬13)، فأنتم (ترددون) (¬14) بين/ ضلالتين، (أخرجتم) (¬15) من هذه؟ قالوا: بلى، (قال) (¬16): وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن ¬

(¬1) في (م): "وسباهم". وفي (غ) و (ر): "وسباوهم". (¬2) سورة المائدة: الآية (95). (¬3) سورة النساء: الآية (35). (¬4) ساقطة من (م). (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) زيادة من هامش (ت). (¬7) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "دم أرنب ثمن". وفي جامع بيان العلم: حكم أرنب ثمن. (¬8) في (م): "بعض". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بلى". (¬10) في (غ) و (ر): "أخرجت". (¬11) زيادة من (ط). وفي (غ) و (ر): "فلم يسب". (¬12) في (غ) و (ر): "أفتسبون". (¬13) ما بين القوسين ساقط من (خ). (¬14) في (ت): "تترددون". (¬15) في (غ) و (ر): "أخرجت". (¬16) ساقط من (غ) و (ر).

عمرو، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكْتُبْ يَا عَلِيُّ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَسُهَيْلُ بْنُ (عَمْرٍو: مَا) (¬1) نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إنك تعلم أني (رسولك) (¬2)، (امح يا علي واكتب) (¬3): هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ/ وَأَبُو سُفْيَانَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. قَالَ: فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ فَخَرَجُوا فَقُتِلُوا أجمعون (¬4). ¬

(¬1) في (ط): "عمرو بن ما". وفي (م) و (خ): "عمرو وما". وفي (ت): "وما". (¬2) في (ت) و (م): "رسول". (¬3) في (م): "يا علي اكتب". (¬4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 126 ـ 128)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (18678) مطولاً بسند حسن، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (93) مختصراً، وأبو داود (4037) مختصراً جداً، والنسائي في السنن الكبرى (8575)، والطبراني في الكبير (10598)، وبرقم (12884) مختصراً جداً، والحاكم (2656 و2657 و7368)، والبيهقي في السنن الكبرى (16517).

فصل

فصل صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فرقة، والنصارى مثل ذلك وتتفرق/ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً" وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ هَكَذَا (¬1). وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ) (¬2): (افْتَرَقَ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوِ (اثْنَتَيْنِ) (¬3) وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وتفرقت النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ (اثْنَتَيْنِ) (3) وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، (وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً) (¬4). /وَفِي الترمذي تفسير هذا، لكن بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه، فقال في (حديثه) (¬5): (وإن بني إسرائيل (افترقت) (¬6) على ثنتين وسبعين (ملة) (¬7) وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً ـ قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عليه وأصحابي) (¬8). ¬

(¬1) تقدم تخريجه (1 12). (¬2) ما بين () ساقط من (غ) و (ر). (¬3) في (ت): "اثنين". وفي (غ) و (ر): "ثنتين". (¬4) ما بين () ساقط من (غ) و (ر) والحديث سبق تخريجه (1 15). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "حديث". (¬6) في (غ) و (ر): "تفرقت". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فرقة". (¬8) أخرجه الترمذي برقم (2641) وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. اهـ، ومدار هذه الرواية على عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، وهو ضعيف عند الجمهور. التقريب (3862).

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: (وَأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ ستفترق على ثلاث وسبعين، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) (¬1) وَهِيَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا أَنَّ هُنَا زِيَادَةً فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: (وإنه سيخرج (في) (¬2) أمتي أقوام تجارى بهم تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ/ إِلَّا دَخَلَهُ) (¬3). وفي رواية عن أَبِي غَالِبٍ (¬4) مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَزِيدُ عَلَيْهِمْ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ) (¬5). وَفِي رِوَايَةٍ مَرْفُوعًا: (سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى/ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا/ فِتْنَةً الَّذِينَ (يَقِيسُونَ) (¬6) الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ) (¬7). وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ قَدَحَ فيه ابن عبد البر (¬8) لأن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود برقم (4597). (¬2) في (ط): "من". (¬3) أخرجه أبو داود برقم (4597)، والزيادة ذكرها أبو داود ملحقة بالحديث السابق، وأخرجها أحمد في المسند (4 102)، والطبراني في المعجم الكبير (884)، وفي مسند الشاميين (1005)، والحاكم في المستدرك (443). (¬4) في (ط) و (م) و (خ): "ابن أبي غالب"، وهو خطأ والصواب أبي غالب، واسمه: حزور، وهو من رواة الحديث، وثقه ابن معين والدارقطني وموسى بن هارون، وضعفه أبو حاتم والنسائي وابن حبان وقال ابن حجر: صدوق يخطئ، وقال الذهبي: صالح الحديث. انظر: الجرح والتعديل (3 316)، وتهذيب التهذيب (12 197)، والكاشف (3 322). (¬5) تقدم تخريجه (1/ 74)، وهي رواية مرفوعة وليس موقوفة لأن في نهاية الحديث قال رجل لأبي أمامة ـ راوي الحديث: يا أبا أمامة من رأيك أو سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: إني إذاً لجريء، بل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة. في (خ) و (م) و (ت): "يقيمون". وصححت في هامش (ت) بـ:"يقيسون". (¬6) تقدم تخريجه (1 88). (¬7) جامع بيان العلم (2 891) برقم (1673) ـ طبعة الزهيري.

مسائل حديث افتراق الأمم

ابْنَ مَعِينٍ قَالَ: إِنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، (شُبّه فِيهِ) (¬1) عَلَى نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ (¬2)، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الثِّقَاتِ، ثُمَّ تُكُلِّمَ فِي إِسْنَادِهِ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، ثُمَّ قَالَ: (وَفِي الْجُمْلَةِ) (¬3) فَإِسْنَادُهُ فِي الظَّاهِرِ جَيِّدٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ـ يَعْنِي ابْنَ مَعِينٍ ـ قَدِ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى عِلَّةٍ خَفِيَّةٍ (¬4). وَأَغْرَبُ مِنْ (هَذَا) (¬5) كُلِّهِ رِوَايَةٌ رَأَيْتُهَا فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ: (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ/ تَفَرَّقَتْ (إِحْدَى) (¬6) وَثَمَانِينَ مِلَّةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ مِلَّةً، (كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً) (¬7)، قَالُوا: ((وَمَا هِيَ) (¬8) يَا رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟ قال: الْجَمَاعَةُ) (¬9). فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، تَصَدَّى النَّظَرُ فِي الحديث في مسائل: (إحداها) (¬10): في حقيقة هذا/ الافتراق. ¬

(¬1) في (ت): "بياض بمقدار كلمتين". (¬2) هو نعيم بن حماد بن معاوية الخزاعي المروزي، توفي سنة 228هـ في السجن، وذلك بسبب فتنة خلق القرآن، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم في جهة الجرح والتعديل، وقد توسع المعلمي ـ رحمه الله تعالى ـ في ترجمته في التنكيل بكلام مهم (1 493 ـ 500)، وانظر كذلك: الجرح والتعديل (8 462)، وطبقات ابن سعد (7 519)، وتاريخ بغداد (13 306 ـ 314)، والسير (10 595)، وميزان الاعتدال (4 267 ـ 270)، وتهذيب التهذيب (10 458). (¬3) في (غ) و (ر): "وبالجملة". (¬4) هذا كلام ابن تيمية في بيان الدليل (ص295 ـ 296)، والفتاوى الكبرى (6/ 143). وانظر كلاماً مهماً للمعلمي في التنكيل (1/ 496 ـ 497) عن هذا الحديث، وانظر دراسة جيدة للحديث في كتاب "ذم الكلام وأهله" للهروي ـ ت الأنصاري ـ (2/ 188 ـ 193) تعليق رقم (5). (¬5) في (غ) و (ر): "ذلك". (¬6) في (غ) و (ر): "واحدة". (¬7) في (غ) و (ر): "كلها واحدة إلا ملة في النار إلا ملة واحدة؟! ". (¬8) في (غ) و (ر): "وأية ملّة". (¬9) في (م): "وإنه ملة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم". (¬10) لم أجده، في الجزء المطبوع، ولفظ الحديث مخالف للرواية المشهورة المتواترة وهي لفظ (السبعين). (¬11) في (ط): "المسألة الأولى".

وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ افْتِرَاقًا عَلَى مَا يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ زِيَادَةِ قَيْدٍ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ بِإِطْلَاقِهِ وَلَكِنْ يحتمله، كما كان لفظ الرقبة (يشعر) (¬1) بمطلقها ولا يُشْعِرُ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً أَوْ غَيْرَ مُؤْمِنَةٍ، لَكِنَّ اللَّفْظَ يَقْبَلُهُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ الافتراق، بحيث يطلق صور (هذا) (¬2) الِاخْتِلَافِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ (الْمُخْتَلِفُونَ) (¬3) فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ دَاخِلِينَ تَحْتَ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ (من زَمَانِ) (¬4) الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى الْآنِ وَاقِعٌ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي زَمَانِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، ثُمَّ في سائر/ الصحابة، ثم في التَّابِعِينَ وَلَمْ يَعِبْ أَحَدٌ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَبِالصَّحَابَةِ اقتدى من بعدهم في (تسويغ) (¬5) الخلاف، فكيف يمكن أَنْ يَكُونَ الِافْتِرَاقُ فِي الْمَذَاهِبِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ (إطلاق) (¬6) الْحَدِيثُ؟ وَإِنَّمَا/ يُرَادُ افْتِرَاقٌ/ مُقَيَّدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ نَصٌّ عَلَيْهِ، فَفِي الْآيَاتِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ({وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (¬7)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا (¬8) لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬9)، وما أشبه ذلك من/ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى التَّفَرُّقِ الَّذِي صَارُوا بِهِ شِيَعًا، وَمَعْنَى: صَارُوا شِيَعًا؛ أَيْ جَمَاعَاتٍ بَعْضُهُمْ قَدْ فَارَقَ الْبَعْضَ، لَيْسُوا عَلَى تَآلُفٍ (وَلَا تَعَاضُدٍ وَلَا تَنَاصُرٍ) (¬10)، بَلْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَاحِدٌ وَأَمْرُهُ وَاحِدٌ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ عَلَى الِائْتِلَافِ التَّامِّ لَا عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ مُشْعِرَةٌ بِتَفَرُّقِ الْقُلُوبِ الْمُشْعِرِ بالعداوة والبغضاء، ولذلك ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لفظ". (¬3) في (م): "المختلفين". (¬4) في (ت): "مذ زمن". وفي (غ) و (ر): "مذ زمان". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "توسيع". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) سورة الروم: الآيتان (31، 32). (¬8) ما بين () ساقط من (خ). (¬9) سورة الأنعام: الآية (159) (¬10) في (غ) و (ر): "ولا على تعاضد وتناصر".

المسألة الثانية

قَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (¬1)، فبين أن (التآلف) (¬2) إِنَّمَا/ يَحْصُلُ عِنْدَ الِائْتِلَافِ عَلَى التَّعَلُّقِ بِمَعْنًى واحد، وأما إذا تعلق كُلُّ شِيعَةٍ بِحَبْلٍ غَيْرِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأُخْرَى فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَرُّقِ، وَهُوَ مَعْنَى قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬3). وإذا (تبين هذا تنزل) (¬4) عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ وَاسْتَقَامَ مَعْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنْ كَانَتِ/ افترقت بسببٍ مُوقِعٍ في العداوة وَالْبَغْضَاءِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا (إِلَى أَمْرٍ) (¬5) هُوَ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ بِدْعَةٍ (وَمِثَالُهُ أَنْ يَقَعَ بين أهل الإسلام افتراق بسبب دنياوي) (¬6)، كَمَا يَخْتَلِفُ/ مَثَلًا أَهْلُ قَرْيَةٍ مَعَ قَرْيَةٍ أُخْرَى بِسَبَبِ تَعَدٍّ فِي مَالٍ أَوْ دَمٍ، حتى تقع بينهم العداوة فَيَصِيرُوا حِزْبَيْنِ، أَوْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَقْدِيمِ والٍ (أو عزل وَالٍ) (¬7) أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (فَيَفْتَرِقُونَ) (¬8)، وَمِثْلُ هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ يُشْعَرُ بِهِ (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيد شبر (فمات) (¬9) فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ) (¬10)، وَفِي مِثْلِ (هَذَا) (¬11) جَاءَ فِي الحديث: (إذا بويع الخليفتين) (¬12) فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا) (¬13)، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَإِنْ ¬

(¬1) سورة آل عمران: الآية (103). (¬2) في (م) و (خ): "التأليف". (¬3) سورة الأنعام: الآية (153). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ): "ثبت هذا نزل". (¬5) في (ت): "لأمر". (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في (ت) و (غ) و (ر): "فيتفرقون". (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) أخرجه البخاري (7054 و7143)، ومسلم (1849)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (1162)، وأحمد في مسنده (2 133) (3 445 و446) (5 180)، والدارمي (2519)، والترمذي (2862)، وأبو يعلى (1571 و7203)، وابن خزيمة في الصحيح (1895)، والطبراني في الكبير (3427)، وابن حبان في الصحيح (6233)، والحاكم (401 و408 و1534)، والقضاعي في المسند (448 و450)، والبيهقي في السنن الكبرى (16391). (¬11) في (غ) و (ر): "ذلك". (¬12) في (ط) و (خ) و (ت): "الخليفتان". (¬13) أخرجه مسلم (1853)، والحاكم (2665)، والبيهقي في السنن الكبرى (16324).

طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (¬1) إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. /وَأَمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَمْرٍ هُوَ بِدْعَةٌ، كَمَا افْتَرَقَ الْخَوَارِجُ (مِنَ) (¬2) الْأُمَّةِ (بِبِدَعِهِمُ) (¬3) الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا فِي الْفِرْقَةِ، وكالمهدي المغربي (¬4) الخارج (على) (¬5) الْأُمَّةِ نَصْرًا لِلْحَقِّ فِي زَعْمِهِ، فَابْتَدَعَ أُمُورًا سِيَاسِيَّةً وَغَيْرَهَا خَرَجَ بِهَا عَنِ السُّنَّةِ ـ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ/ قَبْلُ ـ وَهَذَا هُوَ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَالْأَحَادِيثُ، لِمُطَابَقَتِهَا لِمَعْنَى الْحَدِيثِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ مَعًا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا أَعْلَمُ قَائِلًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ (مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ) (¬6) إِذْ لَمْ أَرَ أَحَدًا خص هذه (الفرقة) (¬7) بِمَا إِذَا افْتَرَقَتِ الْأُمَّةُ بِسَبَبِ أَمْرٍ (دُنْيَوِيٍّ) (¬8) لَا بِسَبَبِ (بِدْعَةٍ) (¬9)، وَلَيْسَ ثَمَّ دَلِيلٌ يَدُلُّ على التخصيص، لأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيد شِبْرٍ" (¬10) الْحَدِيثَ، لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وكذلك (إذا بويع (لخليفتين) فاقتلوا الآخر منهما) (¬11)، وقد اختلف العلماء فِي الْمُرَادِ بِالْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ حَسْبَمَا يَأْتِي، فَلَمْ يَكُنْ (مِنْهُمْ قَائِلٌ) (¬12) بِأَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُضَادَّةَ لِلْجَمَاعَةِ هِيَ فِرْقَةُ الْمَعَاصِي غَيْرُ الْبِدَعِ على الخصوص. وأما الثالث، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ مَعًا، فَذَلِكَ أَيْضًا مُمْكِنٌ، إِذِ الْفِرْقَةُ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهَا قَدْ تَحْصُلُ بسبب (أمور دنيوية) (¬13) لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْبِدَعِ وَإِنَّمَا (هِيَ) (¬14) مَعَاصٍ وَمُخَالَفَاتٌ/ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُرْشِدُ قول ¬

(¬1) سورة الحجرات: الآية (9). (¬2) في (غ) و (ر): "عن". (¬3) في (م) و (خ): "ببدعتهم". و (غ) و (ر). (¬4) هو محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي، ادعى أنه هو المهدي المنتظر، وسمى أتباعه بالموحدين. تقدمت ترجمته 1 312. (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عن". (¬6) في (غ) و (ر): "في نفسه ممكناً". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في (ط) و (م) و (خ): "دنياوي". (¬9) في (غ) و (ر): "البدعة". (¬10) تقدم تخريجه (3/ 126). (¬11) في (خ) و (غ) و (ر): "الخليفتين". (¬12) تقدم تخريجه (3/ 126). (¬13) في (ت): "قائل منهم". (¬14) في (ط) و (م) و (خ): "أمر دنياوي". وفي (ت): "أمر دينوي". (¬15) في (ت): "هو".

الطَّبَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْجَمَاعَةِ ـ حَسْبَمَا يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ ـ وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ: (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي (ما أتى على بني إسرائيل إلى أن قال: حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي) (¬1) مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ) (¬2) فَجَعَلَ الْغَايَةَ فِي اتِّبَاعِهِمْ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ كما ترى. /وكذلك (قوله) (¬3) فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ـ إِلَى قَوْلِهِ: ـ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ) (¬4)، فَجَعَلَ الْغَايَةَ مَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ. /وَفِي مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (¬5) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَعَاذَكَ اللَّهُ يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ (مِنْ) (¬6) إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ ـ قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ ـ قَالَ أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي (لَا) (¬7) يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صدَّقهم بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ،/ فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي (وَلَسْتُ) (¬8) مِنْهُمْ، وَلَا يَرِدُونَ عَلَيَّ (الْحَوْضَ) (¬9)، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مني وأنا منهم، (وسيردون) (¬10) علي الحوض) (¬11) الحديث. ¬

(¬1) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬2) تقدم تخريجه ص123 تعليق رقم (3). (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) تقدم تخريجه (1 13). (¬5) هو كعب بن عجرة الأنصاري السلمي رضي الله عنه، من أهل بيعة الرضوان، توفي سنة 52هـ. انظر: أسد الغابة (4 243)، والإصابة برقم (7421). (¬6) في (غ) و (ر): "عن". (¬7) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) في (م) و (خ) و (ت): "وأنا"، وهو خطأ معنى ورواية، والصواب من (غ) و (ر) و (ط) و (ر) وهو الموافق لما في كتب السنة. (¬9) في (م) و (خ) و (ت): "الحوض الحديث". (¬10) في (ط) و (خ): "ويردون". (¬11) أخرجه في حديث جابر: أحمد في المسند (3 399)، والترمذي برقم (614 و2259)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1 189)، والحاكم (6030 و8302)، وقال الذهبي: صحيح. وأخرجه من حديث كعب بن عجرة: عبد بن حميد في المنتخب (370)، والنسائي في المجتبى (4207)، وفي السنن الكبرى (8658)، والطبراني في الصغير (430 و625)، وفي الكبير في المجلد (19) برقم (212 و294=

المسألة الثالثة

وكل من (لا يهتدي) (¬1) بِهَدْيِهِ وَلَا يَسْتَنُّ بسنَّته فَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، فَلَا اخْتِصَاصَ بِأَحَدِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي نَقْلِ أَرْبَابِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ الِابْتِدَاعِ/ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَعَلَى ذَلِكَ حُمِلَ الْحَدِيثُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يعدُّوا منها المفترقين بسبب المعاصي التي ليست ببدع، وَعَلَى ذَلِكَ يَقَعُ التَّفْرِيعُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. المسألة الثالثة: إن هذه الفرق (تحتمل) (¬2) مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنْ يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْمِلَّةِ بِسَبَبِ مَا أَحْدَثُوا، فَهُمْ قَدْ فَارَقُوا أهل الإسلام بإطلاق، وليس ذلك إلا (إلى) (¬3) الكفر، إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ مَنْزِلَةٌ/ ثَالِثَةٌ تُتَصَوَّرُ. /وَيَدُلُّ (عَلَى) (¬4) هَذَا الِاحْتِمَالِ ظَوَاهِرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬5)، وهي آية أنزلت ـ عند المفسرين ـ في أهل البدع، ويوضحه (قراءة) (¬6) من قرأ: "إن الذين فارقوا دينهم" (¬7)، وَالْمُفَارَقَةُ لِلدِّينِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إِنَّمَا هِيَ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬8) الآية، وهي عند ¬

=و298 و309 و310 و345 و354 و361)، وابن حبان في الصحيح (282 و283 و285)، وأخرجه من حديث ابن عمر: أحمد في المسند (2 95)، وأخرجه من حديث خباب بن الأرت: الطبراني في الكبير (3627)، وابن حبان (284)، وأخرجه من حديث أبي سعيد الخدري: الطيالسي (2223)، وأبو يعلى (1187 و1286)، وابن حبان (286)، وأخرجه من حديث عبد الرحمن بن سمرة: الحاكم (7162)، وأخرجه من حديث حذيفة بن اليمان: الطبراني في الكبير (3020). (¬1) في (ط) و (خ) و (ت): "لم يهتد". (¬2) في (غ) و (ر): "يحتمل". (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) سورة الأنعام: الآية (159). (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) قرأ حمزة والكسائي (فارقوا) وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأ الباقون بالتشديد، وهي قراءة ابن مسعود، وقرأ النخعي بالتخفيف. انظر: جامع البيان (12 268)، والقرطبي (7 97)، وفتح القدير (2 183). (¬8) سورة آل عمران: الآية (106).

الْعُلَمَاءِ مُنَزَّلَةٌ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَهُمْ أَهْلُ البدع (¬1)، وهذا كالنص (في الكفر) (¬2)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فقوله صلّى الله عليه وسلّم: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بعض" (¬3)، وهذا نص (أيضاً) (¬4) في كفر من قيل ذلك فيه (¬5). ¬

(¬1) اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية على عدة أقوال: (أ) فقيل أنها في اليهود والنصارى؛ وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك. (ب) وقيل أنها نزلت في أهل البدع من هذه الأمة، وهو قول أبي هريرة. (ج) وقيل: أنها في المشركين عامة؛ عبد بعضهم الصنم وبعضهم الملائكة، قاله الحسن. انظر: تفسير ابن جرير (12 269 ـ 271)، والقرطبي (7 97)، وزاد المسير (3 158 ـ 159). وقال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له؛ فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه وكانوا شيعاً؛ أي فرقاً، كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برأ رسوله صلّى الله عليه وسلّم مما هم فيه. انظر: ابن كثير (2 197). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) أخرجه البخاري (7077، 6868، 6166، 4403)، ومسلم (66)، والطيالسي (664 و859)، وأحمد (1 402) و (2 85 و87 و104) و (4 351 و358 و363 و366) و (5 44 و45)، والدارمي في السنن (1921)، وابن ماجه (3943)، والترمذي (2193)، وأبو داود برقم (4686)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1567)، والنسائي في المجتبى (4125 ـ 4132)، وفي السنن الكبرى (3590 ـ 3597) و (5882)، وأبو يعلى (1452 و3946 و5326 و5592 و6832 و7366 و7490)، والطبراني في الصغير (428) وفي الكبير (2277 و2402 و7414 و7619 و10301 و13121 و135340) وفي مسند الشاميين (546)، وابن حبان (187 و5940) والبيهقي في السنن الكبرى (9397 و16568). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) الكفر هنا مفسراً بقوله: يضرب بعضكم رقاب بعض. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وروى مسلم في صحيحه ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب، والنياحة على الميت)، فقوله: (هما بهم كفر) أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر، حيث كانتا في أعمال الكفار، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر=

وفسره الحسن بما تقدم (¬1) في قوله: (يصبح مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَاَفِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَاَفِرًا) (¬2) الْحَدِيثَ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَوَارِجِ: (دَعْهُ/ فَإِنَّ لَهُ (أَصْحَابًا) (¬3) يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرميَّة، يَنْظُرُ إِلَى نَصْلِهِ (¬4) فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى رِصَافِهِ (4) فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى نَضِيِّهِ (4) فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ـ وَهُوَ القِدْح (4) ـ ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى قُذَذِهِ (4) فَلَا يوجد فيه ¬

=يصير كافراً الكفر المطلق؛ حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً حتى يقوم به أصل الإيمان، وفرق بين الكفر المعرّف باللام، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: "ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة)، وبين كفر منكر في الإثبات. وفرق أيضاً بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر أو مؤمن، وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده، كما في قوله: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بعض)، فقوله: (يضرب بعضكم رقاب بعض) تفسير الكفار في هذا الموضع، وهؤلاء يسمون كفاراً تسمية مقيدة، ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل كافر ومؤمن. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1 207 ـ 209). وقد ذكر ابن حجر في تفسير لفظة كفار في هذا الحديث عشرة أقوال. انظر: فتح الباري (12 201 ـ 202) (13 30)، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم (2 55)، وشرح السنة للبغوي (10 221 ـ 222). (¬1) انظر: الاعتصام ـ طبعة رشيد رضا ـ (2 76). (¬2) أخرجه مسلم (118)، وأبو داود الطيالسي (803)، وأحمد (2 303 و372 و390 و523) و (4 272 و416)، والدارمي (338)، وابن ماجه (2954 و3961)، والترمذي (2195 و2197)، وأبو داود (4259 و4262)، وأبو يعلى (1523 و4260)، والطبراني في الكبير (1724 و7910 و8135 و11075) و (17 352 برقم 703)، وفي مسند الشاميين (1236)، وابن حبان (5962 و6704)، والحاكم (6234 و6263 و8354 و8355 و8360)، والبيهقي في السنن الكبرى (16577). (¬3) في (م): "أصحاب". (¬4) النصل: حديدة السهم. والرصاف: عقب يلوى على موضع الفوق، وعلى مدخل النصل من السهم. والنضي: ما بين النصل والريش من القِدْح. والقدح بكسر القاف وسكون الدال. والقذذ: الريش يراش به السهم. انظر: فتح الباري (6 715) وشرح السنة (10/ 226). واختلف أهل العلم في قوله صلّى الله عليه وسلّم: "يمرقون من الدين" هل المقصود به الخروج من=

شيء (سبق) (¬1) الفرث والدم) (¬2)، فانظر إلى قوله: (سبق) (¬3) الْفَرْثِ وَالدَّمِ. فَهُوَ الشَّاهِدُ/ عَلَى أَنَّهُمْ دَخَلُوا في الإسلام (فلم) (¬4) يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ((سَيَكُونُ) (¬5) بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرميَّة ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ) (¬6)، إِلَى/ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ (التي ظاهرها الخروج من الإسلام جملة. ولا (تقولن) (¬7) (إن) (¬8) هذه الْأَحَادِيثِ) (¬9) إِنَّمَا هِيَ (فِي) (¬10) قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ/ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ (اسْتَدَلُّوا/ بِهَا) (¬11) عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْآيَاتِ. وَأَيْضًا فَالْآيَاتُ إِنْ دَلَّتْ بِصِيَغِ عُمُومِهَا فَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ بِمَعَانِيهَا لِاجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ فِي الْعِلَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحُكْمُ بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ رَاجِعٌ إِلَى (أحكام) (¬12) الْآخِرَةِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَجْرِي فِيهَا. فَالْجَوَابُ: إِنَّ كَلَامَنَا فِي الْأَحْكَامِ (الدُّنْيَوِيَّةِ) (¬13) وَهَلْ (يُحكم) (¬14) لَهُمْ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّينَ أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا أَمْرُ الْآخِرَةِ لله، لقوله ¬

=الإسلام، أم المقصود الخروج عن طاعة الأئمة. انظر تفصيل ذلك في: فتح الباري (6 714 ـ 716) (8 718 ـ 719) (12 301)، وشرح السنة للبغوي (10 224 ـ 226). (¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من". (¬2) تقدم تخريجه (3/ 114). (¬3) في (ط) و (خ) و (ت): "من". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فلا". (¬5) في (غ) و (ر): "وتكون". (¬6) تقدم تخريجه (3/ 114). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يقولن". (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬10) ما بين القوسين ساقط من (ط). (¬11) في (ت) و (غ) و (ر): "بها استدلوا". (¬12) في (م): "أحدكم". وفي (ط) و (خ) و (ت): "حكم". (¬13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الدنياوية". (¬14) في (غ) و (ر): "تحكم".

تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} (¬1). ويحتمل (ألا) (¬2) يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا عَنْ جُمْلَةٍ مِنْ شَرَائِعِهِ وَأُصُولِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنْ (يَكُونَ مِنْهُمْ من) (¬3) فارق الإسلام (لكون) (¬4) مقالته (كفراً) (¬5) (أو) (¬6) تؤدي معنى الكفر (الصراح) (¬7)، وَمِنْهُمْ مَنْ (لَمْ) (¬8) يُفَارِقْهُ، بَلِ انْسَحَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ عَظُمَ مَقَالُهُ وَشُنِّعَ مَذْهَبُهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ مَبْلَغَ الْخُرُوجِ إِلَى الْكُفْرِ الْمَحْضِ وَالتَّبْدِيلِ/ الصَّرِيحِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الدَّلِيلُ بِحَسْبِ كُلِّ نَازِلَةٍ، وَبِحَسْبِ كُلِّ بِدْعَةٍ، إِذْ لَا (شَكَّ) (¬9) فِي أَنَّ الْبِدَعَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ كَاتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى/ اللَّهِ زُلْفَى، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ كَالْقَوْلِ بِالْجِهَةِ (¬10) عِنْدَ جَمَاعَةٍ، وَإِنْكَارِ (الإجماع وإنكار) (¬11) القياس (¬12) / وما أشبه ذلك. ¬

(¬1) سورة الأنعام: الآية (159). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (م) و (خ) و (ت)، وفي (ط): "أن ألا". (¬3) في (ط) و (خ) و (ت): "يكونوا هم ممن". وفي (م): "يكونوا هم من". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لكن". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "كفر". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "و". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الصريح". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لا". (¬9) في (غ) و (ر): "يشك". (¬10) لفظ الجهة من الألفاظ المجملة، فيقال لمن قال: إن الله في جهة، أتريد بذلك أن الله عز وجل فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات. فإن أراد الأول فهو حق، وإن أراد الثاني فهو باطل. انظر: التدمرية (ص65 ـ 67). (¬11) ساقط من (غ) و (ر). (¬12) الذين أنكروا الإجماع هم: الشيعة والخوارج والنظَّام من المعتزلة. انظر: نشر البنود=

ولقد فصل بعض (متأخري الأصوليين) (¬1) فِي التَّكْفِيرِ تَفْصِيلًا فِي هَذِهِ الْفِرَقِ، فَقَالَ: مَا كَانَ مِنَ الْبِدَعِ رَاجِعًا إِلَى اعْتِقَادِ وجود إله مع الله، كقول السبائية (¬2) في علي رضي الله عنه: إنه (الإله) (¬3)، أو (حلول) (¬4) الْإِلَهِ فِي بَعْضِ أَشْخَاصِ النَّاسِ كَقَوْلِ (الْجَنَاحِيَّةِ) (¬5): إن (الإله تبارك وتعالى) (¬6) لَهُ رُوحٌ يَحُلُّ فِي بَعْضِ بَنِي آدَمَ وَيَتَوَارَثُ، أَوْ (إِنْكَارِ رِسَالَةِ) (¬7) /مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِ الْغُرَابِيَّةِ (¬8): إِنَّ جِبْرِيلَ غَلِطَ فِي الرِّسَالَةِ فَأَدَّاهَا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وعلي ¬

=لعبد الله الشنقيطي (2 101 ـ 102)، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي (ص151). وأما إنكار القياس، فأول من أنكره إبراهيم بن سيار النظام المعتزلي، وتبعه على ذلك جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، ومحمد بن عبد الله الإسكافي، وأنكره كذلك ابن حزم الظاهري، وأما داود الظاهري فهو لا ينكر القياس الجلي، وإنما ينكر القياس الخفي، انظر: جامع بيان العلم (2 77 ـ 78)، ورسالة: الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي. لعارف أبو عيد (ص139 ـ 141). (¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المتأخرين". (¬2) في (م) و (خ): "الينانية". وفي (ت): "الإمامية". والسبئية هم: أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي غلا في علي رضي الله عنه، وادعى أن علياً كان نبياً ثم زعم أنه إله، وقال له: أنت أنت. يعني أنت الإله. وزعم أن علياً لم يمت وأنه يجيء في السحاب والرعد صوته، والبرق تبسمه، وأنه سيرجع إلى الأرض فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً. وهم أول فرقة قالت بالغيبة والرجعة، وبتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي الله عنه. انظر: الفرق بين الفرق (ص233)، ومقالات الإسلاميين (ص15)، والملل والنحل (1 174). (¬3) في (ط) و (خ): "إله". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "خلق". (¬5) في (م) و (خ) و (ت): "الحماحمة". والصواب الجناحية: وهم أصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، من غلاة فرق الشيعة، يزعمون أن عبد الله بن معاوية كان يدعي أن العلم ينبت في قلبه كما تنبت الكمأة والعشب، وقالوا بالتناسخ، وهم يكفرون بالقيامة، ويستحلون المحارم. انظر: مقالات الإسلاميين (ص6)، والفرق بين الفرق (ص235 ـ 236). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الله تعالى". (¬7) في (غ) و (ر): "إنكاراً لرسالة". (¬8) الغرابية: هم القائلون بأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم أشبه الناس بعلي من الغراب بالغراب، وهذه سبب تسميتهم بالغرابية، وأن جبريل بعث بالرسالة إلى علي فأخطأ بها إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم افترقت عدة فرق بعد ذلك. انظر: البرهان للسكسكي (ص71 ـ 72).

كان صاحبها، أو استباحة (شيء من) (¬1) الْمُحَرَّمَاتِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ، وَإِنْكَارِ مَا جَاءَ بِهِ الرسول كأكثر الغلاة من/ الشيعة (¬2)، (فمما) (¬3) لَا يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَقَالَاتِ فَلَا يَبْعَدُ أَنْ يكون معتقدها (مبتدعاً) / غَيْرَ كَافِرٍ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا، وَلَكِنَّ الَّذِي كُنَّا نَسْمَعُهُ مِنَ الشُّيُوخِ أَنَّ (مَذْهَبَ) (¬4) الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّ الْكُفْرَ بِالْمَآلِ لَيْسَ بِكُفْرٍ فِي الْحَالِ (¬5). كَيْفَ (وَالْكَافِرُ) (¬6) يُنْكِرُ ذَلِكَ الْمَآلَ أشد الإنكار ويرمي مخالفه به، (فلو) (¬7) تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ (لُزُومِ) (¬8) الْكُفْرِ مِنْ مَقَالَتِهِ لَمْ يَقُلْ بِهَا عَلَى حَالٍ. /وَإِذَا تَقَرَّرَ نَقْلُ الْخِلَافِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ الذي نحن (بصدد شرحه) (¬9) مِنْ هَذِهِ (الْمَقَالَاتِ) (¬10). أَمَّا مَا صَحَّ مِنْهُ فلا دليل (فيه) (¬11) عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَعْدِيدُ الفرق خاصة. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ مَنْ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: (كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً) (¬12)، فَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِنْفَاذَ الْوَعِيدِ ظَاهِرًا، وَيَبْقَى الْخُلُودُ وَعَدَمُهُ مَسْكُوتًا ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) غلاة الشيعة: هم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية، وأخذوا شبههم من اليهود والنصارى والتناسخية والحلولية، وبدع الفرق الغالية تنحصر في أربع: التشبيه، والبداء، والرجعة، والتناسخ. وعدها الشهرستاني أحد عشر فرقة، أشهرها: السبئية، والمغيرية، والمنصورية والخطابية، والنعمانية. انظر: الملل والنحل (1 173 ـ 190)، والفرق بين الفرق (53 ـ 71)، ودراسات عن الفرق للدكتور أحمد جلي (ص163 ـ 177). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مما". (¬4) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬5) في (غ) و (ر): "مذاهب". (¬6) انظر حاشية رقم (4) (ص115). (¬7) في (م): "والكفر"، و (غ) و (ر): "المكفر". (¬8) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر). (¬9) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬10) في (ط) و (خ): "بصدده". (¬11) في (غ) و (ر): "المقالات الثلاث". (¬12) زيادة من (غ) و (ر). (¬13) تقدم تخريجه (3/ 122).

المسألة الرابعة

عَنْهُ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا أَرَدْنَا، إِذِ الْوَعِيدُ بِالنَّارِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ (كَمَا) (¬1) يَتَعَلَّقُ بِالْكُفَّارِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ تباينا في التخليد وعدمه. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْفِرَقَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمُبْتَدِعَةُ فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ عَلَى الْخُصُوصِ، كَالْجَبْرِيَّةِ (¬2) وَالْقَدَرِيَّةِ (¬3) وَالْمُرْجِئَةِ (¬4) وَغَيْرِهَا وَهُوَ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنَّ إِشَارَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِ، وَهُوَ رَأْيُ الطَّرْطُوشِيِّ (¬5)، أَفَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (¬6)، و (ما) في قوله تعالى: {مَا تَشَابَهَ}، لَا تُعْطِي/ خُصُوصًا فِي اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ لَا فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ، وَلَا فِي (غَيْرِهَا) (¬7)، بَلِ الصِّيغَةُ تَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَالتَّخْصِيصُ تحكُّم. وَكَذَلِكَ قوله/ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬8)، فجعل ذلك (التفرق) (¬9) فِي الدِّينِ وَلَفْظُ الدِّينِ، يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَغَيْرَهَا، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬10)، فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم، (وبيانه) (¬11) مَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ، وَإِيجَابِ الزَّكَاةِ/ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى أبدع نظم وأحسن سياق. ¬

(¬1) في (م): "بما". (¬2) الجبرية: انظر ملحق الفرق رقم (88). (¬3) تقدم تعريفهم (ص1/ 14). (¬4) المرجئة: انظر ملحق الفرق رقم (78). (¬5) ذكر الطرطوشي رأيه هذا في أكثر من موضعٍ في كتابه الحوادث والبدع، حيث ذكر كثيراً من البدع العملية، والتي لا تختص بالعقائد. (¬6) سورة آل عمران: الآية (7). (¬7) في (غ) و (ر): "غيره". (¬8) سورة الأنعام: الآية (159). (¬9) في (ط) و (خ) و (غ) و (ر): "التفريق". (¬10) سورة الأنعام: الآية (153). (¬11) في (ط) و (م) و (خ): "وشبه". وفي (غ) و (ر): "وبينة".

/ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (¬1)، فَذَكَرَ (أَشْيَاءَ مِنَ) (¬2) الْقَوَاعِدِ وَغَيْرِهَا، فَابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عن الإشراك، ثُمَّ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ عَنِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، ثُمَّ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِإِطْلَاقٍ، ثُمَّ عَنْ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، ثُمَّ الْأَمْرِ بِتَوْفِيَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، ثُمَّ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ، ثُمَّ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ (بِقَوْلِهِ) (¬3): {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا/ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬4)، فَأَشَارَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ/ وَقَوَاعِدِهَا الضَّرُورِيَّةِ، وَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِالْعَقَائِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الْحَدِيثِ لَا تَخْتَصُّ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا. وَفِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ مَا يَدُلُّ (عَلَيْهِ) (¬5) أَيْضًا فَإِنَّهُ ذَمَّهُمْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَعْمَالَهُمْ، وَقَالَ فِي جُمْلَةِ مَا ذَمَّهُمْ به: (يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) (¬6)، فَذَمَّهُمْ بِتَرْكِ التَّدَبُّرِ وَالْأَخْذِ بِظَوَاهِرِ الْمُتَشَابِهَاتِ، كَمَا قَالُوا: حكَّم (الرِّجَالَ) (¬7) فِي دِينِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (¬8). وقال أيضاً: (يقتلون أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ)، فَذَمَّهُمْ بِعَكْسِ مَا عَلَيْهِ الشَّرْعُ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ/ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالْعَقَائِدِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى العموم لا على الخصوص، (وجاء) (¬9) فِيمَا رَوَاهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: (أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ (يَقِيسُونَ) (¬10) الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ) (¬11)، وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ لَا يَخْتَصُّ بِمَا قَالُوا من العقائد. ¬

(¬1) سورة الأنعام: الآية (151). (¬2) في (غ) و (ر): "أشياء جملة من". (¬3) ساقط من (م). (¬4) سورة الأنعام: الآية (153). (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) تقدم تخريجه (3/ 114). (¬7) ساقط من (م) و (خ) و (غ) و (ر). (¬8) سورة يوسف: الآية (40). (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) في (م) و (خ): "ينسبون". (¬11) تقدم تخريجه (3/ 123).

وَاسْتَدَلَّ الطَّرْطُوشِيُّ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَخْتَصُّ بالعقائد بما جاء عن الصحابة والتابعين وسائر الْعُلَمَاءُ مِنْ تَسْمِيَتِهِمُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ بِدَعًا إِذَا خَالَفَتِ الشَّرِيعَةَ،/ ثُمَّ أَتَى بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ كَالَّذِي رواه مالك عن عمه أبي/ سهيل (بن مالك) (¬1) عَنْ أَبِيهِ (¬2) أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ (¬3). يعني بالناس الصحابة رضي الله عنهم، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَكْثَرَ أَفْعَالِ عَصْرِهِ، وَرَآهَا مخالفة لأفعال الصحابة رضي الله عنهم. وَكَذَلِكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ (سَأَلَهُ) (¬4) رَجُلٌ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا هَلْ/ يُنْكِرُ شَيْئًا مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ؟ فَغَضِبَ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، ثُمَّ قال: وهل (كان) (¬5) يَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ؟ (¬6). وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ (¬7) قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مُغْضَبًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ (مِنْهُمْ مِنْ) (¬8) أَمْرِ مُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا (¬9). وَذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ فِي الْأَفْعَالِ قَدْ ظَهَرَتْ. وَفِي مُسْلِمٍ قَالَ مُجَاهِدٌ (¬10): دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزبير (¬11) المسجد ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) أبو سهيل اسمه: نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني. وأما أبوه فهو: مالك بن أبي عامر الأصبحي جد الإمام مالك بن أنس، تقدمت ترجمتهما (1 23). (¬3) تقدم تخريجه (1 23). (¬4) في (م): "سأل". (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) ذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص112). (¬7) أم الدرداء: واسمها هجيمة، وقيل جهيمة الأوصابية الحميرية الدمشقية، تقدمت ترجمتها (1 21). (¬8) في (غ) و (ر): "فيهم شيئاً من". (¬9) تقدم تخريجه (1 21). (¬10) هو: مجاهد بن جبر مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، تقدمت ترجمته (1 83). (¬11) هو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أحد الفقهاء السبعة، ولد سنة 23هـ، واختلف في وفاته فقيل سنة 93، وقيل 94، وقيل 95هـ. انظر: طبقات ابن سعد (5 178)، والحلية (2 176)، والسير (4 421)، وتهذيب التهذيب (7 180)، وغير ذلك.

المسألة الخامسة

فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ (مُسْتَنِدٌ) (¬1) إِلَى حجرة عائشة رضي الله عنها، وَإِذَا (نَاسٌ) (¬2) فِي الْمَسْجِدِ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقُلْنَا: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: بِدْعَةٌ (¬3). قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ: (محمله عندنا) (¬4) على أحد وجهين: إما (إنهم) (¬5) (كانوا) (¬6) يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، (وَإِمَّا أَفْذَاذًا) (¬7) عَلَى هَيْئَةِ النَّوَافِلِ فِي أَعْقَابِ الْفَرَائِضِ (¬8). وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الْبِدَعِ القولية (والفعلية) (¬9) مِمَّا نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى/ أَنَّهَا بِدَعٌ، فصحَّ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَخْتَصُّ بِالْعَقَائِدِ (¬10)، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ (¬11) بِنَوْعٍ آخَرَ من التقرير. نَعَمْ ثَمَّ مَعْنًى آخَرُ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ هنا، وهي: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَذَلِكَ/ أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنَّمَا تَصِيرُ فِرَقًا بِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ فِي الدِّينِ وَقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، لَا فِي جُزْئِيٍّ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، إِذِ الْجُزْئِيُّ وَالْفَرْعُ الشَّاذُّ لَا يَنْشَأُ عَنْهُ مُخَالَفَةٌ يَقَعُ بِسَبَبِهَا التَّفَرُّقُ شِيَعًا، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ التَّفَرُّقُ عِنْدَ/ وُقُوعِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّ (الْكُلِّيَّاتِ) (¬12) ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "مسند". (¬2) في (غ) و (ر): "الناس". (¬3) أخرجه البخاري (1775، 4253)، ومسلم (1255)، وأحمد في المسند (2 128، 155)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1187)، وابن خزيمة في صحيحه (3070)، وابن حبان في صحيحه (3945)، والبيهقي في السنن الكبرى (8618)، وبنحوه مختصراً أخرجه ابن الجعد في مسنده (2136)، والطبراني في الكبير (13524، 13563). (¬4) في (ط): فحمله عندنا. (¬5) في (غ) و (ر): لأنهم. (¬6) زيادة من (م) و (غ) و (ر)، وهي كذلك في الحوادث والبدع ص118. (¬7) في كتاب الحوادث والبدع: (وإما أنهم كانوا يصلونها معاً أفراداً). (¬8) انظر: الحوادث والبدع (ص118). (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن البدع نوعان: نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات. انظر: الفتاوى (20 195) و (22 306). (¬11) انظر: الموافقات (2 234 ـ 238). (¬12) في (م) و (غ) و (ر): "الكلية".

(تضم) (¬1) من الجزئيات غير قليل، (وشأنها) (¬2) في الغالب أن لا (تختص) (¬3) بِمَحَلٍّ دُونَ (مَحَلٍّ) (¬4)، وَلَا بِبَابٍ دُونَ بَابٍ. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ فيها أنشأت بين المخالفين خلافاً في (الفروع) (¬5) لَا تَنْحَصِرُ، مَا بَيْنَ فُرُوعِ عَقَائِدَ وَفُرُوعِ أَعْمَالٍ. وَيَجْرِي مَجْرَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ كَثْرَةُ الْجُزْئِيَّاتِ، فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَ إِذَا (أَكْثَرَ) (¬6) مِنْ إِنْشَاءِ الْفُرُوعِ الْمُخْتَرَعَةِ عَادَ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ بِالْمُعَارَضَةِ، كَمَا تَصِيرُ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ مُعَارَضَةً أَيْضًا،/ وَأَمَّا الْجُزْئِيُّ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ، بَلْ يُعَدُّ (وُقُوعُ) (¬7) ذَلِكَ مِنَ الْمُبْتَدِعِ لَهُ كَالزَّلَّةِ وَالْفَلْتَةِ، وَإِنْ كَانَتْ زَلَّةُ الْعَالِمِ مِمَّا يَهْدِمُ الدِّينَ، حَيْثُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ/ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثلاث (يهدمن) (¬8) الدين: زلة عالم، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ (¬9). وَلَكِنْ إِذَا قَرُبَ مُوقِعُ الزَّلَّةِ لَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبِهَا تَفَرُّقٌ فِي الْغَالِبِ/ وَلَا هَدْمٌ لِلدِّينِ، بِخِلَافِ الْكُلِّيَّاتِ. فَأَنْتَ تَرَى (مُوقِعُ) (¬10) اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ كَيْفَ هُوَ في الدين إذا كان (اتباعها) (¬11) مُخِلًّا بِالْوَاضِحَاتِ ـ وَهِيَ أُمُّ الْكِتَابِ ـ وَكَذَلِكَ عَدَمُ تَفَهُّمِ الْقُرْآنِ مُوقِعٌ فِي الْإِخْلَالِ بِكُلِّيَّاتِهِ وَجُزْئِيَّاتِهِ (معاً) (¬12). ¬

(¬1) في (ت): "بياض بمقدار كلمة". وفي (ط) و (م) و (خ): "نص". (¬2) في (ط) و (خ) و (ت): "وشاذها". (¬3) في (ط) و (ت): "يختص". (¬4) ساقطة من (م). (¬5) في (غ) و (ر): "فروع". (¬6) في (ر): "كثَّر". (¬7) في (ت): "بياض بمقدار كلمة". (¬8) في (م): "يهدم من". وفي (خ) و (ب): "تهدم من". (¬9) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1475)، والدارمي في السنن (214)، والفريابي في صفة المنافق (29 ـ 31)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1867 و1869 و1870)، وأبو نعيم في الحلية (4 196)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1 234)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1 89). (¬10) في (غ) و (ر): "موضع". (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "اتباعاً". (¬12) زيادة من (غ).

/وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا لِلْكُفَّارِ بِدَعٌ فَرْعِيَّةٌ، وَلَكِنَّهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا (قَارَبَهَا) (¬1)، كَجَعْلِهِمْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، وَلِشُرَكَائِهِمْ نَصِيبًا، ثُمَّ فرَّعوا عَلَيْهِ أَنَّ مَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَمَا كَانَ لِلَّهِ وَصَلَ إِلَى شُرَكَائِهِمْ، وَتَحْرِيمِهِمُ البَحيرة وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ والحامي (¬2)، وَقَتْلِهِمْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَتَرْكِ/ الْعَدْلِ فِي الْقِصَاصِ وَالْمِيرَاثِ، وَالْحَيْفِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْحِيَلِ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ، حَتَّى صَارَ التَّشْرِيعُ دَيْدَنًا لَهُمْ، وَتَغْيِيرُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَهْلًا عَلَيْهِمْ، فَأَنْشَأَ ذَلِكَ أَصْلًا مُضَافًا إِلَيْهِمْ وَقَاعِدَةً رَضُوا بها، وهي التشريع المطلق (بالهوى) (¬3)، ولذلك لما نبههم الله تعالى على (قيام) (¬4) الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬5)، قَالَ فِيهَا: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬6)، فَطَالَبَهُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ لَا يُشَرِّعَ إِلَّا حَقًّا، وَهُوَ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ لَا غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} (¬7)، تَنْبِيهًا (لَهُمْ) (¬8) عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا شَرَعَهُ فِي مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، (ثُمَّ) (¬9) قَالَ:/ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬10)، (فثبت) (¬11) أن هذه الفرق إنما افترقت (بسبب) (¬12) أمور كلية اختلفوا فيها، والله أعلم. ¬

(¬1) في (م) و (ت): "درابها". وفي (غ) و (ر): "داربها". (¬2) البحيرة: هي التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس. والسائبة: هي التي يسيِّبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه تركوه للطواغيت، ولا يحملون عليه شيء، وسموه الحامي. انظر: تفسير ابن كثير (2 108). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لا الهوى". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إقامة". (¬5) سورة الأنعام: الآية (144). (¬6) سورة الأنعام: الآية (143). (¬7) سورة الأنعام: الآية (144). (¬8) ساقط من (غ) و (ر). (¬9) ساقطة من (م) و (خ). (¬10) سورة الأنعام: الآية (144). (¬11) في (غ) و (ر): "فظهر". (¬12) في (ط) و (خ) و (ت): "بحسب".

المسألة السادسة

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ هَذِهِ الفرق (كلها) (¬1) كُفَّارٌ ـ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِهِ ـ أَوْ يَنْقَسِمُونَ إِلَى كَافِرٍ وَغَيْرِهِ فَكَيْفَ يُعَدُّونَ مِنَ الْأُمَّةِ؟ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الِافْتِرَاقَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَلَوْ خَرَجُوا مِنَ الْأُمَّةِ/ إِلَى الْكُفْرِ لَمْ يُعَدُّوا مِنْهَا أَلْبَتَّةَ ـ كَمَا تَبَيَّنَ ـ وَكَذَلِكَ الظَّاهِرُ فِي فِرَقِ الْيَهُودِ/ وَالنَّصَارَى، أَنَّ التَّفَرُّقَ فِيهِمْ حَاصِلٌ مَعَ كَوْنِهِمْ هُودًا وَنَصَارَى؟ فَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أحدهما: (أن) (¬2) نَأْخُذُ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَمَنْ قيل بكفره منهم، فإما أن (نسلم) (¬3) فيهم هذا القول فلا (نجعلهم) (¬4) مِنَ الْأُمَّةِ أَصْلًا وَلَا أَنَّهُمْ/ مِمَّا يُعَدُّونَ في الفرق، وإنما نعد منهم من (لم) (¬5) تُخْرِجُهُ بِدَعَتُهُ إِلَى كُفْرٍ، فَإِنْ قَالَ بِتَكْفِيرِهِمْ جميعاً، فلا (نسلم) (¬6) أَنَّهُمُ (الْمُرَادُونَ) (¬7) بِالْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْفِرَقِ (الدَّاخِلَةِ) (¬8) فِي الْحَدِيثِ، بَلْ نَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ فِرَقٌ لَا تُخْرِجُهُمْ بِدَعُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلْيُبْحَثْ عَنْهُمْ. وَإِمَّا أَنْ (لَا نَتَّبِعَ) (¬9) الْمُكَفِّرَ فِي إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ، وَنُفَصِّلَ الْأَمْرَ إِلَى نحو مما فصله صاحب القول الثالث (ونخرج) (¬10) مِنَ الْعَدَدِ مِنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ إِلَّا مَا سَوَّاهُ مَعَ غَيْرِهِ ممن لم (يذكر) (¬11) في تلك العدة. ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في (ط): "أنا". (¬3) في (ط) و (م) و (خ): "يسلم". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يجعلهم". (¬5) ساقطة من (م). وفي (ط) و (خ) و (ت): "لا". (¬6) في (ط) و (م) و (خ): "يسلم". (¬7) في (م): "المرودون". (¬8) في (غ) و (ر): "الداخلين". (¬9) في (م): "اتباع". وفي (غ) و (ر): "ننازع". (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ويخرج". (¬11) في (غ) و (ر): "نذكر".

وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ نَعُدَّهُمْ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى (طريقة) (¬1) لعلها تتمشى في الموضع، وذلك أن كل فرقة (من الفرق) (¬2) (تدعي) (¬3) الشريعة، (وأنها) (¬4) على صوبها وأنها (المتبعة لَهَا) (¬5) وَتَتَمَسَّكُ بِأَدِلَّتِهَا، وَتَعْمَلُ عَلَى مَا ظَهَرَ لها من (طريقها) (¬6)، و (هي) (¬7) تناصب العداوة من (نسبها) (¬8) إِلَى الْخُرُوجِ عَنْهَا، وَتُرْمَى بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ مِنْ نَاقِضِهَا، لِأَنَّهَا تَدَّعِي أَنَّ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ دُونَ غَيْرِهِ، وَبِذَلِكَ يُخَالِفُونَ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى الِارْتِدَادِ أقرَّ بهِ وَرَضِيَهُ ولم يسخطه، ولم يعادك (لِتِلْكَ) (¬9) (النِّسْبَةِ) (¬10)، كَسَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَرْبَابِ النِّحَلِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ. بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ فَإِنَّهُمْ مدَّعون// (المؤالفة) (¬11) للشارع والرسوخ في اتباع شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِسَبَبِ ادِّعَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ الْخُرُوجَ عَنِ السُّنَّةِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ مبالغين في العمل والعبادة، حتى (قال بعض الناس) (¬12): أَشَدِّ النَّاسِ عِبَادَةً مَفتون. وَالشَّاهِدُ لِهَذَا كُلِّهِ ـ مَعَ اعْتِبَارِ الْوَاقِعِ ـ حَدِيثُ الْخَوَارِجِ،/ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ/ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَأَعْمَالَكُمْ/ مَعَ أَعْمَالِهِمْ" (¬13)،/ وَفِي رواية: (يخرج من أمتي قوم يقرأون القرآن، ليس قِرَاءَتُكُمْ مِنْ قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلَا صَلَاتُكُمْ (مِنْ) (¬14) صلاتهم بشيء، (ولا صيامكم (من) (¬15) صيامهم بشيء) (¬16)، وهذه شدة ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "طريقتهم". (¬2) زيادة من (غ). (¬3) في (غ) و (ر): "تعدى". (¬4) في (غ) و (ر): "أنها". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المتبعة للمتبعة لها". (¬6) في (غ) و (ر): "طريقها". (¬7) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نسبتها". (¬9) في (غ) و (ر): "لأجل تلك". (¬10) في (خ): "الشبه". (¬11) في (م) و (غ) و (ر): "للموافقة". (¬12) في (ت): "بياض بمقدار كلمة". وفي (ط) و (خ): "بعض". وفي (م): "بعض الناس". (¬13) تقدم تخريجه ص114. (¬14) في (غ) و (ر): "إلى". (¬15) في (غ) و (ر): "إلى". (¬16) ما بين القوسين زيادة من (م) (غ) و (ر).

الْمُثَابَرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ كَيْفَ يُحَكِّمُ الرِّجَالَ وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (¬1)، فَفِي ظَنِّهِمْ أَنَّ الرِّجَالَ لَا يُحَكَّمُونَ بِهَذَا الدَّلِيلِ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا تجاوز (صلاتهم) (¬2) تراقيهم) (¬3). فقوله صلّى الله عليه وسلّم: "يحسبون أنه لهم" واضح فيما قلنا، (من) (¬4) إِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ اتِّبَاعَهُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ لِيَكُونُوا مِنْ أهله، وليكون حجة (لهم) (¬5)، فحين (حرَّفوا) (¬6) تأويله وخرجوا عن الجادة (فيه) (¬7) كَانَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ. وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ من قول ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: (وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، عَلَيْكُمْ بالعلم وإياكم (والتبدع) (¬8) والتعمق، وعليكم بِالْعَتِيقِ) (¬9)، فَقَوْلُهُ: يَزْعُمُونَ كَذَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الشَّرْعِ فِيمَا يَزْعُمُونَ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ أَيْضًا حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا ـ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ/ أَلَسْنَا (إِخْوَانَكَ) (¬10)؟ / قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا ¬

(¬1) سورة يوسف: الآية (40). (¬2) في (ت): "بياض بمقدار كلمة". (¬3) تقدم تخريجه (3/ 114). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ثم". (¬5) ساقط من (م). (¬6) في (ط) و (خ): "سرفوا". وفي (غ) و (ر): "تحرفوا". (¬7) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والبدع". (¬9) أخرجه معمر بن راشد في جامعه (20465)، والدارمي في سننه (142 و143)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (25)، وابن نصر في السنة (85)، والطبراني في الكبير (8845)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1 43)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2363)، واللالكائي (108)، كلهم من طريق أبي قلابة عن ابن مسعود، وهو منقطع. وأخرجه البيهقي في المدخل (388)، بسند صحيح متصل من طريق عائذ الله الخولاني عن ابن مسعود. (¬10) ساقطة من (م) و (خ) و (ت). وفي (غ) و (ر): "بإخوانك".

(فرطهم) (¬1) عَلَى الْحَوْضِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: (أرأيت) (¬2) لو كان (لرجل) (¬3) خَيْلٌ غرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ دُهم بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فليذادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: (إِنَّهُمْ) (¬4) قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: فَسُحْقًا فَسُحْقًا (¬5). فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْلَهُ: (فليذادَن رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي) إِلَى قَوْلِهِ: (أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ) مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ عَرَفَهُمْ، وقد بين (أنه يعرفهم) (¬6) / بِالْغُرَرِ وَالتَّحْجِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دعاهم ـ وقد كانوا بدَّلوا ـ ذو غُرَرٍ وَتَحْجِيلٍ وَذَلِكَ مِنْ خَاصِّيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ/ فَبَانَ أَنَّهُمْ مَعُدُودُونَ مِنَ الْأُمَّةِ، وَلَوْ حُكِمَ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يَعْرِفْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ أَوْ تَحْجِيلٍ لِعَدَمِهِ عِنْدَهُمْ. وَلَا عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّهُمْ (قد) (¬7) خرجوا ببدعتهم عن الأمة أو لا، إذا أَثْبَتْنَا لَهُمْ وَصْفَ الِانْحِيَاشِ إِلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ((فَيُؤْخَذُ) (¬8) بِقَوْمٍ مِنْكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يا رب أصحابي. قَالَ: فَيُقَالُ: (إِنَّكَ) (¬9) لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا (بَعْدَكَ) (¬10)، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إلى قوله: ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فرطكم". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أرأيتم". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لأحدكم". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فسحقاً فسحقاً فسحقاً"، والحديث تقدم تخريجه (1 124). (¬6) في (ط) و (خ): "أنهم". وفي (ت): "أنه عرفهم". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في (غ) و (ر): "ثم يؤخذ". (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) في (م): "بعدك إنهم".

المسألة السابعة

{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1)، قَالَ: فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ منذ/ فارقتهم) (¬2). /فإن كان المراد (بأصحابه) (¬3) الأمة، فالحديث موافق لما قبله (في المعنى) (¬4) (وهو) (¬5): (كذلك إن شاء الله، وإن كان اللفظ يعطي أن الأصحاب هم الذين لقوه صلّى الله عليه وسلّم لأجل قوله في الحديث قَبْلَهُ) (¬6): (بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يأتوا بعد)، فلا بد مِنْ تَأْوِيلِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْحَابَ يَعْنِي بِهِمْ من آمن به فِي حَيَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ، وَيَصْدُقُ لَفْظُ المرتدين على أعقابهم على (المرتدين) (¬7) / بَعْدَ مَوْتِهِ (أَوْ مَانِعِي) (¬8) الزَّكَاةِ تَأْوِيلًا عَلَى أَنَّ أَخْذَهَا/ إِنَّمَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ عَامَّةَ أَصْحَابِهِ (الذين) (¬9) رأوه وأخذوا عنه (برءاء) (¬10) من ذلك رضي الله عنهم. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي تَعْيِينِ (هَذِهِ) (¬11) الْفِرَقِ: وَهِيَ مَسْأَلَةٌ ـ كَمَا قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ (¬12) ـ طَاشَتْ فِيهَا أَحْلَامُ الْخَلْقِ، فَكَثِيرٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عيَّنوها، (لَكِنْ فِي الطَّوَائِفِ الَّتِي خَالَفَتْ فِي مَسَائِلِ الْعَقَائِدِ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّ أُصُولَهَا ثَمَانِيَةً) (¬13)، فقال: كبار الفرق الإسلامية ثمانية ـ المعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، والنجارية، والجبرية، والمشبهة، والناجية. /فَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَافْتَرَقُوا إِلَى عِشْرِينَ فِرْقَةً وَهُمُ: (الواصلية) (¬14)، ¬

(¬1) سورة المائدة: الآية (117 ـ 118). (¬2) تقدم تخريجه (1 124). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ): "بالصحابة". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) وفي (ت): "وهو قوله". (¬6) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬7) في (غ) و (ر): "من أتوا". (¬8) في (غ) و (ر): "ومنع". وفي (م): "أو منع". وفي (خ): "أو مانع". (¬9) زيادة من (غ) و (ر) و (ت). (¬10) في (ط) و (خ): "براءة". وفي (م): "براء". (¬11) ساقط من (غ) و (ر). (¬12) انظر: الحوادث والبدع (ص97). (¬13) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬14) في (غ): "الواصلة". وكتب فوق الكلمة في (ر): "واصل بن عطاء الغزال، وكذلك=

وَالْعَمْرِيَّةُ (¬1)، وَالْهُذَيْلِيَّةُ (¬2)، (وَالنَّظَامِيَّةُ) (¬3)، وَالْأَسْوَارِيَّةُ (¬4)، وَالْإِسْكَافِيَّةُ (¬5)، وَالْجَعْفَرِيَّةُ (¬6) (وَالْبِشْرِيَّةُ) (¬7)، والمردارية (¬8)، والهشامية (¬9)، والصالحية (¬10)، (والخطَّابية) (¬11) (والحدثية) (¬12)، وَالْمَعْمَرِيَّةُ (¬13)، وَالثُّمَامِيَّةُ (¬14)، وَالْخَيَّاطِيَّةُ (¬15)، وَالْجَاحِظِيَّةُ (¬16)، وَالْكَعْبِيَّةُ (¬17)، والجبَّائية (¬18)، (وَالْبَهْشَمِيَّةُ) (¬19). وَأَمَّا الشِّيعَةُ فَانْقَسَمُوا/ أَوَّلًا ثَلَاثَ فِرَقٍ: غُلَاةٌ، وَزَيْدِيَّةٌ، وَإِمَامِيَّةٌ. فَالْغُلَاةُ ثَمَانَ عَشْرَةَ فِرْقَةً وَهُمْ: (السبائية) (¬20)، وَالْكَامِلِيَّةُ (¬21)، وَالْبَيَانِيَّةُ، وَالْمُغِيرِيَّةُ (¬22)، وَالْجَنَاحِيَّةُ (¬23)، وَالْمَنْصُورِيَّةُ (¬24)، وَالْخَطَّابِيَّةُ (¬25) (وَالْغُرَابِيَّةُ) (¬26)، والذمية (¬27)، (والهشامية) (¬28)، والزرارية (¬29)، ¬

=كتب فوق أكثر الفرق، ولذلك سأكتب في الهامش ما كُتب في نسخة (ر) دون الإشارة إلى أنها من نسخة (ر) اكتفاءً بما ذكر هنا"، والله الموفق. (¬1) عمرو بن عبيد. (¬2) أبو الهذيل. (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) علي الأسواري. (¬5) أبو جعفر الإسكافي. (¬6) جعفر بن مبشر. (¬7) في (م) و (خ) و (ت): "السرسية"؟ فوقها في (ر): "بشر بن المعتمر". (¬8) عيسى بن صبيح المردار. (¬9) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "والهاشمية". وفوقها في (ر): "أصحاب هشام بن عمر". (¬10) في (م) و (خ) و (غ): "والمصالحية". وفوقها في (ر): "الصالحي". (¬11) في (غ) و (ر): "والحاطبية" وفي باقي النسخ: والخطابية. ولعل الصواب: الخابطية وهي من فرق المعتزلة كما في الملل والنحل للشهرستاني (1 74). (¬12) في (م) و (خ) و (ت): "والحدية". في (ط): "والحدبية". (¬13) معمر بن عباد. (¬14) ثمامة بن أشرس. (¬15) الحسن بن خياط. (¬16) عمرو بن بحر الجاحظ. (¬17) أبو القاسم الكعبي. (¬18) أبو علي الجبائي. (¬19) في (م): "والنهشمية". وفي (خ) و (ت): "والنهشية". وفوقها في (ر): "أبو هاشم". (¬20) في (ط): "السرسية"، وفي (م): "السسه". وفي (خ) و (ت): "الساسة". وفوقها في (ر): "عبد الله بن سبأ". (¬21) شعيب بن أبي كامل. (¬22) المغيرة بن سعد العجلي. (¬23) عبد الله بن معاوية ذي الجناحين. (¬24) ابن أبي منصور العجلي. (¬25) لأبي الخطاب الأسدي. (¬26) في (م) و (خ) و (ت): "والغوالية". (¬27) ذموا الرسول. (¬28) في (غ): "والهاشمية" هشام بن الحكم. (¬29) زرارة بن أعين.

وَالْيُونُسِيَّةُ (¬1)،/ وَالشَّيْطَانِيَّةُ (¬2)، وَالرِّزَامِيَّةُ، وَالْمُفَوِّضَةُ (¬3)، وَالْبَدَائِيَّةُ (¬4)، (وَالنُّصَيْرِيَّةُ) (¬5)، وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةُ (¬6) وهم: الباطنية (¬7)، والقرمطية (¬8)، والخرمية، والسبعية (¬9)، والبابكية (¬10)، (والمحمرة) (¬11). وَأَمَّا الزَّيْدِيَّةُ فَهُمْ ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْجَارُودِيَّةُ (¬12)، وَالسُّلَيْمَانِيَّةُ، والبترية. وأما الإمامية ففرقة واحدة، فالجميع ثنتان وَأَرْبَعُونَ فِرْقَةً. وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَسَبْعُ فِرَقٍ، وَهُمُ: (المحكمة) (¬13)، والبيهسية، والأزارقة (¬14)، (والنجدات والصفرية) (¬15)، والأباضية (أربع فرق وهم) (¬16): الْحَفْصِيَّةُ (¬17)، وَالْيَزِيدِيَّةُ (¬18)، (وَالْحَارِثِيَّةُ) (¬19)، وَالْمُطِيعِيَّةُ (¬20). //وَأَمَّا الْعَجَارِدَةُ فَإِحْدَى عشر فرقة وهم: الميمونية (¬21)، ¬

(¬1) يونس بن عبد الرحمن. (¬2) شيطان الطاق. (¬3) زعموا أن الله خلق محمداً ثم فوّض إليه خلق الدنيا. (¬4) أجازوا البداء. (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "النصرية". (¬6) إسماعيل بن جعفر. (¬7) لدعواهم الباطن. (¬8) أصحاب قرمط بن عبد الله بن ميمون. (¬9) قولهم: سبعة أئمة في كل دور، أو تريد الكواكب السبعة. (¬10) رجل يقال له: بابك. (¬11) في (ط) و (خ) و (ت): "والحمدية". وفي (م): "والمحمدية" وانظر ملحق الفرق (ص356)، وفوقها في (ر): "للباسهم الحمرة في أيام بابك". (¬12) لأبي الجارود. (¬13) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "المحكمية". وفي (ت): "الحفصية بل المحكمية"، وهم الخارجون على عليّ. (¬14) نافع بن الأزرق. (¬15) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والحراث والعبدية". ولا يوجد فرق بهذا الاسم في كتب الفرق وكتب فوقها في (ر): "نجدة بن عامر الحنفي". (¬16) في (ط) و (خ) و (ت): "وهم أربع فرق". (¬17) أبو الحفص بن أبي المقدام. (¬18) في (ر): "البريدية. (¬19) في (م) و (خ) و (ت): "والحاربية" وفوقها في (ر): "أبو الحارث الإباضي". (¬20) أصحاب طاعة لا يراد بها الله. (¬21) رجل اسمه ميمون.

وَالشُّعَيْبِيَّةُ (¬1)، (وَالْحَازِمِيَّةُ) (¬2)، (وَالْحَمْزِيَّةُ) (¬3)، وَالْمَعْلُومِيَّةُ، (وَالْمَجْهُولِيَّةُ، وَالصَّلْتِيَّةُ) (¬4)، وَالثَّعْلَبِيَّةُ (¬5) أَرْبَعُ فِرَقٍ وَهُمُ: الْأَخْنَسِيَّةُ، وَالْمَعْبَدِيَّةُ (¬6)، وَالشَّيْبَانِيَّةُ،/ وَالْمُكْرَمِيَّةُ، (فالجميع اثنان وستون) (¬7). وأما المرجئة فخمس (فرق) (¬8) وَهُمُ: الْعُبَيْدِيَّةُ، وَالْيُونُسِيَّةُ، وَالْغَسَّانِيَّةُ،/ وَالثَّوْبَانِيَّةُ (¬9)، (وَالتُّومَنِيَّةُ) (¬10). وَأَمَّا النَّجَّارِيَّةُ فَثَلَاثُ فِرَقٍ وَهُمُ: (الْبُرْغُوثِيَّةُ) (¬11)، وَالزَّعْفَرَانِيَّةُ (¬12)، (وَالْمُسْتَدْرِكَةُ) (¬13). وَأَمَّا الْجَبْرِيَّةُ فَفِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمُشَبِّهَةُ. فَالْجَمِيعُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً، فَإِذَا أَضِيفَتِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ إِلَى عَدَدِ الْفِرَقِ صَارَ الْجَمِيعُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. وَهَذَا التَّعْدِيدُ بِحَسَبِ مَا أَعْطَتْهُ الْمِنَّةُ في تكلف الْمُطَابَقَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، لَا عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ، إِذْ لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا دَلَّ الْعَقْلُ أَيْضًا عَلَى انْحِصَارِ مَا (ذكروه) (¬14) فِي تِلْكَ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى اخْتِصَاصِ تلك البدع بالعقائد (¬15). ¬

(¬1) رجل اسمه شعيب. (¬2) في (غ): "الخازمية"، بالخاء المعجمة، وانظر ملحق الفرق (ص362). (¬3) ساقط من (غ) وفي (ر) ذُكرت بعد الميمونية. وفوقها: رجل اسمه حمزة. (¬4) وفي (م) و (خ) و (ت): "والمحمولية والصليبية"، وفوقها في (ر): "عثمان بن أبي الصلت". (¬5) أصحاب ثعلبة. (¬6) معبد. (¬7) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬9) أبو ثوبان المرجئ. (¬10) في (م) و (خ) و (ت): "والتومية". وفي (غ): "والتوأمية"، وفوقها في (ر): "أبو معاذ التومني". (¬11) في (م) و (خ) و (ت): "البزغوبية؟ ". (¬12) رجل يقال له: الزعفراني. (¬13) في (م) و (خ) و (ت): "والمستدركية"، وفوقها في (ر): "استدرك على الزعفراني. (¬14) في (ط) و (خ): "ذكر". (¬15) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن أقدم من تكلم في هذه المسألة يوسف بن=

وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أُصُولُ الْبِدَعِ أَرْبَعَةٌ، وَسَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً عَنْ هَؤُلَاءِ (تَفَرَّقُوا) (¬1)، وَهُمُ: الْخَوَارِجُ، وَالرَّوَافِضُ،/ وَالْقَدَرِيَّةُ، وَالْمُرْجِئَةُ (¬2). /قَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ (¬3): ثُمَّ تَشَعَّبَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ ثَمَانَ عشرة فرقة: فتلك ثنتان وَسَبْعُونَ فِرْقَةً، وَالثَّالِثَةُ وَالسَّبْعُونَ هِيَ النَّاجِيَةُ (¬4). وَهَذَا التقدير نحو من الْأَوَّلِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْكَالِ مَا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ. فَشَرَحَ ذَلِكَ الشَّيْخُ (أَبُو بَكْرٍ) (¬5) الطَّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْحًا يُقَرِّبُ الْأَمْرَ، فَقَالَ (¬6): لَمْ يُرِدْ عُلَمَاؤُنَا بِهَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ أَصْلَ كُلِّ بِدْعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ (تَفَرَّقَتْ) (¬7) وَتَشَعَّبَتْ على مقتضى أصل البدع// حتى (كملت) (¬8) ¬

=أسباط، ثم عبد الله بن المبارك، حيث قالا: أصول أهل البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة. ثم قال رحمه الله: ولكن الجزم بأن هذه الفرق الموصوفة في إحدى الاثنتين والسبعين لا بد له من دليل، فإن الله حرم القول بلا علم عموماً، وحرم القول عليه بلا علم خصوصاً. انظر: الفتاوى (3 346). (¬1) في هامش (ت): "تفرعوا". (¬2) ذكر هذا القول عن يوسف بن أسباط، وعبد الله بن المبارك، كما تقدم في التعليق السابق. (¬3) هو يوسف بن أسباط بن واصل الشيباني الكوفي، وثقه يحيى بن معين، وقال البخاري: كان قد دفن كتبه، فصار لا يجيء بحديثه كما ينبغي. توفي سنة 195هـ. انظر: تهذيب التهذيب (11 407)، والسير (9 160). (¬4) بنحوه في السنة لابن أبي عاصم (2 463) برقم (953)، والآجري في الشريعة برقم (20)، والإبانة الكبرى (1 377)، برقم (277)، وروي قريباً منه عن ابن المبارك في الإبانة الكبرى (1 379)، برقم (278). (¬5) في (غ) و (ر): "أبو الوليد". (¬6) انظر: الحوادث والبدع (ص97 وما بعدها). (¬7) في (ت): "تفرعت". (¬8) هكذا في (م) و (غ) و (ر): "ونسخة من الحوادث والبدع. وفي (ط) و (خ) و (ت): "تحملت".

(تِلْكَ الْعِدَّةُ، لِأَنَّ) (¬1) ذَلِكَ لَعَلَّهُ (لَمْ) (¬2) يَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ إِلَى الْآنِ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادُوا أن كل بدعة (وضلالة) (¬3) لَا تَكَادُ تُوجَدُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ فَرْعًا لِلْأُولَى وَلَا شُعْبَةً مِنْ شُعَبِهَا، بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأُولَى بِسَبِيلٍ. ثم بين ذلك بالمثال بأن القدر أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْبِدَعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُهُ فِي مَسَائِلَ مِنْ شُعَبِ الْقَدَرِ، وَفِي مَسَائِلَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْقَدَرِ، فَجَمِيعُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الْقَدَرِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يَكُونُ فِعْلٌ بين فاعلين. (وقال بعضهم) (¬4): يجوز فعل بين فاعلين) (¬5) مَخْلُوقَيْنِ عَلَى التَّوَلُّدِ (¬6). وَأَحَالَ مِثْلَهُ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ (¬7). ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يَعُودُ إِلَى الْقَدَرِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ (¬8)، فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ ¬

(¬1) في (م) و (غ) و (ر): "تلك العدة فإن". (¬2) ساقط من (غ) و (ر). (¬3) في (ط) و (م) و (ت): "ضلالة". (¬4) في الحوادث والبدع: "وهو المردار"، واسمه عيسى بن صبيح المردار، من تلاميذ بشر بن المعتمر، وكان يسمى راهب المعتزلة، وله فرقة من المعتزلة ـ من معتزلة بغداد ـ تسمى المردارية. انظر: الملل والنحل (1 48 ـ 70) وطبقات المعتزلة (70 ـ 71). (¬5) ما بين القوسين زيادة من الحوادث و (غ) و (ر). (¬6) التولد: هو أن يحصل الفعل من فاعله بتوسط فعل آخر، كحركة المفتاح بحركة اليد، وحدوث جرح بسبب الإصابة بحجر أو بسهم أطلقه إنسان. وقد اختلفوا في التولد هل فعل الإنسان أم الجماد. انظر: مذاهب الإسلاميين لبدوي (1 192 ـ 197). وقول المردار في التولد ذكره عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق (ص166)، والشهرستاني في الملل والنحل (1 69). (¬7) القديم ـ عند المعتزلة ـ يعنون به الله عز وجل، والوارد في القرآن تسميته سبحانه بالأول. والمحدث هو المخلوق، فالمردار جوز وقوع فعلاً بين فاعلين مخلوقين، ومنع ذلك بين الخالق والمخلوق. (¬8) يريد المعتزلة بالصلاح والأصلح، أنه يجب على الله ـ تعالى الله عن قولهم ـ رعاية=

(تعالى) (¬1) (ـ تعالى الله عن قولهم ـ) (¬2) فعل (الأصلح) (¬3) لعباده في دينهم (ودنياهم) (¬4). (قالوا: وواجب على الله تعالى) (¬5) ابْتِدَاءَ الْخَلْقِ الَّذِينَ عَلِمَ أَنَّهُ يُكَلِّفُهُمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِكْمَالُ عُقُولِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ وَإِزَاحَةُ عِلَلِهِمْ. وَقَالَ (البصريون) (¬6) منهم: لا يجب على الله تعالى إِكْمَالُ عُقُولِهِمْ وَلَا أَنْ يُؤْتِيَهُمْ أَسْبَابَ التَّكْلِيفِ. /وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ (تَعَالَى الله عَنْ قَوْلِهِمْ) (¬7) عِقَابُ الْعُصَاةِ/ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا. وَالْمَغْفِرَةُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ سَفَهٌ مِنَ الْغَافِرِ (¬8). ¬

=مصالح العباد وفعلها لهم، واختلفوا في وجوب الأصلح لهم، ويقصدون بالأصلح: الأفضل في العاجلة والعاقبة. انظر تفصيل المسألة في كتاب (المعتزلة) للدكتور عواد المعتق (ص97 ـ ص202). (¬1) ساقط من (غ) و (ر). (¬2) ما بين القوسين زيادة من الحوادث و (غ) و (ر). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الصلاح". (¬4) زيادة من (غ) و (ر) وبعدها نص ساقط من جميع النسخ وهو في الحوادث والبدع ونصه ص99: (ولا يجوز في حكمته تبقية وجه ممكن في الصلاح العاجل والآجل إلا وعليه فعل أقصى ما يقدر عليه في استصلاح عباده). (¬5) في (ط) و (م) و (ت) و (غ) و (ر): "ويجب عليه". (¬6) في (ط) و (م) و (ت) و (غ) و (ر): "المصريون". وفي (م): "المضريون". وقد نشأت المعتزلة أولاً بالبصرة ثم ظهرت معتزلة بغداد، وأشهر رؤساء معتزلة البصرة هم: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، ومعمر بن عباد، وأبو بكر الأصم، وأبو الهذيل العلاف، وبشر بن المعتمر ـ الذي أسس بعد ذلك معتزلة بغداد ـ والفوطي، والنظام، والشحام، وأبو علي الجبائي، والجاحظ، وأبو هاشم الجبائي، وأبو الحسن الأشعري الذي انتقل بعد ذلك من مذهب المعتزلة إلى المذهب الكلابي، ثم إلى مجمل مذهب السلف. وأما معتزلة بغداد فقد أسسها بشر بن المعتمر، وأشهر رؤسائهم: ثمامة بن أشرس، وأحمد بن أبي دؤاد، وأبو موسى المردار، وجعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب، وأبو الحسين الخياط، والإسكافي، وأبو القاسم البلخي الكلبي. انظر: مذاهب الإسلاميين لبدوي (1 45 ـ 46) بتصرف يسير. (¬7) في (ت): "بياض بمقدار كلمة". (¬8) انظر الآراء في هذه المسألة في كتاب المعتزلة للدكتور عواد المعتق (ص218).

(وأبى البصريون ذلك) (¬1). وابتدع جعفر بن (مبشر) (¬2) (فقال) (¬3): (من) (¬4) (استحضر) (¬5) امْرَأَةً لِيَتَزَوَّجَهَا فَوَثَبَ عَلَيْهَا فَوَطِئَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَلَا رِضًى/ وَلَا عَقْدٍ حَلَّ لَهُ ذَلِكَ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفُهُ. وَقَالَ ثمامة بن أشرس (¬6): إن الله تعالى يصيِّر الكفَّار وَالْمُلْحِدِينَ وَأَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمَجَانِينَ تراباً يوم القيامة لا يعذبهم ولا (يعرضهم) (¬7). وَهَكَذَا (¬8) ابْتَدَعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ بِدَعًا تَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ بِدْعَتِهَا الَّتِي هِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَا، وَبِدَعًا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَا. فَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِتَفَرُّقِ أُمَّتِهِ أُصُولَ (الْبِدَعِ) (¬9) الَّتِي تَجْرِي مجرى الأجناس للأنواع، والمعاقد للفروع (فلعلهم) (¬10) ـ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ـ مَا (بَلَغُوا) (¬11) هَذَا/ الْعَدَدَ إِلَى الْآنَ، غَيْرَ أَنَّ الزَّمَانَ بَاقٍ وَالتَّكْلِيفَ (قائم) (¬12) ¬

(¬1) في (ط) و (خ) و (ت) و (غ) و (ر): "وأما المصريون منهم ذلك". وفي (م): "المضريون". (¬2) في (ط) و (خ) و (ت): "بشر". وهو جعفر بن مبشر الثقفي، من رؤساء المعتزلة، كان يضرب به المثل هو وجعفر بن حرب، فيقال: علم الجعفرين وزهدهما، انظر: طبقات المعتزلة (ص76 ـ 77). (¬3) ساقط من سائر النسخ وفي (غ) و (ر): "الحوادث والبدع": من القدرية بدعة فقال. (¬4) في (غ) و (ر): "إن". (¬5) في (ط) و (م) و (خ): "استصر". (¬6) هو ثمامة بن أشرس النميري البصري، وله بدع عظيمة، وفسق وفجور، وله فرقة تنسب إليه اسمها الثمامية. انظر: الفرق بين الفرق (ص172 ـ 175)، والسير (10 203). (¬7) جميع النسخ: (يعرضهم). وفي "الحوادث والبدع": (يعوضهم). وانظر قول ثمامة في الملل والنحل (1 71). (¬8) في كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي زيادة قبل هذه الفقرة وهي: "وقوله هذا في الكفار والملحدين خرق لإجماع الأمة من أهل الإثبات، وأهل القدر وغيرهم". (¬9) في (ط) و (م) و (خ): "بياض". (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لعلهم". (¬11) في (ط) و (خ): "بلغن". (¬12) في (غ) و (ر): "باق قائم".

وَالْخَطَرَاتِ مُتَوَقَّعَةٌ، وَهَلْ قَرْنٌ أَوْ عَصْرٌ يَخْلُو إِلَّا وَتَحْدُثُ فِيهِ الْبِدَعُ؟. وَإِنْ كَانَ أَرَادَ/ بالفرق كُلَّ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مِمَّا لَا يُلَائِمُ أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَلَا تَقْبَلُهَا قَوَاعِدُهُ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرْنَا، كانت البدع أنواعاً لأجناس، (ولو) (¬1) كَانَتْ مُتَغَايِرَةَ الْأُصُولِ وَالْمَبَانِي. فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تعالى ـ فقد وجد من ذلك (عدَّة) (¬2) (أكثر من اثنين وَسَبْعِينَ) (¬3). /وَوَجْهُ (تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ) (¬4) عَلَى هَذَا، أَنْ (يَخْرُجَ) (¬5) مِنَ الْحِسَابِ غُلَاةُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَلَا يُعَدُّونَ مِنَ الْأُمَّةِ، وَلَا فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ، كَنُفَاةِ الْأَعْرَاضِ (¬6) مِنَ الْقَدَرِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ (إِلَى مَعْرِفَةِ حُدُوثِ) (¬7) الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ إِلَّا بِثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ (¬8)، وَكَالْحُلُولِيَّةِ (¬9) (وَالنُّصَيْرِيَّةِ) (¬10) وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الْغُلَاةِ. ¬

(¬1) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "أو". (¬2) في سائر النسخ: ما عدا (غ) و (ر): "عدد". (¬3) في (م) و (ت): "كثير من اثنين وسبعين". وفي (خ): "عدداً كثير من اثنين وسبعين". (¬4) في (م): "صحيح الحديث). وفي الحوادث: (تصحيح هذا الحديث). وفي نسخة أخرى توافق (ط). (¬5) في (ط) و (خ): "تخرج". (¬6) الأعراض: جمع عرض؛ وهو ـ عند المناطقة ـ: الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع، أي محل يقوم به، كاللون المحتاج في وجوده إلى جسم يحله، ويقوم به. وقد قسم المناطقة العرض إلى عدة أقسام، واختلفوا في سبب تسمية أحوال الأجسام أعراضاً، وهل تبقى أم لا. انظر: التعريفات للجرجاني (ص148 ـ 149)، ومذاهب الإسلاميين لبدوي (1 88 ـ 191). (¬7) في الحوادث: لحدوث. (¬8) سلك الطرطوشي هنا مسلك المتكلمين في هذه المسألة، وقد فصَّل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بيان سبب سلوكهم لهذه الطريقة، ثم بيَّن بطلانها والرد عليها. انظر مواضع المسألة في: الفتاوى في الفهرس (36 24 ـ 25). (¬9) الحلولية: تقدم تعريفهم (1 223). (¬10) في (م) و (خ): "النصرية". وانظر تعريفهم في ملحق الفرق برقم (39).

هَذَا مَا قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ حَسَنٌ مِنَ التَّقْرِيرِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى لِلنَّظَرِ فِي كَلَامِهِ مَجَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا (اختاره) (¬1) من أنه ليس المراد الأجناس (وإنما) (¬2) مراده (مجرد) (¬3) أَعْيَانَ الْبِدَعِ وَقَدِ ارْتَضَى اعْتِبَارَ الْبِدَعِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ فَمُشْكِلٌ، لِأَنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا كُلَّ بِدْعَةٍ دقت أو جلت فكل من ابتدع (بدعة) (¬4) كيف (ما كانت بدعته) (¬5) لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا فرقة، فلا (يقف العدد) (¬6) في مائة ولا (في) (¬7) مائتين، فضلاً عن (وقوفها) (¬8) في اثنتين وسبعين (فرقة) (¬9)، (فإن) (¬10) الْبِدَعَ ـ كَمَا قَالَ ـ لَا تَزَالُ تَحْدُثُ مَعَ مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ. وَقَدْ مَرَّ مِنَ النَّقْلِ مَا يُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا وَالنَّاسُ يُحْيُونَ فِيهِ/ بِدْعَةً وَيُمِيتُونَ فِيهِ سُنَّةً، حتى تحيى الْبِدَعُ وَتَمُوتَ السُّنَنُ" (¬11). وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْوَاقِعِ، فإن البدع (مذ) (¬12) نشأت إلى الآن (لا) (¬13) تَزَالُ تَكْثُرُ، وَإِنْ فَرَضْنَا إِزَالَةَ/ بِدَعِ الزَّائِغِينَ فِي الْعَقَائِدِ كُلِّهَا، لَكَانَ الَّذِي يَبْقَى أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فَمَا قَالَهُ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ غير مخلص. والثاني: أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِ أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ لَمْ تتعين بعد، بخلاف القول ¬

(¬1) في (ط): "اختار". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فإن كان". (¬3) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر). (¬4) ساقط من (م) و (خ) و (ت). (¬5) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "كانت". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تقف". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وقوعها". (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وأن". (¬11) تقدم تخريجه (1 33). (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "قد". (¬13) في (ط) و (خ): "ولا".

الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَصَحُّ فِي النَّظَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّعْيِينَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَالْعَقْلُ لَا يَقْتَضِيهِ، وأيضاً (فللمنازع) (¬1) أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الَّتِي بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ (¬2) فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ فِرَقًا يُسَمِّيهَا وَيُبَرِّئُ نَفْسَهُ وَفِرْقَتَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَحْظُورِ. فَالْأَوْلَى/ مَا قَالَهُ مِنْ عَدَمِ (التَّعْيِينِ) (¬3)، وَإِنْ سلَّمنا (أَنَّ) (¬4) الدَّلِيلَ قَامَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي (أيضاً) (¬5) التَّعْيِينُ. أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ فَهِمْنَا مِنْهَا أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى/ أَوْصَافِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ لِيُحْذَرَ مِنْهَا، وَيَبْقَى الْأَمْرُ فِي تَعْيِينِ الدَّاخِلِينَ فِي مُقْتَضَى الْحَدِيثِ مُرَجَّى، وَإِنَّمَا وَرَدَ التعيين في النادر كما قال صلّى الله عليه وسلّم في الخوارج (إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حَنَاجِرَهُمْ، (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ) (¬6)) (¬7) الْحَدِيثَ، مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُمْ مِمَّنْ شَمِلَهُمْ حَدِيثُ الْفِرَقِ. وَهَذَا الْفَصْلُ مَبْسُوطٌ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ (¬8) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَزَمَ/ لِيَكُونَ سِتْرًا عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا سُتِرَتْ عَلَيْهِمْ قَبَائِحُهُمْ فَلَمْ يُفْضَحُوا فِي الدنيا (بها) (¬9) في الغالب، وأمرنا بالستر على (المذنبين) (¬10) ما لم (يبدوا) (¬11) لَنَا صَفْحَةُ الْخِلَافِ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَذْنَبَ أَحَدُهُمْ ليلاً أصبح وعلى بابه معصيته مَكْتُوبَةٌ (¬12)، وَكَذَلِكَ فِي شَأْنِ قُرْبَانِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَرَّبُوا لِلَّهِ قُرْبَانًا فَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ نَزَلَتْ (نَارٌ) (¬13) مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهُ، ¬

(¬1) في (ط) و (خ): "فالمنازع". وفي (غ) و (ر): "فللمنازع أيضاً". (¬2) الأشعرية: تقدم تعريفهم 1 30. (¬3) في (غ) و (ر): "التعليل". (¬4) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (غ) و (ر). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر). (¬7) تقدم تخريجه (3/ 114). (¬8) انظر: الموافقات (4 100 وما بعدها). (¬9) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬10) في (ط) و (ت): "المؤمنين". (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تبد". (¬12) انظر الحديث في تفسير ابن جرير الطبري (2 491)، وذكر أحمد شاكر أنه حديث مرسل من مراسيل أبي العالية وأنه لا حجة فيه. (¬13) في (م): "نارا".

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ تَأْكُلْهُ النَّارُ (¬1)، وَفِي ذَلِكَ افْتِضَاحُ الْمُذْنِبِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ (¬2) أَيْضًا، فَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ خُصَّتْ (هَذِهِ) (¬3) الْأُمَّةُ/ بِالسَّتْرِ فِيهَا. وَأَيْضًا فَلِلسَّتْرِ حِكْمَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهَا لَوْ أُظْهِرَتْ مَعَ أَنَّ أَصْحَابَهَا مِنَ الْأُمَّةِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ دَاعٍ إِلَى الْفُرْقَةِ وَعَدَمِ الْأُلْفَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهَا، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ/ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (¬4)، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (¬5)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬6)، وَفِي الْحَدِيثِ: (لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً) (¬7) وأمر صلّى الله عليه وسلّم بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ فَسَادَ ذَاتِ البين هي الحالقة التي تحلق الدين (¬8). ¬

(¬1) انظر: ما ذكره ابن جرير في تفسيره (7 448 ـ 450). (¬2) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، وفيه: ( ... ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا) وهو برقم (3124 و5157)، ومسلم (1747)، وفي صحيفة همام بن منبه (123)، وأحمد (3 318)، والنسائي في السنن الكبرى (8878)، وابن حبان (4807 و4808)، والبيهقي في السنن الكبرى (12487)، وبنحوه في مسند أحمد (2 252)، بلفظ: (لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس قبلكم .. الحديث)، وفي الترمذي (3085)، والنسائي في الكبرى (11209)، وابن الجارود في المنتقى (1071)، والطحاوي في معاني الآثار (3 77)، وابن حبان (4806)، والبيهقي في السنن الكبرى (12488). (¬3) ساقط من (ط). (¬4) سورة آل عمران: الآية (103). (¬5) سورة الأنفال: الآية (1). (¬6) سورة آل عمران: الآية (105). (¬7) أخرجه البخاري في الصحيح (6064 و6066 و6076)، وفي الأدب المفرد (408)، ومسلم (2559 و2563 و2564)، وأبو داود الطيالسي (2091)، وأحمد (2 277 و469) و (3 165 و209)، والترمذي (1935)، وأبو يعلى (3612)، والقضاعي في مسنده (939)، والطبراني في الصغير (280)، والبيهقي في السنن الكبرى (11276 و14550 و16906). (¬8) أخرجه أحمد (6 444)، والبخاري في الأدب المفرد (391 و412)، والترمذي (5208 و2509)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، وأبو داود (4919)، وعبد بن حميد في المنتخب (335)، وابن حبان (5092).

/فَإِذَا كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنَّ التَّعْرِيفَ بِهِمْ عَلَى التَّعْيِينِ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ (بَيْنَهُمْ) (¬1) وَالْفُرْقَةَ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْبِدْعَةُ فَاحِشَةً (جِدًّا) (¬2) كَبِدْعَةِ الخوارج (فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها، لكن كما عين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الْخَوَارِجِ) (¬3) / وَذَكَرَهُمْ بِعَلَامَتِهِمْ حَتَّى يُعْرَفُوا، وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الشَّنَاعَةِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ بِحَسْبِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فالسكوت (عن تعيينه) (¬4) أَوْلَى. وخرَّج أَبُو دَاوُدَ عَنْ (عَمْرِو بْنِ أَبِي قُرَّةَ) (¬5) قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ/ فَكَانَ يذكر أشياء قالها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِأُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْغَضَبِ/ فَيَنْطَلِقُ نَاسٌ مِمَّنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ حُذَيْفَةَ فَيَأْتُونَ سَلْمَانَ فَيَذْكُرُونَ لَهُ قَوْلَ حُذَيْفَةَ، فَيَقُولُ سَلْمَانُ: حُذَيْفَةُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى حُذَيْفَةَ فَيَقُولُونَ (له) (¬6): قد ذكرنا قولك (لسلمان) (¬7) فَمَا صَدَّقَكَ وَلَا كَذَّبَكَ. فَأَتَى حُذَيْفَةُ سَلْمَانَ وَهُوَ فِي مَبْقَلَةٍ فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَدِّقَنِي بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: إِنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغضب فيقول (في الغضب) (¬8) لِنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَيَرْضَى فَيَقُولُ فِي الرِّضَى (لناس من أصحابه) (¬9)، أَمَا تَنْتَهِي حَتَّى تُورِثَ رِجَالًا حُبَّ رِجَالٍ وَرِجَالًا بُغْضَ رِجَالٍ، وَحَتَّى تُوقِعَ اخْتِلَافًا وَفُرْقَةً؟ وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم خطب (الناس) (¬10) فقال: (أيما رجل (من أمتي) (¬11) سَبَبْتُهُ سُبَّةً أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً (فِي غَضَبِي" (¬12) فإنما أنا ¬

(¬1) ساقط من (غ) و (ر). (¬2) ساقط من (غ) و (ر). (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عنه". (¬5) في (ط) و (م) و (خ): "عمر بن أبي مرة"، وهو خطأ، والمثبت من (غ) و (ر): وهو الصواب كما في سنن أبي داود ومسند أحمد، وهو عمرو بن أبي قرة سلمة بن معاوية بن وهب الكندي الكوفي، ثقة مخضرم. انظر: التقريب رقم (5097). (¬6) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬7) في (ط): "إلى سلمان". والصواب لسلمان كما في (م) و (خ) و (غ) و (ر): وهو الموافق لما في سنن أبي داود. (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) زيادة من (غ) و (ر). (¬12) ساقط من (غ) و (ر).

مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَغْضَبُ/ كَمَا يَغْضَبُونَ، وَإِنَّمَا بعثني الله رحمة للعالمين فاجعلها عَلَيْهِمْ صَلَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَوَاللَّهِ (لَتَنْتَهِيَنَّ) (¬1) أَوْ لأكتبن إِلَى عُمَرَ (¬2). فَتَأَمَّلُوا مَا أَحْسَنَ هَذَا الْفِقْهَ مِنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ جَارٍ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَمِنْ هُنَا لَا يَنْبَغِي لِلرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ: هَؤُلَاءِ الْفِرَقُ هُمْ بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فُلَانٍ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُمْ بِعَلَامَتِهِمْ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا فِي مَوْطِنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَيْثُ/ نَبَّهَ الشَّرْعُ عَلَى تَعْيِينِهِمْ كَالْخَوَارِجِ، فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون (في الدخول) (¬3) تَحْتَ حَدِيثِ الْفِرَقِ، وَيَجْرِي مَجْرَاهُمْ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، فَإِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ شِيعَةُ الْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ فِيهِمُ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ عَرَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا (فِي) (¬4) الْخَوَارِجِ مِنْ أَنَّهُمْ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ (أَهْلَ) (¬5) الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَإِقْرَائِهِ حتى ابتدعوا فيه ثم لم يتفقوا فيه، ولا عرفوا مقاصده، ولذلك (اطرحوا) (¬6) كُتُبَ الْعُلَمَاءِ وَسَمَّوْهَا/ كُتُبَ الرَّأْيِ وَخَرَقُوهَا وَمَزَّقُوا أُدُمَهَا، مَعَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنُوا فِي كُتُبِهِمْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، وَأَخَذُوا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِتَأْوِيلٍ/ فَاسِدٍ، زَعَمُوا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُجَسِّمُونَ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوَحِّدِينَ، وَتَرَكُوا الِانْفِرَادَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ من النصارى المجاورين لَهُمْ وَغَيْرِهِمْ. فَقَدِ اشْتُهِرَ فِي الْأَخْبَارِ/ وَالْآثَارِ مَا كَانَ مِنْ خُرُوجِهِمْ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ/ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وغيره، ¬

(¬1) في (م): "لتتبين". (¬2) أخرجه أبو داود برقم (4659) والطبراني في المعجم الكبير (6156 و6157)، وأصل الحديث في البخاري في الدعوات برقم (6361)، ومسلم في البر والصلة، باب من لعنه النبي صلّى الله عليه وسلّم أو سبه برقم (2600). (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) زيادة من (غ) و (ر) (¬5) ساقط من (م). (¬6) في (ط) و (خ) و (ت): "طرحوا".

حَتَّى لَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ خَرَّجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ (¬1) أَنَّ عبادة بن قرط (¬2) غزا (مرّة) (¬3) فَمَكَثَ فِي غَزَاتِهِ تِلْكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثم رجع (حتى إذا كان قريباً من الأهواز سمع صوت أذان، فقال: والله ما لي عهد بالصلاة) (¬4) مع (جماعة) (¬5) الْمُسْلِمِينَ مُنْذُ زَمَانٍ، فَقَصَدَ نَحْوَ الْأَذَانِ يُرِيدُ الصلاة فإذا هو بالأزارقة ـ (وهم) (¬6) صنف من الخوارج ـ فلما رأوه قالوا (له) (¬7): مَا جَاءَ بِكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنْتُمْ يَا إِخْوَتِي؟ قَالُوا: أَنْتَ أَخُو الشيطان/ لنقتلك، قال: أما تَرْضَوْنَ مِنِّي بِمَا رَضِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم (مني) (¬8)، قَالُوا: وَأَيُّ شَيْءٍ رَضِيَ بِهِ مِنْكَ؟ قَالَ: أتيته وأنا كافر (فشهدني) (¬9) أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، فخلَّى عَنِّي ـ قَالَ ـ فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ (¬10). وَأَمَّا عَدَمُ فَهْمِهِمْ لِلْقُرْآنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقَدَرِيَّةِ حَدِيثٌ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فلا تشهدوهم) (¬11). ¬

(¬1) هو حميد بن هلال بن سويد العدوي، وثقه ابن معين والنسائي، وهو من رواة الكتب الستة، توفي في ولاية خالد بن عبد الله على العراق. انظر: طبقات ابن سعد (7 456) والجرح والتعديل (4 105). (¬2) هو عبادة بن قرط أو قرص بن عروة بن بجير الضبي، نزل البصرة وقتلته الخوارج سنة 41هـ. انظر: الإصابة لابن حجر رقم (4501). (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (ط): "فشهدت". (¬10) القصة أخرجها البخاري في التاريخ الكبير (6 93)، وذكرها ابن حجر في الإصابة (2 270). (¬11) أخرجه أبو داود (4691)، والحاكم (286)، والبيهقي في السنن الكبرى (20658)، وبنحوه أخرجه أحمد في المسند (8 4)، برقم (5584)، وابن أبي عاصم في السنن (339)، وغيرهما، وقال أحمد شاكر: إسناده ضعيف لانقطاعه ... ـ ثم تكلم عليه باستفاضة ـ وأخرجه أيضاً برقم (6077)، وقال أحمد شاكر: في إسناده بحث دقيق وأنا=

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ) (¬1): (لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا قَدَرَ، مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلَا تَشْهَدُوا (جِنَازَتَهُ) (¬2)، وَمَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ فَلَا (تَعُودُوهُ) (¬3)،/ وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ) (¬4). وَهَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، قَالَ صَاحِبُ المغني: (إنه) (¬5) لَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ (¬6). نَعَمْ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْقَدَرِ قَدْ ظَهَرَ: إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ (¬7)، صَحِيحٌ لَا إشكال في صحته. ¬

=أرجح صحته ... ـ ثم استفاض في الكلام عليه ـ وحسنه الألباني في ظلال الجنة (339)، واستفاض في تخريج الحديث الحويني في جنة المرتاب (ص30 وما بعدها). (¬1) ما بين () ساقط من (غ) و (ر). (¬2) في (ط): "جنازتهم". (¬3) في (غ) و (ر): "تعودوهم". (¬4) أخرجه أبو داود (4692)، من طريق عمر مولى غفرة عن رجل عن حذيفة. قال الألباني في السنة لابن أبي عاصم (1 144): إسناده ضعيف، لجهالة الرجل الذي لم يسم، وعمر مولى غفرة ضعيف، وقد اضطرب في إسناده، وراجع كلام الحويني في جنة المرتاب (ص46). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) انظر: المغني عن الحفظ والكتاب لأبي حفص عمر بن بدر الموصلي (ص29) بتحقيق الحويني. (¬7) أخرجه معمر بن راشد في جامعه (20072)، مختصراً دون ذكر حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابن أبي شيبة في الإيمان (119)، والمصنف (10478)، وأحمد في مسنده (185 و192 و369 و376 و5823)، وأخرجه مسلم في صحيحه (8) من عدة طرق، وابن ماجه (63)، وأبو داود (4695)، والترمذي (2610)، وعبد الله في السنة (926)، والنسائي (4990)، والآجري في الشريعة (205 و206 و378 و379 و427 و429)، ومحمد بن منده في الإيمان (1 و2 و4 و5 و7 و8 و9 و10 و11 و13 و14)، والبيهقي في السنن الكبرى (10 203)، وفي الاعتقاد (ص84)، وورد بلفظ: (أنا بريء ممن لم يؤمن بالقدر)، وهو جزء من قوله في الرواية المتقدمة، أخرجه الفريابي في القدر (230)، وابن بطة في الإبانة (1606)، ونحوه برقم (1613)، واللالكائي (1164)، وبنحوه (1163).

وخرَّج أبو داود أيضاً من حديث عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم (قال) (¬1): (لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ وَلَا تُفَاتِحُوهُمْ) (¬2)، وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا. وخرَّج ابْنُ وَهْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ (¬3) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَا سَهْمَ (لَهُمْ) (¬4) فِي الْإِسْلَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمُرْجِئَةُ والقدرية) (¬5). وعن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرِهِ يَرْفَعُهُ قَالَ: (لُعِنَتِ القدرية والمرجئة على ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) أخرجه أبو داود (4710 و4720)، والإمام أحمد في المسند (1 243) برقم (206) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، اعتماداً على توثيق ابن حبان لحكيم بن شريك الهذلي. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (330)، وضعفه الألباني في ظلال الجنة. وفي مشكاة المصابيح (1 38)، لجهالة حكيم بن شريك الهذلي، وجهله أيضاً أبو حاتم وابن حجر. انظر: تهذيب التهذيب (2 450)، والتقريب برقم (1475)، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3 15) في ترجمة حكيم بن شريك، وأخرجه عبد الله في السنة (841)، وأبو يعلى في المسند (245)، والآجري في الشريعة (543 و544)، وابن حبان في الصحيح (79)، وابن بطة في الإبانة (1274 و1520 و1997)، والحاكم (287)، واللالكائي (186 و1124)، والبيهقي في السنن الكبرى (20662)، والمزي في تهذيب الكمال (1459)، جميعهم من طريق حكيم بن شريك. (¬3) هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أمه أو ولد، كان صاحب علم وصلاح، خرج على بني أمية فقتل رحمه الله سنة 125هـ. انظر: السير (5 389)، وطبقات ابن سعد (5 325). (¬4) في (غ) و (ر): "لهما". (¬5) لم أجد هذه الرواية عن زيد بن علي في المصادر المتوفرة لدي، ولكن روي بنحوه عن ابن عباس: أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4 133)، وابن ماجه (62 و73)، والترمذي (2149)، وعبد بن حميد في المنتخب (579)، وابن أبي عاصم في السنة (334 و335 و344 و946 و947 و948 و951)، وضعفه الألباني. والطبراني في الكبير (11682)، وابن عدي في الكامل (3 309) و (5 194)، واللالكائي (1156)، والخطيب في تاريخ بغداد (5 368)، والمزي في تهذيب الكمال ترجمة رقم (4143)، وبنحوه من ابن عمر وأبي بكر وجابر بن عبد الله وابن مسعود ـ انظر رواياتهم في: جنة المرتاب (ص30 ـ 52)، وعن واثلة بن الأسقع، أخرجه الطبراني في الأوسط (1648).

لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا آخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (¬1). وَعَنْ مُجَاهِدِ بْنِ (جَبْرٍ) (¬2) أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِي قَدَرِيَّةٌ وَزِنْدِيقِيَّةٌ أُولَئِكَ مَجُوسٌ" (¬3). /وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ عَبْدِ الله بن عمر (نعوده) (¬4) إذ (جاءه) (¬5) رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ ـ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ـ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تقرأنَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ـ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي مَسْخٌ وَخَسْفٌ وَهُوَ/ فِي الزِّنْدِيقِيَّةِ (والقدرية)) (¬6). وَعَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ (¬7) قَالَ: أَتَيْنَا أُبي بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ من القدر فحدثني (بشيء) (¬8) لعل الله (أن) (¬9) يُذْهِبُهُ مِنْ قَلْبِي، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحد ذهباً في ¬

(¬1) حديث معاذ أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (325 و952) ـ وضعفهما الألباني ـ والطبراني في المعجم الكبير (20 117 برقم 232)، وفي مسند الشاميين (400). (¬2) في (ط) و (م): "مجاهد بن جبير"، ولم أعرفه من هو بالتحديد، ففي الإصابة مجاهد بن جبر مولى ابنة غزوان أخت عتبة بن غزوان، وهناك أيضاً مجاهد بن جبر المكي التابعي المشهور، والله أعلم بالصواب. انظر: الإصابة (3 485)، برقم (8363). (¬3) لم أقف عليه من رواية مجاهد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا اللفظ. (¬4) في (غ) و (ر): "قعود". (¬5) في (ط) و (خ): "جاء". (¬6) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ). والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (9 73)، برقم (6208)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وبنحوه أخرجه الترمذي برقم (2152 و2153)، وأبو داود برقم (4613)، وابن ماجه (4061)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، وأخرجه الحاكم (285)، واللالكائي (1135). (¬7) هو عبد الله بن فيروز الديلمي، أبو بشر ويقال أبو بسر، وهو من الرواة عن أبي بن كعب وابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان. انظر: تهذيب التهذيب (5 358). (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) زيادة من (غ) و (ر).

سبيل الله ما قبله (الله) (¬1) مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ/ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال (لي) (¬2) مثل ذلك، (ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مِثْلَ ذَلِكَ) (¬3). وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: (لَا تَكَلَّمُوا فِي الْقَدَرِ فَإِنَّهُ سِرُّ اللَّهِ) (¬4)، وَهَذَا كُلُّهُ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ. وَجَاءَ فِي الْمُرْجِئَةِ (¬5) وَالْجَهْمِيَّةِ (¬6) (والأشعرية) (¬7) شَيْءٌ لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ/ صَلَّى الله عليه وسلّم، فلا تعويل (عَلَيْهِ) (¬8). نَعَمْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وَجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ *إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *} (¬9) نَزَلَ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ. فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ/ قال: (جاء) (¬10) ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) ما بين () زيادة من (غ) و (ر) والحديث أخرجه أحمد (5 182 و189)، وابن ماجه (77)، وأبو داود (4699)، وابن حبان (505)، والبيهقي في السنن الكبرى (204)، وصححه الألباني في المشكاة (1 41). (¬4) ورد بنحوه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً، أخرجه ابن عدي في الكامل (7 186)، في ترجمة يحيى بن أبي أنيسة، وهو ضعيف، وأخرجه بنحوه عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً الخطيب البغدادي في تاريخه (2 386)، في ترجمة محمد بن عبد بن عامر السمرقندي، وقال عنه: يحدث المناكير على الثقات، يتهم بالكذب. وأخرجه بنحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً اللالكائي (1122)، وفيه الهيثم بن جماز الحنفي البصري، متروك الحديث، ترجمه ابن حجر في اللسان (6 204)، وذكر الحديث من روايته، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (4131). (¬5) انظر ملحق الفرق برقم (78). (¬6) انظر تعريفهم في ملحق الفرق. (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) ساقط من (م). (¬9) سورة القمر: الآيتان (48، 49). (¬10) في (ط) و (خ) و (ت): "أتى". وهو ساقط من (م).

مشركو قُرَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمُونَهُ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ (¬1). وَرَوَى مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ (¬2)، وَلَكِنْ إِنْ صَحَّ فَفِيهِ دَلِيلٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُعَيِّنُ أَنَّهُمْ مِنَ الْفِرَقِ، وَكَلَامُنَا فيه. والثاني (¬3): حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزينها فِي قُلُوبِ الْعَوَامِّ/ وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ، فَإِنَّ ضَرَرَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَضَرَرِ إِبْلِيسَ، وهم من شياطين الإنس، فلا بد مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له (الشواهد) (¬4) عَلَى أَنَّهُمْ مِنْهُمْ، كَمَا اشْتُهِرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ (¬5) وَغَيْرِهِ. فَرَوَى عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ (¬6) قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَذَكَرَ/ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ فَوَقَعَ فِيهِ وَنَالَ مِنْهُ، فَقُلْتُ: أَبَا الْخَطَّابِ، أَلَا أَرَى الْعُلَمَاءَ يَقَعُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ فقال: (يا أحول) (¬7) أوَ لا تَدْرِي أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ابْتَدَعَ بِدَعَةً فَيَنْبَغِي لها أن تذكر حتى (يُحذر) (¬8)؟ ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2656)، وأحمد في المسند (2 444 و476)، والبخاري في خلق أفعال العباد (ص49)، وابن ماجه (83)، والترمذي (2157)، وابن حبان (6139)، وتفسير عبد بن حميد غير مطبوع، ولكن ذكره الشوكاني في فتح القدير (5 129 ـ 130) وعزاه إلى عبد بن حميد وغيره. (¬2) وهو مروي من حديث زرارة الأنصاري مرفوعاً، أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (18714)، والطبراني في المعجم الكبير (5316)، وذكره ابن حجر في الإصابة (2 562)، و (5 291)، وعزاه لابن شاهين وابن مردويه وابن منده، وذكر أن مداره على حفص بن سليمان اضطرب فيه وهو ضعيف، وبنحوه عن ابن عباس موقوفاً أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (18715)، واللالكائي (1162 و1388)، وبنحوه في المعجم الكبير للطبراني (11163). (¬3) أي: الثاني من أوجه جواز تعيين الفرقة بأعيانها. انظر ما سبق (ص159). (¬4) في (ط) و (خ) و (ت): "الشهود". (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) هو عاصم بن سليمان البصري، أبو عبد الرحمن، إمام حافظ محدث البصرة، وثقه الإمام أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو زرعة، وغيرهم، توفي سنة 142، وقيل 143هـ. انظر: السير (6 13). (¬7) في (م): "ما خول". وفي (خ): "ما حول". وفي أصل (ط): "ما أحول" في (ت): "بياض بمقدار كلمة. والتصحيح من (غ) و (ر) وتاريخ بغداد (12 179). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تحذر".

فَجِئْتُ مِنْ عِنْدِ قَتَادَةَ وَأَنَا مُغْتَمٌّ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ قَتَادَةَ فِي عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَمَا رَأَيْتُ مَنْ نَسُكِهِ وَهَدْيِهِ،/ فَوَضَعْتُ رَأْسِي نِصْفَ النَّهَارِ وَإِذَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَالْمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يَحُكُّ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، (فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، تَحُكُّ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟) (¬1)، قَالَ: إِنِّي سَأُعِيدُهَا. قَالَ: فَتَرَكْتُهُ حَتَّى حَكَّهَا، فَقُلْتُ لَهُ: أَعِدْهَا، فَقَالَ: لَا أستطيع (¬2). فمثل هؤلاء لا بد مِنْ ذِكْرِهِمْ وَالتَّشْرِيدِ بِهِمْ، لِأَنَّ مَا يَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ضَرَرِهِمْ إِذَا (تُرِكُوا) (¬3) أَعْظَمُ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِذِكْرِهِمْ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُمْ إِذَا كَانَ/ سَبَبُ تَرْكِ (التَّعْيِينِ) (¬4) الْخَوْفُ مِنَ التَّفَرُّقِ والعداوة، ولا شك أن التفرق بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الدَّاعِينَ لِلْبِدْعَةِ وَحْدَهُمْ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِمْ أَسْهَلُ مِنَ التَّفَرُّقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الدَّاعِينَ وَمَنْ شَايَعَهُمْ وَاتَّبَعَهُمْ، وَإِذَا تَعَارَضَ الضرران فالمرتكب أَخَفُّهُمَا وَأَسْهَلُهُمَا، وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ جَمِيعِهِ، كَقَطْعِ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ، إِتْلَافُهَا/ أَسْهَلُ مِنْ إِتْلَافِ النفس. وهذا شأن الشرع أبداً: (أن يَطْرَحُ) (¬5) حُكْمَ الْأَخَفِّ وِقَايَةً مِنَ الْأَثْقَلِ. /فَإِذَا فُقِدَ الْأَمْرَانِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرُوا (وَلَا أن) (¬6) يعيَّنوا وإن وُجِدُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مُثِيرٍ (لِلشَّرِّ) (¬7) وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، (وَمَتَى) (¬8) حَصَلَ بِالْيَدِ مِنْهُمْ أَحَدٌ ذَاكَرَهُ بِرِفْقٍ، وَلَمْ (يُرِهِ) (¬9) أَنَّهُ خَارِجٌ (مِنَ) (¬10) السُّنَّةِ، بَلْ يُرِيهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَأَنَّ الصَّوَابَ الْمُوَافِقَ لِلسُّنَّةِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَعَصُّبٍ وَلَا إِظْهَارِ غلبه فهو (أنجح وأنفع) (¬11)، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ دُعي الْخَلْقُ أَوَّلًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى (إِذَا) (¬12) عَانَدُوا وَأَشَاعُوا الْخِلَافَ وَأَظْهَرُوا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك. ¬

(¬1) ساقط من (غ) و (ر). (¬2) انظر: تاريخ بغداد (12 179). (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (غ) و (ر): "التغيير". (¬5) في (م) و (خ) و (ت): "ويطرح"، وفي (ط): "يطرع". (¬6) في (ط): "لأن". (¬7) في (غ) و (ر): "للشحناء". (¬8) في (ط) و (خ) و (ت): "ومن". (¬9) في (م) و (غ) و (ر): "ير". (¬10) في (ط): "الحج"، وفي (خ): "أنجح". (¬11) في (غ) و (ر): "عن". (¬12) زيادة من (غ) و (ر).

المسألة الثامنة

قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: أَكْثَرُ الْجَهَالَاتِ إِنَّمَا رَسَخَتْ فِي قُلُوبِ الْعَوَامِّ بِتَعَصُّبِ جَمَاعَةٍ مِنْ (جُهَّالِ) (¬1) أَهْلِ الْحَقِّ، أَظْهَرُوا الْحَقَّ فِي معرض التحدي (والإدلاء) (¬2) وَنَظَرُوا إِلَى ضُعَفَاءِ الْخُصُومِ بِعَيْنِ التَّحْقِيرِ وَالِازْدِرَاءِ، فَثَارَتْ/ مِنْ بَوَاطِنِهِمْ دَوَاعِي الْمُعَانَدَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَرَسَخَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الِاعْتِقَادَاتُ الْبَاطِلَةُ، وَتَعَذَّرَ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْمُتَلَطِّفِينَ مَحْوُهَا/ مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهَا، حَتَّى انْتَهَى التَّعَصُّبُ بِطَائِفَةٍ إِلَى أَنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي نَطَقُوا بِهَا فِي الْحَالِ بَعْدَ السُّكُوتِ عَنْهَا طُولَ الْعُمُرِ قَدِيمَةٌ، وَلَوْلَا اسْتِيلَاءُ الشَّيْطَانِ بِوَاسِطَةِ الْعِنَادِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْأَهْوَاءِ، لَمَا وُجِدَ مِثْلُ هذا الاعتقاد (مستقراً) (¬3) فِي قَلْبِ مَجْنُونٍ فَضْلًا عَنْ قَلْبِ عَاقِلٍ. هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ، فَالْوَاجِبُ تَسْكِينُ الثَّائِرَةِ مَا قدر على ذلك، والله أعلم. /الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ فَلَهُمْ خَوَاصُّ وَعَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: عَلَامَاتٌ إِجْمَالِيَّةٌ، وَعَلَامَاتٌ تَفْصِيلِيَّةٌ. فَأَمَّا العلامات/ الإجمالية فثلاثة (¬4): أحدها: الْفُرْقَةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬5)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬6)، رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الْجِدَالُ وَالْخُصُومَاتُ/ فِي الدِّينِ (¬7). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (¬8)، وفي ¬

(¬1) في (ط) و (خ): "جهل". (¬2) في (ط): "والإدلال". (¬3) في (ط) و (خ): "مستفزا". (¬4) انظر ما ذكره أيضاً في: الموافقات (4 104). (¬5) سورة آل عمران: الآية (105). (¬6) سورة المائدة: الآية (64). (¬7) تقدم تخريجه (2/). (¬8) سورة آل عمران: الآية (103).

الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ/ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعاً ولا تفرقوا ... (الْحَدِيثِ) (¬1) " (¬2). وَهَذَا التَّفْرِيقُ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ إِنَّمَا هُوَ الَّذِي يُصَيِّرُ الْفِرْقَةَ الْوَاحِدَةَ فِرَقًا وَالشِّيعَةَ (الْوَاحِدَةَ) (¬3) شِيَعًا. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: صَارُوا فِرَقًا لِاتِّبَاعِ أهوائهم، وبمفارقة الدين/ تشتتت أَهْوَاؤُهُمْ فَافْتَرَقُوا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} ـ ثُمَّ بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ ـ: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬4)، وَهُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَأَصْحَابُ الضَّلَالَاتِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ وَلَا رَسُولُهُ. قَالَ: وَوَجَدْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَلَمْ (يَتَفَرَّقُوا) (¬5) وَلَا صَارُوا شِيَعًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوا الدِّينَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا أُذِنَ لَهُمْ مِنِ (اجْتِهَادِ الرَّأْيِ) (¬6)، وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا لَمْ يَجِدُوا/ فِيهِ نَصًّا (وَاخْتَلَفَتْ) (¬7) فِي ذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ فَصَارُوا مَحْمُودِينَ، لِأَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِيمَا أُمِرُوا بِهِ كَاخْتِلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ فِي الْجَدِّ مَعَ الْأُمِّ/ وَقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَخِلَافِهِمْ فِي الْفَرِيضَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَخِلَافِهِمْ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ، وفي البيوع وغير ذلك، (مما) (¬8) اخْتَلَفُوا فِيهِ وَكَانُوا مَعَ هَذَا أَهْلَ مَوَدَّةٍ وتناصح، وأخوة الإسلام فيما بينهم ¬

(¬1) في (ط) و (خ): "وصدق الحديث". (¬2) أخرجه مسلم (1715)، ومالك في الموطأ (1796)، وأحمد (2 367)، والبخاري في الأدب المفرد (442)، وابن حبان (3388)، والبيهقي في السنن الكبرى (16433). (¬3) في (غ) و (ر): "المنفردة". (¬4) سورة الأنعام: الآية (159). (¬5) في (غ) و (ر): "يفترقوا". (¬6) في (ط) و (خ) و (ت): "اجتهاد إلى الرأي". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "واختلف". (¬8) في (ط): "فما".

قَائِمَةٌ، فَلَمَّا حَدَثَتِ الْأَهْوَاءُ الْمُرْدِيَةُ، الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَهَرَتِ الْعَدَاوَاتُ وَتَحَزَّبَ أَهْلُهَا فَصَارُوا شِيَعًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَى أَفْوَاهِ أَوْلِيَائِهِ. (قَالَ) (¬1): (كُلُّ) (¬2) مَسْأَلَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ (وَاخْتَلَفَ) (¬3) النَّاسُ فِيهَا وَلَمْ يُورِثْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةً وَلَا بَغْضَاءَ وَلَا فُرْقَةً، عَلِمْنَا أَنَّهَا مِنْ مَسَائِلِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ (حَدَثَتْ) (¬4) (وَطَرَأَتْ) (¬5) فَأَوْجَبَتِ الْعَدَاوَةَ (وَالْبَغْضَاءَ) (¬6) (وَالتَّدَابُرَ) (¬7) وَالْقَطِيعَةَ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ/ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّهَا الَّتِي عَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ/ وَسَلَّمَ: "يَا عَائِشَةُ، إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، مَنْ هُمْ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ من هذه الأمة" الحديث (وقد) (¬8) تَقَدَّمُ ذِكْرُهُ (¬9). قَالَ: فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ وَدِينٍ أَنْ يَجْتَنِبَهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (ت): "فقال". (¬2) في (غ) و (ر): "فكل". (¬3) في (م) و (غ) و (ر): "فاختلف". (¬4) ساقط من (غ) و (ر). (¬5) في (م) و (غ) و (ر): "طرأت". (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) في (غ) و (ر): "والتنافر". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الذي". (¬9) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم (4)، والطبراني في المعجم الصغير (560)، وأبو نعيم في الحلية (4 138)، والبيهقي في شعب الإيمان (7239 و7240)، كلهم من حديث عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة: (يا عائشة ... ) والحديث أعله أبو حاتم كما في العلل لابنه (2 77)، وأعله الدارقطني في العلل (2 163 برقم 191)، وضعفه الألباني في ظلال الجنة (4)، ونقل عن الهيثمي تضعيفه للحديث في المجمع (1 188)، وتضعيف ابن كثير للحديث في التفسير (2 196)، وروي بنحوه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مرفوعاً أخرجه ابن جرير في التفسير (14266)، وفيه عباد بن كثير وليث بن أبي سليم وكلاهما ضعيف، وأخرجه بنحوه الطبراني في الأوسط (668) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وقال: تفرد به معلل. اهـ. ومعلل هو ابن نفيل الحراني، ذكره ابن حبان في الثقات (9 201) والله أعلم.

تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (¬1)، فإذا اختلفوا (وتقاطعوا كان ذلك) (¬2) لِحَدَثٍ أَحْدَثُوهُ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى. //هَذَا مَا قَالَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو إِلَى الْأُلْفَةِ والتَّحاب وَالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ، فَكُلُّ رَأْيٍ أَدَّى إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَخَارِجٌ عَنِ الدِّينِ، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ الْمُتَكَلَّمُ (عَلَيْهِ) (¬3)، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ فِرْقَةٍ مِنَ الفرق (المُضَمَّنَة) (¬4) فِي الْحَدِيثِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْخَوَارِجِ الَّذِينَ أَخْبَرَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ" (¬5)،/ وَأَيُّ فُرْقَةٍ تُوَازِي هذه (إلا) (¬6) الْفُرْقَةَ الَّتِي بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ؟ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي سَائِرِ مَنْ عُرِفَ مِنَ الفرق أو (من) (¬7) ادُّعِيَ/ ذَلِكَ (فِيهِمْ) (¬8)، إِلَّا أَنَّ الْفِرْقَةَ (لَا) (¬9) تَعْتَبِرُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ، لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بالقوة والضعف. وحين ثبت أن مخالفة (بعض) (¬10) هذه الفرق (إنما هي في القواعد الكلية كانت الفرقة أقوى بخلاف ما إذا خولف) (¬11) (في) (¬12) الفروع الجزئية (دون الكلية) (¬13)، (فإن الفرقة لا بد) (¬14) (أضعف) (¬15) (فيجب) (¬16) النظر في هذا كله. ¬

(¬1) سورة آل عمران: الآية (103). (¬2) في (ط): "وتعاطوا" ذلك كان. وفي (خ): "وتعاطوا كان ذلك". (¬3) في (م): "عليها". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المتضمنة". (¬5) تقدم تخريجه (3/ 114). (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر). (¬8) في (غ) و (ر): "فيه". (¬9) ساقطة من (غ) و (ر). (¬10) ما بين القوسين زيادة من (ت) و (غ) و (ر). (¬11) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬12) في (ط): "من". (¬13) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬14) في (م): "فإن الفرقة فلا بد". وفي (ط) و (خ): "باب الفرقة فلا بد". وفي (ت): "فالفرقة بلا بد". (¬15) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ). (¬16) في (ط) و (خ): "يجب".

وَالْخَاصِّيَّةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} الْآيَةَ. فَبَيَّنَتِ الْآيَةُ أَنَّ أَهْلَ الزَّيْغِ يَتَّبِعُونَ مُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِ، وَجَعَلُوا مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَتَّبِعَ الْمُتَشَابِهَ لَا الْمُحْكَمَ. وَمَعْنَى الْمُتَشَابِهِ: مَا أُشْكِلَ معناه، ولم (يتبين) (¬1) مغزاه، كَانَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْحَقِيقِيِّ (¬2) ـ كَالْمُجْمَلِ مِنَ الْأَلْفَاظِ وما يظهر (منه) (¬3) التَّشْبِيهِ (¬4) ـ أَوْ مِنَ/ الْمُتَشَابِهِ الْإِضَافِيِّ ـ وَهُوَ (مَا يَحْتَاجُ) (¬5) فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ ـ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ ظَاهِرَ الْمَعْنَى لِبَادِي الرَّأْيِ/ كَاسْتِشْهَادِ الْخَوَارِجِ عَلَى إِبْطَالِ/ التَّحْكِيمِ بقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (¬6) فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ صَحِيحٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى الْبَيَانِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬7)، لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ (لِلَّهِ) (¬8) تَارَةً بِغَيْرِ تحكيم (وتارة بتحكيم) (¬9)، لِأَنَّهُ إِذَا أَمَرَنَا بِالتَّحْكِيمِ فَالْحُكْمُ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ. (فَإِنَّهُمْ حصروا (الحكم في قسمين) (¬10) وَتَرَكُوا قِسْمًا ثَالِثًا) (¬11) وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ (عَلَيْهِ) (¬12) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬13) الْآيَةَ فَهَذَا قِتَالٌ مِنْ غَيْرِ سَبْيٍ، لَكِنَّ ابن عباس رضي الله عنه (نبههم) (¬14) على وجه أظهر وهو (أن) (¬15) ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يبين". (¬2) انظر: ما ذكره الشاطبي عن المتشابه الحقيقي والإضافي في الموافقات (3 54 ـ 58). (¬3) في (ط): "من". (¬4) يظهر أن الشاطبي يرى أن نصوص الصفات من المتشابه وتقدم التعليق على هذه المسألة (3/ 118). (¬5) في (غ) و (ر): "مما احتاج". (¬6) سورة يوسف: الآية (40). (¬7) تقدم (3/ 118). (¬8) في (غ) و (ر): "إلا لله". (¬9) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ). وفي (غ) و (ر): و"تارة بالتحكيم". (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التحكيم في القسمين". (¬11) في (ت): "بياض بمقدار سطر". (¬12) زيادة من (خ) و (غ) و (ر). (¬13) سورة الحجرات: الآية (9). (¬14) في (ط): "نبهم". (¬15) ساقط من (م) و (خ) و (غ) و (ر).

السباء إذا حصل فلا بد من وقوع بعض (السهمان) (¬1) عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمُ السَّبَايَا فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا كَالسَّبَايَا، فَيُخَالِفُونَ الْقُرْآنَ الَّذِي ادَّعَوُا التَّمَسُّكَ بِهِ. وَكَذَلِكَ فِي مَحْوِ الِاسْمِ مِنْ إِمَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ،/ اقْتَضَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِثْبَاتٌ (لِإِمَارَةِ) (¬2) الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ نَفْيَ الِاسْمِ (مِنْهَا) (¬3) لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَمَّى. وَأَيْضًا فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَمَّى لَمْ يَقْتَضِ إِثْبَاتَ إِمَارَةٍ أُخْرَى. فَعَارَضَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَحْوِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم (اسم) (¬4) الرسالة من الصحيفة، (وهي مُعَارَضَةً) (¬5) لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا. وَلِذَلِكَ رَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، أَوْ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ. فَتَأَمَّلُوا وَجْهَ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَكَيْفَ/ أَدَّى (إِلَى) (¬6) الضَّلَالِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "فإذا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الذين سمى الله، فاحذروهم" (¬7). و/الخاصية الثَّالِثَةُ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي/ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (¬8)، (وَالزَّيْغُ) (¬9) هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (¬10) وَقَوْلُهُ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} (¬11). وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ مَا يَدُلُّ عَلَى هذه الخاصية ولا على التي قبلها ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في (غ) و (ر): "إمارة". (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) ساقط من (غ) و (ر). (¬5) في (ط) و (خ) و (ت): "وهي معارض". (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) تقدم تخريجه (1 72). (¬8) سورة آل عمران: الآية (7). (¬9) ساقط من (غ) و (ر). (¬10) سورة القصص: الآية (50). (¬11) سورة الجاثية: الآية (23).

إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةَ رَاجِعَةٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهَا إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى أَمْرٌ (بَاطِنِيٌّ) (¬1) فَلَا يَعْرِفُهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ إِذَا لَمْ يُغَالِطْ نَفْسَهُ، إِلَّا/ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ خَارِجِيٌّ. وَقَدْ مَرَّ أَنَّ أَصْلَ حُدُوثِ الْفِرَقِ إِنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ بِمَوَاقِعِ السُّنَّةِ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ بقوله: "اتخذ الناس رؤساء جهالاً" (¬2) فكل (واحد) (¬3) عَالِمٌ بِنَفْسِهِ هَلْ بَلَغَ فِي الْعِلْمِ مَبْلَغَ الْمُفْتِينَ أَمْ لَا؟ وَعَالِمٌ (إِذَا) (¬4) رَاجَعَ النَّظَرَ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ: هَلْ هُوَ قَائِلٌ بِعِلْمٍ وَاضِحٍ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ أَمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ؟ أَمْ هُوَ عَلَى شَكٍّ فِيهِ؟ وَالْعَالِمُ إِذَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الْعُلَمَاءُ فَهُوَ فِي الْحُكْمِ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ حَتَّى يَشْهَدَ فِيهِ غَيْرُهُ وَيَعْلَمَ (هُوَ) (¬5) مِنْ نَفْسِهِ مَا شَهِدَ لَهُ/ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ أَوْ عَلَى شَكٍّ، فَاخْتِيَارُ الْإِقْدَامِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْإِحْجَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى. إِذْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَهُ ولم يفعل، (وكان) (¬6) (حَقِّهِ) (¬7) أَنْ لَا يُقَدَّمَ إِلَّا أَنْ يُقَدِّمَهُ غيره، ولم يفعل (هذا) (¬8). (وقد) (¬9) قال العقلاء: إن رَأْيُ الْمُسْتَشَارِ أَنْفَعُ لِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الْهَوَى، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُسْتَشَرْ فَإِنَّهُ غَيْرُ بَرِيءٍ، ولا سيما في الدخول في المناصب العلية والرتب (الشريفة كمرتبة) (¬10) الْعِلْمِ. /فَهَذَا أُنْمُوذَجٌ (يُنَبِّهُ) (¬11) صَاحِبَ الْهَوَى فِي هَوَاهُ وَيَضْبِطُهُ إِلَى أَصْلٍ يَعْرِفُ بِهِ، هَلْ هو في تصدره (لفتيا) (¬12) النَّاسِ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى، أَمْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ؟ ¬

(¬1) في (م) و (غ) و (ر): "باطن". (¬2) تقدم تخريجه (1/ 117). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أحد". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) في (ط): "وكل". وفي (غ) و (ر): "أو كان". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من حقه". (¬8) ساقط من (غ) و (ر). (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) في (ط) و (خ) و (ت): "الشرعية كرتب". (¬11) في (م): "يتيه". (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إلى فتوى".

وَأَمَّا الْخَاصِّيَّةُ الثَّانِيَةُ (¬1) فَرَاجِعَةٌ (إِلَى) (¬2) الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ رَاجِعٌ إليهم، فهم يعرفونها ويعرفون أهلها (بمعرفتهم بها) (¬3) // فَهُمُ الْمَرْجُوعُ/ إِلَيْهِمْ فِي بَيَانِ مَنْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلْمُحْكَمِ فَيُقَلَّدُ فِي الدِّينِ، وَمَنْ هُوَ (متبع) (¬4) للمتشابه فلا يقلد أصلاً. ولكن له (علامات) (¬5) ظاهرة أيضاً نبه عليها الحديث وهو الَّذِي فُسِّرَتِ الْآيَةُ بِهِ، قَالَ فِيهِ: "فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ"، خرَّجه الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ (¬6). وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ (¬7). فَجَعَلَ مِنْ شَأْنِ الْمُتَّبِعِ لِلْمُتَشَابِهِ أَنَّهُ يُجَادِلُ فِيهِ وَيُقِيمُ النِّزَاعَ عَلَى (الْإِيمَانِ) (¬8)، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّائِغَ الْمُتَّبِعَ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الدَّلِيلِ لَا يَزَالُ فِي رَيْبٍ وَشَكٍّ، إِذِ الْمُتَشَابِهُ لَا يُعْطَى بَيَانًا شَافِيًا، وَلَا يَقِفُ مِنْهُ مُتَّبِعُهُ عَلَى حَقِيقَةٍ، فَاتِّبَاعُ الْهَوَى يُلْجِئُهُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِهِ، وَالنَّظَرُ فيه لا يتخلص له، فهو (في) (¬9) شَكٍّ أَبَدًا، وَبِذَلِكَ يُفَارِقُ الرَّاسِخَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ جِدَالَهُ إِنِ افْتُقِرَ إِلَيْهِ (فَهُوَ فِي مَوَاقِعِ) (¬10) / الْإِشْكَالِ الْعَارِضِ طَلَبًا لِإِزَالَتِهِ، فَسُرْعَانَ مَا يَزُولُ إِذَا بَيَّنَ لَهُ مَوْضِعَ النَّظَرِ. وَأَمَّا ذُو الزَّيْغِ فَإِنَّ هَوَاهُ لَا يُخَلِّيهِ إِلَى طَرْحِ الْمُتَشَابِهِ، فَلَا يَزَالُ فِي جِدَالٍ عَلَيْهِ وطلب لتأويله. ¬

(¬1) وهي اتباع المتشابهات ومرت (3/ 171). (¬2) في (غ) و (ر): "عند". (¬3) ساقط من (ط) و (خ) و (ت)، وفي (م): "بمعرفتهم". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المتبع". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "علامة". (¬6) هو القاضي: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي، قاضي بغداد تقدمت ترجمته. (¬7) انظر: الاعتصام ـ طبعة رشيد رضا ـ (1 54). (¬8) في (م): "الأحيان". و (غ) و (ر). (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "على". (¬10) في (غ) و (ر): "ففي مواضع".

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ نَصَارَى نَجْرَانَ (¬1)، وَقَصْدِهِمْ أَنْ يُنَاظِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى بن مريم عليهما السلام، وأنه (الإله) (¬2)، أَوْ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، مُسْتَدِلِّينَ بِأُمُورٍ مُتَشَابِهَاتٍ من قوله: (جعلنا) (¬3)، وَخَلَقْنَا، وَهَذَا/ كَلَامُ جَمَاعَةٍ، وَمِنْ أَنَّهُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ كَلَامُ طَائِفَةٍ أخرى (منهم) (¬4)، وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى أَصْلِهِ وَنَشْأَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَكَوْنِهِ كَسَائِرِ بَنِي آدَمَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَتَلْحَقُهُ الْآفَاتُ وَالْأَمْرَاضُ. وَالْخَبَرُ مَذْكُورٌ فِي السِّيَرِ (¬5). وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَتَوْا لِمُنَاظَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُجَادَلَتِهِ لَا (بقصد) (¬6) اتِّبَاعَ الْحَقِّ. وَالْجِدَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَنْقَطِعُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا بيَّن لَهُمُ/ الْحَقَّ (وَلَمْ) (¬7) يَرْجِعُوا (عَنْهُ) (¬8) دُعُوا إِلَى أَمْرٍ آخَرَ خَافُوا مِنْهُ الْهِلْكَةَ فَكَفُّوا عَنْهُ، وَهُوَ الْمُبَاهَلَةُ (¬9)، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} (¬10)، وَشَأْنُ هَذَا الْجِدَالِ أَنَّهُ شَاغِلٌ عَنْ ذِكْرِ الله وعن الصلاة، كالنرد، والشطرنج (ونحوهما) (¬11). وَقَدْ نُقِلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ (¬12) أَنَّهُ قال: جلس/ عمرو بن عبيد ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير (6 467 ـ 475). (¬2) في (ط) و (خ): "الله". (¬3) في (ط) و (خ) و (غ) و (ر): "فقلنا". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) انظر: طبقات ابن سعد (1 357)، وتهذيب السير لابن هشام (1 573). وتفسير ابن جرير (6 151). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يقصدوا". (¬7) في (غ) و (ر): "لم". (¬8) في (غ) و (ر): "حتى". (¬9) المباهلة: هي الملاعنة، وهي أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولون: لعنة الله على الظالم منا. انظر لسان العرب، مادة: بهل. (¬10) سورة آل عمران: الآية (61). (¬11) في (ط): "وغيرهما". (¬12) هو حماد بن زيد بن درهم الأزدي، تقدمت ترجمته.

وشبيب بن شيبة (¬1) ليلة (يتخاصمان) (¬2) إلى طلوع الفجر، قال: (فما صلُّوا وجعل عَمْرٌو) (¬3) يَقُولُ: هِيهِ أَبَا مَعْمَرٍ، هِيهِ أَبَا مَعْمَرٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ أَحَدًا شَأْنُهُ أَبَدًا الْجِدَالُ فِي الْمَسَائِلِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ وَلَا يَرْعَوِي، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ زَائِغُ الْقَلْبِ مُتَّبِعٌ لِلْمُتَشَابِهِ فَاحْذَرُوهُ. /وَأَمَّا (الخاصية الأولى) (¬4) فَعَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ مِنْ (أَهْلِ) (¬5) الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ التَّوَاصُلَ وَالتَّقَاطُعَ/ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَبِمَعْرِفَتِهِ يُعْرَفُ أَهْلُهُ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ (حَدِيثُ) (¬6) الْفِرَقِ، إِذْ أَشَارَ إِلَى الِافْتِرَاقِ شِيَعًا (بِقَوْلِهِ) (¬7): "وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى كَذَا"، وَلَكِنَّ هَذَا الِافْتِرَاقَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بَعْدَ (الْمُلَابَسَةِ) (¬8) / وَالْمُدَاخَلَةِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَلَهُ (علامات) (¬9) تتضمن الدلالة/ على (التفرق) (¬10) (أول) (¬11) مُفَاتَحَةُ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ إِلْقَاءُ الْمُخَالِفِ لِمَنْ لَقِيَهُ ذم (سلفه) (¬12) المتقدمين (الذين) (¬13) اشْتَهَرَ عِلْمُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ وَاقْتِدَاءُ الْخَلَفِ بِهِمْ، (وَيَخْتَصُّ) (¬14) بِالْمَدْحِ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ شَاذٍّ مُخَالِفٍ لَهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْعَلَامَةِ فِي الِاعْتِبَارِ تَكْفِيرُ الْخَوَارِجِ ـ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ـ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ ذَمُّوا مَنْ مدَحه اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى مَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَمَدَحُوا مَنِ اتفق السلف الصالح على ¬

(¬1) هو: شبيب بن شيبة أبو معمر المنقري البصري، قال عنه ابن معين: لم يكن بثقة. وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. انظر: تاريخ بغداد (9 274). (¬2) في (غ) و (ر): "يتخاصمون". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فلما صلوا جعل عمرو". وفي تاريخ بغداد (9 277) (12 174): "فما صلوا ليلتئذ ركعتين. قال: وجعلوا عمرو". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ما يرجع للأول". (¬5) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): "الحديث". (¬7) في (م) و (غ) و (ر): "لقوله". (¬8) في (م): "الملامسة". (¬9) في (غ) و (ر): "علامة". (¬10) في (ت): "المفارقة". (¬11) في (ط) و (خ): "أولا". (¬12) زيادة من (غ) و (ر). (¬13) في (ط): "ممن". (¬14) في (م) و (غ) و (ر): "ويختصون".

ذَمِّهِ (كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ) (¬1) بْنِ مُلْجِمٍ قَاتِلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وصوَّبوا قَتْلَهُ إِيَّاهُ، وَقَالُوا: إِنَّ/ فِي (شَأْنِهِ) (¬2) نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} (¬3)، وَأَمَّا الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬4)، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَذَبُوا ـ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ـ، وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ فِي مَدْحِهِ لِابْنِ مُلْجِمٍ: يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانًا إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ ... أَوْفَى الْبَرِّيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانًا (¬5) وَكَذَبَ ـ (لَعَنَهُ اللَّهُ) (¬6) ـ (فَإِذَا) (¬7) رَأَيْتَ مَنْ يَجْرِي عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، فَهُوَ مِنَ الْفِرَقِ الْمُخَالَفَةِ، وَبِاللَّهِ التوفيق. / وروي عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ (¬8)، قَالَ: حَدَّثَنِي الْيَسَعَ (¬9)، قَالَ: تَكَلَّمَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ (¬10) يَوْمًا ـ يَعْنِي الْمُعْتَزِلِيَّ ـ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: أَلَا تَسْمَعُونَ؟ مَا كَلَامُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ ـ عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ ـ/ إِلَّا خِرْقَةُ حَيْضٍ ملقاة (¬11). روي أَنَّ زَعِيمًا مِنْ زُعَمَاءِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ كَانَ يُرِيدُ تَفْضِيلَ الْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ، فَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ عِلْمَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، جُمْلَتُهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ سَرَاوِيلِ امْرَأَةٍ. هَذَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ الزَّائِغِينَ، قَاتَلَهُمُ اللَّهُ. وَ (أَمَّا) (¬12) الْعَلَامَةُ التَّفْصِيلِيَّةُ فِي كُلِّ فِرْقَةٍ (فَقَدْ) (¬13) نبِّه عَلَيْهَا وَأُشِيرَ ¬

(¬1) في (م): "وكعبد الله". (¬2) في (غ) و (ر): "قتله". (¬3) سورة البقرة: الآية (207). (¬4) سورة البقرة: الآية (204). (¬5) انظر: أخبار الخوارج من الكامل للمبرد (ص9). (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) ساقط من (م) و (خ) و (ت). (¬8) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بابن علية، تقدمت ترجمته. (¬9) لم أعرف من هو؟. (¬10) هو واصل بن عطاء الغزال رأس المعتزلة، تقدمت ترجمته. (¬11) انظر: الكامل لابن عدي (5/ 103). (¬12) زيادة من (غ) و (ر). (¬13) في (ت): "قد".

المسألة التاسعة

إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، (وَفِي) (¬1) ظَنِّي أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَجَدَهَا منبَّهاً عَلَيْهَا وَمُشَارًا إِلَيْهَا، وَلَوْلَا أَنَّا فهمنا من الشرع الستر (عليها) (¬2) لكان (للكلام) (¬3) فِي تَعْيِينِهَا مَجَالٌ مُتَّسِعٌ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ كُنَّا هَمَمْنَا بِذَلِكَ فِي مَاضِي الزَّمَانِ، فَغَلَبَنَا عَلَيْهِ مَا (دَلَّنَا) (¬4) عَلَى أَنَّ الأَوْلى خِلَافُ/ ذَلِكَ (¬5). فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي تعرَّضنا لِشَرْحِهِ لَمْ يعيِّن فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ وَاحِدَةً/ مِنْهَا، لِهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ ـ وَاللَّهُ أعلم ـ وإنما نبه عليها فِي الْجُمْلَةِ لِتُحْذَرَ مَظَانُّهَا، وعيَّن فِي الْحَدِيثِ المحتاج (إليها) (¬6) / مِنْهَا وَهِيَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ ليتحرَّاها الْمُكَلَّفُ، وَسَكَتَ عَنْ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، لِأَنَّ ذِكْرَهَا فِي الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْأُمَّةَ الْخَوْفَ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا، وَذَكَرَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِرْقَةً مِنِ الْفِرَقِ الْهَالِكَةِ لِأَنَّهَا ـ كَمَا قَالَ ـ أَشَدُّ (الْفِرَقِ) (¬7) فتنة عَلَى الْأُمَّةِ، وَبَيَانُ كَوْنِهَا أَشَدَّ فِتْنَةً مِنْ غيرها سيأتي (بيانه) (¬8) آخراً إن شاء الله تعالى. /الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إِنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ افْتِرَاقَ الْيَهُودِ كَافْتِرَاقِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى وسبعين (فرقة) (¬9)، وَهِيَ (فِي) (¬10) رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَلَى الشَّكِّ، إحدى وسبعين، أو (اثنتين) (¬11) وسبعين (¬12). ¬

(¬1) في (ط) و (خ): "في". (¬2) في (غ) و (ر): "فيها". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "في الكلام". (¬4) في (غ) و (ر): "دلت". (¬5) وقد ذكر بعضاً من العلامات التفصيلية في الموافقات (4 107). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إليه". (¬7) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) في (م): "اثنين". وفي (غ) و (ر) وسنن أبي داود (4569): "ثنتين". (¬12) تقدم تخريجه (3/ 122).

وَأُثْبِتَ فِي التِّرْمِذِيِّ فِي الرِّوَايَةِ الْغَرِيبَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ افْتِرَاقَ النَّصَارَى، وَذَلِكَ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ لِأَجْلِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَجْرَى فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَطْ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حذوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تفرقت على ثنتين وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي ... " الْحَدِيثَ (¬1). /وَفِي أَبِي دَاوُدَ، (الْيَهُودُ) (¬2) وَالنَّصَارَى مَعًا إِثْبَاتُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ/ (جزماً) (¬3) من غير شك (¬4) (كما أثبتت الرواية الصحيحة في الترمذي الإحدى وَالسَّبْعِينَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ) (¬5). وخرَّج الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إحدى وسبعين (ملة) (¬6)، (وأن افتراق) (¬7) هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً (¬8). فَإِنْ بَنِينَا عَلَى إِثْبَاتِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَلَا إِشْكَالَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْإِحْدَى وَالسَّبْعِينَ تَزِيدُ هَذِهِ الْأُمَّةَ فِرْقَتَيْنِ، وعلى رواية الثنتين وَالسَّبْعِينَ تَزِيدُ فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَثَبَتَ فِي بَعْضِ كُتُبِ/ الْكَلَامِ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْيَهُودَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ، وَأَنَّ النَّصَارَى افْتَرَقَتْ على ثنتين وَسَبْعِيْنَ فِرْقَةً، وَوَافَقَتْ سَائِرَ الرِّوَايَاتِ فِي افْتِرَاقِ (الأمة) (¬9) على ثلاث وسبعين فرقة/ ولم ¬

(¬1) تقدم تخريجه (3/ 122). (¬2) في (غ) و (ر): "لليهود". (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) تقدم تخريجه (3/ 122). (¬5) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) في (م) و (ت): "وافتراق". وفي (ط) و (خ): "وافترقت". (¬8) لم أقف عليه عند الطبري، وأخرجه نحوه أبو يعلى في المسند (7 155)، برقم (4127)، وفيه: يزيد بن أبان الرقاشي، ضعيف كما في التقريب (7683)، وبنحوه أخرجه أبو نعيم في الحلية (3 52)، وفيه أيضاً: يزيد الرقاشي، ويحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلُتّي الحراني، ضعيف، كما في التقريب (7585). (¬9) في (ط): "هذه الأمة".

المسألة العاشرة

أرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هَكَذَا فِيْمَا رَأَيْتُهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيْثِ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي جَامِعِ ابن وهب من حديث علي رضي الله عَنْهُ، وَسَيَأْتِي. وَإِنْ بَنَيْنَا عَلَى إِعْمَالِ الرِّوَايَاتِ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْإِحْدَى وَالسَّبْعِينَ (وَقْتَ) (¬1) أُعْلِمَ بِذَلِكَ ثُمُّ أُعلم (بِزِيَادَةِ) (¬2) فِرْقَةٍ، (إِمَّا) (¬3) أَنَّهَا كَانَتْ فِيهِمْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم في وقت (ثم أعلم بها فِي وَقْتٍ) (¬4) آخَرَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُوْنَ جُمْلَةُ الْفِرَقِ فِي الملَّتين ذَلِكَ الْمِقْدَارَ فَأُخْبِرَ/ بِهِ، ثُمَّ حَدَثَتِ الثَّانِيَةُ (وَالسَّبْعُونَ) (¬5) فِيهِمَا فَأُخْبِرَ (بِذَلِكَ) (¬6) صلّى الله عليه وسلّم، (وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ التَّعْرِيفِ بِهَا أَوِ الْحُدُوثِ) (¬7) وَاللَّهُ (أَعْلَمُ) (¬8) بِحَقِيقَةِ الأمر. المسألة العاشرة: (هذه) (¬9) الأمة ظهر (فيها) (¬10) فرقة زائدة على الفرق (الأخرى) (¬11) (لليهود) (¬12) وَالنَّصَارَى، فَالثِّنْتَانِ (وَالسَّبْعُونَ) (¬13) مِنَ الْهَالِكِينَ المتوعَّدين بِالنَّارِ، والواحدة في الجنة، فإذاً (قد) (¬14) انقسمت هذه الأمة بحسب هذا الافتراق (إلى) (¬15) قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ فِي النَّارِ وَقِسْمٌ فِي الْجَنَّةِ، وَلَمْ (يُبَيَّنْ) (¬16) ذَلِكَ فِي فِرَقِ الْيَهُودِ وَلَا فِي فِرَقِ النَّصَارَى، إِذْ لَمْ يُبَيِّنِ الْحَدِيثُ (إلا تقسيم ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "في وقت". (¬2) في (م): "بالزيادة". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إما". (¬4) ما بين () زياد من (غ) و (ر). (¬5) في (ط) و (خ) و (ت): "السبعين". (¬6) في (ط): "ذلك". (¬7) ما بين () ساقط من (غ) و (ر). (¬8) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر). (¬9) في (م): "المسألة هذه". وفي (غ) و (ر): "إن هذه". (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أن فيها". (¬11) في (غ) و (ر): "الأخر". (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "اليهود". (¬13) في (م): "والسبعين". (¬14) زيادة من (غ) و (ر). (¬15) زيادة من (غ) و (ر). (¬16) في (غ) و (ر): "يتبين".

هذه الْأُمَّةِ) (¬1) (فَيَبْقَى) (¬2) النَّظَرُ: هَلْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ أَمْ لَا؟ وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ (نظر ثان) (¬3): هَلْ زَادَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِرْقَةً هَالِكَةً أَمْ لَا؟ وَهَذَا النَّظَرُ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْبَنِي عليه (فقه) (¬4) (وَلَكِنَّهُ) (¬5) مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْحَدِيثِ. فَظَاهِرُ النَّقْلِ فِي (مَوَاضِعَ مِنَ/ الشَّرِيعَةِ) (¬6) أَنَّ كُلَّ طائفة/ من اليهود والنصارى لا بد أَنْ (يُوجَدَ) (¬7) فِيهَا مَنْ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَعَمِلَ (بِسُنَّتِهِ) (¬8)، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬9)، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يفسق، وقال تعالى (في النصارى) (¬10): {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬11)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ *} (¬12)، وقال تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} (¬13) وَهَذَا كَالنَّصِّ. / (وَفِي) (¬14) الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ" (¬15)، فَهَذَا يدل ¬

(¬1) في (ت): "أن لا تقسيم لهذين الأمتين". وفي (ط) و (م) و (خ): "أن لا تقسيم لهذه الأمة". (¬2) في (ت): "فينبغي". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نظران". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في (ط): "لكنه". (¬6) في (ت): "مواطن من مواضع من الشريعة". (¬7) في (م) و (غ) و (ر): "وجد". (¬8) في (غ) و (ر): "به". (¬9) سورة الحديد: الآية (16). (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) سورة الحديد: الآية (27). (¬12) سورة الأعراف: الآية (159). (¬13) سورة المائدة: الآية (66). (¬14) في (م): "في". (¬15) أخرجه البخاري في الصحيح (3446، 3011، 2551، 2547، 2544، 508397)، وفي الأدب المفرد (203)، ومسلم (154 و1666)، وأبو داود الطيالسي في المسند (502)، والحميدي في المسند (768)، وأحمد في المسند (4 395 و414)، والدارمي (2244)، وابن ماجه (1956)، وأبو داود (2053)، والترمذي (1116)، والنسائي (3344)، وأبي يعلى (7256)، وابن حبان (227 و4053)، والطبراني في الصغير (113) وفي الأوسط (1889)، والبيهقي في السنن الكبرى (13516 و1517).

(بِإِشَارَتِهِ) (¬1) عَلَى الْعَمَلِ بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُ. /وخرَّج (عبد بن حميد) (¬2) عن ابن مسعود قَالَ: قَالَ (لِي) (¬3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قلت: لبيك رسول الله، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: لبيك يا رسول الله، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: لبيك يا رَسُولَ اللَّهِ) (¬4)، قَالَ: أَتَدْرِي أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟ ـ قَالَ ـ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: الْوِلَايَةُ فِي اللَّهِ وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ (في الله) (¬5) ـ ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ ـ قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ قَالَ: أَتَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ أَفْضَلُهُمْ عَمَلًا إِذَا فقِهوا فِي دِينِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ قَالَ: هَلْ تَدْرِي أي الناس أعلم؟ قلت: الله ورسوله/ أعلم، قَالَ: أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ (لِلْحَقِّ) (¬6) إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كان يزحف على استه، وَاخْتَلَفَ مَنْ (كَانَ) (¬7) قَبْلَنَا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً نَجَا (مِنْهُمْ) (¬8) ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا، فِرْقَةٌ (أزَّت) (¬9) الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ (اللَّهِ وَدِينِ) (¬10) عيسى بن مريم حتى قتلوا، وفرقة لم يكن لها طاقة/ (بمؤازاة) (¬11) الْمُلُوكِ، فَأَقَامُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ إِلَى دين الله ودين ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بإشارة". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عبد الله بن عمر". (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيه". (¬6) في (غ) و (ر): "بالحق". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في (غ) و (ر): منها. (¬9) في (ط): "آذت" وهو خطأ، والصواب كما في بقية النسخ وروايات الحديث "أَزَّت" يعني بمقاومة، أصلها من أزز. انظر لسان العرب مادة: "أزا". (¬10) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر). (¬11) في (ط): "بمؤاذاة" والصواب كما في بقية النسخ وروايات الحديث: "بمؤازاة" أي: بمقاومة. انظر لسان العرب مادة: "أزا".

عيسى/ (بن مَرْيَمَ) (¬1) فَأَخَذَتْهُمُ الْمُلُوكُ (فَقَتَلَتْهُمْ) (¬2) وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَفِرْقَةٌ لم يكن لها طَاقَةٌ (بِمُؤَازَاةِ) (¬3) الْمُلُوكِ وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عيسى بن مريم، فساحوا في الجبال (وترهَّبوا) (¬4) فِيهَا، (فَهُمُ) (¬5) الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (فِيهِمْ) (¬6): {وَرَهْبَانِيَّةً/ ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬7)، فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِي وصدَّقوا بِي، وَالْفَاسِقُونَ الذين كذَّبوا بي وجحدوا بي) (¬8). فأخبر (في هذا الخبر) (¬9) أَنْ فِرَقًا ثَلَاثًا نَجَتْ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ الْمَعْدُودَةِ وَالْبَاقِيَةُ هَلَكَتْ. وخرَّج ابْنُ وَهْبٍ مِنْ حديث علي بن أبي طالب رضي الله عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا رَأْسَ (الْجَالُوتِ) (¬10) وَأَسْقُفَ/ النَّصَارَى فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمَا عَنْ أَمْرٍ وَأَنَا أَعْلَمُ به منكما فلا (تكتماني) (¬11)، يا رأس الجالوت، أَنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَأَطْعَمَكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَضَرَبَ لَكُمْ فِي الْبَحْرِ طَرِيقًا يَبَسًا، وَجَعَلَ لَكُمُ الْحَجَرَ الطُّورِيَّ يَخْرُجُ لكم منه (اثنتا) (¬12) عَشْرَةَ عَيْنًا لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَيْنٌ، إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَلَى كَمِ (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ) (¬13) مِنْ فِرْقَةٍ/ بَعْدَ مُوسَى؟ فَقَالَ لَهُ: ولا فرقة واحدة، فقال له علي (ثلاث مرات) (¬14): كَذَبْتَ وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَقَدِ افترقت على إحدى وسبعين ¬

(¬1) ساقط من (غ) و (ر). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في (ط): "بمؤاذاة". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ): "وهربوا". (¬5) في (غ) و (ر): "هم". (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) سورة الحديد: الآية (27). (¬8) تقدم تخريجه (1 317). (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) في (م): "الجلوت". ورأس الجالوت لقب يطلق على ملك اليهود، وكان يُسمى من قبل بالقطنون. فتح الباري (10 593). (¬11) في (ط) و (خ): "تكتما". وفي (م): "تكتموني". (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "اثنتي". (¬13) ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (غ) و (ر): "افترقت بنو إسرائيل". (¬14) زيادة من (غ) و (ر).

فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا (فِرْقَةً وَاحِدَةً) (¬1). ثُمَّ دَعَا الْأَسْقُفَ (¬2) فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَجَعَلَ عَلَى رِجْلِهِ الْبَرَكَةَ، وَأَرَاكُمُ الْعِبْرَةَ، فَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ (وَالْأَبْرَصَ) (¬3) وَأَحْيَا (الْمَوْتَى) (¬4)، وَصَنَعَ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ طُيُورًا، وَأَنْبَأَكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تدَّخرون فِي بُيُوتِكُمْ، فَقَالَ: دُونَ هَذَا (الصِّدْقُ) (¬5) يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ له علي رضي الله عنه: (على) (¬6) كم افترقت (النصارى) (¬7) بعد عيسى بن مَرْيَمَ مِنْ فِرْقَةٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ وَلَا فِرْقَةً، فَقَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: كَذَبْتَ،/ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَقَدِ افْتَرَقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا (فرقة) (¬8) واحدة، (ثم قال) (¬9): (أَمَّا) (¬10) أَنْتَ يَا يَهُودِيُّ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ *} (¬11) فهي التي تنجو، (وأما أنت يا نصراني، فيقول: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} (¬12) الآية، فهذه التي تنجو) (¬13)، وأما نحن فيقول الله: {وَمِمَنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ *} (¬14). ¬

(¬1) في (ت) و (م): "فرقة". (¬2) المراتب الدينية عند النصارى هي: البطرك (وهو البابا) والأسقف، والقسيس والراهب. أما البطرك: فهو رئيس الملة عندهم، وخليفة المسيح فيهم، وكان الأساقفة يدعون البطرك بالأب تعظيماً له، فصار الأقِسَّة يدعون الأسقف فيما غاب عن البطرك بالأب أيضاً تعظيماً له، فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة، فأرادوا أن يميزوا البطرك من الأسقف في التعظيم، فدعوه البابا، ومعناه أبو الآباء. وأما الأسقف: فهو نائب البطرك حيث يبعث البطرك الأسقف إلى ما بعد عن البطرك من أمم النصرانية. والقسيس: هو الإمام الذي يقيم الصلوات فيهم، ويفتيهم في الدين. والراهب: هو المنقطع في الخلوة للعبادة، وأكثر خلواتهم في الصوامع. انظر: مقدمة ابن خلدون (1 289). (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (غ) و (ر): "الميتة". (¬5) في (ر): "أصدق". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) في (غ) و (ر): "النصرانية". (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (ط): "فقال". في (م) و (خ): "قال". وهي ساقطة من (غ) و (ر). (¬10) في (غ) و (ر): "فأما". (¬11) سورة الأعراف: الآية (159). (¬12) سورة المائدة: الآية (120). (¬13) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬14) سورة الأعراف: الآية (181).

فَهَذِهِ الَّتِي تَنْجُو مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ (¬1). فَفِي هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ. وَخَرَجَّهُ الْآجُرِّيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ بِمَعْنَى حَدِيثِ (عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ) (¬2) عَنْهُ: إِنَّ وَاحِدَةً مِنْ فِرَقِ الْيَهُودِ وَمِنْ فِرَقِ النَّصَارَى فِي الْجَنَّةِ (¬3). وخرَّج سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ/ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ/ الْأَمَدُ (فَقَسَتْ) (¬4) قُلُوبُهُمُ اخْتَرَعُوا كِتَابًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمُ اسْتَهْوَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَحَلَّتْهُ أَلْسِنَتُهُمْ، وَكَانَ الْحَقُّ يَحُولُ (بينهم و) (¬5) بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ، حَتَّى نَبَذُوا/ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَقَالُوا: اعْرِضُوا هَذَا الْكِتَابَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنْ تابعوكم فاتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم، (ثم) (¬6) قَالُوا: لَا، بَلْ أَرْسِلُوا إِلَى فُلَانٍ ـ رَجُلٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ ـ فَاعْرِضُوا عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابَ، فَإِنْ (تَابَعَكُمْ) (¬7) فَلَنْ يُخَالِفَكُمْ أَحَدٌ بَعْدَهُ، وَإِنْ خَالَفَكُمْ فَاقْتُلُوهُ فَلَنْ يَخْتَلِفَ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَحَدٌ، فَأَرْسَلُوا إليه (فأخذ) (¬8) ورقة فكتب فيها (كتاب الله) (¬9) ثم/ جعلها في قرن، ثُمَّ عَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ لَبِسَ عَلَيْهَا الثِّيَابَ، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَقَالُوا: أتؤمن بهذا؟ (قال) (¬10) فَأَوْمَأَ إِلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: آمَنْتُ بِهَذَا، وَمَا لي لا أؤمن بِهَذَا؟ ـ يَعْنِي الْكِتَابَ الَّذِي فِي (الْقَرْنِ) (¬11) ـ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، وَكَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَغْشَونه، فَلَمَّا مَاتَ نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا (فيه) (¬12) الْكِتَابَ، فَقَالُوا:/ أَلَا تَرَوْنَ قَوْلَهُ: آمَنْتُ بِهَذَا، وما لي لا أؤمن بهذا؟ وإنما عنى ¬

(¬1) أخرجه ابن نصر في السنة برقم (60) من طريق ابن وهب. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬3) أخرجه الآجري في الشريعة (25)، وبنحوه في مسند أحمد (3 135)، ويشهد لمعناه حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه (3992)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه. (¬4) في (غ) و (ر): "قست". (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) في (م): "بايعكم". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فأخذوا". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الكتاب". (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) في (غ) و (ر): "القرآن". (¬12) زيادة من (غ) و (ر).

المسألة الحادية (عشرة)

(هذا) (¬1) الكتاب (فاختلفت) (¬2) بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَخَيْرُ مِلَلِهِمْ أَصْحَابُ ذَلِكَ الْقَرْنِ ـ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ـ: (وإن من/ بقي منكم سيرى منكراً، (وبحسب أمرئ، يَرَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، إِنْ يعلم الله من قلبه أنه له كاره) (¬3). فهذا الخبر أيضاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ (فِي) (¬4) بَنِي إِسْرَائِيلَ فِرْقَةً كَانَتْ عَلَى الْحَقِّ الصَّرِيحِ فِي زَمَانِهِمْ، لَكِنْ لَا (أَضْمَنُ) (¬5) عُهْدَةَ صِحَّتِهِ وَلَا صِحَّةَ مَا قَبْلَهُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَرِقَّةٌ نَاجِيَةٌ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ في هذه (الأمة) (¬6) فرقة (هالكة) (¬7) زائدة (بناءً) (¬8) عَلَى رِوَايَةِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، أَوْ فِرْقَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ الْإِحْدَى وَالسَّبْعِينَ، فَيَكُونُ لَهَا نَوْعٌ مِنَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ،/ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ أَثْبَتَ أَنَّ هذه الأمة (تبعت) (¬9) مَنْ قَبْلَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي أَعْيَانِ مخالفتها، فثبت أنها تبعتها في أمثال (بدعها) (¬10)، وهذه هي: الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ (عَشْرَةَ) (¬11): فَإِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَالَ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فاختلف". (¬3) هكذا في (ط) و (م) و (خ)، (بِحَسَبِ أَمْرِهِ، يَرَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ خَيْرًا كاره) والتصحيح من (غ) و (ر) ومن ابن جرير، وما بين القوسين () بياض في (ت) بمقدار سطر، والأثر أخرجه ـ مختصراً ـ ابن جرير في تفسير سورة الحديد: الآية (16)، وابن أبي حاتم في تفسيره (10 3339) برقم (18829)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 95). (¬4) ساقط من (م). وفي (ت) و (غ) و (ر): "من". (¬5) في (م) و (غ) و (ر): "أتضمن". (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) في (خ) و (ط) و (ت): "ناجية". (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (ط): "تبعث". (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بدعتها". (¬11) في (ت) و (خ) و (م): "عشر".

وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ (ضب) (¬1) / لاتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟) (¬2)، زِيَادَةٌ إِلَى حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الْغَرِيبِ، فَدَلَّ ضَرْبُ الْمِثَالِ فِي التَّعْيِينِ عَلَى أَنَّ الِاتِّبَاعَ فِي أَعْيَانِ أَفْعَالِهِمْ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللِّيثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبل خَيْبَرَ (¬3) وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ، وَلِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ حَوْلَهَا وَيَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ (هَذَا) (¬4) كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلهة، (قال: إنكم قوم تجهلون) (¬5) لتركبن سنن من كان قبلكم ... " (¬6). ¬

(¬1) في (م): "ضب خرب". وهي ليست في الصحيحين. (¬2) أخرجه البخاري (7320، 3456)، ومسلم (2669)، وأبو داود الطيالسي (2178)، وأحمد في المسند (2 325 و327 و336 و450 و511 و527) و (3 84 و89 و94) و (5 340)، وابن ماجه (3994)، والحارث بن أبي أسامة ـ بغية الباحث ـ (754)، وأبو يعلى (6292)، وابن حبان (6703)، والطبراني في المعجم الكبير (5943 و6017) و (17 13 برقم3)، وفي مسند الشاميين (987)، والحاكم (106 و445 و8404). (¬3) هكذا في جميع النسخ، وهكذا وقعت الرواية في سنن الترمذي (4/ 412) برقم (2180) التي حققها كمال يوسف الحوت، إكمالاً لتحقيق أحمد شاكر، وهكذا وقعت الرواية في مسند أبي يعلى (3/ 30) برقم (1441)، ومعجم الصحابة لابن قانع (1/ 172) برقم (185). وجاءت بلفظ: "حنين" وهو الصواب، أخرجها بهذا اللفظ كل من أخرج الحديث سوى من ذكر قبل، إلا ابن حبان، فروى الحديث في صحيحه (15/ 94) بلفظ: "هوازن" وهو معنى رواية "حنين"، ويظهر أن الشاطبي رحمه الله نقل الحديث من بعض نسخ الترمذي، لأن في نسخة الترمذي برواية الكَرُوخي (143ل) بلفظ: "حنين" ولا يبعد التصحيف بين "حنين" و"خيبر" لما بينهما من المشابهة في الرسم. (¬4) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) الحديث ليس في أحد الصحيحين، ولعل المؤلف يقصد صحيح ابن حبان أو الترمذي، والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي (1346)، والحميدي في المسند (848)، وأحمد في المسند (2185)، وابن أبي عاصم في السنة (76)، وحسنه الألباني، والترمذي (2180) وأبو يعلى (1441)، وابن حبان (6702)، والطبراني في الكبير (3291 و3294) وغيرهم.

وَصَارَ حَدِيثُ الْفِرَقِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ صَادِقًا عَلَى أَمْثَالِ الْبِدَعِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ/ تَبْتَدِعُ فِي دِينِ (اللَّهِ) (¬1) مِثْلَ تِلْكَ الْبِدَعِ وَتَزِيدُ عَلَيْهَا بِبِدْعَةٍ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا (فيها) (¬2) وَاحِدَةٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ الزَّائِدَةَ (إِنَّمَا تُعْرَفُ بَعْدَ) (¬3) مَعْرِفَةِ الْبِدَعِ الْأُخَرِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ/ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ، أَوْ لَا يسوغ التعريف به وإن عرف، (فلذلك) (¬4) لَا تَتَعَيَّنُ الْبِدْعَةُ الزَّائِدَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي (الْحَدِيثِ) (¬5) أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِمَا أَخَذَ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمَا فَعَلَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: "وَهَلِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ" (¬6)، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرْبُ مَثَلٍ، فَقَوْلُهُ: "حَتَّى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها"، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَأْخُذُ بِمِثْلِ مَا أَخَذُوا/ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ أَعْيَانُ بِدَعِهِمْ، بَلْ قَدْ تَتَّبِعُهَا فِي أعيانها (وقد تتبعها) (¬7) فِي أَشْبَاهِهَا، فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ" الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: "حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضب (خرب) (¬8) لاتبعتموهم". ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "الإسلام". (¬2) في (م) و (غ) و (ر). (¬3) في (ت): "لا تعرف إلا بعد". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فكذلك". (¬5) في (غ) و (ر): "الصحيح". (¬6) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد في المسند (2 325، 327، 336، 367، 511)، وابن أبي عاصم في السنة (1 36)، ونعيم بن حماد في الفتن (2 711)، وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (3 533). وأخرجه من حديث أبي سعيد الخدري البخاري في الصحيح (7319)، ومسلم (2669)، وأحمد (3 84، 89، 94)، وابن أبي عاصم في السنة (1 37)، وابن حبان في الصحيح (6703) وللحديث روايات متقاربة من حديث ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وسهل بن سعد وشداد بن أوس. (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وتتبعها". (¬8) ساقطة من (غ) و (ر).

المسألة الثانية عشرة

وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: "هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا" الْحَدِيثَ، فَإِنَّ اتِّخَاذَ ذَاتِ أَنْوَاطٍ يُشْبِهُ اتِّخَاذَ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَا أَنَّهُ هو (بعينه) (¬1) فلذلك/ لا يلزم (في) (¬2) الاعتبار (بالمنصوص) (¬3) عليه (أن يكون) (¬4) مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ/ مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وجه، والله أعلم. المسألة الثانية عشرة (¬5): أنه صلّى الله عليه وسلّم أَخْبَرَ أَنَّهَا كُلَّهَا فِي النَّارِ، وَهَذَا وَعِيدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْفِرَقَ قَدِ ارْتَكَبَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَعْصِيَةً كَبِيرَةً أَوْ ذَنْبًا عَظِيمًا، إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ ما يتوعد (الشرع) (¬6) عليه (لخصوصه) (¬7) (فهو) (¬8) كَبِيرَةٌ، إِذْ لَمْ يَقُلْ: كُلُّهَا فِي النَّارِ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ (الَّذِي) (¬9) افْتَرَقَتْ بِسَبَبِهِ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَعَنْ (جَمَاعَتِهِ) (¬10) وَلَيْسَ ذَلِكَ إلا البدعة الْمُفَرِّقَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ هَلْ هُوَ أَبَدِيٌّ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ غَيْرُ أَبَدِيٍّ: هَلْ هُوَ نَافِذٌ أَمْ فِي الْمَشِيئَةِ. أَمَّا الْمَطْلَبُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَنِي عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْبِدَعِ مُخْرِجَةٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ ليست (بمخرجة) (¬11)، وَالْخِلَافُ فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُخَالِفِينَ فِي الْعَقَائِدِ مَوْجُودٌ ـ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذِهِ ـ فحيث نقول بالتكفير (يلزم) (¬12) ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بنفسه". (¬2) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬3) في (غ) و (ر): "المنصوص". (¬4) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عشر". (¬6) في (ط) و (ت): "الشر". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فخصوصيته". (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬10) في (غ) و (ر): "الجماعة". (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مخرجة". (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لزم".

منه تأبيد (التعذيب بناءً) (¬1) عَلَى الْقَاعِدَةِ (إِنَّ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ) (¬2) لَا يَغْفِرُهُ الله سبحانه. //وَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ فَيَحْتَمِلُ ـ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ ـ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نُفُوذُ الْوَعِيدِ مِنْ غَيْرِ غُفْرَانٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: "كُلُّهَا فِي النَّارِ" أَيْ مُسْتَقِرَّةٌ ثابتة فيها. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ إِنْفَاذُ الْوَعِيدِ بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. قِيلَ: بَلَى قَدْ قَالَ بِهِ طَائِفَةٌ منهم في بعض الكبائر (كقتل النفس عمداً، وأشياء أُخر وإن كانوا قائلين بأن أهل الْكَبَائِرِ) (¬3) فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ/ دَلَّهُمُ الدَّلِيلُ فِي خُصُوصِ كَبَائِرَ عَلَى أَنَّهَا خَارِجَةٌ عن ذلك الحكم (¬4)، ولا (بُعْدَ) (¬5) (في) (¬6) ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُتَّبَعَ هُوَ الدَّلِيلُ، فَكَمَا دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي الْمَشِيئَةِ كَذَلِكَ دَلَّهُمْ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬7) فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (¬8) فأخبر أولاً أن جزاؤه جهنم، وبالغ في ذلك بقوله تعالى: ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التحريم". (¬2) في (غ) و (ر): "على أن الشرك والكفر". (¬3) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬4) مسألة القاتل عمداً، ذهب فيها بعض السلف إلى أن القاتل عمداً لا توبة له، وممن ذهب إلى هذا القول: زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم، والذي عليه الجمهور أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها عموم قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وهذا الذي رجحه ابن جرير وابن تيمية وابن كثير وغيرهم من أهل العلم. انظر: تفسير ابن جرير (9 57 ـ 70)، وتفسير ابن كثير (1 535 ـ 539)، وفتح القدير للشوكاني (1 497 ـ 499)، وزاد المسير لابن الجوزي (2 93)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5 213 ـ 215)، ومجموع الفتاوى (16 25). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بد". (¬6) في (ط): "من". (¬7) سورة النساء: الآية (48). (¬8) سورة النساء: الآية (93).

{خَالِدًا فِيهَا} عِبَارَةٌ عَنْ طُولِ الْمُكْثِ فِيهَا، ثُمَّ عَطَفَ بالغضب (عليه) (¬1)، ثُمَّ بِلَعْنَتِهِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وَالْإِعْدَادُ قَبْلَ الْبُلُوغِ إِلَى المُعد مِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِهِ لِلْمُعَدِّ لَهُ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ/ التَّوْبَةِ من مظالم العباد تحللهم أو رد/ (التبعات) (¬2) إليهم. وهذا (مما لا سبيل) (¬3) (للقاتل) (¬4) إِلَيْهِ إِلَّا بِأَنْ يُدْرِكَ الْمَقْتُولَ حَيًّا فَيَعْفُوَ عنه (بطيب) (¬5) نفسه، (كذلك قال) (¬6). وَأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنْ نَقُولَ: وَمِنْ شَرْطِ خُرُوجِهِ مِنْ تِبَاعَةِ الْقَتْلِ مَعَ التَّوْبَةِ (لله) (¬7) استدراك ما (فوّت) (¬8) على المجني عليه (إما بالتحلل منه) (¬9)، وإما بِبَذْلِ الْقِيمَةِ لَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ (بعد) (¬10) فوت المقتول. فكذلك (يُمْكِنُ) (¬11) فِي صَاحِبِ الْبِدْعَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَدِلَّةِ، فَرَاجِعْ مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الثَّانِي تَجِدُ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْمُخَوِّفِ جِدًّا. /وَانْظُرْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} فَهَذَا وَعِيدٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} وَتَسْوِيدُ الْوُجُوهِ عَلَامَةُ الْخِزْيِ وَدُخُولِ (النَّارِ) (¬12)، ثُمَّ قال تعالى: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وَهُوَ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} (¬13)، وهو تأكيد آخر. ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في (ت) و (غ) و (ر): "التباعات". (¬3) في (م): "ما لسبيل". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إلى القاتل". (¬5) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فات". (¬9) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ). (¬10) ساقط من (غ) و (ر). (¬11) هكذا في سائر النسخ ولعل الصواب: (لا يمكن). (¬12) في (ط): "النار النار". (¬13) سورة آل عمران: الآية (106).

وَكُلُّ هَذَا التَّقْرِيرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ أَهْلُ (الْقِبْلَةِ) (¬1) مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ إِذَا اتُّبع فِي بِدْعَتِهِ لَمْ/ يُمْكِنْهُ التَّلَافِي ـ غَالِبًا ـ فِيهَا، وَلَمْ يَزَلْ أَثَرُهَا فِي الأرض (مستطيراً) (¬2) إلى (يوم القيامة) (¬3) قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِسَبَبِهِ، فَهِيَ أَدْهَى مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ. قَالَ مَالِكٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِنَّ الْعَبْدَ لَوِ ارْتَكَبَ جَمِيعَ الْكَبَائِرِ بعد أن لا يشرك بالله شيئاً (رجوت) (¬4) لَهُ أَرْفَعُ الْمَنَازِلِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَنَبٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ هُوَ/ مِنْهُ عَلَى رَجَاءٍ، (وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَيْسَ هُوَ مِنْهَا عَلَى رَجَاءٍ) (¬5)، (إِنَّمَا) (¬6) يُهوى (بِهِ) (¬7) فِي نَارِ جَهَنَّمَ (¬8). فَهَذَا مِنْهُ نص (في إنفاذ) (¬9) الوعيد. (والمطلب) (¬10) الثاني: أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِأَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إصلاءهم (النَّارِ) (¬11)، وَإِنَّمَا (حُمِلَ) (¬12) قَوْلُهُ: (كُلُّهَا فِي النَّارِ)، أَيْ هِيَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ، كَمَا قَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (¬13) / أي ذلك جزاؤه (إن جازاه) (¬14)، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَلَهُ الْعَفْوُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ/ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬15)، فَكَمَا ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَاتِلَ فِي الْمَشِيئَةِ (¬16) ـ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِدْرَاكُ كَذَلِكَ ـ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هُنَا بمثله. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "الغفلة". (¬2) في (ط): "مستطيل". (¬3) زيادة من (م). (¬4) في (ط) و (ت): "وجبت". وفي (ت) و (م): "رجيت". (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): "إما". (¬7) في (غ) و (ر): "بها". (¬8) بنحوه في حلية الأولياء (6 325). (¬9) في (غ) و (ر): "بإنفاذ". (¬10) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "في النار". (¬12) في (غ) و (ر): "يحمل". (¬13) سورة النساء: الآية (93). (¬14) ساقط من (ط). (¬15) سورة النساء: الآية (48). (¬16) تقدم الكلام على هذه المسألة (3/ 189).

المسألة الثالثة عشرة

المسألة/ الثالثة/ عشرة (¬1): إن قوله صلّى الله عليه وسلّم: "إِلَّا وَاحِدَةً"، قَدْ أَعْطَى بِنَصِّهِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا (يَخْتَلِفُ) (¬2)، إِذْ لَوْ كَانَ لِلْحَقِّ فِرَق أَيْضًا لَمْ يَقُلْ: "إِلَّا وَاحِدَةً"، وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَنْفِيٌّ عَنِ الشَّرِيعَةِ بِإِطْلَاقٍ، لِأَنَّهَا الْحَاكِمَةُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬3) الآية، (فردَّ) (¬4) (التَّنَازُعِ) (¬5) إِلَى الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تَقْتَضِي الْخِلَافَ لَمْ يَكُنْ فِي الرَّدِّ إِلَيْهَا فَائِدَةٌ، وَقَوْلُهُ: (فِي شَيْءٍ)، نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، فَهِيَ صِيغَةٌ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَتَنْتَظِمُ كُلُّ تَنَازُعٍ عَلَى الْعُمُومِ، فَالرَّدُّ فِيهَا لَا يَكُونُ إلا (إلى أمر) (¬6) وَاحِدٍ فَلَا يَسَعُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْحَقِّ فِرقاً. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (¬7)، وَهُوَ نَصٌّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ السَّبِيلَ الْوَاحِدَ لَا يَقْتَضِي الِافْتِرَاقَ، بِخِلَافِ السُّبُلِ الْمُخْتَلِفَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعَاشِرَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا) (¬8) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، فَلَوْ لَزِمَ مَا قُلْتَ لَمْ يَجْعَلْ أُولَئِكَ الْفِرَقَ ثَلَاثًا، وَكَانُوا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَحِينَ (بُيِّنُوا) (¬9) ظَهَرَ أنهم كُلُّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفِرَقُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَوْلَا أَنَّ الْحَدِيثَ/ أَخْبَرَ أَنَّ النَّاجِيَةَ وَاحِدَةٌ. فَالْجَوَابُ: / أَوَّلًا: أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَمْ نَشْتَرِطِ الصِّحَّةَ فِي نقله، إذ لم ¬

(¬1) في (ت) و (خ) و (م): "عشر". (¬2) في (غ) و (ر): "مختلف". (¬3) سورة النساء: الآية (59). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إذ رد". (¬5) في (ت): "المتنازع". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لأمر". (¬7) سورة الأنعام: الآية (153). (¬8) تقدم تخريجه (3/ 182). (¬9) في (خ): "ينيوا".

نَجِدُهُ فِي الْكُتُبِ الَّتِي لَدَيْنَا الْمُشْتَرَطُ فِيهَا الصِّحَّةُ (¬1). /وَثَانِيًا: أَنَّ تِلْكَ الْفِرَقَ إِنْ عُدَّتْ (هنالك ثلاثاً فإنما عدت هنا) (¬2) وَاحِدَةً لِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي أَصْلِ الِاتِّبَاعِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ (عَدَمِهَا) (¬3)، وَفِي كَيْفِيَّةِ الأمر والنهي خاصة. فهذه الفرق لا (تتنافى لصحة) (¬4) الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ فِي مِلَّتِنَا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَرَاتِبَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِالْيَدِ وَهُمُ الْمُلُوكُ (وَالْحُكَّامُ) (¬5) وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ بِاللِّسَانِ كَالْعُلَمَاءِ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ إِلَّا بِالْقَلْبِ، إِمَّا مَعَ الْبَقَاءِ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ (إِذْ لَمْ يَقْدِرْ) (¬6) عَلَى الْهِجْرَةِ أَوْ مَعَ الْهِجْرَةِ إِنْ (قَدَرَ) (¬7) /عَلَيْهَا، وجميع ذلك (خصلة) (¬8) وَاحِدَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الحديث قوله صلّى الله عليه وسلّم: "لَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنِ الْإِيمَانِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ" (¬9). فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَضُرُّنَا عدُّ النَّاجِيَةِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثًا بِاعْتِبَارٍ، وَعَدُّهَا وَاحِدَةً بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي عَدِّهَا اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فَتَصِيرُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ سَبْعِينَ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِهَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ فِرَقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِرَقِ غَيْرِهَا، مَعَ قَوْلِهِ: (لتركبن سنن من كان قبلكم ¬

(¬1) لا يلزم عدم ورود الحديث في الكتب التي اشترط أصحابها الصحة عدم صحة الحديث، بل هناك أحاديث صحيحة كثيرة في كتب لم يلتزم أصحابها صحة كل ما فيها. (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هنا ثلاثاً فإنما عدت هناك". (¬3) في (غ) و (ر): "في عدمها". (¬4) في (ط) و (خ) و (ت): "لا تنافي الصحة". (¬5) في (ط) و (خ): "والحكماء". (¬6) في (غ) و (ر): "إذا لم يقدروا". (¬7) في (غ) و (ر): "قدروا". (¬8) في (ط): "خطة". (¬9) أخرجه مسلم (49)، وأحمد في المسند (3 10 و20 و49 و54)، وابن ماجه (1275 و4013)، وأبو داود (1140 و4340)، والنسائي في المجتبى (5008)، وفي السنن الكبرى (11739)، وأبو يعلى (1009)، وابن حبان (306 و307)، والبيهقي في السنن الكبرى (11293 و14325 و19966).

المسألة الرابعة عشرة

شبراً بشبر وذراعاً بذراع) (¬1). (ويمكن) (¬2) فِي الْجَوَابِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُتْرَكَ الكلام في (هذا) (¬3) رأساً (إذ) (¬4) خَالَفَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِيهِ (إِحْدَى وَسَبْعِينَ) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ (ثِنْتَيْنِ/ وَسَبْعَيْنِ). /وإما أن (يتأول) (¬5) أن (الثلاث) (¬6) الَّتِي نَجَتْ لَيْسَتْ فِرَقًا ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا هِيَ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ انْقَسَمَتْ إِلَى الْمَرَاتِبِ/ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْوَاقِعَةَ/ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ هِيَ قَوْلُهُ: (نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ) وَلَمْ يُفَسِّرْهَا بِثَلَاثِ فِرَقٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ ظَاهِرَ الْمَسَاقِ، ولكن قَصْدَ الجمع بين الروايات ومعاني (الأحاديث) (¬7) أَلْجَأَ إِلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ رسوله من ذلك. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً" ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وفسَّره الْحَدِيثُ الْآخَرُ: "ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ"، وَهَذَا/ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ (¬8): أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم لم يعيِّن من الفرق (فِرْقَةً) (¬9) وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِعَدِّهَا خَاصَّةً، وَأَشَارَ إلى الفرقة النَّاجِيَةِ حِينَ سُئِلَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ تَعْيِينَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ هُوَ الْآكَدُ فِي الْبَيَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعَبُّدِ الْمُكَلَّفِ وَالْأَحَقِّ بِالذِّكْرِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ الْفِرَقِ الْبَاقِيَةِ إِذَا عينت الواحدة، ¬

(¬1) تقدم تخريجه (3/ 187). (¬2) في (ط): "ويمكن أن يكون في الجواب". (¬3) في (غ) و (ر): "ذلك". (¬4) في (ط): "إذا". (¬5) في (غ) و (ر): "نتأول". (¬6) في (ط) و (خ): "الثلاثة". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحديث". (¬8) في (ت) و (خ) و (م): "عشر". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إلا فرقة".

وأيضاً فلو عينت الفرق كلها إلا هذه (الواحدة) (¬1) لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَيَانِهَا، لَأَنَّ الْكَلَامَ فيها يقتضي ترك أمور (هي) (¬2) بدع، وَالتَّرْكُ لِلشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي فِعْلَ شَيْءٍ آخَرَ لَا ضِدًّا وَلَا خِلَافًا، فَذِكْرُ الْوَاحِدَةِ هُوَ المفيد على الإطلاق. والثاني: أَنَّ ذَلِكَ أَوْجَزُ لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَتْ نِحْلَةُ (الْفِرْقَةِ) (¬3) النَّاجِيَةِ عُلِمَ عَلَى الْبَدِيهَةِ أَنَّ مَا سِوَاهَا/ (مِمَّا) (¬4) يُخَالِفُهَا لَيْسَ بِنَاجٍ وَحَصَلَ التَّعْيِينُ بِالِاجْتِهَادِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذُكِرَتِ الْفِرَقُ إِلَّا النَّاجِيَةَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي شَرْحًا كَثِيرًا، وَلَا يَقْتَضِي في الفرقة الناجية اجتهاداً، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَكُونُ مُخَالَفَتُهَا بِدَعًا لا حظَّ للعقل في الاجتهاد فيها. /وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ أَحْرَى بِالسَّتْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ بيانه (¬5) في مسألة (تعيين) (¬6) الْفِرَقِ، وَلَوْ فُسِّرت لَنَاقَضَ ذَلِكَ قَصْدَ السَّتْرِ،/ فَفَسَّرَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَتَرَكَ مَا لَا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة، فالعقل وَرَاءَ ذَلِكَ مَرْمَى تَحْتَ أَذْيَالِ السَّتْرِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فبيَّن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي" (¬7)، وَوَقَعَ ذَلِكَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الَّذِي سَأَلُوهُ إِذْ قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ الفرقة الناجية من (اتصفت) (¬8) بأوصافه صلّى الله عليه وسلّم وَأَوْصَافِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ غَيْرَ خفي فاكتفوا به، وربما يحتاج إلى تفسيره بالنسبة إلى من بعُد (عن) (¬9) (تِلْكَ) (¬10) الْأَزْمَانِ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِهِ مُهْتَدِينَ بِهَدْيِهِ، وَقَدْ جَاءَ مَدْحُهُمْ في القرآن الكريم وأثنى عليهم مَتْبوعُهم مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا (كان) (¬11) خُلُقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ، فَقَالَ تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ *} (¬12)، فالقرآن ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الأمة". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وهي". (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (م): "إنما". (¬5) انظر: (3/ 158). (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) سبق تخريجه (3/ 122). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "اتصف". (¬9) زيادة من (غ) و (ر) و (ت). (¬10) في (ت): "ذلك". (¬11) زيادة من (غ) و (ر). (¬12) سورة القلم: الآية (4).

(إذاً) (¬1) هُوَ الْمَتْبُوعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةً/ لَهُ، فَالْمُتَّبِعُ لِلسُّنَّةِ مُتَّبِعٌ لِلْقُرْآنِ، وَالصَّحَابَةُ كَانُوا أَوْلَى النَّاسِ/ بِذَلِكَ، فَكُلُّ مَنِ اقْتَدَى بِهِمْ فَهُوَ مِنَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الدَّاخِلَةِ (لِلْجَنَّةِ) (¬2) بِفَضْلِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "ما أنا عليه وأصحابي" فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهِ فَنَاشِئٌ عَنْهُمَا، هَذَا هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَعْنَى مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ قَوْلِهِ: (وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي وَقْتِ الْإِخْبَارِ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ، إِلَّا أَنَّ فِي لَفْظِ الْجَمَاعَةِ معنى (آخر) (¬3) (تَرَاهُ) (¬4) بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. /ثُمَّ إِنَّ في هذا التعريف نظراً لا بد من الكلام (عليه) (¬5) وذلك أن كل داخل تحت ترجمة الْإِسْلَامِ مِنْ سُنِّيٍّ أَوْ مُبْتَدِعٍ مُدَّعٍ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَالَ رُتْبَةَ النَّجَاةِ وَدَخَلَ فِي غِمَارِ/ تِلْكَ الْفِرْقَةِ، إِذْ لَا يَدَّعِي/ (خِلَافَ) (¬6) ذَلِكَ إِلَّا مَنْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ، وَانْحَازَ إِلَى فِئَةِ الْكُفْرِ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَفِي مَعْنَاهُمْ من دخل بظاهره في الإسلام وَهُوَ/ مُعْتَقِدٌ غَيْرَهُ كَالْمُنَافِقِينَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرْضَ لِنَفْسِهِ إِلَّا بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ وَقَاتَلَ سَائِرَ الْمِلَلِ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ (بِأَخَسِّ) (¬7) مَرَاتِبِهَا وَهُوَ (مُدَّعٍ أَحْسَنَهَا) (¬8)، وهو (العلم) (¬9) فَلَوْ عَلِمَ الْمُبْتَدِعُ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ لَمْ يَبْقَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَلَمْ يُصَاحِبْ أَهْلَهَا، فَضْلًا عن أن يتخذها ديناً يدين به الله، وَهُوَ أَمْرٌ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطْرَةِ لَا يُخَالِفُ فيه عاقل. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ فِرْقَةٍ تُنَازِعُ صَاحِبَتَهَا في فرقة النجاة. ألا ترى أن ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إنما". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إلى الجنة". (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) في (غ) و (ر): "نذكره". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عليه فيه". (¬6) ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (غ) و (ر): "غير". (¬7) في (غ) و (ر): "بأخص". (¬8) في (م): "مدح أخصها". وفي (غ) و (ر): "مدع أخصها". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المعلم".

المبتدع آخذ أبداً في تحسين حالته شرعاً وتقبيح حالة غيره. (فالظاهري) (¬1) يدَّعي أنه (هو) (¬2) المتبع للسنة، (والقايس) (¬3) يدَّعي أَنَّهُ الَّذِي فَهِمَ الشَّرِيعَةَ، وَصَاحِبُ نَفْيِ الصفات يدعي أنه الموحد. والقائل باستقلال (قدرة) (¬4) العبد (يدَّعي) (¬5) أنه صاحب العدل، (ولذلك) (¬6) سَمَّى الْمُعْتَزِلَةُ أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ، والمشبِّه يَدَّعِي أَنَّهُ الْمُثْبِتُ لِذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ، لِأَنَّ نَفْيَ التَّشْبِيهِ عِنْدَهُ نَفْيٌ مَحْضٌ، وَهُوَ الْعَدَمُ. (وَكَذَلِكَ) (¬7) كَلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّوَائِفِ (الَّتِي) (¬8) ثَبَتَ لَهَا اتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا. وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى الِاسْتِدْلَالَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَوِ السُّنِّيَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ أَيْضًا. فالخوارج تحتج بقوله صلّى الله عليه وسلّم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي/ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ" (¬9)، وَفِي رِوَايَةٍ: "لا يضرهم/ خلاف من خالفهم"، ¬

(¬1) في (ط): "فالظاهر". (¬2) ساقطة من (ط). (¬3) في (ط) و (خ): "والغاش". وفي (م): "والقاصر". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (م) و (خ) و (ت). (¬6) في (ط) و (خ): "كذلك". (¬7) في (م): "ولذلك". (¬8) في (م) و (خ): "الذي". (¬9) هذا حديث متواتر روي عن عدد كبير من الصحابة، وأخرجه أكثر المحدثين في تصانيفهم منهم البخاري (3640، 7459، 7311، 3641)، ومسلم (1924، 1923، 1920، 1037، 174)، وأحمد (2 321 و340 و379) و (3 436) و (4 97 و101) و (5 35 و279)، وابن الجعد في مسنده (1076)، وأبو داود (2484)، وابن ماجه (6 ـ 10)، والترمذي (2192 و2229)، وأبو يعلى (6417 و7383)، وابن حبان (61 و6834 و6835)، والطبراني في الأوسط (74)، وفي الكبير (2001 و6357 و7643) و (17 314 برقم 869 و870) و (19 برقم 801 و870 و893)، و (20 برقم 960 ـ 962)، وفي مسند الشاميين (57 و860 و1563)، والحاكم (8389) والشهاب في مسنده (913 و914)، والبيهقي في السنن الكبرى (18605)، وغيرهم.

و"من قتل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (¬1). (وَالْقَاعِدُ) (¬2) يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ (مَعَ الْجَمَاعَةِ) (¬3) " (¬4)، و"مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ" (¬5)، وَقَوْلِهِ: "كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ" (¬6). وَالْمُرْجِئُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا (مِنْ قَلْبِهِ) (¬7) فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ/ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" (¬8)، وَالْمُخَالِفُ لَهُ (مُحْتَجٌّ) (¬9) بِقَوْلِهِ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي/ وهو مؤمن" (¬10). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (2452 و3198)، ومسلم (1610)، والطيالسي (233 و2392 و2294)، والحميدي (83)، وأحمد (1 78 و187 و188 و190) و (2 223 و163 و209 و215 و216 و221)، وعبد بن حميد في المنتخب (106)، وابن الجعد (1698)، والحارث بن أبي أسامة ـ بغية الباحث ـ (636)، وأبو داود (4772)، وابن ماجه (2580 ـ 2582)، والترمذي (1418)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (567 و764)، والنسائي في المجتبى (4084 ـ 4095)، وفي الكبرى (3547 ـ 3558)، وأبو يعلى (6776 و949 و950 و953 و2061)، وابن حبان (3194 و4790)، والطبراني في الصغير (223 و428)، وفي الأوسط (793 و1422 و1652)، وفي الكبير (352 ـ 354 و7170 و10463 و12641)، والحاكم (6697)، والبيهقي في السنن الكبرى (17412 و5857 و5858 و16553 و16554 و17411)، وغيرهم. (¬2) في (غ) و (ر): "والقايد". (¬3) في (غ) و (ر): "عليها". (¬4) (¬5) تقدم تخريجه (3/ 127). (¬6) أخرجه ابن سعد في الطبقات (5 245)، وأحمد (5 110 و292)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (263)، وأبو يعلى (1523 و7215)، والطبراني في الكبير (1724 و3629 و3631) والحاكم (8578) وانظر: التلخيص الحبير (4 84). (¬7) ما بين القوسين ساقط من (ت) و (م) و (غ). (¬8) أخرجه بنحوه البخاري (1237، 6444، 6443، 6268، 5827، 3222، 2388، 7487)، ومسلم (94)، وأحمد (4 260) و (5 159 و161)، والترمذي (2644)، والنسائي في السنن الكبرى (10955 و10958 و10962)، وابن حبان (213)، والبيهقي في السنن الكبرى (20559). (¬9) في (غ) و (ر): "يحتج". (¬10) أخرجه البخاري (2475، 6810، 6772، 5578)، ومسلم (57)، والطيالسي=

وَالْقَدَرِيُّ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (¬1)، وبحديث: "كل مولود يولد على الفطرة (حتى يكون أبواه هما اللذان يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه) (¬2) " (¬3). والمفوِّض يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *} (¬4)، وفي الحديث: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ ميسَّر لِمَا خُلِقَ لَهُ" (¬5). وَالرَّافِضَةُ (¬6) تحتج بقوله صلّى الله عليه وسلّم: "لَيَرِدَنَّ الحوض أقوام ثم (ليختلجنَّ) (¬7) دوني، فأقول: يا رب أصحابي (أَصْحَابِي) (¬8)، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، (إِنَّهُمْ) (¬9) لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ" (¬10) وَيَحْتَجُّونَ فِي تَقْدِيمِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنه (بقوله) (¬11): (أنت مني بمنزلة هارون ¬

= (823)، والحميدي في مسنده (1128)، وابن راهويه (416 ـ 418) وابن الجعد (265 و736)، وأحمد (2 243 و317 و376 و386 و469) و (3 346 و352) و (6 139)، وعبد بن حميد (525 و919)، والدارمي (2106)، وابن ماجه (3936)، وأبو داود (4689)، والترمذي (2625)، والنسائي (4869 ـ 4873 و5660)، وغيرهم كثير. (¬1) سورة الروم: الآية (30). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) أخرجه البخاري (1358، 6599، 4775، 1385، 1359، 1359)، ومسلم (2658)، ومالك (571)، والطيالسي (2359 و2433)، والحميدي (1113)، وأحمد (2 233 و253 و275 و282 و315 و346 و393 و410 و481) و (3 353)، وأبو داود (4714)، والترمذي (2138)، وأبو يعلى (942 و6306 و6394 و6593)، وغيرهم كثير. (¬4) سورة الشمس: الآيتان (7، 8). (¬5) أخرجه البخاري (1362 و4945 ـ 7552، 6605، 6217، 4949)، ومسلم (2647 ـ 2649)، وأحمد (1 132 و140)، وابن ماجه (78)، وأبو داود (4694)، والترمذي (2136)، والنسائي في الكبرى (11679) وأبو يعلى (375 و610)، والطبراني في الصغير (950)، وابن حبان (335). (¬6) انظر: تعريفهم في الملحق رقم (1). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ليتخلفن". (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ثم". (¬10) تقدم تخريجه (1 116). (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ب".

مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي) (¬1)، وَ (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ) (¬2). وَمُخَالِفُوهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أبي بكر وعمر) (¬3) و (يأبى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ) (¬4) إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَاهُ. وَالْجَمِيعُ مَحُومُونَ ـ فِي زَعْمِهِمْ ـ عَلَى الِانْتِظَامِ فِي سِلْكِ الْفِرْقَةِ الناجية، وإذا كان كذلك أشكل على (المبتدي) (¬5) فِي النَّظَرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ/ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمْ مُقْتَضَى هَذِهِ الظَّوَاهِرِ، فَإِنَّهَا مُتَدَافِعَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِيهَا إِذَا جُعِلَ بَعْضُهَا أَصْلًا، فَيَرُدُّ الْبَعْضَ الْآخَرَ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بِالتَّأْوِيلِ. وَكَذَلِكَ (فِعْل كُلُّ) (¬6) وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ تَسْتَمْسِكُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَتَرُدُّ مَا سِوَاهَا إِلَيْهَا، أَوْ تُهْمِلُ اعْتِبَارَهَا بِالتَّرْجِيحِ، إن كان الموضع ¬

(¬1) أخرجه البخاري (3706 و4416)، ومسلم (2404)، وأحمد (1 179) و (3 32) و (6 319)، وفي الفضائل (1079)، وابن ماجه (115 و121)، والترمذي (3724)، والنسائي في الكبرى (8139 و8399 و8435 و8511 و8143 و8430 و8433 و8436 و8445، 8447 و8449)، وأبو يعلى (739 و755)، والطبراني في الصغير (918)، وفي الأوسط (1488)، وفي الكبير (328 و333 و334 و2035 و3515 و4087 و11087) و (24 146 برقم 384 ـ 388). (¬2) أخرجه أحمد (1 152) و (5 361 و366)، وفي الفضائل (947 و959 و1021 و1048)، والترمذي (3713)، والنسائي في الكبرى (8470 و8468 و8471 و8472 8144 و8484)، والطبراني في الصغير (191)، وفي الأوسط (348 و1115)، وفي الكبير (4996 و5071 و5096) و (19 291 برقم 646)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6523 و6524). (¬3) أخرجه الحميدي في مسنده (449)، وأحمد (5 399 و302)، وفي الفضائل (198 و478 و479)، وابن ماجه (97)، والترمذي (3662 ـ 3663)، والحاكم (4453)، والبيهقي في السنن الكبرى (16367)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1142 و1143). (¬4) أخرجه البخاري (7217)، ومسلم (2387)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2 218 و225)، والدارمي (82)، وابن حبان (6598)، والبيهقي في السنن الكبرى (16365). (¬5) في (ط) و (خ): "المبتدع". (¬6) في (م) و (غ) و (ر): "فعلوا بكل".

المسألة الخامسة عشرة

مِنَ الظَّنِّيَّاتِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا التَّرْجِيحُ، أَوْ تدَّعي أَنَّ أَصْلَهَا الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيْهِ قَطْعِيٌّ وَالْمُعَارِضَ لَهُ (ظَنِّيٌّ) (¬1) فَلَا يَتَعَارَضَانِ. وَإِنَّمَا كَانَتْ طريقة الصحابة رضي الله عنهم ظَاهِرَةٌ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَمَا وَقَدِ اسْتَقَرَّتْ مآخذ الخلاف (في كل نوع من أنواع العلوم الشرعية فلا يمكن الرجوع (إلى طريقة) (¬2) يتفق الجميع على أنها طريقة الصحابة؛ لأن الاتفاق على ذلك مع القصد إلى الخلاف) (¬3) / (محال) (¬4)،/ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا (يَتَضَمَّنُهُ) (¬5) قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:/ {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (¬6). فَتَأَمَّلُوا ـ رَحِمَكُمُ اللَّهُ ـ كَيْفَ صَارَ الِاتِّفَاقُ مُحَالًا فِي الْعَادَةِ لِيُصَدِّقَ الْعَقْلُ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَعْيِينَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي (مِثْلِ) (¬7) زَمَانِنَا صَعْبٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فلا بد مِنَ النَّظَرِ فِيهِ، وَهُوَ نُكْتَةُ هَذَا الْكِتَابِ، فليقع به فضل اعتناء بحسب ما هيأه الله تعالى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي كَلَامًا كَثِيرًا أَرْجَأْنَا الْقَوْلَ فِيهِ إِلَى بَابٍ آخَرَ، (نذكره) (¬8) فِيهِ عَلَى حِدَتِهِ، إِذْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذكره، والله المستعان. /المسألة الخامسة عشرة (¬9): (أنه صلَّى) (¬10) الله عليه وسلم (قال) (¬11): "كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً" (وحَتَّم) (¬12) ذَلِكَ، (وقُدِّمَ) (¬13) أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنَ الْفِرَقِ إِلَّا الْمُخَالِفَ/ في أمر ¬

(¬1) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬2) زيادة من (ر). (¬3) ما بين () زيادة من (غ). (¬4) في (ط) و (ت) و (خ): "فمحال". (¬5) في (غ) و (ر): "ينتظمه". (¬6) سورة هود: الآية (118 ـ 119). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وذكره". (¬9) في (ت) و (خ) و (م): "عشر". (¬10) في (غ) و (ر): "أنه لما قال صلى". (¬11) ساقط من (غ) و (ر). (¬12) في (غ) و (ر): "وختم". (¬13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وقد تقدم".

كلي وقاعدة عامة، (لم) (¬1) يَنْتَظِمِ/ الْحَدِيثُ ـ عَلَى الْخُصُوصِ ـ إِلَّا أَهْلَ الْبِدَعِ الْمُخَالِفِينَ لِلْقَوَاعِدِ، وَأَمَّا مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ لَكِنَّهُ لَمْ يَبْتَدِعْ (مَا) (¬2) (يَنْقُضُ) (¬3) أَمْرًا كُلِّيًّا، أَوْ يَخْرِمُ أَصْلًا مِنَ الشَّرْعِ عَامًّا، فَلَا دُخُولَ لَهُ فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ، فَيُنْظَرُ فِي حكمه: هل (يلحق) (¬4) بمن ذكر، أم لَا؟ وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِتِلْكَ الْوَاسِطَةِ بِلَفْظٍ وَلَا مَعْنًى، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَقَوْلِهِ: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ دَلَالَةٌ فَفِي مَعْنَاهُ مَا يَدُلُّ على قصده في الجملة، وبيانه: (أَنَّهُ) (¬5) تَعَرَّضَ لِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ: أَحَدُهُمَا: طَرَفُ السلامة والنجاة من غير داخلة شبهة ولا إلمام (ببدعة) (¬6)، وهو قوله: (ما أنا عليه وأصحابي). والثاني: طَرَفُ الْإِغْرَاقِ فِي الْبِدْعَةِ/ وَهُوَ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الْبِدْعَةُ كُلِّيَّةً أَوْ تَخْرِمُ أَصْلًا كُلِّيًّا، جَرْيًا عَلَى عَادَةِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ الْخَيْرِ وَأَهْلَ الشَّرِّ ذَكَرَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ (بِأَعْلَى) (¬7) مَا (عمل) (¬8) مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، لِيَبْقَى الْمُؤْمِنُ فِيهَا بين الطرفين خائفاً راجياً، إذ (حصل) (¬9) التَّنْبِيهَ بِالطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ عَلَى مَرَاتِبَ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَالشَّرُّ عَلَى مَرَاتِبَ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا ذُكِرَ أَهْلُ الْخَيْرِ الَّذِينَ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ خَافَ أَهْلُ الْخَيْرِ الَّذِينَ دُونَهُمْ أَنْ لَا يَلْحَقُوا بِهِمْ، (أَوْ رَجَوْا أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) (¬10)،/ وَإِذَا ذُكِرَ أهل الشر الذين/ في (أشد) (¬11) المراتب ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ولم". (¬2) في (غ) و (ر): "بما". (¬3) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "يقتضي". (¬4) ساقط من (غ) و (ر). (¬5) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بدعة". (¬7) في (ط): "بأهلى". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يحمل". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "جعل". (¬10) ساقط من (غ) و (ر). (¬11) في (ط) و (خ) و (ت): "أشر".

خَافَ أَهْلُ الشَّرِّ الَّذِينَ دُونَهُمْ أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ، أَوْ رَجَوْا أَنْ (لَا) (¬1) يَلْحَقُوا بِهِمْ. وهذا المعنى معلوم بالاستقراء، وذلك الاستقراء ـ إذا تَمَّ ـ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى ذَلِكَ المعنى، ويقويه ما روي (عن) (¬2) سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ (¬3) قَالَ: لَمَّا بَلَغَ النَّاسُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالُوا: مَاذَا يَقُولُ لِرَبِّهِ إِذَا لَقِيَهُ؟ اسْتَخْلَفَ عَلَيْنَا فَظًّا غَلِيظًا ـ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ـ فَكَيْفَ لَوْ قَدَرَ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بكر رضي الله عنه فقال: أبربي تخوِّفوني؟ أقول: استخلفت خير (أهلك) (¬4)، ثم أرسل إلى عمر رضي الله عنه فَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ عَمَلًا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَعَمَلًا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ (بِاللَّيْلِ) (¬5)، وَاعْلَمْ أَنَّهُ (لَا يَقْبَلُ) (¬6) نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ (فذكرهم) (¬7) بأحسن أعمالهم، وذلك أنه (تجاوز عن سيئة حتى يقول القائل: أنى يبلغ عملي مثل هذا ألم ترَ أن الله حين ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوء أَعْمَالِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ) (¬8) رَدَّ عَلَيْهِمْ حَسَنَةً فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: عَمَلِي خَيْرٌ مِنْ هَذَا؛ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ لِكَيْ (يَرْغَبَ) (¬9) الْمُؤْمِنُ فَيَعْمَلُ، (وَيَرْهَبُ) (¬10) فَلَا يُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ بِاتِّبَاعِهِمُ/ الحق وتركهم الباطل فثقَّل (ذلك) (¬11) (عملَهم) (¬12)، وحق لميزان لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا حُقَّ أَنْ يَثْقُلَ، ألم تر أنما خفَّت/ موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) عبد الرحمن بن سابط الجمحي المكي، ثقة، روى عن أبي بكر وعمر مرسلاً، انظر: الجرح والتعديل (5 240)، تهذيب الكمال (17 123). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "خلقك". (¬5) في (م) و (خ) و (ت): "إلا بالليل". (¬6) في (غ) و (ر): "لن تقبل". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (م) و (غ) و (ر): "يرهب". (¬10) في (م): و"يرغب". وفي (غ) و (ر): "كي يرغب". (¬11) زيادة من (غ) و (ر). (¬12) في (غ) و (ر): "عليهم".

وتركهم الحق، وحق (لميزان) (¬1) لا يوضع فيه إلا (باطل) (¬2) أَنْ يَخِفَّ ـ ثُمَّ قَالَ ـ: (أَمَا) (¬3) إِنْ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ الموت، وأنت لا بد لَاقِيهِ ـ وَإِنْ ضَيَّعْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَبْغَضُ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ وَلَا تُعْجِزُهُ (¬4). /وَهَذَا الحديث وإن لم يكن (في الصحة) (¬5) / هُنَالِكَ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ لِمَنْ تَتَبَّعَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَيَشْهَدُ لِمَا (تَقَدَّمَ) (¬6) مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودُ اسْتِشْهَادِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِثْلِهِ، إِذْ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ وَقَدِ اشْتَرَى لَحْمًا بِدِرْهَمٍ: أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (¬7) (¬8). ¬

(¬1) في (م) و (خ): "الميزان". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الباطل". (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) أخرجه ـ مختصراً ـ عبد الرازق في المصنف (5 449)، (9764) بإسناد صحيح عن معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد عن أسماء بنت عميس قالت: دخل رجل من المهاجرين على أبي بكر ... إلخ. وهذا الرجل هو: طلحة بن عبيد الله، كما فى رواية ابن جرير في تهذيب الآثار ـ مسند عمر ـ (2 925)، وفي التاريخ (3 433). ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (3 67)، (1808). أما رواية ابن سابط التي ذكرها المصنف، فأخرجها سعيد بن منصور في سننه (942)، وأبو نعيم في الحلية (1 36)، وابن سابط روايته عن أبي بكر مرسلة. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (319)، وهناد في الزهد (1 284)، (496)، وابن أبي شيبة في المصنف (14 572) (18902)، والخلال في السنة (1 275)، (337)، وجميعهم من طريق زبيد اليامي عن أبي بكر وزبيد روايته عن أبي بكر مرسلة. وأخرجه ابن سعد في الطبقات (3 199)، من طريق الواقدي، وهو ضعيف. وأخرجه أيضاً (3 274)، من طريق صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة، وصالح بن رستم صدوق كثير الخطأ، كما في التقريب (2861). (¬5) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): "تقرر". (¬7) سورة الأحقاف: الآية (20). (¬8) أخرجه مالك في الموطأ (1674)، عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمر، ويحيى لم يدرك عمر وأخرجه الحاكم في المستدرك (3698)، من طريق القاسم بن عبد الله بن=

المسألة السادسة عشرة

وَالْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ} الآية إلى أن قال: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} (¬1) وَلَمْ يَمْنَعْهُ/ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْزَالُهَا فِي الْكُفَّارِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِهَا فِي مَوَاضِعَ اعْتِبَارًا بِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَصْلٌ شَرْعِيٌّ تَبَيَّنَ فِي كتاب الموافقات (¬2). فالحاصل أن من عدا الْفِرَقَ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ الِابْتِدَاعَ الْجُزْئِيَّ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ أَهْلِ الْبِدَعِ (فِي) (¬3) الْكُلِّيَّاتِ، فِي الذَّمِّ وَالتَّصْرِيحِ بِالْوَعِيدِ بِالنَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ اشْتَرَكُوا فِي الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلذَّمِّ وَالْوَعِيدِ، كَمَا اشْتَرَكَ فِي اللَّفْظِ صَاحِبُ اللَّحْمِ ـ حِينَ تَنَاوَلَ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى وَجْهٍ فِيهِ كَرَاهِيَةُ مَا، فِي اجْتِهَادِ عُمَرَ ـ مَعَ مَنْ أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا من الكفار، وإن كان (بينهما) (¬4) مَا (بَيْنَهُمَا) (¬5) مِنَ الْبَوْنِ الْبَعِيدِ، وَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ (من الطرف) (¬6) الْمَذْمُومِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ لِلْمُجْتَهِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ، وَالْحَمْدُ لله. الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ (¬7): /أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ/ رَوَى في تفسير الفرقة النَّاجِيَةِ: (وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) مُحْتَاجَةٌ إِلَى التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ إن كان (معناها) (¬8) بَيِّناً مِنْ جِهَةِ تَفْسِيرِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ـ وَهِيَ قَوْلُهُ: (مَا أَنَا/ عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) ـ فَمَعْنَى لَفْظِ (الْجَمَاعَةِ) مِنْ حَيْثُ الْمُرَادُ بِهِ فِي إِطْلَاقِ الشَّرْعِ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّفْسِيرِ. فَقَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْحَدِيثُ الَّذِي نَحْنُ فِي تفسيره، ومنها ¬

=عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب، والقاسم قال عنه الذهبي: "واهٍ". (¬1) سورة الأحقاف: الآية (20). (¬2) انظر: الموافقات (3 239). (¬3) في (م): "وهو ساقط من (غ) و (ر) ". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) ساقط من (ط). في (ت): "ما بينهما ما بينهما". (¬6) في (ت): "بياض بمقدار كلمتين. وفي (ط) و (م) و (خ): "من العارف". (¬7) في (ت) و (خ) و (م): "عشر". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "معناه".

مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، (فَإِنَّهُ) (¬1) مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ (شِبْرًا) (¬2) فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) (¬3). وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَن، (قُلْتُ) (¬4): وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قوم (يستنُّون بغير سنتي و) (¬5) يهدون/ بغير هديي تعرف منهم وتنكر. (وفي رواية: قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ) (¬6). قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ (لَهُمْ) (¬7) جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى (يُدْرِكَكَ) (¬8) الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) (¬9). وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ/ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بن الخطاب ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "فإن". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "شيئاً". (¬3) أخرجه البخاري في الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، برقم (7143)، ومسلم (3 1477 ـ 1478)، برقم (1849)، وأحمد في المسند (1 275، 297)، والدارمي في السنن (2 314)، وابن أبي عاصم في السنة (1101)، وأبو يعلى في المسند (4 234)، والبيهقي في السنن الكبرى (8 157)، وفي شعب الإيمان (6 60)، جميعهم من حديث ابن عباس. (¬4) في (م) و (خ): "قال". (¬5) زيادة من (ط). (¬6) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬7) زيادة من (ط) و (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يدرك". (¬9) تقدم تخريجه (1 112).

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْجَابِيَةِ (¬1) فَقَالَ: إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا، فَقَالَ: (أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ (يَفْشُو) (¬2) الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُستحلف، وَيَشْهَدَ وَلَا يُستشهد، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ/ وَالْفُرْقَةَ، لَا يخلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّهُ لَا (يخلُونَّ) (¬3) رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثُهُمَا/ الشَّيْطَانُ، الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، وَمَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ هُوَ الْمُؤْمِنُ) (¬4). وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ("يد الله مع الجماعة" (¬5)، حديث غريب. ومثله عن ابن عمر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم) (¬6): "إن الله لا يجمع أمتي (أو قال: أمة محمد) (¬7) عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شذَّ إِلَى النَّارِ" (¬8). وخرَّج أَبُو دَاوُدَ/ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:/ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيد شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عنقه" (¬9). ¬

(¬1) الجابية: منطقة تقع شمال بلدة الصنمين في سوريا، ولها تل يعرف بتل الجابية، وهي قريبة من الجولان. انظر: معجم المعالم الجغرافية، لعاتق البلادي. (ص77). (¬2) في (غ) و (ر): "يفتروا". (¬3) في (غ) و (ر): "يخلو". (¬4) أخرجه الترمذي (2165)، وأحمد في المسند (114) و (177)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وأخرجه ابن ماجه (2363)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2 43)، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1490)، والنسائي في السنن الكبرى (9224)، والحاكم في المستدرك (387)، والضياء في المختارة (185). (¬5) أخرجه الترمذي (2166)، وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬6) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) أخرجه الترمذي (2167)، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي (2 232): صحيح دون قوله: "ومن شذ". وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (80)، والحاكم في المستدرك (391 ـ 397). (¬9) أخرجه أبو داود برقم (4758)، وأحمد في المسند (5 180)، وابن أبي عاصم في السنة برقم (892) و (1035)، وصححه الألباني في ظلال الجنة (2 434)، وأخرجه=

وَعَنْ عَرْفَجَةَ (¬1) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم يقول: "ستكون فِي أُمَّتِي (هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ) (¬2)، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ (يُفَرِّقَ) (¬3) أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) (¬4). فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ الْمُرَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى خَمْسَةِ أقوال: أَحَدُهَا: (أَنَّهَا) (¬5) السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ (الَّذِي) (¬6) يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَبِي غَالِبٍ (¬7): إِنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ (هُمُ) (¬8) النَّاجُونَ مِنَ الْفِرَقِ، فَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، سَوَاءٌ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَوْ فِي إِمَامِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ. وَمِمَّنْ قَالَ بهذا أبو مسعود الأنصاري (¬9) وعبد الله بن مَسْعُودٍ، فَرَوَى أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ سُئل أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَلَالَةٍ، واصبر حتى (يستريح برٌّ) (¬10)، أو يستراح من فاجر (¬11). ¬

=الحاكم في المستدرك (401 و402)، والشهاب في المسند (448)، وذكر له روايات أخر ابن حجر في التلخيص الحبير (4 41). (¬1) هو عرفجة بن شريح الكندي، روى عنه أبو حازم الأشجعي، وزياد بن علامة ووقدان العبدي. انظر: الجرح والتعديل (7 17)، والإصابة (2 474). (¬2) في (ط): "هنيات وهنيات". (¬3) في (غ) و (ر): "يفارق". (¬4) أخرجه مسلم (1852)، وأبو داود الطيالسي (1224)، وأحمد (4 261 و341) و (6 23)، وأبو داود (4762)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2852)، والنسائي في المجتبى (4020 ـ 4023)، وفي الكبرى (3483 ـ 3486)، وابن حبان (4577)، والطبراني في الكبير (487 و488) و (17 برقم 353 ـ 367)، والحاكم (2665)، والبيهقي في السنن الكبرى (16466 ـ 16468). (¬5) في (غ) و (ر): "أنه". (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) تقدمت ترجمته (ص123). (¬8) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "هو". (¬9) هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، روى أحاديث كثيرة، ومعدود في علماء الصحابة، نزل الكوفة، وتوفي 39هـ، وقيل 40هـ. انظر: طبقات ابن سعد (6 16)، والجرح والتعديل (6 313). (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تستريح". (¬11) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (19461)، والحاكم (8545)، وبنحوه في السنة=

وَقَالَ: إِيَّاكَ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ هِيَ الضَّلَالَةُ (¬1). وقال/ ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالسمع والطاعة (والجماعة) (¬2) فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ قَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَكْرَهُونَ فِي/ الجماعة خير من الذي تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ (¬3). وَعَنِ الْحُسَيْنِ (¬4) قِيلَ لَهُ: أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ/ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم؟ فقال: إي و (الله) (¬5) الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَدْخُلُ فِي الْجَمَاعَةِ مُجْتَهِدُو الْأُمَّةِ وَعُلَمَاؤُهَا وَأَهْلُ الشَّرِيعَةِ (الْعَامِلُونَ) (¬6) بِهَا، وَمَنْ سِوَاهُمْ دَاخِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ تَابِعُونَ لَهُمْ وَمُقْتَدُونَ بِهِمْ، (فَكُلُّ) (¬7) مَنْ خَرَجَ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ فَهُمُ الَّذِينَ شذُّوا وَهُمْ (نُهْبَةُ) (¬8) الشَّيْطَانِ، وَيَدْخُلُ فِي هَؤُلَاءِ جَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ لِأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَّةِ، لَمْ يَدْخُلُوا فِي سَوَادِهِمْ بِحَالٍ. والثاني: أَنَّهَا جَمَاعَةُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ خَرَجَ (عمّا) (¬9) عليه ¬

=لابن أبي عاصم (85)، وقال الألباني: إسناده جيد موقوف، رجاله رجال الشيخين، والحديث رواه الطبراني في الكبير (17 239 ـ 240)، من طريقين أحدهما رجاله ثقات، كما في المجمع (5 219). (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (17 239). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في (م) و (ت): "إن الذين تكرهون ... من الذين تحبون في الفرقة". وفي (ط): "إن الذي تكرهون ... من الذين تحبون في الفرقة". أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (19184)، والطبراني في الكبير (8973)، والحاكم في المستدرك (8663) وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي! والأثر من طريق ثابت بن قطبة عن ابن مسعود، وثابت بن قطبة لم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، وأخرجه مختصراً ابن جرير في تفسيره (7579 ـ 7581)، والآجري في الشريعة (17)، واللالكائي (158 و159). (¬4) لم أعرف من هو، ولعله الحسين بن واقد، وستأتي ترجمته، وفي (غ) و (ر): "الحسن". (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في (م) و (خ): "العاملين". (¬7) في (غ) و (ر): "في كل". (¬8) في (من): "نهمة". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فما".

(جماعة) (¬1) علماء الأمة مات ميتة جاهلية، (لأن الله تعالى، جعلهم حُجَّةً عَلَى الْعَالَمِينَ) (¬2)، وَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ اللَّهَ لَنْ يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ" (¬3)، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامَّةَ عَنْهَا/ تَأْخُذُ دينها، وإليها تفزع (في) (¬4) النَّوَازِلِ، وَهِيَ تَبَعٌ لَهَا، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: "لَنْ تجتمع أمتي (على ضلالة) (¬5) ": لَنْ يَجْتَمِعَ عُلَمَاءُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ. (وَمِمَّنْ) (¬6) قَالَ بِهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ رَأْيُ الأصوليين، فقيل لعبد اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: مَنِ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يَنْبَغِي/ أَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ـ فَلَمْ يَزَلْ (يَحْسِبُ) (¬7) حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ (¬8) (وَالْحُسَيْنِ) (¬9) بْنِ وَاقِدٍ (¬10) ـ (فَقِيلَ) (¬11): هَؤُلَاءِ مَاتُوا، فَمَنِ الْأَحْيَاءُ؟ قَالَ: أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ (¬12). ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): لِأَنَّ جَمَاعَةَ اللَّهِ الْعُلَمَاءُ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ حُجَّةً على العالمين. (¬3) تقدم تخريجه (3/ 208). (¬4) في (ط): "من". (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ومن". (¬7) في (غ) و (ر): "يحسر". (¬8) هو محمد بن ثابت المروزي البصري، روى عنه ابن المبارك، وقال عنه يحيى بن معين: ثقة مأمون، انظر: الجرح والتعديل (7 216). (¬9) في (غ) و (ر): "والحسن". (¬10) هو حسين بن واقد أبو عبد الله القرشي، قاضي مرو وشيخها أخرج له مسلم والأربعة، وتوفي سنة 157هـ، وقيل 159هـ. انظر: الجرح والتعديل (3 66)، وطبقات ابن سعد (7 371)، والسير (7 104). (¬11) في (غ) و (ر): "ولقد قيل". (¬12) هو الإمام الحافظ محمد بن ميمون المروزي أبو حمزة السكري عالم مرو، من شيوخ ابن المبارك، وأقران حسين بن واقد، وسمي بالسكري لحلاوة كلامه، توفي سنة 167هـ. انظر: الجرح والتعديل (8 81)، وطبقات ابن سعد (7 373)، وتاريخ بغداد (3 266 ـ 269)، والسير (7 385). والأثر أخرجه الترمذي (4 404)، وقال: وأبو حمزة هو محمد بن ميمون، وكان شيخاً صالحاً، وإنما قال هذا في حياته عندنا، وأخرجه بنحوه اللالكائي برقم (2326).

وَعَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ (¬1) قَالَ: كَانُوا إِذَا جَاءَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقَضَاءِ لَيْسَ فِي كِتَابِ الله ولا سنة رسوله ((ص)) سَمَّوْهُ: صَوَافِي الْأُمَرَاءِ، فَجَمَعُوا لَهُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَمَا أَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ (¬2). وَعَنْ إِسْحَاقَ/ بْنِ رَاهَوَيْهِ نَحْوٌ مِمَّا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ (¬3). فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا مَدْخَلَ فِي (هذا) (¬4) (السواد) (¬5) لِمَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ مُجْتَهِدٍ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي أَهْلِ التَّقْلِيدِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِمَا يُخَالِفُهُمْ فهو صاحب الميتة الجاهلية، ولا يدخل (فيهم) (¬6) (أَيْضًا) (¬7) أَحَدٌ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ، لِأَنَّ الْعَالِمَ أَوَّلًا لَا يَبْتَدِعُ، وَإِنَّمَا يَبْتَدِعُ مَنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ الْعِلْمَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ أَخْرَجَتْهُ عَنْ نَمَطِ مَنْ يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ في الإجماع، وإن قيل بالاعتداد بهم فيه ففي غير المسألة الَّتِي ابْتَدَعَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي نَفْسِ الْبِدْعَةِ مخالفون للإجماع: فعلى كل تقدير لا يدخلون في السواد/ الأعظم (أصلاً) (¬8). والثالث: إن الجماعة هي (جماعة) (¬9) الصَّحَابَةُ عَلَى الْخُصُوصِ، فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ أَقَامُوا عِمَادَ الدِّينِ وَأَرْسَوْا أَوْتَادَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ أَصْلًا، وَقَدْ يُمْكِنُ/ فِيمَنْ/ سِوَاهُمْ ذلك، ألا ترى قوله صلّى الله عليه وسلّم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ اللَّهُ اللَّهُ" (¬10). ¬

(¬1) هو المسيب بن رافع أبو العلاء الأسدي الكاهلي، كوفي ثبت، حدث عن جابر بن سمرة، وأبي سعيد الخدري، وغيرهما، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وتوفي سنة 105هـ. انظر: السير (5 102)، والجرح والتعديل، (8 293)، وطبقات ابن سعد (6 293). (¬2) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2071). (¬3) سيذكره المؤلف في (3/ 218). (¬4) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "السؤال". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيها". (¬7) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "رأساً". (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) أخرجه مسلم (148)، وعبد بن حميد في المنتخب (1247 و1412)، وابن راهويه في=

وَقَوْلَهُ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شَرَارِ الناس" (¬1)، فقد أخبر عليه الصلاة/ والسلام أَنَّ مِنَ الْأَزْمَانِ أَزْمَانًا يَجْتَمِعُونَ فِيهَا عَلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ. قَالُوا: وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا، الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ (لِطَاعَةِ) (¬2) اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ/ اللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ (تبديلها ولا) (¬3) تغييرها ولا النظر فيما خالفها، مَنِ اهْتَدَى بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ (مَصِيرًا) (¬4)، فَقَالَ مَالِكٌ ـ: فَأَعْجَبَنِي/ عَزْمُ عُمَرَ عَلَى ذلك (¬5). فعلى هذا القول (لفظ) (¬6) الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله صلّى الله عليه وسلّم: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي"، فَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى (أن) (¬7) مَا قَالُوهُ وَمَا سَنُّوهُ، وَمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ حجة على الإطلاق، (لشهادة) (¬8) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِذَلِكَ خُصُوصًا فِي قَوْلِهِ: ((فَعَلَيْكُمْ) (¬9) بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخلفاء ¬

=المسند (387)، وأحمد (3 162)، و (3 107 و201 و268)، والترمذي (2207)، وأبو يعلى (3526)، وابن حبان (6848 و6849)، والحاكم (8511 ـ 8516). (¬1) أخرجه مسلم (2949)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (311)، وابن راهويه (386)، وأحمد (1 394 و435)، و (3 499)، وابن ماجه (4039)، وأبو يعلى (5248)، وابن حبان (6850)، والطبراني في الصغير (485)، وفي الكبير (7757 و7894 و10097) و (18 84 برقم 835)، والقضاعي (898 و901 و902)، والحاكم (8359 و8363 و8364 و8517). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الطاعة". (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (م): "سعيرا". (¬5) أخرجه عبد الله في السنة (766)، والآجري برقم (92 و139)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2326)، وابن بطة في الكبرى (230 و231)، وأبو نعيم في الحلية (6 324)، واللالكائي برقم (134). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فلفظ". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وبشهادة". (¬9) في (غ) و (ر): "عليكم".

الراشدين) (¬1) وأشباهه، (ولأنهم) (¬2) (المتلقون) (¬3) لكلام النبوة، (المهتدون بالشريعة) (¬4)، الذين فهموا (مراد) (¬5) اللَّهِ بِالتَّلَقِّي مِنْ نَبِيِّهِ مُشَافَهَةً، عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ بِمَوَاطِنِ التَّشْرِيعِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، فَإِذًا كُلُّ مَا سنُّوه فَهُوَ سُنَّةٌ مِنْ غير (نظرٍ) (¬6) (فِيهِ) (¬7) بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِ لِأَهْلِ الِاجْتِهَادِ مجالاً للنظر رداً أو قبولاً، فَأَهْلُ الْبِدَعِ إِذًا غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي الْجَمَاعَةِ قطعاً على هذا القول. والرابع: أَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَمْرٍ فَوَاجِبٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ اتِّبَاعُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ ضَمِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ لَا يَجْمَعَهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَإِنْ وَقَعَ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فَوَاجِبٌ تَعَرُّفُ الصَّوَابِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ:/ الْجَمَاعَةُ لَا تَكُونُ فِيهَا غَفْلَةٌ عَنْ مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةٍ وَلَا قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْغَفْلَةُ فِي الْفُرْقَةِ (¬8). /وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ راجع إِلَى الثَّانِي وَهُوَ يَقْتَضِي أَيْضًا مَا يَقْتَضِيهِ، أَوْ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَفِيهِ مِنَ الْمَعْنَى مَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ أنه لا بد مِنْ كَوْنِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِدْعَةٌ أصلاً، فهم ـ إذاً ـ الفرقة الناجية. والخامس: مَا اخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّ الْجَمَاعَةَ جماعة المسلمين ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4 126 و127)، والدارمي (95)، وأبو داود (4607)، وابن ماجه (42 ـ 44)، والترمذي (2676)، والحارث بن أبي أسامة ـ بغية الباحث ـ (55 و56)، والطبراني في الأوسط (66)، وفي الكبير (18 245 برقم 617 ـ 624 و642)، والحاكم (329 ـ 333)، والبيهقي في السنن الكبرى (20125). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أو لأنهم". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المتقلدون". (¬4) في (غ) و (ر): "الممهدون للشريعة". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أمر دين". (¬6) في (ط): "نظير". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) انظر: "الرسالة" للشافعي (ص475).

إذا/ اجتمعوا على (أمير) (¬1)، فأمر صلّى الله عليه وسلّم بِلُزُومِهِ وَنَهَى عَنْ فِرَاقِ الْأُمَّةِ فِيمَا اجْتَمَعُوا/ عليه من تقديمه عليهم لأن فراقهم (إياه) (¬2) لَا يَعْدُو إِحْدَى (حَالَتَيْنِ) (¬3) ـ إِمَّا (لِلنَّكِيرِ) (¬4) عَلَيْهِمْ فِي طَاعَةِ أَمِيرِهِمْ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ/ فِي سِيرَتِهِ المَرْضِيَّة لِغَيْرِ مُوجِبٍ، بَلْ (بِالتَّأْوِيلِ) (¬5) فِي إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ فِي الدِّينِ، كَالْحَرُورِيَّةِ الَّتِي أُمِرَتِ الْأُمَّةُ بِقِتَالِهَا وَسَمَّاهَا (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (¬6): مَارِقَةً مِنَ الدِّينِ، وَإِمَّا (لِطَلَبِ) (¬7) إِمَارَةٍ مِنِ بعد انْعِقَادِ الْبَيْعَةِ لِأَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهُ نَكْثُ عَهْدٍ ونقض (عقد) (¬8) بَعْدَ وُجُوبِهِ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ جَاءَ إِلَى أُمَّتِي لِيُفَرِّقَ جَمَاعَتَهُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ" (¬9)، قَالَ الطَّبَرِيُّ فَهَذَا مَعْنَى الْأَمْرِ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ: وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الَّتِي إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى الرِّضَى بِتَقْدِيمِ أَمِيرٍ كَانَ الْمُفَارِقُ لَهَا (مَيِّتًا مِيتَةً) (¬10) جَاهِلِيَّةً، فَهِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي وَصَفَهَا أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه (وغيره) (¬11)، (وَهُمْ) (¬12) مُعْظَمُ النَّاسِ وَكَافَّتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ. قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه، فروى عن عمرو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ (¬13) قَالَ: قَالَ: عُمَرُ ـ حِينَ طُعِنَ ـ لِصُهَيْبٍ صلِّ بِالنَّاسِ ثَلَاثًا وَلْيَدْخُلْ عليَّ عثمانُ وعليٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، ¬

(¬1) في (م): "أمر". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في (غ) و (ر): "خلتين". (¬4) في (م): "النكير". (¬5) في (غ) و (ر): "لتأويل". (¬6) ما بين القوسين ساقط من (ت) و (غ) و (ر). (¬7) في (م): "الطلب". (¬8) في (ط) و (م) و (خ): "عهد". (¬9) تقدم تخريجه (3/ 209). (¬10) في (غ) و (ر): "ميتته". (¬11) زيادة من (غ) و (ر). (¬12) في (غ) و (ر): "وهو". (¬13) هو أبو عبد الله عمرو بن ميمون الأودي الكوفي، الإمام الحجة، أدرك الجاهلية، وأسلم في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقدم الشام مع معاذ بن جبل، وتفقه عليه، توفي سنة 74، وقيل 75، وقيل 76هـ. انظر: طبقات ابن سعد (6 117)، والسير (4 158).

وَلْيَدْخُلِ (ابْنُ عُمَرَ) (¬1) فِي جَانِبِ الْبَيْتِ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَقُمْ يَا صُهَيْبُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ بِالسَّيْفِ/ فَإِنْ بَايَعَ/ خَمْسَةٌ وَنَكَصَ (رجل) (¬2) وَاحِدٌ فَاجْلِدْ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ بَايَعَ أَرْبَعَةٌ ونكص رجلان فاجلد رؤوسهما حَتَّى يَسْتَوْثِقُوا عَلَى رَجُلٍ (¬3). قَالَ: فَالْجَمَاعَةُ الَّتِي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِلُزُومِهَا وَسَمَّى الْمُنْفَرِدَ عَنْهَا مُفَارِقًا لَهَا نَظِيرُ الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَوْجَبَ عُمَرُ الْخِلَافَةَ لِمَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ صُهَيْبًا بِضَرْبِ رَأْسِ الْمُنْفَرِدِ عَنْهُمْ بِالسَّيْفِ، (فَهُمْ) (¬4) فِي مَعْنَى/ كَثْرَةِ/ الْعَدَدِ الْمُجْتَمِعِ عَلَى بَيْعَتِهِ وَقِلَّةِ الْعَدَدِ الْمُنْفَرِدِ عَنْهُمْ. قَالَ: وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنْ لَا تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَمَعْنَاهُ أَنْ لَا يَجْمَعَهُمْ عَلَى إِضْلَالِ الْحَقِّ فِيمَا (نَابَهُمْ) (¬5) مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ حَتَّى يَضِلَّ جَمِيعُهُمْ (عَنِ) (¬6) الْعِلْمِ وَيُخْطِئُوهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْأُمَّةِ (¬7). هَذَا تَمَامُ كَلَامِهِ وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالْمَعْنَى وَتَحَرٍّ (فِي) (¬8) أَكْثَرِ اللَّفْظِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْإِمَامِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى غَيْرِ سُنَّةٍ خارج عن معنى الجماعة المذكورة فِي الْأَحَادِيثِ (الْمَذْكُورَةِ) (¬9) كَالْخَوَارِجِ وَمَنْ جَرَى مُجْرَاهُمْ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ/ دَائِرَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ أَهْلِ السنة والاتباع، وأنهم ¬

(¬1) في (م): "عمر". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) قصة تولية عثمان الخلافة أخرجها البخاري مطولة (3700)، وابن أبي شيبة في المصنف (18905 و18906 و11921)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (3 337 ـ 355)، وابن جرير في تهذيب الآثار، مسند عمر (2 922). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (م) و (ت) و (غ) و (ر)، وفي (خ): "عنهم". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أنابهم". (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) لم أجد كلام ابن جرير في مظانه من كتبه المطبوعة، ولعله في القسم المفقود من تهذيب الآثار. (¬8) ساقط من (غ) و (ر). (¬9) ساقط من (غ) و (ر).

المسألة السابعة عشرة

المرادون بالأحاديث، فلنأخذ ذلك أصلاً ونبني عَلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهِيَ: /الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ (¬1): وَذَلِكَ أَنَّ الْجَمِيعَ اتَّفَقُوا عَلَى اعْتِبَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ سَوَاءٌ ضَمُّوا إِلَيْهِمُ الْعَوَامَّ أَمْ لا، فإن لم يضموا إليهم (العوام) (¬2) فَلَا إِشْكَالَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ إِنَّمَا هُوَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْعُلَمَاءِ/ الْمُعْتَبَرِ اجْتِهَادُهُمْ، فَمَنْ شَذَّ عَنْهُمْ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، وَإِنْ ضَمُّوا إِلَيْهِمُ الْعَوَامَّ فَبِحُكْمِ التَّبَعِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ عَارِفِينَ بِالشَّرِيعَةِ، فلا بد مِنْ رُجُوعِهِمْ فِي دِينِهِمْ إِلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ تَمَالَئُوا عَلَى مُخَالَفَةِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا حَدُّوا لَهُمْ لَكَانُوا هُمُ الْغَالِبَ وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، لِقِلَّةِ الْعُلَمَاءِ وَكَثْرَةِ الْجُهَّالِ، فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّ اتِّبَاعَ جَمَاعَةِ الْعَوَامِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الْمُفَارِقُونَ لِلْجَمَاعَةِ وَالْمَذْمُومُونَ فِي الْحَدِيثِ. بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ وَإِنْ قَلُّوا، وَالْعَوَامُّ هُمُ الْمُفَارِقُونَ لِلْجَمَاعَةِ إِنْ خَالَفُوا، فَإِنْ وَافَقُوا فَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ. /وَمِنْ هُنَا لَمَّا سُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ أَجَابَ بِأَنْ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ـ قَالَ ـ فَلَمْ (يَزَلْ يَحْسِبُ) (¬3) حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قِيلَ: فَهَؤُلَاءِ مَاتُوا، فَمَنِ الْأَحْيَاءُ؟ قَالَ: أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ الْمَرْوَزِيُّ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَوَامُّ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي بِإِطْلَاقٍ، وَعَلَى هَذَا لَوْ فَرَضْنَا خُلُوَّ الزَّمَانِ (عَنْ) (¬4) مُجْتَهِدٍ لم يمكن اتِّبَاعُ الْعَوَامِّ لِأَمْثَالِهِمْ، وَلَا عَدُّ سَوَادِهِمْ/ أَنَّهُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَنْ خَالَفَهُ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، بَلْ يَتَنَزَّلُ النَّقْلُ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ مَنْزِلَةَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَالَّذِي يَلْزَمُ (الْعَوَامُّ) (¬5) مَعَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ أهل الزمان المفروض الخالي عن (المجتهدين) (¬6). ¬

(¬1) في (ت) و (م) و (خ): "عشر". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في (غ) مكان كلمة يزل يوجد طمس، وبدل: "يحسب": "يحسر". (¬4) في (غ) و (ر): "من". (¬5) ساقط من (غ) و (ر) (¬6) في (ط) و (خ): "المجتهد".

وَأَيْضًا فَاتِّبَاعُ نَظَرِ مَنْ لَا نَظَرَ (لَهُ) (¬1) وَاجْتِهَادِ مَنْ لَا اجْتِهَادَ (لَهُ) (1) مَحْضُ ضَلَالَةٍ، وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا (يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (¬2) " (1). /رَوَى (أَبُو نُعَيْمٍ) (¬3) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الطوسي (¬4) (ـ خديم محمد بن أسلم الطُّوسِيِّ ـ) (¬5) قَالَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ (وَذَكَرَ) (¬6) فِي حَدِيثٍ رَفَعَهُ/ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الِاخْتِلَافَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ" (¬7)، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ، مَنِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدُ بن أسلم (¬8) وأصحابه ومن (تبعه) (¬9)، ثُمَّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ الْمُبَارَكِ: مَنِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؟ قَالَ: أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ. ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ـ يَعْنِي أَبَا حَمْزَةَ ـ وَفِي زَمَانِنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَنْ تَبِعَهُ،/ ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: لَوْ سَأَلْتَ الْجُهَّالَ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ لَقَالُوا: جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ عَالِمٌ مُتَمَسِّكٌ بِأَثَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقِهِ، فَمَنْ كَانَ مَعَهُ وَتَبِعَهُ فَهُوَ الْجَمَاعَةُ (¬10). ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: لَمْ أَسْمَعْ عَالِمًا// مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً (كَانَ أشد تمسكاً بأثر ¬

(¬1) ما بين القوسين ساقط من (م) (¬2) ما بين () زيادة من (غ) و (ر) والحديث. تقدم تخريجه (1/ 117). (¬3) في (غ) و (ر): "نعيم" هو أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، صاحب كتاب الحلية، ولد سنة 336هـ، وكان من الحفاظ الأعلام والمتفردين في عصره بعلو الإسناد، توفي 403هـ. انظر: السير (17 453). (¬4) هو خادم محمد بن أسلم الطوسي، انظر: تذكرة الحفاظ (2 532). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): واذكر. (¬7) تقدم تخريجه (3/ 123). (¬8) هو محمد بن أسلم بن سالم الطوسي أبو الحسن، تقدمت ترجمته (2 583). (¬9) في (ط) و (ت): "تبعهم". (¬10) في الحلية بعد الجملة المذكورة قال: "ومن خالفه فيه، ترك الجماعة ثم قال إسحاق ... إلخ".

المسألة الثامنة عشرة

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ) (¬1). فَانْظُرْ فِي (حِكَايَتِهِ تَتَبَيَّنْ) (¬2) غَلَطَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ جَمَاعَةُ النَّاسِ وإن لم يكن فيهم عالم، وهو (فهم) (¬3) العوام، لا فهم العلماء (الأعلام) (¬4) فَلْيَثْبُتِ الْمُوَفَّقُ فِي هَذِهِ الْمَزَلَّةِ قَدَمَهُ لِئَلَّا يَضِلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بالله. الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ (¬5): فِي بَيَانِ مَعْنَى رِوَايَةِ أبي داود وهي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ" (¬6). وَذَلِكَ أَنَّ معنى هذه الرواية أنه صلّى الله عليه وسلّم أَخْبَرَ بِمَا سَيَكُونُ فِي أُمَّتِهِ مِنْ هَذِهِ الأهواء التي افترقوا (بسببها) (¬7) إِلَى تِلْكَ الْفِرَقِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِيهِمْ أَقْوَامٌ تُدَاخِلُ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ قُلُوبَهُمْ حَتَّى لَا يُمْكِنَ في العادة (انفصالهم) (¬8) عنها و (لا) (¬9) توبتهم مِنْهَا، عَلَى حَدِّ مَا يُدَاخِلُ دَاءُ الْكَلْبِ جِسْمَ صَاحِبِهِ فَلَا يَبْقَى مِنْ ذَلِكَ الْجِسْمِ جزء من أجزائه/ (لا عرق) (¬10) / ولا مفصل ولا غيرهما إلا (داخله) (¬11) ذَلِكَ الدَّاءُ، وَهُوَ جَرَيَانٌ لَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ وَلَا يَنْفَعُ فِيهِ الدَّوَاءُ، فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْهَوَى إِذَا دَخَلَ قَلْبَهُ، وَأُشْرِبَ حُبَّهُ، لَا تَعْمَلُ فيه الموعظة ¬

(¬1) ما بين القوسين ليس في الحلية، ولكن ذكر هذا الأثر مختصراً الذهبي في السير (12 196 ـ 197) وفيها هذه الجملة. والأثر مخرج في الحلية (9 238 ـ 239). (¬2) في (غ) و (ر): "حكاية بينت". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وهم". (¬4) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬5) في (ت) و (م) و (خ): "عشر". (¬6) تقدم تخريجه (3/ 123). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيها". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "انفصالها". (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬11) في (ت) و (خ) و (ط): "دخله".

وَلَا يَقْبَلُ الْبُرْهَانَ، وَلَا يَكْتَرِثُ بِمَنْ خَالَفَهُ، وَاعْتَبِرْ ذَلِكَ بِالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ كَمَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ (¬1) وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ (¬2) وَسِوَاهُمَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا (حيث لقوا) (¬3) مطرودين من كل جهة، (محجوجين على) (¬4) كُلِّ لِسَانٍ،/ مُبْعَدِينَ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ، ثُمَّ مع ذلك لم يزدادوا إلا تمادياً (في) (¬5) ضَلَالِهِمْ، وَمُدَاوَمَةً عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (¬6). وحاصل ما عوَّلوا/ عليه تحكيم العقول مجردة، فَشَرَّكُوهَا مَعَ الشَّرْعِ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، ثُمَّ قَصَرُوا أَفْعَالَ اللَّهِ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُمْ وَوَجَّهُوا عَلَيْهَا أَحْكَامَ الْعَقْلِ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ كَذَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، فَجَعَلُوهُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لم يبلغ هذا المقدار، بل استحسن (بعقله أشياء) (¬7) وَاسْتَقْبَحَ آخَرَ وَأَلْحَقَهَا بِالْمَشْرُوعَاتِ، وَلَكِنَّ الْجَمِيعَ (بَقُوا) (¬8) على تحكيم العقول، ولو وقفوا (هنا) (¬9) لَكَانَتِ الدَّاهِيَةُ عَلَى عِظَمِهَا أَيْسَرَ، وَلَكِنَّهُمْ تَجَاوَزُوا هَذِهِ الْحُدُودَ كُلَّهَا إِلَى أَنْ نَصَبُوا الْمُحَارَبَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، بِاعْتِرَاضِهِمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِمَا من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول وفساد (النظر) (¬10) ما هم له أهل. قال (القتبي) (¬11): وَقَدْ اعْتَرَضَ (عَلَى) (¬12) كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّعْنِ ¬

(¬1) تقدمت ترجمته (3/ 117). (¬2) تقدمت ترجمته (ص167). (¬3) في (غ) و (ر): "حين نبغوا". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "محجوبين عن". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "على". (¬6) سورة المائدة: الآية (41). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "شيئاً يفعله". (¬8) في (غ) و (ر): "بنو". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هنالك". (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "النظم". (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "العتبي"، وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت276هـ) له ترجمة في تاريخ بغداد (10/ 170)، والسير للذهبي (13/ 296)، والنص الذي ذكره الشاطبي موجود في تأويل مشكل القرآن (ص22 ـ 23). (¬12) ساقطة من (غ) و (ر).

ملحدون، ولغوا (فيه) (¬1) وَهَجَرُوا، وَاتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، بِأَفْهَامٍ كَلَيْلَةٍ، وَأَبْصَارٍ عَلِيلَةٍ، وَنَظَرٍ مَدْخُولٍ/، فَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَعَدَلُوا بِهِ عَنْ (سَبِيلِهِ) (¬2)، ثُمَّ قَضُوا عَلَيْهِ بِالتَّنَاقُضِ، وَالِاسْتِحَالَةِ واللحن، وفساد النظم والاختلاف، وأدلوا (في ذلك) (¬3) بعلل ربما أمالت الضعيف (الفكر) (¬4)، و (الحدث) (¬5) الغر، واعترضت بالشبة فِي الْقُلُوبِ وَقَدَحَتْ بِالشُّكُوكِ فِي الصُّدُورِ، قَالَ: ولو كان ما لحنوا إليه، على/ (تقديرهم) (¬6) وتأولهم لَسَبَقَ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ مَنْ لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجُّ بِالْقُرْآنِ (عَلَيْهِمْ) (¬7)، وَيَجْعَلُهُ (عَلَمَ) (¬8) (نَبُّوتِهِ) (¬9) وَالدَّلِيلَ عَلَى صدقه، (ويتحداهم) (¬10) في (موطن بعد موطن) (¬11) عَلَى أَنْ (يَأْتُوا) (¬12) بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَهُمُ الْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ، وَالْخُطَبَاءُ وَالشُّعَرَاءُ، وَالْمَخْصُوصُونَ مِنْ بَيْنِ جميع الأنام، (بالألسنة) (¬13) الْحِدَادِ وَاللَّدَدِ فِي الْخِصَامِ،/ مَعَ اللُّبِّ/ وَالنُّهَى وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ، فَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ/ وَكَانُوا يَقُولُونَ مَرَّةً هُوَ سِحْرٌ، وَمَرَّةً هُوَ شِعْرٌ، وَمَرَّةً هُوَ قَوْلُ الْكَهَنَةِ، وَمَرَّةً أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلَمْ يَحْكِ الله عنهم (ولا بلغنا في شيء من الروايات أنهم جذبوه من الجهة التي جذبه منها الطاعنون، هذا ما قال، وهو صحيح من الاستدلال، وكذلك حكى عَنْهُمُ) (¬14) الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْأَحَادِيثِ وَدَعْوَى التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ/ فِيهَا، وَحُكِيَ عَنْهُمْ، لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَدْحُ فِي خير أمة ¬

(¬1) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬2) في (غ) و (ر): "سبله". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بذلك". (¬4) في (ط) و (خ) و (غ) و (ر): "الغمر". وفي (م): "الغر". (¬5) في (ط): "الحديث". (¬6) في (ط) و (ت): تقريرهم. (¬7) في (م) و (غ) و (ر): "عليه". (¬8) في (م): "لعلم" وفي (غ) و (ر): "العلم". (¬9) في (غ) و (ر): "لنبوته". (¬10) في (م) و (غ) و (ر): "ويتحداه". (¬11) في (ط) و (خ) و (ت): "مواطن". (¬12) في (م) و (غ) و (ر): "يأتي". وفي (خ): "يأت". (¬13) في (غ) و (ر): "بألسنة". (¬14) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).

المسألة التاسعة عشرة

أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَهُمُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، (واتبعوهم) (¬1) (بالمحدثين وقالوا ما شاؤوا وجروا) (¬2) فِي الطَّعْنِ عَلَى الْحَدِيثِ جَرْيَ مَنْ لَا يرى عليه محتسباً في الدنيا ولا محسباً فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَالْجَوَابِ عَمَّا اعْتَرَضُوا فِيهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابَيْنِ (¬3) صَنَّفَهُمَا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُمَا مِنْ مَحَاسِنِ كُتُبِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَمْ (أرد) (¬4) (قصَّ بعض تلك الاعتراضات تنزيهاً للمُعْتَرَض فيه) (¬5)، ولأن غَيْرِي ـ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ـ قَدْ تَجَرَّدَ لَهُ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ بِالْحِكَايَةِ عَنْهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ بَيَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (تُجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ) وَقَبْلُ وَبَعْدُ فَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ إِذَا اسْتَحْكَمَتْ فِيهِمْ أَهْوَاؤُهُمْ لَمْ يُبَالُوا بِشَيْءٍ، وَلَمْ يُعِدُّوا خِلَافَ أَنْظَارِهِمْ شَيْئًا، وَلَا رَاجَعُوا عُقُولَهُمْ مُرَاجَعَةَ مَنْ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ وَيَتَوَقَّفُ فِي مَوَارِدِ الْإِشْكَالِ ـ وَهُوَ شَأْنُ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ ـ وَهَؤُلَاءِ صِنْفٌ مِنْ أَصْنَافِ مَنِ اتَّبَعَ (هَوَاهُ) (¬6) / ولم يعبأ بعذل العاذل فيه، (وثمَّ) (¬7) أصناف أخر يجمعهم مَعَ هَؤُلَاءِ إِشْرَابُ الْهَوَى فِي قُلُوبِهِمْ، حَتَّى لا يبالوا بغير ما هم عَلَيْهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالتَّمْثِيلِ، صِرْنَا منه إلى معنى آخر، وهي: الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ (¬8): إِنَّ قَوْلَهُ: (تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ) فِيهِ الْإِشَارَةُ بِـ (تِلْكَ) فَلَا تكون ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "وأتبعوه". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالحدس قالوا ما شان أو جروا". (¬3) كتابا ابن قتيبة هما: تأويل مشكل القرآن، وتأويل مختلف الحديث. (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أرى". (¬5) في (ط) و (خ) و (م): "قط تلك الاعتراضات تعزيلها للمعترض فيه". وفي (ت): بياض بمقدار سطر ونص. (¬6) في (غ) و (ر): "هويه". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ثم". (¬8) في (ت) و (خ) و (م): "عشر".

المسألة العشرون

(الإشارة) (¬1) إلى غير/ مذكور، ولا محال بها على غير معلوم، بل لا بد لَهَا مِنْ مُتَقَدِّمٍ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ إِلَّا الأحوال التي كانت/ السبب في الافتراق، (إذ لو كانوا على حال واحد لم يفترقوا، فلما اختلفت أحوالهم ظهر الِافْتِرَاقِ) (¬2)، فَجَاءَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْحَدِيثِ مُبَيِّنَةً أَنَّهَا الْأَهْوَاءُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (تَتَجَارَى بِهِمْ (تِلْكَ) (¬3) الْأَهْوَاءُ)، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ خَارِجٍ عَمَّا هُوَ عليه وأصحابه إنما خرج باتباع الهوى (لا بالشرع) (¬4)، (وإن أبدى أنه متبع للشرع) (¬5) وقد مرَّ بيان هذا (المعنى) (¬6) قبل فلا نعيده (¬7). المسألة العشرون: أن قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ عَلَى وَصْفِ كَذَا، يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ مِنْ أُمَّتِهِ فِي هَوًى مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَاءِ/ وَرَآهَا وَذَهَبَ إِلَيْهَا، فَإِنَّ هَوَاهُ يَجْرِي فِيهِ مَجْرَى الْكَلْبِ بِصَاحِبِهِ فَلَا يَرْجِعُ أَبَدًا عن هواه ولا يتوب من بدعته. والثاني: أن يريد أن من أُمَّتَهُ مَنْ يَكُونُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي الْبِدْعَةِ مشرب القلب بها، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ/ كَذَلِكَ، فَيُمْكِنُهُ التَّوْبَةُ مِنْهَا وَالرُّجُوعُ عَنْهَا. /وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى (صِحَّةِ) (¬8) الأول (ما تقدم من) (¬9) النقل المقتضي (بحجز التوبة) (¬10) عن صاحب البدعة على العموم، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فِي الْخَوَارِجِ) (¬11): (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ حَتَّى يَعُودَ السهم على ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "إشارة". (¬2) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (ط): "عن الشرع". (¬5) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) انظر (ص172). (¬8) في (م): "الصحة". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هو". (¬10) في (ط) و (خ): الحجر للتوبة، وفي (ت) و (غ) و (ر): "بحجر التوبة". (¬11) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).

فوقه) (¬1) وقولهم: (إِنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوْبَةَ عَنْ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ) (¬2). وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْوَاقِعُ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ ارْتَضَاهَا لِنَفْسِهِ (يَخْرُجُ) (¬3) عَنْهَا أَوْ يَتُوبُ مِنْهَا، بَلْ هُوَ يَزْدَادُ بضلالتها بصيرة. روى عن الشافعي رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ (مَثَلُ) (¬4) الْمَجْنُونِ الَّذِي عُولج حَتَّى بَرِئَ، (فَأَعْقَلَ) (¬5) مَا يَكُونُ (قَدْ) (¬6) هَاجَ (به) (¬7). وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الثَّانِي أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّقْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ أَصْلًا، لِأَنَّ/ الْعَقْلَ يجوِّز ذَلِكَ، والشرع إن (جاء) (¬8) عَلَى مَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فَعُمُومُهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ عَادِيًّا، وَالْعَادَةُ إِنَّمَا تَقْتَضِي فِي الْعُمُومِ الْأَكْثَرِيَّةَ، لا (انحتام) (¬9) الشُّمُولَ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ الْعَقْلُ إِلَّا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ، وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ. وَالدَّلِيلُ/ عَلَى ذلك أنا (قد) (¬10) وَجَدْنَا مَنْ كَانَ (عَامِلًا) (¬11) بِبِدَعٍ ثُمَّ تَابَ مِنْهَا وَرَاجَعَ نَفْسَهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا، كَمَا رَجَعَ من الخوارج من رجع حين ¬

(¬1) تقدم تخريجه (1/ 111). (¬2) روي هذا الأثر حديثاً مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ: (إن الله حجز ـ أو قال: حجب ـ التوبة عن كل صاحب بدعة)، أخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم (37)، وقال الألباني: حديث صحيح، وإسناده ضعيف جداً. وصححه في السلسلة الصحيحة (4 154)، برقم (1620)، وبنحوه في مسند إسحاق بن راهويه (398)، والبدع والنهي عنها لابن وضاح (157)، والطبراني في الأوسط (4360)، والبيهقي في شعب الإيمان (9456 و9457)، والضياء في المختارة (2054 و2055). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): قلما يخرج. وصححت في هامش (ت). (¬4) في (م): "من". (¬5) في (غ) و (ر): "فأغفل". (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) زيادة من (غ) و (ر)، والأثر أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2034). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يشا". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نحتاج". (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) في (غ) و (ر): "عالماً".

ناظرهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَمَا رَجَعَ الْمُهْتَدِي (¬1) وَالْوَاثِقُ (¬2) وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنِ السُّنَّةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، وإذا حصل تخصيص العموم (بِفَرْدٍ) (¬3) لَمْ يَبْقَ اللَّفْظُّ عَامًّا وَحَصَلَ الِانْقِسَامُ. وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ أَعْطَى أَوَّلُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ ذَلِكَ الِافْتِرَاقَ/ مِنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ بِإِشْرَابٍ أَوْ عَدَمِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ فِي أُمَّتِهِ الْمُفْتَرِقِينِ عَنِ الْجَمَاعَةِ مِنْ يُشْرَبُ تِلْكَ الْأَهْوَاءَ، فَدَلَّ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يُشْرَبُهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، وَيَبْعَدُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ فِي مُطْلَقِ الْأُمَّةِ مَنْ يشرب تلك الأهواء، (إذاً) (¬4) كَانَ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ نَوْعٌ مِنَ التَّدَاخُلِ الذي لا فائدة فيه، فإذا (تبين) (¬5) أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَخْرُجُ فِي الْأُمَّةِ الْمُفْتَرِقَةِ/ بِسَبَبِ الْهَوَى مَنْ يَتَجَارَى بِهِ ذَلِكَ الْهَوَى اسْتَقَامَ الْكَلَامُ وَاتَّسَقَ، وَعِنْدَ/ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ الِانْقِسَامُ، وذلك بأن يكون في الفرقة (الواحدة) (¬6) مَنْ يَتَجَارَى بِهِ الْهَوَى كَتَجَارِي الْكَلْبِ، وَمَنْ لَا يَتَجَارَى بِهِ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَخْتَلِفَ التَّجَارِي، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِي الغاية حتى يخرج (به) (¬7) إِلَى الْكُفْرِ أَوْ يَكَادُ، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. فَمِنَ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ الْخَوَارِجُ/ بِشَهَادَةِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ (رَسُولِ اللَّهِ) (¬8) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرميَّة)، وَمِنْهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ (أُغِرِقُوا) (¬9) فِي الْبِدْعَةِ حَتَّى اعْتَرَضُوا عَلَى كِتَابِ الله وسنة نبيه، وهم ¬

(¬1) هو المهتدي بالله محمد بن الواثق بن هارون الرشيد الخليفة العباسي، بويع بالخلافة سنة 255هـ. انظر ترجمته في: السير (12 535)، وأما رجوعه عن القول بخلق القرآن، فذكره الذهبي في السير (12 537). (¬2) هو الواثق بالله هارون بن المعتصم محمد بن هارون الرشيد، تولى الخلافة سنة 227هـ، وقال الذهبي: قيل إنه رجع عن ذلك ـ يعني القول بخلق القرآن ـ قبيل موته، ثم ذكر القصة التي فيها توبته. انظر: السير (10 306 ـ 310). (¬3) في (غ) و (ر): "بمفرد". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إذ". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بين". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) ساقط من (غ) و (ر). (¬9) في (ط) و (خ): "أعرقوا".

بِالتَّكْفِيرِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ (مبالغهم) (¬1). وَمِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي أَهْلُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ عَلَى الجملة، إذ لم يؤدهم عقلهم إلى (مثل) (¬2) مَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهُ (مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ) (¬3) الظَّاهِرِيَّةُ ـ عَلَى رَأْيِ مَنْ عَدَّهَا مِنِ الْبِدَعِ (¬4) ـ وَمَا أشبه ذلك، و (على) (¬5) ذلك (نقول إن) (¬6): من خرج/ (من الفرق ببدعة) (¬7) وَإِنْ كَانَتْ جُزْئِيَّةً فَلَا يَخْلُو صَاحِبُهَا مِنْ تَجَارِيهَا فِي قَلْبِهِ وَإِشْرَابِهَا لَهُ، لَكِنْ عَلَى قَدْرِهَا، وَبِذَلِكَ أَيْضًا تَدْخُلُ تَحْتَ مَا تَقَدَّمَ من الأدلة (أَنْ) (¬8) لَا تَوْبَةَ لَهُ، لَكِنَّ التَّجَارِيَ الْمُشَبَّهَ بِالْكَلْبِ لَا يَبْلُغُهُ كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى وَجْهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ أُشْرِبَ قَلْبُهُ بِدْعَةً مِنِ الْبِدَعِ/ ذَلِكَ الْإِشْرَابَ، وَبَيْنَ من لم (يبلغه) (¬9) مِمَّنْ هُوَ مَعْدُودٌ فِي الْفِرَقِ، فَإِنَّ الْجَمِيعَ مُتَّصِفُونَ بِوَصْفِ الْفِرْقَةِ الَّتِي هِيَ نَتِيجَةُ الْعَدَاوَةِ والبغضاء. (والفرق بينهما) (¬10) ـ والله أعلم ـ (أحد أمرين) (¬11): إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي أُشْرِبَهَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى بِدْعَتِهِ فَيُظْهِرُ بِسَبَبِهَا (الموالاة و) (¬12) الْمُعَادَاةَ، وَالَّذِي لَمْ يُشْرِبْهَا لَا يَدْعُو إِلَيْهَا أو لا يَنْتَصِبُ لِلدُّعَاءِ إِلَيْهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَوَّلَ لم يدعُ إليها إلا وهي قد بَلَغَتْ مِنْ قَلْبِهِ مَبْلَغًا عَظِيمًا بِحَيْثُ يَطْرَحُ مَا سِوَاهَا فِي جَنْبِهَا، حَتَّى صَارَ ذَا بصيرة فيها لا ينثني عنها، وقد ¬

(¬1) في (ط): "مبلغهم". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في (غ) و (ر): مذهب. (¬4) سئل ابن رشد عن الظاهرية فقال: إبطال القياس في أحكام شرائع الدين جملة عند جميع العلماء بدعة ... انظر: المعيار المعرب (2 341 ـ 344). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أنه يقول". (¬7) في (ط) و (م) و (خ): عن الفرق ببدعته، وفي (ت): "من الفرق فبدعته". (¬8) في (ط) و (خ): "على أن". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يبلغ". (¬10) ما بين () ساقط من (م)، وفي (ت): والتفريق بينهما سببه، وفي (ط) و (خ): "وسبب التفريق بينهما". (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أمران". (¬12) زيادة من (غ) و (ر).

أَعْمَتْ بَصَرَهُ وأصمَّت سَمْعَهُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَى كُلِّيَّتِهِ، وَهِيَ غَايَةُ الْمَحَبَّةِ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا (مِنْ) (¬1) هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالَى بِسَبَبِهِ وَعَادَى، وَلَمْ يُبَالِ بِمَا لَقِيَ فِي طَرِيقِهِ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ، فَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ حصَّلها، وَنُكْتَةٍ اهْتَدَى إِلَيْهَا، فَهِيَ مدَّخرة فِي خِزَانَةِ حِفْظِهِ يَحْكُمُ بها على من وافق أو خالف، لَكِنْ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِ نَفْسِهِ عَنِ الإظهار مخافة (النكال) (¬2) / أو القيام عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْإِضْرَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَاهَنَ عَلَى نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِظْهَارِهِ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَبْلَغَ الِاسْتِيلَاءِ، فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ إِذَا اسْتَخْفَى بِهَا صَاحِبُهَا. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ أُشربها نَاصِبٌ عَلَيْهَا/// بِالدَّعْوَةِ (الْمُقْتَرِنَةِ بِالْخُرُوجِ عَنِ) (¬3) الْجَمَاعَةِ وَالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، وَهِيَ الْخَاصِّيَّةُ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي الْخَوَارِجِ وَسَائِرِ/ مَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ. وَمِثْلُ مَا حَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَوَاصِمِ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ (¬4) بِمَدِينَةِ السَّلَامِ: أَنَّهُ وَرَدَ بِهَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الكريم بن هوازن الْقُشَيْرِيُّ (¬5) الصُّوفِيُّ مِنْ (نَيْسَابُورَ) (¬6) فَعَقَدَ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ، وحضر فيه ¬

(¬1) ساقط من (م) و (غ) و (ر). (¬2) في (م): "الاتكال". وفي (ت): "التنكيل". وفي (غ) و (ر): "الإنكار". (¬3) في (غ) و (ر): "المفترقة بالخروج علي". (¬4) ليسوا من أهل السنة بل هم أشاعرة أصحاب القشيري المذكور في هذه القصة. (¬5) هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري النيسابوري الصوفي الأشعري، صاحب الرسالة المشهورة باسم (الرسالة القشيرية)، ولد سنة 375هـ، وتفقه على مذهب الشافعي، وكان صاحب مجالس وعظ مشهورة، توفي سنة 465هـ. انظر: تاريخ بغداد (11 83)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (5 153)، والسير للذهبي (18 227). ولم أقف على هذه الحادثة في سيرة أبي القاسم القشيري، وإنما ذكرت قصة مشابهة لها في ترجمة أبي جعفر عبد الخالق بن عيسى الهاشمي شيخ الحنابلة في عصره، والذي قرر مذهب الأشاعرة هو أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، راجع المنتظم لابن الجوزي (16/ 181)، وذيل طبقات الحنابلة (1/ 19)، والبداية والنهاية (16/ 59). (¬6) في (خ) و (م) و (ت) و (غ): "يشاغور"، والصحيح: نيسابور. وذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان (5/ 331) أن العامة تسميها "نشاوور". والقصة مذكورة في العواصم والقواصم لابن العربي (2/ 282) بلفظ: "نيسابور".

كافة (الخلق) (¬1)، وقرأ القارئ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} (¬2) قال لي أخصهم: (فرأيت) (¬3) ـ يَعْنِي الْحَنَابِلَةَ ـ يَقُومُونَ فِي أَثْنَاءِ الْمَجْلِسِ وَيَقُولُونَ قاعد، قَاعِدٌ (قَاعِدٌ) (¬4) بِأَرْفَعِ صَوْتٍ وَأَبْعَدِهِ مَدًى، وَثَارَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْقُشَيْرِيِّ وَمِنْ أهل الحضرة، وتثاور الفئتان وغلبت العامة، فأجحروهم (إلى) (¬5) المدرسة النِّظَامِيَّةِ وَحَصَرُوهُمْ فِيهَا وَرَمَوْهُمْ بِالنِّشَابِ، فَمَاتَ مِنْهُمْ قَوْمٌ، وَرَكِبَ زَعِيمُ الْكُفَاةِ (¬6) وَبَعْضُ (الدَّارِيَّةِ) (¬7) فسكَّنوا (ثورانهم) (¬8). فهذا أيضاً (من قبيل) (¬9) من أُشْرِبَ قَلْبُهُ حُبَّ الْبِدْعَةِ حَتَّى (أَدَّاهُ) (¬10) ذَلِكَ إلى (القتال) (¬11)، فكل من بلغ هذا المبلغ حقيق (بأن) (¬12) يُوصَفَ بِالْوَصْفِ الَّذِي (وُصِفَ بِهِ) (¬13) رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وأن (يُعدّ) (¬14) من ذلك الحزب. وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَاخَلُوا الْمُلُوكَ فَأَدْلَوْا إِلَيْهِمْ بالحجة الواهية، وصغروا في (أعينهم) (¬15) حَمَلَةَ السُّنَّةِ وَحُمَاةَ الْمِلَّةِ، حَتَّى وَقَفُوهُمْ مَوَاقِفَ الْبَلْوَى، وَأَذَاقُوهُمْ مَرَارَةَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَانْتَهَى بِأَقْوَامٍ إلى القتل، حسبما ¬

(¬1) ساقط من (غ) و (ر). (¬2) سورة طه: الآية (5). (¬3) في جميع النسخ: (من أنت)، والتصحيح من (غ) و (ر) والعواصم لابن العربي (2 282). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) يظهر من السياق أنه يقصد رئيس الشرط، والله سبحانه وتعالى أعلم. (¬7) في (ط): "الدادية". (¬8) في (غ) و (ر): "ثورتهم" وانظر القصة في العواصم ـ تحقيق الطالبي ـ (2 282). وانظر التعليق رقم (5) في الصفحة (3/ 227). (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) في (غ) و (ر): "أداهم". (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "القتل". (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أن". (¬13) في سائر النسخ ما عدا (غ): "وصف". (¬14) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بلغ". (¬15) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أنفسهم".

المسألة الحادية والعشرون

وَقَعَتِ الْمِحْنَةُ بِهِ زَمَانَ بِشْرٍ الْمَرِّيسِيِّ (¬1) فِي حضرة المأمون وابن أبي داود (¬2) وغيرهما. فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها (أن يناصب) (¬3) هَذِهِ الْمُنَاصَبَةَ فَهُوَ غَيْرُ مُشْرَبٍ حُبَّهَا فِي قَلْبِهِ كَالْمِثَالِ فِي الْحَدِيثِ، وَكَمْ مِنْ أَهْلِ (البدع) (¬4) لَمْ يَقُومُوا بِبِدْعَتِهِمْ قِيَامَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، بَلِ اسْتَتَرُوا بِهَا جِدًّا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلدُّعَاءِ إِلَيْهَا جِهَارًا، كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَدُّ فِي الْعُلَمَاءِ وَالرُّوَاةِ وَأَهْلِ الْعَدَالَةِ بِسَبَبِ (عَدَمِ) (¬5) شُهْرَتِهِمْ بِمَا انْتَحَلُوهُ. فَهَذَا الْوَجْهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ أولى الوجوه بالصواب،/ وبالله التوفيق. الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ هَذَا الْإِشْرَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هَلْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْبِدَعِ دُونَ بَعْضٍ، أَمْ لَا يَخْتَصُّ؟ وَذَلِكَ (أَنَّهُ) (¬6) / يُمْكِنُ أَنَّ (تكون) (¬7) بَعْضَ الْبِدَعِ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُشْرِبَ قَلْبَ/ صَاحِبِهَا جِدًّا، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَالْبِدْعَةُ الْفُلَانِيَّةُ مَثَلًا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَجَارَى بِصَاحِبِهَا كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، وَالْبِدْعَةُ الْفُلَانِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَبِدْعَةُ الْخَوَارِجِ مَثَلًا فِي طَرَفِ الْإِشْرَابِ كَبِدْعَةِ الْمُنْكِرِينَ لِلْقِيَاسِ فِي الْفُرُوعِ الْمُلْتَزِمِينَ (للظاهر) (¬8) فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ (يَتَجَارَى) (¬9) ذَلِكَ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ عَلَى الْعُمُومِ فَيَكُونُ مِنْ أهلها من (أشربت قلبه، ومنهم من لم تشرب قلبه ذلك الإشراب، وهذا الثاني هو الأظهر، ¬

(¬1) تقدمت ترجمته (ص40). (¬2) هو أحمد بن فرج بن حريز الجهمي، رأس فتنة القول بخلق القرآن، مات سنة 240هـ. انظر: تاريخ بغداد (4 141)، والسير (11 169). (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "البدعة". (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): "إنما". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الظاهر". (¬9) في (غ) و (ر): "يجري".

والله أعلم، ويتبيّن بأمثلة،/ أحدها: بدعة القدر فإن مِنْ أَهْلِهَا مَنْ) (¬1) تَجَارَتْ بِهِ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، كَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ (¬2)، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ بِسَبَبِ الْقَوْلِ بِهِ سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (¬3)، وقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *} (¬4) وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ الْحَالُ إِلَى هَذَا النَّحْوِ كَجُمْلَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْفَارِسِيِّ النحوي (¬5) وابن جني (¬6). والثاني: بِدْعَةُ (الظَّاهِرِيَّةِ) (¬7)، فَإِنَّهَا تَجَارَتْ بِقَوْمٍ حَتَّى قَالُوا عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬8) قاعد، قَاعِدٌ (قَاعِدٌ) (¬9)، وَأَعْلَنُوا بِذَلِكَ وَتَقَاتَلُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ (تبلغ) (¬10) بِقَوْمٍ آخَرِينَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ، كَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ في الفروع وأشباهه (¬11). ¬

(¬1) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬2) قال عمرو بن عبيد ـ كما في تاريخ بغداد (12 170) سير أعلام النبلاء (6 104) ـ: "إن كانت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة"، وهذا يبيِّن أن سبب إنكاره لسورة تبت وما في معناه هو إنكار القدر. (¬3) سورة المسد: الآية (1). (¬4) سورة المدثر: الآية (11). (¬5) هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي المشهور، تتلمذ على الزجاج، ومن تلاميذه أبو الفتح ابن جني، وكان الفارسي معتزلياً، توفي سنة 377هـ. انظر: تاريخ بغداد (7 275)، والسير (16 379). (¬6) هو أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، أخذ عن الفارسي النحوي اللغة والاعتزال، توفي سنة 392هـ. انظر: تاريخ بغداد (11 311)، والسير (17 17). (¬7) في (م) و (غ) و (ر): "الظاهر". (¬8) سورة طه: الآية (5). (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ): "يبلغ". (¬11) بدعة الظاهرية عند الشاطبي قسمان؛ الأول: الظاهرية في نصوص الصفات أي الذين يجرون نصوص الصفات على ظاهرها، ويعتقدون معناها المعروف في لغة العرب دون تأويلٍ لها، وهذا مذهب السلف. القسم الثاني: ظاهرية الفقهاء كداود الظاهري وابن حزم، فجعل الشاطبي كلا القسمين من أهل البدع، وجعل القسم الأول ـ وهو مذهب السلف في الصفات ـ من أهل الإغراق في البدعة، ولا شك في خطأ الشاطبي في مسلكه هذا حيث ذهب في تفسير مذهب السلف في نصوص الصفات إلى تفسيره بمذهب المفوضة الذين يفوضون المعاني، وقد فصّل هذه المسألة الباحث: ناصر الفهد، في كتابه "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام" ص30 وص55، فليراجع لأهميته.

والثالث: بِدْعَةُ الْتِزَامِ الدُّعَاءِ بِإِثْرِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا عَلَى الهيئة الاجتماعية، فإنها بلغت (ببعض أصحابها) (¬1) إِلَى أَنْ كَانَ (التَّرْكُ) (¬2) لَهَا مُوجِبًا لِلْقَتْلِ عِنْدَهُ؛ فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ خَلِيلٍ حِكَايَةً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ الْعَابِدِ (¬3): أَنَّ رَجُلًا مِنْ عُظَمَاءِ الدَّوْلَةِ/ وَأَهْلِ الوجاهة فيها ـ وكان موصوفاً بشدة السطوة وَبَسْطِ الْيَدِ ـ نَزَلَ فِي جِوَارِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وصلى (خلفه) (¬4) فِي مَسْجِدِهِ الَّذِي كَانَ يَؤُمُّ فِيهِ، وَكَانَ لَا يَدْعُو فِي أُخْرَيَاتِ الصَّلَوَاتِ تَصْمِيمًا فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ ـ يَعْنِي مَذْهَبَ مَالِكٍ ـ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي مَذْهَبِهِ/ وَكَانَ ابْنُ مُجَاهِدٍ مُحَافِظًا عَلَيْهِ، فَكَرِهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْهُ تَرْكَ/ الدُّعَاءِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ فَأَبَى، وَبَقِيَ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَرْكِهِ فِي أَعْقَابِ الصَّلَوَاتِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي صَلَّى ذَلِكَ الرَّجُلُ الْعَتَمَةَ فِي الْمَسْجِدِ، (فَلَمَّا انْقَضَتْ) (¬5) وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى دَارِهِ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ: قَدْ قُلْنَا لِهَذَا الرَّجُلِ يَدْعُو (إِثْرَ) (¬6) الصَّلَوَاتِ فَأَبَى، فَإِذَا كَانَ فِي غَدْوَةِ غَدٍ (لم يفعل) (¬7) أضرب رقبته بهذا السيف وأشار إلى سيف فِي يَدِهِ فَخَافُوا عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ مِنْ قَوْلِهِ لَمَّا عَلِمُوا مِنْهُ، فَرَجَعَتِ الْجَمَاعَةُ بِجُمْلَتِهَا إِلَى دَارِ ابْنِ مُجَاهِدٍ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: ما شأنكم؟ / فقالوا: والله لقد خفنا (عليك) (¬8) مِنْ هَذَا الرَّجُلِ / وَقَدِ اشْتَدَّ الْآنَ غَضَبُهُ عَلَيْكَ فِي تَرْكِكَ الدُّعَاءَ. فَقَالَ لَهُمْ: لَا أَخْرُجُ عَنْ عَادَتِي، فَأَخْبَرُوهُ بِالْقِصَّةِ. فَقَالَ لَهُمْ ـ وهو متبسم ـ: انْصَرِفُوا وَلَا تَخَافُوا فَهُوَ الَّذِي (تُضْرَبُ) (¬9) رَقَبَتُهُ (في) (¬10) غدوة غد بذلك السيف ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بأصحابها". (¬2) في (م): "القتل". (¬3) تقدمت ترجمته (2 270). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (غ) و (ر): "بعد". (¬7) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (ط) و (خ) و (ت): "ضربت". وفي (م): "ضرب". (¬10) ساقط من (غ) و (ر).

بحول الله، ودخل (إلى) (¬1) دَارَهُ، وَانْصَرَفَتِ الْجَمَاعَةُ عَلَى ذُعْرٍ مِنْ قَوْلِ ذلك الرجل، فلما كان مع (الصبح) (¬2) (من الغد) (¬3) وصل إلى دار الرجل قوم من (صنفه مع عبيد المخزن، وحملوه حمل المغضوب عليه، فتبعه قَوْمٌ مِنْ) (¬4) أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَمَنْ عَلِمَ حَالَ البارحة حتى وصلوا (به) (¬5) إلى دار (الإمارة) (¬6) بِبَابِ جَوْهَرٍ مِنْ إِشْبِيلِيَّةَ (¬7)، وَهُنَاكَ أَمَرَ بِضَرْبِ رقبته (فضربت بسيفه) (¬8) ذَلِكَ، تَحْقِيقًا لِلْإِجَابَةِ وَإِثْبَاتًا لِلْكَرَامَةِ. (وَقَدْ رَوَى بعض الإشبيليين الحكاية بمعنى هذه (لكن نَحْوٍ) (¬9) آخَرَ) (¬10). وَلَمَّا رَدَّ وَلَدُ ابْنِ الصَّقْرِ (¬11) على الخطيب في خطبته (وكذَّبه حِينَ فَاهَ) (¬12) بِاسْمِ الْمَهْدِيِّ (¬13) وَعِصْمَتِهِ، أَرَادَ الْمُرْتَضَى (¬14) ـ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ (¬15) وَهُوَ إِذْ ذَاكَ خَلِيفَةٌ ـ أَنْ يَسْجُنَهُ عَلَى قَوْلِهِ، فَأَبَى الْأَشْيَاخُ ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في (غ) و (ر): "الصحب". (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إليه". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الإمامة". (¬7) إشبيلية من أهم مدن الأندلس، وهي تقع في الجنوب الغربي لقرطبة. انظر: معجم البلدان (1 195). (¬8) في (ط) و (خ): "بسيف". (¬9) هكذا في (ط) و (م): "لعل الصواب": (لكن على نحو آخر). (¬10) ما بين () ساقط من (غ) و (ر). (¬11) هو أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن الصقر الأنصاري الخزرجي أبو العباس، كان محدثاً ثقة ضابطاً مقرءاً، ولد سنة 492هـ. وتوفي سنة 569هـ. انظر: الديباج المذهب (1 211). (¬12) في (ط) و (م) و (خ): "وكذلك خبر فاه"، وفي ت بياض بمقدار نصف سطر وهي تشبه في الرسم كلمة (وذلك حين). (¬13) هو ابن تومرت، تقدمت ترجمته (ص127). (¬14) هو أبو جعفر المرتضى عمر بن إبراهيم بن يوسف بن عبد المؤمن، من أمراء الموحدين، قتل سنة 665هـ. انظر: كتاب "المهدي ابن تومرت" للدكتور عبد المجيد النجار (ص406)، ونفح الطيب (4 384). (¬15) هو عبد المؤمن بن علي بن القيسي، وهو خليفة ابن تومرت، ولدت سنة 487هـ، وتوفي سنة 558هـ. انظر: السير (20 366)، ونفح الطيب (1 442).

المسألة الثانية والعشرون

وَالْوُزَرَاءُ مِنْ فِرْقَةِ الْمُوَحِّدِينَ إِلَّا قَتْلَهُ،/ فَغَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِ فَقَتَلُوهُ خَوْفًا أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ غَيْرُهُ، فَتَخْتَلُّ عَلَيْهِمُ الْقَاعِدَةُ الَّتِي بَنَوْا دِينَهُمْ عَلَيْهَا. /وَقَدْ لَا تَبْلُغُ الْبِدْعَةُ فِي الْإِشْرَابِ ذلك المقدار فلا يتفق (في) (¬1) الخلاف فيها (ما) (¬2) يُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ بَيَّنَتْ بِالْوَاقِعِ مُرَادَ الْحَدِيثِ (¬3) ـ/ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ ـ فَإِنَّ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تكون (أبداً) (¬4) على وفق (المخبر عنه) (¬5) مِنْ (غَيْرِ تَخَلُّفٍ أَلْبَتَّةَ) (¬6). وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ اسْتِقْرَاءُ أَحْوَالِ الْخَلْقِ مِنِ انْقِسَامِهَا إِلَى الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى وَالْأَوْسَطِ، كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالشَّجَاعَةِ (وَالْجُبْنِ) (¬7) وَالْعَدْلِ وَالْجَوْرِ، وَالْجُودِ وَالْبُخْلِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْصَافِ، فَإِنَّهَا تَتَرَدَّدُ مَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَعَالِمٌ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ، وَآخَرُ فِي أَدْنَى دَرَجَاتِهِ، وَجَاهِلٌ كَذَلِكَ، وَشُجَاعٌ كَذَلِكَ، إِلَى سَائِرِهَا. فَكَذَلِكَ سُقُوطُ الْبِدَعِ بِالنُّفُوسِ، إِلَّا أَنَّ فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا فَائِدَةً أُخْرَى، وَهِيَ التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابها وهي: المسألة الثانية والعشرون: وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ دَاءَ الْكَلْبِ فِيهِ مَا يُشْبِهُ الْعَدْوَى، فَإِنَّ أَصْلَ الْكَلْبِ وَاقِعٌ بِالْكَلْبِ، ثُمَّ إِذَا عَضَّ ذَلِكَ الْكَلْبُ أَحَدًا/ صَارَ مثله ولم يقدر على الانفصال (عنه) (¬8) فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِالْهَلَكَةِ، فَكَذَلِكَ الْمُبْتَدِعُ إِذَا أورد على أحد رأيه/ ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بما". (¬3) يقصد حديث: تتجارى بهم الأهواء ... إلخ، انظر: (3/ 123). (¬4) في (ط) و (ت): "ابتناء". وفي (خ) و (م): "ابتداء". (¬5) في سائر النسخ: "مخبره" والتصحيح من هامش (ت). (¬6) في (م): "غيره تخلف إليه". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والخير". (¬8) في (ط) و (ت): "منه".

وَإِشْكَالَهُ فَقَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ غَائِلَتِهِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَقَعَ مَعَهُ فِي مَذْهَبِهِ وَيَصِيرَ مِنْ شيعته، وإما أن (ينبت) (¬1) فِي قَلْبِهِ شَكًّا يَطْمَعُ فِي الِانْفِصَالِ عَنْهُ فلا يقدر (عليه) (¬2). وهذا بخلاف سائر المعاصي، فإن صاحبها (لا يضر من صاحبه) (¬3) وَلَا يُدْخِلُهُ فِيهَا غَالِبًا إِلَّا مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالِاعْتِيَادِ لِحُضُورِ مَعْصِيَتِهِ، وَقَدْ أَتَى/ فِي الْآثَارِ مَا يَدُلُّ/ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ نَهَوْا عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ ومكالمتهم (وسماع) (¬4) (كلامهم) (¬5) وَأَغْلَظُوا فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي آثَارٌ (جَمَّةٌ) (¬6). وَمِنْ ذَلِكَ مَا روي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْرِمَ دِينَهُ فَلْيَعْتَزِلْ مُخَالَطَةَ (السلطان) (¬7) وَمُجَالَسَةَ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُمْ أَلْصَقُ مِنَ الْجَرَبِ (¬8). وَعَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ (¬9) (قَالَ) (¬10): (قَدِمَ) (¬11) غَيْلَانُ (¬12) مَكَّةَ/ (يُجَاوِرُ) (¬13) بِهَا، فَأَتَى غَيْلَانُ مُجَاهِدًا فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَجَّاجِ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَنْهَى النَّاسَ عني، وتذكرني (لشيء بلغك عني) (¬14) لا أقوله، (إنما أقول ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يثبت". (¬2) زيادة من (ط). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يضاره". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وكلام". (¬5) في (ط) و (خ) و (ت): "مكالمهم". (¬6) في (غ) و (ر): "جملة". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الشيطان". (¬8) أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (137) وبنحوه في سنن الدارمي (301). (¬9) هو حميد بن عطاء الكوفي، ضعفه الإمام أحمد وابن معين، وقد روى عنه خلف بن خليفة، وعيسى بن يونس. انظر: الجرح والتعديل (3 226). (¬10) في (ط) و (خ): "نهى". وفي (م): "تنهى". وفي (ت): بياض بمقدار كلمة والتصحيح من (غ) و (ر) والبدع لابن وضاح القرطبي. (¬11) في (م): "قدوم". (¬12) هو غيلان القدري، تقدمت ترجمته 1 102. (¬13) في البدع لابن وضاح: فجاور. (¬14) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "بلغك عني شيء".

كذا) (¬1)، فجاء بشيء لا (ننكره) (¬2)، (قال حميد) (¬3): فَلَمَّا (قَامَ) (¬4) قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا (تُجَالِسُوهُ) (¬5) فَإِنَّهُ (قدري) (¬6). قال حميد: (فإني يوماً) (¬7) في الطواف لحقني غيلان من خلفي (فجبذ) (¬8) ردائي، فالتفت فقال: كيف (يقرأ) (¬9) مجاهد (حرف كذا وكذا) (¬10) فأخبرته، فمشى معي (فبصرني) (¬11) مُجَاهِدٌ مَعَهُ، فَأَتَيْتُهُ فَجَعَلْتُ أُكَلِّمُهُ فَلَا يَرُدُّ علي، وأسأله فلا يجيبني، قال: فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقُلْتُ: يا أبا الحجاج، أبلغك عني شيء؟ (أأحدثت) (¬12) حَدَثًا/، مَا لِي؟ قَالَ: أَلَمْ أَرَكَ مَعَ غَيْلَانَ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُكَلِّمُوهُ أَوْ تُجَالِسُوهُ؟ قال: قلت: (والله) (¬13) يَا أَبَا الْحَجَّاجِ مَا أَنْكَرْتُ قَوْلَكَ، وَمَا بدأته، هو بَدَأَنِي. قَالَ: وَاللَّهِ يَا حُمَيْدُ لَوْلَا أَنَّكَ عِنْدِي مُصَدَّقٌ مَا نَظَرْتَ لِي فِي (وَجْهٍ) (¬14) مُنْبَسِطٍ مَا عِشْتُ، (وَلَئِنْ عُدْتَ لَا تَنْظُرُ لِي فِي وَجْهٍ مُنْبَسِطٍ مَا عِشْتُ) (¬15). /وَعَنْ أَيُّوبَ (¬16) قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَدَخَلَ، فَلَمَّا جَلَسَ وَضَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهُ فِي بَطْنِهِ وَقَامَ، فَقُلْتُ لِعَمْرٍو: انْطَلِقْ بِنَا ـ قَالَ ـ فَخَرَجْنَا، فلما مضى عمرو رجعت فقلت: ¬

(¬1) في البدع لابن وضاح: إنما أقول كذا (مرتين). (¬2) في جميع النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لا ينكر". (¬3) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬4) زيادة من (غ) و (ر): "والبدع لابن وضاح". (¬5) في (غ) و (ر): "تجالسه". (¬6) في (م): "قدروي". (¬7) في (ط) و (م) و (خ): "فإنه يوم". وفي (ت): "فإني يوم". (¬8) في (ط) و (خ) و (ت): "يجذب"، وفي (م): "فجذب". (¬9) في (ط) و (م) و (خ): "يقول". (¬10) في (ط) و (م) و (ت): "خرف وكذا". (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فبصر بي". (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ما أحدثت". (¬13) زيادة من (غ) و (ر): "والبدع". (¬14) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬15) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر) والبدع، والأثر أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (139). (¬16) هو أبو بكر أيوب بن أبي تميمة البصري السختياني، تقدمت ترجمته (1 147).

يَا أَبَا بَكْرٍ، قَدْ فَطِنْتُ إِلَى مَا صنعت، قال: (أوقد) (¬1) فَطِنْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَضُمَّنِي (مَعَهُ) (¬2) سَقْفُ بَيْتٍ (¬3). /وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فرآني ابن عون (¬4) فأعرض عني (شهرين) (¬5). وقيل: دخل (عمرو بن عبيد على) (¬6) ابْنِ عَوْنٍ فَسَكَتَ ابْنُ عَوْنٍ لَمَّا رَآهُ، وَسَكَتَ عَمْرٌو عَنْهُ فَلَمْ يَسْأَلْهُ/ عَنْ شَيْءٍ، فمكث (هنيهة) (¬7) ثم (قام فخرج) (¬8)، فقال ابن عون: بما اسْتَحَلَّ أَنْ دَخَلَ دَارِي بِغَيْرِ إِذْنِي؟ مِرَارًا يرددها، أما إنه لو تكلم، (أَمَا إِنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ) (¬9). وَعَنْ مُؤَمَّلِ بْنِ إسماعيل (¬10) قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: مَا لَكَ لَمْ تَرْوِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ (¬11) إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا؟ قَالَ: مَا أَتَيْتُهُ إِلَّا مرة واحدة لمساقه فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ أَيُّوبَ علم (بإتياني إياه) (¬12) إِلَيْهِ وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ لو علم لكانت (الفيصل فيما بيني وبينه (¬13). ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أقد". (¬2) في (غ) و (ر): "وإياه". (¬3) أخرجه ابن وضاح في البدع (140). (¬4) هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، تقدمت ترجمته ـ حامد ـ 1 207. (¬5) زيادة من (غ) و (ر) والبدع لابن وضاح، والأثر مخرج فيه (141). (¬6) زيادة من (غ) و (ر) والبدع لابن وضاح. (¬7) في البدع: هنية. وفي (ت): هنيئة. (¬8) زيادة من (غ) والبدع لابن وضاح. (¬9) زيادة من (غ) و (ر) والبدع لابن وضاح، والأثر مخرج فيه (142). (¬10) هو مؤمل بن إسماعيل أبو عبد الرحمن البصري، وثقه ابن معين، وقال عنه أبو حاتم: صدوق، شديد في السنة كثير الخطأ، يكتب حديثه. توفي سنة 206هـ. انظر: تهذيب التهذيب (10 380) والجرح والتعديل (8 374). (¬11) هو عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية، كان مع تعبده مرجئاً، قال عنه النسائي والدارقطني: متروك. وقال معمر: قال لي أيوب: لا تحمل عن عبد الكريم أبي أمية فإنه ليس بشيء، انظر: السير (6 83)، وميزان الاعتدال (2 646). (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بإتياني إليه". (¬13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الفيصلة بيني وبينه". والأثر أخرجه ابن وضاح في البدع (143).

/ (وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ) (¬1) لِمُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ (¬2): لَا تَقْرَبَنَّا مَا دُمْتَ عَلَى رَأْيِكَ هَذَا. وَكَانَ مُرْجِئًا (¬3). وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ (¬4) قَالَ: لَقِيَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَلَمْ أَرَكَ مَعَ طَلْقٍ (¬5)؟ قُلْتُ: بَلَى، فَمَا لَهُ؟ قَالَ: لَا تُجَالِسْهُ فَإِنَّهُ مُرْجِئٌ (¬6). وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ (¬7) قَالَ: رَأَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ مُحْرِزٍ (¬8) وَقَرِيبٌ منه (شببة) (¬9)، (فرآهم) (¬10) (يتجادلون) (¬11)، فَرَأَيْتُهُ قَائِمًا يَنْفُضُ ثِيَابَهُ وَيَقُولُ: (إِنَّمَا أَنْتُمْ جرب، إِنَّمَا أَنْتُمْ جُرْبٌ) (¬12). /وَعَنْ أَيُّوبَ قَالَ: دَخَلَ رجل على محمد بن سِيرِينَ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَقْرَأُ عَلَيْكَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا أَزِيدُ أَنْ أقرأها ثم أخرج؟ فوضع إصبعيه في ¬

(¬1) في (م) و (غ) و (ر): وعن إبراهيم قال، وهو إبراهيم بن يزيد النخعي الإمام المشهور، وكان شديداً على المرجئة، توفي سنة 96هـ. انظر: السير (4 520)، وطبقات ابن سعد (6 270). (¬2) لعله محمد بن السائب التيمي، فقد روى عن إبراهيم النخعي، وروى عنه مغيرة بن مقسم. انظر: الجرح والتعديل (7 271). (¬3) أخرج ابن وضاح في البدع (144)، وابن سعد في الطبقات (6 273). (¬4) سقط من جميع النسخ: (عن أيوب) وهو مذكور في الأثر كما في البدع لابن وضاح (145)، والدارمي (392)، وابن سعد في الطبقات (7/ 228). (¬5) هو طلق بن حبيب العنزي، من صغار التابعين، قال عنه أبو حاتم: طلق صدوق، يرى الإرجاء. توفي قبل المائة. انظر: طبقات ابن سعد (7 277)، والسير (4 601). (¬6) أخرجه ابن وضاح في البدع (145)، والدارمي في السنن (392)، وابن سعد في الطبقات (7/ 228). (¬7) هو محمد بن واسع بن جابر الأزدي، من صغار التابعين، قال عنه الدارقطني: ثقة بلي برواة ضعفاء، توفي سنة 127هـ. انظر: الجرح والتعديل (8 113)، وتهذيب التهذيب (9 499). (¬8) هو صفوان بن محرز المازني البصري، من التابعين، أخرج له البخاري ومسلم، توفي سنة 74هـ. انظر: طبقات ابن سعد (7 147)، والسير (4 286). (¬9) في جميع النسخ: شيبة. والتصحيح من (غ) و (ر) وابن وضاح. (¬10) في (ط) و (خ): "فرآهما". (¬11) في جميع النسخ ما عدا (غ) و (ر): يتجادلان. (¬12) ما بين () زيادة من (غ) و (ر) والبدع، والأثر أخرجه ابن وضاح (149).

المسألة الثالثة والعشرون

أذنيه ثم قال: (أحرج) (¬1) عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا (إِلَّا) (¬2) خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِي ـ قَالَ ـ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، لَا أزيد على أن أقرأ ثم أخرج، (فقال بإزاره يشده عليه) (¬3) وَتَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ فَأَقْبَلْنَا عَلَى الرَّجُلِ، فَقُلْنَا: قَدْ (حرَّج) (¬4) عَلَيْكَ إِلَّا خَرَجْتَ (أَفَيَحِلُّ) (¬5) لَكَ أَنْ تُخْرِجَ رجل مِنْ بَيْتِهِ؟ قَالَ: فَخَرَجَ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا عَلَيْكَ لَوْ قَرَأَ آيَةً (ثُمَّ خَرَجَ) (¬6)؟ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ قَلْبِي (يَثْبُتُ) (¬7) عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مَا بَالَيْتُ أَنْ يَقْرَأَ، وَلَكِنْ (خِفْتُ) (¬8) أَنْ يُلْقِي فِي قَلْبِي شَيْئًا أَجْهَدُ فِي إِخْرَاجِهِ مِنْ قَلْبِي فَلَا أَسْتَطِيعُ (¬9). وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: (لَا تمكنوا) (¬10) صَاحِبَ/ بِدْعَةٍ مِنْ جَدَلٍ فَيُورِثَ قُلُوبَكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ (¬11). فَهَذِهِ آثَارٌ تُنَبِّهُكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَتْ إِشَارَةُ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مَقْصُودًا وَاللَّهُ أعلم. (نعم) (¬12) تَأْثِيرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ فِي الْقُلُوبِ مَعْلُومٌ، وَثَمَّ مَعْنًى آخَرُ قَدْ يَكُونُ مِنْ فَوَائِدِ تَنْبِيهِ الْحَدِيثِ بِمِثَالِ دَاءِ الْكَلْبِ/ وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى السَّبَبِ فِي بُعْدِ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ عَنِ التَّوْبَةِ، إِذْ كَانَ/ ¬

(¬1) في (ط) و (خ): أعزم. (¬2) في (غ) و (ر): لما. (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فقام لإزاره يشده". (¬4) في (ط) و (خ): عزم. (¬5) في (م) و (غ) و (ر): فيحل. (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): ثبت. (¬8) ساقط من (غ) و (ر). (¬9) أخرجه ابن وضاح في البدع (150)، وبنحوه في الدارمي (397)، وعبد الله في السنة (100)، والآجري في الشريعة (120)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (242)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (377). (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تكلموا". (¬11) أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (151). (¬12) زيادة من (غ) و (ر).

المسألة الرابعة والعشرون

مَثَلُ الْمَعَاصِي الْوَاقِعَةِ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوِ اعْتِقَادًا، كَمَثَلِ الْأَمْرَاضِ النَّازِلَةِ بِجِسْمِهِ أَوْ رُوحِهِ، فَأَدْوِيَةُ الْأَمْرَاضِ/ الْبَدَنِيَّةِ/ مَعْلُومَةٌ، وَأَدْوِيَةُ الْأَمْرَاضِ الْعَمَلِيَّةِ التَّوْبَةُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَكَمَا أَنَّ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّدَاوِي وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّدَاوِي أَوْ يعسر (كالكَلَبِ، كذلك) (¬1) (في) (¬2) أمراض الأعمال، (منها) (¬3) مَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّوْبَةُ عَادَةً، (وَمِنْهَا) (¬4) مَا لَا يُمْكِنُ. /فَالْمَعَاصِي كُلُّهَا غَيْرُ الْبِدَعِ يُمْكِنُ فِيهَا التَّوْبَةُ مِنْ أَعْلَاهَا وَهِيَ الْكَبَائِرُ إِلَى أَدْنَاهَا (وَهِيَ) (¬5) اللَّمَمُ، وَالْبِدَعُ أَخْبَرْنَا فِيهَا إِخْبَارَيْنِ كِلَاهُمَا يُفِيدُ أَنْ لَا تَوْبَةَ مِنْهَا: الْإِخْبَارُ الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا تَوْبَةَ لَهُ، مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وَالْآخَرُ: مَا نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الْبِدَعِ بِمَا لَا نُجْحَ فِيهِ مِنَ الْأَمْرَاضِ كَالْكَلْبِ، فَأَفَادَ أَنْ لَا نُجْحَ مِنْ ذَنْبِ الْبِدَعِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءِ عُمُومٍ، بَلِ اقْتَضَى أَنَّ عَدَمَ التَّوْبَةِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ تُجَارَى بِهِ الْهَوَى كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ (لا) (¬6) يَتَجَارَى بِهِ الْهَوَى عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَتَبَيَّنَ الشاهد عليه، ونشأ من ذلك معنى (آخر) (¬7) زائد هو من فوائد الحديث ـ وهي: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَهُوَ أَنَّ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ مَنْ لَا يُشْرَبُ (هَوَى) (¬8) الْبِدْعَةِ ذَلِكَ الْإِشْرَابَ، فَإِذًا يُمْكِنُ فِيهِ التَّوْبَةُ، وَإِذَا أَمْكَنَ فِي أَهْلِ الْفِرَقِ أَمْكَنَ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ، وهم أهل البدع الجزئية. ¬

(¬1) في (م): كالكلب لذي. وفي (ط) و (خ) و (ت): كذلك الكلب. (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الذي في". (¬3) في (ت): فمنه. (¬4) في (ت): فمنه. (¬5) في (م) و (غ) و (ر): وهو. (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في (م): "هو".

فَإِمَّا أَنْ (يُرَجَّحَ) (¬1) مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي إسنادها شيء، (وأعلى) (¬2) ما (تجري) (¬3) فِي الْحِسَانِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ مَا هُوَ صَحِيحٌ، كَقَوْلِهِ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السهم من الرمية ثُمَّ لَا يَعُودُونَ (حَتَّى يَعُودَ) (¬4) السَّهْمُ عَلَى فوقه" (¬5) وما (أشبهه) (¬6). وإما أن يجمع بينهما، (فيُجعل) (¬7) النَّقْلَ الْأَوَّلَ عُمْدَةً فِي (عُمُومِ) (¬8) قَبُولِ التَّوْبَةِ، ويكون هذا الإخبار أمراً آخر زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ لَا يَتَنَافَيَانِ، بِسَبَبِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْبِدَعِ مُصَاحِبَةَ الْهَوَى، وَغَلَبَةُ الْهَوَى/ لِلْإِنْسَانِ فِي الشَّيْءِ الْمَفْعُولِ أَوِ الْمَتْرُوكِ لَهُ أَبَدًا أَثَرٌ فِيهِ، وَالْبِدَعُ كُلُّهَا تُصَاحِبُ الْهَوَى، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَصْحَابُهَا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ/ فَوَقَعَتِ التسمية (بها، وهو) (¬9) الغالب عليهم إذ العمل المبتدع إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْهَوَى مَعَ شُبْهَةِ/ دَلِيلٍ، لَا عَنِ الدَّلِيلِ بِالْعَرْضِ فَصَارَ هَوًى (يُصَاحِبُهُ) (¬10) دليل شرعي في الظاهر، فكان (أحرى) (¬11) في (الوقوع) (¬12) مِنَ الْقَلْبِ مَوْقِعَ السُّوَيْدَاءِ فَأُشْرِبَ حُبَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَفَاوَتُ، إِذْ لَيْسَ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ ولكنه/ تشريع كله، فاستحق صَاحِبُهُ أَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ، عَافَانَا اللَّهُ مِنَ النَّارِ بِفَضْلِهِ (وَمَنِّهِ) (¬13). وَإِمَّا أَنَّ (يَعْمَلَ) (¬14) هَذَا الْحَدِيثَ مَعَ الْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ ـ عَلَى فَرْضِ ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "نرجح". (¬2) في (ت): "على". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يجري". (¬4) في (ط) و (م) و (خ): كما يعود وفي (ت): "كما لا يعود". (¬5) تقدم تخريجه (1/ 111). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أشبه". (¬7) في (غ) و (ر): "فنجعل". (¬8) في (غ) و (ر): بياض بمقدار كلمة، ولعل الصواب: "عدم". (¬9) في (غ) و (ر): "بما هو". (¬10) في (غ) و (ر): "مصاحبه". (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أجرى". (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "البدع". (¬13) ساقط من (غ) و (ر). (¬14) ساقط من (غ) و (ر).

المسألة الخامسة والعشرون

الْعَمَلِ (بِهِ) (¬1) ـ وَنَقُولُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأخبار (عام) (¬2)، وهذا يفيد الخصوص كما (تقدم تفسيره) (¬3) أَوْ يُفِيدُ/ مَعْنًى يُفْهَمُ مِنْهُ الْخُصُوصُ، وَهُوَ الإشراب في أعلى المراتب مسوقاً مساق (التبعيض) (¬4)، لِقَوْلِهِ: "وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ" إِلَى آخره، فدل (على) (¬5) أَنَّ ثَمَّ أَقْوَامًا أُخَرَ لَا تَتَجَارَى بِهِمْ تلك الأهواء على ما قال، بل (على) (¬6) أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا تَتَجَارَى بِهِمْ ذَلِكَ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ بِحَسَبِ مَا أَعْطَاهُ/ الْمَوْضِعُ، وَتَمَامُ الْمَسْأَلَةِ قَدْ مَرَّ فِي الْبَابِ الثَّانِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ في الأحاديث كلها تخصيص، وبالله التوفيق. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: (أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ) (¬7)، فَجَعَلَ أَعْظَمَ تِلْكَ الْفِرَقِ فِتْنَةً عَلَى الْأُمَّةِ أَهْلَ الْقِيَاسِ، وَلَا كُلَّ قِيَاسٍ، بَلِ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، (فَإِنَّ أَهْلَ الْقِيَاسِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ على غير أصل لا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَصْلٍ) (¬8) مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ/ صَحِيحَةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ مُعْتَبَرٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ أَصْلٌ ـ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ ـ/ فَهُوَ الَّذِي لَا يَصِحُّ أَنْ يُوضَعَ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، وَأَنْ يَصِيرَ الْحَلَالُ بِالشَّرْعِ حَرَامًا بِذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَالْحَرَامُ حَلَالًا، فَإِنَّ الرَّأْيَ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَأْيٌ لَا يَنْضَبِطُ إِلَى قَانُونٍ شَرْعِيٍّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّ الْعُقُولَ تَسْتَحْسِنُ ما لا يستحسن شرعاً، ¬

(¬1) ساقط من (غ) و (ر). (¬2) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "عامة". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): تفيده. (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التبغيض". (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هي". (¬7) تقدم تخريجه (3/ 123). (¬8) ما بين () ساقط من (غ) و (ر).

وَتَسْتَقْبِحُ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ شَرْعًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلِ فِتْنَةً عَلَى النَّاسِ. ثُمَّ أَخْبَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ (المُعْمِلين) (¬1) لِهَذَا الْقِيَاسِ أَضَرُّ عَلَى النَّاسِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْفِرَقِ، وَأَشَدُّ فِتْنَةً، وَبَيَانُهُ: ((¬2) أَنَّ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَدِ اشْتَهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرُدُّهَا وَاسْتَفَاضَتْ، وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ مَقْمُوعُونَ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، بِخِلَافِ/ الْفُتْيَا، فَإِنَّ أَدِلَّتَهَا من الكتاب والسنة (قد) (¬3) لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْأَفْرَادُ، وَلَا يُمَيِّزُ (ضَعِيفَهَا مِنْ قَوِيِّهَا) (¬4) إِلَّا الْخَاصَّةُ، وَقَدْ يَنْتَصِبُ لَلْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ (مِمَّنْ) (¬5) يُخَالِفُهَا كَثِيرٌ. وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ مَعْنَاهُ مَحْفُوظًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، لَا أَقُولُ: عَامٌ أَمْطَرُ مِنْ عَامٍ، وَلَا عَامٌ/ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرٌ/ خير من أمير، ولكن: ذهاب خياركم وعلماؤكم، ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُهْدَمُ الْإِسْلَامُ وَيُثْلَمُ (¬6). وَهَذَا الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْجُودٌ فِي (الْحَدِيثِ) (¬7) الصَّحِيحِ، حَيْثُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُستفتون (فَيُفْتُونَ) (¬8) بِرَأْيِهِمْ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ" (¬9). /وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالتَّابِعِينَ تَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالرَّأْيِ يُحِلُّ الْحَرَامَ ويحرم الحلال. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "المعلمين". (¬2) من بداية هذا القوس إلى قوله: ( .. بنوع تأويل وهذا بينٌ) من (3/ 234)، نقله الشاطبي من شيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل (ص296 ـ 299) بنصه، إلا أنه تصرّف في بعض المواطن ببعض الاختصار، وهناك اختلاف يسير في بعض الألفاظ، يظهر أنه ناشئ من اختلاف النسخة التي نقل منها الشاطبي. (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) في (ت): "قويها من ضعيفها". (¬5) في (ت): "من". (¬6) تقدم تخريجه (1 130). (¬7) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) تقدم تخريجه (3/ 99).

وَمَعْلُومٌ/ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الذامَّة لِلرَّأْيِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهَا ذَمَّ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْأُصُولِ فِي نَازِلَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، مِمَّنْ يَعْرِفُ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ، وَيَفْهَمُ مَعَانِيَ/ الْأَحْكَامِ فَيَقِيسُ قِيَاسَ تشبيه أو تعليل (¬1)، قَيِاسًا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، فإن هذا ليس فيه تحليل (الحرام) (¬2) (ولا العكس) (¬3)، وإنما القياس الهادم للإسلام ما عارض الكتاب والسنة، أو ما كان عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، أَوْ مَعَانِيهَا الْمُعْتَبَرَةَ. ثُمَّ إِنَّ مُخَالَفَةَ هَذِهِ الْأُصُولِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِفَ أَصْلًا مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً مِنْ غَيْرِ اسْتِمْسَاكٍ بِأَصْلٍ آخَرَ، فَهَذَا لَا يَقَعُ مِنْ مُفْتٍ مَشْهُورٍ إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَصْلُ لَمْ يَبْلُغْهُ، كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ لم (تبلغهم) (¬4) بَعْضُ السُّنَنِ فَخَالَفُوهَا خَطَأً، وَأَمَّا الْأُصُولُ الْمَشْهُورَةُ فَلَا يُخَالِفُهَا مُسْلِمٌ خِلَافًا ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ بِأَصْلٍ آخَرَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُخَالِفَهَا بعض المشهورين بالفتيا. /وَالثَّانِي: أَنْ يُخَالِفَ الْأَصْلَ بِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ هو فيه مخطئ، بأن ¬

(¬1) القياس ينقسم عند الأصوليين إلى ثلاثة أقسام: أـ قياس العلة: وهو ما كان الجمع فيه بين الأصل والفرع بنفس العلة كالإسكار. ب ـ قياس الشبه ـ ويسمى قياس الدلالة ـ: وهو ما كان الجمع فيه بين الأصل والفرع بدليل العلة، كملزومها أو حكمها أو أثرها، ومثال ملزوم العلة: إلحاق النبيذ بالخمر في المنع بجامع الشدة المطربة؛ لأنها ملزومة الإسكار الذي هو العلة. ومثال أثر العلة: إلحاق القتل بالمثقل بالقتل بمحدد في القصاص بجامع الإثم، لأن الإثم أثر العلة التي هي القتل والعمد والعدوان، والمثال بحكم العلة: جواز رهن المشاع قياساً على جواز بيعه بجامع جواز البيع. ج ـ وهو ما جمع فيه بنفي الفارق، وهو القياس في معنى الأصل، وهو مفهوم الموافقة، وتنقيح المناط، والأكثر على أنه ليس من القياس. انظر: مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (ص270، 271)، ونزهة الخاطر العاطر (2 301، 302)، (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وتحريم". (¬3) ما بين القوسين ساقط من ت. (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يبلغهم".

يَضَعَ الِاسْمَ عَلَى غَيْرِ (مَوْضِعِهِ) (¬1) أَوْ عَلَى بَعْضِ (مَوَاضِعِهِ) (¬2) أَوْ يُرَاعِيَ فِيهِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ دُونَ اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْوِيلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَنَّ تَحْلِيلَ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا فحرَّمه بِغَيْرِ تَأْوِيلِ، أَوِ التَّحْرِيمَ/ مَشْهُورًا فحلَّله بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، كَانَ كُفْرًا وَعِنَادًا، وَمِثْلُ هَذَا لَا/ تَتَّخِذُهُ الْأُمَّةُ رَأْسًا قَطُّ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ قَدْ كَفَرَتْ، وَالْأُمَّةُ لَا تَكْفُرُ أَبَدًا. وَإِذَا بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ. وَإِذَا كَانَ التَّحْلِيلُ أَوِ التَّحْرِيمُ غَيْرَ مَشْهُورٍ فَخَالَفَهُ/ مُخَالِفٌ لَمْ يَبْلُغْهُ دَلِيلُهُ، فَمِثْلُ هَذَا/ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا مِنْ لَدُنْ زَمَانِ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، (ثم هَذَا) (¬3) إِنَّمَا يَكُونُ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ، فَلَا تَضِلُّ الْأُمَّةُ وَلَا يَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ وَلَا يُقَالُ (لمثل هذا) (¬4) إِنَّهُ مُحْدَثٌ عِنْدَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ. فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَهُ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ، وَهَذَا بيِّن) (¬5) فِي المبتدعة الذين تركوا معظم الكتاب والذي تظافرت عَلَيْهِ أَدِلَّتُهُ، وَتَوَاطَأَتْ عَلَى مَعْنَاهُ شَوَاهِدُهُ، وَأَخَذُوا فِي اتِّبَاعِ بَعْضِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَتَرْكِ أُمِّ الْكِتَابِ. (فإن) (¬6) هَذَا ـ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ـ زَيْغٌ وَمَيْلٌ عن الصراط المستقيم، فإن تقدموا أئمةَ (¬7) يفتون ويقتدى (بأقوالهم وأفعالهم) (¬8) سَكَنَتْ إِلَيْهِمُ الدَّهْمَاءُ ظَنًّا أَنَّهُمْ بَالَغُوا لَهُمْ في الاحتياط على الدين، وهم يضلونهم بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَا شَيْءَ (أَعْظَمُ) (¬9) عَلَى (الْإِنْسَانِ) (¬10) مِنْ دَاهِيَةٍ تَقَعُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا ¬

(¬1) في ط: مواضعه. (¬2) في (غ) و (ر): موضعه. (¬3) في (ت): وهذا. (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): لهذا. (¬5) هنا ينتهي نقل الشاطبي من ابن تيمية. (¬6) في (م) و (خ) و (ت): "فإذا". وفي (ر): "فإنما". (¬7) (أئمة) حال منصوب، أي تقدموا حال كونهم أئمة، حيث جعلوا أنفسهم أئمة (نبه على ذلك رشيد رضا). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): بهم بأقوالهم وأعمالهم. (¬9) ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (غ) و (ر): أعز. (¬10) في (غ) و (ر): الناس.

المسألة السادسة والعشرون

يَحْتَسِبُ، فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ طَرِيقَهَا لَتَوَقَّاهَا مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا جَاءَتْهُ عَلَى غِرَّة فَهِيَ أَدْهَى وَأَعْظَمُ عَلَى مَنْ وَقَعَتْ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ إِذَا جَاءَتِ الْعَامِّيَّ مِنْ طَرِيقِ الفتيا، لأنه (استند) (¬1) فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ ظَهَرَ فِي رُتْبَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَيَضِلُّ مِنْ حَيْثُ يَطْلُبُ الْهِدَايَةَ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا الصِّرَاطَ/ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهم. المسألة السادسة والعشرون: إن ها هنا نَظَرًا لَفْظِيًّا فِي الْحَدِيثِ هُوَ مِنْ تَمَامِ الكلام فيه، وذلك أنه لما أخبر صلّى الله عليه وسلّم أَنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرَةُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، فَجَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى السُّؤَالُ عَنْهَا ـ سُؤَالُ التَّعْيِينِ ـ فَقَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَصْلُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: أَنَا وَأَصْحَابِي، وَمَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِنَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مما يعطي تعيين الفرقة، إما بالإشارة إليها أَوْ بِوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا/ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ/ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي الْجَوَابِ تَعْيِينُ الوصف لا تعيين الموصوف، فلذلك أتى بـ"ما" (التي تقتضي بظاهرها) (¬2) الْوُقُوعُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ مِنَ الْأَوْصَافِ وَغَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوْصَافُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُطَابِقِ السُّؤَالُ الْجَوَابَ فِي اللَّفْظِ. وَالْعُذْرُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَلْتَزِمُ ذَلِكَ النَّوْعَ/ إِذَا فُهِمَ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بيَّن لَهُمُ الْوَصْفَ الَّذِي بِهِ صَارَتْ نَاجِيَةً، فَقَالَ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي". /وَمِمَّا جَاءَ غَيْرَ مُطَابِقٍ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُطَابِقٌ قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} (¬3)، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَعْنَاهُ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هو أفضل من متاع (الحياة) (¬4) الدُّنْيَا؟ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: نَعَمْ! أَخْبِرْنَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} (¬5) ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): يستند. (¬2) في (ط): أتى فظاهرها. (¬3) سورة آل عمران: الآية (15). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) سورة آل عمران: الآية (15).

الْآيَةَ، أَيْ لِلَّذِينِ اتَّقَوُا اسْتَقَرَّ لَهُمْ عِنْدَ ربهم جنات تجري (من تحتها الأنهار. الْآيَةَ) (¬1). فَأَعْطَى مَضْمُونُ الْكَلَامِ مَعْنَى الْجَوَابِ عَلَى غَيْرِ لَفْظِهِ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} (¬2) الْآيَةَ، فَقَوْلُهُ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ) يَقْتَضِي الْمَثَلَ لَا الْمُمَثَّلُ ـ (كَمَا قَالَ تَعَالَى) (¬3): {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اُسْتَوْقَدَ نَارًا} (¬4) (ولكن) (¬5) (لما) (¬6) كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُمَثَّلَ جَاءَ بِهِ بِعَيْنِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ الْفِرَقَ وَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا فِرْقَةً نَاجِيَةً كَانَ الْأَوْلَى السُّؤَالَ عَنْ أَعْمَالِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، لَا عَنْ نَفْسِ الْفِرْقَةِ. لِأَنَّ التعريف (بها) (¬7) مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَّا من جهة/ أعمالها التي نجت بها. فالمقدم فِي الِاعْتِبَارِ هُوَ الْعَمَلُ لَا الْعَامِلُ، فَلَوْ سألوا (فقالوا) (¬8): مَا وَصْفُهَا؟ أَوْ مَا عَمَلُهَا؟ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكَانَ أَشَدَّ مُطَابَقَةً فِي اللَّفْظِ والمعنى، فلما فهم صلّى الله عليه وسلّم (منهم) (¬9) ما قصدوا/ أجابهم (على) (¬10) ذلك. أو نقول: لَمَّا تَرَكُوا السُّؤَالَ عَمَّا كَانَ الْأَوْلَى فِي حَقِّهِمْ، أَتَى بِهِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ، حِرْصًا منه صلّى الله عليه وسلّم عَلَى تَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ تَعَلُّمُهُ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ. /وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا سَأَلُوا عنه لا يتعين، (إذ) (¬11) لا تختص ¬

(¬1) في (غ): الآية، وفي (ت): "من تحتها الأنهار". (¬2) سورة محمد: الآية (15). (¬3) في (غ) و (ر): "فقال". (¬4) سورة البقرة: الآية (17). (¬5) في (م): "ولأن". وفي (ط) و (خ) و (ت): "ولأنه". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "كلما". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيها". (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) ساقط من (غ) و (ر). (¬10) ساقط من (غ) و (ر). (¬11) في (م): "إذا".

النَّجَاةُ بِمَنْ تَقَدَّمَ دُونَ مَنْ تَأَخَّرَ، إِذْ كانوا قد اتصفوا/ بوصف (الناجين) (¬1). وَمِنْ شَأْنِ هَذَا السُّؤَالِ التَّعْيِينُ وَعَدَمُ انْحِصَارِهِمْ بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين، (فانصرف) (¬2) القصد إلى/ تعيين الوصف الضابط للجميع، وهو ما كان عليه صلّى الله عليه وسلّم هو وأصحابه رضي الله عنهم. وَهَذَا الْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا كَالْمُبْهَمِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّائِلِ مُعَيَّنٌ، لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ لِلْحَاضِرِينَ مَعَهُمْ رَأْيَ عَيْنٍ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ غَايَةُ التَّعْيِينِ اللَّائِقِ بِمَنْ حَضَرَ، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْ أَحْوَالَهُمْ ولم (يبصر) (¬3) أَعْمَالَهُمْ فَلَيْسَ مِثْلَهُمْ، وَلَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ بِذَلِكَ عن التعيين المقصود، والله أعلم (انتهى) (¬4). ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التأخير". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وانصرف". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ينظر". (¬4) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر).

الباب العاشر في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان

/الباب العاشر فِي بَيَانِ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عنه سبل أَهْلِ الِابْتِدَاعِ فضلَّت عَنِ الْهُدَى بَعْدَ الْبَيَانِ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ وَكُلَّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَنَّ مَا سِوَاهَا مُنْحَرِفٌ عَنِ الْجَادَّةِ وَرَاكِبٌ بنيات الطريق، فوقع (الاختلاف بينهم إِذًا) (¬1) فِي تَعْيِينِهِ وَبَيَانِهِ، حَتَّى أَشْكَلَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ نَظَرَ فِيهَا، حَتَّى قَالَ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ أَوِ النقليات مصيب. فعدد الأقوال (إذاً) (¬2) فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَطْلَبِ عَلَى عَدَدِ الْفِرَقِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الِاخْتِلَافِ، إِذْ لَا (تَكَادُ) (¬3) تَجِدُ فِي الشَّرِيعَةِ مَسْأَلَةً/ يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ (فِيهَا) (¬4) عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ قَوْلًا إِلَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَتَحْرِيرُ النَّظَرِ حَتَّى تَتَّضِحَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الَّتِي كان (عليها) (¬5) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَصْحَابُهُ) (¬6) مِنْ أغمض المسائل. ووجه ثان (¬7): أن الطريق الْمُسْتَقِيمَ لَوْ تعيَّن بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَ الصحابة رضي الله عنهم لَمْ يَقَعِ اخْتِلَافٌ أَصْلًا، لَأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَعَ تَعْيِينِ مَحَلِّهِ مُحال، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ بِقَصْدِ الْعِنَادِ، لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُخْرِجٌ عن الإسلام، وكلامنا في الفرق (الإسلامية) (¬8). ¬

(¬1) في (ط) و (م) و (خ): "بينهم الاختلاف هذا"، وفي (غ) و (ر): "بينهم الاختلاف إذاً". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) ساقط من (غ) و (ر). (¬5) في (ط) و (م) و (خ): عليه. (¬6) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬7) الوجه الأول هو ما سبق من الكلام قبل قوله (ووجه ثان). (¬8) زيادة من (غ) و (ر).

وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَقَعُ مِنْ رَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي أَدِلَّتِهَا، وَالشَّهَادَةُ بِأَنَّ فُلَانًا رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ وَفُلَانًا غَيْرُ رَاسِخٍ، فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ وَانْحَازَ (إِلَى فرقة) (¬1) يزعم أنه الراسخ، (وغيره) (¬2) قاصر النظر (لم ترسخ قدمه في العلم) (¬3)، فَإِنْ فُرِضَ عَلَى ذَلِكَ الْمَطْلَبِ عَلَامَةٌ وَقَعَ النِّزَاعُ إِمَّا فِي الْعَلَامَةِ، وَإِمَّا فِي مَنَاطِهَا. /ومثال ذلك أن (من علامات) (¬4) الخروج/ (عن) (¬5) الْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةُ الْمُنَبِّهُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (¬6). /والفرقة بشهادة الجميع (إضافية) (¬7) فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَزْعُمُ أَنَّهَا هِيَ الْجَمَاعَةُ وَمَنْ سِوَاهَا مُفَارِقٌ لِلْجَمَاعَةِ. وَمِنَ الْعَلَامَاتِ/ اتِّبَاعُ مَا تشابه من الأدلة، وكل (فرقة) (¬8) تَرْمِي صَاحِبَتَهَا بِذَلِكَ (وَأَنَّهَا) (¬9) هِيَ الَّتِي اتَّبَعَتْ أُمَّ الْكِتَابِ دُونَ الْأُخْرَى فَتَجْعَلُ دَلِيلَهَا عُمْدَةً (وَتَرُدُّ) (¬10) إِلَيْهِ سَائِرَ الْمَوَاضِعِ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى عَكْسِ/ الأخرى. ومنها اتباع الهوى (وهو) (¬11) الَّذِي تَرْمِي بِهِ كُلُّ فِرْقَةٍ صَاحِبَتَهَا وَتُبَرِّئُ نَفْسَهَا مِنْهُ، فَلَا يُمْكِنُ فِي الظَّاهِرِ مَعَ هَذَا أَنَّ يَتَّفِقُوا عَلَى مَنَاطِ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَيْهَا لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُمْ بها بحيث (يشار) (¬12) (إليهم) (¬13) بتلك ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "لفرقة". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وغير". (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "علامة". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من". (¬6) سورة آل عمران: الآية (105). (¬7) في (ط) و (خ): وإضافية. (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "طائفة". (¬9) في (غ) و (ر): "وإنما". (¬10) في (م) و (غ) و (ر): وإما ترد. (¬11) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يشير". (¬13) في (غ) و (ر): "إليها".

العلامات، (نعم هم) (¬1) فِي التَّحْصِيلِ/ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا، وَبِذَلِكَ صَارَتْ عَلَامَاتٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ (مَعَ) (¬2) اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَنَاطِ (الضَّبْطُ) (¬3) بِالْعَلَامَاتِ. وَوَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ مَا تَقْدَمُ مِنْ فَهْمِنَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ فِي السَّتْرِ عَلَى هذه الأمة (فإنه) (¬4) وَإِنْ حَصَلَ التَّعْيِينُ بِالِاجْتِهَادِ، فَالِاجْتِهَادُ لَا يَقْتَضِي الاتفاق على محله. ألا ترى أن (العقلاء) (¬5) جزموا القول بأن (النظريات) (¬6) لا يمكن الاتفاق (عليها) (¬7) عَادَةً، فَلَوْ تَعَيَّنُوا بِالنَّصِّ لَمْ يَبْقَ إِشْكَالٌ. بل (قد) (¬8) (أصرَّ) (¬9) الْخَوَارِجِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَيَّنَهُمْ، وعين علامتهم في المخدج حيث قال ـ (مثلاً) (¬10) ـ: "آيَتُهُمْ/ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المرأة، أو مثل الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ" (¬11) الْحَدِيثَ (¬12). وَهُمُ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ لَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَهُوا، فما الظن بمن ليس له في النقل تَعْيِينٌ؟ وَوَجْهٌ خَامِسٌ: وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (¬13) (فالآية) (¬14) (تشعر) (¬15) في هذا المطلوب أن الخلاف ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وأنهم". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المنضبط". (¬4) زيادة من (ر). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "العلماء". (¬6) في (ط) و (خ) و (ت): النظريات وفي (م): النظريان. (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): عليهما. (¬8) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬9) في (ط) و (خ): أمر وفي (م) و (ت): أقر. (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) تدردر: أي تضطرب وتترجرج. انظر: المعجم الوسيط، مادة (تدردر). (¬12) تقدم تخريجه (ص114). (¬13) سورة هود: الآية (118). (¬14) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الآية". (¬15) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يشعر".

لا يرتفع، مع ما يعضده من (الجواب) (¬1) الَّذِي فَرَغْنَا مِنْ بَيَانِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ الْفِرَقِ، إِذِ الْآيَةُ لَا تُشْعِرُ بِخُصُوصِ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَبْقَى الْخِلَافُ فِي الْأَدْيَانِ دُونَ دِينِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ بَيَّنَ أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الْأُمَّةِ أَيْضًا، فَانْتَظَمَتْهُ الْآيَةُ بِلَا إِشْكَالٍ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ظَهَرَ بِهِ أَنَّ التَّعْيِينَ للفرقة الناجية بالنسبة (إلينا) (¬2) اجْتِهَادِيٌّ لَا/ يَنْقَطِعُ الْخِلَافُ فِيهِ، وَإِنِ ادُّعِيَ فِيهِ الْقَطْعُ دُونَ الظَّنِّ فَهُوَ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ، وَلَكُنَّا مَعَ ذَلِكَ نَسْلُكُ فِي الْمَسْأَلَةِ ـ بحول الله تعالى ـ مسلكاً وسطاً يذعن إلى قبوله (عقل) (¬3) (المنصف) (¬4) ويقر بصحته الْعَالِمُ/ بِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ (لِلصَّوَابِ) (¬5). فنقول:/ لا بد مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَطْلُوبِ، وذلك أن الإحداث في الشريعة يقع إما مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ تَحْسِينِ/ الظَّنِّ (بِالْعَقْلِ) (¬6)، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَهَذَا الْحَصْرُ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ مَرَّ فِي ذَلِكَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ/ شَوَاهِدُ الْمَسْأَلَةِ، إِلَّا أَنَّ الجهات الثلاث قد تنفرد وقد تجتمع، (وإذا) (¬7) اجْتَمَعَتْ فَتَارَةً تَجْتَمِعُ مِنْهَا (اثْنَتَانِ) (¬8) وَتَارَةً تَجْتَمِعُ (الثَّلَاثُ) (¬9) فَأَمَّا جِهَةُ الْجَهْلِ فَتَارَةً تَتَعَلَّقُ بِالْأَدَوَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْهَمُ الْمَقَاصِدُ، وَتَارَةً تَتَعَلَّقُ بِالْمَقَاصِدِ، وأما جهة تحسين الظن (بالعقل) (¬10) فَتَارَةً يُشْرَكُ فِي التَّشْرِيعِ مَعَ الشَّرْعِ، وَتَارَةً يُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا جِهَةُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَمِنْ شَأْنِهِ أن يغلب الفهم حتى (يغالب) (¬11) صاحبه الأدلة أو يستند إلى غير/ ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحديث". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إليها". (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (ط) و (خ): النمو. (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فإذا". (¬8) في (غ) و (ر): اثنان. (¬9) في (م) و (ت): الثلاثة. (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يقلب".

دليل وهذان النوعان (أيضاً) (¬1) يَرْجِعَانِ إِلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ؛ وَهِيَ: الْجَهْلُ بِأَدَوَاتِ الْفَهْمِ، وَالْجَهْلُ بِالْمَقَاصِدِ، وَتَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى. فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى كُلِّ واحد منها وبالله التوفيق. (النوع) (¬2) الأول: (¬3) (الجهل بأدوات الفهم، اعلم) (¬4) إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا لا عُجمة فيه، بمعنى أنه جار فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} (¬5)، وَقَالَ تَعَالَى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (¬6)، وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *} (¬7)، وَكَانَ/ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا أَفْصَحَ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ عَرَبًا أَيْضًا، فَجَرَى الْخِطَابُ بِهِ عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي لِسَانِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي إِلَّا وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ، وَلَمْ يُدَاخِلْهُ (شَيْءٌ) (¬8) بَلْ نَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ تَعَالَى/: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ *} (¬9). وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (¬10). /هذا وإن كان (قد) (¬11) بُعث لِلنَّاسِ كَافَّةً فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ جَمِيعَ الْأُمَمِ وَعَامَّةَ الْأَلْسِنَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ تَبَعًا لِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُفْهَمُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي أنزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها. ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في (غ): قبل كلمة: (النوع) كتب: فصل". (¬3) النوع الأول من أسباب الإحداث في الدين. (¬4) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬5) سورة الزخرف: الآية (3). (¬6) سورة الزمر: الآية (28). (¬7) سورة الشعراء: الآية (193 ـ 195). (¬8) في (غ) و (ر): "غيره". (¬9) سورة النحل: الآية (103). (¬10) سورة فصلت: الآية (44). (¬11) زيادة من (غ) و (ر).

أَمَّا أَلْفَاظُهَا فَظَاهِرَةٌ لِلْعِيَانِ، وَأَمَّا مَعَانِيهَا وَأَسَالِيبُهَا فَكَانَ مِمَّا/ يُعْرَفُ مِنْ مَعَانِيهَا اتِّسَاعُ لِسَانِهَا، وَأَنْ تُخَاطِبَ بِالشَّيْءِ مِنْهُ عَامًّا ظَاهِرًا يُرَادُ به (العام) (¬1) الظَّاهِرُ، (وَيُسْتَغْنَى بِأَوَّلِهِ عَنْ آخِرِهِ، وَعَامًّا ظَاهِرًّا يراد به العام ويدخله الخاص، ويستدل على هَذَا بِبَعْضِ الْكَلَامِ، وَعَامًّا ظَاهِرًا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ) (¬2) وَظَاهِرًا (يُعْرَفُ) (¬3) فِي سِيَاقِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ الظَّاهِرِ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا كُلِّهِ مَوْجُودٌ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخره. وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول اللفظ فيه عن آخره، أو (يبين) (¬4) / آخره عن أوله، وتتكلم بِالشَّيْءِ تَعْرِفُهُ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَمَا تَعْرِفُ (بِالْإِشَارَةِ) (¬5)، وَهَذَا عِنْدَهَا مِنْ أَفْصَحِ كَلَامِهَا، لِانْفِرَادِهَا بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهَا مِمَّنْ يَجْهَلُهُ، وَتُسَمِّي الشَّيْءَ (الواحد) (¬6) (بالأسماء) (¬7) الكثيرة، (وتضع) (¬8) اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا مَعْرُوفَةٌ (عِنْدَهَا) (¬9) وَتُسْتَنْكَرُ عِنْدَ غَيْرِهَا،/ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مَنْ زَاوَلَ كَلَامَهُمْ وَكَانَتْ لَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ وَثَبَتَ رُسُوخُهُ فِي عِلْمِ ذَلِكَ. فَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءِ (وَكِيلٌ) (¬10)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (¬11) فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الظَّاهِرِ الَّذِي لَا خُصُوصَ (فِيهِ) (¬12) فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ وَذِي رُوحٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاللَّهُ خَالِقُهُ، وكل دابة على الله رزقها، ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) ما بين () ساقط من (غ) و (ر). (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): بين. (¬5) في (م) و (غ) و (ر): "الإشارة". (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) في (م): "الأشياء". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وتوقع". (¬9) ما بين القوسين زيادة من (ط) و (غ) و (ر). (¬10) في (ت): "قدير". (¬11) سورة هود: الآية (6). (¬12) ساقط من (غ) و (ر).

ويعلم مستقرها (ومستودعها) (¬1). وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} (¬2)، فَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} إنما أريد به من (أطاق الجهاد دون من/ لم يطقه فهو خاص) (¬3) الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} عَامٌّ فِيمَنْ أَطَاقَ وَمَنْ لَمْ يُطِقْ، فَهُوَ عَامُّ الْمَعْنَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} (¬4)، فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخَاصُّ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَطْعَمَا جَمِيعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (¬5)، فَهَذَا عَامٌّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ أَحَدٌ/ مِنَ الناس. وقال إثر هذا: {أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فَهَذَا خَاصٌّ، لِأَنَّ التَّقْوَى إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَنْ عَقَلَهَا مِنَ الْبَالِغِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (¬6) فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الثَّانِي الْخُصُوصُ لَا الْعُمُومُ، وَإِلَّا/ فَالْمَجْمُوعُ لَهُمُ النَّاسُ نَاسٌ أَيْضًا وَهُمْ قَدْ خرجوا (منهم) (¬7)، لَكِنَّ لَفْظَ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَعَلَى مَا بَيْنَ ذَلِكَ، (فصح) (¬8) أنْ يُقَالُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا (لَكُمْ) (¬9)، والناس الأول القائلون كانوا أربعة نفر (¬10). ¬

(¬1) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬2) سورة التوبة: الآية (120). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أطاق ومن لم يطق فهو عام". (¬4) سورة الكهف: الآية (77). (¬5) سورة الحجرات: الآية (13). (¬6) سورة آل عمران: الآية (173). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): فيصح. (¬9) ساقط من (غ) و (ر). (¬10) لم أعرف من هم هؤلاء الأربعة، لكن ذكر المفسرون في المراد بالناس هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ركب لقيهم أبو سفيان من بني عبد القيس، والثاني: أن المقصود هو=

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} (¬1)، فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ إِلَهًا، دُونَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ. /وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} (¬2)، فَظَاهِرُ السُّؤَالِ عَنِ/ الْقَرْيَةِ نَفْسِهَا، وَسِيَاقُ قَوْلِهِ تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تَعْدُو وَلَا تَفْسُقُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} (¬3) الْآيَةَ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: {كَانَتْ ظَالِمَةً} دَلَّ (عَلَى) (¬4) أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} (¬5) الْآيَةَ، فَالْمَعْنَى بيَّن أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَرْيَةَ وَالْعِيرَ لَا يُخْبِرَانِ بِصِدْقِهِمْ. هَذَا كُلُّهُ مَعْنَى تَقْرِيرِ/ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (¬6) فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الثَّابِتَةِ لِلْعَرَبِ، وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ مبيِّن أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُفْهَمُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَتَى الشَّافِعِيُّ بِالنَّوْعِ الْأَغْمَضِ مِنْ طَرَائِقِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ بَسَطَهَا أَهْلُهَا، وَهُمْ أَهْلُ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَأَهْلُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَأَهْلُ الِاشْتِقَاقِ وَشَرْحِ مُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ، وَأَهْلُ الأخبار المنقولة عن العرب (المبينة) (¬7) لِمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ، فَجَمِيعُهُ نَزَلَ (بِهِ) (¬8) الْقُرْآنُ، وَلِذَلِكَ أطلق عليه عبارة (العربي). ¬

=نعيم بن مسعود الأشجعي، والثالث: أنهم المنافقون. انظر تفصيل الأقوال في: تفسير ابن جرير (7 404 ـ 413)، وابن كثير (1 431)، وزاد المسير (1 504 ـ 505)، والرسالة للشافعي (ص58 ـ 60)، والله تعالى أعلم. (¬1) سورة الحج: الآية (73). (¬2) سورة الأعراف: الآية (163). (¬3) سورة الأنبياء: الآية (11). (¬4) ساقط من (غ) و (ر). (¬5) سورة يوسف: الآية (82). (¬6) انظر: الرسالة للشافعي (ص41 ـ 64). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) ساقط من (غ) و (ر).

فَإِذَا ثَبَتَ/ هَذَا فَعَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْمُتَكَلِّمِ فِيهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ عَرَبِيًّا، أَوْ كَالْعَرَبِيِّ فِي كَوْنِهِ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، بَالِغًا فِيهِ مَبَالِغَ الْعَرَبِ، أَوْ مَبَالِغَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ وَدَانَاهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا كَحِفْظِهِمْ وَجَامِعًا كَجَمْعِهِمْ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَصِيرَ فَهْمُهُ عَرَبِيًّا فِي الْجُمْلَةِ/ وَبِذَلِكَ امْتَازَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، إِذْ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَارُوا أَئِمَّةً، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَحَسْبُهُ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ التَّقْلِيدُ، (وَلَا يَحْسُنُ) (¬1) ظَنُّهُ بِفَهْمِهِ دُونَ أَنْ يَسْأَلَ فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ/ بِهِ. قال الشافعي رحمه الله (¬2) لَمَّا قَرَّرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ: ... (فَمَنْ) (¬3) جَهِلَ/ هَذَا مِنْ لِسَانِهَا ـ يَعْنِي لِسَانَ الْعَرَبِ ـ وَبِلِسَانِهَا نَزَلَ (الْقُرْآنُ) (¬4) وَجَاءَتِ (السُّنَّةُ بِهِ) (¬5) فَتَكَلَّفَ الْقَوْلَ في علمها تكلف ما يجهل (بعضه) (¬6)، ومن تكلف ما جهل وما لم (تثبته معرفته) (¬7) كَانَتْ مُوَافَقَتُهُ لِلصَّوَابِ ـ إِنْ وَافَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يعرفه ـ غير محمودة، وكان (بخطئه) (¬8) غير معذور، (إذا نطق) (¬9) فِيمَا لَا يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْفَرْقِ (بَيْنَ) (¬10) الصَّوَابِ وَالْخَطَإِ فِيهِ. وَمَا قَالَهُ حَقٌّ، فَإِنَّ الْقَوْلَ في القرآن أو السنة بغير علم تكلف ـ وقد ¬

(¬1) في (م): "ويحسن" وفي (غ) و (ر): "وأن لا يحسن". (¬2) انظر: الرسالة (ص53). (¬3) هكذا في جميع النسخ: وفي المطبوع من الرسالة: "ممن". (¬4) في (غ) و (ر): "الكتاب". (¬5) هكذا في جميع النسخ وفي الرسالة: "السنة". (¬6) في (ط) و (خ): لفظه. (¬7) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): يثبته معرفة. (¬8) في (ط) و (خ) و (ت): "في تخطئته". وفي (م): "في تخطيه". (¬9) في (ط) و (م) و (خ): "إذا نظر". وفي (ت) والرسالة: "إذا ما نطق". (¬10) في (م): "من".

نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ ـ وَدُخُولٌ تَحْتَ مَعْنَى الْحَدِيثِ، حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا (فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلوا) (¬1) " (¬2) الْحَدِيثَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نبيه رجع إلى فهمه الأعجمي وعقله المجرد عن التمسك بدليل، (فيضل) (¬3) عَنِ الْجَادَّةِ. /وَقَدْ خرَّج ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ (الرَّجُلَ) (¬4) (يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ) (¬5) (لِيُقِيمَ بِهَا) (¬6) لِسَانَهُ،/ وَيُصْلِحَ بِهَا مَنْطِقَهُ؟ قال: نعم فليتعلمها، فإن الرجل يقرأ (الآية) (¬7) فَيَعِيَا بِوَجْهِهَا فَيَهْلِكُ (¬8). وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: (أَهْلَكَتْهُمُ) (¬9) (العجمة) (¬10)، يتأولون (القرآن) (¬11) على غير تأويله (¬12). والأمر الثاني: (مما على الناظر في الشريعة والمتكلم فيها) (¬13): أَنَّهُ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ لَفْظٌ أَوْ مَعْنًى فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَوْلِ فِيهِ دُونَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ إِمَامًا فِيهَا، وَلَكِنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. فَالْأَوْلَى/ فِي حَقِّهِ الِاحْتِيَاطُ، إِذْ قَدْ يَذْهَبُ/ عَلَى الْعَرَبِيِّ الْمَحْضِ بَعْضُ الْمَعَانِي الْخَاصَّةِ حتى يسأل عنها، وقد ¬

(¬1) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬2) تقدم تخريجه (1/ 117). (¬3) في (ط) و (م) و (خ): "يضل"، وفي (غ) و (ر): "فضل" .. (¬4) ساقط من (غ) و (ر). (¬5) في (غ) و (ر): "يتكلم بالعربية". (¬6) في (ط) و (م) و (خ): "بها ليقيم". وفي هامش (ت): "ليقوّم بها". (¬7) زيادة من (م). وفي (غ) و (ر): بالآية. (¬8) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 167) برقم (38)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 260) برقم (1691). (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): أهلكتكم. (¬10) في (غ) و (ر): العجمية. (¬11) زيادة من (غ) و (ر). (¬12) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 93)، وذكره في خلق أفعال العباد (ص75 و109)، وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (4/ 26)، والمزي في تهذيب الكمال (10/ 122). (¬13) ما بين القوسين زيادة من (ت).

نقل من هذا عن الصحابة رضي الله عنهم ـ وَهُمُ الْعَرَبُ ـ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ. نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (¬1) حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ/ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا أَيْ: أَنَا ابْتَدَأْتُهَا (¬2). /وَفِيمَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ (بْنِ الْخَطَّابِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْ مَعْنَى قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} (¬3) فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ أَنَّ التَّخَوُّفَ عِنْدَهُمْ (هو) (¬4) التنقص (¬5) وأشباه ذلك كثير. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، قَالَ: وَلَا نَعْلَمُهُ يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ إِنْسَانٌ غَيْرُ نَبِيٍّ وَلَكِنَّهُ لَا يَذْهَبُ منه شيء على عامتها حَتَّى (لَا) (¬6) يَكُونَ مَوْجُودًا/ فِيهَا مَنْ يَعْرِفُهُ، قَالَ: وَالْعِلْمُ بِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ كَالْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِ (الْعِلْمِ) (¬7) لَا نَعْلَمُ رَجُلًا جَمَعَ السُّنَنَ فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِذَا جَمَعَ (عِلْمَ) (¬8) عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا أَتَى على السنن (كلها) (¬9)، وإذا فرق (علم) (¬10) كُلَّ وَاحِدٍ (مِنْهُمْ) (¬11) ذَهَبَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْهَا، ثُمَّ كَانَ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَوْجُودًا عِنْدَ غَيْرِهِ (مِمَّنْ كَانَ فِي طَبَقَتِهِ وَأَهْلِ عِلْمِهِ، قَالَ:) (¬12) وَهَكَذَا لِسَانُ الْعَرَبِ عِنْدَ خَاصَّتِهَا وعامتها، لا ¬

(¬1) سورة يوسف: الآية (101). (¬2) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص206). (¬3) سورة النحل: الآية (47). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر). (¬5) انظر: معاني القرآن للفراء (2 101). (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) في المطبوع من الرسالة: الفقه. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (م) و (ت) و (غ) و (ر). (¬9) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) ساقط من (غ) و (ر). (¬12) في المطبوع من الرسالة بدلاً من الجملة التي بين القوسين، النص التالي: (وهم في العلم طبقات: منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقل مما جمع غيره، وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها دليلاً على أن يطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم، بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه، حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله، بأبي هو وأمي، فيتفرد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وعوا منها).

يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَيْهَا، وَلَا يُطْلَبُ عِنْدَ غَيْرِهَا (وَلَا يَعْلَمُهُ) (¬1) إِلَّا مَنْ (نَقَلَهُ) (¬2) عَنْهَا، وَلَا يُشْرِكُهَا فِيهِ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهَا فِي تَعَلُّمِهِ مِنْهَا، وَمَنْ قَبِلَهُ مِنْهَا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ لِسَانِهَا، وَإِنَّمَا صَارَ غَيْرُهُمْ مِنْ غَيْرِ أهله (بتركه) (¬3) فَإِذَا صَارَ إِلَيْهِ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ) (¬4). /هَذَا مَا قَالَ وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا لَزِمَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْكَلَامَ الَّذِي بِهِ أُدِّيَتْ، وَأَنْ لَا يَحْسُنَ ظَنُّهُ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ لَهُ مِنْ أهل علم العربية بأنه ممن يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، وَأَنْ لَا يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ الَّتِي لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمُهُ دُونَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى هَذِهِ الْوَصَاةِ كَانَ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ مُوَافِقًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام. روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله/ عنهما أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ خير الناس؟ قال: (ذو القلب (المخموم) (¬5)، وَاللِّسَانِ الصَّادِقِ. قُلْنَا: قَدْ عَرَفْنَا اللِّسَانَ الصَّادِقَ، فما ذو القلب/ (المخموم) (¬6)؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا حَسَدَ، قُلْنَا: فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قال: الذي (يشنأ) (¬7) الدُّنْيَا وَيُحِبُّ الْآخِرَةَ، قُلْنَا: مَا نَعْرِفُ هَذَا فِينَا إِلَّا رَافِعًا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (قُلْنَا) (¬8): فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي خُلُقٍ حَسَنٍ، قُلْنَا: أَمَّا هذا فإنه فينا) (¬9). ¬

(¬1) ساقط من (غ) و (ر). (¬2) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "قبله". (¬3) في (ط) و (م) و (ت): "لتركه". (¬4) انظر: الرسالة (ص42 ـ 44). (¬5) (¬6) في (ط) و (خ): "المهموم"، وفي (ت): "المحموم"، وما أثبته هو الموافق لنص الحديث. (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ينسى". (¬8) ساقط من (غ) و (ر). (¬9) أخرجه ابن ماجه (4216)، والطبراني في مسند الشاميين (1218)، وأبو نعيم في الحلية (1 183)، و (6 69)، والبيهقي في شعب الإيمان (6604)، وذكر ابن حجر في الإصابة (2 447)، الخلاف في اسم الصحابي المذكور في الحديث، هل هو رافع أو أبو رافع؟ ورجح الأول، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (948).

وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُدَالِكُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَانَ مُلْفَجاً (¬1)، فَقَالَ لَهُ/ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا قُلْتُ وَمَا قَالَ لَكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ) (¬2)؟ فَقَالَ: قَالَ: أَيُمَاطِلُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ إِذَا كَانَ فَقِيرًا"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا رَأَيْتُ (الَّذِي هُوَ) (¬3) أَفْصَحُ مِنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فقال: وكيف لَا وَأَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأُرْضِعْتُ فِي بَنِي/ سَعْدٍ (¬4). فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ اللُّغَةِ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ بَعْضِ الْعَرَبِ، فَالْوَاجِبُ السُّؤَالُ كَمَا سَأَلُوا فَيَكُونُ/ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، (وَإِلَّا زَلَّ) (¬5) فَقَالَ فِي الشَّرِيعَةِ بِرَأْيِهِ لَا (بِلِسَانِهَا) (¬6) وَلْنَذْكُرْ لِذَلِكَ سِتَّةَ أَمْثِلَةٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ (¬7) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} (¬8) أَنَّ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَجِئْ بَعْدُ، وَكَذَبَ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَذْهَبَ الرَّافِضَةِ، فَإِنَّهَا تَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ فَلَا يَخْرُجُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مِنْ وَلَدِهِ حَتَّى يُنَادِيَ عَلِيٌّ مِنَ السَّمَاءِ: اخْرُجُوا مَعَ فُلَانٍ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} الْآيَةَ، عِنْدَ جَابِرٍ حَسْبَمَا فَسَّرَهُ سُفْيَانُ مِنْ قوله: لم يجئ (تأويل هذه) (¬9)، (قال سفيان: وكذب) (¬10) كانت ¬

(¬1) مُلْفَجاً بضم الميم وسكون اللام وفتح الفاء، هكذا ضبطه ابن منظور في لسان العرب، وهو هنا بمعنى: أن للرجل أن يماطل زوجته في المهر إذا كان فقيراً. انظر: لسان العرب لابن منظور، مادة (لفج). (¬2) ساقط من (غ) و (ر). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): هو الذي. (¬4) أخرجه بنحوه الجرجاني في تاريخه (1 187)، برقم (255)، وذكر العجلوني في كشف الخفاء (1 72)، أن ثابتاً السرقسطي أخرجه في الدلائل بسندٍ واهٍ، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2185). (¬5) في (م): "وإذ لا زال". (¬6) في (م): "بلسانه". (¬7) هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي، ضعيف رافضي، التقريب (878). (¬8) سورة يوسف: الآية (80). (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بعد بل هذه الآية". (¬10) زيادة من (م) و (غ) و (ر)، وهي كذلك في صحيح مسلم.

الآية فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِ مُسْلِمٍ (¬1). وَمَنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ فَلَا يَرْتَابُ فِي أَنَّ سِيَاقَ الْقُرْآنِ دَالٌّ عَلَى مَا قَالَ سُفْيَانُ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ جَابِرٌ لَا يَنْسَاقُ. وَالثَّانِي: / قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يجوز للرجل نكاح تسع من (الحرائر) (¬2) مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (¬3) لِأَنَّ أَرْبَعًا إِلَى ثَلَاثٍ إِلَى اثْنَتَيْنِ تِسْعٌ (¬4)، وَلَمْ يَشْعُرْ بِمَعْنَى فُعَالٍ وَمَفْعَلٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ، فَانْكِحُوا إِنْ شِئْتُمُ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا (ثَلَاثًا) (¬5)، أَوْ أَرْبَعًا أَرْبَعًا عَلَى التَّفْصِيلِ لَا عَلَى مَا قَالُوا. وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الْخِنْزِيرِ إِنَّمَا هُوَ اللَّحْمُ (¬6)، وَأَمَّا الشَّحْمُ/ فَحَلَالٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا حرَّم اللَّحْمَ دُونَ الشَّحْمِ، وَلَوْ عَرَفَ أَنَّ اللَّحْمَ يُطْلَقُ عَلَى الشَّحْمِ أَيْضًا ـ بِخِلَافِ الشَّحْمِ فَإِنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّحْمِ ـ لَمْ يَقُلْ مَا قَالَ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءً فَانٍ حَتَّى ذَاتِ الْبَارِي ـ تَعَالَى اللَّهُ/ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ـ مَا عَدَا الْوَجْهَ (¬7) بِدَلِيلِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ ¬

(¬1) انظر: صحيح مسلم (1 20 ـ 21). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحلائل". (¬3) سورة النساء: الآية (3). (¬4) الذين قالوا بجواز نكاح تسعة نساء هم الرافضة، وقد رد عليهم العلماء في تفسيرهم لهذه الآية وأن الإجماع منعقد على حرمة الجمع بين أكثر من أربع نساء. انظر: تفسير ابن جرير (7 546)، وابن كثير (1 451)، والقرطبي (5 13)، والشوكاني (1 420، 421)، وزاد المسير (2 7 ـ 8)، وأحكام القرآن للجصاص (2 55)، والمحلى لابن حزم (10 441). (¬5) ما بين القوسين ساقط من (ط). (¬6) ذكر ابن كثير أن الذين أباحوا شحم الخنزير دون لحمه هم بعض أهل الظاهر، وقد رد عليهم في تفسيره (2 8 ـ 9)، والشوكاني في فتح القدير (1 169)، وذكر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (2 150)، الإجماع على تحريم شحم الخنزير، وأطال ابن حزم في الرد على من أباح شيئاً من الخنزير في المحلى (7 388 ـ 392). (¬7) الذي قال هذه المقولة هو بيان بن سمعان، انظر: مقالات الإسلاميين (ص5)، والملل والنحل (1 152)، والفرق بين الفرق (ص236).

وَجْهَهُ} (¬1)، وإنما المراد بالوجه (ها) (¬2) هُنَا غَيْرُ مَا قَالَ، فَإِنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ تأويلات، (وقصدُ) (¬3) هذا القائل لَا يَتَّجِهُ لُغَةً وَلَا (مَعْنًى) (¬4)، وَأَقْرَبُ قَوْلٍ لِقَصْدِ هَذَا الْمِسْكِينِ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذُو الْوَجْهِ كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ هَذَا لِوَجْهِ فُلَانٍ، أَيْ لِفُلَانٍ، فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: كُلُّ شَيْءٍ هالك إلا هو، و (نحوه) (¬5) قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} (¬6)، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} (¬7). وَالْخَامِسُ: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ، أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَنْبًا (¬8) مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} (¬9)، وَهَذَا لَا مَعْنَى لِلْجَنْبِ فِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، لِأَنَّ الْعَرَبَ/ تَقُولُ: هَذَا الْأَمْرُ يصغر في جنب هذا، أي (هذا) (¬10) يصغر بالإضافة إلى (هذا) (¬11) الآخر، فكذلك ¬

(¬1) سورة القصص: الآية (88). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في (غ) و (ر): "والذي قصد". (¬4) في (ط): "يعني". (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) سورة الإنسان: الآية (9). (¬7) سورة الرحمن: الآيتان: (26، 27). (¬8) الصحيح في تفسير هذه الآية هو ما ذكره الشاطبي ـ رحمه الله ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ... من أين في ظاهر القرآن إثبات جنب واحد صفة لله ومن المعلوم أن هذا لا يثبته جميع مثبتة الصفات الخبرية، بل كثير منهم ينفون ذلك بل ينفون قول أحد منهم بذلك ... والتفريط فعل أو ترك فعل، وهذا لا يكون قائماً بذات الله لا في جنب، ولا في غيره، بل يكون منفصلاً عن الله، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة، فظاهر القرآن يدل على أن قول القائل يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله ليس أنه جعل فعله أو تركه في جنب يكون من صفات الله تعالى ... والصحيح أن المراد التقصير في طاعة الله تعالى، لأن التفريط لا يقع في جنب الصفة، وإنما يقع في الطاعة والعبادة، هذا مستعمل في كلامهم، فلان في جنب فلان، يريدون بذلك في طاعته وخدمته والتقرب منه، ويبين صحة هذا التأويل ما في سياق الآية: فأكون من المحسنين، فأكون من المتقين، وهذا كله راجع إلى الطاعات ... وقد اعتبر أحمد القرائن في مثل هذا فقال في قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) قال: المراد به علم الله، لأن الله افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم ... ) انظر: مخطوط نقض أساس التقديس (3 لوحة 6 ـ لوحة 9) باختصار. (¬9) سورة الزمر: الآية (56). (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) ما بين القوسين زيادة من (ت).

الْآيَةُ مَعْنَاهَا يَا حَسْرَتَا عَلَى (مَا فَرَّطْتُ) (¬1) فيما بيني وبين الله، إذا أضفت تفريطي إلى أمره (لي) (¬2) وَنَهْيِهِ إِيَّايَ. /وَالسَّادِسُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ" (¬3) إِنَّ هَذَا/ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ هُوَ مَذْهَبُ الدَّهْرِيَّةِ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ (إِذَا أَصَابَتْكُمُ الْمَصَائِبَ، وَلَا تَنْسُبُوهَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَصَابَكُمْ بِذَلِكَ لَا الدَّهْرُ) (¬4)، فَإِنَّكُمْ إِذَا سَبَبْتُمُ الدَّهْرَ وَقَعَ السَّبُّ عَلَى الفاعل (في الحقيقة) (¬5) لَا عَلَى الدَّهْرِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ (كَانَ) (¬6) مِنْ عَادَتِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ تَنْسُبَ الْأَفْعَالَ إِلَى الدَّهْرِ فَتَقُولُ: أَصَابَهُ الدَّهْرُ فِي مَالِهِ، وَنَابَتْهُ قوارع الدهر ومصائبه. فينسبون (كُلِّ) (¬7) شَيْءٍ تَجْرِي بِهِ أَقْدَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ إِلَى الدَّهْرِ، فَيَقُولُونَ: لَعَنَ اللَّهُ الدَّهْرَ، (ومحق) (¬8) اللَّهُ الدَّهْرَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَسُبُّونَهُ لِأَجْلِ (الْفِعَالِ الْمَنْسُوبَةِ) (¬9) إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَبُّوا الْفَاعِلَ، و (إنما) (¬10) الفاعل هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ، فَكَأَنَّهُمْ يَسُبُّونَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ كَيْفَ يَقَعُ الْخَطَأُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسنة نبيه (محمد) (¬11) صلّى الله عليه وسلّم، وأن ذلك (قد) (¬12) يُؤَدِّي إِلَى تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ،/ وَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بُرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ ¬

(¬1) في (ط) و (خ): ما فرطت في جنب الله أي. (¬2) زيادة من (ت) و (غ) و (ر). (¬3) أخرجه البخاري (4826 و6181 و6182 و7491)، وفي الأدب المفرد (769)، ومسلم (2246)، والحميدي في مسنده (1096)، وأحمد (2 238 و272 و275)، وأبو داود (5274)، والنسائي في السنن الكبرى (11486 و11487)، وابن حبان (5715)، والحاكم (3690 و3692)، ومسند الشهاب (920 و921)، والبيهقي في السنن الكبرى (6285 و6286). (¬4) ما بين () ساقط من (غ) و (ر). (¬5) زيادة من (ت). (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) في (ط) و (خ) و (ت): "إلى كل". (¬8) في (ط) و (م) و (خ): ومحا وفي (غ) و (ر): "ولحى". (¬9) في (غ) و (ر): "الفعل المنسوب". (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر). (¬12) زيادة من (غ) و (ر).

عَرَبٌ لَمْ يَحْتَاجُوا فِي فَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَدَوَاتٍ وَلَا تَعَلُّمٍ، ثُمَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِعَرَبِيِّ اللِّسَانِ تَكَلَّفَ ذَلِكَ حَتَّى عَلِمَهُ، وَحِينَئِذٍ دَاخَلَ الْقَوْمَ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ/ (وَتَنْزِيلِهَا) (¬1) عَلَى مَا يَنْبَغِي فِيهَا كسلمان الفارسي رضي الله عنه وَغَيْرِهِ، فَكُلُّ مَنِ اقْتَدَى بِهِمْ فِي تَنْزِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ ـ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ـ فَهُوَ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ دَاخِلٌ فِي سَوَادِهِمُ الْأَعْظَمِ، كَائِنٌ عَلَى ما كانوا عليه، فانتظم في سلك (الفرقة) (¬2) الناجية. ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "وتنزلها". (¬2) زيادة من (غ) و (ر).

فصل

فصل /النوع الثاني: (¬1) (الجهل بمقاصد الشرع، اعلم) (¬2) إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الشَّرِيعَةَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ فِي تَكَالِيفِهِمُ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا/ وَتَعَبُّدَاتِهِمُ الَّتِي طَوَّقُوهَا فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَلَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَمُلَ/ الدِّينُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (¬3) فَكُلُّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بَقِيَ (فِي) (¬4) الدِّينِ شَيْءٌ لَمْ يَكْمُلْ فَقَدْ كَذَبَ بِقَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}. ولا يُقَالُ: قَدْ وَجَدْنَا مِنَ النَّوَازِلِ وَالْوَقَائِعِ الْمُتَجَدِّدَةِ ما لم يكن في الكتاب و (لا فِي) (¬5) السُّنَّةِ نَصٌّ عَلَيْهِ، وَلَا عُمُومٌ يَنْتَظِمُهُ، (كمسائل) (¬6) الْجَدِّ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْحَرَامِ فِي الطَّلَاقِ، وَمَسْأَلَةَ السَّاقِطِ عَلَى جَرِيحٍ مَحْفُوفٍ بِجَرْحَى، وَسَائِرَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا مِنْ كِتَابٍ ولا سنة: فأين (الكمال) (¬7) فيها؟ (لأنا نقول) (¬8) / فِي الْجَوَابِ: أَوَّلًا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إِنِ اعْتُبِرَتْ (فِيهَا) (¬9) الْجُزْئِيَّاتُ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالنَّوَازِلِ فهو كما ¬

(¬1) النوع الثاني من أسباب الإحداث في الشريعة. (¬2) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬3) سورة المائدة: الآية (3). (¬4) في (غ) و (ر): "من". (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "وأن مسائل" والتصحيح من هامش (ت). (¬7) في (ط): "الكلام". (¬8) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "فيقال". (¬9) في (غ) و (ر): "فيه".

أَوْرَدْتُمْ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ كُلِّيَّاتُهَا، فَلَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ قَاعِدَةٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ أَوِ التَّكْمِيلِيَّاتِ إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَتْ غَايَةَ الْبَيَانِ، نَعَمْ يَبْقَى تَنْزِيلُ الْجُزْئِيَّاتِ عَلَى تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ مَوْكُولًا إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنَّ قَاعِدَةَ الِاجْتِهَادِ (أَيْضًا ثابتة) (¬1) في الكتاب والسنة، فلا بد من إعمالها. ولا يسع تركها، وإذا (ثبتت) (¬2) فِي الشَّرِيعَةِ أَشْعَرَتْ بِأَنَّ ثَمَّ مَجَالًا لِلِاجْتِهَادِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكَمَالَ بِحَسَبِ تَحْصِيلِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالْفِعْلِ، فَالْجُزْئِيَّاتُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلَا تَنْحَصِرُ بِمَرْسُومٍ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْكَمَالُ بِحَسَبِ مَا يحتاج إليه من القواعد الكلية الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا مَا لَا نِهَايَةَ (لَهُ) (¬3) مِنَ النَّوَازِلِ. ثُمَّ نَقُولُ ثَانِيًا: إِنَّ النَّظَرَ فِي كَمَالِهَا بِحَسَبِ خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ يُؤَدِّي إِلَى// الْإِشْكَالِ وَالِالْتِبَاسِ/ وَإِلَّا فَهُوَ الَّذِي أَدَّى إِلَى إِيرَادِ هَذَا السُّؤَالِ، إِذْ لَوْ نَظَرَ السَّائِلُ إِلَى (الْحَالَةِ) (¬4) الَّتِي وُضِعَتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ، وَهِيَ حَالَةُ الْكُلِّيَّةِ، لَمْ يُورِدْ سُؤَالَهُ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْأَبَدِيَّةِ، وَإِنْ وُضِعَتِ الدُّنْيَا عَلَى الزَّوَالِ وَالنِّهَايَةِ. وَأَمَّا الْجُزْئِيَّةُ فَمَوْضُوعَةٌ عَلَى النِّهَايَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى/ الْحَصْرِ فِي التَّفْصِيلِ، وَإِذْ ذَاكَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَمْ تَكْمُلْ فَيَكُونُ خِلَافًا لِقَوْلِهِ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (¬5) الْآيَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الصَّادِقُ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ الْمُخَالِفُ، فَظَاهِرٌ إِذْ ذاك أن الآية على عمومها وإطلاقها (صحيحة) (¬6)، وَأَنَّ النَّوَازِلَ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْكَمَالِ، (لِأَنَّهَا) (¬7) إِمَّا مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا وَإِمَّا غَيْرُ مُحْتَاجٍ (إِلَيْهَا) (¬8) فَإِنْ كانت محتاجاً إليها ¬

(¬1) في (ت): "ثابتة أيضاً". (¬2) في (م): "ثبت". (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (غ) و (ر): "الحاجة". (¬5) سورة النحل: الآية (89). (¬6) زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬7) في (ت): "وهي" وساقطة من (خ) و (م) و (ط). (¬8) في (غ) و (ر): "إليه".

فَهِيَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ الْجَارِيَةُ عَلَى الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فأحكامها قد تقدمت، ولم يبق إلا نظر المجتهد إلى أي دليل (تستند) (¬1) خاصة، وإما غَيْرَ (مُحْتَاجٍ) (¬2) إِلَيْهَا، فَهِيَ الْبِدَعُ الْمُحْدَثَاتُ، إِذْ لَوْ كَانَتْ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا لَمَا سَكَتَ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا بِالْفَرْضِ وَلَا دَلِيلَ/ عَلَيْهَا فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَيْسَتْ بِمُحْتَاجٍ إِلَيْهَا، فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (قَدْ كَمُلَ الدِّينُ) (¬3) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ لَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ قَطُّ إِيرَادُ ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: لِمَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ؟ وَعَلَى حُكْمِ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عليَّ حَرَامٌ؟ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَجِدُوا فِيهِ عَنِ الشَّارِعِ نَصًّا، بَلْ قَالُوا فِيهَا وَحَكَمُوا بالاجتهاد/ واعتبروا (فيها) (¬4) بِمَعَانٍ شَرْعِيَّةٍ تَرْجِعُ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى الْكِتَابِ/ والسنة، وإن لم يكن (ذلك) (¬5) بِالنَّصِّ فَإِنَّهُ بِالْمَعْنَى، فَقَدْ ظَهَرَ إِذًا/ وَجْهُ كمال الدين على أتم الوجوه. (ثم ننتقل) (¬6) مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أنزل القرآن مبرءاً عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّضَادِّ، لِيَحْصُلَ فِيهِ كَمَالُ التَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *} (¬7)، فَدَلَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَهُوَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُعَضِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. فأما جهة اللفظ فإن الفصاحة فيه (متوازرة) (¬8) / مُطَّرِدَةٌ، بِخِلَافِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّكَ تَرَاهُ إِلَى الِاخْتِلَافِ مَا هُوَ، فَيَأْتِي بِالْفَصْلِ مِنَ الْكَلَامِ الجزل ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): يستند. (¬2) في (م): "مستند". (¬3) في (غ) و (ر): "كررة الجملة". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) في (م): "ننتقل". وفي (ط) و (خ) و (ت): "وننتقل". (¬7) سورة النساء: الآية (82). (¬8) في (ط): "متواترة".

الْفَصِيحِ فَلَا يَكَادُ يَخْتِمُهُ إِلَّا وَقَدْ عَرَضَ له في أثنائه ما (يغض عليه) (¬1) مِنْ مَنْصِبِ فَصَاحَتِهِ، وَهَكَذَا تَجِدُ الْقَصِيدَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَى نَسَقِ الْفَصَاحَةِ اللَّائِقَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. وَأَمَّا/ جِهَةُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ عَلَى كَثْرَتِهَا أَوْ على تكرارها بحسب مقتضيات الأحوال على (نمط) (¬2) وبلوغ غاية في (اتصالها) (¬3) إِلَى غَايَتِهَا، مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا تَضَادٍّ وَلَا تَعَارُضٍ، عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ إِلَى الْبَشَرِ أَنْ يُدَانُوهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَمِعَتْهُ أَهْلُ الْبَلَاغَةِ الْأُولَى وَالْفَصَاحَةِ (الْأَصْلِيَّةِ) (¬4) ـ وَهُمُ الْعَرَبُ ـ لَمْ يُعَارِضُوهُ، وَلَمْ يُغَيِّرُوا فِي وَجْهِ إِعْجَازِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، (وَهُمْ) (¬5) أَحْرَصُ مَا كَانُوا عَلَى الِاعْتِرَاضِ فِيهِ وَالْغَضِّ مِنْ جَانِبِهِ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمُوا (وَعَايَنُوا) (¬6) مَعَانِيَهُ وَتَفَكَّرُوا فِي غَرَائِبِهِ، لَمْ يَزِدْهُمُ الْبَحْثُ إِلَّا بَصِيرَةً فِي أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَعَارُضَ، وَالَّذِي نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ يَسِيرٌ تَوَقَّفُوا فِيهِ تَوَقُّفَ الْمُسْتَرْشِدِ حَتَّى يُرْشَدُوا إِلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، أَوْ تَوَقُّفَ الْمُتَثَبِّتِ فِي الطَّرِيقِ. /وَقَدْ صَحَّ أَنَّ سَهْلَ/ بْنِ حُنَيْفٍ (¬7) قَالَ يَوْمَ صفِّين وَحُكْمِ (الْحَكَمَيْنِ) (¬8): يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ (¬9) وَلَوْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْنَاهُ، وَايْمُ اللَّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا مِنْ (عَلَى) (¬10) عَوَاتِقِنَا منذ أسلمنا لأمر يفظعنا إلا ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): نقص. (¬2) في سائر النسخ وهامش (ت): "حفظ". (¬3) في سائر النسخ وهامش (ت): "إيصالها". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الأصلية". (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): "وعانوا". (¬7) هو سهل بن حنيف الأنصاري البدري، كان من أمراء علي رضي الله عنه في صفِّين، توفي بالكوفة سنة 38هـ، انظر: طبقات ابن سعد (3 471)، والسير (2 325). (¬8) في (غ) و (ر): "الحكمان". (¬9) هو العاص بن سهيل بن عمرو العامري القرشي، أسلم في مكة فقيده أبوه، ثم هرب بعد صلح الحديبية، وتوفي شهيداً في الشام سنة 18هـ، انظر: السير (1 192). (¬10) ما بين القوسين ساقط من (م) وفي (غ) و (ر): عن، بدون حرف من السابق.

(أسهلن) (¬1) بنا إلى أَمْرٌ نَعْرِفُهُ ـ الْحَدِيثَ (¬2). فَوَجْهُ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَمْرَانِ: قَوْلُهُ: (اتَّهِمُوا الرَّأْيَ) فَإِنَّ مُعَارَضَةُ (الظَّوَاهِرِ) (¬3) فِي غَالِبِ الْأَمْرِ رَأْيٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى (أَصْلٍ) (¬4) يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ النُّكْتَةُ فِي الْبَابِ: وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ فِي شَرْعِ اللَّهِ مِمَّا يُصَادِمُ الرَّأْيَ فَإِنَّهُ حَقٌّ يَتَبَيَّنُ عَلَى التَّدْرِيجِ حَتَّى يَظْهَرَ فَسَادُ ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَأَنَّهُ كَانَ شُبْهَةً عَرَضَتْ وَإِشْكَالًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ، بَلْ يُتَّهَمُ أَوَّلًا وَيُعْتَمَدُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَبَيَّنِ الْيَوْمَ تَبَيَّنَ غَدًا/، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ أَبَدًا فَلَا حَرَجَ، فَإِنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى. وَفِي الصحيح عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ/ (هِشَامَ) (¬5) بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ/ أَسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَصَبَرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، (فَلَبَّبَتْهُ) (¬6) بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ. فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ/ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا/ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ ¬

(¬1) في (ت): انتهى. (¬2) أخرجه بنصه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 38)، وأصل الحديث أخرجه البخاري (7308 و3182، و4189 و4844 و3181)، وسعيد بن منصور في سننه ـ تحقيق الأعظمي ـ (2969)، ومسلم (1785)، والحميدي في مسنده (404) وابن أبي شيبة في المصنف (19717)، وأحمد في المسند، (3 485)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1911 و1912) والطبراني في المعجم الصغير (775)، وفي الكبير (5598 ـ5605)، والبيهقي في السنن الكبرى (18593). (¬3) في (غ) و (ر): "الظاهر". (¬4) في (غ) و (ر): "شيء أصل". (¬5) في (ت): همام، والصواب هشام، هو هشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد القرشي، له صحبة ورواية في مسلم وأبي داود والنسائي، توفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه، انظر: الجرح والتعديل (9 53)، والسير (3 51). (¬6) في (م): "فلتفته".

عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْسِلْهُ (¬1) اقْرَأْ يَا (هِشَامُ) (¬2). فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، (ثُمَّ قَالَ) (¬3): اقْرَأْ يَا عُمَرُ ـ فقرأت القراءة التي أقرأني ـ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬4): كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سبعة أحرف، فاقرأوا (مَا) (¬5) تَيَسَّرَ مِنْهُ" (¬6). وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِنَّمَا هِيَ إشكال وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم فِي نَقْلِ الشَّرْعِ، بيَّن لَهُمْ جَوَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ أَوْ مَسَائِلِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَفْسُهُ اخْتِلَافٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي النُّبُوَّاتِ وَلَمْ يَكُنْ (ذَلِكَ) (¬7) دَلِيلًا عَلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّاتِ، وَاخْتَلَفَتْ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ عُلُومِ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُهُمْ دَلِيلًا عَلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَحَّ مِنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ. ثُمَّ نَبْنِي عَلَى هَذَا مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ: أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ تَنَزُّهُهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ، صَحَّ أَنْ يَكُونَ حَكَمًا بَيْنَ جَمِيعِ الْمُخْتَلِفِينَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَرِّرُ مَعْنًى هُوَ الْحَقُّ، وَالْحَقُّ لَا يَخْتَلِفُ فِي نَفْسِهِ، فَكُلُّ اخْتِلَافٍ صَدَرَ مِنْ مُكَلَّفٍ فَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (¬8) وأعم من هذا قوله تعالى: {كَانَ ¬

(¬1) ساقط من (غ) و (ر). (¬2) في (ت): "همام". وفي (غ) و (ر): "هاشم". (¬3) في (غ) و (ر): "فقال". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في (غ) و (ر): "بما" والصواب: "ما" وهو الموافق لرواية البخاري. (¬6) أخرجه البخاري (4992)، ومسلم (818)، ومالك في الموطأ (473)، وأحمد (1 24 و40 و42 و43 و263)، وأبو داود (1475)، والترمذي (2943)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (598)، والنسائي في المجتبى (936 ـ 938) وفي الكبرى (1008 ـ 1010 و7985 و11366)، وابن حبان (741)، والبيهقي في السنن الكبرى (3799). (¬7) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) سورة المائدة: الآية (48).

النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (¬1)، ثم قال: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}، وَقَالَ تَعَالَى) (¬2): {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬3)./ فهذه الآي وَمَا أَشْبَهَهَا صَرِيحَةٌ فِي الرَّدِّ إِلَى كِتَابِ الله تعالى وإلى سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم/ لِأَنَّ السُّنَّةَ بَيَانُ الْكِتَابِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيهِ وَاضِحٌ، وَأَنَّ الْبَيَانَ فِيهِ شَافٍ، لَا شَيْءَ بَعْدَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَهَكَذَا فَعَلَ/ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ ردُّوها إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَضَايَاهُمْ/ شَاهِدَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، لَا يَجْهَلُهَا مَنْ زَاوَلَ الْفِقْهَ، فَلَا فَائِدَةَ فِي جَلْبِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ لِشُهْرَتِهَا، فَهُوَ إِذًا مِمَّا كان عليه الصحابة رضي الله عنهم. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَعَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ بِحَسَبِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْكَمَالِ لَا بِعَيْنِ النُّقْصَانِ، وَيَعْتَبِرَهَا اعْتِبَارًا كُلِّيًّا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَلَا يَخْرُجَ عَنْهَا الْبَتَّةَ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ/ عَنْهَا تِيهٌ وَضَلَالٌ وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ كَمَالُهَا وَتَمَامُهَا؟ فَالزَّائِدُ (وَالنَّاقِصُ) (¬4) فِي جِهَتِهَا هُوَ الْمُبْتَدِعُ بِإِطْلَاقٍ، وَالْمُنْحَرِفُ عَنِ الْجَادَّةِ إِلَى بُنَيَّاتِ الطُّرُقِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُوقِنَ أَنَّهُ لَا تَضَادَّ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَلَا بَيْنَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَلَا بَيْنَ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ، بَلِ الْجَمِيعُ جَارٍ عَلَى مهْيَع وَاحِدٍ، وَمُنْتَظِمٍ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِذَا أَدَّاهُ بَادِئَ الرَّأْيِ إِلَى ظَاهِرِ اخْتِلَافٍ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ انْتِفَاءَ الِاخْتِلَافِ، لِأَنَّ الله تعالى قَدْ شَهِدَ لَهُ أَنْ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، فَلْيَقِفْ وُقُوفَ الْمُضْطَرِّ السَّائِلِ عَنْ وَجْهِ الْجَمْعِ، أو المسلم من غير اعتراض، (إن) (¬5) كان الموضع مما (لا) (¬6) يتعلق به حكم عملي، (فإن تعلق به حكم ¬

(¬1) سورة البقرة: الآية (213). (¬2) من بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬3) سورة النساء: الآية (59). (¬4) في (ط) و (خ) و (ت): "والمنقص". (¬5) في (ط) و (خ): فإن. (¬6) زيادة من (غ) و (ر).

عملي) (¬1) (التمس) (¬2) الْمَخْرَجَ/ حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْحَقِّ الْيَقِينِ، أَوْ يبقى بَاحِثًا إِلَى الْمَوْتِ (وَلَا) (¬3) عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا اتَّضَحَ لَهُ الْمَغْزَى وَتَبَيَّنَتْ لَهُ الْوَاضِحَةُ، فلا بد (لَهُ) (¬4) مِنْ أَنْ يَجْعَلَهَا حَاكِمَةً فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ (مِنَ) (¬5) النَّظَرِ فِيهَا. وَيَضَعَهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ فِي كُلِّ مَطْلَبٍ دِينِيٍّ، كَمَا فعل من تقدمنا ممن أثنى الله (ورسوله) (¬6) عَلَيْهِمْ. /فَأَمَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الَّذِي أَغْفَلَهُ الْمُبْتَدِعُونَ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاكُ عَلَى الشَّرْعِ، وَإِلَيْهِ مَالَ (كُلُّ) (¬7) مَنْ كَانَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ له (في) (¬8) ذَلِكَ وَيَحْذَرُ مَا فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ، فَيَقُولُ لَمْ أَكْذِبْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَذَبْتُ لَهُ. وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَعْرُوفِ بالأردُنِّي (¬9) أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ/ الْكَلَامُ حَسَنًا لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ أَجْعَلَ لَهُ إِسْنَادًا (¬10). فَلِذَلِكَ/ كَانَ يُحَدِّثُ بِالْمَوْضُوعَاتِ، وَقَدْ قُتِلَ فِي الزَّنْدَقَةِ وَصُلِبَ، (وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الْقِسْمِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ) (¬11). وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَإِنَّ قَوْمًا أَغْفَلُوهُ أيضاً ولم (يُنعموا) (¬12) النَّظَرَ حَتَّى اخْتَلَفَ عَلَيْهِمُ الْفَهْمُ فِي الْقُرْآنِ والسنة، فأحالوا بالاختلاف (عليهما) (¬13) ¬

(¬1) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (ت). (¬2) في (ط): "فليلتمس". (¬3) في (م) و (غ) و (ر): "فلا". (¬4) زيادة من (ط) و (غ) و (ر). (¬5) في (غ) و (ر): "في". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) هو محمد بن سعيد بن حسان الأسدي الأردني المصلوب، قال عنه الإمام أحمد: قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة، حديثه حديث موضوع، وقد غيَّر اسمه على عدة أسماء تدليساً له، فينسب مرة إلى جده ومرة إلى بلده ... إلخ، أجمع علماء الجرح على ترك حديثه، والتحذير منه، انظر: تهذيب التهذيب (9 184 ـ 186)، وميزان الاعتدال (3 561 ـ 563). (¬10) انظر: تهذيب التهذيب (9 185). (¬11) ما بين () ساقط من (غ) و (ر). (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بمعنوا". (¬13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عليها".

تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حال الخوارج حيث قال: "يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ" (¬1)، فَوَصَفَهُمْ بِعَدَمِ الْفَهْمِ لِلْقُرْآنِ/، وَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، إِذْ قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَقَدْ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، حَتَّى بيَّن لهم حبر (الإسلام) (¬2) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (¬3) عَلَى وَجْهٍ أَذْعَنَ بِسَبَبِهِ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، أَوْ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَتَمَادَى الْبَاقُونَ على ما كانوا عليه، اعتماداً ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَا تُنَاظِرُوهُ وَلَا تُخَاصِمُوهُ فَإِنَّهُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ} / {خَصِمُونَ} (¬4). فَتَأَمَّلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ كَيْفَ كَانَ فَهْمُهُمْ فِي الْقُرْآنِ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ هَذَا الْإِشْكَالُ يَعْتَرِي أَقْوَامًا حَتَّى اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ، وَتَدَافَعَتْ على أفهامهم (فحجوا) (¬5) به قبل (إنعام) (¬6) النظر. /وَلْنَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَمْثِلَةٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ *} (¬7) يَتَنَاقَضُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ *} (¬8). وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلاَ جَآنٌّ *} (¬9) مُضَادٌّ لِقَوْلِهِ: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (¬10)، وقوله تعالى: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬11). ¬

(¬1) تقدم تخريجه (3/ 114). (¬2) في (ت) و (غ) و (ر): "القرآن". (¬3) سورة يوسف: الآية: (40). (¬4) سورة الزخرف: الآية (58). (¬5) في (ط): "فجعجعوا". وفي (خ): "فعججوا". وفي (غ) و (ر): "فتبجحوا". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إمعان". (¬7) سورة الصافات: الآية (27). (¬8) سورة المؤمنون: الآية (101). (¬9) سورة الرحمن: الآية (39). (¬10) سورة العنكبوت: الآية (13). (¬11) سورة النحل: الآية (93).

وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *} / إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (¬1): إِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَرْضَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا *رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا *وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا *} (¬2)، فَصَرَّحَ/ بِأَنَّ الْأَرْضَ مَخْلُوقَةٌ بَعْدَ السَّمَاءِ. وَمِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ مَا أَوْرَدَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ـ أَوْ غَيْرُهُ ـ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ (¬3) فِي الْمُعَلَّقَاتِ (¬4) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} (¬5)، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ *} (¬6)،/ {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (¬7)، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬8)، فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا *} (¬9)، فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} ـ إِلَى قَوْلِهِ ـ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} ـ إلى قوله ـ {طَائِعِينَ} (¬10)، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}، {عَزِيزًا حَكِيمًا} ¬

(¬1) سورة فصلت: الآيات (9 ـ 12). (¬2) سورة النازعات: الآيات (27 ـ 30). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، في تفسير سورة السجدة، انظر: فتح الباري (8 417 ـ 418). وبين ما ذكره الشاطبي وما في صحيح البخاري اختلاف في ألفاظ كثيرة، ولكني لم أثبتها، لاحتمال أن يكون الشاطبي اعتمد على نسخة للبخاري غير النسخة المطبوعة لدينا، خاصة وأن لصحيح البخاري نسخاً كثيرة، والله تعالى أعلم. (¬4) ذكره البخاري في البداية معلقاً بقوله: قال المنهال عن سعيد، ثم وصله في نهاية الأثر، حيث قال: حدثنيه يوسف بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بهذا. (¬5) سورة المؤمنون: الآية (101). (¬6) سورة الصافات: الآية (27). (¬7) سورة النساء: الآية (42). (¬8) سورة الأنعام: الآية (23). (¬9) سورة النازعات: الآيات (27 ـ 30). (¬10) سورة فصلت: الآيات (9 ـ 12).

{سَمِيعًا بَصِيرًا} فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى فَقَالَ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ: {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} في النفخة الأولى (يوم ينفخ) (¬1) في الصور فصعق من في السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ/ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُولُ: لَمْ نَكُنْ مشركين. (فيختم) (¬2) عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيَهُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ/ عَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرض. /وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ، (وَدَحْوُهَا) (¬3) أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ (آخَرَيْنِ) (¬4)، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (دَحَاهَا) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} فَخُلِقَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أربعة أيام، وخلقت السموات في يومين. (وقوله) (¬5): {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ (قَوْلُهُ) (¬6)؛ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ:/ إِنَّ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وأشهدهم على أنفسهم: ¬

(¬1) في (ط): ونفخ. وفي (خ) و (م) و (غ) و (ر): ينفخ. (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فختم". (¬3) في (م) و (غ) و (ر): "ودحيها". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬6) زيادة من (غ) و (ر).

ألست بربكم؟ قالوا بلى ... " (¬1)، الحديث (وَقَعَ) (¬2) مُخَالِفٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (¬3) فالحديث يخبر أَنَّهُ أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَالْكِتَابُ يُخْبِرُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظُهُورِ (بَنِي) (¬4) آدَمَ، وَهَذَا إذا تؤمل لا (اختلاف) (¬5) فِيهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ يَخْرُجُوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى وَجْهٍ لَوْ خَرَجُوا عَلَى التَّرْتِيبِ (لخرجوا) (¬6)، كَمَا أُخْرِجُوا إِلَى الدُّنْيَا، وَلَا مُحَالَ فِي هذا بأن (ينفطر) (¬7) فِي تِلْكَ الْآخِذَةِ الْأَبْنَاءُ عَنِ الْأَبْنَاءِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبِ زَمَانٍ وَتَكُونُ النِّسْبَتَانِ مَعًا صَحِيحَتَيْنِ (على) (¬8) الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ. /وَالْخَامِسُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ ـ فِيمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ـ أَنْ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَشَدْتُكَ اللَّهَ إِلَّا مَا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، (فَقَالَ خَصْمُهُ وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ صَدَقَ: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ) (¬9)، وَائْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ، ثُمَّ أَتَى بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ/ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ (وَالْغَنَمُ) (¬10) فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ هَذَا جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا/ الرَّجْمُ" إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ (¬11)، هو مخالف ¬

(¬1) هذا حديث صحيح مشهور مروي مرفوعاً وموقوفاً، وأخرجه جمع كبير من أهل العلم منهم: مالك (1593)، وأحمد (1 272 و5 135)، وأبو داود (4703 و4704)، والترمذي (3075)، والنسائي في السنن الكبرى (11190 و11191)، وابن جرير في التفسير (15338)، والحاكم (74 و75 و3255 و3256 و4000 و4001)، وغيرهم. (¬2) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): كما وقع. (¬3) سورة الأعراف: الآية (172). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ط). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "خلاف". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يتفطر". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "في". (¬9) ساقط من (غ) و (ر). (¬10) في (ت): "الغرم". (¬11) أخرجه البخاري (2314 و2315 و2649 و2696 و2725، و6634 و6828 و6831 و6836 و6843 و6860 و7194 و7259 و7279 و2695 و2724 و6633 و6827=

لِكِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: "لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ" حَسْبَمَا سَأَلَهُ السَّائِلُ، ثُمَّ قَضَى بِالرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ، وَلَيْسَ لَهُمَا ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ. الْجَوَابُ: إِنَّ الَّذِي أَوْجَبَ الْإِشْكَالَ فِي المسألة اللفظ المشترك (فإن كتاب الله، كما) (¬1) يُطْلَقُ عَلَى الْقُرْآنِ يُطْلَقُ عَلَى مَا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ مِمَّا هُوَ حُكْمُهُ وَفَرْضُهُ على العباد، كان/ مسطوراً في القرآن أو لا، كما قال تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (¬2) أي (حكم الله) (¬3) وفرضه، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: ({كتبَ عليكم}) (¬4) فمعناه فرض وَحَكَمَ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ يُوجَدَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ. وَالسَّادِسُ: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬5) / لَا يُعْقَلُ مَعَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ وَرَجَمَتِ (الْأَئِمَّةُ) (¬6) بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الرَّجْمَ يَنْتَصِفُ وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ نِصْفُهُ عَلَى الْإِمَاءِ؟ ذَهَابًا مِنْهُمْ/ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ (هنا) (¬7) ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْمُرَادُ بِهِنَّ الْحَرَائِرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْآيَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً/ أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬8) ¬

=و6833 و6835 و6842 و6859 و7193 و7258 و7260 و7278)، ومسلم (1697)، ومالك (1502)، والطيالسي (953 و1333 و2514)، والحميدي (811)، وأبو داود (4445)، وابن ماجه (2549)، والترمذي (1433)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1213)، والنسائي في المجتبى (5410 و5411)، وفي السنن الكبرى (5970 ـ5973 و7193 و11356)، وابن الجارود في المنتقى (811)، وابن حبان (4437)، والطبراني في الكبير (5188 و5190 ـ5200)، والبيهقي في السنن الكبرى (16694 و16701 و16736 و16746 و16765)، وغيرهم. (¬1) في (ط) و (خ) و (ت): "في كتاب الله فكما". (¬2) سورة النساء: الآية (24). (¬3) في (غ) و (ر): "حكمه". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ): "كتاب الله عليكم". (¬5) سورة النساء: الآية (25). (¬6) في (غ) و (ر): "الأمة". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هنّ". (¬8) سورة النساء: الآية (25).

وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا إِلَّا الْحَرَائِرَ، لِأَنَّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ لَا تُنْكَحُ. وَالسَّابِعُ: قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكَحُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا (¬1) وَأَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (¬2)، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يَذْكُرْ مِنَ الرِّضَاعِ إِلَّا الْأُمَّ وَالْأُخْتَ، وَمِنَ الْجَمْعِ إِلَّا الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ/: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬3) (فَاقْتَضَى) (¬4) أَنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى عَمَّتِهَا وَعَلَى خالتها، (وكل رضاعة) (¬5) سوى الأم والأخت (حلال) (¬6). وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ لَا تَعَارُضَ فِيهِ عَلَى حَالٍ. وَالثَّامِنُ: قَوْلُ مَنْ قال: إن قوله صلّى الله عليه وسلّم: "غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" (¬7) مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ومن اغتسل ¬

(¬1) أخرجه البخاري (5108 ـ5110)، ومسلم (1408)، ومالك (1108)، وابن الجعد (1607)، وأحمد (2 401 و423 و452 و462 و465 و516 و518 و529 و532)، والدارمي (2179)، وابن ماجه (1929 ـ 1931)، وأبو داود (2066)، والترمذي (1125 ـ 1126)، والنسائي في المجتبى (3288 ـ 3291)، وفي الكبرى: (5420 ـ5427)، وابن حبان (4113 ـ 4115)، والطبراني في الكبير (5420 ـ 5427)، والبيهقي في السنن الكبرى (13719 ـ 13723). (¬2) أخرجه البخاري (2645 و2646 و3105 و5099 و5100)، ومسلم (1444)، ومالك (1254)، وإسحاق بن راهويه (1010)، وأحمد (6 178 و214)، والدارمي (2247)، وأبو داود (2055)، والترمذي (1146 ـ 1147)، والنسائي في المجتبى (3313)، وفي الكبرى (5470). (¬3) سورة النساء: الآية (24). (¬4) في (غ) و (ر): "فاقتضى علي". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وإن كان رضاع". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "حلالاً". (¬7) أخرجه البخاري (858 و879 و 895 و2665)، ومسلم (846)، ومالك (228 ـ 230)، والطيالسي (216 و2570)، والحميدي (736)، وأحمد (3 6 و30 و60 و65 و69 و304) و (4 34)، والدارمي (1537)، وأبو داود (341 و344)، وابن ماجه (1089)، والنسائي في المجتبى (1375 ـ1377 و1383)، وفي الكبرى (1667 و1668 و1688)، وابن الجارود في المنتقى (284 و287)، وأبو يعلى (978 و1100 و1127 و1868)، وابن خزيمة (1721 و1742 ـ 1746)، وابن حبان (1220=

فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ" (¬1). وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ هُنَا التَّأْكِيدُ خَاصَّةً، بحيث لا يكون تركه تَرْكًا (لِلْفَرْضِ) (¬2)، وَبِهِ يَتَّفِقُ مَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ فَلَا اخْتِلَافَ (¬3). وَالتَّاسِعُ: / قَوْلُهُمْ: جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: (صِلَةُ الرحم تزيد (في) (¬4) العمر) (¬5)، والله تعالى يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬6) فَكَيْفَ تَزِيدُ صِلَةُ الرَّحِمِ فِي أَجْلٍ لَا يُؤَخَّرُ وَلَا يُقَدَّمُ أَلْبَتَّةَ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ منها أن يكون في علم الله تعالى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَإِلَّا عَاشَ ثَمَانِينَ سَنَةً، مَعَ أَنَّ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِلَا بُدٍّ، (أَوْ) (¬7) أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ أَصْلًا. /وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُ لَا يَسْتَأْخِرُ (سَاعَةً) (¬8) ولا يستقدم. ¬

=و1227 ـ 1233)، والطبراني في الصغير (1155)، وفي الأوسط (309 و621)، وفي الكبير (23 195 برقم 334)، والبيهقي في السنن الكبرى (1304 و5367 و5443 و5452 و5747 و5748). (¬1) أخرجه الطيالسي (1350 و2110)، وعبد بن حميد (1077)، وابن الجعد (986 و1750)، وأحمد (5 8 و11 و15 و16 و22)، والدارمي (1540)، وابن ماجه (1091)، وأبو داود (354)، والترمذي (497)، والنسائي في المجتبى (1380)، وفي الكبرى (1684)، وأبو يعلى (4086)، وابن الجارود (285)، وابن خزيمة (1757)، والطبراني في الكبير (6817 ـ 6820 و6926)، والبيهقي في الكبرى (1310 ـ 1316 و5459) وغيرهم، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6180). (¬2) في (ت): لفرض. (¬3) انظر: تفصيل الخلاف في هذه المسألة فتح الباري (2 420 ـ 432)، وتأويل مشكل الحديث (ص134). (¬4) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬5) أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده ـ بغية الباحث ـ (302)، والطبراني في الأوسط (947)، وفي الكبير (8014)، والقضاعي في مسنده (100 و102)، وبنحوه في مسند أبي يعلى (3609 و6620)، وابن حبان (438). (¬6) سورة الأعراف: الآية (34). (¬7) في (م): "و". (¬8) ساقط من (غ) و (ر).

قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ (¬1) وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْقِرَافِيُّ (¬2). وَالْعَاشِرُ: قالوا في الحديث: أنه صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ توضأ وضوءه للصلاة (¬3)، ثم فيه: كان صلّى الله عليه وسلّم يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً (¬4)، وَهَذَا تَدَافُعٌ. وَالْحَدِيثَانِ مَعًا لِعَائِشَةَ رَضِيَ/ اللَّهُ عَنْهَا. وَالْجَوَابُ سَهْلٌ: فَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مُوَسَّعٌ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، وَفَعَلَ الْآخَرَ أَيْضًا وَأَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ: كَانَ يَفْعَلُ، حَصَلَ مِنْهُمَا/ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ وَيَتْرُكُ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُسْتَحَبِّ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا (¬5). فَهَذِهِ عَشَرَةُ أمثلة تبين لك مواقع الإشكال، (وأين رَتَّبْتُهَا) (¬6) مَعَ ثَلْجِ الْيَقِينِ، فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ/ كُلُّ (مُوقِنٍ) (¬7) بِالشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِيهَا ولا اختلاف، فمن توهم ذلك فيها فلم (ينعم) (¬8) النَّظَرَ وَلَا أَعْطَى وَحْيَ اللَّهِ حَقَّهُ، وَلِذَلِكَ قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (¬9) فَحَضَّهُمْ عَلَى التَّدَبُّرِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَعْقَبَهُ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}، فبين أنه لا اختلاف فيه، والتدبر يعين على تصديق ما أخبر به. ¬

(¬1) الشاطبي نقله عن ابن قتيبة بالمعنى، انظر: تأويل مشكل الحديث (ص136 ـ 137). (¬2) أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي القرافي، أحد تلاميذ العز بن عبد السلام من أشهر علماء المالكية توفي سنة 684هـ، انظر: الأعلام للزركلي (1 94). (¬3) أخرجه البخاري (286، 288)، ومسلم (305)، وأحمد في المسند (6/ 36، 91، 102)، وأبو داود (222)، والنسائي (255، 256)، وابن ماجه (584) وغيرهم. (¬4) أخرجه أحمد في المسند (6/ 43، 102، 106)، وأبو داود (228)، والترمذي (118)، والنسائي في الكبرى (9052)، وابن ماجه (581)، وصححه الألباني في آداب الزفاف (ص39)، وتكلم على المسألة ابن عبد البر في التمهيد (17/ 39)، وابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود (1/ 261)، وابن حجر في الفتح (1/ 394) و (3/ 32). (¬5) انظر تفصيل الخلاف في هذه المسألة في: فتح الباري لابن حجر (1 467 ـ 470). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وإني رتبتها". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "موفق". (¬8) في (ت): "يمعن". (¬9) سورة النساء: الآية (82).

فصل

/فصل النوع الثالث (¬1): (تحكيم العقل وتحسين الظن به، اعلم) (¬2) أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا (سَبِيلًا) (2) إِلَى الْإِدْرَاكِ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاسْتَوَتْ مَعَ الْبَارِي تَعَالَى فِي إِدْرَاكِ جَمِيعِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ، إِذْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ؟ فَمَعْلُومَاتُ اللَّهِ لَا تَتَنَاهَى، وَمَعْلُومَاتُ الْعَبْدِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْمُتَنَاهِي لَا يُسَاوِي مَا لَا يَتَنَاهَى. وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ (ذَوَاتُ) (¬3) الْأَشْيَاءِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَصِفَاتُهَا وَأَحْوَالُهَا وَأَفْعَالُهَا وَأَحْكَامُهَا جُمْلَةً وتفصيلاً، (وأيضاً) (¬4) فَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ يَعْلَمُهُ الْبَارِي تَعَالَى عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، بِحَيْثُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ لَا فِي/ ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَحْوَالِهِ وَلَا فِي أَحْكَامِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ الشيء قاصر ناقص، (تعلق بذاته) (¬5) أو صفاته (أو أفعاله) (¬6) أَوْ (أَحْوَالِهِ) (¬7) أَوْ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ فِي الْإِنْسَانِ (أَمْرٌ) (¬8) مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ عَاقِلٌ (تُخْرِجُهُ) (¬9) التَّجْرِبَةُ إِذَا اعْتَبَرَهَا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ. ¬

(¬1) النوع الثالث من أسباب الإحداث في الشريعة. (¬2) ما بين القوسين زيادة من (ت) و (غ) و (ر). (¬3) في (م): "سبيل". (¬4) في (م): "دول". (¬5) في (م): "تعقل في ذاته". وهو ساقط من (ت) و (خ) و (ط). (¬6) في (م): "تعلق". وفي (خ) و (ط): "تعقل". (¬7) ما بين القوسين زيادة من (م) و (ت). (¬8) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬9) في (ت) بياض بمقدار كلمة.

(وأيضاً) (¬1) فأنت ترى المعلومات/ عند (العقلاء) (¬2) تَنْقَسِمُ (إِلَى) (¬3) ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ ضَرُورِيٌّ: لَا يُمْكِنُ التَّشْكِيكُ فِيهِ، كَعِلْمِ/ الْإِنْسَانِ بِوُجُودِهِ، وَعِلْمِهِ بِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ. وَقِسْمٌ: لَا يَعْلَمُهُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ بِهِ أَوْ يُجْعَلَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَذَلِكَ كَعِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْهُ، كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْتَادُ عَلِمَ الْعَبْدُ بِهِ أَوْ لَا، كَعِلْمِهِ بِمَا تَحْتَ رِجْلَيْهِ/ (الآن مُغَيَّبٌ) (¬4) عَنْهُ تَحْتَ/ الْأَرْضِ بِمِقْدَارِ شِبْرٍ، وَعِلْمِهِ بِالْبَلَدِ الْقَاصِي عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ بِهِ عَهْدٌ، فَضْلًا عَنْ عِلْمِهِ بِمَا فِي السموات وَمَا فِي الْبِحَارِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَوِ النار على التفصيل، فعلمه بما لَمْ يُجْعَلْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَقَسَمٌ نَظَرِيٌّ: يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ لا يعلم (به) (¬5) ـ وهي النظريات ـ وذلك الْمُمْكِنَاتُ الَّتِي تُعْلَمُ بِوَاسِطَةٍ لَا بِأَنْفُسِهَا، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهَا إِخْبَارًا. وَقَدْ زَعَمَ أَهْلُ العقول أن النظريات لا يمكن الاتفاق (عليها) (¬6) عَادَةً لِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْأَنْظَارِ، فَإِذَا/ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مُخْبِرٍ بِحَقِيقَتِهَا في أنفسها إن احتيج إليها، لأنها لَوْ لَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى الْإِخْبَارِ لَمْ يَصِحَّ الْعِلْمُ بِهَا، لَأَنَّ الْمَعْلُومَاتِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَنْظَارِ، لِأَنِّهَا حَقَائِقُ فِي أَنْفُسِهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبًا ـ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ ـ وَإِنَّمَا الْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ. وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ، فَنَحْنُ نَقْطَعُ بأن أحد الدليلين ¬

(¬1) ساقط من (غ) و (ر). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "العلماء". (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (ط) و (خ): إلا أن مغيبه. وفي (غ) و (ر): لأن مغيباً. (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيها".

دليل حقيقة، والآخر شبهة، ولا (تعيين) (¬1)، فلا بد مِنْ إِخْبَارٍ بِالتَّعْيِينِ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا قول الإمامية، لأنا نقول: بل هو (مما) (¬2) يُلْزِمُ الْجَمِيعَ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْمَعْصُومِ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ نَصًّا يَقْطَعُ الْعُذْرَ. فَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِهِ نَظَرِيٌّ، فَهُوَ مِمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ. فَكَيْفَ يَخْرُجُ عَنِ الْخِلَافِ بِأَمْرٍ فِيهِ خِلَافٌ؟ هَذَا لَا يُمْكِنُ (¬3). فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا/ رَجَعْنَا إِلَى مَسْأَلَتِنَا فَنَقُولُ:/ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ من حيث تقع على أفعال المكلفين (ليست) (¬4) مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا في بعض التفاصيل (فلتماسها) (¬5). /وَنَرْجِعُ إِلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْأَقْسَامِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا فِي الْجُمْلَةِ ـ أَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالتَّشْرِيعِ الْعَقْلِيِّ ـ أَنَّ مِنْهُ نَظَرِيًّا، وَمِنْهُ مَا لَا يعلم (لا) (¬6) بضرورة ولا بنظر، وهما القسمان الباقيان (فما لا يعلم أصلاً) (¬7) إلا من جهة الإخبار، فلا بد فِيهِ مِنِ الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ فِيهِ. وَهَذَا إِذَا رَاعَيْنَا قَوْلَهُمْ وَسَاعَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّا إِنْ لَمْ نَلْتَزِمْ ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبِ أهل السنة فعندنا أن لا (حكم للعقل) (¬8) أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ قِسْمٌ لا حكم له وعندهم أنه لا بد من حكم، فلأجل ذلك نقول: لا بد من الافتقار إلى ¬

(¬1) في (ط) و (م) و (خ): يعين. وفي (غ) و (ر): "نعين". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) لا خلاف في عدم عصمة غير الأنبياء بين العقلاء من المسلمين، وإنما ادعى العصمة لغير الأنبياء بعض الفرق الغالية كالرافضة والصوفية، وهؤلاء لا عبرة بخلافهم. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ت) و (ط) و (خ). (¬5) في (م) و (غ) و (ر): فلنحاشِها؟؟ يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن هنا سقط. وقد تكون الكلمة: "فلالتباسها". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مما لا يعلم له أصلاً". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نحكم العقل".

الخبر، وحينئذ يكون العقل غير/ مستقل (بالتشريع) (¬1). فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ مُسْتَقِلٌّ، لِأَنَّ مَا لم يقض فيه إما أَنْ يَقُولُوا فِيهِ بِالْوَقْفِ ـ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِهِمْ ـ أَوْ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَظْرِ أَوِ الْإِبَاحَةِ ـ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ آخَرُونَ. فَإِنْ (قَالُوا) (¬2) (بِالثَّانِي) (¬3)، فَهُوَ مُسْتَقِلٌّ، وَإِنْ (قَالُوا) (¬4) بِالْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ اسْتِقْلَالُهُ بِالْبَعْضِ فَافْتِقَارُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهِ مُطْلَقًا. قُلْنَا: بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ: لِأَنَّ القائلين بالوقف (قد) (¬5) اعْتَرَفُوا بِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ فِي الْبَعْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ الِافْتِقَارُ فِي صُورَةٍ ثَبَتَ مُطْلَقًا إِذْ مَا وقف فيه العقل قد ثبتت فِيهِ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يَقِفْ فِيهِ فَإِنَّهُ نَظَرِيٌّ، فَيُرْجَعُ (إِلَى) (¬6) مَا تَقَدَّمَ فِي النَّظَرِ، وقد مر أنه لا بد مِنْ حُكْمٍ وَلَا يُمْكِنُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ. (وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْوَقْفِ فَرَاجِعَةٌ (أَقْوَالُهُمْ) (¬7) أيضاً إلى أن المسألة نظرية فلا بد مِنِ الْإِخْبَارِ) (¬8)، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَقْلِ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَدِّقُ لِلْعَقْلِ أَوِ الْمُكَذِّبُ لَهُ. /فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ ثَبَتَ فيها قِسْمٌ ضَرُورِيٌّ فَيَثْبُتُ الِاسْتِقْلَالُ. /قُلْنَا: إِنْ سَاعَدْنَاكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّنَا فِي دَعْوَى الِافْتِقَارِ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ تَأْتِي/ بِمَا يُدْرِكُهُ/ الْإِنْسَانُ بِعَقْلِهِ تَنْبِيهًا لِغَافِلٍ أَوْ إِرْشَادًا لِقَاصِرٍ، أَوْ إيقاظاً لمغمور بالعوائد يغفل عن كونه (مطلوباً فضلاً عَنْ كَوْنِهِ) (¬9) ضَرُورِيًّا، فَهُوَ إِذًا مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، ولا بد للعقل من التنبيه من خارج، وهي ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالتفريع". (¬2) في (ت): "قلنا". (¬3) ساقط من (خ). (¬4) في (ت): "قلنا". (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) ما بين القوسين زيادة من مصحح (ط)، لا يستقيم المعنى إلا بها. (¬8) ما بين () ساقط من (غ) و (ر). (¬9) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).

فَائِدَةُ بَعْثِ الرُّسُلِ، فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ حُسْنَ الصدق النافع والإيمان، وقبح الكذب (الضار) (¬1) وَالْكُفْرَانِ، مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِمَدْحِ هَذَا وَذَمِّ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِهَذَا وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ. /فَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إِلَى التنبيه لزم منه الْمُحَالُ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لَكِنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ فَدَلَّنَا عَلَى أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَمْرٍ يَفْتَقِرُ الْعَقْلُ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. هَذَا وَجْهٌ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْعَقْلَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ قَاصِرُ الْإِدْرَاكِ فِي عِلْمِهِ، (فَمَا) (¬2) ادَّعَى عِلْمَهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ (تِلْكَ) (¬3) الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي زَعَمَ أَنَّهُ أَدْرَكَهَا، لِإِمْكَانِ أَنْ يُدْرِكَهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَعَلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَالْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ أَحْوَالُ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ، فَإِنَّهُمْ وَضَعُوا أَحْكَامًا عَلَى الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى السِّيَاسَاتِ لَا تَجِدُ فِيهَا أَصْلًا مُنْتَظِمًا (ولا) (¬4) قاعدة مطردة (مع) (¬5) الشَّرْعِ بَعْدَ مَا جَاءَ، بَلِ اسْتَحْسَنُوا أُمُورًا تَجِدُ الْعُقُولَ بَعْدَ/ تَنْوِيرِهَا بِالشَّرْعِ تُنْكِرُهَا، وَتَرْمِيهَا بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ (وَالْبُهْتَانِ) (¬6) وَالْحُمْقِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا بِعُقُولِهِمْ أَشْيَاءَ قَدْ وَافَقَتْ وَجَاءَ الشَّرْعُ بِإِقْرَارِهَا وَتَصْحِيحِهَا، وَمَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عُقُولٍ (وافرة) (¬7)، وأنظار (صائبة) (¬8)، وَتَدْبِيرَاتٍ لِدُنْيَاهُمْ غَامِضَةٍ، لَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لم يُصِيبُوا فِيهِ قَلِيلَةٌ، فَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ وَقَعَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ، وَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ/ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالنِّعْمَةُ السَّابِغَةُ. /فَالْإِنْسَانُ ـ وَإِنْ زَعَمَ فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ وَقَتَلَهُ عِلْمًا ـ لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ إِلَّا وَقَدْ عَقَلَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَقَلَ، وَأَدْرَكَ من علمه ما لم (يكن ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أيضاً". (¬2) في (غ) و (ر): "بما". (¬3) في (م) و (غ) و (ر): "ذلك". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "على". (¬6) في (غ) و (ر): "وبالبهتان". (¬7) في (ط) و (خ): "باهرة". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "صافية".

أَدْرَكَ) (¬1) قَبْلَ ذَلِكَ، كُلُّ أَحَدٍ يُشَاهِدُ (ذَلِكَ) (¬2) مِنْ نَفْسِهِ عِيَانًا، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ بمعلوم دون معلوم، ولا بذات دُونَ صِفَةٍ، وَلَا فِعْلٍ دُونَ حُكْمٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ـ وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِلْمُ الْعَبْدِ، لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يَسْتَظْهِرَ فِي مَسْأَلَتِهِ بِالشَّرْعِ ـ إِنَّ كانت شرعية ـ لأن (أوضاع) (¬3) الشارع (لا تخلّف) (¬4) فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَلَا قُصُورَ وَلَا نَقْصَ، بَلْ مباديها موضوعة على وفق الغايات، وهي (معنى) (¬5) الْحِكْمَةِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ مَا نَدَّعِي علمه في الحياة (الدنيا) (¬6) يَنْقَسِمُ كَمَا تَقَدَّمَ إِلَى الْبَدِيهِيِّ الضَّرُورِيِّ (¬7) وَغَيْرِهِ (فالضروري قد عرفناه، بحيث لا يسعنا إنكاره، وغير الضروري لا يمكننا أن نعرفه) (¬8) إِلَّا مِنْ طَرِيقٍ ضَرُورِيٍّ إِمَّا بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، إِذْ قَدِ اعْتَرَفَ الْجَمِيعُ أَنَّ العلوم/ المكتسبة لا بد في تحصيلها من توسط مُقَدِّمَتَيْنِ مُعْتَرَفٍ بِهِمَا (¬9)، فَإِنْ كَانَتَا ضَرُورِيَّتَيْنِ فَذَاكَ، وإن كانتا مكتسبتين فلا بد فِي/ اكْتِسَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "يدركه". (¬2) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر) ومن مصحح (ط). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أوصاف". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تختلف". (¬5) في (ط) و (خ) و (ت): "من". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) قسم أهل المنطق العلم إلى قسمين: تصور وتصديق، وكل منهما ينقسم إلى بدهي ضروري، ونظري كسبي، وعرفوا التصور: بأنه الإدراك الخالي عن الحكم. والتصديق: بأنه الإدراك الذي معه حكم. والعلم البدهي الضروري: هو الحاصل بلا نظر ولا كسب. والعلم النظري الكسبي: هو ما يحتاج إلى نظر وكسب. انظر: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (1 8 ـ 9) وتسهيل المنطق لعبد الكريم الأثري (ص9). (¬8) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬9) قوله بضرورة توسط مقدمتين معترف بهما لحصول العلوم المكتسبة، هو من قول المناطقة، وهو قول مرجوح، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، انظر ـ على سبيل المثال ـ: الرد على المنطقيين (ص110 و167 و187 و193 و250 و339).

وَيُنْظَرُ فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ واحدة ضرورية (والأخرى) (¬1) مكتسبة فلا بد لِلْمُكْتَسَبَةِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، فَإِنِ انْتَهَيْنَا إِلَى ضَرُورِيَّتَيْنِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ أَوِ الدَّوْرُ (¬2)، وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ، فَإِذًا لَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْرِفَ غير الضروري إلا (بواسطة) (¬3) الضروري. وحاصل (الأمر أنه) (¬4) لا بد من (معرفتنا) (¬5) بِمُقَدِّمَتَيْنِ حَصَلَتْ لَنَا كُلُّ وَاحِدَةٍ/ مِنْهُمَا مِمَّا عقلناه وعلمناه من مشاهدة بَاطِنَةٍ، كَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ أَوْ بِدِيهِيٍّ لِلْعَقْلِ كَعِلْمِنَا بِوُجُودِنَا/ وَبِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْوَاحِدِ، وَبِأَنَّ الضِّدَّيْنِ/ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ لَنَا مُعْتَادٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا عِلْمٌ إِلَّا بِمَا هو معتاد في هذه الدَّارِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فَقَبْلَ النُّبُوَّاتِ/ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا بِهِ مَعْرِفَةٌ، فَلَوْ بَقِينَا (وذاك) (¬6) لم (نحمل) (¬7) مَا لَمْ نَعْرِفْ إِلَّا عَلَى مَا عَرَفْنَا، ولأنكرنا (دعوى) (¬8) مَنِ ادَّعَى جَوَازَ قَلْبِ الشَّجَرِ حَيَوَانًا وَالْحَيَوَانِ حجراً، (وأشباه) (¬9) ذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي نَعْرِفُهُ مِنَ الْمُعْتَادَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ خِلَافُ هَذِهِ الدَّعْوَى. فَلِمَا جَاءَتِ النُّبُوَّاتُ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَنْكَرَهَا مَنْ أصرَّ عَلَى الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَاعْتَقَدَهَا سِحْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَقَلْبِ الْعَصَا ثُعْبَانًا، وَفَرْقِ الْبَحْرِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَتَكْلِيمِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، إِلَى غَيْرِ ذلك مما (تبين) (¬10) به أن ¬

(¬1) في (ط): وأخرى. (¬2) التسلسل: هو ترتب أمور على أمور غير متناهية: وأما الدور: فهو توقف الشيء على ما يتوقف عليه. انظر: التعريفات للجرجاني (ص57 و105)، والفتاوى (8 380 و153). (¬3) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬4) في (م) و (خ): الأمرين. وفي (غ) و (ر): "الأمر أن". (¬5) في (ت) بياض بمقدار نصف سطر. وفي (ط) و (خ) و (م): "معرفتهما". (¬6) في (ط) و (خ) و (ت): "وذلك". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نحل". (¬8) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وما أشبه". (¬10) في (م): "بين".

تِلْكَ الْعَوَائِدَ اللَّازِمَةَ فِي الْعَادَاتِ لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهَا، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ (تَتَخَلَّفَ) (¬1) كَمَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ، كَمَا خَرَجَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. (فَمَجَارِي) (¬2) الْعَادَاتِ إِذًا يُمْكِنُ (عَقْلًا تَخَلُّفِهَا) (¬3). إِذْ لَوْ كَانَ عَدَمُ التَّخَلُّفِ لَهَا عَقْلِيًّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ (تَتَخَلَّفَ) (¬4) لَا لِنَبِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدَّعِ أَحَدُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَمْعَ بين النقيضين، ولا تحدى أحد بكون (الواحد أكثر من اثنين) (¬5)، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ فَعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ/ وَإِذَا أَمْكَنَ فِي الْعَصَا وَالْبَحْرِ وَالْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَصَابِعِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَمْكَنَ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ وَجَبَ لِمِثْلِهِ. وَأَيْضًا فَقَدْ جاءنا الشرع بأوصاف (في) (¬6) أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ خَارِجَةٍ عَنِ الْمُعْتَادِ الذي (عهدنا) (¬7)، فَإِنَّ (كَوْنَ) (¬8) / الْإِنْسَانِ فِي الْجَنَّةِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ثُمَّ لَا يَغُوطُ وَلَا يَبُولُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ عَرَقِهِ كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ غَيْرُ/ مُعْتَادٍ وَكَوْنَ الْأَزْوَاجِ مُطَهَّرَةً مِنَ الْحَيْضِ مَعَ كَوْنِهِنَّ فِي حالة الصبا وسن من (تحيض) (¬9) غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الْإِنْسَانِ فِيهَا لَا/ يَنَامُ (أصلاً) (¬10) وَلَا يُصِيبُهُ جُوعٌ وَلَا عَطَشٌ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ أَبَدَ الدَّهْرِ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الثَّمَرِ فِيهَا إِذَا (قُطِفَ) (¬11) أخلف في الحال (وتدانى) (¬12) إِلَى يَدِ الْقَاطِفِ إِذَا اشْتَهَاهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ فِيهَا أَنْهَارًا مِنْ غَيْرِ/ حُلَابٍ وَلَا عَصْرٍ وَلَا نَحْلٍ، وَكَوْنَ الخمر لا تسكر غير معتاد، وكون ¬

(¬1) في (م): "يتخلف". (¬2) في (ط): "فمبادي". (¬3) في (ت): "تخلفها عقلاً". (¬4) في (م): "يتخلف". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الاثنين أكثر من الواحد". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من". (¬7) في (ط): "عندنا". (¬8) في (غ) و (ر): "كان". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يحيض". (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) في (غ) و (ر): "قطعت". (¬12) في (ط) و (ت): "ويتدانى".

ذلك كله بحيث لو استعمله دَائِمًا (لَا يَمْتَلِئُ وَلَا يُصِيبُهُ كِظَّةٌ) (¬1) وَلَا تخمة ولا يخرج من جسده لا في أذنه ولا (في) (¬2) أَنْفِهِ وَلَا (أَرْفَاغِهِ) (¬3) وَلَا سَائِرِ جَسَدِهِ أَوْسَاخٌ وَلَا أَقْذَارٌ (غَيْرُ مُعْتَادٍ) (¬4)، وَكَوْنَ أَحَدٍ مِنْ (أَهْلِ الْجَنَّةِ) (¬5) لَا يَهْرَمُ وَلَا يَشِيخُ وَلَا يموت ولا يمرض (غير) (¬6) معتاد. كذلك إذا (نظرت) (¬7) (إلى) (¬8) أَهْلَ النَّارِ عِيَاذًا بِاللَّهِ وَجَدْتَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، كَكَوْنِ النَّارِ لَا تَأْتِي عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} (¬9)، وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، كُلُّهَا خَارِقٌ لِلْعَادَةِ. فَهَذَانَ نَوْعَانِ شَاهِدَانِ لِتِلْكَ الْعَوَائِدِ وَأَشْبَاهِهَا (بِأَنَّهَا) (¬10) لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ وَضْعِيَّةٌ يُمْكِنُ تَخَلُّفُهَا، وَإِنَّمَا لَمْ نَحْتَجَّ بِالْكَرَامَاتِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمُعْتَزِلَةِ يُنْكِرُونَهَا رَأْسًا/ وَقَدْ أَقَرَّ بِهَا بعضهم (¬11). وإن ملنا إلى (التقريب) (¬12)، فَلَوِ اعْتَبَرَ النَّاظِرُ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَوَجَدَ لذلك نظائر جارية على (غير) (¬13) المعتاد. وَاسْمَعْ فِي ذَلِكَ أَثَرًا غَرِيبًا حَكَاهُ ابْنُ وهب من طريق إبراهيم بن نشيط (¬14) ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "لا يتملا ولا يصيبه كظمة". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) الأرفاغ: المغابن من الآباط وأصول الفخذين والحوالب وغيرها من مطاوي الأعضاء، وما يجتمع فيه الوسخ والعرق. انظر مادة رفغ من لسان العرب. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬5) في (م): أهل السنة بل الجنة. (¬6) في (ط): ولا غير. (¬7) في (م): "نظر". (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) سورة طه: الآية (74). (¬10) في (م): لأنها. وفي (غ) و (ر): (أنها). (¬11) انظر مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية لهم في هذه المسألة في كتاب النبوات (ص 150 وما بعدها). (¬12) في (ط) و (خ) و (ت): "التعريف". (¬13) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر). (¬14) هو إبراهيم بن نشيط بن يوسف الوعلاني أبو بكر المصري، وثقه أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم، توفي سنة 163هـ. انظر: المنتظم (8 167)، وتهذيب التهذيب (1 175).

قَالَ: سَمِعْتُ شُعَيْبَ بْنَ أَبِي سَعِيدٍ (¬1) يُحَدِّثُ: أَنَّ رَاهِبًا كَانَ بِالشَّامِ مِنْ (عُلَمَائِهِمْ) (¬2) وَكَانَ يَنْزِلُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ فَتَجْتَمِعُ/ إِلَيْهِ الرُّهْبَانُ (لِيُعَلِّمَهُمْ) (¬3) مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ دِينِهِمْ، فَأَتَاهُ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ (¬4) فِيمَنْ جَاءَهُ، فقال له الراهب: أمن أهل هذه الملة أنت؟ يريد النصرانية، قال خالد: لا ولكني من أمة محمد، قال الرَّاهِبُ (¬5): أَمِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنْتَ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي. قَالَ الرَّاهِبُ: أَلَيْسَ تَقُولُونَ: إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ فِي الْجَنَّةِ وَتَشْرَبُونَ ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَذًى؟ قَالَ خَالِدٌ: بَلَى، قَالَ الرَّاهِبُ: أَفَلِهَذَا مَثَلٌ تَعْرِفُونَهُ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: نَعَمْ، الصَّبِيُّ يَأْكُلُ فِي بَطْنِ/ أُمِّهِ مِنْ طَعَامِهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهَا ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ أَذًى، قَالَ الرَّاهِبُ لِخَالِدٍ: (أَلَيْسَ) (¬6) تَقُولُ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي، قَالَ: أَفَلَيْسَ تَقُولُونَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ فَوَاكِهَ تأكلون منها ولا ينقص منها شيء؟ قال خالد: بلى، قال: أَفَلِهَذَا مَثَلٌ فِي الدُّنْيَا تَعْرِفُونَهُ؟ قَالَ خَالِدٌ: نعم، الكتاب يكتب منه كل (أَحَدٌ) (¬7) ثُمَّ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَ الرَّاهِبُ: (أَلَيْسَ) (¬8) تَقُولُ:/ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي،/ قَالَ خَالِدٌ: فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا مِنْ أُمَّةٍ بُسِطَ لَهَا فِي الْحَسَنَاتِ/ مَا لَمْ يُبْسَطْ لِأَحَدٍ. انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ. وَهُوَ/ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، لَهُ أَصْلٌ فِي الْمُعْتَادِ، وَهُوَ تنزل (للممكن) (¬9) غير لازم، ولكنه مقرب ¬

(¬1) شعيب بن أبي سعيد أبو يونس، ذكره البخاري في التاريخ الكبير (4 218)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4 347)، ولم يذكراه بجرح ولا تعديل وذكره ابن حبان في الثقات (4 356). (¬2) في (ط): "أعمالهم". وفي (م) و (خ): "عمالهم". (¬3) في (م) و (غ) و (ر): "يعلمهم". (¬4) هو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي، كان موصوفاً بالعلم، وقول الشعر، أخرج له أبو داود، توفي سنة 84، وقيل 85هـ. انظر: السير (4 382)، وتهذيب التهذيب (1 194). (¬5) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): "ألست". (¬7) في (ط): "شيء أحد". (¬8) في (غ) و (ر): "أفليس". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "للمنكر".

لفهم من قصر فهمه عن إدراك (هذه) (¬1) الْحَقَائِقِ الْوَاضِحَاتِ. فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ قَضَاءُ الْعَقْلِ في (كل) (¬2) عَادِيٍّ بِانْخِرَاقِهِ مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْعَادِيِّ عَادِيًّا مُطَّرِدًا (غَيْرَ) (¬3) صَحِيحٍ أَيْضًا، فَكُلُّ عَادِيٍّ يَفْرِضُ العقل فيه خرق العادة فليس للعقل (إنكاره) (¬4)، إِذْ قَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي اخْتُصَّ الْبَارِي بِاخْتِرَاعِهَا، وَالْعَقْلُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ خَلْقٍ وَخَلْقٍ، فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِبَارِ: سُبْحَانَ مَنْ رَبَطَ الْأَسْبَابَ بِمُسَبَّبَاتِهَا وَخَرَقَ الْعَوَائِدَ لِيَتَفَطَّنَ الْعَارِفُونَ. تَنْبِيهًا عَلَى/ هَذَا الْمَعْنَى الْمُقَرَّرِ. فَهُوَ أَصْلٌ اقْتَضَى لِلْعَاقِلِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُجْعَلَ الْعَقْلُ حَاكِمًا بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ وَهُوَ الشَّرْعُ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدَّمَ مَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ ـ وَهُوَ الشَّرْعُ ـ وَيُؤَخِّرُ مَا حَقُّهُ (التَّأْخِيرُ) (¬5) ـ وَهُوَ نَظَرُ الْعَقْلِ ـ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ النَّاقِصِ (حَاكِمًا) (¬6) عَلَى الْكَامِلِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، بَلْ ضِدُّ الْقَضِيَّةِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأَدِلَّةِ/ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ (من قَالَ) (¬7): اجْعَلِ الشَّرْعَ فِي يَمِينِكَ وَالْعَقْلَ فِي يَسَارِكَ، تَنْبِيهًا عَلَى تَقَدُّمِ الشَّرْعِ عَلَى الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا (تَقْتَضِي ظَاهِرًا) (¬8) خَرْقَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ (الْإِنْكَارَ) (¬9) بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لَهُ سَعَةٌ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ (يُصَدِّقَ) (¬10) بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (ط) و (خ) و (ت): فيه إنكار. وفي (م): إنكار. (¬5) في (غ) و (ر): "أن يؤخر". (¬6) في (ط) و (غ) و (ر): "حكما". (¬7) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬8) في (غ) و (ر): "يقتضي ظاهره". (¬9) في (غ) و (ر): "بالإنكار". (¬10) في (غ) و (ر): "يقصد".

عِنْدِ رَبِّنَا} (¬1) يَعْنِي الْوَاضِحَ الْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَوْ لَزِمَ الْعِلْمُ بِهِ (لَجُعِلَ) (¬2) لَهُ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ. وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ إِنْكَارٌ لِخَرْقِ الْعَادَةِ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجْرِي حُكْمُ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ الْبَارِي بِهَا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَنْ نَفَاهَا نَفَى شِبْهَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ عند (الجميع) (¬3)، فَبَقِيَ الْخِلَافُ/ فِي نَفْيِ (عَيْنِ) (¬4) / الصِّفَةِ أَوْ إثباتها، (فالمثبت) (¬5) أثبتها صفة عَلَى شَرْطِ (نَفْيِ) (¬6) التَّشْبِيهِ، وَالْمُنْكِرُ لِأَنْ يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مُنْكِرٌ لِأَنْ يَثْبُتَ أَمْرٌ إِلَّا عَلَى وَفْقِ الْمُعْتَادِ. فَإِنْ قَالُوا: هَذَا لَازِمٌ فِيمَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ بَدِيهَةً، كَقَوْلِهِ: (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتَكْرَهُوا عَلَيْهِ) (¬7) فَإِنَّ الْجَمِيعَ أَنْكَرُوا ظَاهِرَهُ، إذ العقل/ (والمحسوس) (¬8) يَشْهَدَانِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ، وَأَنْتَ تَقُولُ: اعْتَقَدُوا أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ، وَتَأَوَّلُوا الْكَلَامَ. /قِيلَ: لَمْ نَعْنِ مَا هُوَ (مُنْكَرٌ بِبَدَاهَةِ) (¬9) الْعُقُولِ، وَإِنَّمَا عَنَيْنَا ما للنظر ¬

(¬1) سورة آل عمران: الآية (7). (¬2) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ): "الجمهور". (¬4) في (م) و (غ) و (ر): "غير". (¬5) في (م): "فالمثال". وفي (غ) و (ر): فالمتأول. (¬6) في (م): "يعني". (¬7) قال الألباني في إرواء الغليل: صحيح ... والمشهور في كتب الفقه بلفظ: ": (رفع عن أمتي ... ) ولكنه منكر ... والمعروف ما أخرجه ابن ماجه (1 630)، من طريق الوليد بن مسلم ... عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: (إن الله وضع عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتَكْرَهُوا عَلَيْهِ) ... إلخ. انظر: الإرواء (1 123) برقم (82) ففيه تفصيل مطول للحديث. (¬8) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: (والحس) نبه عليه رشيد رضا، والله تعالى أعلم. (¬9) في (م): من بدائه، وفي (غ) و (ر): بدائه.

فِيهِ شَكٌّ وَارْتِيَابٌ/، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الصِّرَاطَ ثَابِتٌ، وَالْجَوَازَ عَلَيْهِ قَدْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِهِ، فنحن نصدق به لأنه وإن كان (حدّ) (¬1) السَّيْفِ وَشِبْهِهِ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فَوْقَهُ عادة فكيف يمشي عليه؟ فالعادة قد (تنخرق) (¬2) حَتَّى يُمْكِنَ الْمَشْيُ وَالِاسْتِقْرَارُ،/ (وَالَّذِينَ) (¬3) يُنْكِرُونَهُ (¬4) يَقِفُونَ مَعَ الْعَوَائِدِ وَيُنْكِرُونَ أَصْلَ الصِّرَاطِ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلى إمكان انخراق العوائد، (فيردون ما جاء فيه أو يتأولونه حتى لا يثبتوا معنى الصراط أصلاً فإن أصروا على هذا ظهر التدافع في قولهم في إجازة انْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ) (¬5)، فَإِنْ فَرَّقُوا صَارَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا، لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ فِي أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ من غير مرجح عقلي، وقد صادمهم النَّقْلُ، فَالْحَقُّ الْإِقْرَارُ دُونَ الْإِنْكَارِ. (وَلْنَشْرَحْ) (¬6) هَذَا الْمَطْلَبَ بِأَمْثِلَةٍ عَشْرَةٍ: أَحَدُهَا: مَسْأَلَةُ الصِّرَاطِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ. وَالثَّانِي: مَسْأَلَةُ الْمِيزَانِ (¬7)، إِذْ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ مِيزَانًا صَحِيحًا عَلَى مَا يَلِيقُ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتُوزَنُ فِيهِ الْأَعْمَالُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ عَادِيٍّ، نَعَمْ يُقِرُّ الْعَقْلُ بِأَنَّ أَنْفُسَ الْأَعْرَاضِ ـ وَهِيَ الْأَعْمَالُ ـ لَا تُوزَنُ وَزْنَ الْمَوْزُونَاتِ عِنْدَنَا فِي ¬

(¬1) في (ط) و (خ) و (ت): "كحد". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تخرق". (¬3) في (م): "والذي". (¬4) الذين أنكروا كون الصراط أحدّ من السيف وأدق من الشعر: القاضي عبد الجبار المعتزلي، انظر: شرح الأصول الخمسة (737). (¬5) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في (غ) و (ر): "ولنرشح". (¬7) المنكرون للميزان هم جمهور المعتزلة، وخالفهم القاضي عبد الجبار حيث أثبت الميزان، وأنه حقيقي توزن به الأعمال كما في شرح الأصول الخمسة (735)، والذي عليه أهل السنة أن الميزان له كفتان حسيَّتان مشاهدتان، وأن الإنسان يوزن مع عمله، وأن الأعمال توزن في الميزان، خلافاً لما ذكر المؤلف، انظر تفصيل هذه المسألة في: مقالات الإسلاميين (2 164)، وفتح الباري (13 547 ـ549)، وشرح الطحاوية (ص409 ـ 413)، ولوامع الأنوار (2 184 ـ189)، وشرح نونية ابن القيم لابن عيسى (2 593)، ولمعة الاعتقاد ص26، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1 177).

الْعَادَاتِ وَهِيَ الْأَجْسَامُ، وَلَمْ يَأْتِ فِي النَّقْلِ مَا يُعَيِّنَ أَنَّهُ كَمِيزَانِنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أو أنه (عبارة عن العدل) (¬1) أو (أن) (¬2) أَنْفُسُ الْأَعْمَالِ تُوزَنُ (بِعَيْنِهَا) (¬3)، فَالْأَخْلَقُ الْحَمْلُ إِمَّا عَلَى التَّسْلِيمِ ـ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِذْ لَمْ يَثْبُتُ عَنْهُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ نَفْسِ الْمِيزَانِ أو (كيفيته أَوْ) (¬4) كَيْفِيَّةِ الْوَزْنِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عنهم في الصراط/ إلا (مثل) (¬5) مَا ثَبَتَ عَنْهُمْ فِي الْمِيزَانِ، فَعَلَيْكَ بِهِ فَهُوَ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّأْوِيلُ إِذًا خَارِجٌ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ، فَأَصْحَابُ التَّأْوِيلِ عَلَى هَذَا مِنَ الْفِرَقِ (الْخَارِجَةِ) (¬6)؟ قِيلَ: لَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ التَّصْدِيقِ بِمَا جاء (ثم) (¬7) التسليم محضاً/ أو مع التأويل، (فيكون التأويل من التوابع والذي جرى عليه الصحابة من الوجهين التسليم وهو الأولى إذ هم أحق بالصواب، والتأويل) (¬8) (نَظَرٌ) (¬9) لَا يَبْعُدُ، إِذْ قَدْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ/ الْمَوَاضِعِ، بِخِلَافِ مَنْ جَعَلَ أَصْلَهُ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ التَّكْذِيبَ/ بِهَا، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لهم، (سلك) (¬10) في الأحاديث مسلك التأويل (أو لا، فَالتَّأْوِيلُ) (¬11) أَوْ عَدَمُهُ لَا أَثَرَ لَهُ لِأَنَّهُ تابع على كلتا الطريقتين، (لكن) (¬12) التَّسْلِيمَ أَسْلَمُ. وَالثَّالِثُ: مَسْأَلَةُ عَذَابِ الْقَبْرِ (¬13)، وَهِيَ أسهل، ولا بعد ولا نكير في ¬

(¬1) في (م): "اعتباره عن النقل". وفي (خ): "عبارة عن النقل"، وفي (ت) و (ط): "عبارة عن الثقل". (¬2) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬3) في (غ) و (ر): "به بعينه". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في (ط): "الخارج". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (ت): "بنظر". (¬10) في (ط) و (خ): لسلك. (¬11) ما بين القوسين ساقط من (خ) و (ط). (¬12) في (غ) و (ر): "إلا أن". (¬13) يقول ابن حزم في الفصل (4 117): ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر، وهو قول من لقينا من الخوارج. وانظر تفصيل مسألة نعيم القبر وعذابه، وهل يقع على الجسد والروح معاً، وغير ذلك في: الروح لابن القيم (ص75 وما بعدها)، ولوامع الأنوار (2 23 ـ 26)، ومقالات الإسلاميين (2 116).

كَوْنِ الْمَيِّتِ يُعَذَّبُ بِرَدِّ الرُّوحِ إِلَيْهِ عَارِيَةً، ثُمَّ تَعْذِيبُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ عَلَى رُؤْيَتِهِ (كَذَلِكَ) (¬1) وَلَا سَمَاعِهِ، فَنَحْنُ نَرَى الْمَيِّتَ يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَيُخْبِرُ بِآلَامٍ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا، وَلَا نَرَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَثَرًا، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْأَمْرَاضِ الْمُؤْلِمَةِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ (فما) (¬2) نَحْنُ فِيهِ مِثْلُهَا، فَلِمَاذَا يُجْعَلُ اسْتِبْعَادُ الْعَقْلِ صادّاً في وجه التصديق بأقوال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. /وَالرَّابِعُ: مَسْأَلَةُ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ/ لِلْمَيِّتِ وَإِقْعَادِهِ فِي قَبْرِهِ (¬3)، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يشكل إذا حكمنا (العقل) (¬4) الْمُعْتَادَ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَحْكِيمَهُ بِإِطْلَاقٍ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقُصُورِهِ، وَإِمْكَانِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ، إما (بفسح) (¬5) الْقَبْرِ حَتَّى يُمْكِنَ إِقْعَادُهُ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُحِيطُ بِمَعْرِفَتِهَا الْعُقُولُ. وَالْخَامِسُ: مَسْأَلَةُ تَطَايُرِ الصُّحُفِ وَقِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ قَطُّ، وَقِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ خَلْفَ (ظَهْرِهِ) (¬6)، كُلُّ ذَلِكَ يُمْكِنُ فِيهِ خَرْقُ الْعَوَائِدِ فَيَتَصَوَّرُهُ الْعَقْلُ عَلَى وَجْهٍ مِنْهَا. وَالسَّادِسُ: (مَسْأَلَةُ) (¬7) إِنْطَاقِ الْجَوَارِحِ (¬8) شَاهِدَةً عَلَى صَاحِبِهَا لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ الَّتِي شَهِدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ. وَالسَّابِعُ: رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ جَائِزَةٌ (¬9)، إِذْ لَا دَلِيلَ في العقل يدل ¬

(¬1) في (ط) و (ت): "لذلك". (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مما". (¬3) سؤال الملكين للميت في القبر وإقعاده فصَّلها ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص389 ـ 396)، والسفاريني في لوامع الأنوار (2 4 ـ 16). (¬4) زيادة من (ت). (¬5) في سائر النسخ: "بفتح" والتصحيح من هامش (ت). (¬6) في (م): "ظاهره". (¬7) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) انظر: تفسير ابن كثير (4 96)، عند تفسير سورة فصلت الآية (21)، وفتح القدير للشوكاني (4 510). (¬9) ذهبت المعتزلة والجهمية ومن تبعهم من الخوارج والإمامية وبعض الزيدية وبعض المرجئة إلى نفي رؤية الله تعالى عياناً في الدنيا والآخرة، ومذهب الأشاعرة ومن تبعهم أن الله تعالى يرى في الآخرة في غير جهة. انظر تفصيل المسألة في كتاب: رؤية الله تعالى وتحقيق الكلام فيها، للدكتور أحمد آل حمد.

عَلَى أَنَّهُ لَا رُؤْيَةَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ عِنْدَنَا، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ تَصِحَّ الرُّؤْيَةُ عَلَى أَوْجُهٍ صَحِيحَةٍ لَيْسَ فِيهَا اتِّصَالُ أَشِعَّةٍ ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا (فصل) (¬1) جِسْمٍ/ شَفَّافٍ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ (¬2)، وَالْعَقْلُ لَا يَجْزِمُ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ بَدِيهَةً، وَهُوَ إِلَى الْقُصُورِ فِي النَّظَرِ أَمْيَلُ، وَالشَّرْعُ قَدْ جَاءَ بِإِثْبَاتِهَا فَلَا مَعْدِلَ عَنِ التَّصْدِيقِ. وَالثَّامِنُ: كَلَامُ الْبَارِي تَعَالَى إِنَّمَا نَفَاهُ مَنْ/ نَفَاهُ وُقُوفًا مَعَ الكلام (المعتاد) (¬3) الْمُلَازِمِ لِلصَّوْتِ وَالْحَرْفِ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْبَارِي مُحَالٌ (¬4)، وَلَمْ (يَقِفْ) (¬5) مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ تَعَالَى خَارِجًا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُعْتَادِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ/ لَائِقٍ بِالرَّبِّ، إِذْ لَا يَنْحَصِرُ الْكَلَامُ فِيهِ عَقْلًا، وَلَا يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ مُحَالٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ الْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ الْأَخْبَارِ مُجَرَّدًا. وَالتَّاسِعُ: / إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ كَالْكَلَامِ، إِنَّمَا نَفَاهُ (مَنْ نَفَاهُ) (¬6) لِلُزُومِ التَّرْكِيبِ (¬7) عِنْدَهُ فِي ذَاتِ الْبَارِي تَعَالَى عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا فَلَا يمكن أن ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فضل". (¬2) هذه اللوازم التي نفاها هنا الشاطبي في رؤية الله تعالى، هي من اللوازم التي ذكرها بعض المتكلمين، وهي مما استدلوا به على نفي الرؤية، وتأويلها بمعان أخرى، ويظهر هنا ميل الشاطبي إلى رأي الأشاعرة في إثبات الرؤية. انظر تفصيل المسألة في المصدر السابق (ص16 وما بعدها). (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) مذهب أهل السنة أن الله تعالى يتكلم على الحقيقة، وكلامه بحرف وصوت، وأنه سبحانه وتعالى يتكلم كيف شاء متى شاء إذا شاء. والخلاف في مسألة الكلام من المسائل التي كثر الخلاف فيها، وتفصيل المسألة مبسوط في الفتاوى الجزء 12، وانظر كذلك العقيدة السلفية في كلام رب البرية، لعبد الله الجديع. (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يقل"، (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) القائلون بأن إثبات الصفات يستلزم التركيب هم المعتزلة وبعض الفلاسفة، وقد فصل شيخ الإسلام الرد عليهم في هذه المسألة في كثير من كتبه، وخاصة في نقض أساس التقديس (1 605 ـ 606) وفي درء تعارض العقل والنقل (1 280 ـ 281) (3 15 ـ 17 و389 ـ 390 و395 ـ 407 و419 ـ 438) و (4 148 ـ 149 و183 ـ 188=

يَكُونَ وَاحِدًا مَعَ إِثْبَاتِهَا، وَهَذَا قَطْعٌ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي ثَبَتَ (قُصُورُ) (¬1) إِدْرَاكِهِ (فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فكيف لا يثبت/ قصوره في (إدراك) (¬2)) (¬3) (ما ادعى) (¬4) مِنَ التَّرْكِيبِ (بِالنِّسْبَةِ) (¬5) إِلَى صِفَاتِ الْبَارِي؟ فَكَانَ مِنَ الصَّوَابِ فِي حَقِّهِ أَنْ يُثْبِتَ مِنَ الصِّفَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ، وَيُقِرُّ مَعَ ذَلِكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ. وَالْعَاشِرُ: تَحْكِيمُ الْعَقْلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ يَقُولُ: يجب عليه بعثة الرسل، ويجب عليه (رعاية) (¬6) الصَّلَاحُ وَالْأَصْلَحُ (¬7)، وَيَجِبُ عَلَيْهِ اللُّطْفُ (¬8)، وَيَجِبُ عَلَيْهِ كذا (¬9)، إلى آخر ما ينطق به (اللسان) (¬10) فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ الِاعْتِيَادُ فِي الْإِيجَابِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَنْ أَجَلَّ الْبَارِي وعظَّمَهُ لَمْ (يَجْتَرِئْ) (¬11) عَلَى إِطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَلَا أَلَمَّ بِمَعْنَاهَا فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَادَ إِنَّمَا حَسَنٌ فِي الْمَخْلُوقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ مقصور مَحْصُورٌ مَمْنُوعٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَا يَمْنَعُهُ شَيْءٌ، وَلَا يُعَارِضُ أَحْكَامَهُ حُكْمٌ، فَالْوَاجِبُ الْوُقُوفُ مَعَ قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ} / ي ً ٌ ٍ َ ُ {الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ¬

=و149 ـ 234 و245 ـ 273) و (5 140 ـ 147 و246 ـ 247) و (7 141 ـ 144 و225 ـ 230) و (10 251 ـ 254 و300 ـ 313). (¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "قصور في". (¬2) في (ط) و (خ) و (م): إدراكها. (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬4) في (ت): ادعى ما ادعى. وفي (م): ادعى وفي (ت) و (خ): "إذا ادعى". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالرب بالنسبة". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) تقدم الكلام على هذه المسألة (ص151). (¬8) اللطف عن المتكلمين: هو أن يختار المرء الواجب ويتجنب القبيح، ويسمى توفيقاً وعصمة، وذهب بشر بن المعتمر ومن تبعه إلى أن اللطف غير واجب على الله تعالى، وذهب فريق آخر إلى إيجاب اللطف على الله تعالى. انظر تفصيل المسألة في: مذاهب الإسلاميين لبدوي، وأحال على شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (520)، ومقالات الإسلاميين (1 287). (¬9) المعتزلة هم القائلون بإيجاب بعض الأمور على الله، انظر ما تقدم ذكره عنهم (3/ 151). (¬10) زيادة من (غ) و (ر). (¬11) في (غ) و (ر): "يجسر".

فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1)، وقوله تعالى: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬2)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (¬3)، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (¬4)، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ *فَعَّالٌ/ لِمَا يُرِيدُ} (¬5). (فالحاصل) (¬6) من هذه القضية أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَقْلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يدي الشرع، فإنه من (التقديم) (¬7) بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَكُونُ مُلَبِّيًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ. ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا هو (مذهب الصحابة) (¬8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِ دَأَبُوا، وَإِيَّاهُ اتَّخَذُوا طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ فَوَصَلُوا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ سَيْرِهِمْ أَشْيَاءُ: مِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ أَقَرُّوا وَأَذْعَنُوا لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، ولم يصادموه (بمعقول) (¬9) وَلَا عَارَضُوهُ بِإِشْكَالٍ، وَلَوْ/ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ إِلَيْنَا كَمَا نُقِلَ إِلَيْنَا سَائِرُ سِيَرِهِمْ وَمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْقَضَايَا وَالْمُنَاظَرَاتِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ/ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا (به) (¬10) (وأمرّوه) (¬11)، كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا نَظَرٍ. كان مالك بن أنس رحمه الله يَقُولُ: الْكَلَامُ فِي الدِّينِ أَكْرَهُهُ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ بَلَدِنَا يَكْرَهُونَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، نَحْوَ الْكَلَامِ فِي رَأْيٍ جَهْمٍ وَالْقَدَرِ، وَكُلِّ مَا/ أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا أُحِبُّ الْكَلَامَ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ، فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الدِّينِ وَفِي اللَّهِ عز وجل فالسكوت أحب إلي (منه) (¬12)، لأني رأيت أهل بلدنا ¬

(¬1) سورة الأنعام: الآية (149). (¬2) سورة آل عمران: الآية (40). (¬3) سورة المائدة: الآية (1). (¬4) سورة الرعد: الآية (41). (¬5) سورة البروج: الآية (15 ـ 16). (¬6) في (ت): "والحاصل". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التقدم". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المذهب للصحابة". (¬9) زيادة من (غ) و (ر). (¬10) ساقط من (غ) و (ر). (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وأقرّوه". (¬12) زيادة من (غ) و (ر).

يَنْهَوْنَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الدِّينِ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ (¬1). قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ بَيَّنَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا تحته عمل هو المباح عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَهْلِ بَلَدِهِ ـ يَعْنِي الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ ـ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الدِّينِ نَحْوَ الْقَوْلِ في صفات الله وأسمائه، وضرب مثلاً (فقال) (¬2) نَحْوَ رَأْيِ جَهْمٍ وَالْقَدَرِ، قَالَ: وَالَّذِي قَالَهُ مالك عليه جماعة الفقهاء (والعلماء) (¬3) قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفَتْوَى، وَإِنَّمَا خالف في ذلك أهل البدع، (قال) (¬4): وَأَمَّا/ الْجَمَاعَةُ فَعَلَى مَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ أَحَدٌ إِلَى الْكَلَامِ، فلا يسعه السكوت إذا طمع في رد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه، (أو خشي ضلال) (¬5) عَامَّةً، أَوْ نَحْوَ هَذَا (¬6). وَقَالَ يُونُسُ بْنُ (عَبْدِ الْأَعْلَى) (¬7): سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَوْمَ نَاظَرَهُ/ حَفْصٌ الْفَرْدُ (¬8) قَالَ لِي: يَا أَبَا مُوسَى، لِأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ، لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ حَفْصٍ كَلَامًا لَا أَقْدِرُ أَنْ أَحْكِيَهُ (¬9). /وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يُفْلِحُ صَاحِبُ الْكَلَامِ أَبَدًا، وَلَا تَكَادُ ترى أحداً نظر في (الكلام) (¬10) إلا وفي قلبه دغل (¬11). ¬

(¬1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1786)، واللالكائي (309) (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) زيادة من (غ) و (ر). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في (ط): "وخشي ضلالة". (¬6) انظر كلامه في: جامع بيان العلم (2/ 938). (¬7) في (م) و (ت): عبد الله. وهو يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة أبو موسى المصري، ولد سنة 170هـ، وكان من كبار العلماء في زمانه، وثقه النسائي وابن أبي حاتم، توفي 264هـ. انظر: الجرح والتعديل (9 243)، والسير (12 348). (¬8) قال ابن حجر: حفص الفرد، مبتدع، قال النسائي: صاحب كلام، لا يكتب حديثه، وكفره الشافعي في مناظرته. انظر: لسان الميزان (1 330 ـ 331). (¬9) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1788). (¬10) في (م) وأصل (ط) و (خ) و (ت): "المسائل". (¬11) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1796).

وقال: عن الحسن بن زياد اللؤلؤي (¬1)، قال لَهُ رَجُلٌ فِي زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ (¬2): أَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَحْمَقَكَ، مَا أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا زُفَرَ وَأَبَا يُوسُفَ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَمَنْ جَالَسْنَا وَأَخَذْنَا (عَنْهُمْ هَمَّهُمْ) (¬3) غَيْرُ الْفِقْهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ (¬4). وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْآثَارِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ أَهْلُ بِدَعٍ وزيغ، ولا يعدون عند الجميع (في (جميع الأمصار)) (¬5) في طَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ (وَإِنَّمَا) (¬6) الْعُلَمَاءُ، أَهْلُ الْأَثَرِ وَالتَّفَقُّهِ فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان/ وَالْمَيْزِ وَالْفَهْمِ (¬7). وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ (¬8) أَنَّهُ قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنَّا (لَنَلْتَقِطُ) (¬9) السُّنَنَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ (وَالثِّقَةِ، وَنَتَعَلَّمُهَا شَبِيهًا بِتَعَلُّمِنَا آيَ الْقُرْآنِ، (وَمَا بَرِحَ) (¬10) مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ) (¬11)، وَالْفَضْلِ مِنْ (خِيَارِ/ أَوَّلِيَّةِ) (¬12) النَّاسِ، يَعِيبُونَ أَهْلَ الْجَدَلِ وَالتَّنْقِيبِ وَالْأَخْذِ بِالرَّأْيِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ لِقَائِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَيُحَذِّرُونَنَا مُقَارَبَتَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَيُخْبِرُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ وَتَحْرِيفٍ لِتَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ وسنن رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَنَاحِيَةَ التَّنْقِيبِ/ وَالْبَحْثِ (وَزَجَرَ) (¬13) عَنْ ذَلِكَ، وَحَذَّرَهُ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ موطن، ¬

(¬1) هو الحسن بن زياد اللؤلؤي أبو علي الأنصاري، صاحب أبي حنيفة، توفي سنة 204هـ، انظر: تاريخ بغداد (7 314)، والسير (9 543)، وميزان الاعتدال (1 419). (¬2) هو زفر بن الهذيل العنبري، ولد سنة 110هـ، قال عنه يحيى بن معين: ثقة مأمون. كان من كبار تلاميذ أبي حنيفة، توفي سنة 158هـ. انظر: طبقات ابن سعد (6 387)، والسير (8 38). (¬3) في (غ) و (ر): "عنه يهمهم". (¬4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1798). (¬5) في (ت): "الجميع". وما بين () ساقط من (غ) و (ر). (¬6) في (م) و (غ) و (ر): "قال وإنما". (¬7) انظر: جامع بيان العلم (2 942). (¬8) هو أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي المدني، وثقه الإمام أحمد وابن معين، توفي سنة 131هـ. انظر: الجرح والتعديل (5 49)، وتهذيب التهذيب (5 203). (¬9) في (م): "لنتلقط". (¬10) في (غ) و (ر): "وما قال ودرج". (¬11) ما بين القوسين ساقط من (م) و (ت). (¬12) في (غ) و (ر): "أخيار لأمة". (¬13) في (م) و (خ): "والجزر".

حَتَّى كَانَ مِنْ قَوْلِهِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ (بِشَيْءٍ) (¬1) فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" (¬2). //وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه قال: اتقوا (الرأي) (¬3) في دينكم، قال سحنون: يعني (البدع) (¬4). (وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا إِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا) (¬5) وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئلوا أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ، فَعَارَضُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ (¬6). قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: أَهْلُ الرَّأْيِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ (¬7)، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي قَصِيدَتِهِ فِي السُّنَّةِ (¬8): وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلَهُمْ ... فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ أَزْكَى وَأَشْرَحُ وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَشَعَّبَتْ بِهِمُ السُّبُلُ، وَحَادُوا عَنِ الطَّرِيقِ، فَتَرَكُوا الْآثَارَ وَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ فضلُّوا وَأَضَلُّوا (¬9). وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: مَنْ (يرغب) (¬10) برأيه عن أمر الله يضل (¬11). ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "بأمر". (¬2) أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337)، وابن راهويه في مسنده (60)، وأحمد (2 508)، وابن ماجه (2)، والنسائي في المجتبى (2619)، وفي الكبرى (3598)، والدارقطني في السنن (2 281)، وابن حبان (3707 و3705)، والبيهقي في الكبرى (8398). وقول أبي الزناد في جامع بيان العلم (2/ 949). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الله". (¬4) ساقط من (م). وفي (ت) و (خ) و (ط): "الانتهاء عن الجدل فيه"، والأثر أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2002). (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) تقدم تخريجه (1 176). (¬7) انظر: جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 1042). (¬8) انظر: قصيدة الإمام أبي بكر (ص20). (¬9) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2026)، وذكر المحقق نسبة القول للشعبي، وبيّن أن في نسخة كُتب الحسن بدلاً من الشعبي. (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "رغب". (¬11) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2027).

وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كان يقول: السنن السنن، (فإن) (¬1) (السُّنَنَ) (¬2) قِوَامُ الدِّينِ (¬3). وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (عن أبيه) (¬4) قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ مُعْتَدِلًا حَتَّى نَشَأَ فِيهِمْ مولَّدون أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فَأَخَذُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ فضلُّوا وَأَضَلُّوا (¬5). فَهَذِهِ الْآثَارُ وَأَشْبَاهُهَا تُشِيرُ إِلَى ذَمِّ إِيثَارِ نَظَرِ الْعَقْلِ عَلَى آثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّأْيِ الْمَذْمُومِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ، الْبِدَعُ الْمُحْدَثَةُ فِي الِاعْتِقَادِ، كَرَأْيِ (جَهْمٍ) (¬6) وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ اسْتَعْمَلُوا قِيَاسَهُمْ وَآرَاءَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَى اللَّهُ/ فِي الْآخِرَةِ (لِأَنَّهُ) (¬7) تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ)} (¬8) (¬9) الْآيَةَ، فَرَدُّوا قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬10)، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} (¬11)، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا/ اثْنَتَيْنِ} (¬12)، فرُّدوا الْأَحَادِيثَ الْمُتَوَاتِرَةَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ (¬13)، وردوا الأحاديث/ في ¬

(¬1) في (ط): "إن". (¬2) في (غ) و (ر): "السنة". (¬3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2028). (¬4) ما بين القوسين زيادة من جامع بيان العلم. (¬5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2015) و (2031). (¬6) في جميع النسخ: أبي جهم. (¬7) في (م): "فإنه". (¬8) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬9) سورة الأنعام: الآية (103). (¬10) أحاديث رؤية الله عز وجل يوم القيامة، من الأحاديث المتواترة، وله عدة روايات، انظر: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، برقم (22 و4581 و4919 و6560 و6574 و7438 و7439)، وفي مسلم (183 ـ 184)، والنسائي (8 112)، وابن ماجه (1 63)، برقم (177 ـ 180). وقد جمع أغلب الروايات الواردة في المسألة الدارقطني في كتاب "رؤية الله". (¬11) سورة القيامة: الآيتان (22، 23). (¬12) سورة غافر: الآية (11). (¬13) انظر طائفة من الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته في كتاب قطف الأزهار المتناثرة للسيوطي (ص294).

الشَّفَاعَةِ/ عَلَى تَوَاتُرِهَا (¬1)،/ وَقَالُوا: لَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ دَخَلَ فِيهَا. وَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ حَوْضًا وَلَا مِيزَانًا، وَلَا نَعْقِلُ مَا هَذَا، وَرَدُّوا السُّنَنَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِرَأْيِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ إِلَى أَشْيَاءَ يَطُولُ/ ذِكْرُهَا مِنْ كَلَامِهِمْ فِي (صفات) (¬2) الْبَارِي، وَقَالُوا: الْعِلْمُ مُحْدَثٌ فِي حَالِ حُدُوثِ الْمَعْلُومِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عِلْمٌ إِلَّا عَلَى مَعْلُومٍ، فِرَارًا مِنْ قِدَمِ الْعَالَمِ فِي زَعْمِهِمْ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ الْمُرَادُ بِهِ الرَّأْيُ الْمُبْتَدَعُ وَشِبْهُهُ مِنْ ضُرُوبِ الْبِدَعِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ (بِالِاعْتِقَادِ) (¬3)، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعَمَلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ ـ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُمُ الْجُمْهُورُ ـ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ فِي الشَّرْعِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالِ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ، وَرَدِّ الْفُرُوعِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ دُونِ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ، قَالُوا: وَفِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا تَعْطِيلُ السُّنَنِ وَالتَّذَرُّعُ إِلَى جَهْلِهَا (¬4). وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ خَارِجٍ عَمَّا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِلذَّرِيعَةِ إِلَى الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَهُوَ مُعَارَضَةُ الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْحَثْ عَنِ السُّنَنِ جَهِلَهَا فَاحْتَاجَ إِلَى الرَّأْيِ، فَلَحِقَ بِالْأَوَّلِينَ الَّذِينَ عَارَضُوا السُّنَنَ حَقِيقَةً، فَجَمِيعُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ إِعْمَالُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ مَعَ طَرْحِ السُّنَنِ، إِمَّا قَصْدًا أَوْ غَلَطًا وَجَهْلًا، وَالرَّأْيُ إِذَا عَارَضَ السُّنَّةَ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ. /فَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ ما تقدم أن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم رضي الله عنهم لم يعارضوا ما جاء في (السنة) (¬5) بِآرَائِهِمْ، عَلِمُوا مَعْنَاهُ أَوْ جَهِلُوهُ، جَرَى لَهُمْ عَلَى مَعْهُودِهِمْ أَوْ لَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ نقله، ¬

(¬1) المرجع السابق (ص301). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): صفة. (¬3) في (غ) و (ر): بالاعتقاديات. (¬4) نقله المصنف عن جامع بيان العلم (2/ 1054) متصرفاً مختصراً. (¬5) في (غ) و (ر): "السنن".

(ليعتبر به) (¬1) مَنْ قَدَّمَ النَّاقِصَ ـ وَهُوَ الْعَقْلُ ـ عَلَى الْكَامِلِ ـ وَهُوَ الشَّرْعُ ـ وَرَحِمَ اللَّهُ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ حَيْثُ يَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا عَلَّمَكَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ عِلْمٍ فَاحْمَدِ اللَّهَ، وَمَا/ اسْتَأْثَرَ عَلَيْكَ بِهِ مِنْ عِلْمٍ فكِلْه إلى عالمه، ولا تتكلف، فإن الله يقول لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ *} (¬2)، إلى آخرها (¬3). وعن معتمر بْنِ سُلَيْمَانَ (¬4) عَنْ جَعْفَرٍ (¬5) عَنْ رَجُلٍ مِنْ علماء أهل المدينة، قال: إن الله تعالى عَلِمَ عِلْمًا علَّمه الْعِبَادَ، وعَلِمَ عِلْمًا لَمْ يعلِّمه الْعِبَادَ، فَمَنْ تَكَلَّفَ الْعِلْمَ الَّذِي (لَمْ) (¬6) يعلِّمه الْعِبَادَ لَمْ يَزْدَدْ مِنْهُ إِلَّا بُعْدًا. قَالَ: وَالْقَدَرُ/ مِنْهُ (¬7). وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ يَقُولَانِ: أمِرُّوا هَذِهِ/ الْأَحَادِيثَ كَمَا جَاءَتْ وَلَا تَتَنَاظَرُوا فِيهَا (¬8). وَمِثْلُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، فِي الْأَحَادِيثِ فِي الصِّفَاتِ أَنَّهُمْ (كلهم قالوا) (¬9): أمِرُّوها كما جاءت، نحو حديث التنزل، وخلق آدم على صورته، وشبههما، ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وليعتبر فيه". (¬2) سورة ص: الآية (86). (¬3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2011). (¬4) معتمر بن سليمان التيمي أبو محمد البصري، ثقة من كبار التاسعة، مات سنة سبع وثمانين وقد جاوز الثمانين. انظر: التاريخ الكبير (8 49)، تهذيب التهذيب (10 204)، التقريب (6785). (¬5) جعفر بن حيان السعدي، أبو الأشهب العطاردي البصري، مشهور بكنيته، ثقة من السادسة، مات سنة خمس وستين وله خمس وتسعون سنة. انظر: التاريخ الكبير (2 189)، تهذيب التهذيب (2 75)، التقريب (935). (¬6) ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (خ): "لا". (¬7) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1804). (¬8) أخرجه اللالكائي (735)، وفي جامع بيان العلم (1801). (¬9) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ).

وَحَدِيثُ مَالِكٍ فِي السُّؤَالِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ/ مَشْهُورٌ (¬1). وَجَمِيعُ مَا قَالُوهُ مُسْتَمَدٌّ مِنْ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (¬2) الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، فإنها صريحة في هذا (المعنى) (¬3) الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، فَإِنَّ كُلَّ (مَا لَمْ) (¬4) يَجْرِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي الْفَهْمِ مُتَشَابِهٌ، (فَالْوُقُوفُ) (¬5) عَنْهُ هُوَ الْأَحْرَى بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الْمُتَّبِعُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمُ اتِّبَاعُ الرَّأْيِ لَمْ يَذُمُّوهُ وَلَمْ يَنْهَوْا عَنْهُ لَأَنَّ أَحَدًا لَا يَرْتَضِي طَرِيقًا ثُمَّ يَنْهَى عَنْ سُلُوكِهِ، كَيْفَ وَهَمَ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. /وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ فِي مَجْلِسٍ فَذُكِرَ (فِيهِ أَصْحَابُ) (¬6) مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا أبرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ، فَإِنَّهُمْ ـ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ـ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ (¬7). وَعَنْ/ حذيفة رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ وَخُذُوا طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَعَمْرِي لَئِنِ (اتَّبَعْتُمُوهُ) (¬8) لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ يِمِينًا أَوْ شِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بعيداً (¬9). ¬

(¬1) الآثار الواردة عن قول السلف: (أمرّوها كما جاءت بلا كيف) ونحوها، أخرجها ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1802)، والآجري في الشريعة (720)، والحلية (6 325)، واللالكائي (735 و875 و877 و930)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2 198) وفي الاعتقاد (ص44)، والصابوني في عقيدة السلف (90)، وقول الإمام مالك في الاستواء أخرجه اللالكائي (664)، وروى بنحوه عن أم سلمة (663)، وربيعة الرأي (665)، وانظر: شرح السنة للبغوي (1 171)، وحلية الأولياء (6 325 ـ 326). (¬2) سورة آل عمران: الآية (7). (¬3) ما بين القوسين ساقط من (ط). (¬4) في (م) و (خ) و (ت): "من لم". (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فالوقف". (¬6) ما بين القوسين ساقط من (م)، وفي (غ) و (ر): "أصحاب". (¬7) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1807). (¬8) في (ت): "اتبعتم"، وفي (غ) و (ر): "اتبعتموهم". (¬9) تقدم تخريجه (1 127).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فليتأسَّ/ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، وأقومها هدياً، وأحسنها (حالاً) (¬1)، (قَوْمٌ) (¬2) اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ (¬3). وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاتِّبَاعِ لِطَرِيقِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ طَرِيقُ النَّجَاةِ حَسْبَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْفِرَقِ فِي قَوْلِهِ: "مَا أَنَا عليه وأصحابي" (¬4). ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر) وجامع بيان العلم: "خلالاً". (¬2) في (غ) و (ر): "قوماً". (¬3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1810). (¬4) تقدم تخريجه (3/ 122).

فصل

فصل النوع الرابع (¬1): (اتباع الهوى، اعلم) (¬2) إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ/ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ (¬3)، وَهَذَا/ أَصْلٌ قَدْ تَقَرَّرَ فِي قِسْمِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ (¬4)، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ كلِّي يَلِيقُ بِالْأُصُولِ، فَمَنْ أَرَادَ الْإِطْلَاعَ عَلَيْهِ فَلْيُطَالِعْهُ مِنْ هُنَالِكَ. ولما كانت طرق (الهوى) (¬5) (مُتَشَعِّبَةً) (¬6) لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُؤْتَى عَلَيْهَا بِالِاسْتِيفَاءِ، فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا شُعْبَةً وَاحِدَةً تَكُونُ كَالطَّرِيقِ لِمَعْرِفَةِ مَا سِوَاهَا. /فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ كَبِيرِهِمْ وَصَغِيرِهِمْ مطيعهم وعاصيهم، برهم وفاجرهم، لم (يختص) (¬7) الحجة بِهَا أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشَّرَائِعِ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِتَكُونَ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ الَّتِي تَنْزِلُ فِيهِمْ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ، حَتَّى إِنَّ (الْمُرْسَلِينَ) (¬8) (بِهَا) (¬9) صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ أَحْكَامِهَا. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ/ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطَبٌ بِهَا فِي جَمِيعِ/ أحواله ¬

(¬1) النوع الرابع من الإحداث في الشريعة. (¬2) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬3) في الموافقات (2 114): (حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً). وهي أتم في المعنى. (¬4) انظر: الموافقات (2 114). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحق". (¬6) ما بين القوسين ساقط من (ت). (¬7) في (غ) و (ر): "تختص". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الشريعة المرسلين". (¬9) ساقط من (ت).

وَتَقَلُّبَاتِهِ، مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ، أَوْ كان عاماً له ولأمته، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} (إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى) (¬1) خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2)، ثم قال تَعَالَى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} (¬3)، وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} (¬4)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬5)، إِلَى سَائِرِ التَّكَالِيفِ الَّتِي وَرَدَتْ عَلَى كُلِّ مكلف، والنبي صلّى الله عليه وسلّم فِيهِمْ، فَالشَّرِيعَةُ هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الْمُوصِلُ وَالْهَادِي الْأَعْظَمُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (¬6)، فهو صلّى الله عليه وسلّم أَوَّلُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ، ثُمَّ مَنِ اتَّبَعَهُ فِيهِ وَالْكِتَابُ هُوَ الْهَادِي، وَالْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ مُرْشِدٌ وَمُبَيِّنٌ لِذَلِكَ الْهَدْيِ وَالْخَلْقُ مهتدون بالجميع، ولما استنار قلبه وجوارحه صلّى الله عليه وسلّم وَبَاطِنُهُ/ وَظَاهِرُهُ بِنُورِ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا، صَارَ هُوَ الْهَادِيَ الْأَوَّلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْمُرْشِدَ (الْأَعْظَمَ) (¬7)، حَيْثُ (خصَّه) (¬8) اللَّهُ دُونَ الْخَلْقِ بِإِنْزَالِ ذَلِكَ النُّورِ عَلَيْهِ، وَاصْطَفَاهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَانَ مثله في الخلقة البشرية اصطفاءً (أزلياً) (¬9)، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَشَرًا عَاقِلًا ـ مَثَلًا ـ لِاشْتِرَاكِهِ مَعَ غَيْرِهِ فِي هَذِهِ// الْأَوْصَافِ، وَلَا لِكَوْنِهِ مِنْ قُرَيْشٍ ـ مَثَلًا ـ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا لَزِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ قُرَشِيٍّ، وَلَا لِكَوْنِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ/ وَلَا لِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ مِنْ جِهَةِ اخْتِصَاصِهِ بِالْوَحْيِ الَّذِي اسْتَنَارَ بِهِ قَلْبُهُ وَجَوَارِحُهُ فَصَارَ خُلَقه القرآن، حتى قيل فيه: ¬

(¬1) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬2) سورة الأحزاب: الآية (50). (¬3) سورة الأحزاب: الآية (52). (¬4) سورة التحريم: الآية (1). (¬5) سورة الطلاق: الآية (1). (¬6) سورة الشورى: الآية (52). (¬7) في (غ) و (ر): "الأول". (¬8) في (غ) و (ر): "اختصه". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): أولياً. وفي (ر): "اصطفاه أزلياً".

{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ *} (¬1)، وإنما ذلك لِأَنَّهُ حَكَّم الْوَحْيَ (عَلَى نَفْسِهِ، حَتَّى صَارَ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى وَفْقِهِ، فَكَانَ الْوَحْيُ حاكماً (وافق) (¬2) قابلاً مُذْعِنًا) (¬3) مُلَبِّيًا نِدَاءَهُ، وَاقِفًا عِنْدَ حُكْمِهِ، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، إِذْ قَدْ جَاءَ بِالْأَمْرِ وَهُوَ مُؤْتَمَرٌ، وَبِالنَّهْيِ وَهُوَ مُنْتَهٍ، وَبِالْوَعْظِ وَهُوَ مُتَّعِظٌ، وَبِالتَّخْوِيفِ وَهُوَ أَوَّلُ الْخَائِفِينَ، وَبِالتَّرْجِيَةِ وَهُوَ (سَائِقٌ دَابَّةَ الرَّاجِينَ) (¬4). وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ (كُلِّهِ) (¬5) جَعْلُهُ الشَّرِيعَةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِ حُجَّةً (حَاكِمَةً) (¬6) عَلَيْهِ، وَدَلَالَةً لَهُ/ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ صلّى الله عليه وسلّم، وبذلك صار عبداً لله حَقًّا، وَهُوَ أَشْرَفُ اسْمٍ تَسَمَّى بِهِ الْعِبَادُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ/ لَيْلاً} (¬7)، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (¬8)، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (¬9)، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ/ الْآيَاتِ الَّتِي وَقَعَ مدحه فيها (بصفة) (¬10) العبودية. وإذا كان (ذلك) (¬11) كَذَلِكَ فَسَائِرُ الْخَلْقِ حَرِيُّونَ بِأَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ حُجَّةً حَاكِمَةً عَلَيْهِمْ وَمَنَارًا يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ، وَشَرَفُهُمْ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِحَسَبِ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَحْكَامِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا قَوْلًا وَاعْتِقَادًا وَعَمَلًا، لَا بِحَسَبِ عُقُولِهِمْ فَقَطْ، وَلَا بِحَسَبِ شَرَفِهِمْ (فِي قَوْمِهِمْ) (¬12) فَقَطْ، لِأَنَّ الله تعالى إنما أثبت الشرف بالتقوى لا غيرها لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬13)، فَمَنْ كَانَ أَشَدَّ مُحَافَظَةً عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ فهو أولى ¬

(¬1) سورة القلم: الآية (4). (¬2) في (ط) و (خ): "وافقا". (¬3) ما بين () ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (غ) و (ر): "سابق حلبة الراجلين". (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) سورة الإسراء: الآية (1). (¬8) سورة الفرقان: الآية (1). (¬9) سورة البقرة: الآية (23). (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بصحة". (¬11) زيادة من (غ) و (ر). (¬12) ساقط من (غ) و (ر). (¬13) سورة الحجرات: الآية (13).

بِالشَّرَفِ وَالْكَرَمِ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَبْلُغَ فِي الشَّرَفِ مَبْلَغَ الْأَعْلَى فِي اتِّبَاعِهَا، فَالشَّرَفُ إِذًا إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ المبالغة في تحكيم الشريعة. /ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ هَذَا: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَّفَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَرَفَعَ أَقْدَارَهُمْ، وَعَظَّمَ مِقْدَارَهُمْ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، بَلْ قَدِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وأنهم المستحقون (لأشرف) (¬1) الْمَنَازِلِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ. وَاتَّفَقَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى أَنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ أَفْضَلُ الْعُلُومِ وَأَعْظَمُهَا أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا عَلَيْنَا/ أَسَامَحَنَا بَعْضُ الْفِرَقِ فِي تعيين/ العلوم (الشرعية) (¬2) ـ أَعْنِي الْعُلُومَ الَّتِي نَبَّهَ الشَّارِعُ عَلَى مَزِيَّتِهَا وفضيلتها ـ أم لم نسامحهم، بعد الاتفاق من الجميع على الأفضلية، وإثبات (المزية) (¬3). وَأَيْضًا فَإِنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ مِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَسَائِلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَقَاصِدِ، وَالَّذِي يَجْرِي (مِنْهَا) (¬4) مَجْرَى الْمَقَاصِدِ أَعْلَى/ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ ـ بِلَا نزاع بين العقلاء (في ذلك) (¬5) ـ كَعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ كَالْوَسِيلَةِ، فَعِلْمُ الْفِقْهِ (أَعْلَى) (¬6). وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فأهل العلم أشرف الناس (وأعظمهم) (¬7) منزلة بلا إشكال (فلا) (¬8) نِزَاعٍ وَإِنَّمَا وَقَعَ الثَّنَاءُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافِهِمْ بِالْعِلْمِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ وُقُوعُ الثناء عليهم مقيداً ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لشرف". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحرية". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (ت): "أيضاً". (¬6) في (غ) و (ر): "أولى". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وأعظم". (¬8) في (غ) و (ر): "ولا".

بِالِاتِّصَافِ بِهِ، فَهُوَ إِذًا الْعِلَّةُ فِي الثَّنَاءِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ الِاتِّصَافُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ على غيرهم، ومن (ثَمَّ) (¬1) صار العلماء حكاماً على الخلائق أجمعين قضاءاً أَوْ فُتْيَا أَوْ إِرْشَادًا؛ لِأَنَّهُمُ اتَّصَفُوا بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ فَلَيْسُوا بِحُكَّامٍ مِنْ جِهَةِ مَا اتَّصَفُوا بِوَصْفٍ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِمْ كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِذْ لَا مَزِيَّةَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِيهَا، وَإِنَّمَا صَارُوا حكاماً (من جهة ما اتصفوا بالوصف الحاكم وهو العلم، وهذا التقرير غير محتاج إلى برهانٍ لوضوحه، ثم نقول بعد هذا لما صار أهل العلم حكاماً) (¬2) على الخلق (ومرجوعاً) (¬3) إليهم بسبب/ حملهم/ للعلم الحاكم، (لزم) (¬4) مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ (حُكَّامًا) (¬5) عَلَى الخلق إلا من ذلك الوجه، كَمَا أَنَّهُمْ مَمْدُوحُونَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفُوا بِوَصْفِ الْحُكْمِ مَعَ فرض خروجهم عن صوب الْعِلْمِ الْحَاكِمِ، إِذْ لَيْسُوا حُجَّةً إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا خَرَجُوا عَنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونُوا حُكَّامًا؟ هَذَا مُحَالٌ. وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْعَالِمِ بِالْعَرَبِيَّةِ مُهَنْدِسٌ، وَلَا فِي الْعَالِمِ بِالْهَنْدَسَةِ عَرَبِيٌّ، فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ في الزائغ عن الحكم (بأحكام/ الشرع) (¬6) حَاكِمٌ بِالشَّرْعِ، بَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِعَقْلِهِ أَوْ بِرَأْيِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، (فَلَا) (¬7) يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً فِي الْعِلْمِ الْحَاكِمِ/ لِأَنَّ الْعِلْمَ (الْحَاكِمَ) (¬8) يُكَذِّبُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ. ثُمَّ نَصِيرُ مِنْ هَذَا إِلَى (مَعْنًى) (¬9) آخَرَ مُرتب عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّرِيعَةِ إِذَا اتُّبِعَ فِي قَوْلِهِ، وَانْقَادَ إِلَيْهِ النَّاسُ فِي حُكْمِهِ، فَإِنَّمَا اتُّبِعَ من حيث ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ذلك". (¬2) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مرجوعاً". (¬4) في (ط) و (خ) و (ت): "فلزم". (¬5) ما بين القوسين ساقط من (ط). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الشرعي". (¬7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فهنا". (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (غ) و (ر): "نوع".

هو (عالم بِهَا) (¬1) وَحَاكِمٌ/ بِمُقْتَضَاهَا، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَهُوَ/ فِي الْحَقِيقَةِ مُبَلِّغٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَتَلَقَّى مِنْهُ مَا بَلَّغَ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ بَلَّغَ، أَوْ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ بأنه بلغ لا من جهة (أنه) (¬2) مُنْتَصِبٌ لِلْحُكْمِ مُطْلَقًا، إِذْ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وثبت ذلك له صلّى الله عليه وسلّم وَحْدَهُ دُونَ الْخَلْقِ مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الْعِصْمَةِ وَالْبُرْهَانُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَقُولُهُ أَوْ يَفْعَلُهُ حَقٌّ. فَإِنَّ الرِّسَالَةَ الْمُقْتَرِنَةَ بِالْمُعْجِزَةِ عَلَى ذَلِكَ دلت، فغيره لم (تثبت) (¬3) لَهُ عِصْمَةٌ (بِالْمُعْجِزَةِ) (¬4) (بِحَيْثُ) (¬5) (يَحْكُمُ بِمُقْتَضَاهَا) (¬6) حَتَّى يساوي النبي فِي الِانْتِصَابِ لِلْحُكْمِ بِإِطْلَاقٍ بَلْ إِنَّمَا يَكُونُ مَنْتَصِبًا عَلَى شَرْطِ الْحُكْمِ/ (بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ) (¬7)، بِحَيْثُ إِذَا وُجِدَ الْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَا حَكَمَ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا، (إِذَ) (¬8) كَانَ ـ بِالْفَرْضِ ـ خَارِجًا عَنْ مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ الْحَاكِمَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَلِكَ إِذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَجَبَ رَدُّهَا إِلَى الشريعة (حتى) (¬9) يَثْبُتُ الْحَقُّ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ} (¬10) الْآيَةَ. فَإِذًا الْمُكَلَّفُ بِأَحْكَامِهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهَا، فَحُكْمُهُ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فِيهَا، لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي (لَيْسَتْ دَلَالَتُهَا) (¬11) واضحة إنما يقع موقعه على ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عالم وحاكم بها". (¬2) في (ط): "كونه". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يثبت". (¬4) في (م): "بالمعجزة بمقتضاها". (¬5) ساقط من (غ) و (ر). (¬6) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر). (¬7) في (م) و (غ) و (ر): "بمقتضاها". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إذا". (¬9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "حيث". (¬10) سورة النساء: الآية (59). (¬11) في (م): "ليس دلالة". وفي (غ) و (ر): "ليس فيها دلالة".

فَرْضِ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ لَهُ هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى قَصْدِ الشَّارِعِ وَالْأَوْلَى بِأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ، دُونَ مَا ظَهَرَ لِغَيْرِهِ/ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا هُوَ الْأَقْرَبُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ فِيمَا اتَّضَحَ فِيهِ الدَّلِيلُ (إِلَّا اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ) (¬1)، دُونَ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَيُعَدُّ مَا ظَهَرَ لَهُ لَغْوًا كَالْعَدَمِ، لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صَوْبِ الشَّرِيعَةِ الْحَاكِمَةِ، فَإِذًا (لَيْسَ قَوْلُهُ) (¬2) بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْحُكْمِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ/ مُقَلِّدًا صِرْفًا، خَلِيًّا مِنَ الْعِلْمِ الحاكم جملة، فلا بد لَهُ مِنْ قَائِدٍ يَقُودُهُ، وَحَاكِمٍ يَحْكُمُ عَلَيْهِ، وَعَالِمٍ يَقْتَدِي بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقْتَدَى بِهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ الْحَاكِمِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ اتِّبَاعُهُ وَلَا الِانْقِيَادُ (لِحُكْمِهِ) (¬3)، بَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَخْطُرَ بِخَاطِرِ الْعَامِّيِّ وَلَا غَيْرِهِ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ فِي أَمْرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَرِيضُ نَفْسَهُ إِلَى أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَبِيبٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ/ فَاقِدَ الْعَقْلِ، وَإِذَا/ كَانَ كَذَلِكَ/ فَإِنَّمَا يَنْقَادُ إِلَى الْمُفْتِي مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَجِبُ الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كونه فلاناً (أو فلاناً) (¬4)، (وَهَذِهِ) (¬5) الْجُمْلَةُ أَيْضًا لَا يَسْعُ الْخِلَافُ فِيهَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بَالِغٍ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، لَكِنَّهُ يَفْهَمُ الدَّلِيلَ وَمَوْقِعَهُ، وَيَصْلُحُ فَهْمُهُ لِلتَّرْجِيحِ بِالْمُرَجِّحَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ (فِي) (¬6) تَحْقِيقِ المناط ونحوه، فلا يخلو (أن) (¬7) يعتبر ترجيحه ونظره، أَوْ لَا؟ فَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُ صَارَ مِثْلَ الْمُجْتَهِدِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَالْمُجْتَهِدُ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ الْحَاكِمِ نَاظِرٌ نَحْوَهُ، مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ: فَالَّذِي يشبهه كذلك، وإن لم نعتبره فلا بد من ¬

(¬1) ما بين القوسين زيادة من (ت) و (غ) و (ر). (¬2) في (ت): "قوله ليس". (¬3) في (ت): "إلى حكمه". (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ط). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أيضاً وهذه". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيه". (¬7) في (ت) و (ط) و (خ): "إما أن".

(رُجُوعِهِ) (¬1) إِلَى دَرَجَةِ الْعَامِّيِّ، وَالْعَامِّيُّ إِنَّمَا اتَّبَعَ الْمُجْتَهِدَ مِنْ جِهَةِ تَوَجُّهِهِ/ إِلَى صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ، فَكَذَلِكَ مَنْ نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ. ثُمَّ نَقُولُ: إن هذا مذهب الصحابة رضي الله عنهم، أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتِّبَاعُهُ لِلْوَحْيِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَأَمَّا أَصْحَابُهُ فَاتِّبَاعُهُمْ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِمُؤَالِفٍ أَوْ مُخَالِفٍ شَهِيرٍ عَنْهُمْ، فَلَا (نُطِيلُ الِاسْتِدْلَالَ) (¬2) عَلَيْهِ. /فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَتَّبِعُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ الشَّرِيعَةِ قَائِمٌ بِحُجَّتِهَا، حَاكِمٌ بِأَحْكَامِهَا جملة وتفصيلاً، وإنه (متى) (¬3) وُجِدَ مُتَوَجِّهًا غَيْرَ تِلْكَ الْوُجْهَةِ فِي جُزْئِيَّةٍ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ أَوْ فَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ يَكُونَ مُقْتَدًى بِهِ فِيمَا حَادَ فِيهِ عَنْ صَوْبِ الشَّرِيعَةِ أَلْبَتَّةَ. فَيَجِبُ إِذًا عَلَى النَّاظِرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَمْرَانِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَّبِعَ الْعَالِمَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ ما هو عالم بالعلم المحتاج إليه (من) (¬4) حَيْثُ هُوَ طَرِيقٌ إِلَى اسْتِفَادَةِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، إِذْ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ إِلَّا كَوْنُهُ مُودَعًا لَهُ، وَمَأْخُوذًا/ (بِأَدَاءِ) (¬5) تِلْكَ الْأَمَانَةِ، حَتَّى إِذَا علم أو غلب على ظنه أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِيمَا يُلْقِي، أَوْ تَارِكٌ لِإِلْقَاءِ تِلْكَ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، أَوْ مُنْحَرِفٌ عَنْ صَوْبِهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِانْحِرَافِ، تَوَقَّفَ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الِاتِّبَاعِ إِلَّا بَعْدَ التَّبْيِينِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يُلْقِيهِ الْعَالِمُ يَكُونُ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِإِمْكَانِ الزَّلَلِ وَالْخَطَإِ وغلبة (الهوى) (¬6) فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. أَمَّا إذا كان هذا المتبع (ماهراً) (¬7) فِي الْعِلْمِ وَمُتَبَصِّرًا فِيمَا يُلْقِي إِلَيْهِ كَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ تَوَصُّلَهُ/ إِلَى/ الْحَقِّ سَهْلٌ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْكُتُبِ إِمَّا تَحْتَ حِفْظِهِ، وَإِمَّا مُعَدَّةٌ لِأَنْ يُحَقِّقَهَا بِالْمُطَالَعَةِ أَوِ المذاكرة. ¬

(¬1) في (ر): "رجوعها". (¬2) في (غ) و (ر): "نطول بالاستدلال". (¬3) في (ط) و (خ): "من". (¬4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ومن". (¬5) في (م) و (خ) و (ن): "به". وفي (غ) و (ر): "به في". (¬6) في (ط) و (خ) و (ت): الظن. (¬7) في سائر النسخ: "ناظراً" والتصحيح من هامش (ت).

وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَامِّيًّا صِرْفًا، فَيَظْهَرُ لَهُ الْإِشْكَالُ عِنْدَمَا يَرَى الِاخْتِلَافَ/ بَيْنَ النَّاقِلِينَ لِلشَّرِيعَةِ، فلا بد له ها هنا مِنَ الرُّجُوعِ آخِرًا إِلَى تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ، إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ تَقْلِيدُ مُخْتَلِفِينَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ (وَخَرْقٌ) (¬1) لِلْإِجْمَاعِ ألا ترى أن القولين إذا وردا على المقلد (¬2) فَلَا يَخْلُو أَنْ يُمْكِنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ، فَإِنْ لَمْ (يُمْكِنْهُ) (¬3) كَانَ عَمَلُهُ بِهِمَا (مَعًا) (¬4) مُحَالًا، وَإِنْ أَمْكَنَهُ صَارَ عَمَلُهُ لَيْسَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بَلْ هُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَا قَائِلَ بِهِ، وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا نَجِدُ صُورَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ مَعُمُولًا بِهَا فِي الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. /وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ إِلَّا وَاحِدًا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ صَاحِبِهِ، وَلِذَلِكَ خَالَفَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُخَالِفْهُ، وَالْعَامِّيُّ جَاهِلٌ بمواقع الاجتهاد، فلا بد لَهُ مِمَّنْ يُرْشِدُهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلى الحق منهما، وذلك إنما يثبت للعامي بطريق جملي، وَهُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْأَعْلَمِيَّةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ، ويظهر ذلك من جمهور العلماء والطالبين الذين لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْأَعْلَمِيَّةَ تَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّ صَاحِبَهَا أَقْرَبُ إلى صوب (الصواب في) (¬5) الْعِلْمِ الْحَاكِمِ لَا مِنْ/ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِذًا لَا يُقَلِّدُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَاكِمًا بِالْعِلْمِ الْحَاكِمِ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُصَمِّمَ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِي تَقْلِيدِهِ الْخَطَأُ شَرْعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامِّيَّ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُ قَدْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ ـ إِمَّا لِكَوْنِهِ أرجح من غيره (عنده) (¬6)، أَوْ عِنْدَ أَهْلِ قُطْرِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَهْلُ قُطْرِهِ فِي التَّفَقُّهِ فِي مَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ غَيْرِهِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فإذا تبين له في بعض مسائل (متبوعه) (¬7) الْخَطَأُ وَالْخُرُوجُ عَنْ صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ فَلَا يَتَعَصَّبُ لِمَتْبُوعِهِ بِالتَّمَادِي عَلَى اتِّبَاعِهِ فِيمَا ظَهَرَ فيه خطؤه، لأن ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (ط): "أو خرق". (¬2) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في (ط): "يمكنه بهما". (¬4) زيادة من (خ) و (ت) و (غ) و (ر). (¬5) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬6) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬7) في (ط): متنوعة.

تَعَصُّبَهُ يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِلَى مُخَالَفَةِ مَتْبُوعِهِ، أَمَّا خِلَافُهُ لِلشَّرْعِ فَبِالْعَرْضِ، وَأَمَّا خِلَافُهُ لِمَتْبُوعِهِ فَلِخُرُوجِهِ عَنْ شَرْطِ الِاتِّبَاعِ، لِأَنَّ كُلَّ عَالِمٍ يُصَرِّحُ أَوْ يُعَرِّضُ بِأَنَّ اتِّبَاعَهُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِالشَّرِيعَةِ لَا/ بِغَيْرِهَا، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ حَاكِمٌ بخلاف الشريعة خرج عن شرط متبوعه (فلم يكن تابعاً له، فتأملوا كيف يخرج عن تقليد مَتْبُوعِهِ) (¬1) بِالتَّصْمِيمِ عَلَى تَقْلِيدِهِ. //وَمِنْ مَعْنَى كَلَامِ مالك بن أنس رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا كَانَ مِنْ كَلَامِي مُوَافِقًا للكتاب والسنة فخذوا به، وما لم (يوافقه) (¬2) فَاتْرُكُوهُ (¬3). هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ دُونَ لَفْظِهِ. وَمِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَدِيثُ مَذْهَبِي فَمَا خَالَفَهُ فَاضْرِبُوا بِهِ الْحَائِطَ (¬4)، أَوْ كَمَا قَالَ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذَا لِسَانُ/ حَالِ الْجَمِيعِ. وَمَعْنَاهُ/ أن كل ما يتكلمون به (فإنما يقولون به) (¬5) على (تحري) (¬6) أنه مطابق للشريعة الْحَاكِمَةَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَا لَا فَلَيْسَ بِمَنْسُوبٍ إِلَى الشَّرِيعَةِ، وَلَا هُمْ أَيْضًا مِمَّنْ يُرْضَى أَنْ تُنْسَبَ إِلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهَا. لَكِنْ يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَجْهَانِ: أَنْ يَكُونَ الْمَتْبُوعُ مُجْتَهِدًا، فَالرُّجُوعُ فِي التَّخْطِئَةِ وَالتَّصْوِيبِ إِلَى مَا اجْتَهَدَ فِيهِ، وَهُوَ الشَّرِيعَةُ وَأَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، كَالْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ تَقْلِيدُ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالنَّقْلِ مِنْ كُتُبِهِمْ وَالتَّفَقُّهِ فِي مَذَاهِبِهِمْ، فَالرُّجُوعُ فِي التَّخْطِئَةِ/ وَالتَّصْوِيبُ إِلَى صِحَّةِ النَّقْلِ عَمَّنْ نَقَلُوا عَنْهُ وَمُوَافَقَتُهُمْ لِمَنْ قَلَّدُوا، أَوْ خِلَافَ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا الْقِسْمَ ¬

(¬1) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في (ت) و (م) و (غ) و (ر): "يوافق". (¬3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم برقم (1435، 1436). (¬4) انظر: مختصر المؤمل (57 ـ 61)، وتعليق المحقق (ص61 ت219). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) في (ط) و (خ) و (ت): "ما تحرى".

مقلدون (بالفرض) (¬1)، فَلَا يَسَعُهُمُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، إِذْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَهُ، فَلَا يَصِحُّ تَعَرُّضُهُمْ لِلِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ قُصُورِهِمْ عَنْ دَرَجَتِهِ، فَإِنْ فُرِضَ انْتِصَابُهُ لِلِاجْتِهَادِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ أَصَابَ أَمْ لَمْ يُصِبْ، لِأَنَّهُ أَتَى الْأَمْرَ مِنْ (غَيْرِ بَابِهِ) (¬2)، وَانْتَهَكَ حُرْمَةَ (الدَّرَجَةِ) (¬3) وقَفا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَإِصَابَتُهُ ـ إِنْ أَصَابَ ـ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَخَطَؤُهُ هُوَ الْمُعْتَادُ، فَلَا يَصِحُّ اتِّبَاعُهُ كَسَائِرِ الْعَوَامِّ إِذَا رَامُوا الاجتهاد في أحكام الله، ولا خلاف (أَنَّ) (¬4) مِثْلَ هَذَا الِاجْتِهَادِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَامِّيِّ كَالْعَدَمِ/ وَأَنَّهُ فِي مُخَالَفَتِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ آثِمٌ مُخْطِئٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ ـ مَعَ هَذَا التقرير ـ تقليد غير مجتهد في مسألة (أفتى) (¬5) فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ؟ وَلَقَدْ زلَّ بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ (أصل) (¬6) الدَّلِيلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الرِّجَالِ أَقْوَامٌ خَرَجُوا بِسَبَبِ ذلك عن جادة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فضلُّوا عَنْ سَوَاءِ السبيل. ولنذكر لذلك عَشَرَةَ أَمْثِلَةً: أَحَدُهَا: وَهُوَ (أَشَدُّهَا) (¬7)، قَوْلُ مَنْ جَعَلَ اتِّبَاعَ الْآبَاءِ فِي أَصْلِ الدِّينِ هُوَ الْمَرْجُوعُ (إِلَيْهِ) (¬8) دُونَ غَيْرِهِ، حَتَّى رَدُّوا بِذَلِكَ بَرَاهِينَ الرِّسَالَةِ، وَحُجَّةَ الْقُرْآنِ وَدَلِيلَ الْعَقْلِ فَقَالُوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (¬9) الآية، فَحِينَ نُبِّهُوا عَلَى وَجْهِ الْحُجَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} (¬10)، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ إِلَّا الْإِنْكَارُ، اعْتِمَادًا عَلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَاطِّرَاحًا لِمَا سِوَاهُ، وَلَمْ يَزَلْ مِثْلُ هَذَا مَذْمُومًا فِي الشَّرَائِعِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالعرض". (¬2) في (ط) و (م) و (خ): "غيره". (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (غ) و (ر): "في أن". (¬5) في (ط) و (خ) و (م): "أتى". (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) في هامش (ت): "أشرها أو أفسدها". (¬8) ساقط من (غ) و (ر). (¬9) سورة الزخرف: الآية (22). (¬10) سورة الزخرف: الآية (24).

اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} (¬1)، وَعَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ/ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *} / أؤ إ ئء ف (ص)!! {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ *} (¬2)، إلى (غير) (¬3) ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، فَكَانَ الْجَمِيعُ مَذْمُومِينَ حين اعتبروا (الرجال) (¬4) وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْحَقَّ تَابِعٌ لَهُمْ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلى أن الحق هو المقدم (على الرجال) (¬5). وَالثَّانِي: رَأْيُ الْإِمَامِيَّةِ (¬6) فِي اتِّبَاعِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ ـ فِي زَعْمِهِمْ ـ وَإِنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْمَعْصُومُ حَقًّا، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ فَحَكَّمُوا الرِّجَالَ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُحَكِّمُوا الشَّرِيعَةَ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ لِيَكُونَ حَكَمًا عَلَى الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ. /وَالثَّالِثُ: لَاحِقٌ بِالثَّانِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفِرْقَةِ الْمَهْدَوِيَّةِ (¬7) الَّتِي جَعَلَتْ أَفْعَالَ مَهْدِيِّهِمْ حُجَّةً، وَافَقَتْ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ أَوْ خَالَفَتْ، بَلْ جَعَلُوا أَكْثَرَ ذَلِكَ أَنْفِحَةً فِي عَقْدِ إِيمَانِهِمْ، مَنْ خَالَفَهَا كَفَّرُوهُ وَجَعَلُوا حُكْمَهُ حُكْمَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ،/ وَقَدْ تَقَدَّمَ من ذلك أمثلة. والرابع: رأي بعض الْمُقَلِّدَةِ لِمَذْهَبِ إِمَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ إِمَامَهُمْ هُوَ الشَّرِيعَةُ، بِحَيْثُ يَأْنَفُونَ أَنْ تُنْسَبَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَضِيلَةٌ دُونَ إِمَامِهِمْ، حَتَّى إِذَا جاءهم (أحد ممن) (¬8) بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل ¬

(¬1) سورة المؤمنون: الآية (24). (¬2) سورة الشعراء: الآيات (72 ـ 74). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "آخر". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) انظر الملحق رقم (1). (¬7) الظاهر أنه يقصد بذلك الموحدين أتباع المهدي ـ المزعوم ـ محمد بن تومرت، والذي ظهر سنة بضع وخمسمائة، وتوفي سنة 524هـ، وكان ينتسب إلى الحسن رضي الله عنه، وقد ادعى المهدية غيره كثير منهم عبيد الله بن ميمون القداح الباطني. انظر ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (4 98 ـ 102). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من".

(باجتهاده) (¬1) وَلَمْ يَرْتَبِطْ إِلَى إِمَامِهِمْ رَمَوْهُ بِالنَّكِيرِ، وَفَوَّقُوا إِلَيْهِ سِهَامَ النَّقْدِ، وَعَدُّوهُ مِنَ الْخَارِجِينَ عَنِ الْجَادَّةِ، وَالْمُفَارِقِينَ لِلْجَمَاعَةِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ مِنْهُمْ بِدَلِيلٍ، بَلْ (بِمُجَرَّدِ) (¬2) الِاعْتِيَادِ الْعَامِّيِّ. وَلَقَدْ لَقِيَ الْإِمَامُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ حِينَ دَخَلَ الْأَنْدَلُسَ آتِيًا مِنَ الْمَشْرِقِ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ الأمرَّيْن، حَتَّى أَصَارُوهُ مَهْجُورَ الْفَنَاءِ، مُهْتَضَمَ الْجَانِبِ، لِأَنَّهُ (جاءهم) (¬3) مِنِ الْعِلْمِ بِمَا لَا (يَدَيْ) (¬4) لَهُمْ بِهِ، إِذْ لَقِيَ بِالْمَشْرِقِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَأَخَذَ عَنْهُ مُصَنَّفَهُ وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ، وَلَقِيَ أَيْضًا غَيْرُهُ، حَتَّى صَنَّفَ الْمُسْنَدَ الْمُصَنَّفَ الَّذِي لَمْ يُصَنَّفْ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ قَدْ صَمَّمُوا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، بِحَيْثُ أَنْكَرُوا/ ما عداه/ وهذا (هو) (¬5) تَحْكِيمُ الرِّجَالِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْغُلُوُّ فِي مَحَبَّةِ الْمَذْهَبِ، وَعَيْنُ الْإِنْصَافِ (تَرَى) (¬6) أَنَّ الْجَمِيعَ أَئِمَّةٌ فُضَلَاءُ، فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِمَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ فَلَا (يَضُرُّهُ مُخَالَفَةُ غَيْرِ إِمَامِهِ لِإِمَامِهِ) (¬7)، لِأَنَّ الْجَمِيعَ سَالِكٌ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، فَقَدْ يُؤَدِّي التَّغَالِي فِي التقليد إلى إنكار (ما) (¬8) أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ إِنْكَارِهِ. وَالْخَامِسُ: رَأْيُ (نابغة) (¬9) مُتَأَخِّرَةِ الزَّمَانِ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّخَلُّقَ بِخُلُقِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ الْمُتَقَدِّمِينَ، أَوْ يَرُومُ الدُّخُولَ فِيهِمْ، يَعْمِدُونَ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي الْكُتُبِ/ مِنَ/ الْأَحْوَالِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمْ أَوِ الْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ، فَيَتَّخِذُونَهَا دِينًا وَشَرِيعَةً لِأَهْلِ الطَّرِيقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مُخَالِفَةً لِمَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، لَا يلتفتون معها إلى فتيا ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مجرد". (¬3) ما بين القوسين زيادة من "ت" و (غ) و (ر). (¬4) في (ت): "علم". (¬5) زيادة من (غ) و (ر). (¬6) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر). (¬7) في (غ) و (ر): "يضيره مخالفة إمامه". (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لما". (¬9) في (ط): "نابتة".

(فقيه) (¬1) وَلَا نَظَرِ عَالِمٍ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْكَلَامِ ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ، فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ أو يقوله حق، وإن كان مخالفاً (للفقه) (¬2) فَهُوَ أَيْضًا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَالْفِقْهُ لِلْعُمُومِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْخُصُوصِ. فَتَرَاهُمْ يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِتِلْكَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَلَا يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَيْنُ اتِّبَاعِ الرِّجَالِ وَتَرْكِ الْحَقِّ، مَعَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَصَوِّفَةَ الَّذِينَ يُنْقَلُ عَنْهُمْ، لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ كَانَ فِي النِّهَايَةِ دُونَ الْبِدَايَةِ، وَلَا عُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا/ مُقِرِّينَ بِصِحَّةِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ أَمْ لَا، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ (مِنْ أَئِمَّةِ التَّصَوُّفِ وَغَيْرِهِمْ) (¬3) مَنْ (زَلَّ) (¬4) زَلَّةً يَجِبُ سَتْرُهَا عَلَيْهِ، فَيَنْقُلُهَا عَنْهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ حَالَهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ بِطَرِيقِ الْقَوْمِ كُلَّ التَّأَدُّبِ. وَقَدْ حَذَّرَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَجَعَلُوهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَهْدِمُ الدِّينَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا ظَهَرَتْ فَتَطِيرُ فِي النَّاسِ كُلَّ مَطَارٍ، فَيَعُدُّونَهَا دِينًا، وَهِيَ ضِدُّ الدِّينِ، فَتَكُونُ الزَّلَّةُ حُجَّةً فِي الدِّينِ. فَكَذَلِكَ أَهْلُ/ التصوف لا بد (من وقوع الزلل فيهم في الجملة إذ ليسوا بمعصومين وقد أقر القوم بوقوع المعاصي منهم وليس من محققيهم من ينفيها فإذاً لا بد) (¬5) فِي الِاقْتِدَاءِ بِالصُّوفِيِّ مِنْ عَرْضِ أَقْوَالِهِ (وَأَفْعَالِهِ) (¬6) عَلَى حَاكِمٍ يَحْكُمُ عَلَيْهَا: هَلْ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتَّخَذُ دِينًا أَمْ لَا؟ وَالْحَاكِمُ (الحق) (¬7) هو الشرع (كما نعرض) (¬8) أقوال العالم (عَلَى) (¬9) الشَّرْعِ أَيْضًا، وَأَقَلُّ ذَلِكَ فِي الصُّوفِيِّ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ، كَالْجُنَيْدِ وَغَيْرِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَلَكِنَّ هؤلاء (النابغة) (¬10) لا يفعلون ذلك، فصاروا متبعين للرجال من ¬

(¬1) في (ط): "مفت". وفي (م) و (خ) و (ت): "مفتي". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في (ت) بياض بمقدار نصف سطر. (¬4) في (غ) و (ر): "يزل". (¬5) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬6) ساقط من (غ) و (ر). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) في (ط): "تعرض على". (¬10) في (م) و (خ) و (ت): "التابعة". وفي (ط): "النابتة".

حَيْثُ هُمْ رِجَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُمْ (حاكمون) (¬1) بِالْحَاكِمِ الْحَقِّ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَمَا عَلَيْهِ الْمُتَصَوِّفَةُ أَيْضًا، (إِذْ) (¬2) قَالَ إِمَامُهُمْ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: مَذْهَبُنَا (مَبْنِيٌّ عَلَى) (¬3) ثَلَاثَةِ (أُصُولٍ) (¬4): الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْلَاقِ/ وَالْأَفْعَالِ،/ وَالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ (¬5). وَلَمْ يَثْبُتْ فِي طَرِيقِهِمُ اتِّبَاعُ الرِّجَالِ عَلَى (انْحِرَافٍ) (¬6)، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اتِّبَاعُ الرِّجَالِ، شأن أهل الضلال. والسادس: رأي (نابغة) (¬7) فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِي العلم الذي (أَرَادُوا) (¬8) الْكَلَامَ فِيهِ وَالْعَمَلَ بِحَسْبِهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى تَقْلِيدِ بَعْضِ الشُّيُوخِ (الَّذِينَ) (¬9) (أَخَذُوا) (¬10) عَنْهُمْ فِي زَمَانِ الصِّبَا الَّذِي هُوَ/ مَظِنَّةٌ لِعَدَمِ التَّثَبُّتِ مِنَ الْآخِذِ، أَوِ التَّغَافُلِ مِنَ الْمَأْخُوذِ (عنهم) (¬11)، ثُمَّ جَعَلُوا أُولَئِكَ الشُّيُوخَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الكمال، ونسبوا إليهم ما (أنِسوا) (¬12) به من الخطأ، أو (ما) (¬13) فَهِمُوا عَنْهُمْ عَلَى غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا سُؤَالٍ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَسْأَلَةِ الْمَرْوِيَّةِ، وردُّوا جَمِيعَ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَوَّلِينَ مِمَّا هُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، كَمَسْأَلَةِ الْبَاءِ الْوَاقِعَةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، فَإِنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ تَظَاهَرَ بِالِانْتِصَابِ لِلْإِقْرَاءِ زَعَمَ أَنَّهَا (الباء) (¬14) الرَّخْوَةُ (¬15) الَّتِي اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ ـ وَهُمْ أَهْلُ صِنَاعَةِ الأداء، والنحويون أيضاً ـ وهم الناقلون (حقيقة النطق بها) (¬16) عن العرب ـ ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "راجحون". (¬2) ساقط من (غ) و (ر). (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) في (غ) و (ر): "أوصاف". (¬5) بنحوه في الحلية (10 190)، والطبقات الكبرى للشعراني (1 78). (¬6) في (غ) و (ر): "الجزاف". (¬7) في (خ): "تابعة". وفي (ط): "نابتة". (¬8) في (م): "هو أرادوا". وفي (ط) و (خ) و (ت): "هم أرادوا". (¬9) ساقط من (غ) و (ر). (¬10) في (م) و (غ) و (ر): "أخذاً". (¬11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عنه". (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نسبوا". (¬13) زيادة من (غ) و (ر). (¬14) زيادة من (غ) و (ر). (¬15) الباء من صفاتها الشدة والجهر، وليست من الحروف الرخوة، كما قرأها هذا المقرئ المشار إليه. انظر: هداية القاري (ص99). (¬16) ما بين القوسين ساقط من (خ) و (ط).

عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَأْتِ إِلَّا فِي لُغَةٍ مَرْذُولَةٍ لَا يُؤْخَذُ بِهَا وَلَا يُقْرَأُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَلَا نُقِلَتِ الْقِرَاءَةُ بِهَا/ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ الشَّأْنِ، وَإِنَّمَا الْبَاءُ الَّتِي يَقْرَأُ بِهَا ـ وَهِيَ الْمَوْجُودَةُ فِي كُلِّ لُغَةٍ فَصِيحَةٍ ـ الْبَاءُ الشَّدِيدَةُ، فَأَبَى هَؤُلَاءِ مِنِ الْقِرَاءَةِ والإقراء بها، بناء على أن (التي) (¬1) قرأوا (بِهَا) (¬2) عَلَى الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَقُوهُمْ هِيَ تِلْكَ لَا هَذِهِ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا/ عُلَمَاءَ وَفُضَلَاءَ، فَلَوْ كَانَتْ خَطَأً (لَرَدُّوهَا) (¬3) عَلَيْنَا، وَأَسْقَطُوا النَّظَرَ وَالْبَحْثَ عَنْ أَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا رَأْسًا تَحْسِينَ ظَنٍّ بِالرِّجَالِ، وَتُهَمَةً لِلْعِلْمِ، فَصَارَتْ بِدْعَةً جَارِيَةً (في الناس) (¬4) ـ أَعْنِي الْقِرَاءَةَ بِالْبَاءِ الرَّخْوَةِ ـ مُصَرَّحًا بِأَنَّهَا الْحَقُّ الصَّرِيحُ، فَنُعَوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ. وَلَقَدْ لَجَّ بَعْضُهُمْ حِينَ وُجِّهُوا بِالنَّصِيحَةِ فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَكَانَ القرشي (المغربي) (¬5) أَقْرَبَ مَرَامًا مِنْهُمْ. حُكِيَ/ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثٍ (¬6) أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ/ بِقُرْطُبَةَ (¬7) مُقْرِئًا يُعْرَفُ بِالْقُرَشِيِّ، وَكَانَ لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ قَارِئٌ يَوْمًا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ *} (¬8) فردَّ عَلَيْهِ الْقُرَشِيُّ: تحيدٌ بِالتَّنْوِينِ، فَرَاجَعَهُ الْقَارِئُ ـ وَكَانَ يُحْسِنُ النَّحْوَ ـ (فلجَّ) (¬9) عَلَيْهِ الْمُقْرِئُ وَثَبَتَ عَلَى التَّنْوِينِ، فَانْتَشَرَ الْخَبَرُ إِلَى أَنْ بَلَغَ يَحْيَى بْنَ مُجَاهِدٍ الْأَلْبِيرِيَّ الزَّاهِدَ (¬10) وَكَانَ صَدِيقًا لهذا المقري، فَنَهَضَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سلَّم عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْ ¬

(¬1) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "الذي". (¬2) في (غ) و (ر): "به". (¬3) في (غ) و (ر): "يردونا". (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في (غ) و (ر): "المقري". (¬6) لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه من مصادر، وفي تراجم الأندلسيين من اسمه: يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث أبو الوليد ويعرف بابن القصار القرطبي (ت429هـ) له ترجمة في الديباج المذهب (2 374)، لكن ليس هو المقصود، لأن القصة حدثت مع يحيى بن مجاهد ـ تقدمت ترجمته ـ وتوفي يحيى بن مجاهد (336هـ). (¬7) هي عاصمة بني أمية في الأندلس، وهي تقع ـ تقريباً ـ في وسط الأندلس. انظر: معجم البلدان (4 324). (¬8) سورة ق: الآية (19). (¬9) في (ت) و (م) و (غ) و (ر): "فلح". (¬10) تقدمت ترجمته (2 441).

حَالِهِ قَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ بعُد عَهْدِي بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى مُقْرِئٍ فَأَرَدْتُ تَجْدِيدَ ذَلِكَ عَلَيْكَ فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أُرِيدُ (أَنْ) (¬1) أَبْتَدِئَ بِالْمُفَصَّلِ فَهُوَ الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِي الصَّلَوَاتِ، فقال (له) (¬2) الْمُقْرِئُ: مَا شِئْتَ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ رَدَّهَا عَلَيْهِ الْمُقْرِئُ بِالتَّنْوِينِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: لَا تَفْعَلْ، مَا هِيَ إِلَّا غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ بِلَا شَكٍّ، (فلجَّ) (¬3) الْمُقْرِئُ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ مُجَاهِدٍ تَصْمِيمَهُ/ قَالَ لَهُ: يَا أَخِي إِنِّي لَمْ يَحْمِلْنِي عَلَى الْقِرَاءَةِ عَلَيْكَ إِلَّا لِتُرَاجِعَ الْحَقَّ فِي لُطْفٍ، وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ أَوْقَعَكَ فِيهَا قِلَّةُ عِلْمِكَ بِالنَّحْوِ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ لَا يَدْخُلُهَا التَّنْوِينُ، فَتَحَيَّرَ الْمُقْرِئُ، إِلَّا أَنَّهُ/ لَمْ يَقْنَعْ بِهَذَا، فقال له ابن مجاهد: بيني وبينك المصاحف، فأحضر منها جُمْلَةً فَوَجَدُوهَا مَشْكُولَةً بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَرَجَعَ الْمُقْرِئُ إِلَى الْحَقِّ. انْتَهَتِ الْحِكَايَةُ. وَيَا لَيْتَ مَسْأَلَتَنَا مِثْلُ هَذِهِ، وَلَكِنَّهُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أَبَوُا الانقياد إلى الصواب. والسابع: رأي (نابغة) (¬4) أَيْضًا يَرَوْنَ أَنَّ عَمَلَ الْجُمْهُورِ الْيَوْمَ، مِنِ الْتِزَامِ الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الْاجْتِمَاعِ بِإِثْرِ الصَّلَوَاتِ، وَالْتِزَامِ المؤذنين التثويب (المكروه) (¬5) (بَعْدَ) (¬6) الْآذَانِ، صَحِيحٌ بِإِطْلَاقٍ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ أَوْ مُوَافَقَتِهَا، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ اجْتِهَادِيٍّ أَوْ تَقْلِيدِيٍّ خَارِجٌ عَنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أُمُورٍ تَخَبَّطُوا فِيهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الْمَعْمُولَ بِهِ/ في الجمهور ثابت ¬

(¬1) ما بين القوسين زيادة من (ط) و (غ) و (ر). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) في (م) و (ت): "فلح". (¬4) في (ط): "نابتة". (¬5) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر) والتثويب بالأذان ذكره الشاطبي في الاعتصام (2 70) قال: وَقَدْ فَسَّرَ التَّثْوِيبَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ بأن المؤذن كان إذا أبطأ النَّاسُ قَالَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ عِنْدَنَا: الصَّلَاةُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ. وقول الإمام مالك عن التثويب أنه بدعة، أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص39). (¬6) في (م) و (غ) و (ر): "عند".

عَنْ فُضَلَاءَ وَصَالِحِينَ عُلَمَاءَ، فَلَوْ كَانَ خَطَأً لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ. /وَهَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ (الْيَوْمَ، تُتَّهَمُ) (¬1) الْأَدِلَّةُ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيُحْسَنُ الظَّنُّ بِمَنْ تَأَخَّرَ، وَرُبَّمَا نُوزِعَ بِأَقْوَالِ مَنْ تقدم، فيرميها بِالظُّنُونِ وَاحْتِمَالِ الْخَطَإِ، وَلَا يَرْمِي بِذَلِكَ الْمُتَأَخِّرِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهِ/ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَصْلِ هَذَا الْعَمَلِ الْمُتَأَخِّرِ: (هَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ) (¬2) مِنَ/ الشَّرِيعَةِ؟ لَمْ يأتِ بِشَيْءٍ، أو يأتي بأدلة (مجملة) (¬3) لا علم له (بتفاصيلها) (¬4)، كَقَوْلِهِ هَذَا خَيْرٌ أَوْ حَسَنٌ، وَقَدْ قَالَ تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬5)، أَوْ يَقُولُ: هَذَا (بَرٌّ) (¬6)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى} (¬7)، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَصْلِ كَوْنِهِ خَيْرًا أَوْ بِرًّا وَقَفَ، (وَمَيْلُهُ) (¬8) إِلَى أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بِعَقْلِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ وَبِرٌّ، فَجَعَلَ التَّحْسِينَ عَقْلِيًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الزَّيْغِ، (وَثَابِتٌ) (¬9) عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ (أَنَّهُ) (¬10) مِنِ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ (¬11). وَمِنْهُمْ مَنْ طَالَعَ كَلَامَ الْقَرَافِيِّ (¬12) وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ (¬13) فِي أن البدع خمسة أقسام. فيقول: هَذَا مِنَ (الْمُحْدَثِ) (¬14) الْمُسْتَحْسَنِ، وَرُبَّمَا رُشِّحَ ذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: (مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا/ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ) (¬15) (وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ إِذَا نَظَرُوا فِي مسألة مجتهد فيها/ فما رأوه حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ) (¬16) لِأَنَّهُ جَارٍ على ¬

(¬1) في (غ) و (ر): "فإنه يتهم". (¬2) ساقط من (غ) و (ر). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "محتملة". (¬4) في (ط) و (خ) و (ت): "بتفصيلها". (¬5) سورة الزمر: الآية (18). (¬6) في (م): "أبر". (¬7) سورة المائدة: الآية (2). (¬8) في (ت) بياض بمقدار كلمة. (¬9) في (م): "ثابتاً" و (غ) و (ر). (¬10) ساقط من (غ) و (ر). (¬11) تقدم الكلام عن التحسين والتقبيح العقليين (3/ 8). (¬12) انظر كلامه عن تقسيم البدع في الفروق (4 205). (¬13) انظر: قواعد الأحكام (2 172). (¬14) ساقط من (غ) و (ر). (¬15) تقدم تخريجه (ص45). (¬16) ما بين القوسين ساقط من (ت).

أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْعَوَامَّ لَوْ نَظَرُوا فَأَدَّاهُمُ اجْتِهَادُهُمْ إِلَى اسْتِحْسَانِ/ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنًا حَتَّى يُوَافِقَ الشَّرِيعَةَ، وَالَّذِينَ نَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسُوا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ بِاتِّفَاقٍ منا ومنهم، فلا اعتبار بالاحتجاج (بهذا الحديث) (¬1) على استحسان شيء أو استقباحه (بِغَيْرِ) (¬2) دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَقَّى فِي الدَّعْوَى حَتَّى يَدَّعِيَ فِيهَا الْإِجْمَاعَ مِنْ أَهْلِ الْأَقْطَارِ، وَهُوَ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ قُطْرِهِ، وَلَا بَحَثَ عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْأَقْطَارِ، وَلَا عَنْ (فتياهم) (¬3) فِيمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَلَا عَرَفَ (مِنْ) (¬4) أَخْبَارِ الْأَقْطَارِ خَبَرًا، فَهُوَ مِمَّنْ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا الِاضْطِرَابُ كُلُّهُ مَنْشَؤُهُ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِأَعْمَالِ الْمُتَأَخِّرِينَ ـ وَإِنْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ (بِخِلَافِ) (¬5) (ذَلِكَ) (¬6) ـ وَالْوُقُوفِ مَعَ الرِّجَالِ دُونَ التَّحَرِّي لِلْحَقِّ. (وَالثَّامِنُ) (¬7): رَأْيُ قَوْمٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ زَمَانَنَا هَذَا ـ فَضْلًا عَنْ زَمَانِنَا ـ اتَّخَذُوا الرِّجَالَ ذَرِيعَةً لِأَهْوَائِهِمْ وأهواء من داناهم، أو من رَغِبَ إِلَيْهِمْ (فِي ذَلِكَ) (¬8)، فَإِذَا عَرَفُوا غَرَضَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ حَاكِمٍ أَوْ فُتْيَا (تعبداً وَغَيْرِ) (¬9) ذَلِكَ، بَحَثُوا عَنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا حَتَّى يَجِدُوا الْقَوْلَ الْمُوَافِقَ للسائل فأفتوا به، زاعمين أن الحجة (لهم في ذلك) (¬10) قَوْلُ مَنْ قَالَ: اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ، ثُمَّ ما زال/ هذا الشر ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالحديث". (¬2) في (غ) و (ر): "لغير". (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تبيانهم". (¬4) ساقط من (غ) و (ر). (¬5) في (غ) و (ر): "بخلافه". (¬6) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر). (¬7) في (م): "والثامنة". (¬8) ساقط من (غ) و (ر). (¬9) في (م) و (ت): "تعبدوا غير". (¬10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "في ذلك لهم".

يَسْتَطِيرُ (فِي الْأَتْبَاعِ) (¬1) وَأَتْبَاعِهِمْ، حَتَّى لَقَدْ حَكَى الْخَطَابِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ:/ كُلُّ مَسْأَلَةٍ ثَبَتَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ (فِيهَا) (¬2) الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ ـ شذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا ـ فَالْمَسْأَلَةُ جَائِزَةٌ. وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهِهَا فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ (¬3)، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَالتَّاسِعُ: مَا حَكَى الله تعالى عن الأحبار والرهبان (في) (¬4) قوله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا/ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬5)، فخرَّج أبو عيسى الترمذي عن عَدي بن/ حاتم رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: (يَا عَدِيُّ، اطْرَحْ عَنْكَ (هَذَا) (¬6) الْوَثَنَ. وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ (في سورة براءة) (¬7): {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، (ولكنهم كانوا) (¬8) إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حرَّموا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ) (¬9)، حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَفِي تَفْسِيرِ سعيد بن منصور قيل لحذيفة رضي الله عنه: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قَالَ حُذَيْفَةُ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ/ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَا أحلُّوا لَهُمْ مِنْ حَرَامٍ استحلُّوه، وما ¬

(¬1) ساقط من (غ) و (ر). (¬2) ساقط من (غ) و (ر). (¬3) انظر: الموافقات (4 78). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) سورة التوبة: الآية (31). (¬6) زيادة من (غ) و (ر). (¬7) ساقط من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ولكن". (¬9) أخرجه الترمذي (3095) وقال عقبه: (هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث). وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (7 160)، وابن جرير في تفسيره (16631 ـ 16633)، وابن أبي حاتم في التفسير (10057)، والطبراني في المعجم الكبير (17 92 برقم 218)، والجرجاني في تاريخه (1 541)، والبيهقي في السنن الكبرى (20137)، والمزي في تهذيب الكمال (23 117) في ترجمة غطيف بن أعين، كلهم من طريق عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين، فمدار الحديث على غطيف، وهو ضعيف، كما في التقريب (5364)، والحديث حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي!

حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنْ حَلَالٍ حَرَّمُوهُ، فَتِلْكَ رُبُوبِيَّتُهُمْ (¬1). وحكى (نحوه) (¬2) الطَّبَرِيُّ عَنْ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬3)، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي الْعَالِيَةِ (¬4). فَتَأَمَّلُوا/ يَا أُولِي/ الْأَلْبَابِ، كيف حال (الاعتماد) (¬5) فِي الْفَتْوَى عَلَى الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ تحرٍّ للدليل الشرعي، بل (لمجرد) (¬6) (نيل) (¬7) (الْعَرَضِ) (¬8) الْعَاجِلِ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. وَالْعَاشِرُ: رَأْيُ أَهْلِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ (¬9)، فَإِنَّ مَحْصُولَ مَذْهَبِهِمْ تَحْكِيمُ (عُقُولِ) (¬10) الرِّجَالِ دُونَ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا أَهِلُ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، بِحَيْثُ إِنَّ (الشَّرْعَ) (¬11) إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه. ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1 القسم الثاني ص242)، والطبري في تفسيره (16634 ـ 16636 و16638 و16643)، وابن أبي حاتم في التفسير (10058)، والبيهقي في السنن الكبرى (20138) كلهم من طريق أبي البختري سعيد بن فيروز عن حذيفة، وأبو البختري روايته عن حذيفة مرسلة، كما في جامع التحصيل (ص242). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عند". (¬3) أخرجه ابن جرير في تفسيره (14 209 ـ 211)، والبيهقي في السنن الكبرى (10 116) وهو من طريق غطيف بن أعين كما تقدم ذكره. (¬4) أخرجه الطبري في التفسير عن ابن عباس برقم (16640) بسندٍ ضعيف جداً من رواية عطية العوفي عن ابن عباس، وأخرجه برقم (16641) بسند فيه أسباط بن نصر الهمداني، وهو صدوق كثير الخطأ يغرب كما في التقريب (396) ويروى تضعيفه عن أحمد وأبي نعيم والنسائي وأبي زرعة وابن معين. وقال عنه البخاري: صدوق، كما في تهذيب التهذيب (1/ 185) وقال الذهبي في الكاشف (268): "توقف فيه أحمد". وعن أبي العالية برقم (16642) من طريق سفيان بن وكيع بن الجراح الكوفي، كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراقه، فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه، من العاشرة. التقريب (2456). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الاعتقاد". (¬6) في (غ) و (ر): "بمجرد". (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في (غ) و (ر): "الغرض". (¬9) انظر ما تقدم (3/ 8). (¬10) ساقط من (غ) و (ر). (¬11) في (غ) و (ر): "الشارع".

فَالْحَاصِلُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِهِمْ وَسَائِلَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ المطلوب شرعاً ضلال، (ولا توفيق) (¬1) إِلَّا بِاللَّهِ، وَإِنَّ الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ وَالْحَاكِمَ الْأَعْلَى هو الشرع لا غيره. ثم نقول: إن هذا (هو) (¬2) مَذْهَبُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ رَأَى سَيْرَهُمْ وَالنَّقْلَ عَنْهُمْ وَطَالَعَ أَحْوَالَهُمْ عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا يَقِينًا، أَلَا تَرَى أَصْحَابَ السَّقِيفَةِ لَمَّا تَنَازَعُوا فِي الْإِمَارَةِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ (¬3): (مِنَّا/ أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ) (¬4) فَأَتَى الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ (¬5)، أَذْعَنُوا لطاعة الله ورسوله ولم يعبأوا بِرَأْيِ مَنْ رَأَى/ غَيْرَ ذَلِكَ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى آرَاءِ الرِّجَالِ. /وَلَمَّا أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، فَرَدَّ عليهم ما استدلوا به (بعين) (¬6) مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (إِلَّا بِحَقِّهَا) فَقَالَ: الزَّكَاةُ حَقُّ الْمَالِ ـ ثُمَّ قَالَ: (وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا أَوْ عَناقاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ) (¬7). فَتَأَمَّلُوا هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ فِيهِ نُكْتَتَيْنِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ سَبِيلًا إِلَى جَرَيَانِ الْأَمْرِ فِي زمانه على ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وما توفيقي". (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) هو الحباب بن المنذر. (¬4) حادثة السقيفة أخرجها البخاري، كما في الفتح (12 144)، ومسند الإمام أحمد (1 55)، وطبقات ابن سعد (2 268)، وتاريخ الطبري (3 218) وغيرهم وهي قصة مشهورة. (¬5) انظر ما تقدم (3/ 32). (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ): "بغير". (¬7) هذا حديث مشهور مخرج في أكثر كتب السنة، وممن أخرجه البخاري (1400 و1456 و6925 و7285)، ومسلم (20 ـ 34 و35)، وأحمد (1 11 و19 و35 و47) و (2 314 و345 و377 و324 و439 و475 و482 و502 و527 و528) و (3 295 و300 و332 و339 و394)، وأبو داود (1556 و2640)، وابن ماجه (71 و72 و3927 و3928)، والترمذي (2606 و2607 و3341)، والنسائي (2443 و3090 ـ 3095 و3969 ـ 3982)، وابن خزيمة (2248)، وابن حبان (175 و216 ـ 220)، والحاكم (1428) وغيرهم.

غَيْرِ مَا كَانَ يَجْرِي فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ مِنَ الْمَانِعِينَ إِنَّمَا مَنَعَ تَأْوِيلًا، وَفِي هَذَا الْقِسْمِ وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ لَا فِيمَنِ/ ارْتَدَّ رَأْسًا، وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَعْذُرْ بِالتَّأْوِيلِ وَالْجَهْلِ، وَنَظَرَ إِلَى حَقِيقَةِ مَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَطَلَبَهُ إِلَى أَقْصَاهُ حَتَّى قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا ... إِلَى آخِرِهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ إِنَّمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَمْرٍ مَصْلَحِيٍّ ظَاهِرٍ تُعَضِّدُهُ مَسَائِلُ شَرْعِيَّةٌ، وَقَوَاعِدُ أُصُولِيَّةٌ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ الصَّرِيحَ كَانَ عِنْدَهُ ظَاهِرًا، فَلَمْ تَقْوَ عِنْدَهُ آرَاءُ الرِّجَالِ أَنْ تُعَارِضَ الدَّلِيلَ الظَّاهِرَ، فَالْتَزَمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُشِيرُونَ عَلَيْهِ بِالتَّرْكِ إِلَى صِحَّةِ دَلِيلِهِ تَقْدِيمًا لِلْحَاكِمِ/ الْحَقِّ، وَهُوَ الشَّرْعُ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا يلقى هو والمسلمون في طريق طلب (ما) (¬1) طلب إِذْ لَمَّا امْتَنَعُوا صَارَ مَظِنَّةً لِلْقِتَالِ وَهَلَاكَ من شاء الله مِنِ (الْفِرْقَتَيْنِ) (¬2)، وَدُخُولَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَلَكِنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَعْتَبِرْ إِلَّا إِقَامَةَ الْمِلَّةِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَتْ قَبْلُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أنه/ لا تُعتبر الْعَوَارِضُ الطَّارِئَةُ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ وَشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، نَظِيرَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى/: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} (¬3) الآية فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْذُرْهُمْ فِي تَرْكِ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ خَوْفَ الْعَيْلَةِ فَكَذَلِكَ لَمْ (يَعُدَّ) (¬4) أَبُو بَكْرٍ مَا يَلْقَى الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عُذْرًا يَتْرُكُ بِهِ الْمُطَالَبَةَ بِإِقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ حَسْبَمَا كَانَتْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِرَدِّ الْبَعْثِ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ـ وَلَمْ يَكُونُوا بَعْدُ مَضَوْا/ لِوُجْهَتِهِمْ ـ لِيَكُونُوا مَعَهُ (عَوْنًا) (¬5) عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، فَأَبَى من ذلك، وقال: ما كنت ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الفريقين". (¬3) سورة التوبة: الآية (28). (¬4) في (م) و (ت): "يعذر". (¬5) ساقط من (غ) و (ر).

لِأَرُدَّ بَعْثًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬1)، فَوَقَفَ مَعَ شَرْعِ اللَّهِ/ وَلَمْ يحكِّم غَيْرَهُ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنِّي (أَخَافُ) (¬2) عَلَى أُمَّتِي (من) (¬3) بعدي (أَعْمَالٍ) (¬4) ثَلَاثَةٍ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَخَافُ (عَلَيْكُمْ) (¬5) مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى متَّبَع) (¬6) وَإِنَّمَا (زَلَّةُ) (¬7) الْعَالِمِ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، فَإِذَا كَانَ (مِمَّنْ) (¬8) يَخْرُجُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ حُجَّةً عَلَى الشَّرْعِ؟ هَذَا مُضَادٌّ لِذَلِكَ. وَلَقَدْ كان كافياً من ذلك خطاب الله تعالى لِنَبِيِّهِ وَأَصْحَابِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬9) الْآيَةَ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬10)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬11) الآية. وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: (ثلاث يهدِمن الدين: زلة (عالم) (¬12)، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون) (¬13). ¬

(¬1) انظر: تاريخ خليفة بن خياط (ص100)، وطبقات ابن سعد (4 67)، وتاريخ الطبري (3 227). (¬2) في (م) و (خ) و (ت) و (غ) و (ر): "لأخاف"، والذي في (ط): "يوافق الحديث". (¬3) ساقط من (غ) و (ر). (¬4) هكذا في جميع النسخ وفي (غ) و (ر) قبلها كلمة: "من". (¬5) في (غ) و (ر): "عليهم". (¬6) الحديث أخرجه البزار، كما في كشف الأستار (1 103) برقم (182) وقال الهيثمي في المجمع (1 187): رواه البزار، وفيه كثير بن عبد الله بن عوف، وهو متروك، وقد حسن له الترمذي. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (17 17 برقم 14)، والشهاب القضاعي في مسنده (1127)، وابن عدي في الكامل (6 57) وبنحوه في المعجم الصغير للطبراني (1001)، وفي المعجم الكبير (20 138 برقم 282)، وفي تاريخ بغداد (2 128)، وفي السنن الكبرى للبيهقي (20706). (¬7) في (غ) و (ر): "يزل". (¬8) في (غ) و (ر): "مما". (¬9) سورة النساء: الآية (59). (¬10) سورة النساء: الآية (59). (¬11) سورة الأحزاب: الآية (36). (¬12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "العالم". (¬13) تقدم تخريجه.

(وسائر ما جاء في زيغة الحكيم فإنه/ واضح في أن الرجال إنما يعتبرون من حيث الحق لا من حيث هم رجال) (¬1). وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا، وَلَا تغدُ إمَّعة فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ وهب:/ فسألت سفيان عن الإمَّعة (فحدثني عن (الزعراء) (¬2) عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال: كنا ندعو) (¬3) / الإمعة (في) (¬4) الجاهلية الذي يُدعى إلى طعام فَيَذْهَبُ مَعَهُ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ فِيكُمُ الْيَوْمَ الْمُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ (¬5). وَعَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ (¬6) أَنَّ علياً رضي الله عنه قال (له) (¬7): يَا كُمَيْلُ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ/ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ، وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ ـ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ فِيهِ ـ أفٍ لِحَامِلِ حَقٍّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ لَا يَدْرِي أَيْنَ الْحَقُّ، إِنْ قَالَ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَدْرِ، مَشْغُوفٌ بِمَا لَا يَدْرِي حَقِيقَتَهُ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنْ فُتِنَ به، (وإن من الخير كله، (من عرَّفه) (¬8) اللَّهُ دِينَهُ، وَكَفَى (بِالْمَرْءِ جَهْلًا) (¬9)) (¬10) أَنْ لَا يعرف دينه (¬11). ¬

(¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) هكذا في (غ) والصواب: أبي الزعراء، اسمه: عبد الله بن هانئ. (¬3) ما بين () زيادة من (غ) و (ر). (¬4) ما بين القوسين ساقط من (ط)، وفي (ت) و (خ) و (م): "فقال الإمعة في". (¬5) أخرجه الدارمي (248 و337 و339)، وابن أبي خيثمة في كتاب العلم (1 و116)، وابن أبي شيبة في المصنف (8 541) برقم (6171)، والفسوي في تاريخ (3 339)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (139 و145 و146 و147 و1874 و1875)، والطبراني في الكبير (9 163) برقم (8752). (¬6) هو كميل بن زياد بن نهيك المذحجي، وثقه ابن معين والعجلي، وقتله الحجاج سنة 82هـ. طبقات ابن سعد (6 179)، وتهذيب التهذيب (8 447). (¬7) زيادة من (غ) و (ر). (¬8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فاعرف". (¬9) ما بين القوسين () زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬10) ما بين القوسين () بياض بمقدار سطر في (ت). (¬11) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1878)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 79)،=

وعن علي رضي الله عنه (أنه) (¬1) قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَمُوتُ وَهُوَ من/ أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أَهْلِ النَّارِ فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ/ الْجَنَّةِ، فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ لا بالأحياء، وأشار (بالأموات) (¬2) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام (¬3). وهو جار فِي كُلِّ زَمَانٍ يُعْدَمُ فِيهِ الْمُجْتَهِدُونَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا لَا يقلدنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا، إِنْ آمَنَ آمَنَ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشر (¬4). وهذا الكلام من ابن مسعود رضي الله عنه (يبيّن) (¬5) مُرَادَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ، وهو النهي عن اتباع (الرجال) (¬6) مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ (¬7) قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ (¬8) فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ: جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: مَا أَنْتَ/ بِفَاعِلٍ، قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ، قَالَ: هما المرءان (أقتدي) (¬9) بهما، يعني ¬

=والرافعي في التدوين في أخبار قزوين (3/ 209)، والخطيب في تاريخه (6/ 379)، وفي الفقيه والمتفقه (1/ 49)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (14/ 17 ـ 18) و (50/ 251 ـ 255)، والمزي في تهذيب الكمال (24/ 220)، والذهبي في تذكرة الحفاظ (1/ 11). (¬1) زيادة من (غ) و (ر). (¬2) زيادة من (غ) و (ر). (¬3) تقدم تخريجه (3/ 109). (¬4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9 166) برقم (8764 ـ 8767)، وقال الهيثمي في المجمع (1 180): رجاله رجال الصحيح، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (20136)، وذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1882)، وبنحوه في السنن الكبرى للبيهقي (2070)، واللالكائي (130). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (ر): "بيّن". (¬6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "السلف". (¬7) هو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، تقدمت ترجمته (1 81). (¬8) هو شيبة بن عثمان بن عبد الله العبدري الحجبي، رضي الله عنه، أسلم في حنين، وتوفي سنة 59هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (3 12). (¬9) في (ط): "أهتدي".

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬1). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ حين استأذن لَهُ عَلَى عُمَرَ، قَالَ فِيهِ: فَلَمَّا دَخَلَ قال: يا ابن الْخَطَّابِ، وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يقع (به) (¬2)، فَقَالَ الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن الله قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ *} (¬3) (وإن هذا/ من الجاهلين) (¬4) فوالله ما (جاوزها) (¬5) عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ (¬6). وَحَدِيثُ فِتْنَةِ الْقُبُورِ حَيْثُ قَالَ صلّى الله عليه وسلّم (¬7):/ "فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ ـ أَوِ الْمُسْلِمُ ـ/ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ وَآمَنَّا، فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ مُوقِنٌ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي/ سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فقلته" (¬8). /وحديث مخاصمة علي والعباس (عند) (¬9) عمر في ميراث ¬

(¬1) أخرجه البخاري (1594 و7275)، وأحمد في المسند (3 410)، وفي فضائل الصحابة (638)، وابن ماجه (3116)، وأبو داود (2031)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (614)، والطبراني في الكبير (7195)، والبيهقي في السنن الكبرى (9511). (¬2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيه". (¬3) سورة الأعراف: الآية (199). (¬4) زيادة من (غ) و (ر). (¬5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "جاوز". (¬6) أخرجه البخاري في كتاب التفسير برقم (4642 و7286)، وأحمد في الفضائل (506). (¬7) في (غ) و (ر) وقع خلط عجيب، حيث كُتب بعد قوله: (قال صلّى الله عليه وسلّم) نص طويل مكانه أول الكتاب وهو يبدأ من منتصف السطر الثاني من صفحة 455غ إلى آخر سطر من صفحة 457غ ففي آخر السطر كتب: (وإن أجبته بتأويل فأما المؤمن أو المسلم). فقول: (وإن أجبت بتأويل) تابع للنص الطويل الذي مكانه أول الكتاب وقوله: (فأما المؤمن أو المسلم) فهو تكملة النص الذي في هذه الصفحة. (¬8) أخرجه البخاري (86 و184 و922 و1053 و1054 و1061 و1235 و1373 و2519 و2520 و7287)، ومسلم (905)، ومالك (447)، وأحمد (6 345 و354)، وابن حبان (3114)، والطبراني في الكبير (24 115 برقم 313 ـ 316)، والبيهقي في السنن الكبرى (3232 و6153). (¬9) زيادة من (غ) و (ر).

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله للرهط الْحَاضِرِينَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا نُورَثُ مَا (تَرَكْنَاهُ) (¬1) صَدَقَةٌ"، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ ـ إِلَى (أَنْ) (¬2) قَالَ لِعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ: أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ (فَوَاللَّهِ الَّذِي) (¬3) بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ (¬4). وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ (¬5) فِي هَذَا الْمَعْنَى تَرْجَمَةً تَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ الشَّارِعِ إِذَا وَقَعَ وَظَهَرَ فَلَا خِيَرَةَ لِلرِّجَالِ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِمْ، وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ إِنَّمَا تَكُونُ قَبْلَ التَّبْيِينِ، فَقَالَ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (¬6)، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبْيِينِ/ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (¬7)، فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ، فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لَأْمَته (وعزم) (¬8) قَالُوا: أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ/ بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حتى يحكم الله" (¬9)، وشاور علياً وأسامة ¬

(¬1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تركناه". (¬2) ساقط من (غ) و (ر). ووقع هنا في نسخة (ر) (ص306) تخليط حيث انتقل الكلام إلى ما جاء في بداية الكتاب من قوله: (سماني أشعرياً ... ) (1/ 29) طبعة رشيد رضا وتنتهي بقوله: (قررت أحكامها الشريعة ... ) (1/ 31) ثم الصفحة (307) تبدأ بما في (1/ 27): (بظاهره إلى اتباع المتشابهات ... ) إلى (1/ 29) وإن أجبت بتأويل ... ) وهو تخليط سببه والله أعلم وضع هذه اللوحة في الأصل المستنسخ منه في غير مكانها. (¬3) في (غ) و (ر): "فوالذي". (¬4) أخرجه البخاري (3094 و2904 و4033 و4885 و5357 و6728 و7305)، ومسلم (1757)، وأبو داود (2963 ـ 2965)، والترمذي (1610)، والنسائي في المجتبى (4148)، وفي الكبرى (6310)، والبيهقي في السنن الكبرى (12508 ـ 12510 و13147). (¬5) انظر: البخاري ـ فتح الباري (13 351) ـ كتاب الاعتصام، بَابُ (28) قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}. (¬6) سورة الشورى: الآية (38). (¬7) سورة آل عمران: الآية (159). (¬8) زيادة من (غ) و (ر). (¬9) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2 37)، وأحمد في المسند (3 351)،=

فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ عَائِشَةَ رَضِيَ/ اللَّهُ عَنْهَا، (فَسَمِعَ مِنْهُمَا) (¬1) حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ، وَلَكِنْ حكم بما أمره الله (به) (¬2). وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الأمور المباحة ليأخذوا (بأسلمها) (¬3)، فَإِذَا (وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) (¬4)، لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ؟ " (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأقتلن مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم) (¬5)، ثم تابعه (عمر بعد) (¬6)، فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ، إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتًا فِي الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" (¬7)، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ. هَذَا جُمْلَةُ مَا قَالَ فِي (تِلْكَ) (¬8) التَّرْجَمَةِ مِمَّا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، مِمَّا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم لَمْ يَأْخُذُوا أَقْوَالَ الرِّجَالِ/ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُمْ وَسَائِلُ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى شرع/ الله، لا من حيث هم ¬

=والدارمي (2 129 ـ 130)، والنسائي في السنن الكبرى (7647)، والحاكم (2 128 ـ 129)، وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (13060 و13061)، وحسَّن ابن حجر سندي الحاكم والبيهقي في التلخيص الحبير (3 129). (¬1) ما بين القوسين ساقط من (ت). وفي (م): "منهما". (¬2) ما بين القوسين زيادة من (ت). (¬3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بأسهلها". (¬4) في (غ) و (ر): "أوضح الكتاب أو السنة". (¬5) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر). (¬6) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "بعد عمر"، والحديث تقدم تخريجه (3/ 329) تعليق (7). (¬7) تقدم تخريجه (3/ 116). (¬8) في (ت): "جملة تلك".

أصحاب رتب، أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ. /وَذَكَرَ ابْنُ مُزَيَّنٍ (¬1) عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ (¬2) عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ (¬3) عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا ـ وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ ـ يُتَّبَعُ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬4) (¬5). ¬

(¬1) في (ت): "أبو مرين" وصححت في الهامش بـ"ابن مرين"، وهو يحيى بن إبراهيم بن إبراهيم بن مزين أبو زكريا، روى عن أنس بن مالك الموطأ، توفي سنة 259هـ. انظر: تاريخ علماء الأندلس (2 901) وجذوة المقتبس (2 595)، وبغية الملتمس (2 669). (¬2) هو عيسى بن دينار الغافقي، من تلاميذ ابن القاسم، كان بارعاً في الفقه، توفي سنة 212هـ. انظر: ترتيب المدارك (3 16)، والسير (10 439). (¬3) تقدمت ترجمته (3/ 27). (¬4) سورة الزمر: الآية (18). (¬5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1897).

فصل

فصل إِذًا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ الرجال، فالحق أيضاً لا يعرف دون (وساطتهم) (¬1)،/ بل بهم يتوصل إليه وهم (الأدلة) (¬2) على طريقه. ¬

(¬1) في (ط) و (خ): "وسائطهم". في (م): "وساطهم". (¬2) في (غ) و (ر): "الأدلة". في نهاية النسخة المطبوعة كتب: انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى. هذا ما جاء في آخر النسخة المخطوطة التي وجدت في مكتبة الشنقيطي، وقد تم نسخها في 25 المحرم سنة 1295 من هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وفي نهاية النسخة (خ) كتب: انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف، ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلى الله على من لا نبي بعده وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. تم نسخ الجزء الثاني من الاعتصام للإمام الشاطبي 25 في المحرم الحرام، فاتح شهور سنة 1295، جعله الله مباركاً علينا وعلى المسلمين أجمعين، على يد العبد الفقير الذليل المعترف بالذنب والتقصير: حسن بن محمد الشبلي الشريف الأمين، كان؟ رحمه الله ورحم المسلمين أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. انتهى. وفي نهاية النسخ (ت): انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف، ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى، وافق الفراغ من نسخ هذا المقدار الموجود على يد كاتبه الفقير إلى ربه المحسن عبده الحاج حمود بودس، كان الله له، وختم بالحسنى عمله، وبلغه فيما يرجوه من ربه أمله. آمين. تم بحمد الله وتوفيقه وحسن عونه صبيحة يوم الجمعة رابع شهر ذي الحجة الحرام كمال عام 1284 في أربع وثمانين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله بكرة وعشية، ورضي الله تعالى عن=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

=أصحاب رسوله أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. آمين آمين آمين. وفي هامش آخر النسخة (ر) كتب: ثبت في الأصل المنتسخ منه في هذا المحل (ما نصه) هنا انتهى ما قيّده (المؤلف) رحمه الله ولم يكن باقي (من) غرض التأليف كله إلا ما أراد (ههنا).اهـ. وما بين () قرأته بصعوبة وأثبت ما ترجح في ظني، والله أعلم، والحمد لله على توفيقه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كتبه هشام بن إسماعيل بن علي الصيني.

الملاحق تعريف الفرق الواردة في الباب التاسع في المسألة السابعة

الملاحق تعريف الفرق الواردة في الباب التاسع في المسألة السابعة

بسم الله الرحمن الرحيم (ملحق رقم 1) تعريف الفرق الوارد ذكرهم في الباب السابع في تعريف الفرق أذكر الفرقة وإلى من تنسب، وأهم معتقداتها من غير تفصيل لتلك المعتقدات، لأن ذلك يؤدي إلى الإطالة، ثم أشير إلى أهم المراجع التي فصلت الكلام عن هذه الفرق، ورتبتها على حسب ترتيب أسماء الفرق الأساسية كما وردت في الاعتصام، ثم أدرج الفرق التي تحتها ضمن الفرقة الأساسية. والله الموفق (¬1). (1) المعتزلة: فرقة أسسها واصل بن عطاء؛ وذلك عندما تكلم في حكم مرتكب الكبيرة، فقال: إنه في منزلة بين المنزلتين، وكان في حلقة الحسن البصري ثم اعتزله بسبب هذه المسألة، ثم تطورت عقيدة المعتزلة، فأصبح لهم خمس أصول مشهورة؛ وهي: العدل، والتوحيد، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم تفرقوا بعد ذلك إلى عدة فرق. انظر: الفرق بين الفرق (ص114 ـ 202)، ومقالات الإسلاميين (155 ـ 278)، والملل والنحل (1/ 43 ـ 84)، والتنبيه والرد للملطي (ص40) والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (ص49)، والمعتزلة وأصولهم الخمسة للدكتور عواد المعتق. (2) الواصلية: أتباع واصل بن عطاء، مؤسس المعتزلة، وذكر الشهرستاني أن اعتزال الواصلية يدور على أربع قواعد:

_ (1) كتبه هشام بن إسماعيل بن علي الصيني.

القاعدة الأولى: القول بنفي صفات الله عز وجل؛ لأن ذلك يستلزم وجود إلهين اثنين. القاعدة الثانية: القول بالقدر، وهو أن العبد هو الفاعل للخير والشر، وليست هي من فعل الله، تعالى عن قولهم. القاعدة الثالثة: القول بالمنزلة بين المنزلتين. القاعدة الرابعة: القول بأن أحد الفريقين من أصحاب الجمل وأصحاب صفين فاسق لا بعينه. انظر: الملل والنحل (1/ 46)، والفرق بين الفرق (117 ـ 120). (3) العَمْرَوية: وهم أتباع عمرو بن عبيد الذي تزوج أخت واصل بن عطاء، وتتلمذ عليه، وتبنى عقيدته، وزاد عليه ما يلي: أولاً: قال بفسق الفريقين من أصحاب الجمل وصفين، وأنهم مخلدون في النار، ورد شهادتهم. ثانياً: رد الأحاديث النبوية، كحديث ابن مسعود الوارد في أطوار الإنسان في بطن أمه، وأنه يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد. انظر: الفرق بين الفرق (120 ـ 121)، وميزان الاعتدال (2/ 295). (4) الهُذيلية: وهم أتباع أبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف البصري، وقد كفره أصحابه كالمردار والجبَّائي، وقد انفرد عن أصحابه المعتزلة بعدة أقوال منها: أولاً: أن الصفة هي ذات الموصوف، فقال: إن الباري سبحانه وتعالى عالم بعلم، وعلمه ذاته، وقادر بقدرة وقدرته ذاته .. إلخ. ثانياً: أثبت أن لله إرادة لا محل لها.

ثالثاً: قوله بأن كلام الله تعالى على قسمين: قسم لا في محل؛ وهو كلمة (كن) التكوينية، وقسم في محل، كالأمر والنهي. رابعاً: قال بأن حركات أهل الجنة وأهل النار تنقطع، ويصيرون في سكون دائم، وتجتمع اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار. انظر: الملل والنحل (1/ 149 ـ 53)، والفرق بين الفرق (121 ـ 130)، والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (ص54). (5) النظَّامية: هم أصحاب إبراهيم بن يسار بن هانئ النظَّام، خلط اعتزاله بالفلسفة، وانفرد عن أصحابه بعدة مسائل أهمها: أولاً: أنه قال: إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة للباري، خلافاً لأصحابه؛ فإنهم يقولون: إن الله تعالى قادر على الشرور والمعاصي، ولكنه لا يفعلها لأنها قبيحة. وقال ـ النظام ـ: إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار ولا في أن ينقص من نعيم أهل الجنة. ثانياً: أحدث القول بالطفرة، حيث قال: إذا مشت النملة على صخرة من طرف إلى طرف، فإنها قطعت ما لا يتناهى. فقيل له: كيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى؟ فقال: تقطع بعض المسافة بالمشي، وتقطع الباقي بالطفرة. ثالثاً: قال إن الإجماع والقياس ليسا بحجة في الشرع، وإنما الحجة في قول الإمام المعصوم. رابعاً: مال إلى الرافضة، فقال: لا إمام إلا بالنص والتعيين، وأن علياً هو الإمام، وأن عمر رضي الله عنه هو الذي كتم ذلك وتولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة، ثم وقع ـ أي النظام ـ في عثمان وعلي وابن مسعود

وغيرهم من الصحابة. انظر: الملل والنحل (1/ 53 ـ 59)، والفرق بين الفرق (131 ـ 150)، والبرهان (ص55). (6) الأسوارية: وهم أتباع علي الأسواري، كان على مذهب أبي الهذيل، ثم انتقل إلى مذهب النظام، وزاد بدعة فقال: إن ما علم الله أن لا يكون، لم يكن مقدوراً لله تعالى. انظر: الفرق بين الفرق (ص151). (7) الإسكافية: وهم أتباع محمد بن عبد الله الإسكافي، وكان أخذ القدر عن جعفر بن حرب، ثم ابتدع بعد ذلك بدعاً أخرى منها: زعم أن الله تعال يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين، ولا يوصف بالقدرة على ظلم العقلاء، فكفره أسلافه لهذا القول، وكفَّرهم هو لخلافهم له في هذه المسألة. انظر: الفرق بين الفرق (169 ـ 171)، والبرهان (ص62). (8) الجعفرية: أتباع جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، أما جعفر بن حرب، فهو على مذهب أستاذه المردار، وزعم أن الممنوع من الفعل قادر على الفعل، وليس يقدر على شيء؟! وأما جعفر بن بشر فمن بدعه زعمه أن في الأمة فساقاً شر من اليهود والنصارى والمجوس، مع قوله أن الفاسق موحِّد وليس بمؤمن ولا كافر. انظر: الفرق بين الفرق (167 ـ 169)، والملل والنحل (1/ 59). (9) والبِشْرية: وهم أتباع بشر بن المعتمر، وهو الذي أحدث القول بالتولد، وانفرد عن أصحابه ببدع منها: إن الله تعالى قادر على تعذيب الطفل، ولو فعل ذلك لكان ظالماً له، لكن لا يستحسن أن يقال ذلك في حقه، بل يقال: لو

فعل ذلك لكان الطفل بالغاً عاقلاً عاصياً مستحقاً للعذاب؟! وهذا تناقض. انظر: الملل والنحل (1/ 64 ـ 65)، والفرق بين الفرق (156 ـ 159)، والبرهان (ص53). (10) المردارية: أتباع عيسى بن صبيح المردار، تتلمذ على بشر بن المعتمر، وتزهد حتى سُمِّي راهب المعتزلة، وابتدع بدعاً منها: قوله في القرآن أن الناس قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن فصاحة، ونظماً، وبلاغة، وهو الذي بالغ في القول بخلق القرآن، وكفَّر من قال بقدمه، وكفَّر من لابس السلطان، وغلا في التكفير حتى سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعاً فكفرهم، فقال إبراهيم: الجنة التي عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك؟ فخزي المردار ولم يجب. انظر: الملل والنحل (1/ 68 ـ 70)، والفرق بين الفرق (164 ـ 166). (11) الهشامية: وهم أصحاب هشام بن عمرو الفوطي، وقد بالغ في القدر، فكان يمتنع من إطلاق إضافات الأفعال إلى الله تعالى وإن ورد بها القرآن، فقال: إن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤتلفون باختيارهم، ومن بدعه قوله: إن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن، إذ لا فائدة في وجودهما. انظر: الملل والنحل (1/ 72 ـ 74)، والفرق بين الفرق (159 ـ 164). (12) الصالحية: وهو أتباع صالح قبة، قال أبو الحسن الأشعري: إن صالح قبة كان ممن يثبتون الجزء الذي لا يتجزأ ويقول: إن ما يراه الرائي في المرآة إنما هو إنسان مثله اخترعه الله تعالى في المرآة. انظر: مقالات الإسلاميين (ص317).

(13) الخابطية و (14) الحدثية: الخابطية والحدثية: أتباع أحمد بن خابط والفضل الحدثي، كانا من أصحاب النظام، وزادا عليه ثلاث بدع: الأولى: وافقوا النصارى في إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح عليه السلام، فادعوا أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة، وهو المراد بقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} ومثيلاتها من الآيات. البدعة الثانية: قالوا بالتناسخ، فزعموا أن الله تعالى خلق خلقه أصحاء سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار، وخلق فيهم معرفته والعلم به، فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به، وعصاه بعضهم في جميع ما أمرهم به، وأطاعه بعضهم في بعض ما أمر به دون البعض، فمن أطاعه أقره في دار النعيم، ومن عصاه أخرجه إلى دار النار، ومن أطاعه في بعض دون بعض، أخرجه إلى دار الدنيا، فألبسه هذه الأجسام الكثيفة على صور الناس والحيوانات على قدر ذنوبهم ... البدعة الثالثة: حملوا الآيات والأحاديث الواردة في الرؤية على رؤية العقل الأول. انظر: الملل والنحل (1/ 60 ـ 64)، والفرق بين الفرق (ص273). (15) المعمرية: أتباع معمر بن عبَّاد السلمي، انفرد عن أصحابه بعدة مسائل منها: قال: إن الله تعالى لم يخلق غير الأجسام، وأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام، إما طبعاً كالنار التي تحدث الإحراق، وإما اختياراً كالحيوان يحدث الحركة والسكون. وله ضلالات أخرى شنيعة. انظر: الملل والنحل (1/ 65 ـ 70)، والفرق بين الفرق (151 ـ 156)، والبرهان (ص63).

(16) الثُّمامية: وهم أتباع ثمامة بن أشرس النميري، قال الشهرستاني: كان جامعاً بين سخافة الدين، وخلاعة النفس مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة، وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين. وقد ابتدع عدة بدع منها: أن الكفار واليهود والنصارى والدهرية وأطفال المؤمنين والبهائم يصيرون يوم القيامة تراباً. انظر: الملل والنحل (1/ 70 ـ 71)، والفرق بين الفرق (172 ـ 175). (17) الخيَّاطية: هم أتباع أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط أستاذ أبي القاسم الكعبي، وقد انفرد الخياط بمسألة عن جميع الفرق وهي: زعمه أن الجسم في حالة عدمه يكون جسماً. انظر: الفرق بين الفرق (179 ـ 180)، والملل والنحل (1/ 76 ـ 78). (18) الجاحظية: وهم أتباع عمرو بن بحر أبي عثمان الجاحظ، له عدة بدع خالف فيها أصحابه المعتزلة منها: زعمه أن أهل النار لا يخلدون فيها عذاباً، بل يصيرون فيها إلى طبيعة نارية، وأن النار تجذب أهلها إليها من غير أن يدخلها أحد. انظر: الملل والنحل (1/ 75 ـ 76)، والفرق بين الفرق (175 ـ 178)، والبرهان (ص56). (19) الكعبية: وهم أتباع أبي القاسم عبد الله بن أحمد الكعبي، تلميذ أبي الحسين الخياط، وهو من معتزلة البصرة، لكنه خالفهم في عدة مسائل منها: قوله: إن الله لا يرى نفسه ولا غيره إلا على معنى علمه بنفسه وبغيره. ومنها قوله: إن المقتول ليس بميت. انظر: الفرق بين الفرق (181 ـ 182)، والملل والنحل (1/ 76).

(20) الجبَّائية: أتباع أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبَّائي، وقد انفرد بعدة أقوال منها: إنكاره بعث الأجساد بعد الموت، وأن الله يحيي أرواح الموتى، ويبعث أرواح من في القبور. انظر: الملل والنحل (78 ـ 85)، والفرق بين الفرق (183 ـ 184)، والبرهان (ص51). (21) البهشمية: وهم أتباع أبي هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، من معتزلة البصرة، وقد (انفرد) بمسائل عن أصحابه منها: ما اشتهر بأحوال أبي هاشم، وهي إحدى ثلاث غير معقولة، وهي أحوال أبي هاشم وطفرة النظام وكسب الأشعري. ومن بدعه زعمه أن التوبة عن الذنب بعد العجز عن مثله لا تصح، فعنده لا تقبل توبة الكاذب بعد خرس لسانه. انظر: الفرق (184 ـ 201)، والملل والنحل (78 ـ 85). (22) الشيعة: هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية، إما جلياً وإما خفياً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده، وأن الإمامة ركن الدين لا يجوز للرسل إغافلها ولا تفويضها إلى العامة، ويجمعهم ـ أي فرق الشيعة ـ القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولي والتبري. انظر: الملل والنحل (1/ 146 ـ 147)، والفرق بين الفرق (ص21)، ومقالات الإسلاميين (ص5). (23) السبئية: هم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي غلا في علي رضي الله عنه، وادعى أن علياً كان نبياً ثم زعم أنه إله، وقال له: أنت أنت. يعني أنت

الإله. وزعم أن علياً لم يمت وأنه يجيء في السحاب والرعد صوته، والبرق تبسمه، وأنه سيرجع إلى الأرض فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً. وهم أول فرقة قالت بالغيبة والرجعة، وبتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي الله عنه. انظر: الفرق بين الفرق (ص233)، ومقالات الإسلاميين (ص15)، والملل والنحل (1/ 174)، والبرهان (ص85). (24) الكاملية: أتباع رجل من الرافضة كان يعرف بأبي كامل، زعم أن الصحابة كلهم كفار بتركهم بيعة علي، وقال: إن الإمامة نور يتناسخ من شخص إلى شخص. انظر: الملل والنحل (1/ 174 ـ 175)، والفرق بين الفرق (ص54 ـ 56). (25) البيانية: أتباع بيان بن سمعان التميمي، وهو من الغلاة القائلين بإلهية علي رضي الله عنه، وأنه كان يعلم الغيب، وأن الجزء الإلهي انتقل إلى محمد بن الحنيفية، ثم إلى ابنه أبي هاشم، ثم صار من أبي هاشم إلى بيان بن سمعان، وهو ـ أي بيان بن سمعان ـ من المشبهة، وسمع به خالد بن عبد الله القسري فاستدرجه وصلبه، وقيل أنه أحرقه. انظر: الملل والنحل (1/ 152)، والفرق بين الفرق (ص236)، ومقالات الإسلاميين (ص5)، والتنبيه والرد للملطي (ص30)، والبرهان (ص75). (26) المُغيرية: وهم أتباع المغيرة بن سعد العجلي، وكان يظهر موالاة الإمامية، ثم ادّعى النبوة، وهو شديد الغلو في التشبيه. انظر: الفرق بين الفرق (ص238)، والملل والنحل (1/ 176)، ومقالات الإسلاميين (ص6)، والتنبيه والرد للملطي (ص152)، والبرهان (ص77).

(27) الجناحية: أتباع عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، من غلاة فرق الشيعة، يزعمون أن عبد الله بن معاوية كان يدَّعي أن العلم ينبت في قلبه كما تنبت الكمأة والعشب، وقالوا بالتناسخ، وهم يكفرون بالقيامة، ويستحلون المحارم. انظر: مقالات الإسلاميين (ص6)، والفرق بين الفرق (ص235 ـ 236). (28) المنصورية: أتباع أبي منصور العجلي، زعم أنه عرج به إلى السماء، وأن ربه مسح على رأسه وقال له: يا بني انزل فبلغ عني. انظر: الفرق بين الفرق (ص243)، والملل والنحل (1/ 178)، ومقالات الإسلاميين (ص9)، والتنبيه والرد للملطي (ص150)، والبرهان (ص76). (29) الخطَّابية: أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الكوفي، من غلاة الشيعة، القائلين بالحلول، وادعى النبوة، ثم الرسالة، ثم أنه من الملائكة وأنه رسول إلى أهل الأرض كلهم. انظر: الفرق بين الفرق (ص247 وص255)، والملل والنحل (1/ 179)، ومقالات الإسلاميين (ص10)، والتنبيه والرد للملطي (ص154)، والبرهان (ص69). (30) الغُرابية: هم القائلون بأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم أشبه الناس بعلي من الغراب بالغراب، وهذا سبب تسميتهم بالغرابية، وأن جبريل بُعث بالرسالة إلى علي فأخطأ بها إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم افترقوا عدة فرق بعد ذلك. انظر: البرهان للسكسكي (ص71 ـ 72)، والفرق بين الفرق (ص250). (31) الذمية: قوم زعموا أن علياً هو الله، وشتموا محمداً صلّى الله عليه وسلّم، وأن علياً بعثه لينبئ

عنه فادعى الأمر لنفسه. انظر: الفرق بين الفرق (ص251). (32) الهشامية: أصحاب الهشامين، هشام بن الحكم الرافضي، وهشام بن سالم الجواليقي، وهما الرافضة المشبهة، وكان هشام بن الحكم أضاف إلى تشبيه الخالق بالمخلوق، والرفض، قوله بجواز العصيان على الأنبياء، مع القول بعصمة الأئمة من الذنوب. ولهما كلام في التشبيه قبيح جداً. انظر: الفرق بين الفرق (ص65)، والملل والنحل (1/ 184)، ومقالات الإسلاميين (ص31)، والتنبيه والرد للملطي (ص31)، والبرهان (ص72). (33) الزرارية: أتباع زرارة بن أعين، كان يقول بإمامة عبد الله بن جعفر، وقال: "إن الله ـ تعالى الله عن قوله ـ لم يكن حياً، ولا قادراً ولا سميعاً ولا بصيراً، حتى خلق لنفسه حياة وقدرة ... إلخ. انظر: الفرق بين الفرق (ص70)، ومقالات الإسلاميين (ص36). (34) اليونسية: أتباع يونس بن عبد الرحمن القمي، وهو من مشبهة الشيعة، وهو على مذهب القطعية الذين قطعوا بموت موسى بن جعفر. انظر: الملل والنحل (1/ 188)، والفرق بين الفرق (ص70)، ومقالات الإسلاميين (ص35). (35) الشيطانية: وتسمى أيضاً النعمانية وهم: أتباع محمد بن النعمان أبي جعفر الملقب بشيطان الطاق، من بدعه قوله: إن الله ـ تعالى الله عن قوله ـ نور على صورة إنسان رباني. انظر: الملل والنحل (1/ 186)، والفرق بين الفرق (ص71)، ومقالات الإسلاميين (ص37).

(36) الرزامية: أتباع رزام بن رزم، ساقوا الإمامة من علي إلى ابنه محمد ثم إلى ابنه هاشم، ثم إلى علي بن عبد الله بن عباس بالوصية، ثم إلى محمد بن علي، وأوصى محمد إلى ابنه إبراهيم الإمام العباسي. انظر: الملل والنحل (1/ 153 ـ 154)، والفرق بين الفرق (ص256)، ومقالات الإسلاميين (ص21 ـ 22). (37) المفوضة: قوم زعموا أن الله تعالى خلق محمداً صلّى الله عليه وسلّم، ثم فوَّض إليه خلق العالم وتدبيره، ثم فوض محمد علياً تدبير العالم. انظر: الفرق بين الفرق (ص251). (38) البَدائية: نسبة إلى البداء، وهو معتقد للكيسانية (المختارية) أتباع المختار بن أبي عبيد الثقفي، والكيسانية عدة فرق يجمعها القول بأمرين: الأول: قولهم بإمامة محمد ابن الحنفية. والثاني: قولهم بجواز البداء على الله عز وجل، والبداء له معان: البداء في العلم؛ وهو أن يظهر له خلاف ما علم. والبداء في الإرادة؛ وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم. والبداء في الأمر؛ وهو أن يأمر بشيء، ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف الأول، وهو النسخ. انظر: الملل والنحل (1/ 147 ـ 150)، والفرق بين الفرق (ص38 ـ 39)، ومقالات الإسلاميين (ص18)، والتنبيه والرد للملطي (ص29 و152). (39) النصرية: لعلها النصيرية ـ يسمون أنفسهم بالعلويين ـ وهم من الفرق الباطنية، أتباع أبي شعيب محمد بن نصر البصري النميري، الذي ادعى الربوبية وأباح المحرمات، وقالت النصيرية بالحلول والتناسخ، وأنكروا البعث والحساب،

وأولوا الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والحج. انظر: دراسات عن الفرق في تاريخ المسلمين (ص311)، والبرهان (ص67). (40) الإسماعيلية: وهي طائفة باطنية تنسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وقيل نسبة إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، والرأي الأول هو الراجح، وهي أشد كفراً من اليهود والنصارى. ومذهبهم خليط من الوثنية والفلسفة والنصرانية واليهودية والإسلام. انظر: الفرق بين الفرق (ص62)، والملل والنحل (1/ 191)، مقالات الإسلاميين (ص26)، والتنبيه والرد للملطي (ص37)، والبرهان (ص81). (41) الباطنية: هم الذين يقولون إن كلَّ آية لها باطن وظاهر، فيؤوِّلون النصوص كما يشاؤون، وهم فرق عدة كالإسماعيلية والقرامطة والنصيرية وغيرهم. انظر: الملل والنحل (1/ 192)، والفرق بين الفرق (ص281 ـ 312)، والتبصير في أمور الدين (ص83)، والحركات الباطنية في العالم الإسلامي للدكتور محمد أحمد الخطيب. (42) القرمطية: من فرق الباطنية التي ظهرت في البحرين على يد رجل يسمى حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط، وذلك عندما اتصل به أحد دعاة الإسماعيلية وهو الحسين الأهوازي، وبعد وفاته نشط حمدان قرمط بدعوته، واتخذ مقراً خارج الكوفة سماه دار الهجرة، وجعله مقراً لأتباعه. انظر: الملل والنحل (1/ 192)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص122)، ومقالات الإسلاميين (ص26)، والقرامطة لابن الجوزي، والبرهان (ص80).

(43) الخرمية: وهم من فرق الإباحية، وهم صنفان: صنف قبل الإسلام كالمزدكية الذين استباحوا المحرمات، وزعموا أن الناس شركاء في الأموال والنساء، ودامت فتنتهم حتى قتلهم أنوشروان في زمانه. والصنف الثاني: خرمدينية ـ الذين ظهروا في الإسلام ـ وهم صنفان: بابكية ـ وهم الخرمية وسيأتي ذكرهم ـ ومازيارية أتباع مازيار الذي ظهر في جرجان، ثم صلب في سر من رأى في زمن المعتصم. انظر: الفرق بين الفرق (ص266 ـ 269)، والتنبيه والرد للملطي (ص29)، وفضائح الباطنية للغزالي (ص14 ـ 16). (44) السبعية: هم القرامطة، كما ذكر ذلك ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (3/ 481). (45) البابكية: وهم أتباع بابك الخرمي الذي ظهر في أذربيجان، واستباح المحرمات، وقتل المسلمين، وبقي يحارب العباسيين قرابة عشرين سنة، حتى أخذ بابك الخرمي وصلب بسر من رأى في زمن المعتصم. انظر: الفرق بين الفرق (ص266 ـ 268)، والتنبيه والرد للملطي (ص29)، فضائح الباطنية للغزالي (ص14 ـ 16). (46) المحمّرة: طائفة من البابكية الخرمدينية، يقال لهم: "المحمّرة" لأنهم لبسوا الحمر من الثياب في أيام بابك، فقيل لهم: "المحمّرة"، وهم بابكية في العقيدة. انظر: الأنساب للسمعاني (11/ 171). (47) المحمدية: وهم الذين ينتظرون محمد بن عبد الله بن الحسن، ولا يصدقون بموته

ولا قتله، ويزعمون أنه في جبل حاجر من ناحية نجد. انظر: الفرق بين الفرق (ص56)، والأنساب للسمعاني (11/ 170). (48) زيدية: أتباع زيد بن علي زين العابدين الذي خرج على هشام بن عبد الملك، وأهم معتقداتهم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عيَّن الإمام بالوصف لا بالتعيين، وأن الوصف لا يكتمل إلا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم الأئمة من بعده من ذرية فاطمة رضي الله عنها. وقالوا: بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، وبجواز بيعة إمامين مختلفين في إقليمين مختلفين، وتأثروا بالمعتزلة في أصولهم الخمسة. انظر: الفرق بين الفرق (ص22)، ومقالات الإسلاميين (ص65)، والملل والنحل (1/ 154)، والتنبيه والرد للملطي (ص38). (49) الجارودية: أتباع الجارود بن زياد بن المنذر، زعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نص على علي رضي الله عنه بالوصف لا بالتعيين، والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف، ولم يطلبوا الوصف، وإنما نصبوا أبا بكر رضي الله عنه باختيارهم، فكفروا بذلك، انظر: الفرق بين الفرق (ص30)، والملل والنحل (1/ 157)، ومقالات الإسلاميين (ص66)، والتنبيه والرد للملطي (ص30)، والبرهان (ص66). (50) السليمانية: من فرق الزيدية، أتباع سليمان بن جرير، كان يقول: الإمامة شورى فيما بين الخلق، ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين، وكفر عثمان وعائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم لقتالهم لعلي رضي الله عنه. انظر: الملل والنحل (1/ 159)، والفرق بين الفرق (ص22)، ومقالات الإسلاميين (ص68).

(51) البترية: من فرق الزيدية، أتباع كثير النوى الأبتر، توقفوا في أمر عثمان رضي الله عنه، وقالوا: علياً أفضل النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، ووافقوا المعتزلة في كثير من أصولهم. انظر: الملل والنحل (1/ 161)، والفرق بين الفرق (ص23)، ومقالات الإسلاميين (ص68 ـ 69). (52) إمامية: وهم جميع فرق الشيعة التي جعلت الإمامة قضية أساسية، وأجمعوا على أن علياً رضي الله عنه يستحق الخلافة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم افترقوا فيما وراء ذلك، فمنهم من ذهب إلى أن علياً استحق الإمامة بالوصف الذي لا ينطبق إلا عليه؛ وهم الزيدية، ومنهم من ذهب إلى أن علياً استحق الإمامة بالوصية والتعيين، وهم الرافضة، وهؤلاء اتفقوا في الأئمة حتى إمامهم السادس جعفر الصادق، ولكنهم اختلفوا فيمن بعده، فذهبت الإسماعيلية إلى القول بإمامة إسماعيل بن جعفر، وذهبت الإثنا عشرية إلى إمامة موسى الكاظم إلى الإمام الثاني عشر. انظر: دراسة عن الفرق للدكتور جلي (ص179). (53) الخوارج: هم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قَبوله التحكيم، حيث اعتبروا قبول التحكيم كفر، وطلبوا من علي أن يتوب من ذلك، وأشهر بدعهم هو تكفير مرتكب الكبيرة، ويسمون بالشُّراة؛ يزعمون أنهم باعوا أنفسهم لله، كما في قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}، ويسمون بالحرورية لانحيازهم إلى قرية حروراء قريباً من الكوفة، وسموا بالمحكِّمة لرفعهم شعار لا حكم إلا لله. انظر: التنبيه والرد (ص51)، والفرق بين الفرق (ص72)، ومقالات الإسلاميين (ص86)، والملل والنحل (1/ 144)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص46)، والبرهان (ص17)، ودراسة عن الفرق للدكتور جلي (ص51).

(54) المحكِّمة: وهو اسم من أسماء الخوارج، وسبب تسميتهم بالمحكمة هو رفعهم شعار (لا حكم إلا لله)، وكان رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وعبد الله بن الكواء، ويجمعهم القول بتكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه، وأصحاب الجمل والحكمين ومن رضي بالتحكيم، وصوَّب الحكمين أو أحدهما، وخرجوا بسبب أمرين: الأول: قالوا بجواز الإمامة في غير قريش. والثاني: قالوا أخطأ علي في التحكيم لأنه حكَّم الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله. انظر: الفرق بين الفرق (ص74)، والملل والنحل (1/ 115)، والتنبيه والرد للملطي (ص51)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص46). (55) البيهسية: أتباع أبي بيهس الهيصم بن جابر، أحد الخوارج الذين قالوا: إن الإيمان هو أن يعلم كل حق وباطل، وأن الإيمان هو العلم بالقلب دون القول والعمل، ويحكى عنه أنه قال: هو الإقرار والعلم، وليس هو أحد الأمرين دون الآخر. انظر: الملل والنحل (1/ 125 ـ 127)، ومقالات الإسلاميين (ص113)، والتنبيه والرد للملطي (ص169) والبرهان (ص23). (56) الأزارقة: وهم أتباع أبي راشد نافع بن الأزرق، وهو أول من أحدث الخلاف في الخوارج، فقال في بدء الأمر بالبراءة من القَعَدة الذين لم يهاجروا إليهم وكفَّرهم، وقال بالمحنة لمن قصد معسكره، ومن أهم معتقداتهم: إباحة قتل نساء وأطفال مخالفيهم، وأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار، وأسقطوا حد الرجم لعدم وروده في القرآن، وتجويزهم أن يبعث الله نبياً يعلم أنه يكفر بعد نبوته. انظر: الفرق بين الفرق (ص82)، والملل والنحل (1/ 118)، ومقالات الإسلاميين (ص86)، والتنبيه والرد للملطي (ص54)، والبرهان (ص20).

(57) النجدات: أتباع نجدة بن عامر الحنفي، انفصل عن نافع بن الأزرق بعدما أحدث نافع القول باستباحة قتل أطفال مخالفيه، وحكمه على القعَدة بالشرك، ورجع نجدة إلى اليمامة وبويع بالإمامة، وكرد فعل لأقوال نافع أجاز نجدة التقية والقعود عن الجهاد. انظر: مقالات الإسلاميين (ص89)، والفرق بين الفرق (ص87)، والملل والنحل (1/ 122)، ودراسات عن الفرق (ص57). (58) الصفرية: اختلف المؤرخون في نسبة هذه الفرقة، والظاهر أنها تُنسب إلى عبد الله بن صفار التميمي، الذي كان مع نافع بن الأزرق ثم انفصل عنه، وهم أقلُّ غلواً من الأزراقة، واشتهر عنهم عدم تكفير القعدة الموافقين لهم، ولم يكفروا أصحاب الكبائر الذين ورد فيهم حدٌّ. انظر: مقالات الإسلاميين (ص101)، والفرق بين الفرق (ص90)، والملل والنحل (1/ 137)، ودراسات عن الفرق (ص59). (59) الإباضية: أتباع عبد الله بن إباض بن ثعلبة التميمي، كان في أول أمره مع نافع بن الأزرق، ثم انشق عنه وكون مذهباً ترأسه هو، وقالوا: إن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة لا ملة. انظر: الفرق بين الفرق (ص103)، والملل والنحل (1/ 134)، والتنبيه والرد للملطي (ص55)، والبرهان (ص22). (60) الحفصية: من فرق الإباضية، أتباع ابن أبي المقدام، تميز عنهم بقوله: إن بين الشرك والإيمان خصلة واحدة، وهي معرفة الله تعالى وحده، فمن عرفه ثم

كفر بما سواه من الرسل والكتب واليوم الآخر وارتكب الكبائر، فهو كافر لكنه بريء من الشرك. انظر: الملل والنحل (1/ 135 ـ 136)، والفرق بين الفرق (ص104)، ومقالات الإسلاميين (ص102). (61) اليزيدية: من فرق الإباضية، أتباع يزيد بن أبي أنيسة، قال بتولي المحكمة قبل الأزارقة، وتبرأ ممن بعدهم إلا الإباضية، وزعم أن الله سيبعث نبياً من العجم، وقال: كل ذنب صغير أو كبير فهو شرك. انظر: الملل والنحل (1/ 136)، ومقالات الإسلاميين (ص103)، والبرهان (ص29). (62) الحارثية: من فرق الإباضية، أتباع حارث بن يزيد الإباضي، وافقوا المعتزلة في القدر، وزعموا أنه لم يكن لهم إمام بعد المحكّمة الأولى إلا عبد الله بن إباض، وبعده حارث بن يزيد الإباضي. انظر: الفرق بين الفرق (ص105)، والملل والنحل (1/ 136)، ومقالات الإسلاميين (ص104). (63) المطيعية: أصحاب طاعة لا يراد بها الله تعالى، زعموا أنه يصح وجود طاعات ممن لا يريد الله تعالى بها، وافقوا في ذلك مذهب الهذيلية من المعتزلة. انظر: الفرق بين الفرق (ص105)، ومقالات الإسلاميين (ص105). (64) العجاردة: من فرق الخوارج، أتباع عبد الكريم بن عجرد، وكان من أتباع عطية بن الأسود، والعجاردة فرق كثيرة يجمعهم القول بأن الطفل يدعى إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك. انظر: الفرق بين الفرق (ص93)، والملل والنحل (1/ 128)، ومقالات الإسلاميين (ص93)، والتنبيه والرد للملطي (ص168)، والبرهان (ص23).

(65) الميمونية: من فرق العجاردة، أتباع ميمون بن خالد، وخالف العجاردة في إثباته القدر خيره وشره من العبد، وأن الله يريد الخير دون الشر، وحكى الكعبي عن الميمونية إنكارها لسورة يوسف من القرآن. انظر: الملل والنحل (1/ 129)، والبرهان (ص27). (66) الشعيبية: من فرق العجاردة، أتباع شعيب بن محمد، وكان مع ميمون بن خالد ثم برئ منه عندما أظهر القول بالقدر. انظر: الملل والنحل (1/ 131)، الفرق بين الفرق (ص95)، مقالات الإسلاميين (ص94). (67) الحازمية: من فرق العجاردة، أتباع حازم بن علي، قالوا إن الله خالق أعمال العباد، ولا يكون في سلطانه إلا ما يشاء، ويحكى عنهم أنهم يتوقفون في أمر علي رضي الله عنه، ولا يصرحون بالبراءة منه، ويصرحون بالبراءة في حق غيره. انظر: الملل والنحل (1/ 131). (68) الخازمية: هكذا في نسخة "غ" وهم من فرق العجاردة ـ أيضاً ـ وهم أكثر عجاردة سجستان، خالفوا الخوارج في باب القدر والاستطاعة والمشيئة، وكفّروا الميمونية وخالفوا أكثر الخوارج في الولاية والعدواة. انظر: الفرق بين الفرق (ص94) والأنساب للسمعاني (5/ 171). (69) الحمزية: من فرق العجاردة، أتباع حمزة بن أدرك ـ وقيل أكرك ـ وافق الميمونية في سائر بدعها إلا في أطفال المشركين فقال إنهم في النار، وجوَّز إمامين في عصر واحد ما لم تجتمع الكلمة، ولم يقهر الأعداء. انظر: الملل

والنحل (1/ 129)، والفرق بين الفرق (ص98)، ومقالات الإسلاميين (ص93)، والتنبيه والرد للملطي (ص56). (70 و71) المعلومية والمجهولية: من فرق العجاردة، وكانوا في الأصل حازمية، إلا أن المعلومية قالت: من لم يعرف الله تعالى بجميع أسمائه وصفاته فهو جاهل به، وأن الفعل مخلوق للعبد، وأما المجهولية فقالت: من علم بعض أسماء الله تعالى وصفاته وجهل بعضها فقد عرف الله تعالى، وأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. انظر: الملل والنحل (1/ 133 ـ 134)، والفرق بين الفرق (ص97)، ومقالات الإسلاميين (ص96 ـ 97)، والبرهان (ص27). (72) الصلتية: من فرق العجاردة، أتباع عثمان بن أبي الصلت، وقيل: الصلت بن أبي الصلت، خرج عن العجاردة بقوله: إن الرجل إذا أسلم توليناه وتبرأنا من أطفاله حتى يدركوا فيقبلوا الإسلام. انظر: الفرق بين الفرق (ص97)، والملل والنحل (1/ 129)، ومقالات الإسلاميين (ص97)، والتنبيه والرد للملطي (ص57)، والبرهان (ص29). (73) الثعلبية: أتباع ثعلبة بن عامر، كان مع عبد الكريم بن عجرد، إلى أن اختلفا في أمر الأطفال، فقال ثعلبة: إنا على ولايتهم صغاراً وكباراً حتى نرى منهم إنكاراً للحق ورضا بالجور، فتبرأت العجاردة من ثعلبة، وكان يرى أخذ الزكاة من عبيدهم إذا استغنوا وإعطاءهم منها إذا افتقروا. انظر: الملل والنحل (1/ 131)، والفرق بين الفرق (ص100)، ومقالات الإسلاميين (ص97)، والبرهان (ص26).

(74) الأخنسية: من فرق الثعالبة، أتباع أخنس بن قيس، انفرد عنهم بقوله: أتوقف في جميع من كان في دار التقية من أهل القبلة، إلا من عرف منه إيمان فأتولاه عليه، أو كفر فأتبرأ منه، وقال بجواز تزويج المسلمات من مشركي قومهم. انظر: الملل والنحل (1/ 132)، والفرق بين الفرق (ص101)، ومقالات الإسلاميين (ص97). (75) المعبدية: من فرق الثعالبة، أتباع معبد بن عبد الرحمن، خالف الأخنسية في جواز تزويج المسلمات من مشرك، وخالف الثعلبية في أخذ الزكاة من العبيد. انظر: الملل والنحل (1/ 132)، والفرق بين الفرق (ص101)، ومقالات الإسلاميين (ص98). (76) الشيبانية: من فرق الثعالبة، أتباع شيبان بن سلمة، وافق الجهم في القول بالجبر. انظر: الملل والنحل (1/ 132)، والفرق بين الفرق (ص102)، ومقالات الإسلاميين (ص98). (77) المكرمية: من فرق الثعالبة، أتباع مكرم بن عبد الله العجلي، تفرد عن الثعالبة بقول تارك الصلاة كافر، لا من أجل تركه للصلاة، ولكن لجهله بالله تعالى. انظر: الفرق بين الفرق (ص103)، والملل والنحل (1/ 133)، ومقالات الإسلاميين (ص100). (78) المرجئة: هم الذين أخروا العمل عن الإيمان، وأكثر فرق المرجئة تقول إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقد قسمهم الشهرستاني إلى أربعة أصناف:

مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة، وقسمهم الأشعري إلى اثني عشرة فرقة، وأشهر فرق المرجئة الجهمية والأشاعرة ومرجئة الفقهاء، وهذه الفرق الثلاثة انتشرت أقوالهم أكثر من بقية فرق المرجئة الأخرى. انظر: الملل والنحل (1/ 139)، والفرق بين الفرق (ص202)، ومقالات الإسلاميين (ص132)، والتنبيه والرد للملطي (ص47)، والبرهان (ص33). (79) العُبيدية: من فرق المرجئة، أتباع عبيد المكتئب، قال: إن ما دون الشرك مغفور لا محالة، والعبد إذا مات على توحيده لا يضره ما اقترف من الآثام واجترح من السيئات. انظر: الملل والنحل (1/ 140). (80) اليونسية: من فرق المرجئة، أتباع يونس بن عون النميري، زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله، والخضوع له، وترك الاستكبار عليه، والمحبة بالقلب، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن، وما سوى ذلك من الطاعة فليس من الإيمان ولا يضر تركها حقيقة الإيمان. انظر: الملل والنحل (1/ 140)، الفرق بين الفرق (ص202)، ومقالات الإسلاميين (ص134). (81) الغسَّانية: من فرق المرجئة، أتباع غسان الكوفي، زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وبرسله، والإقرار بما أنزل الله، وبما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الجملة دون تفصيل، والإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقال: (من قال): أعلم أن الله تعالى حرم الخنزير، ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه هذه الشاة أم غيرها؟ كان مؤمناً. انظر: الملل والنحل (1/ 141)، والفرق بين الفرق (ص203).

(82) الثوبانية: من فرق المرجئة، أتباع أبي ثوبان المرجئ، زعم أن الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله تعالى، وبرسله، وبكل ما يجوز في العقل أن يفعله، وما جاز في العقل تركه فليست معرفته من الإيمان، وأخر العمل كله عن الإيمان. انظر: الفرق بين الفرق (ص204)، والملل والنحل (1/ 142)، ومقالات الإسلاميين (ص135)، والبرهان (ص44). (83) والتومنية: من فرق المرجئة، أتباع أبي معاذ التومني، زعم أن الإيمان هو ما عصم من الكفر، وهو اسم لخصال إذا تركها التارك كفر، وكذلك لو ترك خصلة واحدة منها كفر. انظر: الملل والنحل (1/ 144)، والفرق بين الفرق (ص203)، ومقالات الإسلاميين (ص139). (84) النجارية: من فرق الجبرية، أتباع الحسين بن محمد النجار، وافق المعتزلة في نفي الصفات، ووافق الأشعري في مسألة الكسب وقال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. انظر: الفرق بين الفرق (ص209)، والملل والنحل (1/ 88)، ومقالات الإسلاميين (ص135)، والبرهان (ص39). (85) البرغوثية: من فرق النجارية، أتباع محمد بن عيسى الملقب ببرغوث، خالف النجارية في تسمية المكتسب فاعلاً، فامتنع منه وأطلقه النجار. انظر: الفرق بين الفرق (ص109)، والملل والنحل (1/ 189). (86) الزعفرانية: من فرق النجارية، أتباع الزعفراني، قالوا: إن كلام الله تعالى غيره، وكل ما هو غير الله تعالى مخلوق، ثم يقول: الكلب خير ممن يقول

كلام الله مخلوق. انظر: الفرق بين الفرق (ص209)، والملل والنحل (1/ 89). (87) المستدركة: من فرق النجارية، زعموا أنهم استدركوا ما خفي على أسلافهم، لأن أسلافهم منعوا إطلاق القول بأن القرآن مخلوق، وقالوا هم بخلق القرآن. انظر: الفرق بين الفرق (ص210)، والملل والنحل (1/ 89). (88) الجبرية: هم الذين يقولون إن العبد مجبور على أفعاله لا اختيار له، ولا يقدر على الفعل أصلاً، وأن الله تعالى جبر العباد على الإيمان أو الكفر. انظر: الملل والنحل (1/ 79)، والبرهان للسكسكي (ص42 ـ 43). (89) المشبهة: هم الذين شبهوا ذات الله تعالى بذات غيره، وصفاته بصفات غيره، وهم طوائف كثيرة كالسبئية، والبيانية والخطابية والكرامية وغيرهم. انظر: الفرق بين الفرق (ص225 ـ 230)، ومقالات الإسلاميين (ص221 و430 و491 و518 و521 و564).

§1/1