الاعتصام بالإسلام

عمر العرباوي

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} الاعتصام بالإسلام عمر العرباوي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المتفرد بالبقاء والقهر الواحد الأحد الفرد الصمد ذي العزة والجبروت، والجلال والكمال، الذي لا ند له فيبارى ولا معارض له فيند عن حكمه، ولا شريك له فيمارى، كتب الفناء على خلقه وجعل ثواب الذين اتقوا الجنة وعقبى الكافرين النار. أحمده على حلو القضاء ومره، وأعوذ به من سطوته ومكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها لم يزل عظيما جبارا قهارا قويا جل عن الشبيه والنظير، وتعالى عن الشريك والظهير وتقدس عن التعطيل وتنزه عن المثيل. وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات وسلم تسليما كثيرا متصلا ما تعاقب الليل والنهار. وبعد لم يشهد التاريخ عصرا كهذا العصر الذي نعيش فيه من حيث الهياج الفكري الذي استبد بالناس حول الدين، فكان في كل عقل بليال ووسوسة، وفي كل مجتمع تدافع وجذب، فدخل سلطان العقل على كل قضية من قضايا الدين، فلم يدع واجبا ولا خاطرا يمر في كيان الإنسان إلا أمسك به وعالجه معالجة الكيمائي، ونقده نقد الصيرفي حتى المسلمات التي رضي الناس بها واطمأنوا إليها فأدخل عليها الشك. وقد كان للدين الإسلامي النصيب الأوفر من هذه الثورة الملحدة عليه، فأصبح الناس ينظرون إليه كآفة مزعج مقلق عائق عن التقدم، لأن هؤلاء (الملحدين) يقولون (الله خرافة، والدين وهم وخداع وعملية تخدير لسقام العقول، وضعفاء الأحلام، والمتدينون به جهلاء أغبياء واقعون تحت تأثير هذا المخدر) هذا بعض ما يقولون عن الدين، ولا يزالون يقولون إلى الآن وإلى

الغد، إنه لقول يدير الرؤوس ويزعج مواطن السكينة في قلوب المؤمنين. أما العلماء المفكرون المنصفون من الأجانب فبحثوه بحثا دقيقا بحيث وضعوه تحت المجاهر الفاحصة، فوجدوه ميزانا. عادلا في الأخلاق والاستقامة والأحكام، والمساواة بين الناس مؤيدا للعقل سائرا على الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها. الدين مبناه وأساسه على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهو عدل كله ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى القسوة وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الدين في شيء وإن أدخلت فيها التأويلات، الدين عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهو نوره الذي أبصر به المبصرون، وهداه الذي اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي هو دواء لكل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل فهو قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح، به الحياة والغذاء، والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنه مستفاد منه وخاص به، وكل نقص في الوجود فبعدم الأخذ به ولولا رسم قد بقي منه لخربت الدنيا وطوى العالم، وبه يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع الله ما بقي من رسمه فالدين هو الذي بعث به رسوله الكريم وهو قطب الفلاح والسعادة في الدنيا والأخرى. القانون الطبيعي للأمم هو كل أمة تستعمل ما أتاها الله من قوى الفكر والعقل إلا العالم الإسلامي فإنه اليوم خليط من بقايا موروثة من عصور الظلام بسبب جلب ثقافات حديثة من تيار حركة أوربية، وهي خليط لم تصدر - كما رأينا - عن توجيه، علمي مدروس مبني على أسس أخلاقنا وعوائدنا، وإنما هي مجموعة من رواسب قديمة لم تصف من طابع القدم،

ومستحدثات لم تتم تنقيتها، هذا التلفيق لعناصر من عصور مختلفة ومن ثقافات متتانية من أدنى غير ربط طبيعي أو منطقي يربط بينهما عالم متضارب منطوي على ألوان من التناقض والتنافر التي تجمعت وتراكمت في المسلمين اليوم لا هم شرقيون ولا هم غربيون، فهضم العناصر المستوردة يقتضي تميزا دقيقا وفكرا ناقدا يقظا محدد الشروط التي يلزم توافرها في الاستعمالات الضرورية أعني شروط توافقها وتفهمها ولياقتها، لقد وجد المجتمع الإسلامي الأول نسفه مرات كثيرة في مواجهة مشكلات من هذا النوع فحلها في كل مرة بطريقة واعية موفقة لا سيما حين حاول اختيار طريقة الدعوة إلى الصلاة، ففكر بعض الصحابة رضي الله عنهم، في الجرس، أو البوق، أو إشعال النار عند وقت الصلاة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته قد اختاروا بعد تفكر وتأمل طريقة أصيلة في النداء وهو صوت الإنسان فنشأت حينئذ وظيفة المؤذن وبذلك تحاشوا مشكلة استيراد الأجراس وغيرها (¬1). وهناك عادات وتقاليد كثيرة أخدها العالم الإسلامي الأول، كانت بعد اختيار مشدد، واختيار بين وسيلة وأخرى وبين الطرق والأفكار، فالخطأ الذي وقع فيه المحدثون ودعاة الإصلاح اليوم ناتج على أن كليهما لم يتجه إلى مصدر إلهامه الحق، فالإصلاحيون لم يتجهوا حقيقة إلى أصول الفكر الإسلامي كما أن المحدثين لم يعمدوا إلى أصول الفكر الغربي. يجب على العالم الإسلامي في هذا العصر أن يوفق بين العلم والضمير وبين الأخلاق والصناعة وبين الطبيعة وما وراء الطبيعة ولو أنه سائر في الطريق إليها يجب على المسلمين اليوم أن يمضوا قدما في طريق البحث والتحقيق والاكتشاف حتى يصلوا إلى جانب رقيهم الفكري والمادي وكل أمة تتقاعد عن السباق في حلبة الفكر والتعمق في العلم تصاب مع انحطاطها العقلي بالتقهقر والاضمحلال المادي كذلك ولما كانت الغلبة نتيجة القوى، والهزيمة عاقبة الضعف فإن الأمم المتخلفة من الجهتين المعنوية والمادية كلها تهبط في دركات ¬

_ (¬1) الظاهرة القرآنية

الضعف والفتور، وتصبح صالحة للعبودية وأكثرها استعدادا للخنوع، إن المسلمين يعانون اليوم من هذه العبودية المضاعفة، فبعضهم توجد فيهم العبودية بنوعيها جميعا، وفي البعض الآخر يقل فيه جانب العبودية السياسية وتوجد فيه جانب العبودية المعنوية، ومن سوء الحظ أنه ليست لهم على ظهر الأرض رقعة إسلامية. واحدة مستقلة تمام الاستقلال من الوجهتين السياسية والمعنوية (¬1). ويعتبر المسلمون اليوم أن الحق هو ما عند الغرب، والباطل ما يعده الغرب باطلا، والقياس الصحيح للحق والصدق والآداب والأخلاق والإنسانية والتهذيب هو ما يقرره الغرب، ولذلك أصبحوا يقيسون العقيدة الإسلامية والإيمان بالله عز وجل، وأحكام الإسلام بمقياس الغرب، فكل ما يطابق منها مقياس الغرب يطمئنون إليه، أما ما لا يطابقه فيظنونه خطأ وباطلا. وأن الغلبة والاستيلاء يقوم بنيانه في الحقيقة على الاجتهاد والتحقيق العلمي فكل أمة تسبق غيرها إليه تتولى قيادة العالم وزعامة الأمم وتستولي أفكارها على العقول، وأما الأمة التي تتخلف في هذا الطريق فلا تجد مناصا من اتباع الغير وتقليده إذ لا تبقى في أفكارها ومعتقداتها من القوة والأصالة ما يكسبها السيطرة على الأدهان فيجر فيها تيار الأفكار القوية والمعتقدات الراسخة التي تتقدم بها الأمة الباحثة المجتهدة، كان الفكر الإسلامي غالبا على أفكار النوع الإنساني بأجمعه وكل ما اتخذه الإسلام من المقياس للخير والشر والحسن والقبيح والخطأ والصحيح يكون مقياسا صحيحا عند جميع أهل الأرض. كل الحضارات التي كانت على وجه الأرض ذابت بكل سهولة في الحضارة الغربية وتلونت بلونها بدون أن يقع بين هذه وتلك كبير احتكاك، ولكن المسلمين كانت حالهم غير حال تلك الأمم جميعا لأنهم حاملو حضارة مستقلة ذات دستور واضح متكامل شامل لجميع شعب الحياة الإنسانية من ناحيتي الفكر والعمل، ¬

_ (¬1) مالك بن النبي

تختلف اختلافا كليا عن مبادئ الحضارة الغربية فكانت بطبيعة الحال - أن هاتين الحضارتين تتزاحمان في كل مجال. وتصطدمان على كل صعيد، ولا يزال هذا الصدام قائما بين القوتين إلى هذا اليوم، يؤثر في كل شعبة من شعب حياة المسلمين العلمية والعقائدية أسوأ الآثار. من القواعد الكلية التي أثبتها القرآن، أن الله تعالى {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} حتى يهلك أمة بلا سبب، وهي تعمل صالحا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (¬1)، وليس المراد بهذا الهلاك أن تنقلب الأرض على أهلها، بل تتشتت الأمم وتكسر قوتها الاجتماعية، وتضرب عليها الذلة والعبودية والخزي، وحسب القاعدة القرآنية لا يصيب هذا العذاب أمة من الأمم إلا إذا تركت منهج الخير والصلاح، وأخذت تسلك مناهج الشر والفساد، والعتو والطغيان وبذلك ظلمت نفسها بنفسها، وأن الله ما ذكر أمة أصيبت بعذاب إلا وذكر جريمتها ثباتا لتلك القاعدة القرآنية حتى يتبين للناس أن وبال أعمالهم السيئة هو الذي يفسد دنياهم وآخرتهم {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} سورة العنكبوت، ولا يكون هو الفساد الفردي بل هو الفساد الجماعي فالعناية الإلهية هي التي تتصرف في هذه الأمة، ويبدأ المجتمع الفاسد في الهبوط من علياء عزه إلى درك الهوان حتى تحين الساعة التي يهيج فيها غضب الله فيدمرها تدميرا هذا هو سبب الهلاك، إذا أراد المسلمون أن يكون لهم نصر مؤزر وغير هزيل، ومصحوب بالدوام والاستمرار فيحافظوا على الإسلام، وعلى ما جاء به من الوحدة وغيرها، لأن توجيهات القرآن وإرشاداته صريحة في هذا المعنى، ومن خلال انتصار المسلمين في الماضي كانت موافقة لما أمر به القرآن الكريم رغم نقصهم في العدة والعدد، لأن هذه الانتصارات الرائعة التي وقعت للمسلمين على أعدائهم سواء كانت في الماضي ¬

_ (¬1) سورة هود عليه السلام

أو الحاضر فهي وعد من الله للمسلمين إن هم داموا سائرين على خط الإسلام، فلا بد من تحقيق هذا الوعد قال: الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1) فما بال المسلمين لم ينتصروا عدة قرون وهم منهزمون، أترى أن الله يخلف وعده كلا. ... فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2) وإنما المسلمون نقضوا الشرط الذي شرطه الله عليهم في الآية المتقدمة. إذا تركت الشعوب الإسلامية الدين بعيدا عن حياتها، كما هو الآن - في أوطان المسلمين، ولم تجعله أساسا لشؤونها، فإنها لن تستطيع أن تقوم بنهضة قوية وعندئذ لا يقدر أي مبدأ من المبادئ المستوردة أن يوحد بينها، فتنا بها عوامل الضعف والتخاذل والتفرقة، وهذا ما وقع في الماضي، وكان السبب في سقوطها فريسة بين أيدي أعدائها، ولازال هذا التفرق إلى الآن بكل أسف. الأمة الإسلامية - في تاريخها الطويل العريض - لم تحارب أعداءها باسم أي مبدأ من المبادئ الوضعية، وإنما حاربت باسم الإسلام ولهذا كانت تخرج من المعارك ظافرة ومنتصرة. ونأتي بمثال واحد - من بين الأمثلة الكثيرة - شاهدا على ذلك يلمسه كل من باشر ثورة الجزائر الكبرى، حين وصل الإيمان بالله عز وجل إلى قلوب الشباب عن طريق الدعوة فسرعان ما تناسى حظوظه الشخصية واتحد، وبرز يكافح ويناضل، ويجاهد في سبيل الله في كل مكان لاسترجاع كرامته المهدورة وحقوقه المهضومة. وسيادته المغصوبة ولو دعى باسم مبدأ آخر خلاف الإسلام لما لبى النداء أبدا، ولهذا ضرب ¬

_ (¬1) سورة النور (¬2) الروم

الأمثال الرائعة في الشجاعة والتضحية والفداء، فصمد في وجه أكبر قوة غاشمة، وهي قوة الغرب الطاغية المستبدة على شعوب العالم كما صمد أجداده من قبل في وجه الفرس والرومان. ما هي إلا لحظات من لحظات الدهر الحاسمة، صبر فيها المجاهدون الأبرار حتى نزل النصر من عند الله، وتغيرت الأوضاع والمعالم، ولاذ الغاصبون بالفرار، ولم تغن عنهم قوتهم، ولا سلاحهم المتطور، بهذه العقيدة الربانية انتهى عهد الظلام بطلوع فجر صادق تتلألأ أشعته في الآفاق، .... كم كان يحمل جسم الأمة الإسلامية المثخن بالجراح من حصانة ومناعة ومقاومة على مر الأزمات والاحقاب، ولولا الإسلام لانقرضت هذه الأمة من الوجود كما انقرضت عاد وثمود في الزمن الغابر، وكيف تتقرض وهي من بقيت السلف الصالح، ومن حملة العقائد الصحيحة والمبادئ السامية .... كان قادة الثورة الجزائرية أيام حرب التحرير يحثون الشعب بصفة عامة والمجاهدين بصفة خاصة على تطبيق أوامر الإسلام والعمل بها واجتناب نواهيه، وكانوا يعاقبون كل من يتعد حدوده. لقد أثار كفاح الجزائريين الهامدين ونيه النائمين والغافلين فكان المجاهد الجزائري حاضرا للعمل مهيأ للبذل والعطاء مستعدا للفداء مدربا على خوض المعارك معتزما الاستشهاد في سبيل الله حمل السلاح ومضى إلى ميادين القتال، فبدأ هجوماته على العدو بكلمة (الله أكبر) فكان النصر حليفه، لم يشهد العالم الإسلامي ثورة مسلمة مسلحة مثلها في العصور الأخيرة من عصور المسلمين أكثر ضحايا وأطول مدة لم تقتصر هذه الثورة على الجزائريين وحدهم، بل فتحت الطريق لشعوب آسيا وافريقيا لمحاربة الاستعمار الذي كان جاثما على صدرها ومند اندلاع الثورة في الجزائر، وهذه الشعوب تكافح وتناضل حتى تحررت نهائيا، ولما دعي الشعب الجزائري إلى الثورة، لم يعد كفاحهم هتافا

وتصفيقا بل كان عملا وتضحية ولم يعد جهادهم دعاية وتهريجا، بل كان فداء واستشهادا. وتعذيبا وتنكيلا، هذه الثورة كلفت الشعب الجزائري ثمنا باهضا من التضحيات الجسيمة فسقط ما يربو عن مليون شهيد في الاشتباكات على مستوى الوطن، تحت قنابل المدافع والنبالم والطائرات وأزيز الرصاص وعلى أعواد المشانق وشفرات المقاصل وتحت الهدم، أما العذاب الذي أنزل على رأس الأمة الغالب لم ينجو منه أحد، والتخريب ودك الدور والمنازل وهتك الأعراض والشرف فحدث عن ذلك ولا حرج. وامتازت مقاومة الجزائر لجيش الاحتلال الفرنسي ببطولة نادرة لم يكن هذا الاحتلال نزهة عسكرية كما يقولون، بل اصطدم بأناس أقوياء في إيمانهم صلب في عزائمهم لا كما كان يظن الاستعمار أنهم أناس متأخرون وهذا ما شهد به قائد الاحتلال (الجنرال بيجو) قال: (إن العرب كلهم أهل حرب وبأس يخوضون غمار الحروب من الشيخ الهرم البالغ من العمر ثمانين سنة إلى الطفل البالغ خمسة عشرة سنة) واعترف المؤرخون الفرنسيون بشخصية الجزائر المسلمة كوحدة قومية تنتمي إلى المجموعة الإسلامية، وهذا ما شهد به المؤرخ الفرنسي (لورد ليو) في كتابه الجزائر وتونس قال: (إن فرنسا استولت سنة 1930 على قطر عامر غني زرعا وذرعا يذود عن حوضه سكان عديدون يحبون الحرب ولا يعرفون للفشل ولا للملل معنى، إن هؤلاء السكان من جنس عريق استوطنوا افريقيا منذ زمن عتيق، توالت عليهم في هذا القطر قرون وأجيال، فهم أصحاب مدينة رائعة، يكونون هيئة اجتماعية منظمة، تتوفر فيها شروط الحياة والقوة، تعتز بوطنيتها كل اعتزاز، وبفضل أخلاقها وعاداتها ودياناتها، كانت تنفر من الاندماج إلى أي جنس ما، ومما يزيد في الطين بلة، هو دين هذا الجنس دين عزيز لا يغلب ولا يقهر، قوه دافعة جبارة يستمدها من بساطة مبادئه ووضوحها إلى غير ذلك من شهادة المؤرخين الأجانب.

كتبت عدة كتب عن الثورة الجزائرية، كان أكثر الكتاب غربيين من صحافيين ومؤلفين، تناولت بعض الأحداث الظاهرة في الثورة التي نجمت عنها. وعلى الحرب المدمرة وإبادة السكان وعلى العذاب والتنكيل، والقتل الجماعي الذى كان يستعمله الجيش الفرنسي، واندفاع الشعب الجزائري ومغامرته بحياته في هذه الحرب القذرة، وعلى المؤتمرات التي كانت تعقد في الشرق والغرب من أجل انتهائها، وعلى المناضل الجزائري وما كان يحمل بين طياته من شجاعة وعبقرية فذة، وصور إنسانية حية سليقة فيه، هذا كله تكلموا عنه لكنهم أهملوا العنصر الأساسي الذي قامت عليه الثورة، والذي أمدها بقوة غلابة وقادها حتى النصر النهائي، وسواء أكان ذلك عن قصد أم عن غير قصد؟ فالدين هو الذى كان سببا في جميع كلمة الأمة، وبعث فيها روح الجهاد والتضحية، وقادة الثورة جعلوه دستورا لها سارت عليه من بدايتها إلى نهايتها، ولولاه لما اجتمعت الأمة على مقاومة الاستعمار، والعالم كله يشهد بذلك، أفبعد هذا الانتصار الرائع يتنكر الشعب من بعد الاستقلال للإسلام ويتهمه بالرجعية وعدم مسايرته للتطور الحضاري؟ اللهم فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، ولما رأيت أن الكتاب عن الثورة لم يشيروا إلى الدين الذي هو عنصر فعال فيها لا من قريب ولا من بعيد، عزمت على أن أكتب على هذا الجانب الروحي الذي سرى تياره في هذه الأمة منذ زمن بعيد وما كادت تسمع صوته من الدعاة حتى صارت تتسابق إلى ميادين الجهاد - وإني أثبت الحقائق الناصعة في هذا الكتاب وأرفع الالتباس والغموض تحقيقا للواقع التاريخي، مبينا في ذلك للشعوب الإسلامية عامة وللشعوب العربية خاصة وموضحا للأجيال الصاعدة أنهم إذا حادوا عن الإسلام، ولم يجعلوه أساسا لحياتهم لم يكتب لهم النصر والتوفيق أبدا في هذا الوجود، ويبقوا تابعين لا متبوعين ...

أشرت في هذا الكتاب إلى الخلاف المستحكم الحلقات بين المسلمين والأنانية الطاغية في بعض الأفراد - ولا سيما الحكام - حتى عصفت بما كان لهم من تسامح وعدالة ووحدة. وبدأ هذا الخلاف من بعد ما التحق صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى. ومن بعد ذلك قامت الأحزاب والفرق التي نجمت من بعد حياة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين - والكوارث التي أصابت المسلمين - سواء كانت داخلية أو خارجية هي التي كانت سببا في سقوط الخلافة الشرعية ومن بعدها هبت المحن على العالم الإسلامي، فتفرق شر مذر لأنه ترك الحبل الذي كان يربطه ومن ذلك الحين لم يكن للمسلمين وحدة إلى الآن، وأصبحوا يخرجون من سيء إلى أسوأ. وأشرت إلى حرب الأمير عبد القادر مع الجيش الفرنسي والثوارات التي وقعت في عهد الاستعمار إلى ثورة 1954م، وكذلك ثورة العالم الإسلامي إشارة عابرة، لأن الذى يكتب عن الثورة الجزائرية لا يستطيع أن يفصلها عنه بحكم الروابط الدينية والتاريخية والمصيرية والحضارية. وأشرت إلى الأسباب التي قامت عليها ثورة الجزائر الكبرى، وهي: الأحزاب الوطنية، والهيئات الدينية. كانت تبث الوعي الديني والوطني فاستجاب الشعب إلى هذا الوعي. وصمد في وجه قوة الغرب، وغالب الجزء الأول من هذا الكتاب عرض تاريخي للحوادث الكبرى التي انتابت المسلمين وجعلتهم طوائف متناحرة ودولا متحاربة حتى ضعفوا وفشلوا. فطمع فيهم أعداؤهم فأصبحوا تحت رحمتهم بسبب تفكك وحدتهم وتفرق كلمتهم لأنهم خالفوا الإسلام الذي يأمرهم بالاعتصام بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا.

من هنا يجب أن يعتبر المسلمون بالماضي القريب والبعيد ليتداركوا أخطاءهم، ويلطفوا من أنانيتهم وعداوتهم لبعضهم بعضا ويلتفوا حول الدين الحنيف حتى يصبحوا أمة قوية مرهوبة الجانب تقف في وجه أعدائها المتكالبين عليها من كل ناحية {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (¬1). لأن المسلمين عندما يتنكرون للإسلام، ويتحللون من أوامره وأخلاقه يفشوا فيهم الضعف عن المقاومة والتخاذل فيما بينهم والترف الممقوت، فيعرضون أنفسهم وشعوبهم إلى احتلال أوطانهما من طرف أعدائهم. وذكرت بعض التعاليم الإسلامية لتكون حجة للمناوئين لها فكل من يعارض الإسلام لا يعرف مبادئه، ولا درسه دراسة واسعة حتى يتمكن من معرفة حقائقه، وسميته ـ[الاعتصام بالإسلام]ـ. ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء

الإيمان بالله عز وجل صنع رجالا كانوا أغمارا في الجاهلية فأصبحوا سادة العالم

الإيمان بالله عز وجل صنع رجالا كانوا أغمارا في الجاهلية فأصبحوا سادة العالم بعث محمد صلى الله عليه وسلم، والعالم مبعثر ومشتت كل شيء فيه، فهو في غير محله، نظر محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس فرأى كل واحد هانت عليه نفسه رآه يسجد للحجر والشجر والنهر، وكل ما لا يملك لنفسه النفع والضر، كان الناس يتحاكمون إلى قانون الغاب، رأى مجتمعا كل شيء فيه في غير شكله، أصبح المجرم فيه سعيدا، والصالح شقيا، لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف، ولا أعرف من المنكر. ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية وتسوقها إلى هوة الهلال ورأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة، والفجور الى حد الاستهتار، وتعاطى الربا الى حد الاغتصاب، واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال الى حد الجشع والنهامة ورأى القسوة والظلم الى حد الوأد وقتل الاولاد، ورأى ملوكا اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ورأى أحبارا ورهبانا أصبحوا أربابا من دون الله يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. رأى المواهب البشرية ضائعة لم ينتفع بها أحد، ولم توجه التوجيه الصحيح، فعادت وبالا على الانسانية، فقد تحولت الشجاعة فتكا وهمجية، والجود تبذيرا وإسرافا، والانفة حمية جاهلية والذكاء شطارة وخديعة والعقل وسيلة لابتكار الجنايات، والابداع في ارضاء الشهوات رأى هذا كله وأكثر منه في بيئته الخاصة وفي العالم، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا اقليميا أو زعيما وطنيا، أو مصلحا لناحية من نواحي المجتمع اذ مجال العمل في بلاد العرب فسيح، لو كان رجلا إقليميا لسار في قومه سيرة القادة السياسيين والزعماء الوطنيين، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث لينسخ باطلا بباطل ويبدل عدوانا بعدوان، ويحرم شيئا في مكان ويحله في مكان آخر، لم يبعث زعيما وطنيا، أو قائدا سياسيا، وإنما أرسل الى الناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا وأرسل ليخرج عباد الله جميعا

من عبادة العباد الى عبادة الله وحده ويخرج الناس جميعا من ضيق الدنيا الى سعتها ومن جور الاديان الى عدل الاسلام {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (¬1) فلم يكن خطابه لأمة دون أمة ووطن دون وطن، ولكن كان خطابه للنفس البشرية والمصير الإنساني، وكانت أم القرى لموقعها الجغرافي واستقلالها السياسي خير مركز لرسالته وكانت الأمة العربية بخصائصها النفسية ومزاياها الأدبية خير محل لدعوته وخير داعية لرسالته. لم يكن صلى الله عليه وسلم من عامة المصلحين فحسب، بل أتى بالإصلاح الشامل لجميع نواحي الانسانية، أتى بالإيمان بالله وحده، ورفض الأوثان والشرك والكفر والطاغوت والظلم والبغي بكل معانى الكلمة، وقام في القوم ينادى (أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) ودعاهم إلى الايمان برسالته والايمان باليوم الآخر. أدرك عباد الاوثان والشهوة والمادة عندما قرع أسماعهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم أن دعوته الى الايمان بالله وحده سهم مسدد الى كبد الجاهلية، فقامت قيامتها ودافعت عن تراثها، وقاتلت في سبيلها قتال المستميت {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} (1) ووجد كل واحد من هذا المجتمع الجاهلي نفسه مهددة، وحياته في خطر، وهنا وقع ما تحدث عنه التاريخ من حوادث الاضطهاد والتعذيب، وكان ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه أصاب الغرض، وضرب على الوتر الحساس، وأصاب الكفر في صميمه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته ثبوتا دونه ثبوت الراسيات لا يثنيه أذى ولا يلويه كيد ولا يلتفت الى اغراء مكث صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر حجة يدعو الى الله وحده، والايمان برسالته واليوم الآخر لا يكنى ولا يلوح ولا يلين، ولا يستكين، ولا يحابى. ولا يداهن ويرى في ذلك دواء لكل داء. ¬

_ (¬1) الأعراف

فكان الايمان بالله والانحياز اليه جد الجد لا يتقدم اليه الا جاد مخلص هانت عليه نفسه، وعزم على أن يقتحم خط النيران ويمشى اليه ولو على حسك السعدان، فتقدم اليه فتية لا يستخفهم طيش الشباب، ولا يستهويهم مطمح من مطامح الدنيا وانما همهم الأخرة وبغيتهم الجنة. سمعوا مناديا ينادي للإيمان أن أمنوا بربكم، فضاقت عليهم الحياة الجاهلية بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم فرأوا أنهم لا يسعهم الا الايمان بالله ورسوله فأمنوا وتقدموا الى النبي صلى الله عليه وسلم ووضعوا أيديهم في يديه، وأسلموا أنفسهم وأرواحهم اليه، وهم من حياتهم على خطر، ومن البلاء والمحنة على يقين، سمعوا القرآن يقول {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬1) وسمعوا قوله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (¬2) فما كان من قريش الا ما توقعوه، قد نتروا كنانتهم وأطلقوا عليهم كل سهم من سهامها فما زادهم كل ذلك الا ثقة وتجلدا وقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬3) ولم يزدهم هذا البلاء والاضطهاد في الدين الا متانة في عقيدتهم وحمية لدينهم ومقتا للكفر وأهله واشتعالا لعاطفتهم وتمحيصا لنفوسهم فاصبحوا كالتبر المسبوك واللجين الصافي. وخرجوا من كل محنة وبلاء خروج السيف بعد الجلاء. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يغذى أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ويحثهم على الخضوع أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب وخضوع جسم وحضور عقل فيزدارون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت (¬2) سورة البقرة (¬3) سورة الأحزاب

خلق وتحررا من سلطان الماديات، ومقاومة الشهوات نزوعا الى رب الأرض والسموات، فكان يأخذهم بالصبر على الاذى والصفح الجميل، وقهر النفس لقد رضعوا حب الحرب. وكأنهم ولدوا مع السيف، وكيف لا؟ وهم من أمة اشتهرت بالهمة والشجاعة والفصاحة والنبل وحسن الشيم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقهر همتهم الحربية، ويكبح نخوتهم العربية ويقول لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم وتحملوا من قريش ما تسبل به النفوس في غير حين وفي غير عجز، ولم يسجل التاريخ حادثة دفع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي إلى أن أذن الله لرسوله بالهجرة مع أصحابه. التقى أهل مكة بأهل يترب لا يجمع بينهما الا الدين الجديد، فكان أروع منظر لسلطان شهده التاريخ فألف الإسلام بين قلوبهم، ولو أنفقا احد ما في الأرض جميعا ما ألف بين قلوبهم، ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين المهاجرين، فكانت تزرى بأخوة الأشقاء. كانت هذه الجماعة نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام في كل زمان ومكان. وكانت وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهددها وعصمة للإنسانية من الغش والأخطار لذا قال الله سبحانه وتعالى: في حق هذه الجماعة {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (¬1). لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية عميقة، ولم يزل القرآن يسمو بأنفسهم ويذكى جمرة قلوبهم، ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم رسوخا في الدين وعزوفا عن الشهوات وتفانيا في سبيل مرضاة الله، وحنينا الى الجنة، وحرصا على العلم وفقها في الدين، ومحاسبة للنفس يطيعون الرسول في المنشط والمكره، وينفرون في سبيل الله خفافا وثقالا، قد خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم للقتال سبعا وعشرين مرة في ظرف عشر سنين، وخرجوا بأمره لقتال ¬

_ (¬1) سورة الأنفال

العدو أكثر من مائة مرة فهان عليهم التخلي عن الدنيا، وهانت عليهم رزئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم، ونزلت الآيات التي تأمر بإنفاق الأموال والجهاد بالنفس والولد والعشيرة، فنشطوا وخضعوا لامتثال أمرها. انحلت العقدة الكبرى - عقدة الشرك والكفر - فانحلت جميع العقد فانتصر الاسلام فكانوا لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى، ولا تكون لهم الخيرة من بعد ما أمر ونهى حدثوا الرسول عما اختانوا به أنفسهم وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد اذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد وأنصفوا من نفوسهم انصافهم من غيرهم وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة لا تجزعهم مصيبة ولا تبطرهم نعمة، ولا يشغلهم فقر، ولا يطفهم غنى ولا تلهيهم تجارة، ولا تستخفهم قوة، ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، وطالهم أكناف الأرض وأصبحوا عصمة للبشرية، ووقاية للعالم، وداعية الى دين الله، واستخلفهم رسول الله في عمله، ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته. انتقل العرب والذين أسلموا عن معرفة الجاهلية العليلة الغامضة الميتة الى معرفة عميقة واضحة روحية ذات سلطان على الروح والنفس والقلب والجوارح ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع ذات سيطرة على الحياة وما يتصل بها. آمنوا بالله الذى له الاسماء الحسنى والمثل الأعلى، آمنوا برب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم الغفور الودود الرؤف الرحيم، له الخلق والأمر بيده ملكوت كل شيء، يجير ولا يجار عليه الى آخر ما جاء في القرآن من وصفه يثيب بالجنة ويعذب بالنار، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. يعلم الخب في السموات والأرض ويعلم خائنة العيون وما تخفى الصدور الى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصرفه وعمله، فانقلبت أنفسهم بهذا الإيمان الواسع انقلابا عجيبا، فإذا آمن

أحد بالله وشهد أن لا اله الا الله انقلبت حياته ظهرا لبطن، وتغلغل الإيمان في أحشائه، وتسرب الى جميع عروقه ومشاعره وجرى منه مجرى الروح والدم، وغمر العقل والقلب بفيضانه وجعل منه رجلا غير الرجل الأول وأظهر من روائع الايمان واليقين والصبر والشجاعة ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما جبر العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق ولا يزال موضع الحيرة والدهشة منه الى الأبد. ظهر المسلمون وتزعموا العالم، وعزلوا الطغاة عن الأمم، وساروا بالإنسانية سيرا حثيثا متزنا عدلا، وقد توفرت فيهم الصفات لقيادة الامم، لأنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة الهية فلا يشرعون من عند أنفسهم لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم، قد جعل الله لهم نورا يمشون به في الناس وشريعة يحكمون بها بين الناس {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (¬1). وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. (¬2) لأنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بدون تربية خلقية وتزكية نفس بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية محمد صلى الله عليه وسلم واشرافه الدقيق يزكيهم ويؤديهم ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والايثار على النفس وخشية الله وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها يقول (إنا والله لا نولى هذا العمل أحدا سأله، أو أحدا حرص عليه) حديث متفق عليه ويجعلون دائما نصب أعينهم قوله عز وجل {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب تهافت الفراش على الضوء، بل كانوا يتدافعون في قبولها، ويتحرجون من تقليدها. ¬

_ (¬1) سورة الانعام (¬2) سورة المائدة

بهذا الايمان الواسع والتعليم النبوي المتقن وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذى لا تنقضي عجائبه ولا تخلق جدته، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانسانية المحتضرة حياة جديدة فأوجد فيها - بإذن الله - الايمان والعقيدة وبعث فيها روحا جديدة وأثار من دفاتها وأشعل مواهبها، ثم وضع كل واحد منهم في محله فكأنما خلق له. وكأنما كان المكان شاغرا لم يزل ينتظره، فما لبث العالم أن رأى منهم نوابغ كانوا من عجائب الدهر وسوانح التاريخ. فأصبح عمر الذى كان يرعى الابل لأبيه الخطاب وينتهره، وكان من أوسط قريش جلادة وصرامة اذا به يفجأ العالم بعبقريته وعصاميته، ويدحر كسرى وقيصر عن عروشهما ويؤسس دولة اسلاميه تجمع بين تفوقها في الادارة وحسن النظام فضلا عن التقوى والورع والعدل الذى لا يزال فيه المثل السائر. وهذا ابن الوليد كان أحد فرسان قريش إذا به يلمع سيفا الهيا في الاسلام لا يقوم له شيء الا حصده وينزل كصاعقة على الروم ويترك ذكرا خالدا في التاريخ وهذا أبو عبيدة كان موصوفا بالصلاح والأمانة والرفق اذا به يتولى القيادة العليا للمسلمين ويطرد هرقل من ربوع الشام ومروجها الخضراء ويلقى عليها نظرة الوداع ويقول: (سلام على سريا سلاما لا لقاء بعده) الى غير ذلك من الأفذاذ الذين تلقوا معلوماتهم وتكوينهم في مدرسة الايمان، ولا زالت هذه المدرسة تخرج لنا من العباقرة والشخصيات العظيمة البارزة في كل ميدان من ميادين الحياة الى الآن والى الغد ان شاء الله.

تعاليم الاسلام قوة روحية ومادية معا وعدالة اجتماعية ورحمة، لجميع الناس

تعاليم الاسلام قوة روحية ومادية معا وعدالة اجتماعية ورحمة، لجميع الناس ما أعظم نعم الله على المسلم الذى هداه الى الطريق المستقيم والوصول به الى معرفة الخالق جل وعلا، ولما فتح هذا المخلوق عينيه على الكون العجيب الصنع والاتقان ابهر عقله، وحرك ذهنه في كل ما يحيط به من الأشياء الدالة على عظم قدرة الله فاذ عن له، وأقر لربوبيته بالكمال المطلق. ولقد كرم الله الانسان بنعم لا تعد ولا تحصى، وفضله على كثير من المخلوقات قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (¬1). الايمان بالله سبحانه وتعالى هو المبدأ الوحيد في هذا العالم أخذ به المؤمنون قديما وحديثا، وفي جميع الأزمنة والأمكنة واعتصموا بحبله جميعا فهداهم الى ما فيه خيرهم وسعادتهم. الايمان بالله هو التصديق بالحقيقة الكبرى، والاعتراف بالوجود الأعلى بواسطة مخلوقاته الكثيرة العجيبة الصنع والابداع، الايمان بالله هو شعور الانسان بمنزلته المحدودة أمام رب عظيم بيده ملكوت السماوات والأرض، وكل شيء في هذا الوجود. الايمان بالله هو القوة الباعثة على العمل الصالح القوة التي توجه الانسان الى الله فيما يفعل وفيما يترك في جميع شؤون الحياة كلها. الاسلام مبدأ الهى عام لا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون ولا بين وطن ووطن، بل هو هداية من الله الى الخلق ¬

_ (¬1) سورة الاسراء

أجمعين، وهو قوة روحية دافعة، ودعوة عامة، هو نظام كامل يقدم للإنسانية فكرة شاملة عن الكون والحياة، ويجعل العنصر الأخلاقي أصيلا في بناء المجتمع ليكون عقلية متشبعة بالروح لتنبعث الحياة من داخل النفس، الاسلام دين تعاوني في جميع مظاهره أعلن حقوق الانسان منذ أربعة عشر قرنا، واذا كانت المذاهب المختلفة في العالم تدعو الى سلام الانسان مع الانسان وسلام الانسان مع الحيوان، وسلامه مع النبات حتى مع الجماد لأنه حث على عمارة الارض، ونشر المعاني والقيم الالهية فيها فهذه الأشياء مخلوقات لله، والانسان خلقه الله ليكون خليفة له في الأرض، وقد سخر له الأرض ولا عليها، ومن هنا وجدنا الحقوق ليست قاصرة على الانسان واذا كانت الدول المتحضرة في العصر الحديث تحاول أن تثبت حقوق الانسان فان الاسلام قد فرغ منها منذ زمن بعيد ... الاسلام حين يرعى حقوق الانسان، يرعى أولا حقوق الضعفاء. يقول الرسول الكريم: (ابغوني الضعفاء فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم) (¬1)، والله سبحانه وتعالى يطلب الدفاع عنهم، والقتال في سبيل حمايتهم فقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} (1). ويحذر الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه (من أن يقف أحد المسلمين موقفا يضرب فيه رجل ظلما بأن اللعنة تتنزل على من حضره ولم يدافعوا عنه) كما يحذر من الظلم بصفة عامة. فيقول: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) (¬2)، وينذر القرآن الكريم الظالمين بأنه لن يكون لهم يوم القيامة حميم ولا شفيع يطاع، وينذر الرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأعلى صوته في حجة الوداع (ألا إن دماءكم ¬

_ (¬1) سورة النساء (¬2) رواه مسلم

وأموالكم حرام عليكم الى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) (¬1). ويقول أيضا (في كل ذات كبد رطبة صدقة) وما حديث المرأة التي عذبت هرة لها فحبستها، ليست ببعيدة عنا وكذلك حديث الرجل الذى سقى الكلب من البئر وجده عطشان فغفر الله له، والإباحة في ذبح الحيوان إنما هي مرهونة بمصلحة الإنسان، فالإسلام يمنع من عقر الحيوان الا للأكل، ومن هنا كان النحر باسم الله الذى أباح لنا هذه الحيوانات، والتعذيب للحيوان أو للطير غير جائز، والاسلام يحرم على أن يطأ بقدميه كسرة خبز أو ما يؤكل مما يفيد الانسان أو غيره من مخلوقات الله، لأن في ذلك امتهانا للنعمة التي حماها الله فاحترامها والمحافظة عليها من الآداب السامية لأنها مخلوقة من مخلوقات الله وقد انتفع بها المخلوقون، ومنع الاسراف والفساد فيها، والاسلام حين يعلن هذه الحقوق، فإنما يعلنها بأسلوبه الخاص، ثم يطبقها التطبيق السليم، لأن هذا الاعلان صادر من رب العالمين، وهو أدرى بهم، وما يصلح لهم لأنه خالقهم وليس بينه وبين أحدهم صلة الا العمل الصالح. والمسلمون حين يطبقون أوامر الاسلام يبدأون من داخل النفس ليتقربوا بها الى الله، وهو اعلم بما يسرون وما يعلنون. الاسلام ينطلق من وحدانية الله تعالى الذى خلق البشر جميعا، ورسم لهم الدين منهجا يسيرون عليه لتحقيق رسالتهم في هذه الحياة، والفوز والنجاة في الدار الأخرى، وطلب منهم أن يطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منهم في الحدود التي رسمها لهم، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬2). فأساس التفاضل في الاسلام هو العمل الصالح لا الغنى، ولا الوطن، ولا الحسب والنسب الى غير ذلك من معاني الجاهلية، لان هذه الاخلاق الفاضلة بها تظهر طبيعة الانسان الكامل، فالقرآن حث عليها لأنه كتاب تربية وتثقيف. وليس كل ما فيه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (¬2) سورة النساء

كلاما عن الفرائض والشعائر، وأن الفضائل التي يحث عليها من أجمل الفضائل وأرجحها في موازين الأخلاق وتتجلى هداية الإسلام في نواهيه. والمسلمون في الوقت الحاضر متأثرون بالمفاهيم القومية البعيدة عن تعاليم الاسلام وعن تربية القرآن وهذا التأثير جزء من الثقافة والحضارة المستوردة، وكل انسان، مسؤول عن عمله {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هكذا يكون المسلم في ظلال القرآن. الاسلام يعلن حرية العقيدة للناس جميعا، فيها بواعث الروعة والجمال، وما تحدثه في الخواطر من دواعي الشعور والتأثير، فيقول الله في كتابه الكريم: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} (¬1). ويبين مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ}. ويطلب منه ألا يحزن على الذين يسارعون في الكفر بقوله عز وجل: {يأيها يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (¬2). ويعاتبه لشدة حرصه على ايمان الناس فيقول: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (¬3)، ثم يقول له بعد ذلك: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬4)، ثم طلب منه أن يعلن للناس جميعا أنه بشر مثلهم يوحى اليه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬5). الاسلام مع المجتمعات الأخرى يدعو الى الحوار الهادي الخالي من الأغراض والمعاندة قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا ¬

_ (¬1) سورة الحجرات (¬2) سورة المائدة (¬3) سورة الكهف (¬4) سورة الكهف (¬5) سورة الكهف

يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬1). طلب الاسلام من كل داعية أن يكون هادئ الطبع لين العريكة، فيقول الله لنبيه الكريم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. وقد حرم الاسلام القتال من أجل الاكراه في الدين ضمانا لحرية الاعتقاد، ولكنه أعلن الجهاد من أجل حرية عمل الخير وكلمة الحق، والاسلام يطلب من المسلم أن يصدع بكلمة الحق أين ما كان وفي كل وقت، وجعلها الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل الجهاد عند سلطان جائر فيقول عليه الصلاد والسلام: (أفضل الجهاد كلمة الحق عند سلطان جائر) أخرجه أبوا داود. ويجب أن تكون كلمة الحق في إطارها الصحيح الذى يبني ولا يهدم ويخدم الانسانية من حيث هي قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬2). ويجب أن يكون الأمر في أحسن لفظ وأعصاب هادئة، فالمسلم ليس بالسباب ولا باللعان. ولا بالفاحش البذيء، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون الذين يرضى الله عنهم من صفاتهم أنهم يقولون قولا طيبا) قال تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} (¬3)، والكلمة الطيبة تؤثر في القلوب وتلين المشاعر. المساواة في الاسلام مشكلة حار الناس فيها، ولكن الاسلام حلها بكل سهولة وطبقها بين الناس جميعا، وبين لهم أنهم من أب واحد. وأم واحدة. وإذا جعلهم شعوبا وقبائل فذلك للتعاون لا ليطغى بعضهم على بعض ولا يستعبد بعضهم بعضا، وهذا يقتضى المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين الناس قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬4) ¬

_ (¬1) سورة آل عمران (¬2) سورة الأحزاب (¬3) سورة الحج (¬4) سورة البقرة

وفي فتح مكة المكرمة نادى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معشر قريش ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء) وقال أبو ذر الغفاري رضى الله عنه لرجل يا ابن السوداء فقال له النبي الكريم: (طف الصاع طف الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل الا بالعمل الصالح ... ). والشعائر الاسلامية كلها تعمق هذه المعاني في نفوس المسلمين جميعا فصلاة الجماعة والصيام والحج كلها تعمل عملها في تعميق المساواة بين أفراد المجتمع الإسلامي، وبلغت المساواة ذروتها عندما يقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه:) سلمان منا أهل اليت) ويقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: (أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا) ويقصد بذلك بلال رضى الله عنه. كما يقول أيضا عندما ما حضرته الوفاة: (لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفه). العدل في الاسلام واجب على الجماعة والفرد، ويقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (¬1). ويخاطب الله سبحانه وتعالى المؤمنين جميعا بقوله: {يأيها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). العدالة الاسلامية لا تعرف العواطف حتى ولو كان الخصم قريبا أو صاحبا أو والدا أو غنيا أو فقيرا، فالقاضي والشاهد لا شأن لهما بذلك، والله أولى بالجميع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النساء (¬2) سورة المائدة (¬3) سورة النساء

العدالة من أسس المجتمع الإسلامي، ولقد طبقت تطبيقا رائعا في الصدر الأول من الاسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي وحين طالبه اليهودي طلبه في غلظة قائلا: انكم يا بنى عبد المطلب قوم مطل فهم عمر بأن يؤدبه على هذا التجرء على الرسول فقتال له النبي عليه السلام في هدوء: (يا عمر أنا وهو كنا أحوج الى غير هذا منك تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن الاقتضاء) ويسير المؤمنون على هذا النهج رافعين راية العدل المطلقة. الاسلام نظام عالمي، وهذا النظام ليس مستعارا ولا خليطا، بل هو نظام رباني قائم بذاته مستقل بروحه أنقد أمما عظيمة في الماضي كانت ترزح تحت قوانين جائرة ونظم فاسدة، وسيتنفذ ان شاء الله أمما عظيمة في المستقبل لأن قوانينه لا زالت مطمح أنظار العالم في حل المشكلات العويصة، لأنه القانون الوحيد الذي يساير طبيعة البشر وميولاتهم الفطرية. الاسلام جاء يبني مجتمعا لا يعرف الطبقات، ولا الطوائف والأحزاب إلا حزب الله لأنه قد أتى بقوانين عادلة لتطهير المجتمع من الأمراض الفاسدة وهذه القوانين تناولت حياة المجتمع كلها. التعليم في الاسلام هو الاساس الأول لبناء المجتمع، وتكوين الفرد، وهو النور الذى يسير الانسان على هديه في شؤون دنياه وآخرته، ولذا أمر الاسلام به في أول آية نزلت من السماء: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬1). هذه الدعوة ليست مقصورة على الرسول صلى الله عليه وسلم بل تتعداه الى الانسانية جمعاء ... ولقد أهاب الاسلام بالإنسان أن يسعى في مناكب الأرض طلبا للعلم والمعرفة بقوله عز وجل: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة العلق (¬2) سورة الحج

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (العالم والمتعلم شريكان في الأجر، ولا خير في سائر الناس بعد) وقد أمر صلى الله عليه وسلم كل أسير كاتب في غزوة بدر الكبرى من المشركين أن يعلم عشرة من أصحابه الكتابة والقراءة، وجعل ذلك سبيل تحرره، وأخبر بأن العلم أفضل أنواع العبادات فقال (قليل العلم خير من كثير العبادة) وقال: (فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم) وهكذا شمل ميدان العلم والمعرفة في الاسلام كل شؤون الحياة كلها. الحكم في الاسلام: الأمة الإسلامية تستمد - نظمها وتشريعاتها من أربعة مصادر: اثنان أصليان وهما الكتاب والسنة واثنان فرعيان وهما الاجماع والقياس فعلى هذه المصادر قام المجتمع الإسلامي. ان قواعد الحكم كلها منصوص عليها في القرآن والحديث وإذا لم يكن ثم نص يأتي الاجماع والقياس ويصبحان حجة، الشريعة الاسلامية هي جملة الأوامر الالهية وأنها معصومة من الأخطاء ترسم للمسلم أحكام سلوكه في حياته كلها دينيا وسياسيا واجتماعيا. فرض الاسلام أن يقوم الحكم على أساس الشورى وأن يقوم التشريع على أساس الكتاب والسنة واتفاق الامام والرعية، ولا ضير بعد ذلك أن يتبعوا هذا النظام أو ذلك من نظم الانتخابية أو يعملوا بهذا الدستور أو ذاك من دساتير الحياة النيابية فكل نظام صالح ما دام قائما على الشورى مؤيدا بسند من مشيئة الامام وأولي الرأي وحقوق الجماعة. ان قوانين الاسلام تقوم على القرآن والسنة وعلى القياس وفتوى أهل الذكر ومشيئة الاجماع، وأن القرآن الكريم يقول للمسلمين: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يسلك كل مسلم طريقه على حسب المنهاج المبين فهو أمين على ضميره فيما يختاره من أحكام الدين التي شرعها الكتاب إجمالا، ولم يذكر تمثيل الأمثلة عليها. ولكن اذا رجعنا الى السنة نجد أن أول ما ينهى الإسلام عنه هو أن يقوم الحكم على أساس العصبية زمن أحاديث

النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا الى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) والقرآن يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى} والرسول يقول: (ان الله لا يجمع أمتى على ضلالة) ويقول: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني) ويقول: (اتبعوا السواد الأعظم) فهذه جملة قواعد الحكم في الاسلام، السلطان لا يقوم على عصبية بل على الشورى، ويغلب فيها اجماع السواد الأعظم وتجب فيها الطاعة لمن يتولى الامر كما تجب لله ورسوله. ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن معنى العزم في قوله عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} قال: (مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم) وأنه صلى الله عليه وسلم قال مرة لأبي بكر وعمر رضى الله عنهما لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما. ووضح عمل الوزير مع الأمير فقال: (اذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إذا نسي لم يذكره وإذا ذكر لم يعنه). أما الواجب بين الأمير والرعية فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) وقوله: (لا طاعة في معصية وإنما الطاعة في المعروف) وقوله: (من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة فيموت الا مات ميتة جاهلية). وزبدة الأوامر والنواهي جميعا في هذا الواجب بين الراعي والرعية انه الأمر والطاعة في المعروف والحذر عند الخلاف من تفريق الجماعية، وعصمة الجميع أن يسمع الراعي والرعية الى النصيحة من القادرين عليها {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1) ¬

_ (¬1) سورة آل عمران

أو كما قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتدعونه ولا يستجيب لكم) وعلى الأمة أن تغير ما تكره من شأنها فإنه (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب) وعلى الأمير ألا يبتغي الريبة في الرعية لأن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم، والخير كل الخير في الجماعة المفلحة تتساند وتتعاون، إنما المؤمنون كرجل واحد ان اشتكى عينه اشتكى كله وان اشتكى رأسه اشتكى كله، ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو الواحد تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

الاقتصاد في الإسلام

الاقتصاد في الإسلام يؤاخذ علماء الاقتصاد الغربيون الدين الإسلامي على عدم تنظيمه يقولون: إنه لم يأت بنظام مفصل للناس. وأحوال المعيشة الاقتصادية، والنظم السياسية تتقلب من زمن الى زمن وتختلف بين أمة وأخرى، فيصلح لهذا الزمن ما لم يكن صالحا قبل خمسين أو ستين سنة وما ليس بصالح بعد خمسين أو ستين سنة أخرى فكيف يتقيد الناس فيها على اختلاف الازمنة. والدين فريضة من الفرائض يدين بها الناس مآت السنين، وتثبت مع الدين ثبوت العقيدة التي لا تتزعزع مع الأيام ولا تساوى شيئا في موازين الأديان ان لم يكن لها هذا الثبوت وهذا الدوام، انما يناسب أن يبين الدين للناس قواعده التي يستقر عليها كل نظام صالح يأتي به الزمن ولا عليه بعد ذلك أن تختلف هذه النظم بين أمة وأخرى في العصر الواحد، أو تختلف في الأمة الواحدة بين عصرين ومن الأمثلة التي يحسن أن نذكرها كلها نذكر الدين ونذكر النظم الاقتصادية. ان الحياة الاقتصادية التي قامت في الغرب زمنا قامت على رؤوس الاموال وفوائدها التي يدور عليها عمل المصاريف والشركات متطورة ومتناقضة ورؤوس الأموال قائمة على الربا المحرم عند الاسلام. فهل على الاسلام أن يبدل عقائده بين المذاهب الاقتصادية المتطورة خلال جيلين متعاقبين أو أكثر كلا، وليس عليه أن يبدل هذه العقائد اذا تبدلت المذاهب وجاء بعدها مذهب آخر غير الذى يقدس رؤوس الأموال وغير الذى يحرمها وإنما أقام الاسلام قواعد الاقتصاد التي يقام عليها نظام صالح ولا يتصور أنها تناقض نظاما منها كان بالأمس أو يكون بعد زمن طويل أو قصير ... قرر الاسلام أن يمنع الاحتكار وكنز الأموال وقرر أن يمنع الاستغلال بغير عمل، وقرر أن يتداول الجميع الثروة ولا تكون

دولة بين الأغنياء، وقرر أن تكون للضعفاء والمحرومين حصة سنوية، وقد يزاد عليها بأمر الامام واحسان المحسنين واذا تقرر هذا في مجتمع إنساني فلا حرج عليه أن يتخذ له نظاما من نظم المعيشة الاقتصادية كيفما كان، ولا خوف على مجتمع قط يمتنع ديه الاحتكار والاستغلال واهمال العاجزين عن الكسب والعمل ومن شاء فليتهم هذا النظام بما شاء من الأسماء الملكية كان نظام الطبقات هو السائد في الجاهلية، فجاء الاسلام فعالج هذا النظام معالجة حكيمة لاحظ فيها مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة معا وكان بين ذلك قواما، فأباح للفرد أن يملك وأن يتصرف في ماله من بيع وشراء وهيبة كيف شاء، وأن يتمتع بماله لكن في دائرة الحدود المعقولة وينهاه عن التزمت والحرمان من الطيبات قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1). فحفظ له هذا الحق وصانه، غير أنه لا يطلق له حرية التصرف مطلقة بلا قيد، فيقيد له بعض تصرفاته كالتبذير والاسراف، واجباره على دفع الحقوق والواجبات كالزكاة وحثه على الانفاق لأن مال الفرد في الاسلام هو مال الجماعة قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (¬2). والجماعة هي تخلفه في هذا المال وهذا ما أشار اليه القرآن الكريم بقوله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (¬3). ويقول الرسول صلوات الله عليه وسلامه: (أيما عرضة أصبح فيهم أمرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمه الله ومن كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث وأن أربع فخامس أو سادس) ويقول عمر رضي الله عنه (لو استقبلت ¬

_ (¬1) سورة الاعراف (¬2) سورة النساء (¬3) سورة الحديد

من أمرى ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء ولرددتها على الفقراء). ليس هذا تقريرا لمبدأ الشيوعية، الملكية في الاسلام حق مقدس جارى به العمل، فالمسلم له أن ينمى ماله ويشركه من بعده لورثته الا أنه لا يغش ولا يتعامل مع الناس بالربا، ولا يمنع المال من مستحقه ولا يظلم العمال في أجورهم، ولا يحتكر البضائع يتربص بها الغلاء والناس في أشد الحاجة إليها ...

الدفاع

الدفاع الاسلام لا يأمر بالحرب وإنما يلتزم الدفاع عن العقيدة وحماية الدعوة ولذا يقول الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (¬1)، لا يقدم المسلمون على الحرب حتى يستعملوا جميع الوسائل من مفاهمة وصلح، فإذا لم يستطيعوا الوصول الى ذلك فعندئذ يخوضونها لأنهم مضطرون اليها. الاسلام يأمر المسلمين بالاستعداد وإيجاد القوة اللازمة لصد كل عدوان، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (¬2). اذا اشتبك المسلمون في الحرب مع أعدائهم. وكانت قوة الدولة غير كافية فلها أن تجند جميع القادرين على حمل السلاح. وتأخذ من الأموال ما تحتاج اليه واذا دخل العدو الى أرض المسلمين فيجب على الأمة الاسلامية أن تهب - سواء كانت في الشرق أو في الغرب - لتحمل السلاح للدفاع عن حوزة المسلمين بما فيها شبابها وشيوخها ضعفاؤها وأصحاؤها رجالا ونساء وهذا معنى قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (¬3). يفرض الإسلام على المسلمين - في هذه الحالة - أن يقفوا صفا واحدا في وجه العدو، وكل من يفر من هذه الحرب يعد عاصيا قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الحج (¬2) سورة الانفال (¬3) سورة براءة (¬4) سورة الانفال

ومما شرع الاسلام في الحرب الحث على الوفاء بالعهد، والميل الى الصلح وأن لا يقتلوا وليدا ولا شيخا هرما ولا امرأة اللهم الا اذا قاتلت فتقتل والعبث بكرامة الانسان ممنوع كالتمثيل بالجثث وغيره. العقيدة الاسلامية مؤسسة على دعائم الحق والخير والرحمة، والصبر والحرية فهي باقية مع الزمن تقدم للأجيال الصاعدة رصيدا من إشراق القلوب ونفحات من اتصال الأرواح: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} (¬1) فإذا وثق المسلم بالخير والفضيلة وثابر على العمل والجهاد زاد من رصيده العلمي والأخوي، فتتآلف القلوب من حوله فيحظى بسعادة الاستقرار. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (¬2) ... ومتى يثق الانسان بهذا الدين وتطمئن نفسه اليه يصبح سيدا كاملا موفور الكرامة قويا بإيمانه وعمله، فيتضاءل عنده الناس، ولا يسعهم الا أن يجلوه ويحترموه لأن المسلم لابد أن يكون اماما في أعمال الخير ولا يرضى بغير القيادة والسبق إلى العلم والتضحية والفداء في سبيل الله. عوائدنا وأخلاقنا هي موضع اجلالنا واحتراماتنا ما دامت متفقة مع مثل الاسلام العليا، وهذه المثل هي التي نريدها كعقيدة للمسلمين لأنها دين الحق الذى دعا اليه جميع الرسل والانبياء عليهم السلام. ¬

_ (¬1) سورة فصلت (¬2) سورة العنكبوت

أسباب تدهور المجتمع الاسلامى الأول

أسباب تدهور المجتمع الإسلامي الأول جاء الرسول صلى الله عليه واله وسلم بدين الاسلام الذى هو من عند الله، ولم يجئ بنظريات علمية معقدة، أو أراء فلسفية شائكة تبعث في النفوس شبها وحيرة وفي العقول شكوكا وريبا، وانما جاء بدين سماوي معالمه واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار، ومبادئه في غاية السهولة والبساطة، جاء بدستور رباني ينظم علاقة الانسان بربه وبأن الواجب على المخلوق نحو خالقه، ثم يربط علاقة الإنسان بالمجتمع الذى يعيش فيه. ومن أجل هذا بعث الله رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الى الناس كافة موجها اهتمامه لإصلاحهم اصلاحا جذريا على مقتضى الدين الحنيف ومحذرا لهم من العوائد السيئة والمعتقدات الفاسدة التي كانت مسيطرة عليهم حينذاك، وأمرهم بالتمسك بهذا الدين، وترك الجدل والخوض في الآيات المتشابهات، ويفوضون علمها الى الله لأن عقول الناس قصيرة، ولا علم لهم بالغيب، فربما يؤولون آية على غير مقتضى ما أراد الله فيهلكون، لهذا كان يحث صلى الله عليه وسم على الأخذ بالآيات المحكمات من الكتاب، وبين لهم أن الجدل في الدين تنشأ عنه المذاهب المتطرفة التي لا طائل تحتها، والدين من عند الله لا اختلاف فيه وما هلكت الأمم السابقة الا بهذا الجدل العقيم فإنهم اشتغلوا بالآراء والنظريات القصيرة البعيدة عن المقصود، وتركوا ما ترشدهم إليه الكتب السماوية فتفرقوا أوزاعا ومذاهب واختلفوا طوائف وأمما وتقطعوا أحزابا وشيعا كل حزب بما لديهم فرحون. فضلوا طريق الهدى التي رسمها لهم الانبياء عليهم السلام فضعفوا وذهبت ريحهم وتشتتوا وعجزوا عن أداء رسالتهم السماوية، وأصبحوا هم والأمم المشركة على سواء ولما دخل الناس في هذا الدين واطمأنت نفوسهم إليه تهذبت أخلاقهم واستقام سلوكهم، وذهبت السلبيات التي كانت سائدة على

المجتمع الجاهلي وكونوا مجتمعا راقيا تظله راية التوحيد، ورائده الكتاب والسنة، تسوده العدالة والمحبة والإخاء، والمساواة، فتحلى بالعلم والعرفان، وكان هدفه التقوى ونشر الدعوى الاسلامية بين الأمم والجهاد في سبيلها، لهذا سبقوا غيرهم في التقدم والحضارة وملكوا أعظم دولتي العالم لذلك الوقت، وبقي على ذلك هذا المجتمع زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وزمن خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين. ولكن ما كاد يلتحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حتى بدأ الخلاف بين المسلمين أول ما بدأ في أمور اجتهادية كالخلاف الذي وقع في سقيفة بني ساعدة في تولية من يخلف الرسول في الحكم بعد وفاته، لأنه لم يوص الى أحد الى غير ذلك من الخلافات التي وقعت بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على المسائل التي طرأت على المجتمع الإسلامي من بعد وفاة الرسول الأعظم لكنها لم تكن خطيرة ينجم عنها التفرق أو وقوع الفتنة. كان اختلاف في السياسة، واختلاف على الشخص المتولى، واختلاف في بعض المسائل الاجتهادية من هذا الاختلاف لم يتجاوز الرأي المحمود الى الرأي المذموم الذى لا يتفق وقواعد الشرع. ظل الامر على ذلك الى أن قامت الأحزاب السياسية، وظهرت الأغراض الشخصية والطموح الى السيادة هنا بدأ المسلمون يتفرقون أحزابا متعادية بعد ما كان يجمعهم حزب واحد الا وهو حزب الله الا أن حزب الله هم المفلحون. ومن هناك بدأ الخلاف يخرج عن دائرة الرأي المحمود الى دائرة الرأي المذموم، واستفحل في هذه الآونة، وتعصب كل فريق الى حزبه، والدعاية له والدفاع عنه ولا يستطيع أي حزب أن يسلم للآخر فتصدعت الوحدة الاسلامية الى أحزاب مختلفة وفرق متناحرة التي بناها الرسول صلى الله عليه وسلم وشادها الخلفاء الراشدون من بعده. لم يظهر هذا التفرق بكل ما فيه من خطر على المسلمين إلا في عصر الدولة العباسية، أما قبل ذلك فقد كان المسلمون يدا

واحدة، وعقيدة واحدة إذا استثنينا ما كان من المنافقين الذين ينتسبون الى الاسلام وهم يضمرون الكفر ولأهله العداء. أما ما وقع بين سيدنا علي كرم الله وجهه وبين معاوية رضى الله عنه من خلاف لم يكن له مثل هذا الخطر الذى وقع المسلمون فيه من القرون المتأخرة من حياة المسلمين وإن كان النواة التي قام عليها التحزب، ونبت عنها التفرق والاختلاف. بعد ما انتهى عصر الخلفاء الراشدين استقرت السلطة العامة في أيدى بني أمية وأصبح التنافس عليها بين حزبين كبيرين وهما بنو هاشم وبنو أمية ولكل منهما أتباع ومن بعد آلت الى بني هاشم ولكن كان الدين مسيطرا على الجميع الا في الحكم فإنه انحصر في هذين الحزبين ولم يعد المسلمون هم الذين يعينون خليفتهم وإنما أصبح القوى من الحزبين هو الذى يتولى على السلطة ومن ثم يبايعه المسلمون بيعة عامة، لم يكن الحكم شورى كما نص عليه القرآن وكما كان في زمن الخلفاء الراشدين، تفرق المسلمون الى أحزاب متعادية بعد ما كان يجمعهم حزب واحد ألا وهو حزب الله ألا ان حزب الله هم المفلحون، وذلك بسبب العناصر التي انشقت عن الخلافة العباسية في بغداد واستلاء العنصر التركي على وظائف جيش الخلافة والذي فعل ذلك هو، الخليفة المعتصم وهو ثامن خلفاء العباسيين، لأنه واجه حروبا كثيرة في الداخل والخارج، فاتخذ جيشا من الترك خوفا من الجيش العربي ونفوذ العنصر الفارسي، فعين قادة الجيش منهم ليضمن لنفسه التفوق والنصر، ونسي المعتصم أنه بعمله هذا وضع السلاح في يد مجرم مأفون عاث في الارض فسادا بعد ما تمكن هؤلاء الأتراك من الجيش بدأوا يتصرفون في الخلفاء أنفسهم بتولية هذا ونزع هذا حسب مصلحتهم وأهوائهم، ومن بعد أصبحوا ينكلون بهم تنكيلا شنيعا، يقول الامام الشيخ محمد عبده رحمه الله: (فلم يكن بين عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء، واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم، ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الاسلام والقلب الذى هذبه الدين بل جاء إلى الاسلام بخشونة الجهل، يحملون ألوية الظلم لبسوا الاسلام على أبدانهم ولم ينفد منه شيء الى

وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل الهه معه - يعبده في خلوته ويصلي مع الجماعة لتمكين سلطانه) وقد كان لهذه الحالة التي سيطرت على الخلاقة في بغداد أثر خطير في العالم الإسلامي كله لان كثيرا من ولاة الأقاليم أدركوا أن الخلافة فقدت سلطانها، ولم تكن لها الهيبة التي كانت من قبل. أصبح الأمراء في قبضة قادة الجيش فأنف ولاة الأقاليم من هذه الحالة التي صارت إليها الخلافة، فكثرت حركة الاستقلال في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، وأعلنوا استقلالهم اللهم إلا ما كان من صلة تربطهم بالخليفة لأنه أصبح رمزا ليس له من النفوذ شيء. وبهذا الاستقلال والخروج عن الخلافة الشرعية تصدعت الوحدة الاسلامية، وتشتت المسلمون شرقا وغربا. انثلمت وحدة الخلافة وانقسمت على نفسها: خلافة عباسية في بغداد وكانت هذه الخلافة في آخر عهدها تقنع بالاسم فقط، وليس لها من النفوذ شيء، وخلافة فاطمية في المغرب العربي ومصر، وخلافة أموية في أطراف الأندلس، تفرقت بهذه الخلافات كلمة المسلمين، وانحطت رتبة الخلافة الى وظيفة ملكية فسقطت هبيتها من النفوس، فتفرق العالم الإسلامي الى دويلات، فتغلب بنو بويه على فارس، ومحمد بن إلياس على كرمان، ونصر بن احمد السلطاني على خرسان، والبريديون على واصل والبصرة والديلم، وأبو طاهر القرمطي على اليمامة والبحرين، ومحمد بن ظغج الاخشيدي على مصر والشام، كما كان المغرب العربي في أيدى الفاطميين، والأندلس في أيدى عبد الرحمان الناصر، ولم يكن هذا التقسيم ليضير المسلمين فقد بقيت هناك وحدة اسلامية لا تعترف بالحدود السياسية. وقد كان المسلم من أي قطر كان يستطيع أن يتنقل من مكان الى مكان آخر دون أن يجد أية صعوبة أو عنت. أصبح طلاب الملك والرئاسة يعتمدون في الوصول الى الحكم على قوتهم وحدها معولين في ذلك على عصبيتهم الخاصة وبطانتهم وحاشيتهم. لا على المحبة والمشاورة من جماعة المسلمين، سن هؤلاء

الملوك والأمراء دساتير للحكم مخالفين بذلك أوامر الاسلام تبيح لهم ولأسرتهم وحاشيتهم الحكم المطلق الأبدي، وتجعل البلاد والعباد ملكا للجالس على العرش يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يسأل عما يفعل، ولا يحب الانتقاد في شخصيته ولا في كلامه ولا في سلوكه، ولا يستطيع أحد من رعيته أن يحاسبه على أموال الرعية التي تتدفق عليه وعلى من يلوذ به من الأمراء وحاشيتهم ضارين بذلك أوامر الاسلام عرض الحائط تطورت الأحزاب السياسية التي نشأت في صدر الاسلام الى فرق دينية متعصبة لآرائها متطرفة متنابذة مع بعضها بعضا من شيعة، وخوارج، ومعتزلة وباطنية، ومرجئة، وقرامطة وغيرهم. غرق العالم الاسلامي - حينذاك - في طوفان جامع غصوب من الجدل والخصام والثورات الدامية، ومحاربة بعضهم لبعض، فقضت هذه الفتن الداخلية على وحدته وأذهبت بقوته فكانت السبب الأكبر في انهيار أممه، وسقوط دوله وجمود مجتمعه وتخلفها عن الحياة الحرة الكريمة، وعزلها عن التقدم في العلوم والصناعات. الحقيقة أن العالم الإسلامي لم يستقر منذ سقوط الخلافة العباسية، من ذلك الوقت، وهو في أخذ ورد، فدولة تسقط، وأخرى تطلع، وشعب ينفجر وآخر يجمد ويستكين، ودولة تسعى لجمع شتات المسلمين فتجد المقاومة الشديدة منهم ويرفعون راية العصيان في وجهها، ودولة تبرز لمحاربه دولة أخرى تستولي عليها بالقوة وتنكل برؤسائها وأمرائهما، وأخرى تعقد حلقا مع دولة أجنبية على محاربة المسلمين، وكل هذه الدول تزعم الاسلام. الحياة الاقتصادية - في هذا العصر - كانت تعبيرا عن الفساد المنتشر فكانت هناك ثلاثة أنظمه مستعملة، أولا: نظام الالتزام أو الضمان، ثانيا: مصادرة الأموال، ثالثا: اقطاع الأراضي للتجار الاثرياء. أما نظام الالتزام أو الضمان: هو أن يدفع شخص ما خراج ناحية الى الخليفة وهو يأخذه من سكان هذه الناحية، أو الاقليم، أكثر مما أعطى، أما مصادرة الأموال فقد أصبحت من الأمور المألوفة فشملت كافة رجال الدولة، فكل مسؤول يصادر

من هو دونه، ووصف المقديسي ضرائب فارس فقال: (لا تسأل عن ثقل الضرائب وكثرتها، وأهل فارس هم أنجع الناس بطاعة السلطان، وأصبرهم على الظلم وأثقلهم خراجا وأذلهم نفوسا، وهم لم يعرفوا عدلا قط). ووصف أيضا خراب بغداد فقال: (فأما المدينة فخراب، وهي في كل يوم الى الوراء مع كثرة الفساد والفسق، وجور السلطان، ويلخص حال العراق وفارس تحت حكم البويهيين بهذا القول البالغ الدلالة) فقال: (الرعية هامون والدور خراب والاقوات معدومة والجند متهاوجون). أما اقطاع الأراضي للتجار الأثرياء فالدافع إليها حاجة الدولة الى المال وقد أقطعت للتجار أراضيها لقاء دفع قسط من غلتها إليها. لقد كان هذا النظام الإقطاعي مع أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد سن قاعدة تقول: (سواد العراق ملك مشترك بين المسلمين)، لم يكن الخلل في النظام الاجتماعي يقل عن الخلل الذي رأيناه في الحياة السياسية والاقتصادية، ولم يكن للمسلمين وحدة اجتماعية متماسكة في هذا العصر. أو على الأقل شيء من التجانس، بل كانوا منقسمين إلى أحزاب وفرق وشيع يكره بعضهم بعضا، فقواد الجيش يقفون في القمة مطلقي التصرف في العباد والبلاد، وبلاط الملوك يعج بالنساء التي أوجدن كثيرا من الاضطرابات في توجيه السياسة ويأتي بعد هذا طبقة الاقطاعيين الذين عنوا بالزراعة واسترقوا المزارعين الصغار، ثم تأتي طبقة التجار الأغنياء. وأخيرا طبقة العامة التي يستثمرها كل الطبقات السابقة، وهكذا كانت البلاد في حالة استبداد سياسي، وخراب اقتصادي، وتفكك اجتماعي. لقد دخل المسلمون العظماء وهم في أوج حضارتهم في عصر جاهلي تموج بهم الشهوات القاهرة، وتعصف بهم الأنانية الجامحة، امتلأت قلوبهم بالحقد والكراهية لبعضهم بعضا. هذه العوامل وغيرها كانت سببا في انحرافهم عن الدين، والبعد عن تعاليمه السمحاء، فزادتهم تخاذلا وضعفا، فمن ذلك

الوقت الى الآن لم يستطيعوا أن يتعاملوا بالإسلام فيما بينهم، وأن يحققوا الاتحاد والأخوة والمحبة المنشودة ليكونوا لهم كيانا، حتى يقوموا بشؤونهم وجمع شملهم وشتاتهم لينقذوا أنفسهم مما تردوا فيه من الفوضى، والاضطرابات الخطيرة. فبسبب خروجهم عن تعاليم الدين الحنيف بدأوا يفقدون الحياة الاجتماعية فأصبحوا فارغين من جميع النظم الراقية، ولم يبق لهم من مقومات الحياة الا تقليد المجتمعات الجاهلية التي لا تؤمن بدين فصاروا يعملون بمقتضاها، ولم يدروا أنهم بذلك تنكروا للبقية الباقية من الاسلام. بهذا الاعراض عن تعاليم القرآن أخذت عوامل الفساد والتحلل من أوامر الدين تعظم وتستشري حتى كادت تقضى على العقيدة الاسلامية من النفوس، وكان الفساد ينتشر بسرعة في هذه المجتمعات المائعة الماجنة، حتى قضى على الخلافة الشرعية التتار المتبربرون وتركت وراءها أمما مبعثرة من دويلات صغيرة تتوق الى الوحدة وتتوثب الى النهوض. سبب هذا التدهور هي الخلافات السياسية والدينية وتنازع الرئاسة والانصراف عن العقيدة الى ألفاظ ميتة لا روح فيها والانغماس في أنواع الترف والنعيم، والاقبال على لذائذ الشهوات وإهمال العلوم العلمية، والمعارف الكونية وإضاعة الوقت فيما لا ينفع ولا يفيد، وتضيع الجهود في للهو والعبث والحياة الماجنة. والغرور بسلطانهم، والانخداع بقوتهم، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم حتى أخذت في الاستعداد والأهبة فباغتتهم على غرة، وقد أمرهم القرآن الكريم باليقظة، وحذرهم من مغبة الغفلة والفرقة. كان القرن الرابع الهجري مثلا واضحا على التغيرات الظاهرية والخفية التي عبثت بمقومات الأمة الاسلامية في هذا القرن. هذا القرن كان هو العصر الذهبي الذى نضجت فيه الثقافة الاسلامية، وكان في الوقت نفسه قرن زوال مجد الخلافة، وانقسام الدولة الكبرى المترامية الاطراف الى دويلات متعددة.

توالت على المسلمين ظلم الحكام وبطشهم الشديد بالعلماء الاحرار، ومحاربتهم للعلم، وعدم تقيدهم بالكتاب والسنة، فضعف أمر الدين، وانطفأت مصابيح الهداية، وبالتالي فصل الدين عن السياسة وعدم صلاته بها. وكان هذا الخطأ في الفهم والسلوك في التطبيق كارثة المسلمين التاريخية. كان الخليفة في صدر الاسلام رئيس الدولة. والمهيمن على شؤونها الادارية والسياسية والاقتصادية لكن في دائرة الدين الحنيف، وتطبيق للشورى ولما ضعف أمر المسلمين نشأت فكرة الخضوع للحاكم وإن كان مخالفا للعدالة القانونية الاسلامية. ترك الملوك والرؤساء التشريع الإسلامي الذي هو روح الأمة وقلبها النابض ومكون شخصيتها ومجدد أخلاقها ومجدها ومنظم شؤونها، والموجه لها. ولم يدر هؤلاء الحكام أت تحطيم التشريع الإسلامي هو تحطيم كامل لحياة الأمة ولجميع معنوياتها، وانهيار شامل لأخلاقها وتاريخها ومجدها كأمة بارزة لها كتاب سماوي، ودين هو خاتم الأديان، وعقيدة صحيحة سليمة من البدع والخرافات الوثنية. المؤمنون الذين يقولون آمنا بالله وبرسوله ويكتفون بهذا الايمان، فإذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم تولوا وهم معرضون. فما أولئك بالمؤمنين، بل في قلوبهم مرض لأنهم ارتابوا أو خافوا من أن يظلمهم الله ورسوله، إنما كان قول المؤمنين اذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون، هذا الاعراض الشنيع الذي صدر من المسلمين عن كتاب الله وشرائعه، واستبدال الأدنى بالذي هو خير، أنه لمن اتباع الهواء المضلل، وإذا كان الدين لا يصلح للحياة ولا يؤدي لها نفعا ولا يقدم للمجتمع فائدة أيبقى بعد ذلك دنيا مقدسا كلا؟. أما الطائفة التي اتبعت النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالته ونشر هديه فهي قائمه بالحق لا يضرها من خالفها وإنها

باقية الى يوم الدين، هذه الطائفة هم العلماء العاملون، هم المسلمون الحقيقيون الذين تمسكوا بما ورثوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم هي الصفوة المختارة من الأمة حافظت على الاسلام ونشرته بين الشعوب، وحاولت الاصلاح بين الحكام المتكالبين على حطام الدنيا، والمتعطشين الى سفك الدماء في سبيل الوصول الى أغراضهم الشخصية. وحاولت التوفيق بين الجموع الهائجة والطوائف المارقة، والأحزاب المتنافرة ليوحدوا صفوفهم ويجمعوا كلمتهم ويلتفوا حول الاسلام ليقفوا صفا واحدا في وجه أعداء الله الذين يريدون أن يطفئوا نور الله ولكن بدون جدوى. هؤلاء العلماء الربانيون اشتغلوا بخدمة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعضهم قام بالتعليم والتدريس، وبعضهم تصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والدعوة الى الاسلام في كل مكان، وبعضهم خاض غمار الحروب ليذب عن الشريعة الغراء والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله لتكون العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وكانوا يحاربون الظلم مهما كان، ومن أي انسان صدر، فيجهرون بالحق، ويصرخون به في وجه الحكام المتغطرسين، ولا تأخذهم لومة لائم في الله، فلقوا من طرف الولاة، ومن طرف العامة الدهماء أذى كثيرا وبلاء عظيما إلا أنهم صبروا على ذلك احتسابا لربهم واقتداء بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وآخرون تصدوا للتشريع فكانوا يستخرجون الاحكام من الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين، والصحابة الكرام، فتركوا تراثا ضخما ورصيدا عظيما من العلوم النافعة يستفيد منها المسلمون وغيرهم. ولو عمل الملوك والأمراء من ناحيتهم ما عمله العلماء العاملون لما توقف زحف الاسلام (لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). والذي يتتبع حوادث العالم، ويتدبر كيفية انقلاب الأمم.

وخاض في تاريخ الاجيال الماضية والحاضرة يحكم حكما عدلا لا يخالطه شك ولا ريب بأنه ما حاق مكر السوء بأمة وما نزل بها البلاء والعذاب، وما مسها الضر في شيء إلا كانت هي الظالمة لنفسها بسبب تجاوزها لحدود الله، وانتهاك حرماته ونبذ تعاليمه القيمة وأوامره العادلة، وانحرافها عن سنته وشرائعه. وصلت الامة الاسلامية الى هذه الحالة المزرية بالشرف والكرامة لأنها تنكرت لنعمة الاسلام الذى جمعها على التوحيد، وبه امتازت وسادت على المماليك والشعوب شرقا وغربا. ولما بدلت وغيرت غير الله ما بها. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1)، ويقول أيضا: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} (¬2). حظ الشعوب على مقدارها من الوحدة وما انحط شأن قوم وما هبطوا عن مكانتهم إلا من بعد رزئهم بالافتراق وابتلائهم بالشقاق والنفاق فيورثهم ذلك ذلا طويلا وعذابا وبيلا. إن جشع السلطة الزمنية لهو أسوأ شكل المطموح، فهو السبب الذي لاقت منه الانسانية في حل زمان ومكان من بلايا ومحن أكثر من أي شكل آخر، فصاحب هذه السلطة لا يتردد في اختيار الوسيلة التي يستطيع عن طريقها أن يتوصل الى غايته ولو كانت عن طريق الجريمة، ومحاولة اصطناع المعروف ومكارم الأخلاق سواء بسواء فيتخذها لتضليل الناس ليبلغ أهدافه وغاياته، وهو لا يتردد في اتخاذ الدين خادما له وحينما يرتديه لباسا يكون لا أحد أقدر منه على خلق المشاكل والمصائب التي يتفتن في صبها على رؤوس البشر، هكذا فعل طلاب الملك بالأمة ولا زالوا يفعلون بها إلى الآن. وبهذه الوسيلة سفكوا دماء غزيرة من أبناء جنسهم كل ذلك في سبيل الوصول الى السلطة والاحتفاظ بولاء الامة، فكانوا سببا في سقوط الخلافة الاسلامية التي هي ركن من أركان الدين ¬

_ (¬1) سورة الانفال (¬2) سورة غافر

بعد ما تم تشييدها كما هو ظاهر من التاريخ، وخروجهم عنها يعد عصيانا ومخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. الأنانية التي اتصف بها حكام المسلمين، وشهوة الحكم المغروسة فيهم هما كانتا سببا في انقسام المسلمين الى طوائف وأحزاب متعادية، وهما أرغمتاهم على التقهقر الى عصر الجاهلية وملوك الطوائف. قضى الملوك والأمراء على كل ما كان للمسلمين من حضارة قيمة وعلوم نافعة كانت المصدر الرئيسي لنهضة الغرب الجبارة وعلى النظام المحكم الذي شاده المسلمون الأولون على ضوء الكتاب والسنه، ومن ذلك الوقت كانوا يخرجون من ضعف الى أضعف ومن سيء الى أسوأ.

الغزو الصليبي المتكالب على المسلمين

الغزو الصليبي المتكالب على المسلمين نشأ عن هذه الحالة السيئة التي وصل إليها المسلمون من التشتت والتفرق، ونبدهم للحبل الذى كانوا يعتصمون به، وضعف الخلافة غزو خارجي صليبي عندما رأى الصليبيون أن شوكة المسلمين قد خضدت وأن قوتهم قد تلاشت وضعفت هجموا عليهم بقيادة الكنيسة بدعوى انقاذ القدس وأرض الميعاد من أيدي الكفار، وكان هذا الغزو في سنة 345هـ وامتد من ذلك الوقت الى الآن على العالم الإسلامي كله شرقا وغربا، ومشى بصورة واحدة في جميع النواحي قسوة لا رحمة فيها، وفتكا بالأبرياء والضعفاء وتدميرا للحضارة والمنشآت العمرانية، وتشجيعا للفساد والخرافات ومحاربة العلم والعلماء. بدأت الغزوات الصليبية التي كانت تهدف الى الاستيلاء على الأماكن المقدسة عند المسيحيين تتحدى الاسلام والمسلمين كلهم، وتهدد الجزيرة العربية التي هي مهد الاسلام، والدول المجاورة للشام، واستولى الصليبيون فعلا على القدس وعلى مدن الشام، وطمعوا في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا أكبر خطر على الإسلام والمسلمين بعد فتنة الردة. وإننا نعلم علم اليقين أن جرائم الاضطهاد التي مارسها الصليبيون ضد المسلمين لم تكن أبدا بدافع ديني، بل الدافع الحقيقي هو خوفهم من رجوع الخلافة الشرعية، وانتشار الاسلام الذى ينتزع ما يحيطون به أنفسهم من هالات خادعة ويعريهم من قداسات مزيفة، أن ما حدث للمسلمين في الماضي على أيدي الصليبيين من الظلم الشنيع والجرائم التي ارتكبوها في حقهم لهو أكبر برهان على أن الدين المنسوب لسيدنا المسيح عليه السلام كما يزعمون زورا وبهتانا، فقد فقد مبررات بقائه كدين، وأصبح أتباعه عبئا ثقيلا على الانسانية، بعد أن تحولوا الى قتلة وسفاكين ومصاصي دماء الشعوب.

تعاونت الدول المسيحية في القديم والحديث على محاربة المسلمين أين ما كانوا وتعاونوا تعاونا كاملا على إخضاعهم، ولما ثار عبد الكريم الخطابى زعيم الريف المغربي، على أسبانيا في القرن التاسع عشر الميلادى أثارت ثورته جميع الدول الغربية، فتراكضت هذه الدول إلى مساعدة أسبانيا ونجدتها لتتغلب على عبد الكريم زعيم القوة الإسلامية، ويزعم الصليبيون بأن الإسلام قد انتشر بالسيف، ولهذا فإنهم يقاومونه بالسيف وهذه مغالطة مفضوحة، فإن السيف لم يستعمل إلا للقضاء على طغيان الأكاسرة وجبروت القياصرة لإنقاذ الشعوب المستضعفة التى أكلها الجهل والكفر وتلاشت إنسانيتها بين سندان الكنيسة، ومطارق الفئات الحاكمة، وانتزاع الحكم من أصنام بشرية أثبتت عجزها عن قيادة الإنسانية ولا يستطيع أحد من الأوربيين أو غيرهم أن يثبت أن أحد الخلفاء أو أحدا من ولاتهم قد أتوا بشخص واحد وخيروه بين الإسلام أو القتل، والإسلام لم يؤلف محاكم للتفتيش لإجبار الناس على الدخول في الإسلام كما ألفها المسيحيون لإرغام المسلمين على اعتناق المسيحية كالتفتيش الدى أقاموه في الأندلس، وفي روما وفي كل مكان. الإسلام دين الفطرة ودين الحنيفية السمحاء، فهو يعرض نفسه بدون قوة ولا دعاية طنانة ومظاهر جوفاء، والنفوس بطبيعتها مهيأة لقبول ما يلائم فطرتها، بل الدين الإسلامى ينهى عن الإكراه في الدين، ويأمر اتباعه بأن تكون دعوتهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. ولما عجز الأوربيون عن مقاومة الإسلام في العلانية، فبدأوا يحاربونه في الخفاء ولم يتركوا أية وسيلة من وسائل الدس الرخيص والكيد اللئيم إلا وجربوها للقضاء عليه، وأما الجمعيات السرية والحركات الهدامة التى عاثت في كيان الأمة الإسلامية فسادا وتخريبا عبر القرون على أيدى الماسونيين وأعوانهم من جيش العميان والمرتزقة ما هى إلا أثر من أثر تلك الحروب {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]

يقولون: أن الإِسلام انتشر بالسيف ولكن تناسوا أن الحملات الصليبية التي جردتها أوربا لاستئصال شأفة المسلمين، والتي تحطمت على صخرة الصمود الإِسلامي بعد حروب ضارية دامت زهاء قرنين من الزمن وكذلك تناسوا محاكم التفتيش في الأندلس والتي كان حصادها ثلاثة ملايين من المسلمين، هذه المجزرة الشنيعة وقعت في صور وأشكال يندى لها. جبين الحيوان خجلا، فضلا عن الإنسان، لا ريب في أن مرد هذه الحروب الشديدة التي شنها الصليبيون على المسلمين في بلادهم يعدها مورخو الصليبية أنها على حق وصواب، وهذا ما ذهبنا إليه من أن العداوة التى كانت بين المسلمين والمسيحيين كانت عداوة دنيوية لا صلة لها بالدين، وإنما انحصرت عداوتها للإسلام لأنه هو الذي يجمع المسلمين ويكون منهم وحدة تقف في أي وجه عدو كان، ولهذا يريدون أن يمحوه من نفوس المسلمين، إن هذه الحروب تعود إلى ما قبل ألف عام فهل ثم مبرر لاستمرارها إلى أيامنا هذه. إذا اعتبرنا أن أساس العداوة سياسى دنيوى لا روحى دينى أيقنا أن هذه العداوة من المسيحيين نحو المسلمين والإِسلام لا يزال لها مبرراتها لقد أبرز (لورنس بروان) الأمريكى في صورة واضحة عندما قال: (إذا اتحد المسلمون في أمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرا، وأمكن أن يصبحوا نعمة. أما إذا باتوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير). وإذا تأملنا العالم الغربي وجدناه عالما ملحدا لا يؤمن بدين، وعالما ماديا لا يعرف للروح معنى، إن أمريكا التي تعبد الحديد والذهب والبترول كما يقول أمين الريحانى قد غطت نصف الأرض بمبشرين يزعمون أنهم يدعون إلى حياة روحية وسلام دينى، وكذلك نرى فرنسا دولة علمانية في بلادها ولكن، نجدها الدولة التي تحمى رجال الدين في الخارج، إن اليسوعيين المطرودين من فرنسا هم خصوم لها في الداخل وأصدقاؤها الحميمون في مستعمراتها، وكذلك إيطاليا التي ناصبت الكنيسة

العداء، وحجرت على البابا في الفاتكان، كانت تبنى جميع سياستها الاستعمارية على جهود الرهبان والمبشرين حتى روسيا السوفياتية التي تدعو في بلادها إلى الإلحاد، ومحاربة الأديان رأيناها بعد الحرب العالمية الثانية، حينما أرادت أن تحقق لنفسها نفوذا توسعيا سياسيا، فتظاهرت بالعطف على رجال الدين، ودعت إلى مجمع مسكونى في موسكو وحملت إليه المؤتمرين في طائراتها، ثم شرف ستالين نفسه أولئك المؤتمرين بمقابلتهم، وكذلك الإنكليز. ونقتبس من كاتب أوربي منصف، وهو الدكتور غوستاف لوبون بعض الفقرات مما دونه عن الحروب الصليبية ليكون شاهدا علي بني جنسه. قال: كانت أوربا ولا سيما فرنسا في القرن الحادي عشر الميلادى الذي جردت فيه الحملة الصليبية الأولى في أشد أدوار التاريخ ظلاما، وكان النظام الإقطاعى يأكل فرنسا التي كانت مملوءة بالحصون التي كان أصحابها -وهم من نصف البرابرة- يقتتلون على الدوام، ولا يملكون سوى أناس من العبيد الجهال، ولم يكن في ذلك الحين لسوى البابا نفوذ شامل وكان الناس يخشون البابا أكثر مما يحترمونه. وكانت دولة في الشرق قائمة وهي القسطنطينية مع انحطاطها عاصمة لدولة كبرى لا تنتهى فيها المشاحنات والمنازعات. وكانت دولة العرب في تفكك وانحلال، ولكن حضارتها كانت محافظة على سلطانها القديم. فالحروب الصليبية التي نشبت في ذلك الحين لم تكن سوى نزاع بين قوم من الهمج الأوربيين وبين حضارة المسلمين التي كانت تعد من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ. وكان أكثر قوافل الحجاج الأوربيين إلى بيت المقدس تكون فيالق عسكرية أكثرها من جماعة الحجاج، فكان بها بارونات وفرسان عسكرية طالما هاجمت الأعراب والتركمان، فاضطر

هؤلاء الى الدفاع عن أنفسهم، وبخاصة أن التركمان الذين قاموا مقام العرب في سوريا كانوا أقل تسامحا من العرب فألزموا حجيج النصارى دخول القدس بخضوع، ولم يسمحوا لهم بالدخول في شكل عسكري وعلى ضوء المشاعل كما كان العرب يسمحون بذلك. وزار بيت المقدس الراهب بطرس الناسك، فاغتاظ لما رأى من معاملة المسلمين للنصارى، وخيل إليه أنه مبعوث الرب لإنقاذ الأراضي المقدسة من الكفار، واستعان بالبابا أريان الثاني فأيده، الأمراء الاقطاعيون، وبخاصة أن المسلمين كانوا يهددون القسطنطينية، ويحاولون الاستيلاء عليها، ولقد لعبت أطماع التجار والأمراء دورا كبيرا في تنشيط هذه الحركة. وفي ربيع سنة 1096م بدأت الجيوش الأوربية تزحف، ولكنها تعرضت الى مجاعات وأمراض فتاكة ومن نجا منها عمل في السلب والنهب والتدمير، وقد روت (أن لومن) بنت قصير الروم أنه كان من أحب ضروب اللهو عند الصليبيين قتل الأطفال وتقطيعهم إربا إربا، ولكن هذه الجيوش الهمجية العاطفية لم يكن لها غناء وإنما فنى أفرادها بالأوبئة والمجاعات والفتن الداخلية، ثم بدفاع العرب وتلا ذلك الزحف جيش ضخم قوامه مليون أوربي يقودهم الأمراء والملوك وقد استولى ذلك الجيش على القدس في يوليو سنة 1099م ويقول غوستاف لوبون: لم يكتف قومنا الصليبيون الأتقياء بضروب العسف والتدمير والتنكيل التي اتبعوها، فعقدوا مؤتمرا أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس من المسلمين واليهود وخوارج النصارى الذين كان عددهم 60 ألفا فأفنوهم عن آخرهم في ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا وليدا ولا شيخا، ويقول غليوم الصوري: أن الصليبيين كانوا من السفهاء الفاسقين والملاحدة المارقين، ولو أراد كاتب أن يصف رذائلهم الوحشية لخرج من طور المؤرخ ليدخل في طور القادح الهاجي. وتوالت بعد ذلك الحروب بين المسلمين والصليبيين، وقد تم طردهم من القدس على يدي صلاح الدين الأيوبي، ودخل القدس وأسر ملكها سنة 1187م وأنهى سلطان الصليبيين عليها،

ولكنه كما يقول غستاف لوبون: لم يشأ أن يفعل ما فعله الصليبيون الأولون في المسلمين وقد وجد هؤلاء في حماه أمنا وسلاما. انزعج ملوك أوربا لاسترداد المسلمين القدس، فتألفت حملة ضخمة سنة 1189م يقودها أقوى ملوك أوربا وهم: فليب أوغست ملك فرنسا، وفريدريك بابا، وولى قيصر ألمانيا، وريتشارد قلب الأسد ملك انكليترا، ولم يكن لهذه الحملة من أثر إلا القتال والتدمير في أثناء الانتصارات الصغيرة التي كان يحرزها المهاجمون. ومن الحملات التي كان يقودها ملوك أوربا أيضا الحملة التي قامت من فرنسا بقيادة ملكها سان لويس سنة 1948م وقد اتجهت هذه الحملة الى الاستيلاء على مصر ولكن الجيش المصري هزمها وأسر الملك وسجنه في دار ابن لقمان في المنصورة وبعد مائتي سنة من الصراع المرير استطاع المسلمون أن يستردوا بلادهم من أيدى الصليبيين السفاكين. وقد بدأت انتصارات المسلمين تتضح على يد نور الدين زنكي سنة 1146م وجاء بعده صلاح الدين الأيوبي فحقق أعظم انتصارات للمسلمين، وبخاصة في معركة حطين التي أدت الى الاستيلاء على عكا ونابلس والرملة، ويافا، وبيت المقدس التي سقط ملكها أسيرا في أيدى المسلمين كما سبق. وفي عهد السلطان بيبرس سنة 1260 - 1277م تهافتت الممالك الصغيرة التي كانت في أيدى الصليبيين على ساحل البحر الأبيض المتوسط وفي سنة 1293م سقطت آخر مدينة لاتينية في يد ملك مصر السلطان الأشرف خليل، وانتهى بذلك الصراع الذى شنته أوربا الصليبية على المسلمين. هذه هي أعمال أوربا التي جعلت تدمير المسلمين نصب أعينها ولكن من لطف الله أن وجدت في استقبالها بقية من بقيت الايمان وفي مقدمتها الملك المسلم ألا وهو صلاح الدين الأيوبي وغيره من الملوك رجع هذا الانتصار الى نفوس المسلمين الطمأنينة بدينهم وحفظ لهم كرامتهم وشرفهم. وبعد ما فشل الصليبيون في

حملتهم القوية خرجوا من أرض الميعاد مطرودين مهزومين. وفي الختام نتكلم على تعاليم سيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام كيف اعتنقها الصليبيون، أراد هؤلاء، أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويقضوا على ما كان للإنسانية من عقائد ربانية وتراث مجيد، وتقاليد سامية يكشف المؤرخون والباحثون في الأديان السماوية عن حقائق مذهلة لأعظم جريمة اقترفها اليهود في حق الانسانية على يد بولس وشركائه من مؤسس الماسونية الذين تظاهروا باعتناق المسيحية لنسفها من الداخل، وتحويلها من دين مثالي كلما جاء به السيد المسيح عليه الصلاة والسلام الى مجموعة من الأساطير والخرافات الوثنية كما هي عليها الآن. عندما يطالع الانسان الاناجيل أو ما كتبه المسيحيون في شرحها فلا يحصل على طائل من الدين الصحيح، وكل إصحاح ينقض ما قبله، وكل جملة تهدم ما بعدها فلا هي كتب علم ولا هي كتب دين، وإنما هي مجموعة من أساطير وقصص وحكايات وروايات خاوية من كل معنى خالية من كل مضمون، لو وجه سؤال الى أي مسيحي مهما كانت درجته العلمية أن يبين حقيقة الدين المسيحي وما يعتقده في شخصية المسيح عليه السلام تصويرا حقيقيا يرضى به العقل ويطمئن اليه القلب لما استطاع ذلك، أذ كيف يستطيع وهو يتلقى من صغره بأن الثلاثة تساوي الواحد والواحد يساوي الثلاثة، وأن عيسى عليه السلام مكون من ناسوت ولا هوت، وأن طبيعة اللاهوت خلقت طبيعة الناسوت لأجل أن يكون كبش الفداء على البشرية التي تنوء بالخطيئة الأولى. ان علماء التاريخ المسيحي يقرون بأن الأناجيل الأربعة المتداولة قد تم اختيارها من بين حوالى مائة انجيل كانت منتشرة بين المسيحيين في القرن الرابع الميلادي، ومن المعلوم بالضرورة أن المسيح عليه السلام قد أتى بإنجيل واحد، وهم لا يستطيعون أن يثبتوا أن أحد الاناجيل الاربعة مطابق بنفسه ومعناه للإنجيل الذى جاء به المسيح عليه السلام لذا فمن المحتمل أن يكون الانجيل الأصلي الحقيقي واحد من الأناجيل التي زعموا أنها كاذبة وأسقطوها، واذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، لأجل هذه الأساطير تحشد عصابات التبشير كل طاقتها لتخريب ضمائر

المسلمين، وزعزعة عقائدهم، لتصرفهم عن عبادة الله الواحد الأحد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، الى عبادة آلهة ثلاثة، وهم الى الآن لم يعرفوا الخالق من المخلوق ولتنقلهم من دين الاسلام الحنيف الى دين سداه الوثنية ولحمته الشرك، والخرافات جزء منه لا يتجزأ ويسمونه دين المسيح زورا وبهتانا، والمسيح عليه السلام بريء منه، وهذه العصابة من المبشرين هي من دول الاستعمار، فإنه يساندها ويرصد لها الأموال الطائلة، ويجند لها الطاقات، ويبلغ ما ينفق عليها عشرات الملايين من الدولارات بل المآت الملايين. وعلى الرغم مما قامت به هذه العصابات من هجمات مسعورة على الاسلام والمسلمين، وعلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإننا مع الأسف لا نجد من المسلمين ردود فعل تتناسب مع ما يبذله المسيحيون من جهد مستميت في هذا المضمار، واذا وجد من يريد أن يدلى بدلوه، فإنه لا يلبث أن يفاجأ بالعراقيل توضع في طريقه، وبالمعوقات تنشط عزائمه، وممن من أبناء جلدته فيصمونه بالطائفية، ومن السخرية والاحتقار للإسلام جعل حكام المسلمين في دساتيرهم التي سطروها (الاسلام دين الدولة الرسمي)، ووضعوا بعده ألف مادة لهدمه وتأتى على بنيانه من القواعد، ولعل المسلمين لا يدرون بأن الحروب الصليبية التي اشعلت ضد الاسلام والمسلمين منذ أكثر من 800 سنة لا تزال باقية الى الآن، ولكن في اشكال وصور مختلفة، ولا زلنا نعانى من آثارها في الفلبين والحبشة والسودان، وفي نجيريا وتيلاندا، وفي بلقاريا والتشاد، وفي فلسطين وغيرها وستبقى هذه الحروب وتدوم الى أن يرث الله الأرض ومن عليها كما قال الجنرال الإنجليزي عندما فتح فلسطين ودخل القدس الشريف وقف وقال: (الآن انتهت الحروب الصليبية) وهو كاذب لأن أحداث الساعة تدل على استمرارها.

زحف التتار على الممالك الاسلامية الشرقية

زحف التتار على الممالك الاسلامية الشرقية لم يتأثر المسلمون بالحروب الصليبية التي دامت زهاء قرنين من الزمن واتحدت الكنيسة مع أوربا على حريهم، ورغم هذا لا زالوا مختلفين ومتنابذين ولم يسلم بعضهم لبعض، ولم ينظروا في الخطر الذى يهدد كيانهم جميعا، ولم يرجعوا الى الدين الذى يوحد بينهم ليقفوا صفا واحدا في وجه الغزو المتكالب عليهم من كل ناحية، ويجعلوا حدا لهذا الافتراق الشنيع الذى تأصل في نفوسهم، وأسلمت هذه الحالة - اي حالة الصليبيين - الى حالة أخرى هي أدهى وأمر من سابقتها، الا وهو زحف المغول على الممالك الاسلامية الشرقية وتحطيمها تحطيما شنيعا، وأنهى بذلك الخلافة العباسية الرمزية وتدمير الحضارة البغدادية، ننقل بعض الفقرات من التاريخ. كيف اكتسح التتار الممالك الاسلامية وتخريبها. بيد أن الصليبيين كانوا في الشام ومصر وآسيا الصغرى، وداروا حول هذه الدوائر، ولم يتجاوزوها. أما هجوم التتار الكاسح فقد انساب من أقصى الشرق لا يلوي على شيء الا جعله ركاما ولا على قوم الا جعلهم رميما حتى وصلوا الى الشام واستولوا على أكثره، وراموا مصر، ثم ارتدوا على أدبارهم خاسئين أمام جيش مصر والشام. ولتذكر كلمة لابن الأثير في وصف التتار وما كان منهم في القرن السابع الهجري فإنها كلمة بليغة مصورة قال رحمه الله: لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها، وها أنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذى يسهل عليه أن يكتب على نعى الاسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، الى أن حثني جماعة من الاصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا فنقول: (هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو

قال قائل ان العالم مند خلق الله سبحانه، وتعالى آدم الى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا، فإن التاريخ لم يتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها ... ولعل الخلق لا يرون مثل هده الحادثة الى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا الى خروج يأجوج ومأجوج، هؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والاطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة (فانا لله وانا اليه راجعون)، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها وعم ضررها، وسارت في البلاد كالرياح ... ان قوما خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان ... ومنها الى بلاد ما وراء النهر فملكوها ... ثم تعبر طائفة منهم الى خرسان فيفرغون منها ملكا وتخريبا وقتلا ونهبا، ثم يتجاوزونها الى الري وهمدان الى حدود العراق، ثم يقصدون بلاد أذربيجان ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها ولم ينج منها إلا الشريد الطريد النادر في أقل من سنة هذا ما لم يسمع بمثله أحد، ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددا، فقتلوا كل من وقف لهم، فهرب الباقون إلى الغياض وراء الجبال. وفارقوا بلادهم، واستولى هؤلاء التتار عليها، فعلوا هذا في أسرع زمان. ولم يلبثوا الا بمقدار سيرهم لا غير، ومضت طائفة أخرى غير هذه الطائفة الى غزنة وما جاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان ففعلوا بها مثل ما فعل هؤلاء، وأشد، هذا مما لم يطرق الاسماع مثله، فان الالسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، وانما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدا، وإنما رضى من الناس بالطاعة، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمورة من الأرض وأحسنها عمارة وأهلا، وأعدل أهل الأرض أخلاقا سيرة في نحو سنة، ولم يبت أحد من الناس ومن البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعهم. ويترقب وصولهم اليه، ثم أنهم لا يحتاجون الى ميرة ومدد يأتيهم فإنهم معهم الاغنام والبقر، والخيل وغير ذلك من الدواب يأكلون لحومها لا غير، وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها وتأكل عروق النبات، ولا تعرف عن الشعير، فهم إذا نزلوا منزلا لا يحتاجون الى شيء من خارج.

وأما ديانتهم فانهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئا، يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها، ولا يعرفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال فإذا جاء الولد لا يعرف من أبوه. هذا وصف لأولئك الذين ابتلى بهم العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري، واختص المسلمون بهذا البلاء، ولقد انساب أولئك المغول في الديار الاسلامية حتى فضوا على عاصمة الخلافة قال الأستاذ أنور: لا يعرف الاسلام من بين ما نزل به من الخطوب والويلات خطبا أشد من هؤلاء من غزوات المغول، فقد انسابت جيوش جنكيز خان انسياب الثلوج من قمم الجبال، واكسحت طريقها العواصم الاسلامية، وأتت على كل ما كان لها من مدنية وثقافة، يقول الخميسي في تاريخه في سنة ستة وخمسين وستمائة هجرية: وصل الطاغية هولاكو حفيد جنكيز خان الى بغداد بجيوشه ونزل قائده باجنوس على بغداد من غربها وهولاكو من شرقها، ثم خرج اليه الخليفة العباسي في أعيان الدولة وأكابر الوقت، فضرب المغول رقاب الجميع، وقتل الخليفة وداسوه بالخيل، ودخل التتار المدينة وأقسموها وعمل السيف فيها أربعة وثلاثين يوما وقل من أسلم من سكان المدينة فبلغت القتلى ألف وثمانية مائة نسمة، وقد نهب المغول دار الخلافة لم يبق فيها شيئا، ثم أحرقت بغداد بعد أن قتل أكثر أهلها) انتهى ... ويقول الأستاذ أبو زهرة رحمه الله أحب أن أشير هنا إشارة عابرة الى الاستيلاء على بغداد قصبة الاسلام، أو تخريبها كما هو التعبير الدقيق، ففي خبرها العبرة ان بغداد لم تبتل فقط بالتتار وهم بلاء في الأرض وشر مستطير، وهم وحدهم كافون لإزالة كل حضارة، وتقويض كل قائم بل ابتليت بغداد بمن فيها، فقد كان فيها اليهود والنصارى قد مالئو التتار، وكاتبوهم وكان فيها من هو أمر وأدهى وهو العلقمي وزير المعتصم آخر خليفة عباسي كان مقيما في بغداد، فإن ذلك الوزير كان شيعيا غالبيا ارتضى لنفسه أن يماليء عبدة الشمس والتتار على عبادة الواحد القهار وخان دينه وخان بلاده، وخان الفضيلة، قد عمل على إضعاف جند بغداد فقد كان فيهما عند توليه مائة ألف جند معهم

الشبكة والسلاح والعدة والعتاد وكان فيهم الأمراء الأكابر الذين كانت لهم حمية الأسود الكواسر، فلم يزل في تقليل العدد حتى أصبح نحو عشرة الآلاف ثم أطمع التتار، وكشف لهم الحال، وضعف الرجال، فجاءوا، ولم يكتف بالذي قدمه بل انهم عندما أقبلوا كالوحوش الضارية حسن للخليفة مصالحتهم على أن ينزل على نصف خراج العراق، ويكون للخليفة النصف الآخر فرضى، وذهب الخليفة ليفاوض فأعاده هولاكو مذموما مدحورا اذ قد أشار الوزير العلقمي في الوقت نفسه على هولاكو ألا يقبل المصالحة لأن الخليفة ينقضها بعد سنة، وأشار عليه بقتله، وأيد العلقمي نصير الطوسي الذى كان في صحبة هولاكو وخدمته. قتل الخليفة بإشارة الروافض، وانساب التتار، يقتلون ويخربون في بغداد ولم ينج من أهل بغداد الا اليهود والنصارى ومن لجأ الى العلقمي، فهؤلاء وحدهم كان لهم الأمان، أزيلت قصبة الدولة الاسلامية على أيدى عبدة الشمس، وأغراهم بعض الشيعة فلم هذا؟ لم يؤتون حكم الطاغوت على حكم المسلمين؟ لعل السبب في ذلك أنهم يرون في المسلمين الذين يخالفون طريقتهم ضلالا، وهذا السبب عام، ومن هناك سبب خاص لعله كان أقوى تأثيرا، وذلك أنه كان في سنة هـ وهى سنة السابقة على تخريب بغداد، كان بين أهل السنه والرافضة حرب مذهبية نهب فيها بلاد الكرخ ومحلة الرافضة، حتى نهب دور أناس ذوى قرابات للعلقمي، فأثار ذلك حنقه وهياجه على أن دبر للإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذى لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد (¬1). وسواء أكان القتال بين الرافضة وغيرهم ما يبرره فان هذا يعطينا صورة عن هذا العصر كيف كان المسلمون في هذا الزمن، والبلاء بلاء وهو ابادة لا تبقى ولا تذر، ولا تفرق بين مذهب ومذهب كانوا يتناحرون في نحلهم، هؤلاء يقتتلون والتتار قد أزالوا كل ما وراءهم من بلاد، ثم تعطينا صورة أخرى أشد اقتاما، تبين كيف يعمى التعصب المذهبي القلب والبصيرة، ¬

_ (¬1) تاريخ البداية والنهاية لابن كثير

فيقدم وزير أعطى أمانة الخلافة والملك، فيوعز الى من لا دين لهم ولا أخلاقا ليتحكموا في أهل دينه فيبيدونهم عن آخرهم، وهذا الصنف من الخونة كثير في المسلمين لا يخلو منهم زمان ولا مكان، وهم سبب الكوارث للمسلمين في جميع العصور لأنهم منافقون لا يؤمنون بالدين، ثم تبين لنا أيضا كيف يخون اليهود والنصارى المسلمين عند اشتداد الأزمة ويؤلبون أعداء الاديان وأعداء بنى الانسان على من عاهدوهم وحموهم وآووهم، ولكن هي الحفيظة الدنيئة تدفع الى الأذن من غير نظر لعهد ولا لأمانة ولا لمصلحة اجتماعية. لقد دخل التتار حلب الشام بعد بغداد، وذهبوا الى دمشق فاستولوا عليها واستولوا على القلعة بعد مصالحة أحد أمرائهم واسمه (ابلاسان) فقرب النصارى اليه، وهم تقربوا الى هولاكو، قد هبت اليه طائفة من النصارى معها الهدايا والتحف جاءت من عنده بأمان أعطاه لها الطاغية. وكان ذلك وصلا لما بدئ من قبل في بغداد، بل في كل مدينة دخلها التتار ولنترك الكلمة لأبن كثير يشرح ما كان منهم فقد قال: (دخلوا من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس وهم ينادون بشعارهم ويقولون ظهر الدين الصحيح، دين المسيح، ويذمون دين الاسلام وأهله، ومعهم أوان فيها خمر لا يمرون على باب مسجد الا رشوا عنده خمرا قماقم ملآنة خمرا يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الازقة والأسواق أن يقوم لصليبهم، فتكاثر عليهم المسلمون فردوهم الى سوق كنيسه مريم، فوقف خطيبهم فمدح دين النصارى، وذم دين الاسلام وأهله) (فانا لله وانا اليه راجعون). ولكن أن الاسلام قد استطاع أن يصل الى قلوب هؤلاء المغول فقد كان الملوك من بعد هولاكو مسلمين، وان لم يذق التتار بشاشة الاسلام الا من بعد فترة من الزمن، الحقيقة أن موقف المسلمين من القرآن في هذا العصر ومن بعده مثلهم كمثل جماعه أحاط بهم الظلام من كل مكان، فهم يتخبطون فيه ويسيرون على غير هدى، فتارة يقعون في هاوية وأخرى يصطدمون بحجر، وثالثة يصطدم

بعضهم ببعض، ولا يزالون هكذا يخبطون خبطا عشوائيا ويسيرون في ظلام دامس مع أن بين أيديهم زرا كهربائيا لو وصلت اليه أصابعهم فإن أدنى حركة يسيرة يمكن أن توقد مصباحا مشرقا منيرا، هذا مثل المؤمنين وموقفهم من كتاب الله (كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ، والماء فوقا ظهرها محمول) لا يستطيعون سبيلا الى الهداية وبين أيديهم النور الكامل يقول الله عز وجل: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1) {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2) {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬3) ويقول سبحانه وتعالى في حق الكافرين: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} ولكن فما بال المؤمنين الذين آمنوا بالله وصدقوه وأحبوه واعتقدوه ولا يخلو بيت من بيوتهم من كتاب الله، قد أعرضوا عنه ان أهل الكفر قد خدعوا المسلمين عن نورهم، وأبعدوكم عن هديهم، وضللوهم عن طريقهم، وأمسكوا بأصابعهم على أن لا تمس الزر الكهربائي - ألا وهو القرآن الكريم - لينير لهم الحياة خدعوهم بالسياسة، وتارة بالعلم الدنيوي {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} وطورا بالمال، وأخرى بالشهوات وخاصة بالخداع وتاره بالقوة والقهر والجبروت، فكانت النتيجة أن المسلمين اتبعوا الكافرين، وقد حذرهم الله من ذلك بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} (¬4) ولما سبق في علم الله أن الكفار يهددون المسلمين بما بين أيديهم من قوة وبأس، فأراد أن يستأصل من قلوبهم هذه الشبهة فقال: (سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) ثم يذكر الله حادثة تطبيقية مقرونة بالدليل قال: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ ¬

_ (¬1) سورة الشورى (¬2) سورة الاعراف (¬3) سورة آل عمران (¬4) سورة آل عمران

بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (¬1) هكذا يحذر الله المؤمنين بالقرآن من أن ينهجوا منهج الكفر، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (¬2) فأهل الكفر مطبوعون على الخداع وعلى الكيد لأهل الايمان {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} (¬3) {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} (¬4) ويجب على كل مؤمن أن يبرأ من محبة الكافر، قال الله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} فهذا تصوير صادق لعاطفه أهل الكفر نحو أهل الايمان، ومع هذا فقد نسي المسلمون التحذير {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬5)، ورغم هذا التحذير؟ ورغم أن كتاب الله قد كشف عن أنفسهم هذا الكشف بعد كل هذا أنهوى بأنفسنا الى الهاوية؟ ونسير في أذناب أهل الكفر، ونعمل كما يعمل أهل الكفر. وهم يخدعوننا عن هذا بكل وسيلة وبكل أسلوب. ولما دخل التتار الى الاسلام وأصبحوا بعض أتباعه فعادت أوربا من جديد تتحفز وتعد العدة لاستناف نشاطها الحربي على العالم الإسلامي واتجهت في هذه المرة الى الهجوم على تركيا زعيمة العالم الإسلامي وموطن الخلافة الاسلامية، وعلى من اتبعها من الممالك الاسلامية. ¬

_ (¬1) آل عمران (¬2) سورة المائدة (¬3) سورة آل عمران (¬4) سورة الممتحنة (¬5) سورة آل عمران

تركيا والغرب

تركيا والغرب رجعت الخلافة الاسلامية - من بعد ما عصفت بها الأحداث من الداخل والخارج - ولكنها لم ترجع الى العرب ولا الى قريش، بل استولى عليها الأتراك، ودخلوا الى أرض المسلمين باسم الاسلام، فانظم اليهم المسلمون أينما كانوا الا قليلا ممن لازم الحياة، شهد القرن السادس عشر الميلادي دولة إسلامية كبرى - هي تركيا - تقيم إمبراطورية اسلامية من أكبر الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، ويأخذ سلطانها لقب الخليفة، وأصبح مركز الخلافة في القسطنطينية عاصمة البيزنطيين سابقا، فانضم الى هذه الخلافة الجزيرة العربية ومصر والشام، والعراق والجزائر وتونس. وشهد هذا القرن تلك الإمبراطورية الاسلامية القوية التي أصبحت تهدد أوربا، واحتلت منها جزءا غير قليل، وهو ما يعرف الآن باسم (رومانيا وبلغاريا واليونان، ويوغسلافيا وألبانيا، والمجر)، وجعلت لها كلا من البحر الأسود والبحر الأبيض بحيرة اسلامية، وقد كان لها أسطول بحر كبير، وجيش قوى عتيد، وتسمت باسم الخلافة العثمانية، وأصبحت مصدر رعب لأوربا وذعر للمسيحيين، كيف كان موقف الغرب أمام هذه الإمبراطورية الاسلامية الكبرى، وأوربا إذا شاهدت دولة عظمى للمسلمين لا يستقر لها قرار حتى تقضي عليها. يقول الأستاذ محمد حبيب تألبت الدول الأوربية على الخلافة الاسلامية، واجتمعت كلمة المسيحيين على الوقوف في وجه التيار الاسلامي الجارف، وعقدت المعاهدات وتظافرت القوى والجهود لهذا الغرض، وكان من سوء حظ الخلافة الإسلامية أن ظهرت هذه الحركة الأوربية في وقت كان سلاطين آل عثمان قد انغمسوا في الترف واستسلموا للدعة والنعيم والشهوات. وقد اتخذ الصراع ضد تركيا شكلا دينيا واضحا اذ تكون ضدها حلف مقدس من النمساويين وبولندة والبندقية، وكان لهذا

الحلف أثر كبير في التغلب على تركيا حتى تضعضعت قوتها، ثم دخلت روسيا في حرب معها باسم الدين، هذه الحرب تؤيدها جميع الدول الأوربية وأشعلوا فيها الفتن والثورات من الداخل حتى من العرب أنفسهم، وألبوا عليها كل الممالك التي كانت تحت يديها فبعضها استقل عنها كمصر والجزيرة العربية وبعضها في طريق الاستقلال، وأنزلت هذه الحروب والفتن التي كانت من الداخل والخارج بالخلافة الاسلامية ضربات قاصمة وخسائر فادحة، وكانت نتيجة هذه الأحداث العظيمة أن هوت تركيا من شاهق وهان أمرها وضعف شأنها حتى أصبحت تعرف بالرجل المريض .... وهكذا حطم الغرب المسيحي الخلافة العثمانية، واستولى على الأقطار العربية التي كانت تكون أكبر جزء في جسم الخلافة. احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830م وتونس 1881م ومراكش 1911م وان كانت هذه الأخيرة لم تكن تابعة لتركيا وأذنت الدول الأوربية لفرنسا ان تحتل لبنان سنة 1860م ثم سوريا سنة 1918م. واحتلت انجلترا مصر سنة 1982م واحتلت إيطاليا طرابلس سنة 1911م ثم فلسطين من طرف الانكليز عقب ذلك. وسبب هذا الاحتلال هو أن رجال الكنيسة والمبشرين من رجال الدين المسيحي مهدوا الطريق الى هذا الاحتلال الشنيع لأنهم كانوا في الأقطار جواسيس وعيونا يطلعون الاستعمار على عورات المسلمين وينقلون اليه كلما هب ودب فيها باسم الدين والتظاهر بالشفقة والرحمة على الفقراء والعجزة والمساكين. الرهبان منذ القرن الثامن الهجري الموافق للقرن الرابع عشر الميلادي حتى الى القرن الثامن عشر ما انفكوا في مراكش، والجزائر، وتونس ومصر والشام يعملون للاستعمار حتى تمكنوا فعلا من احتلال هذه الأوطان. ففي سنة 1911م عقد مؤتمر للمبشرين المسيحيين في لنكاو في الهند ونظر في حالة المسلمين، فوجد فيها الاضطرابات الخطيرة، والانقسامات الى طوائف متناحرة قال أحدهم: (ان هذا الانقسام

السياسي الحاضر في العالم الإسلامي لدليل بالغ على عمل يد الله في التاريخ، واستشاراته لديانة المسيحية لكي تقوم بالعمل (يشير بذلك الى كثرة الابواب التي أصبحت مفتحة في العالم الإسلامي على مصاريعها، ان ثلاثة أرباع العالم الإسلامي تعتبر الآن سهلة الاقتحام على الارساليات التبشيرية ان في الإمبراطورية العثمانية، وفي غرب شبه جزيرة العرب وفي ايران، والتركستان والأفغان، وطرابلس الغرب، ومراكش سدودا في وجه التبشير، ومن هناك مائة وأربعون مليونا من المسلمين في الهند، وجاوة والصين، ومصر وتونس والجزائر يمكن أن يصل اليهم التبشير بسهولة. وكانت الغطرسة التي جبل عليها الاستعمار تمنعه من أن يتساوى مع غيره من شعوب العالم التي هي من غير جنسه، فكان يرى أن هذه الشعوب ناقصة في خلقها وتكوينها الفسيولوجي لأنها لم تكن على درجة كبيرة من الذكاء والخلق اللذين يخولانها بتسيير شؤونها والقيام على مصالحها قياما كاملا بخلاف الجنس الاوربي. هذه هي فلسفة التي يتبجح بها في استعباد الشعوب التي هي من غير جنسه، وحجته في ذلك العروق الجنسية، لأنه يرى أن عرقه أفضل من جميع العروق البشرية في الذكاء، ولهذا فهو أحق بالإشراف على مصالح هذه الشعوب. حاول الاستعمار بكل ما أوتي من قوة ودهاء أن يبدل طباع هذه الشعوب وخلقها حتى تلتحق بطباعه وخلقه فمنع منعا باتا تعليم لغتها وتاريخها وآدابها القومية من الدراسة في المعاهد واستبدالها بلغته وتاريخه وآدابه. ولم يدر الاستعمار بأن القواعد التي تقوم عليها حياة المجتمع هي وليدة الخلق، والخلق يتألف من امتزاج مختلف عناصر الشخصية التي يطلق عليها اسم المشاعر، وقد تتغير الصفة الذهنية بالتربية تغيرا قليلا. أما الصفة الخلقية فإنها تتقلب من سلطان التربية تقلبا تاما، والتربية عندما تؤثر في الصفات الخلقية لا يكون هذا التأثير إلا عند ذوي الطبائع المحايدة لدى الأفراد، وقلما توجد في أمة

كاملة، وإذا وجدت في أمة لا يكون وجودها الا في أيام انحطاطها، ومن السهل أن ينتقل الذكاء من أمة إلى أخرى، أما الصفة الخلقية فلا تنتقل، الخلق كالصخرة الثابت التي تلطمها الأمواج يوما بعد يوم في عدة قرون. وللأخلاق نفوذ كبيرة على حياة الأمم، والخلق هو الأساس الحقيقي للمزاج الشخصي، والأمة اذا تغيرت لغتها ومعتقداتها وفنونها بغته، وتغيرات كهذه لا تكون حقيقة في هذه الأمة الا إذا استطاعت أن تحول روحها، ولهذا لم ينجح الاستعمار في تبدل طبائع الشعوب وخلقها، وباء بالفشل التام رغم المجهودات التي بذلها أنظر الى أحلامه كيف كذبها الواقع وبددتها الحقائق الناصعة باستقلال هذه الشعوب.

ثورة الشعوب الاسلامية الحديثة على الاستعمار الغربي أينما كان

ثورة الشعوب الاسلامية الحديثة على الاستعمار الغربي أينما كان من أحرج الساعات في حياة الامم وأشدها الساعة التي تفقد فيها الحرية والقيادة الرشيدة، ومقومات الحياة كالعلم والسياسة والاقتصاد وغيرها فتظهر عليها أمارات الشيخوخة فتصبح بعيدة عن النظم الاجتماعية فتصير مسخرة للعمل والطاعة العمياء لأسيادها. تخسر هذه الأمة المستعمرة كل شيء في حياتها، تخسر الوحدة التي هي سبب النجاح والفلاح، تخسر المعارف والعلوم التي تهديها الى طريق السعادة والنجاة، تخسر التعاون والتربية والأخلاق الحميدة التي لولاها لما كانت أمة معتبرة في الوجود، تخسر القدرة على السير الى الأمام. وهذا ما اعترى الأمة العربية الاسلامية في فترة الانحلال، فركدت أفكارها وجمدت عقولها ومواهبها لأن الاحتلال كان قتلا لمعنوياتها، وطمسا لكيانها وتشويها، لسمعتها، وتلطيخا لتاريخها ومجدها. وكل دولة أجنبية استعمرت بلدان المسلمين الا وحاولت مرارا وتكرارا أن تقتل الطموح فيها، ولكن الطموح لا يموت موتا نهائيا، فهو كالنار تبقى جذوته ضئيلة غير أنها عاملة نشيطة. وكل دولة احتلت أقطار المسلمين الا وحتمت عليهم عوائدها وأخلاقها ولغتها وجنسيتها ليعتنقوها، ويذوبوا فيها شيئا فشيئا حتى تبتلعهم. دخل الاستعمار أرض العرب ووطن الاسلام ومنازل الوحى ومدارس القرآن، فدنس بأقدامه الغليظة مقدسات الشرق، وامتهن البقاع المقدسة فمسك منافذ الحياة فيها، واستولى على مرافق العيش منها، فامتص خيراتها كما امتص روحها وحياتها،

وصادر عقولها وأفكارها، وحارب العقائد والمبادئ السامية، وعفر وجه المسلمين، في الرغام والأوحال، ومزق الصحف، ومنع الشعوب من اتصال بعضها ببعض، وسادها الاقطاع جميعا، وتحالف عليها الفقر والجهل، واستعمل معها جميع وسائل الفناء فكابدت من هذا الاحتلال الملعون جميع المحن والمصائب. كانت روح القسوة التي جبل عليها، والتشفي التي هي سليقة فيه واضحة في انتصار الاستعمار على المسلمين، فلم يكن ما أحرزه من نصر في المعارك نهاية المطاف وإنما كان بدء المجاور الشنيعة، وازهاق الأرواح بالآلاف، وأسكب فيضا من الدماء الغزيرة، وشملت هذه القسوة الأطفال والنساء والعجزة، وجرت هذه الويلات الخراب والدمار على البلاد، وكان السفاكون يحتسون الخمر، ويرقصون طربا للنصر وتعذيب المواطنين وإبادتهم وتدميرهم. وقد كتب الجنرال نيكلسون الإنكليزي يقول: (يجب علينا أن نسن قانون يبيح لنا أن نحرق أو نسلخ جلود المسلمين وهم أحياء لأن نار الانتقام تتأجج في صدورنا ولا تخمد بالشنق وحده)، وكان هذا الجنرال حسن النية لأنه فكر في سن قانون لسلخ المواطنين أحياء، أما غيره من الجنرالات الأخرى فقد فعلوا هذا وأكثر دون أن يحتاجوا الى سن قانون، وقد كتب المؤرخون الافرنج أنفسهم هذا التاريخ الشنيع وانتقدوا الأعمال البربرية التي قام بها الصليبيون ضد المسلمين انتقادا مرا. لقى الأحرار والمفكرون من العالم الإسلامي أسوأ المصير في حكم الاستعمار من الظلم والعسف والسجن والنفي والتشريد والتقتيل، وانفق ثروات البلاد على جيشه وعلى المبشرين الذين يحاربون الاسلام، ويحسنون للمسلمين اعتناق المسيحية. ولما تم الاستيلاء على الجزائر، فتحت فرنسا باب الهجرة من جميع أقطار أوربا ليستوطن الغربيون هذا الوطن، وكانت تساعد كل من يأتي إليه من الجاليات الأوربية بكل وسيلة ممكنة من المال وغيره كنزع الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة من أيدي السكان المسلمين، وإعطائها الى المهاجرين، فجمعت بذلك ذل الاستعباد

وذل الفقر عليهم، فضح الجزائريون من هذه الحالة، فأصبحوا غرباء في بلادهم محرومين من خيراتها، بحيث طردوا الى قمم الجبال او الى الصحارى القاحلة، وكانت فرنسا ترمى من وراء هذه السياسة تحطيم كل أمل للمسلمين. ومن بعد ما ملك الأوربيون المهاجرون الأراضي الصالحة، أصبح المسلمون مسخرين للعمل فيها بأجر زهيد جدا لا يسمن ولا يغنى من جوع. وبعد ما استقر الاستعمار في هذه الأوطان بدأ يحطم الدين الإسلامي فأسقط حكمه الذى كان يحكم بين العباد، واستبدله بقوانينه، ومنع علومه من أن تدرس وجعل المساجد وشؤونها تحت يده بعد ما خرب أكثرها، واستعمل بعضها كنائس وثكنات للجند، وصادر الأموال المحبسة عليها الى خزائنه العامة، وأغلق المدارس التي كانت تعلم الدين واللغة، وأصبح يعاقب كل من يعلم هذه المواد الا برخصة وشجع ذوى الأهواء والبدع والخرافات، لتضليل الشعوب وإفساد الرأي العام، وكون جيشا من المسلمين للدفاع عن وطنه الأصلي، وفتح المستعمرات له، وسن قانونا خاصا للمسلمين سماه قانون الأهالي بحيث لو تخاصم مواطن مسلم مع أوربى لا يعطى الحق للمسلم أبدا، ولو كان صاحب حق، ويعاقب لتجرعه ووقوفه في وجه سيده الأوربي، واذا رأى مسلم أوربيا سائرا في الطريق ينبغي للمسلم أن يرفع كلتا يديه الى السماء والويل له ان لم يرفعهما. أسس الاستعمار مدارس لتعليم الناشئة الاسلاميه لغته وعوائده وأخلاقه، والباعث على ذلك لا التثقيف كما يفهم من ذلك،، وإنما لفهم كلامه في العمل وقضاء المصالح ولكي يتخلقوا بأخلاقه وعوائده ولينسلخوا من الاسلام ولغته وأخلاقه وعوائده، كما هو مشاهد في عواصم الجزائر، أما أن يتلقوا علوما صحيحة عالية فلا سبيل إلى ذلك الا أن يخلع هذا المتعلم جنسيته ودينه، ويعتنق جنسية فرنسية، فبهذا فقط يسمح له بمتابعة التعليم العالي. والجزائريون - تقريبا - كلهم تعلموا في مدارسه، فكان هذا التعليم سببا في صدهم عن كل ما كان لهم من تراث نفيس،

وقطع الصلة بينهم وبين ماضيهم المجيد، وقتل الإحساس والشعور بقوميتهم الاسلامية، وتاريخ أمتهم العظيمة، ولو كان الاستعمار صادقا في تعليم هؤلاء الناشئة لما فرق بين الأوربيين والمسلمين في التعليم، ولعلمهم العلوم الحية كالعلوم التجريبية بكل فروعها من كيماوية وميكانيكية وتطبيقية لأسدى معروفا لهؤلاء المتعلمين وللوطن، لأن البلاد من بعد خروج الاستعمار منها أصبحت في حاجة شديدة الى من يتقن هذه العلوم ولم تجد من هؤلاء المثقفين من يقوم بحاجيات البلاد بعد ذهاب الأوربيين منها، فأصبحت الحكومة تستورد الخبراء من الخارج، فتعليم الاستعمار لأبناء المسلمين لغته كان القصد منه هو القضاء على الاسلام عن طريق التعليم الأوربي. فثقافة هؤلاء المتفرنسين كانت في غاية الخطورة على الاسلام، فجردوه من روحه وقيمه وأخلاقه، وأصبحوا يناصبونه العداء ويتهمون أحكامه بأنها رجعية. وان كان بعض الأفراد استفادوا من هذا التعليم وهم أقلية جدا، فشذوا عن البرامج المحكمة التي ضربها الاستعمار حول الشبيبة الاسلامية في التعليم، فهؤلاء على كل حال يحملون علما صحيحا، وثقافة لا باس بها وان كان غالبهم يجهل الاسلام. هؤلاء المتعلمون هم الذين أسسوا الأحزاب الوطنية، وكانوا في طليعة المجاهدين غيرة عن الوطن، وهكذا أراد الاستعمار أن يقضي على كل ما كان للمسلمين من خصائص ومميزات، لأنه يعلم علم اليقين إذا ترك لهم اسلامهم وأخلاقهم فإنه لا يضمن وجوده وبقاءه في أوطان المسلمين لأنهم يقظون حساسون يتدفق ماء القوة في عروقهم ونخوة الماضي تدفعهم الى أخذ الحق المسلوب، وتحطيم الاستعباد الذي يرسفون في قيوده يحرك مشاعرهم الى الاستقلال والسيادة حتى يستردوا مجدهم التليد. ولما كانت هذه الشعوب تحب الحرية أصبحت في أيام الاحتلال تشعر بالحرمان من الحياة الحرة الكريمة، فكانت تثور في كل مناسبة، وتخوض المعارك الدامية ضد المحتل بكل ضراوة وشدة حتى اكتسبتها هذه المقاومة الباسلة التمرس بالآفات والصمود في وجه القوة مهما كانت، والتهيؤ لمنازلتها في كل زمان ومكان

وهكذا كانت ولا زالت، فلا الاستعمار يفنى ولا هي تستريح. والأمة المستعمرة لا تبقى تحت الذل والعبودية الى الأبد، فمن السنن الالهية أن يرفع هذا ويخفض الآخر والعكس {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ولا سيما أمة كأمة الاسلام صاحبة العقيدة الربانية والمبادئ الصحيحة الخالدة الوارثة لرسالات السماء الخاتمة لأنبيائه ورسله، ولا يعزين عن البال أن الدين لم يزل طول هذه المدة محفوظا من التحريف والتبديل مهيبا بالمسلمين ناعيا عليهم انحرافهم عن طريقه، ولم يزل مناره عاليا وضوؤه مشرقا {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1) ولم يزل الكتاب والسنة يبعثان في نفوس المسلمين ثورة على الشرك والبدع وعلى الجاهلية والضلالة، وثورة على أخلاق الجاهلية وعوائدها، وثورة على ترف المترفين واستبداد الملوك، ولم يزل تأثيرهما في كل دور من أدوار التاريخ الإسلامي، وفي كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي رجال يقومون بهديه على طريق الأنبياء من الله بهم على المسلمين يحفظ بهم شرف الاسلام وعزته، ويعيد بهم الحياة الى هذه الأمة عندما تضعف أو تنهار، فهم امثلة كاملة، وأقيسة تامة للدين يجددون لها أمر دينها، وينفخون فيها روح الجهاد ويسعون لإقامة حكومة إسلامية على منهج الخلافة الرشيدة، وهم مصداق للحديث الشريف (لا تزل طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) فان الاسلام فيه من أثر الله ما يعصمه وعليه من اشراف النبوة ما يحفظه. وفعلا وجد الدعاة الربانيون، والمجددون لهذه الأمة دينها، وهؤلاء المجددون هم الذين أهابوا بالأمة بالرجوع الى الاسلام، والاعتصام بحبله المتين. وهؤلاء الدعاة الربانيون هم ثلة من العلماء العاملين الذين هم من بقية السلف الصالح. وإذا كان صلاح الدين وملوك المسلمين الذين كانوا معه في ذلك الوقت حاربوا الصليبيين حتى أطردوهم من البلاد، فقد ¬

_ (¬1) سورة المائدة.

كانت لهم حكومات قارة، ونظام محكم وجيوش جرارة مدججين بالسلاح، أما محاربة المسلمين للاستعمار في الوقت الحالي فليست لهم حكومات قارة ولا نظام ولا جيش ولا مال ولا سلاح، إنما حاربوا باسم الدعوة الى الجهاد في سبيل الله في أمة مبعثرة مشتتة مغلوبة على أمرها لا تملك من وسائل الدفاع شيئا، ومع هذا لبث نداء الدعوة، ونفرت الى ميادين الجهاد عزلاء غير مبالية بما يعترض سبيلها، وفي النهاية انتصر المسلمون وأخرجوا المعمر مطرودا من بلادهم. هؤلاء الدعاة الربانيون هم الذين أهابوا بالأمة الى أن تتخلق بأخلاق أسلافها وتسير على مقتضى عقيدتها، هؤلاء الأعلام هم: جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان يرأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس والعلامة الشيخ البشير الإبراهيمي، والفيلسوف الكبير محمد إقبال في البكستان، والشيخ رشيد رضا، وحسن البنا بمصر والشيخ السنوسي بليبيا، والملك محمد الخامس في المغرب والشيخ الطاهر بن عاشور في تونس، وزعماء الرابطة الدينية في الهند وغيرهم من الدعاة، والمجددين كثيرون من بناة النهضة الحديثة في أنحاء الأقطار الاسلامية. وأم النهضة الحديثة هي مصر حرسها الله - فكانت مركزا للقيادة والتوجيه للعالم الإسلامي بما حفظت عليه من تراث إسلامي أصيل، وبما أحرزت عليه من تقدم ورقي في العلوم والمعارف، فبفضل دعايتها توحدت الشعوب الاسلامية ودب فيها الوعى، وبإعانتها المعنوية والمادية تحررت بعض الأقطار الاسلامية من ظلم الاستعمار، فكانت مأوى كل ثائر وموئل كل لاجئ ومستغيث كل مظلوم، ومدافعة عن كل مغبون، فتعرضت للخطر مرار وتكرارا من أجل تبني النهضة والدفاع عن المسلمين، وبالتالي فلها أيادي بيضاء على النهضة الحديثة المباركة، ولما رأى الدعاة الربانيون صولة الأجانب على الأمة المحمدية، فسدوا عليها منافذ الحياة وأفسدوا عليها معاني الرجولة، ونزعوا منها المثل العليا التي هي مناط الطموح، فأصبح معظمها يعيش بلا حياة حقيقية وبدون أمل ..

قاموا لاستنهاض همم هذه الأمة، ليحركوا ما كان ساكنا منها، فناشدوا ضمائرها لتنبعث عقلية مشبعة بالروح الإسلامي في نفوس الأفراد والجماعات ولتبرز الحياة من داخل النفس. فتحافظ على الكيان الاجتماعي من القلق الدائم، واضطرابات النفوس المستمرة ونبذ الخصومات والمنازعات من بين المسلمين، والعداوة المستحكمة الحلقات بينهم، واحلال محلها الأخوة والوئام، والاتحاد والانسجام ليقضى على التفرق ونزعات الطوائف، وعلى ما نجم من الثقافات الأجنبية والحضارة الدخيلة المتعاقبة على أوطان المسلمين، والمبادئ الهدامة التي غرسها الاستعمار في الأمة أيام الاحتلال، لأن المسلمين عاشوا قرونا كثيرة وهم بعيدون عن تعاليم الاسلام وإن كانوا متشبثين به دائما رغم أنف الاستعمار. وهؤلاء الدعاة يعلمون علم اليقين أن المسلمين اذا تمسكوا بالإسلام يكونون أقوياء ما في ذلك شك ولا ريب، وقادرين على البناء والتشييد في جميع مجال الحياة، أيام كان المسلمون متمسكين به كان لهم مجد يعنو لجلاله وعظمته كل مجد وقادة وأبطال فتحوا العالم غربا وشرقا، وأعلام نبغوا في كل علم وفن، فكانوا هداة العالم، وكوكب عليائه، وان أقدس تراث للمسلمين هو الدين الحنيف الذى بين طريق السعادة، وعلم الأخلاق الفاضلة، فعليه قام المسلمون وبه فازوا على جميع الأمم، وعليه شايعتهم وعلى كلمته تابعتهم. هذه النهضة التي وقعت في القرن الرابع عشر الهجري حصلت على أيدى نخبة من علماء المسلمين، تبلورت في حركة اصلاحية شاملة مناهضة لسياسة الاستعمار ومحركة لجمود المجتمعات الاسلامية وركودها، هذه الحركة كانت هي السبب في تحرير المسلمين من نير الاستعباد. كان جمال الدين الأفغاني - طيب الله ثراه - أنبغ عقلية، وأقوى شخصية في العالم الاسلامي، وأثبت من غيره من نوابغ الشرق على مواجهة طغيان حضارة الغرب والفلسفة المادية الالحادية التي بدأت تغزو المسلمين حينذاك فأهاب بالمسلمين الى التمسك بالدين الحنيف لينقذوا أنفسهم من التيارات الغربية

التي تجتابهم ومن سلطان المادة الطاغية، وله دور كبير في رفع الدين والتمسك بأوامره في نفوس المسلمين، وكان رضى الله عنه يعتمد على القرآن في توجيه المسلمين مع بقية الأعلام الآخرين الذين أصبح حبهم والانتصار لهم شعار المثقفين الأحرار. أراد هؤلاء الأعلام أن يصلوا حاضر هذه الأمة بماضيها المجيد الذى وضع المتكبرين الذين كانوا يفسدون في الارض ولا يصلحون، ورفع المحرومين المضطهدين من الحضيض حتى يصبحوا سادة بعد ما كانوا عبيدا والله سبحانه وتعالى قد حقق عزمهم وسعيهم وجهادهم باستقلال هذه الشعوب وطرد المعمر منها. قال الشيخ البشير الإبراهيمي في هؤلاء الدعاة: (أسسوا هذه النهضة المباركة على صخرة الحق، وقادوا زحوفها الى الغايات العليا فربوا الأجيال على هداية القرآن والهدي المحمدي وعلى التفكير الصحيح وأحيوا دوارس العلم بدروسهم الحية وغرسوا بذور الوطنية فأحيوا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغير، وحالفها الخنوع والذل ردحا من الزمن، ولسانا عربيا فصيحا أفسدته الرطانات الأجنبية وتاريخا عف الزمن عليه ومجدا أضاعه الأحفاد). قام العلماء الربانيون، وهم روح الأمة وقواد الملة المحمدية ينبهون المسلمين على ما أوجبه الله عليهم فأيقظوا النائمة قلوبهم عما فرض عليهم الدين، فعلموا الجاهل وأزعجوا الجامد، ذكروا الجميع بما أنعم الله على آبائهم، واستلفتوهم الى ما أعد الله لهم - ولو استقاموا - وحذروهم سوء العاقبة، إن لم يتداركوا أمرهم بالرجوع الى ما كانوا عليه أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين فأزالوا اليأس بتذكير وعد الله، وكان وعده حقا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (¬1)، وكانوا يعلنون للجميع بقولهم: (ان للعقائد الراسخة آثارا تظهر في العزائم والأعمال، وتأثيرا في الأفكار والإرادات لا يمكن للمعتقدين أن ¬

_ (¬1) سورة النور

يزيحوها عن أنفسهم ما داموا معتقدين هذا الايمان في جميع شؤونه وأطواره). الايمان بالله له خواص لا تفارقه، ونزعات لا تزايله، وصفات جليلة لا تنفك عنه وأخلاق عادلة سامية لا تباينه، وكانوا يلقنون الجماهير سيرة سلفهم الصالح ليقتدوا بها فيقولون (صبر المسلمون الأولون في نار الامتحان والابتلاء حتى ظهر ايمانهم ذهبا إبريزا خالصا من كل غش، وأعد الله لهم جزاء على صبرهم نعيما مقيما، ما أصعب ابتلاء الله!، وما أشد فتنته!، وما أذق حكمته في ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، ان ابتلاء الله هو تحمل الصعوبات، وبذل الأموال والأرواح، كل خطر فهو تهلكة ينبغي البعد عنه الا في الايمان، فكل تهلكه فيه فهي نجاة، وكل موت في المحاماة عنه فهو بقاء، وكل واجب في أداء حقوق الايمان فهو سعادة أبدية. إن الفرار من محنة الله مجلبة للخزي الأبدي، ان الفرار من صدمة جيش الضلال وان بلغت أقصى ما يتصور موجب للشقاء السرمدي، لا سعادة الا بالدين ودون حفظه تتطاير الأعناق). سقنا هذا الكلام النفيس من العروة الوثقى، اعتمد هؤلاء الأعلام في تحريك الجماهير وإنهاض عزائمهم على الدين الحنيف، فكانوا يخاطبون الأمة بالتمسك به، والالتفات حوله، وأن تعتصم بحبله المتين، ففيه الشفاء العاجل لأمراضها الاجتماعية وعللها المزمنة الفاسدة، ولا شيء ينقذها من هذه الحالة التعساء، والهوة السحيقة التي سقطت فيها الا الاسلام، فهو وحده يوحد بين أجزائها وطوائفها، ويكون فيها التعاون الصادق لتنهض من كبوتها وتخرج من غفلتها وجمودها، وتتناسى الأضغان والأحقاد حتى ترمى عن كاهلها مخلفات القرون المظلمة قبل أن تتحطم وتنقرض من الوجود لا قدر الله. تابع هؤلاء الدعاة الربانيون دعوتهم بقولهم (الأمة الاسلامية لا يسوغ لها أن ترضخ للذل والعبودية، وترضى بالإهانة والظلم، وتتقاعس عن اعلان شأنها وبناء مجدها واسترجاع سيادتها، ولها ملك عظيم على وجه الأرض، ورحمة الله مفتحة لها وما عليها سوي أن تلجها، وروح الله نافحة لها فما عليها الا أن تستنشقها، والفرص

المواتية لها دائما تمد إليها يدها تتطلب إنهاضها فأي موجب لليأس؟ ولماذا هذا القنوط؟ وبين أيديها كتاب الله الناطق بأن اليأس من أوصاف - الضالين، وهي من بقية الرجال، وخلف الأبطال معاذ الله - أن ينقطع أمل الزمان فيها، والاسلام متمكن من قلوبها، وسلطان القرآن متحكم فيها، فمن أصابه نصيب من حمده فهو محمود، ومن أصيب بسهم من مقته فهو ممقوت (راجت هذه الدعوة المباركة في أوساط العالم الإسلامي فاستيقظ على صيحاتها الداوية من غفلته وسباته، فكانوا يتلقون هذا الكلام الرباني بكل شوق ولهفة، يرهفون أسماعهم اليه ويتدارسونه فيما بينهم حتى وعته القلوب، وصادف من النفوس هوى، فاستجاب الناس الى صوت الحق الداعي الى الجهاد في سبيل الله فرجع الناس الى الدين الحقيقي، ونبذوا عنهم الدين التقليدي الخرافي فصاروا يمتثلون لأوامره القيمة، وأقبلوا على تأسيس المدارس الحرة لتعليم أبنائهم اللغة العربية والدين لأنهما متلازمان، وهما الرابطان بين المسلمين، وموحدانهم - في جميع أهدافهم وغاياتهم والمحافظان على تراثهم المجيد وتاريخهم الجليل. أنشئت في أنحاء الأقطار الاسلامية جرائد ومجلات تدعو الناس الى الاسلام والعمل به والاعتصام بحبله المتين، فكانت تنشر تعاليم الدين، وترشد وتوجه وتعظ، وتنشر المحاضرات العلمية المتنوعة في شتى الميادين، والبحوث التاريخية ودروس التفسير وشرح الأحاديث النبوية وبيان الحكمة واستخراج الأحكام منها على صفحات المجلات ليطلع المسلمون على ما كان لهم من كنوز قيمة. وأعلنت الجمعيات الاسلامية التي تأسست في أنحاء الوطن حربا شعواء على الجمود والتخلف والانحطاط الخلقي والمادي والخرفات التي ألصقت بالدين زورا وبهتانا حتى حجبت الدين الصحيح عن الأمة بواسطة الجرائد الحرة، وكانت منبرا لصوت الحرية والمرآة التي تنعكس عليها أعمال المجتمع. ولما فطن المسلمون الى حالتهم التي هم فيها فوجدوا أنفسهم مجردين من جميع الحريات وأنهم يتخبطون في ذل كبير وظلم

عظيم يقاسون منه جميع الويلات، فتكون منهم زعماء وطنيون قادرين على مجابهة الاستعمار ومنازلته في كل ميدان، فبدأوا يغرسون المبادئ الوطنية الصحيحة في نفوس الجماهير. فكان تعاون صادق مع جميع الهيئات والأحزاب الوطنية. فبهذه الدعوة الربانية، والأحزاب السياسية التي كانت سببا في وحدة الأمة ويقظتها، وبهذا الإحساس والشعور بالمسؤولية أصبحت تتجاوب مع بعضها بعضا وتتقارب فيما بينها شيئا فشيئا حتى صارت تتألم بألم واحد، وتحس بشعور واحد، والاستعمار لا يخشى من أية قوة كانت إلا من قوة الدين هي التي وحدها تهدد وجوده في هذه الأوطان. امتلأت نفوس المصلحين والشباب بشعور ديني فياض، وحماس متقد، فبعث فيهم الحمية والأنفة والغيرة على ما أصاب أمتهم من المهانة والمذلة فعزموا على بعثها من جديد لتتبوأ مكانتها اللائقة بها بين الأمم، وآلوا على أنفسهم أن ينقذوها مما تردت فيه، ولو طارت نفوسهم في سبيلها شعاعا، واعتمدوا في الوصول الى أهدافهم على العقيدة الاسلامية التي لا زالت تجيش بها هذه الشعوب، والمواهب الكامنة فيها. عزم المسلمون على أخذ حقهم الطبيعي والشرعي مهما كان الثمن، فأخذوا يجدون في الروابط والتضامن، لأن الحياة ليست في السياسة وحدها، ولا في الكلام والحماس الخاليين من كل معنى، بل في التكاتف وربط العلائق فيما بين الأمة على أساس المحبة الخالصة والثقة المتبادلة ظهرت الروابط بين المسلمين في هذه النهضة سليمة لم تتأثر بملابسات الحوادث والزمن، كانت هذه الشعوب تدرك الهوة العميقة والمهالك الشديدة التي بينها وبين تحقيق أمالها، والعوارض التي تعترض سبيلها في الوصول الى أهدافها، فتسلحت بالصبر والشجاعة والثبات، وكانت شاعرة بالتضحية الجسيمة، والجهد الكبير الذى تبذله الا أنها واثقه من النصر الذى ستحرز عليه في نهاية المطاف. ولما فشلت جميع المحاولات في التفاهم مع الاستعمار صممت الشعوب الاسلاميه على الجهاد في سبيل تحرير أوطانها، والمسلم

اذا أخلصت نيته لله ووحد النظام فإنه صعب المراس شديد الوطء لا ينام على ضيم، ولا يستكين للذل، بل يسعى جاهدا لينال الشهادة في سبيل الله، ولا يخشى العدو، بل يخاف الله على ما صدر منه من التقصير في حقه، طموح للمعالي شريف النفس محب للحرية يبذل في سبيلها كل ما يملك. عزمت الشعوب الاسلامية على أن تجعل حدا لطغيان المعمر وسيطرته ونبذت الخضوع والخنوع، ورفضت كل رأي سقيم لا ينفع، أو فكر لا يفيد. تقدمت الطليعة الواعية من الأمة الى ميادين الكفاح في خطة محكمة من النظام وأعلنتها ثورة داميه عارمة على الظلم والاستبداد والطغيان والجبروت، وها هي الهزات تجتاح أوطان المسلمين الواحدة تلو الأخرى، فما تكاد تهدأ في وطن إلا وتشغل في وطن آخر حتى تحرر المسلمون. مضى المسلمون في هذه الثورة المباركة ينشدون تطهير بلادهم من الاستعمار النجس عن طريق الكفاح المسلح، وكانوا لا يملكون الحرية، ولا الوسائل التي تتكافأ مع حيويتهم غير أنهم استعملوا في هذه الحرب أساليب المقاومة المنظمة التي لا يستطيع العدو أن يقضي عليها، فأخذوا يحطمون معالم الاستعمار ومنشآته العمرانية التي شادها في هذه البلاد، وأساطين الاستعمار والغلاة منهم، وكل من التف حولهم من الخونة تحطيما تاما باذلين في ذلك الدماء الزكية والأرواح الطاهرة والمهج في سبيل تحرير بلادهم من الاستبداد والسيطرة، فكانوا كالعناصر الطبيعية ينفجرون في كل مكان، والآيات القرآنية التي كان يرتلها الخطباء عليهم تتنزل على قلوب المجاهدين بردا وسلاما، والاستشهاد كان يحدوهم في سبيل الله وشعارهم (الله أكبر). تخلص معظم العالم الإسلامي من حكم الاستعمار، وقذف به وراء البحار. وجاءت ثورة الجزائر الكبرى، فكانت في زحفها الشديد تحرق وتخرب صروح الظلم، ولا تبالى بما أمامها من قوة وجند يعد بمآت الآلاف، ولا بالأسلحة العصرية المتطورة

المختلفة الأنواع والاحجام والاشكال، فكل هذا لم يستطع أن يوقف زحف الثورة نحو غاياتها وأهدافها المرسومة لها، فشقت طريقها من بين قوة الظلم والاستبداد حتى وصلت الى النصر فتحررت هذه الشعوب وأصبحت حرة طليقة

تقلص ظل الاستعمار الثقيل من بلدان المسلمين

تقلص ظل الاستعمار الثقيل من بلدان المسلمين استمرت ثورة العالم الإسلامي المباركة في زحفها الشديد أمدا طويلا، وسرى لهيبها في الشرق والغرب، وشاركت فيها جميع طبقات الشعب، فبرهنت للاستعمار على انه ليس عضوا من جسم، وليس هو كما يزعم مركز الدائرة بل هو كغيره نقطة من محيطها، ويفضل اتحاد المسلمين والتفافهم حول الدين الحنيف أكسبهم النصر المبين. هذا الاستقلال الذي أحرز عليه المسلمون في هذه النهضة المباركة ما هو إلا ثمرة من ثمرة جهادهم المتواصل، ونتيجة أعمالهم المخلصة، وهذا هو الفرق الهائل بين الماضي القريب واليوم، وبين الاتحاد والفرقة، والنظام والفوضى. هذه الثورة ثورة القرن الرابع عشر الهجري جعلت حدا لسيطرة الاستعمار على المسلمين وأبرزتهم للوجود على شجيتهم الأصيلة كما كان أجدادهم الميامين في الماضي، فبرزت العقيدة الاسلامية قوية مؤثرة لا كما كان يظن الاستعمار وبطانته من ملاحدة المسلمين أنها تلاشت وذهبت ولم يعد لها مفعول ولا تأثير. ضرب الشباب المسلم وفي مقدمته الشباب الجزائري أروع الأمثلة النادرة في البطولة والثبات، وفي التضحية والفداء مما أدهش الخصوم والأصدقاء على السواء. لولا الدين لما حالف هذه الشعوب النجاح، لأنها كانت تحارب بدون حكومة ولا قيادة قارة، ولا نظام ثابت، ومع هذا ظلت واقفة في وجه الغزاة المتكالبين عليها من كل ناحية، لا ريب أن الاسلام هو القوة الربانية الباقية في هذا الكوكب، وهو خلاصة الأديان السماوية، والمؤمنون به هم الذين يكتب لهم الخلود والنصر، لأنهم حاملو رسالة السماء والمبلغون عن الله، هم الأمناء على هذا الوجود، لأن تعاليم الأنبياء لم تخرج من

أيديهم، ولهذا جعلهم الله شهداء على الناس قال تعالى: (وكذلك جعلنكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم، شهيدا) (¬1)، والله لن يتخلى عنهم أبدا لأنهم أكرم عباده في هذه الارض. ولن يتركهم وحدهم لهذا الضريم المتأجج والبغي السافر والالحاد الكافر. ظهرت روابط الدين بين المسلمين في هذه النهضة المباركة قوية ومتينة، كما كانت أيام عزها وجدها، لم تتأثر بملابسة الحوادث والزمن، وأواصر الأخوة التي شادها الإسلام وقررها القرآن، ودعمها نبي الاسلام، كانت محكمة الحلقات لم تستطيع يد الشيطان أن تفرقها لأن يد الله جمعتها (وما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان) والاستعمار عجز عن حلها وفصمها. انتصرت الشعوب الاسلامية - في هذه النهضة - على أعدائها بعد ما ثارت ثورات كثيرة ولم يحالفها النصر فيها، ولولا هذه الثورة الأخيرة لانسلخت عن الاسلام ولكنها برهنت على أنها لا زالت متمسكة به، ومسيطرة على نفسها، ومهيمنة على إحساسها وشعورها، ولهذا لم ينجح الاستعمار في هذا الاحتلال ولم يستطيع أن يكسب عطف المسلمين ولا نال رضاهم، بل ظلوا رغم احتلال بلدانهم ورغم الحكم الجائر والقوانين الاستثنائية، والمكائد المبيتة متشبثين بالإسلام، وحسب المسلمين من هذه النهضة أنهم قضوا على ما غرسه الاستعمار فيهم من الخوف والجمود، ونزعوا ما بذره فيهم من بذور الاختلاف والشقاق، والتخاذل فحطموا القيود والأغلال التي قيدهم بها طيلة القرون الماضية ورموا عن كواهلهم مخلفات القرون المظلمة التي كانت تتحكم فيهم، وتثبط في عزائمهم، ونفضوا عن كواهلهم غبار الذل الذي غشيهم في هذه العصور المتأخرة حتى ظن الغربيون أن هذه الشعوب لم تعد تتأثر بالإسلام كما كان أسلافهم في الماضي. أصبحت هذه الشعوب تدير شؤنها بنفسها وتوجه سياستها كما تريد، وهي سائرة بخطوات ثابتة في سبيل عزها ومجدها، وبناء مستقبلها، واحتلت مكانتها المرموقة من بين دول العالم، ¬

_ (¬1) سورة الحج

فأصبحت مركز الثقل في المجتمع الدولي، عزيزة الجانب يخطب ودها الدول الكبرى، وتنظر إليها بعين الاعتبار والاجلال. أصبحت متحررة من كل قيد الا قيد التقليد الأعمى للغرب الذى أصبح فاشيا، وطاغيا على الشبيبة والقادة، وهو ما غرسه الاستعمار فيهم من ثقافة بتراء، وأخلاق فاسدة ولهذا لم يكونوا على جانب كبير من الوعي الاسلامي. وصل المسلمون إلى هذه المكانة يوم بدأوا يرجعون الى الاسلام ويعملون متحدين ومتساندين، فبهذا السلوك المحمود تحققت النهضة الأخيرة التي شقت طريقها إلى الأمام، ولا تزال إن شاء الله سائرة - الى ان تتحقق الدولة الكبرى ألا وهي الخلافة الشرعية التي هي حلم كل مسلم فعندئذ تؤدي هذه الأمة - رسالتها التي اختصت بها الى جميع الناس. فتعيد الحرية والمساواة والعدل والحق من جديد بين الأمم التي تتخبط في الفساد الذى عم العالم أجمع.

لا يزال المسلمون متدهورين رغم الحوادث التى انتابهم

لا يزال المسلمون متدهورين رغم الحوادث التي انتابهم لا زال التدهور ملازما للمسلمين حتى من بعد الاستقلال، لقد زال الاستعمار بموجته الطاغية من أقطار العالم الإسلامي غير أنه ترك سمومه تفتك بالمسلمين من بعده فتكا شنيعا ولما تم النصر لهذه الأوطان، وخرج الأوربيون مطرودين. حمد المسلمون الله على هذه النعمة الكبرى والمنة العظمى، وأصبحوا متشوقين ومتطلعين الى الحكم الذى يعيد اليهم شخصيتهم الفذة، وقوانين الاسلام العادلة التي طالما ناضل المسلمون من أجلها في القديم والحديث، وبذلوا كل جهد في سبيل إعادتها الى الحياة فكانوا ينتظرون بفارغ الصبر وكامل الاشتياق متى يعلن دستور البلاد الذى ينبع من صميم العقيدة الاسلامية. ولكن ويا للأسف!. ما كاد المسلمون يذوقون طعم الاستقلال والحرية، حتى برزت الأمراض الاجتماعية الفتاكة والتيارات الالحادية، والتفكك الخلقي، والاباحة الماجنة التي كانت سببا في سقوطهم في الماضي، فبدأت تعمل عملها من بعد الاستقلال - بصفة طاغية عاتية تهدد باستئصال الاسلام، وكل ما للبلاد من قيم روحية، وأخلاق شريفة، وعوائد وطباع نقية فاضلة، فكادت المخلفات الاستعمارية تقضى على مقومتهم الأساسية وعلى شخصيتهم الأصيلة. بدأت المجتمعات الاسلامية - من بعد الاستقلال - تمارس شؤون حياتها على نظام أجنبي بحت غير متلفتة لنظام الاسلام الذى هو عنصر أصيل في حياتها والذى حافظ على شخصيتها عبر القرون والاجيال، وكان سببا في انتصارها على أعدائها مهما كانوا وفي أي زمن كانوا. جاء هذا الانحراف الشنيع عن الدين من الثقافة الغربية التي تشبع بأفكارها قادة المسلمين الحاليين ولذا فهم يطبقون قوانين أوربا وعوائدها على المجتمعات الاسلامية وكل من يدعو الى الاسلام يتهمونه بالرجعية والجمود والتخلف.

ان هؤلاء المثقفين بثقافة الغرب لمخطئون في نظريتهم هذه، وأنهم يجهلون الاسلام رغم انتسابهم اليه، ولم يعتبروا بالماضي الماثل في الأذهان ولم يدروا أن هذه العوامل تهدم الإسلام ولا تبنى، وترمى المقومات الاسلامية والخصائص العربية بفاقرة تقسم الظهر. الواجب على قادة المسلمين أن يحافظوا على التراث الإسلامي والتعليم الديني الذي هو وسيلة إلى التثقيف، والتثقيف أشرف مقاصد الأمة الرشيدة، والحكومة الرشيدة فإنها تلمس المعرفة على تثقيف شعوبها من كل من تستطيعه من جماعات وأفراد، وتبذل لهم من التنشيط والتسيير ما يحقق ذلك. فقد كان قبل الاستعمار وفي إبانه ملاجئ دينية يهجر المسلمون إليها في طلب العلم النافع والعمل الصالح يتجشمون الأسفار والأخطار لتزكية النفس، وتهذيب الخلق، والتوصل الى معالم الرشد، والاستعداد للآخرة، فترى في كل قطر إسلامي ملاجئ روحية يأوي إليها أهل الطلب من سائر الآفاق مثلا كالزوايا في بلادنا ومعهد الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي أسسته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والجامع الأخضر كان الطلبة يأتون إليه من أنحاء الوطن، وكالزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب والجامع الأزهر في مصر، فيتخط الناس الدنيا ومناصبها العالية، ويلجئون الى المحيطات الهادية الروحية، وينكبون على اصلاح بواطنهم وسل حظ الشيطان منها حتى ترى رقة في القلوب وانقيادا للحق وخضوعا للشرع فيأتون من كل صقع ليدخلوا في الخير أفواجا. كان الناس يدعون الى الدين وإصلاح النفوس وتزكيتها وهم تذكار لسلفهم الصالح في زهدهم في الدنيا، والاقبال عن الآخرة، والاخلاص واتباع السنة. والمسلمون يعدون الاتصال بهؤلاء والتمسك بآدابهم حقا من حقوق الدين وواجبا من واجباته وكان بعض الأغنياء والامراء وأرباب الدنيا لهم اهتمام زائد بحسن الخاتمة وأمور الآخرة، واصلاح القلب وعمارة الباطن، فأصبح صلاح الدنيا الذى يترتب عليه صلاح الآخرة أشبه شيء بالتهاب السراج قبل الانطفاء. فقد ذوى أصل الشجرة الدينية، وانقطعت عنها مادة

الحياة وهب عليها اعصار شديد فيه نار محرقة. سرى الشك وسوء الظن في الاوساط الاسلامية، والبيوت العريقة في الدين والعلم، ففضلوا تعاليم الغرب على تعاليم القرآن، لأن الايمان بالله وبصفاته وبمواعيده قد ضعف من القلوب، فأصبح الأباء يضنون بأولادهم على الدين ولا يخاطرون بأوقاتهم في سبيل الدين وعلوم الدين، وأصبحوا يعلمونهم العلوم المعاشية واللغات الافرنجية لا رغبة في تحصيل المنافع ولا دفاعا عن الاسلام، بل زهدا في الدين، وفرارا من خطر المستقبل، وخوفا على أفلاذ أكبادهم من الضياع، واستسلاما للدهر المتقلب، وتسلط عليهم خوف الفقر، وهكذا انقرضت المعاهد الدينية، ولفظ هذا المعهد الروحي أنفاسه الأخيرة وأتى عهد المادة، وأصبحت الدنيا سوقا ليس فيها الا البيع والشراء، روي أن شاعرة جاهلية هي: كبشة بنت معديكرب عاتبت أخاها عمرو بن معديكرب وعيرته بميله الى قبول دية أخيه المقتول فقالت: ودع عنك عمرا، ان عمرا مسالم ... وهل بطن عمرو شبر لمطعم تصورت هذه المرأة الجاهلية أن بطن الانسان لا يتجاوز شبرا، فكيف لو رأت معدة انسان قرن العشرين تضخمت وكبرت حتى وسعت الارض، وتجاوزت فأصبحت لا يملأها الا التراب. نعم تضخم الحرص على الدنيا، وتولد في الناس غليل لا يروى، أوار لا يشفى، تسلط على الناس الحرص والجشع، وأصبح الانسان نهما يلتهم الدنيا التهاما، والسبب في ذلك أنه لا يؤمن بالآخرة وكل انسان متمدن اليوم - الا من عصمه الله بالإيمان - يرى هذا الرأي، ويذهب هذا المذهب في الحياة، وكانت الرابطة بين الصغير والكبير في المجتمع الإسلامي مؤسسة على تعاليم الشرع (من لا يرحم الصغير ويوقر الكبير فليس منا (حديث شريف، ومن الغريب أن المسلمين قد أصبحوا في هذا الزمن في كثير من نواحي الأرض حتى في مراكز الاسلام وعواصمه حلفاء للجاهلية الأوربية وجنودا متطوعين لها، بل صار بعض الشعوب والدول الاسلامية يرى في الأوربيين ناصرين للمسلمين حامين لذمام الاسلام المستضعف حاملين لراية العدل في العالم قوامين بالقسط.

ورضى عامة المسلمين بأن يكونوا ساقة عسكر الجاهلية بدل أن يكونوا قادة الجيش الإسلامي. ان هذه الأمة التي تدعى الاسلام غالبها قد افلس افلاسا شائنا في الدين والأخلاق وقد أشربت في قلبها حب المال وتسلط عليها سلطان الاثرة والجشع، احتلت أوربا قلوب المسلمين وأصابهم انحطاط في الأخلاق والعقيدة، كانت هي سبب انهيار الدول الاسلامية، ولكن مع ذلك لم يزل المجتمع الإسلامي على علاته محتفظا ببعض المبادئ الخلقية السامية والخصائص الاجتماعية الفاضلة التي لا يوجد لها مثيل في الأمم. ورغم كل ما أصيب به المسلمون من علة وضعف فإنهم هم الأمة الوحيدة على وجه الأرض التي تعد خصما للأمم الاوربية وغريمتها ومنافستها في قيادة الأمم ومزاحمتها في وضع العالم، والتي يعزم عليها دينها أن تراقب سير العالم، وتحاسب الأمم على أخلاقها وأعمالها ونزعتها، وأن تقودها الى الفضيلة والتقوى، الى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وتحول بينها وبين جهنم بما استطاعت من القوى، والتي يحرم عليها دينها وتأبى فطرتها أن تتحول الى أمة جاهلية. هذه الأمة ربما في يوم من الأيام تكون خطرا على النظام الأوربي الذي بسطه في الشرق والغرب لأن شرارة الكفاح والحياة والطموح لا زالت كامنة في رمادها، ولا يزال فيها رجال تتجافى جنوبهم عن المضاجع، وتسيل دموعهم على خدودهم سحرا، لا يخفى على الخير المتفرس أن الاسلام هو فتنة الغد انا لا أجهل أن هذه الأمة قد اتخذت القرآن مهجورا، وأنها فتنت بالمال وشغفت بحبه وادخاره كغيرها من الأمم، وأنا خبير أن ليل الاسلام داج مكفهر وأن علماء الاسلام ليس لديهم تلك اليد البيضاء التي تشرق لها الظلمات، ويضيء لها العالم، ولكنى أعلم - إن شاء الله - أن قوارع هذا العصر وهزاته ستقض مضجعها وتوقظ هذه الأمة وتوجهها الى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم حامية الذمار حارسة الذمم والاعراض دين الكرامة والشرف دين الأمانة والعفاف، دين المرؤة والبطولة، دين الكفاح والجهاد يمحو كل أثر فن اثر الانسان، لا يفرق بين ملك

ومملوك، ولا يؤثر سلطانا على صعلوك لا ينهض العالم الإسلامي الا برسالته التي وكلها اليه مؤسسه صلى الله عليه وسلم، والايمان بها والاستقامة على سبيلها، وهى رسالة قوية لم يعرف العالم رسالة أعدل منها، ولا أفضل ولا أيمن للبشرية منها. وهى نفس الرسالة التي حملها المسلمون في فتوحاتهم الى العالم، والتي لخصها أحد رسلهم في مجلس يزدجرد ملك إيران بقوله (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الاديان الى عدل الاسلام) رسالة لا تحتاج الى تغير كلمة وزيادة حرف، فرسالة العالم الإسلامي هي الدعوة الى الله ورسوله، والايمان باليوم الآخر، وجائزته الخروج من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الناس الى عبادة الله وحده ولو نهض العالم الإسلامي واختضن هذه الرسالة بكل اخلاص وحماس وعزيمة ودان بها فإنها بدون شك ستنقذ العالم من الانهيار والانحلال، فالإسلام هو قوة العالم العربي، ومحمد صلى الله عليه وسلم روح العالم العربي وإمامه وقائده، والايمان هو قومية العالم العربي التي حارب بها العالم البشرى كله فانتصر عليه، وهو قوته وسلاحه اليوم كما كان بالأمس يقهر اعداءه ويحفظ كيانه ويؤدى رسالته، ان العالم العربي لا يستطيع أن يحارب الصهيونية أو الشيوعية، أو عدوا آخر بالمال. وانما يحاربه بالإيمان والقوة المعنوية، وبالروح التي حارب بها الدولة الرومية والامبراطورية الفارسية في ساعة واحدة، يستطيع المسلمون اذا حكموا الاسلام فيما بينهم أن ينقذوا أنفسهم من التبعيات ويحولوا العالم من الشر الى الخير، ومن النار والدمار الى الهدى والسلام. لقد حول المسلمون في الماضي العالم الكبير الى اعتناف العقيدة الاسلامية والايمان العميق بها، والصلة الروحية القوية، وكان أوسع عالم عرفه التاريخ، انصهرت فيه الثقافات المختلفة، فتكونت منها ثقافة واحدة هي الثقافة الاسلامية التي لم تزل تظهر في نوابغ المسلمين الذين لا يحصيهم عدد، واستحق المسلمون قيادة العالم عن جدارة واستحقاق. فكانت أشرف قيادة وأعظمها في التاريخ،

وقد أكرم الله بها العرب لما أخلصوا لهذه الدعوة الاسلامية وتفانوا في سبيلها. وبقيت هذه القيادة الكاملة مدة طويلة والناس لا يفكرون في الثورة عليها وفي التخلص منها، كما هي عادة الفاتحين مع الامم المغلوبة على أمرها في كل عهد لأن صلتهم بهذه القيادة ليست صلة المفتوح بالفاتح، أو المحكوم بالحاكم إنما هي صلة المتدين بالمتدين، وصلة المؤمن بالمؤمن، فلا مجال للثورة، ولا مجال لنكران الجميل هذه هي القيادة التي هيأتها البعثة المحمدية، وهى القيادة التي يجب أن يحرص عليها العرب أشد الحرص. ويعضوا عليها بالنواجذ، ويسعوا اليها بكل ما أوتوا من قوة ومواهب. ويتواصى بها الأباء والأبناء، ولا يجوز لهم في شريعة العقل والدين والغيرة - ان يتخلوا عنها في زمن من الأزمان. ان الطريق الى هذه القيادة ممهد ميسور الى العرب، وهى طريق الاسلام والاخلاص الى الدعوة الاسلامية واحتضانها والتفاني في سبيلها، فبهذه القيادة تخضع لهم الأمم الاسلامية في أنحاء العالم، وندخل أمم جديدة في الاسلام أمم فتينة في مواهبها وقواها أمم تستطيع أن تعارض أوربا في مدينتها وعلومها اذا أوجدت ايمانا جديدا أو دينا جديدا (¬1). ¬

_ (¬1) أبو الحسن الندوي.

تقليد المسلمين للغرب هو الذي صدهم عن تعاليم الاسلام السمحاء

تقليد المسلمين للغرب هو الذي صدهم عن تعاليم الاسلام السمحاء بعد ما خرج الاستعمار من أوطان المسلمين بدأت الشعوب العربية تنفر من كل ما ينتمي الى الاسلام من عقيدة متينة وأخلاق فاضله وعوائد حسنة التي هي مادتهم الوحيدة قبل الاحتلال، وحفظت لهم كيانهم من الانهيار كأمة ذات حضارة عريقة وسيادة في الماضي في وقت الاحتلال، وارتموا من أول وهلة من - بعد الاستقلال - في أحضان الغرب، لا لشيء الا أنه متقدم في العلوم والتكنولوجية، وهم متخلفون، ولكن ما شأن التنكر للأخلاق والقيم الروحية، والاباحة المطلقة، وعدم التقيد بأوامر الاسلام، والتحلل من جميع نواهيه، كأن المسلمين لم يكن لهم شرع عادل، ولا أفكار نيرة، ولا سيادة في الماضي كانت مضرب الأمثال، ولا عقيدة راسخة هيمنت على الشرق والغرب، ولا مناهج في الحياة مستقيمة، ولا تاريخ حافل بجلائل الاعمال. لكن الموجهين لهذه الشعوب أكثرهم لا علاقة لهم بالدين، ولا تجاوب بينهم وبين تعاليمه، ولذا تركوا الناشئة لقمة سائغة لبعض المغرضين الذين لا هم لهم الا عزل الشباب عن دينهم وتعاليمه وأخلاقه. وها نحن نشاهد الحكومات الاسلامية تجلب القوانين الوضعية من الدول الكافرة والملحدة وتطبقها على المسلمين، وتركت القوانين الاسلامية العادلة وتستورد من هذه الدول التي لا تؤمن بدين العوائد الفاسدة والأخلاق الساقطة السافلة عن طريق الأفلام، والجرائد والمجلات والكتب، والتعليم ووسائل أخرى لتسمم الناشئة، وتغرس فيها الرذائل لتصدها عن دين الله، لا زال العالم الإسلامي في مد وجزر كما كان قبل سقوطه بين براثن الاستعمار رغم النهضة الأخيرة التي أصهرته بحوادثها المؤلمة، وأخرجته منها إبريزا خالصا بعد ما تجرع مرارة السيطرة والحكم الأجنبي عدة قرون.

وها نحن نشاهد أن للعرب صورة واحدة من وقائع كثيرة من عصور الظلام والانحطاط التي سقطت فيها الأمة العربية من عليائها، فتغلبت عليهم الأمراض الفتاكة التي تفتك بالمجتمعات كحب الرئاسة، والأنانية الفردية الطاغية، والاستبداد في الآراء والحكم وتقديم المصلحة الخاصة على غيرها يبدو لي أن هذه الخصال المذمومة التي تهدم ولا تبنى، وتفرق ولا تجمع أصبحت فاشية في الحكومات العربية، ولا يقضى عليها الا الدين الحنيف، ومن هؤلاء الحكام لا يستجيبون له. فهذه الأعراض عن الاسلام أصبحت تقليدا ثابتا في نفوس حكام المسلمين مع أنهم ينتسبون اليه، ويدعون المقدرة على تطبيقه وتنفيذه. بدأ الشباب المسلم - من بعد الاستقلال يتنكر للدين، ويطعن فيه جهارا وأصبح يشكك الناس في شخصية الرسول الأعظم صلوات الله عليه وسلامه ويقول: ان التمسك بالإسلام رجعي، والحفاظ على أحكامه، وأخلاقه وآدابه تأخر وهمجية وأطلق هذا الشباب الملحد العنان لشهواته الجامحة التي لا تعرف الحدود ولا القيود، فأباح جميع المحرمات التي تغرى النفوس، وتقدف في الأفواه، وصار لا غيرة له على محارمه يفعل كما تفعل المجتمعات الاباحية، وتحلل من كل ما يأمر به الدين الحنيف، وصار يسبح في المتناقضات، ويخبط في متاهات لا أدرى أين يسير؟ أيسير الى الشرق أم الى الغرب؟ الا أنه لا يسير الى الاسلام، وهذه التناقضات جاءته من مخلفات الاستعمار التي تركها من ورائه، وأصبح يغذى فيها من وراء البحار بواسطة الاذاعات والجرائد والمجلات والكتب، الاستعمار لا يعتمد على الغزو العسكري فحسب، بل يعتمد على وسائل أخرى هي أعظم وأشد خطرا من القوات العسكرية كالاقتصاد والثقافة، وإثارة الفتن وبث الشكوك في المعتقدات، ولكن المسلمين وولاة الأمور تركوا هذه الأمراض المزمنة تفتك بالناس فتكا شنيعا، ولم يعالجوها بقوانين الاسلام التي فيها الشفاء العاجل من بعد الاستقلال، بل عالجوها بقوانين الاستعمار نفسه، ولهذا تشجعت الشبيبة على التمرد على الدين واعنقت الكفر والالحاد،

وأصبحت لا تتميز عن المجتمعات الالحادية في الرذائل والأخلاق السافلة. والحكومات الاسلامية هي التي تتحمل مسؤولية هذا الفساد الذى كاد يقضى على ما كان للمسلمين من مقومات وأخلاق وآداب. ترك الشباب الذى ينتمي الى الاسلام الدين الحنيف، وبدأوا يسمون علما ويهبطون روحيا وأخلاقيا، قد قطموا الصلة بينهم وبين الله، وبينهم وبين الايمان به عز وجل، وما دامت هذه المقاطعة للدين سارية المفعول فليس لهذا الشباب من اصلاح، لأنه أصبح آلة فساد وتحطيم، فيحطم كل ما شاده المجاهدون الأبرار بعزائمهم لأنه يعيش في فوضى جاهلية جهلاء {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1). ومن المدهش حقا أن الجامعات الاسلامية لا تدرس الاقتصاد الإسلامي فيها، والمسلمون لا يعترفون بقدرته على حل مشاكل الناس ورعايته الشؤون الاجتماعية. الاقتصاد الإسلامي لا صلة له بالحركة السياسية، بل هو في مصلحة الجميع فيضمن القضاء على الربا وعلى الفوضى التي تنتهى بالناس الى الحرب، وهذا ما يقوله عز وجل: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الرباء ان كنتم مؤمنين فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} (¬2). الحرب القائمة اليوم بين الدول الكبرى هي التي تهدد الناس بالهلاك والدمار نتيجة النظام الربوي. فالاقتصاد العالمي هو الذى يسير سياسة الحكم، ويحرك الجماهير ويأتي بالحرب. أما نظام الاسلام في الاقتصاد فهو خالق السلام بين النظم الاقتصادية العالمية الرأسمالية والشيوعية. ¬

_ (¬1) سورة الانعام (¬2) سورة البقرة

كيف يتحد المسلمون وعلى من يتحدون؟ أيتحدون على المبادئ الرأسمالية أم على المبادئ الشيوعية؟ أم على الاسلام؟ فالمسلمون لا يتحاكمون الى الاسلام وان كانوا معترفين به كدين رسمي للدولة.

هل يجعل المسلمون حدا لهذه التدهورات الخطيرة أم تستمر الى ما لا نهاية لها؟

هل يجعل المسلمون حدا لهذه التدهورات الخطيرة أم تستمر الى ما لا نهاية لها؟ بحث العملاء والمفكرون من هذه الامة قديما وحديثا في هذه التدهورات الخطيرة المستمرة، فلم يجدوا لها علاجا ناجعا الا بالرجوع الى الاسلام وترك الجري وراء القوانين المستوردة من الخارج. والكف عن تطبيقها والتشبث بها، الاسلام هو الذى يحقق لهذه الأمة ما تصبوا اليه من آمال وحرية وسيادة هذا هو الحل الوحيد اذا أراد المسلمون. لقد زال الاستعمار بموجته الطاغية من بلدان المسلمين، وذلك بفضل الله ثم بفضل الاتحاد والكفاح المسلح الذى خاضه العالم الإسلامي حتى أخرجه منها لكنه ترك من ورائه مخلفاته، تعيث في هذه الأوطان فسادا ... كان من الواجب على الشعوب الاسلامية أن تطبق أحكام الاسلام - من بعد الاستقلال - مباشرة لتحل محل قوانين الاستعمار الجائرة التي لا تمت بأي صلة الى طبيعة المسلمين. بعد ما زال حكمه، والاسلام هو مبدؤهم الأول والأخير، وأنه يحمل أعدل القوانين وأسماها الى الانسانية جمعاء. كما هو الواقع، وكما يعتقده جميع المسلمين، حتى المنصفون من علماء الغرب وغيرهم. يتمنون لحكامهم أن يسوسوا رعاياهم على مقتضاه. فبدون الاسلام لا يستطيع المسلمون أن يكونوا أمة قوية أبدا تصمد أمام أعدائها الذين يتربصون بها الدوائر، ولا يكونون وحدة متماسكة متينة تغمرها السعادة والكرامة. وما فائدة الانتساب اليه بدون العمل به؟ يجب على المسلمين أن يشرعوا في بناء الدولة الكبرى التي توفر لها من الامكانيات والصلاحيات في هذه الظروف ما لم يتوفر لها في غيرها. فبهذا وحده فقط يقضون على التدهورات الخطيرة التي أصابت المسلمين في الماضي والحاضر. وبهذا يكونون قد

اعتبروا بما وقع لهم على أيدي أعدائهم من الذل والاستعباد وبهذا أيضا يضمنون وجودهم كأمة لها رسالة سماوية أمرت بتبليغها الى الناس كافة. لو سار المسلمون على نهج الكتاب الكريم، وخطة الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه. وسيرة الخلفاء الراشدين من بعده لكانت دولتهم أثبت رسوخا وأضمن دواما، وأكثر انتشارا واتساعا، ولأكلت من فوقها (¬1) ومن تحت أرجلها من أعدائها ... الاسلام الذى ارتضاه الله لعباده هو دين ودولة، وحكم وشريعة، ومنهج ورسالة. ومن لم بحكم بما أنزل الله، فقد برئ من الايمان، ومزق الاسلام، وحطم الشريعة الغراء تحطيما كاملا، وعصى الله ورسوله، وأطفأ نورا ربانيا. إن الحكومة القائمة بأمر الله، المنفذة لأحكامه وشرائعه، الحاملة لرسالته، المدافعة عن دينه، والداعية الى طاعة الله وتقواه، هي عنوان الاسلام وهى ظله في أرضه، وبها يقيم الله الحجة على عباده ولا يرضى عن سواها. ولا وزن لما جاء به من العبادات، والعدل والاحسان. اذا لم تقم هذه الحكومة بين المسلمين. فالله سبحانه وتعالى لم يرسل رسوله الأعظم محمدا صلى الله عليه وسلم عبثا، بل أرسله ليبلغ الناس دين الحق، وبالنظام الشامل للحياة كلها حتى يكون الانسان جديرا بالاصطفاء، والتفضيل على كثير من مخلوقاته. لأنه نفخ فيه من روحه، وجعله خليفة له، وأسجد له ملائكته وسخر له الكون. (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (. لقد شهد المسلمون - في العصور المتأخرة - نهضات إسلامية على أيدي أناس مصلحين ولكنها لم تدم طويلا، وفشلت جميع النهضات في العالم الإسلامي ولم تحقق الأهداف المنشودة منها، لأنها لم تكن متماسكة ينقصها الشمول فإذا كانت هذه النهضة ¬

_ (¬1) سورة النور

سياسية تهمل العبادات والأخلاق الفاضلة ولا تتمسك بالإسلام. واذا كانت دينية تزهد في المادة. وتهمل علوم الطبيعة التي تكون سببا في تقويتها وارتقائها. واذا كانت علمانية تحيل الاسلام الى فلسفة وجدل، ومن بعد تحيل العقيدة الى شبهات. الاسلام ليس تصوفا ولا عبادة ولا أحكاما فحسب أنه دين هذه الأشياء جميعا، فلكم هدى ضالا، والآن قلبا قاسيا، وعلم جاهلا. ونبه غافلا. وأصلح فاسدا، وجمع متفرقا، ورأب متصدعا، وأصلح مختلا، ومحا ظلما، وأقام عدلا ومكن للأمم التي اعتنقته نظاما امتازت به عن سواها، فالدين كمال وزينة للشخص. ونظام للملك. وأظهر الله به النعمة على المسلمين في سلوكهم وأخلاقهم فلله الحمد. الاسلام مهماز يحث المسلمين على جلائل الأعمال وفضائلها، ومصباح لبصائرهم يرشدهم الى طريق الصواب، وتقويم لأفكارهم يعصمهم من الزيغ والزلل، ورحمة يعطف بها قلوب بعضهم على بعض. وإحسان للبؤساء والمحرومين. إن الشعوب الإسلامية لم تفسد الا عند ما فسدت عقيدتها الدينية في النفوس وأهملت أحكامها القيمة. الدين ليس قانونا مدينا فيه الضار والنافع، وليس نتيجة لأفكار البشر وآرائهم فيه الخطأ والصواب. بل هو شريعة فرضها الله يوم فرض الإيمان ليعمل بها عباده. أفبعد هذا يعجب العاقل من حكم الاسلام وسيادته؟ وآسفاه لقد حسر المسلمون الكثير من الدين، ولبسوه كما يلبس الفرو مقلوبا كما قال سيدنا علي عليه السلام. هذا ما أصاب المسلمين في عقولهم وأفكارهم وعزائمهم، ففضلوا الشر على الخير والأدنى على الأعلى، فسلط الله عليهم من يسلبهم نعمته التي أنعم الله بها عليهم. لأنهم لم يقوموا بشكرها، وابتلاهم بأحقر الأمم وحثالة الناس يلصقون بدينهم كل عيب. الاسلام يقرر أن السلطة العامة تكون بيدي الأمة، فلا ميراث في الحكم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يعين خليفة

من بعده أبدا، ولا أخذ أحدا الحكم بالقوة من خلفائه الراشدين، كما هو الحال في المسلمين اليوم. الاسلام يأمر بالشورى بين جماعة المسلمين، ويعتبرها هي الحرية الحقيقية، ولذا يوليها عناية كبرى قال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) (¬1) وقال لنبيه الكريم (وشاورهم في الأمر) (¬2)، وهي قاعدة عامة في الاسلام يجب أن يطبقها المسلمون في جميع شؤونهم العامة، وهى ضد الدكتاتورية المستبدة التي طوحت بالمسلمين قرونا عديدة، حتى أصبحت حجر عثرة في سيرهم، فبها يصل المسلمون الى حكمة الرأي وصوابه، لأن الجماعة الملتزمة بالإسلام عندما تتشاور تكون في جانب الصواب، وبهذا يتضح أن الصواب في جانب الرأي الجماعي، وخاصة أهل الحل والعقد، والخطأ كل الخطأ بجانب الرأي الفردي أيا كان موقعه وسلطته. أما كيف تتحقق؟ وما هي الوسيلة إلى ذلك؟ فهذا أمر تركه الاسلام الى جماعه المسلمين وإلى التطورات الزمانية الرئاسة العامة هي حق الأمه لها أن تعزل الحاكم إذا رأت فيه اعوجاجا أو خالف دستور الإسلام، لأنها هي التي أوصلته إلى السلطة، وما هو الا وكيل عنها أو نائب عليها، فهو يستمد. سلطته منها ويعتمد على تقتها. يجب على الحاكم المسلم أن يضع نصب عينيه العقيدة الاسلامية، فيحافظ عليها، فإن زاغ مبتدع، أو ألحد فاسق، أو سعى مغامرون بالفساد في الأرض أو طعن فيها، أو عطل أحكامها وتشريعاتها يقوم القانون في الحال لحمايتها وصيانة النظام العام فيها، ليكون الدين محرسا من التعدي عليه ومحترما في أعين الناس، والأمة محفوظة من الزلل، فبهذا تصان محارم الله من الانتهاك، وتحفظ حقوق العباد من الضياع والتلف. يجب على المسلمين أن يخرجوا من نطاق الكلمات الجوفاء والتصريحات الرعناء والعصبية الجاهلية، والدعوات المرتجلة الي ساحة التنظيم والاعداد. ¬

_ (¬1) سورة الشورى (¬2) سورة آل عمران

يجب أن ترتكز نهضتهم الحالية على بعث عقلي يقوم باكتشاف الاسلام من جديد ليستضاؤوا بمصدرية الكتاب والسنة، وأن يشارك أرباب الثقافة وحملة الأقلام، وذووا الفكر النير من أهل المعرفة والعلم في هذا البعث ليكونوا دستورا إسلاميا للحكم أساسه الشورى، فعلى العلماء المصلحين أن يقوموا بواجب النصح، والجهر بكلمة الحق، وعلى الحاكمين أن يستجيبوا لهذه النصيحة وأن يعملوا بها ويتقبلوها لأنها في صالح الجميع. المسلمون اليوم على اختلاف مذاهبهم يريدون أن يجعلوا حدا لهذه الأمراض الاجتماعية الخطيرة من التدهورات المستمرة، والخلافات التي كانت سببا في هدم الوحدة، ولا يكون هذا الا بدستور إسلامي هو الذى يجمع المسلمين ويوحد صفوفهم. اننا ننبه حكام المسلمين ان الأهداف التي ينشدونها لا تأتى الا عن طريق الاسلام البعيد عن روح التعصب، ولا يحصل الازدهار لهذه الشعوب الا اذا كانت شؤونها مبنية على عقيدة اسلامية، لأنها تلائم بين المادة والروح وبين العقل والعاطفة، وبين الجديد والقديم. يجب على الحكومات الاسلامية أن تسهل كل ما له صفة التدين بين المسلمين حتى يشعروا بشعور واحد، ويحسوا بإحساس واحد، ويفكروا بتفكير واحد لأنهم يريدون أن يبرزوا إلى الوجود كمجتمع ديني بجميع خصائصه ومميزاته ويريدون الانطلاق من واقع الظروف القاسية التي مرت عليهم من القرون المتأخرة من حياتهم الى آفاقهم الاول من انبثاق تاريخهم المجيد ... إن التقاليد والأنماط التي سارت عليها الطبقة الحاكمة قبل النهضة الأخيرة لا زالت موجودة الى الآن، والمسلمون لا يريدون هذه الآفاق المكررة لأنها نتيجة التعصب والركود والجمود. الثورة هي تحول من نظام قديم فاسد الى نظام جديد صالح هذا التحول حصل بالفعل لكنه كان في الشكل والصور لا في المعاني والحقائق التي يتطلبها المسلمون، وما دام الوضع الحالي يتنافى مع الإسلام وتعاليمه وروحه وحضارته لا بد أن تسود هذه

الاجتماعات والاضطرابات الخطيرة، فتصبح غير قارة، وإذا لم تستقر على أوضاع الاسلام فلن يستطيع المسلمون أن يؤدوا رسالتهم في هذا الوجود كاملة. قادة المسلمين يعرفون الأمراض التي كانت سببا في سقوط المسلمين، وانحطاطهم وتخلفهم والتيارات التي هبت عليهم حتى أودت بحياتهم. الواجب يحتم عليهم أن يتجنبوا كل الأخطاء التي وقعت للمسلمين في الماضي حتى استعبدوا ... الشعوب الاسلامية لها إمكانيات وطاقات هائلة ان أحسن القادة الاشراف عليها، ووجهوها نحو دينها، فإنها بدون شك ستصبح قوة فعالة في هذا الوجود، ترجح كفة السلم في العالم. يا حكام المسلمين ها هي أمتكم قد تحررت شرقا وغربا والطريق أمامكم قد تمهد وأمتكم قد تعودت السمع والطاعة لكم وهي تلبي ندائكم في السراء والضراء، وتمتثل لأوامركم في الشدة والرخاء، فإن استقمتم فإنها - بدون شك - ستستقيم لا خوف عليكم منها ما دمتم سائرين على منهج الاسلام، وأنها لا تخشى الا انحرافكم عن الدين الحنيف فإن انحرفتم فلا تستطيعون أن تملكوا زمامها، وهذه هي الثغرة الوحيدة التي يدخل منها العدو الى صفوفكم، فقودوها الى مجدها التليد، وعزها الطريف، وإذا أردتم أن تبقى هذه الأمة متماسكة متحدة جنبوها الأفكار الدخيلة، والقوانين المستوردة التي تروج في بلدان المسلمين، وتطبق عليهم كقوانين شرعية أصيلة حتى تغيرت معالم شخصيتنا، وأصبحنا لا نميز بين المسلم وغيره. فإذا كان حكام المسلمين يحترمون كفاح الأمة فلا بد لهم أن يحترموا كلمتها وإذا كانوا يحتاجون اليها فلا بد أن يتقبلوا مشورتها ونقدها وما دامت الأمة تحمل العب أولا وأخيرا، فليس من حق الحاكم أن ينفرد دونها باتخاذ قرارات هامة، وليس من حقه أن يتجاهل كلمتها بأن تقول (لا، أو نعم) فالحق فوق الجميع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق الحاكم: (من مات غاشا لرعيته لم يرح رائحة الجنة) وإذا كنا نؤمن بالإسلام كدين من عند الله ونحترمه يجب أن نؤمن به إيمانا كاملا، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشبه الإسلام بالعرى فقال: (لتنقض

عرى الاسلام عروة عروة فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة (ها نحن نشاهد مصداق هذا الحديث الشريف، المسلمون اليوم لا يتعاملون بالإسلام فيما بينهم، ولا يتحاكمون الى كتاب الله وسنة رسوله لقد انفصل ما بينهم وبين الاسلام من عهد وميثاق، وبعد ما بينهم وبينه من روابط وصلاة فاستبدلوه بقوانين وضعية أجنبية تهدر الكرامة وتفتل الضمير حتى شاعت الفاحشة في الذين آمنوا. يقول محمد اقبال الفيلسوف المسلم في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس سنة 1338 هـ - ان الاسلام مهدد بخطرين مصدرهما الغرب أولهما الالحاد وثانيا الاستعمار، ومستقتل العرب رهن بوحدتهم فإذا تمت الوحدة العربية علا شأن المسلمين في كل أنحاء الأرض، والعرب يحاولون الوحدة الآن خارجة عن نطاق الاسلام، وأنهم لا يتوصلون الى الوحدة الحقيقية التي تنتظرها الشعوب الاسلامية منهم. المجتمع الصالح يجتمع فيه صنفان من الناس السراة والهداة، فالسراة هم الأمراء المخلصون الصالحون، والهداة هم العلماء الربانيون الذين يعرفون الحق ويصرخون به دون أن يخافوا في الله لومة لائم. كما قال الشاعر الحكيم: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا قيادة الجاهلية تكون عندما ينعدم العلماء المتفقهون الناصحون قد يوجد الحاكم المقتدر ولكنه محتاج الى مذكر ومبصر، فإذا وجد بجانبه العالم الناصح المخلص كمل أمر هذا الحاكم كما قال عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه عندما تولى الخلافة فقال: (أيها الناس من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم (هذا الكلام في غاية الصواب والعدل، وصاحبه يشعر بمسؤولية كبرى ملقاة على عاتقه، ولهذا فهو يطلب من الأمة أن تعينه إذا استقام في حكمه وإذا حاد عن الحق فلا طاعة له. يا حبذا لو يقتدي أمراء المسلمين بهذا الخليفة العادل الذي رد الأمن والطمأنينة الى النفوس في زمن قصير جدا.

يجب على حكام المسلمين الا يقلدوا الغرب في فصل الدين عن الدولة والا يقولوا أن الاسلام لا يحقق نهضتنا في التقدم العلمي التكنولوجي كما يقول الملاحدة الا اذا اعتنقنا مبادئ الغرب العلمانية، ونبذنا مبادئ الاسلام الرجعية هذا هـ الخطأ الذي وقع فيه حكام المسلمين من بعد الاستقلال فقلدوا الغرب في كل شيء، في الحكم والشعارات والتعليم، فأصبحوا يعلمون في مدارسهم اللغات الحية كما يسمونها، وتركوا التعليم الاسلامي، واللغة العربية فيها فأصبحت بلدان المسلمين قطعة من أوربا، ما ترى في دوائر الحكومة ومصالحها المتعددة المتنوعة في الشوارع والبيوت الا الرطانات الاجنبية لأنهم جعلوها رسمية وتركوا لغة البلاد، وكذلك التقاليد والعوائد الأوربية فإذا مشيت في شوارع المدن الكبرى تحس كأنك في أوربا لا في بلدة اسلامية لأنك لم تعثر على أي شيء من شعائر الإسلام. فنشأت الشبيبة على حب التقاليد الأجنبية والتخلق بأخلاقهم وحب لغتهم وبغض اللغة الوطنية فأصبحت تحارب الإسلام جهارا وعلى مسمع ومرأى من الحكومة التي هو دينها الرسمي، والاستهتار بالأخلاق الفاضلة والقيم الانسانية، وصارت تنفر من كل ما ينتمي الى الوطن من عوائد وأخلاف، وتكره الشخصية الوطنية لأنها تسممت بهذا التعليم الأبتر. وهناك بعض الدول معاصرين ليسوا من الغربيين، ولا اعتنقوا جنسيتهم وقد توصلوا إلى الصناعات الحديثة كما وصلت أوربا بدون أن يستبدلوا عقائدهم ولا لغتهم كاليبان والصين الشعبية. كذلك المسلمون يجب عليهم أن يأخذوا العلوم التكنولوجية والأساليب الفنية والاختراعات العلمية والنظم الحديثة فتضيفها الى ما لنا من مقومات أساسية. هذه العلوم أخذها الغربيون عن المسلمين في الماضي فكانت نواة لنهضتهم الحديثة، ونحن الآن - بدورنا - أن نأخذها منهم ونعربها ونضيفها الى العلوم الإسلامية كما تفعل سائر الأمم.

وإذا فصلوا بين الدين - الذي هو عبادة فقط - وبين العلم، فالإسلام دين العلم أول كلمة نزلت من كتابه كانت (إقرأ)، لم تكن (قاتل)، ولا (اجمع المال)، ولا (ازهد في الدنيا). (إقرأ (هذه أول كلمة أنزلت من القرآن وجاء بعدها ذكر العلم. من الله على الانسان بالعلم، لا بما أعطاه من مال ولا من قوة ولا جاه، بل علمه ما لم يعلم. وكل علم يحتاج اليه مجتمع إسلامي، يكون فرض كفاية على القادرين عليه فهل في الوجود دين - الا الاسلام - يجعل تعلم الكيمياء والطب والطيران، من الفروض الدينية؟ الاسلام دين القوة، ولكن بلا ظلم. الاسلام للدنيا والآخرة) ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) (¬1) وهو يريد للمسلمين أن يصدقوا في إيمانهم بالله وأن يتبعوا الشرع، وأن يكونوا مع هذا أرقى الامم وأقوى الأمم، وأعلم الأمم وأغنى الامم، ليجمعوا حسنة الدنيا وحسنة الآخرة. أليس القرآن فيه الشفاء من جميع الأمراض الاجتماعية؟ أليس في أحكامه العدل والمساواة بين الناس؟ ألم يأت بقوانين عادلة ما حرمت من الأشياء إلا ما فيه مضرة وفساد، وحثت على كل ما فيه مصلحة ومنفعة؟ ألم يجعل الناس أحرارا في معاملاتهم وتصرفاتهم في ممتلكاتهم ما داموا في دائرة الحق والعدل؟. الشريعة الاسلامية وافية بحاجيات الناس، فوضعت القوانين العادلة لو طبقت لكانت كفيلة بحل جميع المشاكل، فمبادئها صالحة لكل زمان وجيل، وهى تكتب النصر والتفوق لمعتنقيها، وتخلع عليهم رداء العزة والكرامة، ومتى يثق الناس بهذا الدين، وتطمئن نفوسهم إليه يصبحون سادة كراما موفوري الكرامة أقوياء لأنه مفتاح السعادة. لو أصلح المسلمون ما بأنفسهم واعتصموا بحبل الله جميعا كما أمروا وأصلحوا ذات بينهم لعادوا الى ما كانوا عليه من المجد والعظمة، ولو أنهم احتكموا في خصوماتهم الى كتاب الله وسنة رسوله لما اختلفوا ولو أنهم نشروا العلم الديني والاصلاح الحقيقي في أوطانهم لما تفرقوا قال الله تعالى: (ولله العزة ولرسوله ¬

_ (¬1) سورة البقرة

وللمؤمنين) (¬1) أيها المؤمنون أين ما وعدكم الله به من العزة أتشكون في وعد الله؟ والله لا يخلف الوعد، المسلم يعبد ربه بظاهره وباطنه ويجاهد في سبيل الله بسيفه وقلمه ولسانه لإعلاء كلمه الله وينفق في الخير ماله ابتغاء وجه الله، إن يعمل يعمل لله، أو يتكلم يتكلم بالحق وإن أضر نفسه فعال منفاق مصداق. المسلمون في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى كلمتهم واحدة ومهمتهم واحدة وجهادهم لله وقتالهم في سبيل الله من افتقر عانوه ومن حضر عدوه ومن غاب افتقدوه، ومن مات شيعوه، ومن مرض عادوه وبالدين تكون سعادة المسلمين، ولما تفرقوا شيعا وأحزابا واختلفوا مذاهب ونحلا وتباينوا أهواء وسبلا، وملأوا المجالس جدالا ذهب سلطانهم، وضعف كيانهم، وصغر شأنهم وتداعت عليهم الأمم، وكذلك العذاب، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون. اليوم الذي تخلى فيه العالم الاسلامي عن الدين والأخلاق تغلت عنه السعادة وتاهت به الحياة في مجال القلق، ومتاهات الحيرة، ومجالات الشك والاضطراب، القعر الحقيقي ليس هو فقر المال ولا الاوراق المالية، وإنما هو فقر الكرامة والأخلاق، فقر الانسانية، فقر الصفات والشمائل والمحامد والعلم. أزمة المسلمين ليست أزمة الاقتصاد والسياسة والمال، الأزمة في الواقع أزمة الرجال، أزمة الضمير، أزمة الخلق، أزمة الدين، أزمة الوعي والنضج والرشد، أزمة الأخلاق أزمة العقيدة، أزمة المثل العليا، أزمة المبادئ والقيم والمعاني والمفاهيم، أزمة الأمانة والواجب والنصيحة، أزمة الضمير والايمان، فهذه الأزمات كلها ناشئة عن عدم اهتمام المسلمين بأمور الدين وجهلهم به. الاسلام جاء ليجمع القلب الى القلب، ويضم الصف الى الصف، جاء ليكون مجتمعا راقيا من عوامل الفرقة والضعف المعنوي والمادي وأسباب الفشل والهزيمة، حتى يصل الى المقاصد السامية والأهداف النبيلة التي جاءت بها رسالة سيدنا ¬

_ (¬1) سورة المنافقين

محمد صلى لله عليه وعلى آله وسلم من عبادة الله وإعلاء كلمته، وإقامة الحق، ونشر العدل وفعل الخير والجهاد من أجل استقرار مبادئ الإسلام التي يعيش الناس في ظلها آمنين مطمئنين. جاء الإسلام ليربط المسلمين برباط الأخوة التي لا تنفصم عراها، فتزول أمامها جميع الفوارق من نسب ومال وجاه الى غير ذلك مما درج عليه الناس من المميزات (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين اخويكم) (¬1) هذا الاخاء يستلزم تبعيات وحقوقا، فليس هو إخاء عقيما لا ثمرة له. أوجب الاسلام على المسلمين. أن يحترموا بعضهم بعضا، وأن يحافظ كل فرد على كرامة أخيه من أن يعيبه، أو يحط من قدرة أو يطعن في شخصيته، أو يلقبه بلقب يكرهه، فهذه السيئات تقطع الصلة وتمزق روابط المودة، وتنشر العداوة في النفوس. أمر الإسلام المسلمين بالتواضع فيما بينهم، وخفض الجناح، ولين الجالب، فالمسلم لا يتكبر ولا يختال ولا يزهو بنفسه. قال تعالى في حق المتكبرين:) سأصرف عن آياتي، الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل أية لا يؤمنوا بها وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا) (¬2) وقد جاء في الحديث الشريف: (ان الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد (. الإسلام يأمر بتعاون المسلمين فيما بينهم حتى يتحدوا لتقوى جماعتهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا بني إذا أصبحت وأمسيت وليس في قلبك غش لأحد فافعل فإن ذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة (. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم (. هذا الحيث الشريف ينبه المسلمين من غفلتهم ويحثهم على أن يقوموا بواجبهم نحو بعضهم بعضا، فكل واحد منا عليه واجبات وحقوق ومسؤوليات نحو المجتمع. ¬

_ (¬1) سورة الحجرات (¬2) سورة الاعراف

فإصلاح المجتمع متوقف على إصلاح الفرد، فان كان الفرد شاعرا بواجباته الكثيرة نحو ربه الذي خلقه وأغدق عليه من نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى وخافه في السر والعلن، واستحضر عظمته في ضميره وخشيته في قلبه فيصبح هذا الفرد لا يتعدى ما أمر الله به ولا يتجاوز ما نهاه عنه حينئذ يسير في طريق الصواب الذي لا اعوجاج فيه، فيصير إنسانا كاملا يؤدي رسالته التي خلق من أحلها. ان المتهاونين فيما كلفوا به من تطبيق الاسلام مكذبون، ولهم الويل في الدنيا، والندامة والخزي في الأخرة، فهل يليق بنا معاشر المسلمين أن نقطع الصلة بيننا وبين تعاليم الإسلام، أو نحصرها في طائفة معينة؟ أم ننتظر هاديا غير محمد صلى الله عليه وسلم؟ استولت علينا الأهواء فأنستنا ما أوجب علينا الايمان، أو طبعت النفوس على الشر فضلت سواء السبيل، عجبا يأمرنا ربنا بالتعاون على البر والتقوى، ونحن نتعاون على الاثم والعدوان. كان المجتمع الإسلامي فيما مضى تنظره شعوب الدنيا بعيني الاجلال والإكبار فما لنا ونحن لم نكن كما كنا من قبل، لأننا غيرنا ما بأنفسنا، فغير الله ما بنا. يجب على المسلمين أن يحاربوا الشهوات التي تزين لهم مخالفة الدين والعقل ويبتعدوا عن الأرواح الخبيثة التي حذرهم منها القرآن كالنفس الأمارة بالسوء واتباع شياطين الانس والجن حتى يرجعوا الى طريق الصواب، فالمسلم يجب عليه أن يلازم الاستقامة في الأقوال والأفعال، ويأخذ نفسه بالوفاء بالعهد وصدق العزيمة، وعدم مجاراة السفهاء، لهذا كان المسلمون كما قال الله تعالى:) كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (¬1) يجب على المؤمن أن يسعى طلب العلم لأنه الطريق الوحيد الى معرفة الله قال تعالى: (انما يخشى الله من عباده العلماء) (¬2) كلما تعمق العالم في العلم تكن خشية الله عز وجل لأنه يرى نواميس الكون من الإتقان في الصنع، والحكمة في التدبير ما يجعل المؤمن يخر ساجدا لله، فالذين يتخصصون في علم ¬

_ (¬1) سورة آل عمران (¬2) سورة غافر

التشريح يرون فيه من احكام التركيب ومن اتقان الصنعة في مختلف الاجهزة الجسدية وفي مفردات هذه الاجهزة ما يضطرهم اضطرار الى السجود لرب هذا التنسيق والترتيب والإبداع لو كانوا يفقهون، وليس علم التشريح وحده هو الذى يبهر العالم المتبحر فيه، وكذلك علم الفلك يبهر العالم الفلكي، ويبهر علم الأحياء عالم الأحياء، وهكذا نجد انبهار النفس في كل ميدان من ميادين المعرفة الكونية أرضها وسمائها وما بينهما. إن العلم النافع هو أهم مطلب في هذه الحياة، وأجل مقصد في الوجود، فالعلماء هم الذين يضيئون مسالك الحياة ويسيرون بالناس قدما الى السمو والكمال، طلب العلم في الاسلام ليس نافلة ولا أمرا كماليا، وأنما هو فرض وضروري. العلم الصحيح هو دليل اليقين الثابت، ووسيلة الخلق الفاضلة، وكلما ازداد الانسان علما ازداد اعتقادا بالله واستقامة ومعرفة في الحلال والحرام ويصير قادرا على قيادة نفسه وضبطها وتهذيبها يقول الله سبحانه وتعالى في حق العلماء الصادقين (شهد الله أنه لا اله الا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا اله الا هو العزيز الحكيم) (¬1) وصل هؤلاء العلماء الربانيون الى هذه الدرجة عن طريق العلم الذى يثمر الخشية، والى التوحيد الحقيقي، والتوحيد هو سمة الدين الإسلامي وسمة المتدين الصادق. يشهد علماء التوحيد مع الله، ومع الملائكة الأطهار ان الله واحد في ملكه لا شريك له، وهذا أسمى ما يمكن أن يصل إليه العلماء من تكريم الله لهم بحيث قرنهم مع الملائكة المقربين في شهادة التوحيد، وشهادة التوحيد أقصى ما يمكن أن يسير اليه السالك في معراجه الى الله سبحانه وتعالى وهى لا تتحقق الا في العلماء المؤمنين العاملين، ان شهادة التوحيد قد وجه الله إليها الأنظار بأساليب شتى، وهذه الأساليب ما لا يقدرها في روعتها الرائعة الا العلماء العاملون قال الله سبحانه وتعالى: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الله خير أما تشركون أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ¬

_ (¬1) سورة آل عمران

ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهار وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر اذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون) (¬1) الى آخر الآية الكريمة، ثم يعقب الله على هذه الآيات بأنه مهما بلغ العلماء بعلمهم فإن المجهول لديهم كثير وأنه لا يعلم هذا المجهول الا الله سبحانه (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب الا الله وما يشعرون) (¬2) ومن أجل شهادة التوحيد حث الاسلام على العلم وجعله من أسس الدين، العلم هو السبيل الوحيد الى بناء العقيدة الصحيحة وهو الهادي الى هداية الانسان وسعادته، ولهذا رفع الإسلام من شأنه ونوه بمكانته، وحث الناس على اعتشاقه وقد مثله بالنور والجهل بالظلمات قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) (¬3) ولقد وجه الاسلام الناس الى أخذ الأحكام عن العلماء فقال عز وجل: (فسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) (¬4) والعلم في نظر الاسلام حق مشترك بين الناس ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم الذى هو قدوة المسلمين وأسوتهم أن يقول: (وقل رب زدني علما) (¬5) في كل يوم بل في كل لحظة ذلك ما يجب أن يكون شعار المسلمين وإذا ما ازداد المسلم علما ازداد خشية وإذا ازداد خشية تحقق فيه اسلام الوجه لله على أكمل صورة ومن يسلم وجهه لله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ولله عاقبة الأمور (¬6). ¬

_ (¬1) سورة النمل (¬2) سورة النمل (¬3) سورة الانعام (¬4) سورة الانبياء (¬5) سورة طه (¬6) سورة لقمان

الاحتلال الفرنسي للجزائر

الاحتلال الفرنسي للجزائر كانت الجزائر - في ابان الاحتلال وقبله - دولة مزدهرة وقوية ومنظمة في جميع الميادين، في الداخل والخارج وكانت دول أوربا تخشى بأسها وسطوتها، ولا سيما في البحر الأبيض المتوسط، وتجارتها الخارجية كانت تصدر الى أوربا وغيرها، والزراعة والصناعة والثقافة كانت على أحسن ما يرام ... قال السيد عباس فرحات في كتابه ليل الاستعمار، ان الجيش الفرنسي استأصل مدينة عريقة في القدم، وفكك هيئة اجتماعية لها نظام محكم القواعد حكم نظام حياتها ... كل المؤرخين يشهدون بأن الجزائر قبل الاحتلال كانت دولة عصرية آخذة في التصاعد الحضاري ... قال العالم الفرنسي م دوبار ادى: (ان الجزائر العاصمة تطلق على جميع القطر الجزائري، وكانت مقر الحكم وقاعدة الدولة، ولم توجد في التاريخ أي دولة أشد حرصا على مال الدولة من حكومة الجزائر) ان بيت المال كان يدار بنزاهة وأمانة لا مزيد عليهما، ومن ناحية الادارة كانت الجزائر مقسمة الى أربعة مناطق: منطقة الجرائر العاصمة، ثم منطقة تيترى أي المدية، فمنطقة وهران، فمنطقة قسنطينة، وكان على رأس كل منطقة عامل يسمى الباي ... وقال المؤرخ الفرنسي: (شارل أندرى جوليان في تاريخ شمال افريقيا كانت التجارة الخارجية في الجزائر مزدهرة، وكانت تقدر في ذلك العهد بعشرة ملايين ذهبا، واللغة العربية هي لغة البلاد الرسمية، والتدريس بها منظما) وقد لاحظ الجنرال فيالار سنة 1834م أن الجزائريين يتقنون القراءة والكتابة كلهم، في كل قرية توجد فيها معاهد، وجامعات في العاصمة، وقسنطينة، ومازونة وتلمسان، ووهران ما عدا التعليم في الزوايا الكبرى وكان مزدهرا. وكان لكل طريقة دينية عدة مدارس منتشرة في القطر.

المواد التي تدرس في هذه المعاهد لم تكن تختلف عن المواد التي كانت تدرس في باقي أنحاء العالم الإسلامي. أما الصناعة فكانت مزدهرة أيضا ان زرابي مدن سطيف والقرقور، وجبل عمور وتلمسان كانت مشهورة، وأما صناعة النحاس والفضة والذهب فكانت الأساس للصناعة الجزائرية، وكذلك الفلاحة كانت راقية ومزدهرة، قال الجنرال كافينياك:) كان لزما علينا أن نقدر الويلات حق قدرها التي جرتها الحرب على العرب الى يومنا هذا أن العربي متمسك بأرضه أشد مما تتصوره، ملكيته منظمة أحسن مما يقال عنها، وفى هذا الباب اننا محتاجون الى الكثر من الدروس من طرف العرب (. بدأ الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830 م، وكان الأتراك هم الذين يحكمون البلاد، وسبب هذا الاحتلال هي الديون المترتبة في ذمة فرنسا، فلما طلبت الحكومة الجزائرية بتسديدها أعلنت فرنسا على هذه الحكومة حربا شعواء وهجمت جيوشها على عاصمة البلاد، وتمركزت قواتها في ساحل البلاد، والحكومة الجزائرية كانت لا تتوقع هذا أبدا ولما عجزت عن صد هذا الهجوم السافر، وقع حسين داي باشا صك الاستسلام وقبل الشروط التي أملاها عليه قائد الحملة الفرنسية وغادر البلاد وذلك في شهر تموز من السنة المذكورة، فدخلت الجيوش الفرنسية الى العاصمة فنهبت وسلبت كما هو شأنها من غير وازع ولا رادع ... ولما استولى الغزاة الجدد على العاصمة وتمركزوا في بعض النقاط من الوطن فأول شيء بدأوا به هو القضاء التام على كل ما كان للجزائريين من اقتصاد زاهر ومدينة راقية، وانحصر حربهم في العقيدة التي يحملها الشعب بين طياتها طيلة إقامتهم في هذا الوطن حتى طردوا منه سنة 1962 م. اختل نظام الحكم في البلاد بعد مغادرة الداي، فاستقلت كل ناحية بنفسها وأخدت تنظم السكان للدفاع عن الوطن فسكان قسنطينة قد التفوا حول الحاج أحمد باي وحصنوا - مدينتهم تحصينا محكما، وأما سكان غرب الجزائر فقد اجتمع رؤساء

القبائل والعشائر المختلفة في مؤتمر عام بايعوا بيعة شرعية الأمير عبد القادر بن محي الدين الهاشمي، وعاهدوه على السمع والطاعة، وكان الأمير يومئذ في الرابعة والعشرين من عمره عالما فاضلا تقيا نقيا شاعرا فصيحا شجاعا باسلا بعيد النظر عميق التفكير ولد سنة 1807م وبويع بالإمارة سنة 1832م فأنشأ دولة فتية قوية عاشت سبعة عشر عاما، ولو كان يشرف على الأمة من قبل الاحتلال لما آل أمره الى الاستسلام ولما استطاع الجيش الفرنسي أن يحتل البلاد ... يقول المؤرخ الفرنسي (أوستان برنار) عن أخلاق الأمير وصفاته ودينه وشجاعته - والفضل ما شهدت به الأعداء - قال ان الأمير عبد القادر قد حج مع والده سنة 1827 م، ولما استولى الفرنسيون على وهران قام الشريف محي الدين والده يقاتلهم، وفي تشرين الثاني من سنة 1832 م، اجتمعت في سهل (ايغريسن) ثلاث قبائل وهى: هاشم، وبنو عامر، وغرابة منادية بعبد القادر أميرا على البلاد ... وقد بدأت ثورة الأمير صغيرة ولكنها ما لبثت أن اشتدت واتسعت بسبب ترددنا وحاجة البلاد الى حكومة تقضى على الفوضى العامة التي انتشرت في كل مكان وكنا عاجزين على القضاء عليها ... ولقد أظهر الأمير بعد أن أسند اليه الأمر على الرغم من أنه ابن الزوايا والطرق حنكته السياسية وبراعته العسكرية كانتا فائقتين، وكان يتمتع بصفات تدل على أنه خلق ليحكم، كان بسيطا في لباسه، متواضعا في معشره أنيقا جميلا فصيحا شجاعا فارسا. وبالتالي فقد كان له هدوء الدبلوماسي المسلم وسكينته ولباقته، وكان متدينا عن اخلاص ومن صميم فؤاده، ولم يطلب الامارة لإشباع أطماع نفسه، بل طلبها ليقود أمته في طريق الفلاح، كان قاسيا عند اللزوم رحيما عند الاقتضاء، وكانت شدته ولبنه بحسان وتقدير، وقليل مثله في المسلمين من كان يدرك معنى الدولة ادراكا تاما كما كان يدركها هو بكل تفصيلاتها وجزئياتها من حيث النظام والإدارة، وجباية الضرائب، وتنظيم

الجيش، وكان أجل وأبرز أعدائنا في الجزائر واذا كان قد فشل في بناء إمبراطورية اسلامية واسعة، فليس مرد ذلك كله الى مناهضتنا اياه، بل كان السبب تفرق المسلمين عنه، وعدم اتحادهم تحت لوائه لحرمانهم من الشعور الوطني والقومي، وتفرقهم هذا كان له أوفى نصيب في سبب فشله (انتهى (. بايعت الأمة الجزائرية الامير بن شيخ طريقة القادرية واضطلع بالمسئولية الكبرى التي أنيطت به فأخذ يعد العدة اللازمة لمواجهة العدو ومنازلته، فبدأ يجمع الأعراش والقبائل ليكون منهم جيشا منظما يدافع عن الوطن، وكان يحث على الجهاد والصبر، فنفرت الأمة الى ميادين القتال والمعارك واستجابت الى ندائه ودعوته، واستطاع الامير أن يجمع قبائل وهران وقبائل تيتري، وقضى على جماعة التيجانية الذين كانوا يوالون الفرنسيين ونظم البلاد تنظيما إداريا، وكان جيشه منظما ومدربا على فنون الحرب والقتال، وعدده إحدى عشر ألف جندي ما بين راجل وفارس، وأنشأ مصنعا لصنع المدافع وآخر لصنع البارود، وبنى حصونا وأقلعة على حدود بلاد القبائل التي كان يخشى انتفاضها ضده، ووحد منافسين له انحازوا الى صفوف العدو رغبه منهم في التوصل الى مطامعهم الشخصية. الشعب كان لا يعرف ما يدور في الجو السياسي لولا دعاية الأمير، ولما علم بدخول جيش أجنبي الى ترابه، وتمركز في السواحل، وفي العواصم الكبرى، وانهزام الحكومة المركزية أمام جيوش الاحتلال هب من نومه هبوب العاصفة لإنقاذ بلاده من شر هؤلاء الغزاة، انظم الى المقاومة المنظمة التي كانت تحت إشراف الأمير عبد القادر، فاستنزف هذا الشعب كلما كان له من ثروات مادية وطاقات بشرية لم يكن الاحتلال بالأمر السهل، ومن الغرابة أن يجرد شعب من وطنه، ومن ثرواته المادية والروحية ويبقى مكتوف الأيدي لا يدافع عن نفسه خصوصا اذا كان شعب أبى لا ينام على ضيم يحب الحرية والاستقلال حريصا على كرامته وشرفه كالشعب الجزائري. امتازت مقاومة الشعب الجزائري للاستعمار الفرنسي

ببطولة نادرة احتلال الجزائر لم يكن نزهة عسكرية كما يدعي بعض الفرنسيين، بل كان اصطداما بقبائل قوية الجانب شديدة المراس قوية الشوكة لا كما كان يظن الاستعمار أنها قبائل متأخرة، وظن باحتلاله العاصمة أنه بذلك قد استولى على البلاد، ولما اصطدم بالشعب في المعارك الدامية تبين له خطؤه وتقديره، واقتضاه الأمر من بعد ذلك على أن يدفع ثمن الاحتلال باهضا، لأن مسلمي الجزائر كانوا لا يسلمون في شبر من أراضيهم إلا إذا سالت فيه دماء غزيرة من الجانبين، فكانت خسارة في الأنفس والأموال كبيرة جدا. فالاستعمار ضحى من ناحيته ما لا يقل عن أربعين ألف جندي، وأنفق أموالا طائلة على هذه الحرب القذرة ... الشعب الجزائري مسلم ما في ذلك لبس ولا غموض، ورغم الحكم المحلي فإنه مكون من سلسلة متراصة قوامها العروبة والاسلام ولكن ينقصه الوعي. كانت الشعوب الاسلامية حينذاك متخاذلة فيما بينها بسبب فقد الروح الاسلامية، والظروف كانت تعمل لصالح الاستعمار، والفرص مواتية له، فاضطر الأمير الى دخول المغرب العربي، وقد سمح له بذلك السلطان عبد الرحيم بادى الأمر بالالتجاء الى بلاده، فطلب الفرنسيون من السلطان تنفيد شروط المعاهدة التي عقدوها معه اثر معركة (إيزلي) وهى التي انتصر فيها الفرنسيون على المغاربة، وتنص هذه المعاهدة بأن السلطان يحجز الأمير في إحدى المدن الساحلية اذا ما وقعت يده عليه، ومن السلطان لم تصل يده الى الأمير قط بل كان يناحر الفرنسيين على الحدود الجزائرية المغربية وكان فريق من الجزائريين يحمل بين طياته الخيانة لأمته والغدر بمواطنيه. انحاز هذا الفريق الكبير الى صفوف العدو، وأصبح يقاتل معه، فكان سببا في جلب الكوارث والنكبات والويلات التي حلت بهذا الوطن. فخذلت هذه القبائل الخائنة الأمير وجيشه الذي كان يدافع عن الوطن والاسلام، فأصبح مشردا ومطاردا من كل ناحية لا يستقر في مكان، فرأى أنه لا مفر من الاستسلام الى

الجيش الفرنسي بعد ما قبل جميع شروطه، فأمر الامير اتباعه بالاستسلام قبله، واشترط أن يسمح له بالذهاب الى الاسكندرية أو الى عكا، فرضى الفرنسيون بذلك. هكذا قدم الأمير نفسه الى عدوه، وكان ذلك في شهر كانون الأول سنة 1847م على يد الجنرال لاموريسير، وقدم إليه سيفه وخاتمه كرمز للاستسلام ولما استسلم حيته حامية فرنسية التحية العسكرية. استسلم الأمير عبد القادر لعدوه بعد ما قضى سبعة عشر عاما في الكفاح والجهاد، استسلم نتيجة تخاذل المسلمين الذين لم يبق لهم من الاسلام الا اسمه.

فضائع الاستعمار الفرنسي إبان الاحتلال

فضائع الاستعمار الفرنسي إبان الاحتلال لما عجز الفرنسيون عن مقاومة الجزائريين عن طريق الحرب المشروعة لجأوا الى أعمال العنف الوحشية البربرية بإحراق القرى والدواوير، والفتك بالأبرياء والضعفاء مثل النساء والعجزة من الرجال والأطفال، تعرض الجزائريون للإبادة والتخريب العام من هذه الأعمال الاجرامية، وقاسى الأمير في هذه الحروب، وجميع سكان القطر مصائب كثيرة وأهوالا عظيمة، ولم تكن معاملة الغزاة للأسرى المستسلمين بأفضل من المحاربين، فكانوا يقتلون الأسرى ويصلبونهم قال: (شارل أندرى جوليان في كتابه تاريخ شمال افريقيا انهم - يشير بذلك الى ساسة فرنسا وجنيرالاتها في الجزائر - لم يحرقوا البلاد خفية، كما قتلوا أعداءهم جهارا بلا شفقة ولا رحمة لا يمنعهم من ذلك لا رادع ولا وازع كانوا بالعكس يفتخرون بضراوتهم ووحشيتهم فقدوا كلهم من أديم واحد من الملكيين الى الجمهوريين الى أشياع نابليون فبمجرد نزلهم بأرض الجزائر، تعتريهم حمى النهب والقتل، والتخريب، كان هذا هو الطريق المؤدي الى نشر البلاغات الحربية الطنانة، الى المجد العسكري، والى تسلق مدارج الرقي، وكانوا كلهم في الضراوة سواء من روفيقوا الى ترزيل الى غيرهم، فكلهم في هذه الفضائح سواء لا فرق بينهم. إننا اذا نظرنا الى طبيعة الاستعمار فنجدها طبيعة واحدة لم تتغير أبدا فالأساليب الوحشية التي استعملها في احتلاله من القتل الجماعي والتعذيب والتنكيل، والحرق والتخريب هي نفس الأسلوب الذى استعمله في ثورة 1954م فالشعب الجزائري كان معرضا للإبادة من بداية الاحتلال الى نهايته، كان هذا الغزو مدفوعا بعنصرية بغيضة وروح صليبية (. ورغم هذا الاحتلال وسيطرة الاستعمار على الوطن سيطرة تامة كانت بعض القبائل تشن الهجومات العنيفة عليه في الفينة بعد الفينة بخلاف الثورات الجهوية التي لم تتركه يتمتع

بالاستقرار، ولم يفتأ الشعب يطالب بحقه في الحرية والاستقلال الى بداية الثورة الكبرى سنة 1954 م. وبعد ما انتهت المقاومة المنظمة، وتمكن الاستعمار من احتلال الوطن، أخذ يثبت دعائمه، ويفرض حكمه الاستبدادي على المسلمين، وكان يحارب في عوائدهم وتقاليدهم، وأول شيء بدأ به هو الاطاحة بنظام الاسلام فأسقط حكمه الذي كان قائما في هذه البلاد ومنع علومه من التدريس، وأغلق المدارس والمعاهد، وحطم الجامعات، وجعل المساجد تحت اشرافه مباشرة بعد ما خرب أكثرها، ورجع بعضها كنائس وثكنات للجند، وضم اليه الدور وجميع الأشياء المحبسة على الايتام والفقراء والمساكين، وأصبح هو المالك الشرعي لها والمتصرف فيها، وقضى على كل ما كان للمسلمين من نفوذ وسيادة في بلادهم، ومنع اللغة العربية من التدريس وأصبح يعدها لغة أجنبية ويعاقب كل من يعلمها بالسجن والغرامة المالية، وكون من المسلمين جيشا قويا للدفاع عن وطنه، ولفتح المستعمرات له في العالم وفي تموز سنة 1834م قرر البرلمان الفرنسي اعتبار الجزائر أرضا فرنسية، وأهلها مواطنون فرنسيون ففتحت فرنسا أبواب الهجرة الى الجزائر من جميع أقطار أوربا وكانت تساعد كل من يأتي إليها من الجاليات الغربية بكل وسيلة ممكنة من المال وغيره. وكان كلما يأتي فوج من المهاجرين الى الجزائر الا وانتزعت الأراضي الصالحة للزراعة من بين أيدى السكان المسلمين ودفعتها الى هؤلاء المهاجرين الوافدين على هذا الوطن من كل حدب وصوب فجمعت على المسلمين بذلك ذل الاستعباد وذل الفقر والجهل حتى ضج الجزائريون من هذه الحالة لأنهم أصبحوا غرباء في بلادهم محرومين من خيراتها. قال السيد عباس فرحات انتصار الاستعمار الذي تغلب بعدده وعدته هو حكم على الجزائري بأنه أصبح آلة يستخدمها العدو للازدهار ورفاهيته، أوصد في وجهه أبواب العمل وحتى أبواب الأمل، فجرده حتى من شخصيته في نظر القانون الاستعماري، ولم يبق الجزائري جزائريا دون أن يعود من جهة أخرى فرنسيا، فأصبح هو والعدم سيان لا جنسية له ولا وطن،

فصار غريبا وحيدا طريدا شريدا لا دار تأويه ولا قانون يحميه لا في بلاده ولا في فرنسا ولا في أي بلاد من بلاد الله ... ولما تم للاستعمار في هذا الوطن ما أراد من الحكم والسيادة اتجهت أنظاره إلى تونس الخضراء القطر الشقيق ففتحها بسهولة، وبدون مقاومة تذكر، وعقد مع المسؤولين معاهدة حماية وذلك في سنة 1881م ولم تنته مطامعه عند هذا الحد، والمملكة الشريفة لا زالت تنعم بالاستقلال، ومنفصلة عن أختيها الشقيقتين لا بد من ضمها إليهما، فأخد يتحكك عليها حتى وقع معاهدة حماية معها، وتمت هذه المعاهدة في سنة 1912م فأصبح شمال افريقيا جميعا في قبضته وتحت سيطرته مستعمرة كبيرة يعامل أهلها معاملة واحدة لا فرق بين حماية وغيرها.

عوامل ثورة الجزائر الكبرى

عوامل ثورة الجزائر الكبرى كانت الأمة الجزائرية مضطهدة منذ الاحتلال الفرنسي الذى وطئ أرضها سنة 1935 م، ومنذ ذلك الوقت وهى محرومة من جميع حقوقها الطبيعية والشرعية بعيدة عن وسائل الحياة، وكانت تعامل معاملة سيئة من طرف الاستعمار، كالاحتقار والإهانة والازدراء بكرامتها وشرفها، ونزع أملاكها وتسخيرها للعمل، وعدم احترام مقدساتها، وغطرسة الحكام وتجبرهم. كل هذا كان يترك آثارا سيئة في نفسها، ولن تستطيع أن تفرج عن كبتها لا بكلام أو دفاع أو رد فعل، لأن سيف الاستعمار كان مصلتا دائما فوق رأسها، ولهذا ما كادت تعلن ثورة 54 حتى انفجرت كالبركان، ونفرت الى ميادين القتال خفافا وثقالا. ومن العوامل القوية التي نشرت الوعى الوطني في الشعب ودفعته الى الثورة هي الأحزاب السياسية الوطنية التي تأسست من أجل هذا الغرض فكانت تهدف الى مقاومة الاستعمار وتحرير الوطن، فنبهت الرأي العام، وأيقظته من سباته فدبت الحياة في أوصاله ... وتأسيس الأحزاب يرجع الى ما بعد الحرب العالمية الأولى ان المحاضرة الأولى للحركة الوطنية وقعت في سنة 1924م ألقاها الامير خالد في باريس حضرها عدد كبير من مهاجري شمال افريقيا، وعلى عقبها تفرق الجمهور وهو يهتف (تحيا شمال افريقيا حرة مستقلة)، وفي شهر سبتمبر من نفس السنة تأسس نجم شمال افريقيا في باريس، وكان الغرض منه أنه يدافع عن مصالح العمال المادية والمعنوية والاجتماعية، ومن بعد تولدت منه حركة تهدف الى استقلال أقطار شمال افريقيا، الرئيس الأول لهذه الحركة هو السيد محمد جفال مع أعضاء مكتبه، وفي سنة 1929م حلت هذه الحركة من طرف السلطة الفرنسية غير أنها تابعت سيرها في تسر تام، وفي نفس السنة اعتقل رئيسها مصالي الحاج وغادر التراب الفرنسي، والتجأ الى جنيف حيث التقى

بالمسلم الغيور الذى كان يشرف على جميع حركات العالم الإسلامي ورائد النهضة الحديثة السيد: شكيب أرسلان رحمه الله .. وكان الهدف من تأسيس حزب الشعب هو تأسيس دولة حرة مستقلة عن فرنسا، وكان يحارب الاندماج، واتباعه هم الذين قاموا بتنظيم ثورة 54. حزب البيان والحرية الذى يرأسه السيد: عباس فرحات الذى كان فيما بعد رئيسا للجمهورية الجزائرية المؤقتة وكان عامة أعضائه لهم ثقافة أجنبية عالية، وبعضهم مثقفون بالثقافة القومية. بدأ السيد: عباس فرحات حياته السياسية بنشر مقالات عن حالة الجزائر التعساء في جريدة (ترى دونيون) أي صلة الوصل، وذلك في سنة 1924م يندد بسياسة الاستعمار الغاشمة، ويطالب بإصلاحات عامة تدخل على الوضع الجزائري منها احترام الاسلام، فمن العبث محاربته لأنه قادر على الصمود في وجه كل تخريب وتهديم، وفي وجه كل عدو وباغ، كما يقول السيد عباس فرحات، ويواصل كلامه ويقول: إن سياسة المساواة في الحقوق هي التي وحدها الكفيلة بضمان مستقبل مشترك، ان التمسك بفكرة الغالب والمغلوب يقتضي حتما الى الويلات والنكبات. هذان الحزبان الوطنيان أي حزب الشعب وحزب البيان متفقان في الغاية والأهداف، ومختلفان في الوسائل والأساليب، فسار كل حزب في اتجاهه على حسب الخطة التي رسمها لنفسه، والطريق الذى اختار سلوكه حتى يصل الى غايته المنشودة ألا وهو الاستقلال عن فرنسا، وكل حزب كان يبث دعاته في كل ناحية من نواحي الوطن لينشروا المبادئ الوطنية والوعى بين المواطنين، وأنشأ كل حزب جرائد كانت تصدر باللسان العربي والفرنسي، فكانت تطلع على الشعب بأفكار جديدة وآراء قيمة، وكانت توزع نشرات في الفينة بعد الفينة تحث المواطنين على مواصلة السير جنبا الى جنب ويدا في اليد ... وكان كل حزب يعقد اجتماعات جهوية ومؤتمرات عامة وندوات صحفية في الداخل والخارج تطالب بحقوق الشعب وتندد

بأعمال الاستعمار نحو المواطنين الأحرار، وأكثر ما كانت تقع مشادة عنيفة بينه وبين المناضلين ومصادمة دامية تسفر عن جرحى ونفى وامتلاء السجون والقتل والتعذيب ومصادرة الأموال حتى أصبحت هذه الاحوال عادية. وبجانب هذين الحزبين تأسست حركة دينية إصلاحية وإذا قلنا حركة دينية فهي عبارة عن الروح الوطنية الخالصة والقومية الصميمة، لأن الدين لا يفرق بين الأخلاق والاقتصاد، ولا في السياسة والاجتماع، فهذه الأشياء كلها جزء لا يتجزأ منه. هذه الحركة هي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أنشئت سنة 1931م تحت رئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس تغمده الله برحمته، فكانت على رأس هذه الهيئة نخبة من العلماء العاملين منهم الشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ العربي التبسي الشهيد، والشيخ مبارك الميلي، والشيخ الطيب العقبي، وخير الدين، وتوفيق المدني وغيرهم كثيرون. فمبادئ هذه الهيئة هي مبادئ الاسلام نفسه، وكانت تعمل على تنقيته من الخرفات والبدع التي طرأت عليه لتربط ماضي الأمة الاسلامية بحاضرها لأن المسلمين الحاليين ركنوا الى الجمود والغفلة وعدم الاهتمام بالدين الذى هو مطية الى الدار الاخرى، والمتدينون منهم من توغل في الزهد، واستسلموا للواقع، وتشبثوا بالبدع والعادات السيئة التي حجبت حقائق الاسلام. أخذت هذه الهيئة على عاتقها أن تحارب الأفكار الدخيلة والعوائد الفاسدة، والانحراف الشنيع، وتنشر الدين الصحيح الخالص من جميع الشوائب لتعود روحه الطاهرة الى النفوس فتصلحها مما طرأ عليها من مخلفات العصور المظلمة، وترجع الى اللغة العربية مكانتها في هذا الوطن بعد ما كادت أن تضمحل منه، وصارت أجنبية وغريبة عنه، فبدأت هذه الهيئة تنشر العلم وتحارب الجهل الذى خيم على هذه الأمة، وتحيي تاريخ المسلمين وتراثهم المجيد ليطلع الأحفاد على ما كان لهم من ماض مجيد، وأدب قيم نفيس وحضارة مزدهرة ...

أعضاء هذه الجمعية كلهم، لهم عقيدة راسخة وقدم ثابت في العلوم والمعارف والفنون، وشهرة واسعة في الأخلاق والتربية، وأنهم يمثلون السلف الصالح في عقيدته أحسن تمثيل، تحملوا مسؤولية الدعوة الاسلامية ليبلغوها وينشروها بين الناس كافة، وكانوا شاعرين بما يعترض سبيلهم من العراقيل والصعوبات التي ينصبها لهم الاستعمار، والذين يمتصون دماء الأمة باسم الدين، ولكنهم عازمون على تبليغ رسالتهم مهما كان الثمن ومهما كانت الأحوال والظروف. كان يرأس هذه الجمعية الشيخ عبد الحميد بن باديس قدس الله روحه، فكان نابغة عصره في العلوم والمعارف وداهية في السياسة، وآية في الإخلاص والجرأة والإقدام، له مواقف مشهورة لا زالت ماثلة في الأذهان الى الآن ... أنقل بعض الفقرات التي قالها فيه صديقه وزميله في الكفاح الشيخ البشير الإبراهيمي طيب الله ثراه قال فيه: (باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر، ووضع أسسها على صخرة الحق، ومنشئ مجلة الشهاب مرآة الاصلاح وسيف المصلحين، ومربي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدي المحمدي، وعلى التفكير الصحيح، ومحى دوارس العلم بدروسه الحية، ومفسر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن، وغارس بذور الوطنية الصحيحة، وملقن مباديها علم البيان وفارس المنابر. وحسبة أنه أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغير ودنيا لابستها المحدثات والبدع، ولسانا أكلته الرطانات الأجنبية، وتاريخا غطى عليه النسيان، ومجدا اضاعه ورثة السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب)، عيون البصائر. توزع اعضاء هذه الهيئة المحترمة على عواصم القطر وأخذوا يبينون للناس تعاليم الاسلام الصحيحة التي نزل بها الوحى الشريف، وكانوا يفسرون القرآن الكريم تفسيرا سلفيا لو فهمه الأعاجم لدخلوا في الاسلام، فكانوا يستخرجون منه الأحكام والنواهي والوعد والوعيد، ويشرحون أحاديث الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويلقون سيرته المطهرة للناس، وسيرة

خلفائه الراشدين، وصحابته الأبرار وفتوحات الاسلام في الشرق والغرب، وتاريخ المسلمين العام والخاص، ويعلمون اللغة العربية وآدابها وفنونها وكانوا يهيبون بالأمة أن تتمسك بالكتاب والسنة وتترك البدع والخرافات اللتين لم تكونا من الدين في شيء ... اختار الإمام عبد الحميد بن باديس الاقامة في عاصمة النهضة العلمية وهي مدينة قسنطينة وكانت مسقط رأسه للتدريس، وتصدر لتعليم الطلبة في الجامع الأخضر واعتنى - رحمه الله - بتربيتهم عناية كبيرة حتى تأثروا بسيرته السلفية، وكان يتولى بنفسه شؤونهم الخاصة من نفقة وكسوة ومسكن، وكان يعدهم ويهيئهم ليكونوا في المستقبل دعاة للإسلام، وكان يحرر جريدة البصائر التي هي لسان حال جمعية العلماء المسلمين، ويقوم بدروس الوعظ والارشاد للكبار، فكان يبين حكم القرآن السامية ومعانيه القيمة بأسلوب سلفي محكم جذاب، وقد فسر القرآن بهذه الطريقة في ربع قرن من الزمن الا أن هذه الثروة العلمية النفيسة قد ضاعت - لا شك - أنها لو كانت موجودة لأحيت أمة، والسبب في ضياعها هم تلامذته لأنهم لم ينقلوها عنه، وكان يجول في القطر للدعوة وتأسيس المدارس والمساجد وإلقاء المحاضرات والدروس، ويتصل بالشخصيات والجمعيات، وينشر الاصلاح، ويحذر من الغفلة والجمود والبدع والخرافات الى غير ذلك من نشر الدين. حل العلامة الجليل والحافظ الكبير، والنابغة في المنقول والمعقول، والأديب الشهير، والكاتب البارع الذى لانت له اللغة العربية فكانت أداة طيعة في يده فضيلة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي طيب الله ثراه وجعل الجنة متقلبه ومثواه - بعاصمة تلمسان، فأخذ ينشر العلم والمعرفة والاصلاح في هذه المدينة العريقة، فأحيا ما كان دارسا منها ورجع إليها سمعتها التاريخية، وكان يجول - رحمه الله - في دائرتها يؤسس المدارس لتعليم اللغة، وينشئ المساجد لإقامة شعائر الدين ونشره. وأنشأ مدرسة في مدينة تلمسان، وسماها دار الحديث، وكان يعلم فيها كتاب الموطأ للإمام مالك - رحمه الله - وأنشأ مدرسة أخرى للبنات، وسماها مدرسة عائشة رضي الله عنها ومسجدا.

واتخذ الشيخ العربي التبسي مدينة تبسة مقرا لدروسه الاصلاحية، وأنشأ مسجدا ومعهدا لتعليم الطلبة الكبار ومدرسة للأطفال لتعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن، وكان ينشر الاسلام في تلك النواحي الفيحاء وتمركز الداعية الكبير الشيخ الطيب العقبي في عاصمة الوطن، واتخذ نادى الترقي مركزا لدعوته ومحاضرته ودروسه الاصلاحية، وحل المؤرخ الجليل الشيخ مبارك الميلي عاصمة الجنوب - الأغواط - وكان داعية للإسلام في تلك النواحي، وله تآليف جليلة منها تاريخ الجزائر، والشرك ومظاهره، وكذلك بقيت الأعضاء الآخرين، كل واحد منهم اتخذ ناحية ينشر فيها الاصلاح والتعليم، ويحارب البدع والخرافات، وكل عضو من أعضاء هذه الجمعية المحترمة كان يجول في دائرته ويعقد اجتماعات يوجه فيها الأمة الى الدين، فسرعان ما اقبلت على هذه المعاهد السلفية لترتوي من منابعها الصافية وكانت الجمعية تعقد اجتماعات عامة وخاصة سنويا في العاصمة، فالاجتماع العام يحضره جمع غفير من الناس من كل ناحية من نواحي الوطن، يقدم فيه رئيس الجمعية أعمالها التي أنجزتها في بحر السنة الماضية بالتفصيل، ويطلعهم على الأعمال التي تكون في المستقبل فيعاهدون بعضهم بعضا ويجددون العزم على مواصلة السير الى الأمام - ... ومن بعد تحضر الجماهير الغفيرة الى الحفلة العامة التي تقيمها الجمعية ليتكلم فيها الخطباء والشعراء، فكان الحاضرون يسمعون البيان العربي يتدفق من ينبوعه صافيا، فيثير هؤلاء الخطباء حماس الجماهير بفصاحتهم ويتأثرون بكلامهم ونصائحهم، فكان هذا الاجتماع أشبه شيء بسوق عكاظ في الجاهلية. سادت هذه الحركة الدينية القطر كاملا حتى أصبح المدرسون في كل ناحية يفتحون المدارس والنوادي ويؤسسون الجمعيات ويحثون الأمة على التمسك بالدين الحنيف والرجوع الى العمل به لتعيد مجدها وعزها، وكانت مقالات الارشاد والتوجيه الصحيح تنشر على صفحات جرائد الجمعية وتفضح أعمال المستعمر ... صادفت هذه الحركة الاصلاحية ميلا في النفوس،

وهوى من القلوب، وأعجب بها الشعب أيما اعجاب، فأقبل عليها من كل ناحية ولا سيما سكان المدن. وصارت الأمة تتسابق الى انشأ المساجد والمدارس الحرة، وكانت تتعاون على نشر العلم والمعارف، والتضحية في سبيل اصلاح الأمة بكل نفس ونفيس، فأصبحت الأمة تعتني بتربية أبنائها تربية علمية عصرية وطنية فكانت ترسل الكبار منهم الى الخارج ليتعلموا العلوم على اختلاف أنواعها، إما الى فرنسا أو الى تونس، أو الى المغرب الأقصى أو الى الأزهر الشريف بواسطة جمعية العلماء وبإرشادها، وأنشأت معهدا سمته باسم رئيس الجمعية في مدينة قسنطينة، فانتشر الاصلاح الديني واللغة العربية في أنحاء الوطن، فبدأت الحركة العلمية تسود المواطنين، فصارت المدارس تعد بالعشرات والتلاميذ بعشرة الآلاف. رجعت هذه الحركة الدينية الأمل في النفوس والثقة بالمستقبل، والاعتزاز بالشرف القومي. الشعب الجزائري مسلم يستجيب للدين إذا وجد من يوجهه ويحافظ على تقاليده وعوائده، ولا يتفاد الا به، ولا يخضع الا له غير أن الأغلبية منه جاهلية بتعاليمه، ولم يبق لها من الدين الا العاطفة، ولهذا لما دعاه قادة الثورة باسم الدين فلب النداء في الحال وقدم في سبيل الدعوة الى الثورة كل ما يملك من نفس ومال وجهد. أسفرت هذه الدعوة المباركة أي دعوة الاصلاح عن استيقاظ الرأي العام. هذه الهيئة هي التي بعثت الاصلاح والوطنية من جديد في الأمة الجزائرية، وشمل الاصلاح جميع الميادين من سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية. حاربت هذه الجمعية الجهل المتفشي في المجتمع والفساد بجميع أنواعه وألوانه، وآلت على نفسها ألا تترك العمل حتى تنهض الأمة مما تردت فيه، وتتخلص من العوائد السيئة والتقاليد المنافية لتعاليم الدين حتى يعود الاسلام واللغة العربية الى هذا الوطن من جديد ..

كان الاستعمار يحصى على هذه الجمعية أنفاسها، فيلقي القبض على أعضائها، ويزج بالمدرسين في السجن، ويغلق المدارس فكان واقفا لها بالمرصاد لأن هذه الجمعية المحترمة كانت. أشد عليه من الحركات الوطنية الأخرى المجردة عن الدين، والفرق بين هذه الحركة، وحركة الأحزاب الوطنية فحركة الأحزاب الوطنية سياسية محضة، فإذا حصلت البلاد على الاستقلال لا تبالي بعد ذلك على أي شكل يكون حكم البلاد ونظامه شيوعيا كان، أم رأس مال، بخلاف الحركة الدينية فزيادة على استقلال البلاد تريد أن تكون شخصيتها بارزة في الحكم، وأن يكون مستمدا من روح الاسلام ومن القومية العربية ... ومن العوامل التي ساعدت على تأييد الثورة في الجزائر وتشجيع الشعب على خوضها ميثاق جمعية الأمم التي أصدرته بعد الحرب العالمية الثانية، ينص هذا الميثاق على منح الشعوب المستعمرة حق تقرير مصيرها بنفسها، هذا الميثاق تحررت به شعوب آسيا وافريقيا تقريبا، وكاد ظل الاستعمار الثقيل يتقلص من هاتين القارتين، ولن يعود إليهما أبدا، ولم يبق بين الدول الكبرى المتقدمة صناعيا، والشعوب المتأخرة المغلوبة على أمرها الا المعاملات الحرة التي أساسها المحبة والمودة ... وكذلك من العوامل التي ساعدت على إبراز الثورة الجزائرية كفاح العالم الإسلامي المتواصل في الشرق والغرب، بعثت هذه الحركة التحريرية حماسا فياضا في الشعب الجزائري، فمنذ بداية القرن الحالي والعالم الإسلامي يكافح ويناضل حتى استقلت شعوبه وتحررت من سيطرة الاستعمار بما في ذلك طرابلس الغرب من بعد الحرب العالمية الثانية، ثم جاء دور المغرب العربي الكبير، فأخذت شعوبه تستعد وتتهيأ لخوض المعركة الفاصلة معركة التحرير الكبرى، ولما لم يستجب الاستعمار لمطالبه الطبيعية وحقوقه الشرعية ثأرت تونس في سنة 1951م وتابعها المغرب العربي. وكان أول من أعلن العصيان في وجه الاستعمار جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله، فكان يعارض القوانين التي تصدرها السلطة الفرنسية بشدة، وكان يحضر اجتماع الأحزاب الوطنية

التي كانت تطالب بالاستقلال، وكان يوجه الأمة نحو أهدافها الحقيقية، ويؤسس المعاهد العلمية، فانزعجت فرنسا من هذه الأعمال، فألقت عليه القبض، وأبعدته عن بلاده مع عائلته الى جزيرة (مدغشقر) في المحيط الهادي فبقي فيها معتقلا الى أن تم استقلال المغرب العربي على يد شعبه الباسل. كان الشعب الجزائري في هذه الفترة - هاديا الهدوء الذى يسبق العاصفة، وكان متدمرا من هذا الهدوء الذى لا مبرر له في الوقت الذى ثار فيه شقيقاته، وأحزاب هذه الأقطار كانت متضامنة فيما بينها بحيث اذا ثار قطر من الأقطار الثلاثة فبقيت الأقطار الأخرى تثور لأن الوطن واحد والمحتل واحد ... لكن قادة الشعب الجزائري كانوا يعرفون عقلية الاستعمار المتحجرة وتعلقه الشديد بالوطن الجزائري، ومواقفه الصلبة تجاه المواطنين لأنهم اصطلوا بناره منذ فتحوا أعينهم، واختبروا سياسته في حرب الهند الصينية رغم بعدها الشاسع، واصل الحرب فيها بضع سنوات فكيف بالجزائر التي لا تبعد عن فرنسا الا بمقدار ساعتين فقط عن طريق الجو؟ وكانوا على يقين من أنه لا يريد أن يسمع باستقلال الجزائر لأنه يعتبرها أرضا فرنسية والجزائر مصدر القوة والثراء له، وما دام يملكها يستطيع أن يسيطر على البحر الأبيض المتوسط وعلى قارة افريقيا. كان قادة الثورة متيقنين من هذا كله، وزيادة على ذلك من أنه إذا ثار الشعب فإن الاستعمار سيبطش به بطشا كبيرا. ولذا يجب عليه أن يستعد استعدادا كاملا بخلاف القطرين الشقيقين، فإن لهما معه معاهدة حماية وكيانهما باق على كل حال، أما الجزائر فهي مستعمرة هذا هو سبب التريث. والحكومة الفرنسية من جهتها كانت تعرف مسبقا أن الجزائر لن تبقى مكتوفة الأيدي أبدا أمام هذه الثورة التي تجتاح المغرب العربي الكبير، وتعلم أيضا شدة مقاومة الجزائريين وصلابة مواقفهم، ولهذا لما ثارت الجزائر سنة 1954م تساهلت فرنسا مع الشعبين الشقيقين في الاستقلال، وجمعت قوتها ورمت بها الثورة الجزائر العارمة الكبرى.

ومن العوامل التي دفعت الأمة الى اعتناق الثورة هي ضغط الحكومة الفرنسية نفسها على الشعب وتنكيلها به تنكيلا شديدا ظنا منها أنه يرهب القوى ويتراجع عن الثورة. ففي بداية الثورة وقفت الأمة الجزائرية منها موقف الحذر والتريث حتى يتضح أمرها غير أن الحكومة الفرنسية اعتبرت الأمة كلها ثائرة من أول وهلة فكان إذا أحدث الثوار شيئا من أعمال التخريب في ناحية ما من نواحي الوطن تسلط عذابها على جميع سكان الناحية لا فرق بين البريء والمتهم، ولا بين صديقها وعدوها فتنكل بأصدقائها الخلص كما تتكل بأعدائها، ولما رأى المحايدون وأصدقاؤها هذه الحالة أصبحوا ثائرين. وكذلك من الأسباب القوية التي أرغمت الشعب على خوض غمار الثورة، وتأييده لها بكل ما يملك من قوة وجهد المنظمة الإرهابية التي أسسها غلاة المعمرين وأطلقوا عليها اسم اليد الحمراء ... هذه المنظمة أهلكت الحرث والنسل، وخربت الديار، والبلاد وأتلفت الأموال، وأزهقت الأرواح بالمآت، وعاثت في الأرض فسادا كبيرا، فكانت تدك المنازل دكا، وتدهم السكان ليلا، فتروع النساء والصبيان. وتخطف الشخصيات في لباس النوم. فتنفد فيهم حكم الاعدام حالا، وكانت تفعل هذه المناكر الوحشية على مرأى ومسمع من الحكومة، فضج الناس من هذه الأعمال الوحشية، وأصبح الناس يلتحقون بالثورة رجالا ونساء وهذه المنظمة الملعونة تأسست في أول الثورة وبقيت الى نهايتها. ولما تحققت أن الثورة في تصاعد والجيش الفرنسي في حالة عجز عن اخماد الثورة فسلحت السكان الأوربيين وتواطأت مع قادة الجيش الفرنسي على إبادة الشعب فكانت تشحن السيارات بالمتفجرات الشديدة المفعول وتضعها في مراكز العمل، أو في المحلات العامة، فتنفجر هذه المواد، فيسقط الناس بالعشرات موتى وجرحى، والسكان الاوربيون يطلقون النار من الشرفات على المارين في الطريق فيتساقطون ما ترى الا الجثث المنتشرة هنا

وهناك، وتضع القنابل لهدم المنازل ونسف المحلات التجارية وغيرها، وتخريب منشآت الحكومة وإتلاف ما فيها كالمستشفيات والمعامل والمدارس، والمكتبات العامة الى غير ذلك من التخريب العام الشامل. بحيث ما كاد الأوربيون يغادرون البلاد حتى تركوا اقتصادها مخربا ومنهارا تماما. لهذه الأعمال الوحشية وأمثالها شجعت الشعب على خوض الثورة والدفاع عن النفس والأموال والعرض، ولا طريق له الا هذه الطريق فهو مرغم على سلوكها، ولهذا وقف كرجل واحد في وجه الاستعمار طيلة سبع سنوات ونصف، والحرب متواصلة ليل نهار، والمعارك دائرة رحاها في كل ناحية، وكان في زحفه الشديد ينتقل من نصر الى نصر. ومن قوة الى أقوى حتى اعترف الاستعمار له بحق تقرير مصيره في الحرية والاستقلال.

الاستعداد للثورة

الاستعداد للثورة كانت حركات الانتصار للحريات أكثرها اتباعا من الأحزاب الأخرى، وأشدها استعداد للكفاح المسلح ... ففي سنة 1947م قام بعض المناضلين من هذه الحركة يطالبون بسرعة الإعداد للثورة، وقد تمكنوا فعلا من انتزاع قرار من المكتب السياسي لهيئة التنظيم السري الذي يهيئ وينظم الاستعداد للقتال، وفعلا تشكلت منظمة سرية وأطلق عليها أسم (لوص) معناها الشباب الثوري، وعهد بقيادتها الى السيد أحمد بن بله وجماعة أخرى معه كالسيد محمد بن الوزداد، والسيد بوجمعة سويداني، وسرعان ما اندمج الشباب الثوري في هذه المنظمة، وهذه التشكلات العسكرية كانت هي نواة جيش التحرير فيما بعد. أخذت (لوص) تنتشر وتتسع حتى شمل تنظيمها كل أقاليم الجزائر، وكانت دائبة على تدريب أعضائها على السلاح، وقسمت القطر الجزائري الى خمس ولايات كل ولاية تشتمل على 23 دائرة. وكل دائرة تضم عددا من الخلايا. وحرصا على هذا التنظيم السري حدد أعضاء الخلية بثلاثة أفراد لا يعرفون غيرهم، وقد نجح هذا التنظيم السري نجاحا كبيرا فكانت السلطة الفرنسية تجهل وجوده تماما، وفي 1955م اكتشف الفرنسيون التنظيم السرى في مقاطعة وهران فتعرض أعضاؤه لحملة من الإرهاب والتنكيل، وقدم رئيس هذا الجهاز السرى للمحاكمة مع بضعة وعشرين شخصا من أعضائه، وحكم عليهم بمدد متفاوتة بالسجن بتمهه التآمر على سلامة الدولة. وفي خلال اكتشاف هذا النظام السرى كان الخلاف الحزبي قد تعمقت جذوره، وتعرض لهزات عنيفة فقدته السيطرة على هذا التنظيم، وفي سنة 1952م عقد قادة الحزب في الجزائر العاصمة مؤتمرا في غيبة زعيمه الحاج مصالي، واتخذوا عدة قرارات منها تأليف لجنة جديدة لقيادة الحزب. من ذلك الوقت أصبحت هذه

اللجنة تعرف باللجنة المركزية للحزب، لكن سرعان ما كان رد الفعل من طرف زعيم الحزب فأصدر بيانا بحل هذه اللجنة المركزية ... بدأ الشعب يتذمر من حركة الانتصار لأنها اشتغلت بالخلاف الحزبي في وقت لم تسمح لها الظروف بذلك، لأن الوقت يدعو الى الاتحاد والعمل والتكتل نظرا للثورة التي كانت مشتعلة الأوار في القطرين الشقيقين، وليس من المعقول أن تتمادى هذه الحركة نفي نزاعها فتضيع الفرص المواتية من بين أيدى الشعب، وتذهب المصلحة الوطنية. مل الشباب المتحمس هذه السياسة وسئم الانتظار وأمقت هذا الانشقاق الذي وقع في صفوف المناضلين وأصبح ينظر باستخفاف وسخرية الى مشاحنات السياسيين، وعلى هذا الاعتبار قرر الشباب المتحمس أن يستقل بالعمل عن الفريقين معا فأنشأ لجنة وأطلق عليها أسم (كريا) معناها جمعية الكفاح الوطني الثوري، ولم تلبث يسيرا حتى اندمجت مع بقية منظمة (لوص (وأصبح الجميع يعرف باسم (كريا) وهذه اللجنة كانت مؤلفة من تسعة أشخاص، ثلاثة منهم كانوا يقيمون في القاهرة وهم محمد خيذر، وآيت أحمد، وانضم إليهما أحمد بن بله بعد ما تمكن من الفرار من السجن وذلك في سنة 1952 م، أما الستة الآخرون هم: رابح بطاط، كريم بلقاسم، محمد العربي بن المهيدي، محمد بوضياف، مراد ديدوش، مصطفى بن بو العيد، وكانت الملاقاة بينهم دائما في جنيف. وفي أبريل سنة 1953م عقد قادة (كريا) اجتماعا سرا بمدينة الجزائر اتفقوا فيه على الاحتفاظ بمركز القيادة العامة لأحمد بن بله على أن يقوم به في القاهرة بالإدارة السياسية والتنظيم الخارجي للثورة وانتهى الاجتماع بإصدار منشور وزع على المناضلين، واستمرت (كريا) في تغذية الجماهير بالمنشورات في الوقت الذى كان يدور فيه التنظيم الثوري على قدم وساق حتى اذا ما أقبل عام 1954م كانت الجمعية الثورية للكفاح الوطني قد امتدت منظماتها الى أكثر مناطق الجزائر ... وفي شهر يوليو 1954م اجتمع اثنان وعشرون شابا هم قادة العناصر الثورية لمنطقة العاصمة وقسنطينة ووهران وأصدروا

نداء الى الشباب الوطني يدعونه الى وقف النزاع الحزبي ونبذ الخلاف والفرقة والتجمع على صعيد الكفاح المسلح ضد الاستعمار ... وفي منطقة القبائل اجتمع ثلاثة وعشرون شابا وهم قادة التنظيم الثوري في بلاد القبائل، وقرروا تلبية الدعوة الى بدء الكفاح المسلح، وذهبوا بدورهم يهيئون القوة الوطنية للقتال. وفي 20 يوليو خرج أول فريق للثوار الى جبال أوراس حيث اتخذوا من قرية (ونز) مقرا لقيادتهم، ومنها بدأوا ينتقلون ما بين المدن والقرى الجبلية لجمع المتطوعين وتدريبهم على القتال وكانت قيادة هذه المنطقة تنتقل ما بين العاصمة وقسنطينة والقبائل ووهران، وبعد هذه الجولة التي استمرت ثلاثة أشهر كانت عوامل الثورة قد نضجت ولم يبق الا توجيه الضربة الألى.

تخطيط للثورة وتنسيقها في الداخل والخارج

تخطيط للثورة وتنسيقها في الداخل والخارج في شهر يونيو سنة 1954م اجتمع ستة من الجزائريين الثوريين المناضلين وهم السادة: مصطفى بن بو العيد، ومحمد بن العربي بن المهيدي، وبطاط رابح وبوضياف محمد، وديدوش مراد، وكريم بلقاسم، وكانوا متصلين بالثلاثة الآخرين الذين هم في القاهرة. نظر هؤلاء الثوار فيما يدور حول الوطن من المعارك الشديدة التي تجري في القطرين الشقيقين فقرروا الاعلان عن الثورة خوفا من إضاعة الفرص، واطلاع الاستعمار على خطتهم السرية، فرسموا للثورة تخطيطا محكما، وتنسيقا في الداخل والخارج، واتخذوا المركز الرسمي للثورة في القاهرة، وعلى الحدود الجزائرية من جهة تونس ومراكش مراكز للذخيرة والمؤن، ومستشفيات لمعالجة المرضى والجرحى ومأوى للفارين من الحديد والنار، وملاجئ للمشردين والتائهين وتدريبا للجنود، ومن بعد ما يتم تدريبهم يدخلون الى الوطن ليبيا شروا العمليات الحربية، وكان قادة الثورة الذين يشرفون على تسيير العمليات العسكرية التي تدور رحاها في الوطن من هذه المراكز. انقسم هؤلاء الثوار الى طائفتين: طائفة ذهبت الى الخارج تبث الدعاية وتهيئ الجو العالمي وخاصة المسلمين الذين تربطهم بهم رابطة قوية، لأن العالم الإسلامي باعتبار الروابط الدينية واللغوية والتاريخية ووحدة المصير المشترك أمة واحدة، ولهذا لما احتل القطر الجزائري سنة 1830م من طرف الاستعمار الفرنسي أصبحت الأقطار الأخرى كلها مهددة بالاحتلال، ومن بعد سقطت واحدة تلو الأخرى في قبضته، وكذلك لما اندلعت الثورة في الشرق العربي الإسلامي امتد لهيبها المقدس الى شمال افريقيا فتحرر كما تحرر الشرق.

اتصل الثوار الذين ذهبوا الى الخارج بالحكومات العربية وبرؤسائها وبأجهزة الاعلام، وعقدوا صفقات تجارية مع المنظمات الغربية لشراء السلاح والمعدات الحربية. وما كادت الثورة تتغلغل وتعمق في الوطن حتى كانت إذاعات الدول العربية تشيد بأعمال المناضلين ليطلع العالم أجمع على ما يقع في هذه البلاد، وفي مقدمة هذه الاذاعات إذاعة صوت العرب من القاهرة التي لها الفضل الأكبر في إثارة الجماهير الجزائرية وتحمسها للثورة، والمذيع المشهور السيد: أحمد سعيد رمضان لم يدخر وسعا، ولم يألو جهدا في التعريف بالقضية الجزائرية والتنديد بالاستعمار، فإنه رافق كفاح الجزائريين من أوله إلى آخره، كان يذيع باللغتين العربية والفرنسية، هذه الاذاعات لها فضل كبير في توحيد الصفوف وإيقاظ الرأي العام ولفت أنظاره الى القضية. وكان القادة يعقدون ندوات صحفية في عواصم العالم الكبرى، فتنقلها هذه الاذاعات في حينها، وسفراء الدول الاسلامية كانت ألسنة حدادا في الدفاع عن الجزائر في جميع المحافل الدولية، وشعوب الشرق العربي كانت تنظم أسبوعا كاملا في كل سنة لجمع التبرعات الشعبية، بل خصصت مقدارا كبيرا من ميزانيتها العامة تدفعها للجزائريين في كل سنة، وكانت هذه الحكومات تأوي اللاجئين وتمد الثورة بالعتاد والذخيرة الحربية، في كل وقت وتداوي الجرحى في مستشفياتها وتمنح الرخص لمسيري الثورة ليتجولوا في البلاد لبث الدعاية في أقطار العالم، وتبنت شعوب آسيا وافريقيا قضية الجزائر في جميع مراحلها وأطوارها، وتولت الدفاع عنها لدى جمعية الأمم فكانت تشرحها للوفود شرحا مفصلا، وترد على أقوال العدو، وتفند آراءه وحججه وتسعى في جلب أصوات الوفود الأخرى للقضية عند الاقتراع. انقسمت الهيئة الأممية في قضية الجزائر على قسمين فالدول الشرقية والاشتراكية كانت تؤيد القضية الجزائرية وتناصرها، أما الدول الغربية فإنها وقفت بجانب الاستعمار الفرنسي تشد أزره وتؤيده في عدوانه وظلمه، وكانت تعارض بشدة عرض القضية الجزائرية على جمعية الأمم، ولكن رغم هذه المعارضة عرضت أكثر من خمس مرات على هذه الهيئة ... ولما اقتنعت الهيئة الأممية بعدالة هذه القضية وتحققت من أن فرنسا لم تكن جادة في حلها بدأت تتذمر منها وكانت توصي في كل مرة تتقدم فيها القضية بأن تحل حلا سلميا على مقتضى قرار هيئة الأمم. وكانت وفود آسيا وافريقيا في هذه الجمعية لا تريد مناقشة القضية الجزائرية على هذا المنبر العالمي الا تفهيم الرأي العام في هذه القضية العادلة. وأما انها متيقنة بأن الصلح لا يكون الا مع فرنسا وحدها. وبمجرد الاعلان عن الثورة في الجزائر كان لها صدى كبير، وإعانة فعالة من طرف العالم الإسلامي، بل اعتبرها ثورته. وبفضل هذه الدعاية الحكيمة والخطة الرشيدة توصل قادة الثورة الى أهدافهم التي رسموها من أول مرة، فأصبحت ثورة الجزائر حديث المجالس العالمية سواء منها الخاصة أو العامة وبفضل الدعاية المحكمة جلبت عطف الشعوب، وأصبحت تنظر الى الجزائريين بعين الاكبار والاعجاب، وكسبت أصدقاء في الخارج، فكانوا يمدونها بما تحتاج إليه من إعانة أدبية ومادية، واحتلت الصدارة في صحف العالم، وألفت فيها عدة أسفار تنويها ببطولة الشعب وإعجابا بعبقريته الفذة، قام القادة بهذه الاعمال كلها، وبالفعل جعلوا قضية الجزائر قضية عالمية لا محلية كما تدعي فرنسا. أما الطائفة الثانية فإنها توزعت على القطر الجزائري لتقود المنظمات السرية التي كانت تحت اشرافها، والاتصال بالشخصيات البارزة من الشعب لتلقين النظام الذى تسير عليها الثورة ... سار هذا النظام منذ بدء الثورة على عاملين أساسيين: العامل الأول هو إيجاد القوى التي بها تستطيع الثورة أن تقف في وجه العدو، بحيث تحمي نفسها منه وتدافع عن وجودها، ولهذا ما كاد الشباب يسمع بإعلانها حتى نفر الى مراكز التجنيد الموجودة

القضية الجزائرية على جمعية الأمم، ولكن رغم هذه المعارضة عرضت أكثر من خمس مرات على هذه الهيئة ... ولما اقتنعت الهيئة الأممية بعدالة هذه القضية وتحققت من أن فرنسا لم تكن جادة في حلها بدأت تتذمر منها وكانت توصي في كل مرة تتقدم فيها القضية بأن تحل حلا سلميا على مقتضى قرار هيئة الأمم. وكانت وفود آسيا وافريقيا في هذه الجمعية لا تريد مناقشة القضية الجزائرية على هذا المنبر العالمي الا تفهيم الرأي العام في هذه القضية العادلة. وأما انها متيقنة بأن الصلح لا يكون الا مع فرنسا وحدها. وبمجرد الاعلان عن الثورة في الجزائر كان لها صدى كبير، وإعانة فعالة من طرف العالم الإسلامي، بل اعتبرها ثورته. وبفضل هذه الدعاية الحكيمة والخطة الرشيدة توصل قادة الثورة الى أهدافهم التي رسموها من أول مرة، فأصبحت ثورة الجزائر حديث المجالس العالمية سواء منها الخاصة أو العامة وبفضل الدعاية المحكمة جلبت عطف الشعوب، وأصبحت تنظر الى الجزائريين بعين الاكبار والاعجاب، وكسبت أصدقاء في الخارج، فكانوا يمدونها بما تحتاج إليه من إعانة أدبية ومادية، واحتلت الصدارة في صحف العالم، وألفت فيها عدة أسفار تنويها ببطولة الشعب وإعجابا بعبقريته الفذة، قام القادة بهذه الاعمال كلها، وبالفعل جعلوا قضية الجزائر قضية عالمية لا محلية كما تدعي فرنسا. أما الطائفة الثانية فإنها توزعت على القطر الجزائري لتقود المنظمات السرية التي كانت تحت اشرافها، والاتصال بالشخصيات البارزة من الشعب لتلقين النظام الذى تسير عليها الثورة ... سار هذا النظام منذ بدء الثورة على عاملين أساسيين: العامل الأول هو إيجاد القوى التي بها تستطيع الثورة أن تقف في وجه العدو، بحيث تحمي نفسها منه وتدافع عن وجودها، ولهذا ما كاد الشباب يسمع بإعلانها حتى نفر الى مراكز التجنيد الموجودة

في قمم الجبال، وهذا بفضل الدعاية المحكمة والأعمال المنسقة، فكانت الأمة الجزائرية تتسابق الى الثورة رجالا ونساء بحيث لو كان لدى القادة السلاح الكافي لانخرط الشعب كله في سلك المجاهدين ولكنهم كانوا يقبلون من الشباب قدر ما يحتاجون إليه، والذى يليق منهم بالخدمة العسكرية، وكان المشرفون على التجنيد يشترطون فيمن يريد أن يلتحق بجيش التحرير أن يبرهن على حسن نيته بحادثة ما من الحوادث الفدائية تعين له ليكون مقبولا، والباقي من الشباب يرجئونه الى مناسبة أخرى، أو يستغلونه داخل المدن والقرى يعمل ما من أعمال الثورة، وكانوا يرغبون في الشباب المثقف الذين لهم علم أو صناعة أو مهنة، وجلب القادة الفنيين من الخارج لتدريب الجنود على حرب العصابات والسلاح الذي يأتي من الخارج تدريبا عصريا حتى أصبح الجند من جيش التحرير كامل الأدوات والمعدات الحربية لا ينقصه شيء عن الجند العصري في الأمم الراقية ... ولما يتم تدريبهم يرسلونهم الى داخل الوطن أو جهات معينة منه أفواجا وكتائب متتابعة ليصطدموا بالجيش الفرنسي في معارك واشتباكات عنيفة تستمر أياما وليالي، وعندما يتم تسليح الجند الجزائري تظهر بطولة أبناء الأطلس التي هي سليقة فيهم، وإذا بلغ الاتحاد مكانة من الأمة، الجزائرية والاحساس من مشاعر أفرادها رأيت في الدهماء منها والخاصة همما تعلو وشيما تسمو، وإقداما يقود، وعزما يسوق فيصبح الكل يطلب السيادة والغلب، فتتلاقى هممهم وتتلاحق عزائمهم في سبيل المجد، فيزيلون كل من يقف في طريقهم من الصعاب، فكان جيش التحرير ينزل ضرباته القاصمة بالعدو فيتمكن الرعب من جنوده وفيالقه فيلوذون بالفرار ويولون الأدبار. والعامل الثاني هي الدعاية التي اتخذها الثوار لإثارة الشعب، وبفضلها ثارت الأمة الجزائرية، وكانت تقبل على التضحيات على اختلاف أنواعها، وهي التي وحدت صفوف الشعب، وكان الدعاة يتقنون أساليبها اتقانا عجيبا ويحذقون فنونها تمام الحذق، واعتمدوا فيها على الدين، فكانوا يقولون للأمة الدين قد أوجب عليكم جهاد الكفار بأموالكم وأنفسكم، ويلزمون

الجند بإقامة شعائره من صلاة وصيام وإقامة الحدود الشرعية على السكارى والزناة والمعتدين على الحرمات التي حرمها الاسلام ويطبقون أحكامه على الأمة ويعلمونه للأبناء، والأمة الجزائرية - كما قلنا - متأثرة بالدين، فلما رأت الثورة سائرة على منهج ديني اندفعت في أحضانها بقضها وقضيضها، وكثيرا ما كان الناس يطلبون الاستشهاد في سبيل الله. والناحية التي لا يزال سكانها لم يثوروا بعد على الاستعمار فإذا قصدها الثوار فتثور في الحال وتصير مسرحا للحوادث الدامية، فيعمدون الى قتل معمر أو خائن أو نسف شيء من منشآت المحكومة، فتعاقب هذه السكان من دون تفريق أو تمييز، ولما رأى سكان هذه الناحية العقاب الجماعي فيلتحقون بصفوف الثوار، وكانت هذه خطة الحكومة في كل ناحية تقع فيها الحوادث. جند قادة الثورة كل من كان له مقدرة من الرجال والنساء حتى الصبيان على العمل، وكذلك جنود المسلمين الذين هم كانوا في صفوف الجيش الفرنسي، وكان كل واحد من هؤلاء المجندين يندس بين الناس، وينقل الى الثورة كلما يهمها من الأعمال والأقوال ويدعون الى مؤازرتها ... أصبحت الثورة بفضل هذه الخطة المحكمة حديث البيوت والمجالس الشعبية، وكانت هي الشغل الشاغل للأمة فكان كل فرد مهتما بها، والأخبار عن حوادث الفدائيين كانت كالسيل الجاري لا تنقطع أبدا، والناقلون لها يتفلسفون فيها فلسفة عجيبة بحيث يحبطونها بهالة من التقديس والمجد حتى يتمنى كل فرد أن يشارك فيها ليكون بطلا وزعيما ... بهذه الدعاية المحكمة تشجعت الأمة وارتمت في أحضان الثورة، وسرعان ما تناست كلما كان لها من مصالح فردية ونزعات شيطانية، وصارت تتنافس في أعمال الثورة، فخرجت المرأة من خدرها الى ميادين القتال، وأصبحت تزاحم الرجل في العمل، وصاحب المال أخرج ماله ليكون وقودا للثورة، فصار كل فرد من أفراد الأمة مسؤولا عنها وفي أوت سنة 1956م انعقد مؤتمر للثورة في وادي ابن سلام أي (واد الصومام) تأسس فيه مجلس وطني وانبثقت عنه لجنتان لجنة للتنسيق، وأخرى للتنفيذ ... فلجنة التنسيق كانت تنسق البرامج لكل عمل من أعمال الثورة

فقسمت القطر الى ولايات، وأسندت كل ولاية الى ضابط عسكري يدير شؤونها مع مستشارين، فيتسلم هذا الضابط من هذه اللجنة السلطة العسكرية والمدنية ويصبح مسؤولا عما يقع في منطقته لأنه هو القائد العام لها فيدير العمليات العسكرية على اختلاف أنواعها، وينظم الخلايا السرية، ويشرف على أعمال الفدائيين، ويبث العيون والجواسيس في صفوف العدو ومراقبة حركاته وتنقلات جنده مراقبة تامة، ونقل أخباره الى القيادة العامة، والوقوف بالمرصاد للخونة والجواسيس ويحكم المدنيين، ويرعى مصالحهم وشؤونهم العامة، فيحافظ على أمنهم وسلامتهم والدفاع عنهم وتقييد المواليد والوفيات، وأخذ الاشتراكات والتبرعات والزكوات وجمع المؤن من سلاح وكسوة وحبوب وغيرها، والنظر في الخصومات التي تقع عادة بين الناس بواسطة لجنة تعين أفرادها الهيئة العليا للمنطقة، فكان القضاة ينصبون مجالسهم للحكم في القضايا والنوازل ليلا، وذلك بمحضر الخصوم والشهود، والحكم الصادر ينفذ في الحال، كل هذه الأمور وغيرها يكون رئيس الولاية هو الآمر بها، وعلى علم من تنفيذها، وعلى اتصال تام مع لجنة التنسيق فيما يجرى في منطقته من الحوادث. أما البنود التي اشتمل عليها هذا المؤتمر فيما يخص توقيف القتال والتفاوض مع فرنسا فإنه سيأتي فيما بعد.

تكوين جبهة التحرير

تكوين جبهة التحرير في اليوم العاشر من تشرين الأول سنة 1954م اجتمع قواد التنظيم الثوري بمدينة الجزائر في أحد بيوت المواطنين لبحث الخطوة اللازمة اتخاذها بعد أن تهيأ الاستعداد الثوري المسلح المنظم للعمل ... قرر المجتمعون أن يأخذوا على عاتقهم المسؤولية التاريخية بإعلان بدء الشعب الجزائري كفاحه الوطني المسلح هذا الكفاح الذى تبلور خلال المعارك في الثورة المظفرة الحاضرة وكانت مجهودات التنظيم الثوري قد أصفرت عن ثلاثة آلاف ثائر وطني من مختلف مناطق البلاد، وعلى رأسهم ستة من الشباب الثوري، هم الذين التأم عقدهم في هذا الاجتماع، ولما اطمأنوا الى ما تحت أيديهم من تنظيم ثوري مسلح قرروا بدء المعركة، وحددوا ميقاتا لها بحيث يعلن عنها في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل أول نوفمبر 1954م وفي هذا الاجتماع التاريخي اختفى اسم) كوريا) وبرز اسم جبهه التحير الوطني التي توحدت فيها جميع العناصر الثورية وجميع طبقات الشعب. وما كادت الثورة تبدأ أعمالها حتى ذابت فيها جميع الأحزاب والهيآت، ولم يبق الا الزعيم الحاج مصالي والفريق الذي ثبت معه، وقد خسر كثيرا من اتباعه لأنهم انضموا الى الثورة وذهبت سمعته ولم يعدله نفوذ ... رسمت جبهة التحرير ميثاقا وطنيا وأهدافا للثورة وهذا الميثاق هو دستور الكفاح الشعبي الوطني، فصدر نداء جبهة التحرير الأول الى جماهير الشعب الجزائري يوم 31 أكتوبر سنة 1954م يعلن أهداف الثورة وميثاقها، ويدعو الشعب الى تأييدها والاندماج فيها، هذه الأهداف: هي التحرير الكامل من الاستعمار، وإقامة حكومة وطنية ديمقراطية جمهورية، كما ألقى هذا المنشور تبعة تأخير القضية الوطنية على التوجيه الخاطئ الذي كان يقوم به قادة الأحزاب السياسيين، وأعلن

هذا الميثاق أن الثورة مكونة من الشباب الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية قيادة الكفاح الشعبي في طريقه الثوري السليم لأنهم يمثلون الأحزاب والهيآت والعناصر الوطنية وانتهى الى مناشدة الشعب وتأييد الجبهة والالتفاف حولها. تولى هؤلاء القادة الستة القيادة العسكرية فتوجه كل واحد منهم الى المنطقة التي حددت له ليقود ثورتها وفق ما يلى: ديدوش مراد قائدا في شمال منطقة قسنطينة، ابن بو العيد قائدا في جبال الأوراس، بطاط رابح في العاصمة، محمد بن المهيدي العربي قائدا في وهران، كريم بلقاسم في منطقة بلاد القبائل ... وعلى إثر اتخاذ هذه القرارات السابقة، كلف هؤلاء القادة محمد بن بوضياف أن يلتحق بالقادة السياسيين الذين هم في القاهرة ليفضي إليهم بنتائج الاجتماع، وليعمل معهم على قيادة الثورة من الخارج وتزويدها بما تحتاج إليه من سلاح ومال مستدين في ذلك الى معونة الشعوب العربية، كما عهد اليهم بتعبئة رأى العالم الدولي لمناصرة الثورة وفضح جرائم الاستعمار ولما نشط القادة العسكريون في خوض المعارك نشط كذلك القادة السياسيون في الخارج في تكوين فروع لجبهة التحرير في القاهرة وعواصم الدول الكبرى ... تم الاعداد والتنظيم بين الجماهير الشعبية في ثلاثة أشهر وقد تم في سرية ونظام دقيقين، فلم تشعر السلطة الفرنسية بتكوين الجبهة إلا بعد صدور أول منشور لها وكان قلم المخابرات السرى الفرنسي يجهل هذه الحركة تماما حتى فوجئت الحكومة بالثورة، وأعلنت عن غفلة من أعين الرقباء، والشعب، وان كان وجودها متوقعا لكنها جاءت على أيدى أناس لا يعرف عنهم الشعب أكثر من أنهم أتباع ومأمورون لا متبوعون، أما كونهم كيف انفصلوا عن حركة الانتصار، وأصبحوا يعملون للثورة المسلحة سرا حتى تهيأت أسبابها ولوازمها فأعلنوها للشعب وللعالم أجمع؟ فهذا لم يكن يخطر على بال أحد سواء من الأمة أو الحكومة الفرنسية. ولأهمية هذا النداء نبته هنا كاملا وهذا نصه ... الجزائر 31 أكتوبر 1954م جبهة التحرير الوطني الى الشعب الجزائري ... الى المكافحين في سبيل القضية الوطنية، اليكم

وحدكم نتوجه بندائنا هذا، فأنتم الذين ستكونون لنا أو علينا ... الى جماهير الشعب بصفة عامة، والمكافحين بصفة خاصة ... الغرض من إصدار هذه المنشورة، هو أن نوضح لكم الأسباب العميقة التي دفعتنا الى الكفاح، وكذلك لكى نشرح لكم برنامجنا. ان كفاحنا مبنى على أساس التحرير الوطني في نطاق الشمال الأفريقي، كما أننا نرغب في أن ننزع عنكم تلك البلبلة التي يعمل على تمتينها الاستعمار وعملاؤه من الاداريين والسياسيين المتعفنين، ونعتبر - قبل كل شيء - أن اقتراب حلقة كفاحنا الماضية قد وصلت اليوم الى حلقتها الأخيرة، ان مراحل كفاحنا الطويل، قد وصل اليوم بالحركة الوطنية الى مرحلتها الأخيرة، تعمل حركتنا الثورية على توفير كل الظروف المواتية لحفز كفاحنا التحريري. ونرى أن يكون الشعب في النطاق الداخلي موحدا تحت شعار الاستقلال والعمل، وفي النطاق الخارجي ستعمل ثورتنا على إيجاد الجو الهادئ الذي يساعد على حصولنا على معونة إخواننا العرب وحل مشاكلنا الثانوية بالطرق الدبلوماسية ان الحوادث الثورية الجارية اليوم في كل من مراكش وتونس لتبين بوضوح كيف يكون الكفاح التحريري لشمال افريقيا؟ وفي هذا بالخصوص نود أن نقول بأننا كنا منذ زمن طويل أصحاب فكرة ووحدة شمال افريقيا، وتوحيد الكفاح والعمل من أجل التحرير والوحدة المنشودة، ولكن لم تتكون هذه الوحدة بكل أسف حتى اليوم، إلا أننا نرى اليوم كلا من تونس ومراكش قد أخذت بعزم طريق الكفاح المشترك من أجل الحرية والوحدة بينما تخلفنا نحن عن المسير، وبقينا نعاني آلام من سبقنا في الطريق الذي كان من واجبنا أن نكون أول من سلكه، فقد كنا في الماضي أصحاب الدعوة لهذا الطريق، وهكذا تنكبت حركاتنا الوطنية بسبب أعوام مضت علينا من الخمول والعمل الروتيني والتوجيه الخاطئ، وافتقاد التأييد الواجب من الرأي العام ... كل هذه الظروف والعوامل جعلت الحركة الوطنية تتكمش يوما بعد يوم وهذا ما جعل الاستعمار يعتقد أنه أحرز من وراء ذلك نصرا كبيرا في حربه ضد القوى التقدمية الجزائرية.

الساعة خطيرة، وتخشى أن يستمر الحال على ما هو عليه فيستعصى من بعده العلاج، ولذا قام نفر من الشباب المكافحين المخلصين، وتحملوا مسؤولية الكفاح على عاتقهم وجمعوا حولهم أغلبية العناصر الوطنية الشريفة من مختلف الأحزاب والهيآت والطبقات مكونين بذلك جبهة وطنية متحدة، وبذلك يتحقق الوقت الذي يمكننا فيه أن نخرج القضية الوطنية من طريقها المغلق الذي أوجدها فيه نفوذ السياسيين المحترفين، وكفاحهم حول أشخاصهم الى طريقها الصحيح في جانب إخواننا المراكشيين والتونسيين في المعركة الثورية الحقيقية. أولا: هدفنا الاستقلال الوطني - إقامة حكومة جزائرية ديمقراطية ذات سيادة في نطاق النظام الإسلامي - احترام جميع الحريات العامة بدون تمييز بين الأجناس والعقائد. نحن نؤكد في هذا الجانب أننا مستقلون عن الجانبين اللذين يتنازعان السيادة الحزبية، وفقا للمبادئ الثورية، لا تكون حركاتنا موجهة ضد أي هدف كان سوى الاستعمار، الذى هو عدونا الوحيد العنيد الأعمى الذي يرفض دائما أن يمنحنا أقل حركة بوسائل الكفاح السلمي، لقد وضعنا المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار شخص. ونحن نعتقد أن كل ما سبق أسباب كافية لكي ندخل التجديد على حركاتنا، فنتقدم إليكم تحت اسم جبهة التحرير الوطني، وذلك لنتجنب كل الأخطاء الممكنة، ونقدم إمكانيات الكفاح الوطني لكل المواطنين الجزائريين من كل الطبقات الاجتماعية ومن كل الأحزاب والحركات الجزائرية الخالصة النقية لنخوض معركة التحرير دون أي اعتبار آخر، ولكى نبين لكم بدقة أهداف كفاحنا نرسم فيما يلى الخطوط الرئيسية لبرنامجنا السياسي. ثانيا: الناحية الداخلية - إجراء عملية تطهير سياسية لإعادة الحركة الوطنية الى طريقها الطبيعي وبذلك نمحي كل ما بقي من الفساد الذى تسبب في تأخيرنا الحالي. 1 - تنظيم وتعبئة النشاط الثوري للشعب الجزائري للقضاء على النظام الاستعماري.

ثالثا: الناحية الخارجية - الخروج بالقضية الجزائرية الى المجال الدولي. أ - أن يكون الشمال الأفريقي موحدا في نظامه الطبيعي وهى العروبة والاسلام. ب - تأكيد محبتنا الفعالة لكل الشعوب التي تساعد حركتنا التحريرية. رابعا: أساليب الكفاح: استمرار الكفاح بكل الوسائل حتى تتحقق أهدافنا وفق مبادينا الثورية في المبادئ الثلاثة السابقة، ولكى نحقق أهدافنا سيكون لجبهة التحرير الوطني عاملان رئيسيان يؤيدهما معا عمل داخل سياسي وحزبي، تقوم بهما في ميدان السياسة والحرب، وعمل خارجي يتلخص في جعل المشكلة الجزائرية حقيقة واضحة أمام دول العالم وشعوبه مع التحصيل على معونة حلفائنا الطبعيين من إخواننا العرب، وهذا العمل شاق يتطلب تعبئة كل القوى والموارد الطبيعية ... سوف يكون الكفاح شاقا وطويلا ولكن النتيجة النهائية مؤكدة ببلوغ أهدافنا، وأخيرا كي نبين رغبتنا في السلام ونتجنب الخسارة في الأرواح وسفك الدماء وإراقتها، نقدم للمناقشة عرضا شريفا الى السلطات الفرنسية، إن كانت هذه السلطات تنطوي على نوايا حسنة بأن تبادر الى الاعتراف لكل الشعوب التي تستعمرها بحق تقرير المصير، ونحن اذا نقدم هذا العرض انما لنسد الطريق على الذين قد يحلو لهم أن يسيئوا تأويل حركتنا من العناصر المتمردة وعرضنا يتلخص في الآتي: أ - فتح مفاوضات مع المخولين لسلطة التحدث باسم الشعب الجزائري على قاعدة الاعتراف بالسيادة الجزائرية. ب - التمهيد لهذه المفاوضات يجب أن نخلق جوا من الثقة وذلك بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، ورفع كل الاجراءات الاستثنائية وفق تلك التي تتخذ ضد القوى الوطنية المكافحة. ج - الاعتراف بالجنسية الجزائرية، وذلك بموجب إعلان رسمي لمحو كل فكرة أو قانون يجعل من الجزائر أرضا فرنسية

رغم الحقائق التاريخية والجغرافية واللغوية والدينية والتقاليد. فإذا اعترفت فرنسا بكل ما تقدم نضمن لها ما يلى: أ - المصالح الاقتصادية للأشخاص والعائلات الفرنسية التي اكتسبت بطرق مشروعة وشريفة ستكون محترمة. ب - الفرنسيون الذين يرغبون في البقاء في الجزائر لهم الحق في الاختيار ما بين البقاء على جنسيتهم الأصلية، وفي هذه الحالة يعتبرون أجانب بالنسبة للقوانين الجارية، وبين الحصول على الجنسية الجزائرية، وفي هذه الحالة يعتبرون مواطنين جزائريين في الحقوق والواجبات ... ج - تحديد العلاقات بين الجزائر وفرنسا بموجب اتفاقية تعقد بين الدولتين على أساس المساواة والاحترام المتبادل. أيها الجزائري: نحن ندعوك أن تفكر في مضمون ميثاقنا السابق وواجبك أن تؤمن به، وتنظم الى صفوفنا لتنقد وطننا ونعيد إليه حريته. ان جبهة التحرير الوطني جبهتك ونصرها نصرك أما نحن فقد صممنا على السير بالكفاح حتى النهاية واثقين من حقيقة مشاعرك المعادية للاستعمار وإننا أقوياء بتأييدك، ونضحي بأغلى ما نملك في سبيل الوطن.

تنيه

تنيه لا أذكر المعارك الحربية التي دارت رحاها طيلة سبع سنوات ونصف في هذا الوطن، من تخوم صحرائه من الجنوب الى البحر في الشمال ومن الحدود المغربية من الغرب الى الحدود التونسية من الشرق. كل هذه البقاع الفسيحة بما فيها من جبال وسهول وصحاري، ومدن وقرى كانت مسرحا للاشتباكات الكثيرة، والمعارك الدامية، والاغتيالات والتخريب والهدم ... ولا أذكر أعمال المعمرين الأوربيين وبطشهم الشديد بالمسلمين، ولا المنظمة الإرهابية التي اقترفت أكبر الجرائم وأشنعها، وتكالبها على الأبرياء العزل من السكان، وأعمالها الوحشية التي تجاوزت كل حد، فكانت تدخل المنازل ليلا، وتخطف الشخصيات، وتخرج منها الكلام بالقوة، ومن بعد تقتلها أو تدفنها حية حتى تموت، ومن بعد صارت تستعمل القتل الجماعي على مرأى ومسمع من الحكومة الفرنسية، ولا أعمال الفرقة الأجنبية، وجنود المظلات الذين كانوا يرفعون الشباب والشيوخ في الشاحنات الى مراكز التعذيب ليستنطقوهم وينكلوا بهم حتى مر الشعب على أشد العذاب وأقساه هولا، ولا الخسائر التي لحقت المسلمين في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وكذلك لا أتعرض للخسائر التي ألحقها الثوار بالمعمرين من الأوربيين الذين كانوا عرضة للشعب في جميع مطالبه وحقوقه الشرعية وخطفهم للغلاة منهم والضباط من الجيش الفرنسي، وذبح الخونة والجواسيس، ومصادرة أموالهم، ولا العزائم التي تسلح بها الشعب، ولا الاستماتة التي أبداها في مقاومة الاستعمار حتى أحرز على النصر، ولا الدعاية التي جهز لها الطرفان المتحاربان كل إمكانيتهما، فكل طرف كان يستعمل أساليب وأنواعا من الدعاية ليجلب الشعب الى جانبه، ولا الأموال التي كانت تنفق على هذه الحروب الاستعمارية، ولا البرامج التي سطرت للقضاء والتغلب على الجانب المعادي فهذا كله لا أتعرض

له، لأن الثورة الجزائرية عمت الوطن كله، وهزت كيان الشعوب المستعمرة للمطالبة بحقها، فأصبحت تقاوم الاستعمار بالسلاح حتى أحرزت على استقلالها. وتفصيل حوادث الثورة ليس في مقدور أي فرد كان أن يقوم به وحده، لأنها اجتاحت البلاد كلها وطالت مدتها. ولهذا لا يستطيع أحد أن يحصي حوادثها الكثيرة. اللهم إلا إذا تألفت لجان من جميع الولايات التي كانت إبان الثورة - عندئذ - يستطيع رجال كل ولاية أن يسجلوا حوادثها على حدة محافظة على التراث النفيس الذي هو شرف الآباء والأجداد، ووفاء للشهداء الأبرار، والمجاهدين الأبطال. فبذلك يكون للجزائريين تاريخ طريف أضافوه الى تاريخ أمتهم التليد قديما وحديثا ... وإنما أذكر الخطوط الرئيسية للثورة والحوادث الهامة، والمراحل التي اجتازتها، وأتبع سيرها من بدايتها الى نهايتها، ولا أدخل في التفاصيل وإنما أشير الى بعضها لأنها متعددة النواحي مترامية الأطراف، لعبت فيها الشجاعة والبطولة دورا هاما، هذا قوي بسلاحه معتمد عليه. والآخر قوي بحقه وبإيمانه وإرادته التي لا تخضع ولا تلين. من الذي كان يظن أن الشعب يقف في وجه أعظم دولة وأضخم جيش مسلحا تسليحا عصريا ينتزع منه استقلاله، ولا أحد كان يعلم أن في الشعب عباقرة. يستطيعون أن يسيروا العالم، ومن كان يتكهن أن الفدائيين يغوصون على الموت غوصا، وهم غض الشباب رطب الإهاب، كل هذا لم يستطع أحد أن يعرف قبل الثورة، وإنما الفضل يرجع إليها هي التي اكتشفت المواهب التي كان منطويا عليها هذا الشعب. نترك تفصيل حوادث الثورة لغيرنا، وإنما قصدنا الوحيد - في هذا الكتاب هو بيان مفعول الدين كيف حوك الجماهير الى الجهاد في سبيل الله، فأصبح هو العامل البارز فيها، فوحد بين صفوف الشعب فصار كل فرد من أفراده لا يدخر جهدا ولا وسعا

في سبيل ما يقدمه الى الثورة، وأمد المجاهدين بقوة معنوية فعالة لا ينضب لها معين في جميع مراحلها وأطوارها واستجاب الشعب له من صميم أعماقه، واستهان بما كان له من نفس ومال في سبيل الله، وفضل الموت على الحياة، ولولا الدين لما حالف النجاح الثورة أبدا، ولم تستطيع أي قوة في العالم أن تزحزح الاستعمار من هذا الوطن. الدين هو القوة الفعالة في هذا الوطن، فكل من استمسك به فقد فاز ونجا، وكل من ابتعد عنه فقد ارتكس وهلك، ولهذا اعتمد عليه قادة الثورة في دفع الشعب الى الجهاد والتفاني والإخلاص في سبيله، وكان العدة والزاد، والحصن الحصين الذي يلجأ إليه المجاهدون في كل زمان ومكان. لولا النهضة الأخيرة للشعوب الاسلامية لانسلخت عن الاسلام ومنها برهنت على أنها لا زالت متأثرة به. وهنا يبدو بوضوح وجلاء أن أشد الأديان مراسا في إباء الاستعباد هو الاسلام الحنيف.

بداية الثورة في الجزائر

بداية الثورة في الجزائر في منتصف الليل من أول نوفمبر سنة 1954م - دوت أرض الجزائر بالطلقات النارية، وتوال هجوم الثوار على معسكر الاستعمار الفرنسي ومنشآته العمرانية طول الليل في مختلف الجهات من أرض الوطن، وكانت جبال أوراس ميدانا لأعنف الهجومات، وأول طلقه كانت من مدينة أريس، ووقعت كذلك حوادث في المدن الأخرى من القطر ... أصبحت إذاعة العالم وصحفه تنقل أخبار الثورة وتذيعها عليه، فدهش الناس من هذه الأخبار، وكانوا إما بين مصدق لها ومكذب، وكانوا يسألون بعضهم بعضا ويعقدون اجتماعات، ويناقشون الأخبار فيها، ويعرضون تعاليق الصحف ويسمعون الى كلام المسافرين لعلهم يعثرون على خبر صحيح يشفى غليلهم ويطفئ أوراهم، وتراهم يتهامسون في الطرق والمقاهي والمحلات العامة، والسرور باد على محياهم، والقلوب تكاد تطفر من بين الضلوع من شدة الأنباء السارة، والأعين تدور يمينا وشمالا، ودموع الفرح تترقرق في الآفاق. ولما انتشرت الثورة في الوطن، وأصبحت حقيقة تنفس الناس الصعداء بعد ما كان في النفوس حسرة ومرارة، وفي الحلق غصة وفي الصدور ثورة مشبوبة من الحالة التي ارتكس فيها الشعب الجزائري. وفي صبيحة هذا اليوم صدر بلاغ رسمي من السلطات الفرنسية هذا نصه: (حدث أثناء الليل في عدة مناطق مختلفة من أرض الجزائر على الأخص شرق قسنطينة بمنطقة أوراس عدة عمليات حربية مختلفة بلغ عددها ثلاثين عملية، قامت بها فرق صغيرة من الإرهابيين أسفرت عن قتل ضابط وجنديين في مدينة خنشلا، وباتنة، وجنديين من حراس الليل بمنطقة القبائل، وكذلك أطلق الرصاص على مراكز الدرك، وألقيت بعض قنابل الحارقة المصنوعة صنعا محليا، ولكنها لم تسبب في أضرار سوى

في مخازن شركة الحبوب ببلدية بوفريك، وشركة (سلتاف) للحديد والفلين، والحاكم العام يؤكد أنه قد اتخذ فور هذه الحوادث الإجراءات اللازمة السريعة لمواجهة هذه الحالة، والتي هي بين أيدى القائد العام حيث يجرى تنفيذها، كما استدعينا بعض القوات الاحتياطية لتدعيم قواتنا بمناطق الحوادث. ان الشعب الذى يثق فيما يتخذه الحاكم العام من إجراءات لتهدئة الحال وضمان الأمن للقضاء على الأقلية المجرمة، قد سيطر عليه الهدوء، وضبط الأعصاب في جميع أوساطه - امضاء (روجي ليونار) الحاكم العام. في الجزائر أول نوفمبر سنة 1954 م. هكذا سجلت السلطة الفرنسية ثورة الشعب الجزائري.

أعمال جبهة التحرير

أعمال جبهة التحرير اتخذت جبهة التحرير لجيشها جبال الجزائر محطة رحالهم، ومراكزها الرسمية لحصانتها ومناعتها ووفرة السكان فيها، فمنها كان جيش التحرير يوالى هجوماته على العدو، ويواصل كفاحه ضد المحتل، وهو في مأمن ومنجاة منه ويستعين بالسكان على أعماله الشاقة واختلط بهم اختلاطا تاما. قررت جبهة التحرير تعبئة جميع موارد الشعب سواء كانت مالا أو إنسانا، أو غير ذلك من الأشياء الأخرى التي تحتاج اليها الثورة، لأن الثورة من الشعب والى الشعب، فيجب أن تستمد قوتها منه. وقفت الأمة الجزائرية من الثورة في أول الأمر موقف حذر وتربص حتى تبين أمرها وبعدما اتضح شأنها، اندفعت في تيارها، وارتمت في أحضانها بغضها وغضيضها وأصبحت تبذل كلما كان في وسعها من قوة وجهد، وكل فرد كان يقدم لها الاعانة اللازمة التي يستطيع عليها عن طيب قلب وهو راض بالمسؤولية التي تناط بعهدته، وأنه على علم بما ينجم عنها من أخطار، ولربما ذهبت بحياته، ولكن في سبيل الوطن تهون كل تضحية حتى دهش قادة الثورة من هذه الأعمال المشجعة والتضحيات الجسيمة، فوجدوا كل إعانة وتأييد من طرف الشعب الذى كان يرى لهؤلاء القادة فضلا كبيرا عليه لأنهم فتحوا له طريق الحياة الحرة، ونفسوا عن كبته الذى لازمه دهرا طويلا، ومحوا عنه ذل العار والمذلة التي لحقته من طرف الاستعمار ... كان سلاح الثوار في أول الأمر سلاحا تافها فأغلبيته من بناديق الصيد وبعض المسدسات، وشيء قليل من الرشاشات، وبعض المتفجرات من الصنع المحلى، والباقي من الجنود ليس لهم سلاح، وإنما كانوا يحملون الأدوات المنزلية كالفؤوس والشاغور، والخناجر والعصي يلوحون بها في الهواء والخرطوش كان لديهم قليلا جدا غير أن هذا لم يكفهم عن القتال ...

كان الفدائيون من جهتهم ينسفون منشآت الحكومة، ويتلفون انتاج المعمرين، وجيش التحرير كان يتعرض للجند الفرنسي في كمائن فيباغتونه بضربات هائلة فيتملكه الرعب فيلوذ بالفرار، والبعض منهم يسقط موتى فيغنم المجاهدون غنائم كثيرة من السلاح والذخيرة، ويجردون الموتى من السلاح وكذلك الأسرى، وكانت لهم مهارة فائقة في ابتكار الأساليب الحربية، واستخراج السلاح من ثكنات الجند الفرنسي ليسلحوا به من لا سلاح لهم، ولهم مندوبون في الشرق والغرب لشراء السلاح، وجلبه الى الجزائر. اعتمدت الثورة على المتطوعين من الشعب، سواء كانوا كبارا أم صغارا، غير أنهم كانوا يرغبون في جنود المسلمين الذين يعملون في الجيش الفرنسي، وأصحاب الحرف والمهن ... انتشر الثوار في شرق قسنطينة وشمالها، وبلاد القبائل، واعتصموا بالجبال الشامخات، مثل جبال أوراس، والقل، والحروش، وسكيكدة، وميلة وغيرها ... أصبحت هذه النواحي كلها مسرحا للحوادث الكثيرة والمعارك الدامية وانقطعت الصيلة فيها، ما بين الحكومة وسكان هذه المناطق، واذا أرادت أن تتصل بهم، فتصحب معها قوة كبيرة من الجند، فأصبح سكان هذه المناطق في حيرة من أمرهم، فالثوار يأتونهم ليلا، ويدعونهم الى مؤازرة الثورة، وإعانتها بما لديهم من طعام، ومال ورجال، وحكموهم حكما اداريا منظما، وكل من يخالف أوامرهم يعاقب في الحال، والحكومة الفرنسية من جهتها تأتيهم نهارا، فتأمرهم بأن يعتزلوا عن الثوار، ويقطعوا كل إعانة وصلة بهم، والويل لمن لم يتمثل لهذا الأمر، وثبتت عليه الاعانة والتأييد للثوار، فتعاقبه في الحال بنسف منزله بالقنابل أو المدفع وتارة بالقتل أو السجن، فاضطر السكان الى أن يكونوا مع الثوار في الليل فيعملون لهم كل ما يطلبونه منهم، وفي النهار يصبحون خاضعين للحكومة الفرنسية، هذه الكيفية سادت القطر كله. كثر هجوم الثوار على منشآت الحكومة فكانوا ينسفون المعامل والجسور ويقطعون أعمدة التليفون، والمواصلات السلكية، والسكك الحديدية ويفجرون قنوات الماء، ومحطات الكهرباء، ويتلفون منتوجات المعمرين كالكروم

والأشجار وحرق صابات القمح وأدوات الفلاحة، ونسف مساكنهم ومراقبة الطرق، وتفتيش السيارات والحافلات وحرقها في بعض الأحيان اذا كان صاحبها لم يدفع الاعانة الى الثورة، ولم يمتثل للأوامر التي أعطيت له، وخطف بعض الشخصيات من غلاة المعمرين، أو من أعوان الحكومة من الذين يزعمون مسلمين، أو الخونة من منازلهم، فينفذون فيهم العقاب حالا، وكانوا يشنون الغارة الشعواء على المدن في الليل، فيطلقون الرصاص على الثكنات ومراكز الحكومة، وأحيانا يصطدم جيش التحرير مع الجيش الفرنسي في اشتباكات دامية لكن سرعان ما ينسحب جيش التحرير من ميدان المعركة بعد ما يضربون ضربتهم، واذا حصروا فيخرقون الحصار المضروب عليهم ويفلتون منه، لأنهم غير متكافئين في السلاح مع الجيش الفرنسي. دب الذعر في المناطق التي انتشرت فيها الثورة، فكثر فيها القتل، وتعطل كثير من المصالح الإدارية، وأصبح المسافر الى هذه النواحي يخشى على حياته رغم الجيش الفرنسي المنتشر فيها، من الثورة استفحلت فيها، وتفاقم أمرهما، وأخدت في الانتشار بسرعة مدهشة في نواحي الوطن، واشتهرت في العالم، فكان الأحرار منه يكتبون عنها المقالات الضافية، ويحثون الحكومة الفرنسية على منح هذا الشعب الاستقلال، والمفاهمة معه قبل فوات الأوان، وكانت محطات العالم العربي تشيد بموافق المجاهدين في الحرب، وتثنى على شجاعتهم وبسالتهم، هذه الأخبار كانت تتنزل على قلوب الشعب بردا وسلاما، وتزيده حماسا واستمساكا بقضيته العادلة. توسعت جبهة التحرير الوطني في الحرب، وذلك بفضل السلاح الذى كانت تستورده من مصر وغيرها الى تونس، ثم الى الجزائر، وظلت هذه طريقه الوحيد مدة الثورة بخلاف السلاح الذى كان يأتي عن طريق البحر، فكانت المراكب البحرية تأتى به من أوربا، وتفرغ شحناتها على شواطئ الجزائر، كان الأسطول الفرنسي يحرس شواطئ البحر الأبيض ويفتش المراكب التي تقترب من المياه الاقليمية، وصادر كثيرا منها.

أرادت جبهه التحرير أن تبرهن على اتحادها مع المغرب، وتربط حركة النضال الجزائري بالحركة الوطنية في الشمال الافريقي، فأظهرت التضامن والاتحاد في الذكرى الثانية لعزل جلالة محمد الخامس رحمه الله عن عرشه وذلك يوم 20 أوت سنة 1955 م، فشنت هجوما على المدن والقرى الواقعة شمال قسنطينة مثل عين أعبيد، وسكيكدة، وعنابة، وغيرها من بقية المدن الأخرى. ثارت هذه النواحي كلها على المعمرين من الفرنسيين القاطنين في هذه الجهة فقتلوا وخربوا كلما وصلت اليه أيديهم، ويقدر عدد القتلى من المعمرين بحوالي واحد وسبعين قتيلا ... هالت هذه الحوادث السلطة الفرنسية وأزعجتها، فانتقمت من سكان هذه المناطق شر انتقام، فهجم الجيش الفرنسي على الدواوير والقبائل، ففتك بالعجزة والضعفاء والأبرياء فتكا شنيعا، فكان يحرق الدواوير بما فيها ويتبع السكان الهاربين الى قمم الجبال، والمختفيين في بطون الأودية، ويأتون بهم في شاحنات فيجمعهم في مكان واحد ويطلقون عليهم النار. ورغم هذا العذاب والتقتيل ضاعف سكان هذه المناطق من نشاطهم الحربي، وصاروا يتسابقون الى الجهاد في سبيل الله رجالا ونساء وكانوا يقدمون أموالهم الى الثورة قياما بواجب الوطن وحقوقه المقدسة وفي أيلول سنة 1955م أصدرت جبهة التحرير منشورا الى نواب المسلمين على اختلاف مجالسهم بأن يقدموا تسليماتهم من هذه المجالس لكي لا يتركوا للحكومة الفرنسية أي وسيلة تتذرع بها ... فبهذا التسليم قطع الشعب صلته بالحكومة، وأصبحت جبهة التحرير الوطني تمثل الأمة تمثيلا حقيقيا، وبهذا التسليم انحل المجلس الوطني الجزائري الذى أسس من بعد الحرب العالمية الثانية. أصبحت الهيئات والمنظمات الوطنية تذوب في الثورة، مثل النواب الذين نظموا هيئة وطنية، وطالبت من الحكومة الفرنسية

أن تتفاوض مع الثوار وفي سنة 1955م وصلت الثورة الى مقاطعة وهران تحت قيادة العربي بن المهيدي وبدأت تنتشر يمينا وشمالا. أصدرت القيادة العليا للثورة الى الشخصيات البارزة والأحزاب والهيئات أن ينضموا الى جبهة التحرير لتوحيد الكلمة وجمع الصفوف وفي هذه السنة 1955م قدمت جبهة التحرير قضية الجزائر الى هيئة الأمم المتحدة لتنظر فيها وذلك بواسطة الوفود الأسيوية الافريقية فسجلت في جدول أعمال هذه الهيئة ولكنها لم تناقش، لأن الوفد الفرنسي امتنع عن حضور جلسات هذه الهيئة. وفي هذه السنة 1956م ألقى القبض على السيد رابح بطاط الذى كان مسؤولا عن العاصمة من طرف السلطة الفرنسية، وتمكن كذلك الجيش الفرنسي من القبض على قائد جبل أوراس السيد مصطفى بن بو العيد، وحبسه في سجن قسنطينة. وفي سنة 1955م عقد رؤساء شعوب أسيا وأفريقيا مؤتمرا في مدينة (باندوك) من جمهورية أندونوسيا المسلمة لتأييد الشعوب المستعمرة لهاتين القارتين، وللحد من سيطرة الاستعمار، وكان أقطاب هذا المؤتمر هم السادة: السيد جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، والسيد نهرو رئيس الولايات الهندية، والسيد شواي لاي رئيس الصين الشعبية ... فقرر هذا المؤتمر بإجماع إعانة الشعب الجزائري على استقلاله ماديا وأدبيا ونص في لوائحه الداخلية علما أن هذا المؤتمر سيعقد في كل سنة في عاصمة من عواصم هاتين القارتين، يكون إما بطلب من أهلها، أو اللجنة الدائمة هي التي تعين مكان الاجتماع. ونحن شاهدنا إعانة شعوب القارتين الفعالة للجزائريين كيف كانت تمد الثورة بكل ما تحتاج اليه من العتاد الحربي والذخيرة، والدفاع عنها لدى جمعية الأمم. وفي كانون الثاني سنة 1956م تأسس الاتحاد العام للعمال الجزائريين تحت إشراف جبهة التحرير الوطني، وفي هذا الشهر استشهد السيد مصطفى بن بو العيد، وفي نيسان من هذه السنة

1956م التحق عباس فرحات رئيس حزب البيان مع السيد توفيق المدني كاتب هيئة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبعض الشخصيات من الجمعية بالقاهرة انضموا الى أعضاء الجبهة السياسية الخارجية. وفي هذه السنة تكون اتحاد الطلبة الجزائريين ودعتهم جبهة التحرير الى مقاطعة الامتحان في الكليات الفرنسية، ولقيت هذه الدعوة استجابة واسعة من طرف الطلبة، ودعت كذلك التجار والفلاحين والشعب كله الى تموين جبهة التحرير بالمال والأشياء الضرورية، وفي هذه السنة أصدرت الجبهة مجلة عربية أسبوعية للتحدث عن أعمال الثورة، وهى مجلة المجاهد، وفي التاسع من شهر نيسان سنة 1956م - ألقي القبض من طرف السلطة الفرنسية على كاتب هذا الكتاب، وذلك في مسجد (بلكور) من العاصمة في يوم الجمعة بحيث أنزل من فوق المنبر انزالا، وخطف من المحراب خطفا، وفي الخامس من شهر تموز من هذه السنة وقع إضراب عام في الجزائر بمناسبة احتلال الجزائر من طرف الاستعمار دام خمسة أيام، وكان انتصارا عظيما لجبهة التحرير ... توسعت أعمال الفدائيين في هذه السنة في الأرياف وخاصة في المدن، وانتشرت الدعاية بصفة واسعة في الخارج للتشهير بالقضية الجزائرية وبصفة خاصة في أمريكا الجنوبية وآسيا وشمال أروبا.

موقف الحكومة الفرنسية من الثورة وصداها في الداخل والخارج

موقف الحكومة الفرنسية من الثورة وصداها في الداخل والخارج كانت الحكومة الفرنسية متألفة حينذاك من أحزاب اليسار، ورئيسها (م مانديس فرانس) ينتمي الى الجناح الأيسر من الحزب الراديكالي ... والحاكم العام على القطر الجزائري هو (م ليونار (الذى قدم تصريحه الرسمي عن حوادث الثورة التي أشرنا إليها سابقا ... حاولت الحكومة اخفاء الحقيقة وتجاهلت الثورة، وزعمت أنها من فعل العصابات قطاع الطرق الذين لا هدف لهم سوى السلب والنهب، والحقيقة أنها كانت عالمة بأنها ثورة لا شك فيها، ولذا وقفت منها من أول وهلة موقفا إيجابيا، فاعتقلت عند بدايتها نحو ألفى شخص من المشكوك فيهم وحلت الأحزاب، وأودعت بعض أعضائها السجن، وقد أدلى رئيس الحكومة بتصريح قال فيه "ان الجزائر فرنسية والتفاوض الوحيد هو الحرب". واجهت الحكومة الفرنسية الثورة بموقفين حازمين: الموقف الأول عسكري بحت ففي اليوم الثاني وصلت الى ميناء عنابة ثلاث فرق من جنود المظلات، وأعلن الحاكم العام في الجزائر حالة الطوارئ في المناطق التي كانت مسرحا للحوادث، وبدأ يطبق فيها القوانين الاستثنائية، ففرض الاقامة الجبرية على بعض الاشخاص، وأخذ يراقب المتنقلين والمسافرين، ومنع الاجتماعات العامة، وكان البوليس يراقب الجزائريين، وأنشأ محاكم عسكرية لا يجوز الطعن فيها أبدا ... قدرت الحكومة الفرنسية الثوار بألفين الى ثلاثة آلاف مقاتل، وقال الحاكم العام يمكنني القول بأنني سأقضى على هؤلاء المشاغبين أعداء الوطن خلال أيام. وقال أيضا سأقضى على الثورة في بضعة أشهر أو تنطفئ وحدها، بعد ما تنكل الحكومة بهم وبأعوانهم ... وأعلن صراحه في بلاغاته الرسمية قال: لقد

سيطرنا على الموقف تماما بعد حملة التهدئة التي اتخذها الحاكم العام. لكنه تراجع وعاد يقول: - بعد الخسائر التي ألحقها الثوار بالجيش الفرنسي، وأعمال الفدائيين في المدن - ان عدد الخارجين على القانون المشاركين في حوادث الاجرام يبلغ ألف شخص، وقد طلبت مزيدا من الجنود الذين يصلون في الحال الى المناطق البعيدة، والى بلاد القبائل الصغرى ولم يدر هذا الحاكم بأن الثورة ستتطور ويستفحل أمرها وتسطو على الحكومات الفرنسية فتحطمها واحدة بعد الأخرى بل تسطو على الجمهورية الرابعة فتزيلها من الوجود، ولا يهدأ لها قرار ولا تسكن لها نأمة حتى يتحرر الوطن كله من قبضة الاستعمار. اعتبرت الحكومة أن مندوبها في الجزائر قد فشل في مهمته وخاب في مسعاه فسحبته وعينت خلفا آخر له. ولما رأت الحكومة أن الثورة قد أصبحت عامة في شمال افريقيا فخافت من هذا اللهيب المقدس المندلع أن ينتهي بإحراقها في هذه الأقطار وانفصالها عنها كلما انفصلت الهند الصينية من قبل، لأن هذه الأقطار لا تعدم المساعد والمعين واذا قدر لها أن تنفصل فمستعمراتها في القارة الافريقية سيكون لها نفس المصير، فأرادت أن تطفئ هذه الثورة بشيء من الحرية بحيث اعطاء الثوار بعض الحقوق. قدم وزير الداخلية (م ميترا) في خمس يناير سنة 1955 م مشروعا لتطبيق قانون 1947 - الذى صرح به الجنرال ديغول في الجزائر، وهو ادماج الجزائريين في فرنسا، فعرضه على الجمعية الوطنية للمصادقة عليه، فعارضه أوربيو الجزائر معارضة شديدة، ولما قدم للاقتراع لم يحظ بالأصوات اللازمة من طرف هذه الجمعية فسقطت حكومة (مانديس فرانس ( ... كلف رئيس الجمهورية (م اد قارفور) بتأليف الحكومة، وكان هذا أيضا من الحزب الراديكالي الأيسر. عينت الحكومة الجديدة (م جاك سوستيل) واليا عاما على القطر الجزائري، وصل اليها في خمسة عشر من فبراير 1955م كان هذا الوالي من المواليين لسياسة شارل ديغول في الجمعية الوطنية، ولكن (جاك

سوستيل) تنكر له وأصبح خصما لذودا لسياسته نحو الجزائر حينما أعلن تقرير المصير ... جاء هذا الولي الى الجزائر يحمل معه اصلاحات اجتماعية يعنى تطوير الأنظمة مع الاعتراف بوجود شخصية جزائرية متميزة ثقافيا واجتماعيا، وكان يجول في القطر، وينتقل من بقعه الى أخرى ويصرح بقوله: ان الحكومة عازمة على اصلاحات هامة وتغيرات كبيرة في ميداني الاقتصاد والاجتماعي ستكون بعيدة الأثر في حياة المواطنين، وكان ينوه بهذه الاصلاحات في جميع خطبه التي كان يلقيها ليفصل الشعب عن الثورة ... ولم يدر أن الشعب أصبح لا ينخدع بهذه المخدرات، ولا تنطلي عليه الحيل ولا المجاملات. ومدة إقامته في هذا الوطن وهو يكرر في هذه الالفاظ بدون عمل: نشر التعليم والثقافة، تعلم الصناعة لتتقدم البلاد ماديا وأدبيا، القضاء على البطالة بجميع أنواعها حتى ترتفع معيشة السكان، ويضارع هذا الشعب شعوب العالم الحر. ولكن الشعب لم ير هذه الاصلاحات الا ما يسمع عنها في الصحف والاذاعات، هذه التصريحات والاصلاحات التي يشيد بها هذا الحاكم العام ما هي الا تقليد لكل وال جديد ترسله فرنسا الى هذا القطر. أما الثورة فوقف منها موقفا حازما، فأخذ في الحال في تعزيز القوات العسكرية وجلبها من فرنسا، وإرسالها الى المناطق التي شبت فيها الثورة، فكانت النجدات تتوالى مدة اقامته وأخذ يلقى القبض على المشبوهين والمشكوك فيهم ظنا منه أنهم يعملون مع الثوار في الناحية التي تقع فيها الحوادث، وعلى رجال السياسة وعلماء الدين الأحرار، فكانوا يستنطقون في مراكز التعذيب، ومن بعد ذلك يرسلون اما الى السجون أو الى المحتشدات الكبيرة التي بدأت تفتح في كل ناحية ولما عجزت المحاكم عن استنطاق المتهمين لكثرتهم، فأخذ يوسع فيها ويجلب لها القضاة من فرنسا. أعجب المتطرفون من غلاة الاستعمار وأصحاب اليمين بسياسته تمام الاعجاب لأنه كان يستعمل القمع الشديد في المناطق التي تدور فيها المعارك الدامية وحوادث الفداء ليرهب السكان،

ويحصر الثورة في أماكن معينة، ومن الثورة كانت تفك الحصار وتشتعل في نواحي أخرى. وفي تشرين سنة 1955م طلب رئيس الحكومة (م ادقارفور) من المجلس الوطني أن يمنحه الثقة، فرفض المجلس هذا الطلب وكان القانون الفرنسي يخول لرئيس الحكومة أن يحل المجلس الوطني فحله وأعاد انتخابه من جديد في شهر كانون الأول 1955 م وانتصرت الجبهة الجمهورية والاشتراكيون، والاتحاد الوطني الاشتراكي المقاوم والحركة الشعبية، والراديكاليون.

الحكومة الفرنسية الاشتراكية

الحكومة الفرنسية الاشتراكية أسفرت الانتخابات عن تأليف حكومة اشتراكية صعدت الى منصة الحكم برئاسة (م غى مولى) وذلك في شهر يناير 1956 م وأتبعت هذه الحكومة الجديدة نفس السياسة السابقة نحو الثورة بالرغم من أن هذا الرئيس الجديد أعلن أثناء الحملة الانتخابية بأن هدفه هو تحقيق السلام في الجزائر، وصرح بأنه سيزور الجزائر وفي السادس من شهر فبراير سنة 1956م زار الجزائر ليباشر الأمور بنفسه ولكن ما كاد يصل الى ساحة الولاية العامة بالجزائر حتى لقاه المعمرون بجموعهم الهائجة وفى مقدمتهم غلاة المعمرين المتطرفين بمظاهرة صاخبة لم يكن يتوقعها أبدا بحيث أهانوه فيها إهانة كبيرة، فكانوا يقاطعون خطابه بالصراخ والتصفير، ويرمونه بالقاذورات، وقوارص الكلم حتى ألجأوه عن التخلي والتسليم في سياسته التي كان يعتزمها في الجزائر فغير خطته تماما إزاء هذه المظاهرات التي جاء من أجلها، فألقى الحل الذي كان يعتزمه، وأصبحت حكومته حكومة متطرفة فبدلت الوزير الذى كان معينا كوال عام للقطر الجزائري وهو الجنرال) كاترو) هذا الرجل كان معروفا في جميع الأوساط برسول السلام برجل آخر اسمه (م لوبير لاكوص) جبار عنيد لقال أنه من نجل الجنرال بيجو السفاح. وفي أبريل من هذه السنة توالت الامتدادات العسكرية والتعزيزات الحربية الى الجزائر، فاستدعى رئيس الحكومة 80 ألف جند من جنود الاحتياط فأصبحت قوة فرنسا في الجزائر ما يقرب من نصف مليون جنديا، وفي الثاني عشر من هذا الشهر نفسه تقرر القاء المجلس الجزائري، وجندت الحكومة أوربى الجزائر، وأنتشر الجيش الفرنسي على التراب الوطني من أقصاه الى أقصاه، وخيم في كل ناحية، وأعلنت الحكومة الاشتراكية حربا منظمة على الثورة والشعب معا لا هوادة فيها، وأصبح السلم الذى كان ينتظره العالم من هذه الحكومة بعيدا جدا.

ولما استعدت الحكومة الاشتراكية للحرب أعلن رئيسها (م غى مولى) عن الحل الذي يريده للجزائر، وكان يتخلص في ثلاث نقط: إيقاف القتال، الانتخابات، المفاوضات، ولم يصرح ما هو نوع الحل، ودعا جيش التحرير الى تسليم سلاحه، وقال ليثق الثوار أن الحكومة الفرنسية لن تنتقم من المقاتلين، وفي تصريح آخر أراد أن يحدد علاقة الجزائر بفرنسا فجاء بموقف غامض لخصه في العبارة الآتية فقال: (ان الجزائر ليست إقليميا فرنسيا لأن أغلبية السكان تتصف بمميزات اجتماعية وثقافية مغايرة للفرنسيين وليست الجزائر في نفس الوقت بلدا عربيا لأن سكانها من البربر. ولا هي دولة اسلامية لاستيطان الأوربيين فيها، وانما أقول ان للجزائر شخصيه خاصة تربطها بفرنسا روابط لا تنفصم عراها في جميع الميادين (. وفي صيف هذه السنة أوصى الحزب الاشتراكي في مؤتمر له بإجراء مفاوضات مع جبهة التحرير لجس النبض كما يقال، ولكن الحكومة اعتبرت مثل هذه المفاوضات توريطا لها لأنها تتضمن اعترافا بجبهة التحرير، وقفت زمنا طويلا، وهى تتردد وفي النهاية اكتفت بإرسال مبعوثين غير رسميين تقابلا مع بعض أعضاء جبهة التحرير في يوغسلافيا. تطورت الحرب وأظلم الجو وأكفهر، واختفى السلم، وكان رد الفعل من طرف الثوار قويا جدا على خطة الحكومة الاشتراكية، وكانت العاصمة وبقيت المدن الأخرى مسرحا لحوادث الفداء الدامية وأصبحت منشآت الحكومة ومنتوجات المعمرين عرضة للتخريب والتهديم والاتلاف، ففي سنتي 56 - 57 كانت حوادث الفداء في العاصمة وحدها تزيد على ألفي حادثة في الشهر الواحد، وعمت الحوادث الوطن كاملا حتى اضطر المعمرون الى مغادرة سكناهم وضياعهم ولجأوا الى العواصم والمدن الكبيرة ليكونوا تحت حماية الجند الفرنسي، والذى بقى في مكانه كان يؤدى الى جيش التحرير الإعانة المالية. جدت الحكومة الاشتراكية من جهتها في معاقبة المسلمين معاقبة جماعية بحيث صارت تأخذ البريء والمسالم بالمحارب، وتلقى

القبض على من شارك في الثورة وعلى من لم يشارك فيها، فالشعب كله كان في نظرها مشاركا فيها، فأرادت بهذه الأعمال الوحشية أن تلقي الرعب في قلوب المسلمين لينفصلوا عن الثورة، وكانت توقف الشخصيات في الناحية التي تكثر فيها الحوادث وتحصرها بالجنود والمصفحات كي لا تتسرب الى غيرها من المناطق الأخرى. أما الأشخاص الذين لهم ماض سياسي، أو سمعة طيبة في اوسط الشعب أو رجال الدين كانت تلقي عليهم القبض أين ما كانوا وتزج بهم في المحتشدات الكبيرة، والسجون المظلمة بعد ما تستنطقهم في المحاكم، وهذه المحاكم هي مزارع المعمرين ومراكز الشرطة وثكنات الجنود، بخلاف المر اكز الرسمية المشهورة للاعتقال. كل هذه المراكز اتخذتها الحكومة الاشتراكية للتعذيب والتنكيل بالشعب، فأشحنتها بآلات التعذيب المختلفة الأنواع والاشكال وجنود المظلات والبوليس السري ورجال الدرك مع كلابهم الشرسة، يسلط على المتهم الضرب أولا، ثم يعلقونه بالأحبال والسلاسل ويحمون الحديد في النار حتى يحمر فيكوون به لحمه في جميع جسده ولا سيما الأماكن الحساسة، ومن بعد يضعون على الأجراح الملح، ويبقى على هذه الحالة من التعذيب مدة تتراوح ما بين ستة ساعات الى ستة عشر ساعة حسب المعذبين له، ومن بعد ينزلونه، وجروحه الدامية فاغرة الافواه فيغطسونه في أحواض الماء القذر المعدة لهذا الغرض خصيصا، ويلزمونه بشرب هذا الماء بواسطة أنبوب حتى تمتلئ معدته من فضلات الانسان وغيرها، ومن بعدما يمتلئ بطنه يدوسونه بأرجلهم فيخرج الماء من المنافذ، ولما تتم هذه العملية يعيدون عليه السؤال. مع من كنت تعمل؟ وأين السلاح؟ الى غير ذلك من الأسئلة المحرجة فإن أبى يجلسونه فوق القارورة ويطلقون عليه الكلاب الشرسة فتمزقه تمزيقا، والضحية في هذه الأحوال كلها مجردة من الثياب منهوكة القوى خائرة الأعصاب، واذا فقدت الوعى والإحساس يسلط عليها تيار كهربائي فيهز كيانها هزا عنيفا تكاد روحها تخرج ويا ليتها تخرج، وتبقى الضحية في هذه الحالة من العذاب مدة من الزمن تتراوح ما بين شهر الى ثلاثه أشهر حتى تخرج ما عندها من المعلومات عن الثورة.

فعندئذ ينتهي البحث معها وكثيرا من المعذبين الذين لم يلاقوا حتفهم في هذا التعذيب يخرجون مشوهين ومعطوبين من هذه العمليات في ذواتهم أوفي عقولهم، ومن ثم ينقلون إلى المعتقلات أو السجون على حسب التهمة والاعتراف، وكان تفتيش السكان وترويع النساء والأطفال، وحصر المدن والقرى هدفا لجنود المظلات والحرير المتنقل، ورجال، الدرك، وهذا هو شغلهم الشاغل ليلا ونهارا، وفي أي وقت شاءوا يدخلون الى المنازل ويعبثون بأثاثه، ويتلفون ما فيه من الأواني والاطعمة، وينهبون النفائس من الجواهر والحلي والدراهم، ويتعدون على الشرف والعفاف أمام الأب والزوج والأخ الى غير ذلك من إهدار الكرامة البشرية، والاستخفاف والازدراء بالقيم والمثل الإنسانية بحيث تجاوزوا كل حد وقانون وعرف في تاريخ البشرية الطويل العريض. وتارة يحاصرون القرى في الليل ويطوقونها من كل ناحية، ويخرجون أهلها وهم في لباس النوم رجالا ونساء وأطفالا الى الملاعب العامة فيفحصون أوراق تعريفاتهم والويل لمن حامت حوله الشكوك فينقلونه في الحال الى مراكز التعذيب للاستنطاق وهكذا يفعل الجيش الفرنسي بالمسلمين في كل ناحية من نواحي الوطن. هذه الكيفية من التعذيب لازمت الشعب الجزائري طوال سني الحرب، وهذا العذاب يستكمل للرجال وللنساء والأطفال المراهقين بدون تميز. والمنظمة الارهابية التي نظمها المعمرون لها اليد الطولى في هذا الميدان، فكان أفرادها يرتدون لباس الجند ويأتون الى المنازل ليلا فيخطفون الأشخاص المقصودين ويذهبون بهم الى حيث لا يعلم أحد، فكم من شخصية بارزة اختطفت في لباس النوم ليلا لا يسمع الا الصراخ والعويل في ظلمة الليل البهيم مثل العالم الجليل الشيخ العربي التبسي وغيره. أتينا بهذه النبذة القصيرة عن أعمال المتحضرين الذين يهذبون الشعوب ليقارن كل عاقل بين معاملة جيش التحرير

للأسرى الذين كانوا يقعون في قبضته، فكان يعاملهم معاملة حسنة فيفضلهم على نفسه في المآكل واللباس، هذه الاخلاق النبيلة التي أتصف بها جيش التحرير في ثورته هي من تعاليم الاسلام الذي يعامل الانسان معاملة كريمة تليق به. اننا نختصر في هذا الغرض على الأهداف الهامة التي كانت تعكر الجو على السلم في جميع الحكومات الفرنسية وبصفة خاصة الحكومة الاشتراكية كانت تتبع باهتمام كبير حركات الشعب المغربي والتونسي نحو الثورة الجزائرية فتحصي عليهما أنفاسهم.

خطف الزعماء الخمس من الجو

خطف الزعماء الخمس من الجو كانت فكرة المغرب العربي الكبير قد خامرت الرؤساء السياسيين مند زمن بعيد، ولما ثارت هذه الأقطار الثلاث، وتحرر الشعبان الشقيقان تونس والمغرب الأقصى، وبقيت الجزائر وحدها في المعركة مع فرنسا، ومنها كانت سائرة لي طريق التحرير. أراد رؤساء الأقطار الثلاث أن يبرزوا فكرة اتحاد المغرب العربي الكبير الى الوجود لأن الوقت قد حان، فكان قادة الاقطار الثلاث ينتقلون من قطر الى قطر لتبادل الآراء والأفكار، ومن بينهم زعماء الجزائر الذين كانوا لا يفارقون أقطار المغرب العربي الثلاث. اتفق قادة الاقطار الثلاثة على اتحاد المغرب العربي الكبير الذى هو خطوة كبيرة في تحقيق أهداف هذه الشعوب، ولم يبق الا الاعلان عنه في اجتماع رسمي يحضره الرؤساء والشخصيات البارزة من الأقطار الثلاثة، فعينوا العاصمة التونسية مكانا لهذا الاجتماع التاريخي، وذلك في شهر تشرين الأول سنة 1956 م وكان زعماء الجزائر الخمس في المغرب الأقصى ضيافا لدى جلالة الملك محمد الخامس - رحمه الله بمناسبة هذا الاجتماع، قرروا أن يسافروا معه الى تونس على متن طائرتين طائرة تنقل الملك وحاشيته والأخرى تنقل الزعماء الجزائريين، وأسرعت الشخصيات والأعيان من هذه الأقطار الى مكان الاجتماع التاريخي الخطير ... ولما علمت السلطة الفرنسية بهذا الاجتماع أرادت أن تبطله، فأوعزت الى مواطنيها الذين يعملون في مطارات المملكة المغربية بعرقلة هذا الاجتماع وأخبرتهم بما عزم عليه القادة العسكريون من خطف الزعماء الجزائريين من الجو، ولكن يجب فصلهم عن الملك في سفره -.

طبق العمال الفرنسيون هذه الأوامر الصادرة اليهم من القيادة العسكرية في الجزائر بكل دقة ومهارة غير مكترثين بحكومة جلالة الملك، ولما حان وقت السفر أقلعت طائرة الملك صباحا، وتظاهر العمال الفرنسيون بإصلاح الطائرة التي تنقل الزعماء الجزائريين، وكان هذا الاصلاح مقصودا ليفصلوا بين جلالة الملك والزعماء، وفي المساء أقلعت هذه الطائرة فتعرضت لها السلطة العسكرية الفرنسية في الجو، وأرغمتها على التوجه الى الجزائر والنزول في مطار دار البيضاء، وسرعان ما امتثل سائق الطائرة، ونزلت في أول الليل في المطار المذكور. وجد الزعماء الخمس الشرطة في انتظارهم فقيدوهم وساقوهم الى السجن، وبهذه العملية خرقت الحكومة الفرنسية القوانين الدولية ولم تبال بالاتفاقيات التي بينها وبين الملك، ولم تحترم شخصيته ولا كرامة شعوب المغرب العربي الكبير ... وكانت تظن الحكومة الفرنسية بهذه العملية تقضي على الثورة في الجزائر ومنها خابت في تقديرها وتفكيرها، اعتبر الشعب الجزائري هذه الحادثة ما هي الا جزء من حوادث الثورة الكثيرة، فزادته تماسكا وثباتا وعزيمة وصلابة، فقام في الحال قادة آخرون مقام الزعماء الأولين كانوا أشد مراسا وقوة فواصلوا الحروب. ولما سمع الرؤساء والجماهير التي كانت تنتظر في وصول الزعماء الى مكان الاجتماع بهذا الحادث المفجع، ثارت ثائرة شعوب هذه الاقطار وهاجت لهذه الاهانة والاحتقار، وعرفت المكيدة من أين جاءت، جاءت من الجالية الفرنسية التي لا زالت تقطن في هذه الأقطار، هي التي كانت سببا في هذا الحادث المؤلم. أما الذين ضبطوا أعصابهم من هذه الشعوب فاكتفوا بالاحتجاجات المصارخة على هذه الأعمال التي هي منافية للأخلاق والمروءة وللقوانين الدولية، وإهانة لصاحب الجلالة محمد الخامس لأن الزعماء الجزائريين كانوا في ضيافته. أما الشعب المغربي فلم يستطيع أن يضبط أعصابه، فصب جام غضبه على الجالية الفرنسية التي كانت تسكن في المغرب

الأقصى، فدهما الثائرون من المغاربة، فأتلفوا لها ما يقرب من أربعمائة مزرعة، وقتلوا وأحرقوا وهدموا وحطموا كل ما وصلت اليه أيديهم، وانقطعت العلائق بين فرنسا وبين هذه الأقطار ... المسؤول الوحيد عن هذه الأعمال القرصنة هو الوزير الفرنسي المقيم في الجزائر.

الهجوم المثلث على مصر

الهجوم المثلث على مصر كانت لمصر محطه كبيرة تذيع الأخبار وتدعو الى تحرير الشعوب وكان قسم منها سمته صوت العرب، كان هذا القسم خاصا بالشؤون العربية، يوجه الجماهير العربية ضد الاستعمار الغربي، وينشر مساويه ويفضح أعماله التي كان يرتكبها في الجزائر، ويدعو الى مؤازرة الثورة وتأييدها فكان لهذا الصوت أثر بليغ في نفوس الجزائريين بحيث حرك النخوة والشهامة فيهم ... ضاقت الحكومة الاشتراكية الفرنسية بهذه الاذاعة الواسعة الانتشار ذرعا واعتبرتها إعانة كبيره للثورة لأنها ألبت عليها الشعب، فنبهته من غفلته، وبعثت فيه الشجاعة والتضحية، وعرفته بأعدائه ألا وهو الاستعمار، فأصبح لا يرضى الا بالاستقلال والحرية التي تأتي عن طريق الكفاح المسلح، فانخرط في سلك الثورة، وهذا من جملة الأسباب في الهجوم المثلث على مصر، وكان في شهر تشرين الثاني سنة 1956 م.

الاضراب العام الذي دام ثمانية أيام

الاضراب العام الذي دام ثمانية أيام وفي شباط سنة 1957م فتحت جمعية الأمم جلستها السنوية، وقيدت قضية الجزائر بصفة رسمية في جدول أعمالها بطلب من الشعوب الأسوية والافريقية لتناقش على هذا المنبر العالمي، فناهزت جبهة التحرير هذه الفرصة، وأرادت أن تبين للعالم بأن هذه الثورة شعبيه لا كما يدعيه الاستعمار الفرنسي بأنها ليست من الشعب، وإنما هي من المشوشين وقطاع الطريق تريد النهب والسلب فقط ... ولما قدمت القضية للمناقشة من طرف الهيئة الأممية، أصدرت جبهة التحرير أوامرها للشعب بأن ينعزل عن العمل ثمانية أيام ليتحقق العالم من تضامنه واتحاده مع الثورة، فأطاع الشعب هذه الأوامر، وأضرب عن العمل بجميع طبقاته، وبرهن على أنه من وراء جبهة التحرير، فهي التي تمثله تمثيلا، حقيقيا، فتحقق العالم من أن هذا الإضراب العام كان تأكيدا وتدعيما للثورة، وصار حجة قاطعة في يد جبهة التحرير تدحض به أقوال الخصم في المحافل الدولية والاجتماعات العامة. بدأ العالم يعطف على هذه الثورة ويؤيدها، وانقسمت الهيئة الأممية في شأنها فبعضها يؤيد فرنسا، ويعتبر هذه القضية قضية فرنسية لا دخل لمجلس الجمعية فيها، ويفوض حل القضية إليها، وبعض من هذه الهيئة يلازم الحياد عند الاقتراع، والباقي يؤيدها. وقفت الحكومة الفرنسية من هذا الاضراب موقفا حازما، فقررت منعه منعا باتا، وأخذت لذلك جميع الاحتياطات والتدابير اللازمة لمجابهته بالقوة، فأوعزت الى القادة العسكريين بأن يحلوا هذا الاضراب ويبطلوا مفعوله بأي وسيلة كانت، حتى لا تتكرر مثل هذه الوقائع، والعقاب الصارم لمن حدثته نفسه بالامتثال لأوامر الثورة فيكون عبرة لغيره، ويجب عليهم

أن يطهروا العواصم من حوادث الفداء الدامية التي خيم الرعب على سكانها منذ نشوب الثورة. وكان بطل هذه العملية هو قائد جنود المظلات الجنرال (ماسو) فبدأ هذا الطاغية يهيئ في المعتقلات، ويفتح سجونا أخرى، ويعد أنواعا من أساليب العذاب والإبادة للمواطنين، وحشد قوة هائلة من الجند في كل ناحية من نواحي الوطن، وحاصر جميع المدن والقرى، وأخد ينذر السكان المسلمين ويهددهم عن طريق الاذاعة ومنشورات كتبت خصيصا تحذر السكان من مغبة هذا الإضراب الذي أمرت به الجبهة، وقال (كل من يمتثل لهذا النداء سواء كان من التجار أو العمال أو غيرهم يعتبر ثائرا، فتحل عليه العقوبة، فالتجار تصادر أموالهم، وتغلق محلاتهم الى أجل غير مسمى والعمال يطردون من وظائفهم ويعاقبون، فوزع هذا التهديد على السكان المسلمين) ... ولما وصل اليوم المعين للإضراب أصبح الشعب كله مضربا عن العمل حتى الشعوب العربية شاركت في هذا الإضراب تضامنا مع الجزائريين وفي صبيحة هذا اليوم هجمت الجنود الفرنسية في كل ناحية من نواحي القطر على المحلات التجارية في المدن. والقرى، فكسرت أبواب الدكاكين وأتلفت ما فيها من البضائع والمواد، وأشحنت النفيس منها في شاحنات الجند، والباقي أباحته الى الجالية الأوربية، ومن بعد ذلك يغلق المحل وتعلق عليه لافتة مختومة بطابعها (ممنوع الفتح الا برخصة من طرف الجنود) وكانوا يحملون الناس الى الملاعب العامة للبحث عن أسباب الاضراب، ومن بعد ينقلون الى السجون أو المعتقلات هذه المعتقلات كثيرة جدا، وكل يوم يدخل إليها آلاف من المواطنين على اختلاف طبقاتهم ذكورا وإناثا، وكم من نفوس سيقت الى العذاب ظلما وعدوانا، وكم من أموال أتلفت جمعها أصحابها بعرق الجبين أصبحت الأمة كالأنعام تحمل في شاحنات الجند الى المجازر والمشانق والتعذيب، فأموالها مصادرة، ومساكنها مخربة ومهدومة، وشرفها مداس وكرامتها مهدورة، ولم تجد ملجأ تلجأ إليه إلا الصبر الذى لا شكوى فيه، فمرت كلها - تقريبا - على التعذيب والتنكيل.

أما الحيوانات فكان الجند الفرنسي يجمعها، ويصطفي منها لنفسه المختارة والتي تليق به، والباقي يطلق عليها النار لكي لا يستفيد منها جيش التحرير. الخلاصة أن الجزائريين نكبوا - في هذه العملية - في الرجال والأموال وفي الشرف نكبة لا نظير لها في تاريخ الانسانية، والمحظوظ منهم من كان في الجبل حاملا سلاحه، أو في السجن صابرا محتسبا أو في الخارج بعيدا عن الوطن. نشأ عن هذه الحالة استياء عام وغضب شديدان من جراء هذا التعسف فأصبح الشعب يغلي من هذا الظلم الصارخ، والإهانة التي أصابت كبرياءه فأثر فيه الاحتقار، فأصبح يدافع عن نفسه دفاع المستميت، فالذي كان مترددا ولم يشارك في الثورة انضم اليها في الحال، والجبران صحا من حبرته وتردده، وأصبح لا يشك في مصيره في الفناء، أدرك الشعب كله أنه لا تنجيه من هذه الإبادة المحققة الا الوقوف صفا واحدا في وجه الاستعمار ... والحقيقة أن هذه المعاملة السيئة من طرف الاستعمار هي التي كانت سببا في اتحاد الشعب، وانخراطه في صفوف المكافحين، فأصبح يتسابق الى مراكز المجاهدين في رؤوس الجبال يقدم اليهم نفسه والمعونة المالية وغيرها عن طيب نفس ليكافح الجند الفرنسي الباغي رجالا ونساء حتى اضطر قادة الثورة أن يردوا الناس الى أماكنهم. ولا يفهم من هذا ان الشعب كانت صفوفه كلها طاهرة من الخونة بل كان يوجد بعض الخونة من الشعب الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان أغراهم الاستعمار بدعايته وأمواله، فيعدهم وما يعدهم الا غرورا، ويمنيهم بالأماني الكاذبة، فهؤلاء الخونة من ذوي الضمائر الخربة، وبسبب الطمع وعدم الوعى والشرف يجدون في قتل اخوانهم، وتعذيب مواطنيهم، فالاستعمار يريد أن يحارب الشعب بعضه بعضا، ولولا قوة الثورة لوقع الانقسام في صفوفه، ومن موقفها الصارم لهؤلاء الخونة، ومعاقبتهم معاقبة لا هوادة فيها هو الذى حفظها من الانقسام، فكان الثوار يذبحون الخونة كما تذبح الانعام، ويتركونهم على قارعة الطريق ليعتبر بهم أمثالهم، هذا الصنف من الخونة كان أشد على الثورة من الاستعمار.

ومن بين هؤلاء الخونة ابن الونيس، وابن الحاج الجيلالي وكلاهما ينتميان الى حزب حركة الانتصار، فتحالفا مع الاستعمار الفرنسي وأمدهما بالسلاح والعتاد الحربي والاموال. فتمركز ابن الجيلالي في واد الفضة ناحية الأصنام، وابن الونيس في ناحية سيدى عيسى في الجلفة فكانا يحاربان في جبهة التحرير مع الجيش الفرنسي، فعاثا في الأرض فسادا، وقتلا خلقا كثيرا لا يحصى عددهم أما نهب الأموال وتعذيب الشعب، فتعذيب الاستعمار لا يعد شيئا بالنسبة الى تعذيبهما، ولكن في النهاية قضى عليهم وعلى أعوانهم جيش التحرير، وأما الذين جندهم الاستعمار من (الحركة) الذين كانوا يقاتلون في صفوفه، فهم كثيرون جدا.

الأسلاك الشائكة على طول حدود الجزائر شرقا وغربا ((ومراقبة البواخر من ناحية البحر))

الأسلاك الشائكة على طول حدود الجزائر شرقا وغربا ((ومراقبة البواخر من ناحية البحر)) ولما تحقق قادة الثورة من أن فرنسا عازمة على مواصلة الحرب وإبادة الشعب، عزموا على تكوين جيش منظم تنظيما عصريا من الشباب ليدافع عن الوطن، فبدأوا يجمعون الشباب ويرسلونهم الى القطرين الشقيقين تونس، أو المغرب الأقصى، ومن ثم يوزعونهم، فبعضهم يذهب الى الشرق العربي، وبعض الى أوربا أو الصين الشعبية يتدربون على حرب العصابات ويتلقون دروسا على مختلف الأسلحة العصرية، والبعض من هؤلاء الشباب يبقى في القطرين الشقيقين يزاول تدريباته، وبعد ما ينتهي الشباب من التدريبات العسكرية، يرجعون الى تونس أو المغرب ليدخلوا إلى الوطن. في هذه الفترة بدأ جيش التحرير يتكون على أساليب ونظم فنية، وسلاح عصري، وتمركز على الحدود الجزائرية من جهتي الغرب والشرق. وكانت الحكومة الفرنسية على علم تام بهذه الخطة، فأراد الجيش الفرنسي أن يحمل تونس والمغرب ليضمن الحدود غير أن الحكومة الفرنسية خافت من تدخل جمعية الأمم لأن تونس والمغرب عضوان فيها، فعمدت الى تطويق الحدود الجزائرية من جهتي القطرين معا بأسلاك شائكة مكهربة ملغمة لتمنع تسرب المجاهدين من الدخول الى الوطن، وتمنع كذلك المؤنة والذخيرة الحربية من الدخول الى الجزائر، وسمته (خط موريس) لأنه هو صاحب الفكرة، وفي نفس الوقت كان وزير الدفاع ... هذه السدود من الأسلاك الشائكة عاقت كثيرا أعمال الجبهة، وعرقلت نشاطها، وسببت لها صعوبات كثيرة ومتاعب جمة، كان أغلب الجيش الفرنسي في الحدود، ومجهزا بالرادار، فكل من يقترب من الأسلاك الا وينقل إحساسه في الحال الى مركز المراقبة، لهذا أصبح المرور عليه صعبا جدا رغم الآلات التي

كانت تستعمل ضدها، وكان لا بد من المرور على هذه الأسلاك الشائكة والخطوط النارية، لأن أوامر القيادة والمؤونة والذخيرة كانت كلها على الحدود ... فرضت السلطة الفرنسية المراقبة على البواخر التي كانت تمر في البحر الابيض المتوسط خوفا من حمل السلاح الى الجزائر، لأن الجبهة عقدت صفقات شراء مع بعض المنظمات الأوربية تبيع لها السلاح، فتحمله المراكب وتفرغ شحنتها في نقطة معينة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط وفعلا ألقى الأسطول الفرنسي القبض على عدة بواخر كانت مشحونة بالأسلحة والذخيرة، فصادرها في الحال، وأصبح أهلها يحتجون.

القانون الاطاري

القانون الاطاري ولما عجزت الحكومة الفرنسية على القضاء على الثورة عمد الوزير المقيم العام في الجزائر الى لعبة يريد أن يموه بها على الثورة والشعب ويخدعه بهذه الحلول الزائفة، فساسة فرنسا لا زالوا يحلمون - كما كانوا في الماضي - يظنون أن الشعب، الجزائري لم يبلغ سن الرشد، فينخدع بالمجاملات، ويقنع بالتعللات ويرضى بالتوافه، اقترح الوزير المقيم (م لاكوست) على البرلمان الفرنسي أن يمنح الشعب الجزائري القانون الاطاري، وهذا القانون غير معقول لا في نوعه ولا في معناه وإنما عقلية الاستعمار تأتي بالمعجزات ولا تعرف المستحيل، ومع هذا مكث البرلمان الفرنسي يدرس في هذا القانون ما يقرب من سنة، فكان يختار المواد التي تترك الجزائر مرتبطة دائما مع فرنسا أكثر مما كانت، وفي كل جلسة يناقش البرلمان القانون الاطارى، فينزع منه المواد التي تسمح للجزائريين بنصيب من الحرية، وفي جلسة أخرى ينقص بعض المواد التي قررها في الجلسة الماضية لأنها تجعل الجزائريين يتمتعون ببعض الحقوق وهكذا كان ينقص من المواد المقررة، ويضيف اليها مواد أخرى حتى أصبح هذا القانون خاليا من كل معنى ومحتوى.

سقوط الحكومات الفرنسية على التوالي

سقوط الحكومات الفرنسية على التوالي عجزت الحكومة الاشتراكية الفرنسية عن القضاء على الثورة وسئمت الحرب التي طال أمدها رغم النشاط الذى اتسمت به في الميدان العسكري، ورغم سياسة الارهاب والبطش اللذين اتخذتهما إزاء المسلمين، ورغم التصريحات باستقلال الشخصي والانتخابات من بعد وضع السلاح، وهذه التصريحات كلها كانت تمويها وخداعا، وفراغا في فراغ لا فائدة منها ... وفي حزيران سنة 1957م سقطت حكومة (قى مولى) وأخلفتها في الحكم حكومة) بوجيس مونيري) فسارت أشواطا قصيرة، ثم سقطت، ومن بعد هذه الحكومة صعدت الى منصة الحكم حكومة (فليكس قيار)، وهاتان الحكومتان كانتا امتدادا لحكومة (قى مولى)، فهذه الحكومات كلها كانت تنتسب الى الحزب الاشتراكي الفرنسي، سارت هاتان الحكومتان على نفس الخطة التي سارت عليها الحكومة الأولى، ولم تغير شيئا منها. وفي هذه المدة شاعت أعمال الزجر التي يستعملها الجيش الفرنسي في العالم، وذلك بواسطة الاذاعات والجرائد والمناشير المصورة التي كانت توزع على الناس والافلام السينمائية التي كانت تكشف عن الجرائم التي يرتكبها الجيش الفرنسي في الجزائر، فضج العالم من هذه الأعمال الوحشية فتبرأت الأحزاب الاشتراكية العالمية من الحزب الاشتراكي الفرنسي الذى خالف مبدأه في الحرية والمساواة وكذلك العقلاء من الفرنسيين فكانوا ينصحون حكومتهم بحل هذه القضية حلا سلميا. لكن الوزير المقيم في الجزائر عارض هذا الحل، ووقف في وجه كل من يريد المفاهمة مع جبهة التحرير الوطني بكل شدة، وطلب من الحكومة الفرنسية أن تمنحه ربع الساعة الأخيرة يعالج فيه الوضع الجزائري لعله يجد حلا مقبولا من الطرفين، لكن هذا الربع طال حتى بدأ بعض الفرنسيين ينادون بسقوط الوزير، واتهموه بأنه كان حجر عثرة في طريق المفاهمة، وسببا في تعكير

الجو، واضطراب الأحوال وكانت الحكومات في سقوط متوال والاقتصاد في انهيار وخراب واختلفت أحزاب فرنسا فيما بينها في قضية الجزائر، فبعضهم يطالب بالمفاوضة مع جبهة التحرير وباستقالة الوزير المقيم، والبعض الآخر يطالب بالحرب، وبإبقاء الوزير في منصبه فكادت حرب أهلية تندلع بينهما. وفي هذه المدة ضاقت القيادة العليا للجيش الفرنسي من حركات جبهة التحرير التي كانت على الحدود التونسية، ومرورها على الأسلاك الشائكة، لأنها جلبت الآلات اللازمة لقطع هذه الأسلاك، ودربت فرقا على ذلك وكانت تشرف على المرور، وتنقية الطريق من الألغام لكى يمر المجاهدون بسلام ... اعتبرت القيادة العليا للجيش الفرنسي هذه الأعمال من جانب الحكومة التونسية عملا معاديا لفرنسا فقررت أن تعاقبها ففي شهر شباط سنة 1958م أمر الضباط الفرنسيون بقنبلة ساقية سيدى يوسف داخل التراب التونسي، وأنها لا تبعد كثيرا عن الحدود الجزائرية انتقاما من الحكومة التونسية التي سمحت لجبهة التحرير بإقامتها فوق أرضها ... فوجئت هذه القرية الهادئة بسقوط القنابل، وانفجارها على المنازل فكانت تخر على من فيها من الأبرياء الآمنين، ما ترى الا النار مشتعلة هنا وهناك، والأرواح تزهق، والناس في هلع وذعر لا يدرون ما دهاهم. كان هذا العمل ظلما وعدوانا صارخا على دولة محايدة معترفا بسيادتها واستقلالها فثارت الحكومة التونسية بالاحتجاج لدى جمعية الأمم، وآزرتها في ذلك بعض الدول، واستاء الرأي العام العالمي من جراء هذا الهجوم الغادر الذي لا مبرر له، وبدأت الإعانات والتبرعات من لدى المحسنين تصل الى المنكوبين من هذه القرية باستمرار. اعترفت حكومة (فليكس قيار) بهذا الاعتداء، وتوسطت أمريكا وانجلترا في هذا النزاع خوفا من تدخل مجلس الأمن، في هذه القضية، فانتدبت كل منهما مندوبا عنها ليكون وسيطا في الصلح ما بين حكومة باريس وتونس ولم ترض أي حكومة

منهما بالشروط التي تقدمها الدولة الأخرى، ولم ترضيا بالاقتراحات التي تقدم بها الوسيطان. وفي هذه الآونة بدأت الحكومة التونسية تطالب بجلاء القوات الفرنسية المرابطة بترابها، وهكذا بقيت الحكومتان في أخذ ورد حتى سقطت حكومة (فليكس قيار) ومن ثم أصبحت الحكومات الشعبية الفرنسية لا تستطيع أن تثبت أمام الثورة. بدأ رئيس الجمهورية الفرنسية (م كوتى) يستثير الأحزاب فيمن يوليه دفة الحكم، وقد امتنع النواب عن الترشيح لرئاسة الحكومة وأصبحوا يفرون من المسؤولية خوفا من الثورة الجزائرية العارمة.

تصاعد الثورة في الداخل والخارج

تصاعد الثورة في الداخل والخارج قال (فرانتى فانون) في منشورات للحكومة الجزائرية المؤقتة (ان الانسان الجزائري هو انسان جديد ظهر في وهران وفي جبال أوراس، وهو لن يحرر الجزائر فحسب، ولكن يحرر شمال افريقيا وسيحرر العرب كلهم، وسوف يكون النموذج والمثل الأعلى للمحارب العربي في سبيل عقيدة وفي سبيل حياة أفضل انتهى. الثورة الجزائرية ثورة تحريرية شعبية تقف بجانب الثورة الفرنسية والروسية والصينية الشعبية والفيتنامية، وأنها أكمل نموذج للثورة العربية الكاملة وأمجد صفحة في تاريخ الثورات الاسلامية ... ليست ثورة الجزائر ضد الاستعمار فحسب، وإنما هي حرب تحريرية شاملة تهدف الى تحطيم حلقة رئيسية من حلقات الاستعمار العالمي. ولقد حققت الثورة الجزائرية آمال الشعوب المستعمرة، سواء في آسيا أو في افريقيا، أو في أمريكا اللاتينية في الحرية والاستقلال، ومند إعلانها وحركة التحرير سائرة في العالم، ولم تتوقف ولو لحظة واحدة، حتى كاد يتحرر العالم الثالث تقريبا، الشيء الذي عجزت عنه ثورات الشعوب الأخرى من قبل ثورة الجزائر. وتحرير الجزائر قضية تهم الجزائريين وحدهم، ولكنها في نفس الوقت تهم العرب جميعا لا بدافع الأخوة الاسلامية فحسب، ولكن بدوافع المصالح المشتركة ... استعمار الجزائر كان الثغرة الأولى التي دخل منها الاحتلال الغربي الى العالم العربي كله، ولهذا أصبح كل عربي مسلم - من بعد الاستقلال يعد ثورة الجزائر ثورته. الثورة الجزائرية الكبرى تهم كل الأحرار في العالم لا بدافع العطف على الحرية، ولكن بدافع الاشتراك في مصير الشعوب المستعبدة، لأن الجزائر هي البوابة الكبرى التي دخل منها

الاستعمار الغربي الى القارة الافريقية حتى سقطت في قبضته كلها. استقلال الجزائر معناه استقلال القارة السوداء، ولهذا لما هبت شعوب هذه القارة لتحرير بلدانها وجدت الاستعمار محطما منهوك القوى بسبب ثورة الجزائر العارمة، فنالت هذه القارة استقلالها بدون إراقة الدماء وبدون صعوبة تذكر. ثورة الجزائر الكبرى قضت على طغيان الجيش الفرنسي، وعلى نظام جنرالاته، وعلى جميع السفاكين والمتعطشين للدماء، والمتجبرين والمتحكمين في رقاب العباد فلقنتهم درسا قاسيا، فجعلتهم ينسحبون من القارة السوداء بدون حرب ... وكان ضباط فرنسا أمثال ماسو، وسالان، وشال ومن لف لفهم يخوضون منذ عشرين سنة غمار حرب ضروس في العالم عساهم أن يحرزوا على نصر ما ولذا كانوا يحاربون الشعب الجزائري الأعزل بأقوى قوة، وأكبر عتاد حرب وأضخم جيش مما كان عليه أيام حربهم مع ألمانيا، وفي حربهم مع الجزائر كانوا يستعملون هذه العبارة (كفانا إهانة ... كفانا استسلاما (ولكن أنى لهم الانتصار، والشعب الجزائري قد استيقظ من سباته، وبدأ ثورته باسم الله، ووقف بكل عزم وصلابة في وجه جبروت الاستعمار موقف رجل واحد ... لم يكن أحد يعلم أو يظن على الأقل أن الثورة ستصل الى ما وصلت اليه من القوة حتى انتصرت على أعظم جيش استعماري في العالم، وأرغمته على تغيير نظامه الذى كان يستعبد به الشعوب، ولا أحد كان يظن أن الاستماتة التي أبداها كل من الطرفين المتحاربين في سبيل إحراز النصر لا السياسيون المحنكون حتى قادة الثورة انفسهم كانوا يجهلون عما تسفر عنه الثورة من الأحداث الجسام رغم تخطيطهم لها، وتقديرهم للخسائر التي تنتج عنها، والأهداف التي تصل إليها ... وكذلك الحكومة الفرنسية لم تكن في يوم من الأيام تتكهن بهذه الصعوبات التي لاقتها في هذه الثورة الا أنها تدرك ما ينطوي عليه الشعب الجزائري من طاقات حية على حسب مواقفها

معه في الماضي، ولكنها لم تتوقع أن الشعب يتحد ويقف كرجل واحد في وجهها، ويبرز بهذا التكتل والنظام الدقيق الذي أصبح مضرب الأمثال، وإنما كانت تظن أن هذه الثورة كالثورات الماضية، فسرعان ما تفشل بسبب الاختلاف ومحاربة بعضهم بعضا، ونسيت أن الشعب أصبح لا يتحمل حلم الاستعمار، والحرمان الذي فرضه عليه منذ الاحتلال، ولهذا وغيره اندفع في هذه الثورة كالتيار الجارف باسم عقيدته الاسلامية ودينه الحنيف، والشعب إذا حارب باسم الاسلام لا تستطيع أي قوة مهما كانت أن ترغمه على التقهقر وهذا ما وقع ... كانت فرنسا تظن أن هذه الثورة كالثورات الجهوية التي قامت في عهد الاحتلال كثورة عين التوتة، وثورة مليانة، وثورة أولاد سيدي الشيخ، وثورة بلاد القبائل، هذه الثورات كلها مهما بلغت من العنف لم تكن تكتسي صبغة نظامية ... أما ثورة أول نوفمبر فقد اكتسبت من أول وهلة صبغة دينية وطنية ولهذا أن هذه الثورة لا تشبه الثورات التي خاضها الجزائريون مع الاستعمار من قبل. كان المسؤولون من فرنسا يعلمون شدة مواقف الجزائريين الصلبة، ومقاومتهم العنيفة الطويلة النفس لهذا عمدوا الى تسوية مشكل الهند الصينية ومنحوا الاستقلال للمغرب وتونس ليتفرغوا للحرب في الجزائر التي بدأت في الانفجار، فإذا قضوا على الثورة في الجزائر، فإنهم لا يبالون بالاستقلال الذي منحوه الى تونس والمغرب ما داموا يملكون الجزائر، لا يؤثر هذا الاستقلال على مصالح فرنسا، بهذا تفرغت فرنسا من جميع المشاكل الخارجية، وجمعت كلما كانت تملك من قوة ورمت بها الثورة في الجزائر. خاض الشعب الجزائري حرب التحرير بكل قوة وعنف ضد الغاصبين، فأصهرته هذه الحرب بحوادثها المؤلمة حتى التحم بعضه ببعض، وأبرزه هذا الانصهار الى الوجود على سجيته الأصيلة، وشخصيته الاسلامية الفذة اللامعة ...

فأصبحت السهول والجبال والأودية والمدن والقرى من أرض الجزائر كلها ميدانا للكفاح، وبطاحا للمعارك الدامية. والاشتباكات الكثيرة، وكان المجاهدون الأحرار يخرجون من هذه الحروب الطاحنة ظافرين منتصرين في كل معركة لأنهم يباغتون العدو ليلا ونهارا حسب ما تسمح به الفرص فينزلون به ضربات قاسية في لمح البصر، ومن بعد ينسحبون بسرعة من ميدان المعركة، لأنهم لا يستطيعون أن يواجهوه وجها لوجه لأنه متفوق عليهم في العتاد والقوة، ومن بعد يختفون لم يقف لهم على أثر، كأن الأرض ابتلعتهم وهذا هو شأنهم في جميع المعارك قلما كانوا يقابلونه. فهذه الانتصارات الرائعة هي التي كان سببا في تحمل الشعب من ويلات الحرب وتمرسه بالآفات، فأصبح لا يبالي كالعذاب الذي سلط عليه من بداية الثورة فكان بعضه في أعماق السجون، والبعض على أعواد المشانق، وتحت شفرات المقاصل، وقذائف المدافع، وقنابل الطائرات كانت تدك القرى والمنازل دكا، وتحرق كل شيء فيها، ورصاص الجند كان يحصد النفوس حصدا لم ينج أحد من هذا البركان المتفجر الا من اتخذ الجبل حصنا وملجأ يكافح ليله نهاره بدون انقطاع، أو فر الى الخارج من هذا الأتون الملتهب، والباقي من الشيوخ والعجزة والاطفال والنساء جمعوا بين الأسلاك الشائكة للعري والجوع والمرض ... والعامل الوحيد لهذا الصبر على هذا الحال، والصمود في وجه العدو، وتحد طغيانه وجبروته، وظلمه بجميع أنواعه هو الإسلام الذي بعث روح القوة والمقاومة التي لا تليق في نفوس المجاهدين، وكان شعارهم (الله أكبر) ... وصلت قوة الجيش الفرنسي في هذه المدة الى خمسمائة ألف جندي مدججين بسلاح الحلف الأطلسي، ويؤيدهم ما يقرب من مليون أوربي جزائري سالت دماء الجزائريين على أرضهم أنهارا، ويا ليت الجيش الفرنسي وقف عند هذا الحد، بل كان يستعمل السلاح الذي حرمه القانون الدولي ضد الجزائريين هذا السلاح الفتاك المبيد لكل شيء (هو النابالم) الذي لم يستعمل في الحرب العالمية الثانية فاستعملته فرنسا ضد الثوار ... كان الجيش الفرنسي يقتل

الأسرى من جيش التحرير، بل يمثل بهم ... استنادا الى وزارة الأخيار للحكومة الجزائرية المؤقتة، والى ما نشرته صحيفة المجاهد تقول: ان جميع المعارك المسلحة العظمى التي قامت بها شعوب آسيا وافريقيا للتحرر، كان الاستعمار فيها يدافع عن وجوده بوحشيه وشراسة، وأصبح استعمال (النابالم) هو السلاح المفضل عنده فقد استعمله في كوريا، وفي الفتنام، وفي الجزائر. لماذا يستعمله؟ لأنه سلاح تدمير شامل، ويحدد مساحة مفعوله، ويحرق كل ما كان على وجه الأرض، وهذا السلاح كان (يحلم به الجنرال بيجو، وسانت أرنو) وكل غزاة الاستعمار. انشئت الحضارة الغربية على التميز العنصري، والعروق الجنسية، فروحها ومفاهيمها ومقاييسها تتصرف إزاء الشعوب التي هي من غير جنسها على أنها لا تقيم لها وزنا، ولا تفهم إلا القوة، إذن يجب ترويعها، ويعلن المعمرون صراحة في الجزائر، (ان الثوار يشيعون الارهاب، وأن الخوف يجب أن ينتقل اليهم) هذا ما قاله الأسقف الفرنسي (ساليج) سنة 1900 م، (ان الخوف والاحتقار والقوة هي مما يلزم للشعوب المتخلفة حتى تبقى مستكينة) وهذه النظرية عند المستعمرين لا تزال تتكرر بدون انقطاع، بل ان الكلمات التي يطلقها علينا المستعمرون تدل على تصورهم لنا، إنهم يطلقون علينا الأسماء التالية: المستعمرات شعوب متخلفة. إفريقيا المحاطة بالأسوار، آسيا المنحطة، النمل البشري، الجماهير المخيفة الديدان الوسخة الى غير ذلك من الأسماء والنعوت التي تدل على تصور الرجل المتمدن لنا. وعندهم ازاء هذا النمل، وهذه الديدان، وهذه العصابات الفوضوية لا يوجد أي جرم في إبادتها، بل ان إبادتها عملية صحيحة في مستوى عالمي إنها داخلة عندهم لي نطاق ابادة الحشرات. وعملياتهم الحربية ضدنا يطلقون عليها أسماء تستوحى من هذه النفسية ذاتها فالجنرال شال أطلق على عملياته التفتيشية

بعملية المشط الدقيق، والجنرال فور سماها عملية التطهير الأكبر، وهذا التطهير عبارة عن عملية الحرق التي لا تبقى ولا تذر. الجيش الفرنسي ظل يستعمل (النابالم) عدة سنوات في الجزائر، وهم الذين كانوا يستنكرون أعمال القائد الأمريكي (مارك ارثر) في كوريا لسنة 1951م وينسون اليوم هذه العملية الوحشية، وأمريكا هي التي تزود فرنسا بهذا السلاح المبيد، فالجزائر توجه التهمة الى هؤلاء المجرمين وهى تحمل في يدها الشهادة القاطعة.

النابالم في الفيتنام

النابالم في الفيتنام يقول الصحافي الكبير (م. دومنياك) مدير جريدة الفكر (اسبرى) الذي أصبح يشتهر باستعمال العنف، ويجمع المتطرفين، ويقول: منذ تسع سنوات ما تزال هناك صفة إنسانية للحرب أو هل ما يزال هناك سبب للاحتجاج على عملية التدمير للسكان الأبرياء؟ ان العالم كله قد تعود على هذه الفكرة وهى أن الحرب عندما تحدث تكون عامة لا رحمة فيها، لقد أصبح من الضروري إبادة العدو بالجملة، وما دون ذلك فهي عواطف سخيفة هذه هي الفكرة التي تحملها الدول المتمدنة إزاء الشعوب المتخلفة، وآخر مولود من أسلحة التدمير للشعوب الضعيفة اخترعه الأمريكان لفنائها وهو (النابالم) وهو عبارة عن جليد من البنزين تلقيه الطائرات، فيحدث حريقا في كل ما يمسه من أرض ونبات، وحيوان ومساكن إنه لا يبقي شيئا وفي الهند الصينية كانوا يظنون أن الحرب التي يخوضونها مع الاستعمار عملية بوليسية ولم يدركوا أنها حرب إبادية الا عندما بدأ فيها (النابالم). ويرجع الفضل الى عبقرية الجنرال الامريكي (دولاتور) كان هو أول من بدأ باستعمال هذا السلاح في معركة هانوي، وأعلن أنه سلاح الطيران، قد أباد (بالنابالم) وحدة للعدو فوق الجبال، ويواصل (دومنياك كلامه قائلا): لم تعد هناك فائدة في الاحتجاج على أعمال الطيران الأمريكي في (كوريا) ولكننا نستطيع أن نطلب من الانسانيين المسحيين والاشتراكيين الذين يحكموننا، هل يتحملون مسؤولية استعمال هذا النوع الجديد من الحرب؟ وهل يهضمونها مع التقاليد التحريرية التي ينادون بها ... ؟ مجلة أسبرى، سنة 1951 م. وفي الجزائر جاء في العدد 49 من كراس الشاهد المسيحي في زاوية يوميات القائم مقام (س) في صفحة 51 ما يلى يوم 23 - 8 - 1958م ان وسائلنا مهولة فلكي نفتح الطريق أمام قافلة كنت

أقودها، تحصلت على 3 سيارات جيب، و 4 سيارات شاحنات، و 5 آلات راديو وطائرة اكتشاف، وقوة نارية كنت أسيرها بواسطة الراديو، و 4 سيارات رشاشة، والى جانب كل ذلك قوة احتياطية، وقوة مدفعية مستعدة في كل لحظة لاستعمالها ضد الغيران والكهوف، وعندنا أخيرا أوعية خاصة تحمل (النابالم) الذي هو سلاح مستعمل بصفة عامة انتهى. صدر أخيرا كتاب الجزائر عمرها عشرون عاما في سنة 1960 م كتبه (الآن مانيفى) المراسل السابق في مصلحة الصحافة التابعة للجيش الفرنسي تحدث فيه عن رحلة في شرق الجزائر فقال: النار! النار! في كل مكان في المرتفعات نشاهد خطوطا هائلة من الحريق تهاجم الجبال، وتصعد الى الغابات وأبعد من ذلك نشاهد النار أنها حرائق مهولة في مساحات شاسعة بعيدة أنها حرائق) النابالم) جبال بأكملها تشتعل وتحترق حتى لا يأوي إليها الثوار!!

النابالم في الجزائر (بقلم جان لاكنر)

النابالم في الجزائر (بقلم جان لاكنر) في صحيفة (لموند) عدد سبتمبر سنة 1958م النص الكامل لهذا السلاح الذي استعملته فرنسا في الجزائر ضد جيش التحرير يقول ضابط من جيش التحرير الوطني عندما سئل عما جرى في معركة جبال الونشريس، فصرح بما يلى: عن عملية (كرون) قال: انتخبت كتائب المنطقة الرابعة والسابعة من الولاية الخامسة، ووحدة الكمندوس التابعة لعبد المؤمن، ووحدة الكمندوس في المنطقة السابعة، والعناصر الرئيسية من أجهزة النظام السري في الولاية الرابعة، انتقلوا كلهم الى الولاية الخامسة، وكان مجموعهم يتجارز 40 رجلا، وبعد ذلك اجتمع ضباط الولاية الرابعة والخامسة، فتسلم سي محمد قيادة العمليات في قطاع باب البكوش من الولاية السادسة، ومعه وحدات الولاية الخامسة 45 كتيبة من الولاية الرابعة من بينها كتيبتان الكريمية والزبيرية وأضيفت وحدات جهوية لتعزيزهم، وبذلك بلغ عدد المجاهدين لا بأس به ... قرر سي محمد القيام باشتباكات مشددة طيلة 15 يوما ضد العدو، وفي أثناء ذلك قدمت الكتيبة الزبيرية من المدية وغنمت 25 قطعة سلاح من بينها مدفع رشاش، وبقينا في اشتباكات مستمرة مع العدو، رغم القذف الجو، واستعمال النبالم ضدنا. النابالم، مستعمل بكثرة ضدنا، وعندما نشتبك مع العدو نحتل المرتفعات فيصعد إلينا العدو، وعن الطلقات الاولى من جانبنا ينسحب الجند الفرنسي من ميدان المعركة، ويبدأ سلاح الطيران في العمل مستعملا الرشاشات والنبالم، يلقى من الطائرات الثقيلة ب 26 والخطة التي يستعملها المجاهدون في هذه الحالة هي أن يلتصقوا بالجيش الفرنسي المنسحب ويلاحقونه وعندئذ يصب (النابالم) على المرتفعات المهجورة، وهكذا فإن خطط حرب العصابات وسرعة الحركة هي التي تمكن جيش التحرير من النجاة من النبالم.

معركة الونشريس: جرت هذه المعركة على الصفة التالية، بقينا 15 يوما في اشتباكات متصلة مع العدو، والعدو لم يكن يتوقع منا هذا الاستقبال فانسحب من المنطقة تاركا منشورا يعطى للمجاهدين مهلة 8 أيام للاستسلام (وفي الوقت نفسه أعلن الناطق الرسمي بلسان القيادة الفرنسية عن إبادتنا جميعا) فسحبنا الجرحى والمصالح الإدارية، وعقدنا اجتماعا جديدا قرر أثناه سي محمد ما يلى: أولا: انسحاب الفرقة الرابعة الى داخل الولاية الرابعة. ثانيا: التوغل في المناطق الخامسة التي كنا انسحبنا منها لنكون فراغا حول العدو بعد المعارك العنيفة التي جرت فيها، وعندما رجع العدو بقوات ضخمة ليسحق كتائبنا التي ألحقت به أضرارا كبيرة لم يجد شيئا فقرر البحث عنا في جبال منطقة الجزائر العاصمة، وفي أثناء البحث كانت كتائب الولاية الخامسة من خلفه تتوغل من جديد في مناطقها، وتوزعت على شكل فرق صغيرة من الفدائيين تتبعهم الأجهزة الادارية والجرحى.

هزائم مريعة في جبل مزى للجيوش الفرنسية الجيش الفرنسى يستعمل النابالم

هزائم مريعة في جبل مزى للجيوش الفرنسية الجيش الفرنسي يستعمل النابالم وصف معركة جبل مزى كما رواها جنودنا الأربعة لمراسل المجاهد في 18 - 5 - 1960 أصدرت وزارة الأخبار في الحكومة الجزائرية المؤقتة بلاغا عن معركة جرت في جبال مزى استعملت أثناءها القوات الفرنسية قنابل النابالم أصابت بها أربعة من جنودنا ... دارت هذه المعركة الرهيبة التي استمرت من 5 الى 8 ماي 1960م في جبل مزى القريب من جنان بررزق في الجنوب الغربي من القطر الجزائز، وكانت قوانا في هذه المعركة مؤلفة من خمس كتائب مجهزة بأحسن الأسلحة وأحدثها، فلديها الى جانب الأسلحة الاتوماتيكية الخفيفة مدافع رشاشة ومدافع الهاون من عيار 81، وأجهزة لا سلكية تسهل لنا الاتصال بالقيادة العليا في كل حين، وكانت قوانا تملك زمام المبادرة في هذه المعركة وتحتل مواقع حصينه فوق القمم العالية، وقد صدرت إليها الأوامر بأن لا تكشف عن مواقعها الا بعد أن يقترب العدو بمسافة قصيرة جدا بحيث لا يتمكن من الانسحاب، ولا يستطيع الطيران والمدفعية المعادية التدخل في المعركة نتيجة تلاحم الجانبين واختلاطهما ... وفي مساء يوم 5 ماي احتلت احدى وحداتنا جبل مزى، بينما أخذت الكتائب الأخرى مواقعها في جبل زرانين المقابل للمركز العسكري الفرنسي في حجرة مقيل، وجبل فرطاسة المواجه لجنان بورزق وهكذا كونت وحداتنا نصف دائرة، وكمنت في احكام لقوات العدو المنتظر مجيئها. وفي صبيحة اليوم التالي قامت أربع طائرات ب 26، وطائرتان ت 6 بعملية استطلاع ثم جاءت بعدها سبع طائرات عمودية فأنزلت الجنود الفرنسيين دفعتين متوالتين في مكان يدعى الحجرة المدفونة، ومن هناك انطلقت القوات الفرنسية تقتفي آثارنا دون أن تعثر علينا لأننا كنا قد أحسنا تضليلها وأخفينا

مواقعنا عنها حتى وقعت في الكمين المنصوب لها دون أن تتنبه وفعلا تقدمت القوات الفرنسية داخل الكمين حتى صارت على بعد عشرين ميتر من مرمى أسلحتنا دون أن تشعر بأي شيء غير عاد، واستعمل المجاهدون عنصر المفاجأة لينقضوا على العدو انقضاضا ساحقا ويصلوه جحيما متواصلا من نيران أسلحتهم الأتوماتيكية، ولم يمر غير وقت وجيز حتى أبيدت تلك العناصر المعادية التي وقعت في الكمين، وبدأت نجدات العدو تتوالى على ميدان المعركة تحت حماية المدفعية الثقيلة التي كانت ترسل قنابلها دون أي ضبط، وتحديد من المراكز العسكرية في جنان بورزق ودرمل، واتسع ميدان المعركة وحمى وطيسها بعد قدوم هذه النجدات، وقد استطاعت قواتنا المتمركزة خلف الصخور المتينة أن تكبد هذه القوات المعادية الجديدة خسائر فادحة، وأن تردها على أعقابها وتضطرها الى الانسحاب بعد أن ترك العدو في ميدان المعركة ما يزيد على 300 جنديا بين قتيل وجريح، وبعد انسحاب القوات البرية تدخل الطيران الذى استمر يقنبل المنطقة حتى منتصف الليل في حين كانت النجدات العسكرية تتهاطل من كل جهة محاولة ضرب الحصار حولنا، ولكن قواتنا استطاعت أن تخرق الحصار وان تشق طريقها حتى بين صفوف العدو ماضية الى مواقع أخرى أكثر ملائمة للمعركة ... ومع مطلع النهار في اليوم الثاني شن العدو عملية واسعة محاولا فرص الحصار علينا من جديد، فتعرض لوابل من النيران، واضطر الى التراجع، وتدخل الطيران والمدفعية مرة أخرى كما قدمت النجدات عن طريق السكة الحديدية، وسيارات النقل، والطائرات العمودية التي تجاوز عددها الثلاثين طائرة، والتي كانت توالى نقل النجدات العسكرية بدون انقطاع غير أن المقاومة البطولية الرائعة التي أبداها جنودنا البواسل جعلت العدو يعتمد في المعركة على الطيران بصفة خاصة، فتدفقت فوق ميدان المعركة أفواج متوالية من الطائرات التي تجاوز عددها الخمسين: طائرة من نوع ب 26، 29 وت، كانت هذه الطائرات تطلق نيران رشاشاتها الخفيفة، وترمي قنابل النابالم، وهي قنابل مستطيلة الحجم تنفجر بمجرد نزولها وتطلق دخانا أسود

يتبعه لهيب متدفق يشق عنان السماء ويلتهم الأحجار والأشجار وكل شيء يعترضه، وتنطلق منه رائحة كريهة تشبه رائحة الكبريت، وقد أصبح ميدان المعركة جحيما من اللهب الذي يزداد انتشارا مع الأرض، وارتفاعا في الجو، ولكن أبطالنا استطاعوا أن يواجهوا جرائم العدو بروح بطولية صامدة، وأن يقتحموا صفوف العدو السميكة التي كانت تفرض عليهم حصارا شديدا، وهكذا شق أبطالنا طريقهم داخل جحيم السماء والأرض، واسطاعوا أن ينقذوا إخوانهم الجرحى رغم تكاثر قوات العدو التي كانت ترد من كل جانب وان يحملوهم الى المواقع الأمينة حيث يجدون العلاج السريع، ثم قدموا الى المغرب ليكونوا دليلا حيا وشهادة ناطقة أمام الرأي العالمي على جرائم الاستعمار الفرنسي ووحشيته التي ستزيد في التعجيل يعمره الكريهة والقضاء عليه الى الأبد ... هذه النصوص اختيرت من المقالات والوثائق التي نشرت بجريدة المجاهد اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني - الجمهورية الجزائرية المؤقتة - وزارة الأخبار ...

صدى الثورة في الخارج

صدى الثورة في الخارج نالت هذه الثورة اعجاب العالم وتأييده حتى الفرنسيين أنفسهم كانوا ينوهون بهذا الكفاح البطولي، ويحثون ولاتهم على التفاهم مع الجزائريين. كانت اذاعة العالم كلها تتكلم على الثورة الجزائرية بكل لسان وتشرح مقاصدها وأهدافها، والأسباب التي ثار الشعب من أجلها، وكانت تشيد ببطولة المجاهدين الأبرار، وتندد بسياسة الاستعمار الفرنسي الذي كان يطبقها على المسلمين. عقد من أجل هذه الثورة مؤتمرات كثيرة في الشرق والغرب رسمية وغير رسمية من جميع طبقات العالم وهيآته بما في ذلك الحكومات والمحافل الدولية وأخص بالذكر منها مؤتمر باندوك الذي تكلمنا عليه سابقا. تبنت الدول الأسيوية الافريقية القضية الجزائرية برمتها لدى جمعية الأمم، وكانت في كل سنة من سنى الحرب تقريبا تقدم الى مجلس هذه الهيئة ما ترى الا الالسن تتبارى والعقول تتصاول وتتقارع بالحجج والبراهين، والأفكار تتصادم والنقاش يحتدم، والمحاورة تشتد وتقوى، وشقة الخلاف تتوسع، والجدال قائم بين رجال الشرق الناهضين، ورجال الغرب الغاصبين من فوق منبر عالمي، رجال الشرف يريدون التحرير والانطلاق حتى يسترجعوا مكانتهم وسيادتهم، ورجال الغرب يحافظون على امتيازاتهم في هذه البلدان، ويسترون مطامعهم الاستعمارية تحت شعار الديمقراطية والأخوة والمساواة. رغم هذه الحروب المهولة التي لم يخمد لها أوار منذ سبع سنوات، ورغم الخسائر التي لحقت الطرفين، ورغم اهتمام جمعية الأمم، وغيرها من الجمعيات الأخرى بإيجاد حل عادل يضمن حقوق الطرفين ورغم تدخل الدول الحليفة وتوسطها لجعل حد لهذه الحرب القائمة على قدم وساق في هذه البقعة من

العالم لينعم سكانه بالسلام ورغم الصيحات التي كانت ترتفع من أنحاء العالم حتى من الفرنسيين أنفسهم، ومن رجال الديالة المسيحية. كلها مطالبة بإنهاء هذه الحرب المجرمة في أقرب وقت ممكن رغم هذا كله لم يتوصل الطرفان الى الحل المنشود ... ولا نعلم قضية شغلت بال الرأي العام العالمي، واهتم بها ساسته الكبار مثل قضية الجزائر والفيتنام في هذا العصر فهزتا كيان العالم قاطبة وحفزتا الشعوب المستعمرة الى خوض معركة الحرية والاستقلال. سببت الثورة الجزائرية مشاكل كثيرة وأتعابا جمة للشعب الفرنسي في الداخل والخارج حتى أصبحت حكوماته عاجزة عن حل هذه القضية، وإرجاع السلم الى هذه الأوطان، بل كانت في سقوط متوال، واقتصادها في انهيار مستمر فبلغت نفقات الجيش المحارب في الجزائر في اليوم الواحد ثلاث مليارات، وأحيانا أربع مليارات من الفرنك القديم. أخذت الأزمات تشتد وتأخذ بعنق الشعب الفرنسي، فأصبحت تهدده بالانفجارات والانقسام لأن الحالة الداخلية كانت تنتقل من سيء الى أسوأ، ولا تقل الحالة الخارجية عنها خطورة، فالعالم كله أدان فرنسا على سياستها المتبعة في الجزائر، وكان يندد بها حتى ضاق الشعب الفرنسي ذرعا بها لأنها لا تعرف الا الحرب ... انقسم الشعب الفرنسي نحو قضية الجزائر الى قسمين، فأحزاب اليسار كانت تطالب بالمفاهمة مع الجزائريين وتسوية المشكل بالسلم، والأحزاب المتطرفة اليمينية من غلاة الاستعمار كانت تعارض كل مفاهمة وكل حل يقع ما لم تكن الجزائر فرنسية ... أصبح الشعب الفرنسي يعقد المؤتمرات تلو المؤتمرات، بل كل حزب كان يعقد مؤتمرا عاما وخاصا فتناقش القضية الجزائرية فيه نقاشا حادا من جميع وجوهها، وتقدم التقارير واللوائح والتوصيات الى الحكومة ... ولما كان منطق الثورة منطقا صحيحا ومعقولا وحجتها قوية وما هي الا امتداد للمقاومة الشعبية التي سبقتها منذ الاحتلال

فتبين للشعب الفرنسي بأن الجزائر ليست فرنسية كما يزعم المعمرون. وما هو الا شعب أجنبي عن فرنسا له كيانه ومقوماته وعاداته أستعمر في وقت ما، والآن هب يدافع عن حقوقه الشرعية، ولهذا اعترف أكثره بالواقع. وأصبح يؤازر الشعب الجزائري في مواقف ويندد بهذه الحرب التي لا مبرر لها ... هذه الثورة غيرت مجرى التاريخ لا في آسيا وافريقيا فحسب، بل حتى في فرنسا نفسها، فإنها غيرت نظريتها العتيقة إزاء مستعمراتها وأصبحت تتفاهم معها على تقرير مصيرها .... ان اصرار الرجل الافريقي والأسيوي على السيادة على أرض آبائه وأجداده أحبط مساعي الاستعمار، وأرغمه على الاعتراف بحقوق الانسان مهما كان ... والفضل في ذلك يرجع الى الثورتين الكبيرتين الشهيرتين في القرن العشرين: ثورة الجزائر الكبرى في افريقيا، وثورة الفتنام في آسيا، فبهاتين الثورتين خسر الاستعمار مستعمراته في كل من القارتين، فانتصار الثورة الجزائرية على الظلم والطغيان كان أكبر انتصار حققته الشعوب المستعمرة في هذا العصر ...

تخطيط للعمليات العسكرية الفرنسية

تخطيط للعمليات العسكرية الفرنسية بدأ قادة الجيش الفرنسي عملياتهم الحربية الواسعة النطاق ضد الثوار باتباع حرب تقليدية، وهي القضاء على الثورة بقتلهم أو أسرهم، ففشلوا في هذه الخطة، ولم ينجحوا، فرجعوا أسباب هذا الفشل الى نقص في العتاد، فضاعفوا من قوتهم وعتادهم الثقيل وزيد في الجيش. هكذا كلما خسروا في حربهم مع الثورة يطلبون المزيد من الجند والسلاح وحكومة باريس لا تبخل عليهم بالإمدادات الضخمة فوضعت تحت تصرف قاداتها في الجزائر كلما كان لها من قوة ومن قوة حلفائها أيضا، وكانت دائما تلبى نداء ضباطها لا ترفض لهم طلبا أبدا حتى بلغ عدد قواتها في الجزائر - بعد عام واحد من اندلاع الثورة - خمسين ألف جندي مزودين بأحدث الأسلحة. جرب جنرالات فرنسا برامج القتال وأنواعه في هذا الوطن وجميع المخططات الحربية الحديثة، واستخدموا جميع أنواع الأسلحة من قديم وحديث، وثقيل وخفيف، ومع هذا كله كانوا يقاسون العجز والفشل والخيبة أمام قوات الثوار المتواضعة وبقي هذا العجز ملازما لهم الى مفاوضة (إيفيا (. كل هذه الأساليب من البرامج الحربية المحكمة، والهجومات العنيفة، واستعمال الآلات الجهنمية على اختلاف أنواعها وأشكالها، والتخريب والتدمير اللذين سلطا على البلاد، والبطش والفتك اللذين استعملا ضد المسلمين لم تغن عنهم هذه القوات كلها ... عندئذ أفاق جنرالات فر نسا على الحقيقة التي لا تقبل الشك بأنهم يخوضون حربا حقيقية، ويقاتلون شعبا قويما عتيدا عقد العزم على استرجاع سيادته المغصوبة وكرامته المهدورة أدرك جنرالات فرنسا هذا كله، وأدركوا أيضا أن عدوهم الذي يقاتلهم ليس بعصابات ثائرة أو من الذين رفعوا راية العصيان

والتمرد لغرض ما، وإنما هو جيش نظامي له كيانه وعقائده وأهدافه، جيش مدرب يتقن فنون القتال، والشعب بأجمعه يحتضنه ويأتمر بأوامره، ويمده بكل ما يحتاج اليه ... وعلى هذه الحقائق الناصعة التي لا موارة فيها أعاد جنرالات فرنسا تخطيط برامجهم الحربية بعد اجتماعات عديدة ودراسات عميقة أسفرت هذه الدراسات عن برنامج حربى يهدف الى استئصال شأفة الثوار، ونشر الخراب والدمار في الوطن، يبدأ هذا البرنامج بهجوم عام شامل على مواقع جيش التحرير، عرف هذا البرنامج باسم المربعات (الكدرياج) أي القتال عن طريق المربعات ... بدئ في تطبيق هذا البرنامج سنة 1955م - توزعت القوات الفرنسية في كامل القطر الجزائري على شكل مربعات تنتشر على طول مواقع الثوار من غربي الجزائر الى شرقيها مع ضرورة تقارب المراكز العسكرية لكى يتسنى نجدة أي مركز يفاجأ بالهجوم حتى تتمكن القوات الفرنسية من إبادة المهاجمين بسرعة ... ولما شنت القوات الفرنسية الهجوم العام على مراكز جيش التحرير، توقف زحف هذه القوات الفرنسية أمام مناعة خطوط الدفاع للثوار، وأخذ جيش التحرير يشن هجوما معاكسا على مراكز المربعات، بحيث كان يشغل بعض المراكز بمناوشات رمزية تقوم بها وحدات صغيرة، وبقية الثوار يكمنون له في الطريق المؤدية الى هذه المراكز ... ومما يسر على جيش التحرير وسهل مهمته تبعثر الجيش الفرنسي وتشبثه فوق أرض الوطن الشاسعة الواسعة الأطراف والأرجاء الممتدة من الغرب الى الشرق، والذى أعانه على تسديد ضرباته الى القوات الفرنسية هو وجود بعض القرى والمدن داخل نطاق هذه المربعات، فكان جيش التحرير يتسلل إليها، ويختفى بين السكان، فلم يستطع العدو أن يميز بين سكان هذه القرى، وبين المجاهدين، فكان يضع الألغام في الطرق والقنابل في المنشآت العمرانية فتنسف المنازل والمصانع

والجسور، وكل من يمر عليها من سيارات ودبابات فأصبحت القوات الفرنسية عرضة لأعمال الفداء داخل خطوطها حتى اضطرت القيادة العليا أمام هذه الأعمال المتواصلة الى إخلاء مناطق العمليات العسكرية من السكان وحشدتهم داخل معسكرات محاطة بأسلاك شائكة، تظن أنها بهذا العمل تضمن عدم تسلل الفدائيين الى المراكز الفرنسية، وأنها في نفس الوقت تقطع التموين على جيش التحرير، فبهذه الخطة تعزل الثوار عن الاتصال بالشعب فيسهل العثور عليهم والتمكن من إبادتهم لهذا جمعت سكان القرى، وحشدتهم في معسكرات الاعتقال. وبعد أن أصبحت مناطق العمليات خالية من السكان تقابلت القوتان وجها لوجه، ودارت المعارك ليلا ونهارا دامت أربعة أشهر لم يتوقف القتال خلالها ولو يوما واحدا. فكانت المعارك تدار حتى بالسلاح الأبيض، فظهر حينئذ لجنرالات فرنسا قصور برامجهم عن تحقيق الأهداف التي رسموها فأصبحت القوات الفرنسية مرة ثانية عرضة لهزيمة محققة لوعرة السلوك والدروب، وسرعة حركة الثوار فعدل جنرالات فرنسا عن هذه البرامج، ورجعوا الى برامجهم التقليدية لقد جلب حرب المربعات (الكدرياج) الى جانب الفضيحة العسكرية العار والخزي لفرنسا لأنه لطخ سمعتها ومرغ شرفها في الأوحال، لقد استفاد جيش التحرير من برامج المربعات وإخلاء السكان من مناطق العمليات، كان جيش التحرير يقلل ما استطاع من هجوماته على العدو في المناطق الأهلة بالسكان خوفا من انتقام الجيش الفرنسي من الأهالي فلما أخليت المناطق من السكان تجرد للقتال بلا خوف، وفي النهاية تغلب الثوار على أكثر مراكز العدو. كان الجنرال ديغول منذ الساعة التي تسلم فيها الحكم يشارك في الخطط والبرامج الحربية لسحق الثوار، وقد خط برامج كثيرة شارك فيها القادة العسكريون والمدنيون من المتطرفين وغلاة الاستعمار على السواء، فالعسكريون من جهتهم كانوا يستعملون القوة بجميع أنواعها وأشكالها الفظيعة من التنكيل والتخريب والقتل الجماعي، وكانوا مخيمين في جميع القرى والمدن والأحواز يحصون على السكان أنفاسهم وحركاتهم

وسكناتهم ... والمدنيون من ناحيتهم يبرقون ويلوحون بالوعود الكاذبة والحلول الزائفة والدعاية المغرية لكن سرعان ما تخبط ديغول وأتباعه وقواده وسائر مؤيديه من الطغاة الذين يستعبدون الناس فوجدوا أنفسهم جميعا يتخبطون في متاهات لا حد لهما ودوامة لا قرار لها، فلم يكن الجنرال ديغول أسعد حظا من أسلافه الذين كانوا في الحكم إذ لقيت مشروعاته الحربية نفس المصير من الخيبة والهزيمة الذى لقيته البرامج السابقة، وقد أدرك حينئذ أن عجز الحكومات السابقة عن قمع الثورة لم يكن نتيجة تقصير كما يشاع، وإنما قوة الثورة هي التي كانت سببا في فشل الحكومات ...

عملية التطهير المعروفة بعملية (جوميل)

عملية التطهير المعروفة بعملية (جوميل) بدأت القيادة العليا للجيش الفرنسي تفكر في خطة أخرى للقضاء على الثورة بعد ما فشلت في جميع برامجها وخططها الحربية، وراح جنرالات فرنسا يعصرون أفكارهم مرة أخرى، وبعد عدة من الشهور بذلوا فيها جهدا غير قليل من التفكير، وأخيرا استطاع الجنرال شال القائد العام للقوات الفرنسية في الجزائر أن يعثر على برنامج جديد وسرعان ما أبدا ارتياحه التام وإعجابه الشديد بهذه الخطة وقال الآن أصبنا الهدف، وبدأ يختار لهذا البرنامج من الأسماء وكلما أطلق عليه اسما من الأسماء لا يعجبه فيبدله باسم آخر فمرة يسميه الشرارة، وبعد حين يعدل عن هذا الاسم ويسميه التوأمين الى غير ذلك من الأسماء التي توافق النتائج المرجوة منه ... ولما عزم على تطبيق هذا البرنامج أعلن عنه أنه سيسحق الثورة ويبيد جيش التحرير. مهد الجنرال شال لبرنامجه هذا بحملة كبيرة في الصحف وأشاد بهوله وخطورته، وراحت الدعاية الفرنسية تعظم من شأنه، وقد أشرف الجنرال ديغول على إعداد ما يلزم لنجاح هذا البرنامج الخطير فزاد في عدد القوات المقاتلة في الجزائر من خمسمائة الى سبعمائة ألف جندي ... حرص الجنرال شال على تجنب الأخطاء التي كشف عنها فشل البرامج السابقة عند تطبيقها في ميادين القتال، وأهم هذه الأخطاء هو تشتيت القوى المقاتلة، وبرنامج شال يحرص على جمع القوات الفرنسية والهجوم بها على مواقع جيش التحرير، ويكون على موقع بعد موقع، وبعدما ينتهى من تطهير منطقة من مناطق الثوار، ينتقل الهجوم الى المنطقة المجاورة، وهكذا حتى يقضي على قوة جيش التحرير الموزعة بين الولايات والممتدة من غرب الجزائر الى شرقها ... بدأ الجنرال شال بتطبيق برنامجه على الولاية الخامسة في وهران، زحفت القوات الفرنسية على امتداد الولاية دون أن

تصطدم بوحدات جيش التحرير، انتهت العملية في هذه المنطقة، واعتقد الجنرال شال قد نجح، وأن منطقة وهران قد تطهرت من الثوار، وأخذت صحف الاستعمار تشيد بهذه الانتصارات الباهرة، وتغنى راديو باريس بهذه العمليات الحربية الموفقة الناجحة التي قام بها الجنرال شال في 17 من أفريل 1959م، نشرت الصحيفة الاستعمارية (الجنرال ديغول) يهنئ القادة العسكريين على عملياتهم الأخيرة في وهران وفي الحال وجه الجنرال شال كل ما لديه من قوات للولاية الرابعة، وما كادت قواته تخطو أولى خطواتها داخل الولاية الرابعة حتى نشط جيش التحرير الذي كان في الولاية الخامسة الذي كان مختفيا حتى ذهبت الحملة العسكرية وأخذ يهاجم قوات شال من خلف، ولم يكن شال يتوقع هذا، لأن الولاية الخامسة قد تم تطهيرها، وتوهم شال أن هذه الوحدات الصغيرة هي كل ما لدى الثوار من قوات في هذه المنطقة فواصل زحفه على الولاية الرابعة، ولم يكد يتغلغل فيها حتى فوجئ بهجمات جيش التحرير تنهال عليه من الولاية الخامسة، فوقعت القوات الفرنسية في مأزق لم تكن لها به علم، وتحتم على القائد العام للقوات الفرنسية ان يختار من أمرين واحدا إما أن يطلب النجدة من فرنسا ليرد بها هجمات جيش التحرير، وإما أن يقسم قواته ليدافع بها في الجهات التي فتحها له الثوار ... أما طلب النجدات من فرنسا فقد كان مستحيلا تقريبا لأن القوات الاحتياطية من الجنود التي كانت في الجزائر، قد دفع بها الجنرال شال الى الولاية الرابعة، وكانت حكومة الجنرال ديغول قد رفضت جميع الإمدادات العسكرية الى الجزائر، فلم يبق الا تقسيم قواته ... وهكذا وجد الجنرال شال نفسه في الخطأ الذي حرص على تلافيه، فقد أجبره جيش التحرير على تشتيت قواته، وأصبحت برامجه لا تختلف عن سابقتها من البرامج الأخرى. لقد بدئ برنامج شال في وهران، والونشريس، ثم الحضنة وأخيرا في بلاد القبائل وفي المنطقة انتهى برنامج شال ولم يعد صالحا للعمل ...

كانت عملية (جوميل) تمثل في نظر فرنسا المرحلة الخامسة، ونظرا للدعاية التي أثيرت حولها، والآمال الكبيرة التي علقتها عليها حكومة فرنسا والرئيس ديغول. اختصت هذه العملية بتطهير منطقة بلاد القبائل من جيش التحرير تمتد مساحة هذه العملية من مدينة دلس الى شرقي مدينة بجاية ساحل البحر ومن الجنوب تمتد من مدينة البويرة الى قرية قنزات، واستعملت القيادة العليا الفرنسية في هذه العملية أكبر قوة مسلحة كما صرح بذلك الجنرال ((زلير)) القائد العام فقال: (لقد وضع في متناول الجنرال شال كل القوى اللازمة لنجاح عملية "جوميل") وأجمعت الصحف الفرنسية على أنها أضخم وأكبر عملية حربية نظمت في الجزائر منذ بداية الثورة ... بدأ الهجوم بمحاصرة بلاد القبائل وفق الخطط التالية، قامت الطائرات العمودية بنقل جنود المظلات الى جبل "أكلفادو" شرقي العزازقة، وهو مركز من مراكز الثوار الهامة، وفي نفس الوقت كانت سفن الأسطول تنقل الجنود الى الشاطئ الصخري عند رأس (سيقلي) غربي مدينة بجاية، وانطلقت الجنود تتسلق الجبال وتتخذ مواقعها عند المسارب والدروب الجبلية الضيقة بينما قامت أربعة آلاف سيارة مصفحة، ومائتا دبابة بمحاصرة الطرق الكبيرة، ولم تقتصر عملية "جوميل" على محاصرة جيش التحرير بمنطقة القبائل فحسب بل شمل الحصار مآت المدن والقرى الواقعة في نطاق العملية وعدم الدخول إليها والخروج منها وكان الجند يفتش جميع المنازل والأكواخ، وكان يساعد القائد العام الجنرال شال في هذه المعركة الخامسة التاريخية الجنرال فور وآخرون ... بادر جيش التحرير الى تجزئة وحداته الى وحدات صغيرة قليلة العدد، وعمل على تجنب المعارك، وهو نفس العمل والخطة التي اتبعها في وهران، وجبال الونشريس غير أنه كلف فرقة خاصة بعمليات تخريب المواصلات، وبث الالغام في طريق السيارات الحربية، ونصب الكمائن للقوافل العسكرية. رغم القوات الفرنسية الكثيرة لم تتمكن من اكتشاف مواقع جيش التحرير فوجدت فراغا هائلا في الجبال والغابات والشعاب،

ورغم هذا الحصار المحكم كان الفدائيون يتسللون الى داخل مدينة بجاية ويهاجمون مراكزا عسكرية، ويخطفون اثنين من المعمرين، وفي اليوم التالي من بداية العملية عثرت القيادة الفرنسية على جثث مائتين من جنود المظلات أبيدوا جميعا على أثر نزولهم من الطائرات العمودية فوق جبل "اكفادو" بينما جرح مائة آخرون أثناء هبوطهم، وفي نفس اليوم قتل جيش التحرير واحدا وعشرين جنديا من جنود فرفسا، وجرح ثلاثة وأربعين في اشتباكات خفيفة وقعت في كل من مدينة صدوق، وأقبو، وفي قرية تيقزيرت وفي جبل أنشار ... ومع هذه العمليات كلها فإن القوات الفرنسية لم تقف على أثر لوحدات جيش التحرير، فأخذت تنتقم من السكان الأبرياء كما هي عادتها، فكانت تضرم النار في القرى والغابات الواقعة في نطاق هذه العمليات بقنابل النابالم المحرقة، وعلى هذه الخطة دارت معركة "جوميل". ولما بدأت القوات الفرنسية في تطبيق برنامج شال في بلاد القبائل أكثرت من التصريحات قبل العملية بتأكيد الانتصارات والقضاء على الثورة، فأكد الجنرال شال عدة مرات بأنه سيتمكن عن قريب من القضاء على التورة (بالقوة العسكرية) وصرح ناطق بلسان القيادة الفرنسية الى صحيفة "لورور" الفرنسية في عددها الصادر 31 - 7 - 1959 قائلا سنعرف في أقل من شهر إن كانت هذه الحرب ستستمر الى ما لا نهاية لها أم انها ستنتهي في القريب، وأستطيع أن أؤكد أنها ستنتهي في القريب ... ولما فشلت هذه العملية، وخاب الجنرال شال في برنامجه في بلاد القبائل خيبة تامة كما خاب سابقا في المناطق الأخرى، أخذ جنرالات فرنسا يحاولون أن يستروا هزيمتهم الشنيعة بأقوال جوفاء، فصرح الجنرال فور يوم 3 أب - 1959م قائلا: (الواقع أن عملية جوميل ليست شيئا خارقا للعادة، إنها ليست إلا استمرارا للعمليات، وظروف الحرب في الجزائر تفرض علينا أن نغير في كل يوم نفس العمل الذي قمنا به أمس، هذه الحروب تتطلب منا .. أن يكون السكان في معونتنا، وإذا لم نحصل على

تأييد السكان ومعونتهم لنا، فإن هذه الحرب لن تكون لها نهاية، وفي اليوم التال نشرت الصحف الفرنسية تصريحا للجنرال شال قال: (الواقع أن عملية جوميل صعبة وشاقة إلا أننا نعرف ذلك منذ البداية، فالعدو يذوب بكيفية عجيبة كالزئبق لكننا سنتمكن من الانتصار عليه ( ... وإذا قارنا هذا الهجوم بالهجوم الذي وقع في شهر نوفمبر سنة 1958م الذي قاده الجنرال فور، فنجد أن هجوم شال لا يعد شيئا بالنسبة إليه، الجنرال فور في هجومه العام حشد كل ما كان في الجزائر من قوات مسلحة وقاد في هجومه سبعة عشر جنرالا من بينهم ماسو، راؤول سالان، ميزروج الخ ... واستمر الهجوم شهرين من القتال المتصل، وانتهى بالفشل التام ... ولقد فشل برنامج شال في مناطق وهران، وتجمد في بلاد القبائل كما تجمدت صخورها. وإني أسوق الى القراء الكرام ما قاله أحد الضباط الفرنسيين الذى كان مشاركا في عمليات جبال الونشريس نشرته صحيفة (لي مانيته) الفرنسية في عددها الصادر في 8 شهر تموز 1959م قال الضابط الفرنسي "الحقيقة أن جبهة التحرير منظمة حتى داخل مراكز التجمع، ويجب أن نعرف ما يختفي وراء البلاغات الفرنسية من حقائق، فقد سمعتم من غير شك عن العمليات الكبرى التي جرت في الونشريس، وعن نجاحها، الواقع إننا لم نتعمق في المناطق المنيعة أكثر من 25 كلم، ولم نحصل على أية نتيجة جديدة من الناحية العسكرية، أما الجبال فهي محرمة على جنودنا، فلا يضع فيها واحد منا قدمه، وفرق الكوماندوس الخاصة بعمليات المطاردة لا تتوغل بعيدا، أما عدد القتلى في بلاغاتنا نعد فيها جميع الضحايا المدنيين بما فيهم من نساء وأطفال، وقد تمكن الثوار من أن ينتزعوا منا السلاح خلال هذه العمليات لكننا نحن لم نتمكن من العثور على سلاح واحد للثوار مما أعاد الى أذهاننا ذكرى الهند الصينية ...

لقد خاب برنامج شال في جميع خطواته رغم أنه عزز برنامجه باختيار القادة الذين لهم دربة ومهارة أمثال ((بيجار)) كلما أتى بوحدات خاصة من جنود المظلات لمطاردة جيش التحرير في الجبال ... وأسوق بعض آراء العسكريين الفرنسيين قال ((بيجار)) يوجد في الجيش الفرنسي بالجزائر جنرالات أكثر من اللازم مع أن المعارك تربح في الميدان لا في مكاتب الجنرالات، وكذلك كثرة السيارات والدبابات فإنها تعرقل الجيش عن خفة الحركة وتعوقه عن سرعة القتال ... سافر الجنرال ديغول بعد ما مضى على عمليات ((جوميل ((شهران الى الجزائر، واجتمع بشال وجميع القادة العسكريين والضباط المشرفين على تسيير العمليات، وأخذ يبحث معهم على النجاح الذي أحرزوا عليه في هذه العملية الواسعة، فوجد مظاهر الفشل أكثر من مظاهر النجاح، وإذا كان ثم نجاح في هذه العمليات فسرعان ما يتلاشى. فوقف الجنرال ديغول في مركز القيادة (أرتوى) فعملية)) جوميل)) كانت تسير من هذا المركز، وحاول أن يتعرف على كيفية تطبيق برنامج شال على هذه المساحة الشاسعة التي يمتد طولها الى أكثر من ألف وخمسمائة كلم، قال الجنرال شال هذه هي خريطة الجزائر، وكلما نجحنا في تهدئة جهة من الجهات طوينا الجانب الذي تقع فيه هذه الجهة، إننا بدأنا هجومنا على معاقل الثوار من الحدود المغربية من ناحية غرب الجزائر وسنواصل هذا الهجوم الى الحدود التونسية من الشرق ونضمن أن لا نرجع الى الوراء مطلقا، فإذا ما وصلنا الى الحدود التونسية بهذا الزحف تكون التهدئة قد نجحت، وعندئذ نستطيع أن نعلن للعالم أن الحرب في الجزائر قد انتهت ... وعلى ضوء هذه الخطة المسطرة استعرض الجنرال ديغول كل مراحل هذه البرامج منذ أن بدئ بتنفيذها في أوائل فبراير سنة 1959م - فوجد أن البرنامج بدأ من الغرب أي من الولاية الخامسة من مقاطعة وهران، ثم تقدم الى الونشريس، فجبال

الحضنة، ثم واصل سيره الى بلاد القبائل حيث توقف تماما وعجز عن مواصلة زحفه الى بقية مناطق الثورة شرقا عندئذ أدرك الجنرال ديغول الفشل الذى أصاب برنامج شال لأنه لم يستطع أن ينتهى من أعماله الحربية من الناحية الغربية حتى عاد نشاط الثوار من جديد الى مقاطعة وهران كما كان من القوة والاتساع، وكذا عاد نشاط الثوار الى جبال الونشريس، وجبال الحضنة وقتل جنرال كبير وهو ((جارو)) واثنان من ضباطه الكبار خلال إحدى المعارك. وفي اليوم الذى غادر فيه الجنرال ديغول تلقى تقريرا رسميا عن العمليات الحربية فوجده مليئا بهجمات جيش التحرير امتدادا من الغزوات في غرب الجزائر الى القالة في شرقها، كان يتلو أنباء المعارك التي دارت في ذلك اليوم في وهران، والونشريس والحضنة وقسنطينة، وسوق أهراس حتى فوجئ بمصرع الجنرال جارو في إحدى المعارك ... ولمس الجنرال ديغول تغير نغمة ضباطه بحيث صار الجنرال شال يطالب بمزيد من الامدادات. ولما سأل الجنرال ديغول القائد العام في الجزائر وأركان حربه عما إذا كان بوسعهم تحديد موعد انتهاء عمليات التهدئة أجابوا بأن ذلك متروك للظروف الحربية وحدها، ولا يمكن التنبؤ به ولو بصفة تقديرية لصعوبة الموقف، وعلى إثر ذلك صرح الجنرال ديغول قائلا: إذن لا يزال الطريق أمامنا طويلا ... هذا ما كان من برنامج شال القائد العام للقوات المسلحة في الجزائر فإنه باء بالفشل التام والخيبة المريرة، وتبخرت آمال جنرالات فرنسا في الهواء، لقد عجزوا عن تحقيق أي انتصار عسكري على جيش التحرير، وأفلسوا في جميع برامجهم وخططهم الحربية بحيث أحبطت لهم الثورة جميع الهجومات العنيفة.

اصطدام التطرف الفرنسى بالواقع الجزائري

اصطدام التطرف الفرنسي بالواقع الجزائري لقد ثبت لدى الجنرال ديغول، ومن سبقه من حكام فرنسا عجزهم عن قمع الثورة عن طريق القوة الحربية، بلغت الثورة الجزائرية في هذه المرحلة الأخيرة مبلغا عظيما من القوة، تعقدت الأحوال وتشعبت الأمور في جميع الميادين، فأصبح الشعب لا يفكر ولا يحلم الا بالقتال دفاعا عن النفس والوطن، وتصلب كل من المتخاصمين في موقفه الذى اتخذه لنفسه، والحرب مشتعلة الأوار، ولهيبها في تزايد وتصاعد رغم التضحيات الجسيمة التي تكبدها الطرفان المتحاربان، وكل الحلول فشلت عن حل هذه القضية الشائكة رغم توصيات جمعية الأمم، ولا الوساطة التي كانت تعرض نفسها لحل هذه القضية، ولا صرخات الشعوب المنددة بهذه الحرب القذرة ولا الخسائر الفادحة التي أودت بالأموال والأنفس، إذن ما هذه القضية التي استعصت، عن جميع الحلول؟ هذه قضية الجزائر فهي بالنسبة لكل من المتحاربين قضيه حيوية فالفرنسيون يعتبرون القطر الجزائري أرضا فرنسية بحته ويعتبرونها أيضا همزة وصل بينهم وبين مستعمراتهم المنتشرة في القارة الافريقية، وعلى هذا الأساس إذا استقل القطر الجزائري، فيضعف الاتصال بين فرنسا ومستعمراتها، وتفقد أيضا ضفة البحر الأبيض المتوسط الجنوبية، وهذا ما وقع فعلا. ولهذا كان المسؤولون من الفرنسيين يصرحون دائما بقولهم، كيف تكون فرنسا بدون الجزائر؟ فإنهم كانوا يعتبرون الجزائر خطا ثانيا للدفاع عن فرنسا، وهذا ما وقع بالفعل في الحرب العالمية الثانية، لما احتل الألمان أرض فرنسا لجأت الحكومة الفرنسية الى الجزائر، ومنها واصلت الحرب ضد النازيين ... وباستقلال شمال افريقيا يفقد الغرب مركزا هاما للدفاع عن مصالحة الحيوية، وهذا معنى تصريح رؤساء الحكومات الفرنسية فإنهم كانوا يقولون الحرب القائمة في الجزائر ما هي

الا دفاع عن الغرب وسلامته من الأخطار التي تهدده في المستقبل ... هذا هو سر تصلب الفرنسيين بخلاف الفوائد الأخرى التي يجنونها من هذه الأقطار، فهي بالنسبة الى النفط الأولى تعد ثانوية ... وسبب تصلب الجزائريين في مواقفهم فهو معروف لأن حكومة الجنرال ديغول وقفت منهم موقفا لا يستطيع أحد أن يفهمه بحيث عمدت الى شعوب افريقيا السوداء فمنحتها استقلالها ومنعت منه الجزائريين الذين يقاتلون من أجله مقاتلة شديدة وأرغمتهم على التفرنس بالحديد والنار، وأقحمتهم قسرا في صلب الدستور الفرنسي، بأن لا شيء لهم الا الاندماج في الشعب الفرنسي. لما رأى الجزائريون حياتهم مهددة بالاضمحلال والفناء من هذا القطر كما هو معلوم لدى العام والخاص استماتوا في كفاحهم ضد الاستعمار، وأصبحت لهم هذه الحرب قضية موت أو حياة، فالجزائريون يختارون واحدا من اثنين: إما شعب متحرر من جميع القيود مستقل من السيطرة الأجنبية، يباشر سيادته كاملة، وإما موت نهائية لا حياة له في هذا الوطن فاختار الاول، هذا هو سر تصلب الجزائريين، وسر خلق المشاكل والصعوبات التي اعترضت حل هذه القضية ... هذه الثورة أفقدت قادة فرنسا رشدهم، وأخرجتهم عن اتزانهم فجعلتهم يفقدون كل سيطرة على أعصابهم حتى ارتكبوا أغلاطا فاحشة وأعمالا إجرامية كبيرة لا ينساها لهم التاريخ ولا تتسامح لهم بها الأجيال الصاعدة. اصطدمت فرنسا بمقاومة شعبية صلبة منذ الاحتلال لا تعرف التراجع ولا تخشى العذاب، ولا ترهب من الموت، وبعقلية صحيحة لا التواء فيها ولا غموض لأن الشعب الجزائري صريح لا يعرف طريق اللف والدوران، إما أن يأتي بحقه كاملا، وإما أن يتحطم ... وفي هذه المصادمات وقع ما وقع من خسائر وويلات ونكبات مما لا يستطيع أحد أن يعبر عنها، وفي النهاية تغلب الحق على

الباطل مع كثرة جيوشه، وقضى على جبروت الاستعمار وغطرسة القادة الفرنسيين، وعلى العنصرية البغيضة والأنانية الجامحة، والنظريات المتطرفة والعقليات المتحجرة .. كانت سياسة فرنسا سياسية عدم تفاهم مع جميع الشعوب التي تحت سيطرتها، ولهذا كانت دائما تفضل الحرب على التفاهم، وهذه السياسة التقليدية استعملتها في الهند الصينية، وتونس والمغرب العربي رغم معاكسات الظروف لها، وانفردت بها عن بقية الاستعمار العالمي، بحيث بقيت وحدها متمسكة بنظريتها الرجعية التي أكل وشرب عليها الدهر، ولولا ثورة الجزائر الكبرى أرجعتها إلى صوابها حتى أصبحت تتفاهم مع مستعمراتها في الشرق والغرب لكانت لا تزال تواصل الحرب معها الى الآن والى الغد ... وكل حكومة من حكومات فرنسا صعدت الى الحكم في إبان الثورة الجزائرية الا واستعملت القوة أكثر من الحكومة التي سبقتها ... فحكومة (قى مولى) الاشتراكية هي التي أوصلت الجزائر الى الهوة السحيقة بتشددها واستعمال القوة الرادعة في وجه الجزائريين ولو أبدت استعدادا للمفاهمة أو على الأقل تطبيق برامج حزبها الاشتراكي بشرط أن تكون مخلصة فيه، فلعل لم تصل الحالة الى ما وصلت اليه ... ولما غادر (قى مولى) الحكم أصبح يحمل لواء المعارضة ويحث الحكومة التي أخلفته على التفاهم مع الجزائريين. ويقول في تصريحاته الكثيرة (الانتصار بالقوة مستحيل). وهذا الجنرال ديغول لعل الرجل الوحيد الذي يستطيع أن ينفذ ارادته، ولا يخشى من المعارضة، لما صعد الى الحكم أخذ في استعمال القوة أضعافا مضاعفة على ما كان عليه أسلافه، ولم يقبل الوساطة ولا التفاهم مع الجبهة المسيرة للشعب الجزائري، وكان يراوغ ليغالط الرأي العام العالمي، وظهر من أول صعوده الى الحكم بمظهر محرر الشعوب، فجدد الدستور ومنح الأقطار الافريقية السوداء استقلالها الشيء الوحيد الذى من أجله

يحارب الجزائريون بمنحه الى غيرهم من الأقطار الأخرى، ويعارض الجزائريين بالقوة في آمالهم ... ولما عجزت قواته عن إخضاع الثورة تمنى لو يجد أناسا من الجزائريين لم يشاركوا في الثورة ليتفاهم معهم على سياسة التدريج والمراحل ولكنه لم يجد حتى هذه وباء بالفشل الذريع في جميع المحاولات ... هذا السلوك الملتوي المعوج من قادة فرنسا هو الذي وقف عقبة كأداء في سبيل التفاهم والسلم الحقيقي. وإذا نظرنا الى ما تحتله الجزائر في الأوساط الفرنسية من المكانة المرموقة لعل نلتمس العذر لهؤلاء القادة، فأي حكومة كانت تستطيع أن تبت في القضية الجزائرية بدون موافقة الأحزاب، وبصفة خاصة أحزاب اليمين المتطرفة؟ ولهذا كلما تشكلت حكومة تخشى من المسؤولية إذا هي أعزمت الحل بدون رضى الأحزاب. فكانت تخشى من نشوب حرب أهلية، ولما لا تجد مخرجا من هذا المأزق تقدم تسليمها وتغادر الحكم، وتترك الحالة كما هي، وهذا ما وقع فعلا، فالمعمرون وأحزاب اليمين وقادة الجيش ثاروا على حكومة فيملان لما عزم هذا على المفاوضة مع جبهة التحرير الوطني. وكذلك الجنرال ديغول لما صمم على حل القضية ثار عليه قواده والمعمرون في الجزائر. وفي النهاية بدأ الشعب الفرنسي بصفة عامة، والمسؤولون بصفة خاصة يدركون مطالب الشعب الجزائري، وأهميتها الكبرى واستماتتهم في سبيلها، وتحققوا من أن الشعب لا بد أن يصل الى حقوقه عاجلا أو آجلا، وسيصبح عربيا مسلما لا كما تدعى فرنسا بأنه قطعة منها واستعمال اللقوة لن يجدي شيئا ...

معاملة جنرالات فرنسا للشعب الجزائري ومخططاتهم الحربية

معاملة جنرالات فرنسا للشعب الجزائري ومخططاتهم الحربية ان جنرالات فرنسا كلهم تقريبا لا انسانية لهم اذا نظرنا الى أعمالهم الاجرامية التي يتكلم عنها التاريخ أيام الاحتلال لهذا الوطن وأيام ثورة 1954م التي شاهدناها نحن بأنفسنا يبقى الانسان مدهوشا أمام وحشيه هذا الشعور ... فكر هؤلاء القادة حقا في إبادة الشعب الجزائري عن طيب خاطر بحيث جعلوا من التقتيل والتخريب والتهديم مذهبا يدينون به ومبدأ يطبقون بنوده، فجنرالات فرنسا هم الذين قاموا بمأساة الحرب الجزائرية المريعة قال مجرمهم الأكبر السفاح الجنرال (بيجو) في خطبته التي ألقاها في مجلس النواب بتاريخ 16 يناير سنة 1840م - فقال إننا في حاجة الى جحافل دهماء من المعمرين الفرنسيين والاوربيين لنجلبهم إلى الجزائر، فمن اللازم أن تعطوهم أراضي مرعة، ومراعى ترعى أنزلوا بها المعمرين ولا يهمكم أمر أربابها ... يجب توزيع هذه الأراضي للأوربيين حتى يصبح أهلها الأولون نسيا منسيا، وأخيرا يجب أن نجعل نصب أعيننا هدفا متينا محكما هو أن ننشئ إقليما فرنسيا، ولذا فإننا في أمس الحاجة الى غزو واسع النطاق يشبه غزو الغوط وإن لم نفعل هذا ستكون نتيجتنا أوهن من نسيج العنكبوت. وشاطره في هذا الرأي الجنرال روفيقوا القائد الأعلى لجيش الاحتلال فقال: (حيث أننا لن نستطيع أن نمدنهم فما بأيدينا إلا إقصاؤهم في الفيافي والغفار، ويستبعدون كما تستبعد الوحوش الى الأماكن النائية، ويتحتم عليهم حينئذ أمام اتساع رقعة استيطاننا وتعميرنا الا التقهقر نحو الصحراء والمغاوير. جعل جنرالات فرنسا أرض الجزائر نهبة الناهب محفوفة بالأرزاء منزوفة بالدماء حتى كادت تصبح قاعا صفصفا ... قال

الدكتور بوديسون في كتابه خواطر عن الجزائر سنة 1954م لا يهم فرنسا أن تخرق في سياستها الاستعمارية المقاييس الأخلاقية وقيمها، ولكن الذي يهمنا قبل كل شيء هو تأسيس مستعمرة نملكها بصفة نهائية، ننشر على الشواطئ البربرية المدنية الأوربية، ومن البديهي أن أقرب الطرق لبلوغ غايتنا هو نشر الرعب، ففي استطاعتنا أن نحارب أعداءنا الافريقيين بالحديد والنار، وأن نضرم نار الفتنة بين قبائل التل والصحراء وأن نبلو السكان باستهلاك الكحول ونشر الفساد وبث عقارب النزاع والفوضى بينهم (. قال أندري مورو في مكسيكو أمام جماعة من الطلبة عن الاستعمار الفرنسي الإنساني قال: (ان الاستعمار في روحه وصلبه لا يمكن أن يكون إنسانيا ما هو الا قتل واغتيال (. وكان جنرالات فرنسا يتشوقون دائما الى دماء العزل والضعفاء والأبرياء من الشعب الجزائري شامخين بأنوفهم مزهوين بأنفسهم مغترين بقوتهم حانقين على الثوار غاضبين على الشعب ولقد أسند لهم الحكم في هذا الوطن إبان الثورة، وأطلق لهم العنان في التصرف التام في الشعب بدون مراقبة، وهم في ثورة شديد من الغضب والحقد على الجزائريين الذين وقفوا في وجوههم طيلة هذه السنين من الحرب، وهم من هم مكانة وشهرة في العالم؟ جمع هؤلاء الجنرالات السكان من رؤوس الجبال والسهول والأرياف والصحارى، وحشدوهم مع أهليهم وذويهم من نساء وأطفال وعجزة داخل معسكرات محاطة بأسلاك شائكة، ومن بعدها أقاموا عليهم حراسا شدادا غلاظا لا يعرفون للرحمة معنى، بعدما دكت منازلهم دكا وأتلفت محصولاتهم، وحرقت قراهم، بحيث ترك المسلمون كل ما كان لهم من دور ومتاع وضيعات، وأجبروهم على الاقامة في هذه المحتشدات مختلطين بعضهم ببعض كالحيوانات التي تساق الى الحضائر، وتركوهم فريسة للجوع والعري والأمراض، فكانت الأوبئة تفتك بهم فتكا عظيما، ففزع العالم عامة والشعب الفرنسي خاصة لما يجريه هؤلاء

القادة من مذابح جماعية بطيئة رهيبة لأن سكان البادية تقريبا زج بهم في هذه المحتشدات الهائلة، البلاغ الرسمي يعترف بأكثر من مليون جزائري بين هذه الأسلاك الشائكة. توالت الاحتجاجات على هذه الأعمال الوحشية من طرف العالم وقام الأحرار من الشعب الفرنسي من ناحيتهم بحملة دعائية واسعة في الصحف، فكانوا ينددون بأعمال المعمرين وفضح جرائمهم، والتشهير بالظلم والابادة التي كان يجرونها قادة الجيش في الجزائر ... اضطرت الحكومة الفرنسية الى تشكيل لجنة للتحقيق في أوضاع هذه المعسكرات ونزلائها، كانت هذه اللجنة مؤلفة من ستة أعضاء موظفين كلهم فرنسيون، وهم بطبيعة الحال خصوم للثورة، وبعد أن زارت خمسة عشر معسكرا رفعت الى الحكومة التقرير الآتي، وهذا نصه قالت فيه ... 1 - إن جميع المعسكرات والتجمعات أقامتها القوات الفرنسية بمحض سلطتها والأسباب التي دعت الى اقامتها هي أسباب عسكرية بحته، وهى تنظيف المناطق التي ينشط فيها الثوار. 2 - ليس لهذه المعسكرات سجل رسمي، وهو ما لا نستطيع بصفة رسمية أن نؤكد عددهم على وجه التحديد الا أن المؤكد لدينا هو أنهم لا يقلون عن مليون شخص. 3 - لاحظنا أن عدد الرجال في هذه المعسكرات أقل بكثير من عدد النساء. 4 - كلما يحدث تجمع منا هذا القبيل تنقطع أسباب الحياة بشكل يكاد يكون تاما، وهو ما جعل الحياة المادية للأهالي في هذه المعسكرات تشكل في أغلب الحالات حالة مؤلمة ... وهذه المعسكرات محاطة بالأسلاك، ومهما حاولت معهم السلطات، فإن حياتهم الاجتماعية لا يمكن أن تكون مثلما كانت عليه بواسطة مواردهم الخاصة ...

5 - الحالة الصحية تجاوزت كل حد للتعاسة، فمثلا في كل تجمع يوجد ألف طفل يموت كل يوم اثنان، أما الحالة الصحية للنساء والرجال بصفة عامة قد بلغت درجة من الضعف حتى أصبحت العقاقير الطبية أمامها غير ذات أثر يذكر ... 6 - يلاحظ أن تجمع الأهالي بهذه الصورة يجعل حياتهم الاقتصادية مقضيا عليها بالفناء، إذ جيء بهم الى هذه المعسكرات لينقطعوا فيها عن موارد العيش، وكلما أصيب هؤلاء السكان في حياتهم المادية كذلك أصيبوا في حياتهم المعنوية وفي كرامتهم، لأن حياتهم كلها داخل المعسكرات متوقفة على ما يقدمه لهم ضباط الشؤون الأهلية (صاص) من صدقات لا تتجاوز أحد عشر كيلو غراما من شعير في الشهر لكل شخص دون اعتبار نصيب الأطفال ويضاف الى ذلك أن عدد كبيرا من سكان هذه المعسكرات قد توقف عليهم هذا المورد الوحيد لحياتهم، وذلك منذ شهر ونصف لم نستطع أن نعرف سبب ذلك. وختمت اللجنة تقريرها بقولها: إن الاجراءات السابقة جعلت ما يقرب من مليون شخص بين النساء والاطفال والرجال مهددين بمجاعة، وأن الوسائل الادارية العادية لا يمكن أن تطبق في هذه المعسكرات بأية حال، ولذلك ينبغي تغيير هذه الأساليب الادارية بالنسبة لحشود المعسكرات هذه مع مراعاة النشاط الاقتصادي لهؤلاء الناس، والذى بدونه يستحيل عليهم أن يواصلوا الحياة ... هذا هو تقرير اللجنة، ولكن هل انتهى القادة العسكريون من برامجهم الابادية كلا؟ ان جنرالات فرنسا كانوا دائما يضعون إبادة الشعب الجزائري هدفا لهم، وهم في كل مرة يبوؤون بالخيبة المريرة والفشل الذريع.

ثورة معمري الجزائر مع الجيش الفرنسى على الحكومة المركزية في باريس وسقوط الجمهورية الرابعة

ثورة معمري الجزائر مع الجيش الفرنسي على الحكومة المركزية في باريس وسقوط الجمهورية الرابعة في هذه السنة أي السنة الرابعة من اندلاع الثورة الجزائرية أصبح الشعب الجزائري قويا جبارا فوسائل الفناء والدمار التي استعملها الجيش الفرنسي ضده أصبحت عاجزة تماما عن إبادته فكان كالجوهر النفيس لم يزده العذاب الجهنمي الا قوة وعزيمة وصلابة واتحاد حتى قضى على جميع المخططات ... عجز الجيش الفرنسي عن مواجهة الثورة بالقوة، ولم يستطيع القضاء عليها كما كان يدعي، أو ينال منها نيلا، أو يحط من قيمتها وكرامتها ... وفي هذه الآونة أصبح جيش التحرير يعد بعشرات الآلاف منظما مزودا بأحسن الأسلحة مدربا على مختلف ضروب حرب العصابات والحرب النظامية على السواء ... أصبحت الثورة تتقدم نحو أهدافها، فصارت تتحكم في سياسة فرنسا الداخلية والخارجية معا، أثرت على علاقتها مع الدول الأسوية الأفريقية بصفة عامة، وعلى تونس والمغرب بصفة خاصة ... الثورة الجزائرية هي التي كانت سببا في أزمة وزارية لفرنسا وسقوط حكوماتها، والحيرة والاضطرابات التي وقعت فيها الجمهورية الفرنسية الرابعة حتى أزيلت من الوجود، وأصبحت الحرب في الجزائر عبئا ثقيلا على اقتصاد فرنسا، إذ قدر نفقات الحرب خلال عامي 56 - 55 الى سبعمائة مليار فرنك قديم في السنة، وحرمت البلاد اليد العاملة نتيجة دعوة الجيش الاحتياطي الى الحرب، وانخفضت القوة الشرائية، وضج الشعب الفرنسي من كثرة الضرائب، من أجل هذا وغيره ارتفعت الصيحات في فرنسا مطالبة بإنهاء الحرب في الجزائر وراجت كذلك إشاعات بأن م فيملان الذي دعى حينذاك لتولي رئاسة الحكومة، كان ينوي التفاوض مع جبهة التحرير ...

ولما تحققت أحزاب اليمين، وفي مقدمتها غلاة المعمرين بهذه الشائعات ثارت على سياسة التفاوض والتخلي عن الجزائر الفرنسية، وأخذت تسعى للقضاء على كل من يريد أن يسلك هذا السبيل من الحكومة التي تريد المفاهمة والمفاوضة مع جيش التحرير، واتصلت هذه العناصر بقيادة الجيش العليا، فوجدت هذه القيادة متضمرة الى الغاية من هذه المحاولات التي يريد بعض الساسة من الفرنسيين أن يتلاعبوا بمصالح فرنسا العليا، ولهذا يتحتم على الجيش أن يتدخل في الشؤون السياسية، وكثيرا ما كان يوجه النقد الى الحكومات لتساهلها في إدارة انقال مراعاة لاعتبارات سياسية، بحيث كانت تمنع الجيش من تتبع الثوار وراء الحدود التونسية كما أنها كانت تتهاون في نشر أخبار تعذيب الجزائريين مما يثبط روح الجيش المعنوية، واستاء أيضا من مقتل ثلاثة من الفرنسيين نفذ فيهم حكم الاعدام جيش التحرير وذلك ردا على حكم الاعدام الذى نفذ من قبل في مواطنين جزائريين من طرف السلطة الفرنسية ... من أجل هذا وغيره كان الجيش يريد انقلاب الحكومة ليقضى على أحزاب اليسار المتقدمين في فرنسا، يتولى مقاليد الحكم ليمحي عنه آثار الهزيمتين اللتين حلتا به ... الأولى عند توقيع الهدنة مع ألمانيا 1940م والثانية في حرب الهند الصينية وغيرها من الهزائم الأخرى التي كانت تحل بهذا الجيش المغتر بقوته الشامخ بأنفه الى السماء المزهو بكبريائه وطغيانه يغلب على طبعه التجبر من أن يتفاوض مع قادة جيش التحرير، وكيف يتفاوض معهم وهم قد تركوا جروحا غائرة وآثارا واضحة في ذاته، ووصمة عار في شرفه لا تمحى على مر الدهر. هذا هو السبب في تأييد الجيش للانقلاب وغضبه الشديد على الجزائريين فإنه يرى كل مفاوضة أو تنازل من طرف السلطة العليا لقادة جبهة التحرير يمس بشرفه وعظمته وإذا كان شيء من هذا القبيل لا بد من خضوع الثوار الى الجيش الفرنسي أولا

وقبل كل شيء، ومن ثم يعطى لهم شيء ما تحت الحكم الفرنسي، أما المفاوضة الند للند ففيه إهانة فلا يرضى بها الجيش أبدا. هذه طبيعة المعمرين إنهم لا يريدون التفاهم مع غيرهم أبدا ولم يتعظوا بما وقع لهم بالهند الصينية ولا بالمغرب العربي ... ولم تكن هذه المرة الأولى يتمرد فيها المعمرون على الحكومة المركزية خلال الثورة الجزائرية فقد حدث في يوم 6 فبراير 1956 م أن ثار المعمرون على الحكومة الاشتراكية وأجبروا رئيسها على تبديل الوالي العام الذى عينه للجزائر وهو الجنرال كاترو محتجين بأنه اشترك منذ قليل في المفاوضات التي أدت الى دعوة محمد الخامس الى الحكم في المملكة المغربية ... ولما تمت المؤامرة، واتفق المعمرون مع قادة الجيش المحارب في الجزائر على الانقلاب لكي يتخلصوا من حكم اليسريين التقدميين الذين يريدون مسايرة الظروف والتطورات العامة. وبعد ما اتفقوا على الشخصية التي تتولى الحكم بعد الانقلاب وهذه الشخصية الجنرال ديغول بطل الحرية كما يسمونه هي التي ينادى بها الجيش رئيسا للحكم لأنه يتمتع بسمعة طيبة في الأوساط الفرنسية، وهو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يوحد كلمة الشعب لأنه محبوب من جميع طبقاته. ومن رجال الانقلاب كانوا يريدون أن يجعلوه رمزا للحكم فقط ليس له من النفوذ شيء، أما التسيير للحكم فهو لمدبري الانقلاب، وقرروا أيضا بأن تبقى الجزائر فرنسية قلبا وقالبا ذاتا وروحا مهما كانت الأحوال، ومواصلة الحرب ضد الثوار الى أن يقضى على الثورة تماما، ولا يتنازلون عن شيء ولو كان حقيرا تافها، فكل شيء يتنازلون عنه يؤدى حتما الى الاستقلال، والانفصال عن أم الوطن ... الحل الوحيد للجزائريين - في نظرهم - هي المساواة في الحقوق والواجبات في دائرة القانون الفرنسي، وتجريدهم من قوميتهم وشعائرهم الدينية والأخلاقية، وإدماجهم في العائلات الفرنسية حتى يصبحوا مواطنين فرنسيين هذا ما اتفق عليه أصحاب الانقلاب ...

نداء الجنرال ديغول لتولي رئاسة الحكم

نداء الجنرال ديغول لتولي رئاسة الحكم وفي 13 ماي 1958م - أقام المعمرون بالاستلاء على الولاية العامة في الجزائر. وسرعان ما انضم إليهم معظم قادة الجيش الفرنسي وعلى رأسهم "راؤول سلان" قائد الاركان الحربية و "جاك ماسو" قائد فرقة المظلات وأعلنوا الى العالم استلامهم للحكم في الجزائر، وألفوا لجان أمن في أنحاء الوطن لتدير الحكم في البلاد وشكلوا مجلسا عسكريا يتألف من إحدى عشر عضو برئاسة زعيم الانقلاب "الجنرال ماسو" وأول عمل قام به هذا المجلس هو إرسال نداء الى الجنرال ديغول لتولى مقاليد الحكم، وبرقيات التهديد الى كل من رئيس الجمهورية والوزراء ورئيس الجمعية الوطنية في باريس الذين يريدون فصل الجزائر عن فرنسا، الويل لهم إن لم يستجيبوا لهذا النداء وعهدوا بالحكم في الجزائر مؤقتا الى الجنرال (راؤول سلان) هذا ما وقع في الجزائر. أما في فرنسا فقد تفاقم الأمر واضطربت الأحوال وانقسم الفرنسيون على أنفسهم، فالعناصر الرجعية الاستعمارية هللت وكبرت لهذا الانقلاب، وانضم الجيش كله سواء كان في فرنسا أو في البلدان الأخرى الى هذه الثورة. بدأت لجان الانقاذ تنتشر في الجزائر وفي فرنسا، وأعلن الرأسماليون انضمامهم الى هذا الانقلاب، وأخذت أحزاب اليمين تمهد الطريق الى الدخول في الحكم، وتطالب برجوع الجنرال ديغول الى الرئاسة ... وسرعان ما احتل رجال الانقلاب جزيرة (كورسكا) من طرف جنود المظلات، وفي 16 - أيار 1958 م، أعلن الجنرال سالان بصفته القائد العام للقوات الفرنسية في الجزائر تأييده لعودة الجنرال ديغول الى الحكم، واستعد الجيش الفرنسي لاحتلال العاصمة الفرنسية نفسها، وكانت العناصر المتطرفة تمهد

الطريق لذلك، وفي 19 - من ايار، نشرت صحيفة الفقار وكتابا للمارشال ألفونس جوان الاستعماري الحقود قال فيه (إنه لم يعد يؤمن بالزعماء السياسيين لأنهم يسعون بأن يجعلوا البلاد تقبل منح الاستقلال للجزائريين) وقال نائب فرنسي لقائد قوات الحلف الأطلس (لم تعد أقل ثقة في كلام زعمائنا أنهم لم يكفوا منذ أربع سنوات عن دفعنا في مزالق الاستسلام ... وقال المارشال جوان: ان هناك أمرا فقط يستأثر باهتمامنا من الآن فصاعدا هو زيادة العسكرية واستبعاد كل مفاوضة مع قاطعي الرقاب، لقد طالبت بذلك منذ زمن بعيد دون أن أجد أدانا صاغية) وضاعف الانقلابيون الفاشيست من جهودهم المؤيدة بالقوة المسلحة فرض الجنرال ديغول على الحكم لتبقى الجزائر فرنسيه الى الأبد ... وكان الانقلابيون يرمون من وراء ذلك اقامة حكم دكتاتوري مطلق في فرنسا، واتخذوا اسم الجنرال ديغول مطية للوصول إلى أهدافهم لما له من الشهرة الواسعة، وبعد الصيت في الأوساط الفرنسية وفى غيرها من البلدان المستعمرة ... هذه هي نظرية الجيش الفرنسي، ومن التف حول من غلاة المعمرين والمتطرفين من الأحزاب اليمينية في هذا القائد المشهور ... عقد الجنرال ديغول ندوة صحفية مساء يوم 33 ايار 1958م أظهر فيها استعداده لتولي رئاسة الجمهورية الفر نسية كما فعل قبل ذلك في أزمة وطنية خطيرة للغاية الا أنه حرص على أن تكون توليته للحكم عن طريق الدستور. ولم ينس أن يخاطب رجالة المتمردين في الجزائر، ومؤيديهم من الفاشيست في فرنسا وأصحاب المصالح الاستغلالية من رجال الحكم قائلا: ان مستقبل فرنسا وماضيها مرتبطان بمستقبل الجزائر وماضيها فتنفس المتطرفون عند ما سمعوا هذا التصريح الصعداء وظنوا أنهم بفضل هذه الثورة العارمة والانقلاب الموفق ضمنوا فرنسة الجزائر.

وفي 20 - ايار 1958م صرح مجرم الحرب (لاكوست)، في باريس مهددا حكومة "فلملان" قائلا لا يستطيع أي شيء أن يوقف زحف الثورة الجزائرية الفاشية ... أما القوة الشعبية الديمقراطية كانت تعارض عودة الجنرال ديغول الى الحكم، ومنذ الانقلاب أصبحت حكومة (فلملان) تواجه أخطر أزمة تمر بفرنسا، وفي ساعة مبكرة من صباح يوم 16 - أيار 1958 م. صرح رئيس الحكومة عقب الانتهاء من اجتماع مجلس الوزراء بأنه سيطلب من الجمعية الوطنية اقرار مشروع قانون يقضى بإعلان حالة الطوارئ في البلاد وقال: استعرضت الحكومة في اجتماعها آخر تطورات الموقف وهى تعتمد على الجيش الذى يؤمن بتقاليده التي تحتم عليه أن يكون وصيا على الوحدة ... أسفر اجتماع المجلس الوطني عن قرار يمنح حكومة) فلملان) حالة الطوارئ لمجابهة قضية إعادة الأمور الى مجاريها الطبيعية بين الحكومة والجيش، وعلى الفور أمرت الحكومة بإلغاء اجازات جميع الجنود والضباط وعودة المجازين منهم الى وحداتهم فورا، وعلى إثر صدور هذا القرار أصبحت القوات الفرنسية المسلحة في التراب الفرنسي تحت السلاح وفي حالة استثنائية وفي 17 - ايار 1958م أصدرت منظمة العمال سلسلة من البيانات تعلن اعتزامها عن الاضراب والقيام بمظاهرات ضد دعوة الجنرال ديغول الى الحكم، وأخذت القوى الديمقراطية تعبئ قواها للدفاع عن النظام الجمهوري الديمقراطي، فتشكلت في عدد مدن لجان معادية للفاشيست ضمت في صفوفها ممثلين عن أكثر الأحزاب، ومنظمات الشباب والنقابات، وأخذت على عاتقها تنظيم الجماهير وتعبيتها للدفاع عن الجمهورية ضد الانقلاب الفاشي الزاحف بالتهديد الى الحكم، وعقدت مؤتمرات شعبية للطلاب والعمال ضد الحرب في الجزائر شملت باريس ومختلف مدن فرنسا، وفي يوم واحد عقد في باريس وحدها احدى عشر مؤتمرا شعبيا كلها تحتج على محاولة الجنرال ديغول الى الحكم، وتطالب بإنهاء الحرب في الجزائر، أصبحت فرنسا من جراء هذا الانقلاب مهددة بحروب أهلية.

وفي 15 - أيار 58 أعلن الثوار الجزائريون عن موقفهم إزاء حركة التمرد العسكري هذه على لسان مدير جبهة التحرير الدكتور الأمين الدباغين في حديث أولى به الى وكالة أنباء الشرق الأوسط بالقاهرة قال فيه: ان حركة التمرد التي يقودها الجنرال ماسو في الجزائر هي نتيجة ضعف الحكومات الفرنسية ولما رأى رئيس الجمهورية (كوتى) أن الخلاف قد نشب بين الأحزاب، والحروب الاهلية باتت قاب قوسين أو أدنى، فخاف من هذه الحالة التي تنذر بشر مستطير انحاز الى مدبري الانقلاب واتفق معهم على استدعاء الجنرال الى الحكم، واستعمل نفوذه لدى أعضاء الجمعية الوطنية لإقناعهم بمنح الثقة الى الجنرال فما وسع حكومة فلملان الا الرضوخ للأمر الواقع، وقبلت التنازل عن الحكم وسلمت مقاليده الى الرئيس المعين الذي لبى نداء الجيش ووعد الجميع برجوع السلم الى الجزائر في أقرب وقت ممكن ...

صعود الجنرال ديغول الى الحكم

صعود الجنرال ديغول الى الحكم كان المفكرون من الفر نسيين الأحرار ينظرون الى هذا الرجل الذي نادت به الأغلبية من الشعب نظرة تختلف عن نظرة الفريقين معا فكانوا يرون فيه القائد المحنك والمنقذ الوحيد لفرنسا مما تتخبط فيه من أزمات حادة ووطنية متحجرة وعقليات رجعية بغيضة زجت بالشعب الفرنسي في حروب دامية متواصلة الحلقات طويلة الأمد أودت بزهرة الشباب وبثروته المالية وبسمعته وشرفه، وكان داهية حقا ذا وطنية عميقة وطموح كبير، ففطن الى خطة الجيش الذى دبر الانقلاب، وما يعتزمه من الأعمال التي لا تتفق مع الأوضاع الديمقراطية، ولا تتلاءم مع الظروف الحالية، وكان على علم تام لما يرمي إليه الجيش من الأهداف البعيدة، وأدرك أن عهد الاستعمار قد انقضى وولى، وكان عازما على اصلاح الجهاز الإداري المتعفن، وتوسيع الاقتصاد وتطور الصناعات حتى تلتحق فرنسا بمصاف الدول العظمى، ورسم خطة محكمة للمستعمرات التي هي تحت الحكم الفرنسي لتصبح مرتبطة بفرنسا رباطا وثيقا وتتعاون معها في جميع الشؤون ... لهذا استجاب للنداءات المتكررة وقبل الحكم، ولكنه اشترط أن تفوض اليه جميع الأمور، فرضى الجميع بهذا الشرط، وفي 2 حزيران 1958م منحت الجمعية الوطنية الثقة للجنرال ديغول بأغلبية ساحقة، وعلى إثر إعلان هذه النتيجة طالب الجنرال الجمعية الوطنية بمنحه سلطات خاصة أكثر من التي حصل عليها أسلافه في الحكم لمعالجة الثورة الجزائرية التي مضى على نشوب الحرب فيها أكثر من ثلاثة أعوام ونصف، وفي الثالث من هذا الشهر صادقت الجمعية الوطنية على إصلاح الدستور الذى قدمه الجنرال ديغول ...

ولما تسلم الجنرال الحكم قصد مقر رئاسة الوزراء، فكان أول المهنئين له مجرم الحرب (لاكوست) الوزير المقيم في الجزائر ... والآن ألقى نظرة على قصد الجنرال ديغول هل كان حقا يريد تطبيق سياسة تقرير المصير على الجزائر منذ صعوده الى الحكم، ولم يعلن عنها الا من بعد أن واتته الظروف وقضى على المعارضة؟ أم أنه كان يريد مثل سابقيه من حكام فرنسا أن يحل القضية الجزائرية حلا عسكريا تدريجيا تحت ضغط الحوادث التي انتهت بتقرير المصير ... وعلى كل حال فلكل من النظريتين شواهد تدل على صحتها وإنى أمضى مع هذا الرجل منذ توليه للحكم ومعالجته لمشكل الجزائر الى الاستقلال وأبين الحوادث التي وقعت في عهده والقارئ الكريم يحكم بصفة نظرية من هاتين النظرتين وفي اليوم التالي من توليه للحكم طار الى الجزائر، وهناك استقبل من الفاشيست والعسكرين استقبال الفاتحين، وأحاطوه بهالة كبيرة من التقديس والاجلال، وكان متقمصا شخصية "نابليون العظيم" فألقى خطابا موجزا في المفوضية العامة قال فيه: (سأجعل جميع الجزائريين فرنسيين: وسأعمل على إيجاد جنسية فرنسية واحدة لكل سكان الجزائر، واعترف بشجاعة الجزائريين)، وقال:) ان البطولة لم تكن غريبة عن أرض الجزائر (. وفي اليوم السادس من شهر حزيران 58 - زار وهران وأكد لمستقبليه أنه سيتولى بنفسه إدارة شؤون الجزائر حتى يضمن النجاح التام لانتصار فرنسا في حربها ضد الثوار، وزار عدة مدن وقرى، وألقى عدة خطب كثيرة كلها تحث على إرجاع السلم والهدوء، وكلامه على مصير الجزائر كان غامضا ومبهما، وغلاة المعمرين كانوا يريدون منه أن يصرح بأن الجزائر فرنسية، ولكنه امتنع ولم يتلفظ بها أبدا الا مرة واحدة في مدينة مصطفى غانم ... علقت القيادة العليا للثورة الجزائرية على خطابه فقالت:) ان خطاب الجنرال الذى يعد فيه بالمساواة والادماج بين الشعبين

جاء بعد أربع سنوات من الثورة الوطنية، ولا يشكل سوى خطوة أخرى في القتال المستمر)، ورد كذلك القادة من جيش التحرير على خطابه الذى ألقاه في مدينة وهران ببيان جاء فيه) سنتابع الحرب حتى النهاية ضد ديغول المتنكر في زي بيتان (. وعاد الجنرال ديغول مرة أخرى الى الجزائر وخطب في اليوم الرابع من تموز 58 قائلا: (ستبدأ حكومتي في تقديم من المال للمصانع والمزارع، ومشاريع الاسكان والمدارس في الجزائر وقد خصصنا مبلغ 15 مليارا فرنك قديم تصرف فورا على تعمير الجزائر اقتصاديا، ولكن لا تنتهى هذه السنة دون ان أعلن عن المشاريع الكبرى ومواريد الطاقة التي ستؤمن لإدارتها واختتم كلامه قائلا بالتوجه الى العرب "سيدمج الجزائر وفرنسا كما سيعطى حقوقا متساوية في التصويت، وستمنح نساؤهم حق التصويت" وأعلن في الدستور الجديد بأن كلا من الجزائر وفرنسا دولة واحدة ... وكان لهذا الانقلاب الفاشي وتولى الجنرال الحكم صدى كبير ومهرجانات عظيمة في الأوساط الاستعمارية ألقيت فيها الخطب الرنانة، وتخللتها التصفيقات الحادة، وتبودلت فيها التهاني بين غلاة المعمرين والجيش ... وفي الحقيقة أنها فترة راحه من الحمى الشديدة التي تعترى المنهوك القوى. ولذا لما تفرق المجتمعون ورفعت الستائر وأطفئت الأنوار، وجد المعمرون أنفسهم كما كانوا قبل الانقلاب، والثورة الجزائرية أشد لما كانت عليه من القوة والضراوة والشعب أكثر تماسكا واتحادا وأمضى عزيمة وصلابة علق الملاحظون السياسيون آمالهم على هذا القائد العظيم في حل هذه القضية الشائكة، وجعل حدا لهذه الحرب المجرمة لأنه هو الرجل الوحيد الذى يقدر على فصل هذه القضية نظرا لشخصيته القوية ونفوذه الكبير، وكان بعض الشخصيات عالمية وفرنسية يتمنون رجوعه الى الحكم من قبل أن يتولى ليريحهم من عناء هذه المشكلة العويصة ...

لكنه ويا للأسف أذهبت هذه الآمال أدراج الرياح، فكان يفكر منذ اللحظة الاولى التي تولى فيها الحكم كيف يقمع الثورة الجزائرية بالقوة، أو الانتهاء منها في أسرع وقت ممكن بعد ما أحرز لنفسه على موافقات الدستور وسلطات واسعة فحشد أقصى ما يمكن من قوة حربية وجابه بها الثورة ليستأصل شأفتها ويقضى عليها تماما حتى يفرض الحل الذى يريده للشعب الجزائري. ولهذا لما تسلم الحكم فبدلا من أن يعترف بالاستقلال الذي تكون فيه بالطبع حقوق الجالية الأوربية مضمونة، بالأقل يتفاوض مع قادة جبهة التحرير على خطة ما ترضي الطرفين لتكون العلائق مع فرنسا حسنة فهذا وحده فقط يجعل للأحزان والآلام التي تسلطت على هذا الشعب منذ الاحتلال والدماء تسيل، ولكنه قرر الاستمرار في الحرب، وزاد في قوة الجيش، وفرض عليه أن يسكن في قمم الجبال، وكان يكثر الاجتماعات مع قادة الجيش لدراسة خطط الحرب دراسة دقيقة على الخرائط ودراسة طبيعة الأرض التي يدور فيها القتال، وكان بين آونة وأخرى يأتي الى الجزائر ليتفقد الجند، وصمم على أن يقف في وجه الثورة موقفا إيجابيا وحازما فاستعمل كل ما يملك من قوة ودهاء، وكان سلاحه ذا حدين فيبرق ويرعد عن الثورة، ولكن هيهات أصبح الشعب لا ينخدع بالوعود الكاذبة بل ازداد ثقة بنفسه وبثورته العارمة وتمسكا بقيادته واتحادا في صفوفه. وضاعف صبره على العذاب الذي أفرغ على أم رأسه ... وكان هذا القائد يرى نفسه فوق أقطاب العالم سياسة ودهاء وتقدما، ويرى فرنسا هي أم الحرية والديمقراطية في العالم، ولهذا منع كل من أراد أن يتوسط في حل القضية من الدول المحبة للسلام منعا باتا، ولم يقبل أي نصيحة من أي انسان كان، ولم يعترف بأن هذه القضية خارجة عن نطاق فرنسا ... كان العالم ينتظر من هذا الجنرال أن يحل القضية، ولكنه كان مشغولا بمواصلة المعارك وتخطيط البرامج، وتجهيز الجزائر اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا لتحسين أحوال السكان وزيادة الانتاج والعتاد الحربي في فرنسا، والحلف الأطلسي يشد أزره ويؤيده في محاربة الثوار ...

أمقت العالم هذا الادعاء بالعظمة الموهومة، والشرف المزعوم، فتركه يتيه في أحلامه وأوهامه، ولم يبق مواليا له من الدول الا الدول الاستعمارية التي تسير على غراره في السيطرة على الشعوب الضعيفة، واتجهت شعوب العالم الثالث الى مؤازرة الشعب الجزائري في كفاحه التحريري والوقوف بجانبه ... وأحبطت الثورة الجزائرية جميع البرامج والخطط الحربية التي ينظمها الجيش الفرنسي بإشراف الجنرال ديغول نفسه، وجميع المؤامرات والدسائس التي كانت تحاك في الخفاء، ووصلت الثورة مرة أخرى الى تهديد الشعب الفرنسي بالانقسام والحرب الأهلية، وعندئذ عرف غالب الفرنسيين أن استعمال القوة لن يجدى شيئا، ولم يكن الجنرال أفضل من سابقيه من الحكام الذين سبقوه، ولهذا أصبحت الأغلبية الساحقة من الفرنسيين تنادى بحل القضية حلا عادلا ...

تجديد الدستور الفرنسى

تجديد الدستور الفرنسي ولما تمكن الجنرال من قبضة الحكم وضمن ثقة الشعب الى جانبه، وخلا له الجو من المعارضة حل الجمعية الوطنية وألف لجنة من المشرعين الكبار وأرباب القانون ليجددوا له الدستور، ووضع لهم تصميمات خاصة، وكانت هذه اللجنة لا تقر المواد بصفة نهائية الا بمراجعته ومشورته حتى جاء هذا الدستور الجديد مطابقا لفكرته لأن الأعمال التي يريد اعتزامها لا بد له من موافقة الدستور عليها وهذا الدستور يترك الباب مفتوحا أمام المستعمرات في افريقيا الغربية والوسطى لكى تختار بين البقاء في العائلة الفرنسية، أو الانفصال عنها، لأنه كان خائفا من ثورة الجزائر أن تمتد الى هذه المستعمرات، ولم يشرك الجزائر في هذا الاختيار لأنه كان يعتبرها أرضا فرنسية ... ولما تم الدستور قدمه الى الشعب الفرنسي، والى الشعوب المستعمرة في افريقيا للمصادقة عليه، وعين له يوم 26 سبتمبر 1958 م، وأخذ في بث الدعاية له ونشر مواده على صفحات الجرائد في فرنسا والأقطار التابعة لها وسافر الجنرال بنفسه الى افريقيا السوداء ليفهمها في هذا الدستور حتى تصادق عليه بإجماع. وكانت قوات الأمن والمنظمات الفاشية والعسكريون يضغطون على السكان المسلمين ليشاركوا في هذا الاستفتاء باعتبارهم فرنسيين ... قابلت الثورة هذه الاعمال المنافية للمعقول والمنطق الصحيح بإجراءات مضادة لها، ففي يوم 25 من أغسطس 1958م أمرت جبهة التحرير الفدائيين أن يحطموا المنشآت الاقتصادية والعسكرية في أرض فرنسا نفسها، فعم التخريب جميع الوطن الفرنسي كاملا، فكانت خسائر كبيرة تعد بالمآت المليارات. وفي يوم 26 - ايلول 1958م جرى الاستفتاء العام على هذا الدستور وقبل الاستفتاء صرح القائد الجزائري بوصوف قائلا:

لن يشترك أي جزائري واحد في هذا الاستفتاء الذى سيقع في هذا الشهر على دستور الجنرال ومضى يقول (ان ثورة الجزائر يمكن أن تستمر عشر سنوات أخرى، وسيكون لدى الثوار الأسلحة الكافية التي تمكنهم من مواصلة الحرب، ولا تستطيع فرنسا الاستمرار في الحرب بدون مساعدة أمريكا (. امتنع المسلمون عن الاشتراك في هذا الاستفتاء مستجيبين في ذلك الى قرار قيادتهم بمقاطعته. وقام الفدائيون بتحطيم مراكز الانتخاب ... ولما بدئ الاقتراع على هذا الدستور حملت السلطة الفرنسية المسلمين في الشاحنات وسيارات النقل إلى مراكز الاقتراع مستعملة في ذلك القوة، وقي مساء نفس اليوم أذاع السيد فرحات عباس رئيس الجمهورية الجزائرية المؤقتة أول بيان سياسي مند إعلان الحكومة قال فيه: (ان الشعب الجزائري لن يلقي السلاح الى أن يتم الاعتراف بحقوق الجزائر في السيادة والاستقلال، والجزائر ليست فرنسا، والشعب الجزائري ليس فرنسيا، وأشار الى الاستفتاء حول الدستور الفرنسي الذى بدأ اليوم في الجزائر، هو ضغط لا يحتمل على شعب يكافح من أجل الاستقلال (. انجلت معركة الانتخابات عن قتلى ومساجين من طرف الجزائريين الذين رفضوا المشاركة في هذا الاستفتاء. ولأول مرة خرجت النساء المسلمات من خدورهن الى صناديق الاقتراع يسوقهن الجند أمامه، وعد الجنرال هذا من مفاخره العظيمة وحادثا هاما في سياسته وتقدما محسوسا نحو الحرية التي ينشدها الجزائريون ... صوتت شعوب افريقيا السوداء كلها بنعم، واختارت البقاء في المجموعة الفرنسية الا غنيا فضلت الانفصال عن هذه المجموعة دون أن تتعرض لأى ضغط ... وباختصار فإن هذه المجموعة من الأفارقة وافقت على ما جاء في هذا الدستور من المواد ورضيت به، وكان الدستور ينص على أن سياسة هذه الأمم وثقافتها كلها بيدي فرنسا وما بقى من

الشؤون الأخرى تتصرف فيها وحدها، وتمتنع عن رفع علم بلادها ورمزها، وإذا أرادت أن تكون لها شعار فتنقشه في العمود الذى يحمل العلم الفرنسي ... ومن هذه الأمم لم تقنع بهذه الوضعية المزرية بشرفهم فواصلت كفاحها السياسي حتى أحرزت على استقلالها، وذلك في سنة 1960 ولكنها باقية مرتبطة مع فرنسا ورئيسها هو رئيس هذه المجموعة في جميع الميادين وعلى إثر موافقة الجزائريين المزيفة على الدستور، فتحت أبواب المجالس النيابية الفرنسية أمام الجزائريين، وزيد في عدد الأعضاء في مجلس النواب الى 44 نائبا والشيوخ الى 32 على ما كان عليه سابقا، فأصبحت نسبة الجزائريين الى المستوطنين الفرنسيين الثلثين بدلا من النصف ... وأكدت تصريحات (م. دبريه) رئيس الوزراء وجود هذا الاتجاه أي (اتجاه ادماج الجزائر في فرنسا) لدى حكومة الجنرال حينما أعلن عن نيته في توحيد النقد والميزانية والقانون المدني بما في ذلك قانون الأحوال الشخصية إذا أراد الجزائريون ...

أول خطبة للجنرال ديغول بين فيها حل القضية الجزائرية

أول خطبة للجنرال ديغول بين فيها حل القضية الجزائرية وفي الثالث من شهر تشرين الأول 1958م سافر الجنرال الى الجزائر وألقى خطابا في مدينة قسنطينة في أوساط المعمرين، وبعض قوات الجيش قال فيه: (لقد أظهر الاقتراع على الدستور ثقة الجزائريين ورغبتهم في البقاء مع فرنسا) وأضاف قائلا:) ان مستقبل الجزائر ومستقبل فرنسا مرتبط أحدهما بالآخر كل الارتباط، ثم وجه خطابه الى مستمعيه من جمهور الفرنسيين فقال: (ان الاستفتاء على الدستور يوم الأحد الماضي، لم يعد اليوم أمامنا سوى طريقين الحرب، أو الأخوة، وقد اختارت الجزائر الأخوة مثل كل منطقة أخرى في فرنسا، أما المشروعات الاجتماعية فتتمثل في مشروع قسنطينة للسنوات الخمس وقد رسمه في أوائل سنة 1959م ويهدف الى فتح مجالات العمل أمام الجزائريين، وهذا المشروع هو الذى اعتبره نهوضا بالبلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا قال الجنرال ديغول: ها أنا جئتكم أيتها الجزائريات والجزائريون لأوضح لكم المستقبل الذى تدعو فرنسا اليه، انه مستقبل ينطوي على أحدث انقلاب كلى يشمل هذه البلاد الحية الباسلة، ولكنها جد صعبه ومتألمة، إنه انقلاب يجعل شروط حياة كل جزائرية وجزائري في تحسين مطرد بحيث يستثمر خيرات الأرض، وأعمال السكنان وقيم الممتازين من الناس ويعمل على تنميتها فيكون أولاد الجزائريين منعمين ... وباختصار بأن تأخذ الجزائر نصيبها مما تستطيع المدنية أن تقدمه الى الناس، أو مما يجب عليها أن تقدمه اليهم من خير وكرامة ... ولما كانت المشاريع الكبرى تستلزم تدابير علمية فإليكم ما قررت حكومتي بموجب الاصلاحيات الدستورية الجديدة التي تتمتع بهما، وتنفيد هذه الصلاحيات يكون في بحر السنوات الخمس الآتية.

سيدخل في بحر هذه السنوات الخمس عشر الشبان الجزائريين على الاقل الموجودين في الوطن الأم جهاز الدولة من إدارة، وقضاء، وجيش، وتعليم، ومصالح عامة، وسيؤخذ هؤلاء الشبان من احدى الجاليات الثلاثة العربية، والقبائلية والإباضية، وذلك من غير أن يؤثر على المعدل المتزايد الذى سيؤخذ في نصاب الدولة من الجزائريين العاملين في الجزائر ذاتها ... في بحر هذه السنوات الخمس سيرتفع معدل الرواتب والأجور في الجزائر الى مستوى مماثل كما هي عليه في الوطن الأم ... وفي بحر هذه السنوات الخمس سيوزع مائتان وخمسون ألف هكتار من الأرض على الفلاحين المسلمين، وقبل نهاية هذه السنوات الخمس سيتم الجزء الأول من مشروع الاثمار الزراعي والصناعي الذى ينطوي خاصة على وصول البنزين والغاز الصحراويين، وعلى إقامه مجموعة من مؤسسات التعدين والكيمياء، وعلى بناء منازل لمليون نسمة يضاف الى ذلك ما تحتاج اليه كل هذه الانشآت من تجهيزات صحيحة، وتجهيز المرافق والطرقات واستخدام 400 ألف عامل جديد بصفة دائمة ... وفي بحر هذه السنوات الخمس سيجد ثلث بنات وأبناء الجزائر مدارس تأويهم ... هذا ما جاء في خطاب الجنرال ديغول، وهذا هو الحل الذى يريد أن ينهي به المشكل الجزائري يعتبر هذا المشروع دليلا على الاتجاه نحو التحاق الجزائر بفرنسا، ولهذا قاومته الثورة بشدة بل إنها هددت المزارعين الذين يقبلون الأراضي الموزعة عليهم من طرف السلطة الفرنسية بالعقاب الشديد ... جند الجنرال لهذا المشروع الخبراء والفنيين وحث الدول الغربية صاحبة الأموال الطائلة التي تتهالك دائما على هذه الأقطار تقديم الاعانة اللازمة والمساعدة الفعالة لهذا المشروع الضخم، وحصر له مواريد الدولة ومجهوداتها ليعلم العالم عامة والشعب الجزائري خاصة أن فرنسا لن تسلم في الجزائر أبدا ... وفي هذه المدة تدفق البترول والغاز وفاضا على وجه الارض في الصحراء مما زاد في الجو تعكيرا وارتباكا.

تأسيس حكومة في جزائرية في الخارج

تأسيس حكومة في جزائرية في الخارج وفى سنة 1958م خطت الثورة خطوة حاسمة من تاريخ حياتها وذلك بتأسيس جمهورية جزائرية حرة خارج الوطن ردا على مواجهة العدوان الذى يقوم به قادة فرنسا نحو الجزائر، فكان ردا قويا على مشروع الجنرال ديغول الاندماجي، وكان لهذا) المولود صدى كبير لدى مختلف دول العالم. وقد تولى تشكيل هذه الحكومة السيد عباس فرحات في بيان رسمي ألقاه على جموع المواطنين العرب الذين دعتهم جبهة التحرير الى الحضور، وقد قوبل البيان بالتصفيق الحاد من طرف الحاضرين. وفور إعلان قيام حكومة جزائرية بادرت الدول الشقيقة والصديقة بالاعتراف الكامل بها. ولدت الحكومة الجزائرية في ظروف صعبة جدا ولم تولد على الورق، بل ولدت في ميادين الكفاح والنضالي، وأبرزت الى الوجود على جماجم وأشلاء الضحايا، وأبصرت الثورة فوق الجثث، والكتل البشرية المكدسة في غياهب السجون، ودعم كيانها السلاح والعزيمة الصادقة، فوزراؤها في بطون السجون، ورعاياها ما بين منفى ومشرد طريد، ومحكوم عليه بالإعدام ينتظر الموت الزؤام، ومجند يخوض المعارك الدامية، ويقتحم ميادين القتال وفدائي يتخط خطوط النار. حكومة أقامها الشهداء الأبرار بإراقة دمائهم وتقديم أنفسهم قربانا للحرية والاستقلال، وتمركزت وترعرعت على جهاد الشعب وتعذيبه، حكومة كان شعارها ونشيدها (الله أكبر)، وصيحة المجاهدين في الجبال وزغاريد النساء ...

فباعتراف بعض دول العالم الشقيقة والصديقة بهذه الحكومة الجديدة أصبح لها الحق الكامل في تمثيل الشعب الجزائري تمثيلا حقا وصدقا، وكان لها الحق في عقد اتفاقات مع الدول لتزويد جيشها بالسلاح والعتاد الحربي وغيره بصورة شرعية وقانونية من أي دولة شاءت ولها الحق أيضا في أن تعقد صفقات بيع وشراء، وتتعامل مع من أحبت من دول العالم ...

انتخابات تشريعية في الجزائر وفي فرنسا

انتخابات تشريعية في الجزائر وفي فرنسا وفي تشرين الثاني 1958 م، أجريت انتخابات تشريعية في الجزائر وفي فرنسا، فأصدرت جبهة التحرير أمرها الى الشعب بمقاطعة هذه الانتخابات مع التحذير الشديد الى الشخصيات التي تطلب أو تقبل الترشيح بهذه النيابات المزيفة ... كانت الحكومة الفرنسية ترمي من وراء هذه الانتخابات الى إيجاد عناصر قوية من الشعب الجزائري التي لم تشارك في الثورة مشاركة ظاهرة لتتفاهم معها على الوضع السياسي لمستقبل البلاد لأنها لا تريد أن تتفاهم مع قادة جبهة التحرير الذين يحاربون. ولأول مرة في تاريخ الاستعمار في هذه البلاد عامل الاكثرية من السكان بحيث جعل الثلثين من نواب المسلمين وثلثا من الجالية الأوربية. أصبحت حياة الشعب مهددة بالفناء وأملاكه بالتلف من جراء هذه الانتخابات، فكل من ترشحه الحكومة الفرنسية من الشخصيات الموالية لها يخطف في الحال من طرف الثوار ويعاقب، وكذلك كل من يمتنع عن الاستجابة إلى طلب الحكومة بقتل أيضا من طرف الجيش الفرنسي. ولما رأت الحكومة أن الشعب الجزائري لا يلبى أوامرها ويترك أوامر قادة جيشه مهما كانت المعاملة القاسية، أخذ الجيش الفرنسي يرشح ويعين ما راق له من الشخصيات التي لم تكن في يوم من الأيام لها سمعة أبدا في الأوساط الشعبية فضلا عن تمثيلها له، بل كانت نكرات وما تزال نكرات مجهولة ولكن الجيش الفرنسي صمم على إيصالها الى الحكم بالقوة ليستر بذلك خيبته المريرة ... وهؤلاء النواب الذين فرضوا على الأمة بعضهم أوربيون أنابوا أنفسهم عن المسلمين، وبعضهم من الخونة أذناب الاستعمار

المعروفين في خدمته وطاعته وبعضهم من النساء الساقطات رشحن أنفسهن ليكن وزيرات، والباقي من قدماء المحاربين الذين دافعوا عن فرنسا في الماضي، وفازوا كلهم بفضل الجيش الفرنسي ... ولما رأى الجنرال ديغول أن هؤلاء النواب لا يمثلون الأمة لا من قريب ولا من بعيد سكت ولم يتفاوض معهم ليكمل الباقي كما يقول ...

الجنرال ديغول رئيس للجمهورية

الجنرال ديغول رئيس للجمهورية وفي يناير 1959م - انتخب الجنرال ديغول رئيسا للجمهورية الخامسة بإجماع وفوض الشعب الفرنسي له جميع السلط ومنحه كل امكانيات التنفيذ، فله أن يفعل ما أراد، ويعمل ما يشاء بدون استشارة المجلس الوطني، وأطلق له اليد في التبديل والتغيير بدون معارض ... فأصبح يعين الوزراء، وانعقاد دورة المجلس الوطني، ان احتاج اليه، وان شاء حله، فالدستور يخول له ذلك لأنه أعطى سلطة مطلقة لرئيس الجمهورية الا أنه حدد مدة اقامة رئاسته بسبع سنوات، ثم يجدد انتخابه، بفضل هذه السلطة كلها أصبح الجنرال هو الرجل الوحيد في فرنسا والمرشد لها، فأخد يعالج في المشاكل الداخلية والخارجية. وأدخل على جميع أجهزة الدولة إصلاحا عاما. وكان يضع الأسس لبناء نهضة جديدة تتمشى مع شخصيته وسمعته العالمية وتاريخ فرنسا العظيم، وهيبتها كدولة قوية في العالم لها تاريخ تليد حتى يتمكن الشعب الفرنسي من الاستقرار والهدوء، ويساير الدول العظام، وهذا الإصلاح الذي أراده الجنرال لن يكتب له النجاح، ولن ينفذ تنفيذا حقيقيا الا بإزالة المثبطين من طريقه ... وكان بعض الضباط من الجيش يعارضونه، ولا سيما من أحزاب اليمين، فبدأ بتصفيته من العناصر المتطرفة وإقصائها تماما عن الحكم المدني في الجزائر لأن الوزير المقيم سابقا كان قد فوض الحكم للجيش في البلاد بدون مراقب فحكم الجيش الفرنسي المدنيين الجزائريين حكما عسكريا فلما تمكن الجنرال من الحكم أراد أن يجرده من جميع السلطة المخولة له ويقصيه عن الحكم المدني، وعن الخوض في السياسة، ويحصر مهمته في الحرب فقط ضد الثوار، ويرجع الحكم الى المدنيين ... فبهذه العمليات والاصلاح والتطهير يتسنى له تطبيق برنامجه، فأخذ في تنقية القادة الكبار وتجريدهم من الحكم المدني، ونقل بعضهم إلى

فرنسا، وأعطى للبعض الآخر التقاعد وكان يخلفهم بآخرين موالين له ومحبذين لسياسته ... أما إدارة الجزائر العليا فلم يسمح لأي أحد أن يتدخل في شؤونها فجميع أمورها وقضاياها يجب أن ترجع إليه وحده، فعين موظفا ساميا حل محل الوزير السابق على القطر الجزائري ومنحه جميع السلطة العسكرية والمدنية، وهذا المفوض السامي لا يفعل شيئا من عنده، وإنما ينفذ أوامر رئيس الجمهورية التي يتلقاها منه مباشرة. ولما كانت الحرب تمس القطرين الشقيقين تونس والمغرب مسا مباشرا أصبحت علاقتهما سيئة مع فرنسا بسبب الإعانة التي كانا يقدمانها إلى الثورة، فأراد صاحب الجلالة محمد الخامس طيب الله ثراه أن يعرض وساطته بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير ليجعل حدا لهذه الحرب القذرة، وكان ذلك بدافع النية الحسنة والمصالح المشتركة والصداقة التي كانت تربط بين الرجلين، فسافر جلالة الملك الى جزيرة (مادغشقر)، وكان القصد من هذا السفر هو أن يذهب الى جزيرة (مادغشقر) ليزور الأماكن التي كان منفيا فيها وتبع طريق منفاه، ولهذا ذهب الى هذه الجزيرة ليتفاهم مع رئيس الجمهورية على هذه الوساطة ... فأرسل الجنرال ديغول مندوبا عنه الى جلالة الملك محمد الخامس ليتفقا على الموعد ويحددا الزمان والمكان، ولكن رئيس الجمهورية لم تعجبه هذه الوساطة، لأنه لم ير فيها فائدة، فبدأ يتلكأ ويماطل ويعتذر عن هذه الملاقاة بسبب كثرة المشاكل والحوادث، فكان يؤخرها من حين الى آخر، وهذا كله عن قصد وسوء نية ... وفي صيف سنة 1959 م سافر جلالة الملك الى أوربا مع عائلته وحاشيته ففي الظاهر كانت الزيارة للاستجمام والراحة وهى في الحقيقة يقصد بها ملاقاة الجنرال فلما علم هذا الأخير بعزم جلالة الملك دبر له مكيدة عن طريق وزيره الأول فحالت هذه المكيدة بينهما، فرجع الملك حانقا الى الرباط ... واشتهرت هذه المحاولة في الأوساط العالمية وكان العالم يترقب في نتائجها.

فشل فرنسا واعترافها بتقرير المصير

فشل فرنسا واعترافها بتقرير المصير منذ تسلم الجنرال ديغول الحكم، وهو يعمل ليلا ونهارا من أجل الوصول الى أهدافه التي رسمها من أول صعوده الى منصة الرئاسة، وهو القضاء على الثورة في أقرب وقت ممكن ولذا سن للجزائر برامج كثيرة ومشاريع واسعة من اقتصادية واجتماعية وسياسية وعمرانية والمؤتمرات الحربية التي كان يعقدها لدراسة الوضع الحربى على الخرائط وعلى طبيعة الأرض التي تدار فيها المعارك ومواصلة تدريب الجيش على تسلق الجبال ليكون قادرا على حرب العصابات، وتنظيمه تنظيما ثوريا حتى يباغت الثوار في أماكنهم. فعل الجنرال هذا كله وأكثر من ذلك فبذل مجهودات جبارة في ميدان الحرب لأنه علق آمالا كبيرة على العمليات الحربية وخصوصا برنامج شال، وكان يأمل أن يكون عام 1959م نهاية الحرب، ولكنه أصيب بخيبة كبيرة، ولا سيما بعد فشل معركة (جوميل (فتحقق حينئذ أنه يقاتل قوة لا تقهر قوة شعب يطالب بحقه تسانده شعوب كثيرة ... ولما تحقق عجز القوات الفرنسية عن إبادة الثورة وتحطيمها راح يفتش عن حل سياسي يضمن به حضور فرنسا في الجزائر وارتباطها بأم الوطن ارتباطا وثيقا ... هذا الحل الذي يعتزمه الجنرال ما هو الا حل استعماري جديد مقنع يخفى به وجهه القديم السافر، ومع هذا كان يخشى من الجهر به خوفا من معارضة الجيش، وغلاة المعمرين المتطرفين أصحاب اليمين الذين لا يزالون يحلمون بالإمبراطورية العظيمة ... رأى الجنرال قبل إعلانه لهذا الحل أن يستشير رجاله في الجزائر، فطار اليهم في زيارة قصيرة، واجتمع بقادة الجيش وبعد ما عرض عليهم مشروعه هذا قفل راجعا الى باريس ...

ولما كانت الثورة تطير من نصر الى نصر والجيوش الفرنسية في حالة انهزام أخد الجيش الفرنسي ينتقم من المواطنين انتقاما شديدا، فضج العالم من هذه الأعمال المنكرة فكان يضغط على الحكومة الفرنسية بواسطة المظاهرات والجرائد لعلها تعلن الحل الصحيح لتجعل حدا لهذه الحرب المجرمة القذرة، وتوجه الرأي العام العالمي الى هيئة الأمم المتحدة أن تتدخل في القضية الجزائرية حتى تطبق فرنسا قرارات الجمعية التي تنص على تقرير المصير لجميع الشعوب ... خشى حلفاء فرنسا من هذا التدخل الذى تكون عاقبته سيئة الى الغاية لربما تصدر هذه الهيئة حكمها على فرنسا في دورتها المقبلة ... كان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية (المستر ازنهاور (يجول في عواصم غرب أوربا، وزار باريس واجتمع بالجنرال ديغول، وعرض عليه هذا الاخير الحل الذى يعتزمه لإنهاء الحرب في الجزائر، وتباحثا وتشاورا في القضايا العالمية الهامة، ولم يصدر أي بيان عنهما في قضية الجزائر الا أن رئيس الولايات المتحدة قال بعد ما يصرح الجنرال فإنى أعقب عليه. وأحيط هذا المشروع بالكتمان التام حتى عن أقرب المقربين إليه، وكان العالم قاطبة ينتظر هذا الحل بفارغ الصبر وكامل الاشتياق. وفي السادس عشر من أيلول 1959 م صرح الجنرال بمشروعه وأذاع تفاصيله التي تضمنت الحل لقضية الجزائر، فقال ان الشعب الجزائري هو الذى يقرر مصيره بنفسه بعدما تتم التهدئة ويتوقف القتال والمعارك الحربية، ويتلخص هذا المشروع في ثلاث نقط. أ- توقيف القتال فورا. ب- أن يتوفر السلام لمدة أربع سنوات، ويقطع هذه المدة إذا ما بلغ مجموع الضحايا والاشتباكات بين الشعب الجزائري والشعب الفرنسي من عسكريين ومدنيين أكثر من مائة قتيل في السنة ...

ج- أن يجرى ختام السنوات الاربع استفتاء الشعب الجزائري حول اختيار المصير من ثلاث نقط. أ- أن يندمج شعب الجزائر في الشعب الفرنسي، وفي هذه الحالة يكون ما له ما للفرنسيين من الحقوق والواجبات. ب- أن يكون الشعب الجزائري حكومة مشتركة مع فرنسا أي تابعة للاتحاد الفرنسي ... ج- أن يستقل عن فرنسا استقلالا تاما ويسمى الجنرال هذا الاستقلال بالانفصال- يقول: يجب أن يرجم هذا الانفصال - لأنه شيطان، واذا وقع فهناك الطامة الكبرى ... وفي هذه الحالة يجب أن يقسم التراب الجزائري الى مناطق، فالمناطق الصحراوية التي يوجد فيها البترول تكون فرنسية محضة، وكذلك المناطق التي يريد سكانها أن يبقوا فرنسيين موالين لحكومة باريس. وتابع كلامه قاتلا: نظرا للمعطيات الجزائر، والقومية والدولية، فإنى أرى من الضروري أن يعلق من الآن على الالتجاء الى تقرير المصير، فباسم فرنسا، وباسم الجمهورية، ونظرا للسلطة التي يخولها لي الدستور في استشارة المواطنين، فإنى أتعهد إن بقيت حيا واستمع لي أن أطلب من جهة الجزائريين في ولايتهم الاثني عشر أن يعبروا عما يريدون عن مصيرهم في آخر الامر. وإنى أطلب من الفرنسيين من جهة أخرى أن يصادقوا على اختيارهم. وسأحدد تاريخ تقرير المصير حينما يحين الوقت وهو لا يتجاوز على أكثر تقدير أربع سنوات بعد استتباب السلم استتبابا فعليا أي بعد أن توجد وضعية لا تتسبب فيها الاغتيالات والكمائن على أكثر من مائة قتيل في السنة ... ويمضي في كلامه فيقول: ومن الطبيعي أن يلقى هذا السؤال على الجزائريين بصفتهم أفراد لأنه مند أن وجد العالم لم توجد وحدة جزائرية فضلا عن وجود دولة جزائرية. ويقول اعادة التجمع والاسكان لقسم من سكان الجزائر ممكنان، فالجزائريون الذين يفضلون الاحتفاظ بالجنسية

الفرنسية ستنظم فرنسا تجمعهم واقامتهم ان لزم الأمر ... ومن جهة أخرى ستتخذ جميع الاحتياطات حتى يكون استثمار ونقل البترول الصحراوي الذي هو من عمل فرنسا الذى يهم الغرب أمرا مضمونا مهما تكن الأحوال ... ان انفصال الجزائر عن فرنسا سيؤدى الى بؤس مدقع وفوضى سياسية مخيفة ومجزرة شاملة ... ويمضى في كلامه ويقول: نظام داخلي للجزائر من الاتحاد يعتمد على فرنسا ويتحد معها في ميادين الاقتصاد والدفاع والتعليم والعلاقات الخارجية ... هذا هو الحل الذى كان يخفيه رئيس الحكومة الفرنسية حتى عن أقرب المقربين إليه ... اعترف الجنرال ديغول بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم، وتقرير المصير هذا الذى اعترف به رئيس الحكومة لم يغير شيئا من الحالة التي كان عليها من قبل نظرا للصعوبات التي أحاطه به، والعراقيل التي وضعها أمامه، والمشاكل التي خلقها في سبيله، وهذه الصعوبات والعراقيل بعبارات لطيفة ظاهرها فيها الرحمة، وباطنها فيها العذاب الأليم ... وتقرير المصير بهذه الكيفية لم يكن حلا صحيحا ينهى المعركة المشتعلة الأوار، وتنتهى معه جميع الآلام والأحزان، لأن أعمال الجنرال وأقواله وتصريح رجال حكومته وقادة جيشه كلها تدل دلالة واضحة على أن الغاية الحقيقية من دعوى تقرير المصير بهذا الشكل المقترح إنما هو كسب للوقت لينمو جيل جديد متشبع بفكر وعقل فرنسي حتى اذا ما وقع الانتخاب فاز الذين ينتمون للفرنسيين ... وقد استطاع الجنرال أن يخدع كثيرا من رجال السياسة العالمية بسياسته هذه في تقرير المصير، فاستبشر العالم وفرح بانتهاء الحرب، ولكنه لم يستطع أن يخدع الجزائريين ... لا يعترف الجنرال ديغول في حله هذا بواقع الأمة الجزائرية من قبل الاحتلال ولا بالدولة التي كانت قائمة، ولا بوحدة القطر الجزائري، ويقول في كلامه منذ أن وجد العالم لم تكن هناك وحدة جزائرية بل السيادة الجزائرية، وإنما تعاقب على البلاد

القرطاجيون، والرومان، الوندال، البيزنطيون وعرب سوريا، وعرب قرطبا، والأتراك والفرنسيون من غير أن توجد في البلاد في أي وقت، وبأي شكل من الاشكال دولة جزائرية ... وكان الجنرال يلوح في خطابه الى تقسيم الجزائر اذا ما فشلت المحاولات، ويقول ان انفصال الجزائر عن فرنسا سيؤدى حتما الى بؤس مدقع وفوضى سياسية مخيفة، ومجزرة شاملة. ونحن اذا نظرنا الى المجازر البشرية الموجودة في كل مكان من القطر الجزائري منذ الاحتلال من الذي ارتكبها؟ بدون شك هم الفرنسيون أنفسهم، والعالم يشهد بذلك كله، ان المجازر التي وقعت في الجزائر لم يسبق لها نظير، والقسوة التي ارتكبها غلاة الاستعمار، وقادة الجيش الفرنسي. وحكم الاستبداد الذي فرضته فرنسا على الشعب لم يكن معمولا بد في أي بلد من بلدان العالم ... الجنرال يرفض المفاوضة مع من يسميهم العصاة في خطابه على مشروعه، بل يطالب بتسليم أنفسهم بدون قيد ولا شرط ويجعل مشروعه قابلا للمناقشة لأنه يريد الاستلاء على الجزائر بقرار ينتزعه من الجزائريين أنفسهم حبوا أم كرهوا ... ويقول في خطابه أنا شخصيا واثق من أن مخرجا مثل هذا يكاد يكون غير متوقع ألا وهو انفصال الجزائر عن فرنسا وهى في وضعها الحاضر فيكون وبالا كبيرا لا يؤدي إلا للبؤس المخيف من الغرض السياسي والتذبيح، ثم الى دكتاتورية الشيوعية العاتية، ومثل هذا الشيطان يجب أن يطرد، وأن يطرده الجزائريون أنفسهم الخ ... فالجنرال يريد أن يحفظ الجزائريين من الفوضى السياسية والتذبيح والاغتيالات ممن يحفظهم يا ترى؟ أيحفظهم ممن يستميتون في الدفاع عن الوطن لينقذوا الشعب من الحرب المبيدة التي تسلكها فرنسا في هذه البلاد؟ أو من الفناء الذي جعله قادة الجيش الفرنسي هدفا لهم في هذه الديار؟ أو من تكالب المعمرين على خيرات هذا الوطن. واستثمار موارده الطبيعية وأخذهم ذلك بالقوة؟ ...

من أين يحمي الجنرال المسلمين؟ أيحميهم من مكائد ومؤامرات غلاة المعمرين، أو من اليد الحمراء التي أطلق لها العنان في العبث بالشخصيات حتى كانت تفعل ما سولت لها نفسها من المناكر والقتل الجماعي والتخريب والتهديم؟ ... ان هذا التمويه والتضليل ومجانبة الحق وعدم الصراحة والاعتراف بالواقع من أشنع وأقبح ما سمع به في العالم ... ومن سخافة القول: (قول بعض المسؤولين الفرنسيين اننا لا نستطيع أن نترك الجزائر ونسلمها الى الثوار ليقتلوا أهلها ويستبيحوا خيراتها، بل لا بد من الاطمئنان على مصيرهم ( ... انهم يتظاهرون بهذه الرحمة والشفقة الكاذبة والانسانية المنافقة وهم في كل يوم يقتلون ويحرقون المآت من النساء والأطفال والأبرياء بلا ذنب اقترفوه، ولا جرم ارتكبوه اللهم الا أنهم يقولون إننا جزائريون.

اعتكاف الحكومة الجزائرية المؤقتة على دراسة تقرير المصير

اعتكاف الحكومة الجزائرية المؤقتة على دراسة تقرير المصير الذي أعلنته الحكومة الفرنسية كحل للقضية الجزائرية، وعلى دراسة أحوال الثورة المحلية والدولية، استغرقت هذه الدراسة عدة أيام أصدرت على أثرها في 28 - أيلول 1959 بيانها بالرد على مشروع الجنرال ديغول وإنى أثبت هذا الرد بنصه كاملا قالت (اننا على أبواب السنة السادسة من الحرب، وفي الوقت الذى تستعد فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة القضية الجزائرية من جديد، وفي الوقت الذي تفتح فيه مقابلات دولية كبرى لاستقرار السلم في العالم (. وفي هذا الوقت تتجه الأنظار فيه نحو الجزائر، وتظهر جميع الشعوب رغبتها الأكيدة في عودة السلم الى هذه الأرض الافريقية حيث ما تزال تجري فيها حرب تسببت بعد فيما يقرب من مليون من الضحايا ... ان الشعب الجزائري قد اضطره الاستعمار الى حمل السلاح والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية مع تأكيدها مرة أخرى لإرادتها في الكفاح الى أن يتحقق التحرير الوطني، تعلن أنها عازمة على ألا تهمل أية فرصة لتمكين السلم من جميع نواحيه ... لقد اعترف رئيس الجمهورية الفرنسية باسم فرنسا- على رؤوس الملأ في بيانه يوم 16 سبتمبر1959م بحق الجزائريين في تقرير المصير، وهكذا قد اعترف أخيرا للشعب الجزائري في تقرير المصير بحريته، الا أن هذا التطور لم يكن ممكنا لولا أن الشعب الجزائري ما انفك خمس سنوات يواجه بانتصار حربا من أفظع الحروب التي أراد الاستعمار أن يغزو بها بلادنا من جديد ان هذا التطور لم يكن ممكنا أيضا الا بفضل تأييد الشعوب الشقيقة والصديقة، وبفضل مساندة الرأي العام الأممي ...

ان حق الشعوب في تقرير مصيرها المنصوص عليه في اعلان جبهة التحرير المؤرخ بفاتح نوفمبر 1954 كان دائما هدفا أساسيا للثورة الجزائرية، فهو يمثل وسيلة ديمقراطية سليمة يتوصل بها الشعب الجزائري الى الاستقلال الوطني ... ان حق الشعوب في تقرير المصير المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة أي حق الشعوب والتصرف في شؤونها بنفسها يعيد الى الشعب الجزائري ممارسة السيادة الوطنية التي اغتصبها منه - حينا من الدهر- احتلال عسكري لا يمكن أن تنتج عنه أية شرعية. ان الذاتية القومية التي تكونها الجزائر والوحدة الاجتماعية هي عناصر موضوعية جوهرية، ولهذا فمن الوهم تطبيق المصير بكيفية لا تقر حسابا لهذه الحقائق، أو تهدف الى تمزيق هذه الذاتية وتجزئتها الى مجموعات عنصرية ودينية ... ان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تذكر- زيادة على هذا- بالمبدئ الذى لا يمكن النيل منه، وهو وحدة التراب الوطني، وتعبر عن عزيمة الشعب الجزائري التي لا تقهر في معارضة كل محاولة للتقسيم. ان الحكومة الجزائرية تلفت نظر الرأي العام الدولي الى الخطر الذى ينتج عن كل مس بهذه الوحدة التي لا تتجزأ ... ان محاولة من هذا النوع ليست فقط بعيدة عن المساهمة في حل المشكل الجزائري، بل إنها لا تزيده الا خطورة، وتمثل تهديدا للسلم والأمن في العالم .. أما فيما يخص ثروات الصحراء فإن التنقيب عنها واستغلالها لا يمكن بأية صفة من الصفات أن يتحول ملكية شرعية ان هذه الثروات التي هي مصدر تقدم إنساني قبل كل شيء للجزائر ولأفريقيا الشمالية لا يمكن- في سبيل الصالح العام- الا أن تنتسب في ايجاد تعاون واسع مثمر ... ومن جهة أخرى فإن تعليق الاختيار الحر للشعب الجزائري عن استشارة الشعب الفرنسي ليس سوى نفي للديمقراطية ولحق تقرير المصير ...

ان الاستقلال الذي ينتج عن استشارة الشعب الجزائري بكيفية حرة لن يكون مصدرا للفوضى والبؤس، بل ان هذا الاستقلال على العكس من ذلك، يتوقف عليه كل تقدم حقيقي، انه يضمن حرية الأفراد وأمنهم، وهو أخيرا يسهل تشييد المغرب العربي والتعاون الحر مع جميع البلدان ... ومن البديهي بعد التحديد الكامل لهذه المبادئ أن الالتجاء الى الاستفتاء العام لا يمكن أن يكون بغير العودة الى السلم، لأن الحرب المتواصلة التي تزداد فتكا مع مرور الأيام لا يمكن أن ترجع السلم الى الجزائر ... ان الشعب الجزائري لا يمكن أن يمارس اختياره الحر تحت ضغط جيش الاحتلال يعد أكثر من نصف مليون جندي، وما يقارب ذلك من رجال الشرطة والجندرمة والميليشيا ان ممارسة الاختيار الحر لا يمكن أن تقع تحت ضغط الطائرات والدبابات والمدافع وتحت ضغط ادارى اشتهرت تقاليده بتزييف الانتخابات ان هذا الاختيار الحر لا يمكن أن يتم بصورة كاملة ما دام أكثر من ربع السكان موقوفا في السجن والمحتشدات أو مرغما على الهجرة هذه كلها قضايا تتطلب المناقشة. ان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي اعترفت بها حتى الآن عدة دول هي الضامنة والمؤتمنة على مصالح الشعب الجزائري الى أن يعبر عن اختياره بحريته، انها تسير وتراقب مقاومة الشعب الجزائري والكفاح التحريري لجيش التحرير الوطني، اذن فلا يمكن بدون موافقتها أن يعود السلم، هذا السلم الذى يمكن أن يتحقق حالا لأجل هذا الغرض، فإن الحكومة المؤقتة للجمهورية مستعدة للدخول في محادثات مع الحكومة الفرنسية لبحث الشروط السياسية والعسكرية لإيقاف القتال، وبحث شروط وضمانات تطبيق حق تقرير المصير ... أوضح الدكتور أمين الدباغين وزير الخارجية للجزائر رد حكومته على مشروع الجنرال ديغول في تقرير المصير فقال: (ان مشروع الجنرال كان في حقيقته موجها للرأي العام الدولي، وليس للجزائر نفسها، والجزائريون شعب مسالم، ولكن تمنت

فرنسا اضطرهم الى حمل السلاح ليدافعوا عن بلادهم، وبعد خمس سنوات من الثورة استطاع الشعب بصلابة جهاده أن يرغم المستعمرين الفرنسيين على الاعتراف بحقه في تقرير مصيره، ونحن نرحب بإجراء الاستفتاء شريطة ألا يخضع لضغط أو إكراه، أو تدخل من طرف فرنسا أو غيرها، كما أن الجزائريين متمسكون بوحدة التراب الجزائري ... ونحن مستعدون للتفاوض ضمن هذين الشرطين، ونحن واثقون من أن الشعب الجزائري بمجموعه سيصوت من أجل الاستقلال التام ضمن وحدة التراب الجزائري، ولكن ما بين الاعتراف بحق تقرير المصير وتطبيقه مرحلة طويلة تتطلب جهادا مستمرا متواصلا حتى نرغم فرنسا على تفسير حق تقرير المصير كما نفهمه نحن ويفهمه الضمير الحر في العالم، وليس كما يفهمه العقل الاستعماري الذي عودنا دائما على قلب كل المفاهيم والقيم لنتماشى مع مطامعه الغير المشروعة. وأدلى السيد عباس فرحات رئيس الحكومة الجزائرية بتصريح قال فيه: (ان إجراء الاستفتاء حول تقرير المصير في ظل وجود مليون جندي فرنسي ما بين قوات الجيش والأمن والجندرمة يشرف عليه خبراء في تزوير الانتخابات لا يمكن أن يكون استفتاء ولن يخرج عن كونه تكرارا للانتخابات السابقة التي أجرتها فرنسا في الجزائر ... ويمضى وهو يقول: نكشف للقارئ تفاصيل المؤامرة التي رسمها ديغول لتنال فرنسا من وراء نجاحها ما عجزت عن تحقيقه بالسلاح وفيما يلي الخطوط الرئيسية للمؤامرة التي أعدت بمهارة، وبعد دراسة التحري تصفية الثورة وفق بنودها، يوقف القتال فورا مقابل إعلان الاعتراف بحق سكان الجزائر في تقرير مصيرهم ... أ- باسم توطيد السلم لحين اجراء الاستفتاء حول تقرير المصير يحل جيش التحرير ويجرد من سلاحه، ويلزم الثوار بالخضوع للقوانين والنظم الفرنسية القائمة تحت شعار فرض السلم ...

ب- تظل القوات الفرنسية المسلحة على حالها في الجزائر باعتبارها القوات الشرعية المسؤولة عن الدفاع والأمن الى حين تقرير المصير ... ج- العمل على اطالة فترة الانتقال ما بين وقف القتال واجراء الاستفتاء، ويراعى في الشروط الخاصة بالتمهيد للاستفتاء تمكين الحكم الفرنسي من تمديد هذه الفترة وفق ما يريد ... د- أن يعمل الارهاب الفرنسي خلال فترة السلام على تصفية الثورة تماما والقضاء على القوة الثورية الوطنية باسم قيام الحكم الفرنسي بإقرار السلام. فإن هذه التصريحات من الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ورئيسها ووزير خارجيتها لم تدع مجالا للمناورات والدسائس واللف والدوران ... هذه التعليمات كلها على مشروع ديغول كانت في غاية الصراحة والوضوح لأن الحكومة المؤقتة تعرف جيدا مكائد الاستعمار التي سببها للشعب الجزائري في تزوير الانتخابات والديمقراطية الزائفة، واستعملت في ردها على الحل الذي صرح به رئيس الحكومة الفرنسية ملازمة الحذر واليقظة كي لا تضيع مجهودات الشعب الجزائري الحربي التي بفضلها انتزع سيادته وتقرير مصيره من العدو ...

رئيس الحكومة الفرنسية يقول تصريح الجنرال هو تأكيد لسياسة فرنسا في الجزائر

رئيس الحكومة الفرنسية يقول تصريح الجنرال هو تأكيد لسياسة فرنسا في الجزائر ذهب رئيس الوزراء الفرنسي (م دوبرية) يؤكد هذا المشروع الخطير على أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية قال دوبرى (ان مشروع ديغول المعلن في 16 سبتمبر يعطى الجزائر الفرصة الوحيدة لمغادرة الحلقة الجهنمية من العنف والدخول الى دائرة الحقوق، والعودة الى الحقوق ليست في الاعتراف بسيادة جزائرية مزعومة، ولا في اجراء مفاوضات سياسية مع المسؤولين عن حركة العصيان: ان بيان الجنرال ديغول ليس أساسا للمناقضة أو المفاوضة وانما هو تأكيد لسياسة فرنسا وتحديد لخطتها في الجزائر، ويمضى ويقول: في بيانه موضحا شروط حكومة فرنسا لوقف اطلاق النار (على الذين بدأوا بإطلاق النار في الجزائر أن يتوقفوا على ذلك ويعودوا بدون عذاب الى عائلتهم وأعمالهم، ولقد أعطيت التعليمات اللازمة من قبل حكومة الجمهورية حتى يمكن مناقشة كيفية وقف اطلاق النار، وستعطى الضمانات اللازمة في هذه المناسبة الى ممثلي العصاة بعدم تعرض حريتهم للخطر واذا لم تنجح هذه المفاوضات فبإمكانهم العودة الى الخارج بكل حرية ( ... ومنذ اعلان تقرير المصير ضاعف الجيش الفرنسي والمنظمة الارهابية من نشاطهما الايبادي، وتعذيب السكان بإذن المسؤولين من الحكومة الفرنسية فكان الجيش الفرنسي يصدر الأحكام على المواطنين والمجاهدين سواء كانوا ثائرين أم، لا يضرب الاعناق والاعدامات المختصرة، وفي بعض الأحيان بدون محاكمة فيذبح ويمثل بالضحايا أشنع تمثيل. أصبحت السلطة الفرنسية تعذب الفرد والجماعة على السواء كتب بعض الاوربيين من المنصفين المعتدلين عدة كتب في اقتراف المناكر التي يرتكبها جنود المظلات نذكر من بين هذه الكتب كتاب (بنوارى) فإنه يتصف الضباط الفرنسيين كيف يتكلمون عن

التعذيب وأنواعه فقال: فلشد ما صدمني أن الناس مدنيين وعسكريين يتحدثون عن ذلك جهارا- في غير ما حياء- حديثهم عن شيء طبيعي، وعن فيلم سينمائي أو عن مباراة كرة القدم ... وضباط آخرون يقولون: هذه الفظائع التي عمت في الجيش الجميع يتكلمون عنها علانية، المدنيون في المقاهي والملاهي، والعسكريون في كتائبهم ومطابخهم، والجميع يستخفون بقولهم، هناك البحر المتوسط بيننا وبين الجزائر وعلى كل حال، فنحن أمة تعلم المدنية ... فأين هذا من أعمال المجاهدين في معاملتهم لأسرى فرنسيين فإنهم يفضلونهم على أنفسهم في المأكل والملبس ... أصدرت الحكومة الجزائرية المؤقتة 4 - 15 - 1958 مرسوما يقضي بإطلاق سراح أسرى الحرب بلا قيد أو شرط، وكانت تأمل من وراء هذا السلوك أن ترى الجانب الفرنسي يطبق المبادئ الانسانية بصورة تدريجية على النزاع القائم، وينص هذا المرسوم عن تفريج خمسين أسيرا فرنسيا على دفعات متتابعة ... بعد ما وصل هؤلاء الأسرى الى ذويهم أعلنوا للعالم بأن قوانين الحرب مضمونة في الجزائر الحرة، وأن نظام أسرى الحرب كما يعرفه القانون الدولي محترم كل الاحترام، فالأسرى يراسلون أهلهم حتى انهم وجهوا اليهم بواسطة الصليب الأحمر الدولي رسائل مسجلة عن أشرطة صوتية، وقد بلغت عاطفة الحنان التي اشتهر بها الجزائريون فجعلتهم يقبلون في كثير من الاحوال على توزيع جرايتهم على الأسرى، وكان الجند الجزائري يضطر الى المشي بلا نعل بعف ما يخلعها ويقدمها الى الأسير الفرنسي، وهو مثخن القدمين ... هذه المعاملة الحسنة التي يعامل بها المسلمون أعدائهم، هي من تعاليم الدين الحنيف الذي يوصى بالشفقة والرحمة على الضعفاء مهما كانت جنسياتهم وعقائدهم، فهو دين العدل والمسامحة والانسانية الكاملة لا كما يدعى رواد المدينة الغربية

من أنهم يهذبون الانسانية ويحملون اليها المساواة والحرية والاستقلال الا ان الشواهد والتجارب تكذب هذه الادعاآت الزائفة والأقوال الباطلة ... كان الجيش الفرنسي يعامل المقاتلين الجزائريين الواقعين في قبضته معاملة وحشيه، لم يطبق عليهم قانون أسرى الحرب ولم يكتف بذلك بل كان يتعرض للوحدات الجزائرية التي كانت تحمل أسرى الحرب الفرنسيين عبر الحدود التونسية أو المغربية ليطلقوا سراحهم ... ومع هذا فقد وجه قادة الثورة عنايتهم بوجه خاص الى حالة الشبان الأجانب الذين كانت السلطات الفرنسية تجندهم من الأجانب عنها- المسمين بالفرقة الاجنبية- بغير رضاهم، وقد أنشأوا عددا من المكاتب، تتولى أمر إعادة هؤلاء الجنود الفتيان الى أوطانهم، ففي سنة 1960م بلغ عدد المعادين الى أوطانهم عبر الحدود المغربية وحدها 3299 جنديا فرنسيا ... قام ذووا الضمائر الحية من الفرنسيين بمعارضة الحرب في الجزائر معارضة شديدة، وأصدروا بيانا أمضى فيه أكثر من 131 شخصا يمثلون الفكر والآداب والعدل والمساواة أمثال) بول ساتر) وسيمون دى بوفوار، وفرانسو ساجان وغيرهم دعو الجنود الفرنسيين الذين يقاتلون في الجزائر الى تبرئة ضمائرهم بحيث يهملون الأوامر التي تتفق مع المبادئ الإنسانية، وانضم رجال الكنيسة الى التنديد بأعمال التعذيب واستنكروها، ودللوا بذلك على تطور موقف الكنيسة إزاء القضايا الاستعمارية. كان قادة الجيش الفرنسي يظنون أن مشروع ديغول في تقرير مصير الجزائر لم يكن جديا، ولهذا قال الجنرال ماسو في خطابه الذى ألقاه على جموع المعمرين بمدينة الجزائر يوم 29 من أكتوبر 1959 قال: "لقد أتيت إليكم لأؤكد لكم أنه لم يتغير شيء، وأن عمليات التهدئة مستمرة، وسوف تستمر بنفس الوسائل، وإنى أدرك قلقكم كفرنسيين منذ أن تقدم الجنرال ديغول بمشروعه الجديد، فأؤكد لكم علنا أنكم متمسكون بفرنسا. والاختيار الذي سيسمح لكم وحدكم مع الجيش الذي هو بالقرب

منكم، والذي سيبقى هنا معكم بأن تظهروا من جديد قراركم، ومن جهة الاختيار فإنكم ستبقون الى جانب فرنسا" ... تعرضت السياسة الفرنسية في الجزائر من بعد اعلان تقرير المصير لهزات عنيفة وتغيرات سياسية نتيجة موقف الثورة الصلب نلاحظ أن مبادئ جبهة التحرير ظلت قائمة دون تغيير اللهم الا في بعض التغيرات اللفظية التي لم يتغير من مضمونها شيء وفيما يلى برنامج الجبهة كما أعلنته بعد تكوينها في سنة 1956 ... الهدف هو الاستقلال الوطني بإيجاد دولة جزائرية ذات سيادة ونظام ديمقراطي اشتراكي في دائرة المبادئ الاسلامية مع احترام جميع الحريات الأساسية بدون تمييز في الدين، وفي الميدان الخارجي، تصرح بأن غايتها هو تدويل القضية الجزائرية، وتحقيق وحدة شمال افريقيا في نطاقها الطبيعي الذي هو نطاق العروبة والإسلام. وبينت أن أساس المفاوضات مع فرنسا على النحو التالي: 1 - فتح المفاوضات مع الممثلين الحقيقيين للشعب الجزائري على أساس الاعتراف بالسيادة الجزائرية الموحدة التي لا تتجزأ. 2 - ايجاد جو من الثقة، وذلك بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ورفع جميع التدابير الاستثنائية والتوقف عن تتبع فرقا المقاومة ... 3 - الاعتراف بالشخصية الجزائرية في تصريح رسمي ينسخ جميع القوانين التي صيرت الجزائر أرضا فرنسية بالرغم من التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات التي يتصف بها الشعب الجزائري، وفي مقابل ذلك يتعهد الجزائريون بما يلى ... أ- ضمان المصالح الفرنسية الثقافية والاقتصادية التي حصلوا عليها بطريقة شريفة، وكذلك الأشخاص والعائلات ... ب- جميع الفرنسيين الراغبين في البقاء بالجزائر يكون لهم الخيار بين جنسيتهم الأصيلة، وفي هذه الحالة يعتبرون أجانب بالنسبة للقوانين المعمول بها، أو يأخذون الجنسية الجزائرية وفي هذه الحالة يعتبرون جزائريين لهم ما للجزائريين من حقوق وواجبات ...

ج- تحديد العلاقات بين الجزائر وفرنسا تكون موضوع مفاوضات بين الدولتين على قدم المساواة والاحترام المتبادل ... كانت السلطة الفرنسية قبل مجيء الجنرال ديغول غير مستعدة للاعتراف بجبهة التحرير كمفاوض شرعي متحدث باسم الجزائر، فلما آل الأمر الى الجنرال لم يتكلم على المفاوضة وإنما تكلم على سلم الأبطال. واستمر على رفضه في الدخول فيها مع جبهة التحرير حتى بعد إصدار مشروعه بتقرير المصير ... ولما كانت الحرب في تصاعد، وجميع برامج الحرب والقوات فشلت والثوار لم يستجيبوا للنداء الذي تكلم عليه الجنرال، ومنه حب أن يتصل بجبهة التحرير ليعرف نواياها. وفي صيف سنة 1960 أراد الجنرال أن يجس النبض بشبه محادثة رسمية مع جبهة التحرير، ولم يفعل ذلك الا بعد تردد شديد، فتلاقى الوفدان من الحكومتين، وأدلى كل واحد منهما بنظريته فيما يخص القضية الجزائرية، ولما كانت وجهة النظر متباينة، رجع كل منهما الى بلاده، ولم تغير هذه المحادثة من الوضعية شيئا ... هذا مما يدل دلالة واضحة على أن الجنرال ديغول عندما تولى السلطة لم يكن مستعدا لتقبل النهاية التي وصلت إليها الثورة الجزائرية، ألا وهو الاستقلال التام ووحدة التراب الوطني، وتسليم السلطة الى الجزائريين، ولهذا نميل الى الرأي القائل بأن الجنرال لم تكن لديه سياسة محددة اتجاه الجزائر الا أن آراءه قد تطورت تحت ضغط الحوادث العالمية، وأمام صمود الثوار على وجه الخصوص ... وتقرير المصير الذى اعترف به، والاستفتاء الذى يريد إجراءه في الوقت المناسب كما يقول يشكلان عقبة كأداء في وجه الثورة الزاحفة الى الأمام. بعث الجنرال الى القوات المسلحة الفرنسية والموظفين الفرنسيين في الجزائر- بعد أسبوعين من اعلان مشروعه-

رسالة من الجنرال ديغول الى القيادة العسكرية الفرنسية في الجزائر

رسالة من الجنرال ديغول الى القيادة العسكرية الفرنسية في الجزائر تبين هذه الرسالة بوضوح غرضه، إنني أنقل نص الرسالة يقول الجنرال: "الى القوات المسلحة، وجميع موظفي الإدارات العامة في الجزائر لقد رسمت خطوط سياستنا في الجزائر، وقررت تنفيذها على مسؤوليتي، وأنا ملم بجميع ملابساتها، ان المهم الآن هو تهدئة الجزائر بصورة كاملة وإنسانية، وتشجيع تنفيذ مشاريع التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وتهيئة الجزائريين من مختلف الهيآت، للاتحاد مع فرنسا، وبعد انقضاء سنوات عديدة على التهدئة يمكن اجراء استفتاء حر ليقرر الجزائريون حينذاك مصيرهم بأنفسهم في ظروف يصار الى تحديدها في الوقت المناسب ومن الضروري عندئذ أن يتم هذا الاختيار بحرية، والا فالمشكلة الجزائرية لن تحل بصورة نهائية، وفرنسا من جهتها ترغب في حلها حلا نهائيا. وتقوم الحكومة الفرنسية التي تتمتع بثقتي التامة الآن بتهيئة هذه المهمة الكبرى ... كلكم يعلم أن هذه المهمة ستكون حاسمة بالنسبة الى الجزائر ولفرنسا معا، وهى شديدة ستؤثر حتما على رسالتها الافريقية، وعلى وحدتها الوطنية، وعلى مركزها الدولي، ونجاح تلك المهمة يتوقف على عملكم واتحادكم في تنفيد الرسالة التي رسمتها بعد كل تلك الأعمال والتضحيات التي بذلتموها يتوجب عليكم خدمة فرنسا بالمحافظة على النظام " وبالتعاون في خدمة أغراض فرنسا بدون أن تتأثروا بأية خطة أخرى اعملوا فإنى اعتمد عليكم ... ولكي ينفذ الجنرال ديغول مشروعه، ويضعه موضع التنفيذ يجب أن يضاعف من قواته في الجزائر، ويخوض غمار حرب مدمرة شاملة لا تبقى ولا تذر، وعلى الشعب الفرنسي أن يعاني من ويلات هذه الحرب وامتدادها الى ما لا نهاية لها، فحكامه لا يريدون أن يعترفوا بحق الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال ولن يعترفوا الا إذا كانوا مكرهين وبالقوة وحدها ...

بدأ الجنرال ديغول يلوح بمشروعه وهو يرتدي ثوب النصر ليعامل جيش التحرير بل يطلب منهم أن يلقوا سلاحهم ويتوقفوا عن القتال فورا دون مناقشة، وبعد أربع سنوات من الخضوع للحكم الفرنسي عندئذ يجرى الاستفتاء وكان في الفينة بعد الفينة يعلن أن مشروعه غير قابل لأية مناقشة، ومن بعد يوضح بعض النقاط المهمة التي جاءت في تقرير المصير ... وبين رئيس الوزراء م دوبرية في 12 أبريل 1960 م بقوله: ان في حالة اختيار الانفصال فلن يكن هناك حل سوى التقسيم ... وكان موقف جبهة التحرير واضحا من أول الثورة لأن مقررات مؤتمر واد الصومام لم يكن بوسع أي أحد أن يتنازل عنها لذلك كانت فرنسا هي التي تضطر الى التنازل. بدأ الجنرال يتقارب، فقال (ان الاستفتاء يتم على مرحلتين: المرحلة الأولى يختار الجزائريون بين الانفصال والارتباط مع فرنسا، وإذا اختاروا الارتباط، فإن المرحلة الأخيرة يكون استفتاء على طبيعة هذا الارتباط، وأخد يدخل تعديلات على مشروعه، وأهم تعديل هو ما صرح به في 4 نوفمبر 1960 فقال إنني مستعد لقبول قيام جمهورية جزائرية ما دام الجزائريون يريدون في ذلك) وقال (حتى اذا بقيت الجزائر مرتبطة مع فرنسا يجب أن تكون لها أجهزتها الحكومية الخاصة ... وقد اعتبر اليمنيون وغلاة الاستعمار من المتطرفين هذا التصريح تساهلا جديدا يضاف الى مشروع سنة 1959 م لأنه يجعل الاختيار محصورا في أمرين: الانفصال أو الاتحادية، ويسقط الحل الثالث وهو الاندماج ومن بعد هذا التصريح قامت موجة من الاضطرابات في صفوف اليمينين في فرنسا والجزائر، واستقال كثير من المشاركين في حزب ديغول المعروف باسم اتحاد الجمهورية الجديدة، فأجرى الجنرال استفتاء شعبيا على سياسته في الجزائر فكانت النتيجة 75 % من الأصوات في فرنسا معه. والواقع أن الجنرال ديغول واجه مشكلة الأوربيين في الجزائر وفي فرنسا حتى قبل إعلان مشروعه، وذلك حين أمر بحل لجان الأمن العام لأنه خاف أن يكون أداة في أيدى الذين نادوا به، ومن

بعد الاعلان عن مشروعه ازدادت العلاقة بينهما سوءا، فصرح الجنرال ماسو قائد فرقة المظليين لصحيفة ألمانية في أول يناير 1960 م بأن الجيش قد يضطر أحيانا لعدم الوضوخ لأوامر الحكومة، لكن الجنرال ديغول اتخذ معه موقفا حاسما بحيث أخرجه من الجيش لأن تصريحه شجع المعمرين على القيام بحركة عصيان مضادة للحكومة وفي 26 يناير الى 2 فبراير سنة 1960 قام أوربيو الجزائر بأول حركة تمرد واسعة واستولوا على السلطة في الجزائر، وأقاموا المتاريس في الشوارع العامة ولحسن حظ الجمهورية الخامسة أطاع الجيش أوامر الحكومة المركزية، وقضى على هذه الحركة، وإن كان بعض الضباط فعلوا ذلك على مضض ... وحركة العصيان هذه لم تقتصر على حركة الغلاة من المعمرين في الجزائر بل شملت أحزاب اليمين في فرنسا، وتكتل الجميع باسم جبهة التحرير الفرنسية الذي يرأسها م جورج يبدو أحد كبار السياسة في عهد الجمهورية الرابعة، وزعيم حزب الحركة الجمهورية الشعبية، ولكن اخطر ما تعرضت له الجمهورية الخامسة هو محاولة الانقلاب العسكري الذي قام به أربع جنرالات وهم راؤول سالان، وشال، وزيلير، وجوهو، في الثاني والعشرين من أبريل الى 26 منه 1960 ولكنها قمعت في الحال مثل الحركات الأخرى ... تشدد الجزائريون في ضمانة سلامة الاستفتاء، وصمموا على مواصلة الحرب، وكانوا مستعدين لتحمل جميع الآلام والمشاق والمتاعب، وفي أول يوم من السنة السادسة من القتال صرح وزير الدفاع الجزائري بقوله ((إننا مصرون على مواصلة الحرب حتى النصر، ولدينا من القوة ما يمكننا من القتال عشر سنوات أخرى) كما أبلغت القيادة العليا لجيش التحرير هذا البلاغ الى جنودها صباح يوم 4 أكتوبر 1959 م بقولها: (ان تقرير المصير الذى انتزعتموه بكفاحكم والخطوة التي قطعتموها عظيمة، وقد أصبح الاستقلال في متناول أيدينا، ولكن لا يمكن ذلك

بحال من الأحوال أن يشكل تقرير المصير هدنة، فالمعركة مستمرة، وسنواصل القتال حتى النصر وشعارنا اتحاد، عمل، يقظة، ثقة ... عاد وزير الخارجية الجزائري الى تأكيد مواصلة القتال، وذلك لتصريحه أثناء انعقاد مؤتمر حكومة الجزائر المؤقتة للدول العربية في دمشق فقال (لن يلقى الشعب الجزائري السلاح الا عندما تحصل الجزائر على حريتها واستقلالها فشعب الجزائر عاقد العزم على مواصلة الكفاح الى أن يتحقق النصر أما شعب فرنسا فهو غير مستعد، وهذه حقيقة تعرفها حكومة فرنسا جيدا) دمشق 8 تشرين الثاني 1959 م. وفي الرابع من تشرين الأول 1959 م- أصدرت القيادة العليا لجيش التحرير أمرا يوميا أذاعته على المجاهدين في جميع مواقعهم بجبهات القتال بأن أي اقتراح بالاندماج أو الاتحاد مع فرنسا مرفوض ووصفت اعتراف الجنرال بحق تقرير المصير بأنه نصر للثورة وأكدت قيادة الثورة بقولها (ان الثورة قوية أكثر من أي وقت مضى، وأن باب الاستقلال مفتوح للجزائر، استطردت تقول ان هذا النصر نصركم، وتقرير المصير انتزعتموه بكفاحكم يساندكم في ذلك شعب لم يتهرب أمام أية تضحية، وتشد أزركم الدول المحبة للحرية. حاول الجنرال ديغول: أن يكون قوة ثالثة من بين النزعات القومية للجزائريين من جهة، والمستوطنين الفرنسيين والجيش من جهة أخرى، وراح يكرر في نهاية 1960م عبارة الجزائر الجزائرية، وتمهيدا لهذه الخطة أعلن أنه ليس من الضروري انتظار انتهاء القتال للشروع في تزويد الجزائر الإدارية الخاصة، أجرى انتخابات المجالس البلدية، وظهر فيها أنصاره بالأغلبية الساحقة سواء كانوا من الجزائريين أم من الفرنسيين، وتبين أن هؤلاء قد كونوا اتجاها متميزا عن الاندماجيين كما أعلن ديغول عن نيته في تأسيس جيش جزائري في إطار هذه السياسة، ولكنه أخيرا أدرك استحالة تكوين هذه القوة الثالثة الذي أراد تجمعها من المعتدلين الجزائريين والأوربيين على السواء ...

ولم يلبث أن لمس الحقيقة بنفسه وهى أن أية مفاوضة مع غير جبهة التحرير ستكون عبثا، وحينها قام بزيارة الجزائر في العاشر من شهر ديسمبر 1960 ليشرح سياسته الجديدة انتهز المعمرون هذه الفرصة فعبروا عن العنصرية بأفظع صورها، فقاموا بحركة رهيبة من القتل الجماعي والتخريب في مدينة الجزائر العاصمة ووهران، وذهب ضحية هذه البربرية خلق كثير من المسلمين، ولما رأى الشعب الجزائري هذه الاعمال الوحشية قام بمظاهرات كبرى معاكسة حاملا الأعلام الجزائرية متحديا الموت مناديا بالشعارة الوطنية وبجبهة التحرير ... ومن المعروف أن الصراع بين العناصر المتجاورة تترك أثرا عميقا أكثر مما تتركه الحرب المألوفة. هذه المظاهرات الشعبية هي التي ردت عقلية الجنرال الى الصواب، وجعلته يشعر بأن كل إجراء يتخذ بدون اتفاق مع جبهة التحرير سيكون مآله الفشل، وعاد الى باريس، وهو يؤمن بعدم الحلول الوسطى في هذه القضية الشائكة، فبدأ يمهد السبيل لكي يخطو الخطوة النهائية ألا وهي المفاوضات على تقرير المصير مع جبهة التحرير لتحصل الجزائر على استقلالها التام. ومن بعد مفاوضة (إيفيا) اصبحت الجزائر دولة ذات سيادة حرة مستقلة، وذلك بفضل الإسلام الذي دفع الشعب الى جهاد الاستعمار حتى أحرز على النصر النهائي.

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} قرآن كريم

الخاتمة

الخاتمة الأمة الاسلامية هي أمة القرآن، إليه يرد أصلها، وبه يعرف نسبها ومنه نسحب وتنسج ما تلبس من حلل العزة والكرامة والسيادة، ولن يمسك وجودها الا رعايتها للقرآن الكريم، واجتماعها عليه ويوم تفتر عزيمتها عن المضي فيه أو تسترخي يدها عن الشد عليه والتعلق به يوم يكون- ولا كان- ردتها الى الجاهلية، وركسها في الضلال، ورعيها في الهمل مع السائمة والهائمة من حواش الأمم ونفايات الشعوب. وتاريخ المسلمين مع القرآن الكريم يشهد لذلك شهادة قائمة على هذا الحساب، مقدرة بهذا التقدير، جارية معه طردا وعكسا فإنه على قدر ما كان يقترب المسلمون من كتابهم الكريم، وبقدر ما كانوا يرعون حقه ويؤدون أماناته، كان نصيبهم من الخير، وكان حظهم صن السلامة في أنفسهم وأموالهم وأوطانهم. فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. والعكس صحيح، فإنه على قدر ما كان يبتعد المسلمون عن كتابهم وبقدر ما يفرطون في حقه ويستخفون بشأنه بقدر ما كان بعدهم عن الخير وكان دنوهم من الخطر، وتعرضهم لآفات التفكك والانحلال فعن شأن القرآن أن يقيم المتصلون به على طريق الحق. ان الذي يستقيم على دعوة القرآن لهو إنسان سليم في كيانه ومعافى في نفسه، ثم هو قادر على أن يحمل الهدى الى غيره، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويكون خليفة الله في الأرض وخليفة الرسول في الدعوة وهداية الناس إليه. ولكن صحبة المسلمين للقرآن لم تكن قائمة على العدل والاحسان في جميع الأحوال فكثيرا ما أساء المسلمون تلك الصحبة وأوسعوها جفاء وعقوقا حيث يعيش فيهم القرآن غريبا لا

يقفون عنده ولا يلتفتون إليه ولا يتدبرون آياته، ولا يتلقون بعض ما فيه من الخير والهدى. والجفوة التي بين المسلمين وبين القرآن الكريم جفوة غليظة مستحكمة، قد تداعت عليها دواع كثيرة أحكمت بنيانها وثبتت دعائمها، فلم يعد بين المسلمين وبين القرآن طريق يصلهم به إلا تلك الطريق الدراسة الطامسة التي تتصاعد منها أتربة وأدخنة تعمي الناظر عن كتاب الله ووجود الخير والحق الذي فيه. وان حظ المسلمين من القرآن اليوم هو حظهم من مخلفات الآباء والأجداد مما تضمه المتاحف ودور الأثار، يزورونها إلماما، ويطرقونها حينا بعد حين. قد تثير فيهم تلك الزورة نشوة ... وتبعث فيهم عزة عادية، يقولون إننا نلم القرآن إلماما، ونلقاه حينا بعد حين ونتذكر به في تلك اللقاءات من مواعظ وعظات ثم لا يلبثون حتى تذهب عنهم ما علق بأذهانهم من العظات قبل أن يضعوا المصاحف من أيديهم، والمسلمون في الصدر الأول للإسلام أغناهم القرآن عن كل شيء لا يمدون أبصارهم الى غيره ولا يأخذون لدينهم ودنياهم الا بما يوحى به اليهم علمه وترمى به اليهم آياته وطبيعي أن هذا الذي نقوله عن كتاب الله تقوله كذلك فيها ثبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، إذا كانت السنة المطهرة تطبيقا شارحا لكتاب الله وفي هذا يقول الله تعالى: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} - سورة الحشر-. ولا يستقيم القول بأن القرآن مصدر تشريع إسلامي الا بفهم صحيح ولا يكون هذا الفهم الصحيح السليم الا عن طول تأمل وتدبر لكتاب الله وتذوق لأساليب بيانه والوقوف على بعض أسراره. وبهذا الفهم لكتاب الله يتحقق لنا أمران: أولاهما: اتصالنا به اتصالا وثيقا قائما على معرفته، وتذوقنا لجنى طعومه الطيبة هذا مما يجعل تلاوتنا للقرآن تلاوة تؤثر في نفوسنا وتقع على قلوبنا بردا وسلاما ونتجاوب مع آدابه،

وتستجيب لندائه فيما يدعو إليه من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. ثانيهما: تصور مسائل الدين تصورا واضحا محددا بلا قول ولا معلقات وبهذا يعرف المسلم الحكم قاطعا فيما أحل الله وفيما حرم، فيكون على بينة من أمره فيما يأخذ أو يدع من أمر دينه.

§1/1