الاصطلام في الخلاف بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة

السمعاني، أبو المظفر

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام قدس الله روحه ونور ضريحه: بالله أستعين، وإياه أحمد، وعليه أتوكل، ومنه استهدي، وبه ألوذ، وفيه أجاهد، له الفضل والثناء الأسنى، وله الصفات العلى والأسماء الحسنى، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وأعذنا من هواجس أنفسنا، ومضلات أرائنا وخواطرنا، وأمدنا بلطفك العزيز، وأقبل علينا بوجهك الكريم (اللهم اجعل صدري خزانة توحيدك، ولساني مفتاح تمجيدك، وجوارحي في حرم طاعتك، فإنه لا عز إلا في الذل لك، ولا غنى إلا في الفقر إليك، ولا أمن إلا في الخوف منك، ولا قرر إلا في القلق نحوك، ولا روح إلا في الكرب لوجهك، ولا راحة إلا في الرضا بقسمتك، ولا عيش إلا في جوار المقربين عندك)، اللهم اجعل سعينا فيما يقرب إليك، وكدنا فيما يوجب رضاك، وقد بزمامنا من حولنا وقوتنا على حولك وقوتك، وأهدنا الأرشد والأوفق فالأوفق والألطف فالألطف. اللهم ونسألك أن تهدي إلى رسولك وصفيك وخيرتك من خلقك من الصلوات أفضلها وأزكاها، وأتمها، وأنماها وأعدلها وأوفاها، واجعلها وسيلة لنا إلى نيل شفاعته والوصول إلى كريم وجهه، إنك أنت الجواد المنان والرحيم الرؤوف.

أما بعد: فقد سبق مني كتاب جمعته من الخلافيات سميته ((البرهان)) وبلغت فيه غاية ما رمته على ما اتفق لي من إقامة الدلائل وإيضاح البراهين وإزاحة الشبهات وكشف المعاني غير أن الكتاب طال جداً، فإني لم أكن شرعت فيه شروع طالب للاختصار والإيجار بل قصدت فيه قصد الاستيفاء والاستقصاء وأردت أن يكون ذلك عمدة المدرس لا عدة الحافظ، نعم، وحين طال بي المراس في المسائل، وتردد القول في سبرها وسبكها جدالاً مع المخالفين ومذاكرة مع الأصحاب، وعرضتها على فكرى مرة بعد أخرى وكرة بعد أولى، عرضت في خلال ذلك طرق متينة ومعاني محكمة وأسرار عجيبة ونكت معجبة، ورأيت عجز المعترضين دونها وتضأل المخالفين عندها، وتعظم المتدافعين عند جانبها فعند ذلك رأيت أن أسعى في مجموع آخر للأصحاب خاصة، ولكل من طلبه عامة سعى من طب لمن حب، ألفت فيه بنات صدري وأجمع له كدي وجدي وأبلغ فيه الغاية بجهدي وأجعله زبدة عمري ونهاية فكري، وقصدت فيه قصد الإيجاز والاختصار وهو كتاب لم يطل ذلك الطول المفرط الذي يسأم منه الناظر ولم يقصر قصور العجز عن بلوغ المراد، واعتنيت في المسائل التي أعضلت على فحول النظر زيادة اعتناء، وكشفت عن حقائقها زيادة كشف. ونصصت على المعاني التي يمكن الاعتماد عليها، ونبهت على كثير من مجازفات المتفقهة وتجوزاتهم وتمسكهم بطرق حقها الإطراح، وغفلتهم عن معاني حقها القبول والإتباع، وذكرت حجج المخالفين بأتم لفظ وأوجز معنى، وأثبت بما يعتمد الأئمة منهم في الوقت، ولم أشتغل بالمستسقط من كلام مشايخهم إلا أشياء لابد من إيرادها والانفصال عنها، وسميت الكتاب ((كتاب الإصطلام)) لإصلامه كلام المخالفين لنا ابتلاء ولإطراحه

كثير من كلام مشايخنا المتقدمين توهيناً وضعفاً، وعندي أن من نظر في هذا الكتاب نظر بتأمل غائص في معانيه فهم لحقائقه معرض عن طريقة التعصب والتقليد راي كل كتاب صورة في هذا الفن للمتقدمين والمتأخرين في صورة المطرح المستغني ..... أن يشكر سعيي وتعبي فيه، ويعرف حق قيامي بأعبائه ويمدني بالدعاء ..... ، والله تعالى يعصم من الإعجاب بالقول ويرشد إلى الأصوب والأهدى/ من الأمور بمنه وفضله وعميم طوله. * * *

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة (مسألة) لا يجوز إزالة النجاسة بمائع سوى الماء عندنا، وهذا قول محمد، وزفر من أصحابهم. وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف يجوز. لنا: إن الماء طهور شرعاً لا لمعنى، فلو ألحق به غيره في الطهورية كان لمعنى، فإذا كان ثبوته لا لمعنى إلحاق غيره به. والدليل على أن الماء طهور لا لمعنى، الحكم والحقيقة: أما الحكم فلأن طهورية الماء في الحدث لا لمعنى كذلك في النجاسة، وهذا لأن عمل هذا الوصف بنفي محلين، فإذا لم يكن لمعنى في أحد الملحين فكذلك في الآخر.

وأما الحقيقة فلأنه لو كان معلولاً كان معلولاً بعلة الإزالة، وهذا لا يجوز، لأن معنى الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وصفة تطهيره لغيره إنما توجد عند اتصاله بذلك الغير، كقولنا: ضارب للغير وشاتم للغير ومكلم للغير، إنما يوصف بهذا عند اتصاله شتمه وضربه بالغير، وإذا اتصل بالمحل النجس امتزج بالنجس، والماء الممتزج بالنجس نجس، وما لا يكون طاهراً في نفسه لا يكون مطهراً لغيره فدل تعليل الطهورية به بالإزالة باطل، فبقى أنه طهور شرعاً لا لمعنى، وبطل إلحاق سائر المائعات به. فإن قالوا: إذا قلتم إن الماء بامتزاجه بالنجس يصير نجساً فكيف يزيل النجاسة؟ وبالإجماع إنه يزيل النجاسة عند استعماله في المحل غسلا. قلنا: إنما يزيل النجاسة شرعاً لا لمعنى الإزالة، على هذا إن عندنا يبقى الماء طهوراً بعد وروده على النجاسة ثبوت صفة الطهورية له. والحرف أن الطهورية منصوص عليها للماء، ووقت ظهور الطهورية عند غسل المحل النجس فبقيت هذه الصفة للماء وإن امتزج بالنجس ليحصل العمل بالنص ولا يتعطل، ولم يكن لمعنى حتى يلحق غيره به. وهذا لأن الضرورة ارتفعت بالماء فبقى غيره على أصل ما عقلنا من المعنى وهو أن المائع الوارد امتزج بالنجس وتنجس وإزالة النجاسة بالنجس غير معقول، ولأن غير الماء ليس في معنى الماء حتى يلحق به، لأن الماء خلق ليكون طهوراً، وقد ورد الإنزال بمعنى الخلق في القرآن مثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ}. ومثل قوله: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}.

وغير الماء من المائعات لم يخلق ليكون طهوراً. ولهذا يكره استعمال ماء الورد والخل في إزالة النجاسة، ويعد سفهاً وتضيعاً للمال، ولأن الماء يسهل وجود ويعم إصابته وللناس بلوى في طهارة الأحداث والأنجاس فشرع إزالة ما يعم به البلوى بما يسهل وجوده تسهيلاً للأمر على الناس وتيسيراً، ومعنى سهولة الوجود وعموم الإصابة لا يوجد في سائر المائعات، وإذا كان غير الماء يخالف الماء في هذين المعنيين المؤثرين لم يجز إلحاقه به. وأما حجتهم: قالوا: أجمعنا على أن الماء طهور والطهور هو الطاهر بنفسه المطهر لغيره، والتعليل واجب ما أمكن، لأن القياس دليل الله وأمر الله يتصل بإظهار دليل الله ليبني عليه حكم الله، ثم الدليل على أن التعليل في مسألتنا واجب ممكن أن إمكان التعليل بإظهار علة مؤثرة وهو موجود في مسألتنا، وذلك بالتعليل بالإزالة، والدليل على أن الطهورية معللة بالإزالة أن ما لم يوجد الإزالة لا يطهر بطهارة المحل، ولم لم يكن العلة هي الإزالة كان ينبغي أن يكفي مجرد استعمال الطهور. يدل عليه أن استعمال الطهور غسلاً في هذا المحل مفيد طهارة المحل فلا يخلو إما أن يكون إفادته طهارة المحل بتبديله النجس طاهراً أو بإزالته النجاسة، ولا يجوز الأول، لأن استعمال الماء لا يتبدل النجس طاهراً فدل أن طاهرت المحل بإزالته النجاسة عن المحل.

والدليل على التأثير أن نجاسة المحل لما كانت هي النجس الذي حله فلابد أن يكون زواله مخيلاً في إفادة الطهارة. وقالوا: ولا يجوز أن يقال إن النجاسة إن زالت حقيقة بقيت حكماً، لأن الحكم مع الحقيقة، فإذا زالت حقيقة زالت حكمها، فمن قال بزوالها حقيقة وبقائها حكماً فعليه/ إقامة دليل قادح في ذلك وإلا فسد مجرد الدعوى. قالوا: وأما الذي قلتم إن الماء يتنجس بأول الملاقاة. قال: ليس كذلك، لأن الطهورية صفة ثابتة للماء في الأصل بالنص. ومعنى قولنا: إنها صفة ثابتة له في الأصل بالنص، أنها ثابتة قبل الاستعمال والدليل على ثبوتها له قبل الاستعمال أنه يوصف بها قبل الاستعمال، ولو كانت صفة ضرورية لا صفة أصلية لم يوصف بها قبل الاستعمال كالحلية للميتة لما كانت صفة ضرورية لم يوصف بها قبل الأكل. وقولكم ((إن المطهر للغير إنما يكون عند اتصاله بالغير)). قال: هذا في الحسيات فأما الطهورية صفة حكمية فيجوز أن يوصف بها وإن لم يتصل بالغير، وإذا ثبت أن الطهورية صفة أصلية، وهي معللة بالإزالة بقيت هذه الصفة للماء عند الإزالة ليظهر عمله، وأعرض عن الامتزاج الحاصل ثم إذا انفصل عن الثوب حكم بنجاسة الغسل مثل ما يحكم للماء بالاستعمال عند الانفصال عن العضو، ولا يحكم له بذلك قبل الانفصال، كذلك هاهنا.

يدل عليه أنه لو كانت الطهورية بالضرورة وجب أن يكون بقدر الضرورة، والضرورة تزول بالماء الجاري، والماء العذب. فينبغي ألا تثبت هذه الصفة للماء الراكد والماء الأجاج، وحين تثبت لجميع أنواع المياه عرفنا أنها غير ثابتة ضرورة. قالوا: وأما طهارة الحدث فغير معللة بالإزالة، لأنه ليس هناك عين تزال إنما هي حكم بلا عين. فإن قلتم: فيبطل إذا تعليلكم للطهورية بالإزالة. قال: لا يبطل، لأن الحكم إذا ثبت في محل النص وعلل وعدى الحكم إلى فرع فالحكم في الفرع يثبت بالمعنى، وفي الأصل بالنص لا غير. وهذا لأن النص مغنى عن طلب المعنى في محل النص، وإنما ظهور عمل المعنى في الفرع فحسب. قالوا: وكذلك نقول في الأشياء الستة مع فروعها، وهذا لأن التعليل ليس إلا التعدية، وطلب الحكم في الفرع، ولهذا نقول: إن العلة التي لا تكون متعدية لا تكون علة، وإذا عرف هذا الأصل فالطهورية للماء ثابتة بالنص فحسب، والتعليل لإثبات هذا الحكم فيما وراءه فيكون ثبوته في الفرع أعني المائعات لعلة الإزالة وفي الأصل بالنص لا غير، وإذا كان ثباتاً في الأصل لا بعلة الإزالة ظهر عمله في موضع الإزالة وغير موضع الإزالة، وذلك في طهارة الحدث. وأما الخل وماء الورد لما ثبتت الطهورية فيهما بعلة الإزالة عمل في موضع الإزالة ولم يعمل في غير موضع الإزالة.

قالوا: ولا يلزم المرق والدهن، لأن الإزالة لا توجد بهما فإذا لم يعتصر بالعصر بقي النجس في الثوب حتى لو كان بحيث يعتصر بالعصر يحصل به إزالة النجاسة. قالوا: وأما قول مشايخكم إن غير الماء لا يطهر بالمكاثرة فلا يطهر غيره بالمباشرة بخلاف الماء فرق ممنوع، فإن عند جماعة من أصحابنا إذا كثر الخل أو ماء الورد وصار بحيث لا يخلص بعضه إلى البعض مثل الماء، ولئن سلما الفرق فإنما دفع الماء النجاسة عن نفسه عند الكثرة لبلوى الناس وحاجتهم، ولهم بلوى في الماء وذلك في الحياض والأدوية والغدرانات ولا بلوى فيما وراءه، لأنه لا يكون في الجوابي والأواني مصوناً في البيوت .. إلى هذا الموضع انتهت طريقة أبي زيد ذكرناها بزيادة شرح وبسط. وقد تعلق مشائخهم بالاستنجاء حيث لا يختص بالحجر، وقالوا: جنس له أثر في إزالة النجاس فلا يختص بشيء منه دون شيء، دليله الجامد، والتعليل للماء، وتعلقوا أيضاً بالدن الذي فيه الخمر حيث يطهر

بانقلاب الخمر خلاً من غير استعمال لماء وكذلك دباغ الجلد يحصل به طهارته من غير ماء أصلاً. الجواب: أما قولهم: ((إن التعليل واجب ما أمكن)). قلنا: لا إمكان في مسألتنا. وقولهم: ((إنه معلل بالإزالة)). قلنا: لو كان كذلك لم يكن طهوراً في الحدث، لأنه لا إزالة هناك، وتعليل الطهورية بالإزالة بلا وجود إزالة، محال. وقد قال بعض مشايخهم: إنا نعلل الوضوء بالوضاءة والحسن. قلنا: فعدوا ذلك إلى كل ما يحصل به هذا المعنى ما ماء الورد وغيره. فأما قولكم في العذر عن طهارة الحدث إنها طهارة حكمية غير/ معلولة بالإزالة وهي حكم بلا عين. قلنا: ففذا يبطل التعليل بالإزالة، لأن الماء طهور في الحدث نصاً ولا إزالة فيه، فبطل تعليلهم بالإزالة. وأما قولهم: ((إن الحكم ثبت في الأصل بنص لا بعلبة)). قلنا: التعليل لطلب علة الأصل، فأما إذا كان المعنى المستخرج من الأصل ساقطاً في تعليل الأصل به لم يتصور التعدية. وقولهم: ((إن النص مغنى عن التعليل)). قلنا: بلى في ثبوت الحكم لكن من ضرورة ثبوت الحكم في الفرع بالمعنى ثبوت الحكم في الأصل بذلك المعنى، ويجوز أن يكون الحكم ثابتاً

بالنص والمعنى جميعاً كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الهرة: ((إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات)). نص على نفي النجاسة ونص على التعليل فكان الحكم ثابتاً بالنص والمعنى، وعلى أن الحكم إن كان لا يثبت في الأصل بالمعنى فلابد من وجود المعنى في الأصل، كما في علة الأشياء الستة على المذهبين، وطهورية الماء في الحدث أصل، فإذا كانت الطهورية معللة بالإزالة، فلابد من وجودها في الأصل ليمكن التعليل. وقد بينا إنه لا وجود، وفصل طهارة الحدث في نهاية الإشكال عليهم إذا قرر على هذا الوجه، وعلى أنا بينا بطريق التحقيق أن التعليل بالإزالة متعذر غير ممكن بحال. وأما قولهم: ((إن الطهورية صفة أصلية ثابتة بالنص)). قلنا: فإذا كانت صفة أصلية تكون ثابتة بذاتها لا بنص الشارع ثم قد بينا أن الطهورية صفة لا يمكن إثباتها حقيقة إلا عند اتصالها بالغير. وقولهم: ((قد وصف من قبل)). قلنا: هذا على طريق المجاز لا على طريق الحقيقة. وقولهم: ((إن الطهورية صفة حكمية)). قلنا: وإن كانت حكمية لكنها صفة متعدية، لأنه لا يتصور وجودها إلا بعد اتصالها بالغير، وهذا موضع ضيق الخناق عليهم، لأن إثبات

الطهورية حقيقة في غير وقت الاستعمال لا مطمع فيه للخصوم وقد سموا هذا الموضع مزل القدم، وهو مزل قدمهم بلا إشكال. وأما قولهم: ((إن الضرورة ترتفع بالماء الجاري أو بالماء العذب)). قلنا: النص وارد في طهورية الماء المطلق وهو يشتمل على جميع أنواع المياه عذبها وملحها وراكدها وجاريها وصافيها وكدرها. وأما تعلق مشايخهم بفصل الاستنجاء فيقال لهم: لا إزالة للنجاسة في الاستنجاء. فإن قالوا: إن لم تكن إزالة فقد وجب التخفيف فتعتبر طهارة الإزالة بطهارة التخفيف. قلنا: التخفيف رخصة، والرخص بابها على السهولة والسعة، والإزالة عزيمة، والعزائم بابها على الاستقصاء والمضايقة، وجواز استبدال الحجر بغيره من باب السعة والسهولة، ووجوب الاقتصار على شيء واحد مثل باب المضايقة واعتبار العزائم بالرخص فيما يرجع إلى السعة والمضايقة اعتبار باطل.

وأما تخريج فصل الاستنجاء على الطريقة التي اعتمدناها هو أن التخفيف أمر حسي لم يبن على استعمال طهور، فإذا وجد بأي آلة حصل التخفيف. فأما الطهارة في مسألتنا مبنية على استعمال الطهور، وقد بينا أن الطهور هو الماء لا غير لأنه معنى ثابت شرعاً لا لمعنى، فاتبعانا موضع الشرع على ما سبق. وقد أجاب المشايخ: وقالوا إنما جاز العدول من الحجر إلى غيره في الاستنجاء بالنص فإنه روى في بعض الروايات: ((ثلاث أعواد، وثلاث حثيات من تراب وثلاث مسحات)). وعندي: إن الاعتماد على التخريج الذي قلنا، لأن هذا الخبر فيه نظر. وأيضاً فإنه لا يشتمل على جميع ما يستنجى به. وأما فصل الدن والدباغ فيخرج على ما قلنا، لأنه ليس طهارة الجلد والدن باستعمال طهور، إنما هو في الخمر بانقلابها خلاً، وفي الجلد بطيبه وزوال النجاسة عنه. فلم يكن المثال نظير مسألتنا بوجه ما فسقط إلحاقه به. * * *

(مسألة) لا يجوز التوضئ بالماء الذي تغير أحد أوصافه بمخالطة شيء إياه، وإن كان المخالط طاهرا

(مسألة) لا يجوز التوضئ بالماء الذي تغير أحد أوصافه بمخالطة شيء إياه، وإن كان المخالط طاهراً. وعندهم يجوز إذا لم يكن غالباً عليه. وموضع الخلاف إذا تغير بالزعفران أو العصفر وما يشبه ذلك. وقد قال بعض أصحابنا: إنه إنما لا يجوز إذا تفاحش/ التغير، فأما إذا كان التغير يسيراً فإنه يجوز. وقد قال بعض أصحابهم مثل ذلك. فعلى هذا لا خلاف، وقد ذكر المتقدمون المسألة على الاختلاف الذي ذكرناه وأطلقوها إطلاقاً من غير تقييد وتفصيل فنتكلم عن ذلك فنقول:

الوضوء شرع ورد إقامته بالماء المطلق في الكتاب والسنة فإذا أقامه لا بالماء المطلق لم يجز. لأن المقيد غير المطلق، وهذا لأنه إذا كان غيره فالدليل الوارد في أحدهما لا يكون وارداً في الآخر وإنما قلنا: إن هذا الماء ليس بماء مطلق الاسم والمعنى. أما من حيث الاسم فلأنه يقال له ((ماء الزعفران)) فيقيد اسمه بالزعفران ولا يطلق إطلاقاً. وأما من حيث المعنى فلأنه يقصد ويطلب لخلطه لا لعينه وهذا مخيل جداً لأنه إذا طلب ماء الزعفران فصار هو المقصود، وكان الماء الذي هو محله كالتابع له، وصار هذا كماء الورد والمرق، فإنه لما طلب لرائحته صار المقصود، والمرق لما طلب لدسمه كان هو المقصود أيضاً، كذلك هاهنا. وأما حجتهم: قالوا: لم يوجد إلا مجرد التغير، وتغير الماء لا يسلب وصف الطهورية منه- كما لو تغير بطول المكث، وكما لو تغير بالطين أو الطحالب أو الورق. قالوا: وبهذا نعترض على قولكم: إنه ليس بماء مطلق، لأنه مجرد التغير لا يزيل اسم الماء على الإطلاق بدليل ما قدمنا. وأما قولكم: ((إنه يقال ماء الزعفران)) فمعناه الماء الذي وقع فيه الزعفران وعلى أنه كما يقال: ماء الزعفران يقال: ماء الكبريت وماء البير وماء البحر فتقيد بهذه الأشياء ومع ذلك يجوز التوضئ به. وقولكم: ((إنه يقصد لخلطه)) فيرد عليه ماء الكبريت، والماء المسخن فإنه يطلب لصفته لا لذاته ومع ذلك كان بمنزلة سائر المياه.

قالوا: وأما ماء الورد والمرق فليس بماء بل هو طيب، وطعام سنة أنه تعمل النار فيه استجد اسماً آخر. فدل أن الاسم الأول فات منه بخلاف مسألتنا، فإنه مستبق على الاسم الأول غير أنه تقيد بالزعفران ليدل على الواقع فيه، والمخالط إياه مثل ما قدمنا. وقال بعضهم: لو كان تغيره بالواقع فيه يمنع جواز الوضوء لكان نفس الوقوع مانعاً أيضاً، كالواقع النجس. الجواب: أما قولهم: ((لم يوجد إلا مجرد التغير)). قلنا: عندنا نفس التغير غير مانع من التوضئ به إنما المانع زوال اسم الماء على الإطلاق، ويمكن أن يقال: إن السالب للطهورية تغير مزيل لإسم الماء المطلق. وقولهم: ((إن هذا ماء مطلق)). قلنا: كيف يصح هذا واسمه ماء الزعفران لا الماء المجرد، والمعنى المطلوب منه المقصود فيه الزعفران، لا أنه الماء لذاته وعينه على ما سبق. وقولهم: ((إنه يقال ماء الزعفران أي الماء الذي وقع فيه الزعفران)). قلنا: فقولوا مثل هذا في ماء الورد وهو أنه الماء الذي أغلى بالورد. وأما قولهم: ((إن هناك تجدد له اسم آخر)). قلنا: وهاهنا إذا تفاحش التغير فتجدد له اسم آخر فيسمى المتغير بالزعفران صبغاً وبالزاج حبراً، وعلى أن المانع هو التقييد الذي قلناه.

وقد ذهب الاسم المطلق منه وعرض التقييد، وأما ماء الكبريت وماء الآبار والبحار فهو إضافة له إلى مواضعه، وهذا لا يوجب زوال اسم الماء المطلق منه. وأما المسخن والأجاج والكدر والعذب فهذه الأشياء صفات الماء المطلق مثل الحسن والقبح والبياض والسواد صفات الآدمي المطلق. ألا ترى أن الماء في الأصل منوع إلى هذه الأنواع ويوجد على هذه الصفات بخلاف الصفة التي تنازعنا فيها. وأما التراب والطحلب والورق فهذه الأشياء لا يمكن صون الماء منها على ما عرف فأعرض عن التغير الحاصل بها، أو يقال: يعفى عن التغير بها لعموم البلوى مثل ما يعفى عن دم البراغيث لعموم البلوى. وقد قيل: إن التراب ليس له مع الماء مخالطة حقيقة، ألا ترى أنه بمضي الزمان ينزل إلى قراره ويصفو الماء الذي هو محله. وقد قال الأصحاب: إن المخالط للماء على ثلاثة أصناف: ما هو موافق له في صفتي الطهارة والطهورية كالتراب، ومخالف فيهما كالنجاسة، وموافق في الطهارة مخالف في الطهورية كمواضع الخلاف في مسألتنا، فالمخالف في صفتيه يسلبهما/ والموافق في صفتيه لا يسلبهما، والموافق في إحدى الصفتين دون الأخرى يسلب الصفة المخالفة دون الموافقة والاعتماد على ما سبق.

وقولهم: ((إن بنفس الوقوع لا يزول الطهورية)). قلنا: لأنه لا يزيل اسم الماء المطلق بخلاف ما إذا تغير، وعلى أنه ينتقض بالماء الكثير والماء الجاري فإن تغيره بالنجاسة يسلب صفة الطهورية بخلاف نفس الوقوع. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) لا يجوز التوضئ بنبيذ التمر

(مسألة) لا يجوز التوضئ بنبيذ التمر عندنا. وعند أبي حنيفة يجوز التوضئ به على الرواية الظاهرة. وروى عنه أنه رجع إلى ما قلناه. وقول أبي يوسف مثل قولنا. لنا: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}. وهذا لم يجد الماء فتيمم، وموضع الاحتجاج إذا عدم الماء ومعه نبيذ التمر.

فإن قالوا: نحمل الآية على عدم الماء والنبيذ. قلنا: نص الآية اقتضى شرط عدم الماء للنقل إلى التيمم ف حسب فمن ضم إليه عدم النبيذ فقد خالف النص، ولأن عندكم يتيمم لعدم النبيذ لا لعدم الماء. ألا ترى أنه إذا وجد النبيذ وعدم الماء يتوضأ بالنبيذ، ولأن الطهارة لا تتأدى إلا بطهور والطهور هو الماء بنص الشارع، وقد عرف الشرع الماء، ولا غير فما لا شرع فيه لا طهورية له. وأما حجتهم: تعلقوا بحديث ابن مسعود المعروف في الباب، قالوا: وأبو فزارة هو راشد بن كيسان العبسي الزاهد، وأبو زيد هو

مولى عمرو بن حريث المخزومي. والخبر في جامع أبي عيسى، وسنن أبي داود، وغيره. وقولكم: إن ابن مسعود لم يكن مع النبي عليه السلام ليلة الجن فقد نقل علي بن المديني باثني عشر طريقاً كون ابن مسعود مع النبي عليه السلام. فقد ورد كونه معه ليلة الجن في خبر الاستنجاء على ما روى أنه قال له تلك الليلة: (ائتني بثلاثة أحجار فأتاه بحجرين وروثة ...)) الخبر. وهو خبر مشهور معمول به عند الفقهاء، وعلى أنا نقول إنه كان معه ليلة الجن ولم يكن معه عند خطاب الجن فيكون جمعاً ما روينا وبين ما تروون إنه لم يكن معه.

قالوا: وأما الآية التي تعلقتم فنحن نقول: إن نبيذ التمر ماء شرعاً بدليل قوله عليه السلام: ((ثمرة طيبة وماء طهور)) فدخل في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ...}. وقد ورد من طريق عكرمة عن ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: ((الوضوء بنبيذ التمر وضوء من لا يجد الماء)). ورووا مثل مذهبهم عن علي، وابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم. الجواب: إن خبر ابن مسعود كان بمكة، وآية التيمم نزلت بالمدينة، وقد تضمن نسخه لأنه لما نقل من الماء إلى التراب فقد رفع النقل إلى النبيذ، ولأنه نقل إلى التراب من غير واسطة فيكون رفعاً للواسطة. فإن قالوا: عندكم لا تنسخ السنة بالكتاب. قلنا: يجوز على أحد قولي الشافعي رضي الله عنه، وعلى أنه قد وردت أخبار كثيرة من السنة موافقة لما في الكتاب فيكون نسخ السنة بالسنة.

وقد وافق المحققون من أصحابهم مذهب الشافعي في هذه المسألة، وتركوا قول أبي حنيفة، لأنهم رأوا خبر ابن مسعود زائداً على الكتاب، والزيادة عندهم نسخ، ولا يجوز النسخ عندهم بخبر الواحد. وقد قال الأصحاب: إن الذي كان مع ابن مسعود لم يكن نبيذاً على الحقيقة، إنما كان ماء نبذ فيه التمر لتزول ملوحة الماء، ليمكن شربه، فإن عامة مياه العرب كان الغالب عليها الملوحة، فكانوا ينبذون فيها التمر لتزول ملوحتها بدليل قوله عليه السلام: ((ثمرة طيبة وماء طهور)).

وأما تسمية ابن مسعود إياه نبيذاً كان على طريق المجاز لا على طريق الحقيقة. وعن أبي العالية: ((أتظنونه نبيذكم؟ إنه كان معه ماء نبذ فيه تميرات)). وهذا جواب حسن، لكن الجواب الأول أحسن. وأما قولكم: إنه ماء شرعاً. قلنا: هذا جدل. وأما قوله عليه السلام ((وماء طهور))، فإن ثبت أن ابن مسعود كان معه النبيذ، فإنما سماه ماءً إخباراً عن أصله، لأنه ماء كما سماه تمراً إخباراً عن أصله لا أنه تمر. وأما الخبر الثاني: فهو عن عكرمة كذلك قاله الدارقطني، والإسناد إلى النبي عليه السلام وهم/ فيه المسيب بن واضح، والآثار لا يعرف صحة شيء منها، وعلى الجملة لا يجوز الاعتراض على الكتاب بمثل هذا.

وقد رووا عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا لم يجد أحدكم الماء ووجد نبيذاً فليتوضأ به)). وعن ابن عباس قال: ((النبيذ وضوء من لم يجد ماء)). وعن علي رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأساً بالوضوء بالنبيذ. قلنا: أما الخبر الأول رواه مجاعة عن أبان بن أبي عيش عن عكرمة عن ابن عباس، وأبان متروك، ومجاعة ضعيف. وأما أثر ابن عباس رواه عبد الله بن محرر عن قتادة عن ابن عباس وعبد الله بن محرر متروك. وأما أثر علي قال الشعبي: الحارث كذاب. والله أعلم. * * *

(مسألة) لا يجوز التوضئ والغسل من الجنابة والحيض إلا بالنية

(مسألة) لا يجوز التوضئ والغسل من الجنابة والحيض إلا بالنية. وعندهم يجوز من غير نية. لنا: إن الوضوء طهارة شرعية فيتبع فيها مورد الشرع، والشرع ورد بالوضوء للصلاة بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...} الآية، والمعنى: فاغسلوا هذه الأعضاء للصلاة مثل قول القائل: ((إذا جاء الشتا فتأهب)) أي فتأهب للشتاء، و ((إذا لقيت الأسد فاحذر)) أي فاحذر من الأسد، والوضوء للصلاة هو النية التي وقع الخلاف فيها، فإذا توضأ لتعليم الغير أو للتنظيف أو اغتسل للتبرد فلم توجد الطهارة الشرعية، والطهارة بغير طهارة لا تجوز، ونظير

هذا التيمم، فإن التيمم لما كانت طهارة شرعية والشرع أمر به للصلاة لم يكن طهارة في غير مورد الشرع كذلك هاهنا. فإن قالوا: عندكم لو توضأ لا للصلاة لكن لمس المصحف أو سجود التلاوة يجوز وضوءه. قلنا: الأصل هو الوضوء للصلاة إلا أن النية ما لا يستباح شرعاً إلا بالوضوء ألحق بالصلاة من حيث المعنى وحصلت الطهارة الشرعية بها، وذلك لمعنى وهو إنه نوى بوضوءه ما لا يستباح شرعاً إلا به فصار كما لو نوى الصلاة، وإنما قلنا إن الوضوء طهارة شرعية لأنه لا تعرف طهارة الأعضاء الأربعة عن الحدث باستعمال الماء إلا شرعاً، يبينه أن عمل الحدث في الأعضاء لما كان محض شرع فكذلك رفعه، وتحصيل الطهارة في محله يكون محض شرع. وقد قال الأصحاب في هذه المسألة: إن الوضوء عبادة فلا يتأدى إلا بالنية لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. والإخلاص عمل القلب وذلك بالنية. واستدلوا على أنه عبادة بقوله عليه السلام: ((الوضوء شطر الإيمان)).

فإذا كان الإيمان عبادة فشطره عبادة، لأن النبي عليه السلام قال: ((أمتي غر محجلون من آثار الوضوء))، وأثر العبادة يبقى إلى الآخرة، فأما أثر غيرها فلا، والخبران صحيحان، ولأن العبادة فعل يأتي به العبد على جهة التقرب إلى الله تعالى بأمره لثواب الآخرة، وهذا الحد موجود في الوضوء، وإذا ثبت أنه عبادة لم يتصور بغير نية، لأن النية شريطة العبادات فلا يحصل بدون شرطها، وهذه الطريقة وإن كانت حسنة لكن الأولى أحسن وأدل على حقيقة المسألة، وهي داخلة في الطريقة الأولى معنى على ما يتبين من الجواب عن كلامهم. وأما حجتهم: تعلقوا بالآية، وزعموا أن الله تعالى أمر بغسل الأعضاء الأربعة فلا يجب شيء سوى الغسل. يدل عليه أن شرط النية زيادة على الغسل لا يدل عليه ذكر الغسل فيكونه زيادة على النص الوارد في الكتاب، والزيادة على النص نسخ، لأنه يتضمن تغيير حكمه وبيان التغيير في مسألتنا أن نص الآية اقتضى إطلاق الصلاة عند غسل الأعضاء الأربعة، فإن تقدير الآية: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وصلوا، كما يقال: إذا دخلت على الأمر تلبس وتطيب، أي افعل ذلك وادخل عليه. وعند شرط النية يتغير هذه الحكم لأنه لا يطلق له الصلاة لما لم ينو.

وهذا أمر وراء الغسل الذي ورد به نص الكتاب فيكون إثباتاً بتغير حكم الكتاب على ما سبق. وأما من حيث المعنى قالوا: الطهارة شرط الصلاة، والوضوء وجب بحصول الطهارة وقد حصلت الطهارة/ وإن لم ينو فسقط عنه الأمر بالوضوء كما لو توضأ مرة سقط عنه فعله مرة أخرى. والدليل على حصول الطهارة وإن لم ينو أن الله تعالى خلق الماء طهوراً كما قال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} أي خلقنا. والطهور اسم لما يحصل به الطهارة كالقطوع اسم لم يحصل به القطع فإذا استعمله في الأعضاء طهرها، لأنه عمل له بذاته وعينه ولا يتبدل ذلك لقصد المستعمل وعدم قصده، وصار هذا نظير إزالة النجاسة فإن استعمال الماء في المحل النجس أوجب تطهير المحل سواء قصده أو لم يقصده. ونظيره من الحسيات الماء المروي إذا شربه الإنسان روى بذاته لا بقصد الشارب والطعام المشبع إذا أكله حصل الشبع بذاته لا بقصده قالوا: فإن قلتم هذا الكلام صحيح في الحسيات، فأما في الحكميات فلا، والطهارة في مسألتنا طهارة حكمية لا حسية. فنقول: إن طهارة المحل باستعمال الطهور في محل النجاسة أمر حقيقي بحصول الري بشرب الماء. فإن قلتم: ((لا نجاسة في أعضاء الوضوء)).

نقول: هي في حكم النجس إلا أن النجاسة عرفت شرعاً، فإن النجاسة في حق الصلاة ما يمنع من الصلاة، وإذا كانت الأعضاء نجسة حكماً فما يرجع إلى الصلاة صار الزوال إلى الطهارة باستعمال الطهور عملاً لذات الماء وحكماً له خلقة وطبعاً. قالوا: وإنما لم يجز الوضوء بغير الماء (لأن الخل طهور لا لعينه، فإن الله تعالى لم يخلقه طهوراً بل هو طهور لمعناه، وهو إزالة عين النجاسة ولم يثبت ذلك في أعضاء المحدث)، فلم يكن طهوراً في حقه لهذا المعنى. قالوا: وعلى هذا نسلم أن الوضوء عبادة لكن ليست مقصودة لعينها بل المقصود منه التمكن من الصلاة لحصول الطهارة فإذا حصلت الطهارة بأي وجه كان سقط، كالسعي إلى الجمعة يسقط بسعي لا للجمعة، بأن يكون لطلب غريم أو لقاء إنسان، لأن المقصود منه التمكن من الجمعة بالحصول في المسجد فعلى أي وجه حصل سقط الأمر، كذلك هاهنا. وحرفهم في هذا أن العبادة متى لم تكن مقصودة سقط بحصول المقصود دون العبادة كالسعي إلى الجمعة والجهاد وغير ذلك. قالوا: ((وإذا عرفت هذا ظهر الفرق بين الوضوء والتيمم، فإن التراب ما خلق طهوراً ليطهر أعضاء المحدث بطبعه، وكان القياس أن لا يحصل بالتراب الطهارة وإن نوى إلا أن الشرع جعل التراب طهوراً للصلاة إذا عدم الماء فما لم يرد الصلاة عند المسح لا يكون التراب طهوراً، كما لم يعدم الماء، وإذا لم يصر طهوراً لم يفد استعماله طهارة، وإذا أراد الصلاة فالآن صار التراب طهوراً ثم الطهارة تحصل باستعماله بغير نية الطهارة،

فصارت الطهارتان غير معتبرتين في حق النية بل الماء والتراب افترقا في صفة الطهورية فالماء طهور بنفسه، والتراب طهور بشرط إرادة الصلاة)). قالوا: وأما تعلقكم بالآية فلا معنى له، لأن الآية قوله تعالى: {فاغْسِلُوا} أي فاغسلوا لتحصل لكم الطهارة وتتمكنوا من أداء الصلاة وقد حصلت الطهارة الممكنة من أداء الصلاة وإن لم يتوضأ للصلاة فهذا مجموع كلامهم تحقيقاً ذكرناه على الاختصار. الجواب: أما التعلق بالآية فقد بينا أنها دليل عليهم. وأما قولهم: ((إن الآية لا تقتضي إلا الغسل)). قلنا: قد ذكرنا أن مقتضى الآية غسل الأعضاء للصلاة، وهذا هو معنى النية. وأما قولهم: ((إن شرط النية زيادة على نص الكتاب، والزيادة نسخ)). قلنا: قد ذكرنا أن بالكتاب عرفنا شرط النية، وعلى أن النسخ هو تغيير الحكم، وحكم الآية غسل الأعضاء الأربعة، وليس في الآية تعرض النية لا بنفي ولا بإيجاب، فإيجابها لا يكون تغييراً لحكم الآية، لأن حكم الآية على ما كان من قبل، وإنما القياس دليل آخر تعرض لشيء لم يتعرض له الكتاب أصلاً فلم يكن تغييراً لحكم الكتاب. وقولهم: ((إن الآية اقتضت إطلاق الصلاة بغسل الأعضاء الأربعة)).

قلنا: ذلك عند عدم الدليل على وجوب شرط زائد من نية أو ترتيب أو غير ذلك، فأما مع قيام الدليل على النية أو الترتيب فلا، وقد قام الدليل لنا على/ النية وغير ذلك من الشرائط، وبهذا نقول: إن إيجاب طهارة البدن والثوب والغسل من الحيض وغير ذلك لا يكون نسخاً بل هو ضم شريطة إلى شريطة، كذلك هاهنا. وأما المعنى الذي قالوه فضعيف جداً، لأن عمدتهم هو أن الطهارة قد حصلت بدون النية ولا نسلم ذلك وهل وقع النزاع إلا في هذا. فأما قولهم: ((إن الماء طهور بذاته وعينه)). قلنا: هذا الأصل لا يمكن القول به في الطهارة عن النجاسة، لأنها طهارة حسية والماء مطهر للمحال من حيث الحس. فأما الطهارة عن الحدث فلا يمكن إثباتها بهذا الطريق بحال، لأنها طهارة حكمية، ومعنى قولنا: ((طهارة حكمية)) أنها إثبات طهارة في محل شرعاً لا يعقل له معنى سوى التعبد. والحرف إن الماء طهور حساً، والواجب طهارة حكماً، فكونه طهوراً حساً لا يفيد الطهارة الحكمية، نعم يجوز أن يقال: يفيد الطهارة الحسية فلا جرم نقول لا تعتبر النية في الطهارة عن النجاسة للمعنى الذي قالوه. فأما الطهارة الحكمية فلا تثبت إلا بالشرع، لأن الأحكام لا تثبت إلا شرعاً ولا تنفى إلا شرعاً، والشرع ورد بالوضوء للصلاة على ما سبق فلا تثبت الطهارة في غير هذا الموضع، ويمكن أن يقال: إن محز الكلام في المسألة هو (إن الطهارة باستعمال الماء يحكم إنه عبادة أم بنفس الماء، فعندنا باستعمال الماء يحكم إنه عبادة، وعندكم بنفس الماء وطبعه، فنقول ما قلناه أولاً، لأنه لا نجاسة بالأعضاء حتى يزيلها الماء بطبعه)

فكان ثبوت الطهارة لإقامته عبادة باستعمال الماء وإقامته العبادة باستعمال الماء هو نيته وإرادته فإذا لم توجد لم يكن عبادة، وإذا لم يكن عبادة لم تحصل الطهارة. وقولهم: إن ((أعضاء المحدث نجسة حكماً)). قلنا: ((إنه مانع من الصلاة)). قلنا: بلى ولكن من حيث الحدث لا من حيث النجس، والمانع من الصلاة يكونه من وجهين: حدثاً تارة، ونجاسة أخرى، والطهارة من كل واحد غير الطهارة من الآخر، والدليل على المغاير بين الحدث وبين النجاسة أن قليل النجاسة معفو عنها ولا يعفى عن قليل الحدث، ولأن المسح يدخل في طهارة الحدث ولا مدخل له في طهارة النجاسة بحال. وأما السعي إلى الجمعة فمعنى حسي فإذا حصل في مكان الجمعة سقط السعي عنه، لأنه لا معنى في إيجاب السعي إلى الجمعة عليه وهو حاضر في مكانها وعند إقامتها. وأما في مسألتنا فقد بينا أن الطهارة حكمية فلا تثبت إلا بدليل الشرع وقد انتفى طريق الشرع عند عدم النية فانتفت الطهارة. وفي المسألة كلام كثير للمشايخ تركناه واقتصرنا على هذا. وخرج بعض أصحابنا إزالة النجاسة على قولنا: إن الوضوء عبادة. وقال: إن إزالة النجاسة إنما هو تنزه وتنظف وذلك محض مرؤة. وربما يقولون: طريقها طريق التروك، لا طريق العبادات، ويدخل عليه الصوم، والاعتماد على ما سبق من التخريج، والله أعلم. * * *

(مسألة) الترتيب واجب في الوضوء

(مسألة) الترتيب واجب في الوضوء عندنا. وعندهم ليس بواجب. لنا: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...} ... الآية. وقوله: {إِذَا قُمْتُمْ} شرط، وقوله: {فاغْسِلُوا} في موضع الجزاء ولا يجوز إدخال فاصل بين الشرط والجزاء، وعندكم إذا قدم غسل اليدين على الوجه يجوز، وفيه إدخال فاصل فيكون خلاف الآية، يدل عليه أنه تعالى أدخل المسموح- وهو الرأس- في خلال المغسولات، والعرب لا تخرج في الكلام من جنس إلى جنس حتى .... الجنس الأول لا تقول: اضرب زيداً وأكرم جعفراً واضرب عمراً، ولكن تقول: اضرب زيداً

وعمراً وأكرم جعفراً، فلما خرج من الغسل إلى المسح ثم عاد إلى ذكر الغسل في الرجل علمنا أن ذلك لوجوب الترتيب. وأما حجتهم: احتجوا من الآية قالوا: إن الواو للعطف وقد أمر الله تعالى بأفعال عند القيام للصلاة (وعطف بعضها على بعض بالواو العاطفة موجب الواو في اللغة شركة المعطوف عليه في خبره شركة مطلقة غير مقيدة بصفة الترتيب أو/ القرآن أو التفريق فإنك إذا قلت: جاء زيد وعمرو، كنت مخبراً عن مجيئهما مطلقاً) غير مقيد بصفة مما ذكرناه وصار حقيقة الكلام الخبر عن مجيئهما فحسب (بلا إخبار عن كيفيته، كذلك في مسألتنا كان مقتضى الآية وجوب غسل هذه الأعضاء بلا كيفية فالتقييد بوصف يكون زيادة على كتاب الله وذلك يجرى مجرى النسخ. والدليل على أن الواو لا تقتضى) إلا ما ذكرنا أنك إذا قلت: جاء زيد وعمرو يحسن السؤال من السامع عن كيفية المجيء من ترتيب أو مقارنة، ولو كان يقتضى كيفية بلفظه لم يحسن السؤال عنهما، كما لا يحسن السؤال عن أصل المجيء بعد خبره عن المجيء، وهذا لأن (الحروف لم توضع في الأصل إلا لفائدة جديدة كالأساسي فللقرآن كلمة ((مع))، وللترتيب بلا فصل كلمة ((الفاء))، وللترتيب المتراخي كلمة ((ثم))، فلا تحمل الواو على فائدة من حروف آخر إذا أمكن حملها على فائدة جديدة، وقد أمكن، وهو إيجاب أصل الشركة بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر بلا صفة ليكون سائر الكلمات لبيان أوصاف الشركة فتجرى الواو منها مجرى اسم الذات من الأوصاف وإذا كان كذلك)، بطل قول من قال من أصحابهم:

إن الواو تحتمل الجمع والترتيب والقرآن، فيصير ذلك بمنزلة المجمل فيتعرف بيانه بالسنة وقد توضأ النبي عليه السلام مرتباً، لأن الواو إذا كان للفائدة التي قلناها وسائر الحروف للفوائد الآخر على ما سبق، لم يكن اللفظ مجملاً بل كان ظاهراً في معناه الموضوع له. قالوا: وقولكم: (إن الله تعالى جعل غسل الوجه جزاء الشرط فليس كذلك، لأن الجمل إذا عطف بعضه على بعض تصير جملة واحدة ولا تحصل مفصلة لقرب بعضها من الشرط وبعد الآخر. ألا ترى أن من قال لغلامه: إذا جاء الغد فاشتر لي بدرهم لحماً وبدرهم خبزاً وأعتق عبدي، فجاء الغد واشترى الخبر قبل اللحم أو أعتق العبد قبل كل شيء أجزأه، وإنما يتعلق إطلاق الفعل بمجيء الغد لا ما دخل تحت الإطلاق، فكذلك هاهنا يجب الوضوء بالقيام إلى الصلاة. وأما الأعضاء المغسولة فلا تعلق لها بالقيام بحكم القرب فصار الجزاء هاهنا هو الوضوء لا ما دخل تحت الوضوء، وصار الجزاء هناك الوكالة لا ما دخل تحت الوكالة). قالوا: وأما إدخال المسح بين المغسولات فليس يدل على الترتيب، بلى يقال قد أدخل لفائدة لولاها لكان ضم المغسول إلى المغسول أولى لاجتماعهما في الوظيفة وقد أدخل عندنا لفائدة وهي أن الترتيب سنة والكمال يتعلق بذلك ونحن نقول به.

قالوا: ولا وجه لاستعمال القياس في المسألة، لأن الوضوء عبادة وشروط العبادات وأركانها لا تثبت قياساً، ولا تنفي قياساً كأعداد الركعات ومقادير الزكوات والكفارات وغيرها، ولكننا نتكلم من حيث التأصيل، فإن الوضوء أصل ثابت بكتاب الله تعالى ومن طريق لا شبهه فيه، فلا يمكننا أن نزيد عليه شيئاً، ونجعله منه إلا من طريق يثبت أصله، وشرط العبادة بمنزلة ركنها فلا يثبت إلا بما يثبت به ركنها. قالوا: وإنما تخريجاً لهذه المسالة على الطريقة التي ذكروها في المسألة أن الماء طهور بنفسه فإذا استعمل في الأعضاء حصلت الطهارة بنفس الاستعمال سواء رتب أو لم يرتب، وإذا حصلت الطهارة، والوضوء وجب لتحصيل الطهارة فلا يبقى إلا من بعد حصولها. الجواب: أما التعليق بالآية بالوجه الذي قلنا فصحيح، وذلك لأن الله تعالى علق غسل الوجه بالقيام إلى الصلاة بكلمة ((الفاء)) فتمنع تخلل فاصل بينهما من غسل عضو آخر، كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر. وقولهم على هذا أن الجمع بمنزلة الجملة الواحدة، والتعليق بالقيام في أصل الوضوء لا فيما يشتمل عليه الوضوء، ولنا: جعل الجمل بمنزلة الجملة الواحدة لابد فيها من دليل قطعي. وأما قولهم: إنما يتعلق بالقيام ما علقه الشرع بالقيام، وقد علق به غسل الوجه فيتعلق به تعلق الجزاء بالشرط/ فبطل إدخال الفاصل من غسل عضو آخر.

وأما الذي تعلقنا به من الاستدلال بإدخال الممسوح بين المغسولات فاستدلال صحيح على ما سبق بيانه. وقولهم على ((هذا إنه لبيان فائدة السنة)). قلنا: الآية في الوضوء وردت لبيان الواجب لا لبيان السنة فلا يجوز صرف ما دل عليه الآية ما لم يرد به الآية. وأما الذي تكلموا على أن ((الواو)) ليس للترتيب. فاعلم أن كثيرا من أصحابنا زعم أن الواو للترتيب، ونحن لا ندعي ذلك ولا دليل عليه من حيث اللغة، ولكن استدلالنا بالآية على الوجه الذي قلناه استدلال حسن. وقد استدل الأصحاب في المسألة بقوله عليه السلام: ((نبدأ بما بدأ الله به))، وربما رووا قولاً عن النبي عليه السلام: ((ابدؤا بما بدأ الله به)). وفي القول نظر، أما الأول فمشهور، وهو وإن ورد في البداية بالصفا على المروة لكن العبرة بعموم اللفظ.

وقد قال المخالف: ((نحن نقول بالخبر فإنا نبدأ بما بدأ الله به سنة)). ونحن نقول إن الأمر على الوجوب هذا في قوله: ((ابدؤا بما بدأ الله به)). وأما الذي رووا: ((نبدأ بما بدأ الله)) فهو أيضاً في معنى الأمر، لأنه عليه السلام فعل ذلك ليقتدي به فكأنه قال: اقتدوا بي، فيكون ظاهره للإيجاب. واستدل الأصحاب بالحديث المشهور وهو قوله عليه السلام: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه، فيغسل وجهه ثم يغسل يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه))، والخبر الذي يروون من رواية الربيع بنت معوذ أن النبي عليه السلام ((مسح برأسه بعد غسل رجليه)) فلا يثبتها أصحاب الحديث والرجوع إليهم في هذه الصيغة. والأولى أن يعتمد في المسألة فيقال: الوضوء عبادة غير معقول المعنى وطريقها الإتباع المحض، وقد ورد الكتاب والسنة بالوضوء لنلتزمه حداً وفعلاً فوجب أن يلتزم على ما ورد، ولم يرد الشرع بالوضوء إلا مرتباً وهو المنقول عن صاحب الشرع فنلتزم على ما نقل، ولا نحكم عليه المعقول والقياس بوجه ما، وهو كالركعات في الصلاة وورودها على ترتيب مخصوص فإنه يلتزم على ما ورد من غير أن يحكم عليه قياس ومعقول كذلك هاهنا.

وقد تعلق المخالف بتقديم الشمال على اليمين وبتقديم الرجل في غسل الجنابة على الرأس. الجواب: إن اليمين والشمال في الوضوء كعوض واحد. ألا ترى أنهما في الكتاب بلفظ واحد، وكذا في الرجلين، ولأن الوضوء بالإجماع مشتمل على أربعة أعضاء لا على ستة. فإن قالوا: أليس يجوز نقل الماء من أحد اليدين إلى الأخرى؟. قلنا: إنما كان كذلك، لأنه إذا انفصل من إحدى اليدين فقد صار مستعملاً واستعمال الماء المستعمل لا يجوز. وأما الغسل من الجنابة فإنما لم يجب فيه الترتيب، لأن جميع البدن فيه بمنزلة العضو الواحد. فإن قالوا: ما تقولون فيما لو كان عليه الوضوء فاغتسل بدل الوضوء وبدأ بغسل الرجل. قلنا: يجوز أن يقال لا يجوز، وإن قلنا بالجواز فلأنه إذا اغتسل بدل الوضوء صار الحكم للغسل. فإن قالوا: ما قولكم فيما إذا انغمس المحدث في الماء غمسة؟. قلنا: لا يجوز ما لم يمكث مكثة حتى تترتب الأعضاء والله أعلم. * * *

(مسألة) الثلاث سنة في مسح الرأس

(مسألة) الثلاث سنة في مسح الرأس عندنا. وعندهم السنة أن يمسح برأسه مرة واحدة بماء واحد. لنا: حديث أبي بن كعب أن النبي عليه السلام توضأ مرة مرة، وقال: ((هذا وضوء من يعطيه الله كفلين من الأجر))، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: ((هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي)).

وقوله: ((توضأ)) ينصرف إلى المسح والغسل فكذلك قوله: ((مرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً)) ينصرف إليهما. وروى مثله ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من توضأ فمضمض ثلاثاً واستنثر ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ومسح برأسه ثلاثاً، وغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً غفر الله له ما بين الوضوئين)). وأما من قال: إنه يمسح مرة واحدة أفتوا بحديث عثمان رضي الله عنه أنه توضأ ومسح برأسه مرة، وقال: هكذا توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك توضأ علي رضي الله عنه ومسح برأسه مرة، وقال: ((من/ سره أن ينظر على وضوء رسول الله فهذا وضوءه)).

قالوا: وقد ثبت أن النبي عليه السلام توضأ ومسح برأسه مرة وهو مذكور في الصحيحين. ورواه معاذ، والبراء بن عازب، وعبد الله بن عمرو، وجماعة. فالرسول عليه السلام قدوة فيتبع في فعله ولا يعدل عنه. الجواب: إن الروايات عن عثمان وعلي متعارضة. روى حمران وغيره عن عثمان أنه مسح ثلاثاً. وكذلك رواه عبد خير عن علي، وعلى أن نهاية ما في الباب ثبوت ما قالوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير أن الزائد من الروايات أولى.

وقد روي أنه عليه السلام: ((توضأ فغسل وجهه ثلاثاً، وغسل اليدين مرتين مرتين)). وأما الكلام في المسألة من حيث المعنى، فالمعتمد هو التعليق بالمغسول من الأعضاء، وهو قياس صحيح شبهاً ومعنى. أما الشبه: فلأن كل واحد أصل بنفسه في الوضوء، لأن المسح أحد قسمي الوضوء كالغسل أحد قسميه. وأما المعنى: فلأن الوضوء طهارة حكمية، والغسل والمسح واحد في الطهارة الحكمية إلا أن الغسل له زيادة على المسح من حيث الحس، فأما من حيث الحكم فهما واحد، وقد شرع التكرار في أحدهما لتكميله، وليشرع في الآخر على ما شرع في قرينه، وذلك لتحصل زيادة في الطهارة بمثل فعل الأول في محل الأول، يبينه أن الطهارة تكون بمطهر فلابد من تجديد مطهر ليزداد الطهارة، وذلك يكون بماء جديد بفعل جديد مثل الغسل سواء. وهذا معنى في غاية الوضوح فليعتمد عليه. أما حجتهم: من حيث المعنى قالوا: طهارة مسح فلا يسن فيها التكرار كالمسح على الخف والتيمم، وفقه ذلك وهو إنه لما كان طهارة مسح فقد بنى على الخفة فإذا خف ماء حتى اكتفى فيه بالبلل دون الماء السيال، وخف محلاً حتى اكتفى فيه ببعض المحل، فوجب أن يخف فعلاً حتى يكتفي فيه بالمرة الواحدة. قالوا: وليس كالاستنجاء، لأنه في الأصل طهارة غسل، وإنما يجوز

فيه التمسح بالأحجار رخصة، ألا ترى أنه لو غسل بالماء يكون أفضل بخلاف مسألتنا. ولهذا يكره العدول في الرأس من المسح إلى الغسل، وإذا كان الأصل هناك هو الغسل، والمبالغة بالتكرار في الغسل مشروع، لأنه مبني على الاستقصاء، والتكرار نوع مبالغة فيليق أن يكون مشروعاً معه إلا أن الرخصة وردت في استعمال الحجر مكان الماء لنوع ضرورة وحاجة فبقى التكرار المشروع في أصل الغسل مشروعاً فيه بخلاف مسألتنا. فإن المسح أصل في الوضوء بني على الخفة فيوفر عليه مقتضى الخفة من كل وجه. قالوا: وأما التكميل المشروع في الوضوء فقد حصل في المسح بالاستيعاب، لأن التكميل في الغسل باستعمال طهور في محل الفرض، وقد وجد هذا المعنى في مسألتنا بالاستيعاب، لأن البلة على اليد طهور. ألا ترى كيف يستوعب به الرأس، ويجوز وقد استعمالها في محل الفرض. لأن جميع الرأس محل الفرض فصار هذا مثل استعملها ماء جديد في الوضوء ثانياً وثالثاً إلا أن هناك لابد من ماء جديد ليكون طهوراً، لأن الماء المنفصل على العضو مستعمل، والبلة على اليد لا يحصل به الغسل فصارت البلة هاهنا كالماء الجديد هناك، وصار مسح باقي الرأس هنا بمنزلة تضعيف غسل الوجه، لأن الفرض يستوعب الوجه فلم يمكن تكميله بالاستيعاب فعدل إلى التضعيف. قالوا: ومن تأمل في هذا فقد عرف أن الصورتين استويا معنى واختلفا اسماً ولقباً ولا عبرة بالأسامي والألقاب من ذكر تكرار وتثليث وإنما العبرة بالمعاني.

قالوا: ولأن الزيادة إنما تشرع إذا لم يعد بنقص على المزيد عليه، والزيادة في الغسل بالتكرار لا تعود بنقص في المزيد عليه، لأن الغسل والتكرار مرات فجميعه غسل، وأما في المسح فلاناً إذا شرعنا فيه التكرار عاد بنقص على أصله، لأن المسح إذا كرر يخرج عن كونه مسحاً ويلتحق بالغسل فيصير غيره، وإذا صار غيره عاد بالنقص على المزيد عليه فلم يشرع. يبينه أن النقاوة مطلوبة/ في الغسل والتكرار يزيد في النقاوة، وأما في المسح فلا يطلب إلا مجرد إيصال البلة وبالتكرار لا يزداد هذا المعنى فكأن الثاني هو الأول فلا معنى لفعله واقتصر على مرة واحدة وهذا نهاية تحقيقهم. الجواب: أما قولهم: ((إن المسح مبني على الخفة)). قلنا: هذا لمقابلته بالغسل، فقولوا على هذا أن الوضوء مبني على الخفة عند مقابلته بالغسل فوجب أن لا يشرع فيه التكرار، فيكون التكرار مشروعاً في الغسل خاصة، وعلى أنه إن بنى على الخفة فقد شرعنا تكميلاً لا نقاء به وهو تكراره مسحاً، وهذا مثل الاستيعاب عندهم، فإنه مشروع ولا يقال: إنه بنى على الخفة فلا يشرع فيه الاستيعاب، ولكن قيل: قد شرع فيه الاستيعاب بالمسح فلم يناف الخفة، كذلك نحن شرعنا التكرار بالمسح فلم يناف الخفة. وأما كلامه الثاني: قلنا: التكميل المطلوب لا يحصل بالاستيعاب، لأن التكميل المطلوب زيادة طهارة على الطهارة المفروضة وإذا استوعب فالكل فرض.

ولا نقول: إن بعضه فرض وبعضه نفل، وإن كان لو اقتصر على البعض جاز وهو مثل ما لو أطال القيام، فإن الكل فرض، ولا يقال: إن بعضه نفل وبعضه فرض وإن كان لو اقتصر على مقدار قراءة الفاتحة جاز، ويمكن أن يقال أيضاً على تسليمنا أن البعض فرض والبعض نفل: أن التكميل بزيادة طهارة في محل الفرض، وإذا مسح بعض رأسه فالباقي ليس بمحل الفرض في هذه الطهارة، بل إن كان محل الفرض فهو محل الفرض في طهارة أخرى فلم يحصل التكميل المطلوب على حد التكميل بالغسل إلا بالتكرار، ويقال أيضاً: إن تكميل الطهارة بزيادة الطهارة وزيادة الطهارة بطهور فأين الطهور؟ وقولهم: ((إن البلة التي على اليد طهور)). قلنا: هو طهور في الأصل لا في التكميل. ألا ترى أن إنساناً آخر لو أخذ من تلك البلة واستعمله في رأسه للمسح لا يجوز. وأما الاستيعاب بالبلة فهو ملحق بالأصل، يبينه أن الاستيعاب تكميل محل المسح فكأن الشرع سن تكميل المحل بالاستيعاب وسن تكميل المسح بالتكرار ليلتحق بالغسل من كل وجه. وأما قولهم: ((إن الزيادة على المسح بالتكرار يعود بالنقص على الأصل)). فليس كذلك، لأن المسح وإن كرر مسحاً مثل الغسل سواء. ولهذا لا ينوب عن غسل الوجه، ولهذا لو حلف أن لا يغسل وجهه فمسح مرات لا يحنث، وهذا لأنه تكرار شيء فلا يصير غير ذلك الشيء مثل التكرار في سائر الأشياء لا يصير غيره، والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) المضمضة والاستنشاق لا يجبان في الوضوء ولا في الغسل

(مسألة) المضمضة والاستنشاق لا يجبان في الوضوء ولا في الغسل عندنا. وعندهم يجبان في الغسل. لنا: إنهما عضوان باطنان فلا تتعلق بهما الجنابة. دليلة سائر البواطن، وهذا لأن الغسل يتعلق بالظواهر لا بالبواطن ومعنى قولنا: إنه باطن ((أي باطن في أصل الخلقة))، فإن الإنسان يخلق منطبق الفم، وإنما يفتحه لحاجة الكلام، والأكل، وداخل الأنف باطن أيضاً، لأن قصبة الأنفة حائل بينه وبين الإبصار، ولهذا يقال: داخل الفم والأنف، والداخل والباطن في المعنى واحد. يبينه أن الظاهر ما يظهر

للأبصار والباطن ما يبطن عن الأبصار، ومعلوم قطعاً أن داخل الفم والأنف غير ظاهرين للأبصار. دل أنهما باطنان، ونستدل بالوضوء فنقول: الفم والأنف عضوان مركبان في الوجه، وغسل الوجه واجب بنص القرآن فلو كانا محلى وجوب الطهارة بالحدث لكان أولى موضع بذلك ثم نبني عليه الغسل من الجنابة وغيره، فلما لم يجب غسلهما في الوضوء علمنا أن المعنى المسقط ما ذكرناه من بطونهما، وهذا المعنى موجود في الغسل فسقط فيه أيضاً. وأما حجتهم: تعلقوا بقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}، ومعناه: طهروا أبدانكم، والبدن اسم لجملة صورة لإنسان ظاهراً وباطناً فكل ما هو من البدن طاهر أو نجس يجب تطهيره بإيصال الماء إليه بحاكم ظاهر الآية إلا أن يعجز عنه فيسقط حينئذ بالعجز، وداخل الفم والأنف يمكن الوصول إليهما فيجب تطهيرهما/ بظاهر الآية. وقالوا على ذلك موضع من البدن يتيسر الوصول إلى تطهيره فيلحقه حكم الجنابة. دليله سائر المواضع. قالوا: وقولكم ((باطن)) هو باطن من وجه ظاهر من وجه. ألا ترى أنه يفتح فمه فيظهر داخل فمه كأنه وجه ويطبق فمه فيسقط كأنه جوف. ولأنه فيما بينه وبين الظاهر ظاهر. ألا ترى أن الصائم لو وضع شيئاً في فمه لا يفطر، وفيما بينه وبين الباطن باطن، ألا ترى أن الصائم لو ازدرد ريقه لم يفطر فدل أنه ظاهر من وجه باطن من وجه، وأمر الطهارة يحتاط فيها فما بنى فيها على العموم

والشمول تعلق به، ووجب غسله احتياطاً له بخلاف الوضوء، فإنه لم يبن على العموم والشمول بل إنما يتعلق بمواضع مخصوصة من بدنه فإذا كان باطناً من وجه سقط عنه. ولهذا يسقط إيصال الماء إلى باطن اللحية في الوضوء، لأنه باطن من وجه ووجب في الغسل لأنه ظاهر من وجه، وكذلك داخل الخف. وأما الوضوء واجب خاص، فإذا كان باطناً من وجه خرج عن خصوصه ولم يتعلق إلا بما هو ظاهر من كل وجه. وتعلقوا بالطهارة من النجاسة فإنها تتعلق بداخل الفم والأنف للمعنى الذي بينا من عموم محلها فكذلك في مسألتنا. قالوا: ويتبين بهذا فساد تعلقكم بكونه باطناً، فإن الطهارة من الحدث كما لا تتعلق بالبواطن، كذلك الطهارة من النجاسة لا تتعلق بالبواطن، فدل أن المعتبر في الطهارة التي تعم محلها كون المحل ظاهراً من وجه فحسب قالوا: وأما غسل وجه الميت فإنما يسقط المضمضة والاستنشاق في حقه لعذر. والواجبات تسقط بالأعذار، والعذر هو العجز الغالب، فإن الميت تنغلق مفاتحه بالموت فيشق عليه إيصال الماء إلى داخل فمه وأنفه وربما يؤدي التكلف لذلك إلى المثلة بالميت، ولهذا لا يسن أيضاً. وأما هاهنا لا عذر في الترك، ولهذا يسن إيصال الماء إليهما في الحدثين عندكم. قالوا: وكذلك داخل العين يسن إيصال الماء إليه.

وقيل: إن من دوام على ذلك يعمى، ونقل أن ابن عمر رضي الله عنه عمى من كثرة إدخال الماء في العين. الجواب: أما الآية قلنا: معنى الآية: فاطهروا أي فاغسلوا والاغتسال قد وجد، وإن ترك المضمضة والاستنشاق، لأن الاغتسال هو فعل يسمى اغتسالاً وقد فعله. فإن قالوا: إذا ترك المضمضة يسمى مغتسلاً أيضاً، وإن كان لا يسقط الواجب عنه. قلنا: كان ترك الاعتداد به لقيام الدليل، وعلى إنه كان المراد ما ذكروا فتقديره: طهروا أبدانكم ما ظهر منها، لأن هذا التطهير يكون بالاغتسال والاغتسال هو إفاضة الماء على ظاهر بدنه. وقال النبي عليه السلام: ((أما إني أفيض على رأسي وجسدي فإذا أنا قد طهرت)) وهذا كلام معتمد. فأما قولهم: ((إنه باطن من وجه ظاهر من وجه)). قلنا: هو باطن في أصل الخلقة على ما سبق، والمعتبر أصل الخلقة. ألا ترى أن داخل اللحية باطن بكل وجه لا يظهر بحال لكن لما كان ظاهراً في الخلقة تعلق به حكم الجنابة.

فأما في الوضوء إنما يسقط إيصال الماء إليه إذا كانت لحيته كثيفة لأن الوضوء واجب متكرر، وفي إيصال الماء إليه نوع عسر ومشقة فسقط لدفع الحرج. وأما الجنابة تندر فلم يشق إيصال الماء إليه فاعتبر كونه ظاهراً في أصل الخلقة فوجب إيصال الماء إليه، وهاهنا لا ظهور في أصل الخلقة فالتحق بسائر البواطن ولم ينظر فيه إلى التيسر في الحدثين؟ قلنا: أليس يسن إيصال الماء إليهما في الحدثين؟ قلنا: إنما يسقط الوجوب لأنهما باطنان في أصل الخلقة، ولما كانا يظهران للأبصار في بعض الأحوال يسن إيصال الماء إليهما فأخذ في صفة الواجبية بأغلب المعنيين وأرجحهما، وأخذ في صفة السنة التي أدنى الرتبتين بأدنى المعنيين وأضعفهما .... ولا انفصال لهم عن الوضوء بما ذكروه من خصوصه وعموم الغسل لأنه وإن كان خاصاً فهو عام في جميع الوجه وهذا من أجزاء الوجه ويدخل/ على العموم الذي اعتمدوا عليه، فصل غسل الميت والذي اعتذروا به ضعيف، لأنه ينافي أن يجب بقدر الممكن أو يجب في داخل الأنف، لأنه لا مشقة في إيصال الماء إليه، وأما فصل الطهارة من النجاسة وعلم أن الكلام إذا رجع إلى الاعتبار والتعلق بالمثال، وأولى المثالين الوضوء لتحلق به الجنابة لأنهما طهارتان عن حدث. ولأن كل واحد طهارة حكمية غير معقول المعنى، والطهارة عن النجاسة طهارة حسية، والحكميات بعيد الشبه عن الحسيات، وإنما يعتبر في الحسي نفس الوصول إلى موضع تصل إليه اليد بدليل أصل الفم وداخل

العين فإنه إذا اكتحل بإثمد نجس يجب غسل عينه حتى لو كان بموضع آخر من بدنه نجاسة، فإذا ضم إليه زاد على قدر الدرهم لا تجوز صلاته. وكذلك المبالغة تسقط في الوضوء والجنابة ويجب غسل أصل الفم وأعلى الحلق إذا أصابته نجاسة، فدل أنهما مختلفان في الاعتبار ووضع الشرع فسقط تمثيل أحدهما بالآخر والله تعالى أعلم. * * *

(مسألة) يجب الوضوء من الملامسة الحاصلة بين الرجال والنساء

(مسألة) يجب الوضوء من الملامسة الحاصلة بين الرجال والنساء عندنا. وعندهم لا يجب. والمعتمد نص الكتاب وهو قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، واللمس باليد حقيقة بدليل قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا}، وأراد به اللمس باليد، ويدل عليه قول الشاعر:

لمست بكفي كفه أبتغى الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدى فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فبددت ما عندي فنحن على الحقيقة حتى يقوم دليل قاطع على خلافه، وقد أيد هذا ما روى عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر إنهم ذهبوا إلى أن اللمس حدث تمسكاً بحقيقة الآية، وأما هم حملوا الآية على الوطء، قالوا: إن اللمس كناية عن الوطء، ويروون عن ابن عباس أنه قال: إن الله حيي كريم يكنى بالحسن عن القبيح فكني باللمس عن الوطء. قالوا: وهو مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}، و ((تماسوهن)) والمراد منه الوطء، وربما رووا عن علي رضي الله عنه على ما يوافق قول ابن عباس فلأنه قرئ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وذلك هو الجماع حقيقة، لأن الملامسة مفاعلة يكون بين اثنين، فلا يتناول اللمس الذي يقوم به واحد. قال أبو زيد: لابد أن يحمل اللمس على الوطء لتكون الآية

مشتملة على ذكر الطهارتين أعني الغسل والوضوء في حالتي وجود الماء وعدمه، ولا يكون ذلك إلا إذا حمل اللمس على الوطء، وإما قلنا ذلك لأن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}. معناه: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين {فاغْسِلُوا} إلى آخر الوضوء، ثم قال: {{وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ....} فصارت الجنابة على الإطلاق مذكورة كما صار الحدث مذكوراً على الإطلاق، وذلك في حال وجود الماء ثم قال: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَي أَوْ عَلَي سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ ..}. معناه: وجاء أحد منكم من الغائط وكنى به عن الحدث، لأنه سبب له. {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}، وفي القراءة الأخرى: {أو لمستم}، فكنى بذلك عن الجنابة {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فصار الحدثان مذكورين في حالتي وجود الماء وعدمه. ودلت الآية على جواز التيمم للجنب، كما يجوز للمحدث على ما هو المذهب. وأما قولكم: إذا حملتم اللمس على اللمس باليد لم يكن الطهارة من الجنابة مذكورة في الآية حال عدم الماء، بل اقتضى أن لا يجوز التيمم

للجنب على ما قاله عمر وابن مسعود، لأنهما لم يجوزا التيمم للجنب حين حملوا اللمس على اللمس باليد. وأما علي وابن عباس فإنهما جوزا التيمم للجنب، وحملا اللمس على الوطء. فدل أن كل من جوز التيمم للجنب جوز أن يحمل اللمس على الوطء. قالوا: وقد دلت السنة على ما بينا فإن الأعمش روى عن حبيب بن إبراهيم عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام

((قبَّل بعض نسائه وصلى ولم يتوضأ))، وكذلك روى إبراهيم التيمي عن عائشة. روى الأول أبو عيسى في جامعه، والثاني أبو داود/ في سننه. قالوا: والقياس الجلي معنا، لأن الأصل في وجوب الطهارة أن نسند وجوبها إلى نجاسة خارجة من البدن، أو سبب النجاسة في الغالب ليقام السبب مقام المسبب، ولا نجاسة يظهر باللمس ولا هو سبب في الغالب لانفصال النجاسة. فإن اللمس يخلو في الغالب عن انفصال شيء منه حتى لو تفاحشت المباشرة نقضت الوضوء، لأنها في الغالب لا يخلو عن خروج المذي منه، وكذلك التقاء الختانين لا يخلو في الغالب عن انفصال المني منه، وكذلك النوم في الحدث الخارج عنه. قالوا: ولأن المسبب إنما يقام المسبب إذا كان في اعتبار نفس الشيء حرج ظاهر مثل المشقة في السفر، واعتدال العقل عند بلوغه سن البلوغ، واعتبار وجود الماء حقيقة عند ملك اليمين، فأما إذا لم يكن في اعتبار نفس الشيء حرج، فإنه يعتبر نفسه ولا يقام السبب مقامه ومسألتنا من ذلك. الجواب: إن التمسك بحقيقة الكتاب واجب حتى يقوم دليل قاطع على الصرف عنه فنحن عليه إلى أن يوجد دليل قطعي على صرفنا عنه، ولم يوجد.

وقد أجمعوا على أن العدول عن حقيقة الكتاب لا يجوز بقول الواحد والاثنين من الصحابة، وكذلك بالقياس. وأما قراءة الملامسة فهو لمعنى قوله: {أو لمستم} يقال: لامس، ولمس بمعنى واحد، وقد تأتي المفاعلة في الفعل من الواحد، كما يقال: سافر وسارع وطارق النعل. وأما قوله: ((إن الحمل على الوطء يفيد جواز التيمم للجنب)). قلنا: ومن أين قلتم إنه ينبغي أن يكون هذا الحكم مستفاداً من الكتاب بل نقول: هو مستفاد بالسنة وهو خبر عمار بن ياسر على ما عرف في المذهب. وعلى أن في الآية تقديماً وتأخيراً إذا قدرناه اقتضت جواز التيمم للجنب أيضاً، مع تقرير اللمس على حقيقته، ويفيد أيضاً ذكر أسباب الحدث جملة بالنص ودلالته. ووجه ذلك وهو أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}، معناه: إذا قمتم من النوم، وقد أفاد النوم وما في معناه من الجنون والإغماء وغير ذلك، ثم قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ} مقدم في المعنى وإن كان مؤخراً في التلاوة، وتقديره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} يعني من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط، وقد يتناول ذلك الغائط وما في معناه من البول والمذي والريح وغيره {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ويتناول ذلك اللمس باليد وما في معناه {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} ... إلى آخر المذكور ثم قال: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}

فأفادت الآية ذكر الطهارتين عند وجود الماء مع ذكر أسباب الحدث والتنبيه عليها، ثم قال: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، ينصرف هذا إلى الطهارتين جميعاً، وأفاد جواز التيمم عن الحدثين جميعاً وهذا أولى مما قاله لوجوه منها: إنا نقرأ اللمس على حقيقته. ومنها: إنا نستفيد على هذا الوجه ذكر أسباب الحدث. ومنها: أنه منقول عن زيد بن أسلم من التابعين، وابنه عبد الرحمن ابن زيد وما قالوه ليس بمنقول عن أحد من السلف وهو اختراع لتسوية القرآن على المذهب. ويمكن أن يقال أيضاً: إنا نحمل قراءة اللمس على اللمس باليد، وقراءة الملامسة على الوطء لتكون الآية أكثر فائدة، ويحصل ما قالوه من التقرير على قراءة الملامسة وما قلناه على قراءة اللمس وهو جواب حسن إلا أن الأول أحسن. وأما الحديث الذي رووه فقد قال محمد بن إسماعيل البخاري: إنه لا يصح لحبيب بن أبي ثابت سماع عن عروة، ولا لإبراهيم التيمي سماع عن عائشة.

وقد قال يحيى بن سعيد القطان: بلغوا عني أن هذا الحديث شبه لا شيء. وقد أوله الأصحاب قالوا: يحتمل أنه كانت القبلة من وراء حجاب. وأما دعواهم القياس الجلي في الباب: فمعتمدنا نص الكتاب ولا ثبات للقياس معه جلياً كان أو خفياً وعلى أنا وجدنا هاهنا معنى مؤثراً، وذلك أن اللمس يجل الشهوة طبعاً وشرعاً سبب لخروج المذي، والطهارة عبادة مبنية على الاحتياط فأقيم سبب الخارج مقام الخارج في وجوبها، كما أقيم النوم مقام الحدث، لأنه ميسر لخروجه، وكذلك أقيم التقاء الختانين مقام خروج المني، لأنه جالب لخروجه، وكذلك اللمس/ جالب لخروج المذي. ويقال: إن القبلة برق الجماع ويريده فتقوم مقام الخارج في نقض الطهارة. وأما قولهم: ((إنما يقام إذا كان السبب يؤدي إليه في الغالب)). قلنا: الغالب لا يعتبر فيما يبني على الاحتياط بل يعتبر أصل السبب فإن قليل النوم مضطجعاً ينقض الوضوء، وليس بسبب لخروج الحدث في الغالب وكذلك مجرد التقاء الختانين من غير معالجة من التحريك والإيلاج ليس بسبب لخروج المني في الغالب، ومع ذلك يقام مقام خروج المني. وقولهم: ((إنه ليس في اعتبار نفس العلة حرج)).

قلنا: والحرج أيضاً غير معتبر بدليل التقاء الختانين، فإنه لا حرج في اعتبار نفس خروج المني فإنه يحس بخروجه، ومع ذلك قد نقل إلى سببه بل خرج المذي عند الملامسة أخفى من خروج المني عند التقاء الختانين فثبت أن المعتبر نفس وجود السبب. قال أبو زيد: هذا غلو من الشافعي. قلنا: ومنكم تقصير، والله الموفق والمستعان على إدراك الصواب ومنه العصمة من الزلل بمنه وفضله. * * *

(مسألة) مس الذكر بباطن الكف ينقض الوضوء

(مسألة) مس الذكر بباطن الكف ينقض الوضوء عندنا. وعندهم: لا ينقض. لنا: حديث يحيي بن سعيد القطان عن هشام بن عروة عن أبيه عن

بسرة بنت صفوان أن النبي عليه السلام قال: ((من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ)). وفي الباب عن أم حبيبة، وأبي أيوب، وأبي هريرة وأورى بنت أنيس، وعائشة، وجابر، وزيد بن خالد، وعبد الله

ابن عمر، ذكره أبو عيسى على هذا الوجه في جامعه ثم قال: هو حديث حسن صحيح، وحكى عن أبي زرعة أنه قال: حديث أم حبيبة في الباب صحيح وهو حديث العلاء بن الحارث عن مكحول عن عنبسة بن أبي سفيان عن أم حبيبة. وروى الدارقطني من طريق أبي هريرة: ((من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ وضوءه للصلاة)). وفي رواية عائشة: ((ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤن)).

وفي رواية: ((إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فلا يصلي حتى يتوضأ)). وهذا اللفظ يقتضي أن يكون المس بباطن الكف، وليس لهم كلام يبالي به على هذا الخبر. والذين يقولون إن هذا خبر واحد ورد فيما يعم به البلوي فلا يقبل حتى يشتهر في السلف العمل به، وليس هذا بشيء، لأن الخبر إذا ثبت فإنه يجب العمل به سواء كان فيما يعم به البلوى أو لا يعم به البلوى وسواء اشتهر في السلف العمل به أو لم يشتهر، وهذا لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أدى هذا الشرع إلى الواحد. فالواحد من أصحابه فيؤديه إلى الناس فكل حكم أمكن التوصل إلى معرفته من جهة الراوي فقد وقع تمام بيانه من النبي عليه السلام، والحكم وإن كان مما يعم به البلوى، وقد رواه الواحد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، فالتوصل إلى معرفة ذلك من جهة ذلك الواحد ممكن فتم البيان من النبي عليه السلام ولم يوصف بتقصير فاستوى في ذلك ما يعم به البلوى وما لا يعم. لأنه وإن كانت البلوى تعم به ويحتاج إليه كافة الناس، ولكن إذا أمكن الوصول إلى معرفته حصلت الكفاية، والإبلاغ التام من غير تفريط، وأم ضم اشتهار عمل السلف به إليه فهو شيء ضمه أبو زيد إلى هذا الأصل وليس تحته معنى، لأن العمل بخبر الواحد واجب على كل من وصل إليه الخبر فلم يعتبر عمل السلف به، وكذلك به، وكذلك قال: يعتبر أن يكون

الراوي فقيهاً. وهذا أيضاً ليس بشيء، لأن الراوي إذا كان ثقة ونقل على ما سمع فسواء كان فقيهاً أو لم يكن فقيهاً فقد صحت الرواية والنقل وافترض العمل به. يبينه أن لا يعتبر في الشهادة أن يكون الشاهد فقهياً مع مبالغة الشرع في شأنها وزيادة الاحتياط في بابها، فكيف يعتبر في الرواية أن يكون الراوي فقيها. وقد حمل بعضهم الوضوء على غسل اليد، لأنهم كانوا يستنجون بالأحجار ويعرقون فتبتل موضع الاستنجاء، وذلك البلل نجس فإذا مسه بيده فتصيب يده موضع الاستنجاء فتنجس فأمر بالغسل لهذا المعنى. وهذا المعنى أيضاً باطل، لأن الوضوء المعهود، والمعروف في الشرع هو وضوء الصلاة، فلا يحمل الوارد في الشرع على غيره إلا بدليل. لأنا روينا في بعض الروايات: ((حتى يتوضأ وضوءه للصلاة))، وهذا يسقط التأويل، ولأن عندهم لا يجب الغسل بمس الذكر، والذي ذكروه من العلة فلا يصح، لأن إيجاب غسل اليد بالشك والتوهم لا يجوز إلا بخبر يقتضي الإيجاب. وأما حجتهم: تعلقوا بحديث قيس/ بن طلق عن أبيه قال: قدمنا على النبي

عليه السلام فجاء رجل كأنه بودي فقال: يا رسول الله، ما ترى ف مس الرجل ذكره بعد ما توضأ؟ قال: ((وهل هو إلا مضغة منه- أو بضعة منه)) ذكره أبو داود في سننه على هذا الوجه. قالوا: وهذا الخبر أولى، لأنه ذكر الحكم بعلته، وما رويتم حكم بلا علة. قالوا: والقياس معنا، لأنه عضو منه كسائر أعضائه، ولأن مسه لفخذه لا ينقض الوضوء، وهو عورة فبغير العورة أولى، ولأنه لو مس الفرج بالفرج لم ينتقض وهو أفحش فباليد أحرى أن لا ينتقض. وكذلك لو مس ذكر غيره لم ينتقض عندكم وهو الممسوس وهو أولى من نقض وضوء الماس لأن اللذة وهيجان الشهوة إنما يحصل للممسوس ذكره لا للماس الجواب: إن أئمة الحديث قد قالوا: إن أصح شيء في الباب حديث بسرة بنت

صفوان، قالوا: ذكره الساجي، والبخاري، وابن خزيمة وحكى ذلك عن أبي حاتم، وأبي زرعة، والأخذ بالأصح أولى، والأولى أن يقال إن خبرنا متأخر وخبرهم متقدم، لأن طلق بن علي قدم على النبي عليه السلام وهو إذ ذاك يبني مسجد المدينة في أول زمن الهجرة. وأما خبرنا فقد رواه أبو هريرة وهو متأخر الإسلام وأسلم سنة سبع من الهجرة. وإنما يؤخذ بآخر الأمرين من النبي عليه السلام، وأول الأصحاب خبر طلق فقالوا: أراد به المس ودونه حائل. واستدلوا على ذلك برواية الثوري، وشعبة، وابن عيينة

أنه سأل عن مسه في الصلاة، والمصلي لا يمس فرجه من غير حائل بينه وبينه وهذا التأويل ضعيف بالتعليل الذي أشار غليه النبي عليه السلام، فالأولى ما سبق. وأما القياس الذي قالوه فلا يقبل مع النص الوارد في الباب، وعلى أنا نقول إن مس الفرج بآلة المس سبب لخروج المذي فينقض الوضوء احتياطاً كما ينتقض الوضوء بالتقاء الختانين، وقد ذكرنا سؤالهم هذا، والجواب عنه في المسألة المتقدمة. وأما إذا مس بالفخذ فلم يقع المس بآلة المس، وكذلك في مس الذكر بالذكر، والمعتمد السنة. * * *

(مسألة) لا يجب الوضوء بالخارج من غير السبيلين

(مسألة) لا يجب الوضوء بالخارج من غير السبيلين عندنا. وعندهم: يجب. لنا: ما روى حميد الطويل عن أنس ((أن النبي عليه السلام احتجم وصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه)) وهذا نص.

وأما المعنى نقول: إن الطهارة من الحدث محض تعبد، وقد علق بسبب فلا يجب تغير السبب كسائر العبادات لما علقت بأسبابها لا تجب بغير تلك الأسباب. وإنما قلنا: محض تعبد، لأن الحدث الخارج من السبيلين يوجب الوضوء في الأعضاء الأربعة، والسبب إذا كان في موضع والواجب في موضع آخر لم يكن السبب سبباً معنوياً مؤثراً في إيجابها كزوال الشمس سبب لصلاة الظهر، وشهود الشهر سبب لوجوب الصوم، وليس هذا بسبب معنوي في إيجابه فكان الواجب محض تعبد، كذلك هاهنا لما لم يعرف معنى وجوب الوضوء في الأربعة مع وجود الحدث في غيرها لم يبق الوجوب إلا حكماً شرعياً بوصف التعبد المحض فلم يجب بغير السبب المعهد في الشرع ولم يقبل قياس غيره عليه، وللأصحاب مسائل إلزامية على أصوالهم تعلقوا بها ونذكرها في تخريجها على كلامهم، وعندي: أن الاعتماد على ما ذكرناه. أما حجتهم: قالوا: روت عائشة أن النبي عليه السلام قال: ((من قال أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم)). وروى تميم الداري أن النبي عليه السلام قال: ((الوضوء من كل دم سائل)).

قالوا: وروى زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده أن النبي عليه السلام قال: ((القلس حدث)). وروى ميمون بن مهران عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: ((ليس في القطرة والقطرتين وضوء حتى يكون دماً سائلاً)). وعن سلمان أنه رعف فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أحدث لذلك وضوء)) واحتجوا بالخبر المعروف أن النبي عليه السلام قاء فأفطر قال ثوبان: ((أنا صببت له الوضوء)).

أما تعلقهم بالمعنى قالوا: الخارج نجس ينقض الوضوء، دليله كما إذا كان من السبيل. قالوا: ووجه التأثير أن الواجب هو وجوب الطهارة، فتغيرها بخروج النجس المعنوي مؤثر، لأن الطهارة/ لا تجب إلا عن نجاسة في الأصل. لأنها مشروعة لرفعها، والدليل عليه أن الله تعالى شرع الوضوء ثم قال: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} ولم يقل: ليتعبدكم، ولهذا تعلق في الأصل بالخارج من السبيل لأنه مسلك النجس. وروى عن بعض الصحابة أنه قال في مس الذكر: ((إن كان منك شيء نجس فاقطعه)) أي هو طاهر، فلا يتعلق بمسه وجوب الطهارة. وعن بعض الصحابة أيضا في رد خبر الاغتسال عن الميت: ((إن كان صاحبكم نجساً فاغتسلوا منه)). فثبت أن الأصل هو وجوب الطهارة عن النجاسة قالوا: (وأما معنى العبادة التي تقولون فهو تبع، وكان القياس ألا يجب الغسل حيث

لا نجاسة إلا أنها وجبت شرعاً تعظيماً لأمر القيام إلى الله تعالى في الصلاة، وكان يجب أن يغتسل لكل حدث كما في المني. لأن الشرط أن يقدم بنفسه طاهراً إلى الله تعالى وقد لزمه حكم النجاسة بخروج النجس إلا أن الله تعالى قصر على الظواهر بالخارج المعتاد تيسيراً علينا، لأنه مما يكثر فبقيت إضافة أصل الوجوب إلى أصل النجاسة على أصل القياس، والزيادة احتياط لأمر العبادة تعظيماً لأمر هذا القيام) وربما يقولون إن الأصل وجوب الطهارة في محل النجاسة إلا أن الشرع أقام توضئة الأعضاء الأربعة وتطهيرها مقام الطهارة في ذلك المحل، لأن ذلك المحل يخفي في الغالب والمطلوب تعظيم القيام بين يدي الرب وذلك يكون بفعل الطهارة في الأعضاء الظاهرة. قالوا: ((وأما القهقهة فعندنا إنما نقضت الوضوء بخلاف القياس نصاً)) وعلى أن الإثم الذي يلحقه بالقهقهة بين يدي الله تعالى في أخص حالة وهو حالة الصلاة جعل في معنى النجاسة حكماً إلا أن قيام الإثم مقام النجاسة ما عرف إلا شرعاً فلم يقم إلا في عين ما ورد به النص. فثبت أنه لابد من صفة النجاسة، ولابد من صفة الخروج أيضاً، لأنه لا يخلو عن نجاسات باطنة لو كانت حدثاً لم يطهر بحال، وأنه لا يمكنه تطهير الباطن عن النجاسات فلا يرد التكليف به، وإذا كان لابد من خروج فالخروج هو الانتقال من محل باطن إلى محل ظاهر فالخروج في غير

السبيلين بالسيلان عن رأس الجرح. لأن تحت كل جلد رطوبة سيالة، وفي كل عرق دم يظهر ذلك لنا وهو في محله بزوال البشرة عن جلده فلم يمكن مجرد الظهور عن باطنه خروجاً فإذا زال عن رأس الجرح فقد انتقل عن محله الذي كان باطناً فيه وصار خارجاً). فأما قبل السيلان فهو في محله على ما كان، وأما في السبيلين فإن الخارج قد انتقل عن معدنه، لأنه لا يظهر على المخرج إلا بالانتقال عن مضوعه، وحد الخروج هو الانتقال وقد حصل فتعلق الحكم الشرعي بالخروج وعدمه إلا أن الخروج من السبيلين يكون بنفس الظهور، وفي غير السبيلين يكون بالسيلان عن رأس الجرح. قالوا: وأما الدودة والحصان والولد الجاف إنما نقض الطهارة، لأن هذه الأشياء لا تخلو عن قليل بلة نجسة، وقد بينا أن خروج القليل من السبيل ينقض الوضوء. قالوا: وأما إذا قاء ما دون ملء الفم إنما لا ينقض الطهارة، لأن الفم فيما بينه وبين الباطن باطن على ما ذكرنا من قبل، وفيما بينه وبين الظاهر ظاهر وملء الفم ما لا يمكنه ضبطه، وما دون ملء الفم ما يمكنه ضبطه. وللفم حكمان: فإذا لم يقو القيء على الخروج عن الفم بأن كان دون ملء الفم وأمكنه ضبطه لم يثبت له حكم الخروج، كما لم يثبت لبزاق يبتلعه حكم دخول من خارج، وأما إذا كان ملء الفم ولم يمكنه ضبطه ثبت له حكم الخروج، فتبين أنا إنما أدرنا الحكم على الخروج وعدم الخروج. وأما الريح إنما انتفض الوضوء بخروجها لأنها انفصلت عن موضع النجاسة فلا يخلو من وجود أجزاء النجاسة فيها وإن كانت يسيرة.

وقال أبو زيد: وعلى أنا عللنا النص الوارد في وجوب الوضوء بالخارج من السبيلين بعلة مؤثرة وهو بخروج النجاسة إلا أن الحكم في موضع النص يتعلق بعينه لا بالعة وفي غيره يتعلق بالعلة فلم يعتبر في النص ظهور حكم النجاسة وهو وجوب الغسل في موضع النجاسة، واعتبرناه في الفرع فلم نوجب الوضوء ما لم يجب غسل النجاسة عن موضع الخروج، وقد ذكروا مثل هذا في مسألة إزالة النجاسة. الجواب: أما تعلقهم بالأخبار. قلنا: الخبر الأول رواه ابن جريج عن أبيه مرسلاً. فإن قالوا: / أسنده ابن أبي مليكة عن عائشة.

قلنا: تفرد بإسناده إسماعيل بن عياش وهو ضعيف. وأما الخبر الثاني راه عمر بن عبد العزيز عن تميم الداري ولم يلقه، ورواه عن عمر يزيد بن خالد عن يزيد بن محمد وهما مجهولان. وأما الخبر الثالث: رواه عمرو القرشي الواطسي، قال أحمد ويحيي: هو كذاب. وأما خبر زيد بن علي، رواه سوار بن مصعب، وهو متروك.

وأما خبر ميمون بن مهران عن أبي هريرة رواه سفيان بن زياد عن حجاج بن نصير، وهما ضعيفان، وعلى أنا نحمل الجميع على الاستحباب. أما قولهم: ((خارج نجس)). قلنا: ((إن الواجب هو الطهارة والطهارة تجب عن النجاسة)). قلنا: نعم هذا مسلم في الطهارة الحسية، وأما الطهارة الشرعية فلا يعرف لها إلا وصف الوجوب فحسب. ومعنى قولنا: ((طهارة شرعية)) أنها محض تعبد لا يعقل لها معنى والدليل على إنها محض تعبد ما بينا في أول المسألة. فإن قالوا: فلم سمي طهارة ولم يسم عبادة؟ قلنا: تسميته طهارة لا ينافي التعبد، فيجوز أن يكون طهارة بمحض تعبد، ويجوز أن يقال: سمي طهارة لأنها يقام بطهور. يبين ما قلنا أن هذه الطهارة يجوز أن تجب بلا خروج نجاسة أصلاً بدليل الريح والحصاة. وقولهم: ((إن في خلال الريح أجزاء النجاسة)).

قلنا: هذا خلاف المحسوس ولا تعرف أجزاء نجاسة لا ترى ولا تحس. وأما فصل الحصاة فلازم، وقولهم: (إنه يكون على الحصاة بلة نجاسة)). قلنا: تصور فيما إذا كانت الحصاة أنقى من الراحة، وعلى أنه إن ثبت لهم أن الطهارة تنتقض بخروج النجاسة فإيجاب الطهارة في غير موضع النجاسة لا يعقل ولا يعرف. وقولهم: ((إنه أقيم طهارة الأعضاء الأربعة مقام تطهير موضع النجاسة لرفع الحرج)). قلنا: وأي حرج في إيجاب الطهارة في موضع النجاسة؟ أليس أنه أمر باستعمال الحجر في موضع النجاسة فهلا أوجبتهم ذلك واقتصرتم عليه إن كنتم تعقلون معنى الطهارة؟ وأما قولهم: ((إن في الأصل وإن أوجبنا لا في موضع النجاسة ففي الفرع أوجبنا في موضع النجاسة وفي غير موضع النجاسة)). قلنا: ولو كان الواجب طهارة عن نجاسة لم يجب إلا في موضع النجاسة وعلى أن أجبنا عن هذا الأصل الذي يدعونه في مسألة منع إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات. فإن قالوا: سلمنا لكم هذا الأصل، وهو أن الطهارة عن الحدث طهارة شرعية غير معقول المعنى، لكن لا شك أنها وجبت بخروج النجس وهذا القدر معقول، وإن لم يكن الوجوب معلولاً به فوجب أن يلحق به أمثاله ونظائره وذلك في كل موضع وجد خروج النجاسة من الباطن إلى الظاهر. قلنا: لابد أن يكون الإلحاق بمعنى فإذا لم يكن معقول المعنى بطل الإلحاق.

وقولهم: ((إن خروج النجس معقول)). قلنا: بلى ولكن غير معلول به، ولأنا بينا وجوب الطهارة بلا خروج النجاسة أصلاً، ثم نقول: إن خروج النجاسة من سائر المواضع لا يشبه خروج النجاسة من السبيلين، لأن السبيل المعتاد لخروج النجس موضع النجاسة ومسلكها. وأما الفم والأنف وسائر المسالك ليس بموضع النجاسة ومسلكها فتغلظ هناك الخارج بالمخرج ومثل هذا لا يوجد في مسألتنا وهو أن يتغلظ شيء بانضمام شيء آخر إليه فيمتنع إلحاق غيره به. ألا ترى أن الزنا جناية يتغلظ بالإحصان ثم امتنع إلحاق زنا غير المحصن به، لأنه لم ينضم إليه ما يوجب تغليظه كذلك هاهنا، وهذا كلام حسن غير أن الأول كاف، وهو حقيقة المسألة والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) المني طاهر

(مسألة) المني طاهر عندنا. وعندهم نجس. لنا: ما رواه شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس قال: سئل النبي عليه السلام عن المني يصيب الثوب قا ل: ((إنما هو بمنزلة البزاق والمخاط وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بأذخرة)).

وعن ابن عباس نفسه كذلك. قالوا: أليس يورى عن النبي عليه السلام أنه قال لعائشة: ((إذا رأيت المني رطبة فاغسليه، وإذا وجدته يابساً فافركيه)). وأيضاً فإن النبي عليه السلام مر على عمار وهو يغسل ثوبه من النخامة فقال: ((إنما يغسل الثوب عن خمس: البول والغائط والقيء والدم والمني)). الجواب: أما الخبر الأول/ فلا يعرف على ما رووا، وإنما المعروف عن عائشة أنها قالت: ((كنت أفرك المني عن ثوب رسول الله إذا كان يابساً وأغسله إذا كان رطباً)) وهذا نقول به على الاستحباب. وأما الخبر الثاني: لم يروه غير ثابت بن حماد، قال الدر قطني: هو ضعيف جداً.

ومن جهة المعنى نقول: المني متولد من أصل ليصير أصلاً مثله فلا يكون نجساً، دليله البيض، وتأثيره أن نجاسته إما أن يكون من أصله أو من عينه، فإذا كان من أصله فأصله طاهر فلا يوجب نجاسة متولدة منه، وإن كان من عينه فليس عينه إلا غذاء مستحيل، وهذه الاستحالة إلى صلاح وهو تكون الولد منه. والاستحالة إلى صلاحية تكون الولد منه كالاستحالة إلى صلاحية تغذي الولد به وذلك اللبن، ثم تلك الاستحالة لا توجب النجاسة كذلك هاهنا. فإن قالوا: إن الاستحالة إلى نتن وقذارة. قلنا: أما النتن فلأن رائحته رائحة الطلع، وأما القذارة فقذارة يسيرة مثل قذارة المخاط، وذلك لا يعتبر. واستدل الأصحاب بجواز الفرك في اليابس إذا أصاب الثوب. قالوا: لو كان نجساً لم يجز الاقتناع بالفرك، لأنه يلين الموضع، وليس يستأصل أجزاء النجاسة، ولهذا المعنى لو أصاب الموضع بعد ذلك ماء فإنه ينجس، ثم ناقضوا الثوب بالبدن وقالوا: لو أصاب المني بدنه ويبس لم يطهر بالفرك وهذه مناقضة بينة ولا يتبين بينهما فرق، والاعتماد على ما سبق. وأما حجتهم: قالوا: خارج ينقض الوضوء فيكون نجساً، دليله البول، وتأثيره أن وجوب الطهارة إنما يكون عن نجاسة على ما سبق، فوجوب الطهارة دليل النجاسة قطعاً بل هذا أولى من البول، لأنه ينقض الطهارة الصغرى والمني ينقض الطهارة الكبرى.

واعترضوا بما قالوه على قولنا: ((إنه ليس في أصله ولا في عينه ما يدل على نجاسته))، لأنه إن لم يكن في أصله وفي عينه ما يدل على نجاسته ففي حكمه ما يدل على نجاسته. قالوا: وأما الاكتفاء بالفرك عند يبسه فإنما كان لدفع الحرج، وذلك لأن المني يكون حصوله في الغالب بين بنات الإنسان ويكثر ويتردد على العادات فإنه يوجد بالغشيان وهو يكثر بين الرجال والنساء، فلو أوجبنا الغسل أدى إلى الحرج بخلاف البول، فإنه يكون في المواضع المعتاد من الكنيف والمستراحات (وعلى أن المني شيء غليظ لزج فإنما يخف على ظاهر الثوب، ولا يدخل أجزأه فإذا فرك يزول معظمه، وإنما تبقى أجزاء يسيرة لا يعتد بها. وأما في البدن فقد قال بعضهم: يطهر بالحت أيضاً وعلى التسليم قالوا: إن حرارة البدن تتشربه فلا يزول إلا بالغسل. وقد تعلق بعضهم في الحكم بنجاسة المني بجريانه في الموضع وهو داخل القضيب) وقالوا: ((مائع جاري في مجرى البول فيكون نجساً كالمذي)). وتعلقوا من الحكمة بالعلقة، وزعموا أنها أخت النطفة وقرينتها. قالوا: وبهذا نعترض على قول من قال من مشايخكم: إن النطفة أصل الآدمي فيكون طاهراً كالتراب، فإن العلقة أصله أيضاً ومع ذلك هي نجسة. ثم قالوا: إن الأصل لنبي آدم ليس إلا التراب فإن الله تعالى قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ}.

وإنما النطفة عارض داخل في الوسط مثل العلقة، فالحكم بنجاستها لا يوجب إدخال نقيصة في كرامات الآدمي مثل العلقة سواء. قالوا: وأما البيض فإنه يحتجب بقشرة عن الفضلات النجسة في البدن، وعلى أنه يخرج على الأصل الذي قلناه، فإنه لم يقم دليل حكمي على نجاسته بخلاف مسألتنا على ما سبق. الجواب: أما قولهم: ((إنه خارج ينقض الطهارة)). قلنا: ولم إذا نقض الطهارة وجب أن يكون نجساً؟ قالوا: لأن الطهارة لا تجب عن نجاسة. قلنا: ليس كذلك، وقد بينا أن الطهارة عن الأحداث محض تعبد ولا يدل الوجوب على النجاسة أصلاً، هذا وقد سبق بما فيه المقنع والكفاية. يبينه أنه لو كان وجوب الطهارة دليل النجاسة في الخارج فيجب أن يقال: إن الواجب من الطهارة إذا كان أعظم تكون النجاسة أغلظ وإذا كان الواجب أخف تكون النجسة أخف كذلك فإن نجاسة البول أغلظ من نجاسة المني ومع ذلك خروج المني يوجب الطهارة الكبرى، وخروج البول يوجب الطهارة الصغرى. وقد نقض الأصحاب ما قالوه/ بالولد الجفاف والحصا، والاعتماد على ما بينا. وأما ما تعلق به مشايخهم من جريانه في مجرى البول فليس بشيء. لأن هذا يقتضي أن يكون نجاسة المني نجاسة مجاورة لا نجاسة عينية. وعندهم أن نجاسة المني نجاسة عينية، وعلى أنه لا ينكر أن يكون بين

مجرى المني ومجرى البول حاجز يمنع اختلاط البول به، ولهذا المعنى اجتزوا بالفرك من اليابس منه، وما تنجس بالبول فإنه لا يجتزئ بالفرك فيه. وأما ما اعتذروا به من اعتبار الحرج فلا حرج، وعلى أنه موجود في المذي، ولعل ابتلاء الناس به بوجوده في ثيابهم أكثر منه في المني، ومع ذلك لا يكتفي فيه بالفرك فبطل ما قالوه. وأما العلقة فقد منع بعض أصحابنا، وقال إنها طاهرة، ولئن سلمنا فلأنها دم، ولا يدل الحكم بنجاسة الدم على نجاسة المني. فإن قالوا: إن المني أيضاً دم إلا أنه أبيض بنار الشهوة، كما يبيض ماء الورد الأحمر بتصعيد النار. قلنا: هذا هوس من يدرس أنه دم، وإنما خلقه الله منياً كما هو في صلبه، كما خلق البيضة في جوف الطير كهيئته، وخلق اللبن في الضرع كهيئته، والرجوع إلى قول الطبيعيين باطل. * * *

(مسألة) جلد ما لا يؤكل لحمه لا يطهر بذبحه

(مسألة) جلد ما لا يؤكل لحمه لا يطهر بذبحه عندنا. وعندهم يطهر. لنا: إن الموجود قتل وليس بذكاة فلا يعمل في تطهير الجلد. دليله إذا كان الذابح مجوسياً، وإنما قلنا لأن الذكاة فعل شرعي لا يوجد إلا من أهله في محله، والمحل مفقود هاهنا، لأن الذكاة فعل مشروع لحل اللحم بدليل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى أن قال: {... إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}. فعد ما حرم أكله ثم استثنى المذكاة في الحكم الذي وردت له الآية وهو الأكل. والمعنى: لا تأكلوا هذه الأشياء إلا المذكاة ((فكلوا)) دل أن الذكاة مشروعة للأكل. ولأن تحريم تعذيب الحيوانات أصل عظيم معقولاً ومشروعاً إلا أن بالناس حاجة إلى اللحوم لمعنى التغذية وهو حاجة عامة ولا يوجد شيء آخر يقوم مقامه في معناه والميتات خبيثة وكرامة بني آدم اقتضت تحريم الخبائث

عليهم، وتحليل الطيبات لهم، والذكاة معنى مطيب للحم من حيث إنه يسيل النجاسات من الحيوانات مزيل للخبائث بقدر الإمكان، فإن الله تعالى ببالغ حكمته وعميم كرامته ببني آدم أباح لهم لحوم بعض الحيوانات بطريق مخصوص شرعي وهو الذكاة. وإنما قلنا إنه شرعي لأنه وضع بآلة مخصوصة في محل مخصوص من فاعل مخصوص، وشرع أيضاً على وجهة مخصوص على ما هو المعلوم فإذا وجد فيما عدا ذلك من المحال لم يكن ذكاة أصلاً، وإن وجدت بصورتها والتحق الفعل بالتخنيق والتوقيذ وغير ذلك، وإذا ثبت عدم الذكاة ثبتت نجاسة الجلد، لأنه لو طهر لكان يطهر بالذكاة فإذا لم تكن ذكاة لم يطهر. وأما حجتهم: قالوا: جلد يطهر بالدياغ فيطهر بالذكاة، دليله مأكول اللحم. ثم استدلوا على وجود الذكاة بصدوره من أهله في محله. أما قولنا: ((من أهله)) فهو المسلم أو الكتابي. وأما قولنا: ((في محله)) لأنه حيوان طاهر عينه في حال حياته فيكون محل الذكاة، لأن الذكاة نوع معالجة لطلب منفعة، فإذا كان الحيوان طاهر العين في نفسه كان محل هذه المعالجة. وقولنا: ((لطلب منفعة)) عنى بذلك منفعة الجلد، وهو معنى مطيب للجلد مثل الدباغ في جلد الميتة مطيب له.

ألا ترى أن في مأكول اللحم، فإن الجلد كما يطهر بالدباغ يطهر بالذكاة. لأن كل واحد منهما يعمل عمل صاحبه في تطييب الجلد، كذلك هاهنا تعمل الذكاة عمل الدباغ، وجلد هذا الحيوان يطهر بالدباغ فيطهر بالذكاة. قالوا: ولا يجوز أن يقال إن منفعة الجلد تبع لمنفعة اللحم فإذا لم يفد الفعل حلاً في المتبوع لا يفيد طهراً في التبع، لأنا لا نسلم هذه التبعة بل لكل واحد منفعة أصلية، بدليل أن في الشاة الميتة لا يحل لحمه بحال ويحل جلده بالدباغ. قالوا: ولا يجوز أن يقال إن الفعل محظور في هذا المحل لأنا نسلم ذلك بل هو مطلق لطلب الجلد، كما هو مطلق لطلب اللحم في مأكول اللحم. قالوا: وأما تعلقكم بحرمة تعذيب الحيوان، تعلق فاسد، لأنه لا يجوز ذلك إذا كان لا لمنفعة، فأما لمنفعة فيجوز، ورووا أن النبي عليه السلام نهى عن/ تعذيب الحيوان إلا لمنفعة. الجواب: أنا بينا انعدام الذكاة في مسألتنا، وكلامهم راجع إلى حرف واحد وهو شرع الذكاة لمنفعة الجلد، ونقول على هذا: إن الشرع قد شرع طريقاً للوصول إلى منفعة هذه الجلود وهو الدبغ بعد موت الحيوان، والذكاة فعل مشروع للحاجة فإذا عدمت الحاجة ارتفعت المشروعية، وخرج اللحم على هذا، لأنه لا طريق للوصول إليه سوى الذكاة. فإن قالوا: ذاك طريق وهذا طريق.

قلنا: شرع الدباغ قد أغنى عن الذكاة المعذبة للحيوان. قالوا: ما يغنى لأنه يتعجل إليه وصوله بالذكاة ولا يحتاج إلى تربص الموت. قلنا: الحيوانات غايتها الموت وهو منتفع بها في الحال بوجه آخر، فلا ضرر عليه في التربص، وقد يصل إلى الجلد بوجه آخر إن احتاج إليه. فإن قالوا: فإن كانت الذكاة لحلية اللحم خاصة فلم طهر الجلد في مأكول اللحم بالذكاة دون الدباغ؟ قلنا: لأنه تبع له، ولأنه يؤكل معه في كثير من البلدان، فإذا لم يطهر بطهارته أدى إلى حرج عظيم فحكمنا بطهارته دفعاً للحرج. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) عظام الميتات وشعورها نجسة في الظاهر من مذهب الشافعي

(مسألة) عظام الميتات وشعورها نجسة في الظاهر من مذهب الشافعي. وعندهم: إنها طاهرة. لنا: إنه جزء من الميتة فيكون نجساً كسائر أجزاءها. وفقه المسألة: وهو أن الأصل أن الميت نجس لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وتحريمها يدل على تنجيسها بدليل قرينتها من الدم والخنزير، ولأن معنى النجاسة في المحل وجوب التباعد منه وترك الانتفاع وتحريمه قد دل على هذين المعنيين فثبت أنه نجس. وأما الآدمي الميت فلئن قلنا إنه طاهر فهو لاحترامه فيكون مستثنى من هذا الأصل إما بالنص، أو لمعنى الاحترام.

وإذا ثبت نجاسة الميت فنقول: إن الموت إذا حل بالحيوان يحله بجميع أجزائه فكما أنه حي بجميع أجزائه وأعضائه وأبعاضه فكذلك إذا مات فهو ميت بجميع أجزائه وأبعاضه وهذا لأن الحيوان ذات تركيب مخصوص يستمد بقاءه من معنى مخصوص فما دام على تركيبه باستمداده فهو حي، فإذا فنى الاستمداد مات وخرب التركيب، وكل جزء من الحيوان له قوة الاستمداد وصفة البقاء وفيه الصلاح صفة الحياة وعند انقطاع الاستمداد واتصافه إلى الفناء والفساد فله صفة الممات. وهذا ثابت لجميع أجزائه لا يختص بجزء دون جزء، فثبت أن الحياة ثابتة لجميع أجزائه ما دام حياً فإذا مات بجميع أجزائه ولئن تكلمنا في العظام فالكلام فيه أظهر نصاً ومعنى. أما النص قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ ....}. وأما المعنى فلأن قوام التركيب بالعظام أكثر من قوامه باللحم والذات حي بتركيبه فإذا كان اللحم محلاً للحياة فلئن يكون العظام محل الحياة أولى. ونستدل من حيث الحكم بالخنزير فإن الإجماع انعقد على نجاسته بعظامه وشعوره، والاعتماد على ما سبق. وأما حجتهم: قالوا: الشعور والعظام ليست بمحل الحياة فلا يكون محل الموت، ودليل أنها ليست بمحل الحياة أنها لا تحس بشيء ما، بدليل أن الشعر يقطع فلا يحس الحيوان والعظم يبرد بالمبرد من القرن والسن وغيره فلا يحس به، ويستحيل وجود الحياة في محل لا حاسة له.

وحرفهم أن علامة الحياة الحس والتألم فلا يوجد مع فقد علامتها وصار الشعر كجزء من الجلد يموت ويذهب منه الحس والتألم، فإنه لا يكون محل الحياة، فكذلك الشعر في أصل خلقته. قالوا: وأما النماء فلا يدل على الحياة بدليل النبات والأشجار، وعلى أنه إنما تنمو الحياة في محل نباته لا بحياة فيه بخلاف سائر الأعضاء، فإن النماء فيها بمعنى لا في المحل بل لمعنى في أعيانها. قالوا: ولا جائز أن يقال إن للعظم حاسة بدليل وجع الضرس وذلك لأن الوجع وجع اللثة واللحم المتصل بالسن ويظن الإنسان أنه وجع الضرس، وكيف يتصور أن ذلك من وجع الضرس حقيقة، ولو قطع قطعاً أو برد بالمبرد لم يألم. واستدلوا من حيث الحكم في أنه لا حياة في الشعر والعظم بأنه إذا أبين من الحيوان في حالة يجوز/ الانتفاع به ولو كان محل الحياة لمات بإبانته منه بدليل قوله عليه السلام: ((ما أبين من حي فهو ميت)). وبدليل سائر الأجزاء. وقد قال أبو زيد في هذه المسألة: إن الموت ليس بمنجس في نفسه وإنما

النجاسة بأحد شيئين إما بتحريم متعلق به وهو تحريم الأكل، وهذه الأشياء غير مأكولة فلا نجاسة بهذا المعنى أو باتصال من الرطوبات النجسة والدماء السيالة بالجامد منها. والعظم والعصب شيء صقيل لا يتعلق به منها شيء فلم ينجس لعدم العلة وصار كالجلد بعد الدبغ بخلاف ما قبل الدبغ فإنه يتصل به الرطوبات النجسة. قالوا: ولهذا تعاين الشعر والقرن لا يتعلق بهما شيء من الرطوبات، واستدل على أن الموت ليس بمنجس في نفسه، بما ذكرنا من مسألة موت الحيوان الذي ليس له دم سائل، وذلك مذكور في الأوساط وقد ذكرنا الطريقة الأولى أيضاً، ثم زعم أنها لا تأتي في العصب. وذكر أن الطريقة الأولى أقرب إلى النفقة وأولى بالصواب. الجواب: إنا دللنا على وجود الحياة في الشعر والعظم، والحرف المعتمد للأصحاب أن النمو بحياة الحي دليل الحياة في الشعر والعظم، ويمكن أن يقال: جزء نامي بحياة الأصل فينجس بالموت. دليله الأذن، وليس كالبيضة، لأنا قلنا: وجب أن ينجس بالموت وموت البيضة ليس بموت الأصل بل بأن لا ينمي فلا ينقلب فرخاً وذلك أن يصير مذرة فينجس حينئذ، وأما حياتها فبعاقبتها.

ألا ترى أن المحرم إذا أخذ بيض الصيد ضمن الجزاء لأنه في حكم الحي. وعلى أن المذهب في البيض أنه إن كان غير متصلب فهو كاللبن ينجس وإن كان متصلباً فلا ينجس لأنه ليس بجزء متصل بالأصل بل هو شيء مخلوق في جوفه بمنزلة الولد فلم يعمل فيه موت الأصل، وليس كما لو جز الصوف أو قطع القرن حيث لا ينجس. لأن الجز من الشعر بمنزلة الذكاة شرعاً كما جعل موت السمك ذكاة شرعياً، وإنما كان كذلك، لأن الناس بحاجة إلى الشعور والأوبار، وفي تركها ضرر بالحيوانات فجعل الشرع أخذها بالجز بمنزلة الذكاة من جملة الحيوان نفعاً للعباد، وهذا المعنى لا يوجد في سائر الأعضاء فصارت إبانتها إماتة لها. وأما الذي اعتمدوا عليه في هذه الطريقة من التعلق بعدم الحس وفقد التألم فإن استقام لهم هذا في الشعر فلا يستقيم لهم في العصب والعظم. وقولهم: ((إن وجع الضرس وجع اللثة)). فليس بشيء بدليل أن الضرس إذا قلع يسكن الوجع، دل أن الوجع كان له، وعلى إنه لا ينكر أحد حياة العظام في داخل البدن ومنكر هذا مثل منكر وجود الحياة في اللحوم والأعصاب. وقد قال الأصحاب: إنه إن فقد الحس للشعر فإنما فقد أحد علامات الحياة، وقد وجدت علامة أخرى، وهو ما ذكرنا من النمو بحياة الحي فإذا كان فوات علامة بإخلاء علامة أخرى لم يدل على فقد الحياة مثل البصر للعين والسمع للأذن والنطق للسان، فإنه إن فقد البصر للعين وهو علامة حياة العين، ولكن وجدت علامة أخرى وهو السمع، والكلام بدون هذا الاستشهاد صحيح مقنع، وهذا الاستشهاد ضعيف على الأصل الذي أصلوه.

وأما الأشجار فقد قال بعضهم: إن لها حياة وهي المغذية والمنمية والمولدة. وللحيوان هذه الحياة والحياة السياسية أيضاً، وللآدمي هذه الأنواع كلها من الحياة، والحياة الناطقة أيضاً اختص بها من بين سائر الحيوانات وهذا كلام الحكماء الأوائل، ولا ينبغي أن نشتغل به. والجواب المعتمد بالتخريج وهو أنا استدللنا على حياة الشعر بنمه بحياة الشخص الحي مثل سائر الأجزاء، وهذا لا يوجد في النبات والأشجار. وقولهم: ((إن نموه لمعنى في المحل)). قلنا: لا، بل لمعنى في نفسه، ولمعنى في المحل من الاستمداد منه مثل سائر الأعضاء سواء. وأما الطريقة الثانية التي اعتمدها أبو زيد، فقد ذكرنا أن الموت منجس بنفسه ودللنا عليه. وقولهم: ((إن النجاسة تكون باتصال الرطوبات والأشياء السيالة إليه)). فليس بشيء، لأن الجلد نجس بكل حال، ورب جلد لا يتلوث بشيء من الرطوبات بعد الموت ويكون في جفافه ونظافته مثل ما كان في حال الحياة. فثبت أن الموت منجس بنفسه، وقد ذكرنا في تلك المسألة. والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) إذا كان معه آنيتا ماء إحداهما طاهرة والأخرى نجسة وليس معه غيرها فإنه يتحرى

(مسألة) إذا كان معه آنيتا ماء إحداهما طاهرة والأخرى نجسة وليس معه غيرها فإنه يتحرى عندنا، ولا يتيمم. وعندهم: يتيمم ولا يتحرى. لنا: إن الاجتهاد له مدخل في هذا المحل، والدليل عليه أنه إذا كان معه ثلاثة أواني طاهرتان ونجسة فإنه يتحرى بالإجماع ولأن الاجتهاد طلب الشرع بدليل واستعمال دليل الشرع في طلب الشرع مطلق لا يحرم بحال بدليل سائر المواضع، وأقربها طلب القبلة عند الاشتباه والتحري في ثوبي نجس وطاهر. ويمكن أن يحرر فيقال: شرط من شرائط الصلاة يمكن التوصل إليه بالاستدلال فيجب ذلك. دليله: ما بيناه من استقبال القبلة وستر العورة.

يتبين ما ذكرنا أن الصلاة بالتيمم لا تجوز إلا بشرط عدم الماء فلا يجوز ثبوت العدم باشتباه الطاهر بالنجس، وإن كانا على السواء كما لو كان عنده ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس وحضرت الصلاة فإنه يصلي في أحدهما بالتحري ولا تجوز الصلاة إلا بازار لأن الصلاة عرياناً لا تجوز إلا بشرط عدم الثوب الطاهر فلم يثبت العدم باشتباه الطاهرة بالنجس وإن كان على السواء كذلك هاهنا، والاعتماد على الأول. وأما حجتهم: قالوا: التحري عمل بما يقع في القلب، والعمل بما يقع في القلب باطل لأنه قد يقع في القلب من قبل الله، وقد يقع من قبل الشيطان فلا يجوز الرجوع إليه وهذا حكمه. قالوا: وأما القبلة فإما وجب الاجتهاد فيها، فإن للشرع دلائلاً منصوبة على القبلة فليس برجوع إلى مجرد ما يقع في القلب بل هو طلب القبلة بالدلائل المنصوبة عليها من قبل الله تعالى، وفي الثوبين إنما جاز التحري، لأن ستر العورة بالثوب النجس جائز في الجملة. وعندنا: لو لم يجد إلا الثوب النجس وصلى فيه يجوز فلم يكن التحري رجوعاً إلى مجرد ما يقع في القلب بل استند الجواز إلى دليل شرعي، وهو جواز الصلاة في الثوب النجس إذا لم يجد غيره. وأما هاهنا فإن التحري عمل بمجرد القلب ولم يرجع جوازه إلى دليل، وأما إذا كانت الغلبة للماء الطاهر فإنما جاز التحري، لأنه وجد دليلاً شرعياً يستند إليه وهو اعتبار الغلبة واعتبار الغلبة أصل عظيم في الشرع خصوصاً في المأكولات، والمشروبات بدليل المعاملات، فإن من يكون

الغالب على ماله الحلال يجوز المعاملة معه، وكذلك يجوز التناول من ماله أكلاً وشرباً عند إذنه ومن كان الغالب على ماله الحرام يكره له ذلك. وأما أبو زيد قال في هذه المسألة: ((إن التحري باطل متى أصاب ماءً طاهراً بالإجماع فكذلك وإن عدمه، لأن التراب جعل خلفاً عنه في إفادة طهارة الصلاة فإذا فات إلى خلف يعمل عمله عند عدمه فلا يثبت العدم حكماً بخلاف الثياب، فإن التحري باطل إذا استوى النجس والطاهر وأصاب ثوباً طاهراً ويجوز إذا عدم الطاهر، لأنه عدم بلا خلف يعمل عمله في الستر الذي هو شرط الصلاة، فثبت العدم وتبدل حال الاختيار بحال الضرورة فأبيح بالضرورة ما لا يباح بالاختيار. قال: ولأن المعارضة وقعت بين التراب والماء تحراه فنحن نقول التراب أولى، لأن ذلك الماء على الحقيقة يحتمل النجاسة والطهارة، فلئن كان نجساً فالتيمم طهارة، وإن كان طاهراً فالتيمم لا ينجس أعضاءه وإن استعمل الماء فإن كان طاهراً فالصلاة تكون بطهارة وإن كان نجساً فالصلاة تكون بنجاسة العضو فيكون حال فساده شراً من التيمم، وقد استويا في حال الجواز فصار التيمم أولى هاهنا بخلاف الثوب فإن حال نجاسته مساوية بحال العري)) ويفضل حال اللبس بوجود الستر بالثوب وإن كان نجساً فصار أولى. الجواب: أما الطريقة الأولى فهو سعى لإبطال التحري وهو باطل، لأن التحري نوع اجتهاد واستدلال وهو دليل الله تعالى نصبه للعباد ليتوصلوا به إلى

أحكامه في الشرعيات والرجوع إليه واجب في كل موضع فكان الرجوع بدليل ما ذكرناه من الاشتباه. فأما قولهم: ((إنه عمل ما يقع في القلب)). قلنا: والوقوع في العمل بما يقع في القلب جائز بدليل مسألة الثوبين وبدليل مسألة/ القبلة، وهذا لأن غالب الظن حجة شرعية عند عدم النصوص. وقولهم: ((إن في القبلة دلائلاً منصوبة عليها)). قلنا: إذا اشتبه عليه الدليل، فإنه بالاتفاق يرجع إلى ما يقع في قلبه، وكذلك في الثوبين وعذره عن الثوبين باطل، لأنه لو كان الأمر على ما ذكروا لجاز الصلاة في أيهما شاء من غير تحرى لحصول ستر العورة به وهذا لأنه يتحرى ويلزمه اللبس عند ما يقع في قلبه أنه طاهر، على اعتقاد أنه طاهر. وقد قالوا: إنه لو اشتبه على الرجل إعداد ما صلى من الركعات أنه يرجع إلى غالب ظنه وهو حكم بمجرد ما يقع في القلب. وقد قال أصحابنا في هذه المسألة: أن التحري رجوع في غالب الظن إلى علامات ودلالات مثل ما في القبلة سواء. وكذلك في الثوبين إلا أن ما قلناه أولى، لأنه إذا لم يجد علامة ولا دليلاً ولم يتخيل له شيء في ذلك فإنه يتحرى أيضاً وليس إلا الرجوع إلى غالب الظن بما يقع في القلب. وأما طريق أبي زيد ففي غاية الضعف، لأن المسألة التي جعلها عماد كلامه ممنوعة على أحد وجهي الأصحاب.

فإنهم قالوا: إنه يجوز التحري في الإنائين وإن كان عنده إناء طاهر بيقين، وعلى أنا سلمنا هذه المسألة، فنقول: إنما لم يجز التحرير في هذه الصورة، لأن وجود إناء طاهر عنده بيقين انتصب مانعاً من الاجتهاد مثل النص في الحادثة. فأما قوله: ((إذا عدم ينعدم إلى خلف)). قلنا: إنما يصار إلى الخلف إذا لم يمكن الوصول إلى الأصل وقد أمكن بالاجتهاد فصار كما لو أمكن بوجوه يقيناً، ويمكن أن يقال: إن الاجتهاد خلف عن النص في العمليات، فإذا كان عنده إناء بيقين قد بينا انه بمنزلة نص يوجد في الحادثة فإذا عدم فإنما عدم إلى خلف وهو الاجتهاد في الانائين فكما أن الأصل منع العدول إلى التيمم فخلفه يكون مانعاً أيضاً. وأما الفصل الثاني: الذي ذكره من ترجيح جانب التيمم فليس بشيء، لأن اجتهاد لما أدى إلى أن هذا الماء طاهر وجب العمل به شرعاً صار جواز أنه نجس مطرحاً متروكاً، والتحق هذا الماء بسائر المياه الطاهرة فلا تثبت به نجاسة الأعضاء بوجه ما، وجواز أنه نجس لم يعتبر. يبينه أن التحري دليل ظاهر، والماء الذي حكم بطهارته فظاهر فسقط جانب من التجوزات فيه أصلاً بدليل الماء يجده في الفلاة، والماء الذي بخبر الواحد أنه طاهر يجب استعماله، وسقط جواز أنه نجس، ثم يقال لهم: الترجيح لجانب التوضئ بالماء الذي يقع له أنه طاهر، لأنه إذا توضأ بالماء

الذي تحراه كانت صلاته بطهارة حقيقة من وجه ومتى تيمم كان صلاته بغير طهارة حقيقة من كل وجه فكان الترجيح لجانب الوضوء لا لجانب التيمم. وعلى أنه يبطل جميع ما قالوه بما إذا كانت الغلبة للماء الطاهر، وعندهم الرجوع إلى مجرد الغلبة تمسك بمحض صورة، ويبطل بالقبلة. وهذا لأن المجتهد قد تتكاثر عليه الأشباه في الحادثة الواحدة وإنما يأخذ بشبه واحد ويطرح سائرها، ولا فرق فيما يطرحه بين أن يكثر عدده وبين أن لا يكثر وقد تعلق مشايخهم بما لو كان عنده إناءان أحدهما بول والآخر ماء فإنه لا يتحرى. وكذلك إذا اشتبهت الأجنبية بذات المحرم فإنه لا يتحرى في أمر النكاح. وكذلك على أصلنا في المسلوختين أحدهما ذكية والأخرى ميتة. ونحن نقول: الاجتهاد إنما يجوز في محل الاجتهاد، وهذه المواضع ليست بمحل الاجتهاد بدليل أنه لا يجتهد وإن كانت الغلبة للماء في المسألة الأولى، وكذلك إذا كانت الغلبة للأجنبيات في المسألة الثانية والمذكيات في المسألة الثالثة. وهذا لأنه لابد من النظر إلى الأصل ليكون الاجتهاد راداً له إلى أصله ويصير اجتهاده وتحريه فيما أدى إليه معتضداً بأصله الذي خلق له، والبول خلق على النجاسة والأبضاع في الأصل على الحرمة. وكذلك المساليخ في الأصل على الحرمة حتى يتحقق شرط الحل من الذكاة فلم يصادف الاجتهاد في هذه المواضع محاله، لأن رده فيما يجتهده إلى أصله يوجب الحرمة لا الحل، بخلاف مسألتنا، فإن الماء في الأصل خلق طهوراً والتحري/ رد له إلى أصله فقد صادف الاجتهاد محله.

وإنما اعتبر الأصحاب هذا، لأن دليل العمل غالب الظن، ولا يوجد غالب الظن إلا باعتضاد ما يقع في القلب من طهارة الإناء بأصله الذي خلق عليه، وهذا كما في سائر المجتهدات، فإنه ما من حادثة إلا ولله تعالى فيها حكم، وعلى ذلك الحكم شبه مغلب للظن فإذا اجتهد المجتهد يقوي اجتهاده فيما يؤدي إليه بأصله في الوضع الإلهي في الحوادث فيوجد قوة الظن من هذا الوجه فيفيد حكمه من العمل الواجب به. والله أعلم. * * *

(مسألة) المتيمم إذا رأى الماء في خلال صلاته فإنه لا يبطل صلاته ولا تيممه ويمضي فيها

(مسألة) المتيمم إذا رأى الماء في خلال صلاته فإنه لا يبطل صلاته ولا تيممه ويمضي فيها عندنا. وعندهم: يبطل تيممه وصلاته ويلزمه التوضئ والاستئناف، وهو اختيار المزني، وابن سريج.

لنا: إن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وهو معطوف على قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}. ومعناه: فلم تجدوا ماءً فيتمموا للقيام إلى الصلاة، فقد جعل عدم الماء شرط التيمم للقيام إلى الصلاة، وقد فعل التيمم مع وجود شرطه المشروط له، وهو عدم الماء، وإذا تم المأمور به بشرطه فلا يعتبر بعد ذلك قيام الشرط كسائر الأفعال إذا تمت بشروطها لم يعتبر بعد ذلك قيام الشرط كذلك هاهنا. فإن قالوا: فلم يجب التوضئ لصلاة أخرى؟ قلنا: لأن الله تعالى جعل القيام إلى الصلاة بالتيمم مشروطاً بعدم الماء وقد قام إلى الصلاة الثانية بالتيمم، والشرط مفقود فلم يجز. فأما الصلاة الأولى فقد قام إليها بالتيمم مع وجود شرطه والمأمور به إذا استوفى شرطه لم يعتبر بعد ذلك بقاء الشرط، وهذه طريقة في غاية المتانة، وسنذكر ما يتكلمون عليه في حجتهم. وقد اعتمد في الفقه عامة الأصحاب طريقة أخرى، وهي أنه غير قادر على استعمال الماء لحرمة الصلاة، فإن الصلاة مانعة من كل ما ينافيها وهي منافية لفعل الوضوء. ألا ترى أنه لو فعلها تبطل صلاته فتصير حرمة الصلاة مانعة منها وإذا كانت القدرة معدومة حكماً على هذا الوجه وجب المضي في صلاته كما لو وجد الماء وبينه وبين الماء حائل من سبع أو غيره. والطريق الأولى أحسن واصبر على المحك وسيظهر من بعد.

وأما حجتهم: قالوا: وجد الماء المقدور على استعماله فينتقض تيممه كما قبل الشروع في الصلاة. أما الوجود فظاهر، وأما دليل القدرة هو أنه قادر على استعماله حساً وحقيقة فلو انعدم انعدم حكماً، ولابد من دليل على العدم حكماً، لأن نهاية ما في الباب أن ينسب هذا المعنى إلى حرمة الصلاة فيقال: إن استعمال الماء يؤدي إلى هتك حرمة الصلاة فينتصب الصلاة مانعة منه، وحرمة الصلاة غير مانعة من الاستعمال لأنه يستعمل الماء ليقيم حرمة الطهارة، فلا يؤدي إلى الهتك وهذا (لأن الصلاة ما شرعت إلا بالطهارة. والأصل هو الطهارة بالماء وهو يحصل حقيقة به، وإنما نقل إلى التيمم بعذر فيكون إفساد الصلاة في هذه الصورة لأدائها بالماء أداء الصلاة بالطهارة الحقيقة على سبيل الكمال فيكون تحته إقامة لحرمة الصلاة على الحقيقة لا إفساداً). (ألا ترى أنه إذا وجد الثوب وهو يصلي عارياً، والثوب بعيد منه تبطل صلاته ويستأنف بالثوب، لأن فيه أداء الصلاة بستر على الكما، ولا يجعل القدرة على لبس الثوب بمنزلة العدم لحرمة الصلاة، وكذلك لو خاف فوات وقت الصلاة لو توضأ لا يجوز له التيمم وإن انتقض بالقضاء، لأن فيه قضاء بوضوء والتفاوت الذي بين الأداء والقضاء فوق التفاوت الذي بين المضي في الصلاة والإفساد ثم الأداء في الوقت فلما لم يجعل ذلك التفاوت عذراً فهذا أولى، وكذلك من شرع في الفرض ثم أقيمت الصلاة يقطع الفرض ليؤديه بالجماعة وأصل الجماعة سنة والطهارة

بالماء في مسألتنا فريضة، فثبت أن وجود الماء قد حصل ولم يصر عادماً له حكماً من الوجه الذي قلتم فخرج التيمم من أن يكون طهارة لفوات شرطه فيبطل صلاته كما لو أحدث). قالوا: وليس كما لو كان تيمم في صلاة الجنازة في فرأى الماء وهو يخاف فوتها لو اشتغل بالوضوء حيث يمضي فيها. لأن عندنا صلاة الجنازة لا تقضى فلو أفسدناها فاتته الصلاة أصلاً، والماء يجب استعماله لا لعينه بل للصلاة، فإذا كان لا يفيد في حق الصلاة لفواتها أصلاً صار عادماً للماء في حق تلك الصلاة وإن وجد حساً بخلاف مسألتنا. قالوا: وأما إذا كان يصلي بالتيمم فوجد سؤر الحمار، فإنه يمضي في صلاته ثم يتوضأ بسؤر الحمار ويعيد الصلاة، ويصير في المعنى كأنه جمع بين التيمم وسؤر الحمار في الابتداء، وإنما عمل كذلك لأن سؤر الحمار طهور بالشك، وقد شرع في صلاة بطهارة فلا يخرج بالشك كما في الابتداء لا يدخل بشك بل يجمع ليزول الشك، كذلك هاهنا لا يجبر بالشك بل يمضي ثم يتوضأ ويعيد الصلاة ليزول الشك هاهنا. قالوا: وليس كما لو وجد الماء بزيادة على ثمن المثل حيث يجعل الوجود كالعدم (لأن قدر الزيادة يذهب بلا عوض، ولذا اعتبرت المحاباة بالهبات في باب التصرفات وللمال حرمة وإن قل فكان له ألا يبذله جزافاً بلا عوض، فإذا لم يصل إلى الماء إلا ببذله يصير عادماً للماء حكماً.

ألا ترى أنه إذا كان عرياناً ووجد الثوب بزيادة ثمن على ثمن المثل يصلي عرياناً وبمثله في مسألتنا لو كان يصلي عرياناً ووجد الثوب ولا يمكنه لبسه إلا بقطع الصلاة قطع الصلاة). وحرفهم في هذه الطريقة أن أداء الصلاة لا يصح إلا بشرط الطهارة وقد فاتت الطهارة فلم يجز المضي فيه، لأنه بالمضي يؤدي الصلاة بلا طهارة فلا يجوز. قالوا: فإن قلتم إذا رأى الماء في تضاعيف الصلاة فلم لا يبنى مثل ما إذا سبقه الحدث يبنى على صلاته؟ قال: لأن رؤية الماء ليست بحدث لعينه، ولكنه إذا رآه خرج الصعيد من أن يكون طهوراً فتبطل الطهارة بالصعيد مستنداً على أول الاستعمال حتى يكون جنباً إن كان تيمم من جنابة ومحدثاً إن كان تيمم من حدث وإذا استند إلى أول الصلاة امتنع البناء إلا أن الفساد يظهر في حق الصلاة القائمة دون الصلاة التي فرغ منها وسلمها إلى الله تعالى. وأما إذا سبقه الحدث فإنه تنقطع الطهارة في الحال ولا يستند فلا يصير ما مضى من الأداء أداء بحدث بحال فأمكنه البناء على جزء مضى على الصحة بدليل شرعي يقوم عليه). قالوا: ونظير رؤية الماء في خلال الصلاة انقضاء مدة المسح في خلال الصلاة فإنه تبطل الصلاة فلا يجوز له المضي، ويجب عليه الاستئناف، كذلك هاهنا.

(قالوا: وأما قولكم في الابتداء أن البدل شرع لصحة الشروع في الصلاة وقد صح بشرطه فلا يعتبر دوام الشرط من بعد. قال: التيمم ما شرع للشروع فحسب بل شرع للشروع والأداء جميعاً، ولو قيل الأداء فحسب فهو صحيح إلا أنه شرط للشروع، لأن الافتتاح لا يوجد إلا متصلاً بالأداء فشرط له شروط الأداء، وإذا كان البدل مشروعاً للأداء، ولم يتم الأداء بعد اعتبر قيام الشرط ليبقى البدل مشروعاً فإذا سقط وجود الأصل لم يصح الأداء بعده). وحرف الاعتراض أن الأداء لا يصح إلا ببدل مشروط بقيام عدم الماء فإذا وجد الماء فات وبطل الأداء. (قال: وليس كما لو وجد هدى التمتع بعد صوم الثلاثة قبل السبعة حيث لا يعود إليه، لأن الهدى ليس بنسك مقصود بل هو مشروع للتحلل وبصوم الثلاث قد حصل التحلل فسقط الرجوع على الهدى، لأنه لما تحلل وقد كان وجب التحلل عليه فسقط وجوبه كما لا تجب الطهارة إلا للصلاة، وهاهنا الطهارة مشروعة للحاجة إلى أداء الصلاة والحاجة باقية على ما مر). الجواب: أما الطريقة الأولى فهي أمتن الطريقتين ووجه تمشيها ودفع اعتراضهم عليها أن الصلاة مشروطة بالطهارة، والطهارة بالتراب مشروطة بعدم الماء وقد أتى بالتيمم مقارناً بشرطه المشروط فيه فلا يعتبر بعد ذلك قيام العدم، لأن الشرائط متى عملت عملها لم يعتبر وجودها من بعد.

وعلى هذا نقول: إذا وجد الماء قبل الشروع في الصلاة يبطل تيممه لا لأنا جعلنا قيام العدم شرطاً لازماً لبقاء التيمم بل إنما أبطلنا تيممه وأمرناه بالوضوء بدليل مستخرج من نص الكتاب وهو أن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. وقد بينا أن المعنى: فتيمموا للقيام إلى الصلاة، والمراد من القيام هو الشروع فقد جعل عدم الماء شرطاً للشروع في الصلاة بالتيمم فإذا كان الماء موجوداً فقد الشرط المشروع، وهذا لا يوجد في أثناء الصلاة فرجعنا إلى الأصل الممهد في الشرع وهو أن الشيء إذا تم بشرطه لا يعتبر قيام الشرط من بعد. فأما قولهم: ((إن هذا الشرط للشروع والأداء جميعاً)). قلنا: ظاهر النص لا يترك وقد جعله الله تعالى شرط الشروع ثم نقول: إن أداء الصلاة مشروطة بالطهارة وهو عند المضي في مسألتنا مؤدى للصلاة بطهارة وهو طهارة التيمم غير أن هذه الطهارة لها شرط وقد فعلها بشرطها، وقيام الدليل عند الشروع اعتبرناه بالدليل المستخرج من النص على ما سبق فلم يعتبر فيما وراء الشرع وصح الأداء لأنه أداء بطهارة وقد تمت بشرطها هذا هو نهاية هذه الطريقة. وقد خرج على هذه الطريقة فصل العاري، لأن الستر شرط الصلاة ولا ستر مع القدرة، وهاهنا الطهارة شرط، والطهارة موجودة إلا أنها بالتراب، وكذلك إذا أحدث في خلال الصلاة فقد فاتت الطهارة، وكذلك إذا مضت مدة المسح فقد ظهر الحدث القائم في الرجل. فإن قالوا: وهاهنا إذا رأى الماء فقد ظهر الحدث السابق الذي تيمم له.

قلنا: لا يظهر، لأنه لو ظهر يظهر باعتبار شرط قيام عدم الماء بجواز التيمم وقد بينا أنه غير معتبر. وأما المسح فرخصة موقوتة بالنص فإنه ما ورد إلا كذلك. فإن قالوا: وهذا أيضاً موقوت بوجود الماء. قلنا: لا، فإن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} أطلق إطلاقاً فهو طهارة صحيحة مطلقة عند وجود شرطها وبطلانه عند رؤية الماء لصلاة أخرى بدليل آخر على ما سبق ولابد من تمشية هذه الطريقة من فضل قوة في الجدال والله الموفق بمنه. أما الطريقة الثانية: فغاية ما يمكن الجواب عن اعتراضهم أن ندعي أن الطهارة بالتيمم والوضوء واحد والصلاة بهما على صفة الكمال ولا تفاوت بين الصلاة بالوضوء والصلاة بالتيمم بوجه ما إلا أن الماء طهور في حال والتراب طهور في حال، وإذا كان الأمر هكذا فيصير إفساد هذه الصلاة للوصول إلى صلاة أخرى لا زيادة ولا تفاوت فتصير حرمة الصلاة مانعة منه، وعلى هذا ينبغي أن ندعي التيمم يرفع الحدث في حق الصلاة المؤداة مثل الوضوء سواء. وأما فصل العاري إذا وجد الثوب وبينهما مسافة فقد منع في وجه بعيد وعلى أن اللبس غير مناف للصلاة بدليل أنه لو كان قريباً منه يلبس ويمضي في صلاته فتتحقق القدرة بخلاف مسألتنا، فإن نفس الوضوء مناف للصلاة فتصير الصلاة مانعة منه. وأما الحدث المعترض في خلال الصلاة، فإنما أفسد الصلاة لأنه مبطل للصلاة لعينه، فإذا وجد عينه فلابد من إبطاله الصلاة، وأما رؤية الماء يبطل الصلاة بواسطة القدرة على استعماله ولم يوجد، وكذلك مسألة

انقضاء مدة المسح يخرج على هذا الأصل، فإنه إذا انقضت المدة وطهر الرجل فثم حدث قائم في الرجل فصارت كنفس الحدث وهم يدعون هكذا في مسألتنا. والجواب: لا يمكن إلا بدعوى رفع الحدث بالتيمم على الإطلاق في حق الصلاة بخلاف مسح الخف وهو في نهاية الصعوبة. وقد تمسك المزني أيضاً بفصل العدة وهو إذا قدرت على الأقراء في خلال الشهور، وليس يرد هذا على الطريقة الأولى، وعلى الطريقة الثانية مانع من المصير إلى الأقراء بخلاف مسألتنا على ما سبق بيانه. والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) إذا كان عند المسافر من الماء ما يكفي لبعض أعضائه لزمه استعماله ثم يتيمم للباقي على أحد قولي الشافعي

(مسألة) إذا كان عند المسافر من الماء ما يكفي لبعض أعضائه لزمه استعماله ثم يتيمم للباقي على أحد قولي الشافعي. وعندهم: يتيمم، ولا يلزمه استعماله وهو القول الثاني واختيار المزني. لنا: إنه مأمور بتحصيل الطهارة في الأعضاء الأربعة، وقد قدر على تحصيل بعضها فتجب عليه، كما لو كان عليه نجاسة في أعضائه فوجد من الماء ما يغسل به بعض النجاسة لزمه بقدره، وكذلك لو كانت عورته مكشوفة فوجد من الساتر ما يستر به بعض العورة. ومن غير هذا الباب إذا وجد المضطر من الطعام بعض ما يسد به/ رمقه لزمه تناوله ثم يعدل إلى الميتة، وهذا لأن من لزمه فعل شيء فإذا قدر على البعض وعجز عن البعض يلزمه بقدر المقدور عليه وسقط بقدر المعجوز عنه.

والحرف أن عمل العلة لا يتعدى من محل العلة إلى غير محل العلة فكذلك عمل العجز لا يتعدى عن محله إلى غير محله، وهذا ظاهر. وإنما الشأن في إثبات قولنا أنه قدر على تحصيل بعض الطهارة، وإنما قلنا ذلك، لأن الطهارة عن الحدث بغسل الأعضاء الأربعة فكلما غسل عضواً زال الحدث عنه وحكم بطهارته، وهذا لأن الغسل المعقول أمر حسي وله عمل شرعي من زوال الحدث فإذا وجد الفعل الحسي يتبعه الحكم الشرعي ولم يتخلف عنه مثل ما لو كان التابع حسياً أيضاً، فإنه يتبع ولا يتخلف عنه، وذلك في مسألة إزالة النجاسة وستر العورة التي قدمناها فثبت ما ادعيناه من قدرته على تحصيل الطهارة في بعض الأعضاء فإذا ثبت القدرة ثبت الأمر فوجب ألا يعدل إلى التيمم إلا بعد العجز. وأما حجتهم: قالوا: ((عدم الطهور في طهارة الصلاة فوجب أن يعدل إلى التيمم. دليله إذا لم يكن عنده شيء من الماء وإنما قلنا ذلك لأن طهارة الصلاة طهارة حكمية. ومعنى قولنا: ((حكمية)) هو أنها لا تعرف إلا بالحكم وهو تحليل الصلاة، فإذا لم تكن محللة للصلاة لا تكون طهارة وغسل بعض الأعضاء لا تكون محللة للصلاة فلا يكون طهارة، فثبت أنه عدم الطهور لطهارة الصلاة يبينه أن غسل الأعضاء الأربعة علة واحدة لإفادة الصلاة، وبعض العلة لا عمل له بدليل علة الربا)). دليله إذا وجد بعض الرقبة يلزمه فعل الصوم ولا يجب عليه إعتاق هذا البعض والمسألة مشكلة.

قالوا: ولا يلزم مسألة إزالة النجاسة وستر العورة، لأنه أمر حسي فلابد من وجود ما باشره حساً بقدرة من زوال النجاسة وستر العورة لأنه أمر حسي وفي مسألتنا حصول الطهارة حكم فلابد من وجود تمام العلة ليحصل الحكم المبني عليه. قالوا: والدليل على أنه لم يحصل شيء من الطهارة أنه لا يفيد حكماً ما، وكيف يتصور وجوب طهارة حكمية خالية من كل حكم؟ قالوا: ولا يلزم إذا كان عنده سؤر الحمار حيث يلزمه التوضئ به عندنا، لأنه لم يعدم الطهور بيقين لأنه يجوز أنه طهور وفي مسألتنا عدم الطهور بيقين. الجواب: إنه قولهم: ((عدم الطهور)) في طهارة الصلاة ممنوع على الإطلاق بل نقول: وجد الطهور في بعض الطهارة على ما سبق بيانه. وقولهم: ((إن هذه الطهارة حكمية)). قلنا: حكم مبني على فعل محسوس وهو غسل الأعضاء. وقولهم: ((محللة للصلاة)). قلنا: نعم، ولكن عند تمامها وكمالها، فأما قبل التمام والكمال فيوجد بقدر ما حصله ولا يفيد حل الصلاة ألا بعد تمامها وكمالها مثل ما لو شهد شاهد عند الحاكم فهو شهادة لكن لا يفيد حكماً إلا بعد تمامها وكمالها فإن أمكنه أن يتمها بالماء فعل وإلا فعدل إلى التيمم فيها ونزل إتمام الطهارة منزلة أصل الطهارة في الماء والتراب عند وجوده وعدمه.

وأما مسألة الرقبة فقد فرق بعض أصحابنا بصورة النص فإن الله تعالى قال في شأن الكفار: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ} يعني رقبة، وبعض الرقبة لا يكون رقة. وأما في مسألتنا فالنص قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} والموجود ماء. قالوا: المراد منه الماء الذي يحصل به غسل الأعضاء الأربعة، لأن هذا اللفظ مسنون على ما سبق والمراد من السابق هذا. قلنا: المراد من أول الخطاب الماء الذي يحصل به غسل الأعضاء الأربعة عند القدرة عليها وما يغسل به البعض أيضاً إذا لم يقدر إلا على ذلك لما بينا أن الأمر إذا تناول مجموع أشياء ما يقدر عليه من ذلك يلزمه الإتيان به والعجز عن الباقي لا يسقطه، وأيضاً فإن العتق عن الكفارة محض حكم. لأنه تكفير فلا يحصل شيء منه إلا بظهور حكمه. وأما الوضوء حكم مبني على فعل محسوس فبقدر ما يوجد من الفعل المحسوس يبتنى عليه المحكوم كما نقول في إزالة النجاسة وستر العورة. ولهذا لو أعتق نصفي رقبة لا يجوز، ولو غسل/ هاهنا بعض الأعضاء وأعوز الماء الباقي ثم وجده من بعد بنى على ما فعله مثل قبل ولا يستأنف الوضوء ويمكن أن يقال في الجواب عن أصل الطريقة: أن الطهارة معنى يحتاط فيها شرعاً فإذا قدر منها على بعض ما لو تم يفيد الحكم الشرعي من الطهارة المحلة للصلاة ويلحق بالكل في تناول الأمر إياه في لزوم الفعل ليظهر الاحتياط المشروع فيها فعلاً.

ونظيره القدح الواحد الذي لا يسكر من الخمر ملحق بالعدد منه احتياطاً للتحريم المشروع فيه، لأنه في الشرع مبني على الاحتياط وعلى هذا خرج فصل الرقبة، لأن التكفير لم يبن على الاحتياط في تحصيله ليلحق البعض منه عند القدرة عليه بكله في لزوم فعله هذا غاية الإمكان في الجواب عن فصل الرقبة. ولم نستعن في هذه المسألة بما أورده الأصحاب من المجروح في بعض أعضائه لأن مذهبهم في ذلك أن الواجب هو التيمم إذا كان الجرح بأكثر أعضائه، والواجب هو التطهير بالماء إذا كان الجرح بأقل أعضائه، ولا يثبتون الجمع بين التيمم والوضوء بحال. وأما قولهم: ((إن ما قلتم يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل)). قلنا: لا، لأنا نثبت التيمم في محل الغسل ولا نثبت الغسل في محل التيمم فلا جمع، وإذا لم يحد المحل لم يقع المنع، كما توضأ وسبقه الحدث في خلال الصلاة فلم يجد الماء يتيمم عندهم، وقد جمع بين الأصل والمبدل ولكن لا في محل واحد فلم يمنع منه كذلك هاهنا. والله تعالى أعلم. * * *

(مسألة) إذا نسي الماء في رحله وتيمم وصلى ثم ذكره أعاد

(مسألة) إذا نسي الماء في رحله وتيمم وصلى ثم ذكره أعاد عندنا. وعندهم: لا يعيد، إلا أبا يوسف فإنه وافقنا فيما قلناه. لنا: إن التيمم أخطأ محله فلم يصح، وإنما قلنا إنه أخطأ محله، لأن محل التيمم حال عدم الماء بنص الكتاب، وهذا واحد للماء حقيقة وحكماً. أما الحقيقة فلأنه واجد قبل النسيان فإذا نسى لا يصير عادماً، لأن النسيان لا ينافي الوجود، وإنما ينافي الذكر فيكون واجداً ناسياً. يبينه أن رحله في يده والماء في رحله فيكون الماء في يده فكيف يتصور أن يقال هو عادم لشيء في يده وقبضه؟

أما الحكم: فلأنه وجد على الماء علم ظاهر وهو عمله برحله، ورحل المسافر قلماً يخلو عن الماء وإن خلا فهو نادر، وكما لو نزل المسافر بجنب قرية عامرة لا يجوز له التيمم، لأن القرية قلما تخلو عن الماء فلا يجوز أن يجعل عادماً للماء والحالة هذه، كذلك هاهنا. وإذا ثبت ما قلناه من وجود الماء فنقول: التيمم صح في الظاهر، لأنه ظن أنه عادم للماء، ولم يصح حقيقة، لأنه غير عادم له حقيقة وقد تبين ذلك فيلزمه الإعادة، كما لو كان عنده رقبة وهو ناس لها فصام ثم ذكر الرقبة يلزمه إعتاقها، وكذلك إذا كان ثوباً وهو ناس له فصلى عارياً ثم ذكر يجب عليه الإعادة. وكذلك إذا ظن أنه على الوضوء فصلى ثم تبين أنه ليس على الوضوء والأمثلة تكثر. وأما حجتهم: قالوا: عاجز عن استعمال الماء فيجوز له التيمم، كما لو كان يخاف العطش. والدليل على أنه عاجز أن القدرة لا تكون إلا بالوصول إلى الماء ولا يتصور الوصول إلا بالذكر، فدل أنه عاجز، وربما يقولون: النسيان حائل بينه وبين الماء، فصار كما لو كان حائل من سبع أو غيره. قالوا: وأما ((قولكم إنه واجد للماء))، نسلم الوجود إنما ندعى العجز عن الاستعمال مع الوجود، كما يعجز عند خوف العطش بل العجز في مسألتنا فوق العجز بالعطش. وأما قولكم: ((إنه وجد علم ظاهر على الماء)). قلنا: ذلك الظاهر قابله ظاهر آخر، وهو أن ما يكون في رحله يكون بعلمه ووضعه فلو كان فيه ماء لم يخف عليه، وإذا تقابل الظاهران سقطا وبقى ما قلنا إنه عاجز عن استعمال الماء.

وأما فصل نسيان الرقبة ونسيان الرقبة ونسيان الثوب فقد منعوا المسألتين. واعتذر أبو زيد عن فصل الرقبة وقال: تفسير الوجود في الرقبة هو الملك. ألا ترى أن السيد إذا قال لعبده الذي عليه كفارة الظهار أو القتل: اعتق هذا العبد عن كفارتك لا يجوز، وإن وجد الرقبة لأنه لا ملك له. وأما تفسير الوجود في الماء هو القدر بدليل أنه لا يعتبر ملكه، ولو بذل له الغير ماء من غير تملك لم يجز له التيمم. قال: وأما إذا نسى الطهارة أصلاً فلأن الطهارة شرط الصلاة ولا .... / في إسقاط أصلاً. وأما في مسألتنا جواز التيمم لا يؤدي إلى أصل الطهارة، لأنه إن لم يوجد الوضوء فقد وجد التيمم. الجواب: أما قولهم: ((إنه عاجز عن استعمال الماء)). قلنا: أيش تعنون بهذا إن عنيتم به من حيث الظاهر، فمسلم، وإن عنيتم من حيث الحقيقة فليس كذلك، لأنه قادر على الماء حقيقة، لأن القدرة هو التمكن وإذا كان الماء في رحله فهو متمكن منه لأنه متمكن من رحله فيكون متمكناً من الذي يشتمل عليه رحله وإذا كان قادراً حقيقة عاجزاً من حيث الظاهر، والعجز الظاهر من غير حقيقة لا ينتصب علة من جواز الانتقال إلى التيمم، وعلى أنا قد بينا أنه وجد علم ظاهر على الوجود، وذلك علم على الوجود والقدرة جميعاً.

وقولهم: ((إنه قد قابله ظاهر آخر)). قلنا: والظاهر الذي قلتم قابله ظاهر آخر، وهو أن الماء الذي في رحله وإن كان الظاهر أنه يكون بوضعه وعمله، ولكن الإنسان تعتريه الغفلة والنسيان فيغفل عن الشيء، ثم ينتبه، وينسى الشيء ثم يذكره فينبغي أن يحمل أمره على هذا، ويطلب الماء في رحله ويفتشه حتى يعثر عليه وخرج على ما قلناه إذا كان على رأس بئر مطموم وليس عليه أثر، تيمم ثم إنه وجد، وكذلك إذا ضل رحله بين الرحال يخرج على ما قدمنا إن سلمنا، والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) لا يحل وطء الحائض بمجرد انقطاع الدم، وإذا كان لأكثر مدة الحيض حتى تغتسل

(مسألة) لا يحل وطء الحائض بمجرد انقطاع الدم، وإذا كان لأكثر مدة الحيض حتى تغتسل عندنا. وعندهم: يحل وطئها بدون الاغتسال في هذه الصورة. قالوا: ولو انقطع الدم لأقل من أكثر الحيض لم يحل الوطء قبل الاغتسال أو مضى وقت الصلاة)). لنا: قوله تعالى: {فاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَاتُوهُنَّ ...} وقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} معناه فاغتسلن، وقد قرئ ((حتى تطهرن))

بالتشديد. وهو صريح في الاغتسال بدليل قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} أي اغتسلوا. فعدمه التحريم إلى حالة الاغتسال فلا يحل قبله، والاعتماد على الآية، ولا تأويل لهم لقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد، لأنه لا يحتمل سوى الاغتسال إلا أنهم ربما يقولون: يحتمل أن يكون المراد به حال انقطاع الدم لأقل من أكثر الحيض وهو تأويل ضعيف. لأن الآية لم تتعرض بحالة دون حالة فيجب إجراؤها على ما يقتضيه إطلاقها حتى يقوم دليل قطعي يوجب خلافه، وعلى أنهم لا يقولون بهذا التأويل فإن عندهم: لا يقف حل الوطء على الاغتسال وإن كان الانقطاع لأقل من أكثر الحيض فإنهم قالوا: لو مضى عليها وقت الصلاة حل وطئها ولا اغتسال في هذه الصورة، ولا مجال للمعنى في المسألة سوى أن يقال: إن حدث الحيض قائم بعد الانقطاع إلى أن تغتسل وهو أثر من آثاره فيعمل أثر الحيض عمل نفسه فيما بنى أمره على الاحتياط كالعدة تعمل عمل النكاح في تحريم العقد، والاعتماد على الآية. وأما حجتهم: قالوا: انقطع الحيض عنها بيقين فحل للزوج وطئها. دليله: إذا اغتسلت ولا إشكال في انقطاع الحيض بيقين، بدليل أنه لو عادوها الدم يكون استحاضة ولا يكون حيضاً.

وأما وجه التأثير فهو في غاية الظهور، لأن المحرم نفس الحيض، وهو آيل إلى الارتفاع والزوال فإذا زال المحرم وجب أن يزول التحريم، لأن زوال العلة يوجب زوال المعلول، كما لو اغتسل مع الانقطاع فإنه ليس لزوال التحريم هاهنا سبب سوى زوال الحيض. وربما عبروا عن هذا، وقالوا: إن التحريم بالأذى، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وقد زال الأذى بالانقطاع وإنما بقى مجرد الحدث وهو غير مانع من الوطء بدليل حدث الجنابة وخرج على هذا استباحة الصلاة ومس المصحف وغيره، لأن الحدث مانع منه بدليل حدث الجنابة. أما الوطء فنفس الحيض مانع منه لأن الجنابة ونفس الحيض قد زالا. قالوا: وأما قولكم: ((انقطع الدم لأقل من أكثر الحيض)) فلم يزل الحيض بيقين لجواز أن يعود الدم فضعف الطهر عن الحيض فوقعت حقيقة الوطء على ثبوت حكم من أحكام/ الطاهرات لها وذلك إما بوجود اغتسال صحيح منها أو وجوب صلاة في ذمتها حتى يقوى الطهر عن الحيض بانضمام هذا المعنى الحكمي إليه. وأما في مسألتنا فقد قوى الطهر عن الحيض بنفس الانقطاع، لأنه لا يتوهم العود فاستغنى عن معنى ينضم إليه فيقويه. وقد تعلق بعض مشايخهم بالصوم، وقالوا: طهر يفيد إباحة الصوم فيفيد إباحة الوطء. دليله ما بينا. وقالوا: وكما أن حرمة الوطء معنى يختص بالحيض فكذلك المنع من الصوم معنى يختص بالحيض فكل واحد قرينة صاحبه فاستويا.

الجواب: إنا اعتمدنا على نص الكتاب، ولا نسمع القياس المعنوي في مقابلته، ويمكن أن يقال إن الحيض وإن انقطع بيقين، ولكن أثره قائم فيعمل عمله كما بينا، ويدخل على ما قالوه إذا انقطع الدم لأقل من أكثر الحيض. وقولهم: ((إنه يتوهم عود الدم))، يبطل بما بعد الاغتسال. وقولهم: إنه يقوى الطهر عن الدم بالاغتسال. قلنا: ولم قالوا: لأن صحة الاغتسال حكم الطاهرات؟ قلنا: فقولوا إنه يقوى بنفس وجوب الاغتسال، لأنه من حكم الطاهرات أيضاً وعلى هذا انقطع لهم الكلام. والجواب عن فصل الأذى بما قلنا أن الأذى وإن زال فأثره قائم. وأما من تعلق منهم بصحة الصوم فيبطل بما لو انقطع الدم لأقل من أكثر الحيض، ويقال أيضاً من حيث المعنى: إنه لا يحتاط في المنع من الصوم حتى يقوم أثر الحيض فيه مقام نفسه بخلاف المنع من الوطء. والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة (مسألة) الصلاة تجب بأول الوقت وجوباً موسعاً. وهو قول أبي شجاع الثلجي من أصحابهم، وقد اختاره أبو زيد في أصوله. وذهب الكرخي وجماعة من أصحابهم أنها تجب بآخر الوقت.

واختلفوا في المؤدى في أول الوقت: فقال بعضهم: هو نفل يسقط به الفرض الواجب في آخر الوقت مثل الزكاة المعجلة. ومنهم ن قال: هو موقوف إن أدرك آخر الوقت وهو من أهل الوجوب كان المؤدى واجباً وإن لم يدرك كان المؤدى نفلاً. ومنهم من قال: المؤدى واجب، فعلى هذا يكون الوجوب بأحد المعنيين إما بإدراك آخر الوقت أو باختيار المكلف فعل الصلاة في آخر الوقت. لنا: إن الأمر يفيد الوجوب باتفاق مننا ومنهم، وقد تناول جميع الوقت لأن الخلاف في أمر مؤقت معلوم الأول والآخر، والأمر المضاف إلى وقت يكون متناولاً جميع الوقت وإلا فلا يكون الأمر مؤقتاً، وإذا تناول جميع الوقت ثبت الوجوب في جميع الوقت فصار الوجوب في أول الوقت ضرورة. ونظير ما قلناه قول السيد لغلامه: افعل كذا غداً أو افعله وقت الظهر، يكون الخطاب متناولاً جميع الوقت المذكور حتى يكون فاعلاً بأمر إذا فعله. يبينه أن سبب الوجوب إما أن يكون الأمر أول الوقت فإن كان الأمر فقد وجد في أول الوقت، وإن كان الوقت فقد دخل فلابد من الحكم بالوجوب على كل واحد من السببين. ونستدل بالأداء في أول الوقت فنقول: أدى بالأمر، بدليل أنه ينوي أداء المأمور أو ينوي المفروض، وإذا أدى الواجب وأداء الواجب في وقت دليل على وجود وقت الواجب لأن الواجب لا يتأدى إلا في وقته.

وأما حجتهم: قالوا: مخير في أول الوقت بين فعل الصلاة وتركها فلا تكون واجبة فيه. دليله النافلة، وهذا لأن حد الواجب ما لا يسع تركه فإذا وسع الترك ل على أنه ليس بواجب. وربما يقولون: لو وجب في أول الوقت لم يجب في آخره، لأن الواجب مرة لا يجب ثانياً فلما وجب في آخر الوقت علمنا أنه لم يكن واجباً في أوله. قالوا: ولأنه وجب في أول الوقت وجب أن يأثم إذا/ مات قبل فعله وحين لم يأثم إذا مات في أول الوقت قبل فعله، لما أنه لم يكن واجباً، وأيضاً لو وجب لاستقر بإدراك وقت فعله ولو استقر لم يتغير بالسفر، وحين أجمعنا على أنه لو سافر في آخر الوقت يجوز له القصر علمنا أنه لم يجب أصلاً. الجواب: أما قولهم: ((إنه مخير بين فعل الصلاة وتركها))، لا نسلم إطلاق الترك على ما زعموا، بل إنما نطلق له الترك بشريطة وهو العز على فعلها في آخر الوقت وما لم يكن على هذا العزم لا يجوز له تركها في أول الوقت. فإن قالوا: أتقولون إن العزم بدل عن الواجب من الفعل؟ فإن قلتم: ليس ببدل فقد أطلقتهم الترك، لأنه إذا ترك لا إلى بدل تحقق الترك، وإن قلتم: هو بدل فأقمتموه مقام الأصل في سقوط الأمر عنه وتأدى المصلحة به. يدل عليه أن العزم على الفعل واجب قبل دخول الوقت فكيف يتصور أن يكون بدلاً؟

قلنا: لسنا ندعي أن العزم بدل عن الواجب ولكن أردنا بما قلنا أن نبين أن الترك على الوجه الذي ظنوه من مذهبنا لا مطلقه. وتبين بهذا الشرط وقوع الفرقان بينه وبين النافلة. وإن قلنا: بدل، فهو بدل من وجه لا من وجه، وإنما يقوم البدل مقام الأصل في سقوط الواجب إذا كان بدلاً من كل وجه. ونعني بقولنا: ((بدل من وجه لا من وجه)) أنه بدل تركه في أول الوقت لا بدل تركه أصلاً وهذا جواب. وجواب آخر: وهو الأولى، قولكم ((مخير في أول الوقت بين الصلاة وتركها)) لا نسلم أن الموجود ترك الصلاة بل هو تأخير من وقت لها إلى وقت مثله ليؤديها فيه على ما كان يؤديها في أول الوقت، وإنما جاز هذا التأخير، لأن الوجوب تعلق بأول الوقت على وصف التوسع، ومعنى قولنا: ((وجب موسعاً)) هو هذا فإن الشارع كلفه أداء الصلاة في أول هذا الوقت المسمى وهو وقت يسع للمأمور ويفضل عنه فضلات كثيرة فقيل: وجب وجوباً موسعاً على معنى أن المكلف يتخير في الواجب إن شاء فعله في أول الوقت وإن شاء فعله في أوسطه وإن شاء فعله في آخره مثل الأمر المطلق في الكفارات وقضاء الصلوات والحج على أصلنا، ويلزمه مع هذا ألا يخلي الوقت عنه فصار التأخير الذي تعلقوا به فائدة الوجوب على وصف التوسع فلم يدل على سقوط أصل الوجوب، وعلى هذا صار الواجب على وصفين: واجب مضيق، وواجب موسع، فالمضيق ما لا يسع تأخيره كالإيمان إذ لا يفضل وقته عنه وكالصوم، والموسع ما يفضل الوقت عنه ويسع تأخيره، والوجوب موجود في الصورتين فهذا هو الموضع الذي خفى على القوم بلوغه ولم يدركوا حقيقته. وأما قولهم: ((إنه لو وجب في أول الوقت لم يجب في آخره)).

فهوس، فإنه لا يتجدد الوجوب عندنا بآخر الوقت إنما يمتد الوجوب إليه على التوسع. وقولهم: ((لو مات بعد التأخير لم يأثم))، فقد منع ذلك بعض من لم يعرف حقيقة المسألة، وقال: لا تتم المسألة إلا بمنع هذا والمنع بعيد، وهو يخرج على ما قلنا، لأن عدم الإثم إنما هو لقولنا إنه وجب وجوباً موسعاً مطلق التأخير إلى وقت مثله وكذلك جواز القصر بالسفر، وهذا لأن عندنا جميع الوقت لهذه الصلاة كشيء واحد، والموجود في أوله وآخره كوجود واحد فيكون حكم الكل واحد، وخص هذه المسألة من الأصول. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) الإقامة فرادى

(مسألة) الإقامة فرادى عندنا. وعندهم مثنى. لنا: حديث خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن

يشفع الأذان ويوتر الإقامة. وفي رواية أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال: أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة، والخبر في الصحيحين. وروى وهيب بن خالد، وعبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء عن أبي قلابة وزاد فيه ألفاظاً، دل على أن الأمر لبلال كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وروى موسى بن إسماعيل عن وهيب، وعبد الوهاب عن خالد عن

أبي قلابة عن أنس. قال: لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا/ وقت الصلاة بشيء يعرفوه فذكروا أن يوروا ناراً أو يضربوا ناقوساً، فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، وقد كان هذا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعا فيكون الآمر هو النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لا يجوز أن يأمر غيره في زمانه بلالاً بالآذان. وقد قال بعض الجهال من المخالفين: يحتمل أن يكون الآمر لبلال بعض أمراء بني أمية. وهذا محال لأن بلالاً رضي الله عنه أذن في زمن النبي عليه السلام فلما توفي - صلى الله عليه وسلم - أذن صدراً من خلافة أبي بكر ثم إنه استأذنه في الخروج إلى الشام حين جهز أبو بكر الجيوش إلى الشام ولم يؤذن لأحد من بعد إلى أن توفى بالشام في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان. وقد ذكر الدارقطني في سننه برواية إسماعيل بن إبراهيم عن خالد

الحذاء عن أبي قلابة عن أنس قال: ((أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة)). وعلى هذا انقطع الكلام. وعن ابن عمر قال: كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أن المؤذن كان إذا قال: ((قد قامت الصلاة)) قال: ((قد قامت الصلاة مرتين))، وعن سلمة بن الأكوع قال: كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثنى مثنى، والإقامة فرادى. وروى ابن عمر أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أذن اثنتي عشر سنة وجبت له الجنة، وكتب له بكل أذان ستون حسنة، وبكل إقامة ثلاثون حسنة))، وهذا دليل على أنها على النصف من الأذان.

وروى عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن أبيه (عن) علي رضي الله عنه. قال: نزل جبريل بالإقامة مفرداً وسن النبي عليه السلام الأذان مثنى مثنى. والأخبار في هذا الباب كثيرة واقتصرنا على هذا القدر، ولا مزيد عليه. وقد أول بعضهم الخبر الذي رويناه قال: معنى الشفع في الأذان والإيتار في الإقامة هو أن يشفع بصوتين صوتين، ويوتر بصوت صوت، وليس هذا بشيء، لأن في الخبر إضافة الشفع والإيتار إلى الأذان والإقامة هي الكلمات لا الصوت المسموع في الكلمات. وعلى أن في الخبر قال: ((إلا الإقامة)). وعندهم كما نقول سائر الكلمات في الإقامة بصوت واحد كذلك نقوله قوله: ((قد قامت الصلاة)) بصوت واحد فبطل التأويل والاعتماد على الأخبار ولا مجال للقياس فيه. ويمكن أن يقال: إن الإقامة مبنية على الخفة بخلاف الأذان بدليل الإيتار في الصلاة على ما قالوه، ولأنه يسترسل فيها ولا يمد كما يمد في الأذان، وهذا لأنه إعلام للحاضرين بالقيام إلى الصلاة.

وأما الأذان فإنه دعاء الغائبين، ودعاء الغائبين وإسماعهم يكون بزيادة مبالغة في نفس الأذان وصفاته ليقع إسماعهم ودعائهم فيحضروا، وأما إعلام الحاضرين فلا حاجة فيه إلى مثل ذلك المبالغة فاقتصر على المرة الواحدة والأولى هو الاقتصار على الأخبار. وأما حجتهم: تعلقوا بحديث ابن أبي ليلى عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد قال: كان أذان النبي - صلى الله عليه وسلم - شفعاً شفعاً في الأذان والإقامة. ورواه أيضاً وكيع عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى.

ورووا أن عبد الله بن زيد لما أرى الأذان في منامه حكى الأذان على ما هو المعهود قال: ثم مكث ساعة ثم قام وقال مثل ذلك، وزاد قوله: ((قد قامت الصلاة)). وربما رووا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل هذا الخبر. وتعلقوا أيضاً بحديث مكحول عن ابن محيريز عن أبي محذورة أن النبي علمه الأذان سبعة عشر كلمة والإقامة سبعة عشر كلمة، وهذا خبر صحيح.

ورووا عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه أنه قال: سمعت بلالاً أذن بمنى بصوتين صوتين وأقام مثل ذلك)). وفي رواية أخرى عن أبي جحيفة قال: كان بلال يؤذن ويقيم مثنى مثنى. قال: وروى عبد الرازق عن معمر، عن حماد، عن إبراهيم عن الأسود أن بلالاً كان يثنى الأذان ويثنى الإقامة، وكان

يبدأ بالتكبير ويختم بالتكبير. وهذه الأخبار نصوص في الباب وهو أولى من أخباركم. لأنها/ تتضمن زيادة لم تتضمنها أخباركم، والمثبت للزيادة أولى من المنافي. ورووا عن إبراهيم النخعي، أنه قال: أول من نقض الإقامة معاوية. ونقلوا عن مجاهد أنه قال: كان الأذان والإقامة مثنى مثنى حتى قام بنو أمية وأفردوا الإقامة للسرعة. أما المعنى فاعتبروا الإقامة بالأذان وهذا لأن كل واحد منهما ذكر الله وإعلام الصلاة فاستويا. الجواب: إن الأخبار التي رووها عامتها ضعيفة الإسناد. أما خبر عبد الله بن زيد، فقد أجمع أهل العلم بالرجال أن عبد الرحمن ابن أبي ليلى لم يسمع من عبد الله بن زيد شيئاً، وكذلك لم يسمع من معاذ شيئاً ولم يدركهما أصلاً.

وقد قيل: إن عبد الله بن زيد الذي أدى الأذان استشهد يوم أحد. وذكر أبو دا ود في سننه برواية محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه هذا الخبر وذكر فيه أنه حكى إفراد الإقامة. وقيل إن هذه الرواية أصح الروايات في الباب. وأما حديث أبي محذورة عن أبيه هذا الخبر وفيه ((أنه علمه الإقامة فرادى: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حى على الصلاة، حى على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله))، وقد كان الأذان بمكة في أولاد أبي محذورة وكان يفردون الإقامة فه كان المعمول به بالحرمين في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن استولى البصريون على

الحجاز وذلك سنة اثنتي وستين وثلثمائة فغيروا الإقامة فدل أن الصحيح من حديث أبي محذورة ما كان عليه أولاده، وما عرف من المعمول بمكة والمدينة. وأما حديث عون بن أبي جحيفة فقد قالوا: إن الراوي له زياد ابن كليب عن إدريس الأودي عن عون بن أبي جحيفة، وزياد بن كليب وهم في هذا الخبر على أدريس الأودي، وقد أورد هذا الخبر في الصحيح وذكر الأذان خاصة ولم يذكر الإقامة. وأما حديث الأسود فلم يدرك أذان بلال لما بينا أنه لحق بالشام في زمان أبي بكر.

وقد رووا أيضاً عن سويد بن غفلة أيضاً أن بلال كان يؤذن ويقيم مثنى مثنى، وسويد أيضاً لم يدرك أذان بلال. وقد نقلنا عن أنس أن بلالاً بماذا أمر. ونقل أيضاً سعد القرظ أذان بلال، وحكى فيه الإقامة فرادى وهو خبر ثابت، وقد كان سعد نائب بلال في الأذان وكان مؤذن مسجد قباء، وقد أذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقام لعمر، وعثمان مرة مرة، وبلال أقام لأبي بكر مرة مرة، والراوي شريك وحماد بن أبي سليمان لخبرهم، ولم تخرج الرواية عنهما في الصحيح، فهذا أيضاً يوجب ضعفاً في الراوية. واعلم أن الأذان والإقامة شعار من شعائر الإسلام، فالأول في الرجوع فيه إلى ما عليه أكثر أهل الإسلام. وقد روينا عن أبي بكر وعمر وعثمان أن الإقامة كانت لهم مرة مرة بفعل بلال وسعد القرظ.

وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن إقامة علي رضي الله عنه كانت مرة مرة. وعن بكير بن عبد الله الأشج قال: ((أدركت أهل المدينة في الأذان على مثنى مثنى، والإقامة مرة واحدة)) وبكير بن عبد الله من كبار فقهاء التابعين وخبرة هذا عن الصحابة والتابعين بالمدينة. وعن ثوبان قال: صحبت ابن عمر من المدينة إلى مكة، وكان مؤذننا وإمامنا وكان إذا أذن ثنا وإذا أقام أفرد. وعن مجاهد قال: كان أذان عبد الله بن عباس مثنى مثنى، وإقامته مرة رمة. وروى قتادة عن قيس أنه كان أذانه مثنى مثنى وإقامته واحدة.

روى يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع أنه كان إذا أذن ثنى وإذا أقام أفرد. وروى إفراد الإقامة عن سعيد بن المسيب والفقهاء السبعة بالمدينة وعن الحسن البصري كذلك. وكذلك عن عروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وسالم بن عبد الله وأبي قلابة، وعراك بن مالك، ومحمد بن كعب القرظي، وابن شهاب الزهري وغيرهم ممن يكثر عددهم. وقد ذهب إلى هذا من الأئمة مالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم، ولم ينقل ما صاروا إليه عن أحد من الأئمة إلا عن سفيان وابن المبارك. وقد ورد في الخبر: ((عليكم بالسواد الأعظم)) وهو معنا في هذه المسألة. وأما الذي رووه عن إبراهيم فقد روى محمد بن أبان عن حماد عن إبراهيم قال: ((أول من نقض التكبير في الصلاة وخطب قبل الصلاة في العيد وجلس على المنبر ونقض الإقامة معاوية بن أبي سفيان)). والمنقول بالضاد لا بالصاد، وكان نقضه بالإقامة إن جعلها مثنى مثنى، فإنا روينا أن الإقامة كانت فرادى في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين من بعده فذكر إبراهيم أن أول من غيرها معاوية بن أبي سفيان.

قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ: ((والدليل على المنقول عن إبراهيم هكذا، أنا روينا عن إبراهيم النخعي ما يوافق مذهبنا)). روى إسحاق عن جرير عن مغيرة بن إبراهيم قال: لم يكونوا يرون بأساً إذا انتهى المؤذن إلى قوله: ((حى على الصلاة، حى على الفلاح)) أن يقولها مرة مرة في الإقامة وكانوا يقولونها في الأذان مرتين مرتين. قال الحاكم: ول كان عند إبراهيم سنة صحيحة في تثنية الإقامة لم يرخص في إفرادها، كما لو يرخص في الأذان، فإذا جمعنا بين الروايتين عن إبراهيم ظهر أن نقض الإقامة تثنيتها لا إفرادها. وأما الذي نقلوا عن مجاهد فلا يعرف أصلاً، وقد بسطنا القول في هذه المسألة زيادة بسط لأنها شعار المذهب. وأما تعلقهم بالزيادة في ترجيح الأخبار فقد بينا أنه لا تعارض حتى يصار إلى الترجيح، ثم ينعكس عليهم في الترجيح، والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) إذا اشتبهت القبلة على إنسان فصلى على جهة بالتحري ثم تبين أنه أخطأ القبلة فإنه يلزمه الإعادة على أحد القولين

(مسألة) إذا اشتبهت القبلة على إنسان فصلى على جهة بالتحري ثم تبين أنه أخطأ القبلة فإنه يلزمه الإعادة على أحد القولين. وعندهم: لا يلزمه، وهو القول الثاني، واختيار المزني. لنا: إن الأمر بالتوجه إلى الكعبة بعد الاشتباه قائم بدليل أنه قد كان مأموراً بالتوجه إلى الكعبة ولم يوجد إلا الاشتباه، واشتباه الكعبة لا يوجب سقوط الأمر بالتوجه إلى الكعبة، لأن الاشتباه إلى الارتفاع، ولأنه يتصور إصابة الكعبة مع الاشتباه فلم يسقط الأمر بالتوجه إليها.

يبينه أنه أذا اشتبه الثوب الطاهر في ثوبين: نجس وطاهر، واشتبه الماء الطاهر في أواني بعضها طاهر وبعضها نجس، فإنه لا يسقط وجوب الصلاة في الثوب الطاهر والتوضئ بالماء الطاهر، كذلك في مسألتنا، وإذا ثبت أن الأمر السابق قائم كلف التوجه إلى الكعبة فإذا ظهر الخطأ فقد تبين أنه أخطأ ما كلف إصابته فيجب عليه أن يعيد الصلاة ليأتي بالصلاة على وفق المأمور، فإن كان الوقت قائماً أدى وإن كان فائتاً قضى، ونظيره إذا اجتهد الحاكم في حادثة ثم ظهر له النص بخلاف ما حكم فإنه ينقض حكمه لما بينا من المعنى، كذلك هاهنا، وكذلك إذا صلى في يوم غيم بغالب الظن، ثم تبين أنه صلى قبل الوقت فإنه يلزمه الإعادة، كذلك هاهنا، ولا فرق بينهما عند التأمل. وأما حجتهم: تعلقوا بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قالوا: (نزلت هذه الآية في شأن الصلاة حالة الاشتباه بدليل ما روى عن عامر بن ربيعة قال: كنا في سفر فاشتبهت علينا القبلة فصلينا بالتحري فلما أصبحنا علمنا أنا أخطأنا القبلة فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى هذه الآية)).

قالوا: وآية استقبال الكعبة لا ترد هذا، لأن هذا الآية نزلت حال الاشتباه، وتلك الآية نزلت في حالة العلم، وهذا لأن حقيقة شرط الصلاة استقبال وجه الله بنص الكتاب لأنه قام إلى تعظيمه وعبادته كما يكون في الشاهد إلا أن أفعال العباد لم تشرع إلا على سبيل يكون العبد مبتلى بأدائه بضرب اختيار طاعة الله تعالى على خلاف هواه وفي استقبال وجه الله تعالى على الحقيقة لا يتصور معنى الابتلاء، لأن الله تعالى لا جهة له فلا يتوجه العبد شطراً إلا وثم وجه الله كما قاله الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فأقيمت الكعبة مقام الحقيقة ليتحقق الابتلاء بقصد تلك الجهة، ولما اشتبهت أمر بجهة هي عنده جهة الكعبة ليتحقق معنى الابتلاء بطلبها فإذا فعل تم شرط/ صحة الفعل عبادة ولم يتبين الخطأ من بعد، لأن المراد وجه الله وقد أصاب وما أخطأه)، وخرج على هذا فصل الحاكم إذا اجتهد ثم ظهر له النص، لأن الأصل هو النص في الحادثة إذا وجد وقد أخطأه وهاهنا الأصل وجه الله وقد أصابه على ما بينا. وكذلك سائر المسائل، هذا استدلال أبي زيد في الأسرار بالآية قال: (والمعنى أن التكليف من الله تعالى مبنى على وسع العبد أو دونه وليس في وسع الغائب عن الكعبة إصابة عينها فإن النجوم تدل على الجهة دون العين فسقط إصابة العين بالإجماع، فكذلك إصابة جهة الكعبة تسقط إلى جهة الكعبة في ظنه وتحريه إذا تغيمت السماء) وفقدت

الدلائل، لأنه ليس في وسعه إصابة الجهة حقيقة، وبقى الأمر بالصلاة إلى جهة هي جهة الكعبة وقد فعل وأدى الصلاة إلى ما كلف وفعلها على الشرط الذي أمر فلا يجب عليه إعادتها بحال. وربما يعبرون عن هذه فيقولون: إن الغائب عن الكعبة لا يعرفها إلا بالدليل وقد خفيت الدلائل ولم يبق إلا فراسة القلب وشهادته فإذا صلى على ذلك وتوجه إلى جهة شهد قلبه أن الكعبة في تلك الجهة فقد أتى ما أمر. واستدلوا من حيث الحكم في أنه غير مأمور بالصلاة إلى الكعبة حقيقة أنه لو تحرى ومال رأيه إلى جهة ثم ترك الجهة وصلى إلى جهة أخرى وتبين أنه أصاب الكعبة لا تجوز صلاته لأنه خالف القبلة، ولو كانت قبلته الكعبة لجازت صلاته، كما نقول لو تحرى في الثوب، أو الماء في موضع الجواز عندنا وترك تحريه وصلى في الثوب الآخر أو توضأ بالماء الآخر ثم تبين أنه قد أصاب من الثوب الطاهر أو الطاهر من الماء فإنه تجوز صلاته. ثم قالوا: مسألة الثوب والماء، الدليل الموصل إلى نجاسة الثوب والماء قائم في حال الاستعمال، لأنه إما أن يعلم بخبر مخبر أو أثر يراه أو كان في وسعه تحصيل ذلك العلم بالطريق الذي ثبت له العلم بعد ذلك ومتى حصله يبقى معه، فإنه متى علم بنجاسة الثوب ونجاسة الماء يبقى معه ذلك العلم فلما لم يحصل ذلك كان لتقصير وتفريط من جهته فلم يكن معذوراً إلا أنه لا يأثم لأنه لا يلحقه الحرج في تحصيله وإن كان في وسعه، فمن حيث إنه يلحقه الحرج في تحصيله لا يأثم وتحريه الصلاة إذا بقى الاشتباه، ومن حيث إنه يمكنه تحصيله لم يسقط الخطاب باستعمال ماء طاهر والصلاة في ثوب طاهر. وأما في مسألتنا فأكثر ما في الباب أن يتعلم علم النجوم ويعرف الدلائل إلا أن هذه الدلائل لا تبقى معه حال الاشتباه، فلم يبق دليل سوى

التحري والتحري لا يوصله إلى جهة الكعبة حقيقة فثبت سقوطها وبقى عليه ما في وسعه. قالوا: وكذلك إذا اجتهد الحاكم في حادثة ثم ظهر النص، لأنه مقصر في طلب النص، لأنه لو طلبه على وجهه لأصابه فلم يكن معذوراً. فإن قلتم: هو مقصر هاهنا أيضاً، لأنه كان في وسعه أن لا يسافر. نقول: السفر مباح له، وربما يجب في مواضع فلا يعد مقصراً بالسفر وليس كما لو تبين أنه صلى قبل دخول الوقت، لأنها مل تجب عليه بعد، لأنها تجب بدخول الوقت وأداء الواجب قبل الوجوب لا يتصور. وأما هاهنا فالصلاة واجبة، وإنما الكلام في شرط الأداء وهو أصابه، وقد أصاب ما كلف على ما سبق. قالوا: وأما أصل الطلب إنما يوجب، لأن الطلب مطمع للوصول وإن كان غير موصل حقيقة فوجب لهذا يبينه أنه لما وجب الطلب لرجاء أن يصب قام رجاء الإصابة مقام حقيقة الإصابة في حق جواز الصلاة وسقط عنه إصابة الكعبة حقيقة العجز. وهذا كالغازي افترض عليه الرمي إلى الكافر لرجاء إصابة الكافر وإذا رمى ولم يصب نال من الثواب ما لو أصاب، لأن الإصابة متعذرة عليه فقام رجاء الإصابة مقام حقيقة الإصابة. ويلزمون على قولنا أنه ظهر بعد ذلك. كما إذا صلى أربع صلوات إلى أربع جهات بالاجتهاد، فإنه لا يلزمه إعادة شيء منها، وإن تيقن الخطأ في ثلاث صلوات منها، ويلزمون أيضاً إذا تيامن أو تياسر ثم ظهر ذلك فإنه لا يلزمه الإعادة كذلك إذا استدبر.

الجواب: قد دللنا أنه مأمور/ بالتوجه إلى الكعبة عند الاشتباه، ودللنا عليه بدلائل معتمدة، ووجوب الطلب دليل قوي أيضاً، لأن الواجب بالتحري طلب الكعبة ووجوب طلبها دليل بقاء الأمر بالتوجه إليها. فأما تعلقهم بالآية فهي نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت به راحلته هكذا رواه ابن عمر. وخبرهم رواه أبو الربيع السمان وعمر بن قيس عن عاصم بن عبيد الله وهم متروكون ضعفاء.

وقد روى الدارقطني هذا الخبر برواية جابر بن عبد الله بأسانيد حسنة. وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه وأبي زرعة أن خبر ابن عمر في الباب أحسن وأقوى في الإسناد من خبر عامر بن ربيعة وجابر فيكون الأخذ به أولى. وأما الذي قالوا: إن ((الواجب استقبال الله تعالى)). قلنا: هذا شيء مخترع مردود على قائله. وإذا زعموا أنه لا جهة له كيف يتصور استقباله، وإنما الواجب هـ التوجه إلى الكعبة بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإنما وقع لهم هذا الكلام من قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وقد بينا أنه ورد لا في موضع الخلاف، وعلى أن المراد من قوله: {وَجْهُ اللَّهِ} رضا الله أو عبارة عن القبول، وبه نقول في الموضع الذي حملنا عليه الآية. وأما المعنى الذي تعلقوا به فهو مبني على حرف واحد وهو أنه لا يجوز أن يكلف الإنسان ما ليس في وسعه، وليس في وسعه إصابة الكعبة حقيقة فسقط الأمر بالتوجه إليها. قلنا: نحن لا نكلفه ما ليس في وسعه فإنا وإن بقينا الأمر الأول عليه، فإنما نكلفه بذلك الأمر بما يطيقه وما هو في وسعه، فإنا نقول: عليك طلب الكعبة لتصور الوصول ثم وإن وصلت بهذا الطلب فقد حصل المقصود، وإن

لم تصل وظهر لك يقين الخطأ فعليك أن تعيد الصلاة إلى جهة الكعبة فيبقى واجب الأمر الأول عليه على هذا الوجه وهو في وسعه قطعاً، ونظيره المسائل التي أوردناها، ونختار منها: مسألة اجتهاد الحاكم، فإنها نظير هذه المسألة من غير ارتياب فإن عليه طلب النص ولم يسقط بخفائه، ولكنه وجب عليه الحكم باجتهاده، مع اعتقاد أنه إذا وجد النص بخلافه نقض الحكم وحكم بما يوافقه، ولم يصير وجوب الحكم بالنص عليه حال الاشتباه تكليفاً إياه ما ليس في وسعه كذلك هاهنا. وعذرهم عن هذه المسألة ومسألة الثوب والماء أنه مقصر، ليس بشيء. لأن المسألة مصورة فيما إذا لم يقصر وطلب بغاية الجهد ولم يجد ولهذا لم يأثم. وقولهم: ((إنما لم يأثم للحرج)). قلنا: فأسقطوا عنه أصل الأمر للحرج، وكذلك مسألة الصلاة قبل الوقت لازمة أيضاً، وقولهم: ((إنه صلى هناك قبل الوجوب)). قلنا: وهاهنا بلا شرط الجواز وقد عدت هذه المسألة من المشكلات. وقد اتضح بما بيناه غاية الوضوح ولم يبق إشكال أصلاً. وأما إذا صلى أربع صلوات إلى أربع جهات فقد منع، وعلى أن الصلاة التي أخطأ فيها القبلة غير متعينة له فلم يجب عليه الإعادة مثل ما لو قضى في حادثة بأحكام وعلم أن فيها نصاً يوافق بعضها ويخالف البقية، ولا يدري أيها يوافق فإنه لا ينقض شيئاً من الأحكام. وأما مسألة ظهور التيامن والتياسر، لأن هناك ما ظهر يقين الخطأ، لأن القبلة عين الكعبة ولا يصيبها إلا بالاجتهاد، وقد فعل ما فعل بالاجتهاد بالاجتهاد فلو أمرنا بالإعادة نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد، وفي مسألتنا تبين يقين الخطأ حتى نقول: لو تبين نفس الخطأ في تلك المسألة نقول يجب عليه الإعادة. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) إذا صلى الصبي في أول الوقت ثم بلغ في آخره لا إعادة عليه

(مسألة) إذا صلى الصبي في أول الوقت ثم بلغ في آخره لا إعادة عليه عندنا. وعندهم: عليه الإعادة وهو اختيار المزني. والمسألة في نهاية الإشكال وهي واضحة للمخالفين، لأن المؤدي في أول الوقت نفل فإذا أدرك بالبلوغ آخر الوقت وجب فرض الوقت عليه. ألا ترى أنه لو لم يكن صلى وجب عليه، ولأنه وقت الوجوب فإذا أدركه الوجوب بالغاً فقد أدرك الوجوب بالغاً فقد أدرك وقت الوجوب فأفاد الوجوب، وإذا ثبت وجود سبب الوجوب فلو سقط بالمفعول في أول الوقت، وقد بينا أنه نفل، والنفل لا يسقط به الواجب. وأما دليل صحة مذهب الشافعي رحمة الله عليه فقد قال بعض أصحابنا: إن فرض الوقت يجب على الصغير

وجوب مثله بدليل ورود الأمر/ به والضرب عليه عند الامتناع، وبدليل الأمر بالوضوء وهو واجب وإذا وجب عليه وقد فعله فلا يجب ثانياً. وهذا ليس بشيء لأن البلوغ شرط التكليف في العبادات البدنية بالإجماع بنص النبي عليه السلام، ولأن حد الواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، وهذا لا يوجد في حق الصغير. وإن قلتم: إن هذا في البالغ، فهو ساقط، لأن حد الشيء لا يختلف لشخص وشخص. وقول القائل: ((يجب عليه وجوب مثله))، كلام لا يفهم، والواجب واحد في جميع المواضع وعلى جميع الأشخاص. وأما الأمرية والضرب فهو للتأديب والتمرين بفعله ليتخلق ويعاد ذلك وينشأ عليه. وأما الوضوء فلا نقول إنه واجب لكنه نفل بشرط لنفل. ومن أصحابنا من قال: إن المؤدي وظيفة الوقت، لأنه طهر، ولهذا يؤم بنية الطهر ولو لم ينو يقال له: أعد، ووظيفة الوقت لا يثنى كما في حق البالغ. يبينه أن تثنية وظيفة الوقت يؤدي إلى الحرج، والحرج مدفوع ولهذا لهذا لا ندعى الوجوب ونسلم أن المفعول نفل، ولكن نقول: هو وظيفة الوقت مع النفلية، وهذا أمثل من الأول. وهم يقولون: ليس بوظيفة الوقت حقيقة، ولكن في صورة وظيفة الوقت أمر به للاعتياد والتخلق، لأن وظيفة الوقت في الحقيقة هو الفرض ولا فرض عليه.

الجواب: إن منع كونه وظيفة الوقت لا يمكن، لأنها صلاة مأمور بها في وقت محدود معلوم لا يتوجه الأمر بها إلا بالوقت وينتهي بانتهاء الوقت، وهذا معنى قولنا: ((وظيفة الوقت)). وأما صفة النفل والفرض من وراء ذلك. والمعتمد في المسألة أن نقول: لم يدرك البلوغ وقت الوجوب فلا تجب عليه الصلاة كما لو بلغ بعد مضي الوقت. وإنما قلنا ذلك، لأن الوقت غير مراد لعينه، وإنما هو مضروب للصلاة فإذا اتصل به الصلاة المضروب لها الوقت انتهى في حق المصلي، لأنه إذا كان إنما شرع لمعنى فإذا تم ذلك المعنى وانتهى لم يكن لبقاء الوقت معنى. وهذا لأن وقت الصلاة بعد الفراغ عن الصلاة لا عمل له في معنى ما، فلم يكن وقت الصلاة بل كان زماناً من الأزمنة مثل سائر الأزمنة. فأما في حق غير المصلي فيبقى الوقت مشروعاً في حقه بظهور عمله وفائدته. فإن قالوا: هذا الذي قلتم يستقيم في حق البالغ، لأنه أدى الفرض ولا يستقيم في حق غير البالغ، لأنه لم يؤد فرض الوقت فيبقى الوقت في حقه لطمع الأداء وترتيبه في ثاني الحال. قلنا: هو قد أدى المشروع له الوقت، وهذا لأن الوقت شرع في حقه لصلاة يؤديها، فإذا أداها انتهى الوقت في حقه مثل ما ينتهي في حق البالغ، وهذا غاية الوسع.

والإشكال عظيم في المسألة، وقد تعلقوا بالحج إذا فعله الصبي ثم بلغ يلزمه وإنما ألزموه ذلك، لأن الواجب فريضة العمر فعين لفعله أكمل حالات الإنسان شرعاً ليجعل بفعله في هذه الحالة كالمستوعب لجميع عمره بفعله، وهذا لا يوجد في حال الصغر، لأنه حالة ناقصة ولا يمكن أن يجعل بفعله فيه بمنزلة المستوعب لجميع عمره بفعله. لأن الحالة الناقصة لا تنتظم الحالة الكاملة والحالة الكاملة جاز أن تنتظم الحالة الناقصة. والله أعلم. * * *

(مسألة) القراءة واجبة في جميع الركعات

(مسألة) القراءة واجبة في جميع الركعات عندنا. وعندهم: تجب في ركعتين منها. لنا: حديث الأعرابي أن النبي عليه السلام علمه الصلاة والقراءة ثم قال: ((وكذلك أفعل في كل ركعة))، والأمر على الوجوب.

فإن قالوا: إن قوله: ((افعل)) ينصرف إلى الفعل دون القول. قلنا: بل ينصرف إلى الكل. ألا ترى أنه ينصرف إلى التكبيرات والتسبيحات وإن كان من المقول لا من المفعول، وهذا لأن الذكر فعل الإنسان فهو كفعل سائر الجوارح، ولأن الثالثة والرابعة ركعة من الصلاة فتجب فيها القراءة الأولى والثانية، وهذا قياس جلي شبهاً. ويمكن أن يقال من حيث المعنى: إن القيام متردد بين العادة والعبادة فوجبت القراءة لتمييز العبادة عن العادة، وهذا المعنى موجود في جميع الركعات. ألا ترى أن الركوع والسجود لما كان متميزاً عن العادة بذاته لم تجب فيها التسبيحات، والقعود لما تردد بين العادة والعبادة كلف ووجب التشهد/ المميز فيه ويقال أيضاً: إن الثانية تكرار الأولى، والثالثة تكرار الثانية فيجب فعله على رسم الأولى والثانية لهما وإلا لم يكن. وأما حجتهم: نقلوا عن علي، وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا في المصلي: إنه بالخيار في الركعتين الأخراوين إن شاء قرأ وإن شاء سبح)).

ولأن القراءة في الأخراوين ذكر يخافت فيه جميع الأحوال فلم يكن واحدا ً، دليله التسبيحات، وهذا لأن الصلاة في الأصل ركعتان على ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر))، وإذا كانت كذلك فالركعتان أصل والباقي من ركعة في المغرب واثنتين في الصلوات ذوات الأربعة زيادة، وقد ثبتت على الخفة في الشرع ولهذا لا تقرأ السورة ولا يجهر بالقراءة فيها. ومن الخفة ألا تجب القراءة بل تسن. وأيضاً فإنه لما لم تكن الركعتان الأخراوان أصلاً بل كان زيادة لم يتحقق فيهما التكرار الذي احتججتم به، لأن الأصل لا يكرر بما ليس بأصل. قالوا: وأما الذي قلتم بأن القراءة مميزة بين العادة والعبادة فليس بصحيح، لأنه لو كان هذا المعنى يفيد الوجوب لوجب التشهد في القعود الأول، وبإجماع هو غير واجب. الجواب: أما التعلق بالمخافتة فضعيف، لأن القراءة تخفيها في الظهر والعصر في جميع الأحوال وهي واجبة، وعلى عكس هذا فإن الإمام يجهر بالتكبيرات الفواصل بين الأركان وهي غير واجبة، وهذا لأن الجهر والمخافتة إتباع محض، ولا يهتدي إليهما قياس بحال. وأما قولهم: ((إن الأصل ركعتان)).

قلنا: لا بل كل الواجب أصل، يبينه أنه وجب في كل واحد من الركعتين الأخراوين من الفعل ما وجب في الأوليين، دل أنهما أصل مثل الأوليين. والخبر الذي رووه عن عائشة فليس في دليل، لأنه يجوز أن يجب من بعد ويصير أصلاً مثل الأول كالشرائع التي وجبت شيئاً فشيئاً صارت كلها أصولاً وأركاناً. فإن تعلقوا بالسقوط في السفر فليس بشيء، لأن الركعة الثالثة في صلاة المغرب لا تسقط وليست بأصل على ما زعموا، ولأن عندنا ما سقط ولكن القصر رخصة كما أن الإفطار رخصة. وأما قولهم: ((إنه وجبت الركعتان الأخروان على طريق الخفة)). قلنا: ليس لهم على هذا دليل سوى حذف السورة منهما، وهذا ممنوع على أحد القولين فإنه يشرع قراءة السورة فيهما كما يشرع في الركعتين الأوليين، وعلى أنه لا يدل شرع الخفة من هذا الوجه على سقوط أصل القراءة، فإنه قد شرع في الركعة الثانية في الصبح على أصلهم نوع خفة حتى إنه لا يطول فيها ما يطول في الأولى، ومع ذلك يجب القراءة فيها مثل ما يجب في الأولى. وأما الذين تكلموا به على فصل التمييز بين العادة والعبادة من إلزام فصل التشهد الأول. قلنا: وجب التشهد في الجملة، فإنه إن لم يجب الأول فقد وجب الثاني وعلى إنه خرج عن هذا الأصل بالنص الوارد في إسقاط وجوبه على ما عرف.

وأما تعلقهم بأثر علي وابن مسعود. فقد قيل: إن الراوي عن علي هو الحارث الأعور، وقد زعم الشعبي أنه كان كذاباً، وعلى أن قول الصحابي الواحد والاثنين لا يقدم على القياس عندنا. اللهم إلا أن ينتشر في الصحابة ولا يظهر له مخالف فينزل منزلة الإجماع، وعلى أن التعلق بالظاهر من أفعال النبي عليه السلام أولى، وقد قرأ النبي عليه السلام في الركعات الأربع وقال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). والله أعلم. * * *

(مسألة) قراءة الفاتحة ركن في الصلاة

(مسألة) قراءة الفاتحة ركن في الصلاة عندنا. وعندهم: الركن أصل القراءة، فأما قراءة الفاتحة سنة. وزعم أبو زيد أن قراءة فاتحة الكتاب واجبة وليس بركن، وجعل الفرق بين الركن والواجب أن ركن الصلاة ما يفسد بتركه الصلاة والواجب لا تفسد بتركه الصلاة. لنا: حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أن

النبي عليه السلام قال: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)). وفي رواية: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب)). وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل صلاة لا تقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج)).

وروى شعبة/ عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجزئ صلاة لا يقرأ فيها فاتحة الكتاب، قلت: فإن كنت خلف الإمام؟ فأخذ بيدي وقال: ((اقرأ في نفسك يا فارسي)). وقد روى هذا الحديث جماعة سوى عبادة وأبي هريرة، منهم عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله، وعمران بن حصين. وروى عثمان النهدي عن أبي هريرة قال: ((أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي أن لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب)). وروى ((أنه أعطاه نعليه)) ليكون علامة له، والاعتماد على السنة ولا مدخل للقياس في هذه المسألة. وأما حجتهم: تعلقوا بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}. وبقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَه}، فالتقييد بفاتحة الكتاب زيادة على كتاب الله وهو يجري مجرى النسخ، ولا يجوز بخبر الواحد، وكذلك الصلاة ثابتة بكتاب الله تعالى، وهي عبارة عن أركانها فلا يجوز إثبات ركن فيها إلا بالطريق الذي ثبت أصله. قال: والعدل من القول هو القول بين الكتاب والسنة فنأمره بالعمل ونوجبه ولا نفسد الصلاة بتركها، فعلى هذا راعينا حق كتاب الله تعالى الثابت باليقين، ولم نلحق به زيادة، وراعينا

خبر الواحد بأن عملنا به، والأصل في خبر الواحد أنه يوجب العمل دون العلم). قال: (ويجوز أن يكون الشيء واجباً ولا يكون ركناً كالسعي عندنا واجب وليس بركن للحج، وصدقة الفطر واجبة وليست بركن من أركان الإسلام. وكذلك العمرة على أصلكم، وكذلك الطواف محدثاً ومنكوساً وعرياناً وهذا لأن الأمر بالطواف ورد من غير قيد فالتقييد ثبت بالسنة فلا نزيد لأنه نسخ بل نثبته تكميلاً وتحسيناً. ولا تلزم القعدة الأخيرة، لأن الحسن بن زياد روى عن أبي حنيفة أنها ليست بواجبة، ولأنه قد ثبت بالأخبار المتواترة أن النبي عليه السلام لم يسلم إلا بعد القعدة، والأمر بالصلاة في كتاب الله مجمل فيكون فعله - صلى الله عليه وسلم - بياناً لما لم يبينه الكتاب بخلاف القراءة، لأن الآية ظاهرة مستغنية عن بيان رسول الله ولأن فعله يكون زيادة على كتاب الله تعالى وأنها نسخ وليس ببيان فيحمل فعله على بيان الكمال لأن الآية الكمال لأن الآية لم تتعرض له). قالوا: (ولأن فريضة الصلاة في الأصل متعلقة بالفعل دون القول فيكون فعل رسول اله بياناً للفعل ولا يصير بياناً للقول، لأن القول فرض زائد ثبت بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} وهو ظاهر لا بقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الذي هو مجمل) وهذا استدلال أبي زيد في المسألة ذكره في الأسرار.

وقد تعلق بعضهم: بنوع آخر من الاستدلال وهو أن الفاتحة مدنية وقد كان الجواز ثابتاً بالإجماع قبل نزول الفاتحة بلا فاتحة ولا يرفع هذا الحكم إلا بدليل مجمع عليه. وقالوا: أيضاً: (إن القرآن لا يحفظ إلا بالقراءة وحفظه واجب وأن لا يهجر شيء منه ولا تجب القراءة إلا في الصلاة فلو عينا الفاتحة للركن وأوجبناها لصار الباقي مهجوراً غير محفوظ فوجب أن يجعل ركن القراءة غير متعين لتأتي القراءة على جميع القرآن). وقالوا: أيضاً: (إن القرآن له أحكام مخصوصة نحو جواز الصلاة بقرأته وحرمة القراءة على الحائض والجنب وحرمة مس المصحف إلا طاهراً وحرمة القراءة حيث لا يسمع في مجامع الناس ووجوب الاستماع حيث يقرأ في الصلاة والخطبة ومواضعه إبانة لشرفه ثم لا يختص شيء من القرآن بشيء من هذه الأحكام حتى لا يصير الباقي مفضولاً فيصير مهجوراً، فكذلك في هذا بل أولى، لأن إبانة الشرف في هذا أكثر). قالوا: (وأما أخباركم وردت زائدة على كتاب الله تعالى فلا تقبل، أو تحمل على الزيادة سنة، أو يقال: ثبتت هذه الزيادة عملاً لا علماً فيلزمه القراءة وتجوز الصلاة بدونه)، وقد رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب)).

ورووا عن النبي عليه السلام قال: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها، ومعتمدهم التعلق بالآية، وقد أيدوا ذلك بحدث الأعرابي وهو ما روى عن النبي عليه السلام أنه قال له: ((ثم أقرأ ما تيسير معك من القرآن)). الجواب: أما التعلق بالآية، قلنا: ليس فيها أكثر من الأمر بقراءة ما يتسر وما تيسر يختلف، لأنه قد تتيسر السورة الطويلة وقد لا تتيسر السورة القصيرة فصارت الآية مجملة من هذا الوجه. وصارت الأخبار التي رويناها بياناً لها. وأما قولهم: ((إن إيجاب الفاتحة زيادة في الكتاب)). قلنا: قد تثبت الزيادة على الأصلين، لأن عندنا تجب الفاتحة، وعندكم يسن قرأتها حتى لو تركها يجب عليه سجود السهو، وإنما تثبت الزيادة عندكم بالسنة فكذلك الوجوب، وعلى أنا بينا في مواضع من هذا الكتاب وغيره أن مثل هذا لا يعد نسخاً ولا يجوز اعتقاد النسخ فيه أصلاً، ومن اعتقد النسخ في أمثال هذا فلم يعرف معنى النسخ.

وأما قول أبي زيد: ((إن قراءة الفاتحة واجبة وليست بركن حتى لا تفسد الصلاة بتركها)). قلنا: إذا سلمت أنها واجبة لزمت قراءتها في الصلاة، وإذا لزمت صارت منها كأصل القراءة فيكون تركها مفسداً لها. وهذا لأن علامة الواجب في الصلاة فسادها بتركه. وأما الذي قالوا: إن قراءة الفاتحة لم تكن واجبة فبقى الأمر على ما كان من قبل، ولأن الفرائض كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التعيين، وقد كانت القراءة واجبة من قبل من غير تعيين سورة من القرآن ثم ورد الشرع بتعيين سورة الفاتحة فوجب الصلاة على هذا المعنى. وأما قولهم: ((إن تعين الفاتحة يؤدي إلى أن يصير باقي القرآن مهجوراً))، فهذا محال لأنه إن كان إيجاب قرأة الفاتحة يؤدي إلى هذا فاستنان قراءتها أيضاً يؤدي إلى هذا، وهذا لأنا وإن أوجبنا قراءة الفاتحة فيشرع معها قراءة غيرها من السورة فلا يؤدي إلى ما قالوه. وأما قولهم: ((إن سائر الأحكام المتعلقة بالقرآن لا تختص بالفاتحة)). قلنا: سائر الأحكام قد تعلقت بالقرآن على العموم، وهذا على الخصوص بدليل أن عندنا قراءة الفاتحة على التعيين مشروعة على الوجوب، وعندكم على السنة. وقد قال أصحابنا: إن قراءة القرآن لما وجب في الصلاة وجب أن يتعين الفاتحة لأن القرآن امتاز عن غيره بالإعجاز، وأقل ما يحصل به الإعجاز سورة وهذه أشرف السور لأنها السبع المثاني.

ولأنها تصلح عوضاً عن جميع السور ولا يصلح جميع السور عوضاً عنها، ولأنه تشتمل على ما لا تشتمل عليه سورة ما على قدرها من الآيات، وذلك مثل التمجيد والثناء للرب والاستعانة والاستعاذة والدعاء من العبد، وإذا صارت هذه السورة أشرف السور وحالة الصلاة أشرف الحالات فتعينت أشرف السور في أشرف الحالات. وأما الخبران اللذان تعلقوا بهما فلا يثبت واحد منهما. أما الأول فرواه أبو علي جعفر بن ميمون قال يحيي: ليس بثقة. والخبر الثاني: رواه طريف بن شهاب السعدي، قال أحمد: لا يكتب حديثه. فلا يعارض ما ذكرنا. والله أعلم. * * *

(مسألة) ((بسم الله الرحمن الرحيم)) آية من الفاتحة عندنا ويجهر بها في الصلاة

(مسألة) ((بسم الله الرحمن الرحيم)) آية من الفاتحة عندنا ويجهر بها في الصلاة. وعندهم: ليست بآية من الفاتحة يخفيها عند القراءة. وقال أبو بكر الرازي من أصحابهم: إنها مفردة أنزلت للفصل بين

السورتين. والمعتمد من الدليل لنا: أن التسمية مكتوبة في المصاحف بقلم الوحي على رأس كل سورة، والصحابة ما أثبتوا في المصاحف إلا القرآن، وكان مقصودهم بذلك صيانته عن الزيادة والنقصان. ولهذا كرهوا التفاسير، وقالوا: جردوا القرآن، وإذا كانت التسمية مثبتة في المصاحف بقلم الوحي على رأس كل سورة، دل أنهم إنما أثبتوها في مواضعها لأنها من القرآن في موضعها المثبتة فصارت مثبتة كسائر آيات القرآن. يبينه أنه إذا لم تكن من القرآن في موضعها المثبتة فيه يؤدي إلى أن يكونوا خلطوا القرآن بغير القرآن، وهذا لا يجوز. ويمكن أن يقال: إن ما بين الدفتين قرآن بإجماع الصحابة. وقد اشتملت الدفتان على التسمية في مواضعها. دل أنها من القرن في مواضعها وهذا هو المعتمد من الدليل. وقد تعلق الأصحاب بحديث ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عن أم سلمة أن النبي عليه السلام عند الفاتحة آية آية للأعرابي، وعد/ بسم الله الرحمن الرحيم آية منها)).

وبحديث ابن أبي بريدة عن أبيه أن النبي عليه السلام قال: ((لا أخرج من المسجد حتى أعلمك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري)) قال: ثم خرج وأخرج إحدى رجليه من المسجد فقلت في نفسي: لعله نسى فالتفت إلي وقال: ((بم تفتتح القراءة في الصلاة))؟ فقلت: ببسم الله الرحمن الرحيم فقال: ((هي هي)). والاعتماد على الأول. وأما حجتهم: تعلقوا بحديث أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال: يقول الله تعالى: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، يقول الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ}، قال الله تعالى: أثنى على عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال: مجدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل)). والاستدلال من وجهين:

أنه صلى الله عليه لم يذكر التسمية ولو كانت آية منها لم يتركها بل كان ينبغي أن يبتدئ بها. الثاني: أنه قال ((بيني وبين عبدي نصفين))، وإنما يكون نصفين إذا قلنا إن التسمية ليست بآية من الفاتحة، لأن الفاتحة سبع آيات بإجماع الأمة، والذي لله ثلاث آيات ونصف من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ... إلى قوله ..... {إِيَّاكَ نَعْبُدُ ...}. والذي للعهد ثلاث آيات ونصف من قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، إلى آخر السورة. فأما إذا عددنا التسمية آية منها كان الذي لله أربع آيات ونصف، والذي للعبد ثلاث ونصف فلم يستقم قوله: ((بيني وبين عبدي نصفين)).

وتعلقوا بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقرأة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وبحديث أنس قال: صليت خلف النبي عليه السلام وأبي بكر وعمر فكانوا يفتتحون القراءة {بالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وفي رواية أخرى فلم أسمع أحداً منهم يجهر بـ {بسم الله الرحمن الرحيم}. وبحديث عبد الله بن مغفل الذي ذكره في جامع أبي عيسى والأخبار كلها ثابتة صحيحة.

وتعلقوا أيضاً بنوع من الاستدلال وهو أنه لو كان التسمية من القرآن في كل موضع أثبتت، لنقل إلينا بطريق يوجب العمل بذلك، لأن القرآن لا يجوز إثباته إلا بمثل هذا الطريق، فأما الطريق الآحاد فلا سبيل إلى إثبات القرآن بمثله. قالوا: ولا يجوز أن يعكس هذا، فيقال لهم: لو لم يكن من القرآن لنقل كونه غير القرآن بطريق مقطوع به موجب العلم، لأنه ليس عليهم نقل كل ما ليس من القرآن لأن ذلك أمر يطول ولا ينحصر. فأما ما هو من القرآن فعليهم أن ينقلوه إلينا ولو نقلوا لوقع لنا العلم به. قالوا: وأما الإجماع الذي تعلقتم به فهو ضعيف لأنه لو ثبت كونه من القرآن بالإجماع لوقع لنا العلم به، ولكان يكفر جاحد ذلك ويفسق تاركه. وحين اختلفت الأئمة في ذلك اختلافاً ظاهراً وساغ الاجتهاد فيه علمنا أنه لا إجماع. الجواب: أما الاستدلال الذي تعلقنا به فمعتمد، وهو في الحقيقة إجماع استدلالي والإجماع على وجهين: إجماع نص وهو إجماع المجمعين على الشيء صريحاً. وإجماع استدلالي مثل ما بينا. فالأول يوجب العلم القطعي، والثاني لا يفيد العلم القطعي لكنه يوجب العمل بأبلغ الدلائل الموجب له، ونظيره ((الحجر)) فإنه من البيت بدليل لا يوجب العلم بل يوجب العمل وهو الطواف عليه وسائر الكعبة قبلة الناس بدليل مقطوع به يفيد العلم ويقطع العذر، وظهر بهذا الجواب عن قولهم: ((إنه لو كان من القرآن لنقل كونه من القرآن بدليل يفيد العلم))، فإنا نقول: هو من القرآن في رأس كل سورة عملاً لا علماً ونظيره ما بينا.

وكذلك على أصلهم قراءة ابن مسعود في قوله: ((فصيام ثلاثة أيام متتابعات)) فهو من القرآن عملاً لا علماً. وأما الأخبار التي رووها ففي معارضتها أخبار لنا بعضها وقد ذكر الدارقطني الجهر بالتسمية عن النبي عليه السلام برواية على، وابن عباس وأبي هريرة، وابن عمر، والنعمان بن بشير وغيرهم. وأسانيدها وإن كان فيها مقال لكن يثبت بمجموعها ورود الجهر بالتسمية. وقال .... عبد الله الحافظ قد صح الجهر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ونقل ذلك عن الصحابة: عن ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأبي هريرة/ وجماعة من التابعين. وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: إن المصلي بالخيار، إن شاء جهر

وإن شاء أسر، فتعارض الأخبار في ذلك. ونحن نقول: إن أخبارنا أولى لتضمنها زيادة لم تتضمنها أخباركم. ولأن الراوي للإسرار يجوز أن يكون بعيداً عن النبي عليه السلام فلم يسمع، ولأن الأثبت من أخبارهم هو رواية من روى أنهم يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ويحتمل أن يكون ذلك اسماً للسورة، وقد كان افتتحها بـ {بسم الله الرحمن الرحيم}. وروى عن أنس أنه سئل: هل كان رسول الله يجهر أو يسر بالتسمية؟ فقال للسائل: ((ما سألني عن هذا أحد قبلك وإني لا أحفظ)). وهذا يوهن ما رووا من خبر أنس، ولهذا لم يخرجه البخاري بذلك اللفظ، وإنما خرجه مسلم وحده، لأنه متساهل في الأخبار ما لم يتساهل فيه البخاري. وأما الخبر الأول فيحتمل أنه لم يبتدأ بالتسمية، لأنه قد ذكر {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من بعد فاكتفي به عن الأول. وأما قوله: ((نصفين)). قلنا: يجوز أن يكون معنى ((نصفين)) أي البعض لله تعالى والبعض للعبد، كقول الشاعر:

إذا مت كان الناس نصفين شامت ... بموتي ومثن بالذي كنت أفعل وقال شريح: أصبحت ونصف الناس على غضاب. والله تعالى أعلم. * * *

(مسألة) تجب القراءة على المؤتم سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها

(مسألة) تجب القراءة على المؤتم سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها، وهذا أصح قولي الشافعي رضي الله عنه. والقول الثاني: أنه تجب إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك، وابن المبارك وأحمد إلا أن أحمد لا يفسد الصلاة بترك القراءة خلف الإمام بحال، وإنما يأمر بالقراءة استحباباً.

وعند أبي حنيفة: تكره القراءة خلف الإمام بكل حال. لنا: قوله عليه السلام في رواية عبادة بن الصامت: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)). ولا فصل بين الخبرين أن يكون منفرداً، أو خلف إمام يقتدي به. فإن قالوا: قد روى في بعض الأخبار ((من صلى صلاة لم يقرأ بأم الكتاب فلم يصل إلا أن يكون وراء إمام))، رواه جابر عن النبي عليه السلام. فيكون خبر عبادة محمولاً على حال الانفراد بدليل هذا الحديث ثم يكون معنى قوله: ((لا صلاة)) أي لم يصل يعني صلاة كاملة. قلنا: الذي رويتم صحيح عن جابر نفسه رواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر. فأما عن النبي عليه السلام فلا يصح، وقيل: رفعه يحيى بن سلام، ولا تقوم بروايته حجة لضعفه وقلة تثبته.

وظاهر العموم لا يخص عندنا بقول صحابي واحد. وقد نتعلق من جهة الخصوص بما روى محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن ربيع عن عبادة بن الصامت قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: ((إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم)) قال: قلنا يا رسول الله أي والله، قال: ((لا تفعلوا إلا بأم الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها)) أورده أبو عيسى على هذا الوجه قال: وفي الباب عن أبي هريرة، وعائشة وأنس، وابن قتادة، وعبد الله بن

عمر ثم قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين يرون القراءة خلف الإمام)). وروى الدارقطني هذا الخبر في سننه من وجوه. وقال: رواته ثقات. وروى عن عبادة بإسناده قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فلما انصرف أقبل علينا بوجهه وقال: ((هل تقرأون إذا جهرت بالقراءة))؟ قال بعضنا: إنا لنصنع ذلك. وفي رواية: ((قلنا: أجل يا رسول الله)) قال: ((وأنا أقول ما لي أنازع القرآن فلا تقرؤا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن)). وفي رواية: ((ولا يقرأ أحد منكم إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)). ويدل عليه حديث أبي السائب عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج))، قال أبو السائب: فقلت: يا أبا هريرة أني أكون أحياناً وراء الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك، يا فارسي فإني سمعت رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قال الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ...)) ... الخبر إلى آخره. وأما الكلام من حيث المعنى فظاهر، لأن القراءة ركن الصلاة وركن الصلاة لا يسقط بالاقتداء، دليله سائر الأركان وهذا لأنه إذا وجبت القراءة على المصلى فلا يجوز أن تسقط عنه إلا بمعنى مؤثر في الإسقاط، ولم يوجد إلا الاقتداء بالإمام والاقتداء تأثيره في وجوب التأسي والمتابعة فأما لا تأثير له في سقوط ركن عن المقتدى بالاقتداء، يبينه أن الاقتداء قد يوجب على المقتدى ما لم يكن واجباً عليه فكيف يسقط عنه ما هو واجب عليه. وأما حجتهم: تعلقوا بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} والأمر على الوجوب فوجب الإنصات والاستماع إذا جهر الإمام، ووجب الإنصات إذا لم يجهر، وقد أيدوا هذا أيضاً بما رواه أبو موسى الأشعري أن النبي عليه السلام قال: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به ....).

وقال فيه: ((وإذا قرأ فانصتوا)). قالوا: روى مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام انصرف في صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: ((هل قرأ أحد منكم معي آنفاً))؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله. قال: ((إني أقول مالي أنازع القرآن))، قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)).

وتعلقوا أيضاً بما رووا عن عبد الله بن شداد عن جابر أن النبي عليه السلام قال: ((من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)). وفي رواية عن جابر قال: صلى بنا رسول الله وخلفه رجل يقرأ فنهاه رجل من أصحاب النبي عليه السلام فقال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((من صلى إمام فإن قراءته له قراءة)). قالوا: ورواه أيضاً سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي عليه السلام. قالوا: ولا يجوز أن يحمل على أن معناه: فإن قراءة الإمام للإمام قراءة، لأن هذا تعطيل للخبر وليس بتأويل، ومثل هذا التأويل لا يقوله فقيه. ولأن هذا على مثال قول القائل: من دخل الدار خلف ابني فأعطه كذا، ينصرف إلى الداخل لا إلى الابن.

ورووا بطريق عمران بن حصين قال: ((كان النبي عليه السلام يصلي بالناس ورجل يقرأ خلفه فلما فرغ قال: ((من ذا الذي يحالجني))؟ ونهاهم عن القراءة خلف الإمام. ورووا عن الشعبي أن النبي عليه السلام قال: ((لا قراءة خلف الإمام)). وعن علي رضي الله عنه قال: قال رجل للنبي عليه السلام: أقرأ خلف الإمام أو أنصت قال: ((أنصت فإنه يكفيك)). وروى عون عن ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: ((يكفيك قراءة الإمام خافت أو جهر)). وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: ((من قرأ خلف الإمام فليس على الفطرة)).

وفي رواية: ((إنما يقرأ خلف الإمام من ليس على الفطرة)). وعن زيد بن ثابت قال: من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له)). وأما تعلقهم بالمعنى: من صح اقتداؤه بالإمام سقطت القراءة عنه دليله المسبوق بركعة. قالوا: ولا معنى في سقوط القراءة عن المسبوق سوى الإتباع والاقتداء فإنه لا يجوز أن يكون المعنى مجرد إثبات الركعة حتى لا تفوته، لأن هذا المعنى موجود إذا أدركه بعد الركوع، ولأنه لا فوت في الحقيقة فإنه يقضي ومع القضاء لا يتحقق الفوت. ولأن النبي عليه السلام أمر القاصد إلى الصلاة بالمشي ومنعه من السعي وإن كان فيه خوف الفوت، ولا يجوز أن يكون المعنى سقوط القيام لأنه غير ساقط، ولابد من وجود قيام عنه بعد التكبير وإن قل وإنما يسقط مد القيام لسقوط القراءة. وأما في مسألتنا فالمؤتم وإن سقط عنه القراءة لكن وجب عليه القيام بحكم المتابعة. وفي المسبوق لا قراءة عليه ولا متابعة فسقط عنه مد القيام، وأما القيام فقد أتى به، وأما القراءة سقطت لأجل صحة الاقتداء ولا يعرف معنى سوى هذا. فإن طلبتهم كثيراً في الاقتداء، والمتابعة توجب سقوط القراءة فوجب ذلك (أن القراءة وجبت لمعنى العمل، وقد روى عن الحسن البصري قال: أنزل الله القرآن ليعمل به الناس فاتخذ الناس

قراءته عملاً وإذا كان وجوب القراءة للعمل فالعمل التدبر والتفكر) وذلك يكون بالاستماع لقراءة الإمام. فأما بقراءة الجميع على التغالب لا يحصل هذا المقصود للأمر بالاستماع وقام الاستماع خلف الإمام مقام القراءة إذا كان منفرداً فصار سقوط القراءة إلى خلف يقوم مقامه في المعنى/ وسقوط الفرض إلى فرض مثله في المعنى غير مستنكر في الشرع وبل قد ورد الشرع على هذا المعنى في مواضع كثيرة. قالوا: ولا يجوز أن يقال إن هذا مستقيم عند جهر الإمام، فأما عند الإسرار فلا يستقيم، لأن الأصل هو الجهر المسمع للقوم، ولأن الله تعالى أمر بالقراءة بين الجهر والإخفاء بقوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}، إن لا يجهر الجهر الشديد ولا يخافت اخفات من لا يسمع القوم {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}، بين الجهر الشديد والإخفاء، فثبت أن الأصل كان هو الجهر المسمع للقوم إلا أن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بالإسرار في الظهر والعصر لعارض أذى المشركين، فإنهم كانوا يجتمعون ويؤذون النبي عليه السلام في الظهر والعصر. ويحاكون صلاته وقراءته ويصفقون ويصفرون فأمره الله تعالى بالإسرار لذلك ثم بقى كذلك، وإن زال المعنى الذي أمر به لأجله، ومثل هذا يكثر أن يرد الشرع بمعنى ثم يزول ذلك المعنى ويبقى المشروع كالرمل والسعي في الحج وما أشبه ذلك. وتعلقوا أيضاً بالسورة، وقالوا: إحدى صورتي القيام فتسقط بمتابعة الإمام كالسورة المضمومة إلى الفاتحة.

الجواب: أما تعلقهم بالآية ... قلنا: وردت الآية في الخطبة في الجمعة ونحن نقول بذلك في خطبة الجمعة. قالوا: روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: نزلت الآية في القراءة خلف الإمام، وذكروا ذلك أيضاً عن مجاهد. قلنا: ما ذكروه عن أبي هريرة رواه الأوزاعي عن عبد الله بن عامر وهو ضعيف. وكذلك الإسناد عن مجاهد ضعيف أيضاً. وعلى أن عندنا يقرأ في سكتات الإمام، وعند قراءته يسمع وينصت. وقد روى محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عطاء عن أي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى صلاة مكتوبة مع الإمام فليقرأ بفاتحة الكتاب في سكتاته ومن انتهى إلى أم القرآن فقد أجزأه)).

فإن قالوا: إذا لم يسكت الإمام. قلنا: يقرأ ويكره للإمام أن لا يسكت، وإن لم يسكت فالوبال عليه لا على المأموم. وعلى هذا الجواب يخرج ما تعلقوا به من قوله عليه السلام: ((وإذا قرأ فانصتوا)). وعلى أن الأصح من ذلك الخبر أنه خال عن هذه اللقطة، وإنما وردت هذه اللفظة الزائدة في بعض الروايات، وعلى ذلك فنحن قائلون به. وأما خبر ابن أكيمة الليثي فهو حجة مالك وأحمد في أنه يقرأ إذا أسر الإمام ولا يقرأ إذا جهر وهو أحد قولي الشافعي، وليس بحجة لهم. وعلى أنه قد قيل إن ذلك اللفظ وهو قوله: ((فانتهى الناس)) من قول الزهري، وليس بقول أبي هريرة فيكون مرسلاً.

وقد ورد في بعض الروايات قال الزهري: فانتهى الناس. وأما حديث جابر، فالصحيح أنه مرسل، رواه الأئمة مثل سفيان الثوري، وابن عيينة وشعبة، وشريك، وإسرائيل عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي عليه السلام. وعبد الله بن شداد من التابعين، ولم يسنده غير أبي حنيفة رحمة الله عليه والحسن بن عمارة، قالوا: وهما ضعيفان في الحديث فعند التفرد عن سائر الإثبات لا تقوم الحجة بروايتهما، وهذا قول أئمة الحديث. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه في كتاب علل الحديث: ((أجمع أهل العلم أن كل من أسند هذا الحديث فقد أخطأ)).

وأما روايته عن سالم عن أبيه هذا الخبر فرواه ممد بن الفضل بن عطية وهو ضعيف متروك. وأما حديث عمران بن حصين فلم يرووه على ما نقلوا غير الحجاج بن أرطأة وهو لا يحتج بروايته. وأما حديث الشعبي فمرسل، وأما حديث علي رضي الله عنه فمداره على غسان بن الربيع وهو ضعيف)). وأما حديث ابن عباس فرواه عاصم بن عبد العزيز عن أبي سهل عن عون عن ابن عباس، وعاصم بن عبد العزيز من جملة الضعفاء أيضاً، ولا تقوم بروايته حجة. وأما حديث علي بعينه فقد قال الدارقطني: إن إسناده لا يصح. وحديث زيد بن ثابت لا يعرف. هذه أوجه العلل في أخبارهم.

وأما المعنى الذي تعلقوا به: أما فصل المسبوق فقد قال بعض أصحابنا: إنه ثبت بالنص غير معقول المعنى ثم الجواب المعتمد أن سقوط القراءة لسقوط القيام، وهذا لأن القيام لا يراد لعينه وإنما يراد للقراءة، وإذا سقط القيام سقطت القراءة. وقولهم ((إنه لم/ يسقط)). قلنا: دليل السقوط هو أن الرجل مسبوق بالقيام، فلو جعلنا القيام عليه واجباً وألزمناه الإتيان به لصار آتياً بما سبق به قبل فراغ الإمام من صلاته، وهذا لا يجوز بل هو مبطل للصلاة فعرفنا قطعاً بهذا الدليل أن القيام عنه ساقط، وأما الذي يأتي به من القيام فهو لقيام تحريمه. واعتذر أبو زيد عما قلناه، وقال: الراكع بمنزلة القائم لأنه بنصفه الأسفل قائم وإنما هو مائل بنصفه الأعلى، وإذا كان بمنزلة القائم فيكون قيام المسبوق مشاركة له في فعل القيام، ولا يكون فعلاً لما سبق له. وهذا هوس، لأن الراكع ليس بقائم حقيقة، لأن القيام عبارة عن هيئة مخصوصة، لا ينطلق هذا الاسم إلا على تلك الهيئة، ولئن جاز أن يقال: إن الراكع نصفه قائم جاز أن يقال: القائم نصفه راكع، ومن دخل في أمثال هذا فقد جنى على عقله وعدل عن طريقة الفقهاء إلى طريق المهوسين الهازلين. فإن قالوا: فلم يسقط القيام؟ قلنا: لا يلزمنا بيانه، وعلى أنه يمكن أن يقال: إنما يسقط بعلة العجز، فإنه لما أمر بالمتابعة فقد عجز عن القيام فصار كما لو عجز بالمرض. وأما المعنى من قولهم: ((إن القرآن إنما أنزل للعمل به، فهو كلام صحيح في أصله، وليس بشيء في هذه المسألة، لأن الاستماع والتدبر وإن

أمر به فهو سنة وأدب من آداب الشرع، والقراءة ركن، بدليل أنه لو قرأ بغير تدبر جازت صلاته، ولو سكت غير مستمع تجوز صلاته عندكم، ولو ترك القراءة أصلاً بطلت صلاته، وإذا كان الاستماع من سنن القراءة وآدابها، فلا يجوز أن يقام مقام أصل القراءة. والدليل على أن الاستماع ليس بأصل أن الشرع ورد بالإسرار تارة وبالجهر أخرى فلا يتصور الاستماع مع الإسرار، وبهذا يفارق الخطبة، فإن الاستماع هناك لما كان أصلاً لم يرد الشرع فيها إلا بالجهر، وهذا لأن الصلاة بأركانها كلها مؤداه لله تعالى، وليس بخطاب لأحد من الخلق حتى يشرع استماعهم على صف الوجوب. نعم هو أدب وسنة في حال الجهر تعظيماً للقرآن، وإذا كان مؤداه لله تعالى من المصلى فلا خلل فيها سواء اتصل به الاستماع أو لم يتصل، بخلاف الخطبة فإنها خطاب للناس وعظة لهم، فإذا لم يوجد الاستماع اختل أمر الخطبة فثبت بمجموع هذا الكلام، أن الاستماع لا يجوز أن يكون خلفاً عن القراءة بحال، والقراءة ركن فإسقاطها بالإتباع والاقتداء إلى غير خلف لها في معناها لا يجوز. وقولهم ((أن الجهر هو الأصل)). قلنا: لا بل لو قلب وقيل أن الإسرار هو الأصل كان صحيحاً بل الأصح أن القراءة أصل أمر بها بوصفي الإسرار والإخفاء لتختلف تارات القارئ، ويشتمل وصف العبادة كما تختلف أحوال المصلى من انتقالاته من قيام إلى ركوع إلى سجود إلى قعود، ويشمل وصف العبادة جميعها، فأما أن يجعل أحدهما أصلاً والآخر مأموراً بعارض فليس عليه دليل. ألا ترى أن الإسرار قد ورد به الشرع في صلاة المغرب والعشاء الآخرة فيما زاد على الركعتين، فدل أنه ليس الأمر على ما زعم.

وخرج على ما قلناه فصل السورة، لأنها سنة. وقد بينا أن الاستماع سنة، فيجوز أن يسقط بسنة على سنة مثلها. أما القراءة ركن والاستماع سنة فلا يجوز أن يسقط ركن إلى خلف هو سنة. والله تعالى أعلم. * * *

مسألة قراءة القرآن بالفارسية لا يجوز وغيرها من اللغات

مسألة قراءة القرآن بالفارسية لا يجوز وغيرها من اللغات عندنا. وهو قول أكثر أهل العلم. وعند أبي حنيفة رحمة الله عليه بدون صاحبيه يجوز، وعلى مذهبه اختلافات لأصحابهم مذكورة في كتبهم. لنا: قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} والقرآن اسم للمنزل بلغة العرب بدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}.

وقال الله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، فغير العربي لا يكون قرآناً. يبينه أن القرآن ما أنزل الله تعالى على نبيه محمد عليه السلام فتلوناه بألسنتنا وكتبناه في مصاحفنا وحفظناه في صدورنا. ونحن نعلم قطعاً أن الفارسية ليست مما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا هو المتلو على الألسن ولا المكتوب في المصاحف فلا يكون قرآنا ولأنه إذا قرئ بالفارسية فقد أخل/ بنظم القرآن، والقرآن قرآن بنظمه ومعناه. وهذا لأنه كلام امتاز عن كلام الخلق بالإعجاز، والإعجاز في نظمه، لأنه نظم خارج عن أقسام كلام العرب، فإذا اختل النظم ذهب الإعجاز، وإذا ذهب الإعجاز لم يكن قرآناً. يدل عليه (إن القرآن نزل حجة على النبوة وعلماً للهدى، والهدى بمعناه والحجة بنظمه، ثم الإخلال بالمعنى يسقط حكم القراءة، كذلك الإخلال بالنظم). يبينه أن حفظ القرآن واجب بنظمه ومعناه ليكون حجة النبوة، وحجة الأحكام محفوظة في أيدي الناس، والحفظ يكون بالقراءة، ولا تجب القراءة إلا في الصلاة فعرفنا أن جوازها متعلق بعين ما أنزل الله ليحصل الحفظ المطلوب من الناس على ما أنزل. وأما حجتهم: تعلقوا بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى}. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} ولم يكن فيها بالعربية.

وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي بالقرآن وإنما ينذرون بلغاتهم، فدل أنه لا يصير شيئاً آخر باختلاف اللغة، وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه لقن رجلاً {طَعَامُ الْأَثِيمِ} وكان يقول: طعام اليتيم، فقال: قل طعام الفاجر. وعن أنس أنه قرأ: ((وحططنا عنك وزرك)) مكانه قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}. قال: ولأن العبرة بالمعنى فإنه هو المقصود، وقد أدى المعنى وإن كان بلغة أخرى. وأما الإعجاز فهو اختصار المعنى، والإخبار عن الغيوب فهذا لا يذهب وإن قرئ بلغة أخرى. الجواب: أما الآيات التي تعلقوا بها فليس فيها دليل لهم، بل هو دليل عليهم، لأنه كان في زبر الأولين ولم يكن قرآناً، فإن زبر الأولين والصحف الأولى ليست بقرآن، ولو قرأ ذلك في صلاته لا تجوز صلاته، وإذا كان على هذا الوجه فيجوز أن يكون معنى الآية: ذكر الرسول أو يكون المراد معنى القرآن لا نفس القرآن. وأما الذي نقلوا عن ابن مسعود فيحتمل أنه إنما قال ذلك تنبيهاً له على المعنى فإذا تنبه على المعنى كان لسانه بذلك أطلق.

وأما المروي عن أنس فهو من القراءات الشواذ، وقد كانوا يقرؤون الشواذ على أنه من المنزل، ولكن انقطع النقل الآن، واتفق الأمة على مصحف الإمام وهو مصحف عثمان رضي الله عنه وترك ما سواه فلم يجز قراءة غيره لأجل الإجماع. وأما الذي قالوا: ((إن العبرة بالمعنى)). قلنا: قد بينا أن القرآن بنظمه ومعناه جميعاً فلا يجوز الإخلال بواحد منهما. وقولهم ((إن الإعجاز في اختصار المعنى)). قلنا: الاختصار وغير الاختصار قد وجد في القرآن، وليس ذلك من الإعجاز وإنما الإعجاز في نظمه على ما سبق. وأما الإخبار عن الغيوب فإن ذلك في بعض السور وما من سورة من القرآن إلا وهي معجزة، فلم يكن الإعجاز على العموم إلا في النظم. فإن قالوا: (إن القراءة في الصلاة للثناء على الله تعالى ليس للمحاجة مع الكفار والثناء يتأدى بالمعنى)). (قلنا: القراءة في الصلاة ليست للثناء على الله تعالى، فإنه يقرأ بما ليس فيه ثناء، وإنما الثناء سنة في الصلوات كلها، ولكن القراءة ركن. فدل أنه إنما يقرأ القرآن ليكون محفوظاً، كما أنزل حجة على النبوة، والأحكام جميعاً على ما سبق، ولأنه لو نظم معناه شعراً ثم قرأ به فسدت صلاته. لأنه نظمه من كلام الناس لا من كلام الله وهذا فصل معتمد. والله أعلم.

مسألة يسن رفع اليد عند الافتتاح وعند الركوع وعند رفع رأسه من الركوع

مسألة يسن رفع اليد عند الافتتاح وعند الركوع وعند رفع رأسه من الركوع عندنا. وعندهم: لا يسن إلا عند الافتتاح. لنا: حديث الزهري عن سالم عن أبيه وهو ابن عمر قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه وإذا ركع، وإذا رفع رأسه (من الركوع) فعل مثل ذلك وكان لا يرفع من السجدتين)).

وروى هذه السنة عن النبي عليه السلام قريب من ثلاثين نفساً من الصحابة منهم: عمر وعلي رضي الله عنهما، ووائل بن حجر، ومالك بن الحويرث، وأبو هريرة، وأنس، وجابر، وأبو سيد، وأبو حميد، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة، وأبو قتادة، وأبو موسى الأشعري، وعمر الليثي. وعن علي بن المديني قال: حديث ابن عمر مثل هذه الإسطوانة- يعني في الثبوت. وقد قال بهذه السنة ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأنس، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير وغيرهم، من التابعين: الحسن البصري، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، ونافع، وسالم بن عبد الله، وسعيد بن جبير، وغيرهم. وقال بها الأئمة: الأوزاعي، ومالك، ومعمر، وابن عيينة، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.

وقد اختلف فيه عن مالك، وابن عيينة إلا أن أصح الروايتين عنهما ما قدمناه. نقله ابن وهب وغيره عن مالك. وقد اتفق على هذه السنة أهل الحجاز، وقيل: إن أهل مكة أخذوا رفع اليدين في المواطن الثلاثة عن ابن جريج، وأخذه ابن جريج عن عطاء، وأخذه عطاء عن عبد الله بن الزبير، وأخذه ابن الزبير عن أبي بكر، وأخذ أبو بكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أما حجتهم: تعلقوا بحديث سفيان عن عاصم بن كليب الجرمي عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة قال: قال عبد الله بن مسعود: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله فصلى فلم يرفع يديه إلا في أول مرة.

قالوا: ورواه حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود. ورواه يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فرفع يديه في التكبير الأولى ثم لم يعد)). وروى مسلم عن ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: ((لا ترفع الأيدي

إلا في سبعة مواطن))، وذكر منها حال الافتتاح، ولم يذكر ما سوى ذلك من أحوال الصلاة. وتعلقوا أيضاً بالحديث المعروف أن النبي عليه السلام رأي أصحابه وقد رفعوا أيديهم فقال: ((ما بالكم رافعي أيديكم، كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة)). قالوا: وراوى خبركم ابن عمر. وقال مجاهد: صحبت ابن عمر من المدينة إلى مكة فلم يكن يرفع يديه إلا في الافتتاح. ونقلوا عنه أنه قال: رفع اليدين بدعة. قالوا: ولأن رفع اليدين مجرد حركة بلا عنى، وأما في حال الافتتاح سلم للنص.

الجواب: أما حديث ابن مسعود فقد روى سفيان بن عبد الملك عن ابن المبارك قال: ثبت حديث من يرفع، ولم يثبت حديث ابن مسعود أن النبي عليه السلام لم يرفع إلا في أول مرة. وقيل: إن عبد الرحمن بن الأسود لا يصح سماعه عن علقمة. ولأنه يحتمل أنه خفى عن ابن مسعود هذه السنة كما خفى عليه الأخذ بالركبة في حال الركوع، وقد كان يطبق حتى توفاه الله. أما حديث البراء بن عازب فقوله: ((ثم لم يعد)) غير ثابت وقد كان يزيد بن أبي زياد روى بالحجاز من غير هذه الزيادة ثم روى بالكوفة مع هذه الزيادة، فيحتمل ((أنه لقن فتلقن، وقد كان اختلط في آخر عمره)).

وأما حديث مقسم فهو عن ابن عباس نفسه، والرواية: ((برفع الأيدي)) وليس فيه نفي الرفع في غير المواضع السبعة. وأما الذي رووا عن قوله عليه السلام: ((ما بالكم رافعي أيديكم ....)). فقد ذكر مسلم في صحيحه هذا الخبر، وذكر أنهم كانوا يرفعون أيديهم في التشهد ويشيرون بالسلام فقال النبي عليه السلام ما قال. والذي نقلوا عن ابن عمر فقد ثبت عن ابن عمر ما قدمناه. وروى زيد بن واقد عن نافع أن ابن عمر كان إذا رأى رجلاً لا يرفع يديه في الصلاة حصبه- أي رماه بالحصباء.

وقولهم: ((إنه قال ((بدعة)) أثر موضوع. وكيف وقد روى عنه ما قدمنا ثم يخالفه ويسميه بدعة مع شدة تمسكه بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قال بعض الصحابة: ما أحد منا فتش إلا فتش عن جائفة أو منقلة غير عمر، وابن عمر منه)). وأما قولهم: ((حركة بلا معنى)). قلنا: الاعتراض على السنة بمثل هذا الكلام باطل، وعلى أنه زينة الصلاة وقد ورد هذا في بعض الآثار. والله أعلم. * * *

مسألة إذا تكلم في صلاته ناسيا أو مخطئا أو مكرها لم تبطل صلاته

مسألة إذا تكلم في صلاته ناسياً أو مخطئاً أو مكرهاً لم تبطل صلاته عندنا. وعندهم تبطل صلاته. لنا: ما رواه مالك عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام صلى إحدى صلاتي العشى أو الظهر أو العصر

فسلم على اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أو نسيت يا رسول الله؟ فقال النبي عليه السلام: ((أصدق ذو اليدين))؟ قالوا: نعم، فعاد وأتم صلاته ثم سجد سجدتي السهو. والخبر نص. قالوا: كان هذا قبل تحريم الكلام في الصلاة، وقيل:/ إن القوم تكلموا عامدين ومع ذلك لم يعيدوا الصلاة. قلنا: هذا حمل الحديث على النسخ بلا دليل، ولأن أبا هريرة متأخر

الإسلام فإنه أسلم سنة سبع من الهجرة، وقد كان الكلام حرم قبل هذا بزمان مدريد. وأما قوله: ((إن القوم قد تكلموا عامدين ولم يأمرهم بإعادة الصلاة)). قلنا: قد كان الكلام واجباً عليهم بخطاب النبي عليه السلام، وإذا وجب الكلام لا تبطل به الصلاة. وأما الكلام من حيث المعنى فنقول: الكلام محظور الصلاة فعمله في إبطال الصلاة من حيث ارتكاب الحظر وفي حال النسيان زال الحظر فزال عمله كما لو أكل ناسياً في الصوم. وإنما قلنا: إنه محظور الصلاة، لأن الصلاة مجموع أفعال يؤديها مثل الحج سواء وليس ترك الكلام من أفعال الصلاة إلا أن الشرع حظر عليه الكلام. لأن الصلاة عبادة وقيام في موضع المناجاة وإقبال على الله تعالى بالكلية، فكان من قضيتها ترك الكلام لتحقيق الإقبال على الله بالكلية، واحترام موضع النجوى، وتعظيم المعبود مثل الحج فإنه مهاجرة إلى الله تعالى وزيارة لبيته فاقتضى تحريم ما يشبه من أحوال المرفهين المتنعمين مثل لبس المخيط والتطيب والتجمل ليكون أشبه بالمهاجرين إلى الله تعالى، وإذا ثبت أن الكلام محظور الصلاة، وليس تركه فعلاً يؤدي به الصلاة فمتى زالت الحظرية زال عمله. أما حجتهم: قالوا: ترك الكلام شرط صحة الصلاة، وشروط الصلاة لا تسقط بالنسيان كالطهارة، واستقبال القبلة وسائر الشرائط.

يدل عليه أن أصل الصلاة لا يسقط بالنسيان فكذلك شروطها. والدليل على أنه شرط الصلاة أن النبي عليه السلام قال لمعاوية بن الحكم السلمي: ((إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)). وإخراج ما لا يصلح في الصلاة يكون شرط الصلاة، كالتطهير من الحدث. يبينه أنه إذا كان لا يصلح في الصلاة بالنص يكون منافياً للصلاة لعينه فمتى وجد سواء كان عامداً أو ناسياً تبطل به الصلاة بمنزلة الحدث سواء. قالوا: وأما الأكل ناسياً في الصوم فإنما لم يبطل به الصوم بالنص فهو حكم ثبت بالنص غير معقول المعنى فلا يقاس عليه غيره، ولأنه لو أكل ناسياً في الصلاة تبطل به الصلاة، كذلك الكلام، لأن كل واحد منهما فعل غير صالح في الصلاة. قالوا: وليس يدخل على ما قلنا إذا سلم في الصلاة ناسياً، لأن جنسه مشروع في الصلاة فلم يكن مبطلاً للصلاة بعينه بل بقصد الخروج، فإذا وجد لا في حين الخروج بطل قصده، ونفى مجرد السلام وهو بعينه غير قادح في الصلاة وأما الكلام فإنه مفسد للصلاة بعينه على ما سبق.

الجواب: أما قولهم: ((إن إخلاء الصلاة من الكلام شرط الصلاة)). قلنا: قد بينا أنه محظور الصلاة، ودللنا عليه. أما الخبر فإنه قد أخبر من أنه لا يصلح في الصلاة، ويجوز أن يكون المعنى لا يصلح للحظرية. يبينه أن جنس الكلام مشروع في الصلاة، ولو كان مبطلاً للصلاة لعينه لم يشرع جنسه كالحدث، فدل أنه مبطل للصلاة لمعنى ارتكاب المحظور، وهذا لا يوجد في حال النسيان، وخرج على هذا الحدث فإنه منافي للطهارة لعينه ثم إذا ارتفعت الطهارة فات شرط الصلاة فلم تجز الصلاة. فإن قالوا: لا عمل للنسيان إلا في رفع الحرج ففيما وراءه يجعل بمنزلة العدم. قلنا: هذا دعوى بلا دليل بل عمل النسيان إزالة الحظر، فإذا زال الحظر كان الحكم على ما قدمنا، ويبطل هذا الكلام أيضاً بما لو أكل ناسياً في الصوم فإنه قد عمل النسيان فيما وراء رفع الإثم حين لم يبطل به الصوم. وأما الذي قالوا: ((إنه بالنص غي معقول المعنى)). قلنا: قد ذكرنا معنى صحيحاً يمكن التعويل عليه فلا يترك له. وأما إذا أكل ناسياً في الصلاة فلا نسلمه بل نقول: إذا أكل ناسياً وإن كان في الصلاة لا تبطل صلاته كما لو تكلم، اللهم إلا أن يكثر الأكل حتى يخرج به عن هيئات المصلين، وكذلك إذا أكثر الكلام في مسألتنا فدل أنه يبطل الصلاة أيضاً، لما ذكرنا. أما إذا سلم ناسياً فهو لازم، وعذره ضعيف، لأن السلام الذي يخرج به عن الصلاة هو ما كان خطاباً لقوم حاضرين، وهذا غير مشروع جنسه في الصلاة بحال. وعلى أنا قد بينا أن مسألتنا قد شرع جنس الكلام في الصلاة، فتستوي الصورتان بلا فرق ... والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

مسألة المرتد إذا عاد إلى الإسلام يلزمه قضاء ما ترك من الصلاة

مسألة المرتد إذا عاد إلى الإسلام يلزمه قضاء ما ترك من الصلاة عندنا في حال الردة. وعندهم: لا يلزمه. وكذلك ما كان عليه من واجبات لله تعالى، وفي ذمته قبل الردة فإذا ارتد ثم أسلم فهي عليه كما كانت. وعندهم: تسقط كلها. وعلى هذا الأصل إذا ارتد وقد حج أو صلى الظهر في أول الوقت ثم عاد إلى الإسلام لم يلزمه أن يحج ويصلي ثانياً.

وعندهم: يلزمه. وإنما جمعنا بين المسألتين، وإن اختلفا في الصورة، لأنهما يتفقان في المعنى على ما سيأتي بيانه. وبناء المسألتين على أن الخطاب بالعبادات وسائر الشرعيات متوجه على الكفار عندنا. وعندهم: غير متوجه، وقد ادعوا فقد أهلية العبادات في الكفار، ونحن ندعي وجود الأهلية وتوجه الخطاب إلا أنه سقط بعفو من الشرع في موضع، ولا يسقط في موضع بحسب قيام الدليل فهذا محل النزاع. لنا: إن الكافر مكلف يمكنه التوصل إلى فعل العبادة فيلحقه خطاب العبادة دليله المسلم، أما قولنا: ((مكلف)) فلا إشكال فيه، والدليل عليه أنه مكلف بالإسلام. وأما قولنا: ((يمكنه الوصول إلى فعل العبادة))، فهو أن يسلم ويصلي، فهذا طريق التوصل فثبت ما ادعيناه، وتحقيقه أن الكافر عبد من العباد وقد خلق الله تعالى عباده ليعبدوه على ما نطق به الكتاب، فكل من سهل له طريق العبادة بوجه ما، يلحقه خطاب العبادة لإطلاق الخطاب وشمول الأمر فيكون هو داخلاً في زمرة المخاطبين، ويكون الخطاب المطلق متناولاً إياه. فإن قالوا: إن الكافر لا يمكنه التوصل إلى فعل العبادة، لأنه إذا أسلم لا يكون كافراً.

قلنا: هذا ليس بشيء، لأن الخطاب متناول ذات المخاطب، والإسلام والكفر صفتان له فهو وإن أسلم فذاته واحد، وقد اتصل بذاته إلى فعل ما خوطب به فيكون المخاطب هو المتوصل إلى فعل خوطب به في الموضعين وإن بدل وصفه بوصف. وهذا مثل الجنب يخاطب بالصلاة، فإن طريق توصله إلى فعل الصلاة بالاغتسال، وإذا اغتسل لم يكن جنباً ثم هذا لا يدل على أن الخطاب لا يتناوله، وكان طريق تحقيق توجه الخطاب مع تبدل وصفه بوصف الاغتسال هو ما بينا. كذلك هاهنا. وإذا ثبت ما بينا من توجه الخطاب عليهم فنقول: المرتد مخاطب بالصلوات في حال الردة ولم يوجد عفو من الشرع في حقه، فإذا أسلم يلزمه قضاء ما فات. وكذلك نقول في الكافر الأصلي أنه مأمور بالعبادات إلا أنه إذا أسلم سقط عنه بعفو الشرع، وذلك بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}. وأجمع أهل العلم أن هذا الخطاب للكفار الأصليين. وهذا لأن الكافر الأصلي عارف بدينه غير عارف بدين الإسلام وقد ادعى من دينه الذي عرفه وتعوده ورأى فيه نجاته ومصلحته ثم دعى إلى دين لم يعرف ما يشتمل عليه فاحتاج إلى نوع ترغيب والطاف لينزع عما كان عليه، ويرغب فيما لم يكن عليه، ومن اللطف المرغب في حقه هو عفو الشرع عنه بعد قبول الإسلام عما سلف منه، فهذا نوع لطف من الله تعالى مع الكفار ليرغبوا في الإسلام ولا ينفروا عنه وهو كسائر ألطافه الخفية الغزيرة.

فأما المرتد فقد كان عرف الإسلام، وعرف ما يشتمل عليه ثم أنه ترك الإسلام وعاد إلى رأس كفره، فكانت الحاجة إلى تشديد الأمر عليه، فيرد أولاً إلى الإسلام شاء أم أبى من غير إمهال وتثبت، ثم لا يعفى عن شيء من الواجبات المتوجهة عليه بل يؤمر بقضائها ولا يحابي ولا يساهل في شيء منها، فإنه قد حصل استعمال اللطف في حقه ابتداء حتى قبل الإسلام ابتداء، فلما لم ينفع اللطف، وقد عاد إلى رأس أمره كانت الحكمة في استعمال العنف والتشديد في حقه، وذلك باستمرار الخطاب عليه ثم بالمؤاخذة بفعل ما يتوجه عليه شاء أو أبى فيحصل بهذا تأديبه وتعريكه، ويحصل بها أيضاً زجر سائل المسلمين عن ارتكاب مثله فعله فهذا هو المعنى المفرق بين الصورتين وهذه حكمة لطيفة من حكم الشيء لا يقع عليه إلا من أمده الله تعالى بنور من عنده. وإذا عرف هذا الأصل فعلى/ هذا يخرج غيره من المسائل وهو بقاء الواجبات عليه وكذلك بقاء العبادات له، فإن خطاب العبادات إذا استمر في حقه بعد الردة بقيت الواجبات في ذمته، وبقي الحج الذي فعله، والصلوات التي فعلها له مثل ما بقي لسائر المسلمين فلم يؤمر بفعلها ثانياً. أما حجتهم: قالوا: الكافر ليس من أهل العبادة فلا يخاطب بالعبادة دليله البهيمة، وإنما قلنا: ((إنه ليس من أهل العبادة)) لأن العبادة معنى شرعي يعرف بموجبه وهو الثواب، والثواب هو الجنة، والكافر ليس من أهل الثواب، فلا يكون من أهل العبادة، وهذا كالنكاح معقود للحل، والبيع للملك ثم من لا يكون من أهل الحل لا يكون من أهل النكاح.

وكذا في الملك مع البيع، وهذا لأن الأمر بالعبادة ليس لمعنى يرجع إلى المعبود، لأنه تعالى غنى عن جميع الناس، وإنما الأمر بالعبادة لنفع، لنفع العبد بالثواب، فحقيقة العبادة فعل مخصوص يعرف بموجبه وهو الثواب، ولا ثواب له بحال فلم يكن من أهلها. قالوا: وهذا بخلاف السكران لأنه من أهل الثواب فإنه مسلم وكذلك الجنب والمحدث، فصارت الطهارة شرط الأداء لا شرط الوجوب فلم ينتف الوجوب بتراخي شرط الأداء. وأما الإسلام فهو شرط الوجوب فإذا عدم الإسلام عدم الخطاب بالوجوب. يبينه: أن الإسلام أصل والصلاة فرع، ولا يصلح الأصل شرطاً للفرع. قالوا: ولا يجوز أن يقال إنا لو أسقطنا الخطاب عن المرتد لصار الكفر سبباً للتخفيف عنه، وهذا لا يجوز، وذلك لأن إسقاط الخطاب بالعبادة عن المرتد، وسائر الكفار ليس بطريق النظر والرحمة، مثل ما يسقط عن الصبيان نظراً لهم ومرحمة، ولكنا نسقط الخطاب بطريق الخزي والتنكيل، وذلك أنه بكفره ألحق نفسه بالبهائم والخطاب بالعبادة كرامة (فإن الله تعالى أكرم بني آدم بالتخليق ثم بالتأهيل لحمل الأمانة ثم بالتوفيق لأداء ما حمله ثم بالثواب الموعود)، فإذا سقط الخطاب عن الكفار بالعبادات، كان السقوط خزياً له وتنكيلاً له بحكم جنايته بالكفر، فكأنا ألحقناه بالبهائم بكفره وصرفنا عنه التكريم بالخطاب. وأما عذاب الآخرة فلا تخفيف عنه لهذا السبب، لأنا لو قلنا لا عقوبة عليه بترك العبادات فالعقوبة متوجهة بتأخيره بترك الإسلام وارتكاب هذا

الجناية العظيمة وإلحاقه نفسه بالبهائم، وربما تكون المعاقبة عليه بهذا أشد من المعاقبة بترك الفروع من الشرعيات. قالوا: وأما الخطاب بأصل الإيمان فمتوجه على الكفار، لأنه لو أتى به صح ولأنه إذا تم منه يكون فرضاً، وهو من أهل الثواب، فاستقام خطابه بالإسلام، لأنه من أهل موجبه إذا وجد منه، وفي مسألتنا لا يستقيم الخطاب بسائر العبادات لما بينا أنه ليس من أهل موجبها. قالوا: وإذا ثبت أنه لا خطاب على الكافر بالعبادات، قلنا: لا يجب عليه القضاء إذا أسلم، لأن القضاء ثاني الوجوب، فإنه إذا لم يكن وجوب فلا قضاء. وكذلك ما فعله من الحج والصلاة في أول الوقت يلزمه إذا أسلم أن يفعل ثانياً، لأنه إذا لم يكن من أهل العبادة لا تبقى له العبادات فصار بعد عوده إلى الإسلام ككافر أصلي أسلم ابتداء فتلزمه الصلاة عند إدراكه بعض الوقت ويلزمه الحج، وصار المفعول بمنزلة العدم. وربما يقولون: إن المسلم إذا ارتد- والعياذ بالله- بطل ما فعله من الإسلام من قبل، لأن زمان الإسلام لا يقبل التبعيض والتجزئ، ولو أسلم وخرج لحظة من عمره عن الإسلام لم يصح إسلامه، فإذا لم يتبعض، فإذا ترك الإسلام في المستقبل بطل ما فعله في الماضي بمنزلة الصوم في اليوم الواحد. وإذا بطل الإسلام بطل ما فعله أيضاً في حال الإسلام، ولابد من وجوب الحج عليه ثانياً، وكذلك الصلاة. قالوا: وليس كمن تيمم في إسلامه ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام حيث يبقى تيممه، لأنا إنما ادعينا ما ادعيناه في العبادات والتيمم ليس

بعبادة على ما سبق بيانه، وأما اشتراط النية فيه فلم يكن لأنه عبادة بل كان لما رأينا أن التراب ليس بطهور في ذاته، وإنما صار طهوراً بالشرع، والشرع إنما جعله طهوراً عند إرادة الصلاة به، فإذا لم يرد لم يكن طهوراً. وأما هاهنا فإن الصلاة عبادة، وقد بينا أنه ليس من أهل الخطاب/ بالعبادة يبينه: وهو أن العبادة فعل مقرب على الله تعالى فمن لا يعرف الله أو لا يكون من أهل التقريب إلى الله تعالى، كيف يكون محلاً للخطاب بالعبادة؟ وتعلقوا بقوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}، وهذا اللفظ عام في كل عمل إلا ما يخصه الدليل. الجواب: إنه قولهم: ((إنه ليس من أهل العبادة)). ليس كذلك بل هو من أهل العبادة بفطرته وخلقته، لأن خلق ليعبد ربه، ولأنه عبد من العباد، والعبادة تعبد فيكون له أهلية العباد. وقولهم: ((إن العبادة للثواب)). قلنا: قد توجد العبادة بلا ثواب، بدليل أن النبي عليه السلام قال: ((الغيبة تفطر الصائم))، ومعناه تلحقه بالمفطر لفقد ثواب الصوم ومع ذلك فإن صومه صحيح، وكذلك قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ .....}.

ومعلوم أن المراياة تفوت ثواب الصلاة، ومع ذلك فإن صلاته صحيحة. قالوا: فوات الثواب في هذين الموضعين بحكم مقابلة الوزر بالغيبة والمراياة لثواب الصلاة والصوم، وإذا تقابلا وتوازيا، صار الثواب كالعدم، ولم يكن لأجل فوات أهلية الثواب. وأما في مسألتنا كان فوات الثواب لفقد الأهلية فسقط الخطاب. قلنا: هذا كلام تقولونه في كثير من المواضع فلا تعرف صحته، والتقابل الذي يدعونه لا يعرف إلا بوحي، وقد أخبر النبي عليه السلام أنه لا ثواب للصائم المغتاب ومع ذلك قد صح صومه. ويمكن أن يقال: إن صحة العبادة ليس من ضرورتها الثواب، ويجوز أن تصح العبادة من الشخص ولا يثاب عليه أصلاً، وهذا كلام طويل ذيله واسع مجاله، وليس من باب الفقه. والأصح أن نوافقهم فيما ادعوه، لكن نقول: صحة الخطاب بالعبادة بإمكان التوصل، فإذا أمكن التوصل بوجه ما صح الخطاب. وهذا لأن خطاب العبادة إذا كان الثواب، ولم يصح فعلها منه إلا بعد أن صار أهلاً للثواب استقام الخطاب بها ليؤديها بعد أن يأتي بشرط الإسلام، وهذا كالخطاب بأداء الصلاة فإنه متوجه على الجنب، وكذلك السكران، ولا يقال: إنه كيف يخاطب بالأداء من لا يصح منه الأداء، ولكن يقال: إنه مخاطب بأداء الصلاة ليؤديها بعد أن يعقل من السكر أو بعد أن يطهر من الجنابة فاستقام الخطاب بالأداء على هذا التقدير. والحرف أن الثواب لما كان بالفعل ولا فعل إلا بعد الإسلام لم يمنع عدم أهلية الثواب من توجه الخطاب، وهذا بخلاف البهيمة، لأن خطابها مستحيل ولا وقت لوجود فعل العبادة منها بحال.

وها هنا ليس فقد الخطاب عنهم لاستحالة الخطاب فإن الخطاب مع الكافر صحيح معقول، ولكن كان عدم الخطاب عندهم لعدم أهلية الثواب فإذا قدرنا لفعله تقديم الإسلام زال هذا المعن، واستقام الخطاب. جواب آخر نقول: وهو أن صحة العبادة بإفادة الخطاب، وقد أفاد الخطاب مع الكافر. لأنه إذا لم يفد فعلاً يستحق به الثواب أفاد تركاً يستحق عليه العقاب، وهذا لأن خطاب الفاجر عن الأداء بالأداء مستحيل، كما أن خطاب غير الأهل مستحيل، ثم يتوجه خطاب أداء الصلاة على السكران وإن كان عاجزاً عن الأداء، ولكن توجه الخطاب بالأداء لأنه إن لم يفد فعلاً فقد أفاد تركاً حتى يعاقب عليه، وهم يقولون على هذا الخطاب ليس إلا للفعل فلا يجوز تصحيح الخطاب لمعنى يعود إلى ترك الفعل، وفي السكران الخطاب بالفعل صحيح، لأنه ليس فيه إلا بآخر الأداء وبآخر الأداء لا يسقط الخطاب بالأداء. ونحن نقول: إن صحة الخطاب لفائدة، فأما إذا أفاد الخطاب صح الخطاب وقد أفاد على ما بينا. وأما السكران ففي غاية اللزوم. وقولهم: ((إنه لم يفت الأداء في السكران وإنما تأخر)). قلنا: في حالة السكر هو مخاطب بالأداء آخراً يعاقب على تركه. ولا يتصور منه أداء في هذه الحالة، ومع ذلك صح الخطاب بالأداء لما بينا. وقولهم: ((إن الإسلام أصل لا يصلح شرطاً لفرعه)). قلنا: معنى الشرط ما تقف عليه العبادة فسواء وجد معناه في الإسلام الذي هو أصل العبادات أو غيره استقام تسميته شرطاً، ويمكن أن يقال: إن الإسلام أصل فيما يرجع إلى ذاته شرط فيما/ يرجع إلى الصلاة المؤداة بعدها.

والجواب الأول أحسن وأجرى في المعاني. وأما قولهم: ((إنه إذا ارتد بطل الإسلام الذي وجد منه وصار بمنزلة العدم)). قلنا: إلحاق الموجود بالمعدوم لابد فيه من دليل قطعي، وعلى أنه إن جاز أن يقال: إذا ارتد يصير الإسلام الموجود منه بمنزلة المعدوم، يجوز أن يقال: إنه إذا عاد إلى الإسلام تصير الردة الموجودة منه بمنزلة المعدوم، وهذا أحسن، والشرع عليه أدل، والاعتقاد له أقبل. وأما الآية التي تعلقوا بها فقد قال في موضع آخر: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ}. وذلك الآية المطلقة محمولة على هذه المقيدة، ويصير عمله بمنزلة الموقوف إن مات على الردة بطل عمله، وإن عاد إلى الإسلام بقي له عمله. وقد قالوا: هذا في أملاك المرتد أنها موقوفة إن دام على الردة، وإن قتل أو مات زالت أملاكه من وقت الردة، وإن عادة إلى الإسلام جعل ملكه بمنزلة المستمر ولم يزل شيء من أملاكه عن ملكه، كذلك هاهنا. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) يسجد سجدتي السهو عندنا قبل السلام

(مسألة) يسجد سجدتي السهو عندنا قبل السلام. وعندهم: بعد السلام. لنا: حديث الزهري عن الأعرج عن عبد الله بن بحينة أن النبي عليه

السلام قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلا أتم صلاته سجد سجدة السهو فكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسى من الجلوس قال: ((وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف)). وروى أبو سعيد الخدري أن النبي عليه السلام قال: ((إذا شك أحدكم فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم)).

ولهم في المسألة من حيث الأخبار: حديث شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أن النبي عليه السلام صلى الظهر خمساً فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فسجد سجدتين بعد ما سلم)). وروى أيضاً ابن مسعود أن النبي عليه السلام قال: ((إذا شك أحدكم فلم يدر أثلاثاً أم أربعاً فليتحرى أقرب ذلك إلى الصواب ثم ليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين)).

ويدل عليه حديث ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام سجدهما بعد السلام، وهذا في حديث ذي اليدين. ونحن نقول: إن أخبارنا أولى، لأنها ناسخة لغيرها من الأخبار فإنه روى عن الزهري قال: كان آخر الأمرين من النبي عليه السلام فعل سجدتي السهو قبل السلام. وروى يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم أن أبا هريرة،

والسائب القاري كانا يسجدان سجدتي السهو قبل السلام. وأبو هريرة الراوي لخبرهم المشهور المعروف وهو خبر ذي اليدين، دل أنه إنما خالف، لأنه عرف أن خبرهم منسوخ. وقد قال بعض أصحابنا: إن معنى قوله: ((بعد السلام)) أي بعد التشهد ويجوز أن يسمى التشهد سلاماً لاشتماله على السلام، مثل الصلاة تسمى قراءة لاشتمالها على القراءة. والجواب الأول أمثل، ولأن سجدتي السهو جزء من الصلاة فليس فعله قبل السلام دليله سائر الأجزاء، ويمكن أن يقال: سجدة مشروعة لإتمام الصلاة فصارت كالسجدة الأصلية. وإنما قلنا: ((لإتمام الصلاة))، لأنه قائم مقام ما تركه يوجب نقصاناً في الصلاة فيكون فعله إتماماً لها. يدل عليه أن ما أنجبر به الشيء يصير منه بدليل الحسبات، فإذا أنجبر سجدتي السهو الصلاة صارتا من الصلاة، ولهذا المعنى حكموا بالعودة إلى الصلاة عند فعل السجدتين فإذا ثبت أنهما من الصلاة أخر عنهما السلام مثل ما يؤخر عن سائر أفعال الصلاة. وأما حجتهم من حيث المعنى: قالوا: (ما قبل السلام جزء من الصلاة والسهو فيه يوجب سجدتي

السهو لولا السهو الأول فوجب سجود سجدتي السهو عنه دليله ما قبله. وهذا لأن سجدتي السهو يجبان بالسهو فأخرتا عن موضعها، لأنا لا نأمن سهواً آخر بعده فيلزمه مرة أخرى، والموجود يجبر ما قبله لا ما بعده والشرع لم يأت بالتكرار فأخرتا سجدتي السهو ليجبر بهما كل سهو في الصلاة وذلك لا يحصل إلا بالتأخير عن السلام). فصار الحرف/ لهم أن كل جزء يتصور فيه السهو ووجب سجدتا السهو به يجب تأخير السلام عنه لما بينا، ولا يدخل على هذا بعد السلام لأنه لا تجب سجدتا السهو في هذه الحالة. وهذا لأنه لا سهو بعد السلام حقيقة، فإنا إذا قدرنا أنه لا سهو قبله ولا يكون في الصلاة أصلاً، ومع السهو الأول يكون البقاء في الصلاة بسبب السهو لا غير حتى لولاه لكان خارجاً من الصلاة فيكون السهو الثاني إذا قدرنا وجوده بعد السلام حاصلاً فيما هو جبراً لصلاة على التمحص ولا يجب جبر آخر لأنه سهو شرع لجبر الصلاة لا لجبر جبر الصلاة. قالوا: وقولكم: ((إن الجبر شرع في الصلاة)). (فعندما حرمة الصلاة لا تنقطع بالسلام ولا يسجد إلا وهو في الصلاة وإنما قدمنا السلام ليمتاز الجبر عن نفس الصلاة). الجواب: إن قولهم: ((إن ما قبل السلام جزء من الصلاة)) على ما زعموا. قلنا: ما قبل السلام هو زمان فعل سجدتي السهو، وزمان فعل

سجدتي السهو لا يوجب سجود السهو، وهو كما بعد السلام على أصله، فإنه عاد إلى الصلاة عندهم ولا يجب سجود السهو بالسهو الحاصل فيه. فإن قالوا: ((يعود إلى حرمة الصلاة لا إلى الصلاة)). قلنا: مذهبهم هو العود إلى الصلاة، وعلى أنه لا يعرف حرمة الصلاة بلا صلاة، نقول في الفرق بين الجزء الذي قبل السلام وبين سائر الأجزاء: إن في سائر أجزاء الصلاة يمكن تأخير السجود عنها فأخرنا لما ذكروا، وأما الجزء الذي قبل السلام فلا يمكن تأخير السجود عنه، لأنه إذا أخر سلم، وهذا سلام محلل من الصلاة، وإذا فعل في موضعه فيوجب الخروج منها وبعد الخروج من الصلاة لا يتصور جبر الصلاة، ولا يمكن أن يقال إنه يعود إلى الصلاة بالسجود، لأن الخروج من الصلاة إذا تحقق بالسلام المشروع للتحلل لا يتصور العود إليها إلا بتحريمة جديدة واستئناف الصلاة. فثبت أن في سائر الأجزاء يمكن التأخير، وفي هذا الجزء لا يمكن التأخير لما بينا. وسقط قولهم: ((إنه وقت السهو)) لأنهم إن قالوا: قبل أن يسجد، فذاك زمان لا سجود فيه فهو كسائر أزمان الصلاة، فإن قالوا: بعد أن سجد، فهو ليس بزمان السهو، إنما هو زمان سجود السهو، وزمان سجود السهو لا يكون زمان السهو، مثل قولهم ذلك فيما بعد السلام، ثم الدليل على الفرق بين سائر الأجزاء وبين هذا الجزء وعلى الأصلين. أما على أصلنا فظاهر، وأما على أصلكم فلأنه لو سجد قبيل السلام فإنه يقع به الاعتداد وإن لم يسن فعله، وأما إذا سجد في سائر أزمان الصلاة قبل هذا الزمان فإنه لا يقع به الاعتداد، فتبين الفرق بين الحالين، وسقط ما قالوه جملة)). * * *

(مسألة) محاذاة الرجل المرأة في صلاة الجماعة لا يوجب بطلان صلاة واحد منهما

(مسألة) محاذاة الرجل المرأة في صلاة الجماعة لا يوجب بطلان صلاة واحد منهما عندنا. وعندهم: تبطل صلاة الرجل. لنا: إن الرجل متابع وقف في موقف المتابعة فلا تفسد صلاته. دليله سائر المتابعين، يبينه أن نهاية ما في الباب أنه مسيء في موقفه بجنب المرأة، والإساءة في الموقف لا توجب بطلان الصلاة. دليله إذا انفرد خلف الصف، ودليله إذا وقف الرجل على يسار الإمام. ودليله: إذا ترك القوم الاصطفاف في الصلاة خلف الإمام بأن قام كل منفرداً أو قاموا بجنب الإمام صفاً.

والحرف أنه لا مفسد لصلاة الرجل، والإفساد بغير مفسد محال. أما حجتهم: قالوا: إن الرجل ترك فرضاً عليه في الموقف فلم تجز صلاته. دليله: إذا تقدم على الإمام، وإنما قلنا: ((ترك فرضاً عليه في الموقف)) لأنه فرض عليه تأخير المرأة عن موقفه، لقوله عليه السلام ((أخروهن من حيث أخرهن الله)). وكلمة ((حيث)) للمكان، والأمر للوجوب ولا ترتيب يجب .... المكان بين الرجل والمرأة سوى مكان الصلاة. ولأن النبي عليه السلام قال: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)).

والاحتراز من الشر واجب يدل عليه الحديث الصحيح: أن النبي عليه السلام ((صلى فأقام أنس وراءه واليتيم وراءه وأقام أم سليم وراءهما)). وإنما قدم الصبي وأخر العجوز .... / كراهية الانفراد خلف الصف، لأنه كان محظوراً وقوفها بجنب الرجل فاختار الكراهية على الحظر، ولأن النساء إتباع الرجل في حكم الجماعة، ولهذا لا تجوز إمامتها بحال، فورد الشرع بالترتيب مكاناً بين التبع والمتبوع، كما ورد بين الإمام والمؤتم، ثم لو ترك المؤتم مكانه بأن تقدم على إمامه فسدت صلاته، كذلك إذا ترك الترتيب هاهنا أيضاً. وإنما اختص الرجل بفساد صلاته، لأنه هو المخاطب بهذا الترتيب لما بينا من الخبر، ولأن الرجال هم القوامون بإقامة الجماعات وتسوية الصفوف، وإذا كان الخطاب للرجال دون النساء اختص الفساد بصلاة الرجل. قالوا: وإنما اعتبره تقديم المؤتم على إمامه لتفسد صلاته، وفسد في مسألتنا بمجرد المحاذاة، لأن المواقف ثلاثة قدام، وخلف وحذاء، فقدام موقف المتبوع، وخلف موقف التبع، وحذاء وسط بين موقف المتبوع

وموقف التبع، فإذا كان مؤتماً وقف بجنب الإمام وهو موقف متمثل بين الجانبين فرجحنا موقف الخلف على موقف القدام في حقه بفعله المتابعة وهو فعل التتابع، ولم يكن في مسألتنا مثل هذا المرجح إذا وقف الرجل بجنب المرأة فاعتبرنا معنى آخر، وهو معنى الاحتياط للعبادة فإن الأصل ألا صلاة وإنما توجد الصلاة لموقف بترتيب ولم يوجد فبطل أصل الصلاة. قالوا: وليس يلزم صلاة الجنازة، لأنا إنما ادعينا ثبوت هذا الترتيب في كل صلاة ورد للنساء فيها موقف بالشرع، وإنما ورد في الصلوات الخمسة. فأما في صلاة الجنازة فلا، لأن النبي عليه السلام قال لنسوة وقد رآهن في جنازة: ((ارجعن مأزورات غير مأجورات))، فلم يأمرهن بالصلاة وأمرهن بالرجوع، دل أنه لا موقف لهن فيها. واعتذر أبو زيد عن صلاة الجنازات بشبه الصلوات الخمسة من وجه، لأنها صلاة في الجملة، وبشبه سجود التلاوة من وجه، لأنها ركن واحد وهو القيام مثل سجود التلاوة وهو ركن واحد وهو السجود، والمرأة تصلح إماماً في سجود التلاوة، مثل ما لو قرأت فسجدت سجد القوم السامعون معها، والثاني بمنزلة الإمام للسامعين، فلما أن صلاة الجنازة تشبه الصلوات الخمسة. قلنا: إنها لا تصلح إماماً فيها، ولما أنها تشبه سجود التلاوة. قلنا: إذا وقفت المرأة بجنب الرجل لم تفسد عليه صلاته فهذا منتهى ما قالوا في هذه المسألة.

الجواب: إن كلامهم ينبني على أن تأخير المرأة عن مقام الرجل في الصلاة واجب على الرجال، وهذا لا نسلمه بل هو عندنا سنة. لأن الرجال إنما قدموا على النساء لفضلهم، والنساء إنما أخرن لنقصانهن فليس في ترك هذا إلا ترك تأخير فاضل وتقديم ناقص أو تسوية بين فاضل وناقص في الموقف وهذا غاية ما فيه الكراهة ولا يتعدى إلى التحريم والحظرية بدليل قوله عليه السلام: ((ليليني منكم ذوو الأحلام والنهى)). وإنما قدمهم لفضلهم وأحر غيرهم لنقصانهم ثم كان هذا أمراً مستحباً لا حتماً واجباً، كذلك هاهنا. وأما تقدم المأموم فإنما لم يجز، لأنه لم يقف موقف المأموم المتبع. وفي مسألتنا قد وقف كل واحد منهما موقف المأموم المتبع لإمامه فلا معنى لمنع الجواز. وقولهم: ((إن النساء تبع الرجال)). قلنا: هذا غير مستنكر، ولكن على معنى أنه لا يجوز إمامتهن

للرجال والمشروع إمامة الرجال لهن وقد قمنا بهذا الواجب حيث قلنا إنه لا تجوز إمامتهن للرجال بحال. فأما في مسألتنا فإن المرأة قامت مقام الإتباع، لأنها إن قامت بجنب واحد من المؤتمين فهذا لا يذهب تبعية المأموم للإمام وهو رجل، وإن قامت بجنب الإمام فهي متابعة للرجل بفعل الصلاة ولا تذهب تبعيتها أيضاً. وأما كونهن إتباعاً للرجل الذين هم أتباع الإمام، والتبع لا تبع له إلا أنه كره لهن الوقوف مع الرجال على المساواة لفضل الرجال ونقصان النساء فهذا لا يوجب فساد الصلاة لو ترك، بدليل ما ذكرنا من ذوى الأحلام والسفهاء والنهي. أما قولهم: ((أنه لا يجوز إمامتهن)). قلنا: هذا لا يدل على أنها إذا وقفت بجنب الرجل فسدت صلاته بدليل أن/ إمامة المرأة في صلاة الجنازة لا تجوز. ولو وقفت بجنب الرجل لا تفسد صلاته، ثم إنها لم تجز لأنها ناقصة الدين والصلاة ركن الدين، والجماعة لإحراز الثواب والفضيلة فلم يجز إحراز الثواب والفضيلة في الدين من ناقصة الدين، وبيان نقصان الدين بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإن ألزموا العبد والصبي فلا نقصان ديناً هنا ك، وهاهنا ثابت بالنص، ولابد من اعتقاد وجوده عقلنا معناه أو لم نعقل. وأما عذرهم عن صلاة الجنازة ففي غاية الضعف، لأن النساء لهن من الحظ في صلاة الجنازة ما لهن ذلك في سائر الصلوات. ألا ترى أنه يجوز لهن فعلها مع الرجال مثل ما يجوز في سائر الصلوات.

والخبر محمول على أنهن كن حضرن لا للصلاة، وعلى أنه إذا لم يكن لهن نصيب في صلاة الجنازة، فيكون الفساد بالمحاذاة أولى منه إذا كان لهن نصيب. وأما الذي قاله أبو زيد أنه يشبه كذا وكذا فهذا عذر عاجز ملتزم للمناقضة، لأنا نعلم قطعاً أنه لا إمامة ولا جماعة في سجود التلاوة. والله أعلم. * * *

(مسألة) إذا صلى الرجل بقوم ثم أخبر أنه كان جنبا أو محدثا لزمته إعادة الصلاة

(مسألة) إذا صلى الرجل بقوم ثم أخبر أنه كان جنباً أو محدثاً لزمته إعادة الصلاة. وأما القوم فقد مضت صلاتهم على الصحة ولا إعادة عليهم عندنا. وعندهم: عليهم الإعادة. لنا: حديث ابن أبي عروية عن قتادة عن أنس قال: ((دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته كبر وكبرنا معه ثم أشار إلى القوم: كما أنتم، فلم نزل قياماً حتى أتى نبي الله عليه السلام قد اغتسل ورأسه يقطر ماء)).

وروى ثوبان عن أبي هريرة قريباً من هذا وفيه: ((ثم خرج ورأسه يقطر ماء فصلى بهم، فلما انصرف قال: ((إني كنت جنباً فنسيت أن أغتسل)). وروى جويبر عن الضحاك عن البراء بن عازب قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس هو على وضوء فتمت للقوم وأعاد النبي عليه السلام)). وأما الذي يروون أن النبي عليه السلام صلى بالناس وهو جنب فأعاد وأعادوا)).

فرواه أبو جابر البياضي عن سعيد بن المسيب أن النبي عليه السلام صلى بالناس، وأبو جابر البياضي متروك ثم هو مرسل. قالوا: ((روى عن علي رضي الله عنه أنه صلى بالقوم وهو جنب فأعاد ثم أمرهم فأعادوا)). قلنا: رواه عمرو بن خالد عن حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة عن علي. وعمرو بن خالد أبو خالد الواسطي متروك الحديث، رماه أحمد بن حنبل بالكذب وقد روى ابن المنكدر عن الشريد الثقفي أن

عمر صلى بالناس وهو جنب فأعاد، ولم يأمره أن يعيدوا. وكذلك روى الحرث بن أبي ضرار عن عثمان مثل هذا، وعن ابن عمر مثل ذلك. ومن حيث المعنى نقول: إن كل واحد من القوم مصلى لنفسه مؤدى فرضه مثل ما لو كان منفرداً وصلاته غير متعلقة بصلاة الإمام في الجواز والفساد. لأن الأصل أن الاثنين إذا اجتمعا على أداء فريضة لا يتعلق أداء أحدهما بأداء الآخر بل إن جاز فعل كل واحد منهما بجواز فعله وإن فسد ففساده بفعله، لأن الفرض عليه على الإنفراد، ولا يجوز أن يؤاخذ في فعله بفعل غيره. وأما الاقتداء فهو مجرد قصد إتباع في الفعل لتجتمع الجماعة على أداء هذا الفرض فيكون أقرب إلى الخشوع والخضوع، وأبعد من السهو والغفلة وأدنى من المغفرة والرحمة. وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: نهاية ما في هذا الباب أنه يظهر أنه قصد إتباع من ليس في الصلاة في أفعال الصلاة ومجرد القصد غير عامل في إفساد الصلاة، كما لو قصد الكلام ولم يتكلم أو قصد فعلاً آخر ولم يفعله، فنجعل إقتداؤه به كلاً إقتداء ويبقى فرضه مؤدى بأفعاله المفروضة، وأركانها المعهودة، لكن يصير كأنه أدى لا في جماعة لكن على الإنفراد.

وقد قال الأصحاب في هذه المسألة إنه لا يمكن الوقوف على طهارة الإمام ألا بعرضه للإمامة، فإن نهاية ما في الباب أن يتوضأ بمشهد لكن مع هذا يجوز أنه غير متطهر حتى افتتح الصلاة بأن أحدث وأخفاه وإذا تعذر الوقوف على طهارة الإمام إلا بهذا الوجه سقط ما وراءه. وقال بعضهم: إن خبره عن جنابته وحدثه غير مقبول، لأنه يحتمل الصدق والكذب ولأنه مهتم في خبره فيجوز أنه قصد به إفساد صلاة القوم. وكلا المعنيين/ فاسد، لأن في كلا الطريقتين أن صحة صلاة القوم مبنية على صحة صلاة الإمام، وإنما لم نأمر القوم بإعادة الصلاة في مسألتنا، لأنا بينا أن الإمام صلى على طهارة، والمؤتم قد اعتمد في معرفة طهارته بغاية ما يمكن الاعتماد عليه وسقط عنه ما وراء ذلك. وفي الطريق الثاني: أنه لم يصدقه إن كان جنباً أو على وضوء. وحملنا الأمر على أنه قد صلى بالطهارة. وينبغي على مذهب الشافعي أن يسلك طريقة يدل على أن الإمام وإن لم تصح صلاته يكون جنباً أو محدثاً فإن صلاة القوم صحيحة، وأن هذا هو مذهبه وأصله وليس يمكن ذلك إلا بالوجه الذي قلنا، فافهم هذا فإنه خفي على كبار الأصحاب. وأما المخالفون قد زعموا أن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام صحة وفساداً، وهذا يأتي في المسألة الثانية، وسنبين الكلام عليه. وقد قاسوا على ما إذا ظهر أن الإمام كان كافراً أو امرأة أو علم أن الإمام جنب فإنه يجب على المأمومين أن يعيدوا الصلاة ونقضوا قولنا أن كل إنسان من القوم مصلى لنفسه بهذه المسائل، وقد قالوا لو كان الأمر على ما قلتم لم تبطل المؤتمين في هذه المسائل.

الجواب: أما إذا ظهر أن الإمام كان كافراً أو امرأة أو علم أن الإمام جنب فإنما بطلت صلاتهم لتفريطهم وتقصيرهم، فإن الغالب أنه يكون للكافر علامة على الكفر، وللمرأة هيئة على أنوثتها فيعرفان بذلك حقيقة، فإذا لم يتعرف وصلى كان لتقصير وجد من قبله حتى قالوا فيمن يعتقد الاستمرار بكفره فظهر ذلك من بعد: لا يبطل صلاة القوم. فإن قلتم: قد يوجد الكافر ولا علامة له، وكذلك المرأة ولا علاقة لها فهذا نادر ولا يعتبر النادر. وأما إذا علم أن الإمام جنب فإنما بطلت صلاته لبطلان نيته للصلاة، فإنه إذا علم أن الإمام لاعب فإتباع اللاعب لعب حقيقة، فبطلت نيته للصلاة بهذا الوجه وفي مسألتنا قد ظن أن الإمام مصلى حقيقة فلم تبطل نيته، وهو مصلى لنفسه كما بينا، والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل

(مسألة) يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل عندنا. وعندهم: لا يجوز. وكذلك إذا اختلف فرض الإمام والمؤتم بأن اقتدى مؤدى الظهر بمؤدي العصر.

لنا: ((إن معاذاً رضي الله عنه كان يصلي مع النبي عليه السلام صلاة العشاء ثم يعود فيؤم قومه))، والخبر ثابت، وهو برواية جابر. وفي رواية: ((فيكون له تطوعاً ولهم مكتوبة)). فإن قالوا: ليس معناه أن النبي عليه السلام علم بذلك وأقره عليه. قلنا: مثل معاذ في فقهه وعلو منزلته في الدين لا يقدم على مثل هذا إلا بعلم من النبي عليه السلام. وقد ثبت علم النبي عليه السلام بذلك في الخبر المشهور وهو افتتاحه سورة البقرة في العشاء الآخرة، وانفراد الأنصاري ثم قول النبي عليه السلام لمعاذ: ((أفتان أنت يا معاذ؟ أين أنت عن سورة كذا وسورة كذا)). ولا سؤال لهم على الخبر أصلاً.

وأما المعنى فنقول: كل واحد من المؤتمين يصلي لنفسه مؤدي فرضه بفعله، وقد بينا أن فوات صلاة الإمام أصلاً لا يوجب فساد صلاة المؤتم، وذلك بأن كان جنباً أو محدثاً ففوات صفة صلاته من الفرضية لا يوجب فوات هذه الصفة من صلاة المقتدي أيضاً. وهذا لأن كل واحد من القوم لما كان مصلياً لنفسه مؤدياً فرضه بفعله لم تتعلق بصلاة الإمام، فنقول: من لا تتعلق صلاته بصلاة غيره فنفل غيره لا يمنع أداء فرضه. دليله الإمام مع المؤتم. وأما الدليل على عدم التعلق أن الوارد في الشرع هو فعل الجماعة، وفعل الجماعة يوجب الاجتماع على أداء الصلاة، واقتداء المؤتم يوجب متابعة الإمام في الأفعال الظاهرة، فإذا اجتمع القوم على فعل الصلاة ووجدت المتابعة من المؤتم في الأفعال الظاهرة فقد تمت الجماعة. ثم الاقتداء والإتباع فعل كل واحد من القوم فيما وراء هذا كمنفرد بالصلاة فيؤدي على حسب ما يختاره وما ينوبه وهو مثل الإمام فإنه متبوع في الأفعال الظاهرة فإذا تمت المتبوعية بوجود صورة الأفعال منه على ما تبعه فيها المقتدي به كان فيما وراء ذلك بمنزلة منفرد بالصلاة يؤدي صلاة على حسب اختياره ونيته، كذلك هاهنا.

وقد حرر الأصحاب وقالوا: صلاتان اتفقتا في الأفعال الظاهرة فيجوز لمن يقيم أحدهما أن يقتدي/ بمن يقيم الأخرى. دليله المتنفل خلف المفترض. أما حجتهم: قالوا: الاقتداء يوجب ابتناء صلاة المؤتم على صلاة الإمام حتى تصير الصلاتان كصلاة واحدة جوازاً وفساداً. (والدليل عليه قوله عليه السلام: ((الإمام ضامن)) أي ضامن صلاته صلاة المؤتم، وضمانه صلاته بصلاته هو أن صلاته صارت في ضمن صلاته، ولأن الإتباع واجب وإنما يوجب الإتباع تتعلق صلاته بصلاته، وهو أن صلاته صارت في ضمن صلاته) ولولا ذلك وإلا لم يجب الإتباع، وجاز للمؤتم أن ينفرد بصلاته عن صلاة الإمام متى شاء. وحين أجمعنا على أنه لا يجوز أن ينفرد بصلاته عن صلاة الإمام، عرفنا أنه إنما لم يجز، لأنه ارتبط صلاته بصلاة الإمام جوازاً وفساداً. ويدل عليه أن الواجبات على المنفرد تتغير بالاقتداء، بدليل أنه على أي حال أدركه وجب عليه المتابعة، ولم يجز له أن يفعل ما يوجبه الإفراد أو ما هو واجب الصلاة في الأصل ولو كان على ما زعمتم من قولكم إن كل واحد مصلي لنفسه وجب أن يفعل الصلاة على ما هو المشروع في الأصل، وأيضاً فإن الإمام إذا سها يجب على القوم أن يسجدوا لسهوه ولو لم يسجد الإمام سجد القوم عندكم، ولو سها المؤتم لم يجب عليه شيء.

وإذا ثبت الإبتناء الذي ادعيناه ثبت أن الصلاتين قد صارتا كصلاة واحدة، فكل تحريمه يجوز له أن يبتنى عليها صلاته لنفسه يجوز أن يبتنى غيره عليها تلك الصلاة، وكل تحريمه لا تجوز له أن يبتنى عليها صلاته لنفسه لا يجوز لغيره أيضاً أن يبنيهما عليها، ومعلوم أن تحريمة النفل إذا وجدت من الإمام لا يجوز أن يبني عليها صلاة الفرض لنفسه، وكذلك المؤتم أن يبني عليها هذه الصلاة. قالوا: ويخرج على هذا المتنقل خلف المفترض، لأن الإمام يجوز له أن يبني صلاة النفل على تحريمة الفرض، فكذلك جاز من المؤتم ذلك. وقد تعلق كثير منهم بالجمعة، وقالوا: أجمعنا على أن الإمام لو كان يؤدي النفل في الجمعة لم يجز اقتداء القوم به. فكذلك في غير الجمعة، وهذا لأن نهاية ما في الباب أن الجماعة واجبة في الجمعة، وسنة في غيرها من الصلوات ولكن لا اختلاف في نفس الجماعة. وقد بينتم أنها للإجماع على فعل الصلاة والاقتداء في الأفعال الظاهرة. وقد وجد هذا في مسألة الجمعة، وإن كان الإمام متنفلاً مثل ما وجد في مسألتنا ومع ذلك لا يجوز، وكذلك أوردوا الجمعة في المسألة الأولى فإنه لو ظهر أن الإمام جنب أو محدث لم تجز الجمعة القوم. الجواب: دعواهم أن صلاة القوم تتبنى على صلاة الإمام حتى تصير الصلاتان بمنزلة الصلاة الواحدة جوازاً وفساداً.

لا نسلم ذلك على ما بينا من قبل. وأما الخبر فمعناه أن الإمام ضامن إكمال صلاة القوم بحكم المتبوعية ولأجل هذا الضمان إذا أكمل فله الأجر لصلاته وصلاة القوم، وإذا نقض فعليه الوزر لصلاته وصلاة القوم. وأما دخول صلاة المؤتم في ضمن صلاة الإمام فلا يعرف. وأما قولهم: ((إنه وجب الإتباع)). قلنا: وجوب الإتباع بحكم نية الإقتداء أو لأنه إمام وهذا مؤتم، ومن قضية كونه مؤتماً إتباعه إياه في أفعاله، وهذا هو المتابعة في الأفعال الظاهرة. فأما الإقتداء والإتباع في النية فغير متصور، لأنه أمر في باطن القلب فكيف يوجد فيه المتابعة ثم الإتباع في الأفعال الظاهرة. فأما الإقتداء والإتباع في النية فغير متصور، لأنه أمر في باطن القلب فكيف يوجد فيه المتابعة ثم الإتباع في الأفعال الظاهرة لتحصل الجماعة المشروعة ويتحقق الإقتداء والإتمام، وإذا حصل هذا فما وراء ذلك فكل وشأنه وكل امرئ ونيته. وقولهم: ((إنه تتغير الواجبات بالإقتداء)). قلنا: أما أصل الواجبات فلا تتغير بالإقتداء منه شيء وإنما وجب المتابعة في بعض أفعاله بسبب الإقتداء أو الإئتمام مع بقاء الواجب عليه في أصل الصلاة على ما كان من قبل من غير أن يتغير منه شيء. أما سجود السهو. قلنا: إذا سها الإمام وجب السجود على القوم بحكم المتابعة وإن لم يسجد الإمام لم يجب على القوم، وإذا سها واحد من القوم لم يجز له أن يسجد، لأنه يؤدي إلى الخلاف في الأفعال الظاهرة، ويمكن أن يقال: إن الجماعة لإحراز فضيلة الجماعة وعلى هذا نص النبي عليه السلام فقال: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين

درجة)) فإذا وجدت الجماعة في الظاهر حصلت فضيلة الجماعة وحصل المقصود/ والمطلوب فصار صلاتهما وإن اختلفا في صفة الفرضية والنفلية كصلاتهما إذا اتفقنا في الفرضية والنفلية. فأما في مسألة سهو القوم: فإنما يسقط عنهم سجود السهو لأنه مشروع لجبر النقصان الداخل في الصلاة، وقد أنجبر النقصان بفضيلة الجماعة فصار كما لو سجدوا. وأما مسألة الجمعة فقد منعت، وعلى التسليم وهي ظاهر المذهب نقول: إن الجماعة فرض الجمعة، وإنما صارت مفروضة لأجل الجمعة وإذا كان الإمام متنفلاً فلا جماعة في الجمعة، وإنما الجماعة في أصل الصلاة، وشرط الجماعة لم يكن لأجل الصلاة فصاروا بمنزلة المنفردين فيما شرعت الجماعة لأجلها فلم يجز. وهم يقولون: قد صاروا هاهنا أيضاً بمنزلة المنفردين في صلاة الظهر، والجماعة مسننة فيها كما أن هناك مفروضة في الجمعة، وربما يقولون: النية ركن الصلاة لا إمام له فيها فصار بمنزلة

الركوع والسجود، وكذلك إذا صلى صلاة من الصلوات الخمس مقتدياً بمن يصلي صلاة الجنازة. قلنا: كذلك نقول له في فضيلة الجماعة في أصل الصلاة ولا فضيلة له في جماعة الظهر إلا أن فوات ذلك لا يبطل الصلاة بخلاف الجمعة فإن فوات الجمعة مبطل لها، ونحن نقول: إنما يحرز فضيلة الجماعة في أصل الصلاة وصفتها إذا اتفقا على أصل الصلاة، واتفقا في صفتها هذا غاية ما يمكن الجواب عن الجمعة وإن منعنا فقد وقع الخلاص. وقولهم: ((إنه لا إمام له في النية)). قلنا: وإذا كان الإمام مفترضاً والمؤتم متنفلاً فلا إمام له في النفل أيضاً، لأن النفل ضد الفرض ومع ذلك جاز. وعلى أنا بينا أن المعتبر وجود الإمام في الأفعال الظاهرة، وبما ذكرنا من الجواب يجاب عن فصل الجمعة في المسألة الأولى .. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) إذا صلى الكافر في جماعة لم يحكم بإسلامه

(مسألة) إذا صلى الكافر في جماعة لم يحكم بإسلامه عندنا. وعندهم: يحكم بإسلامه. لنا: إنه لم يأت بالإسلام فلا يصير مسلماً، والدليل على أنه لم يأت بالإسلام أن الإسلام المأمور به هو كلمة الشهادتين بدليل خبر جبريل أنه سأل النبي عليه السلام عن الإسلام فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ...) الخبر.

وقال أيضاً عليه السلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ....)) الخبر. وقد قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي شرك. وقال الله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}، فدل أن هذا هو الإسلام المدعو إليه وهو لم يأت به، ويقال أيضاً: إن الإسلام هو الإقرار باللسان والاعتقاد بالقلب وتمامه بالأعمال .. ولم يوجد.

وقيل: إن الأصل هو الاعتقاد بالقلب واللسان مترجم عنه، ولم يوجد الأصل ولا الترجمة، وإنما غاية ما في الباب أن فعله الصلاة بالجماعة. يدل على أنه يعتقد الصلاة جماعة، ولو صرح بهذا الاعتقاد لم يكن مسلماً فإذا جاء بما يدل عليه لم يكن مسلماً أيضاً. أما حجتهم: تعلقوا بما روى أن النبي عليه السلام قال: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله مالنا وعليه ما علينا)). وروى بعضهم أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى صلاتنا فهو منا)). ولأنه أتى بما يدل على الإسلام فيصير مسلماً. دليله إذا أتى بالشهادتين، والدليل على أنه دليل الإسلام ما روى في بعض الأخبار: ((إذا رأيتم الرجل ملازماً للجماعة فاشهدوا له بالإيمان)). ولأن الصلاة بالجماعة شرع مختص بدين الإسلام ففعله يدل على قبول الإسلام كالشهادتين. يبينه أن الأصل هو الاعتقاد، وقول الشهادتين دليل عليه، فكذلك فعل الصلاة جماعة دليل عليه، ولأن الكفر يثبت بفعل يدل عليه وهو إذا سجد بين يدي الصنم، فكذلك الإسلام يثبت بدليل يدل عليه.

قالوا: وأما إذا صلى وحده فيجوز أن يقال إنه يصير مسلماً. وربما رووا ذلك عن محمد بن الحسن، وعلى أنه ليس بشرع مختص بالإسلام لأن كل أهل الأديان يصلون، وكذلك الصوم والاعتكاف. وأما الحج فقد كان أهل الجاهلية يحجون، ويدعون أن حجهم على ملة إبراهيم عليه السلام، وقد قال بعضهم: إنه لو حج على ما يحج أهل الإسلام يصير مسلماً. الجواب: أما قولهم: ((إنه أتى بدليل الإسلام)). قلنا: لا نسلم لأنه لم يوجد منه إلا فعل شرع في الإسلام، وفعل شرع في الإسلام لا يكون دليلاً على الإسلام بدليل سائر الشرائع، لأنه لا يدل على قبول الإسلام من حيث الاستدلال، ويحتمل غيره، لأنه يجوز/ أن فعله عابثاً أو حاكياً، وما يشبه ذلك. والجملة أنه لابد من الإتيان بشيء لا يدل إلا على الإسلام، وذلك بالشهادتين فإنه لا يحتمل سوى الإسلام بدليل النص، ثم نقول أن الكافر مدعو إلى حقيقة فعل الإسلام فما لم يأت به حقيقة لا يحكم له بالإسلام، وقد بينا أن حقيقة الإسلام ماذا. ويمكن أن يقال أيضاً أن الإسلام يشتمل على الالتزام العام وذلك بالتزام الشرائع فلابد من وجود دليل على هذا الالتزام، وذلك بالشهادتين، ولأن الشهادة بقوله: ((لا إله إلا الله)) اعتراف بالصانع ووحدانيته، واعتراف بجميع صفاته من حيث الدليل، ودليل أيضاً على الاعتراف بتنزهه وتقدسه عن سمات الحدث والنقص. وقوله: ((محمد رسول الله)) التزام للشرائع أجمع، ولا توجد كلمتان تدلان على مثل ما تدل عليه هاتان الكلمتان.

فأما فعل صلاة الجماعة فنهاية ما في الباب أنه يدل على اعتقاده فضل الجماعة وأنها مشروعة مسنونة، ولو قال هذا لم يصر مسلماً، كذلك إذا فعله. ولأنه لا يدل على الالتزام العام بحال والإسلام ما يدل على ذلك. وأما تعلقهم بدليل الكفر من حيث الفعل. قلنا: الكفر أسرع ثبوتاً من الإسلام، ولهذا لو جحد شرعاً واحداً يكفر ولو التزم شرعاً واحداً من الشرائع لم يصر مسلماً، ولأن قبول الصلاة جماعة لا يدل على الالتزام الذي يحل به الإسلام. والله أعلم. * * *

(مسألة) عندنا الإيتار بركعة جائز

(مسألة) عندنا الإيتار بركعة جائز، وعندهم: لا يجوز، وسموا هذه المسألة مسألة المبتورة. لنا: أنه قد ثبت الإيتار بركعة فعلاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقولاً بالأمر به. أما الفعل فحديث أنس بن سيرين عن ابن عمر قال: ((كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل مثنى مثنى ويوتر بركعة))، وهذا في الصحيحين.

وروت عائشة أيضاً أن النبي عليه السلام أوتر بركعة. ورواه أيضاً سعد بن أبي وقاص، قال قيس بن أبي حازم: رأيت سعداً أوتر بركعة فسألته عن ذلك فقال: رأيت النبي عليه السلام يوتر بركعة.

وروى فعل الوتر ركعة عن النبي عليه السلام سوى هؤلاء: جابر، وابن عباس والفضل بن عباس، وأبو أيوب. وأما القول فالخبر الصحيح المقبول عند جميع الأئمة قول - صلى الله عليه وسلم - برواية ابن عمر وغيره: ((صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة)). وروى أيوب أن النبي عليه السلام قال: ((من أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل)). ولا مزيد على القول والفعل من النبي عليه السلام.

وأما حجتهم: رووا بطريق أبي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يوتر بثلاث. قالوا: وكذلك رواه أبو إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي عليه السلام. قالوا: ورواه أيضاً عمران بن حصين وعائشة وابن عباس. وروا أن النبي عليه السلام نهى عن البتيراء، والبتيراء هي الوتر بركعة.

وروى ابن مسعود عن النبي عليه السلام أنه قال: ((وتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب)). قالوا: وروى ابن عمران النبي عليه السلام نهى عن السلام على الركعتين في الوتر)). الجواب: إن أخبارنا أخبار صحيحة، وأما أخباركم أخبار معلومة. فإن خبر أبي بن كعب، رواه ابن أبزي عن أبي بن كعب، ورواه ابن أبزي مرة عن النبي عليه السلام مرسلاً من غير ذكر أبي بن كعب، وهذا ويجب ضعف الرواية.

وأما حديث علي رواه أبو إسحاق عن الحارث عن علي، وهذا الحارث هو الحارث الأعور، ورماه الشعبي بالكذب وغيره. وأما الذي رووا عن النبي عليه السلام نهى عن البتيراء، فرواه محمد بن كعب القرظي عن النبي عليه السلام فيكون مرسلاً. وقد روى عن ابن عمر أنه قال: البتيراء أن تصلي بركوع وسجود ناقص. وأما الذي رووا عن ابن مسعود فمداره في رفعه علي ابن أبي الحواجب يحيي بن زكريا، وهو ضعيف .. ذكره الدارقطني.

وقد روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: ((لا توتروا بثلاث أوتروا بسبع أو خمس ولا تشبهوا بصلاة المغرب)). وإما الذي رووا أنه نهى عليه السلام في الركعتين فلا يعرف، وكيف يصح برواية ابن عمر هذا؟ وقد ثبت أن ابن عمر كان يسلم على الركعتين، حتى روى أنه كان يأمر ببعض حاجته ثم يصلي ركعة. وعلى أن الإيتار بثلاث أن ثبت عن النبي عليه السلام فيحتمل أنه عليه السلام كان يسلم على الركعتين بدليل ما/ بينا قولاً وفعلاً أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتر بركعة وأمر به، فلا يستقيم الجمع بين الأخبار إلا إذا حملنا على هذا الوجه. فإن رووا أنه عليه السلام ((كان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن)).

فهذه زيادة لا تعرف، وإنما المنقول أنه كان يوتر بثلاث مطلقاً ويحتمل ما قلنا. وقد رووا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ((ما أجزت ركعة قط)). قلنا: قد ثبت عن جماعة كثيرة من الصحابة أنهم كانوا يوترون بركعة منهم: عثمان، وسعد بن أبي وقاس، وابن عمر، وابن عباس، ومعاوية، وغيرهم. فقول ابن مسعود لا يقدح في هذه الأقوال. وعلى أنه قيل: إنما قال هذا رداً على ابن عباس حيث قال: إن صلاة الصبح في السفر تعود إلى ركعة، والمسألة خبرية. وقد قال المخالفون سلوكاً لطريق المعنى: إن التنقل بركعة لا يجوز بحال، دل أنها ليست بصلاة، ولأن الصبح بالسفر لا يرد إلى الشطر مع أن السفر مشطر، وإنما لم يرد لأن الركعة لا تكون صلاة، فلو رد إلى الشطر لكان إعداماً والسفر ليس بمعدم للصلاة. قالوا: أيضاً: إن الركعة الواحدة لو كانت صلاة لورد الشرع بينها وبين

الركعة الثانية بجلسة ذات تشهد- مثل الركعتين- والركعتين، ليقع الفصل بين ما هو أصل الصلاة وبين ما هو زيادة عليها. والجواب: إن هذه كلمات ضعيفة، ونحن قد اعتمدنا على السنة، ولا حاجة بالسنة إلى علاوة من التمسك بقياس ضعيف أو معنى غير مخيل. وإن تكلمنا في المعنى فكلامنا يكون أظهر، لأن الركعة الواحدة اشتملت على جميع أفعال الصلاة، والصلاة إنما صارت بمجموع أفعال يؤتي بها على شرائط مخصوصة، فما يشتمل على تلك الأفعال يكون صلاة صحيحة، والركعة الواحدة قد اشتملت عليها. وأما الثانية إعادة لها فلم تقف صحتها على إعادتها، كما لا تقف على إعادتها بثالثة ورابعة، وهذا لا معنى في نهاية الحسن. وأما قولهم: ((إن التنفل بركعة لا يجوز)). قلنا: يجوز. فإن قالوا: لم يرد الفرض بركعة. قلنا: ولم إذا لم يرد الفرض بركعة ما يدل على أن الركعة لا تكون صلاة، وهذا لأن التنفل باختيار العبد، والفرض بإيجاب الشرع، والأصل أن ما يختاره العبد فقدره متعلق باختياره، وأما ما أوجبه الشرع فقدره بحسب ما ورد به الشرع. وقد قالوا: إن التنفل بثمان ركعات وزيادة يجوز بتسليمة واحدة ولم يرد الشرع بمثل هذا بحال.

أما قولهم: ((إن صلاة الصبح لا تتشطر بالسفر)). قلنا: هذا بناء على ما ذكرنا، وهو أن الفرض لم يرد بركعة واحدة بحال، والسفر يعمل في تشطير الفرض فلم يعمل في الرد إلى ما لم يرد المفروض بمثله بحال. وقد ذكرنا الفرق بين الفرض والنفل، وعلى أن عندهم أن الفرض كان في الأصل ركعتين فزيد في الحضر وأقر في السفر على ما كان في الأصل على ما يذكرونه في المسالة الثانية، فكيف يستقيم على هذا الأصل التشطير؟ وأما قولهم: ((إن الشرع لم يرد بالفصل بين الركعة والركعة بجلسة)). وقلنا: وقد ورد بين الركعتين والركعة في المغرب فهذا يدل إذن على أن الركعة صحيحة فدل أن ما قالوه تعلق باطل. والله أعلم. * * *

(مسألة) القصر عندنا: رخصة، وعندهم: عزيمة

(مسألة) القصر عندنا: رخصة، وعندهم: عزيمة. قالوا: لا يجوز الإتمام بحال ولو أتم يكون فرضه ركعتان، والباقي نافلة. لنا: قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}. ورفع الحرج عبارة عن الإباحة، والمباح ما تخير الإنسان بين تركه وفعله. فإن قالوا: أليس الله تعالى قال في السعي: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، ومع ذلك هو واجب.

قلنا: ظاهر قوله: {فَلاَ جُنَاحَ} يقتضي ما قلنا، إلا أن الدليل قام هاهنا على وجوب السعي، وكونه ركناً بخلاف مسألتنا. وقد قيل: إن السبب إن الصفا والمروة كان موضع الصنمين في الجاهلية يقال لإحداهما إساف والآخر نائلة، فلما جاء الإسلام تحرج المسلمون من الطواف بين الصفا والمروة لمكان الصنمين فأنزل الله هذه الآية. ومن جهة يبينه حديث لعلي بن أمية أنه قال لعمر رضي الله عنه: ما بالنا نقصر وقد أمنا، فقال: تعجبت مما تعجبت منه فسألت النبي عليه السلام فقال: ((صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته)). فسمى القصر صدقة، والرخصة والصدقة يتقارب معناهما. وأما الاستدلال من حيث المعنى فظاهر جداً، وذلك لأن القصر ثابت بنص الكتاب وطلب المعنى واجب إذا أمكن فلا يعرف معنى في إطلاق القصر إلا/ التخفيف فإن السفر حال مشقة والمشقة سبب للتخفيف لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} والتخفيف بإطلاق

القصر، وقد حصل كمال التخفيف بإباحته ولا معنى للإيجاب والتحتيم، وهو مثل إباحة الفطر سواء فنقول: تخفيف ربط بالسفر فلا يكون حتماً، ودليله الفطر. ومما يستدل الأصحاب بمسألة على أصولهم وهو أنه لو اقتدى مسافر بمقيم يلزمه الإتمام، فلو كان فرضه ركعتان لم يتغير بالاقتداء، وهذا في نهاية الإشكال عليهم، لأن الإقتداء لم يوضع لتغير الفرائض. يبينه أنه لو كان المقتدى مقيماً بمسافر لا يعود فرضه إلى ركعتين فكذلك إذا كان الاقتداء من مسافر بمقيم وجب ألا يصير فرضه إلى الأربع فإن الزيادة على الفرض المحدود مثل النقصان فيه، فإذا لم يجز أحدهما لم يجز الآخر، وليس لهم على هذا سؤال سوى أنهم يقولون: اجتمع في هذه الصلاة حكم السفر والإقامة. وبيان ذلك: أنا بينا أن صلاة المقتدى منوطة بصلاة الإمام وقد جعلت الصلاتان كصلاة واحدة على ما سبق. وإذا اجتمع فيها حكم السفر وحكم الإقامة غلب حكم الإقامة، وهذا ليس بشيء، لأن الأصل الذي ادعوه قد أجبنا عنه وبينا بطلانه. ولأنه إذا اختلف الفرضان لا يمكن جعل الصلاتين كصلاة واحدة فينبغي أن يفسد الإقتداء على أصلهم، وأيضاً فإنهم يطالبون بإقامة الدليل على تغلب فرض الإقامة على فرض السفر وعلى هذا ينقطع كلامهم. وأما حجتهم: تعلقوا بحديث عائشة رضي الله عنه أنها قالت: فرضت الصلاة في الأصل ركعتان ركعتان فأقرت في السفر وزيدت في الحضر)).

وبحديث ابن عباس قال: ((فرض الله تعالى الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة)). وبحديث عمر رضي الله عنه قال: ((صلاة الصبح ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم -)). والأخبار نصوص: وأما المعنى قالوا: ما زاد على الركعتين صلاة يجوز تركها على الإطلاق فلا تكون واجبة كالنوافل، وهذا لأن الواجب ما لا يسع تركه، وإذا جاز ترك الركعتين الأخراوين على الإطلاق دل أنهما ليستا بواجبتين. قالوا: ونعني بالإطلاق أنه يجوز تركها لا إلى بدل.

وحرفهم أن السفر سبب لسقوط الركعتين بدليل ما بينا من جواز الترك وإذا سقط لم يبق شيء منه وصار كالدين الساقط. قالوا: ولا يجوز أن يقال إن سقوطهما معلق باختيار العبد، لأن هذا يؤدي إلى تفويض الشرع إلى رأي العباد، وهذا لا يجوز فيقال: إنه إذا رأى يجب كذا وإذا لم ير لم يجب. يبينه أن الشرائع مصالح وتفويض المصالح إلى رأي العباد غير جائز، لأنه لا يعرفون ما يصلحهم. قالوا: ولأن المقبول إنما يعتبر في التملكيات، فأما ما كان يوجب الإسقاط فلا معنى لاعتبار القبول فيه بدليل الطلاق والعتاق. وخرجوا الإفطار في الصوم على هذا الأصل، لأنه ليس بإسقاط بل هو تأجيل وتأخير. وأما لفظ الصدقة المذكورة في الخبر فهو عبارة عن الإسقاط ويجوز أن يسمى الإسقاط صدقة كما لو قال لمديونه: تصدقت بديني عليك، يكون إسقاطاً. الجواب: أما الخبر الأول، قلنا: قد عرف إعداد الركعات على ما نصليها بالإجماع والدلائل القطعية، فإثباتها في الأصل ركعتين ركعتين ثم الزيادة من بعد لابد فيه من نقل تواتر، والخبر واحد كيف ... ؟ وقد دل الكتاب على تأصيل الأربع فإن قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ومعناه من الصلاة المعهودة وهي الأربع، فدلت الآية على

أنها الأصل، وأيضاً فإن ((من)) للتبعيض، وقد قال: ((من الصلاة)) فدل أن المفعول بعض الصلاة، ولأنا إذا قلنا على ما رويتم لا يتحقق معنى القصر، لأن القصر عبارة عن الحط فلا تكون صلاة السفر مقصورة بل تكون صلاة الإقامة مزادة ثم يجوز أن يكون المراد من الخبر إباحة القصر، ويكون قوله: ((فأقرت في السفر)) إذا اختاره العبد. وكذلك قوله في الخبر الثاني: ((فرض الله تعالى صلاة الحضر أربعاً وصلاة السفر ركعتين)) يعني إذا اختاره العبد، وقد قلنا ما قلناه على وجه النقل والتوقي من كلام في الأخبار على الوجه الاعتراض. والذي يوهم الرد وترك القبول/ واجب، والتأويل المذكور محتمل. ويؤيده ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها ((أنها أتمت في السفر)). وهذا يدل على أنه كان المراد ما بيناه. وأما الحديث الثالث وهو حديث عمر. قلنا: معنى قوله: ((تمام غير قصر)) أي تمام في الثواب، وكذلك نقول بل نزعم أن السنة هي القصر في الأسفار، كما أن السنة هي المسح على الخفين بل هذا آكد، لأن النبي عليه السلام لم يتم في شيء من أسفاره وكذا أبو بكر وعمر. وقد روى الأصحاب أخباراً في إتمام النبي عليه السلام، ولم نر الاعتماد عليها لضعف أسانيدها. وأما المعنى، قولهم: ((يجوز له ترك ما زاد على الركعتين)).

قلنا: نعم، ولكن قبولاً لا رخصة مثل ما يجوز ترك غسل الرجلين بالمسح قبولاً للرخصة، وهذا لا يدل على أنه لو كان أتم لا يكون فاعلاً للواجب مثل مسح الخف سواء فإنه لو تركه وغسل الرجلين يكون فاعلاً للواجب مثل مسح الخف سواء ولم يدل جواز تركه على سقوطه أصلاً. وأما قولهم: ((إن السفر سبب لسقوط الركعتين)). قلنا: لا، بل هو سبب للرخصة، يبينه أن النبي عليه السلام سمي القصر صدقة فنجعل العدد الأربع من الركعات كأربعة دراهم وجبت لإنسان على إنسان فتصدق باثنين من ذلك عليه. فإن قبل سقطتا عنه، وإن لم يقبل وجب عليه قضاء الأربع، فكان قضاؤه إياهن على أن جميع ذلك واجب عليه. وقولهم: ((إن ذلك ليس بتمليك)). قلنا: ولكنه صدقة بنص الشارع فكان حكمها ما بينا، ويمكن ينزله على ما ذكرنا فنزل ذلك منزلة مسح الخفين وغسل الرجل. وقولهم: ((إن هذا تفويض الشرع إلى رأي العباد)). قلنا: قد ورد مثل هذا في تفاصيل العبادات والجزئيات منها، وإن لم يرد في الكليات، ألا ترى أن الله تعالى ذكر ثلاث أشياء في كفارة اليمين وجعل تعيينها إلى رأي العبد، وأيضاً فإن من أتى بالركوع بأدنى ما ينطلق عليه الاسم فعل الواجب على أصولهم، ولو أطال كان الكل واجباً. وكذلك قالوا في قيام الصلاة: إذا قام بقدر آية أو ثلاثة آيات يكون هو الواجب عندهم، وإذا قام وقرأ الفاتحة يكون جميعه واجباً، وهذا أيضاً تفويض بقدر الواجب إلى رأي العبد. والله أعلم. * * *

(مسألة) العاصي بسفره لا يترخص برخص المسافرين

(مسألة) العاصي بسفره لا يترخص برخص المسافرين عندنا. وعندهم: يترخص. لنا: قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}. وقال تعالى في موضع آخر: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ?ِثْمٍ}، والعاصي بسفره باغ وعاد ومتجانف لإثم ولا يطلق له الضرورة ما أطلق للمضطر، ولأن السفر عذر مبيح للقصر والفطر فإذا كان معصية لم يكن عذراً. دليله السكران فإنه لما كان زوال العقل عذراً في سقوط الخطاب فإذا كان بمعصية لم يكن عذراً، كذلك هاهنا.

يبينه أن المعنى المخيل في ثبوت العذر بالسفر هو المشقة، والمشقة مشعرة بالتخفيف، والمعصية لا تكون سبباً للتخفيف بحال، لأن المعاصي أسباب للتشديد فلا توجب ضدها من التخفيف. والحرف الوجيز: إن المعصية واجب تركها فلم تصلح عذراً لسقوط واجب عليه. لأن ما كان واجباً تركه لا يصلح عذراً لترك واجب آخر. لأنه لو أطلق ترك واجب لكان الأولى أن يطلق فعل نفسه. وإذا لم يكن فعل نفسه مطلقاً، فكيف يطلق ترك غيره أو فعل غيره؟ وقد قالوا: إن هذا التخفيف الثابت بالسفر إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية وجب تركه، لم يجز إثبات الإعانة عليه. لأن الإعانة على المعصية معصية، فهذه كلمات قوية في غاية الإخالة. وأما حجتهم: تعلقوا بظاهر قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فقد جعل مطلق السفر عذراً فمن زاد عليه صفة الإباحة فقد قيد مطلقاً بزيادة عليه، والزيادة على المطلق تقييد، والتقييد نسخ على ما عرف في مواضع كثيرة. وأما المعنى قالوا: لا معصية في نفس السفر فجاز أن يكون مقيداً للرخصة المتعلقة به، دليله إذا كان السفر مباحاً، وإنما قلنا: لا معصية في نفس السفر، لأن حقيقة السفر قصده بالسير إلى مكان بعينه بينه وبينه مسيرة محدودة، وهذا لا معصية فيه، وإنما المعصية في نية الإغارة وقطع الطريق، وهذا معنى وراء السفر فصار هو عاصياً في سفره لا عاصياً بسفره فلم يمنع تعلق الرخص بسفره.

(وصار هذا كما لو لبس خفاً مغصوباً يطلق هل المسح على الخف، لأنه لا معصية في حقيقة اللبس، لأن حقيقته ستر موضع الغسل من القدم ولا معصية في الفعل من حيث الستر، وكذلك من صلى في/ الأرض المغصوبة صحت صلاته، لأنه لا معصية في الفعل من حيث الصلاة فجازت صلاته، كذلك هاهنا لا معصية في الفعل من حيث السفر فأفاد الرخص. قالوا: وأما السكران فنفس الشرب معصية فإذا زال عقله لم يصر عذراً في سقوط الخطاب، فتوجه الخطاب عليه مثل ما يتوجه على غير السكران). ولهم مسائل إلزامية في هذه المسألة سوى هاتين المسألتين غير أن هاتين المسألتين أقواها، والخروج عن المسائل الباقية سهل على ما ذكرناها في التعليق فاختصرنا على هاتين المسألتين، ولابد من الاعتناء في الجواب عنهما هذا جملة تحقيقهم. الجواب: إنا قد بينا أنه عاص بسفره، لأنه قصد المكان الذي عينه لقطع الطريق أو لتجارة في الخمر، والسفر يصير سفراً بقصده، فإذا قصد بسفره المعصية صار السفر معصية، وهم يقولون: نقل الخطى ليس بمعصية في نفسها ونفس الخطى بقصده مكاناً بعينه صار سفراً والمعصية أمر وراء هذا.

قلنا: القصد لغرض إلى المكان الذي عينه شرط ليكون المفعول سفراً، والغرض معصية، فصار السفر سفراً بما هو معصية. والدليل على أنه لابد من الخروج إلى المكان الذي عينه لغرض أنه لو خرج إلى ذلك المكان لا لغرض، نقول: لا يترخص برخص المسافرين وينزل منزلة الهائم الذي لا يدري أن يتوجه في سفره، ولا يمكن تمشية المسألة إلا بهذا، وهذا كلام في نهاية القوة، ويتبين به أن المعصية في نفس السفر قد وجد، والحرف ما ذكرنا أن ما به صار السفر سفراً معصية، وخرج على هذا الصلاة في الأرض المغصوبة لأن ما به صار فعله صلاة ليس بمعصية إنا المعصية في شغله أرض الغير، ولم يصر الفعل صلاة بهذا. وقد أجاب بعض من يدعى التحقيق من المتأخرين عن هذه المسألة وقال: القياس أن لا تجوز صلاته لكنا جوزنا بالإجماع، وهذا مردود لا يلتفت إليه عالم، وكيف يدعى الإجماع، وقد ذهب جماعة كثيرة من علماء الأمة إلى إفساد هذه الصلاة وليس تتأتى مسالك الفقه لكل واحد، ولا ينبغي أن يغتر بطنطة الناس وتزخرفهم في عباراتهم، فإن مع أكثرهم دعاوي عريضة وعجز ظاهر، وتهالك على الألفاظ المروقة من غير طائل. والله العاصم بمنه. وأما مسألة لبس الخف المغصوبة فلا نسلمها على ما ذكرها ابن القاص وهو الأصح. وأما تعلقهم بالآية فهي محمولة على السفر المباح ودعواهم النسخ بإثبات قيد المطلق كلام تكلمنا عليه مراراً في المسائل. والله أعلم بالصواب.

(مسألة) تارك الصلاة يقتل

(مسألة) تارك الصلاة يقتل عندنا. وعندهم: لا يقتل لكن يعزر ويؤدب.

لنا: الحديث الصحيح وهو قوله عليه السلام: ((العهد الذي بينا وبينهم الصلاة فمن تركها متعمداً فقد كفر))، وروى مطلقاً: ((من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر)). فالخبر قد تضمن إلزام الكفر وإلزام القتل، وقد قام الدليل أنه لا يكفر فبقى القتل لازماً، وهذا استدلال ضعيف، لأن الخبر لم يتضمن إلا الكفر نصاً. فأما القتل فوجوبه في ضمنه حكماً له، فإذا لم يلزم الكفر سقط ما في ضمنه.

يبينه أن القتل أن وجب بالخبر فيكون وجوبه على أنه واجب الكفر، ولا يستقيم إيجاب واجب الكفر بلا كفر. وقال بعضهم في وجه الاستدلال بالخبر: إن تعطيل الخبر لا سبيل إليه ولابد من العمل به من وجه، وقد اتفقنا نحن وأنتم على أنه لا يكفر فلم يبق إلا التشبيه بالكفر في إلزام خاصيته فيكون في التقدير: من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر- أي ضاهى الكفار وأشبههم في المضاهاة في التزام عقوبة الكفر لا في نفس الكفر، وعلى هذا لا نقول إن الواجب عقوبة الكفر لكنه عقوبة ترك الصلاة لكنه عقوبة مثل عقوبة الكفر، وهذا كلام لا بأس به، وإن تضمن ترك ظاهر الخبر، وما يدل عليه من حديث النص. وقد تعلق المخالفون من حيث السنة بقوله عليه السلام: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ....)) الخبر. وقالوا: ولم يوجد من تارك الصلاة واحد من الثلاث فلم يقتل، ونحن نقول: قد وجد ترك الإيمان من وجه، فإن الصلاة إيمان بنص الكتاب. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. وقد أجمع أهل التفسير أن المراد به الصلاة فعلى هذا وجد ترك

الإيمان بترك الصلاة، وعلى أن الحصر بالعدد الثلاث لا يمنع إلحاق رابع/ بها عند قيام الدليل عليه، وقد كانت الواجبات في زمن النبي عليه السلام بعرض الزيادة والنقصان، وليس في الخبر الذي رووه دليل على منع وجوب القتل بترك الصلاة. وقد أوجبوا القتل على الردأ في قطع الطريق ولم يوجد منه واحد من الثلاث ويباح دم القاصد إلى مال الغير ونفسه إذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل ولم يوجد منه أيضاً واحد من الثلاث. ونعتمد في المسألة على نوع من الاستدلال فنقول الشرع قسمان: أمر، ونهى، والخلاف داخل في كل واحد من القسمين إلا أن في قسم الأمر يكون الخلاف بالترك، وفي قسم النهى يكون الخلاف بالفعل، والعقوبات المشروعة في الجنايات زواجر عن الجنايات فكلما كانت الجناية أغلظ تكون العقوبة أبلغ، وإذا كانت الجناية أخف فتكون العقوبة أخف، وقد وجد في الجناية في أحد قسمي الشرع وهو النهي ما يعاقب عليه بالقتل وهو الزنا وسفك الدم، فوجب أن توجد في القسم الآخر ما تكون الجناية بالخلاف فيه موجباً لعقوبة القتل وليس ذلك إلا ترك الصلاة. وهذا لأن الجناية المتناهية موجبة للعقوبة المتناهية، والزنا وسفك الدم جناية متناهية، لأنه لا جناية فوقهما في قسم ارتكاب النهي إلا الكفر، كذلك إذا ترك الصلاة فقد وجد جناية متناهية، لأنه لا جناية فوق ترك الصلاة في هذا القسم، وهو ترك الأمر فإذا تناهت الجناية تناهت العقوبة، والعقوبة المتناهية بالقتل المعدم للحياة أصلاً فجرى وجوبه في الطرفين ليستحق الشرع على التعديل والتسوية ولا يحكم بتناقض واختلاف، وتصير المعاني المؤثرة في الأحكام مطردة مستمرة، ثم الدليل على تناهي الجناية بترك الصلاة، أن الصلاة امتازت من بين سائر العبادات بنوع شرف وخطر لا يوجد لغيرها.

ويمكن أن يقال بغلبة اشتباه أصل الإيمان عليه، الدليل على امتيازه بهذا الحظر والحرمة الاسم الشرعي والمعنى، أما الاسم فهو أن الله تعالى سماها إيماناً ولم يرد هذا الاسم لشيء من العبادات سواها، ولأن النبي عليه السلام سماها عماد الدين، وعماد الشيء ما يكون بقاؤه به ولم يوجد هذا لغيرها. وقال أيضاً - صلى الله عليه وسلم -: ((نهيت عن قتل المصلين))، كما قال ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)). ومن جهة المعنى: لأنها وظيفة دارة على درور الليل والنهار وكرورها مثل الإيمان وظيفة مستمرة على دوام الليل والنهار وقرارهما، ولأنه لا تدخلها النيابة بنفس ولا مال مثل الإيمان سواء بخلاف الزكاة والحج والصوم على أحد القولين، وأيضاً لا يسقط بعذر عجز ومشقة بعد إن أمكن الإتيان به بوجه ما كالإيمان سواء فثبت ما قدمنا، وتأصل الأصل واستمر واستقر. وأما حجتهم: تعلقوا بسائر العبادات. وقالوا: عبادة من فروع الإيمان فتركها لا يوجب القتل كسائرها. والجواب: ما سبق. وقد قال أبو زيد: ترك الصلاة محض كف عن الفعل فلم يكن معصية بنفسه، وإنما كان معصية بغيره، وهو أنه ترك مأموراً به وما صار معصية بمعنى في غيره لم يوجب العقوبة، وهو مثل تناول مال الغير لما لم يكن معصية لعينه، وإنما صار معصية لتعلق حق الغير بالمحل لم يكن

موجباً للعقوبة وهذا ليس بشيء، لأن الكف من الفعل معصية بنفسه إذا اتصل الأمر بالفعل المكفوف عنه كالكف عن الفعل طاعة بنفسه إذا اتصل الأمر به وذلك في الصوم. وهذا لأن هذه جناية من حيث ترك الأمر والجناية من حيث ترك الأمر لا يتصور إلا على هذا الوجه وهو الكف عن الفعل المأمور به وإنما صار جناية من حيث الأمر لا من حيث نفس الكف كالفعل من الزنا والقتل صار جناية من حيث النهى، لا من حيث نفس الفعل فمتى تناهى الأمر في المبالغة تناهت الجناية عند الترك، كما إذا تناهى النهي في المبالغة تناهت الجناية عند الفعل. وقد قيل: إنه لا يتصور جناية لمعنى راجع إلى نفس الفعل، لأنه لو كانت الجناية لنفس الفعل لم يتصور إباحته بحال، والشرعيات قد أبيح فيها أجناس المنهيات مثل: قَتَلَ وقُتلَ، ووَطءَ وَوُطِء، وأَخذَ وأخذ، ولو نهى عن الشيء لعينه لم يتصور ورود الإباحة في نفسه بحال، فثبت أن المعتبر وجود الجناية من حيث ارتكاب النهي أو ترك الأمر، والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) يجوز للمرأة أن تغسل زوجها إذا مات ويجوز أيضا للزوج أن [يغسل] امرأته إذا ماتت

(مسألة) يجوز للمرأة أن تغسل زوجها إذا مات ويجوز أيضاً للزوج أن [يغسل] امرأته إذا ماتت. وعندهم: يجوز في الأول، ولا يجوز في الثاني. لنا: إن علياً عليه السلام غسل فاطمة رضي الله عنها حين توفيت.

وهذا بحضرة من الصحابة وعلمهم، ولم ينكر عليه أحد فصار إجماعاً منهم. قالوا: ويجوز أن يكون معنى قوله: ((غسلها)) أي أعان على غسلها وعلى أن فاطمة رضي الله عنها كانت زوجة لعلي رضي الله عنه في الدنيا والآخرة. فإنما غسلها لبقاء الزوجية، وهذا لا يوجد في غيرهما. قالوا: وعلى أنه روى أن فاطمة عليها السلام اغتسلت ثم تمددت وتوفيت واكتفوا بغسلها ذلك كرامة لها، وكانت معرفتها بوقت فواتها واكتفائها بغسلها بإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -. الجواب: إن كل ما قالوه ضعيف. أما الأول فنقول: إن المروى أنه غسلها، والإعانة على الغسل لا تكون غسلاً. وأما الثاني: قلنا: نحن نقطع بانقطاع الزوجية بالموت، لأن الزوجية من أحكام الدنيا. فأما القول ببقاء عقد النكاح بعد الموت والانتقال إلى

الآخرة فمقال محال، والآخرة لا تكون دار الأنكحة، وما عهد في الجنة والنار تزويج ولا بقاء تزويج. وأما الثالث: فهو من نقل الروافض ..... فلا نعرف ذلك، وإنما نهاية الرواية أن النبي عليه السلام قال لها: ((أنت أول أهلي لحاقاً بي)). فأما ما يقال أنه أخبرها بوقت وفاتها وأمرها بالاغتسال قبل الموت والاكتفاء بذلك فلا يعرف، وما رأينا تعجيل غسل الميت قبل الموت وهذا لأن الواجب غسل الميت فلابد من وجوده في ميت وهذا الأثر معتمد. وأما المعنى: نقول الغسل حق الميت ولابد من قائم به، ثم الزوج إذا مات قامت المرأة بغسله قضاء لحقه، فكذلك إذا ماتت المرأة يقوم الزوج بغسلها قضاء لحقها لأن حق النكاح ثابت من الجانبين، فإذا بقى هذا الحق عليها له بعد موته فليبق لها عليه بعد موتها. ونقول في التحرير: حق ثبت لأحد الزوجين قبل صاحبه فثبت للآخر قبله. دليله سائر الحقوق ونعين الوطء في القياس عليه، والتعليل للمس غسلاً. ونقول أيضاً: المفاقهة أن الميت محل اللمس حلاً وحرمة. ألا ترى أنه يحل للرجل غسل الرجل ولمسه، ولا يحل للمرأة، وكذلك المرأة مع المرأة، وإذا كان محل الحل والحرمة في حق اللمس عمل عقد النكاح في إباحته وعمل التجانب في تحريمه كاللمس والوطء في حال الحياة، وهذا لأن النكاح عامل في إثبات كل حل يقبل الثبوت كالتجانب عامل في كل حرمة تقبل الإثبات.

وأما حجتهم: قالوا: حل اللمس مستفاد بالنكاح فيزول بزواله، دليله حل الوطء. يبينه: أن حل الغسل لابد فيه من سبب ولا سبب هاهنا لأن السبب كان هو النكاح وقد ارتفع، وصار كالعدم، وإنما قلنا ذلك لأن النكاح إنما بقى في محل النكاح والميت ليس بمحل النكاح لأنه جماد. ولأنه أدنى من البهيمة فيستحيل أن يكون محلاً للنكاح، لأن النكاح ملك فلا يبقى الملك إلا في محل الحياة كملك اليمين، ولا يتصور بقاؤه في الميت. ويدل عليه أنه يجوز له نكاح أختها وأربع سواها، ولو أن النكاح ارتفع لم يحل لأنه يصير جامعاً بين أختين نكاحاً أو بين خمس نسوة نكاحاً. قالوا: وتصور فيما لو ماتت المرأة وتزوج هو بأختها في الحال، ثم إنه غسلها يجوز عندكم، وهو يؤدي إلى الجمع بين الأختين استحلالاً في اللمس، وليس كما لو مات الزوج، لأن النكاح هناك قائم لقيام العدة وهذا لأن العدة حق النكاح، وإن أشكل هذا في عدة الطلاق فلا إشكال في عدة الوفاة، لأنه تجب سواء وجد الماء أو لم يوجد. والنكاح مجموع حقوق: فإذا بقى حق له حكم ببقاء النكاح في ذلك الحق. وأما موته فلا يمنع بقاء النكاح من هذا الوجه، لأنه مالك، والمالك يجوز أن يبقى له الملك بعد موته، بدليل ما لو كان على إنسان دين ومات تبقى تركته على ملكه لحقه، ولأنا نجعل ملكه لوارثه على طريق الخلافة، وفي جعل الملك للوارث على طريق الخلافة (وفي جعل الملك للوارث على طريق الخلافة) إبقاء الملك للميت من وجه وهذا يستقيم في ملك اليمين لأنه يقبل الخلافة فيه.

وأما ملك النكاح لا يقبل الخلافة فبقى للزوج وظهر عمله فيما يمكن إظهار عمله إلا أنه يبقى ما بقيت العدة، فإذا ذهبت العدة وحكم بانقطاع فراش النسب، وحلت للأزواج لم يتصور بقاء النكاح. قالوا: وأما قولهم إن الميت محل الحل والحرمة في اللمس، فليس كذلك، وقد خرج بالموت عن محلية مثل هذه الأشياء، وإنما حل الغسل لضرورة ولولا الضرورة لم يحل والنكاح عقد استحلال فإذا لم يكن الميت محلاً للحل بحال لم يتصورها بقاء النكاح المعقود للحل. الجواب: إن قولهم: ((إن النكاح ارتفع بموتها)). قلنا: وقد ارتفع بموته فكما ينافي محلية النكاح منكوحاً ينافي محلية النكاح ناكحاً ولا يتصور، ولا يعقل ميت ناكح فلم يعقل أيضاً بقاء النكاح له بعد موته. وأما العدة فتعبد شرعي وجب لإظهار حرمة نكاح سبق عقده مثل الشهادة تعبد شرعي وجب لإظهار حرمة نكاح عقده. فإن قالوا: أبحنا الغسل لنفس العدة، وهي علقة عظيمة، ولأنها وجبت بالنكاح السابق ولم توجد هذه العلقة إذا ماتت. قلنا: إذا طلقها ثلاثاً في المرض وماتت عقيبه وهي في العدة لا يطلق لها الغسل والعدة موجودة. يبينه أن العدة عندهم حق النكاح سواء كانت واجبة من طلاق أو وفاة والتمسك بجانب الزوج في نهاية القوة. وأما المعنى الذي بيناه فهو صحيح أيضاً يمكن الاعتماد عليه.

وقولهم: ((إنه ليس بمحل الحل)). قلنا: قد بينا المحلية. وقولهم: ((إنه جاز للضرورة)). قلنا: شرع الغسل لا يقال له ضرورة إنما يقال: بقاء حل لإقامة شرع، وبقاء الحل لإقامة الشرع لا يسمى ضرورة مثل الحل في حال النكاح لا يقال ضرورة لأجل الوطء، وعلى هذا نقول: إن النكاح إما أن يحكم ببقائه حكماً في هذا الحكم الخاص بدليل قام عليه، أو يقال أن النكاح قد ارتفع ولكن عمل في إثبات هذا الحكم بعد الموت لأنه لا يوجد إلا بعد الموت كما عمل في إثبات الإرث بعد الموت، لأنه لا يوجد إلا بعد الموت وهذا كلام معتمد فليعمل به، والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة

(مسألة) إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استقر الواجب على الحقاق وبنات اللبون، واستقرت النصب على الخمسينات والأربعينات

(مسألة) إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استقر الواجب على الحقاق وبنات اللبون، واستقرت النصب على الخمسينات والأربعينات. وهذا مذهب أكثر أهل العلم، غير أن الشافعي رضي الله عنه قال: إذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة تجب ثلاث بنات لبون ثم الأمر من بعد على ما بينا.

وعندهم: يستأنف الواجب بعد المائة والعشرين وتجب الأغنام وبنت المخاض. لنا: الأخبار الثابتة برواية أنس بن مالك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبرواية الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي عليه السلام ذكر في كتاب الصدقة الذي كتبه: ((فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففي كل

خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون))، والكتاب يشتمل على أشياء كثيرة من باب الزكاة ذكره أبو داود وغيره، غير أن الاستدلال في هذه المسألة بهذ القدر وكان صلى الله عليه وسلم ختم عليه وقرنه بقراب سيفه. وعمل بذلك بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

وروى ابن المبارك عن يونس عن الزهري أن سالم بن عبد الله بن عمر قرأ الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر في الصدقات وفيه: (فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون)). ولا يتجه لهم تأويل لهذه الأخبار أصلاً. وقد تكلفوا أشياء بعيدة أعرضنا عنها لبعدها، فإن صوروا في موضع يجب في كل خمسين حقة وفي الأربعين بنت لبون وذلك في مائة وتسعين. قالوا: وقد قلنا بهذا الخبر في هذا الموضع. يقال لهم: أنتم لا تقولون بهذا الخبر بحال، لأن عندكم لا تجب الحقة في الخمسين بحال، ولا بنت اللبون في الأربعين، فإنكم تقولون إن الحقة في ستة وأربعين وبنت لبون في ست وثلاثين على حسب ما كان في الابتداء، فقد تركوا القول بهذه الأخبار جملة من غير دليل. وأما هم تعلقوا من جهة الخبر بما روى أنه كان في صحيفة عمرو بن حزم الذي كتبها له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فرائض الزكاة: ((وما زاد في الإبل على

مائة وعشرين ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون فما فضل بعد ذلك يعاد إلى أول فريضة الإبل فما كان/ أقل من خمس وعشرين ففيها الغنم في كل خمس شاة)). ورووا بطريق عاصم بن ضمرة عن علي عليه السلام: أنه قال ((إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة)). وعن ابن مسعود كذلك، وهذا لا يقال قياساً، دل أنهما قالا ذلك عن النبي عليه السلام. والجواب: أما الخبر الأول فقد رواه حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن صحيفة عند أبي بكر.

ابن عبد الله بن عمرو بن حزم فيكون مرسلاً، والمرسل ليس بحجة. وعلى أن فيه ما يؤيد مذهبنا لأنه قال: ((فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون)). وأما حديث عاصم بن ضمرة، فقد قال ابن المنذر: لا يثبت حديث عاصم ابن ضمرة عن علي رضي الله عنه. وقد روى عن علي رضي الله عنه مثل ما ذهبنا إليه. وعلى الجملة .. لا يثبت ذكر الغنم وبنت المخاض بعد المائة والعشرين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة، وإنما الصحيح ما رويناه فلا يعدل عنه.

وإن التفتنا إلى المعنى بعد أن لا حاجة إليه، فهو أيضاً يؤيد ما قلنا. وذلك لأن الأصل الموصل في الشرع أن الواجب في كل جنس من جنسه، لأن الواجب جزء من النصاب، لأن الزكاة واجبة للمواساة مع الفقراء بجزء من النصاب على مال نام، والجزء من الشيء جنسه، وهم يعترفون بهذا الأصل فلا يحتاج إلى كثير دليل، إلا أنه عدل عن هذا الأصل عند قلة الإبل لأنها لا تحتمل المواساة من جنسها، فإذا كثرت احتملت فعدنا إلى الأصل. فإن قالوا: ((لم لا ينتظر إلى أن تبلغ حداً يحتمل الوجوب من جنسه مثل البقر))؟ قلنا: لأن الخمس من الإبل مال كثير القيمة كثير المنفعة قليل المؤونة فلم يستجز الشرع إخلاء مثل هذا عن حق الفقراء، وعلى أن هذا الذي قالوا اعتراض على الشرع، وعلينا أن نتلقى الشرع بالقبول ثم نطلب له معنى يخرج ذلك الشرع عليه، وقد فعلنا. وأما البقر .. فقد كان غالب أموال العرب الإبل، وقد كانت الزكاة طهرة لمالهم فلم يرض بإخلائه عن الواجب بعد أن يبلغ الحد الذي قلناه من كثرة المنفعة والقيمة وقلة المؤنة، وأما البقر فقد كان قليلاً فيهم، فإبقاؤها على الأصل المعهود وهو ترك الإيجاب حتى يحتمل الواجب من جنسه هذا في الأغنام. وأما سقوط بنت مخاض فهو يخرج على أصل آخر: وذلك لأن ما بعد المائة والعشرين حال تقرير النصب والواجبات وما قبل المائة والعشرين قد كان حال اضطرابها واختلافها، فمن الواجب أن يكون الاستقرار على النمط الأعدل، والنمط الأعدل في الأوقاص طرح

وقص الأربع، والأربعة عشر أعلى الذي ورد، الأغنام، وبنت المخاض والجذعة وبنتي اللبون والحقتين قبل المائة والعشرين، وتقرير الوقص على التسع لأنها الوسطى، وطريقة العدل في الوسط، وطرح ما يخرج عنه من الجانبين، كذلك في الواجبات اخترنا النمط الأعدل الأوسط وهو تقرير الواجب على الحقاق وبنات اللبون، وطرحنا ما خرج عنها من الجذعة وبنت المخاض ليكون ذلك لزوماً لجادة العدل، والطريقة الوسطى بين طرفي الترقي والنزول الذي أحدهما يؤدي إلى نوع إجحاف بأرباب الأموال والآخر يؤدي إلى ترك نظر الفقراء، ونزل القرآن على هذا واستمر عليه الشرع. وأما الذي ذهبوا إليه من إيجاب الغنم والعود إليها مع كثرة الإبل وتقرير وجوب بنت المخاض مع خروجه عن النمط الأوسط ومع طرح قرينته من الجانب الآخر وهو الجذعة فلم يدل عليه نص ولا اهتدى إليه قياس، فكان متروكاً مطروحاً غير مأخوذ به بحال. وفي المسألة وراء هذه إلزامات كثيرة عليهم في إبطال الاستئناف على مذهبهم: · من التزامهم القول بالموالاة بين الوقصين، وهذا لا يجوز في الشرع. ·

ومن عدولهم من بنت المخاض إلى الحقة في الخمسين الثالثة من غير إيحاب بنت لبون في الوسط. · ومن ألزم جعل نصاب الحقة ثلاثين إذا قالوا بالاستئناف بعد المائة والعشرين وأوجبوا في مائة وخمسين ثلاث حقاق، وقد أعرضنا عن شرح هذا كله، لأن فيما قلناه غنية عن الكل، هذا كلامنا. وأما حجتهم من حيث المعنى: فقد قال مشايخهم: إن إيجاب ثلاث بنات لبون في مائة وإحدى وعشرين يؤدي إلى مخالفة الرسول أو مخالفة الأصول وواحد منهما لا يجوز. أما مخالفة الرسول إذا أوجبتم في كل أربعين وثلث، ومخالفة الأصول إذا أوجبتم في كل أربعين وذلك لأن الواحدة/ لم تجعلوا لها قسطاً من الواجب وغيرتم بها الواجب، وما لا يأخذ قسطاً من الواجب لا يغير الواجب هذا هو الأصل المعهود في الشرع، وقد خالفتم. قالوا: وليس كما لو ماتت المرأة عن أبوين وأخوين حيث يغير الأخوان فريضة الأم، ولا يرثان، لأنهما بمحل الميراث، وإنما حجبا في هذه الصورة بالأب، وههنا ليست الواحدة بمحل الوجوب بحال، فنظير هذا في مسألة الميراث أن يكون الأخوان عبدين أو كافرين، وقالوا أيضاً: في إيجاب ثلاث بنات لبون إسقاط الحقتين، وقد أوجبنا بدليل مقطوع به فلا يسقط بخبر الواحد. واستدلوا في تصحيح مذهبهم، والحكم بعود الغنم وبنت المخاض، أن الحقاق وبنت اللبون ينبني وجوبها على الغنم وبنت المخاض في قضية

وجوبها، وربما يقولون: الغنم وبنت المخاض أصل في واجبات الإبل فلابد من عودها، وقولهم: ((إن الغنم ليس من جنس الإبل)). بلى، ولكن لما وجبت وبنى عليها سائر ما أوجب صار أصلاً، وخرج على هذا الجذعة، لأنها غير مبنية على الحقاق وبنات اللبون فلا يقتضي وجوب الحقاق وبنات اللبون وجوبها. وأما الحقاق وبنات اللبون يبتنى وجوبها على الغنم وبنت المخاض فلابد من عودها إذا عادت. قالوا: وأما قولكم: ((إن ما بعد المائة والعشرين زمان الاستقرار)). قلنا: بلى، وقد استقر الواجب على الحقة وبنت اللبون، ولكن بشرط أن يعود ما هو الأصل مثل المسنة استقر عليها الواجب بشرط عود التبعية. الجواب: إن كل ما قالوه ضعيف. أما الأول فنحن نختار أنه يجب في كل أربعين وثلث أو يوجب في كل مائة وإحدى وعشرين من غير تعرض للتقسيم، وهذا بالخبر الذي رويناه في هذا نصاً. ومثاله: إيجاب الحقتين في إحدى وتسعين في الابتداء، ويكون هذا إيجاب كل حقه في خمس وأربعين ونصف إلا أنه بالخبر، أو يوجب مطلقاً من غير تعرض للتقسيم، ويمكن أن يقال: قد وجد نصاب ثلاث بنات لبون إلا أن فيه أنه انتهاء وقص فلا يمكن إيجابها من غير وجود زيادة، فإذا

وجدت بزيادة ظهر الآن وجوب بنات لبون لوجود نصابها والترقي من انتهاء الوقص إلى زيادة، وهذا الكلام إذا قلنا إن الواجب في كل أربعين، والزيادة ليس لها عمل إلا في التغير فحسب. وأما الكلام الثاني الذي قالوه .. قلنا: نعم، وجبت الحقتان في المائة والعشرين بدليل مقطوع به ولكن حين زادت واحدة فات محل وجوب الحقتين وانقطع الإجماع فصلح التعرض لما يدل عليه الخبر الواحد فنوجب ما أوجبه، ولهذا لم يجز الاجتهاد لإيجاب شيء آخر في المائة والعشرين، وصح الاجتهاد لإيجاب ثلاث بنات لبون عند وجود الزيادة. وأما الكلام الثالث .. وهو الذي قالوا: إن وجوب الحقاق وبنات اللبون يبتنى على وجوب الغنم وبنت المخاض. قلنا: إن زعمتم أن المراد بالإبتناء أنها وجبت بعد وجوبهما فهذا مسلم. وإن زعمتم أن معناه أن ذلك يصير أصلاً وهذا يصير فرعاً له فلا نسلم. والدليل عليه: أن في الخمسين الثانية للمائة الأولى قد عادت الحقة وثلاث بنات لبون، لم تعد الغنم ولا بنت المخاض، ولو صار ذلك أصلاً وهذا فرع له لم يجز إلا أن يعود الأصل ثم يعود الفرع، وعلى أنا قد دللنا أن وجوب الغنم ضرورة والضرورة تلزم موضعها. وأما بنت المخاض فقد بينا أنها خارجة عن النمط الأعدل والطريقة الوسطى مثل الجذعة فلم يستقم عودها، والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) الزكاة تتعلق بالنصاب والوقص

(مسألة) الزكاة تتعلق بالنصاب والوقص عندنا، وهو قول محمد بن الحسن من أصحابهم. وعند أبي حنيفة رحمة الله عليه وأبي يوسف تتعلق بالنصاب دون الوقص، وهو قول الشافعي رضي الله عنه. لنا: إنه قد ثبت أن النبي عليه السلام قال: ((في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض إلى خمس وثلاثين فإذا زادت واحدة ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين)).

وقوله: ((إلى الحد الواجب))، دل أنه متعلق بالنصاب والوقص، ولأن جميع المال محل للواجب، والرجل من أهل وجوب الزكاة عليه، وليس تعليق الواجب ببعض المال أولى من البعض فتعلق بالكل الواجب، وهذا كما لو سرق مالاً بقدر نصب كثيرة فإنه يتعلقا القطع بالكل للمعنى الذي بينا كذلك ههننا، وكذلك إذا أوضح جميع رأسه فإنه يتعلق الأرش بجميع الموضحة، لأنه ليس إيجابه في البعض أولى من إيجابه في البعض فتعلق الواجب بالكل. والحرف لنا: أن تقدير النصاب/ لمنع تعليق الواجب بما دونه لا يمنع تعليقه بما زاد عليه مثل النصاب في السرقة، والقدر الذي ينطلق عليه اسم الموضحة فإنه لمنع تعليق الواجب بما دونه لا يمنع تعليقه بما زاد عليه، وهذا لأن المال إذا كان محل الواجب، والرجل من أهل وجوب الزكاة عليه فلا يمكن إخلاؤه من الوجوب. وأما حجتهم: قالوا: الزيادة لها حكم نفسها بدليل أنها إذا بلغت قدراً معلوماً تعلق بها واجب جديد فتخلو من الواجب حتى تبلغ ذلك المقدار، وهذا كالنصاب الأول فإنه لا يتعلق به شيء حتى يبلغ الحد المعلوم، وبهذا فارق السرقة ومسألة الموضحة، لأن الزيادة ليس لها حكم نفسها بدليل أنها لو زادت زيادة كثيرة لا يتعلق بها واجب آخر بحال آخر بحال فكانت الزيادة بمنزلة الأصل في تعلق الواجب بالكل.

قالوا: ولأن الزيادة لو هلكت لم يسقط شيء من الواجب، وصوروا إذا هلك قبل التمكن من الأداء ليكون في محل الإجماع فلو كان تعلق بها شيء من الواجب لسقط من الزكاة بقدر الهالك، كما لو هلك النصاب. الجواب: أما قولهم: ((إن الزيادة لها حكم نفسها)). قلنا: ليس لهذا معنى سوى أنه إذا بلغ حداً معلوماً يتعلق به واجب آخر وهذا أولاً تدخل عليه الزيادة على إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين فإنه لا يتعلق بهذه الزيادة واجب آخر، لأنه عندهم يستأنف الحكم بعده ومع ذلك لم يتعلق الواجب الأول بهذه الزيادة على أصلهم. فإن قالوا: يتعلق، فقد التزموا المناقضة. فإن قالوا: يتعلق واجب آخر إذا بلغت الإبل مائة وخمسين فإنه تجب حقة ثالثة في الخمسين الثالثة. فقلنا: فإذا لا استئناف، وقد قلتم بالاستئناف، وعلى أن هذا إن استقام فيما بعد المائة فلا يستقيم في التسع الزائدة من إحدى وتسعين إلى تمام المائة فإنه لا يتعلق بها واجب آخر بحال، ومع هذا لا يتعلق بها الواجب الأول، ثم نقول: للزيادة حكم نفسها إذا بلغت قدراً معلوماً. والكلام فيما إذا لم تبلغ ذلك القدر فهو وما زاد عليه واحدة والجميع بمنزلة شيء واحد ومال واحد، وقد بينا أنه ليس تعليق الزكاة ببعض المال أولى من بعض فتعلق بالكل، ثم إذا بلغت الزيادة نصاباً آخر حينئذ يتعلق به واجب آخر.

فإن قالوا: إذا كان تعلق به الواجب الأول كيف يتعلق به واجب ثان؟ قلنا: هذا غلط، لأنه إن كانت الزيادة بعد حؤول الحول فالواجب الأول لا يسرى إليها، وإن كانت الزيادة قبل حؤول الحول فعندنا لا يضم النصاب بل يعتبر لها حول جديد من وقت الاستفادة فلم يتصور اشتغال الزيادة بالواجب ثم خلوها عن الواجب، واستقام ما قلنا إن الزيادة لها حكم نفسها إذا بلغت قدراً يتعلق بها واجب آخر، فأما إذا لم تبلغ من قبل فلا. وأما قولهم: ((ينبغي أن ينتظر)). قلنا: لا معنى للانتظار وقد وجدنا مال الزكاة وقد ملكه من هو من أهل الزكاة. وأما في الابتداء فلأنه لم تبلغ نصاباً والزكاة لا تجب فيما دون النصاب وههنا قد بلغ نصاباً وقد زاد، وقد ذكرنا وجه تعلق الواجب بالكل. وأما قولهم: ((إذا هلكت الزيادة قبل التمكن من أداء الزكاة)). قلنا: قد قال بعض أصحابنا: إنه يسقط من الواجب بقدره وإن سلمنا أنه لا يسقط فلأن الزيادة جعلت وقاية لما هو الأصل فانصرف الهلاك إليها حكماً، وصار النصاب بمنزلة القائم جميعه من غير أن يهلك منه شيء. وهذا مثل ما لو هلك بعض مال القراض وقد ظهر فيه الربح فإنه ينصرف الهلاك إلى الربح، وجعل الربح وقاية لرأس المال، وصار رأس المال كأنه لم يهلك منه شيء كذلك ههنا. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) إذا هلك مال الزكاة بعد حؤول الحول ووجود التمكن من أداءها لم تسقط الزكاة عمن عليه بهلاكه

(مسألة) إذا هلك مال الزكاة بعد حؤول الحول ووجود التمكن من أداءها لم تسقط الزكاة عمن عليه بهلاكه عندنا. وعندهم: تسقط. لنا: إن المال سبب الوجوب لأداء فعل الوجوب فإذا حصل الوجوب واستقر فقد عمل السبب عمله، والسبب إذا تم عمله فبعد ذلك شرط وجوده لغو لا معنى له كسائر الأسباب إذا تمت، وأقواها صدقة الفطر فإنها لم تسقط عنها بهلاك المال لما بينا. وهذا لأن الوجوب محله الذمة فإذا وجب الشيء فقد حصل في محله الذي له فاستغنى عن تعلقه بمحل آخر، لأن الذمم مستقلة تحمل الواجبات مستغنية في وجوبها عن ضم محل آخر إليها بل لا يتصور الوجوب إلا في الذمة فإن معنى الوجوب في الذمة تكليف المكلف فعلاً على صفة مخصوصة فيقال وجب عليه كذا، وكلف/ كذا، ثم إنما يكون أداؤه بآلة:

فإما أن تكون الآلة هو البدن مثل العبادات البدنية، وإما المال مثل اللوازم المالية، فإن كان بدنياً فلا التفات فيه إلى المال، وإن كان مالياً فلا يتعين له مال دون مال، لأن جميع الأموال في تصور الأداء به واحد فلا معنى لتعين محل واحد له، اللهم إلا أن يكون التعيين لمعنى لغرض مطلوب يطلبه الشرع من توثقه مؤدية إلى اختصاص باستيفاء وخلاص من مزاحمة لولاها لم يحصل به ذلك مثل الرهن فتعين له ذلك المال من وجه لا من وجه على ما عرف في كتاب الرهن. وإذا لم يتعين له محل فهلاك مال بعينه لا يوجب سقوطه بل يؤمر بالتوصل إلى الأداء بمال آخر، فإن وجد ولم يفعل لم يعذره الشرع، فإن لم يجد عذره الشرع رحمةً وتخفيفاً لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. فأما تعلق الوجوب بأعيان الأموال فلا مطمع لأحد في تحقيقه وتصويره، ولئن قاله قائل فهو مجازف مباهت ولا كلام مع مثل هذا. واستدل الأصحاب في أن الوجوب لا يلاقي المال أنه لو أدى الزكاة من مال آخر يجوز ولو تعلق بالعين لم يجز، ولتعين هذا المال له على التحتم واللزوم، وما ذكرناه من القاعدة مستغنية عن هذا الحكم، وسنذكر كلامهم عليه. وقد سلك كثير من مشايخنا طريقة أخرى وهي: أنه بالتأخير بعد التمكن آثم جان متعد فيضمن إذا هلك، كما لو منعه من الساعي ثم يهلك، والدليل على أنه جان وجوب إخراج الزكاة على الفور،

لأنها وظائف موظفة على السنين لدفع حوائج تتجدد للفقراء على مرور الأوقات والأزمان عليهم فإطلاق التأخير ليؤديها من عليه متى اختاره لا يجوز، لأن الحوائج إذا تعجلت والوظائف إذا تأخرت بطلت الإغراض ويموت المحاويج، وما أوجب لسد الحاجة فلا يوجب على وجه لا ينسد به الحاجة. يبينه: أنه إذا جاز التأخير، والمنايا طوارق على الرجال، والنوائب على الأموال غوادي وروائح، وكل واحد منهم مسقط للزكاة لم يبق للوجوب أثر. فدل على أن الوجوب على الفور، وأنه جان متعد بالتأخير فيلحقه وبال جنايته ليبقى الحق عليه وإن هلك محل أدائه ليؤديه من محل آخر، ويجعل المال في حقه كالقائم فيلزمه الغرامة، مثل ما لو استهلك المال، وهذه طريقة جيدة يمكن تمشيتها، غير أن الاعتماد على الطريقة الأولى، والتحقيق فيها، وسنذكر كلامهم على الطريقة الثانية، ووجه الجواب عنه. وأما حجتهم: قالوا: الواجب جزء من المال فإذا هلك المال فلم يبق محل ليجب جزء منه فسقط الواجب لفوات المحل. وربما يقولون: حق تعلق بعين المال فيسقط بهلاكه. دليله: العبد الجاني إذا هلك، والدليل على أن الواجب جزء من المال النصوص من الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {فِى أَمْوَالِهِمْ

حَقٌّ مَّعْلُومٌ} ونظائر ذلك، وكذلك: ((في خمس من الإبل شاة))، ((وفي أربعين من الغنم شاة)). وكلمة ((في)) دليل على المحلية وأن الواجب جزء منه. واستدل أبو زيد على هذا الأصل بمسائل منها: أنه لو باع المالك مال الزكاة لا يجوز، وأراد به مذهبنا. قال: ((ولو تصدق بجميع النصاب على فقير نفلاً سقطت عنه الزكاة، ولو لم يتعلق بالمحل لم يسقط، ولأن تقدير الواجب بالعشر أو ربع العشر دليل على أن الواجب جزء منه)). قال: ((والواجب عليه فعل في المحل بالإخراج، وشبه هذا بمن قال لغيره: ادفع وديعتي إلى فلان، فلم يدفع حتى هلك سقط الأمر منه، وكذلك المودع إذا قبل الحوالة ليقضي دين المودع من الوديعة فهلكت الوديعة بطلت الحوالة)). وأمثال هذا ليس له كلام معنوي يدل على هذا الأصل الذي يدعيه بعد زعمه تدقيق النظر وإكثار الرواية، وادعى بعضهم على صحة هذا الأصل من أصل الشافعي أن الزكاة عنده تمنع الزكاة، مع قوله: ((إن الدين لا يمنع الزكاة))، وليس ذلك إلا لأن الواجب جزء من المال.

قالوا: وأما إذا أدى الزكاة من موضع آخر إنما جاز لأصل ذكره في مسألة القيم. وحرفهم في هذا أنه إنما جاز ذلك بطريق أن حق الله في إخراج جزء من المال المعين، وحق الفقير في المال المطلق فملك أن يؤدي عين المستحق كأنه أداه برضا صاحب الحق وهو الله تعالى، ووجود رضاه بأمره يصرفه إلى الفقير الذي حقه في المال مطلق. قالوا: ولا يجوز أن يقال إنه جان بالتأخير حتى هلك المال فقد قال بعضهم: لا جناية أصلاً. قال أبو زيد: لم يوجد منه من التعدي ما صلح علة لضمان لعين لأنه لا جناية على نفس الحق، لأن وقت الأداء قائم، ولئن عد جانباً على نفس الحق يكون بالتفويت ولا تفويت، لأنه وإن أخر مدة طويلة ثم أدى يكون مؤدياً وهو مثل تأخير الصلاة عن أول الوقت إلى آخره. قالوا: ولا يجوز أن يقال إنه جان على محل الحق، لأن الجناية عليه تكون بالإتلاف أو الغصب الذي عندنا حده إزالة اليد ولم يوجد، لأن العين قائمة ولا يد لأحد حتى تزال وسلم الإثم إلا أنه قال: مجرد الإثم لا يدل على الضمان كالممسك وغيره. وقالوا: والأصح أنه وإن طالبه الساعي بإخراج الزكاة فامتنع حتى هلك لا ضمان.

وأما إذا استهلك المال فقد جنى على محل الحق بالإتلاف فضمن وصار كالمولى إذا قتل العبد الجاني يضمن، بخلاف ما لو هلك بنفسه. قالوا: وأما صدقة الفطر فالواجب ليس بجزء من المال بل هو واجب في ذمته بسبب رقبته ورقبته شخص يلي عليه على صفة مخصوصة. وأما ملك المال عندنا إنما اعتبر ليصير غنياً فيكون أهلاً لوجوب الصدقة عليه ونظير هلاك المال في الزكاة هلاك الرقبة في صدقة الفطر. قالوا: وأما الحج فخارج على ما قدمنا، لأن الفوات يتحقق بتأخيره عن وقته فصار جانياً عليه بالتأخير، وأما إدراكه في السنة الثانية فهو على التوهم على ما يذكرونه في كتاب الحج، وسيأتي إن شاء الله تعالى، هذه الطريقة إذا انتهت إلى هذا الوضع. وقد ذكروا في الأمالي طريقة أخرى: وهو أن وجوب الزكاة كان بصفة فلا يبقى إلا على ذلك الوصف حتى لا يبقى غير ما وجب، والوصف المشار إليه وصف اليسر، وهذا لأن المكنة غير كافية لأنه يملك عشرة وعشرين توجد المكنة من إخراج خمسة دراهم لكن لا على سبيل اليسر، فإذا بلغ نصاباً تيسر، وصفة اليسر إنما تبقى ببقاء المال، فإذا هلك المال فات اليسر، لأن صفة اليسر بإخراجه من المال النامي ليكون النماء في مقابلة ما يخرجه فتيسر عليه فإذا هلك وألزمناه الأداء من كيسه كان غرامة وزال الوصف الذي ذكرناه. قال: وليس كما لو كان عنده مائتا درهم وحال عليها الحول وهلكت مائة حيث يبقى على ردهمان ونصف، لأن إخراج هذا القدر من مائة درهم مثل إخراج خمسة من مائتين وكلاهما بوصف اليسر إلا أن اعتبار ملك المائتين في الابتداء شرط ليصير أهل وجوب الصدقة عليه ثم تلك الأهلية تعتبر

عند الوجوب فإذا تحقق فحينئذ تسقط بقدر الهالك وتبقى بقدر الباقي، وتعلقوا بهلاك المال قبل التمكن من الأداء. وقالوا: شرط التمكن لتجب الزكاة بعيد جداً، ولو استهلك المال قبل التمكن من أداءه غرم الزكاة ولو لم تجب لم يغرم، كما لو استهلك قبل حؤول الحول، ولأن التمكن لا يعتبر في الواجب إنما يعتبر تحقق السبب بدليل النائم والمغمى عليه في جميع وقت الصلاة تجب عليهما الصلاة ولا تمكن. وقد قال مشايخهم: إن قدر الزكاة في يده أمانة لحصوله بغير فعله مثل الثوب هب به الريح وألقته في حجره، فإذا كان أمانة وهلك من غير فعله فلا ضمان كما في الوديعة. الجواب: أما الطريقة الأولى فلم أعثر فيها إلا على مجرد الدعوى. ومسألة البيع ممنوعة، وعلى أحد القولين وإن أبطلنا البيع فهو كبيع المرهون فإن المال وثيقة به، ومسألة التصدق بجميع المال على أصلهم. ومسألة منع الزكاة وجوب الزكاة في الحول الثاني على أصولهم أيضاً. وإيجاب العشر في الزروع لتقدير الواجب بقدر معلوم لا لأن الواجب على ما زعموا، وقد طال تعجبي من هذه الدعوى العريضة التي بنى عليها مسائل كثيرة من غير أن يحكم هذا الأصل بمعنى وإن قل، وكيف يجوز أن يترك الأصل الذي يعرفه كل أهل العلم وهو أن الوجوب لا يتصور إلا في الذمة بمثل هذه الأشياء؟ وأما الكتاب والسنة اللذان وردا في كذا وكذا لتحقيق السنية وليس كما زعموا.

يبينه: أنه قال عليه السلام: ((في خمس من الإبل شاة))، والشاة لا تكون جزء من الإبل، ولهم على هذا حرف يذكرونه في مسألة القيم وسيرد. وقولهم: ((إن الواجب فعل الإخراج)). قلنا: فعل الإخراج أداء الواجب الذي استقر في الذمة مثل فعل الإخراج في سائر الواجبات. وأما مسألة العبد الجاني، فنحن نقول: إن الرقبة للعبد بمنزلة الذمة للأحرار، ومعنى التعلق بالرقبة وجوب بيعه في الجناية. وعلى أنا نقول: وإن هلك العبد الواجب باقي عليه في الآخرة غير أن السيد لا يؤاخذ بهذا الواجب، لأنه لا فعل منه/ يعني الجناية، والواجب واجب الفعل. وأما ههنا فهذا واجب مبتدأ بسبب يكون في الذمة على ما سبق. وأما الواجب عن هذه الطريقة على الطريقة الثانية فسهل، لأن نهاية ما في الباب أن يسلم لهم ما ادعوه لكن هو متعد بالتأخير فيضمن كما لو منع الوديعة من المودع. وقولهم: ((لم توجد الجناية على نفس الحق)). قلنا: ليس معنى هذا إلا أنه يكون مؤدياً متى أخرج الزكاة، ويبطل هذا بالمودع إذا منع الوديعة حتى هلكت ضمنها، ولو منع ثم أدى يكون مؤدياً على الحد الذي لو سلمها قبل المنع. والحرف أن المضمن حظرية التأخير وإذا حرم التأخير وأخر وهو حق الآدمي على ما سنبين دخل في ضمانه، وعندي أن الاعتماد على الطريقة

الأولى لأنها محض التحقيق، وخلاصة الفقه، والتضمين مجرد التأثيم فيه خطر عظيم. وأما طريقتهم الثانية قولهم: ((وجبت الزكاة بصفة اليسر)). قلنا: بلى، الوجوب معلوم، فأما ضم هذا الوصف إليه فليس عليه دليل اللهم إلا أن يكون المراد به إيجاب قليل من كثير وغيض من فيض فهذا مسلم، وقد وفينا الواجب هذه الصفة حيث لم يوجب إلا على هذا الوجه. وقولهم: ((وجب أن يبقى على وصف ما وجب)). قلنا: هو ذلك الواجب لم يتغير وبقاؤه بعد هلاك المال من قضية كونه في الذمة وكون المال آلة الأداء، وهذه الآلة وإن هلكت لم يعوز آلة أخرى. وهذا لأن بهلاك المال لا يصير وصفنا الواجب بكونه قليلاً من كثير فائتاً بل هو على ما كان. الجواب على الطريقة الثانية ممكن أيضاً، لأنه وإن وجب على هذا الوصف لكن تعديه أدخله في ضمانه، كما لو استهلك المال. وأما فصل هلاك المال قبل التمكن من الأداء فسقوط الزكاة إن سلمنا وجوبها كان لعدم استقرارها، ودليل عدم الاستقرار عجزه عن فعل الإخراج وسقوطه عنه مع تصوره منه محسوساً، بخلاف النائم والمغمى عليه وسقوط غير المستقر غير مستبعد، لأنه يكون واجباً من وجه لا من وجه وهذا الحرف إذا أصابه الفقيه مشى الكلام فليتأمل فيه. وأما قولهم: ((إن قدر الزكاة أمانة)). قلنا: ليس كأمانة أموال الناس عند الناس إنما معنى الأمانة أن الشرع جعل الإخراج إليه مثل الصلاة والصوم وغيره وفوض إليه، وجعل أميناً عليه، وهذا لا يمنع وجوب الضمان عند قيام الدليل عليه. وقد قام الدليل عليه على ما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) المستفاد في خلال الحول لا يضم إلى النصاب الذي عنده في الحول بل يستأنف له الحول

(مسألة) المستفاد في خلال الحول لا يضم إلى النصاب الذي عنده في الحول بل يستأنف له الحول عندنا. وعندهم: إذا كان من جنس النصاب يضم إليه ويزكى بحوله. لنا: ما رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر أن النبي عليه السلام قال: ((من استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول)). ورواه أيضاً عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي عليه السلام، ذكر هذين الخبرين أبو عيسى الترمذي في

جامعه، وروى عن ابن عمر نفسه أيضاً أن المستفاد يستأنف له الحول. قال: وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، ثم حكى الضم عن سفيان الثوري وأهل الكوفة. فإن قالوا: راوي خبركم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف كثير الغلط، كذا ذكره أحمد وعلي بن المديني. قلنا: قد قواه من روى عنه، وعلى أنا قد روينا بطريق آخر. وأما الكلام من حيث القياس: نقول: المستفاد مال مملوك أصلاً بنفسه لا على طريق التبع لغيره فيعتبر له حول نفسه لوجوب الزكاة فيه، دليله: إذا كان من غير جنس النصاب. ودليل قولنا: ((أنه ليس بتبع لما عنده من النصاب))، لأنه مملوك بسبب مثل السبب الذي ملك به النصاب فلم يصلح أن يكون تبعاً له، لأن مثل الشيء لا يكون تبعاً له بحال.

يدل عليه: أن تبع الشيء ما يكون قيامه به بوجه ما، ومن ملك خمساً من الإبل ثم ملك خمساً من الإبل فلا قيام للثاني بالأول بوجه ما، فكيف يتصور إثبات تبعية له؟ فدل أنه أصل بنفسه مثل الأول، والحول شرط الزكاة فما لم يوجد لم يجب، ولم يوجد فقات الوجوب مثل ما إذا لم يوجد في النصاب الذي عنده، فإنه يفوت الوجوب كذلك ههنا. والحرف الوجيز لنا: هو فوات الحول في المستفاد حساً، وعدم قيام الدليل على كون الحول المنعقد للأصل حولاً له، لأنه لو كان هو التبعية، وقد ذكرنا أنه لا تبعية، وإذا ثبت فوات الحول لم يجز إيجاب الزكاة بلا حول. وأما حجتهم: قالوا: مستفاد من جنس النصاب في حول لم يزك/ أصله فيضم إليه ويزكى بحوله. دليله: الأولاد والأرباح. وأما الفقه لهم: قالوا: أجمعنا على أن الضم في الحول مشروع في الجملة بدليل الأولاد والأرباح، ولابد له من علة وأصح علة له الجنسية حكماً وحقيقة. أما الحكم فلأن الأولاد والأرباح يضم إلى النصاب في حكم الحول فليس هو بعلة التفرع والتولد، لأن التولد إن كان علة فهذا علة إسراء الحكم من الأصل إلى الفرع، ولو كان يوجب إسراء حكم الحول الذي هو شرط الوجوب لكان يوجب إسراء حقيقة الوجوب إذا حدثت الأولاد بعد حول الحول، وحين لا يكون علة الإسراء حقيقة الوجوب بعد الحول فلأن لا تكون علة إسراء شرط الوجوب أولى، ولأن الأولاد تأخذ محلية الزكاة بعد الانفصال وزالت التبعية بعد الانفصال بل صارت أصولاً مثل أصولها، ولأن الأولاد تغير حكم الأصل من الواجب فإنه ربما ينتقل الواجب من سن إلى سن بحدوث

الأولاد والتولد توجب أخذ الأولاد حكم الأصول، فأما أن يوجب تغيير حكم الأصل فلا. فدل أنه لا يجوز أن يكون الضم معلولة بعلة التفرغ والتولد، فدل أنه بعلة الجنسية وقد وجدت في مسألتنا فثبت الضم. وأما من حيث الحقيقة فلأن الجنس إذا اتحد صار الجميع في حكم الشيء الواحد لاتفاق الكل في المعنى، وإذا صار الجميع كالشيء الواحد يجوز أن يجعل كأنه ملك الكل في وقت واحد فيكون بعضه مضموماً إلى البعض ضرورة. وقد قالوا: إن المستفاد تبع النصاب الذي عنده في الحكم، بدليل أن المالك لنصاب واحد لو أخرج زكاة أنصبة يجوز فصار النصاب الذي عنده سبباً لملك المستفاد فصح التعجيل بهذا الوجه. ولأن المستفاد زيادة على الأصل، والزيادة على أصل تبع الأصل وهو في المعنى نظير شجرة تنمو وعبد يكبر وغيره هذا من الأمثلة، وإذا صار له تبعاً له من هذا الوجه وجب الضم مثل ما يجب الضم في الأولاد والأرباح لما كانت أتباعاً لما عنده. فهذا معتمدهم وأحسن التمسك كلامهم بالأولاد على ما سبق تقريره. وقد قال بعضهم: إن الحول صار ساقط العبرة في المستفاد لأجل الحرج وهذا لأن وجوه الفوائد كثيرة، وإذا كثرت وجوه الفوائد كثرت الفوائد، فيشق حفظ الحول لكل فائدة، ويلحق المالك إذا أوجبناه عليه حرج شديد فسقط عنه بعلة الحرج وهو مثل الأولاد والأرباح لا يعتبر حول جديد لكل ربح ولكل ولد، لأنه يكثر في العادة فتكليف المالك حفظ الحول لكل فائدة يؤدي إلى حرج شديد فسقط لعلة الحرج كذلك ههنا. قالوا: وأما ثمن السائمة الزكاة وصورته إذا كان عنده نصاب من السائمة ونصاب من الدراهم فسبق مضى حول السائمة وأدى زكاتها ثم إنه باعها بنصاب

من الدراهم أو دونه لا يضم إلى حول الدراهم التي عنده لأنا احترزنا عن هذا في العبارة بقولنا: ((لم يزك أصله)). وأما من حيث المعنى .. قالوا: الجنسية علة الضم على ما ذكرنا، وقد وجدت في هذه المسألة إلا أنا لم نضم لأنه قام دليل مانع من الضم وهو تحريم الثني في الصدقة والضم يؤدي إلى الثني في الصدقة. وقد قال النبي عليه السلام: ((لا ثنا في الصدقة))، وإنما قلنا إنه يؤدي إلى الثني لأن الزكاة حق المال، والثمن بدل عن مبدل قد أدى زكاته والمالية في البدل والمبدل واحد، ولهذا لا ينقطع حول التجارة بالمبادلة فإذا أوجبنا الضم في هذه الصورة التي ذكرتم وزكيناه عند حول النصاب الذي عند بثني الصدقة فلأجل هذا امتنع الضم، ويجوز أن يمتنع عمل العلة بمانع من العمل، هذا من جملة ذلك، وليس كما لو أدى صدقة الفطر عن عبده ثم باعه حيث يضم ثمنه إلى النصاب الذي عنده، لأن صدقة الفطر ليس بحق المال إنما هو حق الرقبة، بدليل وجوبها في رقبة الحر. وإنما ملك المال شرط الوجوب فلم يؤد الضم إلى الثني في الزكاة، وليس كما لو أدى عشر الزرع ثم باع الزرع بدراهم حيث يضمها إلى ما عنده من النصاب، لأن العشر ليس بحق الزرع، إنما هو حق الأرض النامية مثل الخراج على ما نذكر من بعد فلم يؤد الضم إلى الثني في

الصدقة بخلاف ما نحن فيه على ما سبق بيانه، وقد احتج بعضهم بفصل القدرة. وقالوا: المستفاد يضم إلى ما عنده في القدر فيضم إلى ما عنده في الحول/ بل الحول أولى بالضم، لأن القدر أصل والحول وصف فإذا ضم المستفاد إلى ما عنده فيما هو الأصل فلأن يضم في الوصف أولى. وبيان الضم في القدر عدم اعتبار القدر في المستفاد لا تفسير له سوى هذا وذلك إذا كان عنده مائتا درهم فملك زيادة عليها لم يعتبر النصاب فيها أصلاً. أما عندكم يجب في الزيادة بحساب ما سبق قل أو كثر. وعندنا يجب إذا ملك أربعين درهماً، ولم يعتبر ملك المائتين، وكذلك من عنده ثلاثون من البقر ثم ملك عشرة وحال عليها الحول يجب فيها ربع مسنة. وكذلك قلتم من كان عنده خمس وثلاثون من الإبل ثم ملك بعيراً وحال عليه الحول يجب عليه جزء من ستة وثلاثين جزء من بنت لبون وأمثال هذا يكثر وأصل الإيجاب في هذه المواضع ليس إلا باعتبار الضم في القدر. قال أبو زيد في آخر المسألة: (ووجه آخر عن الاستدلال بالنص الحديث المشهور في باب الزكاة في حديث ابن عمر وعمرو بن حزم: ((ليس في أقل من خمس من الإبل السائمة

الصدقة فإذا كانت خمساً ففيها شاة ثم ليس في الزيادة شيء حتى يكون عشراً فإذا كانت عشراً ففيها شاتان ...)) إلى آخره. ونحن نعلم قطعاً أن الزيادة خمساً على خمس لا يكون كما حال الحول على الأصل ولا تقع جملة فلما أوجب الشرع شاتين بوجود الحول علم أن الضم واجب وكذلك بنت مخاض بزيادة خمس بعد العشرين). الجواب: أما التحرير فليس في صورته دليل على الحكم، لأن الخلاف في مستفاد بهذه الصورة وقع فلابد من بيان المعنى. وأما قولهم: ((إن الجنسية علة الضم)). قلنا: التعليل بالجنسية فاسد، لأن الضم في الحول إثبات تبعية المستفاد للنصاب الذي عنده، لأنه إذا لم يكن تبعاً لم يتصور القول بالضم، لأنه لا يكون ضم المستفاد إلى النصاب أولى من ضمه إلى المستفاد، فدل أن القول بالضم مبني على إثبات التبعية ولا دليل على التبعية، لأن المجانسة لا تدل على التبعية، ويجوز أن يوجد أصلان من جنس واحد والدنيا ملاآء من هذا. وإنما حد التبع ما ذكرناه، وهو أن يكون قيامه به بوجه، ولا يوجد هذا في مسألتنا على ما سبق. ويخرج فصل الأولاد على هذا، لأن قيامها كان بالأمهات والآن صار أصلاً بذواتها فيجوز أن يقال إنها أتباع، وكذلك الأرباح والذي ذكر من الكلام على علة التفرع فلا يسمع لا ادعينا التبعية محسوساً وعيناً فبل الانفصال. وقولهم: إنها صارت أصولاً)).

قلنا: انفصلت على التبعية إلى أن صارت أصولاً بعد تمام الانفصال وإنما لم يسر الوجوب بعد الحول، لأن الوجوب يكون في الذمة فيكف يسرى معنى الذمة في الأولاد؟ وأما تغير حكم النصاب كان لأن الأولاد قد صارت أصولاً بعد الانفصال، والحروف أنها انفصلت حين انفصلت إتباعاً فسرى إليها حكم الحول المنعقد على الأصول ولما صارت أصولاً بعد الانفصال جاز تغير حكمها على ما نص عليه الشارع هذا تمشية مع جواب الأصحاب، وقد استدل الأصحاب على تصحيح علة التفرع بمسألة نصوا عليها في الجامع الكبير وهي أنه إذا كان عنده نصابان مختلفان في الحول من جنس واحد فاستفاد مالاً يضم إلى أقربهما إلى الحول، ولو كان من ربح أحدهما أو نتاجه يضم إلى أصله وإن كان أبعدهما من الحول بعلة التفرع، ولهم على هذا عذر ذكرته في التعليق، والجواب سهل. ويمكن أن يجاب بجواب أولى من هذا، وهو أن اعتبار الحول في الأولاد سقط بالحرج، لأن الأولاد يكثر حصولها، وتتفاوت أوقاتها وأزمانها تفاوتاً فاحشاً، وإذا أوجبنا اعتبار حول كل ولد يحصل من زمان الحصول وكذا كل ربح يحصل من زمان التجارة، وزمان الحصول مع كثرة البياعات واشتغال التجار بها في جميع أوقاتهم، وكثرة الأولاد لكثرة السوائم أدى إلى حرج في نهاية العظم فقسط لاعتبار هذا الحرج. وهذا لا يوجد في الفوائد من وجوه الإرث والهبات والشراء وغير ذلك لأنه لا يكثر، واستفاد صاحب السائمة زيادة على السائمة بهذه الوجوه يندر ويقل فلا يؤدي على الحرج، وإن ادعوا وجود الحرج على ما ذكروا يكون مجرد دعوى زيادة بلا برهان وهذا الجواب أولى من الأول، وعليه الاعتماد.

وأما سائر ما قالوه في إثبات التبعية فليس بشيء، ومسالة التعجيل على أصولهم، وقولهم: ((إن الزيادة على أصل يكون وصفاً له ويكون كشجرة تطول، وصغير يكبر)). فهوس، ومن ملك/ خمساً من الإبل ثم بعد شهرين يملك خمساً من الإبل، كيف تكون الخمسة الثانية وصفاً للخمسة الأولى؟ وأما قولهم: ((إن الكل في المعنى واحد)). قلنا: ولا يجوز أن يكون الغرض والمطلوب من شيئين معنى واحدا ولا يكون أحدهما تبعاً للآخر، أليس في المرأتين والهدين، والجاريتين والدابتين يتفق الغرض في كل شيئين من هذه الأشياء ومع ذلك لا يكون أحدهما تبعاً للآخر؟ وأما تعلقهم بضم القدر فهو مندفع بجدال جيد قريب المأخذ سهل المتناول، وذلك لأن الواجب في الصورة التي قالوها يبتني على قدر المستفاد حتى وجب فيه بقدره، ولم يجب بقدر الأصل، فكذلك الواجب في مسألتنا وجب أن يبتنى على حول المستفاد حتى يجب فيه بحوله ولا يجب بحول الأصل. يبينه: أن القدر الذي عنده لم يجعل كأن المستفاد مشتمل عليه بالحول المنعقد على ما عنده وجب أن يجعل كأنه حائل على المستفاد. ثم الجواب معنى: إن المال قد كثر بالمستفاد فإذا كثر قدراً يكثر الواجب ثم يكون الواجب في الأصل بقدره وفي الزيادة بقدرها.

فإن قالوا: ((لم لا يعتبر وجود قدر كأصل في المستفاد يعني النصاب)). قلنا: أما في الدراهم والدنانير سقط بالنص فإن النبي عليه السلام قال: ((وفيما زاد فبحسابه)). وأما السوائم فلأن النصاب المعهود اعتبر في السوائم ليصير غنياً بالغنى الشرعي ويصير محلاً لوجوب الزكاة عليه ثم توجب الزكاة عليه إذا كما نصاب بالزيادة مثل الصورتين اللتين قالوهما في أمثال ذلك. لأن إخلأهما عن الواجب لا يمكن وقد كمل بها نصاب شرعاً غير أنا أوجبنا بقدرها، ولم يثبت الضم الذي ظنوه، ولم يوجب في الزيادة إذا لم يكمل بها النصاب، لأنها في الشرع وقص، والوقص حقيقة ما خلا من الوجوب الزائدة، فهذا وجه الجواب معنى. وقد أعيا كثيراً من الفحول فليتمسك به وليقارع عليه. وقد أورد بعضهم على الضم قدراً فصل الجمعة، ولست أرى الاعتماد عليها لوجوه ذكرتها في التعليق. وأما الخبر الذي تعلقوا به فالخبر صحيح. ووجه تعلقهم في هذه المسألة ضعيف، لأن الخبر وارد لبيان مقادير الواجبات في مقادر النصب على الإطلاق من غير تعرض لمحال التفاصيل، فإذا جاءت التفاصيل فيطلب الدليل من موضع آخر وقد ذكرنا. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) صغار الغنم تجب فيها الزكاة

(مسألة) صغار الغنم تجب فيها الزكاة عندنا. وعندهم: لا تجب. وقول أبي يوسف مثل قولنا. لنا: إن الزكاة على التوقيف ولم يرد التوقيف فيها إلا بذكر عدد من جنس مخصوص مثل خمس من الإبل، وأربعين من الغنم، وثلاثين من البقر، ثم ورد بناء الواجب عليه، واسم الجنس يشتمل على الصغار والكبار والعدد المسمى يؤخذ في الكل فوجب إثبات الواجب على كل حال. يبينه: أن السن صفة مثل صفة المرض والصحة والهزال والسمن ثم رأينا أن هذه الصفات غير معتبرة بل إذا وجد العدد المذكور من الجنس المذكور وجبت الزكاة على أي صفة كان الجنس، كذلك صفة السن تلحق بسائر الصفات، ولا ينظر إلى أي سن كان الجنس الموجود.

وقد استدل الأصحاب بالكبار والصغار والمختلط بعضها ببعض فإنه تجب فيها الزكاة بالإجماع، وقالوا: كل نوعين يجب الزكاة فيهما عند اختلاط أحدهما بالآخر يجب في كل واحد منهما على الانفراد وتمام العدد منه. دليله: الضاينة والمعز والجواميس والبقر. وأما حجتهم: قالوا: نقصان السن نقص يمنع وجوب السن المنصوص عليه فيمنع وجوب الزكاة أصلاً. دليله: نقصان العدد. يبينه: أن الفرض تارة يتغير بالسن وتارة يتغير بالعدد بدليل فرائص الإبل والبقر لما كان النقصان من حيث العدد مانعاً من وجوب الزكاة في الجملة فيكون النقصان من حيث السن كذلك أيضاً. ومعتمدهم: هو أن الزكاة على التوقيف وقد ورد التوقيف بوجوبه على ترتيب مخصوص، ومعنى هذا أن في الإبل يبتدؤن بالغنم ثم تجب بنت مخاض ثم ينتقل من بنت المخاض إلى بنت اللبون ثم إلى الحقة ثم إلى الجذعة على ما عرف. وأما البقر فيجب التبيع ثم المسنة ثم تستقر الأوقاص على عدد

معلوم، والواجب على ......... سن معلوم ففي كل موضع أمكن الإيجاب على هذا الوجه أوجبنا وإلا لم نوجب أصلاً، لأن الأصل عدم الوجوب. يدل عليه: أن عندكم يجب في خمس وعشرين من الفصلان فصيل ثم بعد/ ذلك لا يجب حتى يبلغ العدد ستاً وثلاثين فيجب حينئذ فصيلان ثم بعد ذلك إلى مائة وعشرين فتجب ثلاث من الفصلان. فنقول: الشرع ورد بزيادة واجب على واجب إذا وجد زيادة نصاب على نصاب ونعني بذلك وجوب بنت لبون وحقة وجذعة عند وجود ستة وثلاثين، وستة وأربعين، وإحدى وستين، ففي الفصلان زيادة النصاب لا عمل لها في زيادة الواجب حتى إنه يجب في ستة وثلاثين من الفصلان مثل ما يجب في خمس وعشرين، وكذلك في ستة وأربعين وإحدى وستين، فنقول: كل ما لا تعمل زيادة النصاب فيه في زيادة الواجب لا يعمل النصاب فيه في أصل الواجب، وإن شئت استدللت عكساً فقلت: لو كان أصل النصاب يؤثر في أصل الواجب لكان زيادة النصاب يؤثر في زيادة الواجب كالكبار، وعلى العكس منه كل جنس لا زكاة فيه. وقالوا: وخرج على ما قلنا المرضى والهزال، وخرج أيضاً إذا اجتمع الصغار مع الكبار فإن في هذه الصورة إنما يجب في الكبار على الترتيب الوارد من غير تغيير بخلاف مسألتنا.

الجواب: إن قولهم: ((هذا النقصان يمنع وجوب السن المنصوص عليه))، فقد منع بعضهم على الإطلاق هذا وقال: يجب في الصغار ما يجب في الكبار وهو قول زفر من أصحابهم وهو القول الأول لأبي حنيفة رحمة الله عليه وإن كان قد رجع عنه. ثم وإن سلمنا أنه لا يجب في الصغار ما يجب في الكبار فنقول: إنما كان كذلك لأنا إن أوجبنا ما أوجبنا في الكبار أدى إلى ضرر عظيم بأرباب الأموال وإجحاف بهم، والشرع ورد بإيجاب الزكاة على نظر يشتمل من الجانبين فلا يجوز تركه في أحد الجانبين، والحمل عليه بالكلية فعلى هذا نقول: وجد سبب الوجوب بوجود العدد من الجنس المخصوص فلا يمكن الإسقاط لما بينا من الدليل. وحرفنا فيه: وهو أن الشرع ذكر العدد والجنس ولم يتعرض للوصف فالتعرض له في أصل الإيجاب اعتراض على الشرع، ثم قام دليل آخر وهو منع الشرع من الإجحاف بأرباب الأموال بدليل أنه أمر بالوسط، ونهى عن أخذ كرائم أموال الناس فقام الدليل على أصل الوجوب فقلناه به واعتقدناه، وقام الدليل على المنع من الإجحاف بأرباب الأموال يمكننا أن نوجب الأسنان المنصوص عليها فأوجبنا فيها من جنسها فعملنا بالدليل في الطرفين، فعملنا بالدليل القائم على أصل الوجوب، وعملنا بالدليل المانع من الإيجاب على وجه يضر بأرباب الأموال، والعمل بالدليل بقدر الممكن واجب فعلى هذا نوجب في السخال سخلة ولا نغير هنالك في الفرض إلا بالعدد فلم تغير إلا بالعدد.

وأما في الإبل والبقر فيعتبر قدر الإمكان فنوجب في خمس وعشرين من الفصلان فصيلاً لقرب قيمته من بنت مخاض، وفي ستة وثلاثين فصيلاً يقرب قيمته من بنت لبون، وكذلك في ستة وثلاثين، وفي ستة وأربعين أو يعتبر أربعاً متقارباً في القيمة للفصلان التي توجبها في هذه المواضع. وعلى أنا إن قلنا إنه يجب شيء واحد في خمس وعشرين، وست وثلاثين وست وأربعين وإحدى وستين على معنى أنه يجب في الكل فصيل فصيل، فلأنه لا يمكن إيجاب غير ذلك، ولو أمكن لفعلنا. وأما إخلا المال من أصل الواجب مع كونه على الوصف الذي بينا فمحال. فهذا هو الجواب عن معتمدهم وهو جواب حسن جيد خارج على المذاهب فليعتمد عليه. وأما تعلقهم بنقصان العدد، فليس بشيء، لأنه دخل الجواب عنه فيما قلناه، ويمكن التعلق في الجواب الذي ذكرناه عن معتمدهم بالمرضى والهرمي، فإنه يجب واحد منهما، ولا يجب الوسط المعهود، لأن في إيجاب الوسط المعهود إجحافاً وإضراراً برب المال فأوجب الواحد من النصاب وإن لم يكن وسط بل كان من رذال المال، وكان المعنى أن الكل رذال فلم يمكن إخلاؤه من الواجب مع وجود النصاب المعروف، ولم يمكن إيجاب الوسط المعهود لتضمنه الإجحاف برب المال، فعملنا بالدليل بقدر الممكن، وهو العمل بأصل الإيجاب والرضا بالواحد من الموجود، كذلك ههنا، والله أعلم. * * *

(مسألة) الخلطة الصحيحة بشرائطها مؤثرة في الزكاة

(مسألة) الخلطة الصحيحة بشرائطها مؤثرة في الزكاة عندنا. وبيان التأثير أن الخليطين يصدقان ماليهما صدقة المال الواحد للمالك الواحد وإن كان نصب كل واحد من الخليطين ناقصاً عن النصاب وذلك بعد أن صحت الخلطة واتصل بها شرائطها ........ المعهودة في الشرع على ما عرف في المذهب. وعنده: لا تأثير للخلطة أصلاً، وحكم كل واحد من الخليطين عند الاختلاط مثل حكمة عند الانفراد بلا فرقان، حتى لو كان/ ملك كل واحد منهما قاصراً على النصاب لم يجب شيء أصلاً، وإن كان ملك

أحدهما قاصراً والآخر كاملاً يعتبر حالهما بحاليهما عند الانفراد فيعمل على ذلك. لنا: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا نفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعا بينهما بالسوية)). الاستدلال: أن الاجتماع والتفرق حقيقة في المكان مجاز في غيره يقال: جمع كذا وكذا إذا قارب بينهما مكاناً، وفرق بين كذا وكذا إذا باعد بينهما مكاناً. وإذا ثبت أنه حقيقة في المكان فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التفريق بين المجتمع في المكان مخافة الصدقة، وذلك لا يكون إلا على أصلنا حيث نقول: إن المجتمع في المكان تجب فيه الزكاة وإذا تفرق سقطت فيكون النهى منصرفاً إلى المالكين مخافة أخذ الساعي على الصدقة.

وأما قوله: ((لا يجمع بين متفرق)) فهو محمول على المتفرق عنه في المكان أيضاً، وقد ورد النهي عن جميعه فيكون النهي عن جميعه منصرفاً إلى الساعي، وكذا نقول: إذا كان متفرقاً في المكان لا يجمع ليأخذ، ويجوز أن يكون قوله: ((لا يفرق بين مجتمع)) منصرفاً إلى الساعي أيضاً، وذلك في ثمانين من الغنم بين رجلين في مكان واحد لا يفرق ليأخذ من كل واحد شاة ثم قال صلي الله عليه وسلم: ((وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية)). وهذا أيضاً دليل على تأثير الخلطة أخذاً على معنى أن للساعي أن يأخذ الواجب من المال الذي بين الخليطين، ويجعل الجميع بمنزلة الواحد ثم يثبت منهما التراجع على ما يوجبه أصل ملك كل واحد منهما، هذا بيان تأثير الخلطة أخذاً، والأول دل على تأثير الخلطة وجوباً وسقوطاً. وقد روى الأصحاب في آخر الخبر زيادة وهو أنهم رووا أن النبي عليه السلام قال: ((والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والمرعى)). ولئن ثبت هذا فهو لبيان شرائط الخلطة، وعندكم الخلطة وشرائطها ساقط لغو، وليس لهم للخبر تأويل متضح يستقيم على أصولهم غير أن بعض أصحابهم قال: المراد من التفريق والاجتماع هو في الملك لا في المكان.

وقالوا: وعندنا المجتمع في المكان لا يفرق، والمتفرق في الملك لا يجمع وليس هذا التأويل بشيء لأنه ترك الحقيقة على ما سبق. ولأن تفريق المجتمع ملكاًن وجمع المتفرق ملكاً من الساعي وصاحب الزكاة لا يتصور، اللهم إلا بالبيع أو الشراء، وهذا لا ينهي عنه المالك ولا يتصور من الساعي. فإن قالوا: لا يفرق مكاناً بين المجتمع ملكاً ولا يجمع مكاناً بين المتفرق ملكاً فقد عادوا إلى ما ذكرناه من التفرق والاجتماع في المكان، وإذا حمل عليه بعض الخبر لابد أن يحمل عليه جميع الخبر فصار التعلق بالخبر في هذه المسألة في نهاية الوضوح. وإن ذكروا خبراً من المنع من إيجاب الزكاة فيما دون النصاب فهو محمول على حال الانفراد وبه نقول. وإنما الكلام في حكم الخلطة وقد ورد فيه لفظ خاص من صاحب الشرع يدل على تأثيرها على ما سبق. وأما الكلام من حيث المعنى: فالكلام فيه عسر جداً، والذي يمكن أن يعتمد عليه هو أن السائمة بين الخليطين سائمة واحدة وقد بلغت عدد النصاب، والمالكان من أهل الوجوب عليهما فصارت كما لو كانت لمالك واحد. وإنما قلنا: ((إن السائمة واحدة))، لأن السائمة إنما صارت سائمة بمعاني من المراح والمرعي والمسرح والبئر والفحل والراعي وغير ذلك، فإذا اجتمعت هذه المعاني صارت السائمة مجتمعة وجعلت كسائمة واحدة لمالك واحد. يدل عليه: أن الشرع لم يعتبر إلا بلوغ السائمة عدداً معلوماً فإذا وجد

ذلك العدد، ووجد وصف السوم فقد تم السبب فلم ينظر إلى اتحاد الملك أو تعدده. يبينه: أن القياس الكلي أن الواجب إذا تعلق بعدد يتعلق أبعاض ذلك الواجب بأبعاض ذلك العدد، ونعني بهذا أنه إذا وجب في أربعين شاة واحدة منها يتعلق بعشرين نصف شاة إلا أن الشرع لم يوجب عند التفرد يملك نصف النصاب نظراً لأرباب الأموال، فإن السائمة إذا قل عددها كثرت مؤنتها وقل رفقها فيكون في إيجاب الزكاة فيها إضراراً وإجحاف برب المال فسقط الواجب بنوع نظر، فإذا بلغ العدد المسمى في النصاب وإن كان لجماعة واتفقت الخلط بشرائطها خفت المؤنة خفة بينة وكثر الرفق فزال المعنى الذي كنا نعتبره في إسقاط الواجب فقلنا بالوجوب ورجعنا إلى الأصل الكلي، الذي قدمناه، ولم ننظر إلى اتحاد المالك أو تعدده، لأنه ليس في اتحاده أو في تعدده معنى يؤثر/ في الوجوب أو السقوط فهذا المعنى الذي قلناه نهاية ما يمكن التعلق به من حيث المعنى وهو وجه حسن يمكن تمشيته فليعتمد عليه. وأما حجتهم: قالوا: ملك كل واحد منهما قاصر على النصاب فلا تجب عليه الزكاة. دليله: إذا كان منفرداً، وهذا لأن كمال النصاب جزء ابتداء الوجوب فلا يتصور وجوب قبل ملكه نصاباً كاملاً. يبينه: أنه ولو وجب الزكاة قبل تمام ملك النصاب سقط اعتبار النصاب، وحين اتفقنا على اعتبار النصاب دلنا ذلك أن الملك قبل تمامه بمنزلة العدم. قالوا: وأما قولكم: ((إن المؤنة قد خفت بالخلطة)). قال: ((خفة المؤونة بناء على وجود النصاب أولاً فما لم يوجد النصاب أولاً فما لم يوجد النصاب

لا تعتبر خفة المؤنة، فإن الواجب بالشرع عرف، والشرع اعتبر عدد النصاب ووصف السوم فما لم يوجد كل واحد منهما لا يوجد الوجوب. وحرفهم أنهم يقولون: نحن لا ننكر أن الخلطة تفيد خفة المؤنة من وجه لكن زيادة خفة المؤنة بالخلطة كأصل خفة المؤنة بالسوم، ثم أصل خفة المؤنة لا تعتبر إلا في نصاب كامل، كذلك زيادة خفة المؤنة لا تعتبر إلا في نصاب كامل. وقالوا أيضاً: إنكم جعلتم خفة المؤنة سبباً لنقصان الواجب فإنكم قلتم: لو ملك رجلان ثمانين من الغنم وحصلت بينهما خلطة تجب عليهما شاة واحدة، ولو لم تكن هذه الخلطة لوجبت على كل واحد منهما شاة كاملة. قالوا: وأما تعلق مشايخكم من جواز أخذ الساعي حقه من عرض الغنم وإن كان قد وجب على أحدهما ولم يجب على الآخر. وذلك في صورة ستين من الغنم بين رجلين لأحدهما أربعون وللأخر عشرون، وإنما جوزنا ذلك، لأن الساعي يلحقه الحرج في طلب القسمة بينهما ثم بناء الأخذ عليه فلأجل دفع الحرج أطلقنا له الأخذ من عرض الغنم ثم يثب بينهما التراجع عند قسمة المأخوذ على النصبين. وربما يقولون: أطلقنا الأخذ لأجل النص وهو قوله عليه السلام: ((وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية)). وهذا مطلق الأخذ مثبت للتراجع. وأما أبو زيد فقد قال في هذه المسألة: ((إن كل واحد منهما فقير فلا تجب عليه الزكاة، والدليل على الفقر حل الصدقة، وزعم أن الفقير

لا يكون محل وجوب زكاة بحال، والغنى لا يكون محل حل الزكاة بحال، وهذه طريقة يأتي شرحها في مسألة زكاة المديون. الجواب: أما قولهم: ((إن ملك كل واحد منهما قاصر عن النصاب)). قلنا: ولم قلت لا تجب الزكاة إذا كان ملك كل واحد منهما قاصراً عن النصاب فإن تعلق بحال الانفراد فقد ذكرنا أن سقوط الزكاة في حال الانفراد كان على جهة النظر لرب المال ولدفع الضرر عنه، وهذا المعنى معدوم في حال الاختلاط، وإن تعلق بالمعنى وقال: لما كان ملك كل واحد منهما قاصراً عن النصاب فهو فقير فلا تجب عليه الزكاة، فهذه طريقة يأتي الجواب عنها في مسألة المديون، وعلى الفور تبطل بابن السبيل فإنه فقير بدليل حل الصدقة له ومع ذلك تجب عليه الصدقة، ثم نقول: ملك كل واحد من الشريكين وإن كان قاصراً عن النصاب لكن النصاب في نفسه كامل، والسائمة واحدة، والعبرة بوجوب نصاب كامل من السائمة سواء أكان لواحد أو لاثنين. يبينه: أنه لما كانت السائمة واحدة بإجماع شرائط الخلطة واتحادها وجب الإعراض عن اتحاد المالك وتعدده لمعنيين: أحدهما: فلأن الشرع لم يعتبر إلا وجود السائمة بعدد معلوم وقد وجد فما وراء ذلك فهو ساقط العبرة. وأما الثانية: فلأنه ليس في تعدد المالك معنى يمنع الوجوب سوى النظر له وحين صارت السائمة واحدة، واتحدت شرائطه الخلطة، وخفة المؤنة على ما سبق وجب النظر لجانب الفقراء، ومن النظر لهذا الجانب هو الإعراض عن اقتران المالكين لاعتبار اتحاد السائمة وجعلها كأنها لمالك واحد.

وقولهم: ((إن خفة المؤنة بعد وجود نصاب كامل في نفسه)). قلنا: قد ذكرنا أن اعتبار نصاب كامل عند الانفراد كان لمعنى لا يوجد ذلك المعنى عند الخلطة. وقولهم: ((إن أصل خفة المؤنة بالسوم لم يعتبر إلا في نصاب كامل)). قلنا: قد كثرت المؤنة في تلك الصورة لاحتياج كل واحد إلى مسرح ومراح وبئر وراع وغير ذلك على الانفراد، وهذه الأشياء لابد فيها من تحمل مؤن بخلاف حال الخلطة فإنه يوجد الاكتفاء بواحد من هذه الأشياء فتخف المؤنة)). وقولهم: ((إن عندكم خفة المؤنة عملت في الإسقاط لا في الإيجاب)). قلنا: قد صارت السائمة واحدة وجعل كأنها لمالك واحد، ثم إذا ثبت هذا فحينئذ يكون حكمها ما يكون/ حكمها حال الانفراد فيجب في موضع الوجوب ويسقط في موضع السقوط. والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) تجب الزكاة في مال الصبيان والمجانين

(مسألة) تجب الزكاة في مال الصبيان والمجانين عندنا. وعندهم: لا تجب. إن الزكاة حق الفقير يجب بسبب ملك المال، وملك الصبي والمجنون مثل ملك البالغ فتجب عليه، كما تجب على البالغ. يبينه: أن السبب إذا تحقق للواجب، وكانت الذمة محتملة لوجوبه لم يمتنع الوجوب بحال فقد تحقق في مسألتنا، وهو ملك المال على ما سبق. وذمة الصبي محتملة للوجوب بدليل الغرامات والنفقة، وسائر مؤن المال تجب عليه كما تجب على البالغ، فأشبه الصبي البالغ في هذا الباب ولم يقع بينهما الفرق بوجه ما، فإذا وجب على أحدهما وجب على الآخر. والدليل على أن الزكاة حق الفقراء قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ

لِلْفُقَرَاءِ}، ولا كلمة أبلغ من هذا في إثبات حق الفقراء، وهو مثل قول القائل: ((ثلث مالي بعد موتي للفقراء)). وقال تعالى: {أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}. ولأن الواجب هو التمليك، والحق في التمليكات لمن يقع له الملك. دليله: سائر التمليكات. يبينه: أن التمليك من الله تعالى لا يتصور، لأن الأشياء لله تعالى قبل التمليك وبعد التمليك على وجه واحد، وأيضاً فإن التمليك هو نقل الملك الذي للعبد في شيء إلى غيره، والملك الذي يكون للعبد لا يكون العبد من أهله بحال، وقد وجب التمليك في مسألتنا، وهو نقل الملك الذي للعبد، فإذا لم يتصور أن يكون من الله تعالى علمنا قطعاً أنه حق العباد وهم الفقراء. يدل عليه: أن الأملاك ثابتة للعباد لنفع العباد، والنفع للفقراء في الصدقات فيكون الحق لهم، والله تعالى يجل عن الانتفاع بشيء أو التضرر بشيء، فإذا وجب المال الذي يتطلب به النفع كان حقاً لمن له النفع، فهذه كلمات في نهاية الوضوح، وتبين أن الزكاة حق الفقراء فصارت مؤنة مالية وجبت بملك المال ومؤن المال يتبع وجوبها المال كسائر المؤن، وأحسن ما يتعلق به العشر وصدقة الفطر، فإنهما لما كانا من المؤن المالية تبعاً المال، فسواء وجد ذلك للبالغ أو للصبي أو المجنون اتصل به الوجوب، كذلك ههنا.

وقد تعلق الأصحاب بالعشر وصدقة الفطر ابتداء، وقاسوا الزكاة عليهما بطرديات ذكروها، ووجه التعلق بهما بطريق التحقيق هو ما قدمنا. وأما حجتهم: قالوا: عبادة محضة فلا تجب على الصبي والمجنون. دليله: الصلاة والصوم والحج، وهذا لأن الصبي ليس من أهل وجوب العبادات عليه، والشيء لا يجب إلا على أهله، والدليل على أنه ليس بأهل لوجوب العبادة عليه، أن العبادة ابتلاء من الله تعالى لعبده ليظهر من يطيعه ممن يعصيه، ولا يتصور ابتلاء العبد إلا في فعل العبد، فأما الذي لا فعل للعبد فيه فلا يتصور ابتلاءه به، لأن الابتلاء اختبار وامتحان، والإنسان يمتحن بما فعله، ولا يمتحن بما يفعله غيره. وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: ابتلاء الصبي بالعبادة لا يجوز، لأنه إن ابتلى بفعله ففعله غير معتبر، وإن ابتلى بفعل الولي فلا يجوز أن يبتلى الإنسان بفعل غيره، اللهم إلا أن يكون ذلك الغير يفعله بأمره فيقوم فعله مقام فعله لأمره إياه، فأما إذا كان فعله الغير عليه قهراً وجبراً فلا يتصور ابتلاؤه وامتحانه بذلك. قالوا: وعلى هذا خرج البالغ إذا أمر غيره بأداء الزكاة عنه، لأنه إن كان يؤدى عنه بأمره تحقق معنى الابتلاء والامتحان، وقد حد بعضهم العبادة فقال: هو فعل يفعله العبد على وجه التعظيم لمعبوده باختياره وإرادته ويشتمل الأجرية على ابتلائه وامتحانه. ثم استدلوا على أن الزكاة

عبادة محضة بقوله عليه السلام: ((بني الإسلام على خمس ...))، وذكر فيه ((الزكاة)). وبالحديث الثاني: وهو سؤال جبريل صلوات الله عليه النبي عليه السلام: ((ما الإسلام؟ فقال: أنتشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة ....)) الخبر. وإذا كان الإسلام عبادة محضة كان ما يبتني عليه عبادة محضة). وقال أيضاً لما فسر الإسلام بالأوامر التي اشتملت على الزكاة وغيرها فالمفسر والمفسر به يكون كله عبادة. يبينه: أنه لما كانت هذه الأشياء تفسير الإسلام، أو ما بنى عليه الإسلام يكون مشروعاً لما شرع له الإسلام، وإنما شرع ليكون حقاً لله تعالى على الخلوص، كذلك هذه الأشياء تكون كذلك. قالوا: ولأن النعمة/ نعمتان: نعمة بدنية، ونعمة مالية، والشكر لله تعالى فيهما واجب فوجبت الصلاة لتكون شكراً لنعمة البدن، ووجبت الزكاة لتكون شكر نعمة المال، وشكر المنعم حق المنعم فإذا كان أحدهما لله تعالى بوصف العبادة فكذلك الآخر، وأيضاً فإنه يتحقق معنى الابتلاء في كل واحد منهما. أما الابتلاء في الصلاة والصوم بتعب البدن، والابتلاء في الزكاة

بنقصان المال، وكل واحد منهما بخلاف هوى النفس فحينئذ يظهر من يطيع ربه ممن يعصيه. قالوا: وإنما افتراق الصلاة والزكاة بجواز أحدهما بالنائب وعدم جواز الآخر، فإنما كان كذلك، لأن الابتلاء في الصلاة والصوم لا يكون بفعل غيره، لأنه يتعب البدن ولا يتعب بدنه ببدن غيره. وأما الابتلاء في الزكاة يوجد بفعل غيره، لأنه بنقصان المال ونقصان المال بفعله وفعل غيره واحد إلا أنه مع هذا لابد من فعل منه حتى لو أدى زكاته بغيره أمره لا يجوز بخلاف الديون والغرامات، وإذا لم يكن بد من فعل تحقق معنى العبادة فيه. وقولكم: ((إن الواجب حق الفقراء)). لا يصح، لأن الفقر لا يكون علة في استحقاق حق على الغير إنما النعمة من قبل الله تعالى تكون سبباً في إيجاب الشكر على العبد، ولأنه لو كانت الزكاة حق الفقراء لكانت حقاً خالصاً لهم ولم يكن فيه معنى العبادة أصلاً. وقد سلمتم أن فيها معنى العبادة حتى لا يجوز أداؤها إلا بأمر من قبله ليوجد معنى العبادة بوجود فعله. وقولهم: ((إن الواجب هو التمليك، والتملك حق المتملك)). قال: (الواجب هو الإخراج إلى الله تعالى وهو يتولى قبض الزكاة بدليل قوله تعالى: {هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَاخُذُ الصَّدَقَاتِ}.

وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} والقرض حق المستقرض واقع في قبضه وملكه وملك المستقرض. وقال عليه السلام: ((إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير)). فثبت بهذه الدلائل أن الزكاة حق الله تعالى وهو القابض لها بواسطة يد الفقير فكأن الفقير يأخذ لله تعالى ثم يقبض منه لنفسه صلة أو عوضاً عن الرزق الموعود، ونظيره ما لو قال: ((اقض بوديعتي التي لي عندك ما على لفلان من الدين)) فإنه يصير صاحب الدين قابضاً له أولاً ثم يصير قابضاً منه لنفسه، وكذلك لو قال: ((اقض بما لي عليك من الدين ما لفلان على من الدين)). قالوا: وقولكم: ((إن التمليك من الله لا يتصور)). قلنا: يتصور، فإن إخراج الملك إلى الله تعالى متصور بدليل الوقف والعتق. وأما فصل النفع التي قلتم، فنحن حققنا نفع العبد بالوجه الذي قلنا إلا أنه بواسطة قام الدليل على إثباتها. قالوا: ((وأما صدقة الفطر والعشر)).

أما صدقة الفطر فعندنا لا تجب على الصبي إنما تجب على الولي بسببه وهو مما يجب على الغير بسبب الغير. أما ههنا لو وجبت الزكاة وجبت على الصبي، لأنها لا تجب على الغير بسبب الغير، ولأن الوجوب بسبب الملك، والملك للصبي فيكون الوجوب على الصبي، وصدقة الفطر تجب إذا كان يمون رأساً عن ولاية وقد وجد هذا المعنى في حق الابن الصغير، كما يوجد في حق السيد مع العبد. فإن قلتم: إن صدقة الفطر تجب على الصبي بدليل أنه يخرج عن ماله. قلنا: يخرج من مال نفسه على قول محمد وزفر، ولا يخرج من مال الصبي بحال، ولو أخرج ضمن، وهو القياس، وإن سلمنا استحساناً، فإنما أخرج من ماله، لأنه وجب بسببه. وقد قال بعضهم: إن صدقة الفطر ليست بعبادة محضة، لأنها تشبه النفقات بدليل وجوبها على الغير بسبب الغير فيجب على الصبي لا على وجه العبادة بل على أنها مؤنة ويصير معنى العبادة تبعاً ووجوب تبعية في معنى العبادة لا يمنع وجوبها على الصبي، لأنه في الجملة من أهل العبادة بخلاف

الكافر، إلا أنها لما وجبت على جهة المؤنة وصار معنى العبادة تبعاً جاز أن يؤدي بولاية تثبت جبراً لا باختيار من عليه. وأما الزكاة عبادة محضة على ما سبق فلم يمكن إيجابها على الصبي لتأدى عنه بولاية لا على وجه الاختيار. وأما العشر فليس أيضاً عبادة محضة بل مؤنة الأرض مثل الخراج على ما سيأتي من بعد هذا إلا أن الخراج ليس فيه معنى العبادة، وأما العشر ففيه معنى العبادة فافترقا حتى يجب الخراج على الكافر ولا يجب العشر إلا على المسلم، وإذا وجب على أنه مؤنة الأرض فيجب على الصبي كما تجب سائر المؤن. قالوا: ولهذا أوجبنا العشر والخراج في أرض المكاتب والأرض الموقوفة. وهذا لأن الأراضي لا تكون محفوظة على ملاكها إلا بحفظ الإمام وحمايته فكأن الله تعالى جعلها للعبادة كمؤنة أوجبها عليهم للمقاتلة تارة وللفقراء تارة لتصير محفوظة بالإمام على صاحبها وتسلم له منافعها ولم يمكن إيجابها على طريق التعبد المحض ابتلاء واختياراً، وأما سائر الأموال فمحفوظة بأيدي أربابها/ فلا يحتاج إلى مؤنة يلتزمها ليحفظها الإمام عليه فكان إيجاب الزكاة محض تعبد على وصف الابتلاء كما سبق بيانه فلم يستقم إيجابها على الصبي على ما ذكرنا. الجواب: أما قولهم: ((الزكاة عبادة محضة)).

يقال لهم أولاً بطريق الجدل: لم لا يجوز إيجاب العبادة المحضة على الصبي؟ فإن تمسكوا بالصوم والصلاة فسنجيب عنه، وإن تعلقوا بقولهم: ((إن العبادة لا تحقق من الإنسان إلا بفعل يوجد منه)). قلنا: نعم، ولكن يجوز أن يقام فعل غيره مقام فعله فيها ويجعل كأنه الفاعل لها. ألا ترى أنه لو أمر البالغ غيره بأداء الزكاة جاز وقام فعل النائب مقام فعله، وليس لهم على هذا إلا قولهم إن الاستنابة هناك كان باختيار من العبد. لذلك نقول: العباد في فعل الشيء لا في الأمر به، ولكن قام فعل النائب مقام فعله فتحقق معنى العبادة، كذلك ههنا يقوم فعل الولي مقام فعل الصبي فيتحقق معنى العبادة، وهذا لأن المقصود من الأمر في كل موضع نفس وجود المأمور به، والمأمور به إخراج مال عن مال من عليه فإذا أطلقنا إخراج الزكاة من ماله سواء أكان بأمره أو بأمر الشرع أفاد الأمر، وإذا أفاد الأمر صح ونفذ. وأما الابتلاء لحكمة الأمر وصحة الأمر لا يكون به بل بإمكان المأمور فحسب، فإذا أمكن المأمور صح الأمر، فهذا جواب من حيث المجادلة في نهاية الحسن. وأما الجواب من حيث الفقه بالمنع على ما سبق: وحقيقته أن الزكاة حق الفقراء، ومعنى العبادة تبع مثل العشر وصدقة الفطر على ما سلموا، وإنما جعلنا حق الفقراء الزكاة حق الفقراء وأثبتنا فيها معنى العبادة بحسب قيام الدليل، لأن الدليل قد قام بكونها حقاً للفقراء على ما سبق، وقام الدليل أيضاً بثبوت معنى العبادة فيها، لأنها لما وجبت ابتداء، وقد اشتملت على شكر نعمة المال وفعلها بطلب التقرب إلى الله تعالى وتحصل رضاه كانت قربة، والعبادات قرب فتضمنت معنى العبادة من هذا الوجه ونظيره العشر.

وأما دلائلهم على أنها عباده محضة: أما الخبران الأولان فنقول: هذه الأشياء مباني الإسلام اعتقاد وجوب، وكذلك هي الإسلام باعتقاد الوجوب إلا أن تخصص هذه الأشياء كانت تشريفا لهاً، لأنها وجبت ابتداء من قبل الله تعالى من غير فعل سبق من العبد، وليس في جملة الأوامر من البدنية والمالية ما وجب ابتداء من قبل الله تعالى على العبد إلا هذه الأشياء، وهي مثل الإسلام وجب ابتداء من قبل الله تعالى على العبد ثم كون بعضها عبادة محضة أو حقاً للآدمي يكون بدليل يقوم عليه. وأما قولهم: ((إن الزكاة شكر نعمة المال)). قلنا: وكونه للفقراء لا ينفي شكر نعمة المال، لأن شكر نعمة العبد لربه في امتثال أمره، وذلك يوجد سواء أكان الحق لله أو للفقير وعلى أنا جعلنا فيها معنى العبادة بهذا السبب على ما سبق. وأما الصلاة والصوم لم يكن عبادة، لأنها شكر نعمة بل بدليل آخر: وهو أن الصلاة محض تقرب إلى الله تعالى بالتخشع والتذلل، ومحض تعظيم له، ومثل هذا لا يستحقه سوى الله تعالى بل لا يجوز لغيره بحال. أما في مسألتنا فالزكاة محض تمليك، وقد بينا أنه لا يصلح أن يكون حقاً لله تعالى على الخلوص. يبينه: أن الصلاة لما كانت عبادة محضة لله تعالى لم يتصور أن يكون جنسها ومثلها للعبد، وفي مسألتنا قد تصور جنس الزكاة حقاً للعبد بدليل العشر وصدقة الفطر، دل على انقطاع المشابهة. وكذلك الحج خارج على هذا. وقد أجاب المشايخ عن الصلاة والصوم بالتفريق بالبدلية والمالية. وقالوا: بدن الصبي ناقص ويكمل بالبلوغ وماله كامل من غير نقصان

ولهذا أثر السفر الذي يشعر بالمشقة بدناً في الصلاة والصوم ولم يؤثر في المال وهذا أحسن، إلا أنه على تسليم أن الزكاة عبادة محضة، فأما على الطريقة التي اخترناها بالتخريج بما قلنا، والحج قد خرج أيضاً على ما ذكرناه، وعلى طريقة المشايخ هو عبادة بدنية ويؤدي بالبدن وإنما انقلب في حق المغصوب إلى المال لعارض عجز فلا يعتبر ذلك مثل ما لا يعتبر انتقال الصوم إلى المال بعارض العجز، ولأنه يؤدي بدناً بكل حال، فإن النائب يؤديه بالبدن، لكنه استوجب عليه المال، وأما الزكاة تؤدي بالمال فانقطعت الشبهية بكل وجه، والمعتمد ما سبق. وأما قولهم: ((لا سبب ليجب الحق على الفقراء)). قلنا: وجب ابتداء من قبل الله تعالى لا يطلب له سبب مؤثر، وعلى أن المواصلة ديناً سبب لهذه الصلة، والمواصلات تصلح سبباً لإيجاب الصلات. وأما ما ذكروا من الاعتراض على قولنا: ((إن التمليك من/ الفقير من أنه مخرجها الزكاة مخرجها إلى الله تعالى ثم إلى الفقير)). فنقول: هذا إثبات ترتيب لا يدل عليه نص ولا معنى، بل النص والمعنى دليلان على أنها حق العباد ابتداء على ما ذكرناه، وما ذكر من الكتاب والخبر، فالمراد من ذلك تحقيق القبول من الله تعالى، فأما أن تملك من الله تعالى ثم الفقير يملكه من قبل الله تعالى بالرزق الموعود، فهذا شيء لا يعرف. وأما قولهم: ((إنه إخراج إلى الله تعالى)). قلنا: ليس الواجب إلا التمليك ولا يعرف للإخراج معنًى سوى هذا،

وقد بيَّنا أن التمليك لا يتصور إلا من العبد، وعلى أن الرزق الموعود الذي قالوه يوجد إيصاله إلى العباد بإيجاب الحق للفقراء ابتداء فلا حاجة إلى أن يجعل لله ثم يجعل للعبد على الوجه الذي قالوه. وأما العشر وصدقة الفطر ففي نهاية اللزوم، والعذر في نهاية الضعف وقد جعلا عبادة في اعتبار فعل العبد حتى لو أدى الأجنبي عن الأجنبي ذلك لا يجوز إلا بأمره، ومع ذلك قد تأديا بولاية تثبت قهراً وجبراً على الصبي والمجنون. فهذا حرف الإلزام ولا كلام لهم على هذا. وعلى إنا حققنا في جانب الزكاة ما حققوه في جانب العشر وصدقة الفطر وهو كونه حق الفقراء وإدراج معنى العبادة تبعاً فاستوى الكل، وصارت في رتبة واحدة على ما سبق. والله أعلم. وأما الكلام في المسألة من حيث الخبر: فقد روى الوليد بن مسلم عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس وقال: ((ألا من ولى يتيماً وله مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)).

وذكره أبو عيسى في جامعه قال: (عمرو بن شعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد سمع شعيب من جده عبد الله بن عمرو قال: ((وقد تكلم يحيى بن سعيد القطان في حديث عمرو بن شعيب وقال: هو واهي، وإنما ضعفه لأنه كان يروي عن صحيفة جده عبد الله بن عمرو، وأما سائر أئمة الحديث فإنهم يحتجون بحديثه ويثبتونه منهم أحمد بن حنبل)، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهم. قالوا: روى وجوب الزكاة في مال اليتيم عن عمر وعلي وعائشة وابن عمر وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) الدين لا يمنع وجوب الزكاة على الأصح من قولي الشافعي رضي الله عنه

(مسألة) الدين لا يمنع وجوب الزكاة على الأصح من قولي الشافعي رضي الله عنه. وعندهم: يمنع. لنا: إن الزكاة حق مالي لا يمنع الدين من وجوبه. دليله: سائر الحقوق، وكالعشر إن أسلموا.

وفقه المسألة: أن سبب وجوب الزكاة مال بصفة لمالك مخصوص وقد وجد بعد وجود الدين حسب وجوده قبل وجود الدين، ونعني بالمال بصفة هو النصاب النامي، إما بالسوم أو بالتجارة، ونعني بالمالك المخصوص هو الحر المسلم وهذا قبل وجوب الدين وبعد وجوبه واحد لا يختلف، وهذا لأن الدين وجب في الذمة ولا اتصال له بالمال إلا عند قضائه وأدائه فقبل أن يتصل به فعل القضاء يكون المال وصفة الملك فيه على ما كان من قبل وهو كالشقص المشفوع، فإن الملك فيه للمشتري قبل اتصال أخذ الشفيع به على ما كن من قبل للبائع، وكذلك في القصاص فإن عصمة دم من عليه القصاص اتصال الاستيفاء به يكون على ما كان من قبل وجوب القود. يبينه: أن الوجوب في الذمة ولا تضايق ولا تمانع الذمة فيجوز أن يجب فيها الحقوق الكثيرة وتجتمع فيها من غير تزاحم وتضايق، فإذا جاز أن تجتمع الديون للناس والزكوات لله تعالى، كذلك حقوق الله تعالى من الكفارات وغيرها والديون، جاز أن تجتمع أيضاً الزكوات والديون، لأنه لا تزاحم في المحل ولا تنافي في الأهلية فاستوى الكل في الوجوب. وأما حجتهم: قالوا: ((المديون فقير فلا تجب عليه الزكاة كسائر الفقراء)). والدليل على أنه فقير أنه يحل له الصدقة مع تمكنه من ماله وحل الصدقة دليل الفقر بدليل قوله عليه السلام: ((لا تحل الصدقة لغنى ولا لقوى ولا مكتسب)).

ولقول معاذ حين صار إلى اليمن: ((أمرت أن آخذ الصدقات من أغنيائكم وأردها في فقرائكم)). ولأن علة استحقاق الصدقة هو الفقر بدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ....}، هذا هو أصل العلة، وسائر الأسباب المذكورة لبيان جهات الفقر أو أسباب الحاجة. فثبت أن حل الصدقة دليل الفقر. يبينه: أن ماله بمنزلة المعدوم لاستحقاقه بالدين، ألا ترى أنه يحبس ويطالب لاستحقاق الغرماء لذلك، وعندكم يباع ماله ويقضي منه دينه ويحكم بإفلاسه وإذا مات يموت بمنزلة الفقراء/ المعدومين لا تقسم ورثته درهماً ولا دونه، فدل أنه فقير حقيقة وحكماً، والفقير لا زكاة عليه، لأنه لا يليق بحكمة الشرع أن يلزمه إغناء الغير بإحواج نفسه، ولأن نفسه أهم إليه من غيره فإذا كان هو نفسه تصرف إليه الزكاة فكيف تجب عليه الزكاة؟ وترك ما في يده عليه أولى من أخذه ورد مال غيره إليه. وربما يقولون بوجه آخر: وهو أن مال المديون مشغول بحاجته فلا تجب عليه فيه الزكاة. دليله: عبيد الخدمة وثياب المهنة، ونعني بالحاجة حاجة قضاء الدين بل

حاجة قضاء الدين أهم من حاجة اللبس والركوب، لأن تلك الحاجة يجوز التجاوز عنها وتزحية الوقت بما يدفعه، وهذه الحاجة لا يجوز التجاوز عنها بحال بل يجب تقديمها ويحرم التغاضي عنها، فإن قلتم: ((إن إعداد ماله للسوم والتجارة دليل عدم الحاجة)). فنقول: اشتغال ذمته بالدين دليل الحاجة فتعارض ظاهران، والأصل عدم الوجوب فلم يجب. قالوا: ولا يلزم على الطريق الأول مسألة ابن السبيل والعامل حيث يحل لهما الصدقة وتجب عليهما الزكاة. أما ابن السبيل فهو فقير يداً غنى ملكاً فصار كشخصين غنى وفقير فتجب عليه الزكاة لغناء بملكه، وتحل له الصدقة لفقره بيده، أما ههنا فملكه في يده فإذا كان غنياً فلا يتصور أن يكون فقيراً، لأن الغنى والفقر وصفان متضادان لا يجتمعان بحال، لأن أحدهما وصف وجودي والآخر وصف عدمي، فكما لا يجتمع العدم والوجود في شيء واحد لا يجتمع الفقر والغنى أيضاً، اللهم إلا أن يتفرق الوجود والعدم في مجلس، كما كان في ابن السبيل. يبينه: أن عندكم في مسألتنا تحل له الصدقة في حال وجوب إعطاء الزكاة عليه ولا يتصور هذا في ابن السبيل، لأن حال ما يأخذ لا إعطاء عليه. وأما العامل فمنع بعضهم فقال: لا يجوز إلا أن يكون فقيراً، وليس بشيء، والمذهب التسليم، والأول خرق الإجماع.

وقالوا على التسليم: أن الذي يأخذه العامل أجرة عمل لا صدقة بدليل أنه يستحق بالعمل إلا أنه لما دخل في سهام الصدقات أشبه الصدقة من وجه فلم يحل للهاشمي ونزه عنه، لأن حرمة الصدقة عليه على سبيل التنزيه له عن غسالة أوساخ الناس ومن تمام التنزيه أن ينزه عن ما يشبه الصدقة. وأما الغني فلم تحرم عليه الصدقة على طريق التنزيه له إنما حرم لعدم الحاجة وبالعمل ظهر نوع حاجة إلا أنه لما شغل نفسه وأعوانه بجمع الصدقات فلابد من جامع لها ولابد من كفاية رزق مثل أرزاق القضاة، والأئمة والمحتسبين والمؤذنين وغيرهم الذين يشغلون أنفسهم بأعمال المصالح فحل له أجرة عمل بعمله ولم ينظر في جريانه في سهام الصدقات وكونه غنياً في نفسه، لأن حدوث نوع حاجة له بالعمل قد منع النظر إلى غناء وجريانه في سهام الصدقة. قالوا: وأما إذا كان له خمس من الإبل مهازيل فإذا أوجبنا عليه الزكاة حرمنا عليه الصدقة. وأما إذا كان عنده من الفاضل عن ثياب المهنة وأقمشة البذلة ما يبلغ قيمته نصاباً لم يحل له الصدقة لغناه، ولم تجب عليه الزكاة لفقد شرط شرعي اعتبر مع الغنا وهو كون النصاب بوصف النما ليندفع الحرج بإيجاب الزكاة ويصير الوجوب بوصف اليسر، فهذه مسائل تمسكتم بصورها وهي خارجة عن المعاني القادمة المؤثرة، وأما القاعدة فهي على حقيقتها في نهاية الوضوح على ما سبق.

وقد تعلق مشايخهم في هذه المسألة بالحج قالوا: لما منع الدين وجوب الحج فيمنع وجوب الزكاة. يبينه: أن كل واحد متعلق بالملك، فإذا جعل الملك كالعدم في الحج فكذلك في الزكاة. قالوا: وأما الدين المظنون فلا يمنع وجوب واحد منهما. وأما نفقة الأهل للذهاب والرجوع فمتحقق وجوبها حال اشتغاله بالحج فكيف يكون مظنوناً؟ وهذا لأن فعل الحج لابد له من مدة ولابد للمدة من نفقة وهذا لا يوجد في الزكاة. ومنعوا الدين الطارئ في الحكمين. وأما الدين المؤجل فقد اضطربوا فيه فبعضهم اعتبر نفس وجوب الدين ومنع به الحج والزكاة. وبعضهم نظر إلى وجود المهلة والفسحة في الحال وسقوط المطالبة. قالوا: وأما ديون الله تعالى مثل الكفارات وغيرها فلا تمنع الحج ولا الزكاة، والسبب فيه عدم وجود المطالبة في الدنيا، وإنما نهاية أمرها التأثيم في الآخرة فكأنها واجبة في أمر الآخرة لا في أمر الدنيا، ويقال: وجود الحاجة إلى فعلها للآخرة لا للدنيا فلم يصر المال مشغولاً بتلك الحاجة حتى/ يكون اشتغاله بحاجته مانعاً من وجوب زكاته بخلاف مسألتنا على ما سبق. قالوا: وأما العشر فيمنعه الدين في إحدى الروايتين، وإن سلمنا فهو مؤنة من مؤن الأرض، ويجب على الفقراء والأغنياء جميعاً كالخراج، وقد أدى كثير من مشايخهم في هذه المسألة نقصان الملك بالدين ودليل النقصان كون الدين إذا اتصل به القضاء إيفاء في جانب من عليه واستيفاء في

جانب من له، ووصف الإيفاء والاستيفاء دليل على سبق الاستحقاق، والمستحق للغير ناقص الملك في حق مالكه في الحال. ويدل عليه: أن من له الدين إذا قدر عليه، وكان من جنس حقه يأخذ من غير قضاء ولا رضا وإذا أخذه ملكه، فهذا إن كان لا يدل على عدم الملك فلا أقل أن يدل على النقصان. قالوا: وأما الأخذ بالشفعة فلابد فيه من قضاء أو رضا فيأخذ حكم التمليك المبتدأ. وقال بعضهم: إيجاب الزكاة على المديون يؤدي إلى إيجاب الزكاة بسبب مال واحد مرتين أو مرات، وصوروا صورة فهذا مجموعة كلامهم في المسألة. الجواب: أما قولهم: ((فقير)). لا نسلم، بل هو غنى، لأن الغنى بالملك، وقد بينا أن ملكه قبل الدين وبعد الدين واحد، لأن الدين لا ينافي صفة الغنا فهو غنى مديون. وأما حل الصدقة فقد منع إلا في موضع مخصوص على ما عرف، وإن سلم فحل الصدقة لا يمنع الغنى، بدليل ابن السبيل والعامل. وعذرهم ضعيف عن المسألتين. أما ابن السبيل فهو غنى قطعاً، لأنه يملك الألوف إلا أنه بعيد عن ماله غير متمكن منه والغنا بالملك لا بالتمكن، والدليل على الغنى وجوب الزكاة عليه. وقولهم: ((إنه غنى ملكاً فقير يداً)).

قلنا: الغنى بالملك يوجد، فأما اليد ثمرة الملك، ألا ترى أن المكاتب والعبد المأذون لهما يد في المال ولا غنى لهما، والراهن لا يد له وهو غنى بما يفضل عن دينه من الرهن، وذلك إذا كان الرهن يساوي الألوف والدين شيء يسير، وتجب عليه الزكاة في الفاضل عن الدين. وأما العامل فهو لازم المنع ليس بمذهب وهو مخالفة لنص القرآن والإجماع. وقولهم: ((إنه أجرة العمل)). قلنا: هو يعمل لله تعالى، لأن الحق عندكم متمحض له فوجب أن تجب الأجرة في مال المصالح، وعلى أنه يبطل بالهاشمي فإنه لا يجوز أن يكون عاملاً، ولو كان المأخوذ أجرة العمل يحل له. وقولهم: ((إنه يشبه الصدقة من وجه ويشبه أجرة العمل من وجه)). قلنا: فإن كانت شبهة الحرام يصان الهاشمي عنها فوجب أن يصان الغنى عنها أيضاً. وقولهم: ((إنه حدث له نوع حاجة)). قلنا: عندكم محل الصدقة هو الفقير فقط، وباشتغاله بهذا العمل لا يصير فقيراً بدليل وجوب الزكاة عليه مثل ما يجب على الغني غير العامل، فالمسألتان في نهاية اللزوم، ولا يتضح لهم العذر عنهما أصلاً. ثم الجواب فقهاً: إن وجوب الزكاة بالغنا وحل الصدقة بكونه غارماً، والغارم تحل له الصدقة بنص القرآن. فإن قالوا: ((لابد من بيان المعنى)). قلنا: لا يلزمنا، ثم حلية الصدقة بحاجة الغارمية.

قالوا: ((فإذا هو فقير)). قلنا: لا، لأن الغنا بملك النصاب النامي والملك بعد الدين كما كان قبل الدين، والغنى في الحالين واحد، والغنى بالملك لا ينافي حاجة تحدث بوصف عارض، لأن الغنى لا ينافي الحاجة غرماً، كما لا ينافي الملك الغرم، لا ينافي الغنا بالملك وجود الحاجة بالغرم فهو غنى ملكاً محتاج غرماً فوجب الزكاة عليه لغناه بالملك وحلت له الصدقة بحاجته بالغرم مثل ابن السبيل غنى بملك محتاج لبعده عن ملكه فوجبت الزكاة عليه بملكه وحلت له الصدقة لبعده عن ملكه، وهذا جواب معتمد. ويمكن أن يقال: إن وجوب الزكاة بالغنا الشرعي، وذلك بملك النصاب النامي، وحرمة الصدقة بالغنا الحقيقي، بدليل أن من ملك فاضلاً عن ثياب مهنة، وأموال بذلته ما بلغ قيمته نصاباً لا يجب عليه الزكاة لعدم الغنا الشرعي، وحرمة الصدقة للغنا الحقيقي، فإن عندنا من ملك خمسة من الإبل المهازيل وهو ذو عيلة وجب عليه الزكاة للغنا الشرعي، وحلت له الصدقة للفقر الحقيقي، فكذلك المديون له الغنا الشرعي فوجبت عليه الزكاة، وليس له الغنا الحقيقي فحلت له الصدقة. وأما قولهم: ((إنه مشغول بحاجته)). قلنا: لا ننكر وجود أصل الحاجة، وما من مال للغنى إلا وهو محتاج إليه. وأما اشتغال المال بالحاجة ممنوع لما بينا أن الدين في ذمته، ولا حاجة للدين إلى محل سواه، وإنما يتصل بالمال عند الأداء فلا يوصف باشتغاله به قبل الأداء مثل القصاص الواجب في النفس لا توصف النفس باشتغالها بهذا الواجب إلا عند اتصال الاستيفاء به وظهر بما قلنا الفرق بين مال المديون/ وبين الأموال التي يتخذها لبذلته ومهنته، ثم نقول: علامة الفاضل عن حاجته في المال إعداده للتجارة والسوم، وهذا موجود وإن كان مديوناً.

وقوله: ((على هذا أنه يعارض اشتغاله بذمته بالدين)). قلنا: ولكن الرجحان لوصف السوم والتجارة، لأنه وصف لازم المال، وأما الدين بالذمة فلا تعلق بالمال. يبينه: أنه يوجد فاضل عن الحاجة لا تجب فيه الزكاة مثل ما يملكه من العبد والدواب والحوانيت التي لا يريد بها التجارة ولا حاجة له إليها لبذلته، فكذلك يجوز أن يوجد مشغول بحاجته تجب فيه الزكاة وكان المعنى في الأول وصف النماء وإن كان فاضلاً عن حاجته، وكذلك ههنا المعنى في الوجوب وصف النماء وإن كان مشغولاً بحاجته، وعلى هذا انزاح الإشكال، ووضح الكلام نهاية الوضوح. وأما فصل الحج فوجه الجواب عنه: أن وجوب الحج بالمكنة، ولا يمكن مع الدين حقيقة وحكماً. أما الحقيقة المحسوسة فلأنه يطالب ويلازم ويحبس فلا يتمكن من الخروج، وأما الحكم فلأن المسلم هو الدين الحال، وقد ثبت عندنا أن الحج على التراخي والدين على الفور فقدم عليه في حكم الشرع وصار تقدمه عليه مفوتاً للمكنة التي هي من شرط الوجوب. وأما الزكاة فلا تشترط المكنة، في وجوبها، وأيضاً فإنه على الفور مثل الدين فلم يقدم عليه ولا يمانع ولا يضايق في وجوبها فالدين وجوبه بعقد المعاملة والزكاة وجوبها بنفس الملك وواحد منهما لا أثر له في صاحبه فاجتمع الواجب بهما اجتمع سبباهما والحج لا يجب بنفس الملك ما لم يوجد المكنة، وقد بينا أنها فاتت فسقط وجوبه. وقد أجاب الأصحاب بوجوه، رأيت كلها ضعيفة. وهذا الوجوب حسن يمكن تمشيته فاقتصرنا عليه.

وأما الدين الذي ادعوه من نقصان الملك فليس بشيء، وقد دللنا على كمال ملكه وملك التبرعات وحل الوطء معتمد. وقولهم: ((إن الدين إذا قضي فمن عليه يقضي ما عليه وصاحب الدين يقتضى ماله)). قلنا: نعم، هذا يقضي ديناً عليه، وهذا يقتضي ديناً له، والاقتضاء في الدين كذا يكون. فأما العين التي هي محل الزكاة، فالتمليك بها يستأنف قطعاً فهو نظير تملك الشقص بالشفعة فلا يمنع الوصف بتمام الملك، ووجوب الزكاة بدليل مسألة الشفعة. وقوله: ((إنه يأخذ حقه من ماله إذا قدر عليه)). قلنا: لا جرم ......... إذا أخذ ملكه فلم يدل هذا على نقصان ملكه قبل الأخذ. ألا ترى ن الأب يأخذ مال ابنه عند الحاجة ويملكه، ولا يدل على نقصان الملك من قبل، وكلامه الأخير ليس بشيء، وقد سبق جوابه. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) لا يجوز دفع القيم سوى المنصوص عليه في الزكاة

(مسألة) لا يجوز دفع القيم سوى المنصوص عليه في الزكاة عندنا. وعندهم: يجوز بطريق القيمة. لنا: الحديث المعروف وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((ومن بلغت إبله خمساً وعشرين ففيها ابنة مخاض فإن لم يكن فابن لبون ذكر))، فقد شرط صلى الله عليه وسلم عدم ابنة مخاض في جواز إخراج ابن اللبون، دل أنه لا يجوز مع وجودها. يبينه: أنه صلى الله عليه وسلم نقل من سن معين إلى سن معين من غير تعرض للقيمة مع علمه باختلافهما في القيمة عند اختلاف الأزمنة والأمكنة، دل أن الرجوع إلى القيمة ساقط. ويمكن أن يقال أيضاً: أنه صلى الله عليه وسلم جوز ابن اللبون على الإطلاق. وعندكم لا يجوز إلا إذا كانت قيمته مثل قيمة بنت المخاض، فهذا تقييد ليس عليه دليل، فقد قلتم: إن تقييد زيادة، والزيادة نسخ.

قالوا: إنما جوزنا ابن اللبون مكان بنت مخاض بالقيمة بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قابل فضلاً بفضل، والمقابلة تقتضي المعادلة، والمعادلة تكون بالقيمة. واستدلوا على جواز القيمة في الزكاة بالخبر الذى روى أنه صلى الله عليه وسلم رأى ناقة كوماء في إبل الصدقة فغضب وقال: ((ألم أنهكم عن أخذ كرائم أموال الناس؟ فقال الساعي: أخذته ببعيرين من إبل الصدقة))، وأخذ البعير لا يكون إلا بطريق القيمة. واستدلوا بحديث معاذ المعروف وهو قوله لأهل اليمن: ((ائتوني بكل خميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة)).

الجواب: أما الأول فنحن لا ننكر أن الشرع ورد بمقابلة فضل بفضل، والكلام أنه هل كان بطريق القيمة؟ وليس عليه دليل. والجملة أن ابن اللبون ورد به التوقف، وكذلك الخبران المذكوران في أخذ شاتين أو عشرين درهماً أوردهما في الموضع الوارد فالكل على التوقيف. فأما الخبران اللذان أوردهما ففي إسنادهما مقال. والأصحاب أولوا الأول، وقالوا: كان ذلك شراءً وبيعاً بإذن الإمام. وقالوا في الثاني:/ المراد من الصدقة الجزية، وسميت صدقة على طريق المجاز، كما كان يسمى المأخوذ من بنى تغلب صدقة وقد كان جزية، بدليل أن معاذاً رضي الله عنه أخبر أنه ينقلها إلى المدينة، ولم يكن من مذهبه جواز النقل في الصدقات، ولأنه ذكر الهجرة والنصرة في الإشارة إلى الاستحقاق بهما والجزية تستحق لهما لا الصدقة. وأما المعنى: نقول المنصوص عليه هو الواجب فلا يجوز غيره. دليله: كل الواجبات في الشرع، والدليل على أن المنصوص عليه هو

الواجب أن الوجوب علم بالشرع، والشرع ورد بالمنصوص عليه فلا يجب بالنص إلا ما ورد به النص. يدل عليه: أن الزكاة إن كانت عبادة فلا يجوز في العبادة إلا ما ورد به التعبد بدليل الصلاة وأفعالها، فإنه لا يقوم الركوع فيه مقام السجود ولا السجود مقام الركوع، وكذلك لا يقوم السجود على الخد والذقن مقام السجود على الجبهة، وكذلك في سائر العبادات ووجه التقريب بين مسألتنا وهذا الأصل أن الله تعالى إذا وضع عبادته على جارحة بفعل يوجد منها لم تقم جارحة أخرى مقامها، كذلك إذا وضع العبادة على المال وسماه بفعل يوجد منه لم يقم الفعل منه في مال آخر مقامه. يدل عليه: أن أصل العبادة لا تجب بالتعليل ولا تقبله فكذلك كيفيتها، وإن قلنا: إن الزكاة حق الفقراء، فالحق الواجب للآدمي في عين لا يقوم غيرها مقامها إلا بسبب شرعي من معاقدة ومعاوضة وغير ذلك. يدل عليه: أن سبب وجوب الحق إذا اتصل بمحل يتعلق الوجوب بصورته ومعناه مثل ما لو أسلم في شيء واشترى شيئاً، وكذلك إذا أوصى الإنسان بشارة أو أوصى بشاة من أربعين من الغنم أو ببعير من خمس وعشرين من الإبل للفقراء تعلق حقهم بعين ذلك، كذلك ههنا. وأما حجتهم: قالوا: الزكاة واجبة للإغناء أو لدفع الحاجة، لأنها وجبت على الغنى للمحتاج فيكون بعلة الإناء ودفع الحاجة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر: ((أغنوهم عن المسألة في هذ اليوم)).

ولأن التعليل واجب ما أمكن، وقد أمكن التعليل بالإغناء وهو تعليل صحيح مؤثر، وإذا علل بهذا فالإغناء بالأصل والقيمة واحد فاستويا في الجواز، وشبهوا الزكاة بالجزية والخراج. وقالوا: أما الصلاة فإنما لم يجز فيها التعليل، لأنها لو عللت عللت بالخشوع، وفي كل فعل من الصلاة نوع خشوع لا يوجد في غيره فبطل التعليل، وفي مسألتنا الإغناء الذي يوجد في المنصوص عليه يوجد في القيمة. قالوا: وأما السجود على الذقن والخد فليس بعبادة بل هو عبث فلا يقوم مقام العبادة بخلاف القيمة فإن إخراجها في الجملة يكون عبادة فجاز أن يقوم أداءها مقام أداء المنصوص عليه. قالوا: وأما إخراج المنافع إنما لا يجوز، لأنها ليست بمال، وإن كانت مالاً فهي في المالية دون العين على ما عرف في كتاب الغصب فلا يقوم مقامه، فتعلقوا بما لو أخرج بعيراً عن خمس من الإبل فإنه يجوز وإنما جاز بالقيمة لأنه غير منصوص عليه، ولا يجوز أن يقال: جاز بدليل النص، لأنه لما جاز عن أضعاف الخمس ففي الخمس أولى، لأن هذا يبطل بما لو أخرج ست حقائق عن إحدى وستين وهو ثلاث مائة وخمسة مثل البعير في مسألة الإلزام. قالوا: ((ولا يجوز أن يقال إن الواجب في خمس من الإبل خمس بعير فلأن يجوز بعير كامل أولى. لأنه ليس كما زعمتم بل الواجب في خمس من الإبل شاة، وإنما يجب البعير عند بلوغه خمساً وعشرين فقبل بلوغه

هذا القدر لا يقدر فيه إيجاب شيء من البعير، كما أن الشاة تجب عند بلوغ الغنم أربعين فقبل بلوغه هذا القدر لم يقدر إيجاب شيء من الشاة)). يبينه: أنه كيف يقدر إيجاب خمس من البعير في خمس من الإبل، وقد وجبت الشاة فيها؟ فثبت بما قلنا أن جواز البعير كان بالقيمة فإذا جازت القيمة في هذه الصورة فوجب أن يجوز في كل موضع هذه طريقة مشايخهم. وأما طريقة أبي زيد فقد بنى كلامه على ما سبق من قبل وهو أن الزكاة حق الله تعالى على ما بينا، ثم الفقير مصرف لهذا الحق، ووصوله إليه من قبل الله تعالى إيفاء للرزق الموعود إلا أن الرزق الموعود للفقير مال مطلق يحصل به كفايته لا بمال مخصوص معين، وهذا لأن حاجته ترتفع بالمال المطلق لا بالمقيد. وأما حق الله تعالى في مال معين ثم لما أمر الله تعالى بصرفه إلى الفقراء نائباً عن الله تعالى في قبض حقه فإذا حصل الأداء إلى الله تعالى بقبض الفقير فبعد ذلك يصير حقاً للفقير لرزقه الموعود فصار الفقير قابضاً رزقه الموعود بواسطة حصول الأداء إلى الله تعالى، وهذا كمن له على إنسان عشرة دراهم/ فأمر رب المال المديون أن يتصدق بها على الفقراء فإنه يصح، ويصير الفقير نائباً عن صاحب الدين في قبض الدين ثم يصير قابضاً حقاً لنفسه، وكذلك إذا كان على رب الدين عشرة دراهم لرجل آخر فقال لمديونه: اقبض العشرة التي على بما لي عليك فقضاها يصير القابض نائباً عنه في قبض حقه أولاً ثم يصير مستوفياً حق نفسه كذلك ههنا.

قالوا: وإذا كان القابض هو الفقير وحقه في مال مطلق احتجنا إلى أن نجعل حق الله تعالى في مال مطلق ليصح قبض الفقير، فإنما يقبض لله تعالى ما يقبضه لنفسه رزقاً له فيسقط حق الله تعالى في صورة الشاة لضرورة تحقيق قبض الفقير حق نفسه فصار حق الله تعالى مؤدى بمال مطلق بقبض الفقير ثم صار الفقير قابضاً، وهذا هو الأصل في كل حقين مختلفين يتأديان بقبض واحد فإنه يصير الحق الأول على وصف الحق الثاني ليتأدى حق الأول بقبض الثاني حقه. ومثال هذا: رجل عليه مائة درهم لرجل وله على آخر كر حنطة أو عنده كر حنطة وديعة فقال للذي عليه الحنطة: اقض الدراهم التي على بما لي عليك من الحنطة، فإنه يصير مأموراً ببيع الحنطة بالدراهم حتى يمكن أداؤها إلى صاحب الدين وهو الدراهم، فقبض هو حق نفسه وحقه في الدراهم فثبت قبض صاحب الحنطة في ضمن قبضه حق نفسه وذلك إنما يتصور إذا كان حق صاحب الحنطة على وصف حقه فجعل الديون مأموراً ببيع الحنطة ليصير كذلك، فكذلك ههنا يثبت ما ادعيناه بالحقيقة والمثال، وربما قالوا على فصل التعليل: إنا لا نعلل حق الله تعالى إنما نعلل جانب حق الفقير وهو ما استحق من مال صالح لكفايته ويعدى معنى الصلاحية لكفايته إلى كل ما يكون في معناه. قالوا: ولا يلزم صدقة الفطر، وذلك إذا أدى ربع صاع حنطة يساوي نصف صاع حنطة حيث لا يجوز عن النصف، فإنه إنما لم يجز لأنه لو جاز إنما جاز لقيمة الجودة، ولا يجوز أن تعتبر الجودة في هذا المد بدلاً عن مد آخر، لأن الجودة في مال الربا لا قيمة لها بانفرادها بخلاف ما لو أدى شاة سمينة في الزكاة فإنها تجوز عن شاتين، لأن الجودة في الشاة متقومة، فأما إذا أعطى نصف صاع تمر جيد عن شعير وسط أو بالعكس إنما لم يجز

لأن التمر والشعير والحنطة وإن كانت أجناساً مختلفة في سائر الأحكام، ولكن في صدقة الفطر كلها جنس واحد، لأن المعنى المطلوب من الكل واحد وهو دفع حاجة الفقير، وإذا صار الجنس جنساً واحداً في هذه الحكم بطلت نية التمييز، ولم تصح نية إقامة الحنطة مقام الشعير، لأن الكل شيء واحد، ومتى بطلت النية وقعت الحنطة عن نفسها والجودة لا قيمة لها فلا يجوز إلا عن القدر الذي أدى، ولا يلزم على العدد إذا أعطى ثوباً واحداً عشرة مساكين عن طعامهم في الكفارة حيث يجوز، لأن الطعام مع الكسوة جنسان مختلفان لاختلاف معنى المطلوب منهما، وأمكن صرف أحدهما إلى الآخر لتغايرهما. قالوا: وأما إذا أعطى ثوباً واحداً عشرة مساكين عن كسوتهم وهو يساوي ذلك لا يجوز، لأن الكسوة في كفارة اليمين وجبت مطلقة غير مقيدة بالوسط فعلى أي وصف كان الثوب وقع عن نفسه فلم يمكن إقامة جودته مقام ثوب آخر، وليس كما لو أعطى شاة سمينة عن شاتين وسطين حيث يجوز، لأن الواجب الشاة هو الوسط بالنص، والجودة متقومة فيها فقدر الوسط وقع عن نفسه، وفضل الجودة المتقومة وقع عن شاة أخرى فهذا هو المعنى في المسائل. وأما أصل القيمة فمجزية في صدقة الفطر بدليل أنه لو أعطى عن الصلع دراهماً أو دنانيراً فإنه يجوز عندنا. قالوا: ولا يلزم الضحايا والهدايا والعتق حيث لا تجوز القيمة فيها، لأنا نسلم أن الحق متى وجب لله تعالى لا يجوز إبطاله بالتعليل، وكذلك حق العباد، ولكن ادعينا أن الله تعالى رضي بتغير حقه لما أمر بصرفه إلى الفقير، وفي الضحايا والهدايا حق الله غير مصروف إلى الفقير، لأن حق الله بتأدى بإراقة الدم لا بصرف اللحم إلى الفقير، وإنما أثبتنا رضا

الله تعالى بتغيير حقه بضرورة أن الفقير هو القابض، وهذا المعنى ههنا معدوم، وكذلك العتق، لأن الحق يتأدى بنفس إتلاف الرق وليس هناك شيء مصروف إلى العبد حتى تقع الحاجة إلى تغيير حق الله تعالى، وكذلك الركوع والسجود وسائر العبادات البدنية، لأن أداءها بفعل يوجد من البدن من غير أن يكون هناك صرف شيء إلى الفقير فخرج على ما قلنا. الجواب: أما الطريقة الأولى فهي بناء على إثبات التعليل، وهذا باطل لما بينا من قبل ولأن من شرط صحة التعليل تقرير الحكم في الأصل ثم التعدية مثل ما يفعل في الأشياء/ الستة وسائر المواضع. وعندهم بهذا التعليل يتغير حكم الأصل، لأن حكم الأصل وجوب الشاة ويفوت الوجوب بالتعليل، لأن الواجب ما لا يجوز غيره، فإذا جاز غير الشاة فات وجوب الشاة فتعين حكمه من الوجوب إلى الجواز فبطل التعليل من هذا الوجه. فإن قالوا: لا يتغير حكم الأصل، لأن الشاة إذا أداها يكون أدى الواجب، لكن يتسع محل الواجب مثل الصلاة في وقت الظهر يكون وجوبها موسعاً لا أن يفوت الوجوب في أول الوقت. والجواب: أن النص اقتضى وجوب الشاة على التعيين، وبالتعليل يفوت هذا، فثبت تغيير حكم الأصل قطعاً، وتحقق أن التعليل باطل لهذا الوجه، وهذا جواب حسن على هذه الطريقة. وطريقة أبي زيد والذي يختص بهذه الطريقة: أن يقال لهم إذا عللتم بالإغناء فقد ناقضتم أصلكم، لأن الزكاة عندكم عبادة

محضة وهي حق الله تعالى على الخلوص، وإذا عللت بالإغناء يكون حق الفقير، لأن ما أوجب لإغناء الآدمي يكون حق الآدمي، ولأن التعليل لإسقاط الحقوق عن الأعيان باطل، كما لو أوصى فقال: ((أغنوا فلاناً بشاة أو ببعير أو بدراهم)) لا يجوز أداء غيرها، وهذا لأن العين محل تعلق الحق بها لله تعالى وللفقير، فإذا اتصل بها الخطاب والإيجاب لابد من تعلق الحق بها، وإذا تعلق الحق بها فالتعليل لإبطال الحقوق عن الأعيان باطل مثل سائر الحقوق في العالم. ويقال لهم أيضاً: وجبت الزكاة للإغناء، ولكن بهذا الذي عينه ولا يجوز غيره كما في العبادة البدنية لما أوجب التعبد والتخشع بهذا الفعل الذي عينه فلم يجز غيره. وقولهم: ((إن في كل واحد من الأفعال نوع تخشع لا يوجد في صاحبه)). قلنا: على القطع نعلم أن ما يوجد من التعظيم والتخشع بوضع الجبهة يحصل بوضع الخد وأكثر فوجب أن يجوز. وأما إذا أدى بعيراً عن خمس من الإبل. قلنا: عندنا جاز بالنص وهو قوله عليه السلام: ((خذ من الإبل الإبل، ومن البقر البقر)).

وهذا لأن الواجب جزء من النصاب ليكون وجوبه على وجه المواساة وصفة اليسر، ولشاة ليست بجزء من الإبل فيكون وجوبها رخصة فإذا لم يوجد وأدى ما هو الواجب الأصلي فلابد من الجواز وهو مثل المسح على الخفين فإنه رخصة ولو لم يفعل بفعله وغسل الرجلين يجوز، وكذلك ههنا، وهذا معتمد. وأما طريق أبي زيد فهي بناء على أصل ممنوع وليس على إثباته دليل معتمد عليه. أما قولهم: ((إن الزكاة عبادة محضة)). فقد دللنا أنها على حق الفقراء فلا نعيد وإذا صارت حق الفقير بطلت حق التعليل لإبطاله حقه أو يعتبره من محل إلى محل، والمنع معتمد. وأما قولهم: ((إن الفقير بقبض ما يقبضه عن الرزق الموعود)). فليس عليه دليل، ويقال لهم: اجعلوا الزكاة صلة من الله تعالى للفقير. وأما الرزق الموعود فدار عليه، والشاة والدراهم في صورة الزكاة صلة، والسيد قد يرزق عبده على الدرور ثم يصله بصلة وراء ذلك فإذا جعلنا الزكاة صلة فكأن الله تعالى وصل الفقير بما سماه فيتعين ذلك وهذا أولى مما قاله، لأنه على هذا يبقى حق الله تعالى على ما كان وعلى ما زعموا أبطلا حق الله تعالى عن الواجبات التي نص عليها بعد ثبوتها بلا دليل. وأيضاً يقال لهم: قولوا إن الله تعالى وعد الرزق بمال مطلق ثم حين أمر بصرف الزكاة إلى الفقراء فقد نقل رزقهم في هذا الموضع من المال المطلق

إلى مال معين، ويجوز أيضاً للسيد أن يرزق عبده بمال مطلق ويجوز أن يرزقهم بمال معين وله ولاية النقل فلأي ضرورة سقط أصل حق الله في الواجبات التي سماها ونص عليها وعنده لو سقط سقط ضرورة، ولا كلام على هذين الجوابين، وهما في نهاية الوضوح، وعلى أنا قد بينا أن من شرط صحة التعليل تقرير الحكم في الأصل ثم تعدية الحكم إلى الفرع، ولا يوجد في هذه الموضع هذا الشرط فإذا فات شرط التعليل بطل التعليل. وأما المسائل التي تعلقوا بها فهي معاملات بين العباد ومبناها على المراضاة، وقد تضمن الأمر من صاحب الدين في تلك المواضع الرضا بما قالوه. فإن قالوا: ((إن ههنا وجد الرضا من الله تعالى بانتقال حقه من المال المعين إلى المال المطلق)). فهذا مجرد تحكم من غير حجة. وأما تعلقهم بأمره تعالى بصرفه إلى الفقير فقد وجدنا وجهاً لصرفه من غير أن يحتاج إلى تغيير حق الله، ونقله من شيء وهو أحد الوجهين اللذين قدمناهما فقد بطل ما قالوه وفسد فساداً لا يقبل الصلاح. وإن تعلقوا بالجزية والخراج فإنما جازت القيمة فيهما بالنص على ما عرف، وعلى أن هناك ولاية الإمام ثابتة في الابتداء وضعاً فثبت في الانتهاء أخذاً بخلاف مسألتنا، ولأن المنافع تجزى في الجزية بخلاف الزكاة/ وكان المعنى في الفرق ما ذكرنا، والله أعلم. * * *

(مسألة) إذا مات من عليه الزكاة لم تسقط الزكاة بموته وتؤدى من تركته كما تؤدى الديون

(مسألة) إذا مات من عليه الزكاة لم تسقط الزكاة بموته وتؤدى من تركته كما تؤدى الديون عندنا. وعندهم: تسقط بموته وإن أوصى بإخراجها تخرج كما تخرج التبرعات حتى تعتبر من الثلث. لنا: إن الزكاة حق الفقراء على ما سبق بيانه فنقول: حق من حقوق الآدميين فلا يسقط بموت من عليه. دليله: سائر الحقوق للآدميين، وقياساً على العشر إن سلموا، وهذا لأن الموت ليس بسبب مسقط للحقوق المالية إنما هو للانتقال من الدنيا إلى الآخرة والواجبات المالية عليه كما كان في حال الحياة فتقضى من المال إن خلف مالاً وتقدم على حق الورثة، لأن قضاء الدين حقه والميراث حق الورثة فيقدم حقه على حق الورثة، كما يقدم التجهيز والتكفين ثم إذا بقى مال بعد قضاء الحقوق الواجبة عليه حينئذ يقسم بين الورثة، وإن لم يخلف شيئاً سقط وجوب القضاء للعجز، لأن أصل الحق سقط وهو مثل ما لو أعسر في الحياة لم يطالب للعجز، ونستدل بما لو أوصى بالزكاة فنقول: لا يخلو إما إن قلتم: إن الزكاة بقى وجوبها بعد الموت أو قلتم: سقطت، فإن

قلتم بقي وجوبها بعد الموت فقولوا إن الوصية باطلة لأن الوصية حصلت بالزكاة، فإذا لم تكن الزكاة واجبة فتكون الوصية بالزكاة كلا وصية، وهذا إلزام معتمد. وأما حجتهم: قالوا: الزكاة عبادة محضة فتسقط بالموت كالصلاة والصوم. والدليل على أنها عابدة محضة ما بينا من قبل. وقولكم: ((إنها حق الفقراء)). قالوا: لا، بل حق الله تعالى، وإنما الفقراء مصارف بالطريق الذي قلنا. يدل عليه: أنه لا معنى يعرف لوجود حق الفقراء في مال الأغنياء، لأنه إن كان لفقرة وحاجته ففقرة وحاجته لا تدل على وجوب حق له على من ليس بفقير، وإن كان للدين فالدين أمر بين العبد وبين ربه فلا يوجب له شيئاً على عبد آخر لدينه، وهذا لأن حد الدين ليس بأمر بين العبد والعبد حتى يجب بسببه حق له عليه. وخرج على هذا القرابة، لأنه معنى بين القربتين فجاز أن يجب له بسببها حق له على صاحبه، وإذا ثبت أنها عبادة محضة فتسقط بموت من عليه العبادة، لأن حقيقة العبادة فعل من عليه العبادة، وفعل من عليه العبادة يفوت بموته ففاتت العبادة ضرورة. يدل عليه: أن العبادة من غير متعبد محال، ولا متعبد فلا عبادة وصارت هذه العبادة مثل عبادة الصلاة والصوم سواء إلا أن هناك آلة العبادة بدون المتعبد وههنا آلة العبادة مال المتعبد، فحصل الاختلاف في الآلة التي تؤدي بها العبادة لا في نفس العبادة، لأن العبادة حقيقتها في الموضعين واحد لا يختلف.

قالوا: وليس كما لو أمر بأداء الزكاة في حال الحياة، لأن أمره لما اتصل بالأداء أمكن تحقيق معنى العبادة بخلاف مسألتنا على ما ذكرنا في مسالة زكاة الصبي. والحرف لهم: أنه لما فات بالموت فعله وأمره تعذر تحقيق العبادة فعلاً من قبله فصار سقوطها في أحكام الدنيا من ضرورة هذا الفوات. قالوا: وأما إذا أوصى بالزكاة فقد وجد من قبله الأمر وإذا اتصل أمره بها صار كما لو اتصل أمره بها في حال الحياة إلا أنه اعتبر من الثلث، لأنه لم يلزم إخراجها لولا الأمر أشبه الوصية بالتبرعات فكانت من الثلث. قالوا: وأما العشر فقد منع في إحدى الروايتين، وعلى الرواية الأخرى وهو ظاهر المذهب، إنما لا يسقط بالموت، لأنه وظيفة الأرض مثل الخراج فصار مؤنة مالية مثل سائر المؤن ولم يكن عبادة فلم يسقط بالموت مثل ما لا يسقط سائر الديون. الجواب: أما قولهم: ((إن الزكاة عبادة محضة)). فقد أجبنا عن هذا في مسألة زكاة الصبي. وقولهم: ((أنه لا سبب يوجب للفقراء حقاً في ماله)). قلنا: وجد بينهما وصلة الدين، وهي وصلة زائدة على كل وصلة فإن كل وصلة النسب توجب الحق لأحد القربتين على الآخر فوصلة الدين أولى. وقولهم: ((إن الدين أمر بينه وبين ربه)). قلنا: نعم، وهو أيضاً يفيد أخوة بينه وبين المشارك له في الدين، كما

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. فكان سبب الاستحقاق هو الأخوة ديناً بشرط الفقر وإنما شرطنا الفقر بالشرع، ولأنه لما وجب لدفع الحاجة وجب للمحتاج، ولا ينكر ضم شرط إلى سبب الاستحقاق بعد أن قام عليه الدليل، ثم وإن سلمنا أن الزكاة عبادة محضة لكن هذا لا يوجب سقوطها بالموت، لأنها عبادة مالية، والمال قائم، والأصل أن كل واجب بقى في محل/ وجوبه إلى أن يقوم الدليل على سقوطه. فإن قالوا: هذا الواجب عليه ولم يبق من عليه. قلنا: موت من عليه الحق لا يوجب سقوط الحق مثل سائر الديون، وهذا لأنه جعل بمنزلة الحي في تصوير البقاء عليه إلى أن يؤدي من ماله. ألا ترى أن في سائر الديون جعل بمنزلة الحي في بقائها عليه إلى أن تؤدى من ماله. وأما قولهم: ((حقيقة العبادة في فعله)). قلنا: نعم، في فعله أو في فعل من يقوم فعله مقام فعله بسبب صحيح شرعاً بدليل الثابت في حال الحياة. فإن قالوا: هنا وجد أمر من عليه الحق بالفعل، وههنا لم ويجد. قلنا: وههنا وجد أمر الشرع فيقام أمر الشرع بالفعل مقام أمره، وهذا لأن الخطاب يتصل بالفعل واعتبر في بقائه تصور الفعل إما محسوساً أو اعتباراً، وههنا إن لم يتصور فعله محسوساً تصور فعله اعتباراً بالشرع، وإذا تصور فعل الزكاة من قبله بهذا الاعتبار بقى الوجوب وهو نظير العشر، وقد بينا أنه مثل زكاة سائر الأموال، وعلى أنا

إن كلمناهم في صدقة الفطر ضاق الكلام عليهم جداً، لأنها تتأدى بولاية شرعية لا من قبل من عليه، بدليل أن الولي يخرج زكاة الفطر عن الصبي على ما عرف، ومع ذلك قالوا: إنها تسقط بالموت. قالوا: ((إن الصبي في الجملة من أهل الفعل فجاز أن يقوم فعل الولي مقام فعله، وأما الميت فليس من أهل الفعل أصلاً فلم يمكن إقامة فعل الغير مقام فعله)). قلنا: والصبي ليس من أهل فعل معتبر شرعاً وكلامنا في مثل هذا الفعل فاستويا من هذا الوجه. وأما فصل إلزام الوصية فقوى جداً. وقولهم: ((إنه وجد الأم منه بالزكاة فبقى وجوب الزكاة)). قلنا: وإنما يقوم فعل غيره مقام فعله حكماً إذا كان من أهل الفعل محسوساً، وقد خرج بالموت عن أهلية الفعل، فكيف يقوم فعل غيره مقام فعله ولا فعل له؟ ولئن جاز أن يقوم فعل غيره مقام فعله حكماً، وإن كان خرج عن أهلية الفعل محسوساً جاز أيضاً ههنا أن يقوم فعل غيره مقام فعله وإن كان لا فعل له ولا أمر. ثم يقال لهم: إنكم إذا أبقيتم الوجوب لوجود الأمر فقولوا يكون من جميع المال. وقولهم: ((إنه يشبه التبرعات)). قلنا: كيف يشبه التبرعات وهو في نفس واجب؟ ولأنا بينا أن الواجب إنما كان من جميع المال، لأن قضاء حقه مقدم وحق الورثة متأخر عن حقه، وفي هذا المعنى يستوي جميع الواجبات سواء أحتاج إلى أمره بالإخراج أو استغنى عنه. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) لا يضم أحد النقدين إلى الآخر في حكم الزكاة بل يعتبر كل واحد على حياله فإذا تم فحينئذ تجب الزكاة

(مسألة) لا يضم أحد النقدين إلى الآخر في حكم الزكاة بل يعتبر كل واحد على حياله فإذا تم فحينئذ تجب الزكاة. وعندهم: يضم أحد النقدين إلى الآخر ويحكم بكمال النصاب إلا أن أبا حنيفة قال: يضم بالقيمة. وعند أبي يوسف ومحمد يضم بالأجزاء.

لنا: إنهما مالان من جنسين مختلفين فلا يضم أحدهما إلى الآخر في نصاب الزكاة، دليله البقر والغنم. والدليل على أنهما مالان من جنسين مختلفين، لأن أحدهما ذهب والآخر فضة، وكل واحد من الاسمين اسم للعين، فإذا تغايرا اسماً تغايراً عيناً، لأنا نعلم قطعاً أن الذهب غير الفضة والفضة غير الذهب، بدليل الصورة والمالية، فإنهما اختلفا صورة ومالية، ولئن جاز أن يقال إنهما مال واحد جاز أن يقال إن البقر والغنم واحد أيضاً. وإذا ثبت هذا الاختلاف عيناً ثبت الاختلاف جنساً، واستمرت العلة وصحت. ويدل عليه: من حيث الحكم أن الربا لا يجرى بينهما ولو كان من جنس واحد يجرى بينهما الربا، وحين لم يجر الربا دل أنهما جنسا مختلفان، وقد تأيد الاستدلال بهذا الحكم بنص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله عليه السلام: ((فإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يداً بيد)). ونقول من حيث التحقيق: إن الضم محسوس غير معتبر بدليل ضم البقر إلى الغنم والغنم على البقر لا يعتبر، وإنما اعتبر الضم حكماً فلابد من دليل ولم يوجد.

وأما حجتهم: قالوا: الذهب والفضة في حق الزكاة في حكم مال واحد فيكمل نصاب بعضه بالبعض كالكسور والصحاح والمعز والضأن. وإنما قلنا ذلك، لأن الزكاة تجب في الأموال بوصف النماء على ما عرف، والنماء في الذهب والفضة بصفة الثمنية، وصفة الثمنية صفة منمية لأنها صفة التجارة وطريق التوصل إلى الأشياء، والذهب والفضة من حيث الثمنية في حكم مال واحد، لأنهما خلقا ثمناً للأشياء فوجب ضم بعضه إلى البعض كما وجب ضم أموال التجارة بعضها إلى بعض. يبينه: أنها باعتبار الثمنية صار مالاً للتجارة فصار كالعروض التي يعدها للتجارة. ولهذا قال أبو حنيفة: إنه يضم باعتبار القيمة/ لأنهما إذا صارا مالي التجارة فكان الضم بالقيمة كسائر أموال التجارة. وريما يتعلقون باتفاق الواجب فيهما، فإنه ربع العشر بكل حال، وكذلك اتفاق النصاب فإن كل دينار يعدل بعشرة دراهم، وعلى هذا يكون نصاب الدنانير مثل نصاب الدراهم. قالوا: ولأن كل واحد منهما يضم إلى سلع التجارة فإذا ضممناها إلى سلع التجارة حضم الضم بينهما ضرورة.

الجواب: أنا دللنا على أنهما مالان مختلفان جنساً وتعلقنا بالحكم والحقيقة. وأما قولهم: ((إنما خلقاً للثمنية فيكونا مالاً واحداً في المعنى)). قلنا: ولم لا يجوز أن يختلفا جنساً، وإن كان خلقا لشيء واحد، لأنه غير مستنكر ولا مستبدع أن يخلق الله تعالى أشياء كثيرة لمعنى واحد، وهذا لأنه إذا خلق شيئاً واحداً لمعنى واحد ضاق الأمر على الناس، وإذا خلق أشياء كثيرة لمعنى واحد اتسع الأمر على الناس وزال الضيق حتى إذا تعذر وصوله إلى واحد في ذلك المعنى وصل إلى غيره. والدليل على جواز ما قلناه أن الله تعالى قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ...}. فقد أخبر أنه تعالى خلق هذه الأشياء لمعنى واحد، ومع ذلك لم يجعل الجميع كمال واحد، وليس كمال التجارة. ولأن نصاب أموال التجارة من قيمتها، وإذا كان النصاب من قيمتها صار الجنس واحداً، لأنه يقومها إما بالدنانير أو بالدراهم أو بالدراهم وينظر إلى ما اشترى من العروض بها من هذين النقدين فإذا قوم بأحدهما فهو مال واحد وتكميل النصاب جرى في مال واحد لا في مالين مختلفين بخلاف مسألتنا، فإن نصاب الدراهم والدنانير من أعيانها. ألا ترى أن كل جنس لو انفرد لم تجب الزكاة حتى يكمل نصاباً من عينه، قلت القيمة أو كثرت كالسوائم سواء بخلاف الثياب وسائر العروض إذا كانت للتجارة، فإن ثوباً لو بلغت قيمته ألفاً كان نصاباً، وثياب كثيرة إذا لم تبلغ قيمتها

نصاباً لم يكن نصاباً. فإن قيل: إنما كن كذلك، لأن الجودة من كل واحد منهما غير متقومة إذا انفرد، وإذا لم يتقوم، فلهذا اعتبر كمال النصاب عيناً فأما عند المقابلة بجنس آخر تقوم الجودة، فإذا ظهرت قيمته كمل النصاب عيناً فأما عند المقابلة بجنس آخر تقوم الجودة، فإذا ظهرت قيمته كمل النصاب بالقيمة، وعند الانفراد لم تظهر قيمته فأكمل النصاب بالعين. قالوا: (وهذا كما قلنا فيمن غصب قلباً فقسمه ثم رد على صاحبه فأخره صاحب القلب وأراد أن يضمنه قيمة الجودة لم يكن له ذلك، لأنه أراد أن يضمن الجودة بانفرادها، ولو أراد أن يترك الأصل عليه ويضمنه بخلاف جنسه جيداً كان له ذلك) بخلاف مسألتنا. والجواب: إن الجودة مال متقوم، وإنما سقط اعتبارها في موضع مخصوص بالنص ففيما وراء ذلك الموضع هي معتبرة متقومة، ومسألة القلب المقسوم على أصولهم، وعلى الأصح من الوجوه لأصحابنا له أن يضمنه الجودة من جنس الفضة، لأن الربا إنا يعتبر في المعاقدات، فأما في ضمان الإتلاف فلا. وأما قولهم: ((إن الواجب واحد وهو ربع العشر)). قلنا: هذا لا يدل على اتفاق الجنسين بدليل العشر في الأجناس الخارجة من الأرض، وكذلك الخمس في الغنائم المشتملة على الأجناس المختلفة. وأما قولهم: ((إن النصاب واحد)). فليس كذلك، لأن الدنانير عندنا غير معدلة بعشرة دراهم

بل هو معدل بإثني عشر درهما فلم يتفق النصاب والنصاب. وأما قولهم: ((إن كل واحد منهما يضم إلى السلعة)). فهذه الصورة كل صورة يوردونها على مذهبهم، وعندنا ينظر إلى الذي اشترى به السلعة فإن كان دراهماً تقوم السلعة بها ويضم إليها الدراهم ولا يضم الدنانير وكذا على العكس فلا ضم عندنا على ما زعموا. والله أعلم. * * *

(مسألة) لا زكاة في حلي النساء على أحد قولي الشافعي رضي الله عنه

(مسألة) لا زكاة في حلي النساء على أحد قولي الشافعي رضي الله عنه. وفي الآخر يجب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وقد روى عن جماعة من الصحابة القول بنفي الزكاة على الحلي منهم:

ابن عمر، وعائشة، وأسماء، وجابر، وأنس بن مالك، نقل عنهم بأسانيد معروفة. وروى مثل ذلك عن التابعين: عن القاسم بن محمد، والشعبي، ومن الأئمة عن مالك، وأمد، وإسحاق. وقد ذهب من أوجب الزكاة فيها إلى أخبار رووها في الباب منها: ما رواه أبو داود في سننه بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ((أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن

يسورك الله بهما يوم القيامة بسوارين من نار؟ قال: فخعلتهما وألقتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: هما لله ورسوله)). وذكر أبو عيسى هذا الخبر في جامعه وقال: ((إن امرأتين أتتا النبي عليه السلام في أيديهما سواران من ذهب، فقال لهما: أتؤديان زكاتهما؟ قالتا: لا، فقال: أتحبان أن يسوركما الله بسوارين من النار؟ قالتا: لا/ قال: فأديا زكاته)).

وروى أبو داود أيضاً برواية عبد الله بن شداد عن عائشة قالت: ((دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله، فقال: أتؤدين زكاتها؟، قلت: لا، قال: هو حسبك من النار)). وروى الدارقطني بإسناده من عطاء عن أم سلمة: ((أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب، فسألت النبي عليه السلام عن ذلك، فقلت: أكنز هو؟ فقال: إذا أديت زكاته فليس بكنز.

وروى الشعبي قال: سمعت فاطمة بنت قيس قالت: ((أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطوق فيه سبعون مثقالاً من ذهب، قلت: يا رسول الله، خذ منه الفريضة، فأخذ منه مثقالاً وثلاثة أرباع مثقال)). وفي رواية أخرى عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس أن النبي عليه السلام قال: ((في الحلي الزكاة)). وروى حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: ((قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن لامرأتي حلياً من عشرين مثقالاً، قال: فأد زكاته نصف مثقال)). ونحن نقول: هذه الأخبار ضعيفة في الإسناد: فالخبر الأول: رواه عمرو بن شعيب، والحسين المعلم،

وابن ربيعة، والمثنى بن الصباح، والحجاج بن أرطأة، وهؤلاء كلهم ضعفاء في الرواية. والخبر الثاني: رواه محمد بن عطاء عن عبد الله بن شداد، قال الدارقطني: ((ومحمد بن عطاء هذا مجهول)). والخبر الثالث: رواه أبو حميد الحمصي عن عثمان بن سعيد

الحمصي عن محمد بن مهاجر عن ثابت بن عجلان، وهذا إسناد مظلم، وأكثر الرواة ضعفاء مجاهيل. والخبر الرابع: رواه أبو بكر الهذلي عن شعيب بن الحبحباب عن الشعبي، وأبو بكر الهذلي متروك لا يحتج بحديثه. والخبر الخامس: رواه صالح بن عمرو عن أبي حمزة ميمون عن الشعبي.

قال الدارقطني: أبو حمزة هذا ضعيف الحديث. والخبر السادس: رواه عن حماد: يحيى بن أبي أنيسة. قال الدارقطني: يحيى بن أبي أنيسة، متروك الإسناد، وهم، والصواب أنه مرسل موقوف. وإذا ضعفت الأخبار من هذا الوجه فنصير إلى المعنى فنقول: مال مصروف عن جهة النماء إلى ابتذال مباح فلم تجب فيه الزكاة. دليله: مال التجارة إذا جعلها للبذلة. وتحقيقه: أن نقول: فقد محل الزكاة فلا تجب فيه الزكاة. والدليل على أنه فقد محل الزكاة أن محل الزكاة هو المال النامي، لأنها واجبة بوصف اليسر، وعلى جهة المواساة ولا يتحقق هذا الوصف وهذه الجهة إلا أن يكون المال مالاً نامياً، ولهذا المعنى لا تجب الزكاة، فيما دون النصاب، ولهذا يشترط الحول، لأن المال إنما يكثر ببلوغه نصاباً، والنماء يطلب في المال الكثير، والحول مشروط لتحقيق النماء. وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: وصف النماء في الذهب والفضة بالتقلب والتصرف فإن هذه الجهة جهة منمية مثل التجارة في سائر الأموال، ولما اتخذ الحلي من الذهب والفضة

فقد فاتت هذه الجهة، لأنه جعله ليلبسه ويتحلى به ويتزين به مثل ثوب يجعله للبسه وللتجمل به عند الناس، وهذه جهة صحيحة مطلقة شرعاً مثل اللبس في الثياب فيفوت بها جهة النماء، لأن التقلب والتصرف لا يكون إلا بإخراجه عن يده، واللبس والتحلي لا يكون إلا بإمساكه في يده فحصلت مضادة ومنافاة بين الجهتين، ولم يتصور اجتماعهما، فإذا تحقق الثاني فات الأول قطعاً، وإذا فات سقطت الزكاة لفوات محلها على ما سبق فهذا الذي قلناه معتمد المسألة، وسنبين كلامهم عليه، والجواب عنه، ويمكن أن يقال في الابتداء أن الحلي مشغول بحاجته، والزكاة لا تجب إلا في المال الذي يفضل عن حاجته مثل ثياب اللبس والعبيد للخدمة، والدواب للركوب، وهذا الكلام يصلح تقريراً للأول والاعتماد على الأول. وأما حجتهم: قالوا: (الزكاة حكم شرعي يتعلق بالذهب والفضة فيتعلق با لحلي. دليله: الربا). ودليل تعلقها بالذهب والفضة أنها تجب بملك العين من غير شرط زائد، بدليل وجوبها في التبر والسبائك والدراهم المعدة للإنفاق. والحرف أن الزكاة تجب في الذهب والفضة كيف ملكها وعلى أي جهة أمسكها فصارت متعلقة بنفس الملك من غير اعتبار معنى زائد عليه، فثبت أنه حكم متعلق بعينها مثل الربا سواء. وقد قال بعضهم: إن الذهب والفضة مال التجارة بعينها لأنهما خلقا لذلك فبقيا مالين للتجارة ببقاء عينهما، والزكاة واجبة في مال التجارة.

والدليل على أنهما خلقا للتجارة أنههما خلقا للتقلب والتصرف والتوصل بهما إلى الفوائد المالية، وهذا هو التجارة. قالوا: وأما قولكم: ((إنه فاتت جهة النماء باتخاذ الحلي)). فليس كذلك، لأنهما لما خلقا للتجارة فلم يفت ذلك بفعل من العباد. وتحقيقه: أن الذهب والفضة صارا للتجارة بعينهما وعينهما باقي. وربما يقولون: صارا للتجارة لقبولهما جهة التقلب والتصرف، وهذا المعنى قائم/ بعد اتخاذ الحلي للتجارة، وهذا لأن التزين والتحلي بالذهب والفضة ليس بمضاد لجهة التجارة بالوجه الذي قدمنا. قالوا: وخرج على هذا عروض التجارة، لأنها صارت للتجارة بمعنى عارض وقد ترك العارض فخرجت عن جهة التجارة، أما ههنا إنما صار هذا المال مال التجارة لا مال بعارض بعينه وباتخاذ الحلي ما فاتت العين فبقى مالاً للتجارة. يبينه: أن نهاية ما في الباب أن الحلي يعد للإمساك فإذا لم يكن صار الذهب والفضة للتجارة بالإعداد للتقلب والتصرف، والإعداد للتقلب والتصرف لا يفوت بالإمساك. ألا ترى أنه لو لم يعده للتقلب والتصرف بل أعده للنفقة أو دفنه في موضع ليكون ذخيرة له وجبت الزكاة، بل صار للتجارة بمجرد وجود العين، فكذلك ههنا بالإعداد والإمساك للتحلي والتزين لا يخرج عن كونه مال التجارة وهذا فصل معتمد. قالوا: ولأن التحلي والتزين جهة دون جهة التقلب والتصرف لأن التقلب والتصرف بهما قيام المعاملات وبالمعاملات بقاء العالم. وأما التخلي والتزين فلا يتعلق به القوام إنما هو من فضول الحاجات،

فإذا ثبت أن هذه الجهة دون تلك الجهة، فالشيء لا يرتفع بما دونه كما لا ينسخ الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد. قالوا: وبهذا فارق عروض التجارة إذا جعلها للبذلة والمهنة، لأنه جهة مثل جهة الأولى، لأن القوام متعلق بالجهتين فاستويا فجاز أن ترتفع الأولى بجهة مثلها، وعلى هذا خرجت الجواهر إذا اتجر فيها حيث تصير للتجارة، لأنها خلقت لجهة التزين، وإذا صرفها إلى جهة التجارة فقد صرفها إلى جهة فوقها فجاز أن ترتفع الأولى بها. وقد تعلق كثير منهم بالحلي إذا كانت للرجال، فإن الزكاة فيها واجبة بالاتفاق. قالوا: ولا يجوز أن يقال إن هذه الجهة محظورة على الرجال، لأن الصرف عن جهة النماء إذا حصل سقط الزكاة سواء أكان بجهة محظورة أو بجهة مباحة. ألا ترى أن السائمة من الإبل إذا علفها بعلف مغصوب سقطت زكاتها، وكذلك ثياب التجارة من الحرير إذا اتخذها الرجل للبسه سقطت زكوتها، وكذلك البقر السائمة إذا جعلها عوامل لنقل الخمر فإنه تسقط زكاتها. الجواب: أما قولهم: ((إن الزكاة تتعلق بعين الذهب والفضة)). قلنا: إن عنيتم أنها تعلقت بعينهما لا لمعنى، فلا نسلم، وإن عنيتم لمعنى فمسلم، وهذا كالسوائم تتعلق الزكاة بأعيانها لمعنى، كذلك ههنا. فإن قالوا: ((فأيش ذلك المعنى)). قلنا: وصف النماء وقد فات في مسألتنا على ما سبق.

وأما الربا يتعلق بعينها بنص الشارع وعينهما باقي. قالوا: ((إن عندكم علة الربا الثمنية وقد زالت باتخاذ الحلي)). قلنا: نحن نقول إن جريان الربا حكم متعلق بعين الذهب والفضة، وأما العلة بالثمنية لم يكن لأنه غير متعلق بعين الذهب والفضة بل لمنع إلحاق غير الذهب والفضة بالذهب والفضة. وقد قال بعض أصحابنا: إن العلة كونهما جوهري الأثمان وهذا المعنى باقي بعد الصنعة. ومنهم من قال: إن لم يبق حقيقة الثمنية بعد صنعة الحلي فقد بقيت شبهة الثمنية، والتحريم يثبت بشبهة الربا، وأما الزكاة لا تجب بشبهة النماء بل تجب بحقيقة النماء. وأما قولهم: ((إن وصف النماء أو صفة التجارة قائمة بعد صنعة الحلي)). قلنا: قد دللنا على الفوات ثم يتبين وجه ذلك على ما يمكن الاعتماد عليه فنقول: إن الله تعالى خلق الذهب والفضة لمنافع العباد فكل منفعة يجوز حصولها من الذهب والفضة، فهما مخلوقان لذلك، فعلى هذا خلق الله تعالى الذهب والفضة لمنفعة التقلب والتصرف، ولمنفعة التحلي والتزين وغير ذلك، إلا أن في الابتداء تعين جهة التقلب والتصرف ويجعل الذهب والفضة كأنهما خلقا لذلك، لأن هذه المنفعة أعم من منفعة التحلي والتزين. ألا ترى أنها تعم الرجال والنساء، ومنفعة التحلي والتزين تختص بالنساء، وإنما يجوز للرجال في الفضة على الخصوص في شيء معين من خاتم وما يشبهه، وهو شيء يسير لا يقع الالتفات إليه فتعين جهة التجارة بهذا الرجحان، إلا أنه مع ذلك يقبل أن يجعل للمنفعة الأخرى، ويصرف

إليها بعارض من صنعة مباحة مشروعة لذلك النوع من المنفعة على الخصوص، فإذا صرف وصنع انصراف عن تلك الجهة إلى هذه الجهة، وفات صفة النماء، وهي شرط وجوب الزكاة فسقطت لفقدان شرطها، وهذا كالثياب والدواب خلقت لمنافع فيها، وتعينت في الابتداء لجهة البذلة بنوع دليل ثم إذا صرفها عنها بفعل التجارة انصرف ووجبت الزكاة، فإذا عرفنا هذا الأصل فيخرج عليه ما ذكروا من المعنى، وما تعلقوا به من الأحكام. وأما قولهم: ((إن جهة التجارة/ تبقى بعد صنعة الحلي)). قلنا: جهة التجارة وجهة البذلة جهتان مختلفتان، والشرع قد علق بكل جهة حكماً يخالف الجهة الأخرى، ولا يجوز أن يحكم باجتماعهما، بل إذا ثبتت إحداهما انتفت الأخرى، كما لو جعل ثياب البذلة للتجارة. وقولهم: ((إنه تصور فيه التقلب والتصرف بعد اتخاذه حليا)). قلنا: هذا كمن يقول إن الثياب والدواب يتصور فيهما اللبس والركوب بعد جعلهما للتجارة، ثم ذلك الزعم باطل، كذلك ههنا، وعلى أنا بينا وجود ضدية ومنافاة بين الجنسين محسوساً ومشروعاً. وأما قولهم: ((إنه صار للتجارة بعينه من غير اعتبار معنى وراء العين)). قلنا: بلى، ولكن بنوع دليل مرجح لهذه الجهة على غيرها مع قبول العين جعلها مشروعاً ومحسوساً لجهة أخرى، فإذا جعل لتلك الجهة وصرف عن هذه الجهة صار لها، وفاتت هذه الجهة مثل الثياب والدواب. وأما قولهم: ((إن جهة التحلي والتزين دون جهة التجارة)).

قلنا: وجهة التجارة دون جهة اللبس والأكل والشرب في الدواب والثياب، لأن قوام الحياة يتعلق بعين هذه الأشياء. وأما التجارة فلا يتعلق قوام الحياة بها، إنما هي طريق التوصل إلى ما يتعلق به القوام فيكون دون الأول قطعاً، ومع ذلك ينصرف إليها بالصرف، وعلى أن جهة التحلي والتزين جهة مقصودة مطلوبة بدليل قوله تعالى: {واَلْخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِير لِتَرْكَبُوهَا وَزِيِنَةً}. فقد أخبر أنه خلقهما لهذين وجعلهما بمنزلة واحدة، ولأنه تعالى خلق الجواهر سوى الفضة والذهب في الابتداء للتحلي والتزين وإن قبل الانصراف عنه على غيره مثل ما خلق الذهب والفضة في الابتداء للتجارة، وقبل الانصراف إلى غيره، فاستويا منفعة التجارة ومنفعة التزين من هذا الوجه، لأنه ما يفوته الإنسان باختياره لا يفرق بين أن يفوته إلى شيء مثله أو فوقه أو دونه مثل الاعتياض عن المالية في الأشياء يجوز أن ينقل إلى ما هو مثله أو فوقه أو دونه. أما المسائل التي تعلقوا بها فنقول: إذا عرف الأصل الذي ذكرنا سهل التخريج عليها، لأن جهة التجارة إنما تفوت وتزول بفعل محقق للصرف والإزالة، وذلك لا يوجد إلا بعد اتخاذه حلياً بالصنعة المعروفة، ولا يوجد هذا إلا بالسبك ولا بإعداده للنفقة، ونية الإنفاق لا يلتفت إليها، لأنه لم يكن للتجارة بالنية حتى تفوت بنية أخرى، وإنما كان ببقائه على أصل الخلقة من غير أن يوجد عارض صنعة مغيرة، وفي الذهب والفضة المضروبة إن وجد عارض صنعة، فإنما وجد عارض صنعة محققة لجهة التجارة لا عارض صنعة مغيرة مفوتة بخلاف صنعة الحلي على ما سبق.

وأما الحلي للرجال فالصرف لم يوجد لحظرية الصنعة فكأن الشرع لحظرية الصنعة جعل الصنعة كالمعدومة، وصار كأنها باقية على الجهة التي كانت عليها من قبل. وأما المسائل التي أوردوها على هذا العذر: ليس يلزم، لأن تلك الأفعال وإن كانت محظورة لكن تضمنت ترك جهة التجارة، أو جهة السوم، فلذلك سقطت الزكاة، وهذا الترك لا يوصف بالحظر والحرمة، وقد كانت جهة السوم والتجارة بفعله فتزول بتركه. وههنا أيضاً يمكن أن يقال إنه باتخاذ الحلي وإن كان محظوراً ترك جهة التجارة لكن لم تكن جهة التجارة بفعله حتى يزول بتركه، بل كان بنوع دليل قام عليه من الشرع فينصرف عنها بشرع مثله وقد صرفه عنها بشرع صحيح، وابتذال مشروع وصنعة مباحة مطلقة فانصرف وسقط الوجوب. والله أعلم. * * *

(مسألة) وجوب الخراج لا ينفي وجوب العشر في الخارج من الأراضي الخارجية

(مسألة) وجوب الخراج لا ينفي وجوب العشر في الخارج من الأراضي الخارجية عندنا. وعندهم: لا يجتمع الخراج والعشر. لنا: إن العشر واجب في الخارج فما يجب بسبب الأرض لا ينفيه، لأن الواجب في مال لا ينتفي بواجب في مال آخر. والدليل على أن العشر واجب في الخارج، أن الواجب عشر الخارج فيكون واجباً بملك الخارج وبسببه، مثل زكاة الذهب والفضة لما كان الواجب ربع العشرة كان واجباً بملك الذهب والفضة وبسببهما، لأنه يكثر بكثرة الخارج ويقل بقلته، وأيضاً يختلف باختلاف أجناس الخارج والأرض واحدة غير مختلفة، فثبت أن العشر واجب في الخارج. وأما الخراج مؤنة الأرض، بدليل أنه يجب بملك الأرض، وإن لم يكن زرع بعد أن تمكن من الزرع، وأما العشر لا يجب بحال إلا بوجود الزرع

وصار الخراج بمنزلة كراء الحانوت، وصار زكاة العشر بمنزلة زكاة المال الذي يتجر فيه على الحانوت ثم هالك جاز اجتماع وجوبهما، كذلك في مسألتنا. وقد قال الأصحاب: حقان اختلفا سبباً ومحلاً ومصرفاً وصفة فاجتمع وجوبهما فالسبب قد ذكرنا، والمحل محلين: أحدهما دراهم في الذمة، والآخر عشر العين، وأما الصفة فلأن أحدهما عبادة، والآخر مؤنة، وأما المصرف فلأن/ أحدهما يصرف إلى أهل السهمان، والآخر إلى المقاتلة. وأما حجتهم: تعلقوا بحديث رووا عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أن النبي عليه السلام قال: ((لا يجتمع العشر والخراج في أرض مسلم)). وهو نص لأن الخراج وظيفة الأرض،

كذلك العشر بدليل أنه يقال: أرض عشرية وأرض خراجية، والإضافة المطلقة في الشرع دليل السببية. دليله: سائر المواضع فلما أضيف كل واحد من العشر والخراج إلى الأرض دل أنها سبب وجوبهما، ولأن الأرض مال نامي فلا يخلو عن واجب. دليله: سائر الأموال النامية. وأما الزرع ليست بمال النماء، لأن العروض والحبوب إنما يصير مال النماء بالتجارة، والحبوب في هذه المواضع ليست بمال التجارة. يبينه: أن النامي ما يراد بقاءه في ملكه، وطلب النماء منه، والأرض بهذا الوصف، فأما الزرع فلا يراد للبقاء، فإنه مطلوب في العادة من الأراضي للقوت، والتقوت جهة مثوبة لا جهة مبقية، فثبت أن العشر وظيفة الأرض مثل الخراج إلا أن الخراج دراهم في الذمة فإذا ملك الأرض وتمكن من زراعتها وجب. وأما العشر مقدر من الخراج فما لم يوجد الخارج لا يمكن إيجابه، ولهذا افترقا في هذه الصورة وهذا الافتراق لا يدل على اختلاف السبب، ألا ترى أن الأجر للأجير الواجد، والأجير المشترك في مقابلة العمل، وإن كان أحدهما لا يجب إلا بالعمل والأجر يجب بتسليم النفس وإن لم يوجد العمل، وأما اختلاف مصرفهما جاء من حيث أن أحدهما مشتمل على معنى العبادة وهو العشر، والأجر محض مؤنة فصرف العشر إلى أهل السهمان والخراج إلى المقاتلة، وهذا الاختلاف لا يمنع اتجاه السبب.

ولأن الدليل قد قام أن ملك الأرض صالح لإيجاب كل واحد منهما، أما العشر فدليل وجوبه ملك المال النامي، والأرض مال نامي، وأما الخراج فلأن الأرض قطعة من دار الإسلام لا يمكن حفظها إلا بحماية الإمام كما لا يمكن حفظ جميع دار الإسلام إلا بحمايته، والحماية تكون بجند ومقاتلة، ولابد لهم من رزق يعيشون به فوجب الخراج بوصف أنه مؤنة الأرض ووجب لمن يوجد منهم حماية الأرض، واستدلوا في أن العشر واجب بسبب الأرض لا بملك الخارج أنه لو اجتنى الثمار من المواضع التي لا تملك وبلغ نصاباً لا يجب فيه العشر مع وجود الثمر لعدم الأرض، وكذلك النخيل التي في داره المملوكة لا يجب العشر في ثمارها لعدم الأرض الخراجية أو العشرية. الجواب: أما الخبر فلم يثبت، ولئن ثبت لقلنا به. وقد قيل: رواه يحيى بن عنبسة عن أبي حنيفة، ويحيى بن عنبسة، متروك. وكيف يثبت هذا الخبر؟ وقد تفرد بإسقاط العشر بسبب الخراج أبو حنيفة رحمة الله عليه من بين أهل العلم، ولم يوافقه عليه أحد من الأئمة سوى أصحابه الذين درجوا على قوله ونسجوا على منواله. ونقل ابن المنذر في كتاب ((الاختلاف)) عن جملة أهل العلم شرقاً وغرباً

إيجاب العشر من الخراج، وقال: وقد قالت طائفة قليلة عددها شاذ قولها بخروجه عن أقوال أهل العلم أنه لا عشر مع الخراج وذكر أصحاب الرأي، ونقل عن ابن المبارك أنه ذكر له قول أبي حنيفة رضي الله عنه في هذه المسألة فقال: لا يترك كتاب الله وسنة رسوله بقول أبي حنيفة رضي الله عنه، فجاء مما ذكرنا أنه لو صح ذلك الخبر لم يخف على أهل العلم من الأئمة، ولو عرفوا ذلك لم يخالفوه، فدل أن الخبر موضوع لا يلتفت إليه. وأما المعنى: قولهم: ((إن العشر وظيفة الأرض)). لا نسلم، بل هو زكاة الخارج. وأما قولهم: ((إنه مضاف إلى الأرض)). قلنا: ويضاف إلى الزرع فيقال: عشر الزرع، ولعل هذه الإضافة أشهر وأظهر فتكون بالاعتبار أولى، ثم يجوز أن تكون الإضافة التي تعلقوا بها على طريق التوسع والمجاز. ومعنى قولهم: ((أرض عشرية)). أي أرض يجب العشر في الخارج منها. وأما قولهم: ((إن الأرض مال نامي)). قلنا: هذا غلط قبيح، لأن الزرع ليست بنماء الأرض، وإنما هي نماء البذر، ولهذا يكون لصاحب البذر لا لصاحب الأرض، ولأن نماء كل شيء

من جنسه فلا يتصور نماء الأرض بالزرع، نعم يحصل من الأرض قوة في نماء البذر، فأما أن يكون نماء الأرض فمطمع محال، وهذا كالحاضنة للولد تكون منها قوة في تربية الولد، وأما الولد فهو ولد أبيه وأمه. وأما قولهم: ((إن الزرع ليس بمال النماء)). قلنا: هو نفس النماء فيكون الإيجاب فيه أولى، وهذا كالسخال تجب فيها الزكاة بالإجماع، وإن لم يكن مالاً نامياً، وأما عذرهم عن فصل الذي ألزمناهم وهو إذا ملك الأرض ولم يزرع، وقد تمكن منه لا يجب العشر. وقولهم: ((إنه لا يمكن الإيجاب، لأن العشر مقدر بجزء من الخارج/ فلا يجب بدون الخارج)). قلنا: وجب أن يجب، ويقدر وجود الخارج، وهذا مثل ما قلتم إن المكري يجب العشر عليه وإن لم يجب بملك الخارج وقدر ملكه له، والحرف في هذا أنه يستحيل ملك المال النامي سبب صالح تام في وجوب الحق المسمى سواء وجد حقيقة النماء أو لم توجد بدليل السوائم وعروض التجارة. وأما الأخير الذي قالوه وهو: ((إذا اجتنى الثمار من الأراضي التي هي غير مملوكة)). قلنا: إنما وجب العشر في الخارج بعلة أنه نماء ملكه فإذا وجب في المال النامي فلأن يجب في نفس النماء أولى، وهذا لا يوجد فيما صوروه، لأن ذلك ليس بنماء ملكه، والمسألة الأخيرة ممنوعة. والله أعلم. * * *

(مسألة) نصيب العامل من الربح الحاصل في مال القراض لا تجب فيه الزكاة

(مسألة) نصيب العامل من الربح الحاصل في مال القراض لا تجب فيه الزكاة عندنا. وعندهم: تجب وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه. والمسألة بناء على أن العامل هل يملك نصيبه بنفس ظهور الربح؟ عندنا: لا يملك ما لم يقسم، وعندهم يملك. لنا: إن المسمى للعامل عمالة فلا يملك قبل القبض، دليله: المسمى لعامل الصدقات، والأولى أن نقول: جعل على العمل فلا يملكه قبل تمام العمل. دليله: الجعل في الجعالات، والدليل على أنه جعل أن تصحيح العقد بوجه الإجازة لا يجوز، لأن العمل مجهول، والإجارة على العمل المجهول باطل، ولا يمكن تصحيحه بجهة الشركة، لأن اختلاف الجنس من الجانبين يمنع صحة الشركة. وقد اختلف الجنس من الجانبين في القراض، لأن في أحد الجانبين مال وفي الجانب الآخر عمل، ولا مجانسة بين المال والعمل، وإذا بطل هذان

الوجهان لم يبق للصحة وجه إلا جهة الجعالات، وحكم الجعالة أن لا يملك الجعل فيها إلا بتمام العمل، وتمام العمل بالقسمة وإيصال حق رب المال على الكمال إليه. ويستدل بمسألة على أصولهم قالوا: لو اشترى برأس المال عبدين وقيمة كل واحد بقدر رأس المال، فإن العامل لا يملك شيئاً من العبدين حتى لا تجب فيه الزكاة، ولا يعتق نصيبه إذا أعتق، فكذلك إذا كان العبد واحداً، لأن الصورتين في المعنى واحد. وأما حجتهم: قالوا: العامل أحد الشريكين في الربح فيملك نصيبه بنفس الظهور. دليله: رب المال (والدليل على أنهما شريكان، أنهما يملكان شرط واحد وهو قوله: ((على أن ما رزق الله تعالى فهو بينا نصفان)). ولأن الربع تفرع عن أصل مشترك بينهما، فيكون مشتركاً بينهما كالحاصل بين شريكي العنان وكالشريكين في الشجرة إذا أثمرت تكون الثمرة مشتركة بينهما، وإنما قلنا: ((إنه تفرع عن أصل مشترك بينهما))، لأن عقد المضاربة صحيح بالإجماع، وإنما صح على جهة ثبوت الشركة بين رأس المال والعمل، وتولد الربح منها جميعاً فإن رأس المال دراهم ولا يتولد منها ربح بدون التصرف، والتصرف نفسه كلام ولا يتولد منه ربح بدون مال، فإذا اجتمعا حصل الربح مثل المزارعة والمساقاة فإن الأرض بدون الزرع لا تنبت، والزرع بدون الأرض لا عمل له، فإذا اجتمعا

انعقدت الشركة بين منافع الأرض والعمل ثم يخرج الزرع على سبيل الشركة). قالوا: وأما العمالة والجعالة فباطلتان إذا كانتا بصنع من العباد (والعمالة عبارة عن كفاية ليفرغ لعمله، ومثل هذا لم نجده مشروعاً مفوضاً إلينا حتى نوجبها قصداً فيما نحتاج إليه من الأعمال بل هذا مما تولى الله إيجابها لعمل العامة، كما أوجب الكفاية للإمام الأكبر، والقاضي، والمفتي، وكل من فرغ نفسه لأمر من أمور الدين فقدر له كفاية من بيت مال المسلمين، فكانت معاملة بين الله تعالى وبين عبده، وما يصح من الله تعالى على عباده لا يشبه ما فوض إليها مما يوجبه بعضنا على بعض، فكان اعتبار القراض بما نوجبه نحن من إجارة أو شركة أولى) من اعتبارها بما يوجبه الله تعالى مما يتولاه بنفسه. قالوا: (وأما مسألة العبدين فإنما لم يملك العامل شيئاً منهما، لأن ملكه إنما يكون من الربح، ولا ربح في هذه الصورة فإن كل واحد من العبدين مشغول برأس المال وإنما كان كذلك، لأنه قد ثبت عندي أن العبيد لا تقسم جملة ويعتبر كل عبد كأنه ليس معه غيره، وإذا كان أمر العبد هكذا في القسمة، والفضل لا يحصل فضلاً إلا بعد إحراز رأس المال وتحصيله، والمقاسمة بينه وبين الربح، لكن على سبيل الترتيب، ومعنى الترتيب أنه يحصل رأس المال أولاً ثم الربح، وكل عبد وجب

اعتباره في هذا الحكم كأنه ليس معه غيره فلم يفضل شيء من العبد عن رأس المال، وهذا بخلاف العبد الواحد، لأنه قد فضل. وحرفهم في هذا أن رأس المال لا يعتبر/ شائعاً في العبدين بل في كل عبد على حدة، وإذا جعل هكذا لم يحصل فضل رأس المال). الجواب: إن كلامه مبني على أن القراض شركة، وقد بينا أن الشركة مع اختلاف الجنس في رأس المال لا تنعقد، وقد بينا هذا في كتاب ((الشركة)). وقلنا: إن الشركة لا تكون شركة إلا بالاختلاط، ولا يتصور الاختلاط بين المال والعمل. ونقول أيضاً: إن المال نماء المال بكل حال، ولا يتصور أن يكون العمل نماء، لما بينا أن نماء كل شيء ما يكون من جنسه فلا يتصور أن يكون المال نماء العمل، وإنما العمل شرط ظهور الربح، فأما أن يكون الربح متولداً من المال والعمل فكلام مستحيل، ولا يمكن تصحيحه بوجه ما، وإذا ثبت هذا لم يكن القراض عقد شركة إنما هو تسمية جعل للعامل فيستحق ما يستحقه عمالة أو جعالة. وأما قولهم: ((إن الجعالة باطلة فيما بين العباد)). قلنا: هي صحيحة بدليل أنه لو قال: ((من رد آبقى فله كذا)) يصح، وإذا رد استحق ولأنهم إذا سلموا أنه صح شرعاً فإذا عقد العقد على وفاق الشرع انعقد، ولأن مثل هذا العقد يحتاج إليه العباد وذلك بأن يكون العمل مجهولاً لا يمكن إعلامه، وإذا احتاج إليه العباد فلو لم يصح ذلك منهم أدى ذلك إلى الحرج العظيم فإذا صح سائر العقود لحاجة العباد، فكذلك هذا العقد يصح ويجوز لحاجة العباد أيضاً.

وأما مسألة العبدين ففي نهاية اللزوم، فإن الربح قد ظهر قطعاً، بدليل أن العامل له المطالبة بالقسمة، وهو بالبيع حتى لو أراد المالك أن يأخذ العبدين ويفوز بهما ولا يعطي العامل شيئاً ليس له ذلك، بل يجبر على التمكين من البيع وقسمة الربح، وكذلك إذا استهلك العبدين أو أعقتهما فإنه يضمن نصيب العامل. ويدل عليه: أنه لو مات العامل يورث نصيبه من العبدين، وأيضاً فإنه لا تجب زكاة العبدين على رب المال، فدلت هذه المسائل أن العبدين كالعبد الواحد، وأنه قد ظهر الربح فيهما، ومع ذلك لم يملكه العامل ولم تجب عليه زكاته دل أن المعنى ما بينا وبطل بهذه المسائل قوله: ((إنه يجعل كل واحد من العبدين كأنه ليس معه غيره))، ثم هذه دعوى بلا دليل ودفع للحقيقة بلا برهان، وبمثل هذا لا تندفع الإلزامات، والله أعلم بالصواب. * * *

كتاب الصوم

كتاب الصوم (مسألة) تبييت النية واجبة في صوم الفرض عندنا. وعندهم: ليس بواجب إذا كان الفرض في وقت بعينه، وإن كان لا في وقت بعينه وجب. لنا: حديث ابن شهاب عن سالم عن أبيه عن حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له)) ذكره أبو داود في سننه.

(والإجماع: إحكام النية والعزيمة، يقال: أجمعت الرأي وأزمعته بمعنى واحد). فإن قالوا: (إن هذا الخبر ليس بمسند، لأن سفيان، ومعمراً وقفاه على حفصة). قلنا: (قد أسنده عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وهو ثقة، وروايات الثقات مقبولة). ووجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى الصوم إذا لم ينوه من الليل، فيقتضى نفيه من كل وجه، وذلك نحمله على نفي الجواز. فإن قالوا: يوجد الصوم مع فقد النية من الليل محسوساً، فكيف ينتفي؟

قلنا: الصوم الفرض مشروعاً لا يوجد قط مع فقد النية من الليل، ومطلق الصوم في الشرع يحلم على الصوم الشرعي، لا على الصوم اللغوي، وليس لهم تعلق صحيح من حيث الأخبار، لأن الخبر الذي يروونه بطريق عكرمة عن ابن عباس، لا يعرف. وقيل: إنه عن عكرمة. والذي يروونه في صوم عاشوراء فلم يثبت وجوب صوم عاشوراء. وقد روى معاوية أن النبي عليه السلام قال: ((صوم عاشوراء لم يكتب عليكم، فمن شاء صام، ومن شاء لم يصم)). وعلى أنه قد نسخ فصارت أحكامه منسوخة أيضاً. وأما المعنى: نقول: المفروض عليه صوم كل اليوم، وقد صام بعض اليوم ولا يخرج عن المفروض عليه. دليله: إذا نوى بعد الزوال، والكلام مستغن عن القياس، لأن من وجب عليه جملة شيء فيفعل بعضه لا يكون فاعلاً لكله. يبينه: أنه إذا وجب عليه صوم يوم كامل فبعض اليوم لا يتسع لصوم يوم كامل فلم يتصور أداء الواجب عليه في هذا الوقت الذي نواه بالصوم،

وما لا يتصور محسوساً لا مشروعاً إلا بدليل قاطع، ثم إن الدليل على أنه لم يصم كل اليوم أن النية شرط لأداء الصوم فإن/ الصوم لا يكون صوماً إلا بالنية، والنية عزيمة على الشيء في المستقبل. وأما العزم على فعل شيء في الماضي فلا يعقل، وهذا لأن ما مضى يتأسف عليه وما يوجد في المستقبل يعزم عليه. ولأن الفعل في الزمان الماضي إذا لم يتصور فكذلك العزم على الفعل في الزمان الماضي لا يتصور، وهذا لا يحتاج إلى كثير إطناب، لأنه أمر قطعي ببدهية الرأي وأول النظر، بل لا يحتاج على نظر أصلاً. فثبت بما قلناه أنه لم يصم كل اليوم فلا يسقط عنه المفروض عليه في كل اليوم، ويمكن القياس على القضاء، وكل واجب من الصوم لا في زمان متعين. ووجه إلحاق الأداء بالقضاء أيضاً في غاية الوضوح، لأن القضاء مثل الأداء من غير زيادة ولا نقصان، ولم يعهد الأمر بزيادة في القضاء لا تجب في الأداء مثل قضاء الصلاة، والحج، وغيرها. وهذا القياس بهذا التقدير وإن كان في نهاية الحسن غير أن المعنى الذي قلناه كاف وهو مستغن عن كل شبه وعماد فعليه الاعتماد. وأما حجتهم: فاعلم أن معتمدهم النفل فإنه جاز بنية من النهار قبل الزوال بالإجماع. فمشايخهم قالوا: صوم عين فجاز أداؤه بنية من النهار قبل الزوال.

دليله: النفل. قالوا: ومعنى قولنا: ((إنه صوم عين)) أن الوقت متعين له شرعاً، وقرروا النفل، وقالوا: النفل والفرض مستويان في أصل النية ولا يختلفان فيها بحال، ألا ترى أنهما يستويان في أصل النية، ولأن النية هي الإخلاص في العمل وجعله لله تعالى فلا يجوز أن يختلف فيها الفرض والنفل، لأن الإخلاص فيهما واجب، ولابد أن يكونا لله تعالى ليصحا. قالوا: وقولكم: ((إن مبنى النفل على المسامحة والمساهلة بدليل جواز صلاة النفل قاعداً مع القدرة على القيام، وجوازه راكباً مع القدرة على النزول))، لا ننكر هذا الافتراق، لكن مع هذا استويا في النية أصلاً ومحلاً على ما سبق. وعلى أن ما استشهدتم به دليل عليكم، لأنه لما جازت الصلاة قاعداً مع القدرة على القيام بكل حال إذا كانت نفلاً جازت أيضاً إذا كان فرضاً بحال، وعندكم لا يجوز. قالوا: ولا يجوز أن يقال إنه يصير صائماً في النفل من وقت النية، لأنه لو كان كذلك لم يضره الأكل من قبل كما لا يضره الأكل في السحر لمن يصوم من وقت الفجر. ولأنه لو نوى أن يصوم نصف النهار لا يجوز، ولو كان كافراً في أول النهار أو المرأة إذا كانت حائضاً لم يجز لهما أن يصوما. ولو نذر أن يصوم بعض اليوم لا يصح نذره، ولو صام بدل الطعام في جزاء الصيد في الحج، فإنه يصوم عن كل مد يوماً فلو بقي نصف مد

لم يصح صوم نصف اليوم، وهذا لأن الصوم عبادة فلا يعرف أصله ولا مقداره إلا بالشرع والتوقيف ولم يرد الشرع بصوم بعض اليوم بحال، ولو جاز أن يجعل إمساك بعض اليوم صوماً بالرأي جاز أن يجعل السجدة الواحدة والركوع والقومة بانفرادها صلاة بالرأي، وهذا اعتراض معتمد. فهذا وجه تعلقهم بالنفل، وإيرادهم لإظهار إشكاله. وأما أبو زيد قال: تعلق بالنفل أيضاً، وادعى نوعاً من المعنى وتحريره ((يوم صوم)) فالإمساك في أوله لا يتعين للفطر بل يوقف على صيرورته صوماً بوجود النية في معظمه، دليله النفل. وربما يقولون: ركن واحد ممتد فتجعل النية في أكثره كالموجود في كله، قال: ((وإنما فعلناه ذلك لعذر خوف فوت العبادة فإن العبادة إذا فاتت عن وقتها حكم بفواتها على الإطلاق والقضاء يجب بأمر جديد، ولأن الاستدراك بفعل القضاء استدراك فيما يرجع إلى تبعات الآخرة، فأما في درك الثواب وجعل الفوات كلا فوات فلا، بدليل قوله عليه السلام: ((من ترك صوم يوم من رمضان لم يقضه صوم الدهر كله)).

ولأن القضاء إن كان مثل الأول فعلاً فلا يكون مثل الأول وقتاً، وإذا لم يكن القضاء مثل الأول من كل وجه فلم يتحقق الاستدراك والحكم بعدم الفوات. فثبت أن القول بعدم جواز النية من النهار يؤدي إلى فوات العبادة، فلأجل خوف الفوات جوز بنية من النهار وحكم بوقوف الإمساك ليصير صوماً بنية توجد في أكثر النهار فيصير كالموجود في كل النهار حكماً مثل النفل سواء. فأما إذا لم يجز بنية من النهار يؤدي إلى فوات العبادة أصلاً فلخوف فوتها حكم بما ذكرنا كذا ههنا. قالوا: وأما إذا نوى بعد الزوال فلا يمكن كما في النفل، لأنه لم يغلب وجود النية بل غلب عدمها، وههنا غلب وجودها وإقامة عذر في عذر ........ عند غلبة وجود النية لا يدل على إقامة ذلك العذر عند غلبة العدم. وربما تعلقوا بالمسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع يصير مدركاً للركعة لغلبة الإدراك. وأحسن استشهاده لهم في التعلق بالعذر الذي قالوه، هو أنه إذا نذر أن يصوم شهراً بعينه متتابعاً فأفطر في ومن منه لا يؤمر بالاستئناف بخلاف ما إذا أطلق الشهر، لأنا إذا أمرناه/ بالاستئناف في شهر بعينه أدى إلى

فوات العبادة عن وقتها الذي سمى له بخلاف المسألة الثانية فهذا نهاية ما يمكن من إبراز المعنى. وقد تعلق أبو زيد أيضاً بالحرج وقال: ((إذا لم يجوز بنية من النهار أدى إلى حرج عظيم يلحق الناس، لأنه يجوز أن ينسئ الصوم حتى يصبح والنسيان عذر عام في الناس وقد يكون يوم شك لم يظهر أنه من رمضان بعد ارتفاع النهار، وكذلك ربما يحتلم الصبي في بعض الليل ولا يعلم إلا بعد أن يصبح، أو تطهر الحائض ولا تعلم إلا بعد أن تصبح فجوز الشرع التأخير في النية لدفع الحرج، كما جوز تقديم النية لدفع الحرج، وحصول الحرج في المنع من تقديم النية شيء معلوم لا يخفى، فإنه يتعذر على أكثر الناس فعل النية عند الشروع، لأنه وقت نوم وغفلة، ولأنه لا يعلم وقت طلوع الفجر إلا الخواص من الناس فالحرج ظاهر في هذه الصورة، وفي الصورة الأولى بينا وجوده أيضاً فليتفق الجانبان في الجواز أعني التقديم والتأخير). قالوا: وأما بعد الزوال فلا حرج، لأن الأعذار التي قلناها ترتفع غالباً قبل الزوال ولا تدوم إلى أن تزول بحال، وأوردوا تقديم النية على فصل العزم الذي قلناه. وقالوا: كما لا يتصور محسوساً انعطاف العزم على زمان ماض فلا يتصور أيضاً أن يقدم العزم إلى عارض في المستقبل خصوصاً إذا عزم من أول الليل ثم ينام إلى الصبح فأين العزم عند الشروع وهو لا يشعر بشيء ما؟ بل قيل: وجد العزم حكماً وإن لم يتصور محسوساً، كذلك

ههنا إذا أخر، نقول: وجد العزم من أول اليوم حكماً وإن لم يتصور محسوساً. الجواب: أما الأصل الذي ادعيناه فهو في نهاية القوة. والحرف الوجيز: أن الصوم لا يكون إلا بالنية، والنية لا تتصور إلا في المستقبل فصار صائماً بعض اليوم وصوم كل اليوم لا يتأدى ببعضه. وأما النفل فعندنا يصير صائماً من وقت النية، لأن إثبات الصوم قبل وجود النية لا مطمع فيه. وقد ورد النص الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان يدخل عليها ويقول: ((هل عندكم من طعام؟ فإذا قالت: لا، قال: فإني إذاً لصائم)). فلا يمكن إبطال الصوم لوجود النية بالنهار بهذا النص، ولا يمكن إثباته من أول النهار لما بينا من الحقيقة فجعلناه صائماً من حين ما نوى ضرورة. وقد أيد هذا النص كون الصائم متبرعاً، والمتبرع يتبرع بقدر ما يختاره

فإن شاء صام كل اليوم وإن شاء صام بعض اليوم، كما أنه بالخيار إن شاء تصدق بحبة وإن شاء بمائة دينار، والاعتماد على الخبر. وأما الذي قالوا: ((إنا عرفنا أصل الصوم وقدره بالشرع، ولم يرد الشرع بالصوم فيما دون ما ذكرنا)). وأما الأحكام فنحن نجوز صوم بعض اليوم بشرط أن لا يكون أكل من أول النهار، لأن النص كذلك ورد فجعلنا ترك الأكل في أول النهار شرطاً لئلا يقع العدول عن مورد النص، ولأنه إذا أكل فيكون الصوم على وفاق العادة وإذا لم يأكل يكون على خلاف العادة والعبادة ما يكون على خلاف العادة. وأما الحائض إذا طهرت، والكافر إذا أسلم، والصبي إذا بلغ في غير رمضان فنوى صوم باقي اليوم يجوز، وأما إذا نوى أن يصوم إلى نصف النهار فقد منع بعضهم، وليس بشيء، والصحيح التسليم وهو مشكل جداً. ووجه الصواب من هذا الفصل أن نقول: إنما جوزنا صوم بعض النهار بالنص، والنص ورد بصورة واحدة وهو أن يكون ممسكاً في أول النهار ثم يصوم البقية ويصير إمساكه في أول النهار شرطاً لصومه في آخر النهار، وهذا يمكن إثباته على وفق أصول الشرع، لأن شرط العبادة، قد يسبق العبادة. فأما إذا نوى الصوم إلى نصف النهار ثم يفطر فهو على خلاف صورة النص. ولأنه لو أكل في باقي النهار فيكون إمساكاً على وفاق العادة، وقد بينا أن مثله لا يكون عبادة، وإن لم يكن وجعلناه شرطاً لصومه في أول النهار فيكون هذا شرطاً متراخياً عن العبادة ولا يوجد لهذا نظري في أصول الشرع فلا يمكن إثباته. وأما مسألة جزء الصيد فنحن إنما ادعينا ما ادعيناه في النفل لا في

الواجبات، والواجب لا يكون في معنى النفل بحال، فهذا الذي قلناه وجه الجواب عن النفل، وقد خبط الأصحاب فيه خبطاً عظيماً. وعندي أنه قد انزاح الإشكال عنه بالطريق الذي قلته فليعتمد عليه. وإذا عرفت هذا الجواب على هذا الوجه، سهل الكلام على باقي ما أوردوه، ونشير إلى وجه الجواب عن بقية كلام على التخليص فنقول: أما العذر الذي اعتقدوا وجوده لجواز النية من النهار فهو خوف فوات العبادة قلنا: لا فوت بحال، لأن القضاء قد وجب، والقضاء وجب شرعاً لئلا يقع الفوات فإذا وجب القضاء منع الفوات فكيف يجوز/ اعتقاد الفوات مع وجوه؟ وهذا لأنا نقطع أن من فاته صوم في رمضان بعذر فقضى يصير متلافياً ما فاته من كل وجه، والخبر الذي أوردوه إنما هو فيما إذا ترك صوماً متعمداً. ثم نقول: النية شرط، والفوات الذي تحقق فهو فضيلة وقت، وفوات فضيلة الوقت لا يكون عذراً في ترك شرط الصوم، لأن الشرط واجب، والفضيلة زيادة على واجب. وأما قولهم: ((إن الإمساك ينبغي أن يكون موقوفاً)). قلنا: إيقاف الإمساك في زمان ماض لابد فيه من دليل قاطع، وليس لهم على ذلك دليل سوى النفل، وقد أجبنا عنه. وكذلك الجواب عن قولهم: ((إنا نقيم وجود النية في الأكثر مقام النية في الكل)). فهذا لابد فيه من دليل قاطع، وليس لهم على ذلك دليل سوى النفل، وقد أجبنا عنه، وهذا لأن صوم كل اليوم واجب فتكون النية في كل

يوم واجبة، فإذا لم يقم صوم الأكثر مقام الكل فلا تقوم نية الأكثر مقام الكل. وأما مسألة المسبوق، فليس إثبات إدراك الركعة بإقامة أكثر الركعة مقام الكل، لأن ما أدركه ليس هو الأكثر على أصلهم، لأنه لم يدرك إلا الركوع والسجود، وقد فاته الأكثر وهو الافتتاح والقيام والقراءة. فإن قالوا: قد وجد منه القيام، والافتتاح ليس من الصلاة فأي شيء فاته؟ ولأنه لو كان بإقامة الأكثر قيام الكل لوجب أن يجوز في حال الانفراد أيضاً، فدل أنه إنما جعلناه مدركاً بالنص من غير أن يعقل له معنى. وأما مسألة نذر صوم شهر بعينه متتابعاً، ومخالفتها في المسألة الثانية، فليس لما ذكروه، بل لأجل أن ذكر التتابع في صوم شهر بعينه لغواً. وأما تعلقهم بفصل الحرج، فليس بشيء. ويقال لهم: أولاً تعبير الشرائع بنوع حرج يلحق المتعبد لا معنى له، لأن الشرائع ثبتت على إيقاع الناس في الحرج والتعب، وهل التكاليف من أولها إلى آخرها إلى محض التعب والنصب؟ نعم، إذا وقعت ضرورة يجوز أن يشرع لها مخرج ومخلص دفعاً للضرورة، فأما اعتقاد المعتقد أنه لا حرج على العباد وأنهم متى حرجوا اتسع الأمر، فهذا مما لا يسوغ اعتقاد ويعود هو إلى أصل وضع الشرع بالهدم. وأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فمعناه

أنه ما أدخل عباده في شيء إلا وقد جعل لهم مخلصاً، وهو معنى قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. وجواب آخر نقول: إن الحرج الذي قالوه نادر، والشرع العام لا يجوز أن يوضع بحرج نادر، وخرج على هذا تقديم النية، لأنه حرج عام فجاز وضع الشرع العام بالحرج العام، ولئن أمكن تصوير مثل هذه الأعذار النادرة واستخراجها بالمناقيش فيمكن مثل ذلك فيما بعد الزوال، وبالإجماع هو ساقط، ثم نقول تخريجاً لفصل تقديم النية على ما سبق من التحقيق: وهو أن العزيمة على فعل في المستقبل صحيح سواء أكان ذلك الفعل متصلاً بالعزيمة أو متراخياً عنها، فأما إثبات العزيمة على فعل يفعله في الماضي فلا يجوز بحال، وهذا لأن الفعل لا يتصور في الزمان الماضي، والعزيمة لا تتصور أيضاً على الفعل أيضاً في الزمان الماضي. وقد قال مشايخهم: إن الصوم مستحق عليه مع فوات النية من الليل بدليل أنه لا تجوز نية التفل، وإنما لم يجز لاستحقاق صوم الفرض عليه، وإذا كان صوم الفرض مستحقاً عليه فإذا فعله وجب أن لا يجوز، لأنه لا يتصور أن يكون الشيء مستحقاً عليه، وإذا فعله لم يجز. ونحن لا نسلم ذلك، وإنما نقول: أصل الاستحقاق قائم ليقضيه في يوم آخر، فأما أن يستحق عليه الصوم في هذا اليوم وقد فاتته النية من الليل فلا نقول بحال. وأما قولهم: ((إنه لو نوى النفل لا يجوز)). قلنا: لم يكن عدم الجواز لما قلتم، بل، لأنه نوى النفل لا في وقت النفل، والله تعالى قد عين للنفل لوقتاً، وللفرض وقتاً فلا يجوز واحد منهما إلا في وقته، والله تعالى أعلم. * * *

(مسألة) نية الفرض واجبة في صوم رمضان

(مسألة) نية الفرض واجبة في صوم رمضان عندنا. وعندهم: لا تجب، بل إذا أطلق النية أو نوى النفل. قالوا: يقع على الفرض، قالوا: وكذلك في كل صوم زمان معين. وقد وافقهم بعض أصحابنا فيما إذا أطلق النية، وليس بمذهب ولا هو صحيح على المعنى. لنا: قوله عليه السلام: ((الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى)).

أي له ما نوى بعمله، وهذا الإنسان نوى بعمل النفل فلا يحصل له الفرض. وأما الكلام من حيث المعنى: أن النية شرط في أداء المفروض بالإجماع، ولأن المفروض عمل يعمله لله تعالى ولا يصير العمل لله تعالى إلا بالنية، فعرفنا أن النية شرط في أداء الفروض، وإذا ثبت هذا فنقول: إذا لم ينو المفروض عليه لم يحصل المفروض عليه، لأن فقد الشرط يوجب فقد المشروط له الشرط، وهذا كأصل الصوم في غير رمضان فإنه إذا لم ينوه لا يحصل له/ الصوم، لأن النية شرط لحصلوه فإذا لم توجد لم يحصل الصوم، كذلك ههنا. فإن قالوا: ((نية أصل الصوم شرط لكن نية المفروض عليه من الصوم ليس بشرط وفي هذا اختلفنا)). قلنا: هو مأمور بأداء ما عليه ولا يصير ما عليه مؤدى إلا بنية ما عليه، لأن النية شرط للأداء بالاتفاق، وبالمعنى الذي قلناه فلابد أن يتصل الشرط بما عليه حتى يحصل أداء ما عليه، ولا يتصل إلا بأن يعين ما عليه بالنية أداء وفعلاً فم يعينه بالنية فقد الشرط ففقد المشروط. ولأنه لما كان مأموراً بفعل ما عليه، ولا يصير فاعلاً للصوم إلا بالنية فعند عدم النية ما عليه ينعدم فعل ما عليه، وإذا لم يفعل بقي الأمر عليه.

يدل عليه: أن الصوم له أوصاف، والشروع في هذا اليوم موصوف بوصف وهي وصف الفرضية فلا يصير مصيباً هذا الوصف من بين سائر الأوصاف إلا بنيته على التعيين، كقوم في دار مختلفي الأوصاف من عالم وجاهل، وعربي، وأعجمي، وقريب وأجنبي، فنادى أحدهم لا يصير مصيباً له إلا بتعيينه بوصفه، كذلك ههنا. وكما تقول في المسلم فيه من ثوب أو طعام، فإنه لما كان ذا أوصاف مختلفة لا يصير معيناً لبعضها إلا بتعيينه إياه بالوصف، وهو مثل مسألتنا، لأنه يوجد بوصفه مثل الصوم يوجد بنيته ثم لا يحكم بوجود المسلم فيه ما لم يعنيه بوصفه فلا يحكم بوجود الصوم المفروض عليه ما لم يعينه بنيته فهذه كلمات في نهاية القوة. وقال جماعة من أصحابنا: إنه بنية النفل معرض عن الفرض فلا يحصل له الفرض مع الإعراض عنه، كما لو ترك النية أصلاً. وما ذكرناه أحكم، وأحسن. وأما حجتهم: تعلقوا بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وهذا الرجل قد صام فيكون قد صام المشروع، لأنه لم يشرع له إلا الصوم المطلق لقوله: ((فَلْيَصُمْهُ)). وأما المعنى فقد قال مشايخهم:

إن المستحق عليه صوم واحد في هذا اليوم فعلى أي وجه أتى بالصوم وجب أن يقع عن المستحق. دليله: إذا كان عنده غصباً أو وديعة فإنه على أي وجه رد يكون عن المستحق عليه، كذ لك ههنا. وربما يقولون: الصوم عن رمضان هو المستحق فليقع عن المستحق عليه. يبينه: أن النية للتمييز بين المفعول وغيره على صورته، فأصل النية اعتبر لتتميز العبادة عن العادة، فإن الإمساك قد يكون عادة، وقد يكون عبادة فاحتاج إلى النية لتمييز العبادة عن العادة. فأما الصوم عن الفرض متميز شرعاً، لأنه لا يوجد في هذ الوقت غير هذا الصوم فاستغنى عن تمييزه عن غيره، لأن تمييز المتميز لغو. وإنا احتاج إلى أصل النية لما بينا، وليصير عمله لله تعالى على ما قلتم. وقد صام وما عليه متميز عن غيره فاستغنى عن التعيين والتمييز. وتعلقوا بالحج وهو فصل مشكل، وقالوا: مطلق النية في العبادة إذا لم يقع عن النفل يقع عن الفرض. دليله: الحج، وألزموا فصل الحج على جميع المعاني الذي قلناه. والإشكال أنه قد وقع عن الفرض بدون نية الفرض، دل أن نية الفرض غير واجبة في كل عبادة اختص بزيادة استحقاق وقتاً قالوا: وقولكم: ((الحج يستوي فرضه ونفله في الأحكام بخلاف الصوم، أو يمضي في فاسده بخلاف الصوم، أو يجوز بإحرام مبهم بخلاف الصوم)).

فليست هذه الكلمات بشيء، ومفارقة الصوم الحج في هذه الأشياء لا يدل على مفارقته في استغنائه عن تعيين النية واحتياج الصوم إلى تعيين النية. لأن الفرض والنفل إن استويا في الأحكام إلا أنهما غيران، لأن أحدهما فرض، والآخر نفل ولا يجوز أن يتأديا جميعاً بنية واحدة، فإذا استويا ولم يتأديا جميعاً فلابد أن يعين أحدهما ليصير مؤدى فوجب أن يقدم الذي عينه بالنية. وأما المضي في فاسد الحج، فهو نوع تغليظ ورد في المنع من الخروج منه إلا بالطريق المشروع للخروج منه إلا أنه لا يصير داخلاً فيه إلا بفعله فينبغي أن يصير داخلاً فيما يفعله ويقصده بفعله وهو ما ينويه ويعينه بنيته وقد نوى التطوع. وعندكم صار داخلاً في الوقت بنوع دليل، فكذلك في الصوم عندنا. قالوا: وأما عندنا إذا نوى التطوع في الحج لا يصير داخلاً في الفرض لأن الوقت لم يتعين له على الخصوص بخلاف وقت الصوم عندنا، وأما إذا أطلق النية فلم يعين بنيته الفرض ولا النفل، وإنما يحتاج إلى صرفه إلى أحدهما، وقد مال دليل الحال على صرفه إلى الفرض، لأن الحج يحتاج فيه إلى كلفة شديدة ومشقة عظيمة، والإنسان لا يتحمل مثل هذه الكلفة والمشقة للنفل وعليه الفرض، بل يقصد الفرض، ثم إذا اتفق له بعد ذلك التطوع يفعله فلأجل دليل الحال صرفنا نيته إلى الفرض، ودليل الحال دليل مرجوع إليه في كثير من الشرائع، فأما إذا عين نية النفل فقد/ سقط دليل الحال، لأنه قابله صريح نية التطوع ولا نفاد لدليل الحال مع التصريح بغيره.

وأما جواز إعدام الإحرام فليس فيه دليل، والإبهام متصور في الإحرام، لأنه ينقسم إلى حج وعمرة، ولا يتصور في الصوم. وقد ذكر أبو زيد طريقة أخرى قال: الوقت متعين لصوم الفرض، فنقول: متعين في هذا الوقت شرعاً فيصيبه باسم جنسه، كما يصيبه باسم بعينه، وهذا كشخص متعين عيناً في موضع معلوم، فإنه يصيبه باسم عينه ويصيبه باسم جنسه فالأول أن تقول: يا زيد أو يا عمرو- إذا كان اسمه ذلك- والثاني أن تقول: يا رجل. كذلك ههنا اسم الجنس هو الصوم المطلق، اسم العين هو الصوم الفرض، والفرض عين في هذا الوقت فيصيبه بالاسمين. وحقق هذا وقال: ((الصوم واحد في الأحوال كلها، لكنها تارة تكون فرضاً، وتارة تكون نفلاً، وإذا كان واحداً يكون مؤدياً له أطلق النية أو عينه، كالشخص لما كان واحداً، يكون داعياً له أطلق النداء أو عينه)). والحرف لهم، أنهم يقولون: لا مزاحم لهذا الصوم الواجب في هذا اليوم فيتعين وإن لم يعنيه. وريما يقولون: إذا قبل الوقت أوجهاً من الصيام مثل خارج رمضان إنما لم يتعين الواحد منها لأجل التعارض، ولا تعارض في مسألتنا، لأنه لا يقبل إلا صوماً واحداً. وخرجوا على هذا وقت الصلاة، لأنه وإن ضاق يقبل الفرض وغيره. قالوا: وقولكم ((: إنه عليه نية الفرض)).

كلام مبتدأ، لأن الذي عليه هو الصوم وحده إلا أنه لازم عليه أن يفعله وقد فعله، ويستحيل أن يقال: إن الصوم مستحق عليه بوصف زائد على كونه صوماً، لأنا إذا قلنا: مستحق عليه فلا معنى لقول من يقول: ((إنه بوصف زائد))، وهو راجع إلى قولهم: ((إن الصوم واحد)) وقد سبق. وأما إذا عين النفل بالنية فتلغو نية النفل، وكذلك إذا نوى القضاء أو النذر أو الكفارة، وإنما لغى بعدم قبول الوقت هذه الصيامات، وإذا لغى بقى مطلق النية فكان الأمر على ما قلنا. ولا يجوز أن يقال: إذا لغت نية النفل تلغو نية أصل الصوم، لأن هذه الأشياء وصف زائد، وبطلان الوصف لا يوجب بطلان الأصل، ولهذا إذا نوى القضاء خارج رمضان ثم يتبين أنه ليس عليه أو نوى الكفارة بعد انفجار الصبح تغلو نية القضاء، ولا تلغو أصل النية حتى يصير صائماً عن النفل. قالوا: وبهذا يعترض على قولكم: ((إنه إعراض عن نية الفرض)) لأنه لو كان معرضاً عن الفرض لصار معرضاً بنية النفل وقد لغت نية النفل فلغى الإعراض أيضاً مثل الحج على أصلكم، والطواف نفلاً إذا كان عليه فرض. يدل عليه: أن الإعراض في ضمن نية النفل، فإذا بلطت نية النفل بطل ما في ضمنها. الجواب: أما الآية فهي دليل عليكم، لأنه قال: ((فليصمه)) ومعناه: فليصم الشهر، وإنما يكون صائماً الشهر إذا صام صيام الشهر، ألا ترى أنهم

صرفوه إليه وجعلوا صومه عن صيام الشهر ولم يثبتوا له صوماً مطلقاً في الشهر وإن صححوا نيته. وأما المعنى: قولهم: ((إن المستحق عليه صوم واحد)). قلنا: بلى، ولكنه لم يأت بذلك المستحق عليه، ولا يتأدى المستحق عليه إلا بفعله، وشرط فعله نيته وقصده، وإذا لم يأت بالشرط فات المشروط. وأما رد المغصوب والودائع، فهناك لا تستحق عليه نية، إنما المستحق عليه هو نفس الرد. أما ههنا فإن النية مستحق عليه، والمراد بالنية: ((نية ما عليه)) فإذا لم يأت بها بقى فعل لا نية. أما قولهم: ((إن النية للتمييز)). فهذيان عظيم، ومن تكلم بهذا قلم يعرف النية، وإنما شرطت النية ليصير عمله لله تعالى وهو بنية أداء ما عليه، فإذا نوى أداء ما عليه لله تعالى صار عمله لله تعالى، في التطوع ينوي أن يصلي لله أو يقوم لله، ويدخل على التمييز، الذي قالوه أصل النية، فإن الإمساك متميز شرعاً متعين لوجه العبادة قطعاً، بدليل أنه حرام عليه غيره فوجب أن يقال: إنه على أي وجه أمسكه يكون عن التمييز المتعين، ولكن اعتبر على أصل النية ليصير أصل صومه لله تعالى فتعتبر نية ما عليه ليصير العزم بوصف الفرضية لله تعالى، وهذا حرف معتمد غاية الاعتماد.

وأما فصل الحج فوجه الجواب عنه: إن وقوعه عن الفرض على النص، وهذا الحديث المعروف الذي روى أن النبي عليه السلام سمع رجلاً يلبي عن شبرمة فقال: ((هل حججت عن نفسك؟ فقال: لا، قال: هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)). ونحن ادعينا حقيقة عظيمة في المسألة، وهو أنه لا يصير الإنسان فاعلاً لشيء بفعل غيره، وذلك كأن ينوي النفل أو يطلق النية، فكيف يكون هو ونية النفل واحداً؟ هو النفل ليس له وصف سوى أنه صوم، وسمة النفل للتمييز بينه وبين الفرض فليس له وصف زائد على الصومية فتصير النية/ المطلقة ونية النفل واحداً، وإذا فعل النفل وقصده بنيته لا يصير فاعلاً غيره من الفرض فهذه حقيقة تشهد بها المعقولات والمنقولات، وقد صرفنا عن هذه الحقيقة للشرع في الحج فانصرفنا إليه تقديماً للوحي على المعقول والشرع على الرأي.

وأما في الصوم رجعنا إلى أصل ما نعقله. ودل عليه: سائر الأصول الموصلة والقواعد المقننة، وهم عدلوا في الحج عن قانون أصولهم حتى جوزوه بمطلق النية مع سعة الوقت للفرض وغيره، وكونه في هذا المعنى كوقت الصلاة سواء، ثم تفريقهم بينه وبين الصلاة في هذه المواضع وهو إذا أطلق النية فليقبلوا منا مثل ذلك وليرضوا به. وإن ألحوا في طلب المعنى فيجوز أن يقال: إنه كان بنوع نظر من الشرع لهذا العبد الذي ترك النظر لنفسه ولم يعين الفرض بنيته، وكان اختصاص الحج بالنظر فيه من الشارع لعظمه في نفسه واحتياجه إلى تحمل المؤنات والمشقات العظيمة، وأنه قل ما يتفق في العمر إلا مرة واحدة فلو لم يصرف نيته إلى الفرض نظراً من الله تعالى فربما لم يصل إلى فعله من بعد فضاع أصلاً، وهذا لا يوجد في غيره من العبادات. وأما طريقة أبي زيد فقد وضعها في مطلق النية، وقد بينا أن النية المطلقة ونية النفل واحداً لا تختلف، فصار إذا أطلق النية كأنه نوى النفل، ثم يقال لهم ما اعتمدوه، وهو أن هذا الصوم متعين في هذا الوقت، وهذا مسلم، ولكن لابد من أدائه وآداؤه بالنية، فإذا لم ينوه فلم يؤده. وقولهم: ((إنه يصير مصيباً إياه باسم الجنس كما يصيبه باسم العين مثل ما استشهدوا به من الشخص القاعد في الدار)). قلنا: ليس في الوقت شيء موجود حتى يصيبه باسم الجنس كما يصيبه باسم العين مثل ما قلتم في الشخص القاعد في الدار، وإنما الصوم في العدم وقد أمر بإيجاده فإنما يوجد بما يوجده، وهو ما قصد إلا إيجاد النفل فلا يوجد الفرض بنيته أنه قصد هذا الصوم من حيث أنه صوم فحسب، لا من حيث أنه فرض فلا يصيب الفرض واعتبر قصده.

ألا ترى أن من رمى سهماً على ظن أنه حربي يكون خطاً، لأنه لم يقصد من حيث أنه مسلم، فلم يجز أنه يعطي له حكم التعمد للمسلم. فإن قالوا: ((أليس لو سمى الدراهم المطلقة في البياعات ينصرف إلى نقد البلد، وإن كان هو الذي يوجده ويوجبه مثل مسألتنا، ولكن لما كان نقد البلد يعين عرفاً انصرف إليه، كذلك ههنا الصوم عن هذه الجهة وقد تعين شرعاً فيصرف الإطلاق إليه)). قلنا: المعاملات العرفية يجوز أن يحكم فيها العرف، فأما في مسألتنا فهذه عبادات شرعية فيصار فيها إلى شرائط الشرع، نعم، لو قدرنا جواز صوم لا بنية كأن يجوز أن يقال: إذا أطلق ينصرف على المعتاد المتعارف، بدليل العرف، فأما إذا لم يجز إلا بنية، فلابد أن ينظر إلى نيته فإذا لو ينو المفروض عليه لم يجز أن يحصل المفروض عليه، ويجوز أن يقال: إن تلك المسألة خرجت عن هذا الأصل بدليل وعلى أنها دليل عليهم إذا عين نقداً آخر يتعين، فقولوا ههنا: النفل يتعين ولا يصح الفرض، والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) المرأة لا تلزمها الكفارة بالتمكين من الوطء في نهار رمضان

(مسألة) المرأة لا تلزمها الكفارة بالتمكين من الوطء في نهار رمضان. وعندهم: تلزمها، وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه. والمناظرة على القول الأول. لنا: حديث أبي هريرة أن أعرابياً أتى النبي عليه السلام وقال: ((هلكت وأهلكت يا رسول الله، قال: ماذا صنعت؟ قال: واقعت أهلي في نهار رمضان قال: أعتق رقبة .......)) الخبر إلى آخره.

فالنبي عليه السلام أمره بعتق رقبة ولم يأمر في جانبها بشئ مع أنه كان أخبر عن وقاعها، والوقاع وطء لا يكون إلا من رجل وامرأة، فلو كان تجب الكفارة لما يسعه السكوت عن ذكرها لوجهين: أحدهما: أنه يوهم السكوت أن لا شيء عليها، وهذا الإيهام من صاحب الشرع غير واسع، لأنه بعث لبيان الواجبات فلا يسعه ما يوهم سقوط واجب مع تحقق سببه. الثاني: أنه أخبر بفعل مشترك من شخصين فوجب جوابه على وفق السؤال، فلو كانت وجوب الكفارة على الاشتراك لم يسع إفراده ببيان الواجب عليه، لأنه يكون السؤال عن فعلين، والجواب عن واجب أحد الفعلين، وهذا تقصير في البيان، وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيان الكامل لا لبيان القاصر، ألا ترى أن في قصة العسيف لما وجب الحد عليها لم يسكت عن بيانه بل قال: ((فاغد يا أنيس إلى امرأة فإن اعترفت فارجمها))، والخبر معتمد في الحجة. وقد قالوا على تعلقنا بهذا الخبر بوجود/ من الأسولة:

أحدها: أنهم قالوا: إن المرأة كانت مكرهة بدليل ما روى في رواية: ((أنه قال: هلكت وأهلكت)) فإنما يكون مهلكاً لها إذا كانت مكرهة من قبله، وعندنا إذا كانت مكرهة فلا كفارة عليها. والثاني: قال إنه صدقه على نفسه، ولم يصدقه عليها، ولو جاءت وسألت كان تبين الواجب، ألا ترى أنه لم يذكر القضاء، وبالإجماع هو واجب. والثالث: أن بيان إيجاب الكفارة عليه كان بياناً للواجب عليها، لأن الفعل واحد من الجانبين، والبيان في أحد الجانبين بيان في الجانب الثاني. قالوا: وأما خبر العسيف، فقد كان حكمها مخالفاً لحكمه فلم يكن بد من البيان. وأما ههنا فحكمهما واحد لا يختلف فذكره في أحد الجانبين بيان في الجانب الثاني. وعلى السؤال الثاني قالوا: لما لم يصدقه عليها كان في بيان الحكم في جانبها متبرعاً فكان مفوضاً إلى اختياره، فاختار البيان في حادثة الزنا، واختار ترك الذكر في حادثة الكفارة. الجواب: أما الأول: قلنا: قوله ((هلكت وأهلكت))، مذكور في رواية غريبة،

والثابت قوله: ((هلكت))، ونحن نتعلق به، وعلى أن اللفظ لا يدل على أنها كانت مكرهة، لأنه سماها هالكة ولا تكون هالكة إذا كانت مكرهة، بل إنها كانت مطاوعة إلا أنه أضاف الهلاك إلى نفسه، لأن الغالب أن الزوج يدعو المرأة إلى الوطء، فلأجل غالب الأمر أضاف هلاكها إلى نفسه. وأما الذي قالوه: ((أنه لم يصدقه عليها)). قلنا: استدلالنا بترك إخباره عن وجوب الكفارة عليها مع إخباره عن فعله وفعلها، وجواب الفتوى لا يحتاج إلى التصديق مثل جواب المفتين في سائر الأعصار، وإنما الإلزام يحتاج إلى التصديق. وأما الثالث الذي قالوه في غاية الضعف، لأن بيان الوجوب عليه لا يكون بيان الوجوب عليها كيف هذا؟ وقد اختلف العلماء في وجوب الكفارة عليها مع اتفاق الكل على وجوب الكفارة عليه. وكيف يجوز أن يحال أعرابي جاهل على مثل هذا البيان؟ ولابد من نظر واجتهاد وقياس معنوي، وقد خفى على كثير من العلماء فيكف يتنبه عليه مثل ذلك الأعرابي ويقنع في حقه بمثل هذا البيان؟ وأما القضاء، فإنما لم يذكره من الجانبين، لأنه سأل عن واجب الهلاك، والقضاء إنما يجب بمجرد فوات الصوم، بدليل المريض. وأما المعنى فسيتبين في الجواب عن كلماتهم.

أما حجتهم: قالوا: الواجب كفارة الفطر على وجه التعدي الكامل وقد وجد هذا المعنى في جانبها، كما وجد في جانبه. أما الفطر فلا إشكال، أما كمال التعدي فلأن كل جناية تحصل من الرجل بفعل الوطء تحصل من المرأة بالتمكين من الوطء بدليل الحد، ولأنه لا يتوهم منها جناية على الصوم تفعل بحرمة الصوم فوق هذه الجناية. قالوا: ولهذا سوى الشرع بين الجانبين في واجب الوطء والإحرام فإن القضاء وفساد الحج مثل الكفارة ههنا، وقد استوى الجانبان فيه بحيث لم يقع فرقان بوجه ما. قالوا: وأما المهر فهو بإزاء ملك البضع، وملك البضع للرجل دون المرأة، وأما الكفارة واجب جناية، والجناية منها حسب الجناية منه، وقد نزل الشرع التمكين منها بمنزلة الإيلاج منه قطعاً في الأحكام المتعلقة بالجناية بدليل الحد، وأيضاً فإن منفعة بضعها قومها الشرع على خلاف الأصل، وأما منفعة بضعه فلم يقومها بوجه ما. وأما ثمن ماء الاغتسال فهو من مؤن الزوجية كالنفقة فيكون عليه لا عليها. قالوا: وأما قول من قال من أصحابكم: أنها أفطرت بغير الوطء، لأن بتغييب طرف الذكر في فرجها قبل غيبوبة الحشفة يفطر ولا يكون الفعل وطء إلا بعد غيبوبة الحشفة، فسهو عظيم، وهو هرب من المسألة، لأن هذه المسألة رويت منذ زمان الشافعي: أنه هل تجب الكفارة بطواعيتها في الوطء؟ واختلفت أقوال الشافعي في ذلك على ما عرف. وإذا كان الأمر على ما ذكرتم فيكون الخلاف في صورة الفطر: فإن

عندنا بذلك لا يفطر وقد ادعيتم أنه يفطر مثل ما لو غيب أصبغاً أو خشبة فتذهب هذه المسألة أصلاً، فإن المسألة في فطر يقع من الجانبين، هل تجب الكفارة عليها كما تجب عليه؟ وإذا قال هذا القائل الذي ضعفت خبرته في النظر في هذه المسألة أنها تفطر قبل وجود الوطء، فأين صورة المسألة التي اشتهرت في العالم، ودونت في الكتب، واختلف فيها أقوال الشافعي؟ فدل ما ذكرنا أنه وقع سهو عظيم لقائل هذا المقال. وأيضاً فإن الآلة آلة الوطء والمحل محل الوطء بإدخال ودخول فإذا لم يعتبر هذا الفعل أعني تغييب رأس/ الحشفة في الفعل المخصوص بهذه الآلة في هذا المحل وجعل في حقه كالعدم، فكيف تعتبر في شيء آخر؟ ويلحق بفعل يوجد باستعمال أصبع أو خشبة؟ والمذهب الصحيح أن المرأة لا تفطر حتى تغيب الحشفة ويصير الفعل وطء فيقع حينئذ الفطر من الجانبين. قالوا: وأما قول مشايخكم: ((إن فرضية الصوم في حقها ناقصة، لأنه ما من يوم يمضي إلا ويجوز أن يعرض عارض فيسقط الصوم عنها مع بقاء التكليف، وذلك بالحيض)). وهذا أيضاً ليس بشيء، لأنه إن كان هذا يوجب وهاء فرضية الصوم وجب أن يوجب وهاء فرضية الصلاة، بل تأثير الحيض في الصلاة أكثر من تأثيره في الصوم فينبغي إذا تركت الصلاة لا تقتل، وعندكم تقتل كالرجل إذا ترك الصلاة يقتل، ولأن المرأة إذا صامت في أول زمان طهرها فوطئها الزوج فوجب على مؤدى هذا الكلام أن تجب عليها الكفارة، لأنه لا يتوهم ما قالوه إلا بعد مضي خمسة عشر يوماً، وأيضاً اعتبار موهم

في تنقيص فرض محال، ولو جاز أن يعتبر توهم الحيض في حق المرأة وجب أن يعتبر توهم الجنون في حق الرجل، وتأثيره أكثر، لأنه يسقط أصل الخطاب، بخلاف الحيض، لأنه لا يسقط أصل الخطاب حتى تؤمر بالقضاء عند الطهر. الجواب: وهو أن نبين ما يمكن الاعتماد عليه من حيث المعنى فنقول: الكفارة طريق وجوبها التوقيف لا غير، فإن الجناية وإن تحققت فلا يمكن معرفة وجوب الكفارة على الوجه الذي ورد بهذه الجناية رأياً ومعقولاً وإنما يمكن بالنص المجرد، والنص ورد في فعل الوطء وفعل الوطء حقيقة إنما يكون من الرجل، فأما الموجود من المرأة فهو التمكين من الفعل، والتمكين من الفعل لا يكون ذلك الفعل كالتمكين من القتل لا يكون قتلاً، وكذا في كل موضع. ولهذا يقال: جامع الرجل فهي مجامعة، ووطئ الرجل فهي موطوءة فالأمر المحسوس المعقول الوطء من الرجال، فأما النساء لا يكون منهن وطء بحال، وإنما النساء محال الوطء كالأرض التي توطأ بالأقدام، وكذا الإنسان الذي يطأه الإنسان بقدمه لا يكون منه فعل في الوطء بالقدم، وهذا مثل ذلك سواء. ألا ترى أن الفعل الحسي وطء لا يمكن تصويره بوجه ما إلا أن الشرع نزل التمكين من الوطء في الحد نصاً، وفي قضاء الحج بإجماع الصحابة فسلم الموضعان للنص والإجماع. وفي مسألتنا لا نص ولا إجماع في جانبها، وإنما النص والإجماع في جانبه، وقد علق الوجوب عليه بالوطء من غير أن يهتدي إليه رأي

أو يتصرف فيه بمعقول، بل بالنص المحض فإذا لم يكن جانبها مشابهاً لجانبه، فإن التمكين من الفعل دون حقيقة ذلك الفعل معنى، وغيره صورة فلم يلحق به نصاً، لأنه غيره صورة، واستدلالاً، ولأنه دونه معنى فسقط وجوب الكفارة في جانبها بهذا الطريق. يبينه: أن في الخبر ذكر المواقعة، والمواقعة لا تكون إلا من الرجل، فأما من المرأة فلا تتصور ولا يقال أصلاً، والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) الإفطار بغير الوطء لا يوجب الكفارة

(مسألة) الإفطار بغير الوطء لا يوجب الكفارة عندنا. وعندهم: يوجب إذا كان بجنس ما يتغذى به أو يتداوى به. لنا: إنه بالأكل والشرب تارك للصوم في باقي النهار فلا تجب عليه الكفارة. دليله: إذا ترك الصوم في كل النهار بأن لم ينو الصوم أصلاً، أو نلخص العبارة فنقول: لم يوجد منه إلا ترك الصوم فلا شيء عليه، كما تركه ابتداء، وهذا لأن ترك بعض الصوم لو كان يوجب عليه الكفارة لكان تركه بالإيجاب أولى.

ثم الدليل على أنه بالأكل والشرب تارك الصوم، أن حقيقة الصوم هو الكف عن الجنس الأكل والشرب فحسب، لأن الصوم عبادة كف عن قضاء شهوة معتاد فعلها، لأن وصف الابتلاء وصف لازم للعبادة لا يجوز أن تخلو عنه بحال، وإنما يتحقق الابتلاء بالخطاب بالكف عن قضاء شهوة مألوفة معتادة، فأما ترك غير المألوف والمعتاد فيه ابتلاء فيه، فإنه سهل تركه والابتلاء إنما يوجد بترك ما يشق تركه، كما يوجد بفعل ما يشق فعله، وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: شهوة البطن في الأكل والشرب شهوة مألوفة معتادة في زمان الصوم وهو النهار فيوجد معنى العبادة في الخطاب بالكف عن قضاء هذه الشهوة، والصوم عبادة كف عن قضاء الشهوة فإذا وجد معنى العبادة في هذا الكف صح. قولنا: ((إن الكف عبادة كف عن قضاء هذه الشهوة فإذا أقدم عليه فيكون تارك فعل الصوم، لأن الصوم هو نفس الكف فإذا لم يكف فقد تركه، وترك الصوم لا يوجب الكفارة كما في الابتداء. فأما الوطء فهو محظور الصوم وفعله بمواقعة/ محظورة فيه وتركه اجتناب محظور بسبب عبادة، لا أنه نفس العبادة، لما بينا أن الصوم عبادة كف عن قضاء الشهوة فيقتضي الكف عن شهوة معتادة مألوفة ليوجد معنى الابتلاء الذي هو وصف العبادة على سبيل اللزوم، والوطء بالنهار غير المعتاد ولا مألوف، لأنه وقت الاشتغال بالأعمال والتصرفات، ولا يوجد ابتلاء في الخطاب بالكف عنه في زمان النهار فلم يصح أن تكون نفسه عبادة، نعم، يجوز أن يكون محظور الصوم كما يكون محظور الحج، ومحظور الاعتكاف وإن كانت حقيقة الاعتكاف بغيره من اللبث في المسجد، والأفعال المعهودة المعروفة، لكن كان الوطء محظور العبادتين،

كذلك ههنا الوطء محظور الصوم، وإذا ثبت أنه محظور الصوم فلم يكن بفعله تاركاً للصوم بل كان جانباً على الصوم بمواقعة المحظور بسبب مؤثر فاستقام إيجاب الكفارة، كما تجب الكفارة بمواقعة المحظورات في الحج، لأن مواقعة المحظور سبب في إيجاب العقوبة. ألا ترى أن فساد الصوم بالوطء كان على وجه العقوبة، فكذلك الكفارة وجبت على طريق العقوبة. وأما حجتهم: قالوا: إفطار كامل فيوجب الكفارة، كما إذا كان بالوطء، وهذا لأن الواجب كفارة الفطر، بدليل أنه يضاف إليه، والأصل أن الحكم إذا أضيف إلى الشيء يكون سبباً له مثل كفارة القتل وكفارة الظهار، وكفارة اليمين على أصلكم، وزكاة المال، وغير هذا من الإضافات. ولأن الفطر جناية على الصوم بتفويت ركنه فيصلح موجباً للكفارة إلا أنه يكون بجهة التعدي على الكمال ليصلح موجباً للعقوبة. قالوا: ولا يجوز أن يقال إن الكفارة واجب الوطء، لأنه لو وطئ ناسياً للصوم وتصور إذا زنا ناسياً بامرأة لم تجب عليه الكفارة وإن وجد الوطء لعدم الفطر، ولو وطئ امرأته أو مملوكته وجبت الكفارة وإن استوفى هنا بضع مملوكة لوجود الفطر، فدل أن الكفارة كفارة الفطر، وهذا ثبت هذا فنقول: الفطر بالأكل والشرب مثل الفطر بالوطء، لأن الصوم عبادة كف عن قضاء الشهوة والشهوة شهوتان: شهوة بطن، وشهوة فرج، وهما شهوتان مركبتان في العبد جبلة وخلقة فلابد من قضائهما على المعتاد، وقضاء أحدهما بالوطء، والأخرى بالأكل والشرب، والصوم عبادة كف عنهما. قالوا: ولهذا تناول نص الكتاب كل واحد منهما تحليلاً وتحريماً

بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، فهذا من الوطء، ثم قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، ثم قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}. أي الكف عن هاتين الشهوتين إلى زمان الليل فجعل هذين هو المقصود بالصوم في الكف فثبت نصاً ومعقولاً أن ركن الصوم هو الكف عن قضاء هاتين الشهوتين، وفعل كل واحد منهما تفويت لركن الصوم، فإذا وجبت الكفارة في أحدهما وجبت في الآخر. يدل عليه: أن الجناية كملت في كل واحد من الفعلين فإن كمال الجناية متفق عليه في الوطء من حيث أنه جناية بتفويت ركن الصوم وهذا المعنى بعينه موجود في الأكل والشرب فتكمل الجناية أيضاً، وإذا كملت الجناية وجبت الكفارة. قالوا: بل جانب الأكل والشرب أرجح، لأن تأدى الصوم بترك الأكل والشرب فوق تأديه بترك الوطء لما ذكرتم أن الصوم اختص بزمان الأكل والشرب عادة ولم يختص بزمان الوطء عادة، ولأن الصوم عبادة صبر، والصبر عن الأكل والشرب أشق من الصبر عن الوطء، فإن الإنسان يصبر عن الوطء دهراً ولا يصبر عن الأكل والشرب يومين، وإذا كان أشق فيكون الثواب بالصبر عنه أكثر وعلى مقابلته يكون العقاب بالإقدام عليه أكثر، لأن الثواب مقابل العقاب بدليل قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَاتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}، وقال تعالى:

{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ..}. وإذا كان العقاب بالإقدام على الأكل والشرب أكثر كان بإيجاب الكفارة أولى، فهذا إيجاب الكفارة بالأكل والشرب من حيث الاستدلال لا من حيث القياس الأكل والشرب على الوطء، لأن الكفارات لا يجوز إثباتها بالقياس، لكن يجوز بطريق الاستدلال بالنص، وهذا من هذا النمط، وهو مثل تحريم التأفيف يكون تحريماً للشتم والضرب استدلالاً أو فحوى خطاب ولا يكون تحريماً من حيث القياس. قالوا: ((وأما قول بعضكم إن الصبر عن الوطء عند هيجان الشهوة يصعب ما لا يصعب الصبر عن الأكل والشرب عند هيجان الجوع))، فليس بشيء، لأن على المعتاد المعروف يكون الصبر عن الوطء أسهل من الصبر عن الأكل والشرب/ والذي صورتم صورة نادرة، والصورة النادرة لا تعتبر، بل تعارض المعتاد الغالب من حالات الناس وأمورهم. قالوا: وأما قولهم: ((إن الوطء محظور الصوم، والأكل والشرب نقيض الصوم)). ليس كذلك بل كان كل واحد منهما نقيض الصوم على ما سبق، وكما إنه يوجد الابتلاء بترك الأكل والشرب في النهار يوجد الابتلاء بترك الوطء فيه إلا أن الابتلاء في هذه الصورة ربما يكون أخف من الابتلاء في تلك الصورة. يبينه: أن خطاب الشارع في الكل على وجه واحد لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، فكيف يجوز أن تميز التمييز الذي قلتم مع اتحاد الخطاب؟

ثم قالوا: إن سلمنا أنه محظور الصوم والآخر نقيض الصوم لكن الجناية بهما واحد، فإذا جاز أن تجب الكفارة بارتكاب محظور الصوم جاز أن تجب بارتكاب نقيضه، لأن كل واحد منهما سبب لتفويت الصوم على وجه واحد، والجماعة في تفويت الصوم، وكما يوجد ترك الصوم ولا كفارة وذلك في الابتلاء فقد توجد مواقعة المحظور ولا كفارة، وذلك بالغيبة والوطء فيما دون الفرج. وقد ألزموا مسألة المرتدة على ترك الصوم في الابتداء فإن ترك الإسلام من المرأة في الابتداء لا يوجب القتل وفي الدوام يوجب القتل على أصلكم. قالوا: ((وأما قول مشايخكم: إن الوطء متغلظ في نفسه فيمتاز عن غيره في الحكم))، فليس بشيء، لأن العبرة بالسبب الحاظر، والسبب الحاظر للكل واحد، وإذا اتحد السبب لابد أن يتحد الحظر، وإذا اتحد الحظر اتحدت الجناية، لأن الفعل صار جناية من حيث الحظرية. قالوا: وأما الوطء في ملك الغير والتناول من ملك الغير إنما افترقنا في وجوب الحد، لأن الحد يندرئ بالشبهات، والزنا محرم لعينه فخلا من الشبهة، والأكل والشرب محرمان لا لعينهما بل لغيرهما وهو حق المالك، ألا ترى أنه إذا سقط حقه بالإذن أبيح، والوطء لا يباح وإن أذن المالك فيه. قالوا: وأما الإحرام فإنما امتاز الوطء فيه عن غيره من المحظورات، لأن التحريم لمكان الارتفاق والاستمتاع، والارتفاق بالوطء أكثر منه بفعل سائر المحظورات.

وأما ههنا فإن قضاء الشهوة بالأكل أو الشرب مثل قضاء الشهوة بالوطء بل أكثر. قالوا: ((قولكم: إن اللذة في الوطء أكثر منها في الأكل والشرب)). فليس بشيء، بل اللذة عند الجوع الصادق والعطش الصادق لا يكون دون اللذة عند شدة الشبق بالوطء، لأنه إن كانت اللذة هناك أكثر فالارتفاق ههنا أكثر، لأن قوام الحياة يحصل بهذا دون الوطء. قالوا: ((وقولكم: إن الأكل لا يخلو عن شبهة لوجود بعض ما لو لوجد كله أباح بخلاف الوطء)). كلام في نهاية الضعف، لأن المبيح هو الضرورة، والضرورة تخوف الهلاك، ولا يتصور وجود خوف منها. يدل عليه: أنه لو سرق طعاماً ليأكله يجب عليه القطع عندكم، ولو أخذ على هذه الصورة بالضرورة أبيح له ذلك، ومع ذلك لم يحكم بوجود شبهة في الصورة الأولى. الجواب: أما قوله: ((إفطار كامل)). قلنا: في اللفظ خلل، لأن الفطر إنما يصح وصفه بالكمال إذا كان يصح وصفه بالنقصان، والفطر في نفسه عبارة عن فوات الصوم بفعل من الصائم، والشيء إذا فات ففواته على وجه واحد لا يصح، يجوز أن يوصف بالكمال تارة وبالنقصان أخرى، وهذا كالأفعال الحسية متى وقعت يكون وقوعها على وجه واحد. فإن قالوا: إذا تناول الحصاة أو النواة فهو إفطار ناقص، لأنه إفطار اسماً لا معنى من حيث أنه أكل صورة وليس بأكل معنى.

قالوا: وفي الإستيقاء إنه ليس بفطر حقيقة، لأن الفطر يكون بما يدخل لا بما يخرج وإنما أفطر به الشرع ولولا الشرع لم يحصل به فطر أصلاً. قلنا: قد بينا أن الفطر هو تفويت الصوم بفعل يفعله الصائم، والشيء إذا فات لا يتصور أن يفوت من وجه دون وجه بل يفوت من كل وجه، وإذا فات من كل وجه يكون الفطر كاملاً ولا يكون ناقصاً. وأما قولهم: ((إن الكفارة كفارة الفطر)). قلنا: لا، بل هو كفارة الوطء المفطر. فإن قالوا: ((نحن بينا تأثر الفطر، فبينوا أنتم تأثير الوطء)). قلنا: وجه تأثيره أن الأصل في الشرع أن السبب إذا حرم الوطء وغيره يكون تأثير السبب في الوطء أكثر من تأثيره في غيره بدليل التحريم إذا كان لعدم الملك أو كان بالإحرام، وهذا لأن الوطء فعل متغلظ في نفسه ممتاز عن سائر الأفعال شرعاً، بدليل أنه لا يستباح بالإباحة وبدليل أنه يستحق به القتل، وبدليل أن العقد على استحقاقه يقف على شرائط لا يقف عليه عقد ما، وذلك لتغلظه في نفسه، هذا نهاية ما يمكن في تحقيق طريقة المشايخ. وعذرهم عن فصل/ عدم الملك، ليس بشيء، لأنهم في عذرهم ادعوا أن في تناول مال الغير شبهة الإباحة، ولو كان كذلك لم يجب القطع بسرقة مال. وقولهم: ((إن الزنا محرم لعينه فلا تكون فيه شبهة)). قلنا: لو كان محرماً لعينه لم يحل جنس الوطء بحال، بل الصحيح أن كلا الفعلين محرم بتحريم الشرع وإن كان السبب ملك الغير إلا أن الوطء لا يستباح بالإباحة لغلظه في نفسه، والأكل يستباح بالإباحة لخفة أمره،

وعلى أن استباحة المال بدليل عارض وعدم استباحة الوطء بمثل ذلك الدليل لا يدل على اختلافهما في أصل التحريم، ويجوز أن يوجد سببان محرمان لا شبهة في واحد منهما، وإن اختلفا مثل الاختلاف الذي قلتم. ألا ترى أن الكفر والقتل كل واحد منهما محرم من غير شبهة، وإن كان جنس أحدهما يستباح بدليل يقوم عليه وهو القتل ولا يستباح الآخر بحال وهو الكفر. وأما عذرهم عن الإحرام وقولهم: ((إن الوطء استمتاع وارتفاق فهذا المعنى فيه أكثر منه في سائر المحظورات)). قلنا: مقادير الارتفاقات غير معتبر بدليل أن الارتفاق في اللبس أكثر منه في قلم الظفر وحلق الشعر ومع ذلك يستوي الكل في الكفارة، فدل أن المعتبر أصل الارتفاق ولا مقداره، ولكن إنما خالف الوطء سائر المحظورات، لأن تأثير السبب في أكثر من تأثيره في غيره على ما يوجبه قضية الشرع. فإن قالوا: قد ظهر تأثيره في الحج حتى إنه يمتد زمان تحريم الوطء ما لا يمتد زمان سائر المحظورات، وههنا زمان التحليل والتحريم في الوطء وغيره واحد. قلنا: تمييز الوطء من بين سائر المحظورات لم يكن لما قلتم بدليل أن الوطء يمتاز من بين سائر المحظورات وإن كان في العمرة، كما يمتاز في الحج حتى إن القضاء يجب بالوطء ولا يجب بسائر المحظورات وإن كان التحليل والتحريم في الكل واحد في العمرة. وإذا ثبت أن تأثير السبب في الوطء أكثر منه في الأكل والشرب جاز أن يختص بإيجاب الكفارة مع مساواته الأكل والشرب في كل ما قلتم، هذا تحقيق طريقة الأصحاب.

وأما الذي اعتمدناه من أن الوطء مواقعة محظور والأكل والشرب مجرد ترك الصوم، فهي طريقة متينة محكمة. وعندي أن الاعتماد عليها أولى، وقد ذكرنا وجه تقريرها. وأما الغيبة والوطء فيما دون الفرج، فنحن لا نقول إن مواقعة كل محظور يوجب الكفارة، لأن المحظور والمحظور يجوز أن يختلف فيهما مقادير الجناية وعظمها وصغرها لكن ما يتعلق بالمحظور لا يتعلق بترك العبادة، لأن مواقعة المحظور مع فعل الصوم في حقيقته جناية على الصوم الذي هو عبادة، والترك ليس بجناية على العبادة، لأن ما مضى لا يتصور الجناية عليها وما بقي لم يفعله حتى يجني عليه وإنما مجرد ترك مأمور، وما لا يستدرك بالقياس إذا جاء وجوبه في موضع لا ينتقل إلى موضع آخر، لأن الجناية على العبادة إذا لم توجد في الأكل والشرب وتوجد في الوطء فيجوز أن توجب الجناية على العبادة بإفسادها ما لا يوجبه مجرد تركها من غير جنابة عليها وهذا ظاهر. وأما فصل المرتدة فقد بينا في ربع القصاص أن الكفر ابتداء وعوداً بالردة موجب للقتل في حق المرأة، كما يوجب كفر الرجل إلا أنه في حق الكافرة الأصلية قدمت عقوبة أخرى على عقوبة القتل بدليل قام عليه، ولم يوجد في حق المرتدة مثل ذلك الدليل فتعين القتل، والله أعلم. * * *

(مسألة) إذا وطئ مرتين في يومين في شهر رمضان وجبت عليه كفارتان يلزمه أداؤهما

(مسألة) إذا وطئ مرتين في يومين في شهر رمضان وجبت عليه كفارتان يلزمه أداؤهما. وعندهم: يكفيه كفارة واحدة. لنا: أن ندل أولاً على وجوب الكفارة بالوطء في اليوم الثاني فإنهم ربما يمنعون ذلك فنقول: سبب الوجوب تكرر فتكرر الوجوب، مثل القتل إذا تكرر فيتكرر وجوب الكفارة، وكذلك الظهار واليمين. والدليل على تكرر السبب أن سبب الوجوب، هو الجناية على صوم رمضان بالوطء، وقد وجود هذا في اليوم الثاني مثل ما وجد في اليوم الأول. يبنيه: أنه لو لم يطأ في اليوم الثاني وأتم صومه كان صومه على

الكمال والتمام مثل الأول لو لم يفسده، كذلك إذا أفسده بالوطء تكون الجناية عليه مثل الجناية على الصوم في اليوم الأول. والحرف: أن الجناية الموجودة في صوم اليوم لا تؤثر في صوم الغد بحال، ومن المحال اعتقاد تأثير الوطء الذي يوجد في الغد وبعد الغد. وقد ادعى بعضهم أن الجناية تقاصرت في الوطء الثاني، لأن حرمة الشهر صارت مهتوكة بالوطء الأول فصادف الوطء الثاني حرمة الصوم دون حرمة الشهر فلم توجب الكفارة عليه. دليله: إذا وطئ في القضاء، وهذا لأن الجناية المحسوسة على المحل توجب النقصان حساً والجناية الحكمية توجب النقصان حكماً. قالوا: وهذا لأن الشهر له حرمة واحدة، لأن الشهر واحد، وإن تخللت الليالي التي لا تقبل الصوم أصلاً، وتخلل الليالي لا يوجب تعدد الحرمة، بدليل شهري التتابع فإن لهما جميعاً حرمة/ واحدة وإن تخللت الليالي لا تقبل الصوم فيما بين ذلك. الجواب: إن القول بانتهاك حرمة الشهر على معنى فواتها، قول مستبعد جدا ً، نعم، يجوز أن يقال إنه لم يراع حرمتها ولم يحفظها، فأما اعتقاد فوات الحرمة فمحال. يبينه: أنه ليس معنى حرمة الشهر سوى أن الله تعالى خص هذا الشهر بواجب من أركان الإسلام وشرع فيه وجوهاً من المشروعات تشعر بخطرها وحرمتها واختصاصه من ذلك بما لا يوجد في سائر الشهور، وهذا المعنى لا يفوت بوطئه في يوم من أيامه، لأن الأمر بالصوم واختصاصه بما عرف

من السنن المشروعة وتكثير الثواب لما يأتي من العبادة فيها وأمثال ذلك كلها باقية عليه في الشهر، فكيف يقال إنه ذهبت حرمتها في حقه وصار بمنزلة سائر الأيام التي هي خارج رمضان؟ وأيضاً فإن الكفارة واجب الجناية على الصوم لا واجب الجناية على الشهر، لأن عندنا الكفارة واجب وطء مفطر، وعندكم الواجب واجب الفطر على جهة مخصوصة، والفطر إنما يوجد بجناية على الصوم لا بجناية على الشهر إلا أنه يعتبر أن يكون الصوم في هذا الشهر ليلاقي زمان أدائه. وقد قيل أيضاً: إن لكل يوم من رمضان حرمة على انفرادها فيما يرجع إلى الصوم والشهر جميعاً. والدليل عليه: أنه لو لم يصم يوماً من رمضان أصلاً وجامع فيه أو جامع فيما دون الفرج وهو صائم، أو أكل حصاة أو نواة ثم صام من الغد وجامع فيه وجبت الكفارة وإن كان قد هتك حرمة الشهر بالفعل الأول فحين وجبت دل أنه إنما وجبت، لأن الحرمة لم تصر مهتوكة أو لأن لكل يوم حرمة على حدة فيما يرجع إلى الصوم والشهر جميعاً وهذا لا سؤال لهم عليه، فإذا ثبت وجوب الكفارة في اليوم الثاني حسب وجوبها في اليوم الأول وجب أداؤهما، لأن الوجوب يراد للأداء فإذا وجب وجب الأداء. وأما حجتهم: المعتمد، قالوا: نسلم الوجوب في اليوم الثاني مثل ما وجب في اليوم الأول لكن نقول: يتداخلان، ويكتفي بواجب واحد أداء مثل ما لو زنى ثم زنى فإنه يكتفي بحد واحد، لأن كل واحد منهما عقوبة تندرئ بالشبهات، ودليل أنها عقوبة تعلقها بالجناية، ودليل سقوطها بالشبهة ما ذكرنا في المسألة الأولى، وهذا لأن الواجب لما كان على جهة الزجر وهو محمول في الشرع على نوع من السقوط لا يوجد في غيره فالواجب الواحد زاجر كامل

وإن تعدد السبب مثل الحد في الزنا سواء، أو يقال: إذا وجد أداء هذا الواجب بعد وجود أسباب له فجعل في حق كل سبب كأن الأداء حصل لذلك السبب وحده، مثل الحد سواء فإنه يقام بعد زنيات منه ويجعل في كل زنا كأن الحد أقيم له وحده. قالوا: وأما إذا كفر عن الأول ثم وطء ثانياً وجبت الكفارة، كما لو زنى فحد ثم زنى ثانياً، ولأن التكفير لما اتصل بالأول صار الأول كالعدم فصار الثاني بمنزلة الأول حين وجد. قالوا: وأما إذا وطئ في رمضانين يجب كفارة واحدة مثل ما لو زنا في سنتين يكتفي بحد واحد. الجواب: أما قولهم: ((عقوبة)). قلنا: إن ادعوا (أنها عقوبة محضة) فلا يصح، لأنها تتأدى بمحض العبادة وهو الصوم فلا يكون عقوبة محضة، وإن ادعوا أن فيها معنى العقوبة، فمسلم، لكن لما قالوا: يلحق بالعقوبة المحضة وهو الحد؟. وقولهم: ((إنه يسقط بالشبهات)). إن عنوا بكل شبهة، فليس كذلك، لأن أعظم الشبهات الملك، ولا يسقط به حتى لو وطئ زوجته أو أمته وجبت الكفارة عليه. واعتذر بعضهم وقال: المسقط هو الشبهة في محل الجناية ولم يوجد، لأن محل الجناية هو الصوم ولا شبهة فيه، وإنما وجدت الشبهة في آلة الجناية، لأن منافع البضع آلة الجناية، وكذلك المطعوم والمشروب، فنظيره

أن لو قتل إنسان بسيف مملوك له فلا يكون ذلك شبهة، وأيضاً فإن الصوم إنما يحرم في الوطء في الملك، وإذا كان تأثيره في التحريم في الملك، فكيف يصير الملك شبهة؟ وكلا العذرين ليس بشيء، لأنا ندعي وجود شبهة الإباحة، والملك مبيح لقيام الملك لابد أن يوجب شبهة، مثل ما لو وطئ أمته المجوسية أو كانت أخته من الرضاع لا يجب الحد لقيام الملك، وبطل العذر الثاني أيضاً بهذه المسألة، لأن التمجس والرضاع إنما يوجبان التحريم في الملك أيضاً، ومع ذلك صار الملك شبهة، وملك السيف لا يبيح القتل به بحال حتى يصير شبهة. وأما الذي ادعوا من سقوط الكفارة بالغلظ، فلأن في الكفارة معنى العقوبة في الجملة، فأما إسقاطها بكل شبهة وإلحاقها بالعقوبة المحضة فلا يصح ذلك بحال. وإذا ثبت هذا فنقول: غاية كلامهم إلحاق الكفارة بالحد، والتداخل في الحد على خلاف/ القياس لأن الأصل أن كل شيئين اجتمع وجوبهم اجتمع وجوب أدائهما، فإن عدل عن هذا الأصل في موضع بدليل لا يلحق به ما ليس في معناه. يبينه: أن الكفارة واجب مالي وليس في الواجبات المالية تداخل في موضع ما. وأما الحد إيلام وإيجاع يجوز أن يكتفي بالواحد احترازاً من الإهلاك لأنها إذا اجتمعت أهلكت، وهذا لا يوجد في الحقوق المالية فاعتبر فيها ما هو الأصل، والله أعلم. * * *

(مسألة) إذا انفرد الواحد برؤية هلال رمضان لزمه الصوم

(مسألة) إذا انفرد الواحد برؤية هلال رمضان لزمه الصوم عندنا. وإذا أفطر فيه بالوطء لزمته الكفارة. وعندهم: لا يلزمه. لنا: أنه أفطر في يوم من رمضان بالوطء فتلزمه الكفارة. دليله: إذا كان في اليوم الثاني، والدليل على أن هذا اليوم من رمضان أنه يلزمه أن يصومه من رمضان مثل ما يلزمه الثاني. والمعتمد في المسألة أن الكفارة واجب بينه وبين ربه فيعتبر فيه ما ألزمه ربه، وما يعتقده فيما بينه وبين ربه، والله تعالى قد ألزمه أن يصوم في هذا اليوم من رمضان وهو يعتقد في نفسه أنه من رمضان فلو سقطت الكفارة لسقطت لأن هذا اليوم ليس من رمضان عند سائر الناس،

وما عند الناس لا يعتبر في الواجب الذي سبيله هذا، بدليل ما لو اجتمع قوم على شراب فيشربونه وأحدهم يعلم أنه خمر يلزمه الحد، وكذلك إذا زفت إليه امرأة وهو يعلم أنها أجنبية، وسائر الناس يظنون أنها امرأته، وكذلك إذا رأى الصبح وحده وأفطر بالوطء وعند سائر الناس أنه ليل. وأما حجتهم: قالوا: (إنه مفطر بشبهة فلا تلزمه الكفارة، كمسألة الغالط في السحر والإفطار). والدليل على أنه مفطر بشبهة دلائل: منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((صومكم يوم تصومون ...)) وهذا يقتضي أن لا يصح صومه إلا مع الجماعة إلا أنه قدم عليه قوله عليه السلام: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته))، لأنه إذا

تعارض دليلان أحدهما يوجب الصوم، والآخر لا يوجب، فالموجب أولى احتياطاً للعبادة فنفي ظاهراً بخبر شبهة في درء الكفرة، مثل قوله عليه السلام: ((أنت ومالك لأبيك))، قدم عليه قوله عليه السلام: ((:ل امرئ أحق بماله من ولده ووالده وسائر الناس أجمعين)) ولكن بقى ظاهره شبهة في درء الحد. فإن قلتم: إن معنى قوله: ((صومكم يوم تصومون ...)) يعني صوم كل إنسان يوم صومه، ويكون هذا تعطيلاً للخبر، لأن هذا لا يخفي على أحد، ولأن المراد من الخبر ذكر الأحكام التي تتعلق بالجماعة مثل قوله: ((أضحاكم يوم تضحون وعرفتكم يوم تعرفون)) وإن ادعيتم النسخ، فليس عليه

دليل، وإنما يكون بالنقل، بل تقابل ظاهران فقدمنا أحدهما في إلزام الصوم، لما ذكرنا واعتبرنا الآخر وأسقطنا ما يسقط بالشبهة. ومنها: أن اليوم من شعبان في حق سائر الناس فلم يكن من رمضان مطلقاً بل كان من رمضان من وجه لا من وجه فتقاصرت حرمته فتقاصرت الجناية بالوطء فيه أيضاً، وهذا لأن ما يجب بالجناية الكاملة لا يجب بالجناية المتقاصرة. يبينه: إنه لما لم يكن من رمضان في حق سائر الناس لخلل في الدليل أنه من رمضان، لأنه لما انفرد بدعوى الرؤية مع مساواة الناس إياه في النظر وموقفه، وحدة النظر وموضع المنظور إليه، دل أنه لم يكن لرؤيته حقيقة بل كان نوع خيال، كما روى في حديث عمر رضي الله عنه أنه مسح حاجب من كان يدعى رؤية الهلال ثم قال: أين الهلال؟ فقال: فقدته، فقال: ((تلك شعره قامت من حاجبك)). قالوا: وبهذا فارق المسائل التي قلتم واستشهدتم بها، لأنه لا خلل في الدليل في تلك المسائل فاعتبر ما عنده من الدليل، وما يزعم في اعتقاده. ومنها: أن القاضي قضى يكون هذا اليوم من شعبان، لأن الرد يدخل تحت القضاء بدليل أنه لو شهد لإنسان في حادثة فرد لفسق ظهر منه ثم تاب وأعاد لا يقبل لجريان القضاء برده وإذا دخل الرد تحت القضاء دخل موجبه أيضاً، وهو كون اليوم من شعبان فصار القضاء شبهة، لأنه يقضي بدليل شرعي يقوم له فأشبه قضاء برد من الشرع.

الجواب: أما الخبر، قلنا: هو ضعيف في الإسناد فإن مداره على الواقدي وهو ضعيف. وقد روى أبو داود فلم يذكر قوله: ((صومكم يوم تصومون))، ولأنه ترك لقوله عليه السلام: ((صوموا لرؤيته))، وإذا ترك بدليل آخر فلا يصير صورته شبهة، لأن الصورة لا تصير شبهة عندنا بحال. وأما سقوط الحد عن الأب لم يكن بقوله: ((أنت ومال لأبيك)) وهذا أيضاً خبر مرسل، وإنما كان ثبوت حقه في مال ولده على ما ذكرنا في النكاح، ولأن قوله: ((أنت ومالك لأبيك)) لم يصير شبهة في سقوط الحد إذا زنا بالبنت. فإن قالوا: ((الإضافة/ إلى الوالد إضافة كرامة)). قلنا: صورة اللام للملك، وقد قيل: إن معنى الخبر هو النهي عن صوم يوم الشك. وأما دليلهم الثاني: قلنا: هو في حقه من رمضان على الإطلاق من كل وجه، وهذا لأنه تيقن برؤيته قطعاً، ونقول له: إن تيقنت فعليك الكفارة.

وقوله: ((إنه تفرد من بين سائر الناس)). قلنا: تفرده جائز بالإجماع، ولهذا المعنى جاز للقاضي أن يقبل وإذا قبل لزم جميع الناس صوم اليوم فصارت هذه المسألة مثل سائر المسائل التي قلناها. ودعوى الخلل في الدليل باطل، لأن تشكيك المتيقن لا معنى له. وأما دليلهم الثالث فنقول: أولاً: لا قضاء، إنا وجد ترك قبول فحسب، ومسألة الرد كذا نقول، وإنما لم تقبل شهادته بعد توبته لمعنى آخر ثم يبطل بما لو شهد أربعة من الشهود على رجل بالزنا ورجم الإمام المشهود عليه، ثم رجع أحدهم فإنه يحد مع قيام القضاء بزناه، بدليل أنه لو قذفه إنسان لا يحد، لأنه محكوم بزناه ولا محيص لهم عن هذا، لأن ما قالوه: إن القضاء انفسخ في حق الراجع وإن كان انفسخ في حق الراجع في تلك المسألة فلم يوجد ههنا في حق الزاني أصلاً، فنقول: لو أن هذا الرائي صام ثلاثين يوماً ولم ير الناس الهلال يجوز له أن يفطر على أصح الوجهين، لكن يفطر في مكان لا يراه الناس، والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) إذا تمضمض الصائم واستنشق ولم يبالغ وسبق الماء إلى حلقه لم يفسد صومه

(مسألة) إذا تمضمض الصائم واستنشق ولم يبالغ وسبق الماء إلى حلقه لم يفسد صومه عندنا. وعندهم: يفسد. وكذلك لو أكره على الأكل والشرب أو صب الماء في حلقه لم يفسد عندنا. وعندهم: يفسد. لنا: أنه لو فسد صومه لكان يفسد بوجود المناقض لصومه ولم يوجد، لأن العبادة فعل الكف عن الأكل والشرب ولم يوجد ما ينافي الكف، لأنه كاف عن الأكل والشرب على ما أمر به وإنما وجد سبق الماء إلى حلقه بغير

فعله أو وجد صب الماء في حلقه ولا فعل له في هذا بل يتصور فيما كان نائماً فصب الماء في حلقه. وعندهم: يبطل صومه في هذه الصورة أيضاً. وأما إذا أكره على الأكل والشرب فنقول: فعله وإن وجد لكن جعل فعله كالمعدوم مثلما صار فعله كالمعدوم في حق لحوق الإثم، وصار فعله كالمعدوم فيما لو أكره على إتلاف مال الغير حتى وجب الضمان على المكره دون المكره، فثبت أنه لم يوجد ترك فعل العبادة أصلاً في هذه الصورة كلها، وإذا ثبت أنه لم يوجد ترك فعل الكف، لم يبطل صومه لأنه لو بطل بطل بما قلناه ولم يوجد فلا يبطل ونستدل بالناسي فإنه لا يبطل صومه. والعذر في هذه المسائل أظهر منه في الناسي، لأن في صورة الناسي قد وجد منه فعل ما يضاد الكف إلا أنه مع نسيان العبادة. وأما ههنا فلم يوجد منه فعل ما ينافي الكف أصلاً فإذا لم يبطل في الصورة الأولى كذلك في هذه الصورة. ونظير مسألتنا: إذا طارت الذباب فدخلت حلقه لم يفسد صومه لما بينا. وأما حجتهم: قالوا: وصل المغذى إلى جوفه مع ذكره للصوم فوجب أن يبطل صومه. دليله: المخطئ، وصورة الخطأ في المسألتين المعروفتين وهي أنه لو

تسحر على ظن أن الفجر لم يطلع ثم ظهر أنه طلع، أو أفطر على ظن أن الشمس قد غربت ثم تبين أنها لم تغرب. وأما الفقه لهم: هو أنه فات معنى الصوم في هذه المسائل فيفوت الصوم، وهذا لأن قيام الصوم بقيام معناه، فإذا مات معناه لم يتصور بقاءه. يبينه: أنه لو فاتت صورة الصوم بأن تناول حصاة أو نواة لم يبق الصوم فإذا فات معناه في مسألتنا أولى أن لا يبقى، لأن قيامه بمعناه أكثر من قيامه بصورته. وإنما قلنا: ((إن معناه فات، لأن معنى الصوم هو الكف عن قضاء الشهوة فإذا حصل قضاء الشهوة وجد الفوات معنى))، وفي هذه المسائل وجد قضاء الشهوة وفات معنى الصوم. فإن قلتم: ربما كان الفعل تناول لقمة أو تناول حبة حنطة وبهذا لا يحصل قضاء الشهوة. قلنا: قد وجد من جنس ما يقضي به الشهوة، والمعتبر وجود جنس ما يقضي به الشهوة وإذا وجد يفعله وجد فوات الصوم صورة ومعنى، وإذا وجد لا بفعله وجد فوات الصوم معنى، وإن لم يوجد صورة وفي الموضعين يبطل الصوم. قالوا: (وأما إذا أكل أو شرب ناسياً فقد وجد ما ينافي الصوم صورة ومعنى إلا أنه بقى الصوم بالنص، وههنا لا نص). فلو بقي بقي بمجرد الصورة مع فوات المعنى وهذا لا يجوز.

قالوا: وليس كما لو طارت ذبابة إلى حلقه، لأنه لم يوجد فوات الصوم لا صورة ولا معنى، أما الصورة فلأن الحاصل حاصل بغير فعله، وأما المعنى فلأن قضاء الشهوة لم يوجد لأن الذبابة ليست من جنس ما تقضي به الشهوة. الجواب: إن قولهم: فات/ الصوم معنى لا نسلم، لأن معنى الصوم وصورته في فعله حتى إن من جاع أو عطش من غير نية منه للصوم لا يقال وجد له معنى الصوم، وكذلك إذا صام ولم يجع ولم يعطش لا يقال لم يوجد له معنى الصوم. فدل أن معنى الصوم وصورته في فعله، وذلك الفعل هو فعل الكف، وفوات المعنى والصورة في فوات فعل الكف ولم يوجد فوات فعل الكف في المسائل التي اختلفنا فيها فلم يفت الصوم لا صورة ولا معنى على ما ذكرنا. والحرف إن وجود قضاء الشهوة لا بفعله ساقط ومجعول كالعدم، لأن الصوم لم يكن حصوله لا بفعله بل حصوله بفعله فيكون فواته بفعله. فإن قالوا: إذا تمضمض واستنشق فقد وجد فعله في سبب سبق الماء إلى حلقه ....... السبق كأنه حصل بفعله مثل ما لو قبل أو أنزل. قلنا: المضمضة والاستنشاق فعلان مطلقان شرعاً فما يؤديان إليه مما لا فعل له فيه لا يجعل كالحاصل بفعله، كما لو حفر بئراً في ملكه فوقع فيه إنسان، هذا إذا لم يبالغ، أما إذا بالغ فهو فعل محظور فيجعل ما يؤدي إليه كأنه حصل بفعله كما لو حفر بئراً في ملك غيره ثم وقع فيه إنسان.

وأما فصل الناسي فهو لازم على ما سبق. وقولهم: ((إنه لم يفسد الصوم بالنص)). قلنا: قد ذكر في النص: ((أن الله تعالى أطعمه وسقاه))، ولما كان الواصل بفعل غيره لم يفسد صومه، فكذلك ههنا وصل الواصل بفعل غيره فلا يفسد أيضاً، وهذا كلام حسن مستخرج من النص فإن قوله عليه السلام: ((فإن الله أطعمه وسقاه)). يبينه: أن كل ما يحصل من هذا الجنس بفعل غير الصائم لا يفسد صومه. وقد تعلق الأصحاب بقوله عليه السلام: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).

ووجه التعلق به ما سبق. وهم حملوا هذا على الإثم وادعوا أن المقتضى لا عموم له. ونحن نقول: إن الخبر يقتضي رفع عين ما وقع فيه الخطأ والنسيان فإذا لم يرتفع مشاهدة يرتفع حكماً، وإذا ارتفع حكماً لم يبق له حكم. وأما فصل الخاطئ فهو خ ارج على ما قلناه، لأنه قد وجد منه فعل ينافي الصوم. والله أعلم. * * *

(مسألة) المجنون إذا أفاق في بعض الشهر في رمضان لا يلزمه قضاء ما مضى من الشهر

(مسألة) المجنون إذا أفاق في بعض الشهر في رمضان لا يلزمه قضاء ما مضى من الشهر عندنا. وعندهم: يلزمه. لنا: إن خطاب الإيجاب لم يتناول المجنون في حال جنونه فإذا أفاق فالخطاب في حقه ابتداء إيجاب فلا يتناول الزمان الماضي. دليله: الصبي إذا بلغ في خلال الشهر فإنه لا يلزمه قضاء ما مضى من الشهر، كذلك ههنا، ثم الدليل على أن الإيجاب بخطاب الشرع أن

هذه عبادة من العبادات السمعية فلا تجب إلا بسمع ولا سمع إلا بخطاب الشرع، ولأنه لا دليل يدل على الوجوب سوى الخطاب. أما العقل فليس فيه دليل على وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج على هذا الوجه، وكذلك في سائر العبادات. وأما دخول وقت الظهر، ووجود المال، وشهود الشهر ووجود البيت، فليس في ذلك إلا وجود وقت أو وجود مكان وليس في الأوقات والأمكنة ما يدل على وجوب واجب فلم يبق سوى خطاب المعبود عبادة بفعل العبادة، وهذا أقوى دليل يوجد، لأن المال له حق استعباد مماليكه لقضاء حقوقه وأداء حق عبوديته، وهذه الأوامر من الاستعباد، وللمالك حق تصريف عبده في عبوديته. يدل عليه: أن أصل الإيمان يجب بخطاب الشرع، فكذلك فروعه وشرائعه، فدل أن الوجوب بخطاب الشرع ولا خطاب على المجنون بدليل قوله عليه السلام: ((رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى ينتبه، وعن المجنون حتى يفيق))، لأن المجنون ليس من

أهل الخطاب لأنه لا يعقل الخطاب فيصير خطابه بمنزلة خطاب البهائم فيكون سفهاً وعبثاً. والحرف أن الخطاب بالفعل إنما يصح مع من هو أهل الفعل، والخطاب بالعبادات خطاب بفعل العبادات بدليل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وقال الله تعالى في الصوم: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وقوله: {فَلْيَصُمْهُ} أمر بالفعل، وكذلك الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ ...}، معناه فعل الحج، وإذا كان خطاباً بفعل العبادة فمن لا يكون من أهل فعل العبادة لا يتصور معه خطاب فعل العبادة. وأما حجتهم: قالوا: (الجنون آفة معجزة عن فهم الخطاب، فلا ينافي وجوب الصلاة والصوم ولا صحة الأداء إذا تصور كالنوم والإغماء، وهذا لأن وجوب هذه العبادات بأسباب متحققة في حق الناس أجمع كالشهر للصوم، والوقت للصلاة، والمال للزكاة). والدليل على أن الوجوب بهذه الأسباب: أن هذه الأحكام مضافة شرعاً إلى هذه الأسباب، والإضافة المطلقة دليل على/ أن الوجوب بها.

يبينه: أن الله تعالى قال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} واللام في مثل هذا تذكر للتعليل، كما قال: اضربه لأنه لص، وتوضأ للصلاة، وتأهب للشتاء. ويدل عليه: أن الوجوب يتكرر بتكرر هذه الأسباب، والأمر بالفعل لا يقتضي التكرار، وتكرار الشرط لا يوجب تكرر الحكم، فدل أن التكرار إنما كان لأن السبب تكرر والأصل أن السبب إذا تكرر فلابد من تكرر المسبب ويصير وجوده ثانياً وثالثاً مع وجوده أولاً مثل تكرر القتل واليمين وتكرر سائر الأسباب الموجبة للأحكام، (وهذه أسباب متحققة بنفسها فينفذ حكمها وهو الوجوب على من هو أهل له، والآدمي يصير أهلاً للوجوب عليه بالذمة، والذمة لا تختل بالجنون فإنه يلزمه حقوق الناس ولا تبطل حقوقه لكن الأداء شرط وهو القدرة، ويكون وجوبه بالخطاب، وأمر الشرع لا يجب على العاجز والذي لا يفهم الخطاب، لأن الخطاب لا يصح في حق من لا يفهم، وهذا كالنائم تلزمه العبادات ولا يلزمه الأداء حتى لو مات، كذلك لا يؤاخذ به، ومثاله: ابن السبيل تلزمه الزكاة في المال الذي خلفه في بلده ولا يلزمه الأداء لأن الوجوب بملكه القائم وهو ثابت، والأداء باليد ولا يد، وهو كالبائع يقول للمشتري: اشتريت فأد الثمن، فالأداء يلزمه بالأمر والوجوب بالشراء). (ولا يلزم إذا استغرق الجنون الشهر، لأن القضاء إنما يسقط بسبب الحرج، لأن الجنون مما يمتد كالصبا) وقد يقصر كالإغماء فلا بد من

فارق بين المديد والقصير (فاعتبر أصحابنا في الفارق بين المديد والقصير بالشهر، لأنه وقت كل الصوم وبعده إنما يوجد التكرار والتضاعف، واعتبروا في الصلاة ست صلوات، لأن وقت كل الصلاة يوم وليلة وهو قصير في نفسه فقدروا تعدد الصلاة واعتبروا أن يدخل في حد التكرار والتضاعف)، وإذا ثبت هذا فنقول: إذا استوعب الجنون كل الشهر ألحق بالصبي لأنه قد امتد وطال فلو لم تسقط العبادة عنه لتضاعف القضاء عليه وحرج فسقط بسبب الحرج، ولهذا سقط بسبب الصبا، لأنه يطول فلو أوجبنا القضاء بعد البلوغ أدى إلى حرج عظيم. قالوا: (وأما الكافر إذا أسلم إنما سقط عنه القضاء بعد الإسلام بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، ولأن الكافر ليس له أهلية وجوب العبادات)، لأنه ليس من أهل موجبها على ما ذكروا في أصول الفقه، وفي موضع آخر. فأما المجنون من أهل العبادات وجوباً، لأنه من أهل الجنة ولأنه يبقى له الإسلام وسائر العبادات بعد الجنون لينال بها الثواب في الآخرة بخلاف الكافر. قالوا: وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: (إذا حن الصائم في خلال اليوم صح يومه، لأن الركن بعد النية ترك المفطرات في اليوم، وأنه متصور من المجنون، كما هو متصور من العاقل

ولما تصور الركن وهو بالجنون لم يخرج من أهلية العبادة صح الصوم منه كما يصح من النائم والمغمى عليه. والدليل على أنه لم يخرج من أهلية العبادة أنه مؤمن والمؤمن من أهل تعبد الله تعالى، ولأنه أهل الجنة، والجنة جزاء العبادة) فإذا كان من أهل موجب العبادة كان من أهل العبادة. قالوا: وكذلك إذا أفاق في بعض الشهر وجب عليه قضاء ما مضى لما بينا أن الوجوب قد سبق، والجنون إنما تأثيره في منع خطاب الأداء وتأخير خطاب الأداء غير مانع من الوجوب، لأن خطاب الأداء يجوز أن يتأخر عن الوجوب كما بينا في المغمى عليه والنائم، وكذلك الحائض في حق الصوم، وهذا لأن الوجوب يستدعي فائدة ليتحقق في نفسه. وخطاب الأداء سواء اتصل بزمان الوجوب أو تأخر فالفائدة قد تحققت واستقام تحقيق الوجوب مع تأخر خطاب الأداء ثم أفاق وقدر على الأداء فالآن يتوجه خطاب الأداء للواجب السابق بمنزلة المغمى عليه سواء. هذه جملة كلامهم في هذه المسألة ذكرناها مع زيادة بسط، لأنه كلام يحتاج إليه في هذه المسألة، ويدخل أيضاً في مسائل كثيرة فاحتاج إلى زيادة بسط وشرح ليوقف على حقيقته. قالوا: (وأما الخبر فهو حجة عليكم، لأنه جمع بين الصبي والمجنون والنائم وأثبت فيهم رفعاً واحداً فيجب أن يكون حكمه فيه متفقاً ثم النوم أخر الأداء حتى لم يأثم بتركه ولم يسقط أصل الوجوب فكذلك الصبي والمجنون).

قالوا: وأما في حق الصبي فأهلية الوجوب في حقه موجودة بوجود الذمة إلا أن الصبا مما يمتد فصار الصبا عذراً مسقطاً للوجوب لئلا يحرج الصبي في القضاء بعد القدرة والبلوغ، فصار سقوط الوجوب/ عن الصبي بدلالة أخرى. قالوا: ونحن لا ننكر أن يسقط الوجوب بعد وجود السبب والأهلية بدليل آخر. الجواب: أنا بينا أن الوجوب بخطاب الشرع هذا هو محز الكلام ومفصل الخصام وقد دللنا عليه. يدل عليه: أن هذه الأسباب قد كانت ولا وجوب أن بالخطاب وجبت العبادات. يبينه: أن هذه العبادات ما عرفت واجبة إلا بخطاب الشرع فكيف يقال إنها لم تجب بخطاب الشرع؟ لكن خطاب الشرع وجد عقيب هذه الأسباب فصارت هذه الأسباب علامات وأمارات للوجوب بخطاب الشرع، وأيضاً فإن العبادات في الابتداء لا تجب على من لم يبلغه الخطاب وهو الذي أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا، ولو كان الوجوب بوجود الأسباب دون الخطاب لوجبت عليه العبادات، وهذا حرف معتمد، فإن البلوغ شرط الوجوب، والمجنون لا يتصور بلوغ الخطاب إليه، لأنه ليس في نفسه بأهل معرفة الخطاب.

واعتذر أبو زيد عن هذا الفصل وهو اعتبار البلوغ في الابتداء في الأسرار قال: نحن إنما جعلنا هذه الأشياء أسباباً للوجوب بجعل الله تعالى إياها أسباباً وقد ورد خطاب الشرع بجعل هذه الأسباب أسباباً غير أن شرع الخطاب والعلم به شرط، (لأنه أوسع للامتثال قبل العلم ولا علم للناس قبل البلوغ، فإذا انعدم العلم لخفاء الخطاب من قبل الله تعالى، أو لم يظهره بعد لم يلزم الناس، فأما بعد الظهور فالخفاء على البعض غير معتبر لسقوط الحكم عنه، لأن التبليغ إلى كل شخص متعذر على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يجب تبليغه إلى كل أحد وتعلق صيرورته سبباً موجباً بوجود الإظهار في الناس حتى يصير بحيث يوجد في الناس وقام ذلك مقام البلوغ عاماً). واعتذروا عن مسألة الحربي إذا أسلم في دار الحرب وقالوا: إنما سقط عنه الوجوب أيضاً دفعاً للحرج، لأن مقامه في دار الحرب قد يطول ولا يجد من يوقفه على العبادات فلو وجبت عليه من غير علم اجتمعت عليه عبادات كثيرة، ويقع في حرب عظيم لقضائها فسقط الوجوب دفعاً للحرج حتى لو أسلم في دار الحرب ومضت عليه أيام ولم يشعر بوجوب العبادات عليه وجب القضاء عليه، لأنه لا يؤدي إلى الحرج فإنه يجد من يوقفه عليها ويعلمه إياها. والجواب عن كلام الكلامين سهل. وقد ثبت أن بلوغ الخطاب شرط الوجوب باعترافهم بذلك ولا بلوغ في حق المجنون.

وقولهم: ((إنه لا يعتبر ظهور الخطاب في الناس)). قلنا: يجوز أن يقال هذا فيمن هو محل البلوغ إلا أنه لم يبلغه لما ذكروا أن التبليغ إلى كل أحد حرج. فأما من ليس بمحل البلوغ ولا هو من أهل الخطاب فلا يجوز إثبات الوجوب في حقه، لأن من هو من أهل الخطاب ومحل البلوغ يجوز أن يجعل الخطاب كأنه قد بلغه دفعاً للحرج. فأما من هو بمنزلة بهيمة في الخطاب ولا يتصور أن يبلغه محسوساً لا يجوز أن يجعل في حقه بمنزلة الواصل البالغ والمجنون بهذه المنزلة. وأما الحرج الذي يعتمدون عليه في دفع المسائل الإلزامية، ففي نهاية الضعف، لأن الشرائع بنيت على الحرج، وما من تكليف إلا وفيه حرج فلا يجوز أن يجعل هذا أصلاً لإسقاط الواجبات عند وجوده، وإثبات الواجبات عند وجوده وإثبات الواجبات عند انتفائه. وأما الآية وهو قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. معناه أنه لم يوجب على عباده شيئاً لا سبيل لهم إلى الخروج عنه وهو منى قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. وأما استدلالهم في أن الوجوب بالأسباب لأجل ورود الشرع بالإضافة المطلقة. قلنا: الإضافات للإعلام، ونحن لا ننكر أن هذه الأوقات والأمكنة

علامات للوجوب بإيجاب الله تعالى فكانت الإضافة مشعرة بمجرد الإعلام. وأما التكرار بتكرار الأسباب فنقول: إن الأمر قد يفيد التكرار عند اقتران دليل به يوجب التكرار وإنما قالوا: إن الأمر المطلق الخالي عن قرينة لا يفيد التكرار، فأما لم يقل أحد إنه لا يجوز أن يكون مفيداً للتكرار عند اقتران دليل به فوجب التكرار، وهذه الواجبات المتكررة من هذا النمط. وأما قولهم: ((إن الوجوب يحصل بوجود هذه الأسباب والخطاب بالأداء يتأخر)). فنقول: ليس أصل الإيجاب إلا بخطاب الأداء، لأن الإيجاب لابد وأن يلاقي شيئاً وليس يلاقي إلا الفعل، فكيف يتصور أن يفصل الوجوب عن خطاب الأداء؟ والدليل عليه: أنا إذا تأملنا في خطاب الشرع لم نرها إلا خطابا بالفعل مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}، وقوله: {فَلْيَصُمْهُ}، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}. فدل أن الوجوب ليس إلا إيجاب الفعل إلا أنه يتضيق مرة ويتسع أخرى ويطلق له التأخير بعذر.

وأما مسألة الإغماء والنوم فنحن لا نقول إن/ الخطاب متوجه عليهما في حال الإغماء والنوم بل يتوجه بعد الإفاقة والانتباه، وكذلك الحائض في حق الصوم، وهذا لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد. فإن قالوا: ((قد سمي قضاء فلابد من وجوب سابق)). قلنا: لفظ القضاء والأداء في المعنى واحد على ما عرف، ولأنه سمى قضاء ليقوم هذا الفعل مقام من فعل هذا الواجب في قوته المسمى ويلتحق به حكماً. فأما أن يكون لما قلتم فلا، وعلى هذا الأصل نقول: إذا نوى الصوم ثم طرأ الجنون في بعض اليوم بطل صومه، لأن الأهلية تفوت بالجنون ولا يجوز وجود الصوم من الإنسان مع فوات الأهلية. وأما عندهم: لا يبطل صومه، لأن بطريان الجنون لا تفوت الأهلية والكلام في الجانبين قد سبق بيانه، والله أعلم. * * *

(مسألة) صوم التطوع لا يلزم بالشروع

(مسألة) صوم التطوع لا يلزم بالشروع عندنا. وعندهم: يلزم بالشرع. وفائدته: أنه لا يجب عليه عندنا أن يمضي فيه لكن يستحب له ذلك، ولو أفسده لم يجب عليه القضاء. وعندهم: يلزمه أن يتمه ولو أفسده وجب عليه القضاء.

لنا: حديث سماك بن حرب عن ابن أم هاني عن أم هاني قالت: ((كنت قاعدة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى بشراب فشرب منه ثم ناولن فشربت منه، فقلت: إني أذنبت فاستغفر لي، فقال: ما ذاك؟ فقلت كنت صائمة فأفطرته، قال: أمن قضاء كنت تقضينه؟ قلت: لا، قال: فلا يضرك إذا)). رواه أبو عيسى في جامعة بهذا الإسناد، قال: ((وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وعائشة)). وروى هذا الحديث من وجه آخر عن أم هاني أن النبي عليه السلام

قال: ((الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر)). وروى أبو عيسى أيضاً بطريق بشر بن السري عن سفيان عن طلحة بن يحيى عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فيقول: ((عندك غداء؟، فأقول: لا، فيقول: إني صائم، قالت: فأتاني يوماً، فقلت: يا رسول الله، إنه قد أهديت لنا هدية، قال: وما هي؟ قلت: حيس، قال: أما إني أصبحت صائماً، قالت: ثم أكل)). قال: ((وهذا حديث حسن))، وفي إسناد الخبر الأول مقال.

وروى أبو داود الخبر الأول من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الله ابن الحارث عن أم هاني ... وذكر في آخره: ((ولا يضرك إن كان تطوعاً)). وذكر الخبر الثاني، وقال فيه: ((وقال طلحة بن يحيى: وأصبح صائماً وأفطر)). وروى الدارقطني الخبر الثاني برواية الثوري عن طلحة بن يحيى، ثم قال: ((إسناد هذا الخبر صحيح)). وأما تعلقهم بالحديث الذي رواه جعفر بن برقان عن الزهري

عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كنت أنا وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبدرتني حفصة وكانت بنت أبيها، فقالت: يا رسول الله، إنا كنا صائمتين فعرض لنا طعاماً فاشتهيناه فأكلنا منه، فقال: اقضيا يوماً مكانه)). وتعلقوا بالخبر الذي رواه الدارقطني بإسناده عن محمد بن عمرو ابن العباس الباهلي عن سفيان بن عيينة عن طلحة بن يحيى عن عمته عائشة عن عائشة أم المؤمنين قالت: دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إني أريد الصوم وأهدى لي حيس، فقال: إني آكل وأصوم يوماً مكانه)). وروى أيضاً بإسناده عن إبراهيم بن عبيد قال: صنع أبو سعيد

الخدري طعاماً فدعى النبي عليه السلام وأصحابه فقال رجل من القوم: إني صائم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صنع لك أخوك وتكلف لك أخوك، أفطر وصم يوماً مكانه)). XXX الأخبار ضعيفة. أما الخبر الأول: فقد رواه ومعمر وعبد الله بن عمر وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري عن عائشة مرسلاً، وهذا أصح، لأنه روى عن ابن جريج قال: سألت الزهري فقلت له: أحدثك عروة عن عائشة؟ قال: لم أسمع عن عروة ولكن أخبرني به رجل على باب سليمان ابن عبد الملك عن عروة). وقيل: أسنده زميل مولى عروة بن الزبير وهو مجهول. وقد حمل الأصحاب أمر النبي عليه السلام في هذا الخبر على الندب. وأما الخبر الثاني: قال الدارقطني: ((تفرد بروايته على الوجه الذي قالوا- محمد بن عمرو بن العباس الباهلي- ولم يتابع عليه،

وخالفه الثقات ولعله شبه عليه))، والأصح من الخبر هو الرواية على الوجه الذي قدمنا. وأما الخبر الثالث: فإنما هو مرسل، فإن إبراهيم بن عبيد لم يلق أبا سعيد، والمرسل لا يكون حجة، وأما الكلام من حيث المعنى نقول: هو بالإفطار تارك للتطوع فلا يجب عليه شيء. دليله: إذا ترك في الابتداء، وإنما قلنا: إنه تارك، لأن الصوم هو فعل الكف والإمساك عن الأكل والشرب فإذا أكل أو شرب فقد ترك فعل الصوم فثبت أنه لم يوجد منه إلا/ مجرد الترك لصوم التطوع. ويدل عليه: أن مباشرة التطوع ليس له حكم سوى صحته شرعاً، فأما اللزوم فليس عليه دليل، لأن اللزوم إنما يكون بإلزام الشرع أو بالتزام العبد ذلك ولم يوجد واحد منهما، وإنما هو متبرع، فنهاية ما فيه أن تصح مباشرته لذلك بقدر تبرعه. فأما الذي لم يباشر فبقى على العدم ولم يتصل به التزام من قبله ولا إلزام من قبل الشرع، ولا اتصل به أيضاً مباشرة من قبله فصار الباقي في حقه بمنزلة الجميع إذا لم يباشر شيئاً منه فلم يجب عليه مباشرة صوم بقية اليوم عليه لما لم يكن واجباً عليه فعله من الصوم في أول اليوم، فصار الحرف لنا: أن ما بقى من صوم اليوم له حكم ما مضى فإذا لم يكن لما مضى حكم سوى الصحة ولم يقض بوجوبه عليه بل قبل كان متبرعاً

بفعله إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله فكذلك في الباقي من اليوم يكون حكم صومه كذلك. فإن قالوا: ((إن عندنا إذا وجد شروعه يجب عليه صوم جميع اليوم)). قلنا: يلزمكم الجزء الأول من الصوم، ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن واجباً عليه، فكذلك سائر أجزاء الصوم، ولما كان إليه في الجزء الأول، فكذلك يكون الخيار إليه في الباقي من اليوم، لأن الكل صوم تطوع فيكون حكم الكل واحداً. وأما حجتهم: قالوا: الصوم عبادة يلزم بالنذر، فيلزم بالشروع. دليله: الحج، وألزموا الحج على جميع ما قلنا. قالوا: وأما قولكم: ((إن الحج لا يمكنه الخروج عنه)). قال: ليس كذلك، فإن بالإفساد قد خرج عن الحج الصحيح، وإنما بقى في حج فاسد ووجوب القضاء بفوات الصحة، وهي مثل أصل الصوم في مسألتنا، وعلى أنه وإن لم يمكنه الخروج عنه إلا بالفعل لكنه قد أدى الحج بأفعاله المعهودة، فالحج الذي لا يمكنه الخروج عنه إلا بالفعل، وقد فعله فلماذا يجب عليه القضاء؟ وحين وجب دل أنه إنما وجب أن الشروع سبب ملزم بمنزلة النذر، وقد قرنوا الشرع بالنذر. قالوا: قد اتصل عزيمة الفعل بالشروع، لأنه لا يشرع في صوم النفل إلا وهو على عزيمة إتمامه وإكماله. والعزيمة مشعر بوجوب المعزوم عليه، ولهذا قال: أعزم أو أعزم بالله

يكون يميناً قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} معناه حق ووجب. ويقول الإنسان لغيره: عزمت عليك لتفعلن- أي أوجبت- فأشبه النذر الذي هو صريح الالتزام. وأما المعتمد في المسألة من حيث المعنى أن إبطال العبادة محظور بدليل قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}، ولأن من فعل فعلاً بطلب رضا معبوده ثم قصد إبطاله فقد تعرض لسخط ربه، وإذا ثبت أن إبطال العبادة محظور فنقول: ما مضى من الصوم في اليوم عبادة، لأنه فعل الصم قطعاً، وكذلك إذا شرع في صلاة النفل هو فعل الصلاة قطعاً، وهذا لأن الإمساك من أول النهار إلى آخره فعل الصوم وإن كان تمامه آخره، وكذلك أداء الصلاة من أولها إلى آخرها فعل الصلاة وأن تمامها بتمام الأفعال. وإذا ثبت أنه فعل الصوم فيكون عبادة، لأن فعل العبادة عبادة، وإذا كان عبادة حرم إبطالها ووجب حفظها ذلك بفعل الباقي من الصوم، لأنه إذا لم يفعل ذلك كان مبطلاً لما مضى من الصوم، وقد بينا أنه محظور فلزم فعل الباقي لهذا الوجه وإذا لزم فإذا تركه وجب قضاؤه وأشبه المنذور الذي قدمنا. قالوا: وليس كما لو شرع في الصوم على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه، لأن الشروع إنما يكون ملزماً إذا لاقى غير واجب مثل النذر إنما يكون ملزماً إذا لاقى غير لازم، وإذا شرع على ظن أن المشروع فيه

عليه فشروعه لاقى واجباً عليه، لأن المعتبر ما عنده لا ما عند الله تعالى، ألا ترى أن من كان عنده أنه لم يصل الظهر وقد صلى ونسى فإنه يلزمه فعله ولو لم يفعل يأثم ويحمل وزره وبمثله لو لم يكن فعله وكان عنده أنه فعله لم يكن عليه شيء بتركه. وإذا ثبت أن الشروع لاقى واجباً عليه لم يكن ملزماً مثل ما لو نذر أن يؤدي شيئاً واجباً عليه وعنده أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه يبطل نذره وإذا تبين أن الشروع ليس بملزم وتبين أنه ليس عليه لم ينقلب نذره ملزماً، وكان القياس الأصلي يقتضي أن يرتفع صومه أصلاً إلا أن الله تعالى تفضل ومن عليه بأن لم يبطل عليه صومه وجعله له نافلة، وليس من مقتضى التفضل والمنة أن يلزمه ما لم يلتزمه فلم يكن له حكم سوى حصوله فإن مضى عليه تم الحصول، وإن أفسده لم يكن عليه شيء، لأنه لم يوجد سبب يوجب عليه شيئاً. أما ههنا وجد سبب الوجوب على ما سبق. قالوا: وليس يلزم على هذا العذر إذا شرع في الحج على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه فإن/ هذا لا يوجد في الحج، فإن الحج يحتاج إلى مشقة شديدة وقطع مسافة بعيدة وتدخل فيه مدة مديدة فيبعد أن يشتبه عليه أنه فعل الحج أو لم يفعل، ولئن وجد فهو نادر، والنادر لا يلتفت إليه. وقد منع بعضهم جانب الصوم وقال: إذا شرع فيه على ظن أنه عليه ثم تبين خلافه يلزمه مثل الحج، وليس بمذهب، والصحيح ما قالوا. هذا جملة كلامهم، ونهاية تحقيقهم.

الجواب: أما التعلق باللزوم بالنذر ففي غاية الضعف، لأن النذر التزام. وأما الشروع فليس بالتزام إنما هو مجرد مباشرة الفعل فلا يدل اللزوم بالالتزام على اللزوم بالمباشرة، لأن الالتزام إذا صح شرعاً اقتضى اللزوم فإن ما صح شرعاً صح بمعناه ومعناه اللزوم. فأما المباشرة المطلقة شرعاً فنهاية ما تقتضيه هو الصحة شرعاً ولا جرم. قلنا: هو صحيح، فأما لزوم ما يفعله فليس يدل عليه الشروع بحال. يبينه: أن النذر ما لم يلاق جميع اليوم لا يظهر في اليوم حكم النذر فكذلك الشروع ما لم لا يلاق جميع اليوم وجب أن لا يظهر فيه حكم المباشرة وذلك بأن يتم صوم جميعه. وأما قولهم: (بأن العزيمة تدل على الإيجاب)). قلنا: لا يدل، لأنه عزم أن يفعل، والعزم لا يوجب شيئاً كما لو عزم أن يصلي كذا ركعة أو يصوم كذا يوماً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به)). والعزائم موضوعة من العباد فضلاً من الله تعالى ورحمة، وإنما الأحكام مبنية على أقوالهم وأفعالهم، وهذا لأنه يجوز أن يقصد فعل شيء ولا يفعله، كما يجوز أن يفعل شيئاً ثم يتركه، فلا يدل العزم على وجوب المعزوم عليه، كما لا يدل الفعل على وجوب المفعول. وأما قولهم: ((إن إبطال العبادات لا يجوز والذي فعله من صوم بعض النهار عبادة)).

قلنا: يجوز أن يقال إن عبادة الصوم لا توجد إلا بعد إتمام اليوم والكلام في عبادة هو صوم، وهذا كمن أخرج الدراهم من صندوقه أو كيسه بنية الصدقة وقال للفقير: تصدقت بها عليك، فإن هذه عبادة وطاعة ولكن لا يلزم به شيء، لأنه إنما يصير عبادة الصدقة إذا وصل إلى الفقير، كذلك ههنا إنما تصير عبادة الصوم إذا أتم صوم اليوم فعلى هذا يكون المفعول من إمساك بعض اليوم موقوفاً فإن أتم اليوم يكون صوماً وإلا لمن يكن صوماً، وهذا الجواب إنما يمكن تمشيته جدالاً لا تحقيقاً لأن فعل الصوم منه موجود، وكيف لا يكون فاعلاً للصوم حقيقة وهو مأمور به وإذا لم يكن صوماً في الحال لا ينقلب صوماً في باقي الحال، نعم يجوز أن يقال: ليس بصوم تام، وإنما يتم بتمام جميع النهار. والمعتمد من الجواب أن هذا ليس بإبطال بل هو ترك لفعل الصوم في المستقبل وله ذلك كما في الابتداء. وأما بطلا ما فعله فليس بإبطاله إنما يبطل حكماً، لأن الشرع لم يقبل صوم بعض اليوم بحال فبطل هذا لإبطاله، ويقال أيضاً: المفعول نفل فحفظه لا يزيد على درجة الأصل فإذا لم تكن لأصله درجة سوى الاستحباب فكذا بحفظه. ونحن نقول: إنه يستحب له أن لا يبطل صومه كما يستحب له فعله في الابتداء. وأما وجوب حفظه، فساقط كما سقط في الابتداء وجوب فعله والأول أولى، وأما الصوم المظنون فلازم. وقولهم: ((إنه حصل النفل بطريق التفضل والمنة)).

قلنا: كل الأشياء بمنة من الله تعالى إلا أن الصوم حاصل له بفعله، لأنه لا يتصور حصوله بغير فعله، وإذا حصل بفعله فوجب أن يكون فعله موجباً عليه الصوم على ما قلتم في صوم النفل ابتداء ثم فصل الحج داخل على عذرهم. وقولهم: ((إنه نادر في الحج)). قلنا: وهو نادر أيضاً في الصوم. وأما فصل الحج الذي قاسوا عليه. قلنا: الفرق بالمظنون صحيح، ولا عذر لهم يصح عنه أصلاً. وأما من حيث المعنى فوجه العذر عنه أن الحج عبادة لازمة شرعاً بدليل أنه إذا دخل فيه لم يجز له الخروج عنه إلا بطريق مخصوص، وذلك الطريق هو بفعل الأفعال المعهودة فإذا فعلها على الفساد جعل كالعدم فيلزمه أن يأتي مثلها صحيحاً شرعاً ليخرج عن ما لزمه شرعاً، وذلك بأن يأتي بها بإحرام جديد، لأن الإحرام قد فسد، والمبتنى عليه فاسد والخروج بالفاسد كان لضرورة إذ لم يخرج بالفاسد لبقى فيه أبداً فحكم بخروجه بما فعله من الأفعال على وصف الفساد للضرورة ولم يسقط الأمر بالخروج بالأفعال الصحيحة بإحرام صحيح فلزمه استئناف الإحرام وفعل الأفعال على وجه الصحة ليخرج على موجب الشرع وقضيته. فهذا هو وجه الجواب عن الحج. وأما الصوم فليس بلازم شرعاً، وليس فيه دليل على اللزوم بوجه ما على ما سبق. والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) إذا نذر أحد يومي العيد أو أيام التشريق لم يصح نذره

(مسألة) إذا نذر أحد يومي العيد أو أيام التشريق لم يصح نذره عندنا. وعندهم: يصح نذره، ويصوم أيام أخر بعد هذه الأيام، وإن صام هذه الأيام خرج عن موجب نذره. لنا: إنه أضاف النذر إلى غير محله فيبطل، كما لو نذر صوم الليالي بدل الأيام. وإنما قلنا: ((إنه أضاف النذر إلى غير محله))، لأن المنذور هو الصوم وهذه الأيام ليست بمحل الصوم والدليل على أنها ليست بمحل الصوم أنه لا يحل صومها، ولو صام كان صومه معصية ولو كان الأيام محل الصوم لجاز صومه طاعة، ولم يتصور أن يكون معصية، لأن فعل الصوم في محل الصوم من أهل الصوم يكون قربه فيستحيل أن يكون معصية. ثم الدليل على ما قلنا أن الصوم عقد شرعي فلا يكون صحيحاً إلا بالشرع والشرع في الصوم هو الإيجاب مرة، والاستحباب أخرى وليس

له رتبة دون هذا ولا إيجاب في صوم هذا اليوم ولا استحباب بل هو منهي عنه بالنص الثابت فانتفى الشرع في صوم هذه الأيام بالكلية وإذا لم يكن مشروعاً بوجه لم يكن الفعل صوماً أصلاً، لأن ما ثبت بالشرع لا يتصور صحته بدون الشرع. وأما وجه تقريب هذه الأيام بالليالي هو أن هذه الأيام أيام الأكل بنص الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال: ((إنها أيام أكل وشرب)). كالليالي زمان الأكل بنص الكتاب وهو قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ...} إلى أن قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ....}.

فثبت أن أحد الزمانين كالآخر فإذا لم يصح النذر في أحدهما لا يصح في الآخر. فإن قالوا: ((إن أيام رمضان متعينة للصوم بالنص ومع ذلك تقبل ضده وهو الفطر)). قلنا: نعم، متعبنة للصوم لكن فعلاً فإذا لم يفعل لم يتصور الصوم. وأما هذه الأيام متعينة للأكل إلا من حيث الفعل بدليل أنه لو لم يأكل فيها شيئاً لا حرج عليه مثل الليالي سواء، وإنما معنى تعيينها للأكل هو نفي الصوم عنها، بدليل أنه لا يأثم إلا عند الصوم مثل أيام رمضان متعينة لفعل الصوم فيها بدليل أنه ما لم يترك فعل الصوم لا يأثم فكما أن تعين أيام رمضان للصوم فعلاً يمنع خروجها عن محلية الصوم، فكذلك تعين هذه الأيام للأكل يمنع ثبوت محلية الصوم لها. أما حجتهم: قالوا: يوم، فيكون محلاً للصوم. دليله: سائر الأيام. واستدلوا في هذه الأيام محل الصوم بالنص والمعنى: أما النص فلأن النبي عليه السلام نهى عن صوم هذه الأيام، والنهي عن الشيء دليل على تكونه، ألا ترى أنه لا يقال للأعمى لا تبصر وللآدمي لا تنظر، لأنه لا يتصور منهما ذلك، ولأن النهي طلب الانتهاء والأمر طلب الفعل فصارت قضية الأمر ليصير الشيء حاصلاً بفعله، وصارت قضية النهي ليصير الشيء منعدماً بكفه وتركه. فإذا قلنا: إنه لا يكون محلاً للصوم لم يكن لانعدامه بفعله وكفه.

وأما المعنى: فلأن اليوم إنما صار محلاً للصوم، لأنه بياض نهار. والدليل عليه: أن الصوم عبادة كف النفس عن قضاء الشهوات وإنما يكون عبادة بالكف عن قضاء الشهوات في زمان قضاء الشهوة والنهار زمان قضاء الشهوة، فأما الليل هو زمان الاستراحة ولأن العبادة عبادة مخالفة النفس الأمارة بالسوء، ومخالفة النفس بفعل على خلاف العادة أو بكف خلاف العادة، وذلك بكون وجوده في النهر دون الليالي. فثبت أن ما به صار الصوم صوماً موجود في هذه الأيام إلا أنه نهى عن الصوم فيها لمعنى في غير الصوم وهو تحقيق إجابة الداعي فإن الناس أضياف الله تعالى في هذه الأيام، وقد دعاهم إلى الأكل لتحقيق الضيافة ونهاهم عن الصوم لتحقيق الإجابة وإذا كان النهي لمعنى في غيره لم يوجب فوات الصوم أصلاً أو خروج الأيام عن محلية الصوم، وهذا كالصلاة في الأرض المغصوبة، وكالبيع وقت النداء، والطلاق زمان الحيض، والإحرام وقت الوطء. قالوا: وقولكم: ((إن الصوم في هذه الأيام معصية)). قلنا: بلى، ولكن معصية لغيرها لا لعينها مثل الصلاة في الأرض المغصوبة، وكالبيع وقت النداء إذا كانت معصية لغيرها لا لعينها لم يوجب ذلك انتفاء الصحة مثل هذه المسائل. وربما يقولون: الصوم في هذه الأيام مشروع بأصله لا بوصفه، ومعنى قولنا: ((مشروع بأصله)) لأنه مشروع من حيث أن اليوم يوم. ومعنى قولنا: ((إنه غير مشروع بوصفه)) فإنه غير مشروع من حيث أن اليوم يوم عيد أو يوم فطر وأكل، والعيد وصف اليوم، إلا أنه وصف لا يزايل اليوم فمن حيث أنه وصف العيد كان الصوم غير مشروع فصار فعله معصية، واتصف بالحظرية والقبحية ومن حيث أصل الصوم.

قلنا: يكون محل ........ عذراً له فيصح/ نذره وإن أضاف النذر إليه. يبينه: أن عندنا إنما يصح نذره من حيث أصله لا من حيث وصفه، وليس كما لو شرع في صوم هذه الأيام، لأن الشروع إنما يوجب الصوم بدليل المنع من إبطاله شرعاً، والصوم في هذه الأيام لما كان قبحاً محظوراً أطلق له تركه ولم يجب حفظه ففات المعنى الموجب فلم يجب. وأما النذر فهو واجب بالالتزام، والالتزام قد وجد من أهله في محله، أما الأهلية معلوم، وأما المحلية لما سبق من قبل. قالوا: وأما إذا شرع في الصلاة في الأوقات المنهية فإنما لم تجب، لأن سبب الوجوب هو الشروع، والشروع بالتكبير والتكبير ليس من الصلاة التي نهى عنها فلزمت الصلاة به، وههنا نهى عن الصوم والشروع في الصوم صوم فلم يكن الشروع موجباً لورود النهي، ولا يكون موجباً عندنا لا لعينه بل بواسطة وجوب حفظه فإذا لم يجب حفظه، لأنه منهي عنه لم يكن سبباً للوجوب. قالوا: وأما إذا قضى يوماً في هذه الأيام إنما لم يجز، لأنه لما كان مشروعاً بأصله دون وصفه كان الصوم فيه ناقصاً، والواجب عليه من القضاء واجب كامل فلم يتأد الكامل بالناقص إلا أن في مسألتنا إذا صام هذه الأيام إنما خرج عن موجب النذر، لأنه قد أضاف الصوم إليها والخروج لحق الإضافة. قالوا: وليس كما لو نذرت أن تصوم يوم حيضها، لأن اليوم هناك قابل للصوم إلا أن فساد النذر في هذه الصورة إنما كان، لأن الناذر ليس

بأهل للصوم فإن طهارتها عن حدث الحيض شرط لتصير أهلاً لفعل الصوم مثل طهارة الرجل عن الحدث شرط ليصير أهلاً لفعل الصلاة. وقد استدل بعض مشايخهم على كون هذه الأيام محل الصوم: بأن تخللها في صوم شهري التتابع يقطع التتابع، ولو لم يكن محلاً للصوم لم يقطع، كما نقول في الليالي إذا تخللت، ومعتمدهم الأول. الجواب: أما قولهم: يوم. قلنا: اليوم اسم زمان ومثل هذا لا يصلح لبناء الشرعيات عليه، كقول القائل: وقت، أو قطعة زمان وما أشبه ذلك. وأما استدلالهم بالنهي وهو معتمدهم. قلنا: إنما صح النهي، لأنه يتحقق محسوساً وإن لم يتحقق مشروعاً، وهذا لأن الصوم له حقيقتان: حقيقة حسية، وحقيقة شرعية، فصح النهي لوجود الحقيقة الحسية ثم كان عمل النهي في نفي الحقيقة الشرعية على ما سبق بيانه. وسؤالهم على هذا أن النهي ورد عن الصوم، والصوم هو الصوم الشرعي لا الصوم الحسي فاقتضى النهي وجود ما هو الصوم حقيقة. قلنا: قد كان يقتضي ذلك إلا أنه لا يمكن إثبات الصوم الشرعي بعد ورود النهي عنه لما بينا. ثم الجواب المعتمد تحقيقاً: إن الصوم حقيقة من العبد ليس إلا الإمساك مع النية، والنهي منصرف إلى ما هو فعل العبد، والذي هو فعل العبد متصور منه فصح النهي عنه لتصوره منه.

وأما كونه عبادةً وصوماً شرعياً بالشرع، والنهي لا يتصور عنه أصلاً غير أنه انتفى الشرع، فثبت بهذا تحقق النهي وتكون النهي عنه ثم ظهر عمل النهي في نفي المشروعية من قبل الشارع، وإذا انتفت المشروعية من الشارع انتفى الصوم الشرعي قطعاً، وهو مثل النهي عن نكاح المشركات ونكاح الأمهات والبنات ونكاح امرأة الأب وبيع الحر وغير ذلك، صح النهي في هذه الصورة كلها لتصور وجودها من العبد على غاية ما يمكن منهم ثم انتفت الصحة شرعاً، لأن النهي نفى المشروعية ولا يتصور عقد مشروع مع انتفاء المشروعية. وأما قولهم: ((في التفريق بين النهي الوارد عن الشيء لعينه ولغيره)). فهذا تفريق لا يعرف، والنهي عن الشيء لعينه لا يتصور عندنا، لأن النهي بخطاب الشرع ولا ينهي عن الشيء لعينه بحال، وأيضاً لو نهى عن شيء لعينه لم تتصور إباحة مثله بوجه من الوجوه، فإن النهي عن القتل لو كان لعين القتل فينبغي أن لا يباح القتل بحال، وكذلك الزنا وغير ذلك، فهذا كلام مردود متلقي من القائلين بكون الأشياء واجبة عقلاً محظورة عقلاً أخرى، وهذا مذهب مردود وهو بدعة وضلالة. وأما عندنا: فالحظر والإباحة والإيجاب بالسمع لا غير. ونقول: إن الشيء إذا ورد النهي عن نفسه كان نفس الشيء وهو العقد أو غيره منهياً عنه أوجب فساده. وإن شئت قلت: أوجب خروجه عن كونه عقداً شرعياً أو مشروعاً على الإطلاق. وقولنا: ((إن نفسه يكون منهياً عنه)). يعرف ذلك بأن لا يوجد النهي إلا بوجود الشيء مثل النهي عن نكاح الأمهات والبنات والأخوات، وكذلك النهي عن الجمع بين الأختين، وكذلك النهي عن

نكاح المشركات، والوثنيات وبيع/ الأحرار وبيع المضامين والملاقيح وغير ذلك، فإنه لا يوجد النهي عن شيء من هذه العقود إلا بهذه العقود وكذلك في مسألتنا لا يوجد النهي عن صوم هذه الأيام إلا بوجود الصوم حتى لو أمسك ولم يأكل في هذه الأيام لا عنت عليه. فثبت بهذا أن النهي يتناول نفس الصوم فأوجب ما ذكرناه. وخرج على هذا المسائل: فإن مسألة الصلاة في الأرض المغصوبة ليس النهي عن نفس الصلاة بدليل أنه لو شغل الأرض المغصوبة بشيء آخر سوى الصلاة كان منهياً عنه، وكذلك البيع وقت النداء ليس النهي عن نفس البيع بدليل أنه لو اشتغل بشيء آخر سوى البيع يكون منهياً عنه، وكذلك الطلاق في زمان الحيض ليس النهي عن نفس الطلاق بل هو عن تطويل العدة والإضرار بالمرأة حتى لو طلق قبل الدخول في حال الحيض لا بأس به، وكذلك لو طول العدة عليها بالمراجعة من غير رغبة والطلاق بعد ذلك محرم، وكذلك الإحرام مجامعاً ليس النهي عن الإحرام إنما النهي عن المجامعة عند الإحرام، فهذا وجه بين تخرج عليه جميع المسائل. ويمكن أن يقال: إن النهي عن الشيء إذا كان لطلب ضده فيكون النهي عن نفس الشيء وإذا لم يكن لطلب ضده فلا يكون عن نفس الشيء. وقد نهى في مسألتنا عن الصوم وهذه الأيام لطلب ضده وهو الفطر.

فدل أن نفسه منهي عنه مثل النهي عن نكاح الأم والبنت كان لطلب ضده وهو عدم النكاح وكذلك النهي عن الجمع بين الأختين كان لطلب ضده وهو التفريق إن أراد النكاح أو ترك النكاح أصلاً. وعلى هذا خرج المسائل. فإن النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة ليس الطلب ضدها أو هو ترك الصلاة، وكذلك في البيع وقت النداء حتى لو باع وهو يسعى إلى الجمعة لم يكن منهياً عنه، وكذلك في الطلاق حالة الحيض لم يكن لطلب ضده وهو بقاء النكاح حالة الحيض، ألا ترى أنه لو طلق وهي طاهرة ثم حاضت فلا نكاح والحيض موجود، وكذلك النهي عن الإحرام مجامعاً وغير ذلك مما يوردونه كل ذلك خارج على الأصل الذي ذكرنا. وأما المسائل الإلزامية من فصل الشروع وعدم جواز القضاء في هذه الأيام وفساد نذر المرأة صوم يوم حيضها مسائل لازمة، واعتذارهم ضعيفة عند التأمل، تركنا الكلام عليها لظهورها ولئلا تطول المسألة. وأما فصل انقطاع التتابع فإنما كان كذلك لوجود الانقطاع صورة، وكذلك في الليل إلا أن الاحتراز لا يمكن هناك فسقط اعتباره بخلاف مسألتنا فاعتبر وبطل التتابع. والله أعلم. * * *

(مسألة) لا يشترط الصوم لصحة الاعتكاف

(مسألة) لا يشترط الصوم لصحة الاعتكاف عندنا. وعندهم: هو شرط. فعلى هذا نقول:

يجوز الاعتكاف في الليالي على الانفراد. وعندهم: لا يجوز. لنا: حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر نذر أن يعتكف ليلاً في المسجد الحرام في الجاهلية، فسأل النبي عليه السلام عن ذلك قال: ((أوف بنذرك))، والخبر في الصحيحين. روى عبد العزيز بن محمد.

عن أبي سهيل بن مالك- عم مالك بن أنس- عن طاووس عن ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: ((ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه)). وأما هم يروون عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا اعتكاف إلا بصيام)). قالوا: وأما الخبر الأول الذي رويتم فقد روى عمرو بن دينار عن عمر أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اعتكاف عليه فأمره أن يعتكف ويصوم.

قالوا: وأما الخبر الثاني، فالصحيح منه أنه موقوف. الجواب: أما الخبر الذي رووه فقد تفرد به سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري، وقد تكلموا في سويد وسفيان بن حسين فيما ينفردان به. ويحتمل أن يكون المراد من الخبر نفي الكمال لا نفي الجواز. وأما الخبر الثاني: تفرد به عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار وهو ضعيف.

(قال أبو بكر عبد الله بن زياد النيسابوري: هذا حديث منكر، لأن الثقات من أصحاب عمرو بن دينار لم يذكروه مثل ابن جريج وابن عيينة وحماد بن سلمة وغيرهم، قال: وابن بديل ضعيف الحديث). وروى مثل مذهبنا عن علي وابن مسعود. وهم يرون عن عائشة وابن عباس وغيرهما. وأما الكلام من حيث المعنى نقول: الاعتكاف عبادة بنفسها فيصح من غير صوم. دليله: الصلاة. والدليل على أنه عبادة بنفسه: أن الصوم عندهم شرط لصحة الاعتكاف ثم إذا انضم هذا الشرط إلى الاعتكاف فيكون الاعتكاف هو العبادة بنفسه، وكذلك الطهارة عن الحدث إذا انضمت إلى الصلاة تكون الصلاة هي العبادة بنفسها.

ويدل عليه أن الله تعالى أطلق الاعتكاف ........ فقال/: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، دل أنه بنفسه عبادة مثل إطلاقه الصوم والصلاة وغير ذلك. وإذا ثبت أن الاعتكاف عبادة فاستغنى عن الصوم ليكون عبادة مثل سائر العبادات. يبينه: أن الصوم ركن من أركان الإسلام فيبعد أن يكون شرطاً لعبادة من النوافل، والاعتماد على الأول. وقد تعلق الأصحاب بجواز الاعتكاف ليلاً، وقالوا: لو كان الصوم شرطاً لما صح بالليل، لأنه ليس بزمان الصوم فإذا جوزنا الاعتكاف فيه فقد جوزنا بلا صوم. وإن قالوا: إن الاعتكاف بالليل تبع للاعتكاف بالنهار، أو قالوا: إن الصوم بالنهار شرط الاعتكاف ليلاً ونهاراً إلا أنه يختص بالنهار، لأنه لا يتصور ليلاً. نقول: كلا الكلامين باطل، لأن دعوى التبعية لا دليل عليه. ولأن الصوم عندهم شرط، وقد انعقد الاعتكاف بالليل، وصح الابتداء به إذا وصل إليه الاعتكاف بالنهار، وشرط العبادة: إما أن يتقدم عليها كالطهارة أو يقارنها كالاستقبال وستر العورة والطهارة عن النجاسة، فأما أن يتراخى عنها فلا يعرف.

وقولهم: ((إنه لا يتصور الصوم بالليل)). قلنا: إن لم يتصور الصوم بالليل يتصور قصر جواز الاعتكاف على النهر دون الليالي ليتفق زمان الشرط والمشروط فيتصور مقترناً به أو متقدماً عليه. وقد قال بعض أصحابنا: إن الصوم لو كان شرطاً لصحة الاعتكاف لم تصح أيام رمضان، لأن الصوم ليس له بل هو وظيفة هذا الزمان ابتداء ولو وجب الصوم لصح الاعتكاف به وجب أن يلزم أن يكون الصوم للاعتكاف. وهذا ليس بشيء، لأنهم يقولون: إن الصوم شرط والشرط يجب وجوده في صحة المشروط له، فأما أن يكون وجوده له فهذا غير معتبر بدليل أن الطهارة لما كانت شرطاً للصلاة اعتبر وجودها ولم يعتبرها أن تكون الطهارة للصلاة حتى لو توضأ للنفل وأدى به الفرض يجوز مع أنه لم يتوضأ للفرض، لكن اكتفى بوجوده، كذلك ههنا، والاعتماد على ما سبق. وأما حجتهم: تعلقوا بالخبر الذي قدمناه، وقد بينا الكلام عليه. وأما المعنى: قال مشايخهم: لبث في مكان مخصوص فلا يكون عبادة إلا بانضمام عبادة أخرى إليه. دليله: الوقوف بعرفة، وهذا لأن اللبث في مكان وملازمة بقعة

لا يكون مخيلاً في كونه عبادة، فإذا صار عبادة إنما يصير عبادة بعبادة أخرى تنضم إليه وليس ذلك إلا للصوم. وأما معتمدهم قالوا: (أجمعنا على أنه لو نذر أن يعتكف صائماً يلزمه الاعتكاف بصوم) فلا يخلو إما أن يكون بالنذر أو بكونه شرطاً له شرعاً، ولا يجوز أن يكون بالنذر، لأن النذر لم يلاقه فإنه قال: لله على أن أعتكف صائماً، والنصب في قوله: ((صائماً)) على الحال كأنه قال: لله على أن أعتكف في حال صومي، والنذر إنما يصح في العبادة ووصف العبادة، أما حال المتعبد لا يدخل تحت النذر فكان ينبغي أن لا يجب فلما وجب دل أنه شرط بالشرع. قالوا: وليس كما لو قال: لله على أن أصوم متتابعاً، لأن التتابع صفة الصوم. ألا ترى أنه يقال له ((صوم متتابع)) ولا يقال ((اعتكاف صائم)). قالوا: ولا يجوز أن يقال إن قوله: ((صائماً)) نصب على إضمار المصدر، لأن هذا يستقيم في قوله: ((ضربته وجيعاً، وكلمته بليغاً)) أي ضرباً وجيعاً وكلاماً بليغاً، لأنه إذا أظهره صح هذا الكلام فأما ههنا فلا يستقيم هذا التقدير، لأنه لا يستقيم أن يظهره فيقول: أعتكف اعتكافاً صائماً أو صوماً. الجواب: أما قولهم: ((لبث في مكان مخصوص))، فقد ذكروا فيه القلب المعروف وهو أن يقل: فوجب أن لا يكون الصوم شرطاً.

دليله: ما قاس عليه. وأما قولهم: ((إن اللبث في مكان مخصوص ليس فيه معنى مخيل في كونه عبادة)). قلنا: العبادة ما جعله الله تعالى عبادة ولا يعتبر المعنى المخيل الذي ظنوه وعلى أن ملازمة مكان العبادة وترك الترددات مشعرة بكونه عبادة وهو لعله فوق الطواف حول البيت فإذا كان التردد حول بيت العبادة بكونه عبادة فملازمة موضع العبادة لأن يكون عبادة أولى. وأما تعلقهم بفصل النذر فقد منع على أحد القولين. وقيل: إنه لا يجب الاعتكاف بالصوم لكن يجبان جميعاً- أعني الصوم والاعتكاف- ولو أفرد كل واحد منهما بالفعل فإنه يصح. وعلى أنا سلمنا أنه يجب الاعتكاف بشرط الصوم فإنما يجب بالنذر وليس فيما أنه يجب بالنذر ما يدل على أنه يجب لا بالنذر كأصل الاعتكاف. وقولهم: ((إن النذر لم يلاق الصوم)). قلنا: إنما أوجبنا الصوم لضرورة صحة قولكم لأنه كما يجب الاعتكاف في حال الصوم فلابد من وجوب الصوم ليصير حالاً له فيصح نذره بالاعتكاف على/ هذه الحالة وكل ما كان من ضرورة قوله فهو كالمصرح به. فإن قالوا: ((وجب أنه إذا قال: لله على أن أصوم معتكفاً أن يلزمه على هذا الشرط، وكذلك إذا قال: لله على أن أعتكف مصلياً)). قلنا: في المسألة الأولى كذلك نقول، وأما المسألة الثانية فهي مسلمة، ولكنها مجرد استغراق من غير بيان وجه الإلزام ووجوب الفرق.

ونحن إذا بينا وجه اتصال النذر بالصوم خرجنا وتقصينا عن عهدة كلامهم، وما اعتمدوه في تعلقهم. وقد أجاب الأصحاب عن المسألة التي ألزموها وقالوا: ليس بين الصلاة والاعتكاف مناسبة ومشابهة، لأن أحدهما فعل الجوارح والآخر ليس من فعل الجوارح فإذا لم يكن بينهما مناسبة لا يصير أحدهما شرطاً في الآخر. وأما الصوم والاعتكاف فبينها مناسبة ومشابهة، لأن كل واحد منهما كف فجاز أن يصير أحدهما شرطاً في الآخر ليصير كل واحد منهما كاملاً لصاحبه متزيناً به، وهذا غاية الإمكان، والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

كتاب الحج

كتاب الحج (مسألة) تثبت الاستطاعة ببذل الابن الطاعة عندنا. وعندهم: لا تثبت. وقد ذكر مشايخهم رواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن الاستطاعة لا تثبت بمجرد المال بحال، وزعموا أن هذه الرواية هي الرواية الظاهرة عنه. ورووا عن أبي حنيفة رحمة الله عليه رواية أخرى أن الاستطاعة

تثبت بمجرد المال، وزعم المحققون منهم أن هذه الرواية هي الأصح. وفائدة الروايتين تظهر في المغضوب الموسر، هل يجب الحج عليه أم لا؟ لنا: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}، وإنما قلنا إنه يصير مستطيعاً، لأن الاستطاعة ليس إلا الإمكان وقد أمكنه الحج حين بذل له الابن الطاعة وهو أن يكون معضوباً فقيراً فيبذل له أن يحج عنه أو يكون فقيراً صحيحاً فيبذل له المال فقد تحققت الاستطاعة في الصورتين، أما في الصورة الأولى فليس بينه وبين حصول الحج له إلا الأمر به، وهو مما يدخل تحت الأمر وتجرى فيه النيابة، وفي الصورة الثانية، أمكنه الحج بإنفاقه مال الابن في سفر الحج، كما أمكنه إذا كان المال له، لأن الإمكان لا يختلف في الموضعين فإن ركوبه مركوب الغير وركوبه مركوب نفسه واحد، وكذلك لا يختلف في المطعوم والمشروب. فثبت أن الإمكان موجود وإذا وجد الإمكان وجب عليه الحج، لأنه لا شرط له سواه، وكذلك في المعضوب الموسر وجد الإمكان وهو أن يبذل ماله ليحج عنه غيره فوجب أيضاً. وهذه المسالة مبنية على أن النيابة جارية في الحج، وسنبين من بعد.

ويدل عليه: أنه لو كان مستطيعاً للحج بنفسه فطرأ عليه العجز بقى الوجوب عليه، وكذلك إذا وجد المال وهو معضوب جاز أن يجب عليه أيضاً، لأن الباقي هو الواجب عليه ابتداء، والواجب عليه ابتداء هو الباقي فإذا جاز أن يبقى عليه وجوب الحج وهو عاجز ببدنه ليؤدي بماله، فكذلك في الابتداء جاز أن يجب عليه أيضاً. وأما حجتهم: قالوا: غير مستطيع للحج فلا يجب عليه الحج، كما إذا كان الباذل أجنبياً، وإنما قلنا: ((إنه غير مستطيع))، لأن الاستطاعة بملك الزاد والراحلة بالنص وهو الإجماع بيننا وبينكم ولم يوجد. ثم قالوا: لو صار مستطيعاً لصار مستطيعاً ببذل الابن المال له وهذا لا يجوز شبهاً ولا معنى. أما الشبه فالدليل عليه: أن العبد لو أذن له مولاه في الحج وبذل له المال فإنه لا يجب عليه الحج، ولو ثبتت الاستطاعة بالبذل والإباحة وجب أن يثبت ويجب الحج في هذه الصورة، لأن العبد من أهل الحج والإمكان قد وجد. يبينه: أنه إنما لم يجب لعدم الإمكان مثل العسر لا يجب عليه لعدم الإمكان والسيد بذل له المال فقد تحقق الإمكان، وهذا شبه معتمد. ويدل عليه: أن الابن إذا بذل المال في كفارة اليمين والظهار جميعاً فكذلك ههنا لا يحكم بالاستطاعة.

وأما المعنى: قالوا: الاستطاعة بالزاد والراحلة شرط لوجوب الحج بالإجماع، وهو استطاعة بمال لا يوجد مباح الأصل في العادة فوجب أن يكون الملك شرطاً لوجوب الحكم المبتنى عليه، لأن أصل القدرة على ما ......... والأفعال هو بالملك/ وأما القدرة بالإباحة عارضة، والأحكام إنما تتعلق بالأصول لا بالأعراض، ألا ترى أن الصلاة قائماً إنما تتعلق بالاستطاعة ينالها الإنسان بسلامة أحواله، ولا تحجب بما يحدها بمعين بعينه من ولده أو غيره للمعنى الذي بينا، وهو أن الأصل أن الاستطاعة مبنية على سلامة الحال، والأخرى عارض، ولا يلزم على هذا الماء في الطهارة، لأن الماء على العادات موجود مستعمل على الإباحة فصار الإمكان بالإباحة في حق الماء أصلاً فقام مقام الملك، وأما الزاد والراحلة قل ما يوجد على أصل الإباحة وإنما يتمكن الإنسان من استعمالها على العادات الجارية بالملك، والإباحة عارضية فبني الحكم على الملك ولم يعتبر العارض. قالوا: وأما المعضوب الموسر فيجب عليه الحج على الصحيح من المذهب لأن ملك الزاد والراحلة قد وجد. وقد نص مشايخهم إحدى الروايتين عن صاحبهم. وقالوا: تعلق الحج بالبدن فوق تعلقه بالمال، لأنه يؤدي بالبدن وإنما المال وصلة، ثم إذا كان عاجزاً بماله لم يجب عليه الحج وهو الفقير الصحيح فإذا كان عاجزاً ببدنه أولى أن لا يجب. قالوا: وأما قولكم: ((أنه لو كان صحيحاً موسراً فعرض العجز يبقى عليه وجوب الحج)).

قال: هذا لا يدل على أنه يجب عليه ابتداء كالميت يبقى عليه وجوب الحج ولا يجوز أن يجب عليه ابتداء. الجواب: أما قولهم: ((إنه لا يجوز أن يصير مستطيعاً ببذل الابن له الطاعة بدليل الأجنبي)). قلنا: قد منع بعضهم. والصحيح على المذهب أنه لا يصير مستطيعاً إلا ببذل الابن على الخصوص، وإنما كان كذلك، لأن الإمكان قد وجد صورة ومعنى ببذل الابن ماله، أما الصورة معلومة، وأما المعنى فلأنه لا منة تلحقه ببذل الابن وإباحته ماله له ليحج به، لأن هذا وإن كان إحساناً لكن إحسان الأب إليه أكثر فيكون هذا على معنى المجازاة والشكر لإحسانه إليه لا على معنى الامتنان به عليه، لأن الشرع أضافه ماله إليه إضافة الملك إلى مالكه، ولأنه سمى الولد كسباً له مثل ما يكون العبد كسباً لسيده فيكون حجه بماله مثل حجه بسائر أكسابه فثبت أنه لا منة تلحقه في بذل الابن فتحقق الإمكان بصورة ومعنى. وهذا لا يوجد في غير الابن فلم يوجد الإمكان معنى، لأن تحمل المنة في غاية الشدة وهي دقاقة لأعناق الرجال. * * * ·

وأما فصل العبد الذي تعلقوا به: قلنا: وإنما لم يجب، لأنه ليس من أهل وجوب الحج عليه والدليل عليه النص والحكم: أما النص: قوله عليه السلام: ((أيما عبد حج عشر حجج ثم عتق فعليه حجة الإسلام)). وأما الحكم: فإنه لو حضر بعرفات مع سيده لم يجب عليه الحج ولو كان عدم الوجوب لعدم الإمكان فإذا حضر بعرفات وجب أن يجب عليه الحج كالفقير، خصوصاً إذا كان السيد قد أذن له في فعل في فعل الحج، وحين أجمعنا على أنه إذا فعل الحج في هذه الصورة لم يكن فاعلاً واجب الحج عليه بخلاف الفقير، وبخلاف العبد الذي حضر الجمعة مع سيده ويؤديها، دل أنه إنما لم يكن لأجل أنه ليس من أهل فرض الحج عليه أصلاً. * * *

وأما فصل الكفَّارة: فلا نسلم، ونقول: إذا بذل الابن الرقبة أو الطعام لأبيه لم يجز له أن يعدل إلى الصوم، وعلى أن الكفارات حق مالي فلا يتأدى إلا بماله أو بما يصل إليه بماله. وأما الحج بدني فلا يحصل إلا ببدنه أو ببدن يصل إليه بأي سبب كان ويقوم بدن ذلك الغير مقام بدنه ولم يعتبر أن يكون الوصول بالمال لأنه ليس بواجب مالي فاعتبر أصل الوجوب فحسب، والأصح المنع في الطعام خاصة، وفي العتق إذا وهب الرقبة له أنه يجب عليه قبولها، وعلى هذا في مسألتنا لو وهب الزاد والراحلة له يجب عليه قبولها أيضاً. وفيه وجه آخر: أنه لا يجب القبول، لأن المنة تكثر في ذلك ما لا يكثر في مجرد البذل. وأما دعواهم ببيان المعنى، وقولهم: ((إن الأصل هو القدرة بالمال الذي يكون له)). قلنا: لا نسلم، بل الأصل هو القدرة بأي وجه كان، لأن الشرط تيسير الوصول إلى الحج بالإمكان الذي يوجد إما بماله ولده، فأما اعتبار ماله فلا معنى له، كما نقول في الوضوء، فإنه لا فرق بين أن يكون إمكانه بماله أو بمال غيره وقد بذل ذلك الغير له. وقولهم: ((إن الماء يوجد مباحاً والزاد والراحلة لا يوجدان مباحان)).

قلنا: وبأن كان يوجد الماء مباحاً في الأصل بخلاف الزاد والراحلة لم ينبغي أن يفترقا في مسألتنا، والماء مملوك للغير إباحة له، وكذا الزاد والراحلة إلا أن التعلق بفصل الماء في الوضوء يقتضي أن لا يفترق الحكم بين أن يكون الباذل أجنبياً أو غيره. وقد بينا أن الأصح التفريق/ وحرف الجواب ما قدمنا، ونقول: إن الإمكان أمر حسي لا يتصور أن يختلف بماله ومال غيره، والموجود بمال غيره هو الموجود بماله ولا يتصور أيضاً أن يجعل أحدهما أصلاً والآخر فرعاً. وأما تعلق مشايخهم بالمعضوب الموسر، فقولهم: ((إن تعلق الحج بالبدن فوق تعلقه بالمال)). فليس بشيء، لأنا إن سلمنا لهم ذلك لكن القدرة على الحج بدناً قد وجد، لأن بدن غيره يقوم مقام بدنه على ما عرف، لأن الحج يجب بمجرد القدرة بدليل أن الفقير إذا حصل بعرفات فوجب أن يجب بمجرد المال، والاعتماد على ما سبق. وأما فصل الميت الذي ذكروه، فليس بشيء، لأنه ليس من أهل التكليف ابتداء بخلاف المعضوب فإنه من أهل التكليف ابتداء، وإنما بقى الحج على الميت بقاء الديون فكما تبقى سائر الديون عليه بقى الحج عليه أيضاً. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) وجوب أداء الحج على التراخي

(مسألة) وجوب أداء الحج على التراخي عندنا. ومعنى قولنا: ((على التراخي)) أنه ليس على الفور. وعندهم: على الفور، وزعموا أنه قول أبي يوسف. وحكوا عن محمد بن الحسن أنه قال على التراخي. قالوا: وليس عن أبي حنيفة رضي الله عنه رواية في ذلك. وقال بعضهم: عنه روايتان.

وقد صححوا كونه على الفور. لنا: إن مطلق الأمر لا يقتضي الفور، ولو يوجد في الحج إلا مطلق الأمر، والدليل على أنه لا يقتضي الفور أن قول القائل لغيره: ((افعل كذا)) حقيقة طلب الفعل وليس فيه تعرض للوقت بوجه ما فصار جميع أوقات الحج وقتاً له على وجه واحد حتى إنه في أي وقت أدى يكون ممتثلاً للمأمور، وهذا كالمكان في الصلاة فإن الله تعالى أمر بالصلاة في زمان ولم يتعرض للمكان فصار جميع أمكنة الصلاة مكاناً للصلاة على وجه واحد حتى إن في أي مكان أدى يكون ممتثلاً للمأمور، كذلك ههنا. والحرف أن الأمر بالفعل لا يقتضي إلا طلب الفعل، وأما التعجيل والتأخير فليس عليه دليل من صيغة اللفظ فصار مطلق الأمر مقتضياً مطلق الفعل فتقييد الأمر تقييد زائد لابد فيه من دليل زائد، وإذا سقط التقييد بالفورية والبدار من ظاهر اللفظ فصار هو بالتأخير مؤخراً للفعل من زمان الفعل إلى زمان الفعل فجاز له ذلك، وهذا كما لو أخر الصلاة من أول وقتها إلى آخر وقتها، فإنه يجوز للمعنى الذي بينا. يدل عليه أن الواجب من الفعل كما يصلح واجباً على الفور والبدار حتى يتضيق عليه بوجود أول أوقات الإمكان فيصلح واجباً لا على الفور والبدار حتى يتوسع عليه في مدة عمره فيفعله في أي وقت أحب من أوقات عمره من غير أن يخلي الوقت عنه، والدليل على أن الإيجاب على مثل هذا جائز، المشروع والمعقول:

أما المشروع: فلأنه قد وجد نظير ذلك في الزكوات والكفارات وقضاء رمضان إذا كان الفطر بعذر، كذلك على نحوه وجب الصلاة في الأوقات المحدودة، لأنها أوقات تفصل عما يسع للفعل فلم يكن الوجوب إلا على هذا الوجه وهو الأمر بالفعل لا على وجه الفور والبدار لكن على التوسع في الوقت المضروب حتى يفعله في أي وقت أحبه من غير أن يخلى الوقت المضروب منه، فصار الوقت المحدود هنالك كمدة العمر ههنا. وأما المعقول: فلأن الإيجاب على وجه التضييق ومبادرة الفعل، كما يجوز أن يكون هو مراد الآمر ومصلحة المأمور فيجوز أن يكون الإيجاب على وجه التوسيع في الوقت مراد الآمر ومصلحة المأمور، فإذا جاز أحدهما جاز الآخر، فهذا الذي ذكرناه هو المعتمد من الدليل، وهو في نهاية القوة، وفي المسألة إلزامات حكمية ذكرناها في التعليق، واقتصرنا في هذا الموضع على هذا القدر، وفيه الغنية. وقد تعلق الشافعي رضي الله عنه بتأخير النبي عليه السلام الحج من السنة التي وجبت فيها إلى السنة الأخيرة من سني عمره، وهي السنة العاشرة مع التمكن من فعله فإنه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة في سنة ثمان في شهر رمضان وعاد إلى المدينة، واستخلف على الحج عتاب ابن أسيد، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه في السنة الثانية وهي سنة تسع، وحج سنة عشر فقد أخر سنتين من أول سني الإمكان. ولنا في رسول الله أسوة وبه قدوة مما أطلق له فمطلق لنا، وإن ادعوا عذراً في التأخير فلابد من بيانه. وأما حجتهم: قالوا: الأمر المطلق على الفور، لأنه مفيد للوجوب، والواجب ما لا يسع تركه والتأخير ترك.

يبينه: أن الأمر بالفعل قد تناول أول سني الإمكان فأفاد الوجوب فيها، وإذا وجب الفعل في أول سني الإمكان لم يجز تركه، لأنه إذا جاز تركه لم يكن واجباً فعله. وحرفهم: إن الواجب ما لا يجوز تركه في زمان وجوبه. فإن قلتم: إنما يجوز إلى بدل وهو العزم. قال: لا يجوز أن يكون العزم بدلاً عن الفعل، لأنه لو كان بدلاً من الفعل لقام مقامه بحال في حصوله المطلوب منه وتأدى المأمور به كسائر الأبدال، ولأن العزم على الفعل واجب قبل دخول الوقت، وما يجب قبل دخول الوقت لا يتصور أن يقوم مقام الواجب في الوقت، ولأنه لا دليل على كونه بدلاً، ولا يجوز إثبات بدل بلا دليل، فدل عليه أنكم جوزتم تركه مطلقاً لا إلى بدل، وهذا لا يجوز لأنه يكون نقلاً ولا يكون فرضاً. قالوا: ولأن التأخير يؤدي إلى أقسام كلها باطلة فيكون التأخير باطلاً، لأن ما يؤدي إلى الباطل باطل، وإنما قلنا ذلك، لأنه لا يخلو: إما إن جاز التأخير لا إلى غاية أو إلى غاية. فإن قلتم يجوز تأخيره لا إلى غاية فيكون باطلاً، لأنه ينافي الوجوب فإن الوجوب لابد له من فائدة، فإذا جوزنا التأخير لا إلى غاية سقطت فائدة الوجوب، وهذا لأن الأمر طلب الفعل، فإذا جاز التأخير على الإطلاق بقى أمر بلا فعل، وإن قلتم: وجد بدله وهو العزم، فقد تكلمنا عليه. وإن قلتم: يؤخر ويوصي، فليس كل الأوامر مما تجوز فيها الوصية، ولأنا إذا قلنا يؤخر المأمور ويوصي فكذلك وصيه يوصى، ووصى وصيه يوصى فيؤدي إلى تسلسل الوصية أبداً، فلا يوجد فعل ما.

وإن قلتم: يجوز التأخير إلى غاية، فلا تخلو تلك الغابة، إما أن تكون غاية معينة أو موصوفة. فأما المعينة: بأن تقول أخر الفعل إلى سنة كذا أو يوم كذا، وتعيين السنة أو اليوم، وهذا غير موجود بالإجماع. وأما الموصوفة: فهو أن يطلق له التأخير إلى أن يغلب على ظنه أنه لو أخر فات وهذا أيضاً باطل، لأن الظن لا عن إمارة هو الظن السوادي، وذلك غير معتبر، وأما الظن عن إمارة من علو سن أو مرض فالناس يختلفون في ذلك، وإنما لا يظن أصلاً فيؤخر ويموت فيفوت الفعل أو يموت فجاءةً وبغتة فيفوت أيضاً، والأمر بالفعل يقتضي الفعل لا محالة، وبهذا الطريق وجب الفعل، وفيما قلتم إخراج الأمر من أن يكون موجباً للفعل لا محالة، وأيضاً ما قلتم يقتضي أنه إذا أخر حتى مات أنه لا يعصي الله بتأخيره فيكون هذا والنافلة سواء. قالوا: وأما الكفارات والزكوات والقضاء وغير ذلك قالوا على هذه الطريقة: إن قضية الأمر فيها أنها على الفور وإن جوزنا التأخير إنما جوزنا بقيام دليل. وأما أبو زيد فقال في هذه المسألة: إن التأخير عن السنة الأولى تفويت فلا يجوز التأخير عن السنة الأخيرة من سني العمر، وإنما قلنا ذلك، لأن فوات العبادة بفوات وقتها، والحج له وقت معين من السنة فإذا أخر عنه فقد فات، ألا ترى أنه فعله لا يجوز والتفويت محظور. قالوا: فإن قلتم إن لم يحج في هذه السنة يحج في السنة القابلة قال: إنما يمكنه الحج في السنة القابلة عند مساعدة الحياة إلى السنة القابلة وقد

يجوز أن يساعد، ويجوز أن لا يساعد فلا يجوز إطلاق تفويت متيقن به بإدراك مشكوك فيه. وربما يقولون: لو جعل غير مفوت لجعل بإدراكه وقت الحج في السنة الثانية فإذا كان إدراك الحج في السنة الثانية على الشك لم يجز الحكم بإدراكه ولم يذهب الفوات. قالوا: وليس كما لو أخر القضاء إلى الغد، لأنه وإن فات الصوم بدخول الليل لكن موته الليل نادر، والنادر لا يعتبر. فأما موته في السنة الثانية فليس بنادر، وهذا لأن السنة مدة طويلة ليتقابل فيها احتمال الحياة والممات ولا يظهر رجحان، فأما الليلة فمدة قريبة فيترجح جانب الحياة. قالوا: وعلى هذا تخرج الزكوات والكفارات، لأن الفوات لا يوجد بالتأخير فإن وقت فعلها وقت ممتد ولي بوقت يوجد وينقضي مثل ما يكون الحج. قالوا: وأما قول مشايخكم: ((إنه يكون مؤدياً للحج في أي سنة فعله)). قال: إنما كان كذلك لأنا إنما جعلناه مفوتاً، لأنه لا يقين لإدراكه وقت الحج في السنة الثانية. قال: إدراك جاء اليقين وذهب الشك فنزلت السنة الثانية منزلة السنة الأولى، وكذا في الثالثة والرابعة إلى ما بعدها من السنين. قالوا: وأما تعلقكم بتأخير النبي عليه السلام حجه إلى آخر عمره، فإنما يستقيم التعلق به إذا كان عن غير عذر فبينوا أنه أخر لا عن عذر حتى يصح التعلق به.

والدليل عليه: أن عندنا يجب فعل الحج في أول سني الإمكان ولا يجوز التأخير. وعندكم: الأفضل أن لا يؤخر أيضاً، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لا يترك الأفضل ولكن ترك لعذر، كذلك عندنا ترك الواجب بعذر جائز. وقد قال بعضهم: إنما أخر بعذر الفقر، لأنه قد كان اختاره على الغنى، أو أخر لأنه خاف المشركين على المدينة فلم يمكنه أن/ يقربها. أو أخر لأن العرب كانوا يحجون على سنن المشركين وكان بينه وبينهم عهد فلم يرد أن يحج وهم يظهرون أعلام الشرك بحضرته ولا يكون منه تغيير. وقال أبو زيد على طريقته: ((إن الله تعالى كان أعلم النبي عليه السلام أنه لا يموت حتى يحج فلم يكن التأخير تفويتاً، وكان على يقين من الإدراك في المستقبل وهذا لا يوجد في غيره)). الجواب: أما دلائلهم في أن الأمر المطلق على الفور. نقول: قولكم: ((إن الأمر يفيد الوجوب)) مسلم. وقولكم: ((إن الواجب ما لا يسع تركه)) مسلم، ولكن هذا ليس بترك

على الإطلاق بل هو ترك في وقت ليؤديه في وقت مثله مع استواء الوقتين فيما يرجع إلى فعل المأمور. وقولهم: ((إنه وجب في الوقت الأول)). قلنا: بلى، ولكن على التوسع لا على التضييق، ومعنى التوسع أن جميع زمان العمر مجعول كالوقت الواحد في قبول فعل المأمور، والتخير ثابت للمخاطب بالفعل ليؤديه في أي أوقات هذا الزمان الممتد متى شاء بشرط أن لا يخلي العمر من فعله. وقد بينا أن هذا جائز مشروعاً ومعقولاً، فإذا عرف هذا تبين الفرق بين هذا وبين النفل، لأن في النفل يجوز إخلاء العمر عنه. واعلم أنا لا نزعم أن العزم يدل على الفعل الواجب ولا يحتاج إليه وإن كان قد قاله جماعة من الأصوليين، لأنه إذا عرف الوجوب على الوجه الذي بينا كان ترك فعله في أول أوقات الإمكان مطلقاً ولم يحتج إلى إقامة بدل مقامة، وهذا لأن الآفة للمخالف جاءت من الجهل بمعرفة تنوع الواجب، فإذا عرف تنوع الواجب وإنما يكون مضيقاً مرة وموسعاً أخرى ففارق النفل في إلزام الفعل على الجملة وفارق المضيق في جواز التأخير ليؤديه في وقت آخر مثل الوقت الأول، فصار جواز التأخير عن أول سني الإمكان، لأنه واجب موسع، لا لأنه ليس بواجب موسع. وأما قولهم: ((إن التأخير لا يخلو من كذا)). قلنا: يجوز التأخير عندنا إلى أن يغلب على ظنه أنه لو أخر عن هذه السنة يعجز عن فعله في السنين التي تليها.

وقولهم: ((إن الناس يختلفون في الظنون)). قلنا: نحن نعلم أن للموت إمارات وعلامات ونعلم أن تلك الإمارات يغلب على ظن العاقل ما ذكرناه والحكم بالإمارة المغلبة للظنون صحيح في الشرع بدليل الأقيسة والاجتهادات. وأما غلبة ظن السوادي من غير إمارة غير معتبر، فأما إذا كان عن إمارة فهو معتبر مثل غلبة الظن عن الأشياء والمعاني المخيلة معتبرة في الأحكام. وأما غلبة الظن لا عن شبه ولا عن معنى مخيل غير معتبر، وقد ورد لهذا نظير في الشرع فإن الوصية واجبة في ابتداء الإسلام على المريض إذا غلب على ظنه الموت من ذلك المرض. فإن قالوا: إذا مرض يمكنه أن يوصى، وإذا مرض لا يمكنه أن يحج. قلنا: لابد له من مرض معجز ليضيق الواجب عليه، لكن نقول: إذا غلب على ظنه أنه إذا أخر عجز عن أدائه يتضيق وبناء الحكم على غالب الظن عن أمارة مثل بناء الحكم على النص بدليل الشرعيات وكان الشرع ضيق الصلوات الموظفة في الأوقات بوجود آخرها من حيث النص، وضيق الحج وأشباهه من الأوامر المطلقة بوجود آخر أوقاتها من حيث غالب الظن، والكل صحيح جائز. وأما العصيان وإلزام سمته تارك الحج فقد تخبط فيه الأصحاب. والأولى أن نقول: ((يجوز التأخير ولا يوصف بالعصيان إلى أن يغلب على ظنه ما ذكرناه،

فإذا وجد غلبة الظن وأخر لحقته حينئذ سمة العصيان، وإن مات لقي الله تعالى عاصياً وإن مات فيما بين ذلك بغتة قبل أن يوجد غلبة الظن عن أمارة تقول: لا يكون عاصياً)). فإن قالوا: نعم، ترك ولكن إنما يترك واجباً موسعاً عليه، وقد كان ينتظر تضيقه عليه بوجود غلبة الظن، وذلك أمر معهود في عادات الناس فإذا اخترمته المنية، واختزلته من بين سائر الناس قبل أن يبلغ المعهود في أجناسه لم يكن عليه عيب ولم تلحقه سمة العصيان لأنه كان على عزم أنه إذا تضيق عليه لا يؤخره مثل من عليه الصلاة مات قبل أن يبلغ آخر الوقت، وكذلك على أصلهم في الزكوات والكفارات إذا أخرها ومات في خلال ذلك. فهذا تتمة ما قصدناه من الجواب عن هذه الطريقة المذكورة على سمة الأصول وهو تام بين بحمد الله عز وجل. وقد انتصب جماعة من المنتسبين إلى الكلام للذب عن أصول الفقه، وظنوا أنهم يمشون من ذلك ما يعجز الفقهاء عن تمشيه، وادعوا أنهم أصحاب الحقائق وأن الفقهاء أرباب الأشباه والظنون من غير عثور وعلى حقيقة. وعندي أن المتكلمين أجانب عن أصول/ الفقه، ومن لم يعرف معاني الفقه وقوانينه لا يجوز الاعتماد عليه في معرفة أصولها فلا ينبغي لفقيه أن يعدل عن سمة أهل الفقه وأن يأخذ أصول مذهبه عن من لا يعرف

معاني مذهبه فلهذا وأمثاله ........ البيان عن الفقه وقل طلابه واستولى على الناس محض التقليد والله المستعان، وسنتبين في أصول الفقه إن شاء تعالى ما يكشف عن عورات هذه الطبقة وما تقر به أعني المتبعين للحقائق الذابين عن معاني الفقه ومسالكه. وأما طريقة أبي زيد ففي نهاية الضعف فإن حرفه في طريقته أن الحياة ربما لا توجد في السنة الثانية. قلنا: الغالب الوجود، لأن الموت من غير أمارات الموت من كبر ومرض ووجود ضعف وغير ذلك نادر، والأغلب أن الشاب الطري يعيش إلى أن يهرم وعلى هذا بنى الله أمر العالم ولو كان على خلاف ذلك لخربت الدنيا ولم تبق إلى هذا الوقت. وإن تعلقوا بجواز الوجود، فهذا غير معتبر بدليل قضاء الصوم بؤخره إلى الغد ويجوز أن يموت الليلة، وكذلك الصلاة يؤخرها إلى أن يفعلها في آخر الوقت ويجوز أن يموت قبل ذلك، وهذا لأن الأصل موافقة الحياة للآجال والمدد المضروبة وإن كانت على الشهور والسنين الكثيرة وأحكام الشرع مبنية على ذلك. ولهذا لو أجل الأثمان إلى السنين الكثيرة أو كاتب العبيد ونجم إلى سنين يجوز، وكذلك الدية على العاقلة تجب إلى ثلاث سنين ولو اعتبرنا ما قالوا لم يصح شيء من ذلك، كما لو ضرب الأجل إلى زمان لا يعيش إلى مثله قطعاً من مائتي سنة أو ثلثمائة سنة وأمثال ذلك. ويقال لهم بطريق الجدل: لو ثبت الفوات لثبت لعدم الإدراك في السنة الثانية وذلك على الشك فلا يثبت الفوات بالشك.

والاعتماد على الأول. وأما التعلق بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحج فصحيح، وقد كان صلى الله عليه وسلم واحداً لما يحج به، ألا ترى أنه كان يجهز الجيوش ويبعث السرايا وقد فتح الله عليه الفتوح ووسع عليه الدنيا. وقولهم: ((إنهم كانوا يحجون على سنن الشرك)). قلنا: إن كان ثم عهد فلا بأس بترك التغيير، لأنه وفاء بالعهد، وإن لم يكن فكان ينبغي أن يحج ويغير. وأما قولهم: ((إنه علم أنه لا يموت حتى يحج)). قلنا: هذا لابد فيه من نقل، ودعوى علم الغيب على الرسول محال، وإنما أخرنا للبناء على غالب الظن هذا هو الأصل إلى يثبت غيره، والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) من عليه فريضة الحج إذا نوى التطوع يقع عن الفرض

(مسألة) من عليه فريضة الحج إذا نوى التطوع يقع عن الفرض عندنا. وعندهم: لا يقع. وعلى هذا لا يجوز للصرورة أن يحج عن غيره. وعندهم: يجوز.

لنا: ما رواه الحسين بن ذكوان قال: حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول: يلبي عن شبرمة فقال له رسول الله: هل حججت أنت قط؟ قال: لا، قال: لا، قال هذه عنك وحج عن شبرمة)). وروى أبو بكر بن عياش عن عطاء عن ابن عباس قال: ((سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: عن نفسك فلب)).

وفي رواية ثالثة: ((أيها الملبي عن فلان إن كنت لم تحج حجة الإسلام فلب عن نفسك)) والخبر نص. قالوا: روى خالد بن صبيح عن الحسن بن عمارة عن عبد الملك بن ميسرة عن طاووس عن ابن عباس أن النبي عليه السلام سمع رجلاً يلبي عن نبيشة، فقال: (أيها الملبي عن نبيشة هل حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: هذه عن نبيشة وحج عن نفسك)). الجواب: (إنه تفرد بهذه الرواية الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث والمحفوظ عن ابن عباس حديث شبرمة) الذي ذكرناه. وقد روى الحسن بن عمارة مثل ما رواه غيره، ذكره الدارقطني في السنن، وقال: ((وهذا هو الصحيح عن ابن عباس وما قبله وهم، قال: والحسن بن عمارة كان يرويه على ما رووا ثم رجع إلى الصواب فحدثه على موافقة غيره من الرواة وهو متروك الرواية على كل حال).

والمعنى: أن وقوع الحج المنوي عن فريضة نوع نظر من الشرع للعبد، وقد ورد مثل هذا النظر في الحج بدليل أنه لو أطلق النية، فإنه يقع عن الفرض ونية المطلقة ونية النفل واحد لأنه ليس للنفل وصف زائد على مطلق العبادة. وقولهم: ((إنها نفل)) معناه ليس بفرض، ولهذا المعنى في جميع العبادات إذا أطلق النية تقع عن النفل، ولكن إذا أطلق نية الحج يقع عن الفرض نظراً من قبل الشرع، كذلك إذا طاف النفل وعليه فريضة الطواف يقع عن الفرض أيضاً، وإنما كان هذا التخصيص من النظر للعبد في أمر الحج، لأنه عبادة شاقة ويحتاج في أدائها إلى كلف شديدة وقطع شقة بعيدة، وتحمل مؤنات كثيرة على ما ورد به نص الكتاب فقال تعالى: {لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ}، ولا يجوز أن يقال: إن هذا في حق بعض الناس دون البعض، لأن هذا موجود في حق أكثر الناس وإنما يوجد العدد اليسير حضوراً لحضرة الكعبة. فأما عامة الناس فإنهم يدانونه من البعد ويضربون أكباد الإبل ويقطعون المفاوز البعيدة والبراري الشاسعة حتى يصلون إلى الحج فاحتاج لهذا المعنى من عليه الحج إلى نوع نظر من قبل الشارع فكان من النظر أن منع من عليه فريضة الحج أن يقصد النفل منه وعين عليه الفرض ثم اكتفى منه بنية أصل الحج وألغى كل وصف يضمه إليه مما لا يلائم صفة الواجب عليه من وصف نفل أو نية عن الغير أو نية نذر وما أشبه ذلك فصار الحج في هذه الصورة مثل الإسلام المفروض ولو أسلم بنية النفل أو أسلم عن الغير فإنه يكون إسلامه عن الفرض الذي عليه بكل حال، كذلك ههنا.

وأما حجتهم: قالوا: عبادة مقدرة بأفعالها فلا يقع بفعلها عن فرضها. دليله: الصلاة. والدليل على أنها مقدرة بالأفعال أنه إذا سئل عن الحج فإنه يعلم بالأفعال فيقال: إحرام ووقوف وطواف وسعى ورمى وحلق، مثل الصلاة تعرف بالأفعال فيقال: افتتاح وقيام وقراءة وركوع وسجود وقعود، وهذا لأن العبادة لما كانت أفعالاً فوجوبها في الذمة وكان الوقت خالياً عنها إلى أن يأتي بها ثم إذا أتى بها لا يكون الوقت لتقدير العبادة حتى إذا قدر بنوع من العبادة لا يقبل غيره بل كان محلاً وشرطاً للعبادة مثل الوضوء شرط للصلاة فإن فعل الفرض فيه صح وإن فعل النفل فيه صح، ومثل الوضوء إن صلى الفرض به يصح وإن صلى النفل به يصح وهو مثل وقت الصلاة. قالوا: وأما الصوم فإنه عبادة مقدرة بالوقت فإذا قدرت عبادته لم يبق غيرها مقدرة به وصار ذلك الوقت مسمى بهذه العبادة على التخصيص فلم يتصور أن يكون لغيرها مثل ما يوضع شيء في مكان وشغل به لا يتصور أن يكون غيره مشغولاً به، وكذلك من استأجر رجلاً ليعمل له عملاً في وقت معلوم فعلى أي وجه عمل ذلك العمل يكون عن ذلك العمل المسمى فيه بالعقد. قالوا: وأما إذا أطلق النية إنما وقع عن الفرض، لأنه وجدت نية الفرض بدلالة الحال وإن لم توجد بالصريح والنص، ودلالة الحال هي أن الإنسان لا يتكلف أداء مثل هذه العبادة عن جهة النفل وعليه الفرض

فهو وإن أطلق النية ولم يرده صريحاً فكأنه أراده دلالة، ومثل هذه الدلالة لا توجد في الصلاة غير أن هذه الدلالة إنما يصار إليها إذا لم يوجد التصريح بالنفل، فأما إذا صرح بالنفل سقط حكم الدلالة مثل نقد البلد فإنه يتعين في البياعات بدلالة الحال ثم إذا وجد التصريح بغيره سقط دليل الحال. قالوا: وأما إذا طاف عن النفل وعليه طواف الفرض فذلك فعل مستحق عليه بأصل الإحرام فتغيره بالنية باطل، مثل ما لو نوى بسجود الصلاة سجود النفل فإنه تبطل نيته ويقع عن الفرض. الجواب: أن أصل كلامهم، مسلم، ولكن يدخل عليه الصوم، وليس لهم عذر واضح. وقولهم: ((إنه مقدر بالزمان)). قلنا: وإن كان كذلك لكن الواجب عليه فعل يفعله وهو الكف عن قضاء الشهوات على ما عرف، وليس بشيء محسوس فوضع في مكان حتى لا يتصور أن يكون ذلك المكان مشغولاً بغيره، وكما أن الوجوب في أفعال الحج والصلاة يلاقي الذمة، كذلك الوجوب في فعل الصوم يلاقي الذمة، وكما أن الوقت في الصلاة والحج يكون خالياً إلى أن يأتي بالأفعال كذلك في الصوم يكون الوقت خالياً إلى أن يأتي بالفعل الذي هو الصوم، وكما يقبل وقت الحج والصلاة الخلو عن فعل العبادة أصلاً كذلك وقت الصوم يقبل الخلو عن الصوم أصلاً فيبقى على هذا أنه إذا أتى بالفعل لا يكون آتياً بالفرض ويصير كأنه لم يأت بالصوم أصلاً، وعلى الجملة لا يتضح لهم عذر عن الصوم بحال.

وأما عذرهم عما إذا أطلق النية، فليس بشيء، فإنه لو أبهم النية في الإحرام ولم ينو حجاً ولا عمرة فإنه لا يقع عن الحج عندهم، وإن كانوا يقولون إن العمرة تطوع والحج فرض، ودلالة إن كانت توجد إذا أطلق النية في الحج فيوجد إذا أبهم بأن أحرم ولم ينو حجاً ولا عمرةً فاجعلوا إحرامه عن الحج في هذه الصورة كما جعلتم حجه عن الفرض في تلك الصورة لأجل دلالة الحال. فأما ما قالوه من دلالة الحال موجود في الموضعين، وهذا لا يلزم على أصلنا لأن عندنا العمرة فرض كالحج سواء، وإن كان قد أدى العمرة فإن إحرامه كيف فعله يقع عن ....... فإن الاعتبار/ دليل الحال ساقط من وجه آخر، وذلك أن الإنسان لا يتكلف لفعل هذه العبادة الشاقة ويحمل المؤنات الكثيرة ثم يدع نية الفرض فدلالة الحال موجود في ترك الفرض لا في فعل الفرض، فاجعلوا مطلق النية بمنزلة نية النفل بدليل الحال فإن هذا أقرب إلى الصواب. وأما مسألة نقد البلد، فليس يدخل على هذا، لأن الكلام فيما يحتاج إلى النية من العبادات. فأما أمر المعاملات فعلى خلاف أمر العبادات ولا حاجة فيها إلى النية أصلاً، والعرف حكم في المعاملات في كثير من المواضع فجعل أيضاً حكماً في هذا الموضع. وأما مسألة الطواف فلازمة. وقولهم: ((إنه مستحق عليه فعله بعقد الإحرام)).

قلنا: نعم، ولكن الوقت واسع فقولوا: إذا طاف بنية النفل يقع عن النفل ثم إذا طاف بعد ذلك عن الفرض يكون عما عليه من الفرض مثل من عليه فرض الصلاة إذا فعل فعلاً، ومع ذلك لم يجز ووقع عن الفرض، دل أنه كان للمعنى الذي بيناه من النظر الشرعي بالفائت في أمر الحج على الخصوص. وأما قولهم: ((لو سجد بنية النفل وعليه سجود الفرض يقع عن الفرض)). قلنا: هذا عندكم، أما عندنا تبطل صلاته. والله أعلم. * * *

(مسألة) لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج

(مسألة) لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج عندنا ويكون إحرامه لعمرة. وعندهم: ينعقد الحج. وحرف المسألة: أن عندنا فعل من أفعال الحج. وعندهم: شرط الحج وليس بفعل من أفعاله.

وعلى هذا الخلاف، تحريمه الصلاة. لنا: إن الإحرام فعل من أفعال الحج فلا يجوز في غير وقته. دليله: سائر أفعاله، وكما لا تجوز أفعال الصلاة في غير وقت الصلاة، والدليل على أنه فعل من أفعال الحج أنه شروع في الحج، والحج فعل عبادة، والشروع في فعل عبادة لا يكون إلا بفعل العبادة، وإن شئت قلت: الإحرام شروع في أداء العبادة والشروع في أداء العبادة لا يكون إلا بأداء العبادة. والوجيز من الكلام هو أن الشروع في الأداء أداء، وهذا دليل في نهاية القوة، وهو على مثال الدلائل القطعية. يبينه: أنه يقال له قبل الإحرام حج، ويقال له بعد الإحرام أتم الحج، ولو قيل له بعد الإحرام حج يكون القائل هاذياً لاغياً، وقبل الإحرام يكون في قوله مستقيماً محقاً، ولأنا اجتمعنا على أن النية شرط عند الإحرام، وكذلك في الصلاة عند التحريمة، والنية إنما تشترط لصحة الأداء، ولو لم تكن التحريمة من الصلاة والإحرام في الحج من الأداء لما شرط إحضار نية الأداء عند التحريمة والإحرام في الحج من الأداء لما شرط إحضار نية الأداء عند التحريمة والإحرام فثبت بهذه الدلائل أن الإحرام فعل من أفعال الحج. وإذا عرف هذا فنقول:

وقت الحج هو الأشهر المعلومة، وذلك شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. والدليل عليه: الوحي الناطق، والحكم الصادق. أما الوحي فقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ومعناه وقت الحج أشهر معلومات، لأن نفس الحج أفعال وليس بأشهر، غير أن العبادة تذكر ويراد بها وقتها يقال: شك صلاة الظهر أي وقت الظهر، وقال النبي عليه السلام: ((إن للصلاة أولاً وآخراً)) معناه لوقت الصلاة أولاً وآخراً بدليل أنه فسره بالوقت فقال: إن أول وقت الظهر كذا وآخر وقته كذا. يدل عليه: أنه تعالى قال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}، ومعناه فعل فيهن الحج يعني في هذه الأشهر. وقد أجمع المفسرون أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. وأما الحكم فعلى أصلنا ظاهر، وإنما الحاجة في بيان ذلك على أصلهم فالدليل (أنهم قالوا: فيمن أحرم لعمرة في رمضان وقضاها ثم حج من عامه لا يكون متمتعاً، ولو أحرم بالعمرة في شوال وقضاها ثم حج من

عامه يكون متمتعاً، وكذلك على أصلهم لو أحرم بالعمرة في رمضان وأتى بأفعالها في شوال، وإنما افترقت الصورتان لأن المتمتع هو الذي يجمع بين النسكين في وقت الحاجة ولو كان رمضان وقتاً لكان متمتعاً في الحالين. وكذلك قالوا: لو أحرم بالحج في رمضان وسعى فيه كان عليه أن يعيد السعي إذا طاف يوم النحر، ولو كان طاف في شوال والمسألة بحالها لم يعد السعي، لأن السعي من أفعال الحج فلا يجوز أداؤه قبل الوقت) وفي المسألة الأولى أتى به خارج الوقت، وفي المسألة الثانية أتى به في الوقت. قالوا: أيضاً (لو وجد الزاد والراحلة في رمضان وحضره الموت لا يلزمه أن يوصى بالحج، ولو وجد في شوال وحضره يلزمه أن يوصى به)، والمفرق ما بينا. فثبت أن وقت الحج مقصور على هذه الأشهر، وثبت بما قدمنا أن الإحرام فعل من أفعال الحج فلم يجز قبل وقته. وأما حجتهم: قالوا: الإحرام شرط لأفعال الحج وليس/ بفعل من أفعاله ولا هو ركن من أركانه، ومحله محل الطهارة في الصلاة وقت فعل العبادات لا يشترط لشرط العبادة، ألا ترى أنه يجوز الوضوء قبل دخول الوقت ولم

يعتبر لصحته وجود وقت الصلاة، ثم الدليل على أنه شرط وليس بركن أنه معنى يستوعبه كل أفعال العبادة مثل الطهارة في الصلاة وهذا هو حد الشرط وهو ما يراعي قيامه لفعل العبادة كلها إلى أن تنتهي إلى آخرها كالطهارة وستر العورة والمكان والوقت في باب الحج والجمعة. وأما حد الركن ما تؤدي به العبادة ويكون انقضاؤه بشروع في ركن مثله كالقيام يكون انقضاؤه شروعه في الركوع، والركوع ينقضي بالسجود، وهذا لأن العبادة التي تشتمل على أفعال مختلفة تكون أفعالها على التوالي والترادف يفرغ من فعل ويشرع في فعل بدليل أفعال الصلاة وكذلك سائر أفعال الحج، فلو كان الإحرام فعلاً من أفعال الحج لكان سبيله هذا ولم تعتبر استدامته ليؤدي كل الأفعال ثم يتحلل منه. قالوا: ولأن أفعال الحج تنفصل عن الإحرام بدليل أنه يحرم في أول هذه الأشهر ثم إنه يأتي بالأفعال في الأيام المخصوصة ولو كان الإحرام فعلاً من أفعال الحج لم يجز أن ينفصل عنها كسائر أفعاله وكان من حقها أن توجد على الترادف والتولي مثل أفعال الصلاة، ولأن الحج زيارة أمكنة معلومة وحضور مشاهد مخصوصة تعظيماً لها وقضاءً لحقها لامتثال أمر الواضع لتلك الحرمات والمثبت لتلك الحقوق، والتلبية ليس من هذا في شيء وإنما هي ذكر باللسان وليس عبادة الحج عبادة الأذكار إنما هي عبادة الأفعال على ذلك المنهج المخصوص. قالوا: ولهذا يختص كل فعل من أفعال الحج بمكان مخصوص، وكذلك بزمان مخصوص، بخلاف الإحرام فإنه لا يختص بزمان على التعيين ولا بمكان. فثبت بهذه الدلائل أنه شرط وليس بركن فأشبه الطهارة على ما ذكرنا.

قالوا: (وليس كالخطبة في الجمعة حيث يعتبر لها وقت الجمعة وإن كانت شرطاً، لأن وقت الجمعة إنما اعتبر لها، لأنها أقيمت مقام الركعتين) في الشرع على ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم، فإذا أقيمت مقام الركعتين لم يكن بد من اعتبار وقت الصلاة لها. قالوا: ولا يجوز أن يقال إنه لو كان شرطاً لما لزمه المضي في العبادة بمباشرة الشرط، كما لا يلزمه المضي في الصلاة بمباشرة الطهارة، لأن عندنا وإن كان الإحرام شرطاً لكنه مع ذلك عقد على الأداء وهو نظير عقد الإجارة على أصلنا فمن حيث أنه عقد على الأداء يلزمه المضي في الحج بخلاف الطهارة. قالوا: ولهذا يكره الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، لأنه عقد على الأداء. وبعضهم قال: إنما كره لخوف أن يقع في محظورات الحج لامتداد الوقت فيكون التقديم سبباً للوقوع في الجناية فيكره لهذا المعنى. والجملة أنهم يقولون: الإحرام شرط لأداء العبادة وعقد على أداء العبادة وإلى أيهما نظرنا لا يكون ركناً من أركان العبادة فلم يعتبر وقت العبادة في فعله. قالوا: وأما تحريمة الصلاة إنما اعتبر لها وقت الصلاة وإن لم تكن من الصلاة عندنا لأنها لا تصح إلا متصلة بالأداء وهو القيام فينظر لها ما يشترط في الصلاة لأجل القيام بخلاف الإحرام فإنه يوجد منفصلاً عن أفعال الحج فلا يشترط له ما يشترط لأفعال الحج.

وقد قال أبو زيد في الأسرار: ((إن الإحرام التزام الحج فأشبه النذر، واستدل في أنه التزام للحج بالوجوه التي بيناها. وقال أيضاً: إنه من وجه يشبه النذر، لأنه التزام غير متصل بالأداء في الحال ومن وجه يشبه تحريمة الصلاة، لأنه التزام يفضى إلى الأداء بنفسه من غير حاجة إلى عقد الأداء وعلى هذين الشبهين قسم الأحكام. قالوا: ولأجل الشبه بالتحريمة كرهنا الإحرام في غير أشهر الحج. قالوا: ولا يجوز أن يقال بأن الإحرام يتصل به الكف عن المحظورات وهو فعل من أفعال الحج، وذلك لأن الكف عن المحظورات ليس من أفعال الحج ولا هو أداء له بوجه ما. ألا ترى أنه وإن طال الكف شهر أو شهران لا يتأدى به شيء من الحج ويكون الحج بعد ذلك في الكمال مثل ما لو أحرم وأتى بالأفعال عقيبه، ولا يقال إذا مضى أوقات في الكف أنه فعل بعض الحج بخلاف ما لو أتى ببعض الأفعال، وهذا لأن الحج أفعال على ما ذكرنا أنه عبارة عن زيارة أمكنة على سبيل التعظيم لله تعالى وليس بعبارة عن الكف وليس من شرط الأداء أن يكون كافاً عما حظره عليه إحرامه كالصلاة عبارة عن الأفعال ولكن ن شرط الأداء أن يكون كافاً عما لا يليق بالصلاة من كلام الناس وغيره. وأما الصوم ففعله نفس الكف بدليل أنه إذا مضى بعض اليوم يقال فعل بعض اليوم. قالوا: ولا/ يجوز أن يقال إن الإحرام لو كان التزاماً للحج لكان يصح

لسنة أخرى كالنذر، لأنا قد ذكرنا أنه التزام كالنذر وعقد على الأداء كتحريمة الصلاة فمن حيث أنه التزام منفصل عن الأداء صح قبل الوجوب، ومن حيث أنه عقد على الأداء يتناول يصلح له كعقد الإجارة يتناول أول وقت يصلح له وأشبه نية الصوم فإنه إذا نوى بالليل أن يصوم يتناول أول اليوم الذي يليه ولا يتأدى بها صوم يوم آخر وإن صحت النية في غير وقت الأداء فلم يتناول نية اليوم الذي يليها، كذلك الإحرام يتناول الوقت الذي يليه، ولم يجز أن يستديم الإحرام ليؤدي الحج في سنة أخرى. الجواب: إنا قد دللنا على أن الإحرام أحد أفعال الحج ودعواه أنه شرط بعيد جداً بدليل ما قدمنا، وبدليل وجوب مباشرة أفعال الحج وتحريم تأخرها عن هذه السنة مباشرة شرط العبادة لا يوجب فعل العبادة بدليل الطهارة وستر العورة وهذا الدليل أيضاً وارد على قولهم: ((إنه التزام))، لأنه لو كان كذلك لصار كالنذر ولو كان كالنذر وجب أن يحتاج إلى ابتداء المباشرة ثم يكون ذلك إلى اختياره. وقولهم: ((إنه عقد على الأداء)). يقال لهم: على الأداء من حيث الشروع أو من حيث الالتزام؟ فإن قلتم: من حيث الشروع، جاء ما قلنا على ما سبق تقريره، وإن قلتم: من حيث الالتزام، فوجب أن يكون بمنزلة النذر ويكون حكمه على ما قدمنا. وقولهم: ((إنه يشبه هذا من وجه وهذا من وجه)). قلنا: الشروع في مثل هذا الكلام علامة عجز المدعى عن تمشية ما ادعاه، ويقال: إذا كان التزاماً لا يكون شبه بالشروع وإذا كان شروعاً لا يكون له شبه بالالتزام، وأيضاً إذا كان الالتزام المحض يجوز قبل دخول

الوقت والشروع المحض لا يجوز قبل دخول الوقت، فما يشبه الالتزام ويشبه الشروع لم يجز قبل دخول الوقت وما يجوز من وجه ولا يجوز من وجه لم قلتم إنه يجوز؟ وأما الذي اعتمدوا عليه في قولهم: ((إنه معنى يستوعب جميع العبادة)). فوجب الجواب عنه: إن الإحرام ركن من أركان الحج وفعل من أفعاله، وهو أيضاً شرط لسائر أفعال الحج حتى إنه ما لم يكن قائماً لا تجوز سائر الأفعال وإنما قلنا ذلك بحسب قيام الدليل، فإن الدليل قد قام أنه فعل من أفعاله على ما قدمنا، وقام الدليل أن وجوده شرط لصحة سائر الأفعال فقلنا بهما جميعاً، ولا يستنكر أن يكون الشيء الواحد فعلاً في عبادة من العبادات ثم يكون وجوده شرطاً لصحة سائر الأفعال، وقد ورد مثل هذا فإن الإسلام معنى واجب في نفسه وهو أصل كل أركان الدين ثم هو شرط لصحة سائر أفعال العبادات. وأما تعلقهم بانفصال الأفعال عن الإحرام. قلنا: وقد ينفصل وقد لا ينفصل بدليل أنه لو أحرم وطاف وسعى عقيبه فإنه يعتد بهذا السعي عن السعي الواجب في الحج، وكذلك طواف القدوم مشروع فعلاً من أفعال الحج وقد أتى به عقيب الإحرام فدل على أن الانفصال الذي قالوه ليس بشيء لازم، بل يجوز أن يوجد ويجوز أن لا يوجد، وعلى أن مبنى أفعال الحج على الانفصال مكاناً وزماناً، ألا ترى أن بعضها يفعل في مكان من الحل وبعضها يفعل في مكان من

الحرم وبعضها يفعل بقرب البيت وبعضها يفعل بالبعد من البيت فلما كان وضع هذه الأفعال على الانفصال فيجوز أن تقرب مرة مدة الانفصال وتبعد مرة مدة الانفصال، وأما الصلاة موضع أفعالها على الاتصال. وأما قولهم: ((إن الحج عبارة عن زيارة بقاع مخصوصة وحضور مشاهد معلومة)). قلنا: مع هذا كله يجوز أن يكون الذكر فعلاً من أفعال الحج، ألا ترى أن ذكر الله تعالى من التلبية والتكبير مشروع في أثناء الحج على وجه السنة وذلك فعل من أفعال الحج، فكذلك يجوز أن يكون مشروعاً في الابتداء ويكون فعلاً من أفعال الحج فهذا وجه الجواب عما تعلقوا به. والله أعلم بالصواب. * * *

إذا أحرم بحجتين لم تنعقدا وينعقد أحدهما

(مسألة) وعلى هذا الأصل الذي قدمناه نقول: إذا أحرم بحجتين لم تنعقدا وينعقد أحدهما، وكذلك إذا أحرم بعمرتين، ومذهب محمد مثل مذهبنا. وعند أبي حنيفة رضي الله عنه وأبي يوسف ينعقدان جميعاً، ثم ترتفض أحدهما في الحال على قول أبي يوسف. وعند أبي حنيفة ترتفض إذا شرع في العمل لأحدهما.

والدليل على أنهما لا ينعقدان أن الإحرام ركن من أركان الحج فلم يتصور الجمع بين ركنين من الحج كما لا يجوز الجمع بين وقوفين وطوافين، وكذلك لا يصح الجمع بين حجتين في سنة واحدة أداءً أو قضاءً. وأما أبو حنيفة رحمة/ الله عليه وأبو يوسف قالاً: الإحرام التزام للحج فيصح الجمع فيه بين حجتين. دليله: النذر. يبينه: أن فساد الجمع بين الحجتين إنما هو لأجل الأداء فإن الله تعالى ما شرع أداء حجتين في سنة واحدة من واحد بحال، كما لم يشرع أداء صومين في يوم واحد بحال فإذا كان الفساد للأداء والأداء ينفصل عن الإحرام لتعذر الأداء، كما لو أحرم ليلة عرفة بالكوفة أو بأقصى خراسان فإنه عاجز عن أداء الحج في هذه الصورة ومع ذلك ينعقد إلا أن العجز في هذه الصورة من حيث عجز العبد عن إدراك الحج وفعله، والعجز في مسألتنا من حيث أن الشرع لم يجعل له أن يجمع أداءين في وقت واحد فإذا كان العجز في أحد الموضعين لا يمنع الانعقاد كذلك في الموضع الآخر. قالوا: وليس كما لو جمع بين أختين حيث لا ينعقد واحد من النكاحين، لأن مسألتنا مخالف لهذه المسائل بدليل أن في مسألة النكاح لا ينعقد واحد من النكاحين، وفي مسألتنا انعقد إحدى الجهتين بلا خلاف فوجب أن ينعقد الآخر، لأنه لو بطل الانعقاد كان يبطل فيهما. ثم قالوا: النكاح إيجاب ملك محلل وما له حكم غير ذلك، وهذا الحكم فائت إذا جمع بين الأختين، لأن الجمع فائت شرعاً لا يثبت بحال مثل ما يفوت في الخمس من الأجنبيات، والعقد لا ينعقد إلا لحكمه فلا ينعقد إذا تحققنا فوات حكمه.

وأما الإحرام فينعقد في الحال لأجل الالتزام وفي المال للأداء فالأداء إن لم يتصور جمعاً، فالالتزام يتصور ثم الخروج عن حكم الالتزام بفعل أحدهما وقضاء الآخر. وأما الارتفاض في أحدهما فعند أبي يوسف في الحال، لأنه لو بقى لبقى الأداء والأداء جمعاً فلابد أن يرتفض أحدهما فارتفض في الحال. وعند أبي حنيفة رحمة الله عليه لابد للارتفاض من رافض فجعل الشروع في أحدهما ثم حصول التوجه إلى أحدهما فصار الآخر مثل ما جعل الظهر مرفوضاً بالتوجه إلى الجمعة. الجواب: إن هذه كلها بناء على أن الإحرام التزام الحج، وقد بينا أنه حج في نفسه والجمع غير مشروع في الحج فبطل، وليس كما لو أحرم بأقصى خراسان ليلة عرفة، لأنه أحرم لمشروع إلا أنه عجز عنه فصار بمنزلة فائت الحج، وأما ههنا أحرم بما ليس بمشروع. وأما انعقاد إحرامه بإحدى الحجتين فلأنه لا مانع منه، أما إذا جمع بين أختين فقد تعلق به منازعة الأذى في حقه، وليس إثبات الحق لأحدهما بأولى من الآخر فبطلا، وهذا لا يوجد في مسألتنا. وأما إذا أحرم بصلاتين أو نوى صومين ففي النفلين أو النفل والفرض ينعقد أحدهما نفلاً، وفي الفرض لم ينعقد لعدم التعيين، ونية التعين شرط في صحة الفرض. والله أعلم. * * *

(مسألة) يجوز الاستئجار على الحج

(مسألة) يجوز الاستئجار على الحج عندنا. وعندهم: لا يجوز. وعلى هذا الخلاف الاستئجار على تعليم القرآن، والاستئجار على الآذان على أحد الوجهين. والجملة أن عندهم لا يجوز الاستئجار على شيء من الطاعات. وعندنا: يجوز على كل عمل معلوم يمكن تسليمه وإيفاءه غير مفترض على الأجير فعله.

لنا: أنه استأجر على عمل معلوم يمكن تسليمه وإيفائه غير مفترض على الأجير فعله فجاز. دليله: إذا استأجر على نصب قنطرة أو بناء مسجد أو بناء رباط وغير ذلك من أفعال الخير. وقولنا: ((معلوم)) ظاهر، لأن أفعال الحج معلومة في نفسها متعين زمانها ومكانها. وقولنا: ((إنه يمكن إيفاءه وتسليمه)) يعني أنه متصور تلبيته ووقوفه وطوافه عن الغير وإذا فعلها صارت كالمسلمة إليه شرعاً، ولهذا سقط الفرض عنه- أعني الآمر- وكذلك إذا استأجره على تعليم سورة بعينها فإيفاء ذلك السورة بتعليمها مثل ما لو استأجره على تعليم الخط والحساب أو كتاب معلوم من اللغة وعلوم العربية وغيرها. وقولنا: ((غير مفترض على الأجير)) حتى إنه لو افترض في موضع فعله لم يجز الاستئجار عليه. ويدل على جواز النيابة في الحج فنقول: أجمعنا على أنه لو قال المعضوب لغيره: ((حجي عني))، فإنه يصح هذا الأمر والمأمور ينوي الحج عنه أو يقول: لبيك يعن فلان، ويظهر عمله في حقه حتى سقط الحج المفروض عن ذمة الآمر، وكذلك إذا أوصى بالحج عنه فإنه إذا مات جاز الحج المأمور عنه. وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: ((لو مات رجل فحج عنه ابنه يجزيه إن شاء الله تعالى))، وإنما أدخل الاستثناء لأنه صور المسألة فيما إذا حج عنه بغير أمره، فأما إذا أمره أن يحج عنه فإنه يجوز عنه قطعاً.

فثبت أن النيابة جائزة في الحج فنقول: عمل تجري فيه النيابة فيجوز الاستئجار عليه بالمال. دليله: سائر الأعمال. وأما حجتهم: قالوا: عبادة بدنية فلا يجوز/ الاستئجار عليها. دليله: الصوم والصلاة، وإنما قلنا إنها عبادة بدنية من الوقوف والطواف والسعي والرمي وغير ذلك. قالوا: والفقه في ذلك: أن العبادات أوجبت على وجه الابتلاء للعباد، والابتلاء لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتعاب البدن، لأنه يظهر عند إتعاب البدن طواعية العبد لربه وانقياده لحكمه أو كراهية لذلك ونفوره عنه فيعرف الصادق من الكاذب والمطيع من العاصي والمخلص من المنافق ويتحقق الابتلاء والاختبار الذي أوجبت العبادات بوصفه. وإذا ثبت هذا الأصل فنقول: لا يوجد معنى الابتلاء إلا فيما يفعله العبد بنفسه ويتحمل تعبه بذاته وجسمه فأما عند أمره غيره بفعله واستنابته في ذلك من تسبينه فلا يتحقق معنى الابتلاء فيه بحال، وهذا لأن الابتلاء في التعب، ولا تعب في الأمر إنما التعب في الفعل. قالوا: ولهذا لم تجز النيابة في الصلاة والصوم، وكذلك لم تجز النيابة في الحج عند القدرة على فعله، وأما الزكاة وسائر واجبات المال فالابتلاء فيها بتنقيص المال وذلك يوجد سواء فعله بنفسه أو فعله نائبه، ولهذا دخلتها النيابة مع قدرته على فعلها بنفسه.

وإذا ثبت هذا الأصل أن النيابة غير داخلة في هذه العبادات فالاستئجار عليها باطل. قالوا: وأما إذا أمر غيره أن يحج عنه فإنما جاز ذلك عند العجز أو جاز بعد موته على معنى أن فرض الحج لازم عليه بدناً وقد عجز عن نفسه فالشرع نقل الفرض الذي كان على بدنه إلى المال الذي يبذله له في الحج فيكون له ثواب النفقة على الحج وسقط به الحج عنه، لأنه فعل ما كان عليه بقدر الإمكان، أو لأنه لما انتقل الواجب من البدن إلى المال فلابد من سقوطه عنه. ونظيره الشيخ الهم إذا تصدق بدل الصوم فإنه يسقط الفرض عنه لانتقال الواجب إليه. قال أبو زيد في ((الأمالي)) محتجاً في هذه المسألة: إن الحج عن الغير لا يكون حاجاً عنه إلا بعد ما يقع الحج عن الحاج وإذا وقع الحج عنه لم يستحق الأجر على غيره. دليله: الآذان. والدليل على أنه يقع حجه عن نفسه أنه لا يصح حجه ما لم يكن من أهل الحج عن نفسه حتى إذا كان كافراً لا يصح، لأنه ليس من أهل الحج عن نفسه ولو كان الفعل يقع عن الآمر لم يشترط لصحته كون الفاعل من أهله لنفسه. ألا ترى أن بناء القناطر والرباطات والمساجد لما صح للعامل فيها أن يكون أجبرا ووقع عمله عن الآمر جاز أن يكون الأجير فيه كافراً، وهذا

لأن العبد متعين لفعل العبادة حقاً لله تعالى، إما فرضاً أو نفلاً، فلا يتصور مع كونه فاعلاً فعل العبادة أن يكون فاعلاً عن غيره بخلاف بناء الرباط والمساجد، لأن فعلها في ذاته ليس بعبادة عن الفاعل، بدليل أنه يجوز منه وإن لم يكن من أهل العبادة مثل أن يكون الأجير كافراً. قالوا: وأما قولكم: ((إن النيابة صحيحة)). فالقياس أن لا يصح، لأنه عبادة بدنية على ما ذكرنا، ولكن الشارع جوز ذلك لما فيه من المال، لأن الحج لا يتأدى إلا بنفقة فأخذ شبهة الزكاة من هذا الوجه حتى إذا استعان برجل ليحج عنه ولم يعطه النفقة لا يجوز، وكذلك إذا أمر أن يحج عنه فأنفق المأمور عامة النفقة من جهة نفسه لا يجوز. فثبت أن جواز النيابة لشبهه بالزكاة من حيث النفقة. فأما من حيث أنه عبادة بدنية فلا ينبغي أن تجوز فيه النيابة فجوز الشرع فيه النيابة في حال اليأس عن فعله بنفسه لشبهه بالزكاة ولم يجز في غير حال اليأس لشبهه بالصلاة وإذا جازت النيابة فيه من ذلك الوجه لم يكن بد من نيته عنه، وتلبيته باسمه وصح أمره إياه بأن يحج عنه وسقط الفرض عن الآمر لا عن المأمور. وأما الأجر على أصلكم إنما وجب للأجير من حيث أنه فعل الحج بدناً وأقام فعله ببدنه مقام فعله بنفسه، ومن هذا الوجه لا ينبغي أن تجوز فيه النيابة، لأنه عبادة بدنية فلم يجز الاستئجار عليه ولم يجب له الأجر، هذا نهاية ما يمكن. الجواب: أما قولهم: ((إنه عبادة بدنية)).

قلنا: يمكن أن يقال: ليس بعبادة محضة، وقد سلم هذا في الطريقة الثانية حيث قال: ((إنه يشبه الزكاة من وجه، وعلى أنا وإن سلمنا أنه عبادة بدنية لكنه عبادة بدنية تجرى فيها النيابة، وفيه الإجماع ولا يمكن منعه بحال. والحرف أن أداء العبادة بدناً قد وجد إلا أنه قام فعل الأجير بدناً مقام فعل المستأجر بعقد مشروع وهو عقد الإجارة فصار كأنه الفاعل بنفسه. وأما قولهم: ((إن وصف الابتلاء لا يوجد إلا لفعله بنفسه)). قلنا: هذا لا يغنى بعد/ أن تلجئهم الضرورة إلى تسليم جواز النيابة فيه، وعلى أن معنى الابتلاء موجود وإن أدى بفعل الأجير، لأنه لابد من الأمر بفعله ولابد من بذل المال لفعله فيوجد الابتلاء، ألا ترى أن الابتلاء موجود في العبادات المالية، كذلك ههنا يوجد الابتلاء ببذل المال غير أنه كان الابتلاء بفعله بدناً والتوصل إليه مالاً، وههنا الابتلاء كله النقل إلى المال. وأما الذي قالوه: ((إن النيابة غير جارية أصلاً لكن سقط الفرض عن الآمر ببذل النفقة)). فكلام في غاية الرذالة والنذالة ولا يتصور فرض الحج إلا بفعل الحج. فإن قالوا: إنه إذا انتقل الفرض من البدن إلى بذل المال فينبغي أن يؤمر بصدقته على الفقراء ويكون وجوبه باسم الفدية على الحج مثل الشيخ الهم تجب عليه الفدية عن الصوم، فأما أن يقال إن الحج بقى وجوبه عليه حتى يجب عليه أن يأمر نائبه بالحج عنه ويجب على النائب أن ينوي عنه الحج ويسميه في تلبيته ثم الحج يكون عن الحاج ويكون للآمر ثواب النفقة ويسقط الحج عن ذمته بثواب النفقة، فهذا كلام غير مفهوم، ولا يستجيز اعتقاده والقول به فقيه، وإن صار واجب الحج واجب بذل المال فبأي وجه

تعين بذل المال في جهة الحج بل ينبغي أن يجب صرفه إلى مصارف الصدقات، ثم كيف يتعين بذله في حج يفعله النائب عن نفسه ويكون واجباً عليه أن ينويه عنه ويسميه في تلبيته ولو نواه عن نفسه كان مخالفاً ويلزمه رد ما أخذه عليه، فهذه كلها تخبطات عظيمة وحكايتها كافية عن الكلام عليها. وأما طريقتهم الثانية، وقولهم: ((إن الحج وقع عن الحاج)). فقد قال بعضهم: وقع عن الحاج نفسه من وجه وإنما يجوز عقد الإجارة إذا وقع عن المستأجر من كل وجه. فنقول: لم يقع عن الحاج بوجه ما وهو واقع عن الآمر من كل وجه. وأما قولهم: ((إنه يشترط أن يكون من أهل الحج لنفسه)). قلنا: إنما اعتبر ليكون من أهل الحج وإنما يجوز الاستئجار على الحج لمن يكون من أهل الحج، وهذا بمنزلة كل فعل يستأجر الإنسان عليه إنما يجوز إذا كان الأجير من أهل ذلك الفعل إلا أن الحج فعل شرعي فيعتبر أن يكون من أهل فعله شرعاً وهو بمنزلة ما يستأجره على فعل حسي يعتبر أن يكون من أهل فعله حساً. ونظير هذا إذا استأجر المسلم مجوسياً لذبح شاة لا يجوز وإن كان الذبح محسوساً يوجد منه مثل ما يوجد من المسلم، ولكن قيل إن الذبح المحلل فعل شرعي فيعتبر في الأجير أن يكون من أهل فعله شرعاً فإذا لم يكن، لم يصح الاستئجار عليه ولم ينظر إلى تصوره محسوساً منه، كذلك ههنا، وهذه الطريقة كان بناؤها على هذا الأصل وإذا حصل الجواب بطل الباقي منها.

وقولهم: ((إنه تصح النيابة من حيث وجود المال فيها لا من حيث أصل الفعل)). قلنا: هذا إنكار المحسوس، لأن النائب إنما فعل ما فعله بدناً لا مالاً، والنية وجدت منه في الحج بدناً، والآمر قال له: حج عني، وقوله: ((حج عني)) ينصرف إلى الأفعال البدنية. وقوله من قال: إن النيابة جازت من حيث المال لا من حيث البدن لغو باطل. يبينه: إن النيابة جوازها من حيث الأمر، والأمر يتناول الواجب عليه وإذا كان الواجب هو الفعل فيكون الأمر بالفعل، وإذا كان الأمر بالفعل تكون النيابة جارية في الحج من حيث الفعل. وأما المال سبب يتوصل به إلى الحج، وأما الوجوب لا يتناوله ولا الأمر يتناوله فسقط ما قالوه. والله أعلم. * * *

(مسألة) العمرة واجبة

(مسألة) العمرة واجبة عندنا. وعندهم: تطوع. لنا: ما رواه ابن فضيل عن حبيب بن أبي عمرة عن

عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: ((عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة)). وروى محمد بن كثير الكوفي قال: حدثنا إسماعيل بن يعلى بن مسلم عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الحج والعمرة فريضتان لا يضربك بأيهما بدأت)). وروى الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن

جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى اليمن كتاباً وبعث به مع عمرو بن حزم وفيه: ((إن العمرة الحج الأصغر، وألا يمس القرآن إلا طاهراً)). وفي بعض ما رواه عمر عن النبي عليه السلام أن جبريل عليه السلام سأله عن الإسلام فقال: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتصوم رمضان، وتحج وتعتمر)). وهم يروون بطريق حجاج بن أرطأة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة والزكاة أواجبة هي؟ قال: ((نعم))، فسأله عن العمرة أواجبة هي؟ قال: ((لا، وأن تعتمر خير لك)).

وروى عبيد الله بن المغيرة/ عن أبي الزبير عن جابر قال: قلت: يا رسول الله، العمرة واجبة فريضتها كفريضة الحج؟ قال: ((لا، وأن تعتمر خير لك)). ويروون بطريق طلحة بن عبيد الله أن النبي عليه السلام قال: ((الحج جهاد، والعمرة تطوع)).

واعلم أن في أسانيد كل هذه الأحاديث مقال: فإن الخبر الأول بما أسنده الحجاج بن أرطأة وعبيد الله بن المغيرة، وهما ضعيفان. وخبر طلحة رواه عمرو بن قيس وهو متروك. وكذلك الأخبار التي رويناها في أسانيدها أيضاً مقال يطول ذكرها إلا الخبر الذي ذكرناه أن النبي عليه السلام قال: ((وأن تحج وتعتمر))، حين سئل عن الإسلام معتمد، وهو رواية سليمان بن طرخان التيمي عن يحيى بن يعمر عن عبد الله بن عمر عن عمر وهو خبر جبريل المعروف حيث جاء فسأل النبي عليه السلام عن الإيمان والإسلام وفي آخر الخبر قال: ((هذا جبريل أتاكم ليعلمكم معالم دينكم فخذوا عنه)). وهو خبر ثابت، وهذه الزيادات رواتها ثقات.

وقد أوردها الجوزقي في متفق الصحيحين. ويمكن أن يحتج ويعتمد على قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} والمراد من الإتمام في هذه الآية ابتداء الفعل على أكمل الوجوه. وقد قال جماعة من أهل العلم: إن ابتداء فريضة الحج كان بهذه الآية وهو أول ما نزل في القرآن في إيجاب الحج وهو تناولت الحج والعمرة تناولاً واحداً. وقد قامت الدلائل القطعية أن الأمر على الوجوب فاقتضت وجوب العمرة كما اقتضت وجوب الحج. وقد روى النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين أنه سأل النبي عليه السلام قال: إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، فقال: ((حج عن أبيك واعتمر)).

وهذا أمر والأمر على الوجوب. فقال الدارقطني حين روى هذا الحديث: رجال هذا الحديث كلهم ثقات. وروى أيضاً بطريق روح بن القاسم عن أبي الزبير عن جابر عن سراقة ابن مالك قال: قلت: يا رسول الله، أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ قال: ((لا، بل للأبد .. دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة)). وقال: رجاله كلها ثقات. ومثل هذا السؤال لا يكون إلا في واجب، وقوله: (العمرة في الحج)) المراد من ذلك في الأفعال على ما سنبين. وقد ثبت عن ابن عباس قال: ((الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأصغر العمرة)). وإذا كان حجاً فكل ما يدل على وجوب الحج يدل على وجوبها، ولا معنى يدل على وجوب العمرة سوى التشبيه بالحج، ومجرد الشبه بلا معنى مخيل لا يعرف حجة.

وأما المخالف: صار إلى أن العمرة غير مؤقتة، لأنها تجوز في جميع السنة والحج مؤقت، والفرق بين النفل والفرض هذا فإن الفرض لا يكون إلا مؤقتاً، لأنه واجب علينا ولو قلنا وجب فعله وإذا لم يكن مؤقتاً، وقد خلق الله الناس العباد ليعبدوه وجب فعله في جميع الأوقات فيؤدي إلى أن يقع الناس في الحرج العظيم أو يؤدي إلى تكليف العاجز، لأن العباد يعجزون عن مباشرة العبادة في جميع الأوقات على العموم. وأما النفل ففعله مفوض إلى اختيار العبد فإن الله وإن خلق الناس ليعبدوه وجعل النفل مشروعاً في عموم الأحوال والأوقات فلا يؤدي إلى الحرج ولا إلى تكليف العبد ما يعجز عنه فنظرنا إلى عموم الأوقات على ما دلت عليه الآية واعتبرنا ذلك وقلنا: لا يختص بوقت دون وقت. قالوا: فإن قلتم: ((إن العمرة عندكم لا يجوز فعلها في خمسة أيام من السنة وهي يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق)). قلنا: لا نقول إن فعلها لا يجوز لكن يكره ترجيحاً لأمر الحج على العمرة. لا شك أنه مرجح في الشرع، والأيام التي تعينت لفعله في الشرع كرهت العمرة فيها تقديماً للحج على العمرة. وقد قالوا أيضاً: إن الحج سبب وجوبه البيت، وكذلك العمرة لو وجبت وجبت بالسبب الذي يجب به الحج فيؤدي إلى التنافي الواجب، وهذا لا يجوز كما لا يجب ظهران بوقت واحد وزكاتان بمال واحد وصومان بيوم واحد.

الجواب: إن كلا الدليلين في غاية الضعف والذي قالوا: في التفريق بين الفرض والنفل بالحد الذي قالوه لا يعرف، وليس عليه فإن الإسلام واجب وهو غير مؤقت، وكذلك الجهاد واجب وكذلك صلاة الجنازة والكفارة وما يشبه ذلك، وعلى عكسه النوافل الرواتب في الصلاة والصوم مؤقتة وليس واجبة ونعني في الصوم صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء والاثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر. وأما الذي قالوه إن الله تعالى خلق العباد ليعبدوه فيقتضي العبادة على العموم. قلنا: له خلينا هذا والظاهر لاقتضى أنهم عبدوه مرة سقط عنهم الأمر إذ ليس في ظاهر هذا اللفظ دليل على فعلها في/ عموم الأوقات وأيضاً إذا قلنا إن الفريضة لا تتوقت لا يؤدي إلى ما قالوه من تكليف العاجز وإيقاع المكلف في الحرج الذي ظنوه، لأنه يكون مأموراً بفعله على الجملة حتى لا يجوز تركه، فأما أن يكون مأموراً بفعله على الاستدامة حتى لا يجوز أن يخلى عنه وقتاً ما فليس عليه دليل. وأما في النفل إذا قلنا إنه لا يتوقت، وقلنا إنه يكون مفوضاً إلى اختيار العبد وربما لا يختار فعله أصلاً فلا يظهر لما قالوه أن العبد خلق للعبادة في جميع الأوقات أثر، وعلى أن العباد إذا فعلوا الفرائض في مواقيتها وقاموا بحق الأوامر الموظفة عليهم فقد عبدوا الله في جميع مدى عمرهم حكماً، وإن كانوا خلى بعض الأوقات عن عبادتهم حساً.

وأما كلامهم الثاني، وقولهم: ((إن إيجاب العمرة يؤدي إلى الثناء في الواجب)). قلنا: لا يؤدي لأن الثناء بإيجاب حجتين وعمرتين، فأما إيجاب حج وعمرة وهما عبادتان مختلفتان متغايرتان فلا يؤدي إلى هذا، ولئن جاز أن يقال هذا ثنى فيجوز أن يقال إن إيجاب الظهر والعصر ثنى، وإيجاب صدقة الفطر لك سنة ثنى، وكذلك إيجاب الزكاة كل سنة ثنى، ومثل هذا لا يدخل فيه فقيه. وقد ذكر الأصحاب لنا: إن العمرة واحد نسكى القرآن فأشبه الحج. وقالوا: عبادة يجب المضي في فاسدها فكانت واجبة في الحج، والمعتمد ما سبق. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) حج الصبي صحيح سواء أحرم عنه أبواه أو أحرم بنفسه وهو ممن يعقل الإحرام

(مسألة) حج الصبي صحيح سواء أحرم عنه أبواه أو أحرم بنفسه وهو ممن يعقل الإحرام. وهل يحتاج إلى إذن الولي، فيه وجهان. وإذا صح لزم حتى لا يجوز له الخروج عنه ولو خرج لا يصير خارجاً عنه ويكون حجة في هذا المعنى مثل حج البالغ ولو ارتكب محظور الإحرام لزمته الكفارة. وعندهم: حجة غير لازم، ولا تلزمه الكفارة بارتكاب المحظور.

وبعضهم قال: حجه غير صحيح أصلاً. لنا: حديث أبي معاوية عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: رفعت امرأة صبياً لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: ((نعم، ولك أجر)). ذكره أبو عيسى الترمذي في جامعه.

وروى بإسناده عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال: ((حج بن أبي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن سبع سنين)). فثبت بهذين الخبرين صحة حجه فصح على ما شرع وقد شرع لازماً فوجب أن يصح لازماً، وهذا كالإسلام على أصلهم فإنه لما صح منه صح على ما شرع وهو أن يكون بوصف اللزوم. والجمل أنه إذا صح من الصبي يصح على ما يصح من البالغ. والأولى أن يقال: يصح على الوضع الشرعي، وهذا لأنه لا يتصور حج صحيح يمكن الصبي عليه غير لازم في الشرع، والحج قد صح من الصبي، وأمكنه الضمي عليه فوجب أن يصح بوصفه. وأما وجوب الكفارة عندنا بارتكاب المحظور، فلأنه حق مالي فصار كسائر حقوق المال وكما تجب على الصبي سائر حقوق المال يجب عليه هذا

الحق أيضاً، ولأن سببه قد وجد في حقه وهو ارتكاب المحظور في حج صحيح، فصار هذا الحق مثل غرامات المتلفات وأروش الجنايات. ويستدل بكفارة الصيد إذا قتل في الحرم، وقد سلموا في هذا الموضع أنه يجب على الصبي، فكذلك إذا قتل وهو محرم وجب أن يكون مثله، لأنه لا فرق بينهما معنى وكل واد حق لله تعالى. وأما حجتهم: قالوا: لزوم الحج حق من حقوق الله تعالى يحتمل السقوط بالأعذار بعد البلوغ بدليل أنه يسقط بعذر الإحصار وعذر الرق فسقط بعذر الصبا. لأن رأس الأعذار الصبا قياساً على أصل الوجوب، وإنما قلنا: ((إن اللزوم حق الله تعالى)) لأن الإحرام عبادة خالصة لله تعالى، واللزوم صفته فيكون أيضاً لله تعالى، وإذا سقط اللزوم في حق الصبي صار الإحرام بالحج كإحرام الصلاة، وإذا ثبت أنه لا يلزمه شيء بترك الإحرام، فكذلك لا يلزمه شيء بارتكاب المحظور الذي هو جناية عليه بطريق الأولى لأنه لو وجب بالإدخال نقيضه فيه فإذا لم يجب عليه شيء بتركه أصلاً فلئن لا يجب بإدخال نقيضه فيه أولى، ولأن هذه الكفارات حقوق الله تعالى على الشخص يحتمل النسخ والتبديل فيسقط بعذر الصبا. دليله: أصل الصوم والصلاة. والدليل على أنه يحتمل النسخ أنه لم يكن في الأصل مشروعاً، وإنما شرع في شرعنا، وما احتمل إن لم يكن ثم كان احتمل أن لا يكون أصلاً، ولأن الكفارة دون الصلاة في الوجوب فلما سقطت الصلاة بعذر الصبا في

حقه والسبب في حقه قد تحقق وذلك بمجئ الوقت فكذلك الكفارة جاز أن تسقط وإن تحقق السبب في حقه. قالوا: وقولكم: ((إن الكفارة حق مالي)). قلنا: بلى، ولكن وجبت لله تعالى على طريق الابتلاء ولا يتصور الابتلاء إلا باعتبار فعل العبد، ولو وجبت الكفارة لكان أداؤها بفعل الولي بولاية جبرية قهرية/ فلا يتحقق معنى الابتلاء، وقد ذكرنا هذا على الشرح في مسألة زكاة الصبي فلا معنى لإعادته. قالوا: وأما جزاء صيد الحرم يجب للصيد لا لله تعالى، لأنه إذا أمر بالإحرام فصار أمنه حقاً له، وإذا قتله وجب الجزاء حقاً له وما يجب لغير الله لا يجب على نهج العبادات فلا يتعلق أداؤه بفعل من عليه على سبيل الاختيار فصح أخذه قهراً وجبراً، وصار بمنزلة غرامات المتلفات فصح تأديه لولي يثبت ولايته شرعاً لا باختيار المولى عليه. فأما ما يجب لله تعالى فإنما يجب على سبيل العبادة فلا يتأدى إلا بفعل من عليه عن اختيار وتمييز إما به أو بنائب عنه باختياره وتمييزه، لأن المطلوب من الاستعباد امتياز العاصي من المطيع، وذلك لا يحصل بالاستيفاء جبراً كما بينا في الزكاة. والحرق أنهم يقولون: كفارة الإحرام محض حق الله تعالى وجب على وجه الابتلاء ولا يمكن إيجابها على الصبي كما ذكروا في الزكاة، وكفارة الحرم وجبت حقاً للصيد لا حقاً لله تعالى. الجواب: أما قولهم: ((إن اللزوم مسقط بالعذر بعد البلوغ)).

قلنا: أولاً هذا يبطل بالصحة، فإن صحة الحج أيضاً تفوت بأسباب بعد البلوغ، فقولوا إنها تفوت بسبب الصبا، وسؤالهم على هذا أن الصبا صار عذراً بطريق النظر ولا نظر في منع الصحة، فأما في منع اللزوم نظر حتى إذا تركه لا يجب عليه شيء، فلهذا لم تنتف الصحة وانتفى اللزوم، وهذا يدخل عليه الإسلام فإنه يقع لازماً وإن وجد من الصبي على أصلهم، ولا يقال: يصح نظراً ولا يلزم نظراً، بل قيل: لما صح على ما وضعه الشرع، كذلك الإحرام لما صح صح على ما وضعه الشرع من صفة الفريضة. فإن قالوا: أليس إن الظهر يصح منه ومع ذلك لم يصح على ما وضعه الشرع من صفة الفرضية؟ قلنا: الصلاة تنقسم إلى لازم وغير لازم، فلم تكن غير لازم في حق الصبي ويجعل في حقه بمنزلة النوافل، وأما في الحج لما لم ينقسم في اللزوم وغير اللزوم، بل كان لازماً بكل حال، استوى وجوده من البالغ والصبي. وجواب آخر: إن اللزوم مع إمكان المضي لا يسقط بعذر ما، والصبي متمكن من المضي على إحرامه فوجب ألا يسقط اللزوم في حقه. وخرج على هذا المحصر والعبد، لأنهما لا يقدران على المضي، وهذا لمكان المنع الحسي والآخر لمكان المنع الشرعي، وأما الصبي فقادر على المضي. والمسألة معين في هذه الصورة والحج في هذه الصورة ولا يتصور سقوطها بعذر ما.

وإن قالوا: إن الصبا سبب للنظر والمرحمة، وليس من النظر والمرحمة إثبات الإلزام في حقه من النظر. قلنا: الصبي لا ينافي اللزوم، لأن له ذمة صحيحة قابلة للزوم والنظر والمرحمة قد وجد بمنع وجوب الحج عليه ابتداء من قبل الشرع وإنما هذا شيء جاء من قبله. قالوا: وأما قولكم: ((إذا أفسد الحج بالوطء)). قلنا: يجب عليه قضاءه على أصح القولين، وإذا فعله في حال الصبا صح على أصح الوجهين. وأما الكفارات فوجه وجوبها ما ذكرنا أنها حقوق مالية فجاز إيجابها على الصبيان. دليله: سائر حقوق المال. وقولهم: ((إنها وجبت لله تعالى)). قلنا: لا، بل وجبت للفقراء، وقد ذكرنا أن الزكاة واجبة حقاً للفقراء، فإذا قلنا هذا في الزكاة فكيف لا نقوله في الكفارات؟ وقد سبق إثبات هذا الأصل. وقولهم: ((إنها وجبت على طريق الابتلاء)). قلنا: لا ننكر أن الأوامر بأجمعها فيها معنى الابتلاء، ولكن ما كان فيها من حقوق المال يستقيم إيجابها على الصبيان ويقوم النائب المعين من

قبل الشرع بمنزلة النائب من قبله بعد البلوغ وهذا أيضاً قد ذكرناه في كتاب الزكاة. وأما فصل صيد الحرم ففي نهاية الإلزام. وقولهم: ((إن الواجب في جزاء الصيد حق الصيد)). قلنا: هذا مما لا يفهم وإيجاب الحق للصيد مثل إيجاب الحق للجدار وما يشبهه من سائر الجمادات ومن دخل مثل هذه الترهات كفى خصمه أمره. وقولهم: ((إن الأمر لحق الصيد)). قلنا: هذا مثل الأول، ولا يجوز إثبات الحق على أي وجه كان إلا لمن هو من أهل الحقوق، وإنما منع الإنسان من قتل الصيد في الحرم وإطلاقه له في الحل نوع اختبار وابتلاء مثل منعه من قتله في حال الإحرام دون حال الإحلال. والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) الإفراد أفضل من القران

(مسألة) الإفراد أفضل من القران عندنا، وكذلك هو أفضل من التمتع، وعندنا هما رخصة، والواجب دم جبران. وعندهم: القران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد.

قالوا: هما عزيمة. والدم دم نسك. لنا: حديث مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج، خرجه مسلم في الصحيح. وروى أبو نعيم عن أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد عن أبيه

عن عائشة قالت: ((خرجنا مع رسول الله/ - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج في أشهر الحج)). وفي رواية: ((لا نذكر إلى الحج)). وفي رواية: ((لا نرى إلا الحج)). وهذه الألفاظ كلها روايات ثابتة. وروى عطاء عن جابر ((أن النبي عليه السلام أهل بالحج)). وفي رواية: ((مفرداً)). وفي رواية: ((خرجنا مع رسول الله حاجاً لا نريد إلا الحج ولا ننوي غيره)).

وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ((أن النبي عليه السلام أفرد الحج)). وأفرد أبو بكر وعمر وعثمان. وأما هم تعلقوا بما روى حماد بن زيد عن حميد

عن أنس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لبيك بحجة وعمرة)). وفي رواية أنس أنه سمع النبي عليه السلام يقول: ((لبيك عمرة وحجاً)). وعن بكر بن عبد الله المزني قال: قلت لأنس بن مالك: كيف صنعتم في حجتكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: قدمنا ونحن نقول: لبيك عمرة وحجاً، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نحل إلا من كان معه الهدى، فلقيت ابن عمر فسألته فقال ابن عمر: إنا أهللنا بالحج فأخبرته بقول أنس فقال: نسى رحمه الله، فلما رجعت أخبرت بقول ابن عمر فغضب، وقال: كأنا صبيان)).

وروى عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أهل بهما لبيك عمرة وحجاً). وفي الباب عن عمر، وعلي، وعمران بن حصين، قال: ((وهذه الرواية أولى لأن فيها زيادة)). وروى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس ((أن النبي عليه السلام اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية وعمرة القضية وعمرة الجعرانة والرابعة التي مع حجته)).

(وفي الباب عن أنس وعبد الله بن عمرو وابن عمر رضي الله عنهم). والجواب: إن الشافعي رحمه الله أحتج برواية الإفراد بفقه عائشة وحفظ جابر وقرب ابن عمر. أما فقه عائشة فلا إشكال فيه. وأما حفظ جابر فلأنه أحسن الرواة سياقة لحج النبي عليه السلام ولم يرو أحد حج النبي عليه السلام من أوله إلى آخره كما رواه جابر. وأما قرب ابن عمر فلأنه قال: كان أنس يدخل على النساء وهن متكشفات، وكنت تحت ناقة النبي عليه السلام يمسني لعابها. وروى بكر بن عبد الله المزني عن ابن عمر أنه قال: ((ذهل أنس، إنما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهللنا معه)). وفي رواية ((رحم الله أنساً، وهل أنس، إنما أهل بالحج وأهللنا معه)). واعلم أنه لا يصح في القران إلا رواية أنس. وأما غيرها من الروايات فيها مقال كثير، وقد أنكر ابن عمر روايته وزعم أنه نسي وذهل.

والخبر الواحد إنما يقبل بجهة حسن الظن بالراوي فلابد من سلامته من دعوى النسيان والخطأ عن أمثاله. وقد ادعى ابن عمر عليه النسيان والخطأ، ويجوز أن يكون الأمر على ما قال لأنه يحتمل أنه سمع النبي عليه السلام يعلم غيره القران بين الحج والعمرة فظن أنه قال بنفسه وهذا محتمل، وأنس رضي الله عنه غير معصوم من الخطأ. وقد ثبت أن أبا بكر وعمر وعثمان أفردوا الحج، والظاهر أنهم اقتدوا في فعلهم بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدل أنه كان مفرداً. فإن قالوا: قد ثبت عن علي عليه السلام أنه قرن. قلنا: ((إنما فعل ذلك حين نهى عثمان عن المتعة وعن الجمع بينهما)) فأهل بهما ليبين الجواز. وفي الباب قصة طويلة وروايات كثيرة. وأما الذي رووا عن ابن عباس رضي الله عنه في أن النبي عليه السلام اعتمر أربع عمر.

قلنا: الصحيح من ذلك الخبر أنه مرسل رواه ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن النبي عليه السلام. وقد اختار أكثر أهل الحديث التمتع وجعلوه أولى، وفي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة روايات صحيحة، ولعل الجمع بين الروايات المختلفة على طريق من يقول: إن التمتع أمكن وأفضل وأسهل. وأما رواية ترجيح الإفراد على رواية القران على ما سبق. وفي هذه المسألة خطب عظيم. وقد طعن بعض أهل البدعة في الرواة ونسبوهم إلى الكذب بسبب اختلافهم في هذه الروايات مع اتفاق الكل أن النبي عليه السلام لم يحج إلا حجة واحدة، وقد بينا وجه الترجيح والتأويل، فنسأل الله تعالى أن يعصمنا من إساءة القول في السلف الصالح وأن يجعلنا ممن يحسن الظن بهم ويحسن القول فيهم، وأن نكون ممن يرجع بالتهمة على نفسه بظن التقصير وقلة البلوغ لقلة الآلة، والله تعالى ولى العصمة والمعونة. وأما الكلام في المعنى فنقول: القران والمتعة رخصتان، والأصل هو الإفراد، والدليل على أن القران رخصة أنه يتضمن إسقاط أحد السفرين وإحدى الزيارتين، والحج حقيقة زورة لبقاع معلومة محترمة وحضور إلى مشاهد مخصوصة معظمة مشرفة وأدنا ........ مقصود في

/ باب الحج، بدليل أن من أوصى بأن يحج عنه فإنه يحج عنه من وطنه ولولا أن السفر مقصود وإلا لكان يحج عنه من أدنى المواقيت. ويدل عليه: أنهم قالوا: لو نذر أن يحج ماشياً فحج به راكباً يلزمه دم، وفي القران اقتصار على زورة واحدة وسفر واحد فعلى فعل السفرين استكثار تحمل التعب والنصب، وكلما كثر التعب والعمل فيكون الثواب أكثر، وإذا كان الثواب أكثر كان الفعل أفضل، وأيضاً فإن فعل زيارتين استكثار الزيادة، والحاج زائراً لله تعالى، والله تعالى مزوره، وكما كانت الزيارة أكثر كان موقعها عند المزور أعظم وأكثر. وأما حرف بيان أن القران والمتعة رخصة فلأن في القران ترك سفر مقصود وزيارة مقصودة، وفي فعل ترك فعل العمرة في وقتها وهو غير أشهر الحج وفعلها في غير وقتها فكان كلا العملين من القران والمتعة رخصة. يبينه: أن لفظ المتعة دليل على الرخصة، لأنه ترفه وارتفاق زائد لم يكن مشروعاً في أصل النسك فإذا ثبت النقصان وثبت الرخصة مع النقصان ثبت أن النقصان وثبت الرخصة مع النقصان ثبت أن الإفراد أفضل، وثبت أن الدم دم جبران لا دم نسك فيكون فعل النسكين على وجه لا نقصان فيه أولى من فعله مع النقصان وقد قال جماعة من أصحابنا: إن الأعمال تكون أكثر في إفراد النسكين، وتعلق بالتلبية والحلق والسفر الذي بيناه، والأولى ما سبق وهو حقيقة المسألة وليكن الاعتماد عليه. أما حجتهم: من حيث المعنى في القران معنيان يدلان على أنه الأفضل:

أما الأول: فلأن فيه البدار إلى فعل النسكين وقد قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ...}، وقال تعالى في أعمال الخير: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} ومعناه: إليها سابقون. وفي الإفراد تأخير أحدهما وفعل الآخر. والثاني: قالوا: إن العمرة تنزل من الحج منزلة نفل الصلاة من فرضها، ألا ترى أنها عبادة من جنس الحج شرع في عموم الأوقات مثل النفل عبادة من جنس الفرض شرع في عموم الأوقات، وإنما شرع كل واحد تكميلاً للحج في أحد الموضعين، وللصلاة في الموضع الآخر وتحسيناً لهما ثم صلاة الفرض بنفل يتقدمها يكون أفضل وأكمل، فكذلك الحج يعمره تتقدمه يكون أفضل وأكمل، وأيضاً فإن العمرة إذا كانت تحسن الحج وتزينه فيكون القران مشتملاً على زيارة في نفس الحج. قالوا: وأما دعوى النقصان فلا معنى له، لأن الجمع بين العبادتين لا يوجب نقصاً في واحد من العبادتين كالجمع بين الصوم والاعتكاف والجمع بين الصوم والإحرام. وأما قولهم: ((إنه تضمن إسقاط أحد السفرتين)) فالسفر ليس بمقصود إنما هو شيء يتقدم ليتوصل به إلى مكان الحج، ألا ترى أن حج المكي وحج غير المكي في الكمال يكون واحداً وإن كان يوجد السفر لأحدهما دون الآخر.

وأما فصل الزيارة فالزيارة هو الحج، وقد زار بالقران زورتين أحدهما بجهة الحج والآخر بجهة العمرة. قالوا: ((وكذلك لا نقصان في المتعة أيضاً)). وقولكم: ((إنها أتى بالعمرة في وقت الحج)). قلنا: أشهر الحج وقت النسكين جميعاً على وجه واحد ولا معنى للمنع من العمرة في أشهر الحج حتى يكون الإطلاق رخصة، أو ليضمن فعله إدخال نقص في الحج، وإذا ثبت أنه لا نقص ثبت أن الدم نسك وإذا كان نسكاً فقد تضمن القران والمتعة زيادة نسك لا يوجد عند الإفراد فصار أفضل. قالوا: ولهذا يؤكل منه ويختص فعله بيوم النحر، لأنه زمان فعل النسك من الضحايا. قالوا: وأما ((تعلقكم بكثرة الأفعال وقلة الأفعال)). فعندنا الأفعال عند القران مثل الأفعال عند الإفراد أن يكمله. وأما التلبية فليس من أفعال الحج لكن سبب لوجوب الإحرام، وقد وجب به إحرامان عندي مثل ما يجب إذا كان منفرداً، وكذلك الحلق سبب للتحليل وقد حصل به تحللان فصار الحاصل للقارن جميع أفعال الحج على التلبية إحرامان وطوافان وسعيان وتحللان فلم يكن نقصان بوجه ما. قالوا: وأما المكي إنما لا يجوز له القران والتمتع، لأن حقيقته لا توجد منهما، وقد ذكرنا هذا في الأوساط، فلا معنى للإعادة. الجواب: أما قولهم: ((في القران بدار إلى فعل النسك والبدار إلى الطاعات أفضل)).

قلنا: نعم، إذا كان لا يؤدي إلى إدخال نقص في طاعة أخرى، وقد بينا أن القران يؤدي إلى إدخال نقص في الحج. يدل عليه: أنه إذا أفرد فقد أتى بالحج وأفعاله من غير مزاحم له وحصل الإحرام وأفعاله مسلمة للحج، وإذا قرن فقد أتى بالحج مع مزاحم له في القصد والسفر والتلبية والأفعال المفعولة/ ودخول المزاحم ينقص. وعن الشعبي أنه كان ضئيلاً ضعيفاً فسئل عن ذلك فقال: ((زوحمت في الرحم)). وأما قولهم: ((إن العمرة من الحج تنزل نفل الصلاة مع فرضها)). لا نسلم ذلك، وقد ثبت عندنا أن العمرة فريضة مثل الحج. وقد سبق من قبل، والذي قالوا بناء على أصلهم. وأما الذي قالوا: ((إنه لا نقصان)). قد بينا وجود النقصان بما فيه كفاية، وفصل الزيارة معتمد، والحج حقيقة زيارة أمكنة لله تعالى على ما سبق، والإتيان بالزيارة مرتين أولى من الإتيان بها مرة واحدة. وقولهم: ((إن القارن زائر مرتين)). فالمحسوس يدفعه بل زائر مرة بقصدين فأما أن يكون زائراً مرتين فمحال. وأما التمتع فقد جاء بأصل العمرة وأحرم بالعمرة من الميقات وإنما يحرم

بالحج من جوف مكة فيكون زائراً بنية الحج من مكة، وإذا أفرد يكون زائراً بينة الحج من وطنه وكلما كان شرط الزيارة أبعد يكون أفضل ومكانته عند المزور أكثر، وكلما قرب وأدنى كان محله وأقل وهذا ظاهر جداً للمتأمل. وأما قولهم: ((إن السفر ليس بمقصود)). قلنا: بينا إنه مقصود، وقد روى عن علي وابن مسعود أنهما قالا: ((من تمام الحج والعمرة أن تحرم بهما من دويرة أهلك)). وأما دعواهم إن الدم دم نسك. فقد دللنا أنه دم جبران وهو بناء على ثبوت دخول النقصان في النسك وقد سبق. وقولهم: ((إنه يؤكل منه ويختص بيوم النحر هو على أصلهم)). وقد استدل الأصحاب في أنه دم جبران بدخول الصوم بدلاً عنه ولا مدخل للبدل في دماء النسك إنما مدخله في دماء الجبرانات. وأما قولهم: ((إنه أتى بالأعمال على حسب ما يأتي بها عند الإفراد)). فليس بصحيح بدليل فعل التلبية والحلق. وأما قولهم: ((إن التلبية ليست من أفعال الحج)). قلنا: قد دللنا من قبل أنه من أفعال الحج.

وقولهم: ((إنه يجب بالتلبية إحرامان)). فهو مذهبهم، أما عندنا فالواجب بها إحرام واحد وسنين ذلك في المسألة التي تلي هذه. وأما عذرهم عن الحلق. قلنا: هو وإن كان للتحلل ولكن هو في نفسه نسك فإذا أفرد أتى بنسكين وإذا قرن أتى بنسك واحد، وقد قام الدليل لنا أيضاً أن القارن يكفيه طواف واحد وسعى واحد فهذا وجه الكلام في هذه المسألة على الاختصار وهو أصل كبير، والاعتماد على ما ذكرنا. والله تعالى أعلم. * * *

(مسألة) القارن يطوف طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا

(مسألة) القارن يطوف طوافاً واحداً ويسعى سعياً واحداً. وعندهم: يطوف طوافين ويسعى سعيين. لنا: حديث عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعى واحد فلا يحل من يحل من واحد حتى يحل منهما)). وقد حملوا هذا على طواف القدوم وعلى طواف الصدر، وليس بشيء، لأن الطواف المطلق في باب الحج ينصرف إلى طواف الإفاضة منه، وأيضاً فإنه صلى الله عليه وسلم قرنه بالسعي ولا سعي في طواف الوداع

وفي طواف القدوم، إنما السعي مقرون بطواف الإفاضة ولئن جاز عقيب طواف القدوم إنما يجوز على سبيل التعجيل والتقديم، ويدل عليه: قوله عليه السلام لعائشة: ((طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك))، والخبر صحيح. وفي حديث عائشة قال: ((وأما الذين قرنوا وطافوا لهما طوافاً واحداً وسعوا سعياً واحداً)) فهو صحيح أيضاً. وقال المخالف: إن عائشة لم تكن قارنة بدليل أن النبي عليه السلام قال لها: ((ارفضي عمرتك وامتشطي واغتسلي))، ولأن النبي عليه السلام دخل عليها وهي تبكي قال لها: مالك؟ قالت: أكل نسائك يرجعن بنسكين وأنا أرجع بنسك واحد؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر- أخاها- حتى أعمرها في التنعيم.

الجواب: إن الخبر الذي روينا متفق على صحته. وأما قوله عليه السلام: ((ارفضي عمرتك)) يعني أعمال عمرتك. قال الشافعي: ((وامتشطي واغتسلي)). يجوز للمحرم أن يمتشط ويغتسل غير أنها ترفق بشعرها حتى لا تنتفه. وأما بكاؤها، وقولها: ((أكل نسائك يرجعن بنسكين وأنا أرجع بنسك واحد))؟. فإنما طلبت فعل كل واحد من النسكين على الإنفراد، وقد أيد ما روينا حديث موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أنه أهل بالعمرة فلما أتى الجحفة قال: ما أمرهما إلا واحد أشهدكم أني قد أدخلت الحج على العمرة، فطاف لهما طوافاً واحداً وسعى سعياً واحداً، وقال: ((هكذا رأيت رسول الله صنع)). والخبر صحيح.

قالوا: روى علي أن النبي عليه السلام قرن فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين. وفي رواية: ((إن علياً قرن فطاف لهما وسعى سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعله)). والجواب: إن الدارقطني قال: رواه حفص بن أبي داود وهو ضعيف/ وعلى أنا بينا أنه صح أن النبي عليه السلام كان مفرداً ولم يكن قارناً. وأما الكلام من حيث المعنى: فهو بناء أنه محرم بإحرام واحد، والدليل على أن الإحرام بالحج عبادة من جنس الإحرام بالعمرة، ويجوز أن يقال أن الإحرام فيهما عبادة واحدة، لأنها من حيث الإحرام واحد فإذا فعل في زمان واحداً منهما لم يجز أن يفعل منهما أخرى في ذلك الزمان. دليله: الصوم والصلاة.

ودليله: الإحرام بحجتين وعمرتين فإن عندنا لا ينعقد الإحرام إلا بأحدهما. وعندهم: إن انعقد إنما ينعقدان جميعاً من حيث أنه التزام، فأما من حيث الفعل فلا يتصور اجتماعهما، ولهذا المعنى حكموا بارتفاض أحدهما، ولأن الزمان ظرف العبادة، فإذا اشتغل بعبادة لم يتصور اشتغاله بعبادة أخرى من جنسها مثل المكان المحسوس إذا اشتغل بشيء لم يتصور اشتغاله بشيء آخر، وإذا ثبت أن الإحرام واحد تكون الأعمال واحدة أيضاً. ويستدل من حيث الحكمة بالتلبية والحلق فإنه يكتفي بالواحد منهما بالإجماع. وأما حجتهم: قالوا: أحرم بالحج والعمرة فيطوف طوافين ويسعى سعيين. دليله: إذا أفرد كل واحد منهما، وهذا لأن القران ليس إلا الجمع بين عبادتين فلا يوجب تغيير عمل العبادتين كالجمع بين الصوم والاعتكاف، وكالجمع بين الصوم والإحرام. والحرف أن القران لم يفد إلا الجمع، وأما العبادتان فيما وراء الجمع مثلهما أن لو أتى بكل واحد منهما على الإنفراد. واستدلوا في أنه محرم بإحرامين أنه نوى الحج والعمرة مقرونة بالتلبية وكل واحد من التلبيتين أوجب أحراماً، وهذا لأنه وجد سبب الإحرامين بدليل حال الانفراد وإذا وجد سبب الإحرامين يصير محرماً بإحرامين. قالوا: وأما التلبية فيه عقد على أداء العبادة فهي وإن كانت عبادة متجددة فالحاصل بهما عقدان مثل من باع من إنسان عبدين بلفظ واحد،

وباع من رجلين يلفظ واحد فإنه يكون الحاصل عقدان، ولا فرق بين أن يبيع العبدين بلفظ أو يبيعهما بلفظين في موجب العقد، كذلك ههنا لا فرق بين أن يلبي واحدة أو يلبي تلبيتين في موجبهما من الإحرام، فكما أنه لو أتى بكل واحد منهما على الانفراد يكون الحاصل إحرامان، كذلك إذا أتى بهما جميعاً، كذلك أيضاً قالوا: ((وقولكم إن العبادتين من جنس واحد فإذا شغل الوقت بأحدهما لا يتصور اشتغاله بالأخرى)). قالوا: هذا في الأداء مسلم، فأما الإحرام الذي هو عقد على الأداء والتزام على ما سبق من قبل فلا، لأن الذمة واسعة للالتزام سواء أكانت في عقدين مختلفين أو في عقدين من جنس واحد. وكذلك قولنا: ((إنه عقد على الأداء))، معناه أنه التزام للأداء. قالوا: ولهذا قلنا إن الإحرام بحجتين أو عمرتين ينعقد، وإنما يرتفع أحدهما عند الاشتغال بالأداء، لأن التضايق بينهما في الأداء لا في الالتزام لا في الالتزام والعقد على الأداء. قالوا: وكذلك الحلق موجب التحلل والواجب بالحلق الواحد تحللان مثل ما قلنا: إن الواجب بالتلبية الواحدة إحرامان. يبينه: أنه يجوز أن يوجب بيعين بلفظ واحد، وكذا يقبلهما بلفظ واحد، كذلك يجوز أن توجب إحرامين بلفظ واحد وتحللين بفعل واحد. الجواب: إن قولهم: ((محرم بالحج والعمرة)). قلنا: نعم، ولكن بإحرام واحد، وفي الأصل الذي قاسوا عليه محرم بإحرامين. وأما قولهم: ((إن محرم بنية الحج والعمرة)).

قلنا: نحن نقول بهذا إنه محرم بالحج والعمرة لأجل النية التي ذكروها، ولأنه يصير مؤدياً للحج والعمرة فلابد من نيتها ليصير مؤدياً لهما غير أن الإحرام واحد لما بينا من الدليل، والذي ذكروه بعد هذا كله بناء على أصلهم في أن الإحرام ليس بأداء الحج بل هو عقد على الأداء والتزام محض على ما ذكروا من قبل. وأما على مذهبنا فالإحرام أداء العبادة والوقت لا يتسع الواحد لا يسع لأداء عبادتين من جنس واحد لا حكماً ولا حقيقة بدليل ما سبق. وأما بيع العبدين أو البيع من اثنين فهو من باب المعاملات وهذا جائز في المعاملات، لأنها التزامات. وأما العبادة أداء فعل والوقت الواحد لا يتسع لفعلين اثنين بدليل الوقوفين والطوافين، وكذلك في الصلاتين والصومين فهذا وجه الكلام في هذه المسألة. وقد قال الأصحاب: إن الأعمال تتداخل وقد ورد أن النبي عليه السلام قال: ((دخلت العمرة في الحج إلى قيام الساعة))، ومعنى الدخول دخول الأفعال عى ما/ عرف من مذهبنا، وهم يقولون إن المعنى دخول الوقت أنها جازت في وقت الحج، وهذا مجاز، والحقيقة ما قدمنا من دخول الأعمال لأن الحج هو الأعمال، وقد دخلت العمرة في الحج وليس ذلك إلا ما ذكرناه والاعتماد من حيث الحقيقة على ما ذكرنا من قبل وهو متن المذهب. والله تعالى أعلم. * * *

(مسألة) طواف الجنب والمحدث غير محسوب به

(مسألة) طواف الجنب والمحدث غير محسوب به عندنا. وعندهم: محسوب ويريق دماً في الطواف محدثاً إن لم يعد، وفي الجنب يعيد بكل حال فإن لم يعد وأراق دماً لم يبطجل الاحتساب. لنا: حديث طاووس عن ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: ((الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أحل فيه النطق، فمن ينطق لا ينطق إلا بخير)).

وإذا كان صلاة فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة إلا بطهور)). وإن نازعوا وقالوا: إنه ليس بصلاة لا لغة ولا حقيقة، لأنها في اللغة بمعنى الدعاء، وفي الحقيقة عبارة عن أفعال معلومة بترتيب مخصوص، ولا يوجد واحد منهما في الطواف، فهذا كله اعتراض على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلينا أن نعتقد أن الأمر ما قاله ونص عليه. يبينه: أن الأفعال المعهود كانت صلاة بالشرع فليكن الطواف صلاة بالشرع. ونحتج أيضاً بقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت: ((فاصنعي ما يصنعه الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت))، فإن هذا نهى، والنهي يدل على فساد المنهي عنه وإخراجه عن صفة المشروعية على ما ذكرنا من قبل، ويمكن أن يقال من جهة المعنى إن الطهارة شرط الطواف بدليل أنه لا يحل به أن يطوف محدثاً بالإجماع وإذا طاف محدثاً لزمته الإعادة وكل عبادة كانت الطهارة فيها شرطاً لم يتأد بدونها كالصلاة.

وأما حجتهم: فقد تعلقوا بنص الكتاب وهو قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ}، والله تعالى أمر بالطواف ولم يأمر بالطهارة، ولفظ الأمر بالطواف لا يدل عليها بحال، فتكون الطهارة شرطاً زائداً على كتاب الله تعالى فلا يجوز بالخبر الواحد ولا بالقياس، وهذا لأن الطواف هو الطواف المحسوس فإذا علق بشرط زائد شرعاً انعدم ما اقتضاه الطواف المطلق وهذا الطواف محسوساً كالطلاق ........ ينعدم إذا علق بشرط، وكذلك العتاق فثبت أن تعليق الطواف بشرط الطهارة يجري مجرى النسخ، ولو ثبت لكم شرطاً ثبت بالخبر الواحد لا يجوز. قالوا: وعلى أنا نقول إن الخبر الوارد في الطهارة لتكميل الطواف لا لأصل الجواز، ونحن هكذا نقول: إن الطواف لا يكمل إلا بالطهارة فيحمل الخبر على هذا حتى لا يكون نسخاً وليبقى أصل الجواز مطلقاً كما كان. قالوا: وأما أمرنا إياه بالإعادة لتدارك الإكمال فإذا رجع إلى أهله قبل أن يتدارك بالطواف جبرناه بالدم، لأن النقص الداخل في الحج مما يجبر بالدم وشواهد هذا كثيرة، ولأن الأصل أن الثابت بالخبر الواحد ثابت في حق العمل دون العلم، فنأمره بالطهارة ابتلاء عملاً بخبر الواحد، وكذلك نأمره بالإعادة إذا كان طاف محدثاً عملاً بخبر الواحد، وأما من حيث العلم فلا نعتقد أن الطواف الأول ليس بطواف، لأن الخبر الواحد لا يوجب

العلم فيكون الطواف محدثاً طوافاً في حق العلم إلا أن في حق العمل جعل كأن الطواف لم يوجد فنأمره بالإعادة، وعلى هذا يصير الطواف في حكم الطوافين في حق العمل وفي حق العلم، أما في حق العلم فالطهارة لا تكون شرطاً كسائر أركان الحج وفي حق العمل الطهارة شرط كالصلاة بخلاف سائر الأركان فلم نجز الاعتبار بأصل واحد في البابين جميعاً وهما بابان مختلفان. قالوا: وعلى هذا إذا طاف منكوساً يكون محسوباً، لأن الذي في كتاب الله تعالى هو الأمر بالطواف فحسب، وليس في كتاب الله تعالى التيامن فيكون الأمر بالتيامن زيادة على كتاب الله تعالى فيجرى مجرى النسخ. قالوا: ويحمل تيامن النبي عليه السلام على بيان التكميل وليس على بيان أصل الجواز فيحمل على هذا حتى لا يؤدي إلى النسخ، وقد تعلق بعض مشايخهم بالحدث العمد، وقالوا: عبادة لا يبطلها الحديث العمد فلا تكون الطهارة من شرطها. دليله: الوقوف والسعي بين الصفا والمروة. الجواب: إن الأمر بالطواف يقتضي إيجاب أصل الطواف فأما صفة الطهارة في الطواف فليس في الآية تعرض لها فيجوز إثباتها بالسنة ولا يعد نسخاً، لأن نسخ الكتاب هو تعبد بالحكم الثابت/ بالكتاب والحكم الثابت بالكتاب هو وجوب الطواف وما تغير ولكن بالسنة وجب معنى زائد على حقيقة الطواف، فإن قالوا: إنه التغيير قد وجد، لأن الكتاب قد دل على الإجزاء على معنى أنه إذا أتى بما يسمى طوافاً جاز عنه ويضم هذا الشرط إلى الطواف يفوت الإجزاء فيحصل النسخ من هذا الوجه، ثم قالوا:

إذا ثبت أنه نسخ أو جار مجراه فصارت السنة مبينة لكمال الطواف على ما سبق فيحمل الخبر على هذا حتى لا يؤدي إلى النسخ. قال أبو زيد: (في قوله عليه السلام: ((الطواف بالبيت صلاة))، معناه في حكم الصلاة لا أنه نفس الصلاة، وقولنا في حكم الصلاة مقتضى والمقتضى لا عموم له فصار الخبر مقتضياً كون الطواف صلاة في حكم ونحن قد أثبتنا ذلك فإن الجواز متعلق بالبيت مثل الصلاة، وكذلك الإباحة بالطهارة) حتى لا يجوز له أن يطوف محدثاً أو جنباً. والجواب: إن الآية لا تدل إلا على الوجوب، فأما الإجزاء بدليل آخر يدل عليه، ثم نقول: الإجزاء عند فعل الطواف بمطلق الأمر إنما كان لعدم قيام الدليل على وجوب شرط زائد فإذا قام من السنة على شرط الطهارة فات الإجزاء عند مطلق الطواف من غير أن يتضمن نسخ الآية، لأن الآية دلت على وجوب الطواف والوجوب على ما كان من قبل ولم يتغير ولم يتبدل وقولت الإجزاء عند وجود فعل الطواف مع الحدث لا يمس الوجوب، لأن الوجوب يجوز أن يكون باقياً مع انضمام هذا الشرط إليه، والجواز ثابت عند وجوده بشرطه غير ثابت عند وجود فعله بدون شرطه فدل أن دعواهم النسخ لا يتحقق أصلاً، وإنما هو ظن وحسبان وقد ذكرنا هذا في غير هذه المسألة فمن أراد أيسع من هذا فليرجع إليه. وأما قولهم: ((إن السنة لبيان الكمال)). قلنا: قد فات الإجزاء كاملاً فاجعلوا هذا نسخاً أيضاً، والآية وإن كانت اقتضت الإجزاء فقد اقتضت الإجزاء من كل وجه ويقال: اقتضت

الإجزاء أصلاً ووصفاً، فثبت أن الطريق ليس على ما قلتم لكن السنة مبينة لما يدل عليه الكتاب فيصير كأن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ........ على ما دلت عليه السنة مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} يعني على ما دلت عليه السنة. فليس ما قالوه بشيء، لأن الكتاب والسنة ما دلا إلا على العمل فإن العلم بكون الطواف طوافاً شيء محسوس لا يحتاج إلى كتاب ولا إلى سنة إنما الكتاب والسنة يدلا على الاحتساب وهذا عملي لا علمي فإن معناه الاحتساب بعمله. وقولهم: ((إن المقتضى لا عموم له)). قلنا: قد بينا أن الطواف صلاة شرعاً، وإن سلمنا أن معناه أن له حكم الصلاة، أو معناه أنه مثل الصلاة فلما استثنى الشرع حكماً واحداً وهو الكلام دل أن ما وراءه على العموم وإلا لم يكن لهذا الاستثناء معنى. وإن تعلقوا بجواز الكلام وترك الاستقبال نقول: كما كان مثل الصلاة وجب أن لا يخالفها فيما لم تنفك عنه الصلاة بحال والطهارة مما لا ينفك عنها بحال بل الصلاة لا تكون صلاة إلا بها، وهذا بخلاف الكلام واستقبال القبلة فقد كان حلالاً في ابتداء الإسلام، كذلك الطواف كان في معنى ذلك. وأما الاستقبال فقد يجوز تركه في كثير من المواضع على ما عرف.

أما تعلقهم بالحدث العمد فقد قال بعض أصحابنا: إن الحدث العمد في خلال الطواف يوجب استئناف الطواف وإن قلنا إنه لا يوجب الاستئناف فلأن البناء ممكن وهو أن يبني على ما بقى من الطواف على ما مضى، لأن الواجب طواف بعدد معلوم فأمكن البناء ليتم العدد، فأما في الصلاة فقد عقد تحريمة تشتمل على أفعال، وبالحدث العمد يبطل عقد التحريمة فلا يتصور البناء على ما سبق فوجب الاستئناف. والله أعلم. * * *

(مسألة) السعي بين الصفا والمروة ركن

(مسألة) السعي بين الصفا والمروة ركن عندنا. وعندهم: ليس بركن. لنا: حديث حبيبة بنت تجراة أن النبي عليه السلام قال: ((أيها الناس، إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا)) وهذا نص.

ثم نقول: إن الله تعالى أمر بالحج، وقد أخبر النبي عليه السلام أن الله تعالى كتب علينا السعي فصار من جملة الحج الذي أمر الله به وإذا صار من جملة الحج لم يخرج من الأمر بالحج بدونه، وهذا لأن الأمر بالحج لا يتأدى إلا فعل الحج فكل ما كان فعلاً من أفعال الحج سواء ثبت ذلك بالكتاب أو السنة لم يتأد الحج بدونه وهذا كالأفعال الواجبة في الصلاة لا تتأدى الصلاة بدونها. يبينه: أن السعي طواف مأمور به ليكون شعيرة من شعائر الله تعالى فيكون واجباً. دليله/ الطواف بالبيت. والدليل على أنه من شعائر الله تعالى قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ} وشعائر الله تعالى أعلام الدين فلابد من تعلق فرض بهذه البقعة لابد من فعله ليكون من شعائر الله، لأنا إذا قلنا: إنه يجوز الحج بدونه لا يكون من شعائر الله، وهذا لأن شعائر الله ما إذا أوصل إليه ظهر له علم من أعلام الدين فإذا لم يكن المشروع فرضاً وأطلق تركه إلى تركه إلى دم أو غير دم لم يتبين كونه علماً للدين وشعيرة من شعائر الله تعالى.

وأما حجتهم: قالوا: الحج واجب بدليل مقطوع به للعلم والعمل فكل ما كان من الحج ولم يكن الحج حجاً إلا به فلابد من وجوبه بمثله يستقيم وجوب الحج بدليل موجب للعلم على ما دل الدليل من الكتاب، فعلى هذا لا يجوز أن يجب السعي لا بخبر الواحد ولا بالقياس بل يجوز أن يتعلق كما الحج بدليل من السنة فأما أصل الحج فلا يجوز إثباته إلا بدليل يوافق الكتاب في إفادة العلم وذلك أن يكون دليلاً مقطوعاً به. قالوا: ولأن السعي فعل يؤتي به خارج الإحرام فلا يكون ركناً كالرمي. وبيانه: أنه يحل الإحلال الأول بالحلق والثاني بالطواف ثم يسعى ويستحيل أن يكون السعي عملاً من أعمال الحج فلا يتم بدونه ثم يجوز أن يؤتي به خارج الإحرام. قالوا: ولأنه تبع للطواف بدليل أنه لا يجوز أن يؤتي به إلا عقيبه وهذا دليل التبعية حيث لم يستقل بنفسه بحال فلم يكن ركناً دليله: الوقوف بالمزدلفة مع الوقوف بعرفة. يدل عليه: أنا إذا جعلناه ركناً وهو تبع للطواف لم يصح الطواف إلا به ولا يجوز أن تقف صحة المتبوع على صحة التبع. قالوا: ولأن السعي ليس له وقت على انفراده بل يكون وقت الطواف وقتاً له، والأصل أن الركن في الحج له وقت ينفرد به. دليله: الوقوف والطواف وحين لم يكن وقت ينفرد به لم يكن ركناً.

الجواب: أما قولهم: ((إن الحج وجب بدليل مقطوع به)). قلنا: مسلم، لأنه وجب بالكتاب والسنة، ولا شك أن ذلك دليل مقطوع به لتواتره فيوجب العلم والعمل. فأما قولهم: ((إن كل فعل كان من الحج لم يتم الحج إلا به يجب أن يكون وجوبه بمثل هذا الدليل)). قلنا: ليس كذلك، لأن وجوب الحج بالكتاب لم يكن، لأنه لا يجوز وجوبه إلا بالكتاب بل كان يجوز وجوبه بالخبر وإن كان واحداً، لأنه واجب عملي، وأجمعنا على أن خبر الواحد يوجب العمل إلا أنه كذلك وقع الاتفاق الشرعي بأن الله تعالى أوجبه بالكتاب، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا جاز وجوبه فعل من أفعاله بدليل عملي لا يوجب العلم وألحق بسائر الأفعال في الركنية عملاً لا علماً وهو كالوتر على أصلكم ألحق بسائر الصلوات عملاً لا علماً، وهذا لأن الدليل يفيد الحكم بقدر مرتبته فإذا كان خبر الواحد يفيد الوجوب عملاً، ويجوز أن يكون هذا الفعل ركناً للحج عملاً صار ركناً عملياً من جهة أركان الحج، وسائر الأركان صارت أركاناً للحج علماً وعملاً وهو مثل واجبات الدين فبعضها واجبات الدين عملاً وعلماً وبعضها واجب عملاً لا علماً، كذلك ههنا. وأما الذي قالوا: ((إن السعي يفعل خارج الإحرام جملة)). قلنا: هذا يلزمكم كما يلزمنا، لأنكم تعترفون بوجوبه إن لم تعترفوا بركنيته واللزوم في الواجب صحيح مثل ما هو في الركن، وعلى أن نقول: إن الإحرام بمنزلة الباقي حكماً في حق السعي مثل ما يجعل بمنزلة الباقي حكماً في الرمي وطواف الصدر.

وأما قولهم: ((إن السعي تبع للطواف)). قلنا: لا نسلم ذلك، بدليل أنه يجوز فعله عقيب طواف القدوم وطواف القدوم سنة، والواجب لا يتبع السنة إلا أن الشرع ورد بنوع ترتيب مثل ما رتب الركوع على القيام والسجود على الركوع وإن لم يكن واحد منهما تبعاً لصاحبه. وأما قولهم: ((إنه غير مؤقت)). قلنا: هذا حد تنفردون به ولا نوافقكم عليه، ولأنه إذا جاز أن يكون غير واجب ويكون مؤقتاً يجوز أن يكون أيضاً واجباً ولا يكون مؤقتاً، والكلام ليس له غور، وفيما ذكرنا كفاية، والله أعلم. * * *

(مسألة) إذا جامع المحرم امرأته بعد الوقوف بعرفة فسد حجه

(مسألة) إذا جامع المحرم امرأته بعد الوقوف بعرفة فسد حجه عندنا، كما يفسد إذا جامع قبل الوقوف بعرفة، وعليه بدنه. وعندهم: يفسد قبل الوقوف وعليه شاة ولا يفسد بعد الوقوف وعليه بدنة. لنا: إن الوطء مفسد للإحرام بالإجماع، الإحرام بتمامه وكمال قائم بعد الوقوف فإذا وجد العامل في الإفساد في محل العمل وجب أن يعمل ويفسد حجه. دليله: إذا كان قبل الوقوف ويستشهد على هذا بالحسيات، فإن السيف إذا كان عاملاً في القطع والنار في الإحراق فإذا وجدا في محل العمل عملاً، كذلك ههنا.

وأما حجتهم: تعلقوا بما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل مذهبهم في الصورتين جميعاً على حسب ما قالوا، ولا مخالف له فوجب تقليده، ولأنه بالوقوف أمن حجه من الفوات فوجب أن يأمن من الفساد. دليله: إذا وقف ورمى، قالوا: وبفصل ما بعد الرمي يبطل قولكم إن الإحرام فائم أيضاً بعد الرمي ومع ذلك لا يفسد حجه. فإن قلتم: ((إن الإحرام ليس على تمامه)). قلنا: ليس كذلك، بل هو على تمامه بدليل بقاء المحظورات عليه إلى أن يحلق، وعلى أنه إذا كان الإحرام ضعف بالرمي فيكون الحكم بفساده أولى، لأنه إذا فسد الإحرام مع قوته وتمامه بالوطء فلأن يفسد عند ضعفه واختلاله أولى. وأما أبو زيد قال: أفعال الحج ينفصل بعضها عن البعض مكاناً وزماناً فلا يتأدى فساد بعضه إلى الباقي كالصلوات المختلفة بل هذا أولى، لأن الصلاة والصلاة تختلف زماناً ولا تختلف مكاناً، وهذه الأفعال تختلف

زماناً ومكاناً ثم هناك لا يتعدى الفساد من البعض إلى البعض فههنا أولى، وإذا ثبت هذا فنقول: إذا جامع قبل الوقوف فقد فسد إحرامه، والإحرام شرط لأداء الأفعال وإذا فسد قبل أداء شيء من الأفعال لم يجز أداء شيء من الأفعال بإحرام فاسد ففسد الحج بلا إشكال، فأما إذا جامع بعد الوقوف، فالوقوف قد صح بإحرام صحيح فإذا جامع فسد إحرامه وفسد الطواف وقد بينا أنه لا يتعدى الفساد من فعل إلى فعل فبقى الوقوف عل الصحة وفسد الطواف فصحة الوقوف توجب صحة الحج وفساد الطواف يوجب فساد الحج فقد تعارض الموجب للصحة والموجب للفساد فلابد من الترجيح، والترجيح للوقوف على الطواف بدليل قوله عليه السلام: ((الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه)) ولأنه يؤتى به في إحرام كامل. وأما الطواف يؤتى به وقد حصل بعض التحلل فيكون الوقوف في حصول الحج به فوق الطواف، ألا ترى أنه أبيح بعض التحلل بعد وجوده قبل وجود الطواف ولا يباح شيء من التحلل قبل وجوده، وإذا ثبت أن

جانبه أرجح قلنا إنه يبقى حجه على الصحة لصحته ولا يفسد بفساد الطواف ثم إذا لم يفسد وجبت بدنه لتغليظ الوطء وزيادته في التحريم على سائر المحظورات وقبل الوقوف لما فسد فقد وجب القضاء فسقطت البدنة ووجبت شاة لتقديم الوطء على وقته الذي أحل فيه. الجواب: أما أثر ابن عباس فلا تعرف صحته وإن ثبت فلا يترك القياس به. وأما قولهم: ((إنه حج وقع الأمن عن فواته فيقع الأمن عن فساده)). قلنا: ولم؟ ثم يجوز أن يفسد ما لا يفوت. دليله: العمرة، وهذا لأن الطواف غير مؤقت فلا يفوت وإذا لم يفت فلو فات الحج فات بفواته فإذا لم يفت هو لم يفت الحج، وأما الوقوف مؤقت بوقت مخصوص فيفوت بمضي الوقت من غير وقوف فيفوت الحج بفواته فافترقا لهذا المعنى. وأما الفساد فإنما كان للجناية على الإحرام بفعل الوطء وهو موجود سواء أكان قبل الوقوف أو بعد الوقوف. وأما قياسهم على ما بعد الرمي. قلنا: الإحرام قد وقع التحلل عن الإحرام عندنا بالرمي، ولهذا المعنى أبيح له الحلق ولم يكن مباحاً من قبل وإذا وقع به التحلل لم يبق إحراماً تاماً ومحل العمل إحرام تام. قلنا: هذا دعوى، وجب أن يبطل الإحرام سواء أكان تاماً أو لم يكن تاماً على ما سبق. قلنا: الإحرام إذا وقع عنه التحلل من وجه ضعف وإذا ضعف في نفسه

ضعفت الحرمة المتعلقة به فلم تكمل الجناية بارتكابه بل خفت وإذا خفت لم يعمل في إفساد الإحرام. أما في مسألتنا فالإحرام على تمامه وكماله فكملت أيضاً حرمة الوطء وإذا كلمت حرمة الوطء عظمت الجناية بارتكابه فأفسد الحج كما يفسد قبل الوقوف. وأما طريقة أبي زيد: فليست بشيء، لأن أفعال الحج وإن انفصل بعضها عن البعض مكاناً وزماناً ولكن عند الحج جمع الكل فيتعدى الفساد من البعض إلى البعض، وتحقيق هذا هو أن هذه الأفعال ليست بعبادات بأنفسها وإنما صارت عبادات لأنها أفعال الحج، ألا ترى أنه لو وقف أو سعى أو رمى لا في الحج لا يكون فعله شيئاً. فثبت أن هذه الأفعال إنما صارت عبادة لأجل أنها من الحج وإذا كانت صحتها عبادة لأجل أنها من الحج فيكون عند الحج جامعاً للكل وتصير جميع الأحوال كأنها شيء واحد في العبادة فيتعدى الفساد من البعض إلى البعض كما يتعدى في الصلاة والتعدي قد يكون في فعل لاحق وقد يكون في فعل سابق ففسد الوقوف والطواف جميعاً/ ففسد حجه. وأما ما قالوا: من الترجيح. فهوس، لأنههم إذا سلموا فساد الطواف بفساد الإحرام لأجل الوطء لا يمكن القول بعد ذلك بصحة الحج. لأن الحج لا يتأدى بطواف فاسد، وإن قالوا: يفسد الإحرام بالوطء فقد منعوا عمل الوطء مع كونه عاملاً في الإفساد ومع وجود محل العمل وهذا لا يجوز، والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) صيد الحرم والإحرام مضمون بالمثل خلقة من النعم فتجب في النعامة (بدنة)، وفي الضبع كبش، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الظبي شاة

(مسألة) صيد الحرم والإحرام مضمون بالمثل خلقة من النعم فتجب في النعامة (بدنة)، وفي الضبع كبش، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الظبي شاة. وعندهم: يكون مضموناً بالقيمة. ثم في المذهب تفاصيل في الجانبين، فعندنا يجوز أن يدع المثل ويتصدق بلحمه، ويجوز أن يقومه ويشتري بالقيمة طعاماً فيتصدق على كل مسكين بمد أو يصوم مكان كل مد يوماً، والخيار إلى الحكمين.

وعندهم: يصرف القيمة إلى الهدى من النعم إن شاء وإن شاء صرفه إلى الطعام ويطعم كل مسكين نصف صاع فإن شاء صام مكان كل نصف صاع يوماً، والخيار عندهم إلى من عليه، قالوا: وإن تصدق بالقيمة يجوز أيضاً. لنا: قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}، فيجب مثل المقتول من النعم بنص الكتاب. وعندهم: تجب قيمة المقتول وهو خلاف القرآن. ويدل عليه: إجماع الصحابة، روى عن عمر، وعثمان، وعلي،

وزيد، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، ومعاوية أنهم قالوا: في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الضبع كبش، وفي الظبي شاة، وفي الغزال عنز، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة، وفي الحماة شاة، وهذا الإجماع في نهاية الحجة ولم يرو عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. وإن قالوا: إنه كان بطريق القيمة فهذا محال، لأن تقويم هذه الحيوانات بهذه الحيوانات باطل بل نقطع بوجود التفاوت قيمة يدل عليه: أنهم أوجبوا هذه الحيوانات من النعم في مقابلة هذه الحيوانات من الصيود، والقيم دراهم ودنانير فكيف يستقيم تقويم الحيوان بالحيوان؟ وإن قالوا: اعتبروا المعادلة قيمة، فلا معادلة بين قيمة البدنة وقيمة النعامة، وكذلك في حمار الوحش والبقر والضبع والكبش والظبي والشاة فلا مطمع لهم في تأويل الآية وتأويل أقوال الصحابة بحال، ويقال أيضاً: واجب باسم الكفارة فلا يرجع فيها إلى التقويم. دليله: سائر الكفارات. يدل عليه: أن حق الله تعالى متعلق بهذه الواجبات فيكون لزومها بالتوقيف المحض، وهذا لأن الله تعالى خلق هذه الحيوانات على خلق مختلفة وصور متفاوتة، وقد تعلق حق الله تعالى بها إذا كانت في الحرم،

وكذلك في حال الإحرام، فإذا أمكن قضاء حق الله تعالى بنوع من المماثلة بين النعم وهذه الصيود فلا يجوز تركه ووجب اعتباره، وإذا رجعنا إلى القيمة مع إمكان اعتبار المماثلة صورة بين النعم والصيود ولم نعتبرها فقد ضيعنا حق الله تعالى من هذه الجملة وهذا لا يجوز. وأما حجتهم: تعلقوا بالقياس المحض، وقالوا: حيوان مضمون فيكون مضموناً بالقيمة. دليله: الحيوانات المملوكة. يبينه: أن الصيود لا مثل لها، والنعم لا مثل له، بدليل أنه لا تضمن الصيود بالصيود ولا النعم بالنعم فإذا حكم بعدم المثل في الجنس الواحد فلئن يحكم بعدم المثل في الجنسين المختلفين وهو الصيود والنعم أولى. قالوا: فإن قلتم: يوجد نوع مماثلة فإن ذلك غير معتبر، لأنا إن اعتبرنا نوع مماثلة فيوجد ذلك بين كل شيئين في العالم فدل أن المماثلة حقيقة هي أن يكون ذاتاً ومعنى وصفة. قد قالوا: إذا اعتبرنا القيمة فقد اعتبرنا المماثلة معنى. وأما إذا أعرضتم عن القيمة واعتبرتم المماثلة حقيقة وهي لا توجد فلا مماثلة ولا معنى ولا صورة فصار ما قلتم إعراضاً عن المماثلة من كل وجه وما قلناه إعراض عن المماثلة من وجه واعتبار لها من وجه فكان أولى. وتعلقوا بالحيوانات التي لا مثل لها مثل العصافير والقنابر وغيرها فإنه تجب القيمة فيها، كذلك في الحيوانات التي لها مثل وجب أن تجب القيمة أيضاً.

وقالوا في الآية: إن معنى المثل هو القيمة، وهو مثل معنى وإن لم يكن مثلاً صورة. قالوا: وقد تم معنى الآية بقوله: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} وقوله: {مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} ابتداء ومعناه أنه يحكم به عند اختيار من عليه الجزاء، وذلك بأن يشتري بالقيمة من النعم فيكون ذلك كفارة له أو يصرف إلى الطعام فيكون كفارة أو إلى الصيام فيكون كفارة، وعلى القيمة أولوا أقوال الصحابة على معنى أن القيمة الواجبة كانت مصروفة إلى هذه الأجزية. الجواب: إن جميع ما قالوه محض قياس، والكتاب وإجماع الصحابة مقدمان عليه، وقد بينا وجوه ذلك ولا مطمع في التأويل، لأن قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}، يأتي التأويل بالتقويم، لأن التقويم بالنعم محال بالدنانير والدراهم. وقولهم: ((إن القيمة تكون مصروفة إلى النعم)). يقال أولاً: هذا ليس بشيء حتم على أصلكم، فإن عندكم لو تصدق بالدراهم والدنانير التي هي القيمة جاز. وأما عندنا فوجوب المثل حتم، وقد دلت الآية على الحتمية، لأن تقدير الآية فعل جزاء مثل ما قتل من النعم، ولأن عندكم يدخل النعم في هذا الجزاء عند اختيار من عليه ذلك وصرف القيمة إليه وهذه زيادات لا يدل عليها ظاهر الآية بوجه ما. وأما تأويل إجماع الصحابة فقد بينا فساده.

وأما الذي قالوه واعتقدوه من كون القيمة مثلاً معنى، فالقيمة لا تكون مثلاً بحال، وذوات الأمثال مختلفان وذوات القيم لا تكون مثله بحال. وأما قولهم: ((إن المماثلة خلقة وصورة لم توجد)). قلنا: توجد ببعض الوجوه ولم توجد من كل الوجوه، وقد بينا أن على الوجه الذي يوجد تعطيله. والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) إذا دل المحرم محرما آخر أو حلالا على صيد فقتله المدلول لم يجب الجزاء على الدال

(مسألة) إذا دل المحرم محرماً آخر أو حلالاً على صيد فقتله المدلول لم يجب الجزاء على الدال عندنا. وعندهم: يجب. لنا: ما روى عن ابن عمر مثل مذهبنا، ولأن الله تعالى علق الجزاء بفعل القتل بقوله تعالى: {مَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}.

والدلالة ليست بقتل، والأولى أن يقال: علق الجزاء والاصطياد والدلالة ليست بقتل ولا هو اصطياد. ودليل تحريم الاصطياد في ضمن قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ}. يبينه: أن الله تعالى قال: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} أي اصطياد صيد البر. والدليل على أنه ليس باصطياد أن الصيد لا يكون له بل يكون للمدلول. ونقول أيضاً: دلالة على إتلاف محل مضمون فلا يكون سبباً لضمان المحل. دليله: إذا دل على قتل مسلم فإنه لا ينبني عليه سوى الإثم. يدل عليه: أن نهاية ما في الباب أنه سبب لقتل الصيد والقاتل باشر القتل باختياره فتقطع حكم الدلالة التي هي سبب، مثل ما لو حفر بئراً فجاء إنسان وردي فيه إنساناً فإنه لا ضمان على الحافر وإنما يجب على المردي. فثبت أن المباشرة تقطع حكم السبب وإذا انقطع حكم السبب التحق بالعدم فلم يجب به شيء، والتحرير واجب باسم الكفارة فلا تجب بالدلالة. دليله: كفارة القتل وتأثيره ما سبق. وأما حجتهم: رووا عن ابن عباس: ((أنه أوجب على الدال الجزاء)).

قالوا: وعن عمر مثله، وكان شاور فيه عبد الرحمن بن عوف. أما المعنى: قالوا: الدلالة على الصيد من محظورات الإحرام فيكون سبباً لوجوب الكفارة في الجملة. دليله: الأخذ. دليله: سائر المحظورات، والدليل على أنها من محظورات الإحرام، أن الدلالة محرمة عليه بالإجماع وقد صارت محرمة بالإحرام بدليل أنه إذا حل زالت الحرمة. ودليل الحرمة أيضاً أن الدال فلا يجوز له الأكل من الصيد، وصورته محرم دل حلالاً على قتل صيد فقتله حرم على الدال أكله، فعرفنا أن الدلالة من محظورات الإحرام فصارت سبباً لوجوب الجزاء، وهذا لأن الكفارة وجبت بجناية على إحرامه بارتكاب محظوره، وقد وجد هذا في مسألتنا فوجب الجزاء. وأما تحقيقهم في المسألة: قالوا: تحريم القتل والاصطياد معلول بإزالة أمن ثبت للصيد بالإحرام، والدلالة في إزالة الأمن عن الصيد بمنزلة الرمي والأخذ، لأن أمنه عن الصائد في حالته تلك بتواريه عن عين الصائد، ألا ترى أنه لا يبقى آمناً

في تلك الحال بعد علمه به، وإنما يكتسب أمناً آخر بفوته والفرار الذي يحدثه. يبينه: أن الخلاف في الطير والفرخ والبيض واحد، ولا يأمن البيض عن الصائد بعد علمه به، فثبت أن الأمر يزول بالدلالة وإذا كان وجوب الجزاء معلولاً بإزالة الأمن وقد زال ذلك بالدلالة فوجب بها الضمان، وشبهواً هذا بالمودع إذا دل السارق على سرقة الوديعة حين سرقها يجب عليه الضمان، وكذلك إذا ترك الحفظ صار جناية في حقه على الخصوص، كذلك المحرم قد التزم هذا الأمر، وإذا تركه صار جناية في حقه على الخصوص. قالوا: ولا يلزم إذا دل على الصيد فلم يأخذه المدلول حيث لا يجب عليه شيء بنفس الدلالة، لأنه إذا لم يأخذه المدلول عاد الأمن إلى الصيد فصار كما لو أخذ الصيد ثم أرسله سقط عنه الضمان لما ذكرنا. قالوا: وأما إذا دل/ عليه ثم رجع عن الدلالة ونهاه عن أخذه لا يبرأ عن الضمان لأن زوال الأمن كان بعلم الصائد بمكانه وذلك السبب قائم وإن رجع هو عن دلالته ونهاه عن الأخذ فلم يبرأ عن الضمان. قالوا: وكذلك نقول في المودع إذا مكن السارق من أخذ الوديعة ثم نهاه باللسان لا يبرأ، وإنما يبرأ إذا حفظه باليد فعجز، لأنه لما أثبت اليد عليه فقد عاد إلى المال ما كان ثابتاً من قبل وهو الحفظ المؤمن للوديعة فبرئ عن الضمان الواجب بإزالة أمن الحفظ فقياس هذا من مسألتنا أن لو ذهب الدال وأخفى الصيد بأن كان بيضاً أو فرخاً فأخفاه من المدلول فإنه يبرأ عن الضمان في هذه الصورة. دليله: مسألة الوديعة وتقريره وبيان وجه تأثيره ما سبق.

قالوا: وليس كالدلالة على قتل المسلم، لأن دم المسلم وماله غير مضمون أمانه على أحد ولا حفظه حتى يقال يجب الضمان بإزالة الأمن أو ترك الحفظ. فإن قلتم: ((مضمون بعقد الإسلام)). قال: ليس في الإسلام ضمان شيء من هذا الباب إنما يجب عليه بحق الدين أن لا يؤذي مسلماً، فلا جرم وجب بتركه الجزاء الذي هو بمعصية الله تعالى على الإطلاق، وذلك الإثم وإذا لم يكن فيه ضمان فكان الواجب من الكفارة وغيرها متعلقاً بتعقد يقع على العين، والدلالة ما اتصلت بالعين جناية عليه وإنما يتصل بالعين مباشرة الأخذ أو الإتلاف، وإذا كان المباشرة والأخذ مختارين في الإتلاف والأخذ كانت إضافة السبب مقصورة عليهما ولم تجب على صاحب الدلالة فصار حرفهم في المسالة: أن ترك الحفظ سبب ضمان العين بضمان الحفظ وإزالة الأمن سبب ضمان العين بضمان الأمن فالأول في الوديعة، والثاني في الإحرام، ومثل هذا لا يوجد في عقد الإيمان فبقى مجرد ارتكاب المعصية بالدلالة على المعصية، وأما الضمان فكان مقصوراً على من يوجد منه العدوان المتصل بالعين. قالوا: وأما جزاء صيد الحرم يجب على وجه البدل على المتلف، ولهذا يدخل فيه الصوم، وهذا لأنه لم يوجد عقد ولا التزام أمان حتى يصير بالقتل جانياً على عقده، وإنما الله حرم هذه الصيود في الحرم لمحض حقه أو لحق الصيد على ما سبق. وإذا أتلفه كان الواجب عليه بدل المتلف لحق الله تعالى. وفي مسألتنا إنما تجب الكفارة على وجه الجزاء على ارتكاب المحظور ولهذا دخل فيه الصوم، وهذا لأن الواجب إذا كان في مقابلة المحل لا يجوز أن يدخل فيه الصوم، لأنه لا مماثلة بين الصوم والمحل، وأما إذا كان جزاء عن ارتكاب

محظور يجوز أن يدخله الصوم، لأن الصوم يصلح أن يكون واجباً عن ارتكاب محظور ولأن الصوم حسنة وارتكاب المحظور سيئة، والله تعالى قد شرع الحسنات مذهبة للسيئات، وإذا كان الواجب في صيد الحرم على طريق البدل عن المتلف لم يجز أن يجب ضمانات عن متلف واحد، وإذا وجب على المباشر بارتكاب المحظور بقتله لم يجز أن يجب على الدال. وفي مسألتنا لما كان الواجب جزاء على ارتكاب محظور يجوز أن يجب على المباشر بارتكاب المحظور بالقتل، ويجب أيضاً على الدال بارتكابه المحظور بدلالته، لأن كل واحد منهما مرتكب محظور. وقال أبو زيد في ((الأمالي)) جواباً عما إذا دل ولم يقتل المدلول: إن الضمان من حيث إنه وجب بارتكاب محظور يكون كفارة وجزاء عن الجناية، ومن حيث إنه لم يجب جزاء عن صيد مضمون يجب بدلاً عنه فيجب بالطريقين جميعاً كفارة وبدل، فمن حيث إنه يدل لم يجز أن يجب إذا كان المبدل سليماً على حاله ولا يجب إلا بعد فوته، ومن حيث إنه كفارة يجوز أن يجب إذا فات المبدل على القاتل لإتلافه بدلاً عنه، وعلى الدال الكفارة بجنايته على إحرامه. الجواب: أما الآثار عن الصحابة: فقد روينا عن ابن عمر مثل مذهبنا، وعليه يدل القياس الجلي. وأما قولهم: ((إن الدلالة من محظورات الإحرام)). قلنا: أما إذا دل محرماً على الصيد ليقتله فإنما كان محظوراً لأنه دلالة

على المعصية، والدلالة على المعصية معصية، وهو مثل أن يدل ظالماً على مسلم ليقتله. وأما إذا دل حلالاً على صيد ليقتله فإنما كانت الحظرية بالنص وهو حديث أبي قتادة المعروف: ((أنه كان في رهط في المحرمين وكان حلالاً فمر به حمار وحشي فشد لعيه وقتله وجاء به إلى أصحابه فأبوا أن يأكلوا حتى يسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما سألوه قال: هل أعنتم؟ هل أشرتم؟ هل دللتم؟ قالوا: لا، قال: فكلوا)). ولولا هذا النص لا تجب الدلالة ولا يجب الأكل أيضاً، فسلم هذان الحكمان في هذه الصورة/ للنص، فأما في الصورة الأولى فمجرد الدلالة على المعصية، بدليل الدلالة على قتل المسلم ليقتله المدلول. وأما قولهم: ((إنه بعقد الإحرام التزام أمان الصيد)). قلنا: يجوز أن يقال إنه ما التزم شيئاً بعقد الإحرام إنما هو شارع في حج عليه أو حج متنقل به، وإنما الله تعالى حظر عليه أشياء في عقدة

الإحرام فنظرنا إلى المحظور فوجدناه بالقتل ثم نظرنا فوجدنا واجب القتل لا يجب بالدلالة على القتل بحال، وعلى أنا إن سلمنا أنه التزام الأمان في حق الصيود ولكن عن القتل والاصطياد ولم يوجد واحد واحد منهما. قالوا: ((بل التزام كل ما ينافي أمانه)). قلنا: لا، بل القتل متعين، لأن الشارع نص على القتل، وغير القتل لا يحرم تحريم القتل، وأما حظرية الدلالة كانت بالوجه الذي قدمنا ثم نقول: إذا كان الواجب بارتكاب المحظور فأوجبوا الجزاء وإن لم يقتل المدلول. وقولهم: ((إنه إذا لم يقتل المدلول عاد الأمان)). قلنا: هذا أضعف كلام يكون، لأن جنايته على إحرامه قد تحققت من حيث الدلالة وتخويف الصيد قد وجد وهو جناية مستقلة بنفسها فوجد وإن لم يتصل به القتل بدلالة أن الإثم في هذه الصورة على الدال مثل الإثم عند اتصال القتل بالصيد فينبغي أن تجب الكفارة وحين لم تجب عرفنا أن الدلالة غير موجبة للجزاء بحال. أما عذرهم الأخير في سلوك طريقة الشبهين. فهذه طريقة يسلكها هذا القائل في كثير من المسائل، وهي بعيدة عن مناهج الفقهاء، لأن حق الفقيه ترجيح أحد الشبهين على الآخر ومداخلة المعاني الصحيحة على أصول الشرع ليتبين له قطع الحادثة عن أحد الشبهين وإلحاقها بالشبة الآخر وإنما سلوك طريقة الشبهين نوع عجز يعدم صاحب المعنى، وعلى أنا نقول: إن الضمان عن الحيوان المضمون يكون بدلاً عنه كضمان الشاة والبقرة ونفس المسلم.

والدليل عليه: أن الواجب يتقدر بقدر المتلف. أما عندنا باعتبار المثل خلقة، وعندهم باعتبار القيمة، وأبدال المتلفات يتقدر بقدر، فأما الكفارات فلا. وأما الحظرية فكانت، لأن المتلف ليس له بحق له مثل مال الغير، وكذلك نفس المسلم فحظر الفعل لهذا المعنى ثم الواجب بدل، لأن المتلف حيوان مضمون، والواجب بإزاء الحيوان المضمون لابد أن يكون بدلاً عنه. وأما دخول الصوم إنما كان، لأن الواجب لله تعالى، والصوم يكون بدلاً في حق الله تعالى، وأما ضمان المال والنفس فإنما وجب لحق الآدمي فلا يستقيم أن يجب الصوم بدلاً عن حق الآدمي فلهذا افترقا. وأما فصل الوديعة فنقول: المودع في تلك الصورة لا يضمن بالدلالة بدليل أنه لو رأى سارقاً يسرق الوديعة أو غاصباً يأخذه فلم يمنعه يجب عليه الضمان ولا دلالة له ههنا. وفي مسألتنا: لو رأى واحداً يقتل صيداً فلم يمنعه لا شيء عليه، وكذلك في الوديعة لو نهى بعد الدلالة يسقط الضمان، وفي مسألتنا قد قلتم: إنه وإن نهى بعد الدلالة لا يسقط الجزاء وقد اعتذروا عن هذا الفصل. والأول معتمد، وهذا لأن المودع بعقد الوديعة ضمن حفظ الوديعة، لأنه عقد معقود على الحفظ وحين دل أو تركه حتى سرق فقد ترك الحفظ فإنما ضمن لهذا المعنى. والفقهاء قد سموا الضمان الواجب على المودع بهذا السبب ((ضمان تضيع)) وجعلوا المودع مضيعاً بما فعله وضمان الحفظ يضاد التضيع فكان التضيع موجباً للضمان بهذا الوجه. وأما المحرم لم يلتزم حفظ الصيود حتى يضمن بترك الحفظ.

وقولهم: ((إلتزام الأمن)). فقد أجبنا عن هذا. يبينه: أن التزامه الأمن للصيود مثل التزام المسلم أمن الناس عن أذاه بإسلامه. وقال النبي عليه السلام: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)). وقولهم: ((إن هناك لم يلتزم)). قلنا: إن عنيتم نص الالتزام فلم يوجد في الموضعين، وإن عنيتم دليل الالتزام ووجود الحظرية فقد وجد في الموضعين بلا فرقان ثم نقول: المودع لما أمكنه الحفظ حتى لا يأخذه السارق فصارت قدرة السارق على الأخذ بترك الحفظ، لأنه لو حفظه لم يقدر عليه فصار ترك الحفظ هو السبب في الأخذ، ألا ترى أنه يمكنه أن يحفظ مع أخذه. فأما الدلالة بعد علم المدلول لا يكون سبباً لأخذ الصائد فإنه بعد دلالته يتوصل الصائد إلى الصيد بقدرته واختياره فلم تبق دلالته جناية على الصيد حين الأخذ، وفي مسألتنا ومسألة المودع بقى ترك الحفظ جناية على الوديعة عند الأخذ فافترقا معنى، والله أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) المحرم إذا قتل ما لا يؤكل لحمه من السباع/ وسائر الحيوانات لا يجب عليه الجزاء

(مسألة) المحرم إذا قتل ما لا يؤكل لحمه من السباع/ وسائر الحيوانات لا يجب عليه الجزاء. وعندهم: يجب إلا في الخمس الفواسق وألحقوا الذئب، وإن لم يرد بها الخبر. لنا: حديث ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي عليه السلام قال: ((خمس من الدواب لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحرم: العقرب، والفأرة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور)).

(قال ابن عيينة: الكلب العقور: كل سبع يعقر وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عتبة بن أبي لهب: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، فافترسه الأسد). وروى ابن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري هذا الحديث وزاد فيه أن النبي عليه السلام قال: ((والكلب العقور والسبع العادي)). رواه أبو داود في سننه، وروى هذا الحديث (أبو عيسى) في جامعه، واللفظ: ((يقتل المحرم السبع العادي ثم قال: وهو حديث حسن)). والخبر الثاني نص. والاستدلال بالخبر الأول حسن. وقول ابن عيينة في نهاية الحسن. فإن حملوا الحديث على حال الاعتداء فهو باطل، لأنه إذا كان المراد من الحديث هذه الحالة لم يكن لتخصيص الذكر معنى، لأن غير السبع يكون بمثابته وذلك مثل جمل الصائل وحمار الوحش إذا عدى أو أشباه ذلك. ومن جهة المعنى نقول: سبع مؤذي بطبعه فيجوز للمحرم قتله ولا شيء عليه.

دليله: الذئب، والقياس في الذئب في غاية القوة، لأن النص لم يأت به في خبر ما، وإنما أبيح قتله لأنه سبع عادي وكذلك في سائر الحيوانات، وهذا لأن هذا الحيوان إذا كان مؤذياً بطبعه عادياً بجبلته فيكون قتله في الحقيقة دفعاً لأذاه فصار كما لو قصد المحرم فقتله المحرم فإنه لا يكون عليه شيء، فكذلك ههنا. ويدل عليه: أن طبيعته باعثة له على الأذى فصار كما لو تحقق منه الأذى، وهذا كالكفار المحاربين يجوز قتلهم لمحاربتهم فلو لم يحاربوا يجوز قتلهم ابتداء، لأن كفرهم حامل إياهم على الحراب والقتال، فصار كما لو تحقق منهم الحراب والقتال. وأما حجتهم: تعلقوا بقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} وهذه الحيوانات صيود، لأن كل مستوحش ممتنع صيد، ولأن كل حيوان جاز اصطياده لنوع منفعة فهو صيد، فهذه الحيوانات وإن كانت لحومها لا تؤكل فيجوز اصطيادها لجلودها أو للإنتفاع بعظامها وشعورها، وإذا جاز الاصطياد لمنفعة مطلوبة كان صيداً. قال الشاعر: صيد الملوك أرانب وثعالب ... وإذا ركبت فصيدك الأبطال فقد جمع بين الأرانب والثعالب لا تؤكل)، فدل أن الصيد لا يختص بما يؤكل لحمه.

قالوا: وأما الأذى فلا يوجد من هذه السباع سوى خمس الفواسق إلا على الندور فلأنها تبعد في العادة عن الناس وليست بحيوان يساكن الناس ولا هي تكون بقرب من العمرانات فيقل منها الأذى ولا يكثر بخلاف الخمس الفواسق، لأن الحية والعقرب والفأرة مما يساكن الناس في بيوتهم، وكذلك الكلب يكون فيما بين الناس ويؤذيهم والغراب والحدأة والذئب تطوف حول العمرانات فيوجد منها أدى الاستلاب، ولأن الذئب في العادة يكون يقصد أغنام الناس وأطفالهم فيكثر الأذى من هذه الحيوانات، وأما ما سواها من السباع فلا يكثر عادة، وإنما يوجد نادراً فلا يلحق بالخمس الفواسق، وهذا إنما يلحق بها إذاكان في معناها فإذا لم يكن في معناها فلا، وقد بينا أنها ليست في معناها، وأما الذئب فإنها في معنى الخمس الفواسق فألحقت بها. الجواب: أما دعواهم أن هذه الحيوانات صيود. فلا نسلك ذلك، وعندنا الصيد كل حيوان يؤكل لحمه، فأما ما لا يؤكل لحمه فلا يؤكل صيداً بحال. قالوا: فقد كانت هذه الحيوانات مأكولة عند العرب، لأنهم كانوا يأكلون كل ما دب ودرج إلا أم حبين فكانت صيوداً عندهم ثم جاء الشرع بالتحريم بعد ذلك فكان الشرع مغيراً للأحكام دون الأسامي فبقى اسم الصيد على ما كان من قبل. قلنا: العرب لا تعرف الصيد إلا مأكول اللحم، وقد روي عن ابن

أبي عمار أنه قال لجابر في الضبع: أصيد هو؟ قال: نعم، قال: عن رسول الله؟ قال: نعم. وإنما كان السؤال كان عن حل الأكل وذكره باسم الصيد، وإذا كان اسم الصيد عندهم لمأكول اللحم فإذا لم يكن مأكولاً لا يكون صيداً. وقولهم: ((إن الشرع غير الحكم دون الاسم)). قلنا: الإسلام التي يبني عليها الأحكام إنما يعتبر فيها مورد الشرع لا مورد اللغة. وأما قولهم: ((إنه حيوان متوحش ممتنع)). قلنا: قد تركتم وصفاً آخر وهو أن يكون مستوحشاً ممتنعاً مأكول اللحم. وقولهم: ((إن كان ما يصطاد فهو صيد)). قلنا: الناس لا يقصدون بالصيد إلا مأكول اللحم/ فأما غيرهم فإن قصدوها فإنا يقصدونها لا لاصطياد لكن لدفع الأذى، وأما المنافع التي ذكروها من الانتفاع بالجلود والشعور وغير ذلك فهو اتباع اللحوم ولا يعتبر ذلك على الانفراد وقد ذركنا هذا في كتاب الطهارة في الأوساط. وأما الذي قالوا: ((إن الأدى لا يكثر من هذه الحيوانات عادة)). قلنا: نحن نعمل قطعاً أن الأسود والنمور يقصدون من يقدر عليه من

بني آدم فإن تركت القصد مع القدرة فذلك نادر، ولهذا المعنى تسمى سباعاً عادية يعني أنها تعدو على الناس ويقصدونها بالأذى. يبينه: أن قصد الحيات ربما يكون أقل من قصد الأسود والنمور وما يشببهها ومع ذلك يباح قتلها. وقولهم: ((إنها تبعد من الناس)). قلنا: هذا أمر يختلف، فإنها قد تقرب وقد تبعد فلا يجوز بناء الحكم على هذا الدنا فإنها تبعد تارة وتقرب أخرى فلا يعتبر ذلك وإنما يعتبر قصده من يقدر عليه وهذا موجود في السباع، والله تعالى أعلم بالصواب. * * *

(مسألة) جماعة محرمون اشتركوا في قتل صيد فعليهم جزاء واحد

(مسألة) جماعة محرمون اشتركوا في قتل صيد فعليهم جزاء واحد عندنا. وعندهم: على كل واحد جزاء كامل. لنا: ما روى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سأله جماعة قتلوا ضبعاً عن الواجب عليهم، قال: ((عليكم جزاء واحد)). وأما المعنى: نقول: ضمان حيوان معصوم يتقدر بقدر الحيون فيكون الواجب واحداً وإن تعدد المتلف.

دليله: إذا قتل جماعة صيداً في الحرم. والفقه أن الضمان في مقابلة المتلف بدليلين: أحدهما: لأن ضمانه لأمانه فإن الله تعالى أمن الصيود عن الحرمين كما أمن الصيود في الحرم، والأمان في الحيوان المباح قتله يوجب الضمان بدليل أهل الحرب، وإذا كان الضمان بهذا الطريق فلابد أن يكون في مقابلة المتلف. والثاني: أن الواجب يقتدر بقدر المتلف، أما عندنا فإن الضمان بالمثل خلقة يكون معدلاً على قدر المتلف وصفاته، وكذلك على أصلكم تجب القيمة بقدر المقتول حتى إذا كان المقتول حيواناً كبيراً يجب بقيمته وإن كان صغيراً يجب بقيمته، والواجب المعدل بقدر المتلف لا يتضاعف بتعدد المتلفين. دليله: سائر الضمانات. ودليله: المقتول خطاً أو عمداً. وأما حجتهم: قالوا: الواجب جزاء الجناية وجناية كل واحد منهم كامل فيجب عليه جزاء كامل. دليله: إذا انفرد، وإنما قلنا: إن الواجب جزاء الجناية، لأن الواجب كفارة، والكفارة جزاء الجناية لا لتمحيص الإثم مثل سائر الكفارات، ولهذا كانت الكفارة بما هو عبادة، لأن العبادة سبب لتمحيص الآثام بدليل

قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، وهذا لأن الإحرام عقد يوجب تحريم أفعال عليه وتلك الأفعال محظورات هذا العقد فيصير بارتكاب المحظور جانباً على إحرامه فيلزمه الجزاء ليكون في مقابلة جنايته، وهذا لأن ارتكاب الجناية مخيل في إيجاب الجزاء الزاجر عنها. ويدل عليه أن الصوم يدخل في جزاء قتل الصيد ولو كان الواجب على طريق بدل المتلف وجب أن لا يكون للصوم مدخل فيه، لأن البدل واجب بشرط المماثلة ولا مماثلة بين الصيد والصوم فثبت بما قلناه أن الواجب بإزاء الجناية ثم الدليل على كمال الجناية كمال الإحرام وإذا كمل الإحرام فلابد من الحكم بكمال الجناية، لأن كمال الإحرام يوجب كمال الحظرية وكمال الحظرية يوجب كمال الجناية وكمال الجناية يوجب كمال الجزاء، وهذا كالجماعة إذا قتلوا واحداً فإنه يجب على كل واحد منهم كفارة كاملة كذلك ههنا، وكان المعنى ما بينا. قالوا: وأما التعديل بالمحل فإنما كان كذلك، لأن هذه الجناية لها محل فيكون قدرها بقدر المحل فعند زيادة المحل تزداد الجناية وعند نقصان المحل تنتقص الجناية. وأما استواء الكفارة في قتل الآدمي فإنما كان لأنها مقدرة شرعاً فلا تزداد ولا تنتقص، وأما ههنا فالواجب هو القيمة وإن كان جزاء الجناية فجاز أن تنتقص وتزداد أخرى. وقد سلك أبو زيد طريقة الشبهين وقال: إن الواجب يشبه جزاء

الجناية من وجه ويبه بدل المتلف من وجه، وقد أشرنا إلى ذلك في المسألة الأولى. وقال أيضاً: إن الواجب كفارة القتل، والجماعة إذا اشتركوا في تقل صيد مثل الجماعة إذا اشتركوا في قتل واحد من بني آدم ثم هناك الموجود من كل واحد قتل كامل، كذلك ههنا الموجود من كل واحد قتل كامل فإذا كمل القتل كمل الكفارة، وبيان كمال القتل قد ذكرناه في ربع القصاص. قالوا: وأما الجماعة إذا قتلوا صيداً في الحرم/ فإنه لا يجب عليهم جزاء واحد، لأنه واجب على طريق البدل عن المتلف، والمتلف واحد فيكون البدل واحداً وهذا لأنه لم يوجد منه عقد حتى يكون القتل جناية على العقد، وإنما الصيد في الحرم أمن بأمان الله تعالى فإذا قتله وجب البدل لله تعالى مثل من قتل صيداً مملوكاً يجب الضمان لصاحب الملك. وأما ههنا فإن هذا جزاء الجناية بدليل ما سبق. قالوا: ولهذا لا يدخل الصوم في جزاء الصيد في الحرم ويدخل في جزاء الصيد في الإحرام. وربما يقولون: إن الواجب في صيد الحرم حق الصيد والواجب في صيد الإحرام حق الله تعالى زجراً لا جبراً، لأن الجبر في حق الله تعالى لا يتصور. الجواب: قولهم: ((إن الواجب جزاء الجناية)).

لا نسلم ذلك، بل الواجب بدل المتلف على ما سبق بيانه. والأولى أن نقول: إن الواجب ضمان المتلف على جهة البدل وتضمن ذلك نوع جزاء على الجناية، وهو كالقصاص عندكم ضمان المتلف بالمثل لكن تضمن الجزاء على الجناية، وبيان هذا في ربع القصاص، وعلى أنا قلنا أنه بدل المتلف على الإطلاق فيمكن تمشيته لما بينا أنه حيوان مضمون ولأنه ضمان معدل مقدر بقدر المتلف. أما قولهم: ((إنه يسمى كفارة)). قلنا: لا عبرة بالأسامي وجزاء صيد الحرم كفارة، وقد سلموا أنه بدل المتلف وعلى أنه يسمى كفارة، لأنه تضمن نوع جزاء على الجناية على ما سبق. وأما قولهم: ((إنه يجب بارتكاب محظور)). قلنا: هذا يوجد في صيد الحرم، ومع هذا قد سلموا أنه بدل، وعلى أن الدية واجبة بفعل محظور أو بتقدير فعل محظور وهي بدل قطعاً. وأما كفارة قتل الآدمي فقد ذكر أبو علي الطبري صاحب ((الإفصاح)) قولاً للشافعي أن جماعة لو قتلوا واحداً لا يجب عليهم إلا كفارة واحدة، وعلى أن هاك لا يمكن إيجابها على الأبعاض، ألا ترى أنها لا تجب بالجناية على بعض الجملة بحال، وههنا يمكن إيجابها أبعاضاً ألا ترى أنه

يجوز أن يجب بالجناية على البعض وهو الطرف، ولأن الكفارة لما كانت جزاء الجناية لم تتقدر ولم يعدل بقدر المتلف حتى إن المتلف صغيراً كان أو كبيراً أو قليل القيمة أو كثير القيمة تكون الكفارة واحدة بخلاف مسألتنا على ما سبق. وقولهم: ((إن الجناية تزداد بزيادة المحل وتنتقص بنقصان المحل)). قلنا: إن كان هذا صحيحاً فهلا قلتم في كفارة قتل الآدمي يكون هكذا؟ وأما دخول الصيام فإنما كان لأن الواجب حق الله تعالى فلهذا دخل الصيام أو يجوز ضمان حق الله تعالى بالصيام وإنما لا يجوز في حق الآدمي. وأما قولهم: ((لا ممثالة بين الصوم والصيد)). قلنا: العبرة بالمماثلة شرعاً، والشرع في الابتداء أوجب المثل إذا أمكن ثم إذا صار الأمر إلى القيمة على تدريج فقد حقق معادلة بين الصوم والطعام من حيث الحكم لا من حيث الحس والمعقول، وعلينا الانقياد لذلك شئنا أو أبينا، وعندنا يدخل الصوم في جزاء صيد الحرم أيضاً. وأما قولهم: ((إنه وجد من كل واحد منهم قتل كامل)). فقد أجبنا عن هذا في القصاص، والله أعلم. * * *

(مسألة) لا حصر إلا حصر العدو

(مسألة) لا حصر إلا حصر العدو عندنا. وهذا اللفظ مروى عن ابن عباس وهو قول ابن عمر رضي الله عنهم. وعندهم: يثبت الإحصار بالمرض كما يثبت بالعدو. لنا: حديث عكرمة عن ابن عباس أن ضباعة بنت الزبير أتت النبي عليه السلام وقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج أفأشترط؟ قال: ((نعم، قالت: كيف أقول؟ قال: قولي لبيك اللهم لبيك محلي من الأرض حيث تحبسني)).

(وفي الباب عن جابر وعائشة وأسماء بنت أبي بكر). والاستدلال أنه لو حل الخروج لم يكن للاشتراط معنى، وقد قال كل من يرى الخروج بالمرض جائزاً أن الاشتراط باطل. وقد قال كل من لا يرى الخروج بالمرض جائزاً بأن الاشتراط صحيح. ولأن الإحرام عقد لازم في ذاته بدليل أنه لا يمكنه الخروج عنه باختياره ولو جاز الخروج عنه بعذر لكان إذا خرج باختياره بغير عذر لصح خروجه ولكنه يأثم مثل سائر العبادات. وهذا لأن عدم العذر تأثيره في التأثيم، والعذر تأثيره في الإطلاق بلا إثم، فأما إمكان الخروج في الموضعين يكون واحداً فلما لم يمكنه الخروج عنه إلا بطريقة المشروع عرفنا أنه عقد لازم بعينه وإذا كان لازماً بعينه فالأصل أن كل ما يمكنه الصبر عليه حتى

ينقضي يلزمه الصبر عليه ثم إذا مضى خرج عن الإحرام بطريقة المشروع محافظة على لزومه بعيه والمريض يمكنه أن يصبر عليه حتى يبرأ، وكذلك في حصر العدو يمكنه أن يحارب حتى يجد المسلك أو يصبر حتى ينصرف العدو إلا أن في العدو جاز التحلل بنص الكتاب/ والسنة والمرض ليس بمنزلته لا صورة ولا معنى. أما الصورة معلومة، والمعنى فلأن الخوف من العدو يزول بالتحلل، والمسألة مصورة في مثل هذا الموضع وهو أن يكون العدو مانعاً من المضي على وجهه وإذا رجع من وجهه إلى وطنه لم يتعرض له وهو مثل ما كان في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية حتى قال الأصحاب: لو لم يكن على هذا الوجه أو كان العدو من الجوانب كلها لا يجوز له التحلل والخوف من المرض لا يزول بالتحلل. وقد قال الأصحاب في العبارة عن هذا: حال لا يفارقه بالإحلال فلا يطلق له التحلل. دليله: الضلال، وهذا لأن الله تعالى أباح التحلل عند إحصار العدو ولينجو عن شر العدو بالرجوع فلم يجز قياس المرض عليه، لأنه لا نجاة من شر المرض بالرجوع وهو أيضاً دونه، لأن العدو إذا كان على الطريق لم يمكنه المضي على وجهه أصلاً، وفي المريض يمكنه المضي على وجهه إلا أنه بمشقة. والحرف هو الأول وهو أن إباحة التحلل للخلاص من العدو ولا خلاص من المرض بالتحلل فلم يكن مثله ولم يطلق له الخروج إلا بشرط زائد وهو شرط التحلل فيفوت اللزوم بهذا الشرط شرعاً، لأنه كان اللزوم بإطلاق الإحرام شرعاً فيفوت شرطه شرعاً كالبيع لا يلزم مع العيب ويلزم مع الجهل بالجزء فإذا شرط العلم بالجزء عند العقد التحق بالعيب حتى إذا لم يكن له علم بها

يرد العلم على بائعها وكان ذلك لأن الجهل بالجزء دون العيب فلم يلتحق به في حكمه إلا بشرط مقرون بالعقد، كذلك ههنا. وأما حجتهم: (تعلقوا بظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. قالوا: والإحصار هو المرض، يقال: أحصر بالمرض وأحصر بالعدو.) وذكره ثعلب في فصيح الكلام، وذكره الزجاج في معاني القرآن. فصار نص القرآن متناولاً لكل واحد منهما بل تناوله للمرض أظهر وأبين. قالوا: وروى الحجاج بن عمر أن النبي عليه السلام قال: ((من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى))، رواه عكرمة عن الحجاج بن عمرو، وقال عكرمة: قد ذكرت ذلك لابن عباس وابن عمر فقالا: صدق.

والمعنى أن المرض سبب لمنعه من المضي في موجب إحرامه فيفيد له الإحلال قياساً على العدو، وإنما قلنا إنه يمنعه، لأن الخلاف في مرض مقعد يقعده عن الذهاب والركوب أو ضلا أو منعه إلا بزيادة مرض فأباح له الشرع التحلل وإن أمن تلك الزيادة. قالوا: وهذا المعنى معقول، وهو إذا عجز عن المضي على وجه ازداد مدة الإحرام لأنه لابد من الصبر مدة المرض في الإحرام ثم إذا برأ من المرض لابد من الذهاب وفعل العمرة إن كان محرماً بعمرة وإن كان محرماً بحجة فلابد من الصبر مدة المرض ثم إذا عوفي وقد فاته الحج فلابد من التحلل من الحج بالطواف والسعي كما يتحلل فائت الحج في سائر المواضع فيحتاج إلى مدة طويلة في الإحرام وفي زيادة مدة الإحرام زيادة لزوم مشقة تلحقه من جنس ما التزم بأصل الإحرام فالشرع جعل له خيار المخلص عن هذه الزيادة بفسخ الأصل ترفيهاً له ورحمة عليه ثم مثل هذا قد يؤثر في إطلاق فسخ العقود اللازمة مثل البيع فإن المشتري إذا لزمه زيادة ثمن على ما سمي ثبت له الخيار وذلك بأن يجد عيباً بالمبيع فإنه التزم الثمن بإزاء جميع أجزاء المبيع فإذا كان بعض أجزاء المبيع فايئاً فصار حصته من الثمن تلزمه على سبيل لم يرض به فثبت له الخيار، كذلك ههنا، وهذا لأن الإحرام

لازم بعينه في الجملة محتمل للفسخ مثل المبيع سواء فصار حكمه مثله على الوجه الذي قلناه. قالوا: وأما إذا ضل الطريق فعندنا المحصر لا يتحلل إلا بهدى ينحر عنه. وفي المرض وحصر العدو نجد هذا، ومن ضل الطريق لا يجد من يبعثه وإن وجد لزمه الذهاب معه لأنه يهديه إلى الطريق فيزول العذر حتى إذا كان الرجل راعياً بحيث يمكنه أن يبعث معه الهدى ولا يمكنه الذهاب معه وهو لا يعرف الطريق بنفسه فإنه يتحلل ويبعث بالهدى مثل مسألتنا سواء. قالوا: وأما عدم مفارقة المرض إياه ومفارقة العدو لا تعتبر ولا توجب الفرقان بعد أن ظهر العجز وتحقق في الوجهين جميعاً. فصار حرفهم أن المبيح للتحلل عند حصر العدو ليس هو مفارقة الحال بالإحلال لكن المبيح زيادة مدة الإحرام عليه وذلك يزول بالتحلل في الموضعين، وعلى أنكم جعلتم مفارقة الحال بالإحلال علة التحلل، ونحن نقول: إن صح هذا فقد جعلتم عدمه علة لعدم الحكم، وبالإجماع عدم العلة لا يوجب عدم الحكم بل يبقى موقوفاً على قيام الدلالة، كما كان قبل العلة فصار/ حقيقة ما قلتموه احتجاجاً بلا دليل. الجواب: إن الأمة أجمعت على أن الآية نزلت في حصر العدو، والدليل القطعي عليه قوله تعالى: {فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}. وأيضاً يقال: أمن من العدو، وفي المرض يقال: برأ وعوفي منه.

وقد ذكر الفراء أنه يقال: أحصر من العدو والمرض جميعاً، وكذلك أشار القتبي إليه، وإذا كان اللفظ صالحاً لهما كان متعيناً في حصر العدو بإجماع المفسرين. وأما الخبر: قلنا: روى عكرمة وحجاج بن عمرو، وعبد الله بن رافع ذكره معمر ولم يذكره عكرمة في هذه الرواية فيوجب هذا وهنا في الحديث. وعلى أنه محمول على ما إذا كان شرط أن محله حيث يحبسه، ألا ترى أنه قال: ((فقد حل)) فإنما يحل بغير تحلل في هذه الصورة. وأما الذي قالوا من ((زيادة مدة الإحرام)). فمن ضعيف، لأنه بإحرامه التزم مواجب إحرامه طالت المدة أو قصرت إلى أن يتحلل على قضية إحرامه، وهذا لأن هذه العوارض غير مأمونة من مرض وعدو وغير ذلك فيحن أطلق الإحرام من غير اشتراط فقد التزم مواجبه على علاته وحالاته فتوهم زيادة مدة الإحرام لا تجوز له أن يطلق له الخروج، ولأنه كيف يستقيم التعليل بهذا، وعندكم إذا تحلل يلزمه حجة وعمرة؟ فلا يجوز أن يباح له التحلل للفرار من وجوب زيادة لم

يلتزمها ثم يكون التحلل موجباً زيادة نسك في الأصل هو فوق زيادة المدة، فدل أن ما ظنوه علة ضعيفة. وأما البيع لا يشبه الإحرام، ألا ترى أنه يشترط ما يفسخ به البيع عند فقده من صفة الخبر والكتابة فيصح شرطه، ومثل هذا الشرط لا يصح في الحج عندهم بحال فثبت أن التحلل لحصر العدو ليس إلا بالنص والمرض مخالف له على ما سبق. والذي اعترض به على ما قلناه، ليس بشيء، لأنه مآل كلامه أنه يتخلص بالتحلل من زيادة مدة الإحرام، وقد ذكرنا فساد هذا المعنى. والذي قالوا: ((إن العدم لا يكون علة)). قلنا: نحن لم نجعله علة لكن بينا المفارقة بين عذر العدو وعذر المرض وقد تبين .. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. * * * ((تم ربع العبادات بحمد الله تعالى وحسن توفيقه في أواخر شوال من شهور سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، والله المستعان على إتمامه بمنه ولطفه. الحمد لله وصلواته على الأنبياء الطاهرين وخص محمداً بأفضل التحية والسلام وآله أجمعين، وحسبنا الله ونعم المعين)). * * *

§1/1