الاستقامة

ابن تيمية

الجزء 1

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه توفيق الْحَمد لله رب الْعَالمين وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا قَاعِدَة فِي وجوب الاسْتقَامَة والاعتدال ومتابعة الْكتاب وَالسّنة فِي بَاب أَسمَاء الله وَصِفَاته وتوحيده بالْقَوْل والاعتقاد وَبَيَان اشْتِمَال الْكتاب وَالسّنة على جَمِيع الْهدى وَأَن التَّفَرُّق والضلال إِنَّمَا حصل بترك بعضه والتنبيه على جَمِيع الْبدع الْمُقَابلَة فِي ذَلِك بِالزِّيَادَةِ فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات ومبدأ حدوثها وَمَا وَقع فِي ذَلِك من الاسماء المجملة وَالِاخْتِلَاف والافتراق الَّذِي أوجب تَكْفِير بعض هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفين بَعضهم لبَعض وَذَلِكَ بِسَبَب ترك بعض الْحق وَأخذ بعض الْبَاطِل وكتمان الْحق وَلبس الْحق بِالْبَاطِلِ فصل الرأى الْمُحدث فِي الْأُصُول وَهُوَ الْكَلَام الْمُحدث وَفِي الْفُرُوع وَهُوَ الرأى الْمُحدث فِي الْفِقْه والتعبد الْمُحدث كالتصوف الْمُحدث والسياسة المحدثة يظنّ طوائف من النَّاس أَن الدّين مُحْتَاج إِلَى ذَلِك لَا سِيمَا كل طَائِفَة

فِي طريقها وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} [سُورَة الْمَائِدَة 3] إِلَى غير ذَلِك من النُّصُوص الَّتِي دلّت على أَن الرَّسُول عرف الْأمة جَمِيع مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من دينهم وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليضل قوما بعد إِذْ هدَاهُم حَتَّى يبين لَهُم مَا يَتَّقُونَ} [سُورَة التَّوْبَة 115] وَقَالَ ص ص تركتكم على الْبَيْضَاء لَيْلهَا كنهارها لَا يزِيغ بعدِي إِلَّا هَالك وَقَالَ ص إِنَّه من يَعش مِنْكُم بعدى فسيرى اخْتِلَافا كثيرا فَعَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي تمسكوا بهَا وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ فلولا أَن سنته وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين تسع الْمُؤمن وَتَكْفِيه عِنْد الِاخْتِلَاف الْكثير لم يجز الْأَمر بذلك

وَكَانَ يَقُول فِي خطبَته شَرّ الْأُمُور محدثاتها وكل بِدعَة ضَلَالَة وَكَانَ ابْن مَسْعُود يخْطب بِنَحْوِ ذَلِك كل خَمِيس وَيَقُول إِنَّكُم ستحدثون وَيحدث لكم وَقد قَررنَا فِي الْقَوَاعِد فِي قَاعِدَة السّنة والبدعة أَن الْبِدْعَة هِيَ الدّين الَّذِي لم يَأْمر الله بِهِ وَرَسُوله فَمن دَان دينا لم يَأْمر الله وَرَسُوله بِهِ فَهُوَ مُبْتَدع بذلك وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى أم لَهُم شُرَكَاء شرعوا لَهُم من الدّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله [سُورَة الشورى 21] وَلَا ريب أَن هَذَا يشكل على كثير من النَّاس لعدم علمهمْ بالنصوص ودلالتها على الْمَقَاصِد وَلعدم علمهمْ بِمَا أحدث من الرأى وَالْعَمَل وَكَيف يرد ذَلِك إِلَى السّنة كَمَا قَالَ عمر بن الْخطاب ردوا الجهالات إِلَى السّنة

وَقد تكلم النَّاس على أَصْنَاف ذَلِك كَمَا بَين طوائف اسْتغْنَاء الدّين عَن الْكَلَام الْمُحدث وَأَن الله قد بَين فِي كِتَابه بالأمثال المضروبة من الدَّلَائِل مَا هُوَ أعظم مَنْفَعَة مِمَّا يحدثه هَؤُلَاءِ وَأَن مَا يذكرُونَهُ من الْأَدِلَّة فَهِيَ مندرجة فِيمَا ذكره الله تَعَالَى حَتَّى ان الأشعرى نَفسه وَأَمْثَاله قد بينوا طَريقَة السّلف فِي أصُول الدّين واستغنائها عَن الطَّرِيقَة الكلامية كطريقة الْأَعْرَاض وَنَحْوهَا وَأَن الْقُرْآن نبه على الْأَدِلَّة لَيْسَ دلَالَته كَمَا يَظُنّهُ بعض أهل الْكَلَام من جِهَة الْخَبَر فَقَط وَأَيْنَ هَذَا من أهل الْكَلَام الَّذين يَقُولُونَ إِن الْكتاب وَالسّنة لَا يدلان على أصُول الدّين بِحَال وَأَن أصُول الدّين تستفاد بِقِيَاس الْعقل الْمَعْلُوم من غَيرهمَا وَكَذَلِكَ الْأُمُور العملية الَّتِي يتَكَلَّم فِيهَا الْفُقَهَاء فَإِن من النَّاس من يَقُول إِن الْقيَاس يحْتَاج إِلَيْهِ فِي مُعظم الشَّرِيعَة لقلَّة النُّصُوص الدَّالَّة على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة كَمَا يَقُول ذَلِك أَبُو المعالى وَأَمْثَاله من الْفُقَهَاء مَعَ أنتسابهم إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي وَنَحْوه من فُقَهَاء الحَدِيث فَكيف بِمن كَانَ من أهل رأى الْكُوفَة وَنَحْوهم

فَإِنَّهُ عِنْدهم لَا يثبت من الْفِقْه بالنصوص إِلَّا أقل من ذَلِك وَإِنَّمَا الْعُمْدَة على الرأى وَالْقِيَاس حَتَّى أَن الخراسانيين من أَصْحَاب الشافعى بِسَبَب مخالطتهم [لَهُم] غلب عَلَيْهِم اسْتِعْمَال الرأى وَقلة الْمعرفَة بالنصوص وبإزاء هَؤُلَاءِ أهل الظَّاهِر كأبن حزم وَنَحْوه مِمَّن يدعى أَن النُّصُوص تستوعب جَمِيع الْحَوَادِث بالأسماء اللُّغَوِيَّة الَّتِي لَا تحْتَاج إِلَى استنباط واستخراج أَكثر من جمع النُّصُوص حَتَّى تنفى دلَالَة فحوى الْخطاب وتثبته فِي معنى الأَصْل وَنَحْو ذَلِك من الْمَوَاضِع الَّتِي يدل فِيهَا اللَّفْظ الْخَاص على الْمَعْنى الْعَام والتوسط فِي ذَلِك طَريقَة فُقَهَاء الحَدِيث وهى إِثْبَات النُّصُوص والْآثَار الصحابية على جُمْهُور الْحَوَادِث وَمَا خرج عَن ذَلِك كَانَ فِي معنى الأَصْل فيستعملون قِيَاس الْعلَّة وَالْقِيَاس فِي معنى الأَصْل وفحوى الْخطاب إِذْ ذَلِك من جملَة دلالات اللَّفْظ وَأَيْضًا فالرأى كثيرا مَا يكون فِي تَحْقِيق المناط الَّذِي لَا خلاف بَين النَّاس فِي اسْتِعْمَال الرأى

وَالْقِيَاس فِيهِ فَإِن الله أَمر بِالْعَدْلِ فِي الحكم وَالْعدْل قد يعرف بالرأى وَقد يعرف بِالنَّصِّ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر إِذْ الْحَاكِم مَقْصُوده الحكم بِالْعَدْلِ بِحَسب الْإِمْكَان فَحَيْثُ تعذر الْعدْل الحقيقى للتعذر أَو التعسر فِي علمه أَو عمله كَانَ الْوَاجِب مَا كَانَ بِهِ أشبه وأمثل وَهُوَ الْعدْل الْمَقْدُور وَهَذَا بَاب وَاسع فِي الحكم فِي الدِّمَاء وَالْأَمْوَال وَغير ذَلِك من أَنْوَاع الْقَضَاء وفيهَا يجْتَهد الْقُضَاة ونعلم أَن عليا رضى الله عَنهُ كَانَ أقضى من غَيره بِمَا أفهم من ذَلِك مَعَ أَن سَماع النُّصُوص مُشْتَرك بَينه وَبَين غَيره وَإِنَّمَا ظن كثير من النَّاس الْحَاجة إِلَى الرأى الْمُحدث لأَنهم يَجدونَ مسَائِل كَثِيرَة وفروعا عَظِيمَة لَا يُمكنهُم إدخالها تَحت النُّصُوص كَمَا يُوجد

فِي فروع من ولد الْفُرُوع من فُقَهَاء الْكُوفَة وَمن أَخذ عَنْهُم وَجَوَاب هَذَا من وُجُوه أَحدهَا ان كثيرا من تِلْكَ الْفُرُوع المولد الْمقدرَة لَا يَقع أصلا وَمَا كَانَ كَذَلِك لم يجب أَن تدل عَلَيْهِ النُّصُوص وَمن تدبر مَا فَرعه المولدون من الْفُرُوع فِي بَاب الْوَصَايَا وَالطَّلَاق والأيمان وَغير ذَلِك علم صِحَة هَذَا الْوَجْه الثَّانِي أَن تكون تِلْكَ الْفُرُوع والمسائل مَبْنِيَّة على أصُول فَاسِدَة فَمن عرف السّنة بَين حكم ذَلِك الأَصْل فَسَقَطت تِلْكَ الْفُرُوع المولدة كلهَا وَهَذَا كَمَا فَرعه صَاحب الْجَامِع الْكَبِير فَإِن غَالب فروعه كَمَا بلغنَا عَن الإِمَام أبي مُحَمَّد الْمَقْدِسِي أَنه كَانَ يَقُول مثله مثل من بنى

دَارا حَسَنَة على أساس مَغْصُوب فَلَمَّا جَاءَ صَاحب الأساس ونازعه فِي الاساس وقلعه انْهَدَمت تِلْكَ الدَّار وَذَلِكَ كالفروع الْعَظِيمَة الْمَذْكُورَة فِي كتاب الْأَيْمَان وبناها على مَا كَانَ المفرع يَعْتَقِدهُ من مَذْهَب أهل النَّحْو الْكُوفِيّين فَإِن أصل بَاب الْأَيْمَان الرُّجُوع إِلَى نِيَّة الْحَالِف وقصده ثمَّ إِلَى الْقَرَائِن الحالية الدَّالَّة على قَصده كسبب الْيَمين وَمَا هيجها ثمَّ إِلَى الْعرف الَّذِي من عَادَته التَّكَلُّم بِهِ سَوَاء كَانَ مُوَافقا للغة الْعَرَبيَّة أَو مُخَالفا لَهَا فَإِن الْأَيْمَان وَغَيرهَا من كَلَام النَّاس بَعضهم لبَعض فِي الْمُعَامَلَات والمراسلات والمصنفات وَغَيرهَا تجمعها كلهَا دلَالَة اللَّفْظ على قصد الْمُتَكَلّم وَمرَاده وَذَلِكَ متنوع بتنوع اللُّغَات والعادات وتختلف الدّلَالَة بالقرائن الحالية والمقالية ثمَّ إِنَّمَا يسْتَدلّ على مَقْصُود الرجل إِذا لم يعرف فَإِذا أمكن [الْعلم] بمقصوده يَقِينا لم يكن بِنَا حَاجَة إِلَى الشَّك لَكِن من الْأُمُور مَا لَا تقبل من قَائِله إِرَادَة تخَالف الظَّاهِر كَمَا إِذا تعلق بِهِ حُقُوق الْعباد كَمَا فِي الأقارير وَنَحْوهَا وَهَذَا مُقَرر فِي مَوْضِعه وَلَيْسَ الْغَرَض هُنَا إِلَّا التَّمْثِيل وَإِذا كَانَ هَذَا أصل الْأَيْمَان فَيُقَال لذَلِك المفرع إِذا كَانَ هَذَا أصل قَصده الَّذِي هُوَ فِي أَكثر الْمَوَاضِع يُخَالف مُقْتَضى مَا ذكرته من

الْجَواب وَينظر إِلَى الْقَرَائِن الحالية وَمَعَهَا لَا تستقيم عَامَّة الْأَجْوِبَة وَإِذا عدم ذَلِك وَله عرف وَعَادَة يتَكَلَّم بهَا وغالب عادات النَّاس لَا يَنْبَنِي على المقاييس الَّتِي وَضَعتهَا أَنْت فَإِذا جَوَاب الحالفين بِمثل مَا أَجَبْتهم بِهِ لَيْسَ هُوَ من الشَّرِيعَة فِي غَالب الْمَوَاضِع وَلَا يحْتَاج بَاب الْأَيْمَان إِلَى تَفْرِيع إِذْ هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة تضبطه ضبطا حسنا لَكِن لَا بُد أَن يكون الْمُفْتى مِمَّن يحس أَن يضع الْحَوَادِث على الْقَوَاعِد وينزلها عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ مَا فرعوه فِي بَاب الحكم والسياسة وَغَيرهَا عَامَّة ذَلِك مبْنى على أصُول فَاسِدَة مُخَالفَة للشريعة وَهَذَا وَالله أعلم من معنى قَول ابْن مَسْعُود إِنَّكُم ستحدثون وَيحدث لكم وَلِهَذَا تكْثر هَذِه الْفُرُوع وتنتشر حَتَّى لَا تضبطها قَاعِدَة لِأَنَّهَا لَيست مُوَافقَة للشريعة فَأَما الشَّرِيعَة فَإِنَّهَا كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثت بجوامع الْكَلم والكلمة الجامعة هِيَ الْقَضِيَّة الْكُلية وَالْقَاعِدَة الْعَامَّة

الَّتِي بعث بهَا نَبينَا ص فَمن فهم كَلمه الْجَوَامِع علم اشتمالها لعامة الْفُرُوع وانضباطها بهَا وَالله أعلم الْوَجْه الثَّالِث أَن النُّصُوص دَالَّة على عَامَّة الْفُرُوع الْوَاقِعَة كَمَا يعرفهُ من يتحَرَّى ذَلِك ويقصد الْإِفْتَاء بِمُوجب الْكتاب وَالسّنة ودلالتها وَهَذَا يعرفهُ من يتَأَمَّل كمن يُفْتى فِي الْيَوْم بِمِائَة فتيا أَو مِائَتَيْنِ أَو ثَلَاثمِائَة وَأكْثر أَو أقل وَأَنا قد جربت ذَلِك وَمن تدبر ذَلِك رأى أهل النُّصُوص دَائِما أقدر على الْإِفْتَاء وأنفع للْمُسلمين فِي ذَلِك من أهل الرأى الْمُحدث فَإِن الذى رَأَيْنَاهُ دَائِما أَن أهل رأى الْكُوفَة من أقل النَّاس علما بالفتيا وَأَقلهمْ مَنْفَعَة للْمُسلمين مَعَ كَثْرَة عَددهمْ وَمَا لَهُم من سُلْطَان وَكَثْرَة بِمَا يتناولونه من الْأَمْوَال الوقفية والسلطانية وَغير ذَلِك ثمَّ إِنَّهُم فِي الْفَتْوَى من أقل النَّاس مَنْفَعَة قل أَن يجيبوا فِيهَا وَإِن أجابوا فَقل أَن يجيبوا بِجَوَاب شاف وَأما كَونهم يجيبون بِحجَّة فهم من أبعد النَّاس عَن ذَلِك وَسبب هَذَا ان الْأَعْمَال الْوَاقِعَة يحْتَاج الْمُسلمُونَ فِيهَا إِلَى معرفَة بالنصوص ثمَّ إِن لَهُم أصولا كَثِيرَة تخَالف النُّصُوص وَالَّذِي عِنْدهم من الْفُرُوع الَّتِي لَا تُوجد عِنْد غَيرهم فَهِيَ مَعَ مَا فِيهَا من الْمُخَالفَة للنصوص الَّتِي لم يُخَالِفهَا أحد من الْفُقَهَاء أَكثر مِنْهُم عامتها إِمَّا فروع مقدرَة غير وَاقعَة وَإِمَّا فروع متقررة على أصُول فَاسِدَة فَإِذا أَرَادوا أَن

يجيبوا بمقتضاها رَأَوْا مَا فِي ذَلِك من الْفساد وإنكار قُلُوب الْمُؤمنِينَ علهيم فأمسكوا لَكِن أعظم المهم فِي هَذَا الْبَاب وَغَيره تَمْيِيز السّنة من الْبِدْعَة إِذْ السّنة مَا أَمر بِهِ الشَّارِع والبدعة مَا لم يشرعه من الدّين فَإِن هَذَا الْبَاب كثر فِيهِ اضْطِرَاب النَّاس فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع حَيْثُ يزْعم كل فريق أَن طَرِيقه هُوَ السّنة وَطَرِيق مخالفه هُوَ الْبِدْعَة ثمَّ إِنَّه يحكم على مخالفه بِحكم المبتدع فَيقوم من ذَلِك من الشَّرّ مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله وَأول من ضل فِي ذَلِك هم الْخَوَارِج المارقون حَيْثُ حكمُوا لنفوسهم بِأَنَّهُم المتمسكون بِكِتَاب الله وسنته وَأَن عليا وَمُعَاوِيَة والعسكرين هم أهل الْمعْصِيَة والبدعة فاستحلوا مَا اسْتَحَلُّوهُ من الْمُسلمين وَلَيْسَ الْمَقْصُود هُنَا ذكر الْبدع الظَّاهِرَة الَّتِي تظهر للعامة أَنَّهَا بِدعَة كبدعة الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض وَنَحْو ذَلِك لَكِن الْمَقْصُود التَّنْبِيه على مَا وَقع من ذَلِك فِي أخص الطوائف بِالسنةِ وأعظمهم انتحالا لَهَا كالمنتسبين إِلَى الحَدِيث مثل مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فَإِنَّهُ لَا ريب أَن هَؤُلَاءِ أعظم اتبَاعا للسّنة وذما للبدعة من غَيرهم وَالْأَئِمَّة كمالك وَأحمد وَابْن الْمُبَارك وَحَمَّاد بن زيد وَالْأَوْزَاعِيّ وَغَيرهم يذكرُونَ من ذمّ المبتدعة وهجرانهم وعقوبتهم مَا شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذِه الْأَقْوَال سَمعهَا طوائف مِمَّن اتبعهم وقلدهم ثمَّ إِنَّهُم

[يخلطون] فِي مَوَاضِع كَثِيرَة السّنة والبدعة حَتَّى قد يبدلون الْأَمر فيجعلون الْبِدْعَة الَّتِي ذمها أُولَئِكَ هِيَ السّنة وَالسّنة الَّتِي حمدها اولئك هِيَ الْبِدْعَة ويحكمون بِمُوجب ذَلِك حَتَّى يقعوا فِي الْبدع والمعاداة لطريق أئمتهم السّنيَّة وَفِي الْحبّ والموالاة لطريق المبتدعة الَّتِي أَمر أئمتهم بعقوبتهم ويلزمهم تَكْفِير أئمتهم ولعنهم والبراءة مِنْهُم وَقد يلعنون المبتدعة وَتَكون اللَّعْنَة وَاقعَة عَلَيْهِم أنفسهم ضد مَا يَقع على الْمُؤمن كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا ترَوْنَ كَيفَ يصرف الله عني سبّ قُرَيْش يسبون مذمما وانا مُحَمَّد وَهَؤُلَاء بِالْعَكْسِ يسبون المبتدعة يعنون غَيرهم وَيَكُونُونَ هم المبتدعة كَالَّذي يلعن الظَّالِمين وَيكون هُوَ الظَّالِم اَوْ اُحْدُ الظَّالِمين وَهَذَا كُله من بَاب قَوْله تَعَالَى {أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا} [سُورَة فاطر 8] وَاعْتبر ذَلِك بِأُمُور أَحدهَا أَن كَلَام مَالك فِي ذمّ المبتدعة وهجرهم وعقوبتهم كثير

وَمن أعظمهم عِنْده الْجَهْمِية الَّذين يَقُولُونَ إِن الله لَيْسَ فَوق الْعَرْش وَإِن الله لم يتَكَلَّم بِالْقُرْآنِ كُله وَإنَّهُ لَا يرى كَمَا وَردت بِهِ السّنة وينفون نَحْو ذَلِك من الصِّفَات ثمَّ إِنَّه كثير فِي الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَابه من يُنكر هَذِه الْأُمُور كَمَا ينكرها فروع الْجَهْمِية وَيجْعَل ذَلِك هُوَ السّنة وَيجْعَل القَوْل الَّذِي يُخَالِفهَا وَهُوَ قَول مَالك وَسَائِر أَئِمَّة السّنة هُوَ الْبِدْعَة ثمَّ إِنَّه مَعَ ذَلِك يعْتَقد فِي أهل الْبِدْعَة مَا قَالَه مَالك فبدل هَؤُلَاءِ الدّين فصاروا يطعنون فِي أهل السّنة الثَّانِي أَن الشَّافِعِي من أعظم النَّاس ذما لأهل الْكَلَام وَلأَهل التَّغْيِير ونهيا عَن ذَلِك وَجعلا لَهُ من الْبِدْعَة الْخَارِجَة عَن السّنة ثمَّ إِن كثيرا من أَصْحَابه عكسوا الْأَمر حَتَّى جعلُوا الْكَلَام الَّذِي ذمه الشَّافِعِي هُوَ السّنة وأصول الدّين الَّذِي يجب اعْتِقَاده وموالاة أَهله وَجعلُوا مُوجب الْكتاب وَالسّنة الَّذِي مدحه الشَّافِعِي هُوَ الْبِدْعَة الَّتِي يُعَاقب أَهلهَا الثَّالِث أَن الإِمَام أَحْمد فِي أمره بأتباع السّنة ومعرفته بهَا ولزومه لَهَا وَنَهْيه عَن الْبدع وذمه لَهَا ولأهلها وعقوبته لأَهْلهَا بِالْحَال الَّتِي لَا تخفى ثمَّ إِن كثيرا مِمَّا نَص هُوَ على أَنه من الْبدع الَّتِي يذم أَهلهَا صَار بعض أَتْبَاعه يعْتَقد أَن ذَلِك من السّنة وان الَّذِي يذم من خَالف ذَلِك مثل كَلَامه فِي مَسْأَلَة الْقُرْآن فِي مَوَاضِع مِنْهَا تبديعه لمن

قَالَ لفظى بِالْقُرْآنِ غير مَخْلُوق وتجهيه لمن قَالَ مَخْلُوق ثمَّ إِن من أَصْحَابه من جعل مَا بدعه الإِمَام أَحْمد هُوَ السّنة فتراهم يحكمون على مَا هُوَ من صِفَات العَبْد كألفاظهم وأصواتهم وَغير ذَلِك بِأَنَّهُ غير مَخْلُوق بل يَقُولُونَ هُوَ قديم ثمَّ إِنَّهُم يبدعون من لَا يَقُول بذلك ويحكمون فِي هَؤُلَاءِ بِمَا قَالَه أَحْمد فِي المبتدعة وَهُوَ فيهم وَكَذَلِكَ مَا أثْبته أَحْمد من الصِّفَات الَّتِي جَاءَت بهَا الْآثَار وَاتفقَ عَلَيْهَا السّلف كالصفات الفعلية من الاسْتوَاء وَالنُّزُول المجئ والتكلم إِذا شَاءَ وَغير ذَلِك فينكرون ذَلِك بزعم أَن الحودث لَا تحل بِهِ ويجعلون ذَلِك بِدعَة ويحكمون على أَصْحَابه بِمَا حكم بِهِ أَحْمد فِي أهل الْبدع وهم من أهل الْبِدْعَة الَّذين ذمهم أَحْمد لَا أُولَئِكَ ونظائر هَذَا كَثِيرَة بل قد يحْكى عَن وَاحِد من أئمتهم إِجْمَاع الْمُسلمين على أَن الْحَوَادِث لَا تحل بِذَاتِهِ لينفي بذلك مَا نَص أَحْمد وَسَائِر الْأَئِمَّة عَلَيْهِ من أَنه يتَكَلَّم إِذا شَاءَ وَمن هَذِه الْأَفْعَال التعلقة بمشيئته وَمَعْلُوم أَن نقل الْإِجْمَاع على خلاف نصوصة ونصوص الْأَئِمَّة من أبلغ مَا يكون وَهَذَا كنقل غير وَاحِد من المصنفين فِي الْعلم إِجْمَاع الْمُسلمين على خلاف نُصُوص الرَّسُول وَهَذِه الْمَوَاضِع من ذَلِك أَيْضا فَإِن نُصُوص أَحْمد وَالْأَئِمَّة مُطَابقَة لنصوص الرَّسُول ص

فصل قَوْله تَعَالَى {الَّذين يجادلون فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم كبر مقتا عِنْد الله وَعند الَّذين آمنُوا كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار} [سُورَة غَافِر 35] بعد قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الْأَحْزَاب} [سُورَة غَافِر 30] إِلَى قَوْله {وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن يبْعَث الله من بعده رَسُولا} [سُورَة غاقر 34] الْآيَة يخوفهم بِمثل عقوبات الله فِي الدُّنْيَا للأمم الْكَافِرَة قبلهم وخوفهم بِمَا يكون يَوْم الْقِيَامَة وَهَذَا فِيهِ بَيَان إخْبَاره بِيَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ مِمَّن آمن بمُوسَى كَمَا قد قَرَّرْنَاهُ فِي غير هَذَا الْموضع أَن جَمِيع الرُّسُل أخْبرت بِيَوْم الْقِيَامَة خلاف مَا تزْعم طوائف من الفلاسفة وَأهل الْكَلَام أَن الْمعَاد الجسماني لم يخبر بِهِ إِلَّا مُحَمَّد وَعِيسَى وَنَحْو ذَلِك ثمَّ قَالَ الْمُؤمن {وَلَقَد جَاءَكُم يُوسُف من قبل بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زلتم فِي شكّ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذا هلك قُلْتُمْ لن يبْعَث الله من بعده رَسُولا كَذَلِك يضل الله من هُوَ مُسْرِف مرتاب} [سُورَة غَافِر 34] لِأَن الريب عدم الْعلم وَهَذِه حَال أهل الضلال وَقَالَ هُنَاكَ {كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار} [سُورَة غَافِر 35] لِأَنَّهُ أخبر بجدالهم فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم وَهَذِه حَال الْمُتَكَلِّمين بِغَيْر علم لطلب الْعُلُوّ وَالْفساد

كَمَا قَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى إِن الَّذين يجادلون فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم إِن فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر مَا هم ببالغيه باستعذ بِاللَّه إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْبَصِير [سُورَة غَافِر 56] وَلِهَذَا قَالَ فِي هَؤُلَاءِ المجادلين {كبر مقتا عِنْد الله وَعند الَّذين آمنُوا} [سُورَة غَافِر 35] أى كبر مقتهم أَو كبر هَذَا المقت أَو كبر هَذَا الْجِدَال أَو هَذَا الْفِعْل مقتا أى ممقوتا كَمَا قَالَ تَعَالَى {كَبرت كلمة تخرج من أَفْوَاههم} [سُورَة الْكَهْف 5] وكما قَالَ تَعَالَى {بئس للظالمين بَدَلا} [سُورَة الْكَهْف 50] فَإِن الْمَخْصُوص بالمدح والذم فِي هَذَا الْبَاب كثيرا مَا يكون مضمرا إِذا تقدم مَا يعود الضَّمِير إِلَيْهِ والمدح يُرَاد بِهِ الرجل كَمَا تَقول نعم رجلا زيد وَنعم رجلا وَزيد نعم رجلا والمقت يُرَاد بِهِ نفس المقت وَيُرَاد بِهِ الممقوت كَمَا فِي الْخلق ونظائره وَمثله قَوْله {لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كبر مقتا عِنْد الله أَن تَقولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [سُورَة الصَّفّ 23] أَي كبر ممقوتا أَي كبر مقته مقتا والمقت البغض الشَّديد وَهُوَ من جنس الْغَضَب الْمُنَاسب لحَال

هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ فِي الْيَهُود {بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم} [سُورَة النِّسَاء 144] وَقد وصعهم بِنَحْوِ مِمَّا وصف عدوهم فِرْعَوْن فَقَوله {وقضينا إِلَى بني إِسْرَائِيل فِي الْكتاب لتفسدن فِي الأَرْض مرَّتَيْنِ ولتعلن علوا كَبِيرا} [سُورَة الْإِسْرَاء 4] فوصفهم بِالْفَسَادِ فِي الأَرْض والعلو كَمَا أَن فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض وَجعل أَهلهَا شيعًا يستضعف طَائِفَة مِنْهُم يذبح أَبْنَاءَهُم ويستحي نِسَاءَهُمْ إِنَّه كَانَ من المفسدين [سُورَة الْقَصَص] وَختم السُّورَة بقوله {تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة نَجْعَلهَا للَّذين لَا يُرِيدُونَ علوا فِي الأَرْض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} [سُورَة الْقَصَص 83] وَهَذَا مِمَّا يبين أَن قَوْله {الَّذين يجادلون فِي آيَات الله} [سُورَة غَافِر 35] مُبْتَدأ لَيْسَ بَدَلا من قَوْله {من هُوَ مُسْرِف مرتاب} سُورَة غَافِر 34 فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وصف هَؤُلَاءِ بِغَيْر مَا وصف هَؤُلَاءِ وَيُؤَيّد هَذَا انه ابْتِدَاء قد قَالَ فِي الْأُخْرَى الَّذين يجادلون فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم] وَقَالَ قبل هَذِه الْآيَة مَا يُجَادِل فِي آيَات الله إِلَّا الَّذين كفرُوا [سُورَة غَافِر 4] وَقد يُقَال يُمكن اجْتِمَاع الوصفين الريب والجدل بِغَيْر علم كَمَا هُوَ الْوَاقِع فِي طوائف كَثِيرَة كَمَا يجْتَمع الْغَضَب والضلال

وَقد يُقَال الْآيَة تحْتَمل الْوَقْف وتحتمل الِابْتِدَاء وَقد يكون هَذَا قراءتين فتسوغ كل مِنْهُمَا وَيكون لَهُ صف صَحِيح كَمَا فِي نَظَائِره وَفِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الْحَارِث عَن عَليّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَوَاهُ أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي وَغَيره من طرق عديدة عَن عَليّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْقُرْآن الحَدِيث الْمَعْرُوف قَالَ قلت يَا رَسُول الله سَتَكُون فتن فَمَا الْمخْرج مِنْهَا قَالَ كتاب الله فِيهِ نبأ مَا قبلكُمْ وَخبر مَا بعدكم وَحكم مَا بَيْنكُم هُوَ الْفَصْل لَيْسَ بِالْهَزْلِ من تَركه من جَبَّار قصمه الله وَمن ابْتغى الْهدى فِي غَيره أضلّهُ الله وَهُوَ حَبل الله المتين وَهُوَ الذّكر الْحَكِيم وَهُوَ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَهُوَ الَّذِي لَا تزِيغ بِهِ الْأَهْوَاء وَلَا تخْتَلف بِهِ الآراء وَلَا تَلْتَبِس بِهِ الألسن وَلَا يخلق عَن كَثْرَة الرَّد وَلَا تنقضى عجائبه وَلَا يشْبع مِنْهُ الْعلمَاء من قَالَ بِهِ صدق وَمن حكم بِهِ عدل وَمن عمل بِهِ أجر وَمن دَعَا إِلَيْهِ هدى إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم

فَقَوله من تَركه من جَبَّار قصمه الله وَمن ابْتغى الْهدى فِي غَيره أضلّهُ الله يُنَاسب قَوْله تَعَالَى كَذَلِك يضل الله من هُوَ مُسْرِف مرتاب [سُورَة غَافِر 34] وَكَذَلِكَ قَوْله كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار سُورَة غَافِر 35 فَذكر ضلال الأول وَذكر تجبر الثَّانِي وَذَلِكَ لِأَن الاول مرتاب ففاته الْعلم حَيْثُ ابْتغى الْهدى فِي غَيره وَالثَّانِي جَبَّار عمل بِخِلَاف مَا فِيهِ فقصمه الله وَهَذَانِ الوصفان يجمعان الْعلم وَالْعَمَل وَفِي ذَلِك بَيَان ان كل علم دين لَا يطْلب من الْقُرْآن فَهُوَ ضلال كفاسد كَلَام الفلاسفة والمتكلمة والمتصوفة والمتفقهة وكل عَاقل يتْرك كتاب الله مرِيدا للعلو فِي الارض وَالْفساد فان الله يقصمه فالضال لم يحصل لَهُ الْمَطْلُوب بل يعذب بِالْعَمَلِ الَّذِي لَا فَائِدَة فِيهِ والجبار حصل لَذَّة فقصمه الله عَلَيْهَا فَهَذَا عذب بِإِزَاءِ لذاته الَّتِي طلبَهَا بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ يعذب بسعيه الْبَاطِل الَّذِي لم يفده وَالْمَقْصُود هُنَا أَنه سُبْحَانَهُ فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ بَين من يُجَادِل فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم وَقد بَين فِي غير مَوضِع ان السُّلْطَان هُوَ الْحجَّة وَهُوَ الْكتاب الْمنزل كَمَا قَالَ تَعَالَى أم أنزلنَا عَلَيْهِم سُلْطَانا فَهُوَ

يتَكَلَّم بِمَا كَانُوا بِهِ يشركُونَ [سُورَة الرّوم 35] وَقيل إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان [سُورَة النَّجْم 23] فِي غير مَوضِع وَقَالَ تَعَالَى أَلا إِنَّهُم من إفكهم ليقولون ولد الله إِلَى قَوْله أم لكم سُلْطَان مُبين فَأتوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنْتُم صَادِقين [سُورَة الصافات 151 157] وَقَالَ أم لَهُم سلم يَسْتَمِعُون فِيهِ فليأت مستعهم بسُلْطَان [سُورَة الطّور 38] وَقَالَ أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين مَا لكم كَيفَ تحكمون أم لكم كتاب فِيهِ تدرسون [سُورَة الْقَلَم 35 37] وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَفِي هَذَا بَيَان أَنه لَا يجوز لأحد أَن يُعَارض كتاب الله بِغَيْر كتاب فَمن عَارض كتاب الله وجادل فِيهِ بِمَا يُسَمِّيه معقولات وبراهين وأقيسة أَو مَا يُسَمِّيه مكاشفات ومواجيد وأذواق من غير أَن يَأْتِي على مَا يَقُوله بِكِتَاب منزل فقد جادل فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان هَذِه حَال الْكفَّار الَّذين قَالَ فيهم مَا يُجَادِل فِي آيَات الله إِلَّا الَّذين كفرُوا [سُورَة غَافِر 4] فَهَذِهِ حَال من يُجَادِل فِي آيَات الله مُطلقًا وَمن الْمَعْلُوم أَن الَّذِي يُجَادِل فِي جَمِيع آيَات الله لَا يُجَادِل بسُلْطَان

فَإِن السُّلْطَان من آيَات الله وَإِنَّمَا الَّذِي يُجَادِل فِي آيَات الله بسُلْطَان يكون قد جادل فِي بعض آيَات الله بِبَعْض آيَات الله وَهَذِه الْحَال يحمد مِنْهَا ان يكون إِحْدَى الْآيَتَيْنِ ناسخة لَهَا اَوْ مفسرة لَهَا بِمَا يُخَالف ظَاهرهَا وَإِن كَانَ السّلف يسمون الْجَمِيع نسخا وَلِهَذَا لم يكن السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ يتركون دلَالَة آيَة من كتاب الله إِلَّا بِمَا يسمونه نسخا وَلم يكن فِي عَهدهم كتب فِي ذَلِك إِلَّا كتب النَّاسِخ والمنسوخ لِأَن ذَلِك غَايَته أَن نجادل فِي آيَات الله بسُلْطَان كجدالنا مَعَ أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وهما من آيَات الله بِالْقُرْآنِ الَّذِي أنزلهُ الله مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ من الْكتاب ومهيمنا عَلَيْهِ فَأَما مُعَارضَة الْقُرْآن بمعقول أَو قِيَاس فَهَذَا لم يكن يستحله أحد من السّلف وَإِنَّمَا ابتدع ذَلِك لما ظَهرت الْجَهْمِية والمعتزلة وَنَحْوهم مِمَّن بنوا أصُول دينهم على مَا سموهُ معقولا وردوا الْقُرْآن إِلَيْهِ وَقَالُوا إِذْ تعَارض الْعقل وَالشَّرْع إِمَّا أَن يُفَوض أَو يتَأَوَّل فَهَؤُلَاءِ من أعظم المجادلين فِي آيَات الله بِغَيْر سُلْطَان أَتَاهُم وَأما تَسْمِيَة الْمُتَأَخِّرين تَخْصِيصًا وتقييدا وَنَحْو ذَلِك مِمَّا فِيهِ صرف الظَّوَاهِر فَهُوَ دَاخل فِي مُسَمّى النّسخ عِنْد الْمُتَقَدِّمين وعَلى هَذَا الِاصْطِلَاح فَيدْخل النّسخ فِي الْإِخْبَار كَمَا يدْخل فِي الْأَوَامِر وَإِنَّمَا النّسخ الْخَاص الَّذِي هُوَ رفع الحكم فَلَا بُد فِي الْخَبَر عَن أَمر مُسْتَقر

فصل فيما اختلف فيه المؤمنون من الأقوال والافعال في الأصول والفروع

وَأما مَا يدْخل فِي الْخَبَر عَن إنْشَاء أَمر فَيكون لدُخُوله فِي الْإِنْشَاء إنْشَاء الْأَمر وَالنَّهْي وإنشاء الْوَعيد عِنْد من يجوز النّسخ فِيهِ كآخر الْبَقَرَة على مَا روى عَن جُمْهُور السّلف وَهُوَ مَبْنِيّ على أَن الْوَعيد هَل هُوَ خبر مَحْض أَو هُوَ مَعَ ذَلِك إنْشَاء كالعقود الَّتِي تقبل الْفَسْخ لكَونه إِخْبَارًا عَن إِرَادَة المتوعد وعزمه وكالخبر عَن الْأَمر وَالنَّهْي المتضمن خَبره عَن طلبه المتضمن إِرَادَته الشَّرْعِيَّة وَهَذَا مِمَّا يبين مَا قَرَّرْنَاهُ فِي غير هَذَا الْموضع أَن الله سُبْحَانَهُ بَين بكتابه سَبِيل الْهدى وَأَنه لَا يصلح أَن يُخَاطب بِمَا ظَاهر مَعْنَاهُ بَاطِل أَو فَاسد بل وَلَا يضلل المخاطبين بِأَن يحيلهم على الْأَدِلَّة الَّتِي يستسيغونها برأيهم بل يجب أَن يكون الْكتاب بَيَانا وَهدى وشفاء لما فِي الصُّدُور وَأَن مَدْلُوله وَمَفْهُومه حق وَهَذَا أصل عَظِيم جدا فصل فِيمَا اخْتلف فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ من الْأَقْوَال والافعال فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع فَإِن هَذَا من أعظم أصُول الْإِسْلَام الَّذِي هُوَ معرفَة الْجَمَاعَة وَحكم الْفرْقَة والتقاتل والتكفير والتلاعن والتباغض وَغير ذَلِك

فَنَقُول هَذَا الْبَاب أَصله الْمحرم فِيهِ من الْبَغي فَإِن الْإِنْسَان ظلوم جهول قَالَ تَعَالَى كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ وَمَا اخْتلف فِيهِ إِلَّا الَّذين أوتوه من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات بغيا بَينهم [سُورَة الْبَقَرَة 213] فِي غير مَوضِع وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لتسلكن سنَن من قبلكُمْ حَذْو القذة بالقذة حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَب لدخلتموه قَالُوا يَا رَسُول الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى قَالَ فَمن وَقد قَالَ تَعَالَى وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم [سُورَة آل عمرَان 105]

وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شئ [سُورَة الْأَنْعَام 159] وَمن هَذَا الْبَاب مَا هُوَ من بَاب التَّأْوِيل وَالِاجْتِهَاد الَّذِي يكون الْإِنْسَان مستفرغا فِيهِ وَسعه علما وَعَملا ثمَّ الْإِنْسَان قد يبلغ ذَلِك وَلَا يعرف الْحق فِي الْمسَائِل الخبرية الاعتقادية وَفِي الْمسَائِل العملية الاقتصادية وَالله سُبْحَانَهُ قد تجَاوز لهَذِهِ الْأمة عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان بقوله تَعَالَى رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا [سُورَة الْبَقَرَة 286] وَقد ثَبت فِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَمن حَدِيث أَبى هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله اسْتَجَابَ لَهُم هَذَا الدُّعَاء وَقَالَ قد فعلت وَأَنَّهُمْ لم يقرأو بِحرف مِنْهَا إِلَّا أَعْطوهُ وَهَذَا مَعَ قَوْله تَعَالَى وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجنَّة [سُورَة الْبَقَرَة 82]

وَقَوله دَلِيل على ان الله لَا يُكَلف نفسا إِلَّا وسعهَا لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت وَغير ذَلِك دَلِيل على أَن الله تَعَالَى لَا يُكَلف نفسا إِلَّا وسعهَا والوسع هُوَ مَا تسعه النَّفس فَلَا تضيق عَنهُ وَلَا تعجز عَنهُ فالوسع فعل بِمَعْنى مفعول كالجهد وَهَذَا أَيْضا كَقَوْلِه تَعَالَى مَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج [سُورَة الْحَج 78] وَقَوله يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر [سُورَة الْبَقَرَة 185] وَقَوله مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج [سُورَة الْمَائِدَة 6] والحرج الضّيق فَهُوَ نفى أَن يكون عَلَيْهِم ضيق أَي مَا يضيق عَنْهُم كَمَا أخبر أَنه لَا يُكَلف النَّفس إِلَّا مَا تسعه فَلَا بُد أَن يكون الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم مِمَّا تسعه النَّفس حَتَّى يقدر الْإِنْسَان على فعله وَلَا بُد أَن يكون الْمُبَاح مِمَّا يسع الْإِنْسَان وَلَا يضيق عَنهُ حَتَّى يكون للانسان مَا يسع الْإِنْسَان وَيحمل الْإِنْسَان وَلَا يضيق عَنهُ من الْمُبَاح وليتدبر الْفرق بَين مَا يَسعهُ الْإِنْسَان وَهُوَ الوسع الَّذِي قيل فِيهِ لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا [سُورَة الْبَقَرَة 286] وَبَين مَا يسع الْإِنْسَان فَلَا يكون حرجا عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا لَا بُد للْإنْسَان مِنْهُ من الْمُبَاحَات وَهَذَا يكون فِي صفة فعل الْمَأْمُور بِهِ كَمَا فِي الْوضُوء وَالصَّلَاة فَلَا بُد ان يكون المجزئ لَهُ من ذَلِك مَا يسع الْإِنْسَان وَالْوَاجِب عَلَيْهِ مَا يَسعهُ

الْإِنْسَان وَيكون فِي بَاب الْحَلَال وَالْحرَام فَلَا يحرم عَلَيْهِ مَا لَا يسع هُوَ تَركه بِحَيْثُ يبْقى الْمُبَاح لَهُ ضيقا مِنْهُ لَا يَسعهُ وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيَنْبَغِي أَن يعلم أَن للقلوب قدرَة فِي بَاب الْعلم والاعتقاد العلمى وَفِي بَاب الْإِرَادَة وَالْقَصْد وَفِي الْحَرَكَة الْبَدَنِيَّة أَيْضا فالخطأ وَالنِّسْيَان هُوَ من بَاب الْعلم يكون إِمَّا مَعَ تعذر الْعلم عَلَيْهِ أَو تعسره عَلَيْهِ وَالله قد قَالَ مَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج [سُورَة الْحَج 78] وَقَالَ يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر [سُورَة الْبَقَرَة 185] وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ لِمعَاذ وأبى مُوسَى لما أرسلها إِلَى الْيمن يسرا وَلَا تعسرا وبشرا وَلَا تنفرا وطاوعا وَلَا تختلفا وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمَا عجز الْإِنْسَان عَن عمله واعتقاده حَتَّى يعْتَقد وَيَقُول ضِدّه خطأ أَو نِسْيَانا فَذَلِك مغْفُور لَهُ كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ

فَلهُ أجر وَهَذَا يكون فِيمَا هُوَ من بَاب الْقيَاس وَالنَّظَر بعقله ورأيه وَيكون فِيمَا هُوَ من بَاب النَّقْل وَالْخَبَر الَّذِي يَنَالهُ بسمعه وفهمه وعقله وَيكون فِيمَا هُوَ من بَاب الإحساس وَالْبَصَر الَّذِي يجده ويناله بِنَفسِهِ فَهَذِهِ المدارك الثَّلَاثَة قد يحصل للشَّخْص بهَا علم يقطع بِهِ وَيكون ضَرُورِيًّا فِي حَقه مثل مَا يجده فِي نَفسه من الْعُلُوم الضرورية وَمثل مَا سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو من المخبرين لَهُ الصَّادِقين خَبرا يفِيدهُ الْعلم كالخبر الْمُتَوَاتر الَّذِي يفِيدهُ الْعلم تَارَة بِكَثْرَة عدد المخبرين وَتارَة بصفاتهم وَتارَة بهما وَغير ذَلِك مِمَّا يُفِيد الْعلم وَقد يكون مِمَّا علمه بآثاره الدَّالَّة عَلَيْهِ أَو بِحكم نظره المساوى لَهُ من كل وَجه اَوْ الَّذِي يدل على الآخر بطرِيق الأولى والتنبيه وَنَحْو ذَلِك وَمَعَ هَذَا فَتكون هَذِه الْعُلُوم عِنْد غَيره متيقنة مَعَ اجْتِهَاده لدقة الْعُلُوم أَو خفائها أَو لوُجُود مَا يعْتَقد المعتقد أَنه يُعَارض وَلَا يكون مُعَارضا فِي الْحَقِيقَة فيشتبه بالمعارض لاشتباه الْمعَارض لاشتباه الْمعَانِي اَوْ لاشتراك الْأَلْفَاظ فَهَذَا من أعظم أَسبَاب اخْتِلَاف بني آدم من الْمُؤمنِينَ وَغَيرهم وَلِهَذَا نجد فِي الْمُخْتَلِفين كل طَائِفَة تدعى الْعلم الضَّرُورِيّ فَمَا يَقُوله إِمَّا من جِهَة الْقيَاس وَالنَّظَر وَإِمَّا من جِهَة السماع وَالْخَبَر وَإِمَّا من جِهَة الإحساس وَالْبَصَر وَلَا تكون وَاحِدَة من الطَّائِفَتَيْنِ كَاذِبَة بل صَادِقَة

لَكِن يكون قد أَدخل مَعَ الْحق مَا لَيْسَ مِنْهُ فِي النَّفْي وَالْإِثْبَات لاشتباه الْمعَانِي واشتراك الْأَلْفَاظ فَيكون حِينَئِذٍ مَا يَنْفِيه هَذَا يُثبتهُ الآخر وَلَو زَالَ الِاشْتِبَاه والاشتراك زَالَ الْخلاف التضادى وَكَانَ اخْتِلَاف النَّاس فِي مسَائِل الْجَبْر وَالْقدر ومسائل نفي الْجِسْم وإثباته وَنفى مُوجب الْأَخْبَار وَإِثْبَات ذَلِك هُوَ من هَذَا الْبَاب وَهَذَا كُله مَوْجُود فِي كتب أهل الْكَلَام وَأهل الحَدِيث وَالْفِقْه وَغير ذَلِك وَقَول الْقَائِل إِن الضروريات يجب اشْتِرَاك الْعُقَلَاء فِيهَا خطأ بل الضروريات كالنظريات تَارَة يشتركون فِيهَا وَتارَة يخْتَص بهَا من جعل لَهُ قُوَّة على إِدْرَاكهَا وَكَذَلِكَ قَول الْقَائِلين إِن الطَّائِفَة الَّتِي تبلغ عدد التَّوَاتُر لَا يتفقون على جحد الضروريات لَيْسَ بصواب بل يتفقون على ذَلِك إِذا تواطأوا عَلَيْهَا وَخبر التَّوَاتُر مَتى كَانَ عَن تواطؤ لم يفد الْعلم وَإِنَّمَا يُفِيد الْعلم لانْتِفَاء التواطؤ فِيهِ وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد يكون المختلفون قد اجْتهد أحدهم فَأصَاب وَيكون الآخر اجْتهد فَأَخْطَأَ فَيكون للْأولِ أَجْرَانِ وَللثَّانِي أجر مَعَ أَن خطأه مغْفُور مغْفُور لَهُ وَقد يكون كِلَاهُمَا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَيغْفر لَهما جَمِيعًا مَعَ وجود الْأجر وَيكون الصَّوَاب فِي قَوْلنَا ثَالِثا أما تَفْصِيل مَا أَطْلقُوهُ

مثل أَن ينفى هَذَا نفيا عَاما وَيثبت الآخر مَا نَفَاهُ الأول فيفصل الْمفصل وَيثبت الْبَعْض دون الْبَعْض وَكَذَلِكَ فِي الْمَعْنى المشتبه وَاللَّفْظ الْمُشْتَرك يفصل بَين الْمَعْنى وَمَا يُشبههُ إِذا كَانَ مُخَالفا لَهُ وَبَين معنى لفظ وَمعنى لفظ ثمَّ إِنَّه من مسَائِل الْخلاف مَا يتَضَمَّن أَن اعْتِقَاد أَحدهمَا يُوجب عَلَيْهِ بغض الآخر ولعنه أَو تفسيقه أَو تكفيره أَو قِتَاله فَإِذا فعل ذَلِك مُجْتَهدا مخطئا كَانَ خَطؤُهُ مغفورا لَهُ وَكَانَ ذَلِك فِي حق الآخر محنة فِي حَقه وفتنة وبلاء ابتلاه بِهِ وَهَذِه حَال الْبُغَاة المتأولين مَعَ أهل الْعدْل سَوَاء كَانَ ذَلِك بَين أهل الْيَد والقتال من الْأُمَرَاء وَنَحْوهم أَو بَين أهل اللِّسَان وَالْعَمَل من الْعلمَاء والعباد وَنَحْوهم وَبَين من يجمع الْأَمريْنِ وَلَكِن الِاجْتِهَاد السائغ لَا يبلغ مبلغ الْفِتْنَة والفرقة إِلَّا مَعَ البغى لَا لمُجَرّد الِاجْتِهَاد كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا اخْتلف الَّذين أُوتُوا الْكتاب إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم [سُورَة آل عمرَان 19] وَقَالَ إِن الذبن فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شئ [سُورَة الْأَنْعَام 159] وَقَالَ ولاتكونوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات [سُورَة آل عمرَان 105] فَلَا يكون فتْنَة وَفرْقَة مَعَ وجود الِاجْتِهَاد السائغ بل مَعَ نوع بغى

وَلِهَذَا نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقِتَال فِي الْفِتْنَة وَكَانَ ذَلِك من أصُول السّنة وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة والْحَدِيث وأئمة اهل الْمَدِينَة من فقهائهم وَغَيرهم وَمن الْفُقَهَاء من ذهب إِلَى أَن ذَلِك يكون مَعَ وجود الْعلم التَّام من أَحدهمَا والبغى من الآخر فَيجب الْقِتَال مَعَ الْعَادِل حِينَئِذٍ وعَلى هَذَا الْفِتْنَة الْكُبْرَى بَين أهل الشَّام وَالْعراق هَل كَانَ الأصوب حَال القاعدين أَو حَال المقاتلين من أهل الْعرَاق والنصوص دلّت على الأول وَقَالُوا كَانَ ترك قتال أهل الْعرَاق أصوب وَإِن كَانُوا أقرب إِلَى الْحق وَأولى بِهِ من الشَّام إِذْ ذَاك كَمَا بسطنا الْكَلَام فِي هَذَا فِي غير هَذَا الْموضع وتكلمنا على الْآيَات والاحاديث فِي ذَلِك وَمن أصُول هَذَا الْموضع أَن مُجَرّد وجود البغى من إِمَام أَو طَائِفَة لَا يُوجب قِتَالهمْ بل لَا يبيحه بل من الْأُصُول الَّتِي دلّت عَلَيْهَا النُّصُوص أَن الإِمَام الجائر الظَّالِم يُؤمر النَّاس بِالصبرِ على جوره وظلمه وبغيه وَلَا يقاتلونه كَمَا أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فِي غير حَدِيث فَلم يَأْذَن فِي دفع الْبَغي مُطلقًا بِالْقِتَالِ بل إِذا كَانَت فِيهِ فتْنَة نهى عَن دفع الْبَغي بِهِ وَأمر بِالصبرِ وَأما قَوْله سُبْحَانَهُ فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغى [سُورَة الحجرات 9] فَهُوَ سُبْحَانَهُ قد بَين مُرَاده وَلَكِن من

النَّاس من يضع الْآيَة على غير موضعهَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغى حَتَّى تفئ إِلَى أَمر الله فَإِن فاءت فأصلحوا بَينهمَا بِالْعَدْلِ وأقسطوا إِن الله يحب المقسطين [سُورَة الحجرات 9] فَهُوَ لم يَأْذَن ابْتِدَاء فِي قتال بَين الْمُؤمنِينَ بل إِذا اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا والاقتتال هُوَ فتْنَة وَقد تكون إِحْدَاهمَا أقرب إِلَى الْحق فَأمر سُبْحَانَهُ فِي ذَلِك بالإصلاح وَكَذَلِكَ فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما اقتتل بَنو عَمْرو بن عَوْف فَخرج ليصلح بَينهم وَقَالَ لِبلَال إِن حضرت الصَّلَاة فَقدم ابا بكر ثمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ فَقَاتلُوا الَّتِي تبغى حَتَّى تفئ إِلَى أَمر الله [سُورَة الحجرات 9] فَهُوَ بعد اقتتالهم إِذا أصلح بَينهم بِالْقِسْطِ فَلم تقبل إِحْدَاهمَا الْقسْط بل بَغت فَإِنَّهَا تقَاتل لِأَن قتالها هُنَا يدْفع بِهِ الْقِتَال الَّذِي هُوَ أعظم مِنْهُ فَإِنَّهَا اذا لم تقَاتل حَتَّى تفئ إِلَى أَمر الله بل تركت حَتَّى تقتتل هِيَ وَالْأُخْرَى كَانَ الْفساد فِي ذَلِك أعظم والشريعة مبناها على دفع الفسادين بِالْتِزَام أدناهما وَفِي مثل هَذَا يُقَاتلُون حَتَّى لَا يكون فتْنَة وَيكون الدّين كُله لله لِأَنَّهُ إِذا أمروا

بالصلاح والكف عَن الْفِتْنَة فبغت إِحْدَاهمَا قوتلت حَتَّى لَا تكون فتْنَة والمأمور بِالْقِتَالِ هُوَ غير المبغى عَلَيْهِ أَمر بِأَن يُقَاتل الباغية حَتَّى ترجع إِلَى الدّين فقاتلها من بَاب الْجِهَاد وإعانة الْمَظْلُوم المبغى عَلَيْهِ أما إِذا وَقع بغى ابْتِدَاء بِغَيْر قتال مثل أَخذ مَال أَو مثل رئاسة بظُلْم فَلم يَأْذَن الله فِي اقتتال طائفتين من الْمُؤمنِينَ على مُجَرّد ذَلِك لِأَن الْفساد فِي الاقتتال فِي مُجَرّد رئاسة أَو أَخذ مَال فِيهِ نوع ظلم فَلهَذَا نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتال الْأَئِمَّة إِذا كَانَ فيهم ظلم لِأَن قِتَالهمْ فِيهِ فَسَاد أعظم من فَسَاد ظلمهم وعَلى هَذَا فَمَا ورد فِي صَحِيح البخارى من حَدِيث أم سَلمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك لَيْسَ هُوَ مُخَالفا لما تَوَاتر عَنهُ من أَنه أَمر بالإمساك عَن الْقِتَال فِي الْفِتْنَة وَأَنه جعل الْقَاعِد فِيهَا خيرا من الْقَائِم والقائم خيرا من الماشى والماشى خيرا من الساعى وَقَالَ يُوشك أَن يكون خير مَال الْمُسلم غنم يتبع بهَا شعف الْجبَال ومواقع الْقطر يفر بِدِينِهِ من الْفِتَن وَأمر فِيهَا بِأَن يلْحق الْإِنْسَان

بإبله وبقره وغنمه لِأَن وَصفه تِلْكَ الطَّائِفَة بالبغى هُوَ كَمَا وصف بِهِ من وصف من الْوُلَاة بالأثرة وَالظُّلم كَقَوْلِه سَتَلْقَوْنَ بعدِي أَثَرَة فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي على الْحَوْض وَقَوله ص سَتَكُون بعدِي أَثَرَة وَأُمُور تنكرونها قَالُوا فَمَا تَأْمُرنَا يَا رَسُول الله قَالَ أَدّوا إِلَيْهِم حَقهم وسلوا الله حقكم وأمثال ذَلِك من الأحايث الصِّحَاح فَأمر مَعَ ذكره لظلمهم بِالصبرِ وَإِعْطَاء حُقُوقهم وَطلب الْمَظْلُوم حَقه من الله وَلم يَأْذَن للمظلوم المبغى عَلَيْهِ بِقِتَال الْبَاغِي فِي مثل هَذِه الصُّور الَّتِي يكون الْقِتَال فِيهَا فتْنَة كَمَا أذن فِي دفع الصَّائِل بِالْقِتَالِ حَيْثُ

قَالَ من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد وَمن قتل دون دينه فَهُوَ شَهِيد فَإِن قتال اللُّصُوص لَيْسَ قتال فتْنَة إِذْ النَّاس كلهم أعوان على ذَلِك فَلَيْسَ فِيهِ ضَرَر عَام على غير الظَّالِم بِخِلَاف قتال وُلَاة الْأُمُور فَإِن فِيهِ فتْنَة وشرا عَاما أعظم من ظلمهم فالمشروع فِيهِ الصَّبْر وَإِذا وصف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَائِفَة بِأَنَّهَا باغية سَوَاء كَانَ ذَلِك بِتَأْوِيل أَو بِغَيْر تَأْوِيل لم يكن مُجَرّد ذَلِك مُوجبا لقتالها وَلَا مبيحا لذَلِك إِذْ كَانَ قتال فتْنَة فَتدبر هَذَا فَإِنَّهُ مَوضِع عَظِيم يظْهر فِيهِ الْجمع بَين النُّصُوص وَلِأَنَّهُ الْموضع الَّذِي اخْتلف فِيهِ اجْتِهَاد عُلَمَاء الْمُؤمنِينَ قَدِيما وحديثا حَيْثُ رأى قوم قتال هَؤُلَاءِ مَعَ من هُوَ أولى بِالْحَقِّ مِنْهُم وَرَأى آخَرُونَ ترك الْقِتَال إِذا كَانَ الْقِتَال فِيهِ من الشَّرّ أعظم من ترك الْقِتَال كَمَا كَانَ

الْوَاقِع فَإِن أُولَئِكَ كَانُوا لَا يبدأون الْبُغَاة بِقِتَال حَتَّى يجعلوهم صائلين عَلَيْهِم وَإِنَّمَا يكون ذنبهم ترك وَاجِب مثل الِامْتِنَاع من طَاعَة معِين وَالدُّخُول فِي الْجَمَاعَة فَهَذِهِ الْفرْقَة إِذا كَانَت باغية وَفِي قِتَالهمْ من الشَّرّ كَمَا وَقع أعظم من مُجَرّد الِاقْتِصَار على ذَلِك كَانَ الْقِتَال فتْنَة وَكَانَ تَركه هُوَ الْمَشْرُوع وَإِن كَانَ الْمقَاتل أولى بِالْحَقِّ وَهُوَ مُجْتَهد وَعَامة مَا تنازعت فِيهِ فرقة الْمُؤمنِينَ من مسَائِل الْأُصُول وَغَيرهَا فِي بَاب الصِّفَات وَالْقدر والإمامة وَغير ذَلِك هُوَ من هَذَا الْبَاب فِيهِ الْمُجْتَهد الْمُصِيب وَفِيه الْمُجْتَهد الْمُخطئ وَيكون الْمُخطئ بَاغِيا وَفِيه الْبَاغِي من غير اجْتِهَاد وَفِيه المقصر فِيمَا أَمر بِهِ من الصَّبْر وكل مَا أوجب فتْنَة وَفرْقَة فَلَيْسَ من الدّين سَوَاء كَانَ قولا اَوْ فعلا وَلَكِن الْمُصِيب الْعَادِل عَلَيْهِ أَن يصبر عَن الْفِتْنَة ويصبر على جهل الجهول وظلمة إِن كَانَ غير متأول وَأما إِن كَانَ ذَاك أَيْضا متأولا فخطؤه مغْفُور لَهُ وَهُوَ فِيمَا يُصِيب بِهِ من أَذَى بقوله أَو فعله لَهُ أجر على اجْتِهَاده وخطؤه مغْفُور لَهُ وَذَلِكَ محنة وابتلاء فِي حق ذَلِك الْمَظْلُوم

فَإِذا صَبر على ذَلِك وَاتَّقَى الله كَانَت الْعَاقِبَة لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا [سُورَة آل عمرَان 120] وَقَالَ تَعَالَى لتلبلون فِي أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ ولتسمعن من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَمن الَّذين أشركوا أَذَى كثيرا وَإِن تصبروا وتتقوا فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور [سُورَة آل عمرَان 186] فَأمر سُبْحَانَهُ بِالصبرِ على أَذَى الْمُشْركين وَأهل الْكتاب مَعَ التَّقْوَى وَذَلِكَ تَنْبِيه على الصَّبْر على أَذَى الْمُؤمنِينَ بَعضهم لبَعض متأولين كَانُوا أَو غير متأولين وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ وَلَا يجرمنكم شنئان قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى [سُورَة الْمَائِدَة 8] فَنهى أَن يحمل الْمُؤمنِينَ بغضهم للْكفَّار على أَلا يعدلُوا عَلَيْهِم فَكيف إِذا كَانَ البغض لفَاسِق أَو مُبْتَدع متأول من أهل الْإِيمَان فَهُوَ أولى أَن يجب عَلَيْهِ أَلا يحملهُ ذَلِك على أَلا يعدل على مُؤمن وَإِن كَانَ ظَالِما لَهُ فَهَذَا مَوضِع عَظِيم الْمَنْفَعَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا فَإِن الشَّيْطَان مُوكل ببني آدم وَهُوَ يعرض للْجَمِيع ولايسلم أحد من مثل هَذِه الْأُمُور دع ماسواها من نوع تَقْصِير فِي مَأْمُور أَو فعل مَحْظُور بِاجْتِهَاد أَو غير اجْتِهَاد وَإِن كَانَ هُوَ الْحق وَقَالَ سُبْحَانَهُ لنَبيه فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك وَسبح بِحَمْد رَبك بالعشى وَالْإِبْكَار [سُورَة غَافِر 55] فَأمره بِالصبرِ وَأخْبرهُ أَن وعد الله حق وَأمره أَن يسْتَغْفر لذنبه

وَلَا تقع فتْنَة إِلَّا من ترك مَا أَمر الله بِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمر بِالْحَقِّ وَأمر بِالصبرِ فالفتنة إِمَّا من ترك الْحق وَإِمَّا من ترك الصَّبْر فالمظلوم المحق الَّذِي لَا يقصر فِي علمه يُؤمر بِالصبرِ فَإِذا لم يصبر فقد ترك الْمَأْمُور وَإِن كَانَ مُجْتَهدا فِي معرفَة الْحق وَلم يصبر فَلَيْسَ هَذَا بِوَجْه الْحق مُطلقًا لَكِن هَذَا وَجه نوع حق فِيمَا أَصَابَهُ فَيَنْبَغِي أَن يصبر عَلَيْهِ وَإِن كَانَ مقصرا فِي معرفَة الْحق فَصَارَت ثَلَاثَة ذنُوب أَنه لم يجْتَهد فِي معرفَة الْحق وَأَنه لم يصبهُ وَأَنه لم يصبر وَقد يكون مصيبا فِيمَا عرفه من الْحق فِيمَا يتَعَلَّق بِنَفسِهِ وَلم يكن مصيبا فِي معرفَة حكم الله فِي غَيره وَذَلِكَ بِأَن يكون قد علم الْحق فِي أصل يخْتَلف فِيهِ بِسَمَاع وَخبر أَو بِقِيَاس وَنظر أَو بِمَعْرِِفَة وبصر ويظن مَعَ ذَلِك أَن ذَلِك الْغَيْر التارك للإقرار بذلك الْحق عَاص أَو فَاسق أَو كَافِر وَلَا يكون الْأَمر كَذَلِك لِأَن ذَلِك الْغَيْر يكون مُجْتَهدا قد استفرغ وَسعه وَلَا يقدر على معرفَة الأول لعدم الْمُقْتَضى وَوُجُود الْمَانِع وَأُمُور الْقُلُوب لَهَا أَسبَاب كَثِيرَة وَلَا يعرف كل اُحْدُ حَال غَيره من ايذاء لَهُ بقول أَو فعل قد يحْسب المؤذى إِذا كَانَ مَظْلُوما لَا ريب

فِيهِ أَن ذَلِك المؤذى مَحْض بَاغ عَلَيْهِ ويحسب أَنه يدْفع ظلمه بِكُل مُمكن وَيكون مخطئا فِي هذَيْن الْأَصْلَيْنِ إِذْ قد يكون المؤذى متأولا مخطئا وَإِن كَانَ ظَالِما لَا تَأْوِيل لَهُ فَلَا يحل دفع ظلمه بِمَا فِيهِ فتْنَة بَين الْأمة وَبِمَا فِيهِ شَرّ أعظم من ظلمه بل يومر الْمَظْلُوم هَا هُنَا بِالصبرِ فَإِن ذَلِك فِي حَقه محنة وفتنة وَإِنَّمَا يَقع الْمَظْلُوم فِي هَذَا لجزعه وَضعف صبره أَو لقلَّة علمه وَضعف رَأْيه فَإِنَّهُ قد يحجب أَن الْقِتَال وَنَحْوه من الْفِتَن يدْفع الظُّلم عَنهُ وَلَا يعلم أَنه يُضَاعف الشَّرّ كَمَا هُوَ الْوَاقِع وَقد يكون جزعه يمنعهُ من الصَّبْر وَالله سُبْحَانَهُ وصف الْأَئِمَّة بِالصبرِ وَالْيَقِين فَقَالَ وجعلناهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون [سُورَة السَّجْدَة 24] وَقَالَ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ [سُورَة الْعَصْر 3] وَذَلِكَ أَن الْمَظْلُوم وَإِن كَانَ مَأْذُونا لَهُ فِي دفع الظُّلم عَنهُ بقوله تَعَالَى وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل [سُورَة الشورى 41] فَذَلِك مَشْرُوط بِشَرْطَيْنِ أَحدهمَا الْقُدْرَة على ذَلِك وَالثَّانِي أَلا يعتدى فَإِذا كَانَ عَاجِزا أَو كَانَ الِانْتِصَار يفضى إِلَى عدوان زَائِد لم

يجز وَهَذَا هُوَ أصل النهى عَن الْفِتْنَة فَكَانَ إِذا كَانَ الْمُنْتَصر عَاجِزا وانتصاره فِيهِ عدوان فَهَذَا هَذَا وَمَعَ ذَلِك فَيجب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر بِحَسب إِظْهَار السّنة والشريعة وَالنَّهْي عَن الْبِدْعَة والضلالة بِحَسب الْإِمْكَان كَمَا دلّ على وجوب ذَلِك الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة وَكثير من النَّاس قد يرى تعَارض الشَّرِيعَة فِي ذَلِك فَيرى أَن الْأَمر وَالنَّهْي لَا يقوم إِلَّا بفتنة فإمَّا أَن يُؤمر بهما جَمِيعًا أَو ينْهَى عَنْهُمَا جَمِيعًا وَلَيْسَ كَذَلِك بل يُؤمر وَينْهى ويصبر عَن الْفِتْنَة كَمَا قَالَ تَعَالَى وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَنهُ الْمُنكر واصبر على مَا أَصَابَك [سُورَة لُقْمَان 17] وَقَالَ عبَادَة بَايعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على السّمع وَالطَّاعَة فِي عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وَألا ننازع الْأَمر أَهله وَأَن نقوم أَو نقُول بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنَّا لَا نَخَاف فِي الله لومة لائم فَأَمرهمْ بِالطَّاعَةِ ونهاهم عَن مُنَازعَة الْأَمر أَهله وَأمرهمْ بِالْقيامِ بِالْحَقِّ

وَلأَجل مَا يظنّ من تعَارض هذَيْن تعرض الْحيرَة فِي ذَلِك لطوائف من النَّاس والحائر الَّذِي لَا يدْرِي لعدم ظُهُور الْحق وتميز الْمَفْعُول من الْمَتْرُوك مَا يفعل إِمَّا لخفاء الْحق عَلَيْهِ أَو لخفاء مَا يُنَاسب هَوَاهُ عَلَيْهِ والبدعة مقرونة بالفرقة كَمَا ان السّنة مقرونة بِالْجَمَاعَة فَيُقَال أهل السّنة وَالْجَمَاعَة كَمَا يُقَال أهل الْبِدْعَة والفرقة وَقد بسطنا هَذَا كُله فِي غير هَذَا الْموضع وَإِنَّمَا الْمَقْصُود هُنَا التَّنْبِيه على وَجه تلازمهما مُوالَاة المفترقين وَإِن كَانَ كِلَاهُمَا فِيهِ بِدعَة وَفرْقَة أَو كَانُوا مُؤمنين فيوالون بإيمَانهمْ وَيتْرك مَا لَيْسَ من الْإِيمَان من بِدعَة وَفرْقَة فَإِن الْبِدْعَة مَا لم يشرعه الله من الدّين فَكل من دَان بشئ لم يشرعه الله فَذَاك بِدعَة وَإِن كَانَ متأولا فِيهِ وَهَذَا مَوْجُود من جَمِيع أهل التَّأْوِيل المفترقين من الْأَوَّلين والآخرين فَإِنَّهُم إِذا رَأَوْا مَا فعلوا مَأْمُورا بِهِ وَلم يكن كَذَلِك فَلَيْسَ مَا فَعَلُوهُ سنة بل هُوَ بِدعَة متأولة مُجْتَهد فِيهَا من الْمُنَافِقين سَوَاء كَانَت فِي الدُّنْيَا أَو فِي الدّين كَمَا قَالَ تَعَالَى لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالا ولأوضعوا

خلالكم يبغونكم الْفِتْنَة وَفِيكُمْ سماعون لَهُم [سُورَة التَّوْبَة 47] وَقَالَ فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله [سُورَة آل عمرَان 7] وتجد أَئِمَّة أهل الْعلم من أهل الْبِدْعَة والفرقة من أهل الْإِيمَان والنفاق يصنفون لأهل السَّيْف وَالْمَال من الْمُلُوك والوزراء فِي ذَلِك ويتقربون إِلَيْهِم بالتصنيف فِيمَا يوافقهم كَمَا صنف كتاب تَحْلِيل النَّبِيذ لبَعض الْأُمَرَاء وَهُوَ الكرخى وَقد صنف الجاحظ قبله كتابا لَكِن أَظُنهُ مُطلقًا وكما صنف ابْن فورك كتابا فِي مَذْهَب ابْن كلاب

الرئيسي وكما صنف أَبُو المعالى النظامية والغياثى لنظام الْملك وكما صنف الرَّازِيّ كتاب الملخص فِي الفلسفة

لوزير وقته زُهَيْر وكتابا فِي أَحْكَام النُّجُوم لملك وقته عَلَاء الدّين وكتابا فِي السحر وَعبادَة الْأَوْثَان لأم الْملك وكما صنف السهروردي الحلبى الْمَقْتُول الألواح الْعمادِيَّة فِي المبدأ والمعاد لعماد الدّين قره أرسلان بن دَاوُد وَقَالَ فِيهِ لما

تَوَاتَرَتْ لَدَى مكاتبات الْملك فلَان وَقد أَمرنِي بتحرير عجالة شَدِيدَة الإيجاز بَيِّنَة الإعجاز تَتَضَمَّن مَا لابد من مَعْرفَته فِي المبدأ والمعاد على مَا يرَاهُ من متأهلة وأساطين الْفُضَلَاء فبادرت إِلَى امْتِثَال مرسومه وَتَحْصِيل مَطْلُوبه وَكنت قد صادفت مختصرات صنفها بعض الْمُتَأَخِّرين لأمراء زمانهم وملوك أزمانهم وَسمعت أَنَّهَا مَا انتفعوا بهَا لأَنهم عدلوا عَن مصلحَة التَّعْلِيم وَطَرِيق التفهيم وَمَا غيروا شَيْئا من الاصطلاحات الغامضة المأخذ ففوتوا الرِّعَايَة لفائدة جزئية لَا مصلحَة كُلية

فصل مهم عظيم القدر في هذا الباب وذلك أن طوائف كبيرة من أهل

وكما صنف صَاحب دَعْوَة الْبَلَاغ الْأَكْبَر والناموس الْأَعْظَم فصل مُهِمّ عَظِيم الْقدر فِي هَذَا الْبَاب وَذَلِكَ أَن طوائف كَبِيرَة من أهل الْكَلَام من الْمُعْتَزلَة وَهُوَ أصل هَذَا الْبَاب كَأبي على وَأبي هَاشم وَعبد الْجَبَّار وأبى

الْحُسَيْن وَغَيرهم وَمن اتبعهم من الاشعرية كالقاضى أَبى بكر وأبى المعالى وأبى حَامِد والرازي وَمن إتبعهم من الْفُقَهَاء يعظمون أَمر الْكَلَام الَّذِي يسمونه أصُول الدّين حَتَّى يجْعَلُونَ مسَائِله

قَطْعِيَّة ويوهنون من أَمر الْفِقْه الَّذِي هُوَ معرفَة أَحْكَام الْأَفْعَال حَتَّى يَجْعَلُوهُ من بَاب الظنون لَا الْعُلُوم وَقد رتبوا على ذَلِك أصولا انتشرت فِي النَّاس حَتَّى دخل فِيهَا طوائف من الْفُقَهَاء والصوفية وَأهل الحَدِيث لَا يعلمُونَ أَصْلهَا وَلَا مَا تؤول إِلَيْهِ من الْفساد مَعَ أَن هَذِه الْأُصُول الَّتِي ادعوها فِي ذَلِك بَاطِلَة واهية كَمَا سنبينه فِي غير هَذَا الْموضع ذَلِك أَنهم لم يجْعَلُوا لله فِي الْأَحْكَام حكما معينا حَتَّى يَنْقَسِم الْمُجْتَهد إِلَى مُصِيب ومخطئ بل الحكم فِي حق كل شخص مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَقد بَينا فِي غير هَذَا الْموضع مَا فِي هَذَا من السفسطة والزندقة فَلم يجْعَلُوا لله حكما فِي موارد الِاجْتِهَاد أصلا وَلَا جعلُوا لَهُ على ذَلِك دَلِيلا أصلا بل ابْن الباقلاني وَغَيره يَقُول وَمَا ثمَّ أَمارَة فِي الْبَاطِن بِحَيْثُ يكون ظن أصح من ظن وَإِنَّمَا هُوَ أُمُور اتفاقية فَلَيْسَتْ الظنون عِنْده مستندة إِلَى أَدِلَّة وأمارات تقتضيها كالمعلوم فِي استنادها إِلَى الْأَدِلَّة ثمَّ إِنَّه وَطَائِفَة مَعَ هَذَا قد أبطلوا أصُول الْفِقْه وَمنعُوا دلالتها

حَتَّى سموا واقفة وَالْكَلَام نَوْعَانِ أَمر وَخبر فمنعوا دلَالَة صِيغ الْأَمر عَلَيْهِ وَمنعُوا دلَالَة صِيغ الْخَبَر الْعَام عَلَيْهِ وَمن فروع ذَلِك أَنهم يَزْعمُونَ أَن مَا تكلمُوا فِيهِ من مسَائِل الْكَلَام هِيَ مسَائِل قَطْعِيَّة يقينية وَلَيْسَ فِي طوائف الْعلمَاء من الْمُسلمين أَكثر تفَرقا واختلافا مِنْهُم وَدَعوى كل فريق فِي دَعْوَى خَصمه الَّذِي يَقُول إِنَّه قطعى بل الشَّخْص الْوَاحِد مِنْهُم يُنَاقض نَفسه حَتَّى أَن الشخصين والطائفتين بل الشَّخْص الْوَاحِد والطائفة الْوَاحِدَة يدعونَ الْعلم الضَّرُورِيّ بالشئ ونقيضه ثمَّ مَعَ هَذَا الِاضْطِرَاب الْغَالِب عَلَيْهِم يكفر بَعضهم بَعْضًا كَمَا هُوَ أصُول الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض والمعتزلة وَكثير من الأشعرية وَيَقُولُونَ فِي آخر أصُول الْفِقْه الْمُصِيب فِي أصُول الدّين وَاحِد وَأما الْفُرُوع فَفِيهَا كل مُجْتَهد مُصِيب ثمَّ إِنَّهُم صنفوا فِي أصُول الْفِقْه وَهُوَ علم مُشْتَرك بَين الْفُقَهَاء والمتكلمين فبنوه على أصولهم الْفَاسِدَة حَتَّى ان أول مَسْأَلَة مِنْهُ وَهِي الْكَلَام فِي حد الْفِقْه لما حدوه بِأَنَّهُ الْعلم باحكام أَفعَال الْمُكَلّفين

الشَّرْعِيَّة أورد هَؤُلَاءِ كَالْقَاضِي أبي بكر والرازي والآمدي وَمن وافقهم من فُقَهَاء الطوائف كَأبي الْخطاب وَغَيره السُّؤَال الْمَشْهُور هُنَا وَهُوَ أَن الْفِقْه من بَاب الظنون لِأَنَّهُ مبْنى على الحكم بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس والعموم والظواهر وَهِي إِنَّمَا تفِيد الظَّن فَكيف جعلتموه من الْعلم حَيْثُ قُلْتُمْ الْعلم وَأَجَابُوا عَن ذَلِك بِأَن الْفَقِيه قد علم أَنه إِذا حصل لَهُ هَذَا الظَّن وَجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ كَمَا قَالَ الرَّازِيّ فَإِن قلت الْفِقْه من بَاب الظنون فَكيف جعلته علما قلت الْمُجْتَهد إِذا غلب على ظَنّه مُشَاركَة صُورَة لصورة فِي منَاط الحكم قطع بِوُجُوب الْعلم بِمَا أدّى إِلَيْهِ ظَنّه فالعلم حَاصِل قطعا وَالظَّن وَاقع فِي طَرِيقه وَقد ظن طَائِفَة من الْفُقَهَاء الناظرين فِي أصُول الْفِقْه أَن هَذَا الْجَواب ضَعِيف لقَوْله الْعلم حَاصِل قطعا وَالظَّن وَاقع فِي طَرِيقه

قَالُوا وَالْحكم بالنتيجة يتبع أَضْعَف الْمُقدمَات وَأحسن الْمُقدمَات فَالْمَوْقُوفُ على الظَّن أولى أَن يكون ظنا وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا توهموا بل لم يفهموا كَلَام هَؤُلَاءِ فَإِن هَذَا الظَّن لَيْسَ هُوَ عِنْدهم دَلِيل الْعلم بِوُجُوب الْعلم بِهِ وَلَا مُقَدّمَة من مُقَدمَات دَلِيله وَلَكنهُمْ يَقُولُونَ قَامَت الْأَدِلَّة القطعية من النُّصُوص وَالْإِجْمَاع مثلا على وجوب الْعلم بِالظَّنِّ الْحَاصِل عَن خبر الْوَاحِد وَالْقِيَاس وَذَلِكَ الْعلم حصل بأدلته المفيدة لَهُ لم يحصل بِهَذَا الظَّن وَلَا مقدماته لَكِن التَّقْدِير إِذا حصل لَك أَيهَا الْمُجْتَهد ظن فَعَلَيْك أَن تعْمل بِهِ وَحُصُول الظَّن فِي النَّفس وجدى يجده الْمَرْء فِي نَفسه ويحسه كَمَا يجد عمله ويحسه فمعرفته بِحُصُول الظَّن يقينى ومعرفته بِوُجُوب الْعَمَل بِهِ يقينى فهاتان مقدمتان علميتان إِحْدَاهمَا سمعية وَالْأُخْرَى وجدية وَصَارَ هَذَا كَمَا لَو قيل لَهُ إِذا حصل لَك مرض فِي الصَّوْم أَنه يجوز لَك الْفطر وَإِذا حصل مرض يمنعك الْقيام فِي الصَّلَاة فَأعْلم أَن عَلَيْك أَن تصلى قَاعِدا فَإِذا وجد الْمَرَض فِي نَفسه علم حِينَئِذٍ حكم الله باباحة الْفطر وبالصلاة قَاعِدا فَهَكَذَا وجود الظَّن عِنْدهم فِي نفس الْمُجْتَهد وَإِذا علم أَن هَذَا حَقِيقَة قَوْلهم تبين حِينَئِذٍ فَسَاد مَا ذَكرُوهُ من غير تِلْكَ الْجِهَة وَهُوَ أَن هَذَا يقتضى أَلا يكون الفقة إِلَّا الْعلم بِوُجُوب

الْعَمَل بِهَذِهِ الظنون والاعتقادات الْحَاصِلَة عَن أَمَارَات الْفِقْه على اصطلاحهم وَمَعْلُوم أَن هَذَا الْعلم هُوَ من أصُول الْفِقْه وَهُوَ لَا يخص مَسْأَلَة دون مَسْأَلَة وَلَا فِيهِ كَلَام فِي شئ من أَحْكَام الْأَفْعَال كَالصَّلَاةِ وَالْجهَاد وَالْحُدُود وَغير ذَلِك وَهُوَ أَمر عَام كلى لَيْسَ هُوَ الْفِقْه بأتفاق النَّاس كلهم إِذْ الْفِقْه يتَضَمَّن الْأَمر بِهَذِهِ الْأَفْعَال والنهى عَنْهَا إِمَّا علما وَإِمَّا ظنا فعلى قَوْلهم الْفِقْه هُوَ ظن وجوب هَذِه الْأَعْمَال وَظن التَّحْرِيم وَظن الاباحة وَتلك الظنون هِيَ الَّتِي دلّت عَلَيْهَا هَذِه الْأَدِلَّة الَّتِي يسمونها الأمارات كَخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس فَإِذا حصلت هَذِه الظنون حصل الْفِقْه عِنْدهم وَأما وجوب الْعلم بِهَذَا الظَّن فهذاك شئ آخر وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ إِنَّمَا يصلح أَن يذكر فِي جَوَاب من يَقُول كَيفَ يسوغ لكم الْعَمَل بِالظَّنِّ فَهَذَا يُورد فِي أصُول الْفِقْه فِي تَقْرِير هَذِه الطّرق إِذا قيل إِنَّهَا إِنَّمَا تفِيد الظَّن قيل وَكَيف يسوغ اتِّبَاع الظَّن مَعَ دلَالَة الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة على خلاف ذَلِك فَيَقُولُونَ فِي الْجَواب المتبع إِنَّمَا هُوَ الْأَدِلَّة القطعية الْمُوجبَة للْعَمَل

بِهَذَا الظَّن وَالْعَامِل بِتِلْكَ الْأَدِلَّة مُتبع للْعلم لَا للظن أما أَن يَجْعَل نفس الْفِقْه الَّذِي هُوَ علم ظنا فَهَذَا تَبْدِيل ظَاهر وأتباعهم الأذكياء تفطنوا لفساد هَذَا الْجَواب وَقد تجيب طَائِفَة أُخْرَى كَأبي الْخطاب وَغَيره عَن هَذَا السُّؤَال بِأَن الْعلم يتَنَاوَل الْيَقِين والاعتقاد الرَّاجِح كَقَوْلِه تَعَالَى فَإِن علمتموهن مؤمنات [سُورَة الممتحنة 10] وَأَن تَخْصِيص لفظ الْعلم بالقطعيات اصْطِلَاح الْمُتَكَلِّمين وَالتَّعْبِير هُوَ باللغة لَا بالاصطلاح الْخَاص وَالْمَقْصُود هُنَا ذكر أصلين هما بَيَان فَسَاد قَوْلهم الْفِقْه من بَاب الظنون وَبَيَان أَنه أَحَق بأسم الْعلم من الْكَلَام الَّذِي يدعونَ أَنه علم وَأَن طرق الْفِقْه احق بِأَن تسمى أَدِلَّة من طرق الْكَلَام وَالْأَصْل الثَّانِي بَيَان أَن غَالب مَا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ من الْأُصُول لَيْسَ بِعلم وَلَا ظن صَحِيح بل ظن فَاسد وَجَهل مركب وَيَتَرَتَّب على هذَيْن الْأَصْلَيْنِ منع التَّكْفِير بأختلافهم فِي مسائلهم وَأَن التفكير فِي الْأُمُور العملية الْفِقْهِيَّة قد يكون أولى مِنْهُ فِي مسائلهم

فَنَقُول الْفِقْه هُوَ معرفَة أَحْكَام أَفعَال الْعباد سَوَاء كَانَت تِلْكَ الْمعرفَة علما أَو ظنا أَو نَحْو ذَلِك وَمن الْمَعْلُوم لمن تدبر الشَّرِيعَة أَن أَحْكَام عَامَّة افعال الْعباد مَعْلُومَة لَا مظنونة وَأَن الظَّن فِيهَا إِنَّمَا هُوَ قَلِيل جدا فِي بعض الْحَوَادِث لبَعض الْمُجْتَهدين فَأَما غَالب الْأَفْعَال مفادها وأحداثها فغالب احكامها مَعْلُومَة وَللَّه الْحَمد وأعنى بِكَوْنِهَا أَن الْعلم بهَا مُمكن وَهُوَ حَاصِل لمن اجْتهد وَاسْتدلَّ بالأدلة الشَّرْعِيَّة عَلَيْهَا لَا أعنى أَن الْعلم بهَا حَاصِل لكل اُحْدُ بل وَلَا لغالب المتفقهة المقلدين لائمتهم بل هَؤُلَاءِ غَالب مَا عِنْدهم ظن أَو تَقْلِيد إِذْ الرجل قد يكون يرى مذْهبه بعض الْأَئِمَّة وَصَارَ ينْقل أَقْوَاله فِي تِلْكَ الْمسَائِل وَرُبمَا قربهَا بِدَلِيل ضَعِيف من قِيَاس أَو ظَاهر هَذَا إِن كَانَ فَاضلا وَإِلَّا كَفاهُ مُجَرّد نقل الْمَذْهَب عَن قَائِله إِن كَانَ حسن التَّصَوُّر فهما صَادِقا وَإِلَّا لم يكن عِنْده إِلَّا حفظ حُرُوفه إِن كَانَ حَافِظًا وَإِلَّا كَانَ كَاذِبًا أَو مُدعيًا أَو مخطئا وَلَا ريب أَن الْحَاصِل عِنْد هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِعلم كَمَا أَن الْعَامَّة المقلدين للْعُلَمَاء فِيمَا يفتونهم [فَإِن الْحَاصِل عِنْدهم] لَيْسَ علما بذلك عَن

دَلِيل يفيدهم الْقطع وَإِن كَانَ الْعَالم عِنْده دَلِيل يُفِيد الْقطع وَهَذَا الأَصْل الَّذِي ذكرته أصل عَظِيم فَلَا يصد الْمُؤمن الْعَلِيم عَنهُ صَاد فَإِنَّهُ لِكَثْرَة التَّقْلِيد وَالْجهل والظنون فِي المنتسبين إِلَى الْفِقْه وَالْفَتْوَى وَالْقَضَاء استطال عَلَيْهِم أُولَئِكَ المتكلمون حَتَّى أخرجُوا الْفِقْه الَّذِي نجد فِيهِ كل الْعُلُوم من أصل الْعلم لما رَأَوْهُ من تَقْلِيد أَصْحَابه وظنهم وَمِمَّا يُوضح هَذَا الأَصْل أَنه من الْعُلُوم أَن الظنون غَالِبا إِنَّمَا تكون فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد والنزاع فَأَما مسَائِل الْإِيمَان وَالْإِجْمَاع فالعلم فِيهَا أَكثر قطعا وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن الْمَعْلُوم أَن من أشهر مَا تنازعت فِيهِ الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ مسَائِل الْفَرَائِض كَمَا تنازعوا فِي الْجد وفروعه وَفِي الْكَلَالَة وَفِي حجب الْأُم بأخوين وَفِي العمريتين زوج وأبوان وَزَوْجَة وابوان وَفِي الْجد هَل يقوم مقَام الْأَب فِي ذَلِك وَفِي الْأَخَوَات مَعَ الْبَنَات هَل هِيَ عصبَة أم لَا وَفِيمَا إِذا

اسْتكْمل الْبَنَات الثُّلثَيْنِ وَهُنَاكَ ولد ابْن وَنَحْو ذَلِك من الْمسَائِل الَّتِي يحفظ النزاع فِيهَا عَن عمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وَزيد وَابْن عَبَّاس وَغَيرهم من الصَّحَابَة لَكِن أَئِمَّة هَذَا الْبَاب خَمْسَة عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَزيد وَابْن عَبَّاس وَإِذا كَانُوا تنازعوا فِي الْفَرَائِض أَكثر من غَيرهَا فَمن الْمَعْلُوم أَن عَامَّة أَحْكَام الْفَرَائِض مَعْلُومَة بل منصوصة بِالْقُرْآنِ فَإِن الَّذِي يُفْتِي النَّاس فِي الْفَرَائِض قد يقسم ألف فَرِيضَة منصوصة فِي الْقُرْآن مجمعا عَلَيْهَا حَتَّى تنزل بِهِ وَاحِدَة مُخْتَلف فِيهَا بل قد تمضى عَلَيْهِ أَحْوَال لَا تجب فِي مَسْأَلَة نزاع وَأما الْمسَائِل المنصوصة الْمجمع عَلَيْهَا فَالْجَوَاب فِيهَا دَائِم بدوام الْمَوْتَى فَكل من مَاتَ لَا بُد لميراثه من حكم وَلِهَذَا لم يكن شئ من مسَائِل النزاع على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ وجود الْمَوْت والفرائض دَائِما وَمَعَ أَن كل من كَانَ يَمُوت على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ وجود الْمَوْت والفرائض دَائِما وَمَعَ أَن كل من كَانَ يَمُوت على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ مَا وضع قطّ مَال ميت فِي بَيت مَال وَلَا قسم بَين الْمُسلمين كَمَا كَانَ يقسم بَينهم الفئ وَمَال الْمصَالح وَلَكِن لما فتحت الْبِلَاد وَكثر أهل الْإِسْلَام فِي إِمَارَة عمر صَار

حِينَئِذٍ يحدث اجْتِمَاع الْجد وَالإِخْوَة فتكلموا فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ حدثت العمريتان فتكلموا فِيهَا هَذَا مَعَ أَن علم الْفَرَائِض من علم الْخَاصَّة حَتَّى أَن كثيرا من الْفُقَهَاء لَا يعرفهُ فَهُوَ عِنْد الْعلمَاء بِهِ من علم الْفِقْه الْيَقِين الْمَقْطُوع بِهِ وَلَيْسَ عِنْد أَكثر المنتسبين إِلَى الْعلم فضلا عَن الْعَامَّة بِهِ علم ولاظن وَذَلِكَ كالقضايا التجريبية فِي الطِّبّ هِيَ عِنْد المجربين لَهَا وَالْعَالمِينَ بهَا من المجربين مَعْلُومَة وَأكْثر الخائضين فِي عُلُوم أخر فضلا عَن الْعَامَّة لَيْسَ عِنْدهم علم وَلَا ظن بل بَاب الْحيض الَّذِي هُوَ من أشكل الْفِقْه فِي كتاب الطَّهَارَة وَفِيه من الْفُرُوع والنزاع مَا هُوَ مَعْلُوم وَمَعَ هَذَا أَكثر الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْمُتَعَلّقَة بِأَفْعَال النِّسَاء فِي الْحيض مَعْلُومَة وَمن انتصب ليفتي النَّاس يفتيهم بِأَحْكَام مَعْلُومَة مُتَّفق عَلَيْهَا مائَة مرّة حَتَّى يفتيهم بِالظَّنِّ مرّة وَاحِدَة وَإِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ أَحْكَام الْحيض وَمَا تنَازع الْفُقَهَاء فِيهِ من أَقَله وَأَكْثَره وَأكْثر سِنِين الْحيض وَأقله ومسائل الْمُتَحَيِّرَة فَهَذَا من أندر الْمَوْجُود وَمَتى تُوجد امْرَأَة لَا تحيض إِلَّا يَوْمًا وَإِنَّمَا فِي ذَلِك حكايات قَليلَة جدا مَعَ الْعلم بِأَن عَامَّة بَنَات آدم يحضن كَمَا قَالَ

النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن هَذَا شئ كتبه الله على بَنَات آدم وَكَذَلِكَ مَتى تُوجد فِي الْعَالم امْرَأَة تحيض خَمْسَة عشر يَوْمًا أَو تِسْعَة عشر أَو امْرَأَة مُسْتَحَاضَة دَائِما لَا يعرف لَهَا عَادَة وَلَا يتَمَيَّز الدَّم فِي ألوانه بل الِاسْتِحَاضَة إِذا وَقعت فغالب النسْوَة يكون تميزها وعادتها وَاحِدَة وَالْحكم فِي ذَلِك ثَابت بالنصوص المتواترة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبأتفاق الْفُقَهَاء وَنحن ذكرنَا فِي الْمَوْت الَّذِي هُوَ أَمر لَازم لكل أحد وَقل من يَمُوت إِلَّا وَله شئ وَفِي الْحيض الَّذِي هُوَ أَمر مُعْتَاد للنِّسَاء وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَجْنَاس الْمُعْتَادَة مثل النِّكَاح وتوابعه والبيوع وتوابعها والعبادات والجنايات فَإِن قَالَ قَائِل مسَائِل الِاجْتِهَاد وَالْخلاف فِي الْفِقْه كَثِيرَة جدا فِي هَذِه الْأَبْوَاب قيل لَهُ مسَائِل الْقطع وَالنَّص وَالْإِجْمَاع بِقدر تِلْكَ أضعافا

مضاعفة وَإِنَّمَا كثرت لِكَثْرَة أَعمال الْعباد وَكَثْرَة أَنْوَاعهَا فَإِنَّهَا أَكثر مَا يُعلمهُ النَّاس مفصلا وَمَتى كثر الشئ إِلَى هَذَا الْحَد كَانَ كل جُزْء مِنْهُ كثيرا من ينظرها مَكْتُوبَة فَلَا يرتسم فِي نَفسه إِلَّا ذَلِك كَمَا يطالع تواريخ النَّاس والفتن وَهِي مُتَّصِلَة فِي الْخَبَر فيرتسم فِي نَفسه أَن الْعَالم مَا زَالَ ذَلِك فِيهِ متواصلا والمكتوب شئ وَالْوَاقِع أَشْيَاء كَثِيرَة فَكَذَلِك أَعمال الْعباد وأحكامها وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ ذَلِك أما غير الخائض فِي الْفِقْه فِي فنون أُخْرَى فَظَاهر وَأما الخائض فِيهِ فغالبهم إِنَّمَا يعرف احدهم مَذْهَب إِمَامه وَقد يُعلمهُ جملَة لَا يُمَيّز بَين الْمسَائِل القطعية المنصوصة وَالْمجْمَع عَلَيْهَا وَبَين مفاريده أَو مَا شاع فِيهِ الِاجْتِهَاد فنجده يُفْتِي بمسائل النُّصُوص وَالْإِجْمَاع من جنس فتياه بمسائل الِاجْتِهَاد والنزاع بِمَنْزِلَة حمَار حمل سفرا ينْقل نقلا مُجَردا حَتَّى أَنه يحْكى لأَحَدهم أَن مَذْهَب فلَان بِخِلَاف ذَلِك فيسوغ ذَلِك وَيكون الْخلاف فِي ذَلِك من الممتنعات بَين الْملَل فضلا عَن أَن يخْتَلف فِيهِ الْمُسلمُونَ وَقد بَلغنِي من ذَلِك عَن أَقوام مشهورين بالفتيا وَالْقَضَاء حَتَّى حكوا لملك بلدهم أَن من مَذْهَب الشَّافِعِي أَن الْمُطلقَة ثَلَاثًا تُبَاح بِالْعقدِ الْخَالِي عَن الْوَطْء وصبيان الشَّافِعِيَّة يعلمُونَ أَن هَذَا مِمَّا لم يخْتَلف فِيهِ مذْهبه وَحَتَّى يحكوا عَن مَالك أَن الْمُتْعَة عِنْده جَائِزَة وَلَيْسَ فِي

المتبوعين أَشد تَحْرِيمًا لَهَا مِنْهُ وَمن أَصْحَابه حَتَّى أَنه إِذا وَقت الطَّلَاق عِنْده ينجز لِئَلَّا يصير النِّكَاح مؤقتا كَنِكَاح الْمُتْعَة وأبلغ من ذَلِك يحكون فِي بِلَادهمْ عَن مَالك حل اللواط وَيذكر ذَلِك لمن هُوَ من أَعْيَان مذْهبه فَيَقُول الْقُرْآن دلّ على تَحْرِيمه وَلَا يُمكنهُم أَن يكذبوا النَّاقِل ويقولوا هَذَا حرَام بِالْإِجْمَاع مَعَ أَن الْعَالم يعلم أَن هَذَا حرَام بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَالصَّابِئِينَ وَأكْثر الْمُشْركين لم يستحله إِلَّا قوم لوط وَبَعض الزَّنَادِقَة من بَقِيَّة الطوائف فلجهل هَؤُلَاءِ وأمثالهم بالتمييز بَين مسَائِل الْعلم وَالْقطع ومسائل الِاجْتِهَاد الْتبس الامر عَلَيْهِم فَلم يُمكنهُم أَن يحكموا فِي أَكثر مَا يُفْتى بِهِ أَنه قطعى وَهُوَ قطعى مَعْلُوم من الدّين للْعُلَمَاء بِالدّينِ لَكِن هَؤُلَاءِ لَيْسُوا فِي الْحَقِيقَة فُقَهَاء فِي الدّين بل هم نقلة لكَلَام بعض الْعلمَاء ومذهبه وَالْفِقْه لَا يكون إِلَّا بفهم الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة بأدلتها السمعية الثبوتية من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع نصا واستنباطا وَلَكِن أُولَئِكَ المتكلمون كَانَ علم الْفِقْه عِنْدهم هُوَ مسَائِل

الْحل وَالْحرَام وشفعة الْجوَار والجهر بالبسملة وتثنية الْإِقَامَة وإفرادها وَالْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ وَإِزَالَة النَّجَاسَة والقود بِالْمثلِ وَخيَار الْمجْلس والعوض بِالْعقدِ الْفَاسِد وَالْإِجَارَة وَنَحْو ذَلِك من الْمسَائِل الَّتِى شاع فِيهَا النزاع لَا سِيمَا وَقد جرد بعد الْمِائَة الثَّالِثَة مسَائِل الْخلاف جردها أَبُو بكر الصيرفى فِيمَا يغلب على ظَنِّي وَاتبعهُ على ذَلِك النَّاس حَتَّى صنفوا كتبا كَثِيرَة فِي مسَائِل الْخلاف فَقَط وَاقْتصر أَكثر هَؤُلَاءِ على مَا اخْتلف فِيهِ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأُمَّهَات الْمسَائِل الَّتِي جردوا القَوْل فِيهَا نَحْو أَرْبَعمِائَة مَسْأَلَة الَّتِي تُوجد فِي أُمَّهَات التَّعَالِيق وَكتب الْخلاف الَّتِي صنفها الخراسانيون والعراقيون من الطوائف وَإِن كَانَت مسَائِل الْخلاف لمن استوعبها مِنْهُم كَالْقَاضِي أبي يعلى تَنْتَهِي إِلَى أُلُوف مؤلفة إِمَّا أَرْبَعَة آلَاف أَو أقل أَو أَكثر وَلمن اقْتصر على كبار كِبَارهَا تكون نَحْو مائَة

مَسْأَلَة كَمَا فعل أَبُو مُحَمَّد إِسْمَاعِيل بن فِي تَعْلِيقه وَأما ذَلِك الْمِقْدَار فَهُوَ الَّذِي يصفه أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو إِسْحَاق فِي خلافهما والشريف أَبُو جَعْفَر وأسعد الميهني

والسمعانى وَنَحْوهم ويصفه ابو الْخطاب فِي انتصاره وَابْن عقيل فِي نظرياته وَكَذَلِكَ ابْن يسَاره والعالمى وَنَحْوهم من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَإِن كَانَ فِي عمد الْأَدِلَّة تبع شَيْخه القاضى فِي اسْتِيعَاب مافي تَعْلِيق القَاضِي من هَذِه الْمسَائِل والنزاع فِيهَا وَشهد أَنَّهَا مسَائِل اجْتِهَاد ظنية واشتهار أَصْحَابهَا بِعلم الْفِقْه هُوَ من الشُّبْهَة الَّتِي أوجبت

للمتكليمن ولهؤلاء الْفُقَهَاء الْمُخْتَلِفين ولكثير من الْمُفْتِينَ وَغَيرهم أَن يجْعَلُوا الْفِقْه من بَاب الظنون وَالِاجْتِهَاد وَلِهَذَا كَانَ ظُهُور هَذَا القَوْل مَعَ ظُهُور مسَائِل الْخلاف هَذِه وَذَلِكَ مَعَ ظُهُور بدع كَثِيرَة وَتغَير أُمُور الْإِسْلَام وَضعف الْخلَافَة حَتَّى استولى عَلَيْهَا الديالم وَظهر حِينَئِذٍ من مَذْهَب القرامطة والباطنية والرافضة والمعتزلة مَا عَم أَكثر الأَرْض وَأخذ من الْمُسلمين كثير من ثغورهم الشامية وَغَيرهَا وانتشرت حِينَئِذٍ بدع متكلمة الصفاتية وَغَيرهم وَصَارَ هَذَا الْفِقْه من بَاب اتِّبَاع الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس

وَكَذَلِكَ مَال كثير من طلاب الْعلم إِلَى مَا يَظُنُّونَهُ علما غير الْفِقْه إِمَّا الْكَلَام وَإِمَّا الفلسفة فَإِن النَّفس تطلب مَا هُوَ علم وتنفر مِمَّا هُوَ شكّ وَظن وَهَذَا مَحْمُود مِنْهَا وَكَانَ من سَبَب هَذَا أَنهم تفقهوا لغير الدّين وَذَلِكَ مِمَّا ذموا عَلَيْهِ كَمَا جَاءَ ذَلِك فِي حَدِيث رَوَاهُ [أَبُو هُرَيْرَة وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا] يَقُول فِيهِ [النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذا اتخذ المَال دولا وَالْأَمَانَة مغنما وَالزَّكَاة مغرما وتفقه لغير الدّين وأطاع الرجل امْرَأَته وعق امهِ وَأدنى صديقته وأقصى أَبَاهُ وَرفعت الْأَصْوَات فِي الْمَسَاجِد وَأكْرم الرجل مَخَافَة شَره وساد الْقَبِيلَة فاسقها وَكَانَ زعيم الْقَوْم أرذلهم فلينتظروا عِنْد ذَلِك ريحًا حَمْرَاء وفتنا تتَابع كنظام بَال قطع سلكه فتتابع

وَكَانَ هَذَا مَا هُوَ من أَشْرَاط السَّاعَة الْوُسْطَى من ظُهُور الْجَهْل وَرفع الْعلم وَكَثْرَة الزِّنَا فَإِنَّهُ قد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قد يُرِيد بالساعة انخرام الْقرن وَوُقُوع شرور وبلاء يعذب بِهِ النَّاس وَإِن كَانَت السَّاعَة الْعَامَّة هِيَ قيام النَّاس من قُبُورهم لَكِن الأول جَاءَ فِي مثل قَوْله إِن يستنفد هَذَا الْغُلَام عمره لم يُدْرِكهُ الْهَرم حَتَّى تقوم السَّاعَة يُرِيد بِهِ انخرام ذَلِك الْقرن كَمَا إِنَّه قد أَرَادَ بِلَفْظ الْقِيَامَة موت الْإِنْسَان كَمَا فِي قَول الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَيهَا النَّاس إِنَّكُم تَقولُونَ الْقِيَامَة الْقِيَامَة وَإنَّهُ من مَاتَ فقد قَامَت قِيَامَته وَترْجم البغوى على ذَلِك فِي كتاب المصابيح بَاب من

مَاتَ فقد قَامَت قِيَامَته لَكِن من الزَّنَادِقَة الصابئة المتفلسفة كالسهروردى الْحلَبِي الْمَقْتُول وَغَيره من يظنّ ذَلِك هُوَ الْقِيَامَة الَّتِي وصفهَا الله فِي الْقُرْآن وَيجْعَل هَذَا اللَّفْظ من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وَإِذا كَانَ بِسَبَب تَقْلِيد كثير من الْفُقَهَاء لأئمتهم واتباعهم الظَّن اشْتبهَ مَا يُمكن علمه وَمَا هُوَ مَعْلُوم لفقهاء الدّين وعلماء الشَّرِيعَة بِغَيْرِهِ فَكَذَلِك نفس الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين لَا ريب أَنه قد يكون عِنْد أحدهم مَا هُوَ مظنون بل مَجْهُول وَهُوَ مَعْلُوم للْآخر إِمَّا مُوَافقا لَهُ وَإِمَّا مُخَالفا فِيهَا أَكثر الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة الَّتِي لَا يعرف حكمهَا كثير من الْأَئِمَّة أَو يتَكَلَّم فِيهَا بِنَوْع من الظَّن مصيبا أَو مخطئا وَتَكون مَعْلُومَة لغيره بأدلة قَطْعِيَّة عِنْده وَعند من علم كعلمه تَارَة بِنَصّ اخْتصَّ بِسَمَاعِهِ من الرَّسُول أَو من غَيره وَحصل لَهُ بذلك الْعلم لاسباب كَثِيرَة فِي النَّقْل وَهَذَا كثير مَا يكون لعلماء الحَدِيث فَإِنَّهُم يعلمُونَ من النُّصُوص ويقطعون مِنْهَا بأَشْيَاء كَثِيرَة جدا

وَغَيرهم قد يكذب بهَا أَو يجْزم بكذبها دع من يجهلها أَو يشك فِيهَا وَتارَة بفهم النُّصُوص وَمَعْرِفَة دلالتها فَمَا أَكثر من يجهل معنى النَّص أَو يشك فِيهِ أَو يفهم مِنْهُ نقيضه أَو يذهل عَنهُ أَو يعجز ذهنه عَن دركه وَيكون الآخر قد فهم من ذَلِك النَّص وَعلم مِنْهُ مَا يقطع بِهِ وَتارَة بِإِجْمَاع علمه من إجماعات الصَّحَابَة وَغَيرهَا ثمَّ بعد ذَلِك تَارَة بِقِيَاس قطعى فَإِن الْقيَاس نَوْعَانِ قطعى وظني كَمَا فِي الْقيَاس الَّذِي هُوَ فِي معنى الأَصْل قطعا بِحَيْثُ لَا يكون بَينهمَا فرق تأتى بِهِ الشَّرِيعَة أَو يكون اولى بالحكم مِنْهُ قطعا وَتارَة بتحقيق المناط وَهَذَا يعود إِلَى عود فهم معنى النَّص بِأَن يعرف ثُبُوت المناط الَّذِي لَا شكّ فِيهِ فِي الْمعِين وَغَيره يشك فِي ذَلِك كَمَا يقطع الرجل فِي الْقصاص وإبدال الْمُتْلفَات بِأَن هَذَا أقرب إِلَى الْمثل وَالْعدْل من كَذَا وَغَيره فِيهِ أَو يعْتَقد خِلَافه وأمثال ذَلِك

فصل وكذلك لفظ الحركة أثبته طوائف من أهل السنة والحديث وهو الذي ذكره

فصل وَكَذَلِكَ لفظ الْحَرَكَة أثْبته طوائف من أهل السّنة والْحَدِيث وَهُوَ الَّذِي ذكره حَرْب بن اسماعيل الْكرْمَانِي فِي السّنة الَّتِي حَكَاهَا عَن الشُّيُوخ الَّذين أدركهم كالحميدي وَأحمد بن حَنْبَل وَسَعِيد ابْن مَنْصُور وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَكَذَلِكَ هُوَ الَّذِي ذكره عُثْمَان ابْن سعيد الدارمى فِي نقضه على بشر المريسى وَذكر أَن ذَلِك

مَذْهَب أهل السّنة وَهُوَ قَول كثير من أهل الْكَلَام والفلسفة من الشِّيعَة والكرامية والفلاسفة الْأَوَائِل والمتأخرين كَأبي البركات صَاحب الْمُعْتَبر وَغَيرهم ونفاه طوائف مِنْهُم أَبُو الْحسن التَّمِيمِي وَأَبُو سُلَيْمَان

الْخطابِيّ وكل من اثْبتْ حُدُوث الْعَالم بحدوث الْأَعْرَاض كأبى الْحسن الْأَشْعَرِيّ والقاضى أبي بكر بن الباقلاني وأبى الْوَفَاء بن عقيل وَغَيرهم مِمَّن سلك فِي إِثْبَات حُدُوث الْعَالم هَذِه الطَّرِيقَة الَّتِي أَنْشَأَهَا قبلهم الْمُعْتَزلَة وَهُوَ أَيْضا قَول كثير من الفلاسفة الْأَوَائِل والمتأخرين كإبن سينا وَغَيره وَالْمَنْصُوص عَن الإِمَام أَحْمد إِنْكَار نفي ذَلِك وَلم يثبت عَنهُ إِثْبَات لفظ الْحَرَكَة وَإِن أثبت أنواعا قد يدرجها الْمُثبت فِي جنس الْحَرَكَة فَإِنَّهُ لما سمع شخصا يرْوى حَدِيث النُّزُول وَيَقُول ينزل بِغَيْر حَرَكَة

وَلَا انْتِقَال وَلَا بِغَيْر حَال أنكر أَحْمد ذَلِك وَقَالَ قل كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَانَ أغير على ربه مِنْك وَقد نقل فِي رِسَالَة عَنهُ إِثْبَات لفظ الْحَرَكَة مثل مَا فِي العقيدة الَّتِي كتبهَا حَرْب بن اسماعيل وَلَيْسَت هَذِه العقيدة ثَابِتَة عَن الإِمَام أَحْمد بألفاظها فإنى تَأَمَّلت لَهَا ثَلَاثَة أَسَانِيد مظْلمَة بِرِجَال مَجَاهِيل والألفاظ هِيَ أَلْفَاظ حَرْب بن إِسْمَاعِيل لَا أَلْفَاظ الإِمَام أَحْمد وَلم يذكرهَا المعنيون بِجمع كَلَام الإِمَام أَحْمد كَأبي بكر الْخلال فِي كتاب السّنة وَغَيره من الْعِرَاقِيّين الْعَالمين بِكِتَاب أَحْمد وَلَا رَوَاهَا المعروفون بِنَقْل كَلَام الإِمَام لَا سِيمَا مثل هَذِه الرسَالَة الْكَبِيرَة وَإِن كَانَت راجت على كثير من الْمُتَأَخِّرين

وَقد نقل حَنْبَل عَن احْمَد فِي كتاب المحنة أَنه تَأَول قَوْله هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من العمام وَالْمَلَائِكَة [سُورَة الْبَقَرَة 210] فَإِن الْجَهْمِية الَّذين ناظروه احْتَجُّوا على خلق الْقُرْآن بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن الْبَقَرَة وَآل عمرَان تأتيان يَوْم الْقِيَامَة كَأَنَّهُمَا غمامتان أَو غيايتان أَو فرقان من طير صواف تحاجان عَن صَاحبهمَا وَمَا يجِئ إِلَّا مَخْلُوق فَقَالَ الإِمَام أَحْمد فقد قَالَ الله تَعَالَى هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يأتينهم الله فِي ظلل من الْغَمَام فَهَل يجِئ الله إِنَّمَا يجِئ أمره كَذَلِك هُنَا إِنَّمَا يجِئ ثَوَاب الْقُرْآن فَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي هَذِه الرِّوَايَة على خمس طرق

وَقَالَ قوم غلط حَنْبَل فِي نقل هَذِه الرِّوَايَة وحنبل لَهُ مفاريد ينْفَرد بهَا من الرِّوَايَات فِي الْفِقْه والجماهير يرروون خِلَافه وَقد اخْتلف الْأَصْحَاب فِي مفاريد حَنْبَل الَّتِى خَالفه فِيهَا الْجُمْهُور هَل تثبت رِوَايَته على طَرِيقين فالخلال وَصَاحبه قد ينكرانها ويثبتها غَيرهمَا كَابْن حَامِد وَقَالَ قوم مِنْهُم إِنَّمَا قَالَ ذَلِك إلزاما للمنازعين لَهُ فَإِنَّهُم يتأولون مجئ الرب بمجئ أمره قَالَ فَكَذَلِك قُولُوا يجِئ كَلَامه مجئ ثَوَابه وَهَذَا قريب وَقَالَ قوم مِنْهُم بل هَذِه الرِّوَايَة ثابته فِي تَأْوِيل مَا جَاءَ من جنس الْحَرَكَة والإتيان وَالنُّزُول فيتأول على هَذِه الرِّوَايَة بِالْقَصْدِ والعمد لذَلِك وَهَذِه طَريقَة ابْن الزَّاغُونِيّ وَغَيره وَقَالَ قوم بل يتَأَوَّل بمجئ ثَوَابه وَهَؤُلَاء جعلُوا الرِّوَايَة فِي جنس الْحَرَكَة دون بَقِيَّة الصِّفَات

وَقَالَ قوم مِنْهُم ابْن عقيل وَابْن الجوزى بل يتَعَدَّى الحكم من هَذِه الصّفة إِلَى سَائِر الصِّفَات الَّتِي تخَالف ظَاهرهَا للدليل الْمُوجب لمُخَالفَة الظَّاهِر وَبِكُل حَال فَالْمَشْهُور عِنْد أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد أَنهم لَا يتأولون الصِّفَات الَّتِي من جنس الْحَرَكَة كالمجئ والإتيان وَالنُّزُول والهبوط والدنو والتدلى كَمَا لَا يتأولون غَيرهَا مُتَابعَة للسلف الصَّالح وَكَلَام السّلف فِي هَذَا الْبَاب يدل على اثبات الْمَعْنى الْمُتَنَازع فِيهِ قَالَ الأوزاعى لما سُئِلَ عَن حَدِيث النُّزُول يفعل الله مايشاء وَقَالَ حَمَّاد بن زيد يدنو من خلقه كَيفَ شَاءَ وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ

الْأَشْعَرِيّ عَن أهل السّنة والْحَدِيث وَقَالَ الفضيل بن عِيَاض إِذا قَالَ لَك الجهمى أَنا أكفر بِرَبّ يَزُول عَن مَكَانَهُ فَقل أَنا أُؤْمِن بِرَبّ يفعل مَا يَشَاء وَقَالَ أَبُو عبد الله احْمَد بن سعيد الرباطى حضرت مجْلِس الْأَمِير عبد الله بن طَاهِر وَحضر إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فَسئلَ عَن حَدِيث النُّزُول صَحِيح هُوَ قَالَ نعم فَقَالَ لَهُ بعض قواد عبد الله يَا أَبَا

يَعْقُوب أتزعم أَن الله ينزل كل لَيْلَة قَالَ نعم قَالَ كَيفَ ينزل قَالَ لَهُ إِسْحَاق أثْبته حَتَّى أصف لَك النُّزُول فَقَالَ لَهُ الرجل أثْبته قَالَ لَهُ إِسْحَاق قَالَ الله تَعَالَى وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا [سُورَة الْفجْر 22] فَقَالَ الْأَمِير عبد الله بن طَاهِر يَا أَبَا يَعْقُوب هَذَا يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ إِسْحَاق أعز الله الْأَمِير وَمن يجِئ يَوْم الْقِيَامَة من يمنعهُ الْيَوْم وَقَالَ حَرْب بن إِسْمَاعِيل سَمِعت إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم يَقُول لَيْسَ فِي النُّزُول وصف قَالَ وَقَالَ إِسْحَاق لَا يجوز الْخَوْض فِي أَمر الله كَمَا يجوز الْخَوْض فِي أَمر المخلوقين لقَوْل الله تَعَالَى لايسأل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون [سُورَة الْأَنْبِيَاء 23] وَلَا يجوز أَن يتَوَهَّم على الله بصفاته وفعاله بفهم مَا يجوز التفكر وَالنَّظَر فِيهِ من أَمر المخلوقين وَذَلِكَ أَنه يُمكن أَن يكون الله مَوْصُوفا بالنزول كل لَيْلَة إِذا مضى ثلثهَا إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا كَمَا شَاءَ وَلَا يسْأَل كَيفَ نُزُوله لِأَن الْخَالِق يصنع مَا شَاءَ كَمَا شَاءَ

فصل وقد اعترف أكثر أئمة أهل الكلام والفلسفة من الأولين والآخرين بأن

فصل وَقد اعْترف أَكثر أَئِمَّة أهل الْكَلَام والفلسفة من الْأَوَّلين والآخرين بِأَن أَكثر الطرائق الَّتِي سلكوها فِي أُمُور الربوبية بالأقيسة الَّتِي ضربوها لَا تفضى بهم إِلَى الْعلم وَالْيَقِين وَفِي الْأُمُور الإلهية مثل تكلمهم بِالْجِنْسِ وَالْعرض فِي دلائلهم ومسائلهم فَأَما الأول فقد ذكرنَا فِي غير هَذَا الْموضع مقَالَة أساطين الفلسفة من الْأَوَائِل أَنهم قَالُوا الْعلم الإلهي لَا سَبِيل فِيهِ إِلَى الْيَقِين وَإِنَّمَا يتَكَلَّم فِيهِ بِالْأولَى والأحرى والأخلق وَلِهَذَا اتّفق كل من خبر مقَالَة هَؤُلَاءِ المتفلسفة فِي الْعلم الإلهي أَن غالبه ظنون كَاذِبَة وأقيسة فَاسِدَة وَأَن الَّذِي فِيهِ من الْعلم الْحق قَلِيل وَأما اعْتِرَاف المتكلمة من الإسلاميين فكثير قد جمع الْعلمَاء فِيهِ شَيْئا وَذكروا رُجُوع أكابرهم عَمَّا كَانُوا يَقُولُونَهُ وتوبتهم إِمَّا عِنْد الْمَوْت وَإِمَّا قبل الْمَوْت وَهَذَا من أَسبَاب الرَّحْمَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي هَذِه الْأمة فَإِن الله يقبل التَّوْبَة عَن عبَادَة وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات وَهَذَا أصح الْقَوْلَيْنِ فِي قبُول تَوْبَة الداعى لَكِن بَقَاء كَلَامهم وكتبهم

وآثارهم محنة عَظِيمَة فِي الْأمة وفتنة عَظِيمَة لمن نظر فِيهَا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَقد قَالَ ابو حَامِد الْغَزالِيّ فِي الْكتاب الَّذِي سَمَّاهُ إحْيَاء عُلُوم الدّين وَهُوَ من أجل كتبه قَالَ فَإِن قلت تعلم الجدل وَالْكَلَام مَذْمُوم كتعلم النُّجُوم أَو هُوَ مُبَاح كتعلم الطِّبّ أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ فَاعْلَم أَن للنَّاس فِي هَذَا غلوا وإسرافا فِي أَطْرَاف فَمن قَائِل إِنَّه بِدعَة وَحرَام وَإِن العَبْد أَن يلقى الله بِكُل ذَنْب مَا خلا الشّرك خير لَهُ من أَن يلقاه بالْكلَام وَمن قَائِل إِنَّه وَاجِب وَفرض إِمَّا على الْكِفَايَة وَإِمَّا على الْأَعْيَان وَإنَّهُ أفضل الْأَعْمَال وَأَعْلَى القربات فَإِنَّهُ تَحْقِيق لعلم التَّوْحِيد ونضال عَن دين الله

فصل فيما ذكره الشيخ أبو القاسم القشيرى في رسالته المشهورة من اعتقاد

قَالَ وَإِلَى التَّحْرِيم ذهب الشَّافِعِي وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد بن حَنْبَل وسُفْيَان الثورى وَجَمِيع أَئِمَّة السّلف وسَاق ألفاظا عَن هَؤُلَاءِ قَالَ وَاتفقَ أهل الحَدِيث من السّلف على هَذَا وَلَا ينْحَصر مَا نقل عَنْهُم من التشديدات فِيهِ وَقَالُوا مَا سكت عَنهُ الصَّحَابَة مَعَ أَنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الْأَلْفَاظ من غَيرهم إِلَّا لعلمهم بِمَا يتَوَلَّد مِنْهُ من الشَّرّ فصل فِيمَا ذكره الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم القشيرى فِي رسَالَته الْمَشْهُورَة من اعْتِقَاد مَشَايِخ الصُّوفِيَّة فَإِنَّهُ ذكر من متفرقات كَلَامهم مَا يسْتَدلّ بِهِ على

انهم كَانُوا يوافقون اعْتِقَاد كثير من الْمُتَكَلِّمين الأشعرية وَذَلِكَ هُوَ اعْتِقَاد ابي الْقَاسِم الَّذِي تَلقاهُ عَن أبي بكر بن فورك وَأبي إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ وَهَذَا الِاعْتِقَاد غالبه مُوَافق لأصول السّلف وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة لكنه مقصر عَن ذَلِك ومتضمن ترك بعض مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَزِيَادَة تخَالف مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَالثَّابِت الصَّحِيح عَن أكَابِر الْمَشَايِخ يُوَافق مَا كَانَ عَلَيْهِ السّلف وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يجب أَن يذكر فَإِن فِي الصَّحِيح الصَّرِيح الْمَحْفُوظ عَن اكابر الْمَشَايِخ مثل الفضيل ابْن عِيَاض وَأبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي ويوسف بن أَسْبَاط وَحُذَيْفَة المرعشى ومعروف الْكَرْخِي إِلَى الْجُنَيْد بن مُحَمَّد وَسَهل بن عبد الله التسترِي وأمثال هَؤُلَاءِ مَا يبين حَقِيقَة مقالات الْمَشَايِخ وَقد جمع كَلَام الْمَشَايِخ إِمَّا بِلَفْظِهِ أَو بِمَا فهمه هُوَ غير وَاحِد فصنف أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْكلاب اذى كتاب التعرف لمذاهب

التصوف وَهُوَ أَجود مِمَّا ذكره أَبُو الْقَاسِم وأصوب وَأقرب إِلَى مَذْهَب سلف الْأمة وأممتها وأكابر مشايخها وَكَذَلِكَ معمر بن زِيَاد الْأَصْفَهَانِي شيخ الصُّوفِيَّة وابو عبد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن الْحسن السّلمِيّ جَامع كَلَام الصُّوفِيَّة هما فِي ذَلِك أَعلَى دَرَجَة وَأبْعد عَن الْبِدْعَة والهوى من أَبى الْقَاسِم وَأَبُو عبد الرَّحْمَن وَإِن كَانَ أدنى الرجلَيْن فقد كَانَ يُنكر مَذْهَب الْكلابِيَّة ويبدعهم وَهُوَ الْمَذْهَب الَّذِي ينصره أَبُو الْقَاسِم وَله فِي ذمّ الْكَلَام مُصَنف يُخَالف مَا ينصره أَبُو الْقَاسِم وَأَبُو عبد الرَّحْمَن أجل من

أَخذ عَنهُ أَبُو الْقَاسِم كَلَام الْمَشَايِخ وَعَلِيهِ يعْتَمد فِي أَكثر مَا يحكيه فَإِن لَهُ مصنفات مُتعَدِّدَة وَكَذَلِكَ عَامَّة الْمَشَايِخ الَّذين سماهم أَبُو الْقَاسِم فِي رسَالَته لَا يعرف عَن شيخ مِنْهُم أَنه كَانَ ينصر طَريقَة الْكلابِيَّة والأشعرية الَّتِي نصرها أَبُو الْقَاسِم بل الْمَحْفُوظ عَنْهُم خلافهم وَمن صرح مِنْهُم فَإِنَّمَا يُصَرح بِخِلَافِهَا حَتَّى شُيُوخ عصره الَّذين سماهم حَيْثُ قَالَ فَأَما الْمَشَايِخ الَّذين عاصرناهم وَالَّذين أدركناهم وَإِن لم يتَّفق لنا لقياهم مثل الْأُسْتَاذ الشَّهِيد لِسَان وقته وَوَاحِد عصره أَبى على الدقاق وَالشَّيْخ شيخ وقته أَبى عبد الرَّحْمَن السلمى وأبى الْحسن على بن جَهْضَم مجاور الْحرم وَالشَّيْخ أَبى الْعَبَّاس

القصاب بطبرستان وَأحمد الاسود الدينَوَرِي وأبى الْقَاسِم الصيرفى بنيسابور وأبى سهل الخشاب الْكَبِير بهَا وَمَنْصُور بن خلف المغربى وأبى سعيد الْمَالِينِي وأبى طَاهِر الجحدرى قدس الله ارواحهم وَغَيرهم فَإِن هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ مثل أَبى الْعَبَّاس القصاب لَهُ من التصانيف الْمَشْهُورَة فِي السّنة وَمُخَالفَة طَريقَة الْكلابِيَّة الأشعرية مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه وَكَذَلِكَ سَائِر شُيُوخ الْمُسلمين من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين الَّذين لَهُم لِسَان صدق فِي الْأمة كَمَا ذكر الشَّيْخ يحيى بن يُوسُف الصرصري ونظمه فِي قصائده عَن الشَّيْخ على بن إِدْرِيس شَيْخه أَنه سَأَلَ قطب العارفين أَبَا مُحَمَّد عبد الْقَادِر بن عبد الله الجيلى فَقَالَ يَا سَيِّدي

هَل كَانَ لله ولي على غير اعْتِقَاد أَحْمد بن حَنْبَل فَقَالَ مَا كَانَ وَلَا يكون وَكَذَلِكَ نقل الشَّيْخ شهَاب الدّين أَبُو حَفْص عمر بن مُحَمَّد السهروردى وحدثنيه عَنهُ الشَّيْخ عز الدّين عبد الله بن أَحْمد بن عمر الفاروثي أَنه سمع هَذِه الْحِكَايَة مِنْهُ ووجدتها معلقَة بِخَط الشَّيْخ

موفق الدّين أبي مُحَمَّد بن قدامَة المقدسى قَالَ السهروردى كنت عزمت على أَن أَقرَأ شَيْئا من علم الْكَلَام وَأَنا مُتَرَدّد هَل أَقرَأ الْإِرْشَاد لإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَو نِهَايَة الْإِقْدَام للشهرستاني أَو كتاب شَيْخه فَذَهَبت مَعَ خَالِي أبي النجيب وَكَانَ يصلى بِجنب الشَّيْخ عبد الْقَادِر قَالَ فَالْتَفت الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَقَالَ لي يَا عمر مَا هُوَ من زَاد الْقَبْر مَا هُوَ من زَاد الْقَبْر فَرَجَعت عَن ذَلِك فَأخْبر أَن الشَّيْخ كاشفه بِمَا كَانَ فِي قلبه وَنَهَاهُ عَن الْكَلَام الَّذِي كَانَ ينْسب إِلَيْهِ القشيرى وَنَحْوه وَكَذَلِكَ حَدثنِي الشَّيْخ أَبُو الْحسن بن غَانِم أَنه سمع خَاله الشَّيْخ إِبْرَاهِيم بن عبد الله الأرومي أَنه كَانَ لَهُ معلم يقرئه وَأَنه أقرأه اعْتِقَاد

الأشعرية الْمُتَأَخِّرين قَالَ فَكنت أكرر عَلَيْهِ فَسمع وَالَّذِي وَالشَّيْخ عبد الله الارميني قَالَ فَقَالَ مَا هَذَا يَا إِبْرَاهِيم فَقلت هَذَا علمنيه الْأُسْتَاذ فَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم اترك هَذَا فقد طفت الأَرْض وَاجْتمعت بِكَذَا وَكَذَا ولى لله فَلم أجد أحدا مِنْهُم على هَذَا الِاعْتِقَاد وَإِنَّمَا وجدته على اعْتِقَاد هَؤُلَاءِ وَأَشَارَ إِلَى جِيرَانه أهل الحَدِيث وَالسّنة من المقادسة الصَّالِحين إِذْ ذَاك وحَدثني أَيْضا الشَّيْخ مُحَمَّد بن أبي بكر بن قوام أَنه سمع جده الشَّيْخ أَبَا بكر بن قوام يَقُول إِذا بلغك عَن اهل الْمَكَان الفلانى سَمَّاهُ لى الشَّيْخ مُحَمَّد إِذا بلغك أَن فيهم رجلا مُؤمنا أَو رجلا صَالحا فَصدق وَإِذا بلغك أَن فيهم وليا لله فَلَا تصدق فَقلت وَلم يَا سَيِّدي قَالَ لأَنهم أشعرية وَهَذَا بَاب وَاسع وَمن نظر فِي عقائد الْمَشَايِخ الْمَشْهُورين مثل الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَالشَّيْخ عدى بن مُسَافر وَالشَّيْخ أبي الْبَيَان الدِّمَشْقِي وَغَيرهم

وجد من ذَلِك كثيرا وَوجد أَنه من ذهب إِلَى مَذْهَب شئ من أهل الْكَلَام وَإِن كَانَ متأولا فَفِيهِ بعض نقص وانحطاط عَن دَرَجَة أَوْلِيَاء الله الكاملين وَوجد أَنه من كَانَ نَاقِصا فِي معرفَة اعْتِقَاد أهل السّنة واتباعه ومحبته وَبَعض مَا يُخَالف ذَلِك وذمه بِحَيْثُ يكون خَالِيا عَن اعْتِقَاد كَمَال السّنة واعتقاد الْبِدْعَة تَجدهُ نَاقِصا عَن دَرَجَة أَوْلِيَاء الله الراسخين فِي معرفَة اعْتِقَاد أهل السّنة وَاتِّبَاع ذَلِك وَقد جعل الله لكل شئ قدرا وَمَا ذكره أَبُو الْقَاسِم فِي رسَالَته من اعْتِقَادهم وأخلاقهم وطريقتهم فِيهِ من الْخَيْر وَالْحق وَالدّين أَشْيَاء كَثِيرَة وَلَكِن فِيهِ نقص عَن طَريقَة أَكثر أَوْلِيَاء الله الكاملين وهم نقاوة الْقُرُون الثَّلَاثَة وَمن سلك سبيلهم وَلم يذكر فِي كِتَابه أَئِمَّة الْمَشَايِخ من الْقُرُون الثَّلَاثَة وَمَعَ مَا فِي كِتَابه من الْفَوَائِد فِي المقولات والمنقولات فَفِيهِ أَحَادِيث وَأَحَادِيث ضَعِيفَة بل بَاطِلَة وَفِيه كَلِمَات مجملة تحْتَمل الْحق وَالْبَاطِل رِوَايَة ورأيا وَفِيه كَلِمَات بَاطِلَة فِي الرَّأْي وَالرِّوَايَة وَقد جعل الله لكل شئ قدرا وَقَالَ تَعَالَى كونُوا قوامين بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله على أَنفسكُم أَو الْوَالِدين والأقربين إِن يكن غَنِيا أَو فَقِيرا فَالله أولى بهما فَلَا تتبعوا الْهوى أَن تعدلوا وَإِن تلووا أَو تعرضوا فَإِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا [سُورَة النِّسَاء 135]

فَكتبت من تَمْيِيز ذَلِك مَا يسره الله وَاجْتَهَدت فِي اتِّبَاع سَبِيل الْأمة الْوسط الَّذين هم شُهَدَاء على النَّاس دون سَبِيل من قد يرفعهُ فَوق قدره فِي اعْتِقَاده وتصوفه على الطَّرِيقَة الَّتِي هِيَ أكمل وَأَصَح مِمَّا ذكره علما وَحَالا وقولا وَعَملا واعتقادا واقتصادا أَو يحطه دون قدره فيهمَا مِمَّن يسرف فِي ذمّ أهل الْكَلَام أَو يذم طَريقَة التصوف مُطلقًا وَالله أعلم وَالَّذِي ذكره أَبُو الْقَاسِم فِيهِ الْحسن الْجَمِيل الَّذِي يجب اعْتِقَاده واعتماده وَفِيه الْمُجْمل الَّذِي يَأْخُذ المحق والمبطل وَهَذَانِ قريبان وَفِيه منقولات ضَعِيفَة ونقول عَمَّن لَا يَقْتَدِي بهم فِي ذَلِك فهذان مردودان وَفِيه كَلَام حمله على معنى وَصَاحبه لم يقْصد نفس مَا أَرَادَهُ هُوَ ثمَّ إِنَّه لم يذكر عَنْهُم إِلَّا كَلِمَات قَليلَة لَا تشفى فِي هَذَا الْبَاب وعنهم فِي هَذَا الْبَاب من الصَّحِيح الصَّرِيح الْكَبِير مَا هُوَ شِفَاء للمقتدى بهم الطَّالِب لمعْرِفَة أصولهم وَقد كتبت هُنَا نكتا يعرف بهَا الْحَال قَالَ القشيرى رَحمَه الله اعلموا أَن شُيُوخ هَذِه الطَّائِفَة بنوا

قَوَاعِد أَمرهم على أصُول صَحِيحَة فِي التَّوْحِيد صانوا بهَا عقائدهم عَن الْبدع ودانوا بِمَا وجدوا عَلَيْهِ من السّلف وَأهل السّنة من تَوْحِيد لَيْسَ فِيهِ تَمْثِيل وَلَا تَعْطِيل قلت هَذَا كَلَام صَحِيح فَإِن كَلَام أَئِمَّة الْمَشَايِخ الَّذين لَهُم فِي الْأمة لِسَان صدق كَانُوا على مَا كَانَ عَلَيْهِ السّلف وَأهل السّنة من تَوْحِيد لَيْسَ فِيهِ تَمْثِيل وَلَا تَعْطِيل وَهَذِه الْجُمْلَة يتَّفق على إِطْلَاقهَا عَامَّة الطوائف المنتسبين إِلَى السّنة وَإِن تنازعوا فِي مَوَاضِع هَل هِيَ تَمْثِيل أَو تَعْطِيل قَالَ أَبُو الْقَاسِم عرفُوا مَا هُوَ حق الْقدَم وتحققوا بِمَا هُوَ نعت الْمَوْجُود عَن الْعَدَم وَكَذَلِكَ قَالَ سيد هَذِه الطَّائِفَة

الْجُنَيْد رَضِي الله عَنهُ التَّوْحِيد إِفْرَاد الْقدَم من الْحَدث قلت هَذَا الْكَلَام فِيهِ إِجْمَال والمحق يحملهُ محملًا حسنا وَغير المحق يدْخل فِيهِ أَشْيَاء والقشيري مَقْصُوده مَا يذكرهُ أهل الْكَلَام من تَنْزِيه الْقَدِيم عَن خَصَائِص المحدثات وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْمُسلمين لَكِن التَّنَازُع بَينهم فِي كثير من الصِّفَات هَل هِيَ من خَصَائِص المحدثات الَّتِي يجب تَنْزِيه الْقَدِيم عَنْهَا أَو هِيَ من لَوَازِم الْوُجُود الَّتِي يكون نَفيهَا تعطيلا وَأما الْجُنَيْد فمقصوده التَّوْحِيد الَّذِي يُشِير إِلَيْهِ الْمَشَايِخ وَهُوَ التَّوْحِيد فِي الْقَصْد والإرادة وَمَا يدْخل فِي ذَلِك من الْإِخْلَاص والتوكل والمحبة وَهُوَ ان يفرد الْحق سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْقَدِيم بِهَذَا كُله فَلَا يشركهُ فِي ذَلِك مُحدث وتمييز الرب من المربوب فِي اعتقادك وعبادتك وَهَذَا حق صَحِيح وَهُوَ دَاخل فِي التَّوْحِيد الَّذِي بعث الله بِهِ رسله وَأنزل بِهِ كتبه وَمِمَّا يدْخل فِي كَلَام الْجُنَيْد تَمْيِيز الْقَدِيم عَن الْمُحدث وَإِثْبَات مباينته لَهُ بِحَيْثُ يُعلمهُ وَيشْهد أَن الْخَالِق مباين

لِلْخلقِ خلافًا لما دخل فِيهِ الاتحادية من المتصوفة وَغَيرهم من الَّذين يَقُولُونَ بالاتحاد معينا اَوْ مُطلقًا وَلِهَذَا أنكر هَؤُلَاءِ على الْجُنَيْد قَوْله هَذَا كَمَا أنكرهُ عَلَيْهِ ابْن العربى الطَّائِي كَبِير الاتحادية قَالَ أَبُو الْقَاسِم وأحكموا أصُول العقائد بواضح الدَّلَائِل ولائح الشواهد كَمَا قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجريرِي من لم يقف على علم التَّوْحِيد بِشَاهِد من شواهده زلت بِهِ قدمه الْغرُور إِلَى مهواة التّلف قَالَ أَبُو الْقَاسِم يُرِيد بذلك أَن من ركن إِلَى التَّقْلِيد وَلم يتَأَمَّل دَلَائِل التَّوْحِيد سقط عَن متن النجَاة وَوَقع فِي أسر الْهَلَاك

قلت الْمَشَايِخ لَا يشيرون إِلَى الطَّرِيق الَّتِي سلكها المتكلمون من الِاسْتِدْلَال بالأجسام والأعراض وَمَا يدْخل فِي ذَلِك بل هم منكرون لذَلِك كَمَا ذكره أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَشَيخ الْإِسْلَام الانصاري وَغَيرهمَا عَنْهُم وَأَبُو الْقَاسِم يرى صِحَة هَذِه الطَّرِيق وَهَذَا من الْمَوَاضِع الَّتِي خَالف فِيهَا مَشَايِخ الْقَوْم وَقد ذكر أَبُو الْقَاسِم فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي عَليّ بن الْكَاتِب وَقد صحب أَبَا على الروذبارى وَغَيره وَتَأَخر بعد الاربعين وثلاثمائة قَالَ الْمُعْتَزلَة نزهوا الله من حَيْثُ الْعقل فأخطأوا والصوفية نزهوه من حَيْثُ الْعلم فَأَصَابُوا قلت الْعلم فِي لِسَان الصُّوفِيَّة ووصاياهم كثيرا مَا يُرِيدُونَ بِهِ الشَّرِيعَة كَقَوْل أبي يَعْقُوب النهرجوري أفضل الْأَحْوَال مَا قَارن

الْعلم وكقول أبي يزِيد عملت فِي المجاهدة ثَلَاثِينَ سنة فَمَا وجدت أَشد على من الْعلم ومتابعته وَلَوْلَا اخلتلاف الْعلمَاء لبقيت وَاخْتِلَاف الْعلمَاء رَحْمَة إِلَّا فِي تَجْرِيد التَّوْحِيد وَهَذَا كَقَوْل سهل بن عبد الله التسترِي كل فعل تَفْعَلهُ بِغَيْر اقْتِدَاء طَاعَة أَو مَعْصِيّة فَهُوَ عَيْش النَّفس وكل فعل تَفْعَلهُ بالاقتداء فَهُوَ عَذَاب على النَّفس وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي رُبمَا يَقع فِي قلبِي النُّكْتَة من

نكت الْقَوْم أَيَّامًا فَلَا أقبل مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدين عَدْلَيْنِ الْكتاب وَالسّنة وَقَالَ صَاحبه أَحْمد بن أبي الْحوَاري من عمل بِلَا اتِّبَاع سنة فَبَاطِل عمله وَقَالَ أَبُو حَفْص النَّيْسَابُورِي من لم يزن أَفعاله وأقواله كل وَقت بِالْكتاب وَالسّنة وَلم يتهم خواطره فَلَا تعده فِي ديوَان الرِّجَال

وَقَالَ الْجُنَيْد بن مُحَمَّد الطّرق كلهَا مسدودة على الْخلق إِلَّا من اقتفى أثر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ ايضا من لم يحفظ الْقُرْآن وَيكْتب الحَدِيث لَا يقْتَدى بِهِ فِي هَذَا الْأَمر لِأَن علمنَا هَذَا مُقَيّد بِالْكتاب وَالسّنة وَقَالَ أَبُو عُثْمَان من امْر السّنة على نَفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة وَمن أَمر الْهوى على نَفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة قَالَ الله تَعَالَى وَإِن تطيعوه تهتدوا [سُورَة النُّور 54] وَقَالَ أَبُو حَمْزَة الْبَغْدَادِيّ من علم الطَّرِيق إِلَى الله سهل عَلَيْهِ سلوكه وَلَا

دَلِيل على الطَّرِيق إِلَى الله إِلَّا مُتَابعَة الرَّسُول فِي أَحْوَاله وأقواله وأفعاله وَمن لفظ الْعلم فِي كَلَامهم قَول أبي عُثْمَان النَّيْسَابُورِي الصُّحْبَة مَعَ الله بِحسن الْأَدَب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأتباع سنته وَلُزُوم ظَاهر الْعلم والصحبة مَعَ أَوْلِيَاء الله تَعَالَى بالاحترام والخدمة والصحبة مَعَ الْأَهْل بِحسن الْخلق والصحبة مَعَ الإخوان بدوام الْبشر مَا لم يكن أثما والصحبة مَعَ الْجُهَّال بِالدُّعَاءِ لَهُم وَالرَّحْمَة عَلَيْهِم وَمِنْه قَول أبي الْحُسَيْن النوري من رَأَيْته يَدعِي مَعَ الله حَالَة تخرجه عَن حد الْعلم الشرعى فَلَا تقتربن مِنْهُ وَقَالَ أعز

الْأَشْيَاء فِي زَمَاننَا شَيْئَانِ عَالم يعْمل بِعِلْمِهِ وعارف ينْطق عَن حَقِيقَته وَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى سَمِعت جدى أَبَا عَمْرو بن نجيد يَقُول كل حَال لَا يكون عَن نتيجة علم فَإِن ضَرَره أَكثر على صَاحبه من نَفعه وَسُئِلَ عَن التصوف فَقَالَ الصَّبْر تَحت الْأَمر والنهى وَسبب تعبيرهم عَن الشَّرِيعَة بِالْعلمِ أَن الْقَوْم أَصْحَاب إِرَادَة وَقصد وَعمل وَحَال هَذَا خاصتهم لَكِن قد يعْمل أحدهم تَارَة بِغَيْر الْعلم الشرعى بل بِمَا يُدْرِكهُ ويجد إِرَادَته فِي قلبه وَإِن لم يكن ذَلِك مَشْرُوعا مَأْمُورا بِهِ وَهَذَا كثيرا مَا يبتلى بِهِ كثير مِنْهُم من تَقْدِيم علمهمْ بالذوق والوجد على مُوجب الْعلم الْمَشْرُوع وَمن الْعَمَل بذوق لَيْسَ مَعَه فِيهِ علم مَشْرُوع

وَلَا ريب أَن هَذَا من اتِّبَاع الْهوى بِغَيْر هدى من الله وَهُوَ مِمَّا ذمّ الله بِهِ النَّصَارَى الَّذين يضارعهم فِي كثير من أُمُورهم المنحرفون من الصُّوفِيَّة والعباد وَلِهَذَا جعله سهل من حَظّ النَّفس وَلِهَذَا استضعف أَبُو يزِيد مُتَابعَة الْعلم فَإِن مجاهدة هوى النَّفس يَفْعَلهَا غَالب النُّفُوس مثل عبادات الْمُشْركين وَأهل الْكتاب من الرهبان وَعباد الأنداد وَنَحْوهم وكل ذَلِك من هَذَا الْبَاب وَلَهُم من الزّهْد والمجاهدة فِي الْعِبَادَة مَا لَا يَفْعَله الْمُسلمُونَ لكنه بَاطِل لَيْسَ بمشروع وَلِهَذَا لَا ينْتج لَهُ من النتائج إِلَّا مَا يَلِيق بِهِ وَالْمُسلم الصَّادِق إِذا عبد الله بِمَا شرع فتح الله عَلَيْهِ أنوار الْهِدَايَة فِي مُدَّة قريبَة فالمهتدون من مَشَايِخ الْعباد والزهاد يوصون بإتباع الْعلم الْمَشْرُوع كَمَا ان أهل الاسْتقَامَة من الْعلم يوصون بعلمهم الَّذِي يسلكه أهل الاسْتقَامَة من الْعباد والزهاد وَأما المنحرفون من الطَّائِفَتَيْنِ فيعرضون عَن الْمَشْرُوع إِمَّا من الْعلم وَإِمَّا من الْعَمَل وهما طَرِيق المغضوب عَلَيْهِم والضالين قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة كَانُوا يَقُولُونَ من فسد من الْعلمَاء فَفِيهِ شبه من الْيَهُود وَمن فسد من الْعباد فَفِيهِ شبه من النَّصَارَى وَلِهَذَا قصد أَبُو الْقَاسِم فِي الرسَالَة الرَّد على هَؤُلَاءِ وَلما ذكر الْمَشَايِخ الَّذين ذكرهم قَالَ هَذَا ذكر جمَاعَة من شُيُوخ هَذِه

الطَّائِفَة كَانَ الْغَرَض من ذكرهم فِي هَذَا الْموضع التَّنْبِيه على أَنهم كَانُوا مُجْمِعِينَ على تَعْظِيم الشَّرِيعَة متصفين بسلوك طَرِيق الرياضة متفقين على مُتَابعَة السّنة غير مخلين بشئ من آدَاب الدّيانَة متفقين على ان من خلا عَن الْمُعَامَلَات والمجاهدات وَلم يبن أمره على اساس الْوَرع وَالتَّقوى كَانَ مفتريا على الله سُبْحَانَهُ فِيمَا يَدعِيهِ مفتونا هلك فِي نَفسه وَأهْلك من اغْترَّ بِهِ مِمَّن ركن إِلَى أباطيله وَإِذا عرف معنى لفظ الْعلم فِي اصطلاحهم فَقَوْل أبي عَليّ بن الْكَاتِب الصُّوفِيَّة نزهوه من حَيْثُ الْعلم أَي من جِهَة الشَّرْع وَهُوَ الْكتاب وَالسّنة فنزهوه عَمَّا نزه عَنهُ نَفسه فَأَصَابُوا وَأما الْمُعْتَزلَة فنزهوه بِقِيَاس عقلهم وأهوائهم أَرَادوا ان ينفوا عَنهُ كل صفة مَوْجُودَة لظنهم أَن ذَلِك تَشْبِيه وَلم يهتدوا إِلَى أَن الْخَالِق يُوصف بِمَا

يَلِيق بِهِ والمخلوق يُوصف بِمَا يَلِيق بِهِ وَأَن الِاسْم وَإِن كَانَ مُتَّفقا فالإضافة إِلَى الله تخصصه وتقيده بِمَا ينفى عَنهُ مماثلة الْخلق وَهَذَا الَّذِي ذكره الشَّيْخ أَبُو عَليّ من أَن الصُّوفِيَّة يخالفون الْمُعْتَزلَة فَأمر مُتَّفق عَلَيْهِ فَإِن أصُول الصُّوفِيَّة لَا تلائم نفى الصِّفَات بل هم أبعد النَّاس عَن الاعتزال فِي الصِّفَات وَالْقدر وَمن الْمَعْلُوم أَن طَريقَة الْكَلَام فِي الْجَوَاهِر والأعراض فِي أَدِلَّة أصُول الدّين ومسائله هِيَ الطَّرِيقَة الَّتِي سلكها الْمُعْتَزلَة وَأَخذهَا عَنْهُم متكلمة الصفاتية من الأشعرية وَنَحْوهم وَهِي الطَّرِيقَة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا أَبُو الْقَاسِم فَعلم أَن الْقَوْم مخالفون لهَذِهِ الطَّرِيقَة الكلامية الَّتِي أَشَارَ أَبُو الْقَاسِم إِلَى بَعْضهَا وَكَذَلِكَ قد ذكر أَبُو الْقَاسِم فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي الْحسن بن الصايغ وزمنه زمن ابْن الْكَاتِب سنة ثَلَاثِينَ وثلاثمائة قَالَ وَكَانَ من كبار الْمَشَايِخ وَقَالَ قَالَ ابو عُثْمَان المغربي مَا رَأَيْت

من الْمَشَايِخ أنور من ابي يَعْقُوب النهرجوري وَلَا أَكثر هَيْبَة من ابي الْحسن بن الصايغ قَالَ القشيرى سُئِلَ ابْن الصايغ عَن الِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب فَقَالَ كَيفَ يسْتَدلّ بِصِفَات من لَهُ مثل وَنَظِير على صِفَات من لَا مثل لَهُ وَلَا نَظِير وَالِاسْتِدْلَال بِالشَّاهِدِ على الْغَائِب فِي إِثْبَات الصِّفَات هِيَ طَريقَة شُيُوخ أبي الْقَاسِم من الْمُتَكَلِّمين الَّذين يجمعُونَ بَين الشَّاهِد وَالْغَائِب فِي الْحَد وَالدَّلِيل وَالشّرط وَالْعلم لإِثْبَات الْحَيَاة وَالْعلم وَسَائِر الصِّفَات فقد رد الشَّيْخ أَبُو الْحسن هَذِه الطَّرِيقَة وَمِمَّا يبين هَذَا أَن أعظم الْمَشَايِخ الَّذين أَخذ عَنْهُم أَبُو الْقَاسِم جمعا لكَلَام مَشَايِخ الصُّوفِيَّة وتأليفا لَهُ وَرِوَايَة لَهُ هُوَ الشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى فَإِن القشيرى لم يدْرك شَيخا أجمع لكَلَام الْقَوْم وأحرص على ذَلِك وأرغب فِيهِ مِنْهُ وَلِهَذَا صنف فِي ذَلِك مَا لم يصنفه نظراؤه

كَمَا أَن الَّذين أدركوا عصر أبي الْقَاسِم من مَشَايِخ الْقَوْم لم يكن فيهم أقوم بِهَذَا الْبَاب من شيخ الْإِسْلَام أَبى إِسْمَاعِيل عبد الله بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الهروى لَا سِيمَا فِي الْمعرفَة بأخبار الْقَوْم وَكَلَامهم وطريقهم فَإِنَّهُ فِي ذَلِك وَنَحْوه من أعلم النَّاس وَكَانَ إِمَامًا فِي الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَغير ذَلِك وَمَعَ هَذَا فالشيخ أَبُو عبد الرَّحْمَن وَشَيخ الْإِسْلَام كِلَاهُمَا لَهُ مُصَنف مَشْهُور فِي ذمّ طَريقَة الْكَلَام الَّتِي يدْخل فِيهَا كثير مِمَّا ذكره أَبُو الْقَاسِم من الدَّلَائِل والمسائل حَتَّى ذكر شيخ الْإِسْلَام فِي كِتَابه قَالَ سَمِعت أَحْمد بن أبي نصر يَقُول رَأينَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن السّلمِيّ يلعن الْكلابِيَّة وَمُحَمّد بن الْحُسَيْن السّلمِيّ هُوَ الشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن

أعرف مَشَايِخ أبي الْقَاسِم الْقشيرِي بطريقة الصُّوفِيَّة وَكَلَامهم وَمَعْلُوم أَن الْقَوْم من أبعد النَّاس عَن اللَّعْن وَنَحْوه لحظوظ أنفسهم وَلَوْلَا أَن ابا عبد الرَّحْمَن كَانَ الَّذِي عِنْده أَن الْكلابِيَّة مباينون لمَذْهَب الصُّوفِيَّة المباينة الْعَظِيمَة الَّتِي توجب مثل هَذَا لما لعنهم أَبُو عبد الرَّحْمَن هَذَا والكلابية هم مَشَايِخ الأشعرية فَإِن أَبَا الْحسن الْأَشْعَرِيّ إِنَّمَا اقْتدى بطريقة أبي مُحَمَّد بن كلاب وَابْن كلاب كَانَ أقرب إِلَى السّلف زَمنا وَطَرِيقَة وَقد جمع أَبُو بكر بن فورك شيخ الْقشيرِي كَلَام ابْن كلاب والأشعري وَبَين اتِّفَاقهمَا فِي الْأُصُول وَلَكِن لم يكن كَلَام ابي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ قد انْتَشَر بعد فَإِنَّهُ انْتَشَر فِي أثْنَاء الْمِائَة الرَّابِعَة لما ظَهرت كتب القَاضِي أبي بكر بن الباقلانى وَنَحْوه وَقد ذكر ذَلِك الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم بن عَسَاكِر الْمُنْتَصر لأبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ تَبْيِين كذب المفتري فِيمَا ينْسب إِلَى الشَّيْخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ مُوَافقا للشَّيْخ أبي على الْأَهْوَازِي المُصَنّف فِي مثالب الْأَشْعَرِيّ مَعَ كَون ابْن عَسَاكِر رد على الاهوازي ذمه

وثلبه لَهُ لَكِن وَافقه فِي ذَلِك فَذكر أَبُو عَليّ الْأَهْوَازِي أَنه مذقوى مذْهبه أقل من ثَلَاثِينَ سنة والأهوازى توفّي سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة قَالَ ابْن عَسَاكِر وَقَوله إِن مذ قوى من ثَلَاثِينَ سنة فلعمري إِنَّه إِنَّمَا اشتهرت هَذِه النِّسْبَة من الْأَزْمِنَة فِي عصر القَاضِي أبي بكر بن الباقلاني ذِي التصانيف المستحسنة المنتشرة فِي بَغْدَاد وَغَيرهَا من الْبلدَانِ والأمكنة وَالْمَقْصُود هُنَا أَن الْمَشَايِخ المعروفين الَّذين جمع الشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن أَسْمَاءَهُم فِي كتاب طَبَقَات الصُّوفِيَّة وَجمع أخبارهم وأقوالهم دع من قبلهم من أَئِمَّة الزهاد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الَّذين جمع ابو عبد الرَّحْمَن وَغَيره كَلَامهم فِي كتب مَعْرُوفَة وهم الَّذين

يتَضَمَّن أخبارهم كتاب الزّهْد للْإِمَام أَحْمد وَغَيره لم يَكُونُوا مَذْهَب الْكلابِيَّة الأشعرية إِذْ لَو كَانَت كَذَلِك لما كَانَ أَبُو عبد الرَّحْمَن يلعن الْكلابِيَّة وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام الْأنْصَارِيّ سَمِعت أَحْمد بن حَمْزَة وَأَبا عَليّ الْحداد يَقُولَانِ وجدنَا أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد النهاوندي على الانكار على أهل الْكَلَام وتفكير الاشعرية وذكرا عظم شَأْنه فِي الْإِنْكَار على ابي الفوارس القرمسيني وهجر ابْنه إِيَّاه لحرف وَاحِد قَالَ شيخ الْإِسْلَام سَمِعت أَحْمد بن حَمْزَة يَقُول لما اشْتَدَّ الهجران بَين النهاوندي وَأبي الفوارس سَأَلُوا ابا عبد الله الدينَوَرِي فَقَالَ لقِيت ألف شيخ على مَا عَلَيْهِ النهاوندي

وَقد ذكر الشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى فِي كِتَابه فِي ذمّ الْكَلَام مَا ذكر أَيْضا شيخ الْإِسْلَام أَبُو اسماعيل الْأنْصَارِيّ فَقَالَ أَخْبرنِي ابْن أَحْمد حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن فَقَالَ رَأَيْت بِخَط أبي عَمْرو بن مطر يَقُول سُئِلَ ابْن خُزَيْمَة عَن الْكَلَام فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات فَقَالَ بِدعَة ابتدعوها وَلم يكن أَئِمَّة الْمُسلمين وأرباب الْمذَاهب وأئمة الدّين مثل مَالك وسُفْيَان وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَيحيى بن يحيى وَابْن الْمُبَارك وَمُحَمّد بن يحيى وَأبي حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن وَأبي يُوسُف يَتَكَلَّمُونَ فِي ذَلِك وَينْهَوْنَ عَن الْخَوْض فِيهِ ويدلون أَصْحَابهم على الْكتاب وَالسّنة فإياك والخوض فِيهِ وَالنَّظَر فِي كتبهمْ بِحَال وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحُسَيْن وَهُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى سَمِعت أَحْمد بن سعيد المعداني بمرو سَمِعت أَبَا بكر بن

بسطَام سَأَلت أَبَا بكر بن سيار عَن الْخَوْض فِي الْكَلَام فنهاني عَنهُ أَشد النَّهْي وَقَالَ عَلَيْك بِالْكتاب وَالسّنة وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْر الأول من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعي التَّابِعين فَإِنِّي رَأَيْت الْمُسلمين فِي أقطار الأَرْض ينهون عَن ذَلِك وينكرونه ويأمرون بِالْكتاب وَالسّنة قَالَ شيخ الْإِسْلَام أَبُو اسماعيل الْأنْصَارِيّ أخبرنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس بن إِسْمَاعِيل المقرى اُخْبُرْنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن البيع وَهُوَ الْحَافِظ الْحَاكِم سَمِعت أَبَا سعيد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد المقرىء سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن اسحاق بن خُزَيْمَة يَقُول من نظر فِي كتبي المصنفة فِي الْعلم ظهر لَهُ وَبَان بِأَن الْكلابِيَّة لعنهم الله كذبة فِيمَا يحكون عني مِمَّا هُوَ خلاف أصلى وديانتي قد عرف أهل الشرق

والغرب انه لم يصنف أحد فِي التَّوْحِيد وَفِي أصُول الْعلم مثل تصنيفي فالحاكي عني خلاف مَا فِي كتبي المصنفة الَّتِي حملت إِلَى الْآفَاق شرقا وغربا كذبة فسقة وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام وَأَخْبرنِي أَحْمد بن حَمْزَة حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن وَهُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى يَقُول بَلغنِي أَن بعض أَصْحَاب أبي عَليّ الجوزاني سَأَلَهُ كَيفَ الطَّرِيق إِلَى الله قَالَ أصح الطّرق وأعمرها وأبعدها من الشّبَه اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة قولا وفعلا وعقدا وَنِيَّة لِأَن الله يَقُول وتطيعوه تهتدوا [سُورَة النُّور 54] فَسَأَلَهُ كَيفَ طَرِيق اتِّبَاع السّنة قَالَ بمجانبة الْبدع وَاتِّبَاع مَا اجْتمع عَلَيْهِ الصَّدْر الأول من عُلَمَاء الْإِسْلَام وَأَهله والتباعد عَن مجَالِس الْكَلَام واهله وَلُزُوم طَريقَة الِاقْتِدَاء والاتباع بذلك أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله تَعَالَى ثمَّ أَوْحَينَا إِلَيْك أَن اتبع مِلَّة ابراهيم حَنِيفا [سُورَة النَّحْل 123]

قَالَ شيخ الْإِسْلَام أَخْبرنِي طب بن أَحْمد حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن وَهُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن عبد الله بن شَاذان الرَّازِيّ سَمِعت أَبَا جَعْفَر الفرغاني سَمِعت الْجُنَيْد بن مُحَمَّد يَقُول أقل مَا فِي الْكَلَام سُقُوط هَيْبَة الرب من الْقلب وَالْقلب إِذا عرى من الهيبة من الله عرى من الْإِيمَان قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَنحن نذْكر فِي هَذَا الْفَصْل جملا من متفرقات كَلَامهم فِيمَا يتَعَلَّق بمسائل الْأُصُول ثمَّ نحرر على التَّرْتِيب بعْدهَا مَا يشْتَمل على مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الِاعْتِقَاد على وَجه الإيجاز سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السلمى يَقُول سَمِعت عبد الله بن مُوسَى السلامى يَقُول سَمِعت الشبلى يَقُول جلّ الْوَاحِد الْمَعْرُوف قبل

الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف قَالَ وَهَذَا صَرِيح من الشبلى رَضِي الله عَنهُ أَن الْقَدِيم لَا حد لذاته وَلَا حُرُوف لكَلَامه قلت هَذَا الْكَلَام فِيهِ اسْتِدْرَاك من وُجُوه أَحدهَا أَن الَّذِي قَالَ إِنَّه تَعَالَى مَعْرُوف قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف لم يرد أَن الْخلق عرفوه قبل ذَلِك فَإِنَّهُ قبل الْخلق لم يكن خلق يعرفونه وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه عرف أَنه كَانَ قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف فالظرف وَهُوَ قبل مُتَعَلق بالضمير فِي مَعْرُوف لَا بِنَفس الْمعرفَة اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرِيد أَنه يعرف نَفسه قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف فَيكون هُوَ الْعَارِف وَهُوَ الْمَعْرُوف وَهَذَا معنى صَحِيح يحْتَملهُ الْكَلَام وَالْمَقْصُود أَنه كَانَ قبل ذَلِك وَمَعْلُوم ان اللَّام للتعريف فَإِذا كَانَ قبل الْحُدُود وَقبل الْحُرُوف فَإِنَّمَا اراد الْحُدُود الْمَعْرُوفَة لنا والحروف الْمَعْرُوفَة لنا وَهِي مَا كَانَ هُوَ قبلهَا وَتلك مَا للمخلوق من الْحُدُود والحروف وَلَا ريب أَن الله كَانَ قبل حُدُود الْمَخْلُوقَات وَقبل أصوات الْعباد ومدادهم فَأَما أَن يكون هَذَا يَقْتَضِي أَن الله لم يتَكَلَّم بِحرف أَو لَيْسَ لَهُ حَقِيقَة فِي ذَاته يتَمَيَّز بهَا عَن مخلوقاته فَلَيْسَ هَذَا الْكَلَام صَرِيحًا فِيهِ إِذْ لَو أَرَادَ ذَلِك لقَالَ المنزه عَن الْحُدُود والحروف وَلم يقل قبل الْحُدُود والحروف فَإِن مَا كَانَ

الرب قبله فَهُوَ صفة الْمَخْلُوق وَأما مَا ينزه الرب عَنهُ فَهُوَ مُمْتَنع لَيْسَ هُوَ صفة لَهُ وَلَا هُوَ أَيْضا بِعَيْنِه صفة للمخلوق وَإِن كَانَ الْمَخْلُوق قد يُوصف بنظيره الْوَجْه الثَّانِي أَن الْكَلَام الْمُجْمل من كَلَامهم يحمل على مَا ينْسب سَائِر كَلَامهم وَهَؤُلَاء أَكثر مَا يبتلون بالاتحادية والحلولية الَّذين يجْعَلُونَ الرب حَالا فِي الْمَخْلُوقَات محدودا بحدودها متكلما بحروفها حَتَّى يجعلونه هُوَ الْمُتَكَلّم على ألسنتهم كَمَا ذكر ذَلِك أَبُو الْقَاسِم فِي أول الرساله لما ذكر مَا أحدثه فاسدو الصُّوفِيَّة حَيْثُ قَالَ زَالَ الْوَرع وطوى بساطه وَاشْتَدَّ الطمع وقوى رباطه وارتحل عَن الْقُلُوب حُرْمَة الشَّرِيعَة وعدوا قلَّة المبالاة بِالدّينِ أوثق ذَرِيعَة ورفضوا التَّمْيِيز بَين الْحَلَال وَالْحرَام ودانوا بترك الاحترام وَطرح الاحتشام واستخفوا بأَدَاء الْعِبَادَات واستهانوا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة وركضوا إِلَى ميدان الغفلات وركنوا إِلَى اتِّبَاع

الشَّهَوَات وَقلة المبالاة بتعاطي الْمَحْظُورَات والارتفاق بِمَا يأخذونه من السوقة والنسوان وَأَصْحَاب السُّلْطَان ثمَّ لم يرْضوا بِمَا تعاطوه من سوء هَذِه الْأَفْعَال حَتَّى أشاروا إِلَى أَعلَى الْحَقَائِق وَالْأَحْوَال فأدعوا أَنهم تحرروا عَن رق الأغلال وتحققوا بحقائق الْوِصَال وَأَنَّهُمْ قائمون بِالْحَقِّ تجرى عَلَيْهِم أَحْكَامه وهم محو لَيْسَ لله عَلَيْهِم فِيمَا يؤثرونه أَو يذرونه عتب وَلَا لوم وَأَنَّهُمْ كوشفوا بأسرار الأحدية واختطفوا عَنْهُم بِالْكُلِّيَّةِ وزالت عَنْهُم أَحْكَامه البشرية وبقوا بعد فنائهم عَنْهُم بأنوار الصمدية وَالْقَائِل عَنْهُم غَيرهم إِذا نطقوا والنائب عَنْهُم سواهُم فِيمَا تصرفوا بل صرفُوا وَهَؤُلَاء كَثِيرُونَ فِي المنتسبين إِلَى الصُّوفِيَّة وعَلى مثل ذَلِك قتل الحلاج

فالشبلي وَأَمْثَاله يُرِيدُونَ أَن يميزوا بَين الْمَخْلُوق والخالق لنفي مَذْهَب الِاتِّحَاد والحلول كَمَا نقل عَن الْجُنَيْد إِفْرَاد الْقدَم عَن الْحَدث وكما قَالَ أَبُو طَالب الْمَكِّيّ صَاحب قوت الْقُلُوب لَيْسَ فِي مخلوقاته شئ من ذَاته وَلَا فِي ذَاته شئ من مخلوقاته فَذكر أَنه مَعْرُوف قبل الْحُدُود والحروف وَهِي مَا عرف من حُدُود المخلوقين وحروفهم وَإِذا كَانَ مَعْرُوفا قبل ذَلِك لم يكن محدودا بحدودهم وَلَا متكلما بكلامهم الْوَجْه الثَّالِث أَن أصُول اعْتِقَاد أَئِمَّة الطَّرِيق إِلَى الله لَا يُؤْخَذ مِمَّا يحْكى عَن مثل الشبلى وَلَو كَانَت الْحِكَايَة صَادِقَة لما عرف من حَال الشبلي وانه كَانَ يغلب عَلَيْهِ الوجد حَتَّى يَزُول عقله وتحلق لحيته ويذهبوا بِهِ إِلَى المارستان وَيسْقط عَنهُ التَّمْيِيز بَين الْحق وَالْبَاطِل وَمن كَانَ بِهَذِهِ الْحَالة لم يجز أَن يَجْعَل كَلَامه وَحده أصلا يفرق بِهِ بَين أَئِمَّة الْهدى والضلال وَالسّنة والبدعة وَالْحق وَالْبَاطِل لَكِن يقبل

من كَلَامه مَا وَافق فِيهِ أَئِمَّة الْمَشَايِخ وَهُوَ مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وأقبح من ذَلِك أَن يعْتَمد فِي اعْتِقَاد أَوْلِيَاء الله فِي أصُول الدّين على كَلَام لم ينْقل مثله إِلَّا عَن الحلاج وَقد قتل على الزندقة وَأحسن مَا يَقُوله النَّاصِر لَهُ إِنَّه كَانَ رجلا صَالحا صَحِيح السلوك لَكِن غلب عَلَيْهِ الوجد وَالْحَال حَتَّى عثر فِي الْمقَال وَلم يدر مَا قَالَ وَكَلَام السَّكْرَان يطوى وَلَا يرْوى فالمقتول شَهِيد وَالْقَاتِل مُجَاهِد فِي سَبِيل الله دع مَا يَقُوله من ينْسبهُ إِلَى المخاريق وخلط الْحق بِالْبَاطِلِ وَلَيْسَ أحد من مَشَايِخ الطَّرِيق لَا أَوَّلهمْ وَلَا آخِرهم يصوب الحلاج فِي جَمِيع مقاله بل اتّفقت الْأمة على انه إِمَّا مُخطئ وَإِمَّا عَاص وَإِمَّا فَاسق وَإِمَّا كَافِر وَمن قَالَ إِنَّه مُصِيب فِي جَمِيع هَذِه

الْأَقْوَال المأثورة عَنهُ فَهُوَ ضال بل كَافِر بأجماع الْمُسلمين وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَيفَ يجوز أَن يَجْعَل عُمْدَة لاهل طَرِيق الله كَلَام لم يُؤثر إِلَّا عَنهُ وَلَا يذكر فِي اعْتِقَاد مَشَايِخ طَرِيق الله كَلَام أبسط مِنْهُ وَأكْثر وَهُوَ مَا قَالَ فِيهِ أخبرنَا أَبُو عبد الرَّحْمَن السلمى قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن غَالب قَالَ سَمِعت أَبَا نصر أَحْمد بن سعيد الأسفنجاني يَقُول قَالَ الْحُسَيْن بن مَنْصُور ألزم الْكل الْحَدث لِأَن الْقدَم لَهُ فَالَّذِي بالجسم ظُهُوره فالعرض يلْزمه وَالَّذِي بالأداة اجتماعه فقواها تمسكه وَالَّذِي يؤلفه وَقت يفرقه وَقت وَالَّذِي يقيمه غَيره فالضرورة تمسه وَلِذِي الْوَهم يظفر بِهِ فالتصوير يرتقى إِلَيْهِ وَمن آواه مَحل ادركه أَيْن وَمن كَانَ لَهُ جنس طَالبه بكيف إِنَّه سُبْحَانَهُ لَا يظله فَوق وَلَا يقلهُ تَحت وَلَا يُقَابله حد وَلَا يزاحمه عِنْد وَلَا يَأْخُذهُ خلف وَلَا يحده أَمَام وَلم يظهره قبل وَلم يفنه بعد وَلم يجمعه كل وَلم يوجده كَانَ لم يفقده لَيْسَ

وَصفَة لَا صفة لَهُ وَفعله لَا عِلّة لَهُ وَكَونه لَا أمد لَهُ تنزه عَن أَحول خلقه [لَيْسَ لَهُ من خلقه] مزاج وَلَا فِي فعله علاج باينهم بقدمه كَمَا باينوه بحدوثهم إِن قلت مَتى فقد سبق الْوَقْت ذَاته وَإِن قلت هُوَ فالهاء وَالْوَاو خَلفه وَإِن قلت أَيْن فقد تقدم الْمَكَان وجوده فالحروف آيَاته ووجوده إثْبَاته ومعرفته توحيده وتوحيده تَمْيِيزه من خلقه مَا تصور فِي الأوهام فَهُوَ بِخِلَافِهِ كَيفَ يحل بِهِ مَا مِنْهُ بَدَأَ أَو يعود إِلَيْهِ مَا هُوَ أنشأ لَا تماثله الْعُيُون وَلَا تقابله الظنون قربه كرامته وَبعده إهانته علوه من غير توقل ومجيئه من غير تنقل هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن والقريب الْبعيد لَيْسَ كمثله شئ وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير

قلت هَذَا الْكَلَام وَالله أعلم هَل هُوَ صَحِيح عَن الحلاج أم لَا فَإِن فِي الْإِسْنَاد من لَا أعرف حَاله وَقد رَأَيْت أَشْيَاء كَثِيرَة منسوبة إِلَى الحلاج من مصنفات وكلمات ورسائل وَهِي كذب عَلَيْهِ لَا شكّ فِي ذَلِك وَإِن كَانَ فِي كثير من كَلَامه الثَّابِت عَنهُ فَسَاد واضطراب لَكِن حملوه أَكثر مِمَّا حمله وَصَارَ كل من يُرِيد أَن يَأْتِي بِنَوْع من الشطح والطامات يعزوه إِلَى الحلاج لكَون مَحَله أقبل لذَلِك من غَيره وَلكَون قوم مِمَّن يعظم المجهولات الهائلة يعظم مثل ذَلِك فَإِن كَانَ هَذَا الْكَلَام صَحِيحا فَمَعْنَاه الصَّحِيح هُوَ نفي مَذْهَب الِاتِّحَاد والحلول الَّذِي وَقع فِيهِ طَائِفَة من المتصوفه وَنسب ذَلِك إِلَى الحلاج فَيكون هَذَا الْكَلَام من الحلاج ردا على أهل الِاتِّحَاد والحلول وَهَذَا حسن مَقْبُول وَأما تَفْسِيره بِمَا يُوَافق رأى أبي الْقَاسِم فِي الصِّفَات فَلَا يُنَاسب هَذَا الْكَلَام وَقد يُقَال إِن هَذَا الْكَلَام فِيهِ من الشطح مَا فِيهِ وَمَا زَالَ اهل الْمعرفَة يعيبون الشطح الَّذِي دخل فِيهِ طَائِفَة من الصُّوفِيَّة حَتَّى ذكر ذَلِك أَبُو حَامِد فِي إحيائه وَغَيره وَهُوَ قِسْمَانِ شطح هُوَ ظلم وعدوان وَإِن كَانَ من ظلم الْكفَّار وشطح هُوَ جهل وهذيان وَالْإِنْسَان ظلوم جهول قَالَ أَبُو حَامِد وَأما الشطح فنعنى بِهِ صنفين من الْكَلَام

أحدثه بعض المتصوفة أَحدهمَا الدَّعَاوَى الطَّوِيلَة العريضة فِي الْعِشْق مَعَ الله والوصال المغنى عَن الاعمال الظَّاهِرَة حَتَّى يَنْتَهِي قوم إِلَى دَعْوَى الِاتِّحَاد وارتفاع الْحجاب والمشاهدة بِالرُّؤْيَةِ والمشافهة بِالْخِطَابِ فَيَقُولُونَ قيل لنا كَذَا وَقُلْنَا كَذَا ويتشبهون فِيهِ بالحسين بن مَنْصُور الحلاج الَّذِي صلب لأجل إِطْلَاقه كَلِمَات من هَذَا الْجِنْس قَالَ والصنف الثَّانِي من الشطح كَلِمَات غير مفهومة لَهَا ظواهر رائعة وفيهَا عِبَارَات هائلة وَلَيْسَ وَرَائِهَا طائل وَهِي إِمَّا أَن تكون غير مفهومة عِنْد قَائِلهَا بل يصدرها عَن خبط فِي عقله وتشوش فِي خياله لقلَّة إحاطته بِمَعْنى كَلَام قرع

سَمعه وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَر وَإِمَّا أَن تكون مفهومة لَهُ وَلكنه لَا يقدر على تفهيمها وإيرادها بِعِبَارَة تدل على ضَمِيره قَالَ وَلَا فَائِدَة لهَذَا الْجِنْس من الْكَلَام إِلَّا أَنه يشوش الْقُلُوب ويدهش الْعُقُول ويحير الأذهان قلت وَهَذَا الْكَلَام المحكى عَن الحلاج فِيهِ مَا هُوَ بَاطِل وَفِيه مَا هُوَ مُجمل مُحْتَمل وَفِيه مَا لَا يتَحَصَّل لَهُ معنى صَحِيح بل هُوَ مُضْطَرب وَفِيه مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَائِدَة وَفِيه مَا هُوَ حق لَكِن اتِّبَاع ذَلِك الْحق من غير طَرِيق الحلاج أحسن وَأَشد وأنفع فَقَوله ألزم الْكل الْحَدث لِأَن الْقدَم لَهُ يتَضَمَّن حَقًا وَهُوَ أَنه سُبْحَانَهُ الْقَدِيم وَمَا سواهُ مُحدث وَلَكِن لَيْسَ تَعْلِيله مُسْتَقِيمًا وَلَا الْعبارَة سديدة فَإِن قَوْله ألزم الْكل الْحَدث ظَاهره أَنه جعل الْحُدُوث لَازِما لَهُم كَمَا تجْعَل الصِّفَات لَازِمَة لموصوفها مثل الأكوان والألوان وَغير ذَلِك وَلَيْسَ كَذَلِك بل الْحُدُوث لَهُم هُوَ من لَوَازِم حقيقتهم فَلَا يُمكن الْمَخْلُوق أَن يكون غير مُحدث حَتَّى يلْزم بذلك بل هَذَا مثل قَول الْقَائِل ألزم الْمَخْلُوق أَن يكون مخلوقا وألزم الْمَصْنُوع أَن يكون مصنوعا

وَأما تَعْلِيل ذَلِك بقوله لِأَن الْقدَم لَهُ فَلَيْسَ كَون الْقدَم لَهُ هُوَ الْمُوجب لحدوثهم إِذْ كَونه مَوْصُوفا بِصفة لَا يمْنَع أَن يُوصف الْمَخْلُوق بِمَا يَلِيق بِهِ من تِلْكَ الصّفة كَمَا أَن الْعلم لَهُ والحياة وَالْكَلَام والسمع وَالْبَصَر وللمخلوق أَيْضا علم وحياة وَكَلَام وَسمع وبصر فقد قَالَ الله تَعَالَى وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ [سُورَة المُنَافِقُونَ 8] فتعليل إِلْزَام الْحُدُوث لَهُم بِأَن الْقدَم لَهُ كَلَام سَاقِط بل الْمَخْلُوق مُحدث لنَفس ذَاته وَعين حَقِيقَته مثل كَونه مربوبا ومصنوعا وَفَقِيرًا ومحتاجا فَإِن هَذِه الصِّفَات النَّاقِصَة المتضمنة احتياجاته إِلَى الله وربوبية الله ثبتَتْ لَهُ لنَفس حَقِيقَته وإلزامه إِيَّاه الْحَدث يَقْتَضِي نفى الْقدَم عَنهُ وَنفى أَنه على كل شئ قدير وَأَنه بِكُل شئ عليم وَأَنه مستغن بِنَفسِهِ عَمَّا سواهُ فآنتفاء هَذِه الصِّفَات عَنهُ هُوَ لَيْسَ لأمر وجودي وَلَا لأجل أَن الله متصف بهَا بل هَذِه الصِّفَات يمْتَنع ثُبُوتهَا لَهُ وَلَكِن قد تفسر بِتَأْوِيل حسن كَمَا سَنذكرُهُ فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقَوله فَالَّذِي بالجسم ظُهُوره فالعرض يلْزمه هَذَا الْكَلَام يتَضَمَّن ثُبُوت الْجِسْم وشئ ظهر بالجسم وَعرض يلْزمه وَعند الَّذين نصر أَبُو الْقَاسِم طريقتهم وَسَائِر أهل الْكَلَام لَيْسَ فِي الْمَخْلُوق

إِلَّا جسم أَو عرض اذالجوهر الْفَرد جُزْء من الْجِسْم فَهَذَا الْكَلَام لَا يُوَافقهُ ثمَّ إِنَّه فِي نَفسه قد يُقَال هُوَ من جنس الشطح لَا حَقِيقَة فَمَا الَّذِي بالجسم ظُهُوره أهوَ الْجِسْم أم غَيره إِن كَانَ هُوَ الْجِسْم لم يَصح أَن يُقَال الَّذِي ظُهُوره هُوَ الْجِسْم وَإِن كَانَ غَيره وَسلم ذَلِك لَهُ فَمَا الْمُوجب لتخصيص ذَلِك بالْكلَام فِيهِ دون الْجِسْم وَالْعرض يلْزم الْجِسْم أبين من لُزُومه مَا لَيْسَ بجسم ثمَّ إِذا قيل إِن الْعرض يلْزمه هُوَ طَريقَة بعض أهل الْكَلَام الْمُحدث فِي الِاسْتِدْلَال على حُدُوث الْأَجْسَام بِلُزُوم الْأَعْرَاض لَهَا وَفِي هَذِه الطَّرِيقَة من الِاضْطِرَاب مَا قد ذَكرْنَاهُ فِي مَوْضِعه وَلَيْسَت هَذِه طَريقَة الْمَشَايِخ والعارفين وَمن أحسن مَا يحمل عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَام أَن قَائِله إِن أَرَادَ بِهِ إبِْطَال مَذْهَب الْحُلُول والاتحاد وَظُهُور اللاهوت فِي الناسوت وَأَن الرب سُبْحَانَهُ لَيْسَ حَالا فِي شئ من الْمَخْلُوقَات وَلَا يظْهر فِي شئ من الْأَجْسَام المصنوعات كَمَا يَقُوله من يَقُول إِنَّه ظهر فِي الْمَسِيح وَفِي عَليّ وَفِي الحلاج وَنَحْو ذَلِك كَمَا يَقُوله أهل التَّعْيِين مِنْهُم وكما يَقُوله من يَقُول بذلك فِي جَمِيع المصنوعات على مَذْهَب ابْن الْعَرَبِيّ وَابْن سبعين وَنَحْوهم فَقَوله ألزم الْكل الْحَدث أَي جعله لَازِما لَهُم لَا يفارقهم فَلَا يصير الْمُحدث قَدِيما وَقَوله الَّذِي بالجسم ظُهُوره يَعْنِي أَي شئ ظهر بِهَذِهِ الْأَجْسَام مِمَّا

يظنّ أَنه الْحق وَأَنه ظَاهر فِي الْأَجْسَام فالعرض يلْزم ذَلِك الظَّاهِر فِي الْجِسْم كَمَا يلْزم ذَلِك الْجِسْم وَحِينَئِذٍ فَيكون الظَّاهِر فِي الْجِسْم بِمَنْزِلَة نفس الْجِسْم لَيْسَ بِأَن يَجْعَل أَحدهمَا رَبًّا خَالِقًا وَالْآخر مخلوقا بِأولى من الْعَكْس وَكَذَلِكَ قَوْله الَّذِي بالأداة اجتماعه فقواها تمسكه هَذَا رد على من يَقُول بقدم الرّوح أَو بحلول الْخَالِق فِي الْمَخْلُوق فَإِن أدوات الْإِنْسَان وَهِي جوارحه وأعضاؤه بهَا يكون اجْتِمَاع ذَلِك وقوى الأدوات تمسك ذَلِك فَيكون مفترا إِلَيْهَا مُحْتَاجا والمحتاج إِلَى غَيره لَا يكون حَقًا غَنِيا بِنَفسِهِ فَلَا يكون هُوَ الله وَلَيْسَ فِي هَذَا تعرض لصفات الْحق فِي نَفسه نفيا وإثباتا بِقبُول مَذْهَب ورد مَذْهَب إِذْ لم يقل اُحْدُ من الْخلق ان الْحق يجْتَمع بالادوات حَتَّى ان من وَصفه بالجوارح والأعضاء من ضلال المجسمة لَا يَقُولُونَ إِن اجتماعه بهَا وَإِن أُرِيد بآجتماعه بهَا أَنه لَا بُد لَهُ مِنْهَا فَقَوله فقواها تمسكه هُوَ مثل قَوْله إِنَّه لَا بُد لَهُ مِنْهَا لَا يكون أَحدهمَا إبطالا للْآخر بل لُزُوم ذَلِك عِنْدهم كلزوم صِفَاته لَهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِك فقر مِنْهُ إِلَى غَيره كَمَا أَنه قَائِم بِنَفسِهِ غنى بِنَفسِهِ وَلَا يُقَال إِنَّه مفتقر إِلَى غَيره إِذْ مَا هُوَ من لَوَازِم ذَاته هُوَ دَاخل فِي اسْمه فَلَا يكون مفتقرا إِلَى غَيره وَكَذَلِكَ قَوْله الَّذِي يؤلفه وَقت يفرقه وَقت هَذَا منطبق على إِفْسَاد مَذْهَب الاتحادية فَإِن الْآدَمِيّ تأليفه وتركيبه فِي

بعض الْأَوْقَات كَمَا يكون تفريقه فِي بعض الاوقات فَلَا يكون التَّأْلِيف وَلَا التَّفْرِيق لَازِما لَهُ بل هُوَ مُحْتَاج فيهمَا إِلَى غَيره وَكَذَلِكَ مَا يُقَال إِنَّه يتحد فِيهِ أَو يتحد بِهِ من اللاهوت هُوَ مفارق لَهُ فِي وَقت آخر وَأما قَوْله الَّذِي يقيمه غَيره فالضرورة تمسه فَهَذَا كَلَام حسن وَهُوَ حق وكل مَا سوى الله فَإِنَّمَا يقيمه غَيره وَالله هُوَ الْحَيّ القيوم الَّذِي لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم الَّذِي يقوم بِنَفسِهِ وَيُقِيم كل شئ وكل مَا يقيمه غَيره فَهُوَ مُضْطَر إِلَى ذَلِك الْغَيْر فَلَا يكون رَبًّا وَهَذَا فِيهِ دلَالَة على أَنه لَيْسَ فِي شئ من الإلهية والربوبية إِذْ الضَّرُورَة لَازِمَة لَهُم كلهم وَأما قَوْله الَّذِي الْوَهم يظفر بِهِ فالتصوير يرتقي إِلَيْهِ فقد يُقَال فِيهِ شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن مَا يتوهمه العَبْد لَا يكون إِلَّا ضَرُورَة مصورة لَكِن هَذَا لَا يدل على فَسَاد مَا يتَوَهَّم وَلَا على فَسَاد الصُّورَة وَالثَّانِي يكون المُرَاد بالتصوير تَصْوِير الْإِنْسَان فِي نَفسه لَهُ فَيكون تَصْوِيره مثل ظفر الْوَهم بِهِ فَيَعُود الْأَمر إِلَى أَن يُقَال مَا يتوهمه العَبْد فقد تصَوره وَهَذَا لَا فَائِدَة فِيهِ وَذَلِكَ أَن التَّصْوِير إِمَّا أَن يُرَاد بِهِ أَنه فِي ذَاته مُصَور أَو يُرَاد أَن العَبْد تصَوره فِي نَفسه إِذْ لَيست الصُّورَة إِلَّا عَيْنِيَّة خَارِجَة مَوْجُودَة فِي الْخَارِج أَو ذهنية فِي نفس الْإِنْسَان مثلا وَنَحْوه مِمَّا يتَصَوَّر فِيهِ وَالْكَلَام إِذا كَانَ تكريرا بِلَا فَائِدَة كَانَ من الشطح وَإِن كَانَ بِلَا حجَّة كَانَ دَعْوَى

وَقَوله من آواه مَحل أدْركهُ أَيْن اسْتِدْلَال مِنْهُ على انْتِفَاء إيواء الْمحل بآنتفاء الأين وَهَذِه سَاقِطَة فَإِن الْعلم بِهِ أظهر من الْعلم بآنتفاء الأين عَنهُ فَإِن عَامَّة أهل السّنة وَسلف الْأمة وأئمتها لَا ينفون عَنهُ الأين مُطلقًا لثُبُوت النُّصُوص الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك سؤالا وجوابا فقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَنهُ انه قَالَ لِلْجَارِيَةِ أَيْن الله قَالَت فِي السَّمَاء وَكَذَلِكَ قَالَ ذَلِك لغَيْرهَا وَقَالَ لَهُ أَبُو رزين الْعقيلِيّ أَيْن كَانَ رَبنَا قبل أَن يخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض قَالَ فِي عماء مَا فَوْقه هَوَاء وَمَا تَحْتَهُ هَوَاء ثمَّ خلق عَرْشه على المَاء وَمن نفي الأين عَنهُ يحْتَاج إِلَى أَن يسْتَدلّ على انْتِفَاء ذَلِك بِدَلِيل

أما أَن يَجْعَل انْتِفَاء الأين عَنهُ دَلِيلا فَهَذَا لَا يَقُوله عَاقل وَمن نفى الأين قَالَ لِأَن الأين سُؤال عَن الْمَكَان يَقُول وَالله لَيْسَ فِي الْمَكَان لِأَن الْمَكَان لَا يكون إِلَّا للجسم وَالله لَيْسَ بجسم لِأَن الْجِسْم لَا يكون إِلَّا مُحدثا مُمكنا فَلَا بُد لَهُ من هَذِه الْمُقدمَات أَو مَا يُنَاسِبهَا ثمَّ الْمُثبت لما جَاءَت بِهِ السّنة يرد عَلَيْهِ بِمَنْع بعض هَذِه الْمُقدمَات وَالتَّفْصِيل فِيهَا أَو بَعْضهَا وَبَيَان الْحق فِي ذَلِك من الْبَاطِل مثل أَن يُقَال الْمَكَان يُرَاد بِهِ مَا يُحِيط بالشئ وَالله لَا يُحِيط بِهِ مَخْلُوق أَو يُرَاد بِهِ مَا يفْتَقر إِلَيْهِ الْمُمكن وَالله لَا يفْتَقر إِلَى شئ وَقد يُرَاد بِالْمَكَانِ مَا يكون الشئ فَوْقه وَالله فَوق عَرْشه فَوق سماواته فَلَا يسلم نفى الْمَكَان عَنهُ بِهَذَا التَّفْسِير ونقول قد وَردت الْآثَار الثَّابِتَة بِإِثْبَات لفظ الْمَكَان فَلَا يَصح نَفْيه مُطلقًا وَكَذَلِكَ نقُول فِي سَائِر الْمُقدمَات فَظهر أَن هَذَا الْكَلَام لَا تصح دلَالَته إِلَّا أَن يُرَاد بِهِ نفي الِاتِّحَاد والحلول فَيكون الْمَعْنى لَو آواه بطن مَرْيَم أَو جَسَد وَاحِد من الْبشر كَمَا قد يَقُول بعض ذَلِك بعض الحلولية لَكَانَ الأين يلْزمه كَمَا يلْزم مَحَله فَفرق بَين أَحدهمَا وَالْآخر فِي جعل هَذَا خَالِقًا وَهَذَا مخلوقا وَأما نفس الْمَعْنى الْمَقْصُود بنفى أيواء الْمحل عَنهُ فَإِنَّهُ صَحِيح إِذا قصد بِهِ أَنه لَا فَوْقه شئ من الْمَخْلُوقَات فتحيط بِهِ أَو يكون الرب مفتقرا إِلَيْهِ

وَأما إِن قصد أَنه لَيْسَ فَوق الْعَرْش فَهَذَا بَاطِل وَلَكِن لفظ إيواء الْمحل بِالْمَعْنَى الاول أشبه وَأما قَوْله من كَانَ لَهُ جنس طَالبه بكيف فَهُوَ نمط الَّذِي قبله فَإِنَّهُ يتَضَمَّن نفي المجانسة عَنهُ بآنتفاء طلب الكيف وَالْعلم بِأَن الله لَيْسَ لَهُ مثل وَلَا سمي وَلَا كفو أبين من الْعلم بِأَنَّهُ لَا يُقَال لَهُ كَيفَ فَإِن كثيرا من النَّاس دخلت عَلَيْهِم الشُّبْهَة فطلبوا التكييف حَتَّى بَين لَهُم أَن الكيف غير مَعْلُوم لنا فَالَّذِي ثَبت نَفْيه بِالشَّرْعِ وَالْعقل واتفاق السّلف إِنَّمَا هُوَ علم الْعباد بالكيفية وسؤالهم عَن الْكَيْفِيَّة الَّتِي لَا يُمكن مَعْرفَتهَا بِخِلَاف المجانسة فَإِنَّهَا منتفية عَنهُ فِي نفس الْأَمر فَكيف نجْعَل هَذَا دَلِيلا على الآخر وَلَو قلب الْعبارَة وَقَالَ فَالَّذِي يطْلب لَهُ كَيفَ لَهُ جنس لَكَانَ قد سلك سَبِيل الِاسْتِدْلَال لَكِن قد لَا يسلم لَهُ ذَلِك وَيُقَال لَهُ من أَيْن تعلم ان كل مَا يُقَال لَهُ كَيفَ يجب أَن يكون لَهُ مثل يجانسه وَحِينَئِذٍ يُمكن الِاسْتِدْلَال على ذَلِك بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه وَلَعَلَّ الْمُتَكَلّم بِهَذَا الْكَلَام قصد هَذَا الْمَعْنى مَعَ أَنه فِي نفي السُّؤَال بكيف كَلَام قد ذَكرْنَاهُ فِي غير هَذَا الْموضع

وَأما قَوْله لَا يظله فَوق وَلَا يقلهُ تَحت وَلَا يُقَابله حد وَلَا يزاحمه عِنْد وَلَا يَأْخُذهُ خلف وَلَا يحده أَمَام وَلم يظهره قبل وَلم يفنه بعد وَلم يجمعه كل وَلم يوجده كَانَ وَلم يفقده لَيْسَ فَهَذَا الْكَلَام أَكْثَره مُجمل وَفِيه مَا هُوَ حق وَفِيه مَا هُوَ بَاطِل فَقَوله لَا يظله فَوق حق إِذْ ظَاهره أَن الله لَيْسَ فَوْقه شئ وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَنْت الأول فَلَيْسَ قبلك شئ وَأَنت الآخر فَلَيْسَ بعْدك شئ وَأَنت الظَّاهِر فَلَيْسَ فَوْقك شئ وَأَنت الْبَاطِن فَلَيْسَ دُونك شئ واما قَوْله لَا يقلهُ تَحت فَإِن اراد بِهِ أَن الله لَيْسَ فَوق الْخلق فَهَذَا لَيْسَ بِحَق وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قَالَ أَنْت الظَّاهِر فَلَيْسَ فَوْقك شئ لم يقل لست فَوق شئ بل قَالَ انت الْبَاطِن فَلَيْسَ دُونك شئ وَلم يقل لَيْسَ لَك دون وَلَا قَالَ لست مَوْصُوفا

بالفوق فَفرق بَين قَوْله لَيْسَ دونه شئ وَلَيْسَ شئ فَوْقه وَبَين قَوْله لَيْسَ مَوْصُوفا بفوق وَمَا هُوَ مَوْصُوف بتحت وَأما قَوْله لَا يُقَابله حد وَلَا يزاحمه عِنْد فَظَاهره بَاطِل إِذْ ظَاهره أَن الله لَا يُقَابله شئ من الْمَخْلُوقَات وَلَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ المحدودات وَلَا يكون عِنْده شئ من الْمَخْلُوقَات وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع سلف الامة فَإِن الله تَعَالَى يَقُول إِن الَّذين عِنْد رَبك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته ويسبحونه وَله يَسْجُدُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف 206] وَقَالَ وَله من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض وَمن عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته وَلَا يستحسرون [سُورَة الْأَنْبِيَاء 19] وَقَالَ إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ [سُورَة فاطر 10] وَقَالَ تَعَالَى يَا عِيسَى إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَى [سُورَة آل عمرَان 55] وَقَالَ تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ [سُورَة المعارج 4]

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأَحَادِيث المستفيضة إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ الشَّمْس وَالْقَمَر وَقَوله لَا يَأْخُذهُ خلف وَلَا يحده أَمَام كَلَام مُجمل وَالله مَوْصُوف فِي الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع سلف الْأمة بِأَن الْمَخْلُوق يكون أَمَامه وَبَين يَدَيْهِ فِي غير مَوضِع فَلَا يجوز نفي ذَلِك عَنهُ وَأما قَوْله وَلم يظهره قبل وَلم يفنه بعد فَظَاهره صَحِيح فَإِن ظَاهره أَنه مَا ظهر بقبل كَانَ قبله وَلَا يفنى فَيكون شئ بعده وَهَذَا حق فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْت الأول فَلَيْسَ قبلك شئ وَأَنت الآخر فَلَيْسَ بعْدك شئ وَأما قَوْله وَلم يجمعه كل وَلم يوجده كَانَ وَلم يفقده لَيْسَ فَفِيهِ إِجْمَال فَإِن أَرَادَ أَنه لَا يُقَال كَانَ الله فَهَذَا بَاطِل فَفِي الصَّحِيح عَن عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أهل الْيمن قَالُوا يَا رَسُول الله جئْنَاك لنتفقه فِي الدّين ولنسألك عَن أول

هَذَا الْأَمر مَا كَانَ قَالَ كَانَ الله وَلم يكن شئ قبله وَكَانَ عَرْشه على المَاء ثمَّ خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَكتب فِي الذّكر كل شئ وَكَذَلِكَ إِن اراد أَنه لَا يُوصف بليس فَإِن الله ينفى عَنهُ أَشْيَاء كَمَا ثبتَتْ لَهُ أَشْيَاء وَإِن أَرَادَ أَنه لم يُوجد بكان وَلَا يفقد بليس فَهَذَا حق فَإِنَّهُ لَيْسَ بمحدث فِي وَقت دون وَقت وَلَا يجوز عَلَيْهِ الْعَدَم فَلَا حدث بكان وَلَا يفقد بليس وَأما قَوْله وَصفه لَا صفة لَهُ فمجمل فَإِن اراد أَن صِفَاته لَا تُوصَف بالْكلَام فَالله وَرَسُوله قد وصف صِفَاته مثل وصف علمه بِأَنَّهُ بِكُل شئ مُحِيط وَقدرته بعمومها وَأَنه على كل شئ قدير وَرَحمته بِأَنَّهَا وسعت كل شئ

وَإِن أَرَادَ أَن العَبْد لَا تحيط صفته بِصفة ربه فَحق وَمَا أَظُنهُ أَرَادَ مَا يُريدهُ بعض الْمُتَكَلِّمين من أَن صفة لَا تقوم بهَا صفة لِأَن الْعرض لايقوم بِالْعرضِ بل تكون الصفتان والعرضان جَمِيعًا قَائِمين بِالْعينِ وَأما قَوْله فعله لَا عِلّة لَهُ فمجمل وَهُوَ اقْربْ إِلَى الْحق إِن أَرَادَ أَنه لم يفعل شَيْئا لعِلَّة من غَيره فَهَذَا حق وَإِن أَرَادَ أَنه لم يفعل الْأَشْيَاء لعِلَّة من نَفسه مثل مَشِيئَته وإرادته وَعلمه فَهَذَا لَيْسَ بِحَق وَالْأَشْبَه أَنه أَرَادَ الْمَعْنى الأول واما قَوْله كَونه لَا أمد لَهُ فَهَذَا حق صَحِيح وَأما قَوْله تنزه عَن أَحْوَال خلقه فَصَحِيح إِذا أَرَادَ أَنه لَيْسَ مثل خلقه فِي شئ من الْأَشْيَاء وَلَكِن من جعل فِي هَذَا الْكَلَام أَنه لَا يُوصف بِالصِّفَاتِ الَّتِي تلِيق بِهِ كَمَا يُوصف خلقه من تِلْكَ الصِّفَات بِمَا يَلِيق بهم فَهَذَا بَاطِل فَإِنَّهُ يُوصف بِالْعلمِ وَالْقُدْرَة والسمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام وَإِن كَانَ خلقه يوصفون بِمَا يَلِيق بهم من ذَلِك وَأما قَوْله لَيْسَ لَهُ من خلقه مزاج وَلَا فِي فعله علاج فَهُوَ صَحِيح فَإِن الله لَا عون لَهُ ولاظهير كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا لَهُم فيهمَا

من شرك وَمَا لَهُ مِنْهُم من ظهير [سُورَة سبأ 22] بل هُوَ الْغَنِيّ عَن جَمِيع خلقه وَكَذَلِكَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون لَا يحْتَاج إِلَى مَا يحْتَاج إِلَيْهِ خلقه من المعالجة وَكَذَلِكَ قَوْله باينهم بقدمه كَمَا باينوه بحدوثهم صَحِيح وَإِن كَانَ مَا باين الله بِهِ خلقه أَعم من مُجَرّد الْقدَم فَإِنَّهُ باينهم بِجَمِيعِ صِفَاته لَيْسَ لَهُ فِي شئ مِنْهَا مثل وَأما قَوْله إِن قلت مَتى فقد سبق الْوَقْت ذَاته فَهَذَا صَحِيح فَأن الله لَا يُقَال مَتى كَانَ إِذْ هُوَ الْقَدِيم الَّذِي لم يزل وَلَا يزَال وَأما قَوْله إِن قلت هُوَ فالهاء وَالْوَاو خلقه فَهُوَ كَلَام فَاسد فَإِنَّهُ إِن أَرَادَ أَنه لَا يُقَال هُوَ فَهَذَا خلاف إِجْمَاع الْمُسلمين وَسَائِر الْأُمَم وَهُوَ فَاسد بضرورة الْعقل وَالشَّرْع قَالَ تَعَالَى هُوَ الأول وَالْآخر [سُورَة الْحَدِيد 3] وَقَالَ وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش [سُورَة هود 7] وَقَالَ وَهُوَ الغفور الْوَدُود [سُورَة البروج 14] وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم [سُورَة الْحَدِيد 4] وَفِي الْقُرْآن من ذكر هُوَ أَكثر من أَن يحصر هُنَا فنفي قَول هُوَ من أعظم الْبَاطِل

وَإِن أَرَادَ أَن يُقَال مَا هُوَ لعدم الْعلم بحقيقته فَلَا يصلح أَن يدل على ذَلِك بقوله فالهاء وَالْوَاو خلقه فَإِن هَذَا لَو كَانَ حجَّة لصَحَّ أَن يحْتَج بِهِ فِي مَتى وَأَيْنَ وَبِتَقْدِير كَون الْحُرُوف مخلوقة لَا يصلح أَن يحْتَج بذلك على نفى الْإِخْبَار بهَا عَن الله أَو الإستفهام بهَا عَن بعض شؤوونه وَصِفَاته وَإِدْخَال لفظ هُوَ بَين مَتى وَأَيْنَ يدل على أَنه أَرَادَ الِاسْتِفْهَام وَإِن أَرَادَ انا إِذا قُلْنَا هُوَ فَإِنَّمَا تكلمنا بحروف مخلوقة وَإِن ذَلِك يُفِيد نفى معرفتنا بِهِ فَهَذَا من أبطل الْكَلَام فَإِن الْقَائِلين بِأَن الْحُرُوف مخلوقة والحروف غير مخلوقة متفقون على أَن الْإِخْبَار عَنهُ بهو لَا ينفى مَعْرفَته فَظهر أَن قَوْله الْهَاء وَالْوَاو خلقه كَلَام لَيْسَ فِيهِ هُنَا فَائِدَة بِحَال وَإِذا كَانَ الْمُتَكَلّم بذلك لم يذكر كلَاما منتظما مُفِيدا سَوَاء كَانَ حَقًا أَو بَاطِلا فَهُوَ جدير على أَن لَا يسْتَدلّ بِكَلَامِهِ على أَنه حق أَو بَاطِل ثمَّ قَالَ ذَلِك إِن أَرَادَ ان نفس أصوات الْعباد مخلوقة فَهَذَا صَحِيح وَإِن أَرَادَ أَن نفس الْحُرُوف حُرُوف الْقُرْآن وَغَيره مَا تكلم الله بهَا وَلَيْسَت من كَلَامه وَهَذَا خلاف الْكتاب وَالسّنة وَخلاف سلف الْأمة وأئمتها وَأما قَوْله إِن قلت أَيْن فقد تقدم الْمَكَان وجوده

فحجة ضَعِيفَة لِأَن وجوده قبل الْمَكَان لَا يمْنَع بعد خلق الْمَكَان أَن يُقَال وَأَيْنَ هُوَ فَإِن الأين نِسْبَة وَإِضَافَة لَا تكون إِلَّا بعد وجود الْمُضَاف إِلَيْهِ وَأما مَتى فَهُوَ يقتضى حُدُوث المسؤول عَنهُ فجواب مَتى يقتضى حُدُوثه إِلَّا أَن يُجَاب عَنْهَا بِأَنَّهُ لم يزل فَإِذا قَالَ قَائِل مَتى كَانَ قيل لَهُ لم يزل وَلَا يزَال وَأما جَوَاب أَيْن فَهُوَ يقتضى علوه وَهُوَ عَليّ عَظِيم ليسبمحدث فَلَا يشبه أَحدهمَا بِالْآخرِ وَأما قَوْله فالحروف آيَاته فَكَلَام صَحِيح وَكَذَلِكَ الْقُرْآن هُوَ كَلَام الله غير مَخْلُوق وَهُوَ آيَاته وَكَون الْقُرْآن بِحُرُوفِهِ ومعانيه آيَاته لَا يسْتَلْزم كَون ذَلِك مخلوقا وَأما قَوْله وَوُجُود إثْبَاته فَلم يرد بِهِ وَالله أعلم مَا يعنيه الْمُتَكَلّم بِلَفْظ الْوُجُود وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا يُريدهُ الصُّوفِيَّة وَهُوَ مُطَابق اللُّغَة يَقُول وجود العَبْد لَهُ هُوَ إِثْبَات وَأما قَوْله مَعْرفَته توحيده وتوحيده تميزه من خلقه فَلَا ريب أَن هَذَا إبِْطَال لمَذْهَب الِاتِّحَاد والحلول وَهُوَ حق وتمييزه من خلقه مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل الْإِيمَان وَلَا يَسْتَقِيم ذَلِك إِلَّا إِذا كَانَ بَائِنا من خلقه غير دَاخل فيهم

وَأما قَوْله مَا تصور فِي الأذهان فَهُوَ بِخِلَافِهِ فَهُوَ كَلَام مُجمل وَمَعْنَاهُ الصَّحِيح أَن حَقِيقَة الرب لَا يتصورها العَبْد من تصور شَيْئا اعْتقد انه حَقِيقَة الرب فَالله بِخِلَاف ذَلِك وَالْمعْنَى الْبَاطِل أَن يُقَال كلما تصَوره العَبْد وعقله فَهُوَ مُخَالف للحق فَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وَأما قَوْله كَيفَ يحل بِهِ مَا مِنْهُ بدأه أَو يعود إِلَيْهِ مَا هُوَ أنشأه فَكَلَام مُجمل فَإِن من يَقُول الْقُرْآن مَخْلُوق خلقه الله مُنْفَصِلا عَنهُ قد يَقُول مثل هَذَا الْكَلَام فَيَقُول لايحل الْقُرْآن بِهِ وَلَا يقوم بِذَاتِهِ فَإِنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ وَلَا يعود إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أنشأه وَالْقَوْل بِأَن كَلَام الله مَخْلُوق مُنْفَصِل عَن قَول بَاطِل وَهُوَ شعار الْجَهْمِية وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة تَكْذِيب للرسل وَكَذَلِكَ قَوْله لَا تماقله الْعُيُون قد يشْعر أَنه لَا تجوز رُؤْيَته بالعيون وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك بل رُؤْيَته بالعيون جَائِزَة وَالْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة يرونه عيَانًا كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَت الْأَبْصَار لَا تُدْرِكهُ وَأما قَوْله لَا تقَابل الظنون فَمن المجملات وَقَوله قربه كرامته وَبعده اهانته فمردود أما أَولا فَإِنَّهُ وَصفه بالبعد وَالله لَا يُوصف بالبعد وَإِن وصف

بِالْقربِ هَذَا إِن أَرَادَ قربه من عباده وَبعده مِنْهُم وَإِن أَرَادَ تقريبه لَهُم وتبعيده لَهُم فاللفظ لَا يدل على ذَلِك فَإِن الْقرب والبعد غير التَّقْرِيب والتبعيد وَأما ثَانِيًا فَلِأَن قربه من عباده وتقريبه لَهُم عِنْد سلف الْأمة وأمتها وَعَامة الْمَشَايِخ الأجلاء لَيْسَ مُجَرّد الإنعام والكرامة بل يقرب من خلقه كَيفَ شَاءَ وَيقرب إِلَيْهِ مِنْهُم من يَشَاء كَمَا قد بَينا ذَلِك فِي مَوْضِعه وَقد ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أقرب مَا يكون العَبْد من ربه فِي جَوف اللَّيْل الآخر وَثَبت فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ أقرب مَا يكون العَبْد من ربه وَهُوَ ساجد

وَقَالَ تَعَالَى واسجد واقترب [سُورَة العلق 19] وَأما قَوْله علوه من غير توقل ومجيئه من غير تنقل فَكَلَام مُجمل هُوَ إِلَى الْبِدْعَة أقرب فَإِنَّهُ قد يظْهر مِنْهُ أَنه لَيْسَ هُوَ فَوق خلقه وَيفهم مِنْهُ نفى مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة من وَصفه بالإستواء المجئ والإتيان وغيرذلك وَهَذِه الْمَسْأَلَة وَالَّتِي قبلهَا كبيرتان ذكرناهما فِي غير هَذَا الْموضع مثل جَوَاب الإعتراضات المصرية وَغير ذَلِك وَقَوله هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن والقريب والبعيد لَيْسَ فِي أَسمَاء الله الْبعيد وَلَا وَصفه بذلك أحد من سلف الْأمة وأمتها بل هُوَ موصفوف بِالْقربِ دون الْبعد وَفِي الحَدِيث الْمَشْهُور فِي التَّفْسِير أَن الْمُسلمين قَالُوا يَا رَسُول الله أَقَرِيب رَبنَا فنناجيه أم بعيد فنناديه فَأنْزل الله وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب [سُورَة الْبَقَرَة 186] وَهَذَا يَقْتَضِي وَصفه

بِالْقربِ دون الْبعد وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي مُوسَى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لأَصْحَابه لما جعلُوا يرفعون أَصْوَاتهم بِالتَّكْبِيرِ أَيهَا النَّاس اربعوا على أَنفسكُم فَإِنَّكُم لَا تدعون أَصمّ وَلَا غَائِبا إِنَّمَا تدعون سميعا قَرِيبا إِن الَّذِي تَدعُونَهُ أقرب إِلَى أحدكُم من عنق رَاحِلَته وَإِنَّمَا الْوَاجِب أَن يُوصف بالعلو والظهور كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَنْت الظَّاهِر فَلَيْسَ فَوْقك شئ وَأَنت الْبَاطِن فَلَيْسَ دُونك شئ وَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ الْعلي الْعَظِيم [سُورَة الْبَقَرَة 255] فَلَو قَالَ هُوَ الْعلي الْقَرِيب كَانَ حسنا صَوَابا وَكَذَلِكَ لَو قَالَ قريب فِي علوه عَليّ فِي دنوه فَأَما وَصفه بِأَن الْقَرِيب الْبعيد فَلَا أصل لَهُ بل هُوَ وصف بأسم حسن وبضده كَمَا لَو قيل العلى السافل اَوْ الْجواد الْبَخِيل اَوْ الرَّحِيم القاسي وَنَحْو ذَلِك وَالله تَعَالَى لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى وَإِنَّمَا يُؤْتِي

مثل هَؤُلَاءِ من الْقيَاس الْفَاسِد لما سَمِعُوهُ يخبر عَن نَفسه بِأَن الأول الآخر الظَّاهِر الْبَاطِن قاسوا على ذَلِك الْقَرِيب والبعيد وَهَذَا خطأ لِأَن تِلْكَ الْأَسْمَاء كلهَا حَسَنَة دَالَّة على كَمَال إحاطته مَكَانا وزمانا وَأما هَذَا فَهُوَ جمع بَين الإسم الْحسن وضده الْوَجْه الرَّابِع إِنَّه قدم كَلَام الشبلى فِي الِاعْتِقَاد قبل كَلَام جَمِيع الْمَشَايِخ الَّذين هم اجل مِنْهُ وَأعظم مَعَ أَن هَذِه الْمَسْأَلَة لَا تسْتَحقّ التَّقْدِيم وَإِنَّمَا مرتبته فِيمَا بعد كَمَا ذكرهَا هُنَاكَ وَكَانَ الْوَاجِب ان يُؤَخر ذَلِك إِلَى مَوْضِعه فَإِنَّهُ ذكر بعد ذَلِك أول الْوَاجِبَات وَهَذَا هُوَ الَّذِي يسْتَحق التَّقْدِيم وَمثل هَذَا يَقْتَضِي كَون المُصَنّف فِيهِ نوع من الْهوى وَمن أعظم الْوَاجِبَات على أهل هَذَا الطَّرِيق خلوهم من الْهوى فَإِن مبناه على قَوْله وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى [سُورَة النازعات 40] ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم رَحمَه الله سَمِعت أَبَا حَاتِم يَقُول سَمِعت ابا نصر السراج رَحمَه الله يَقُول سُئِلَ رُوَيْم عَن أول

فرض افترضه الله على خلقه مَا هُوَ قَالَ الْمعرفَة يَقُول الله عز وَجل وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون [سُورَة الذاريات 56] قَالَ ابْن عَبَّاس ليعرفون قلت هَذَا الْكَلَام [صَحِيح] فَإِن أول مَا أوجبه الله على لِسَان رَسُوله هُوَ الاقرار بِالشَّهَادَتَيْنِ كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ ابْن جبل لما بَعثه إِلَى الْيمن إِنَّك تقدم على قوم أهل كتاب فَلْيَكُن أول مَا تدعوهم إِلَيْهِ شَهَادَة أَلا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكَذَلِكَ قَالَ الْمَشَايِخ المعتمدون مثل الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَغَيره وَالْإِقْرَار بِالشَّهَادَتَيْنِ يتَضَمَّن الْمعرفَة لَكِن ذهب طَائِفَة من أهل الْكَلَام وَمِمَّنْ اتبعهم من الْفُقَهَاء والصوفية إِلَى أَنه يجب على العَبْد الْمعرفَة أَولا قبل وجوب الشَّهَادَتَيْنِ وَمِنْهُم من قَالَ يجب على العَبْد

النّظر قبل الْمعرفَة وَمِنْهُم من قَالَ يجب الْقَصْد إِلَى النّظر وَمن غالبيتهم من أوجب الشَّك وَقد بسطنا القَوْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي غير هَذَا الْموضع فَهَذَا القَوْل يُوَافق هَؤُلَاءِ لَكِن فِي صِحَة الْحِكَايَة بِهَذَا اللَّفْظ عَن رُوَيْم نظر فَإِن رويما من أهل الْعلم والمعرفة وَمَا ذكره من الْحجَّة لَا يدل على هَذَا الْجَواب فَلَيْسَ فِي قَوْله إِلَّا ليعبدون مَا يدل على أَن الْمعرفَة أول الْوَاجِبَات سَوَاء فسر يعْبدُونَ بيعرفون أَو فسر بِغَيْر ذَلِك فَإِن خلقهمْ لشئ لَا يدل على أَنه أول وَاجِب إِن لم يبين ذَلِك بشئ آخر وَأما التَّفْسِير الْمَذْكُور عَن ابْن عَبَّاس فَالَّذِينَ ذَكرُوهُ عَنهُ جعلُوا هَذِه الْمعرفَة هِيَ الْمعرفَة الفطرية الَّتِي يقربهَا الْمُؤمن وَالْكَافِر ومقصودهم بذلك أَن جَمِيع الْإِنْس وَالْجِنّ قد وجد مِنْهُم مَا خلقوه لَهُ من الْعِبَادَة الَّتِي هِيَ مُجَرّد الْإِقْرَار الفطري وَجعلُوا ذَلِك فِرَارًا من احتجاج الْقَدَرِيَّة بِهَذِهِ الْآيَة وَلَا ريب أَن هَذَا ضَعِيف لَيْسَ المُرَاد أَن الله خلقهمْ لمُجَرّد الْإِقْرَار الفطري وَقد تكلمنا على الْآيَة فِي غير هَذَا الْموضع وَلَعَلَّ السَّائِل سَأَلَهُ عَن أعظم وَاجِب فَقَالَ الْمعرفَة لقَوْله إِلَّا ليعبدون أَي يعْرفُونَ واعتقد رُوَيْم أَن هَذِه الْمعرفَة هِيَ الْمعرفَة الَّتِي يُشِير

إِلَيْهَا مَشَايِخ الطَّرِيق وَهِي معرفَة الْخَواص فَيكون جَوَابه عَن أعظم وَاجِب لَا عَن أول وَاجِب فَهَذَا كَمَا ترى ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم بِغَيْر إِسْنَاد عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ إِن أول مَا يحْتَاج إِلَيْهِ العَبْد من عقد الْحِكْمَة معرفَة الْمَصْنُوع صانعه والمحدث كَيفَ كَانَ إحداثه فَيعرف صفة الْخَالِق من الْمَخْلُوق وَالْقَدِيم من الْمُحدث ويذل لدعوته ويتعرف بِوُجُوب طَاعَته فَإِن لم يعرف مَا لله لم يعْتَرف بِالْملكِ لمن استوجبه وَهَذَا كَلَام حسن يُنَاسب كَلَام الْجُنَيْد وَقد ضمن هَذَا الْكَلَام التَّمْيِيز بَين الْمَخْلُوق والخالق لِئَلَّا يَقع السالك فِي الِاتِّحَاد والحلول كَمَا وَقع فِيهِ طوائف وَذكر أصيلين التَّصْدِيق والانقياد لِأَن الايمان قَول وَعمل فَذكر معرفَة الصَّانِع وَذكر الذل لدعوته وَالِاعْتِرَاف بِوُجُوب طَاعَته وَهَذَا من أصُول اهل السّنة وأئمة الْمَشَايِخ خُصُوصا مَشَايِخ الصُّوفِيَّة فَإِن أصل طريقهم الْإِرَادَة الَّتِي هِيَ أساس الْعَمَل فهم فِي الإرادات والعبادات والأعمال والأخلاق أعظم رسوخا مِنْهُم فِي المقالات والعلوم وهم بذلك أعظم اهتماما وَأكْثر عناية بل من لم يدْخل فِي ذَلِك لم يكن من أهل الطَّرِيق بِحَال

وَهَذَا حق فَإِن الدّين وَالْإِيمَان قَول وَعمل وأوله قَول الْقلب وَعَمله فَمن لم ينْقد بِقَلْبِه وَلم يذل لله لم يكن مُؤمنا وَلَا دَاخِلا فِي طَرِيق الله وَلِهَذَا لم يتنازع الْمَشَايِخ أَن الْإِيمَان يزِيد وَينْقص وَأَن النَّاس يتفاضلون فِيهِ وَأَن أَعمال الْقُلُوب من الْإِيمَان كَمَا يتنازع غَيرهم وَذكر أَبُو الْقَاسِم بعد هَذَا كلَاما عَن الْمَشَايِخ فِي جمل مستحسنة قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحُسَيْن سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الله يَقُول سَمِعت أَبَا الطّيب المراغى يَقُول لِلْعَقْلِ دلَالَة وللحكمة إِشَارَة وللمعرفة شَهَادَة فالعقل يدل وَالْحكمَة تُشِير والمعرفة تشهد أَن صفاء الْعِبَادَات لَا ينَال إِلَّا بصفاء التَّوْحِيد وَقَالَ وَسُئِلَ الْجُنَيْد وَلم يسْندهُ عَن التَّوْحِيد فَقَالَ إِفْرَاد الموحد بتحقيق وحدانيته بِكَمَال أحديته أَنه الْوَاحِد الَّذِي لم يلد وَلم يُولد بنفى الأضداد والأنداد والأشباه فَلَا تَشْبِيه وَلَا تكييف وَلَا تَصْوِير وَلَا تَمْثِيل لَيْسَ كمثله شئ وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير [سُورَة الشورى 11] وَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى الصُّوفِي

حَدثنَا عبد الله بن عَليّ التَّمِيمِي الصُّوفِي يحْكى عَن الْحُسَيْن بن عَليّ الدَّامغَانِي قَالَ سُئِلَ ابو بكر الزَّاهِد عَن الْمعرفَة فَقَالَ الْمعرفَة اسْم وَمَعْنَاهَا وجود تَعْظِيم فِي الْقلب يمنعك عَن التعطيل والتشبيه وَقَالَ أَبُو الْحسن البوشنجي رَحمَه الله التَّوْحِيد أَن يعلم أَنه غير مشبه للذوات وَلَا منفى الصِّفَات وَهَذَانِ قَولَانِ حسنان وَلَا يتنازع فى هَذِه الْجُمْلَة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة قَالَ أَبُو الْقَاسِم القشيرى سَمِعت أَبَا حَاتِم السجستانى يَقُول سَمِعت أَبَا نصر الطوسى السراج يَحْكِي عَن يُوسُف بن الْحُسَيْن قَالَ قَامَ رجل بَين يَدي ذى النُّون فَقَالَ أَخْبرنِي عَن التَّوْحِيد مَا هُوَ فَقَالَ

أَن تعلم أَن قدرَة الله فى الْأَشْيَاء بِلَا مزاج وصنعه للأشياء بِلَا علاج وَعلة كل شئ صنعه وَلَا عِلّة لصنعه وَلَيْسَ فِي السَّمَوَات الْعلَا وَلَا فى الْأَرْضين السُّفْلى مُدبر غير الله وكل مَا تصور فى وهمك فَالله بِخِلَافِهِ هَذَا الْكَلَام غالبه فِي ذكر فعل الْحق سُبْحَانَهُ وربوبيته أخبر أَنه رب كل شئ لَا مُدبر غَيره ردا على الْقَدَرِيَّة وَنَحْوهم مِمَّن يَجْعَل بعض الْأَشْيَاء خَارِجَة عَن قدرَة الله وتدبيره وَأخْبر أَن قدرته وصنعه لَيْسَ مثل قدرَة الْعباد وصنعهم فَإِن قدرَة أبدانهم عَن امتزاج الأخلاط وأفعالهم عَن معالجة وَالله تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِك وَأما قَوْله عِلّة كل شئ صنعه وَلَا عِلّة لصنعه فقد تقدم أَن هَذَا يُرِيد بِهِ أهل الْحق مَعْنَاهُ الصَّحِيح أَن الله سُبْحَانَهُ لَا يَبْعَثهُ ويدعوه إِلَى الْفِعْل شئ خَارج عَنهُ كَمَا يكون مثل ذَلِك للمخلوقين فَلَيْسَ لَهُ عِلّة غَيره بل فعله عِلّة كل شئ مَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن ومقصود أَبى الْقَاسِم يبين أَن الْقَوْم لم يَكُونُوا على رأى الْقَدَرِيَّة من الْمُعْتَزلَة وَهَذَا حق فَمَا نعلم فى الْمَشَايِخ المقبولين فى الْأمة من كَانَ على رأى الْمُعْتَزلَة لَا فِي قَوْلهم فِي الصِّفَات بقول جهم وَلَا فِي قَوْلهم فِي الْأَفْعَال بقول الْقَدَرِيَّة بل هم أعظم النَّاس إِثْبَاتًا للقدر وشهودا لَهُ

وافتقارا إِلَى الله والتجاء إِلَيْهِ حَتَّى أَن من المنتسبين إِلَى الطَّرِيق من غلوا فِي هَذَا حَتَّى يذهب إِلَى الْإِبَاحَة والجبر ويعرض عَن الشَّرْع وَالْأَمر والنهى فَهَذِهِ الآفة تُوجد كثيرا فِي المتصوفة والمتفقرة وَأما التَّكْذِيب بِالْقدرِ فقليل فيهم جدا ثمَّ ذكر عَنْهُم فِي الْإِيمَان كَلِمَتَيْنِ يدل بهما على أَن الْإِيمَان عِنْدهم مُجَرّد التَّصْدِيق وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَب الْقَوْم بل الَّذِي حَكَاهُ عَن الْجُنَيْد فَقَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد التَّوْحِيد علمك وإقراراك بِأَن الله فَرد فِي أزليته لَا ثَانِي مَعَه وَلَا شئ يفعل فعله وَقَالَ أَبُو عبد الله بن خَفِيف الْإِيمَان تَصْدِيق الْقُلُوب بِمَا أعمله الْحق من الغيوب وَهَذَا الْمَذْكُور عَن الْجُنَيْد وَابْن خَفِيف حسن وصواب لَكِن لم يدل على أَن أَعمال الْقُلُوب لَيست من الْإِيمَان ثمَّ ذكر عَنْهُم فِي مَسْأَلَة الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِيمَان شَيْئا حسنا فَقَالَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس السيارى عطاؤه على نَوْعَيْنِ كَرَامَة واستدارج فَمَا

أبقاه عَلَيْك فَهُوَ كَرَامَة وَمَا أزاله عَنْك فَهُوَ اسْتِدْرَاج فَقل أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَالَ ابو الْعَبَّاس السياري كَانَ شيخ وقته وَقَالَ سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا على الدقاق يَقُول غمز رجل رجل أَبى الْعَبَّاس السياري فَقَالَ تغمز رجلا مَا نقلتها قطّ فِي مَعْصِيّة الله تَعَالَى قَالَ وَقَالَ أَبُو بكر الواسطى من قَالَ أَنا مُؤمن بِاللَّه حَقًا قيل لَهُ الْحَقِيقَة تُشِير إِلَى إشراف واطلاع وإحاطة فَمن فَقده فقد بَطل دَعْوَاهُ مِنْهَا قَالَ أَبُو الْقَاسِم يُرِيد بذلك مَا قَالَه أهل السّنة من أَن الْمُؤمن الْحَقِيقِيّ من كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْجنَّةِ فَمن لم يعلم ذَلِك من سر حِكْمَة الله تَعَالَى فدعواه بِأَنَّهُ مُؤمن حَقًا غير صَحِيحَة قلت الِاسْتِثْنَاء فِي الايمان سنة عِنْد عَامَّة أهل السّنة وَقد ذكره

طَائِفَة من المرجئة وَغَيرهم وأوجبه كثير من أهل السّنة وَمن وجوهه وَجْهَان حسنان أَحدهمَا أَن الْإِيمَان الَّذِي أوجبه الله على العَبْد من الامور الْبَاطِنَة اَوْ الظَّاهِرَة لَا يتَيَقَّن أَنه أَتَى بهَا على الْوَجْه الَّذِي أَمر بِهِ كَامِلا بل قد يكون أخل بِبَعْضِه فيستثنى لذَلِك وَالْوَجْه الثَّانِي ان الْمُؤمن الْمُطلق من علم الله أَنه يوافى بِالْإِيمَان فَأَما الْإِيمَان الَّذِي تتعقبه الرِّدَّة فَهُوَ بَاطِل كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاة الَّذِي يبطل قبل فَرَاغه فَلَا يعلم العَبْد أَنه مُؤمن حَتَّى يقْضى جَمِيع إيمَانه وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بِالْمَوْتِ وَهَذَا معنى مَا يرْوى عَن ابْن مَسْعُود أَنه قيل لَهُ إِن فلَانا يَقُول إِنَّه مُؤمن قَالَ فَقولُوا لَهُ اهو فِي الْجنَّة فَقَالَ الله أعلم قَالَ فَهَلا وكلت الاولى كَمَا وكلت الثَّانِيَة وَهَذَا الْوَجْه تختاره طَائِفَة من متكلمي أهل الحَدِيث المائلين إِلَى الإرجاء كالأشعري وَغَيره مِمَّن يَقُول بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يدْخل الاعمال فِي مُسَمّى الايمان فَيجْعَل الاسثثناء يعود إِلَّا إِلَى النوايا فَقَط وَهُوَ الَّذِي ذكره أَبُو الْقَاسِم وَفسّر بِهِ كَلَام أبي بكر الوَاسِطِيّ وَكَلَام الوَاسِطِيّ يحْتَمل الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَإِن الإشراف والاطلاع قد يكون على الْحَقِيقَة الَّتِي هِيَ عِنْد الله فِي هَذَا الْوَقْت وَقد يكون على مَا يوافى بِهِ العَبْد وَأما كَلَام أبي الْعَبَّاس فَظَاهر فِي أَنه رَاعى الخاتمة

فَإِن قيل فَإِذا كَانَ الْقدر السَّابِق لَا ينافى الْأَسْبَاب فَمَا وَجه مَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قلت يَا رَسُول الله إِنِّي رجل شَاب وَأَنا أَخَاف على نَفسِي الْعَنَت وَلَا أجد مَا أَتزوّج بِهِ النِّسَاء فَسكت عني ثمَّ قلت مثل ذَلِك فَسكت عني ثمَّ قلت مثل ذَلِك فَسكت عني ثمَّ قلت مثل ذَلِك فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أَبَا هُرَيْرَة جف الْقَلَم بِمَا أَنْت لَاق فاختص على ذَلِك أَو دع فَهَذَا يقتضى أَن اختصاءه الَّذِي قصد أَن يمْتَنع بِهِ من الْفَاحِشَة لَا يدْفع الْمَقْدُور وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنهم سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْعَزْل فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا عَلَيْكُم أَن تَفعلُوا فَمَا من نسمَة كتب الله أَن تكون إِلَّا وَهِي كائنة فَهَذَا

يقتضى ان عزل المَاء وَهُوَ سَبَب لعدم الْعلُوق لَا فَائِدَة فِيهِ لدفع مَا كتبه الله من الاولاد وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس وَهُوَ فِي مُسلم عَن عمرَان بن حُصَيْن وَهَذَا لَفظه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يدْخل الْجنَّة من أمتِي سَبْعُونَ ألفا بِغَيْر حِسَاب قَالَ وَمن هم يَا رَسُول الله قَالَ هم الَّذين لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يسْتَرقونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ فَقَالَ عكاشة ادْع الله يَجْعَلنِي مِنْهُم قَالَ أَنْت مِنْهُم فَقَامَ رجل فَقَالَ يَا نَبِي الله ادْع الله ان يَجْعَلنِي مِنْهُم فَقَالَ سَبَقَك بهَا عكاشة فقد جعل التَّوَكُّل هَا هُنَا مُوجبا لترك الاكتواء والاسترقاء وهما من الْأَسْبَاب وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ قَالَت ام حَبِيبَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ امتعنى بزوجي رَسُول الله وبأبي أبي سُفْيَان وبأخي مُعَاوِيَة قَالَ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد سَأَلت الله لآجال مَضْرُوبَة وَأَيَّام مَعْدُودَة وأرزاق مقسومة لن يعجل الله

شَيْئا قبل أَجله وَلنْ يُؤَخر شَيْئا عَن أَجله وَلَو كنت سَأَلت الله أَن يعيذك من عَذَاب فِي النَّار أَو عَذَاب فِي الْقَبْر كَانَ خيرا وَأفضل قَالَ وَذكرت عِنْده القردة والخنازير هِيَ من مسخ فَقَالَ إِن الله لم يَجْعَل لمسخ نَسْلًا وَلَا عقبا وَقد كَانَت القردة والخنازير قبل ذَلِك وَفِي رِوَايَة قَالَ رجل يَا رَسُول الله القردة والخنازير هِيَ مِمَّا مسخ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله لم يهْلك قوما أَو يعذب قوما فَيجْعَل لَهُم نَسْلًا فَهَذَا الحَدِيث أخبر فِيهِ أَن الدُّعَاء وَهُوَ من الْأَسْبَاب لَا يُفِيد فِي إطالة الْأَعْمَار ويفيد فِي النجَاة من عَذَاب الْآخِرَة قيل لَيْسَ كل مَا يَظُنّهُ الْإِنْسَان سَببا يكون سَببا وَلَيْسَ كل سَبَب مُبَاحا فِي الشَّرِيعَة بل قد تكون مضرته أعظم من منفعَته فينتهي عَنهُ وَلَيْسَ كل سَبَب مَقْدُورًا للْعَبد فَالْعَبْد يُؤمر بِالسَّبَبِ الَّذِي أحبه الله وَيُؤذن لَهُ فِيمَا أذن الله فِيهِ مَعَ أمره بالتوكل على الله تَعَالَى فَأَما مَا لَا قدرَة لَهُ فِيهِ فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّوَكُّل على الله وَالدُّعَاء لَهُ وَذَلِكَ من أعظم الْأَسْبَاب الَّتِي يُؤمر بهَا العَبْد أَيْضا وَمَا كَانَ من الْأَسْبَاب محرما لرجحان فَسَاده على صَلَاحه أَو غير

نَافِع لَا يُفِيد بل يظنّ أَنه نَافِع فَإِنَّهُ لَا يُؤمر بِهِ أَيْضا فَلَا يُؤمر بِمَا لَا فَائِدَة فِيهِ وَمَا كَانَ فَسَاده راجحا نهى عَنهُ وجماع الْأَمر أَن الْأَسْبَاب إِمَّا أَن تكون مقدورة أَو غير مقدورة فَغير الْمَقْدُور لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الدُّعَاء والتوكل والمقدور إِمَّا أَن يكون فَسَاده راجحا أَو لَا يكون فَإِن كَانَ فَسَاده راجحا نهى عَنهُ وَإِن لم يكن فَسَاده راجحا فينهى عَنهُ كَمَا ينْهَى عَن إِضَاعَة المَال والعبث وَأما السَّبَب الْمَقْدُور النافع مَنْفَعَة راجحة فَهُوَ الَّذِي ينفع وَيُؤمر فقه بِهِ وَينْدب اليه الْأَحَادِيث وايضا فينبغى أَن التَّوَكُّل على الله من أعظم الْأَسْبَاب فَرُبمَا كَانَ بعض الْأَسْبَاب يضعف التَّوَكُّل فَإِذا ترك ذَلِك كمل توكله فَهَذَا التَّقْسِيم حاصر وَالْقدر يأتى على جَمِيع الكائنات وَبِهَذَا يتَبَيَّن فقه الْأَحَادِيث أما حَدِيث الاختصاء فَإِن الاختصاء محرم لرجحان مفسدته وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ قَالَ زجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عُثْمَان بن مَظْعُون عَن التبتل وَلَو أذن لاختصينا

وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه مَعَ ركُوب الاختصاء الْمحرم لَا يسلم من الزِّنَا بل لَا بُد أَن يفعل مَا كتب عَلَيْهِ مِنْهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ كتب الله على ابْن آدم حَظه من الزِّنَا فَهُوَ مدرك ذَلِك لَا محَالة فالعينان تزنيان وزناهما النّظر وَاللِّسَان يَزْنِي وزناه الْمنطق والأذنان تزنيان وزناهما الِاسْتِمَاع وَالْيَد تَزني وزناها الْبَطْش وَالرجل تَزني وزناها الخطا وَالنَّفس تتمنى والفرج يصدق ذَلِك أَو يكذبهُ وَأما حَدِيث الْعَزْل فالعزل لَا يمْنَع انْعِقَاد الْوَلَد وَلَا تَركه يُوجب الْولادَة وَلِهَذَا لَو عزل عَن سريته وَأَتَتْ بِولد ألحق بِهِ فَإِن المَاء سباق مَعَ مَا فِيهِ من ترك لَذَّة الْجِمَاع فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن الْوَلَد الْمَكْتُوب يكون عزلت أَو لم تعزل كَمَا قَالَ لَيْسَ من كل المَاء يكون الْوَلَد فَلَا يكون ترك الْعَزْل سَببا للولادة وَلَا الْعَزْل

سَببا لمنعها وَالْقدر مَاض بالأمرين فَلَا فَائِدَة فِيهِ وَمثل هَذَا مَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه نهى عَن النّذر وَقَالَ لَا يَأْتِي بِخَير وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل فَأخْبر أَن النّذر لَيْسَ من الْأَسْبَاب الَّتِي تجتلب بهَا الْمَنْفَعَة وتدفع بهَا الْمضرَّة وَلَكِن نلقيه إِلَى مَا قدر لَهُ فَنهى عَنهُ لعدم فَائِدَته وَأما حَدِيث السّبْعين ألفا فَلم يصفهم بترك سَائِر التطبب وَإِنَّمَا وَصفهم بترك الاكتواء والاسترقاء والاكتواء مَكْرُوه وَقد نهى عَنهُ فِي غير هَذَا الحَدِيث لما قَالَ وَأَنا أنهى أمتِي عَن الكى والمسترقى لم يفعل شَيْئا إِلَّا اعْتِمَاده على الراقى فتوكله على الله سُبْحَانَهُ وَحده لَا شريك لَهُ أَنْفَع لَهُ من ذَلِك وَهَذَا الْجَواب الآخر وَهُوَ ان المسترقى يضعف توكله على الله فَإِنَّهُ

إِنَّمَا طلب دُعَاء الْغَيْر ورقيته فاعتماد قلبه على الله وَحده وتوكله عَلَيْهِ أكمل لإيمانه وأنفع لَهُ وَأما حَدِيث أم حَبِيبَة فَفِيهِ أَن الدُّعَاء يكون مَشْرُوعا نَافِعًا فِي بعض الْأَشْيَاء دون بعض وَكَذَلِكَ هُوَ وَلِهَذَا لَا يحب الله الْمُعْتَدِينَ فِي الدُّعَاء فالاعمار الْمقدرَة لم يشرع الدُّعَاء بتغييرها بِخِلَاف النجَاة من عَذَاب الْآخِرَة فَإِن الدُّعَاء مَشْرُوع لَهُ نَافِع فِيهِ وَقد كتبت مَسْأَلَة زِيَادَة الْعُمر بصلَة الرَّحِم فِي غير هَذَا الْموضع وَلَا يلْزم من تَأْثِير صلَة الرَّحِم وَنَحْو ذَلِك أَن يزِيد الْعُمر كَمَا قد يُقَال بِزِيَادَة الْعُمر بتأثير الدُّعَاء وَلذَلِك كَانَ يكره أَحْمد أَن يدعى لَهُ بطول الْعُمر وَيَقُول هَذَا فرغ مِنْهُ ثمَّ ذكر مَا جَاءَ فِي الرُّؤْيَة قَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السلمى رَحمَه الله يَقُول سَمِعت مَنْصُور بن عبد الله يَقُول سَمِعت أَبَا الْحسن العنبرى يَقُول سَمِعت سهل

ابْن عبد الله التسترى يَقُول ينظر إِلَيْهِ [تَعَالَى] الْمُؤْمِنُونَ بأبصار من غير إحطة وَلَا إِدْرَاك نِهَايَة وَهَذَا الْكَلَام من أحسن الْكَلَام وَكَلَام سهل بن عبد الله فِي السّنة وأصول الاعتقادات أَسد وأصوب من كَلَام غَيره وَكَذَلِكَ الفضيل ابْن عِيَاض وَنَحْوه فَإِن الَّذين كَانُوا من الْمَشَايِخ أعلم بِالْحَدِيثِ وَالسّنة وَاتبع لذَلِك هم أعظم علما وإيمانا وَأجل قدرا فِي ذَلِك من غَيرهم وَقَول سهل وَلَا إِدْرَاك نِهَايَة يتَضَمَّن شَيْئَيْنِ أَحدهمَا نفى الْإِدْرَاك الَّذِي نَفَاهُ الله عَنهُ يجمع بَين مَا أثْبته الْكتاب وَالسّنة وَمَا نَفَاهُ وَالثَّانِي أَنه نفى إِدْرَاك النِّهَايَة وَلم ينف نفس النِّهَايَة وَهَذَا فِي الظَّاهِر يُخَالف قَول أبي الْقَاسِم لَا حد لذاته ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم قَالَ أَبُو الْحُسَيْن النوري شَاهد الْحق الْقُلُوب فَلم ير قلبا أشوق إِلَيْهِ من قلب مُحَمَّد ص فَأكْرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة وقصده بِهَذِهِ الْحِكَايَة إِثْبَات رُؤْيَة مُحَمَّد ص ربه لَيْلَة الْمِعْرَاج وَهَذَا هُوَ قَول أَكثر أهل السّنة [أَنه رأى ربه بفؤاده]

ثمَّ ذكر مَا جَاءَ فِي الْعُلُوّ فَقَالَ سَمِعت الإِمَام أَبَا بكر مُحَمَّد بن الْحسن بن فورك يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن المحبوب خَادِم أبي عُثْمَان المغربي يَقُول قَالَ لي أَبُو عُثْمَان المغربي يَوْمًا يَا مُحَمَّد لَو قيل لَك أَيْن معبودك إيش تَقول قلت أَقُول حَيْثُ لم يزل قَالَ فَإِن قَالَ فَأَيْنَ كَانَ فِي الْأَزَل إيش تَقول قلت أَقُول حَيْثُ هُوَ الْآن قَالَ يعْنى أَنه كَانَ وَلَا مَكَان فَهُوَ الْآن على مَا عَلَيْهِ كَانَ فارتضى منى ذَلِك وَنزع قَمِيصه وأعطانيه وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت أَبَا بكر بن فورك يَقُول سَمِعت أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول كنت أعتقد شَيْئا من حَدِيث الْجِهَة فَلَمَّا قدمت

بَغْدَاد زَالَ ذَلِك عَن قلبِي فَكتبت إِلَى أَصْحَابنَا بِمَكَّة أَنى أسلمت الْآن إسلاما جَدِيدا قلت هَذَا الْكَلَام الَّذِي ذكره عَن أبي عُثْمَان كَلَام مُجمل لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على انه كَانَ يَقُول لَيْسَ فَوق السَّمَاوَات رب وَلَا هُنَاكَ إِلَه كَمَا يَقُول من يَقُول إِن الله لَيْسَ فَوق الْعَرْش وَقد يعبر عَن ذَلِك بَعضهم بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجِهَة بل إِقْرَاره لِخَادِمِهِ على جَوَاب السَّائِل لَهُ أَيْن معبودك يُخَالف مَا ذكره أَبُو الْقَاسِم الَّذِي قَالَ فِي خطْبَة كِتَابه تَعَالَى عَن ان يُقَال كَيفَ هُوَ أَو أَيْن هُوَ فَلَو أَرَادَ مَا ذكره أَبُو الْقَاسِم لقَالَ لَا يُقَال أَيْن هُوَ بل قَالَ حَيْثُ لم يزل وَهَذَا لَا يُوَافق قَول من يَقُول لَيْسَ بداخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا هُوَ فَوق الْعَرْش وَلَا فِي جِهَة لِأَن قَوْله حَيْثُ لم يزل إخْبَاره بِأَنَّهُ حَيْثُ لم يزل وَحَيْثُ ظرف من ظروف الْمَكَان لَا يُطلق إِلَّا على الْجِهَة والحيز وَعند النفاة لَا يُقَال حَيْثُ لم يزل وَلَا كَانَ فِي الْأَزَل بِحَيْثُ وَكَذَلِكَ قَوْله فَإِن قَالَ فَأَيْنَ كَانَ فِي الْأَزَل فَقَالَ اقول حَيْثُ الْآن لَا يَسْتَقِيم عِنْد من ينفى الْجِهَة فَإِنَّهُ لَا يُقَال أَيْن كَانَ فِي الْأَزَل وَلَا يُقَال حَيْثُ الْآن بل هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب

مُمْتَنع عِنْدهم وَإِن كَانُوا فِي ذَلِك مخالفين للنصوص وَإِجْمَاع السّلف وأئمة الدّين فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ بأين فَقَالَ أَيْن الله فَقَالَ لَهُ الْمَسْئُول فِي السَّمَاء فَحكم بأيمان من قَالَ ذَلِك وَكَذَلِكَ سُئِلَ فَقيل لَهُ أَيْن كَانَ رَبنَا قبل ان يخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فَأجَاب عَن ذَلِك وَلَكِن جَوَاب أَبى عُثْمَان يُوَافق قَول أهل الْإِثْبَات وهم أهل الْفطْرَة الْعَقْلِيَّة السليمة من الاولين والآخرين الَّذين يَقُولُونَ إِنَّه فَوق الْعَالم إِذْ الْعلم بذلك فطرى عقلى ضَرُورِيّ لَا يتَوَقَّف على سمع أما الْعلم بِأَنَّهُ اسْتَوَى على الْعَرْش بعد ان خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام فَهَذَا سَمْعِي إِنَّمَا علم من جِهَة أَخْبَار الْأَنْبِيَاء وَلِهَذَا شرع الله تَعَالَى لأهل الْملَل الِاجْتِمَاع كل أُسْبُوع يَوْمًا وَاحِدًا ليَكُون الْأُسْبُوع الدائر دَلِيلا على الْأُسْبُوع الَّذِي خلق الله فِيهِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش وَلِهَذَا لَا يعرف الْأُسْبُوع إِلَّا من جِهَة أهل الْكتب الإلهية بِخِلَاف الْيَوْم فَإِنَّهُ مَعْلُوم بالحس وَكَذَلِكَ الشَّهْر وَالسّنة يعلم بالحس وسيرالقمر فَيعلم بالحس والحساب وَأما الْأُسْبُوع فَلَيْسَ لَهُ سَبَب حسى وَكَذَلِكَ لَا يُوجد لأيام الْأُسْبُوع ذكر عِنْد الْأُمَم الَّذين لَا كتاب لَهُم وَلَا أخذُوا عَن أهل الْكتب كالترك البَاقِينَ فِي بواديهم فِي لغتهم اسْم الْيَوْم والشهر وَالسّنة دون أَيَّام الْأُسْبُوع

بِخِلَاف الْفرس وَنَحْوهم مِمَّن أَخذ عَن الْمُرْسلين فَإِن فِي لغتهم أَيَّام الْأُسْبُوع وَأهل الْإِثْبَات منازعون فِي أَن الاسْتوَاء هَل هُوَ مُجَرّد نِسْبَة وَإِضَافَة بَين الله وَبَين الْعَرْش من غير أَن يكون الْبَارِي تصرف بِنَفسِهِ بصعود أَو علو وَنَحْو ذَلِك أَو هُوَ يتَصَرَّف بِنَفسِهِ وَأَنه اسْتَوَى على الْعَرْش بعد أَن لم يكن مستويا وَكَذَلِكَ استواؤه إِلَى السَّمَاء ونزوله وَنَحْو ذَلِك عَن قَوْلَيْنِ مشهورين وَالْأول قَول كثير مِمَّن يمِيل إِلَى الْكَلَام وَقَول طَائِفَة من الْفُقَهَاء والصوفية وَالثَّانِي قَول أهل الحَدِيث وَقَول كثير من أهل الْكَلَام وَالْفُقَهَاء والصوفية فَكَلَام أبي عُثْمَان ظَاهِرَة يُوَافق القَوْل الأول وَأما الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدهُ فِي الْجِهَة ثمَّ رَجَعَ عَنهُ فَهُوَ أَمر مُجمل لم يذكرهُ فَلَعَلَّهُ كَانَ يعْتَقد من التجسيم والتمثيل مَا يَقُوله أهل الضلال من الرافضة والمجسمة فَرجع عَن ذَلِك فَإِن هَذَا مُمكن وَلَعَلَّه كَانَ يعْتَقد أَن البارى تَعَالَى

مَحْصُور فِي السَّمَوَات تظله وتقره وَأَنه مفتقر إِلَى عرش يحملهُ فَرجع عَن ذَلِك وَأعظم مَا يُقَال إِنَّه كَانَ يعْتَقد أَن الاسْتوَاء من الصِّفَات الفعلية المتجددة أَنه يَفْعَله بِنَفسِهِ ثمَّ رَجَعَ عَن ذَلِك إِلَى أَنه على مَا كَانَ عَلَيْهِ مَعَ كَونه مستويا على الْعَرْش لكنه خلق الْعَرْش بعد أَن لم يكن مخلوقا فَيلْزم أَن يكون مَوْصُوفا بِأَنَّهُ فَوق الْعَرْش وَهَذَا يَقُوله كثير من المثبتة وَإِن كَانَ هَذَا لَيْسَ مَوضِع الْكَلَام فِيهِ فَأَما أَن يُقَال إِن أَبَا عُثْمَان رَجَعَ عَن اعْتِقَاد علو الله على خلقه وَأَنه سُبْحَانَهُ بَائِن عَن مخلوقاته عَال عَلَيْهِم فَلَيْسَ فِي كَلَامه مَا يفهم مِنْهُ ذَلِك بِحَال ثمَّ لَو فرض أَن أَبَا عُثْمَان قَالَ قولا فِيهِ غلط لم يصلح أَن يَجْعَل ذَلِك أصلا لاعتقاد الْقَوْم فَإِن كَلَام أَئِمَّة الْمَشَايِخ الْمُصَرّح بِأَن الله فَوق الْعَرْش كثير منتشر فَإِذا وجد عَن بَعضهم مَا يُخَالف ذَلِك كَانَ ذَلِك خلافًا لَهُم والصوفية يُوجد فيهم الْمُصِيب والمخطئ كَمَا يُوجد فِي غَيرهم وَلَيْسوا فِي ذَلِك بِأَجل من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلَيْسَ أحد مَعْصُوما فِي كل مَا يَقُوله إِلَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعم وُقُوع الْغَلَط فِي مثل هَذَا يُوجب مَا نقُوله دَائِما إِن الْمُجْتَهد فِي

مثل هَذَا من الْمُؤمنِينَ إِن استفرغ وَسعه فِي طلب الْحق فَإِن الله يغْفر لَهُ خطأه وَإِن حصل مِنْهُ نوع تَقْصِير فَهُوَ ذَنْب لَا يجب ان يبلغ الْكفْر وَإِن كَانَ يُطلق القَوْل بِأَن هَذَا الْكَلَام كفر كَمَا أطلق السّلف الْكفْر على من قَالَ بِبَعْض مقالات الْجَهْمِية مثل القَوْل بِخلق الْقُرْآن أَو إِنْكَار الرُّؤْيَة أَو نَحْو ذَلِك مِمَّا هُوَ دون إِنْكَار علو الله على الْخلق وَأَنه فَوق الْعَرْش فَإِن تَكْفِير صَاحب هَذِه الْمقَالة كَانَ عِنْدهم من أظهر الْأُمُور فَإِن التَّكْفِير الْمُطلق مثل الْوَعيد الْمُطلق لَا يسْتَلْزم تَكْفِير الشَّخْص الْمعِين حَتَّى تقوم عَلَيْهِ الْحجَّة الَّتِي تكفر تاركها كَمَا ثَبت فِي الصِّحَاح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرجل الَّذِي قَالَ إِذا أَنا مت فأحرقوني ثمَّ استحقوني ثمَّ ذروني فِي اليم فوَاللَّه لَئِن قدر الله على ليعذبني عذَابا لَا يعذبه أحدا من الْعَالمين فَقَالَ الله لَهُ مَا حملك على مَا فعلت قَالَ خشيتك فغفر لَهُ فَهَذَا الرجل اعْتقد أَن الله لَا يقدر على جمعه إِذا فعل ذَلِك أَو شكّ وَأَنه لَا يَبْعَثهُ وكل من هذَيْن الاعتقادين كفر يكفر من

قَامَت عَلَيْهِ الْحجَّة لكنه كَانَ يجهل ذَلِك وَلم يبلغهُ الْعلم بِمَا يردهُ عَن جَهله وَكَانَ عِنْده إِيمَان بِاللَّه وبأمره وَنَهْيه ووعده ووعيده فخاف من عِقَابه فغفر الله لَهُ بخشيته فَمن أَخطَأ فِي بعض مسَائِل الِاعْتِقَاد من أهل الْإِيمَان بِاللَّه وبرسوله وباليوم الآخر وَالْعَمَل الصَّالح لم يكن أَسْوَأ حَالا من الرجل فَيغْفر الله خطأه أَو يعذبه إِن كَانَ مِنْهُ تَفْرِيط فِي اتِّبَاع الْحق على قدر دينه وَأما تَكْفِير شخص علم إيمَانه بِمُجَرَّد الْغَلَط فِي ذَلِك فعظيم فقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن ثَابت بن الضَّحَّاك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعن الْمُؤمن كقتله وَمن رمى مُؤمنا بالْكفْر فَهُوَ كقتله وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن من قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِر فقد بَاء بِهِ أَحدهمَا وَإِذا كَانَ تَكْفِير الْمعِين على سَبِيل الشتم كقتله فَكيف

يكون تكفيره على سَبِيل الِاعْتِقَاد فَإِن ذَلِك أعظم من قَتله إِذْ كل كَافِر يُبَاح قَتله وَلَيْسَ كل من أُبِيح قَتله يكون كَافِرًا فقد يقتل الدَّاعِي إِلَى ى بِدعَة لإضلاله النَّاس وإفساده مَعَ إِمْكَان أَن الله يغْفر لَهُ فِي الْآخِرَة لما مَعَه من الْإِيمَان فَإِنَّهُ قد تَوَاتَرَتْ النُّصُوص بِأَنَّهُ يخرج من النَّار من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان وَقد رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ بَينا جِبْرِيل قَاعِدا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سمع نقيضا من فَوْقه فَرفع رَأسه فَقَالَ هَذَا بَاب من السَّمَاء فتح الْيَوْم لم يفتح قطّ إِلَّا الْيَوْم فَنزل مِنْهُ ملك فَقَالَ هَذَا ملك نزل إِلَى الأَرْض لم ينزل قطّ إِلَّا الْيَوْم فَسلم وَقَالَ أبشر بنورين أُوتِيتهُمَا لم يؤتهما نَبِي قبلك فَاتِحَة الْكتاب وخواتيم سُورَة الْبَقَرَة لن تقْرَأ بِحرف مِنْهُمَا إِلَّا أَعْطيته وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لما نزلت وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله [سُورَة الْبَقَرَة 284] دخل فِي قُلُوبهم مِنْهَا شئ لم يدْخل قُلُوبهم من شئ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُولُوا سمعنَا وأطعنا قَالَ فَألْقى الله الايمان فِي قُلُوبهم فَأنْزل الله لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا لَهَا مَا كسبت

وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا [سُورَة الْبَقَرَة 286] قَالَ قد فعلت وَكَلَام الْمَشَايِخ فِي مَسْأَلَة الْعُلُوّ كثير مثل مَا ذكر مُحَمَّد بن طَاهِر الْمَقْدِسِي الْحَافِظ الصُّوفِي الْمَشْهُور الَّذِي صنف للصوفية كتاب صفة التصوف وَمَسْأَلَة السماع وَغير ذَلِك ذكر عَن الشَّيْخ الْجَلِيل أبي جَعْفَر الْهَمدَانِي أَنه حضر مجْلِس أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَهُوَ يَقُول كَانَ الله وَلَا عرش وَهُوَ على مَا عَلَيْهِ كَانَ أَو كلَاما من هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ يَا شيخ دَعْنَا من ذكر الْعَرْش أخبرنَا عَن هَذِه الضَّرُورَة الَّتِي نجدها فِي قُلُوبنَا فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِف قطّ يَا الله إِلَّا وجد من قلبه ضرورو بِطَلَب الْعُلُوّ وَلَا يلْتَفت يمنة ولايسرة فَكيف ندفع هَذِه الضَّرُورَة عَن قُلُوبنَا قَالَ فَصَرَخَ أَبُو المعالى وَلَطم على رَأسه وَقَالَ حيرني الهمدانى حيرني الْهَمدَانِي

وَقَالَ الإِمَام الْعَارِف معمر بن أَحْمد الاصبهاني شيخ الصُّوفِيَّة فِي أَوَاخِر الْمِائَة الرَّابِعَة قبل الْقشيرِي فِي رِسَالَة لَهُ أَحْبَبْت أَن أوصى أَصْحَابِي بِوَصِيَّة من السّنة وموعظة من الْحِكْمَة وَأجْمع مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل الحَدِيث والأثر وَأهل الْمعرفَة والتصوف من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين قَالَ فِيهَا اوإن الله اسْتَوَى على عَرْشه بِلَا كَيفَ وَلَا تَشْبِيه وَلَا تَأْوِيل والاستواء مَعْقُول والكيف فِيهِ مَجْهُول وَأَنه عز وَجل مستو على عَرْشه بَائِن من خلقه والخلق بائنون مِنْهُ بِلَا حُلُول وَلَا ممازجة وَلَا اخْتِلَاط وَلَا ملاصقة لِأَنَّهُ الْفَرد الْبَائِن من الْخلق الْوَاحِد الْغَنِيّ عَن الْخلق وَأَن الله سميع بَصِير عليم خَبِير يتَكَلَّم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لِعِبَادِهِ يَوْم الْقِيَامَة ضَاحِكا وَينزل كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا كَيفَ شَاءَ فَيَقُول هَل من دَاع فآستجيب لَهُ هَل من مُسْتَغْفِر فآستغفر لَهُ هَل من تائب فأتوب عَلَيْهِ حَتَّى يطلع الْفجْر ونزول الرب إِلَى

السَّمَاء بِلَا كَيفَ وَلَا تَشْبِيه وَلَا تَأْوِيل فَمن أنكر النُّزُول أَو تَأَول فَهُوَ مُبْتَدع ضال ثمَّ ذكر كَلَامهم فِي الْقدر قَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت مُحَمَّد ابْن الْحُسَيْن السلمى يَقُول سَمِعت أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول وَقد سُئِلَ عَن الْخلق فَقَالَ قوالب وأشباح تجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَام الْقُدْرَة قَالَ وَقَالَ الوَاسِطِيّ لما كَانَت الْأَرْوَاح والأجساد قامتا بِاللَّه وظهرتا بِهِ لَا بذواتها كَذَلِك قَامَت الخطرات والحركات بِاللَّه لَا بذواتها إِذْ الخطرات والحركات فروع جساد والأرواح قَالَ أَبُو الْقَاسِم صرح بِهَذَا الْكَلَام أَن أكساب الْعباد مخلوقة لله وكما أَنه لَا خَالق للجواهر إِلَّا الله فَكَذَلِك لَا خَالق للأعراض إِلَّا الله وَهَذَا الَّذِي قَالَه صَحِيح وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْمَشَايِخ لَا يعرف مِنْهُم من أنكر شَيْئا من أصُول السّنة فِي مسَائِل الْقدر

وَقَالَ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السَّامِي يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الله سَمِعت أَبَا جَعْفَر الصيدلاني سَمِعت أَبَا سعيد الخراز يَقُول من ظن أَنه ببذل الْجهد يصل فمتعن وَمن ظن أَنه بِغَيْر الْجهد يصل فمتمن وَهَذَا كَلَام حسن كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح احرص على مَا ينفعك واستعن بِاللَّه وَلَا تعجز وَإِن أَصَابَك شئ فَلَا تقل لَو أَنِّي فعلت كَذَا وَكَذَا وَلَكِن قل مَا قدر الله وَمَا شَاءَ فعل فَإِن اللو تفتح عمل الشَّيْطَان وَقَالَ لن يدْخل أحدا عمله الْجنَّة قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله بفضله وَرَحمته

ثمَّ قَالَ وَقَالَ الوَاسِطِيّ المقامات أَقسَام قسمت ونعوت أجريت كَيفَ تستجلب بحركات أَو تنَال بسعايات وَهَذَا الْكَلَام الظَّاهِر لَيْسَ بجيد بل هُوَ مَرْدُود وَهَذِه الْمَسْأَلَة بِعَينهَا سُئِلَ عَنْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ثَبت عَنهُ فِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن وعَلى ابْن أبي طَالب وَغَيرهمَا لما أخبر بِالْقدرِ فَقَالُوا أَلا نَدْعُو الْعَمَل ونتكل على الْكتاب فَقَالَ لَا اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَليّ بن ابي طَالب قَالَ كُنَّا فِي جَنَازَة فِي بَقِيع الْغَرْقَد فَأَتَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقعدَ وقعدنا حوله وَمَعَهُ مخصرة فَنَكس وَجعل ينكت بمخسرته ثمَّ قَالَ مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَقد كتب مَقْعَده من النَّار ومقعده من الْجنَّة

فَقَالُوا يَا رَسُول الله أَفلا نَتَّكِل على كتَابنَا فَقَالَ اعْمَلُوا فَكل ميسر لما خلق لَهُ أما من كَانَ من أهل السَّعَادَة فسيصير لعمل السعاده واما من كَانَ من أهل الشَّقَاء فسيصير لعمل الشِّفَاء ثمَّ قَرَأَ فَأَما من أعْطى وَاتَّقَى وَصدق بِالْحُسْنَى فسنيسره لليسرى [سُورَة اللَّيْل 6] وَفِي الصَّحِيح عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ قَالَ رجل يَا رَسُول الله أيعرف أهل الْجنَّة من أهل النَّار قَالَ نعم قَالَ فَلم يعْمل الْعَامِلُونَ قَالَ كل يعْمل لما خلق لَهُ أَو لما يسر لَهُ وَفِي رِوَايَة كل ميسر لما خلق لَهُ وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أبي الْأسود الدئلي قَالَ قَالَ لي عمرَان بن حُصَيْن أَرَأَيْت مَا يعْمل النَّاس الْيَوْم ويكدحون فِيهِ أشئ

قضى عَلَيْهِم وَمضى عَلَيْهِم من قدر قد سبق أَو فِيمَا يستقبلون مِمَّا أَتَاهُم بِهِ نَبِيّهم وَثبتت الْحجَّة عَلَيْهِم فَقلت بل شئ قضى عَلَيْهِم وَمضى عَلَيْهِم قَالَ فَقَالَ أَفلا يكون ظلما قَالَ فَفَزِعت من ذَلِك فَزعًا شَدِيدا وَقلت كل شئ خلق الله وَملك يَده فَلَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون فَقَالَ لي يَرْحَمك الله إِنِّي لم أرد بِمَا سَأَلتك إِلَّا لأحزر عقلك إِن رجلَيْنِ من مزينة أَتَيَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَا يَا رَسُول الله أَرَأَيْت مَا يعْمل النَّاس الْيَوْم ويكدحون فِيهِ أشئ قضى عَلَيْهِم وَمضى فيهم من قدر قد سبق أَو فِيمَا يستقبلون مِنْهُ مِمَّا أَتَاهُم بِهِ نَبِيّهم وَثبتت الْحجَّة عَلَيْهِم قَالَ لَا بل شئ قضى عَلَيْهِم وَمضى فيهم وتصديق ذَلِك فِي كتاب الله وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها [سُورَة الشَّمْس 6 7] وَفِي السّنَن حَدِيث عمر أَنه سُئِلَ عَن تَفْسِير الْآيَة وَإِذ أَخذ

رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ [سُورَة الاعراف 172] قَالَ عمر رضى الله عَنهُ سَمِعت رَسُول ص يَقُول إِن الله خلق آدم ثمَّ مسح ظَهره بِيَمِينِهِ فأستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ [خلقت هَؤُلَاءِ للجنة وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ ثمَّ مسح ظَهره فأستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة فَقَالَ] خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ فَقَالَ رجل فَفِيمَ الْعَمَل يَا رَسُول الله فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله إِذا خلق العَبْد للنار اسْتَعْملهُ بِعَمَل اهل النَّار حَتَّى يَمُوت على عمل من أَعمال النَّار فَيدْخل بِهِ النَّار وَإِذا خلق العَبْد للجنة اسْتَعْملهُ بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى يَمُوت على عمل من أَعمال الْجنَّة فيدخله بِهِ الْجنَّة وَفِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر بن عبد الله قَالَ جَاءَ سراقَة بن مَالك بن جعْشم فَقَالَ يَا رَسُول الله بَين لنا ديننَا كأنا خلقنَا الْآن فيمَ الْعَمَل الْيَوْم أفيما جَفتْ بِهِ الأقلام وَجَرت بِهِ الْمَقَادِير أم فِيمَا

يسْتَقْبل قَالَ لَا بل فِيمَا جَفتْ بِهِ الأقلام وَجَرت بِهِ الْمَقَادِير قَالَ فَفِيمَ الْعَمَل فَقَالَ اعْمَلُوا فَكل ميسر وفى لفظ كل عَامل ميسر لعمله وَفِي السّنَن عَن ابْن أبي خزامة عَن أَبِيه قَالَ قلت يَا رَسُول الله أَرَأَيْت رقى نسترقيها ودواء نتداوى بِهِ وتقاة نتقيها هَل ترد من قدر الله شَيْئا قَالَ هِيَ من قدر الله فَهَذِهِ السّنَن وَغَيرهَا تبين أَن الله سُبْحَانَهُ وَإِن كَانَ قد تقدم علمه وكتابيه وَكَلَامه بِمَا سَيكون من السَّعَادَة والشقاوة فمما قدره أَن يكون ذَلِك بالأسباب الَّتِي قدرهَا فالسعادة بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة والشقاوة بِالْفُجُورِ وَكَذَلِكَ الشِّفَاء الَّذِي يقدره للْمَرِيض يقدره بالأدوية والرقى وَكَذَلِكَ سَائِر مَا يقدر من أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَقَوْل الْقَائِل كَيفَ تستجلب الْأَقْسَام بالحركات

جَوَابه ان الْأَقْسَام تناولت الحركات كَمَا تناولت السعادات وَالله تَعَالَى قدر ان يكون هَذَا بِهَذَا فَإِذا ترك العَبْد الْعَمَل ظَانّا أَن السَّعَادَة تحصل لَهُ كَانَ هَذَا التّرْك سَببا لكَونه من أهل الشقاوة وَهنا ضل فريقان فريق كذبُوا بِالْقضَاءِ وَالْقدر وَصَدقُوا بِالْأَمر والنهى وفريق آمنُوا بِالْقضَاءِ ولاقدر لَكِن قصروا فِي الْأَمر والنهى وَهَؤُلَاء شَرّ من الْأَوَّلين فَإِن هَؤُلَاءِ من جنس الْمُشْركين الَّذين قَالُوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا [سُورَة الْأَنْعَام 148] وَأُولَئِكَ من جنس الْمَجُوس لَكِن إِذا عَنى بِهَذَا الْكَلَام أَن العَبْد لَا يتكل على عمله وَلَا يظنّ أَنه ينجو بسعيه فَهَذَا معنى صَحِيح فالأسباب الَّتِي من الْعباد بل وَمن غَيرهم لَيست مُوجبَات لَا لأمر الدُّنْيَا وَلَا لأمر الْآخِرَة بل قد يكون لَا بُد مِنْهَا وَمن أُمُور أُخْرَى من فضل الله وَرَحمته خَارِجَة عَن قدرَة العَبْد وَمَا ثمَّ مُوجب إِلَّا مَشِيئَة الله فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وكل ذَلِك قد بَينه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مَعْرُوف عِنْد من نور الله بصيرته وَأما التَّفْرِيق بَين الْمَقْدُور عَلَيْهِ والمعجوز عَنهُ فَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف وَفِي كل خير احرص على مَا

ينفعك واستعن بِاللَّه وَلَا تعجز وَإِن أَصَابَك شئ فَلَا تقل لَو أَنِّي فعلت كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِن قل قدر الله وَمَا شَاءَ فعل فَإِن اللو تفتح عمل الشَّيْطَان وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه اخْتصم إِلَيْهِ رجلَانِ فَقضى على أَحدهمَا فَقَالَ المقضى عَلَيْهِ حسبي الله وَنعم الْوَكِيل فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله يلوم على الْعَجز وَلَكِن عَلَيْك بالكيس فَإِذا أحزنك أَمر فَقل حسبي الله وَنعم الْوَكِيل قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَسُئِلَ الوَاسِطِيّ عَن الْكفْر بِاللَّه أولله فَقَالَ الْكفْر وَالْإِيمَان وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة من الله وَإِلَى الله وَبِاللَّهِ وَللَّه من الله ابْتِدَاء وإنشاء وَإِلَى الله مرجعا وانتهاء وَبِاللَّهِ بَقَاء وفناء وَللَّه ملكا وخلقا قَالَ وَقَالَ الْجُنَيْد سُئِلَ بعض الْعلمَاء عَن التَّوْحِيد

فَقَالَ هُوَ الْيَقِين فَقَالَ السَّائِل بَين لي مَا هُوَ فَقَالَ هُوَ معرفتك أَن حركات الْخلق وسكونهم فعل الله وَحده لَا شريك لَهُ فَإِذا فعلت ذَلِك فقد وحدته وَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول سَمِعت عبد الْوَاحِد بن عَليّ يَقُول سَمِعت الْقَاسِم بن الْقَاسِم سَمِعت مُحَمَّد بن مُوسَى الوَاسِطِيّ سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْجَوْهَرِي سَمِعت ذَا النُّون الْمصْرِيّ يَقُول وجاءه رجل فَقَالَ ادْع الله لي فَقَالَ إِن كنت أيدت فِي علم الْغَيْب بِصدق التَّوْحِيد فكم من دَعْوَة مجابة قد سبقت لَك وَإِلَّا فَإِن النداء لَا ينفع الغرقى قَالَ وَقَالَ الوَاسِطِيّ ادّعى فِرْعَوْن الربوبية على الْكَشْف وَادعت الْمُعْتَزلَة على السِّرّ تَقول مَا شِئْت

فعلت وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن النوري التَّوْحِيد كل خاطر يُشِير إِلَى الله بعد أَن لَا تزاحمه خواطر التَّشْبِيه قلت كَلَام الوَاسِطِيّ والجنيد الْمَذْكُور هُنَا هُوَ تَوْحِيد الربوبية وَأَن الله رب كل شئ ومليكه وخالقه وَفِيه الرَّد على الْقَدَرِيَّة الَّذين يجْعَلُونَ أَفعَال العَبْد خَارِجَة عَن قدرته وخلقه وَملكه وَكَذَلِكَ جعل فيهم الوَاسِطِيّ شبها من فِرْعَوْن فَإِن فِرْعَوْن كشف كفره وَقَالَ أَنا ربكُم الْأَعْلَى فَادّعى الربوبية عَلَانيَة والقدرية تدعى أَنَّهَا رب الْأَفْعَال وَمَا يتَوَلَّد عَنْهَا فقد أدعت ربوبيته لَكِن فِي السِّرّ وَهِي ربوبية أَفعَال الْأَعْيَان لَكِن مَقْصُود أهل التَّحْقِيق كالجنيد وَنَحْوه أَن يكون هَذَا التَّوْحِيد للْعَبد خلقا ومقاما بِحَيْثُ يُعْطِيهِ ذَلِك كَمَا توكله على الله تَعَالَى وتفويصه إِلَيْهِ وَالصَّبْر لحكمه وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ مالم يُخرجهُ ذَلِك إِلَى إِسْقَاط الْأَمر وَالنَّهْي وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب والوعد والوعيد كَمَا يَقع فِي بعض ذَلِك طَائِفَة من المتصوفة وَأما قَول ذِي النُّون إِن كنت أيدت فِي علم الْغَيْب بِصدق التَّوْحِيد فَلَا يُرَاد بِهِ مُجَرّد الْإِقْرَار بالربوبية الْعَامَّة فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يوحدون هَذَا التَّوْحِيد كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله [سُورَة الزمر 38] وَقَالَ تَعَالَى وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إلاوهم مشركون [سُورَة يُوسُف 106]

قَالُوا غيمانهم هُوَ إِيمَانهم بِأَنَّهُ خَالق كل شئ وشركهم أَن عبدُوا مَعَه إِلَهًا آخر وَإِنَّمَا أَرَادَ تَحْقِيق تَوْحِيد الربوبية وتوحيد الإلهية وَهُوَ أَن يعبد الله وَحده لايشرك بِهِ شَيْئا فَهَذَا التَّوْحِيد الَّذِي جَاءَت بِهِ الرُّسُل هُوَ يسْعد صَاحبه وَيدخل الْجنَّة لَا محَالة لَهُ من دَعْوَة مجابة وَمن فَاتَهُ هَذَا التَّوْحِيد فَإِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ فَلَا يَنْفَعهُ الدُّعَاء وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيد الْمَذْكُور فِي قَول المراغى صفاء الْعِبَادَات لَا ينَال إِلَّا بصفاء التَّوْحِيد وَأما قَول النوري التَّوْحِيد كل خاطر يُشِير إِلَى الله فَهُوَ يعم ذَلِك يَقُول كل توجه إِلَى الله وَحده بقول أَو عمل فَهُوَ تَوْحِيد إِذا لم يكن فِيهِ تَشْبِيه الْخَالِق بالمخلوق أَو الْمَخْلُوق بالخالق كَمَا فِي قَول الْجَهْمِية والممثلة والقدرية وَنَحْوهم وَقد تقدم مَا ذكره الْمَشَايِخ من نفي التَّشْبِيه والتعطيل وَكَذَلِكَ مَا ذكره عَن الشَّيْخ أبي عبد الرَّحْمَن سَمِعت عبد الْوَاحِد بن بكر سَمِعت هِلَال بن أَحْمد يَقُول سُئِلَ أَبُو عَليّ الرُّوذَبَارِي عَن التَّوْحِيد فَقَالَ استقامة الْقلب بِإِثْبَات مُفَارقَة

التعطيل وإنكار التَّشْبِيه والتوحيد فِي كلمة وَاحِدَة كل مَا صورته الأفهام والأفكار فَإِن الله سُبْحَانَهُ بِخِلَافِهِ لَيْسَ كمثله شئ وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير [سُورَة الشورى 11] قَالَ وَقَالَ ابو الْقَاسِم النصراباذي الْجنَّة بَاقِيَة بإبقائه وَذكره لَك ومحبته لَك بَاقٍ بِبَقَائِهِ فشتان بَين مَا هُوَ بَاقٍ بِبَقَائِهِ وَبَين مَا هُوَ بَاقٍ بإبقائه قَالَ الْقشيرِي وَهَذَا الَّذِي قَالَه الشَّيْخ النصراباذي غَايَة التَّحْقِيق فَإِن أهل الْحق قَالُوا صِفَات ذَات الْقَدِيم سُبْحَانَهُ باقيات بِبَقَائِهِ تَعَالَى فنبه على هَذِه الْمَسْأَلَة وَنبهَ على أَن الْبَاقِي بَاقٍ بِبَقَائِهِ خلاف مَا قَالَه مخالفو الْحق

قلت النصراباذي مَقْصُوده التَّفْرِيق بَين من طلب النَّعيم بالمخلوق وَطلب النَّعيم لحظه من الْخَالِق فَقَالَ مَا فِي الْمَخْلُوق بَاقٍ بإبقائه وَأما محبته لَك وَذكره لَك فباق بِبَقَائِهِ وَلَيْسَ مَقْصُوده أَن الْبَقَاء الَّذِي يُوصف بِهِ الرب هُوَ صفة زَائِدَة على الذَّات بِمَا لَيْسَ بِصفة كَمَا يُنَازع فِيهِ أهل الْكَلَام مثل متكلمة أهل الْإِثْبَات وَغَيرهم بل القَاضِي أَبُو بكر الَّذِي يعظمه الْقشيرِي وَيَقُول هُوَ اوحد وقته كَانَ يَقُول لَيْسَ الْبَاقِي بَاقِيا بِبَقَاء ولاالنزاع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا حقق لم يرجع إِلَى معنى مُحَصل يسْتَوْجب النزاع ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن سَمِعت النصراباذي يَقُول أَنْت مُتَرَدّد بَين صِفَات الْفِعْل وصفات الذَّات وَكِلَاهُمَا صفته تَعَالَى على الْحَقِيقَة فَإِذا هيمك فِي مقَام التَّفْرِقَة قربك بِصِفَات فعله وَإِذا بلغك إِلَى مقَام الْجمع قربك بِصِفَات ذَاته

قَالَ وَأَبُو الْقَاسِم النصراباذي كَانَ شيخ وقته قلت هَذَا الْكَلَام من النصراباذي يَقْتَضِي أَنه مَوْصُوف بِصِفَات فعله على الْحَقِيقَة مثل الْخلق والرزق كَمَا أَنه مَوْصُوف بِصِفَات الذَّات عل ى الْحَقِيقَة كَالْعلمِ وَالْقُدْرَة وَهَذَا هوالذي ذكره أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق الكلاباذي عَن مَذْهَب الصُّوفِيَّة فِي كتاب التعرف وَهُوَ قَول جُمْهُور الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث وَطَوَائِف من اهل الْكَلَام وَلَيْسَ هُوَ قَول الأشعرية الَّذين سلك سبيلهم أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي قَالَ الْخلق والرزق عِنْدهم عين الْمَخْلُوق وَلَا يسْتَحق أَن يُسمى بالخالق الْبَاعِث الْوَارِث إِلَّا بعد وجود هَذِه المفعولات والنزاع فِي أَن الْفِعْل هَل هُوَ صفة لله وَهل يُوصف بالأسماء الفعلية فِي الْأَزَل وَقد بسطنا الْكَلَام فِي هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي مَوْضِعه وَقَالَ سَمِعت الإِمَام أَبَا إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ يَقُول لما قدمت من بَغْدَاد كنت أدرس فِي جَامع نيسابور فِي مَسْأَلَة الرّوح وأشرح القَوْل أَنَّهَا مخلوقة وَكَانَ ابو الْقَاسِم النصراباذي قَاعِدا

متباعدا عَنَّا يصغي إِلَى كَلَامي فأجتاز بِنَا بعد ذَلِك بأيام قَلَائِل فَقَالَ لمُحَمد الْفراء أشهد اني أسلمت جَدِيدا على يَد هَذَا الرجل وَأَشَارَ إِلَيّ قلت لَعَلَّه كَانَ عِنْده بعض شُبْهَة أَو رَأْي فَاسد فِي خلقهَا كَمَا يعرض مثل ذَلِك لبَعض النَّاس وَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن السّلمِيّ يَقُول سَمِعت أَن حُسَيْن الْفَارِسِي يَقُول سَمِعت إِبْرَاهِيم بن فاتك يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول مَتى يتَّصل من لاشبيه لَهُ وَلَا نَظِير بِمن لَهُ شَبيه وَنَظِير هَيْهَات هَذَا ظن عَجِيب إِلَّا بِمَا لطف اللَّطِيف من حَيْثُ لَا دَرك وَلَا وهم وَلَا إحاطة إِلَّا إِشَارَة الْيَقِين وَتَحْقِيق الْإِيمَان قلت هَذَا الْكَلَام يَقْتَضِي أَن الْعباد إِنَّمَا عرفُوا رَبهم بِمَا الطف بِهِ من تعرفة إِلَيْهِم وهدايته إيَّاهُم بِمَا أَعْطَاهُم لَا معرفَة إِدْرَاك وإحاطة وَهَذَا حسن وَرُبمَا يتَضَمَّن نوعا من الرَّد على طَريقَة أهل النّظر الَّذين يجعلونه بِمُجَرَّدِهِ محصلا للمعرفة الْمَطْلُوبَة وَقَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن سَمِعت عبد الْوَاحِد بن

بكر حَدثنِي أَحْمد بن مُحَمَّد البردعي حَدثنَا طَاهِر بن إِسْمَاعِيل الرَّازِيّ قَالَ قيل ليحيى بن معَاذ أَخْبرنِي عَن الله فَقَالَ إِلَه وَاحِد فَقَالَ كَيفَ هُوَ فَقَالَ ملك قَادر فَقَالَ أَيْن هُوَ فَقَالَ بالمرصاد فَقَالَ السَّائِل لم أَسأَلك عَن هَذَا فَقَالَ مَا كَانَ غير هَذَا كَانَ صفة الْمَخْلُوق فَأَما صفته فَمَا أَخْبَرتك عَنهُ قلت لَا تعلم صِحَة هَذَا الْكَلَام عَن يحيى بن معَاذ إِذْ فِي الْإِسْنَاد من لَا نعرفه وَكَلَام يحيى بن معَاذ عِنْدهم دون كَلَام الْكِبَار من أهل

التَّحْقِيق فِي الْمُعَامَلَات وَغَيرهَا فَإِنَّهُ يتَكَلَّم فِي الرَّجَاء بِكَلَام يشبه كَلَام سفلَة المرجئة لَا يُوَافق أصُول الْمَشَايِخ الْكِبَار المتمسكين بِالسنةِ ويدعى فِي التَّوْحِيد مقَاما هُوَ الْغَايَة وَقد عَابَ عَلَيْهِ ابو يزِيد وَغَيره وَكَلَامه يشبه كَلَام الوعاظ وَهِي طَريقَة أبي الْقَاسِم وَنَحْوه وَهَذَا الْكَلَام الْمَذْكُور من هَذَا الْبَاب فَإِنَّهُ لَيْسَ كل مَا لم يذكرهُ فِي هَذَا الْجَواب بِصفة الْمَخْلُوق لله بل لله صِفَات كَثِيرَة عَظِيمَة لم تدخل فِي هَذَا الْكَلَام ثمَّ صفة الْمَخْلُوق إِن كَانَ لأجل الِاشْتِرَاك فِي الِاسْم فَقَوله ملك قَادر وَإنَّهُ بالمرصاد كَمَا قَالَ تَعَالَى واقعدوا لَهُم كل مرصد [سُورَة التَّوْبَة 5] وَأَيْضًا فَالْجَوَاب عَن أَيْن هُوَ خلاف الْجَواب الَّذِي رضيه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقرهُ وَحكم بِإِيمَان قَائِله وَخلاف مَا أجَاب بِهِ هُوَ سائله فَإِنَّهُ لما قَالَ أَيْن الله فَقيل لَهُ فِي السَّمَاء رضى بِهَذَا وَأقر صَاحبه وَلم يقل هَذَا صفة الْمَخْلُوق وَقد روى شيخ الْإِسْلَام الْأنْصَارِيّ الهروى صَاحب علل المقامات ومنازل السائرين فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالفاروق بِإِسْنَاد عَن يحيى بن معَاذ أَنه قَالَ إِن الله على الْعَرْش بَائِن من خلقه وَقد أحَاط بِكُل شئ علما وأحصى كل شئ عددا لايشذ عَن هَذِه الْمقَالة إِلَّا جهمى ردئ

ضليل وهالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخالط مِنْهُ الذَّات بالأقذار والإتيان فِي هَيئته وَهُوَ يُخَالف إِنْكَاره الأين فِي هَذِه الرِّوَايَة وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم حَدثنِي بن الْحُسَيْن سَمِعت أَبَا بكر الرَّازِيّ يَقُول سَمِعت أَبَا عَليّ الروذبارى يَقُول كل مَا توهم متوهم بِالْجَهْلِ أَنه كَذَلِك فالعقل يدل على أَنه بِخِلَافِهِ قَالَ وَسَأَلَ ابْن شاهين الْجُنَيْد عَن معنى مَعَ فَقَالَ على مَعْنيين مَعَ الْأَنْبِيَاء بالنصرة والكلاءة قَالَ الله إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى [سُورَة طه 46] وَمَعَ الْعَامَّة بِالْعلمِ والإحاطة قَالَ الله تَعَالَى مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة إِلَّا هُوَ رابعهم [سُورَة المجادلة 7] فَقَالَ ابْن شاهين مثلك يصلح أَن يكون دَالا للْأمة على الله

قلت هَذَا كَلَام حسن مُتَّفق على صِحَة مَعْنَاهُ بَين ائمة الْهدى وَكَانُوا يَقُولُونَ مثل هَذَا الْكَلَام ردا على من يَقُول من الْجَهْمِية إِن الْحق بِذَاتِهِ فِي كل مَكَان وَيُمكن أَن يَقُول فَوق الْعَرْش وَقد وَقع فِي ذَلِك طَائِفَة من المتصوفة حَتَّى جَعَلُوهُ عين الموجودات وَنَفس المصنوعات كَمَا يَقُوله أهل الِاتِّحَاد الْعَام قَالَ الْقشيرِي وَسُئِلَ ذُو النُّون الْمصْرِيّ عَن قَوْله الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى [سُورَة طه 5] فَقَالَ اثْبتْ ذَاته وَنفى مَكَانَهُ فَهُوَ مَوْجُود [بِذَاتِهِ والأشياء مَوْجُودَة] بِحكمِهِ كَمَا شَاءَ قلت هَذَا الْكَلَام لم يذكر لَهُ إِسْنَادًا عَن ذِي النُّون وَفِي هَذِه الْكتب من الحكايات المسندة شئ كثير لَا أصل لَهُ فَكيف بِهَذِهِ المنقطعة المسيئة الَّتِي تَتَضَمَّن أَن ينْقل عَن الْمَشَايِخ كَلَام لَا يَقُوله عَاقل فَإِن هَذَا الْكَلَام لَيْسَ فِيهِ مُنَاسبَة لِلْآيَةِ بل هُوَ مُنَاقض لَهَا فَإِن هَذِه الْآيَة لم تَتَضَمَّن إِثْبَات ذَاته وَنفى مَكَانَهُ بِوَجْه من الْوُجُوه فَكيف تفسر بذلك وَأما قَوْله هُوَ مَوْجُود بِذَاتِهِ والأشياء مَوْجُودَة بِحكمِهِ فَهُوَ حق لَكِن لَيْسَ هَذَا معنى الْآيَة

قَالَ وَسُئِلَ الشبلي عَن قَوْله الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى فَقَالَ الرَّحْمَن لم يزل وَالْعرش مُحدث وَالْعرش بالرحمن اسْتَوَى قلت هَذَا الْكَلَام أَيْضا لَيْسَ لَهُ إِسْنَاد عَن الشبلي وَهُوَ يتَضَمَّن من الْبَاطِل مَا هُوَ تَحْرِيف لِلْقُرْآنِ أما قَوْله الرَّحْمَن لم يزل وَالْعرش مُحدث فَحق وَأما قَوْله الْعَرْش بالرحمن اسْتَوَى فَهُوَ أَولا خلاف الْقُرْآن فَإِن الله أخبر أَنه هُوَ الَّذِي اسْتَوَى على الْعَرْش فَكيف يُقَال إِن المستوى إِنَّمَا هُوَ الْعَرْش وَأما ثَانِيًا فَإِنَّهُ إِذا قَالَ الْعَرْش اسْتَوَى بِهِ فَهَذَا لَيْسَ أبلغ من قَوْله إِنَّه اسْتَوَى على الْعَرْش كَمَا فِي حَدِيث ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل حِين اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن يكون الْعَرْش اسْتَوَى بِاللَّه واستقل بِهِ وَحمله وَإِن لم يرد هَذَا الْمَعْنى وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن الْعَرْش اعتدل

واستوى بقدرة الله فَهَذَا لَيْسَ هُوَ معنى الْآيَة بل تَحْرِيف صَرِيح يسْتَحق قَائِله الْعقُوبَة البليغة وَلَا يصلح ان يحْكى مثل هَذ عَن قدوة فِي الدّين بل وَلَا عَن أَطْرَاف النَّاس قَالَ وَسُئِلَ جَعْفَر بن نصير عَن قَوْله تَعَالَى الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى فَقَالَ اسْتَوَى علمه بِكُل شئ فَلَيْسَ شئ أقرب إِلَيْهِ من شئ وَهَذَا من نمط الَّذِي قبله وأردى وَهُوَ أسخف من تأويلات القرامطة الباطنية فَإِن اللَّفْظ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على ذَلِك أصلا وجعفر ابْن نصير أجل من أَن يَقُول هَذَا التحريف الَّذِي لَا يصدر مثله إِلَّا عَن بعض غلاة الرافضة والقرامطة والملحدين الطاعنين فِي الْقُرْآن قَالَ وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق من زعم أَن الله فِي شئ أَو من شئ أَو على شئ فقد أشرك إِذْ لَو كَانَ على شئ لَكَانَ مَحْمُولا أَو كَانَ فِي شئ لَكَانَ محصورا أَو كَانَ من شئ لَكَانَ مُحدثا

قَالَ وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق فِي قَوْله ثمَّ دنا فَتَدَلَّى [سُورَة النَّجْم 8] من تودهم أَنه بِنَفسِهِ دنا جعل ثمَّ مسافلة وانما تدنى أَنه كلما قرب مِنْهُ بعده عَن أَنْوَاع المعارف إِذْ لَا دنو وَلَا بعد قلت هَذَا الْكَلَام وأشباهه مِمَّا اتّفق أهل الْمعرفَة على أَنه مَكْذُوب على جَعْفَر مثل كثير من الإشارات الَّتِي ذكرهَا عَنهُ أَبُو عبد الرَّحْمَن فِي حقائق التَّفْسِير وَالْكذب على جَعْفَر كثير منتشر وَالَّذِي نَقله الْعلمَاء الثِّقَات عَنهُ مَعْرُوف يُخَالف رِوَايَة المفترين عَلَيْهِ قَالَ وَرَأَيْت بِخَط الاستاذ أبي على أَنه قيل لصوفي أَيْن الله فَقَالَ أسحقك الله تطلب مَعَ الْعين أثرا قلت هَذَا كَلَام مُجمل قد يَعْنِي بِهِ الصّديق معنى صَحِيحا وَيَعْنِي بِهِ الزنديق معنى فَاسِدا فَإِن السَّائِل أَيْن الله قد يكون سُؤَاله عَن شكّ عَن معرفَة مَا يسْتَحقّهُ الله من الْعُلُوّ وَقد يكون الاستعلام

عَن حَال الْمَسْئُول كَمَا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَارِيَة أَيْن الله فَالَّذِي سَأَلَ الصُّوفِي أَيْن الله إِن كَانَ شاكا فِي نعت ربه أَو جَاهِلا بِحَال الْمَسْئُول فَهُوَ نَاقص فَيحْتَمل أَن الصُّوفِي كَانَ عَارِفًا بِاللَّه وَقد عاين السَّائِل من حَاله مَا عرف بِهِ صدقه فَقَالَ سؤالك سُؤال من يُرِيد أَن يسْتَدلّ بالأثر على حَال وَأَنت قد عَايَنت مَا يُغْنِيك عَن ذَلِك فَقَالَ أتطلب مَعَ الْعين أثرا أَو هدى كَمَا أَن المعروفين بِالْإِيمَان من الصَّحَابَة لم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لأَحَدهم أَيْن الله وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لمن شكّ فِي إيمَانه كالجارية وَهَذَا كَمَا يذكر فِي حِكَايَة أُخْرَى أَن بَعضهم لقى شخصا فَقَالَ أَيْن رَبك فَقَالَ لَا تقل أَيْن رَبك وَلَكِن قل أَيْن مَحل الْإِيمَان من قَلْبك أَي ان مثلى لَا يُقَال لَهُ أَيْن رَبك وَإِنَّمَا أسأَل عَمَّا يَلِيق بمثلي أَن يسْأَل عَنهُ بل كَمَا فِي الْحِكَايَة الْمَعْرُوفَة عَن يزِيد بن هَارُون الوَاسِطِيّ وَنَحْوهَا أَيْضا لِأَحْمَد بن حَنْبَل أَن مُنْكرا أَو نكيرا لما أَتَيَاهُ وسألاه من رَبك وَمَا دينك وَمن نبيك فَقَالَ أتقولان لي هَذَا وَأَنا يزِيد بن هَارُون الوَاسِطِيّ أعلم النَّاس السّنة سِتِّينَ سنة فَقَالَا اعذرنا فَإنَّا بِهَذَا أمرنَا وانصرفا وتركاه وَظَاهر الْأَمر فِي حَال الصُّوفِي الَّذِي ذكره الْأُسْتَاذ أبي على أَنه قصد هَذَا لِأَنَّهُ قَالَ للسَّائِل أسحقك الله أتطلب مَعَ الْعين اثرا وَهَذَا

الْعين الَّذِي أغناه عَن الْأَثر إِمَّا أَن يكون فِي مَعْرفَته بربه أَو مَعْرفَته بِحَال الْمَسْئُول فَلَو كَانَ الأول لم يَك جَاهِلا فَيسْأَل أَيْن الله وَلم يجب عَلَيْهِ الصُّوفِي حَتَّى يَقُول لَهُ أسحقك الله فَعلم أَنه كَانَ عَارِفًا بِحَال الصُّوفِي وَطلب مِنْهُ زِيَادَة امتحان لَهُ عَن مَعْرفَته بربه فَقَالَ أتطلب مَعَ الْعين أثرا وَأما الْعين الَّذِي يعنيه الزنديق فَأن يكون من أهل الِاتِّحَاد الْمعِين فيعتقد أَنه عاين الله بِعَين بَصَره فِي الدُّنْيَا فَيَقُول أتطلب مَعَ الْعين أثرا أَو يعْتَقد أَن الْوُجُود المعاين هُوَ عين وجود الْحق كَمَا تَقوله الاتحادية أهل الِاتِّحَاد الْمُطلق أَو نَحْو ذَلِك من مقالات الزَّنَادِقَة الْمُنَافِقين وَلَكِن ظَاهر الْحِكَايَة لَا يُوَافق هَذَا فَإِنَّهُ عِنْد هَؤُلَاءِ الْعين والأثر وَاحِد والصوفي قَالَ أتطلب مَعَ الْعين أثرا وَهَذَا يَقْتَضِي أَن السَّائِل بأين يَصح مِنْهُ طلب الْأَثر بعد الْعين وَلَيْسَ فِي الْحِكَايَة مَقْصُود لأبي الْقَاسِم من نفى كَون الله على الْعَرْش وَلَا يَقُول ابو الْقَاسِم بِأَن الْعَارِف حصل لَهُ فِي الدُّنْيَا من مُعَاينَة الله تَعَالَى مَا يُغْنِيه عَن الْأَثر

قَالَ ابو الْقَاسِم حَدثنَا الشَّيْخ أَبُو عبد الرَّحْمَن سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس بن الخشاب الْبَغْدَادِيّ سَمِعت أَبَا الْقَاسِم بن مُوسَى سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد سَمِعت الانصاري سَمِعت الخراز يَقُول حَقِيقَة الْقرب فقد حسن الْأَشْيَاء من الْقلب وهدوء الضَّمِير إِلَى الله قلت هَذِه الْحِكَايَة فِي إسنادها من لَا يعرف حَاله وَإِن صَحَّ هَذَا الْكَلَام عَن أبي سعيد الخراز فَلَيْسَ مَقْصُوده أَن الْقرب من الله لَيْسَ إِلَّا مُجَرّد ذَلِك وَلَكِن أَرَادَ أَن هَذَا هُوَ الَّذِي يُحَقّق الْقرب وَحَقِيقَة الشئ عِنْدهم مَا يحققه فَيكون عِلّة لوُجُوده ودليلا على صِحَّته كَمَا يروون فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر مُرْسلا وروى مُسْندًا من وَجه ضَعِيف لَا يثبت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لحارثة ابْن سراقَة كَيفَ أَصبَحت يَا حَارِثَة قَالَ أَصبَحت مُؤمنا حَقًا قَالَ فَمَا حَقِيقَة أيمانك فَقَالَ عزفت نَفسِي عَن الدُّنْيَا فآستوى عِنْدِي حجرها وذهبها وَكَأَنِّي أنظر إِلَى عرش رَبِّي بارزا وَكَأَنِّي أنظر إِلَى أهل الْجنَّة يتمتعون فِيهَا وَإِلَى أهل النَّار يُعَذبُونَ فِيهَا فَقَالَ

عرفت فألزم عبد نور الله قلبه فَقَوْلهم فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي يَرْوُونَهُ مَا حَقِيقَة إيمانك أَي مَا يحققه ويصدقه فَذكر مَا يصدقهُ ويحققه من الْيَقِين والزهد كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث نجا أول هَذِه الْأمة بِالْيَقِينِ والزهد فَقَوْل أبي سعيد حَقِيقَة الْقرب أَي الَّذِي يحققه هُوَ خلو الْقلب مِمَّا سوى الله وسكونه إِلَى الله وَهَذَا تَحْقِيق الْإِخْلَاص والتوحيد الَّذِي من حَقَّقَهُ كَانَ أقرب الْخلق إِلَى الله وَهُوَ تَحْقِيق كلمة الْإِخْلَاص لَا إِلَه إِلَّا الله وَهَذَا على دَرَجَتَيْنِ فَأهل الفناء يفقدون إِدْرَاك الْأَشْيَاء ومعرفتها مصطلمين فِي ذكر الله وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم وَهُوَ سُبْحَانَهُ شهد وحدانيتهم فِي الإلهيته متضمنه شَهَادَته لجَمِيع خلقه فَإِنَّهُ شَهِيد عليم لَيْسَ عَن الْمَخْلُوقَات بغائب فأولو الْعلم

الشاهدون أَلا إِلَه إِلَّا هُوَ إِذا لم يكن فيهم عجز يُوجب الفناء يُعْطون من الْقُوَّة على مَا يشْهدُونَ بِهِ الْأَمر وَتلك شَهَادَة كَامِلَة أكمل من شَهَادَة اهل الفناء فيفقدون تأله قُلُوبهم للأشياء ووجدهم وطمأنينتهم إِلَيْهَا معتاضين بتأله قُلُوبهم لله ووجدهم بِهِ وطمأنينة قُلُوبهم بِذكرِهِ لَا يفقدون الشَّهَادَة الَّتِي تزيد فِي علمهمْ وَإِيمَانهمْ من شُهُود الربوبية المحيطة جملَة وتفصيلا والإلهية الْوَاجِبَة جملَة وتفصيلا وَمَا يدْخل فِي ذَلِك من أَصْنَاف الْمَخْلُوقَات والمأمورات وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن سَمِعت مُحَمَّد بن عَليّ الْحَافِظ سَمِعت ابا معَاذ الْقزْوِينِي سَمِعت أَبَا عَليّ الدَّلال سَمِعت أَبَا عبد الله بن قهرمان سَمِعت إِبْرَاهِيم الْخَواص يَقُول انْتَهَيْت إِلَى رجل وَقد صرعه الشَّيْطَان فَجعلت أؤذن فِي أُذُنه فناداني الشَّيْطَان من جَوْفه دَعْنِي أَقتلهُ فَإِنَّهُ يَقُول الْقُرْآن مَخْلُوق قلت هَذِه الْحِكَايَة مُوَافقَة لأصول السّنة وَقد ذكرُوا نَحْوهَا حكايات وَاعْترض فِي ذَلِك الْغَزالِيّ وَغَيره بِأَن هَذَا الِاسْتِدْلَال

بِكَلَام الشَّيَاطِين فِي أصُول الدّين وَذكر عَن الإِمَام أَحْمد فِي ذَلِك حِكَايَة بَاطِلَة ذكرهَا فِي المنخول فَقَالَ رب رجل يعْتَقد الشئ دَلِيلا وَلَيْسَ بِدَلِيل كَمَا يذكر وَجَوَاب هَذَا أَن الْجِنّ فيهم الْمُؤمن وَالْكَافِر كَمَا دلّ على ذَلِك الْقُرْآن وَيعرف ذَلِك بِحَال المصروع وَيعرف بِأَسْبَاب قد يقْضِي بهَا أهل الْمعرفَة فَإِذا عرف ان الجني من أهل الْإِيمَان كَانَ هَذَا مثل مَا قصه الله فِي الْقُرْآن من إِيمَان الْجِنّ بِالْقُرْآنِ وكما فِي السِّيرَة من أَخْبَار الهواتف وَإِبْرَاهِيم الْخَواص من أكبر الرِّجَال الَّذين لَهُم خوارق فَلهُ علمه بِأَن هَذَا الجني من الْمُؤمنِينَ لما ذكر هَذِه الْحِكَايَة على سَبِيل الذَّم لمن يَقُول بِخلق الْقُرْآن

فصل قال أبو القاسم وقال ابن عطاء لما خلق الله الأحرف جعلها سرا فلما

فصل قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقَالَ ابْن عَطاء لما خلق الله الأحرف جعلهَا سرا فَلَمَّا خلق آدم بَث ذَلِك السِّرّ فِيهِ وَلم يبث ذَلِك السِّرّ فِي أحد من الْمَلَائِكَة فجرت الأحرف على لِسَان آدم بفنون الجريان وفنون المعارف فَجَعلهَا الله صورا لَهَا قَالَ أَبُو الْقَاسِم صرح ابْن عَطاء رَحمَه الله بِأَن الْحُرُوف مخلوقة قلت لم يذكر لهَذِهِ الْحِكَايَة إِسْنَادًا وَمثل هَذَا لَا تقوم بِهِ حجَّة وَلَا يحل لأحد أَن يدل الْمُسلمين فِي أصُول دينهم بِكَلَام لم تعرف صِحَة نَقله مَعَ مَا علم من كَثْرَة الْكَذِب على الْمَشَايِخ المقتدى بهم فَلَا يثبت بِمثل هَذَا الْكَلَام قَول لِابْنِ عَطاء وَلَا مَذْهَب بل قد ظهر على هَذِه

الْحِكَايَة من كذب ناقلها وَجَهل قَائِلهَا مَا لَا يصلح مَعَه أَن يحمد الِاعْتِقَاد بهَا فَلَو فرض ان هَذِه الْحِكَايَة قَالَهَا بعض الْأَعْيَان لَكَانَ فِيهَا من الْغَلَط مَا يردهَا على قَائِلهَا وَكَذَلِكَ أَن الله لم يخص آدم بالأحرف وَإِنَّمَا خصّه بتعليم الْأَسْمَاء كلهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ أنبؤني بأسماء هَؤُلَاءِ [سُورَة الْبَقَرَة 31] وَقد تنَازع النَّاس هَل المُرَاد بهَا أَسمَاء من يعقل لقَوْله ثمَّ عرضهمْ أَو أَسمَاء كل شئ على قَوْلَيْنِ وَالْأول اخْتِيَار ابْن جرير الطَّبَرِيّ وَأبي بكر عبد الْعَزِيز صَاحب الْخلال وَغَيرهمَا وَالثَّانِي أصح لِأَن فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيث الشَّفَاعَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا آدم أَنْت أَبُو الْبشر خلقك الله بِيَدِهِ وَنفخ فِيك من روحه وأسجد لَك مَلَائكَته وعلمك أَسمَاء كل شئ وَيبين ذَلِك أَن الْمَلَائِكَة كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ قبل أَن يُخْبِرهُمْ آدم

بالأسماء وَقد خاطبوا الله وخاطبوا آدم قبل ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة الْآيَة [سُورَة الْبَقَرَة 30] قَالَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لما خلق الله آدم قَالَ اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ النَّفر من الْمَلَائِكَة فَسلم عَلَيْهِم واسمع مَا يحيونك بِهِ فَإِنَّهَا تحيتك وتحية ذريتك من بعْدك فَذهب إِلَيْهِم فَقَالَ السَّلَام عَلَيْكُم فَقَالُوا وَعَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فزادوه وَأَيْضًا فآدم عَلَيْهِ السَّلَام تكلم قبل أَن يُعلمهُ الله أَسمَاء كل شئ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن الله لما خلق آدم عطس فَقَالَ الْحَمد لله رب الْعَالمين فَقَالَ الله لَهُ يَرْحَمك رَبك وَأَيْضًا فَمن الْمَعْلُوم أَن الْمَلَائِكَة كَانُوا يسبحون الله ويمجدونه قبل خلق

آدم وَقبل إخْبَاره إيَّاهُم بالأسماء فَكيف يظنّ ظان ان النُّطْق كَانَ مُخْتَصًّا بِآدَم لما علم الْأَسْمَاء وَأَيْضًا فَإِن هَذِه الْحِكَايَة من قَائِلهَا الأول مُرْسلَة لَا إِسْنَاد لَهَا وَلم يأثرها عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن أحد من أَصْحَابه وَأحسن أحوالها أَن تكون من الإسرائليات الَّتِي إِذا لم يعرف أَنَّهَا حق أَو بَاطِل لم يصدق بهَا وَلم يكذب وَمثل هَذِه لَا يعْتَمد عَلَيْهَا فِي الدّين بِحَال وَالْمَعْرُوف عَن بعض الْمَشَايِخ حِكَايَة لَو ذكرهَا أَبُو الْقَاسِم لَكَانَ احتجاجه بهَا أمثل وَهُوَ مَا أَن الإِمَام أَحْمد ذكر لَهُ عَن السّري السَّقطِي أَنه ذكر عَن بكر بن حُبَيْش العابد أَنه قَالَ لما خلق الله الْحُرُوف سجدت لَهُ إِلَّا الْألف فَقَالَت لَا أَسجد حَتَّى أومر فَقَالَ احْمَد هَذَا كفر وَهَذَا الْكَلَام لم يقلهُ بكر بن حُبَيْش والسرى وَنَحْوه من الْعباد إِلَّا ليبينوا الْفرق بَين من لَا يفعل إِلَّا مَا أَمر بِهِ وَمن يعْتَمد بِمَا لم يُؤمر بِهِ من الْبدع وَهَذَا مَقْصُود صَحِيح فَإِن الْعَمَل الصَّالح المقبول هُوَ مَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله دون شرع من الدّين الَّذِي لم يَأْذَن بِهِ الله لَكِن كثير من الْعباد لَا يحفظ الْأَحَادِيث وَلَا أسانيدها فكثيرا مَا يغلطون فِي إِسْنَاد الحَدِيث أَو مَتنه وَلِهَذَا قَالَ يحيى بن سعيد مَا رَأينَا الصَّالِحين فِي شئ أكذب مِنْهُم فِي الحَدِيث يَعْنِي على سَبِيل الْخَطَأ وَقَالَ أَيُّوب

السّخْتِيَانِيّ إِن من جيراني لمن ارجو بركَة دُعَائِهِمْ فِي السحر وَلَو شهد عِنْدِي على جزرة بقل لما قبلت شَهَادَته وَلِهَذَا يميزون فِي اهل الْخَيْر والزهد وَالْعِبَادَة بَين ثَابت الْبنانِيّ والفضيل ابْن عِيَاض وَنَحْوهمَا وَبَين مَالك بن دِينَار وفرقد السبخي وحبِيب العجمي وطبقتهم وكل هَؤُلَاءِ أهل خير وَفضل وَدين والطبقة الأولى يدْخل حَدِيثهَا فِي الصَّحِيح وَقَالَ مَالك بن أنس رَحمَه الله ادركت فِي هَذَا الْمَسْجِد ثَمَانِينَ رجلا لَهُم خير وَفضل وَصَلَاح كل يَقُول حَدثنِي أبي عَن جدي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم نَأْخُذ عَن أحد مِنْهُم شَيْئا وَكَانَ ابْن شهَاب يأتينا وَهُوَ شَاب فنزدحم على بَابه لِأَنَّهُ كَانَ يعرف هَذَا الشَّأْن هَذَا وَابْن شهَاب كَانَ فِيهِ من مداخلة الْمُلُوك وَقبُول جوائزهم مَا لَا يُحِبهُ أهل الزّهْد والنسك وَالله يخْتَص كل قوم بِمَا يختاره فَأُولَئِك النساك رووا هَذَا الاثر ليفرقوا بَين الْعَمَل الْمَشْرُوع الْمَأْمُور بِهِ وَمَا لَيْسَ بمشروع مَأْمُور بِهِ وَجَاء فِي لفظ لما خلق الله الْحُرُوف فآحتج بِهَذَا من يَقُول من الْجَهْمِية إِن الْقُرْآن أَو حُرُوفه مخلوقة فَقَالَ أَحْمد هَذَا كفر لِأَن فِيهِ القَوْل بِخلق مَا هُوَ من الْقُرْآن وَذَلِكَ الْأَثر لَا يعرف لَهُ إِسْنَاد وَلَا

يعرف قَائِله وَلَا ناقله وَلَا يُؤثر عَن صَاحب وَلَا تَابع وَلَعَلَّه من الْإسْرَائِيلِيات فَرد الِاحْتِجَاج بِهِ أسهل الْأُمُور وَأما مَا تضمنه من الْفرق بَين الْعَمَل الَّذِي يُؤمر بِهِ وَالَّذِي لَا يُؤمر بِهِ فَهَذَا الْفرق ثَابت بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة مَتى كَانَ فِي الْأَحَادِيث الَّتِي لَا تعرف صِحَّتهَا وَالْأَحَادِيث الضعيفة مَا يُوَافق أصُول الْإِسْلَام وَمَا لَا يُوَافق قبُول الْحق وَترك الْبَاطِل فنقبل من هَذِه الْحِكَايَة مَا وَافق الاصول الاصول وَهُوَ الَّذِي أَخذه بكر بن حُبَيْش والسرى وَغَيرهمَا ونرد مِنْهَا مَا خَالف الْأُصُول وَهُوَ الَّذِي رده الإِمَام أَحْمد وَغَيره من أَئِمَّة الْهدى مَعَ أَن أَحْمد من أعظم النَّاس قولا لما قَصده السرى من الْفرق بَين الْمَأْمُور وَغير الْمَأْمُور وَهُوَ من أعظم النَّاس أمرا بِالْعَمَلِ الْمَشْرُوع ونهيا عَن غير الْمَشْرُوع ثمَّ حِكَايَة السرى لَعَلَّه لم يرد بالحروف إِلَّا المداد الَّذِي تكْتب بِهِ الْحُرُوف فسجدت فَإِنَّهُ قَالَ فسجدت لَهُ إِلَّا الْألف فَقَالَت لَا أَسجد حَتَّى أومر وَهَذَا إِشَارَة إِلَى انتصاب الْألف وانخفاض غَيرهَا وَهَذَا صُورَة مَا يكْتب بِهِ من المُرَاد وَأما الْحُرُوف الَّتِي أنزلهَا الله فِي كِتَابه فَلَا يخْتَلف حكمهَا باخْتلَاف مَا يكْتب بِهِ من صُورَة المداد وَلَعَلَّ هَذَا أَيْضا هُوَ الَّذِي قَصده فِي حِكَايَة ابْن عَطاء إِن كَانَ لَهَا أصل فَإِنَّهُ قد ذكرابن قُتَيْبَة فِي المعارف أَن الله لما أهبط آدم انْزِلْ

عَلَيْهِ حُرُوف المعجم فِي إِحْدَى وَعشْرين صحيفَة فَيكون ناقلها قصد أَن آدم اخْتصَّ من بَين الْمَلَائِكَة بِأَن علم الْكِتَابَة بِهَدِّهِ الْحُرُوف كَمَا قَالَ تَعَالَى علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم [سُورَة العلق 4 5] وَالْمَلَائِكَة وَإِن كَانَ الله قد وَصفهم بِأَنَّهُم يَكْتُبُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى كراما كاتبين يعلمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [سُورَة الانفطار 1112] وَقَالَ وَرُسُلنَا لديهم يَكْتُبُونَ [سُورَة الزخرف 80] فَلَا يجب أَن تكون حروفهم الْمَكْتُوبَة مثل الْحُرُوف الَّتِي يَكْتُبهَا الآدميون إِذْ يكون الَّذين قَالُوا إِنَّه خلق الْحُرُوف أَرَادوا أَنه خلق أصوات الْعباد فَلَا ريب أَن الله خَالق أصوات الْعباد وأفعالهم لَكِن هَذَا لَا يَقْتَضِي ان حُرُوف الْقُرْآن أَو مُطلق الْحُرُوف مخلوقة بل يجب التَّفْرِيق بَين مَا هُوَ من صِفَات الله تَعَالَى وَمَا هُوَ من خَصَائِص المخلوقين والتأويل من المداد لَيْسَ هُوَ الظَّاهِر من الْحِكَايَة فَإِنَّهُ قَالَ فجرت الأحرف على لِسَان آدم وَلَا هُوَ أَيْضا بِذَاكَ وَلَكِن ذكر أَمْثَاله هَذِه الحكايات لبَيَان المعتقدات نوع من ركُوب الجهالات والضلالات فَإِذا تبين أَنَّهَا لَا تصح لَا من ناقلها وَلَا من قَائِلهَا وَأَنَّهَا مُشْتَمِلَة على أَنْوَاع من الْبَاطِل كَانَ بعد ذَلِك ذكر هَذِه هَذِه التأويلات

أحسن مِمَّا يذكرهُ المحتجون بهَا من تأويلاتهم لنصوص الْكتاب وَالسّنة الصحيحات الصريحات فَتبين بذلك أَن اهل السّنة فِي كل مقَام أصح نقلا وعقلا من غَيرهم لَان ذَلِك من تَمام ظُهُور مَا ارسل الله بِهِ رَسُوله من الْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله ظُهُوره بِالْحجَّةِ وظهوره بِالْقُدْرَةِ ثمَّ إِن هَذِه الْحِكَايَة الْمَعْرُوفَة عَن السرى لما بلغت الإِمَام أَحْمد أنكرها غَايَة الْإِنْكَار حَتَّى توقف عَن مدح السرى مَعَ مَا كَانَ يذكر من فَضله وورعه وَنهى عَن أَن يذكر عَنهُ مدحه حَتَّى يظْهر خطأه فِي ذَلِك مَعَ أَن السرى اعْترف بِأَنَّهُ لم يقلها ذَاكِرًا وَإِنَّمَا قَالَهَا آثرا فَذكر الْخلال فِي كتاب السّنة ذكر السرى وَمَا أحدث اخبرني أَحْمد بن مُحَمَّد عَن مطر وزَكَرِيا بن يحيى أَن ابا طَالب حَدثهمْ أَنه قَالَ لأبي عبد الله جَاءَنِي كتاب من طرسوس أَن سريا قَالَ لما خلق الله الْحُرُوف سجدت إِلَّا الْألف فَإِنَّهُ قَالَ لَا أَسجد حَتَّى أومر فَقَالَ هَذَا الْكفْر قَالَ الْخلال فَأخْبرنَا ابو بكر الْمَرْوذِيّ قَالَ جَاءَنِي كتاب من الثغر فِي أَمر رجل تكلم بِكَلَام وعرضته على ابي عبد الله فِيهِ لما خلق الله الْحُرُوف سجدت إِلَّا الْألف فَغَضب أَبُو عبد الله غَضبا شَدِيدا حَتَّى

قَالَ هَذَا كَلَام الزَّنَادِقَة ويله هَذَا جهمي وَكَانَ فِي الْكتاب الَّذِي كتب بِهِ أَن هَذَا الرجل قَالَ لَو أَن غُلَاما من غلْمَان حَارِث يَعْنِي المحاسبي لخَبر أهل طرطوس فَقَالَ أَبُو عبد الله أَشد مَا هَا هُنَا قَوْله لَو أَن غُلَاما من غلْمَان حَارِث لخَبر أهل طرطوس مَا البلية إِلَّا حَارِث حذروا عَنهُ أَشد التحذير قَالَ أَبُو بكر الْمَرْوذِيّ جَاءَنِي حسن بن الْبَزَّاز برقعة فِيهَا كَلَام هَذَا الرجل بِخَطِّهِ قَالَ إِن هَذَا خطه فِيهَا مَكْتُوب إِنِّي إِنَّمَا حكيت عَن غَيْرِي فَلَمَّا قرأتها قلت لحسن قد أقرّ قَالَ إِنِّي أقرّ قلت فَقَوله حكيت عَن غَيْرِي قلت لأبي عبد الله بِأَيّ شئ ترى قَالَ دَعه حَتَّى يقر وَبلغ أَبَا عبد الله عَن حسن أَنه قَالَ بعد مَجِيئه إِلَى أبي عبد الله بالرقعة لَيْسَ لَهُ عِنْد ابي عبد الله إِلَّا خيرا فَقَالَ اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقل لَهُ قد علمت مَا فِي قلبِي حَتَّى على مثل هَذَا قل لَهُ لَا تحك عني شَيْئا مرّة فَلَقِيت حسنا فَقَالَ لَيْسَ أحكى عَنهُ شَيْئا ثمَّ أَيْضا قَول الْقَائِل لما خلق الله الأحرف جعلهَا سرا لَهُ فَلَمَّا خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام بَث ذَلِك السِّرّ فِيهِ وَلم يبث ذَلِك السِّرّ فِي أحد من مَلَائكَته فَسَاده ظَاهر من وُجُوه أَحدهَا أَن فِيهِ أَنه خلق الْحُرُوف قبل خلق آدم وَهَذَا لم يقلهُ أحد من الْمُسلمين فَإِن الَّذين يَقُولُونَ بخلقها يَقُولُونَ إِنَّمَا يخلقها إِذا اراد إِنْزَال كَلَامه على رَسُوله فيخلق حروفا فِي الْهَوَاء يسْمعهَا جِبْرِيل

أَو غَيره ينزل بهَا ويفهمه الْمَعْنى الَّذِي أَرَادَهُ بِتِلْكَ الْحُرُوف فَيكون جِبْرِيل أول من تكلم بِتِلْكَ الْحُرُوف وَعبر بهَا عَن مُرَاد الله وَهُوَ الْمَعْنى الْقَائِم بِنَفسِهِ كَمَا يعبر عَن الْأَخْرَس من فهم مَعْنَاهُ بإشارته فَأَما أَن يُقَال خلقت الْحُرُوف قبل خلق آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَلم تخاطب بهَا الْمَلَائِكَة فَهَذَا لم يقلهُ أحد الثَّانِي أَنه جعل الْحُرُوف لآدَم دون الْمَلَائِكَة وَمن الْمَعْلُوم أَن الَّذِي نزل بِالْقُرْآنِ وَغَيره من كَلَام الله هم الْمَلَائِكَة وهم تلقوا الْحُرُوف عَن الله قبل أَن يتلقاها الْأَنْبِيَاء فَكيف يسلبون ذَلِك الثَّالِث أَن قَوْله جعلهَا سرا لَهُ كَلَام لَا حَاصِل لَهُ لِأَن السِّرّ مَا أسره الله فأخفاه عَن عباده أَو بَعضهم أَو مَا تضمن مَا أسره وَهَذِه الْحُرُوف أظهر شئ لبني ادم حَتَّى أَن النُّطْق بهَا أظهر صِفَاته وَكَذَلِكَ قَالَ الله تَعَالَى فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه لحق مثل مَا أَنكُمْ تنطقون [سُورَة الذاريات 23] وَإِن قيل إِن الْحُرُوف تَتَضَمَّن من الْمعَانِي مَا أسره الله فَلَا ريب أَنَّهَا تَتَضَمَّن كل مَا يعبر عَنهُ من الْمعَانِي سرها وجهرها فالاختصاص للسر بهَا قَالَ أَبُو الْقَاسِم قَالَ سهل بن عبد الله إِن الْحُرُوف لِسَان

فعل لَا لِسَان ذَات لانها فعل فِي مفعول قَالَ وَهَذَا أَيْضا صربح لِأَن الْحُرُوف مخلوقة قلت هَذَا الْكَلَام لَيْسَ لَهُ إِسْنَاد عَن سهل وَكَلَام سهل بن عبد الله وَأَصْحَابه فِي السّنة وَالصِّفَات وَالْقُرْآن اشهر من ان يذكر هُنَا وَسَهل من اعظم النَّاس قولا بِأَن الْقُرْآن كُله حُرُوف ومعانيه غير مخلوقة بل صَاحبه أَبُو الْحسن بن سَالم أخبر النَّاس بقوله قد عرف قَوْله وَقَول أَصْحَابه فِي ذَلِك وَقد ذكر أَبُو بكر بن اسحاق الكلاباذي فِي التعرف فِي مَذَاهِب التصوف عَن الْحَارِث المحاسبي وَأبي الْحسن بن سَالم أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ إِن الله يتَكَلَّم بِصَوْت وَمذهب السالمية أَصْحَاب سهل ظَاهر فِي ذَلِك فَلَا يتْرك هَذَا الْأَمر الْمَشْهُور الْمَعْرُوف الظَّاهِر لحكاية مُرْسلَة لَا إِسْنَاد لَهَا ثمَّ هَذَا الْكَلَام فِي ظَاهره من قلَّة الْمعرفَة مَا لَا يصلح أَن يُضَاف إِلَى سهل بن عبد الله لِأَن قَوْله لِأَنَّهَا فعل فِي مفعول إِن أَرَادَ فعل

قَائِم بِذَات الله كَمَا يُقَال تكلم وَخلق ورزق عِنْد الْجُمْهُور الَّذين يَقُولُونَ هَذِه أُمُور قَائِمَة بِذَاتِهِ فَقَوله بعد ذَلِك فِي مفعول لَا يصلح فَإِنَّهُ فعل قَائِم بِذَات الله لَيْسَ فِي مفعول وَإِن أَرَادَ بهَا فعل مُنْفَصِل عَن الله فَكل مُتَّصِل عَن الله فَهُوَ مفعول مثل قَول الْقَائِل مفعول فِي مفعول وَفعل فِي فعل وَهَذَا لَا يصلح أَن يحْتَج بِهِ لِأَنَّهُ مَتى علم أَنَّهَا مفعولة وَأَنَّهَا فعل بِمَعْنى مفعول فَسَوَاء كَانَت فِي نظيرها أَو لم تكن هِيَ مخلوقة وَإِن قيل إِنَّه أَرَادَ فعل فِي الْآدَمِيّ الَّذِي هُوَ مفعول فَيُقَال كِلَاهُمَا مفعول وَأَيْضًا فَهَذَا إِنَّمَا يدل على أَن اصوات الْعباد ومدادهم مَخْلُوق لَا يدل على أَن الْحُرُوف الَّتِي هِيَ من كَلَام الله مخلوقة قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقَالَ الْجُنَيْد فِي جوابات مسَائِل الشاميين التَّوَكُّل عمل الْقلب والتوحيد قَول الْقلب قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَهَذَا قَول أهل الْأُصُول إِن الْكَلَام هُوَ الْمَعْنى الَّذِي قَامَ بِالْقَلْبِ من معنى الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار قلت هَذِه الْمقَالة لما أسْند موضعهَا من كَلَام أبي الْقَاسِم الْجُنَيْد لم يكن فِيهَا حجَّة لمطلوبه فالمذكور عَن الْمَشَايِخ الْكِبَار لَيْسَ فِيهِ صَحِيح صَرِيح المطلوبه الَّذِي يُخَالف بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة وَإِجْمَاع السّلف

بل إِمَّا أَن يفقد فِيهِ الوصفان أَو احدهما وَذَلِكَ أَن الْجُنَيْد رَضِي الله عَنهُ ذكر أَن التَّوْحِيد قَول الْقلب فأضاف القَوْل إِلَى الْقلب وَهَذَا مِمَّا لَا نزاع فِيهِ أَن القَوْل والْحَدِيث وَنَحْوهمَا مَعَ التَّقْيِيد يُضَاف إِلَى النَّفس وَالْقلب كَمَا فِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله تجَاوز لأمتي عَمَّا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تَتَكَلَّم بِهِ أَو تعْمل وَقد قَالَ تَعَالَى إِن النَّفس لأمارة بالسوء [سُورَة يُوسُف 53] وَقَالَ ابو الدَّرْدَاء ليحذر أحدكُم أَن تلعنه قُلُوب الْمُؤمنِينَ وَهُوَ لَا يشْعر وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ مَا زَالَ أهل الْعلم يوعدون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التَّذَكُّر ويناطقون الْقُلُوب حَتَّى نطقت فَإِذا لَهَا أسماع وأبصار فنطقت بِالْعلمِ وأورثت الْحِكْمَة فوصف الْقلب وَالنَّفس بِأَنَّهُ يَقُول وَيَأْمُر ويتحدث وينطق وَنَحْو ذَلِك يسْتَعْمل مَعَ التَّقْيِيد بأتفاق الْمُسلمين لَكِن النزاع فِي شَيْئَيْنِ

أَحدهمَا أَن الْكَلَام على الْإِطْلَاق من غير إِضَافَة إِلَى نفس وقلب أَو نَحْو ذَلِك هَل هُوَ اسْم لمُجَرّد أَو لمُجَرّد الْحُرُوف أَو لمجموع الْمعَانِي والحروف هَذَا فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال فالقشيري وَطَائِفَة يَقُولُونَ بالاول وَطَائِفَة أُخْرَى من أهل الْكَلَام وَالْفِقْه والعربية تَقول بِالثَّانِي وَأما سلف الْأمة وأئمتها فَإِنَّهُم يَقُولُونَ بالوسط وَهُوَ الثَّالِث أَن الْكَلَام عِنْد الْإِطْلَاق يتَنَاوَل الْحُرُوف والمعاني جَمِيعًا وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله تجَاوز لأمتي عَمَّا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تتلكم أَو تعْمل بِهِ يفرق بَين الحَدِيث الْمُقَيد بِالنَّفسِ وَبَين الْكَلَام الْمُطلق الثَّانِي أَن معنى الْكَلَام الَّذِي تطابقه الْعبارَة هَل هُوَ من جنس الْعُلُوم والإرادات أم لَيْسَ من هَذَا الْأَحْسَن بل هُوَ حَقِيقَة أُخْرَى وَهَذَا فِيهِ نزاع بَين الطوائف المنتسبة إِلَى السّنة وَالَّتِي لَيست منتسبة إِلَيْهَا فَفِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء من يَقُول بِهَذَا وَفِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء من يَقُول بِهَذَا فَتبين أَن مَا ذكره الْجُنَيْد من قَول الْقلب لَيْسَ هُوَ قَول من يَقُول إِن الْكَلَام هُوَ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ وَأما قَول أبي الْقَاسِم إِن هَذَا قَول أهل الْأُصُول بِالْعُمُومِ فَلَا

خلاف بَين النَّاس أَن أول من أحدث هَذَا القَوْل فِي الْإِسْلَام أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن سعيد بن كلاب الْبَصْرِيّ وَاتبعهُ على ذَلِك أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَمن نصر طريقتهما وَكَانَا يخالفان الْمُعْتَزلَة ويوافقان أهل السّنة فِي جمل أصُول السّنة وَلَكِن لتقصيرهما فِي علم السّنة وتسليمهما للمعتزلة أصولا فَاسِدَة صَار فِي مَوَاضِع من قوليهما مَوَاضِع فِيهَا من قَول الْمُعْتَزلَة مَا خالفا بِهِ السّنة وَإِن كَانَا لم يوافقا الْمُعْتَزلَة مُطلقًا وَهَذِه الْمَسْأَلَة مسالة حد الْكَلَام قد أنكرها عَلَيْهِمَا جَمِيع طوائف الْمُسلمين حَتَّى الْفُقَهَاء والأصوليون والمصنفون فِي اصول الْفِقْه على مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد يذكرُونَ الْكَلَام وأنواعه من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر وَمَا فِيهِ من الْعَام وَالْخَاص وَأَن الصِّيغَة دَاخِلَة فِي مُسَمّى ذَلِك عِنْد جَمِيع فرق الْأمة أصوليها وفقيهها ومحدثها وصوفيها إِلَّا عِنْد هَؤُلَاءِ فَكيف يُضَاف هَذَا القَوْل إِلَى أهل الاصول عُمُوما وإطلاقا ثمَّ من الْعجب قَول ابي الْقَاسِم عَن أهل الْأُصُول هُوَ الْمَعْنى الَّذِي قَامَ بِالْقَلْبِ من معنى الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار وَمَعْلُوم أَن الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار أَنْوَاع الْكَلَام وَالْجِنْس يَنْقَسِم إِلَى أَنْوَاعه واسْمه صَادِق على كل نوع من الانواع كَمَا إِذا قسمنا الْحَيَوَان إِلَى طير ودواب يعمهما وَيصدق اسْمه على كل مِنْهُمَا فَيجب أَن يكون حد الْكَلَام واسْمه صَادِقا على أَنْوَاعه من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر

فصل في الحديث الذي في الصحيحين عن جويرية أم المؤمنين لما خرج النبي

والاستخبار فَإِن كَانَ الْكَلَام لَيْسَ إِلَّا مُجَرّد الْمَعْنى فَهَذِهِ الْأَنْوَاع لَيست إِلَّا مُجَرّد معنى فَإِذا قَالَ إِن الْكَلَام هُوَ الْمَعْنى الَّذِي قَامَ بِالْقَلْبِ من معنى الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار كَانَ قد جعل الْمَعْنى الَّذِي لِلْأَمْرِ غير الْأَمر وَهَذَا يُطَابق قَول اهل الْجَمَاعَة لَا يُطَابق قَوْله بل كَانَ حَقه أَن يَقُول الْمَعْنى الَّذِي قَامَ بِالْقَلْبِ من الْأَمر وَالنَّهْي لَا من معنى الْأَمر وَالنَّهْي لكنه تكلم فِي الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار فَأَما فِي الْكَلَام فَتكلم فِيهِ بِمَا تَلقاهُ عَن أُولَئِكَ المتكلمة الَّذين أَحْسنُوا فِي مَوَاضِع كَثِيرَة وردوا بهَا على الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم وأساءوا فِي مَوَاضِع خالفوا بهَا السّنة وَإِن كَانُوا متأولين وَالله يغْفر لجَمِيع الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم [سُورَة الْحَشْر 10] فصل فِي الحَدِيث الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن جوَيْرِية أم الْمُؤمنِينَ لما خرج النَّبِي ص من عِنْدهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَوَجَدَهَا تسبح بحصى فَقَالَ لَهَا مَا زلت مُنْذُ الْيَوْم قَالَت نعم قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقد قلت بعْدك أَربع كَلِمَات ثَلَاث مَرَّات لَو وزنت بِمَا قلتيهن مُنْذُ الْيَوْم لوزنتهن سُبْحَانَ الله عدد خلقه سُبْحَانَ

الله زنة عَرْشه سُبْحَانَ الله رضَا نَفسه سُبْحَانَ الله مداد كَلِمَاته فِيهِ فَوَائِد ترد على الْجَهْمِية والمتفلسفة مِنْهَا قَوْله زنة عَرْشه وَذَلِكَ فِي معرض التَّعْظِيم لوزن الْعَرْش وَأَنه أعظم الْمَخْلُوقَات وزنا وَذَلِكَ يدل على ثقله كَمَا جَاءَت بعض الْأَحَادِيث بثقله خلافًا لما يَقُوله من يَقُوله المتفلسفة إِن الأفلاك وَمَا فَوْقهَا لَيْسَ بثقيل وَلَا خَفِيف بِنَاء على اصْطِلَاح لَهُم الثقيل مَا تحرّك إِلَى السّفل والخفيف مَا تحرّك إِلَى فَوق وَإِن الأفلاك لَا تهبط وَلَا تصعد وَذَلِكَ أَن الله أمْسكهَا بقدرته كَمَا امسك الارض فِي مقرها مَعَ الْعلم بِأَن مقرّ الْأَجْسَام أَمر عدمي لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجب اخْتِصَاص شئ بِهِ دون الآخر وَمِنْهَا قَوْله رضَا نَفسه فِيهِ إِثْبَات نَفسه وَإِثْبَات رِضَاهُ وَأَن رِضَاهُ لَيْسَ هُوَ مُجَرّد إِرَادَته فَإِنَّهُ قد قَالَ عدد خلقه والمخلوق هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ وشاءه فَلَو كَانَ رِضَاهُ هُوَ إِرَادَته لَكَانَ مُرَاده مَوْجُودا فَإِن مُرَاده قد وجد قبل هَذَا الْكَلَام فَإِنَّهُ مَا شَاءَ الله كَانَ وَهَذَا الْكَلَام

يَقْتَضِي أَن رضى نَفسه أعظم من ذَلِك وَمن ذَلِك أَنه جمع بَين رضَا نَفسه ومداد كَلِمَاته فَأثْبت لَهُ الرِّضَا وَالْكَلَام وَالرِّضَا مُسْتَلْزم الْإِرَادَة وَإِن لم يكن هُوَ عين الْإِرَادَة فَفِيهِ إِثْبَات كَلَامه وَرضَاهُ الَّذِي يتَضَمَّن محبته ومشيئته وَهَاتَانِ الصفتان الصفتان هما اللَّتَان أنكرهما الْجَعْد بن دِرْهَم أول الْجَهْمِية لما زعم أَن الله لم يتَّخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا إِذْ لَا محبَّة لَهُ وَلَا رضَا وَلم يكلم مُوسَى تكليما وَعَن ذَلِك نفت الْمُعْتَزلَة أَن يكون لَهُ فِي نَفسه إِرَادَة أَو كَلَام وَلم يجْعَلُوا ذَلِك إِلَّا مخلوقا فِي غَيره وتقرب مِنْهُم طَائِفَة من الأشعرية فأثبتت الْإِرَادَة وَلم يجْعَلُوا الْمحبَّة وَالرِّضَا صفة إِلَّا الْإِرَادَة وأثبتت الْكَلَام وَلم يَجْعَلُوهُ إِلَّا معنى وَاحِدًا قَائِما بِذَاتِهِ فَوَافَقُوا أهل الْإِثْبَات فِي بعض الْحق والجهمية فِي بعض الْبَاطِل وَمن ذَلِك أَنه انْتقل من صفة الْمَخْلُوق إِلَى صفة الْخَالِق فَذكر عدد الْمَخْلُوقَات وَذكر وزن سقفها وَأَعْظَمهَا كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سَأَلْتُم الله فسلوه الفردوس فَإِنَّهَا وسط الْجنَّة وَأَعْلَى الْجنَّة وسقفها عرش الرَّحْمَن

فصل يتعلق بالسماع قال أبو القاسم القشيري في باب السماع قال الله

فصل يتَعَلَّق بِالسَّمَاعِ قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي بَاب السماع قَالَ الله تَعَالَى فبشر عبَادي الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه [سُورَة الزمر 18] قَالَ أَبُو الْقَاسِم اللَّام فِي قَوْله القَوْل تَقْتَضِي التَّعْمِيم والاستغراق وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه مدحهم بأتباع الْأَحْسَن قلت وَهَذَا يذكرهُ طَائِفَة مِنْهُم أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَغَيره وَهُوَ غلط بأتفاق الْأمة وأئمتها لوجوه احدهما أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَأْمر باستماع كل قَول بِإِجْمَاع الْمُسلمين حَتَّى يُقَال اللَّام للاستغراق والعموم بل من القَوْل مَا يحرم استماعه وَمِنْه مَا يكره كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اسْتمع إِلَى حَدِيث قوم وهم لَهُ كَارِهُون صب فِي أُذُنَيْهِ الآنك يَوْم الْقِيَامَة

وَقد قَالَ تَعَالَى وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره وَإِمَّا ينسينك الشَّيْطَان فَلَا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين وَمَا على الَّذين يَتَّقُونَ من حسابهم من شئ وَلَكِن ذكرى لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ [سُورَة الْأَنْعَام 68 69] فقد أَمر سُبْحَانَهُ بِالْإِعْرَاضِ عَن كَلَام الخائضين فِي آيَاته وَنهى عَن الْقعُود مَعَهم فَكيف يكون اسْتِمَاع كل قَول مَحْمُودًا وَقَالَ تَعَالَى وَقد نزل عَلَيْكُم فِي الْكتاب أَن إِذا سَمِعْتُمْ آيا ت الله يكفر بهَا ويستهزئ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلهم [سُورَة النِّسَاء 140] فَجعل الله المستمع لهَذَا الحَدِيث مثل قَائِله فَكيف يمدح كل مستمع كل قَول وَقَالَ تَعَالَى قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون وَالَّذين هم عَن اللَّغْو معرضون [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 1 3] وَقَالَ تَعَالَى وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هونا وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما إِلَى قَوْله وَإِذا مروا بِاللَّغْوِ مروا كراما [سُورَة الْفرْقَان 63 72] وروى أَن ابْن مَسْعُود سمع صَوت لَهو فَأَعْرض عَنهُ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن كَانَ ابْن مَسْعُود لكريما

فَإِذا كَانَ الله تَعَالَى قد مدح وَأثْنى عَليّ من أعرض عَن اللَّغْو وَمر بِهِ كَرِيمًا لم يستمعه كَيفَ يكون اسْتِمَاع كل قَول مدوحا وَقد قَالَ تَعَالَى وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسئولا [سُورَة الْإِسْرَاء 36] فقد أخبر أَنه يسْأَل العَبْد عَن سَمعه وبصره وفؤاده وَنَهَاهُ أَن يَقُول مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم وَإِذا كَانَ السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل ذَلِك منقسم إِلَى مَا يُؤمر بِهِ وَإِلَى مَا ينْهَى عَنهُ وَالْعَبْد مسئول عَن ذَلِك كُله كَيفَ يجوز أَن يُقَال كل قَول فِي الْعَالم كَانَ فَالْعَبْد مَحْمُود على استماعه هَذَا بِمَنْزِلَة أَن يُقَال كل مرئي فِي الْعَالم فَالْعَبْد ممدوح على النّظر إِلَيْهِ وَلِهَذَا دخل الشَّيْطَان من هذَيْن الْبَابَيْنِ على كثير من النساك فتوسعوا فِي النّظر إِلَى الصُّور المنهى عَن النّظر إِلَيْهَا وَفِي اسْتِمَاع الْأَقْوَال والأصوات الَّتِي نهوا عَن استماعها وَلم يكتف الشَّيْطَان بذلك حَتَّى زين لَهُم أَن جعلُوا مَا نهوا عَنهُ عبَادَة وقربة وَطَاعَة فَلم يحرموا مَا حرم الله وَرَسُوله وَلم يدينوا دين الْحق كَمَا حكى عَن أبي سعيد الخراز أَنه قَالَ رَأَيْت إِبْلِيس فِي النّوم

وَهُوَ يمر عني نَاحيَة فَقلت لَهُ تعال مَالك فَقَالَ بقى لي فِيكُم لَطِيفَة السماع وصحبة الْأَحْدَاث وَأَصْحَاب ذَلِك وَإِن كَانَ فيهم من ولَايَة الله وتقواهم ومحبته والقرب إِلَيْهِ مَا فاقوا بِهِ على من لم يساوهم فِي مقامهم فليسوا فِي ذَلِك بأعظم من أكَابِر السّلف المقتتلين فِي الْفِتْنَة وَالسَّلَف المستحلين لطائفة من الْأَشْرِبَة المسكرة والمستحلين لربا الْفضل والمتعة والمستحلين للحشوش كَمَا قَالَ عبد الله بن الْمُبَارك رب رجل فِي الْإِسْلَام لَهُ قدم حسن وآثار صَالِحَة كَانَت مِنْهُ الهفوة والزلة لَا يقْتَدى بِهِ فِي هفوته وزلته والغلط يَقع تَارَة فِي استحلال الْمحرم بالتأويل وَفِي ترك الْوَاجِب بالتأويل وَفِي جعل الْمحرم عبَادَة بالتأويل كالمقتتلين فِي الْفِتْنَة حَيْثُ رَأَوْا ذَلِك وَاجِبا ومستحبا وكما قَالَ طَائِفَة مثل عبد الله بن دَاوُد

الْحَرْبِيّ وَغَيره إِن شرب النَّبِيذ الْمُخْتَلف فِيهِ أفضل من تَركه فالتأويل يتَنَاوَل الْأَصْنَاف الْخَمْسَة فَيجْعَل الْوَاجِب مُسْتَحبا ومباحا ومكروها ومحرما وَيجْعَل المرحم مَكْرُوها ومباحا ومستحبا وواجبا وَهَكَذَا فِي سائرها وَمِمَّا يعْتَبر بِهِ أَن النساك وَأهل الْعِبَادَة والإرادة توسعوا فِي السّمع وَالْبَصَر وَتوسع الْعلمَاء وَأهل الْكَلَام وَالنَّظَر فِي الْكَلَام وَالنَّظَر بِالْقَلْبِ حَتَّى صَار لهَؤُلَاء الْكَلَام الْمُحدث ولهؤلاء السماع الْمُحدث هَؤُلَاءِ فِي الْحُرُوف وَهَؤُلَاء فِي الصَّوْت وتجد أهل السماع كثيري الْإِنْكَار على أهل الْكَلَام كَمَا صنف الشَّيْخ ابو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ مصنفا فِي ذمّ الْكَلَام وَأَهله وهما من أَئِمَّة أهل السماع ونجد أهل الْعلم وَالْكَلَام مبالغين فِي ذمّ أهل السماع كَمَا نجده فِي كَلَام أبي بكر بن فورك وَكَلَام الْمُتَكَلِّمين فِي ذمّ السماع وَأَهله والصوفية مَا لَا يُحْصى كَثْرَة وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ فيهم انحراف يشبه انحراف الْيَهُود أهل الْعلم

وَالْكَلَام وَهَؤُلَاء فيهم انحراف يشبه انحراف النَّصَارَى أهل الْعِبَادَة والإرادة وَقد قَالَ الله فِي الطَّائِفَتَيْنِ وَقَالَت الْيَهُود لَيست النَّصَارَى على شئ وَقَالَت النَّصَارَى لَيست الْيَهُود على شئ وهم يَتلون الْكتاب كَذَلِك قَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ مثل قَوْلهم فَالله يحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سُورَة الْبَقَرَة 113] وَلِهَذَا تَجِد تنافرا بَين الْفُقَهَاء والصوفية وَبَين الْعلمَاء والفقراء إمن هَذَا الْوَجْه وَالصَّوَاب أَن يحمد من حَال كل قوم مَا حَمده الله وَرَسُوله كَمَا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة ويذم من حَال كل قوم مَا ذمه الله وَرَسُوله كَمَا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة ويجتهد الْمُسلم فِي تَحْقِيق قَوْله اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين [سُورَة الْفَاتِحَة 6 7] قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيَهُود مغضوب عَلَيْهِم وَالنَّصَارَى ضالون وَقد تكلمنا على بعض مَا يتَعَلَّق

بِهَذِهِ الْأُمُور فِي غير هَذَا الْموضع فِي مَوَاضِع الْوَجْه الثَّانِي أَن المُرَاد بالْقَوْل فِي هَذَا الْموضع الْقُرْآن كَمَا جَاءَ ذَلِك فِي قَوْله وَلَقَد وصلنا لَهُم القَوْل لَعَلَّهُم يتذكرون [سُورَة الْقَصَص 51] فَإِن القَوْل الَّذِي أمروا بتدبره هُوَ الَّذِي أمروا بأستماعه والتدبر بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال وَالِاعْتِبَار وَالِاسْتِمَاع فَمن أمرنَا بأستماع كل قَول أَو بأستماع القَوْل الَّذِي لم يشرع استماعه فَهُوَ بِمَنْزِلَة من أَمر بتدبر كل قَول وَالنَّظَر فِيهِ أَو بالتدبر للْكَلَام الَّذِي لم يشرع تدبره وَالنَّظَر فِيهِ فالمنحرفون فِي النّظر وَالِاسْتِدْلَال بِمثل هَذِه الْأَقْوَال من أهل الْكَلَام المبتدع وَذَلِكَ أَن اللَّام فِي لُغَة الْعَرَب هِيَ للتعريف فتنصرف إِلَى الْمَعْرُوف عِنْد الْمُتَكَلّم والمخاطب وَهِي تعم جَمِيع الْمَعْرُوف فَاللَّام فِي القَوْل تَقْتَضِي التَّعْمِيم والاستغراق لَكِن عُمُوم مَا عَرفته وَهُوَ القَوْل الْمَعْهُود الْمَعْرُوف بَين الْمُخَاطب والمخاطب وَمَعْلُوم ان ذَلِك هُوَ القَوْل الَّذِي أثنى الله عَلَيْهِ وأمرنا بأستماعه والتدبر لَهُ واتباعه فَإِنَّهُ قَالَ فِي أول هَذِه السُّورَة تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْحَكِيم إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ فأعبد الله مخلصا لَهُ الدّين الا لله الدّين

الْخَالِص [سُورَة الزمر 1 3] فَذكر فِي السُّورَة كَلَامه وَدينه الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح وَخير الْكَلَام كَلَام الله وأصل الْعَمَل الصَّالح عبَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ كَمَا فِي قَوْله قل الله أعبد مخلصا لَهُ ديني فأعبدوا مَا شِئْتُم من دونه قل إِن الخاسرين الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يَوْم الْقِيَامَة أَلا ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين إِلَى قَوْله وَالَّذين اجتنبوا الطاغوت أَن يعبدوا وأنابوا إِلَى الله لَهُم الْبُشْرَى فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه أُولَئِكَ الَّذين هدَاهُم الله وَأُولَئِكَ هم اولو الْأَلْبَاب [سُورَة الزمر 14 18] ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك {أَفَمَن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ على نور من ربه فويل للقاسية قُلُوبهم من ذكر الله أُولَئِكَ فِي ضلال مُبين الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابها مثاني تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله} [سُورَة الزمر 22 23] فَأثْنى على أهل السماع والوجد للْحَدِيث الَّذِي نزله وَهُوَ أحسن الحَدِيث وَلم يثن على مُطلق الحَدِيث ومستمعه بل تضمن السِّيَاق الثَّنَاء على أهل ذكره وَالِاسْتِمَاع لحديثه كَمَا جمع بَينهمَا فِي قَوْله {ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم لذكر الله وَمَا نزل من الْحق} [سُورَة الْحَدِيد 16] وَفِي قَوْله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله}

{وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} [سُورَة الْأَنْفَال 2] وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا وخيفة وَدون الْجَهْر من القَوْل} [سُورَة الْأَعْرَاف 204 205] ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك {وَلَقَد ضربنا للنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآن من كل مثل لَعَلَّهُم يتذكرون قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} [سُورَة الزمر 27 28] فَذكر الْقُرْآن وَبَين أَنه قدر فِيهِ من جَمِيع المقاييس والأمثال المضروبة لأجل التَّذْكِير فدعى هُنَا إِلَى التَّذْكِير وَالِاعْتِبَار بِمَا فِيهِ من الْأَمْثَال وَذَلِكَ يتَضَمَّن النّظر وَالِاسْتِدْلَال وَالْكَلَام الْمَشْرُوع كَمَا أَنه فِي الْآيَة الأولى أثنى على أهل السماع لَهُ والوجد وَذَلِكَ يتَضَمَّن السماع والوجد الْمَشْرُوع ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون [سُورَة الزمر 32 33] ذكر البُخَارِيّ فِي صَحِيحه تَفْسِير مُجَاهِد وَهُوَ أصح تَفْسِير التَّابِعين قَالَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ الْقُرْآن وَصدق بِهِ الْمُؤمن

يجِئ يَوْم الْقِيَامَة يَقُول هَذَا الَّذِي أَعْطَيْتنِي عملت بِمَا فِيهِ فَذكر الصدْق والمصدق بِهِ مثنيا عَلَيْهِ وَذكر الْكَاذِب والمكذب للحق وهما نَوْعَانِ من القَوْل ملعونان هما وَأَهْلهَا فَكيف يكون مثنيا على من استمعها وَلَا ريب أَن الْبِدْعَة الكلامية والسماعية الْمُخَالفَة للْكتاب وَالسّنة تَتَضَمَّن الْكَذِب على الله والتكذيب بِالْحَقِّ كالجهمية الَّذين يصفونَ الله بِخِلَاف ماوصف بِهِ نَفسه فيفترون عَلَيْهِ الْكَذِب أَو يروون فِي ذَلِك آثَار مُضَافَة إِلَى الله أَو يضْربُونَ مقاييس ويسندونها إِلَى الْعُلُوم الضرورية والمعقول الصَّحِيح الَّذِي هُوَ حق من الله وكل ذَلِك كذب ويكذبون بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ وَهُوَ مَا ورد بِهِ الْكتاب وَالسّنة من الْخَبَر بِالْحَقِّ والأمثال المضروبة لَهُ وَكَذَلِكَ كثير من الأشعارالتي يسْمعهَا اهل السماع قد يتَضَمَّن من الْكَذِب على الله والتكذيب بِالْحَقِّ أنواعا وَنَفس الِانْتِصَار لما خَالف الشَّرِيعَة من السماع وَغَيره يتَضَمَّن الْكَذِب على الله مثل أَن يَقُول الْقَائِل إِن الله أَرَادَ بقوله {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل} [سُورَة الزمر 18] مستمع كل قَول فِي الْعَالم فَهَذَا كذب على الله وَإِن كَانَ قَائِله منا وَلِأَنَّهُم يكذبُون بِالْحَقِّ الْمُخَالف لأهوائهم

ثمَّ قَالَ تَعَالَى بعد ذَلِك إِنَّا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ فَمن اهْتَدَى فلنفسه وَمن ضل فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا وَمَا انت عَلَيْهِم بوكيل [سُورَة الزمر 41] فَأخْبر أَنه أنزل القَوْل الَّذِي هُوَ الْكتاب بِالْحَقِّ وَإِن المهتدى لنَفسِهِ هداه وضلاله على نَفسه وَالرَّسُول لَيْسَ بوكيل عَلَيْهِم يُحْصى أَعْمَالهم ويجزيهم عَلَيْهَا بل إِلَى الله إيابهم وعَلى الله حسابهم ثمَّ قَالَ يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم وَلَا تقنطوا من رَحْمَة الله إِلَى قَوْله {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} [سُورَة الزمر 53 55] وَهَذَا الْأَحْسَن هُنَا هُوَ الْأَحْسَن الَّذِي فِي قَوْله {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} [سُورَة الزمر 18] وَفِي قَوْله لمُوسَى عَن التَّوْرَاة {فَخذهَا بِقُوَّة وَأمر قَوْمك يَأْخُذُوا بأحسنها} [سُورَة الْأَعْرَاف 145] كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله ثمَّ قَالَ وسيق الَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم زمرا حَتَّى إِذا جاؤوها فتحت ابوابها وَقَالَ لَهُم خزنتها ألم يأتكم رسل مِنْكُم يَتلون عَلَيْكُم آيَات ربكُم وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا بِلَا إِلَى قَوْله {وسيق الَّذين اتَّقوا رَبهم إِلَى الْجنَّة زمرا} إِلَى قَوْله {وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي صدقنا وعده وأورثنا الأَرْض نتبوأ من الْجنَّة حَيْثُ نشَاء فَنعم أجر العاملين} [سُورَة الزمر 71 74] مَعَ قَوْله وجئ بالنبيين وَالشُّهَدَاء [سُورَة الزمر 69]

فَجعل الْفرْقَان بَين أهل الْجنَّة وَالنَّار هَؤُلَاءِ الْآيَات الَّتِي تلتها الرُّسُل عَلَيْهِم فَمن استمعها واتبعها كَانَ من الْمُؤمنِينَ أهل الْجنَّة وَمن أعرض عَنْهَا كَانَ من الْكَافرين أهل النَّار وَالْكتاب هُوَ الَّذِي جعله الله حَاكما بَين النَّاس كَمَا قَالَ {وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ} [سُورَة الْبَقَرَة 213] فَهَذَا كُله إِذا تدبره الْمُؤمن علم علما يَقِينا أَن الْكتاب وَالْقَوْل والْحَدِيث وآيات الله كل ذَلِك وَاحِد والمحمودون الَّذين أثنى الله عَلَيْهِم هم المتبعون لذَلِك استماعا وتدبرا وإيمانا وَعَملا أما مدح الِاسْتِمَاع لكل قَول فَهَذَا لَا يَقْصِدهُ عَاقل فضلا عَن ان يُفَسر بِهِ كَلَام الله وَهَذَا يتوكد بِالْوَجْهِ الثَّالِث وَهُوَ ان الله فِي كِتَابه إِنَّمَا حمد اسْتِمَاع الْقُرْآن وذم المعرضين عَن استماعه وجعلهم أهل الْكفْر وَالْجهل الصم الْبكم فَأَما مدحه لاستماع كل قَول فَهَذَا شئ لم يذكرهُ الله قطّ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون} [سُورَة الْأَعْرَاف 204] وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} [سُورَة الْأَنْفَال 2] وَقَالَ تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين من ذُرِّيَّة}

{آدم وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم وَإِسْرَائِيل وَمِمَّنْ هدينَا واجتبينا إِذا تتلى عَلَيْهِم آيَات الرَّحْمَن خروا سجدا وبكيا} [سُورَة مَرْيَم 58] وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق} [سُورَة الْمَائِدَة 83] وَقَالَ تَعَالَى {الَّذين أُوتُوا الْعلم من قبله إِذا يُتْلَى عَلَيْهِم يخرون للأذقان سجدا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبنَا إِن كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا ويخرون للأذقان يَبْكُونَ ويزيدهم خشوعا} [سُورَة الْإِسْرَاء 107 109] وَقَالَ الله تَعَالَى فِي ذمّ المعرضين عَنهُ {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [سُورَة الْأَنْفَال 22 23] وَقَالَ تَعَالَى {وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع إِلَّا دُعَاء ونداء صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ} [سُورَة الْبَقَرَة 171] وَقَالَ تَعَالَى وَالَّذين إِذا ذكرُوا بآيَات رَبهم لم يخروا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا [سُورَة الْفرْقَان 73] وفال تَعَالَى وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تغلبون سُورَة فصلت 26 وَقَالَ تَعَالَى فَمَا لَهُم عَن التَّذْكِرَة معرضين كَأَنَّهُمْ حمر

مستفرة فرت من قسورة [سُورَة المدثر 49 51] وَقَالَ تَعَالَى أَفَمَن هَذَا الحَدِيث تعْجبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُم سامدون [سُورَة النَّجْم 59 61] قَالَ غير وَاحِد من السّلف هُوَ الْغناء فَقَالَ اسمد لنا أَي عَن لنا فذم المعرض عَمَّا يجب من اسْتِمَاع المشتغل عَنهُ باستماع الْغناء كَمَا هُوَ فعل كثير من الَّذين أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات وَحَال كثير من المتنسكة فِي اعتياضهم بِسَمَاع المكاء والتصدية عَن سَماع قَول الله تَعَالَى وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث ليضل عَن سَبِيل الله بِغَيْر علم ويتخذها هزوا [سُورَة لُقْمَان 6] وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين كفرُوا سَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ ختم الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم ثمَّ قَالَ وعَلى أَبْصَارهم غشاوة [سُورَة الْبَقَرَة 6 7] وَقَالَ تَعَالَى وَقَالُوا قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ وَفِي آذاننا وقر وَمن بَيْننَا وَبَيْنك حجاب فاعمل إننا عاملون [سُورَة فصلت 5]

وَقَالَ تَعَالَى وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك حَتَّى إِذا خَرجُوا من عنْدك قَالُوا للَّذين أُوتُوا الْعلم مَاذَا قَالَ آنِفا أُولَئِكَ الَّذين طبع الله على قُلُوبهم وَاتبعُوا أهواءهم [سُورَة مُحَمَّد 16] وَقَالَ وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك أفأنت تسمع الصم وَلَو كَانُوا لَا يعْقلُونَ [سُورَة يُونُس 42] وَقَالَ وَمِنْهُم من ينظر إِلَيْك أفأنت تهدى الْعَمى وَلَو كَانُوا لَا يبصرون [سُورَة يُونُس 43] وَقَالَ تَعَالَى وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا [سُورَة الْأَنْعَام 25] الْوَجْه الرَّابِع أَنهم لَا يستحسنون اسْتِمَاع كل قَول منظوم ومنثور بل هم من أعظم النَّاس كَرَاهَة ونفرة لما لَا يحبونه من الْأَقْوَال منظومها ومنثورها ونفورهم عَن كثير من الْأَقْوَال أعظم من نفور المنازع لَهُم فِي سَماع المكاء والتصدية عَن هَذَا السماع وَإِذا لم يكن الْعُمُوم مرَادا بالِاتِّفَاقِ كَانَ حمل الْآيَة عَلَيْهِ بَاطِلا الْوَجْه الْخَامِس أَنه قَالَ فبشر عباد الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه سُورَة الزمر 17 18] فمدحهم بأستماع القَوْل وَاتِّبَاع أحْسنه وَمَعْلُوم أَن كثيرا من القَوْل لَيْسَ فِيهِ حسن فضلا عَن ان يكون فِيهِ أحسن بل فِيهِ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَمثل كلمة خبيثة

كشجرة خبيثة اجتثت من فَوق الأَرْض مَا لَهَا من قَرَار [سُورَة إِبْرَاهِيم 26] وَقَالَ تَعَالَى وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أوكذب بِالْحَقِّ لما جَاءُوهُ [سُورَة العنكبوت 68] وَقَالَ وَكَذَلِكَ نجزي المفترين [سُورَة الاعراف 152] وَقَالَ وَلَا يغتب بَعْضكُم بعبضا [سُورَة الحجرات 12] وَقَالَ تَعَالَى وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ [سُورَة الحجرات 11] وَقَالَ إِذا تناجيتم فَلَا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرَّسُول [سُورَة المجادلة 9] وَقَالَ تَعَالَى وَيَقُولُونَ طَاعَة فَإِذا برزوا من عنْدك بَيت طَائِفَة مِنْهُم غير الَّذِي تَقول وَالله يكْتب مَا يبيتُونَ فَأَعْرض عَنْهُم وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا [سُورَة النِّسَاء 81] وَهُوَ قد اسْتدلَّ بقوله فيتبعون أحْسنه [سُورَة الزمر 18] على الْعُمُوم وَهُوَ حجَّة على صدق ذَلِك كَمَا تقدم وَقَوله فيتبعون أحْسنه كَقَوْلِه فِي هَذِه السُّورَة وَاتبعُوا أحسن مَا انْزِلْ إِلَيْكُم من ربكُم [سُورَة الزمر 55] فَهَذِهِ الْكَلِمَة مثل هَذِه الْكَلِمَة سَوَاء بِسَوَاء وَهَذَا من مَعَاني تشابه الْقُرْآن كَمَا قَالَ تَعَالَى الله نزل أحسن

الحَدِيث كتابا متشابها مثانى [سُورَة الزمر 23] فأتباع أحسن مَا أنزل إِلَيْنَا من رَبنَا هُوَ اتِّبَاع أحسن القَوْل وَبِهَذَا أَمر بني إِسْرَائِيل حَيْثُ قَالَ وكتبنا لَهُ فِي الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فَخذهَا بِقُوَّة وَأمر قَوْمك يَأْخُذُوا بأحسنها [سُورَة الْأَعْرَاف 145] ثمَّ قَالَ ابو الْقَاسِم وَقَالَ تَعَالَى فهم فِي رَوْضَة يحبرون [سُورَة الرّوم 15] جَاءَ فِي التَّفْسِير أَنه السماع قلت فَهَذَا قد ورد عَن طَائِفَة من السّلف أَنه السماع الْحسن فِي الْجنَّة وان الْحور الْعين يغنين بِأَصْوَات لم يسمع الْخَلَائق بِأَحْسَن مِنْهَا لَكِن تنعيم الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ بالأصوات الْحَسَنَة فِي الْجنَّة واستماعها لَا يَقْتَضِي أَنه يشرع أَو يُبِيح سَماع كل صَوت فِي الدُّنْيَا فقد وعد فِي الْآخِرَة بأَشْيَاء حرمهَا فِي الدُّنْيَا كَالْخمرِ وَالْحَرِير واواني الذَّهَب وَالْفِضَّة بل قَالَ ص من شرب الْخمر فِي الدُّنْيَا لم يشْربهَا فِي الْآخِرَة وَقَالَ من لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي

الْآخِرَة وَقَالَ لَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا تَأْكُلُوا فِي صحافها فَإِنَّهَا لَهُم فِي الدُّنْيَا وَلكم فِي الْآخِرَة وَهَذِه الْأَحَادِيث من الصِّحَاح الْمَشَاهِير الْمجمع على صِحَّتهَا فقد أخبر أَنه من اسْتعْمل هَذِه الامور فِي الدُّنْيَا من المطعوم والملبوس وَغَيرهَا لم يستعلمه فِي الْآخِرَة فَلَو قيل لَهُ هَذَا السماع الْحسن الْمَوْعُود بِهِ فِي الْجنَّة هُوَ لمن نزه مسامعه فِي الدُّنْيَا عَن سَماع الملاهي لَكَانَ هَذَا أشبه بِالْحَقِّ وَالسّنة وَقد ورد بِهِ الْأَثر يَقُول الله يَوْم الْقِيَامَة أَيْن الَّذين كَانُوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عَن اللَّهْو وَمَزَامِير الشَّيَاطِين أدخلوهم وأسمعوهم تحميدي وتمجيدي وَالثنَاء على وأخبروهم أَنهم لَا خوف عَلَيْهِم ولاهم يَحْزَنُونَ

ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَاعْلَم أَن سَماع الْأَشْعَار بالألحان الطّيبَة والنغم المستلذة إِذا لم يعْتَقد المستمع مَحْظُورًا وَلم يسمع على مَذْمُوم فِي الشَّرْع وَلم ينجر فِي زمَان هَوَاهُ وَلم ينخرط فِي سلك لهوه مُبَاحا فِي الْجُمْلَة وَلَا خلاف أَن الْأَشْعَار أنشدت بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه سَمعهَا وَلم يُنكر عَلَيْهِم فِي إنشادها فَإِذا جَازَ سماعهَا بِغَيْر الألحان الطّيبَة فَلَا يتَغَيَّر الحكم بِأَن يسمع بالألحان هَذَا ظَاهر من الْأَمر ثمَّ مَا يُوجب للمستمع توفر الرَّغْبَة على الطَّاعَات وتذكر مَا أعد الله لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ من الدَّرَجَات ويحمله على التَّحَرُّز من الزلات وَيُؤَدِّي إِلَى قلبه فِي الْحَال صفاء الواردات مُسْتَحبّ فِي الدّين ومختار فِي الشَّرْع قَالَ وَقد جرى على لفظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا هُوَ قريب من الشّعْر وَإِن لم يقْصد أَن يكون شعرًا وَذكر الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ عَن أنس بن مَالك قَالَ كَانَت الْأَنْصَار يحفرون الخَنْدَق

فَجعلُوا يَقُولُونَ ... نَحن الَّذين بَايعُوا مُحَمَّدًا على الْجِهَاد مَا بَقينَا أبدا ... فأجابهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... اللَّهُمَّ لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة فَأكْرم الْأَنْصَار والمهاجرة ... وَقَالَ لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ مِنْهُ ص على وزن الشّعْر قلت تضمن هَذَا الْكَلَام شَيْئَيْنِ أَحدهمَا إِبَاحَة سَماع الألحان والنغمات المستلذة بِشَرْط أَلا يعْتَقد المستمع مَحْظُورًا وَألا يسمع مذموما فِي الشَّرْع وَألا يتبع مِنْهُ هَوَاهُ وَالثَّانِي أَنما أوجد للمستمع الرَّغْبَة فِي الطَّاعَات والاحتراز من

الذُّنُوب وتذكر وعد الْحق ووصول الْأَحْوَال الْحَسَنَة إِلَى قلبه فَهُوَ مُسْتَحبّ وعَلى هَاتين المقدمتين بني من قَالَ بأستحباب ذَلِك مثل أبي عبد الرَّحْمَن السلمى وَأبي حَامِد وَغَيرهمَا وَفِي هَؤُلَاءِ من قد يُوجِبهُ أَحْيَانًا إِذا رَأَوْا أَنه لَا يُؤَدِّي الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ يفضلونه على سَماع الْقُرْآن إِذا رَأَوْا أَن مَا يحصل بِسَمَاع الألحان أَكثر مِمَّا يحصل بِسَمَاع الْقُرْآن وهم فِي ذَلِك يضاهون لمن يُوجب من الْكَلَام الْمُحدث مَا يُوجِبهُ وَلمن يفضل مَا فِيهِ من الْعلم على مَا يُسْتَفَاد من الْقُرْآن والْحَدِيث لَكِن فِي أُولَئِكَ من يرى الْإِيمَان لَا يتم إِلَّا بِمَا ابتدعوه من الْكَلَام وَفِيهِمْ من يفكى بمخالفته اَوْ يفسق وَأهل السماع أَيْضا فيهم من يرى الْإِيمَان لَا يتم إِلَّا بِهِ وَفِيهِمْ من يَقُول فِي منكره الْأَقْوَال الْعَظِيمَة وَقد يكون يسْعَى فِي قتل منكره لَكِن جنسهم كَانَ خيرا من جنس المتكلمة مِمَّا فعلوا غير ذَلِك

من الذُّنُوب كَمَا يستحبون علم الْكَلَام ويوجبونه ويذمون تَاركه ويسبونه ويعاملونه من الْعَدَاوَة بِمَا يُعَامل بِهِ الْكَافِر وبإزاء اسْتِحْبَاب هَؤُلَاءِ أَو ايجابهم أَن قوما من أهل الْعلم يكفرونهم بأستحباب ذَلِك أَو إِيجَابه وَلِهَذَا تَجِد فِي المستحبين لَهُ وَفِي المنكرين لَهُ من الغلو مَا اوجب الِافْتِرَاق والعداوة والبغضاء وأصل ذَلِك ترك الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا لما شَرعه الله من السماع الشَّرْعِيّ الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله وعباده الْمُؤْمِنُونَ وَهَاتَانِ المقدمتان كِلَاهُمَا غلط مُشْتَمل على دَلِيل مُجمل من جنس استدلالهم بِمَا ظنوه من الْعُمُوم فِي قَوْله الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه [سُورَة الزمر 18] وَبِمَا وعد الله بِهِ فِي الْآخِرَة من السماع الْحسن وَلِهَذَا نَشأ من هَاتين المقدمتين اللَّتَيْنِ لبس فيهمَا الْحق بِالْبَاطِلِ قَول لم يذهب إِلَيْهِ أحد من سلف الْأمة وَلَا أئمتها فَإِنَّهُ وَإِن نقل عَن بعض أهل الْمَدِينَة وَغَيرهم أَنه سمع الْغناء فَلم يقل أحد مِنْهُم أَنه مُسْتَحبّ فِي الدّين ومختار فِي الشَّرْع اصلا بل كَانَ فَاعل ذَلِك مِنْهُم يرى مَعَ ذَلِك كَرَاهَته وَأَن تَركه أفضل أَو يرى أَنه من الذُّنُوب وغايته أَن يطْلب سَلَامَته من الْإِثْم اَوْ يرَاهُ مُبَاحا كألتوسع فِي لذات المطاعم والمشارب والملابس والمساكن فَأَما رَجَاء الثَّوَاب بِفِعْلِهِ والتقرب إِلَى الله فَهَذَا لَا

يحفظ عَن أحد من سلف الْأمة وأئمتها بل الْمَحْفُوظ عَنْهُم أَنهم رَأَوْا هَذَا من ابتداع الزَّنَادِقَة كَمَا قَالَ الْحسن بن عبد الْعَزِيز الجروي سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول خلفت بِبَغْدَاد شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التغبير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن والتغبير هُوَ الضَّرْب بالقضيب غبر أَي أثار غبارا وَهُوَ آلَة من الْآلَات الَّتِي تقرن بتلحين الْغناء وَالشَّافِعِيّ بِكَمَال علمه وإيمانه علم ان هَذَا مِمَّا يصد الْقُلُوب عَن الْقُرْآن ويعوضها بِهِ عَنهُ كَمَا قد وَقع أَن هَذَا إِنَّمَا يَقْصِدهُ زندبق مُنَافِق من منافقة الْمُشْركين أَو الصابئين وَأهل الْكتاب فَإِنَّهُم هم الَّذين أمروا بِهَذَا فِي الأَصْل كَمَا قَالَ ابْن الرواندي اخْتلف الْفُقَهَاء فِي

السماع فَقَالَ بَعضهم هُوَ مُبَاح وَقَالَ بَعضهم هُوَ محرم وَعِنْدِي أَنه وَاجِب وَهَذَا مِمَّا اعتضد بِهِ أَبُو عبد الرَّحْمَن فِي مَسْأَلَة السماع وَهَذَا مُتَّهم بالزندقة وَكَذَلِكَ ابْن سينا فِي إشاراته أَمر بِسَمَاع الألحان وبعشق الصُّور وَجعل ذَلِك مِمَّا يُزكي النُّفُوس ويهذبها ويصفيها وَهُوَ من

الصابئة الَّذين خلطوا بهَا من الحنيفة مَا خلطوا وَقَبله الفارابي كَانَ إِمَامًا فِي صناعَة التصويت موسيقيا عَظِيما فَهَذَا كُله يُحَقّق قَول الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَنحن نتكلم على المقدمتين إِن شَاءَ الله بِكَلَام يُنَاسب مَا كتبته هُنَا فَأَما احتجاجه بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع مَا أنْشد بَين يَدَيْهِ من الْأَشْعَار وَلم يُنكره وَأَنه قَالَ مَا يشبه الشّعْر فَيُقَال بل الشّعْر أعظم مِمَّا وَصفته فقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن من الشّعْر حِكْمَة

وَقَالَ جاهدوا الْمُشْركين بِأَيْدِيكُمْ وألسنتكم وَأَمْوَالكُمْ وَكَانَ ينصب لحسان منبرا لينشد الشّعْر الَّذِي يهجو فِيهِ الْمُشْركين وَقَالَ اللَّهُمَّ أيده بِروح الْقُدس وَقَالَ ص لَهُ إِن روح الْقُدس مَعَك مَا دمت تنافح عَن نبيه وَقَالَ عَن عبد الله بن رَوَاحَة إِن أَخا لكم لَا يَقُول الرَّفَث

وَقد استنشد الشريد بن سُوَيْد الثَّقَفِيّ مائَة قافية من شعر أُميَّة بن أبي الصَّلْت وَهُوَ يَقُول هيه هيه وَسمع قصيدة كَعْب بن زُهَيْر وَهَذَا بَاب وَاسع وَقد قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه بعد ان قَالَ وَالشعرَاء يتبعهُم الْغَاوُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء 224] ألم تَرَ أَنهم فِي كل وَاد يهيمون وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد مَا ظلمُوا وَسَيعْلَمُ الَّذين ظلمُوا أَي مُنْقَلب يَنْقَلِبُون [سُورَة الشُّعَرَاء 225 227] فَلم يذم الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَذكروا الله كثيرا من الشُّعَرَاء المنتصرين من بعد مَا ظلمُوا وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا

حَتَّى يرِيه خير من أَن يمتلئ شعرًا فذم الممتلئ بالشعر الَّذِي لم يسْتَعْمل بِمَا يُوجب الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح وَذكر الله كثيرا وَلم يذم الشّعْر مُطلقًا بل قد يبين معنى الحَدِيث مَا قَالَه الشَّافِعِي الشّعْر كَلَام فحسنه كحسن الْكَلَام وقبيحه كقبيحه هَذَا قَوْله فِي الشّعْر مَعَ قَوْله فِي التغبير ليبين أَن إِبَاحَة أَحدهمَا غير مستلزمة الآخر وَأما قَوْله فَإِذا جَازَ سماعهَا بِغَيْر الألحان الطّيبَة فَلَا يتَغَيَّر الحكم بِأَن تسمع بالألحان الطّيبَة هَذَا ظَاهر من الْأَمر فَإِن هَذِه حجَّة فَاسِدَة جدا وَالظَّاهِر إِنَّمَا هُوَ عكس ذَلِك فَإِن نفس سَماع الالحان مُجَردا عَن كَلَام يحْتَاج إِلَى ان تكون مُبَاحَة مَعَ انفرادها وَهَذَا من أكبر مواقع النزاع فَإِن أَكثر الْمُسلمين على خلاف ذَلِك وَلَو كَانَ كل من الشّعْر أَو التلحين مُبَاحا على الِانْفِرَاد لم يلْزم الْإِبَاحَة عِنْد الِاجْتِمَاع إِلَّا بِدَلِيل خَاص فَإِن التَّرْكِيب لَهُ خَاصَّة يتَعَيَّن الحكم بهَا

وَهَذِه الْحجَّة بِمَنْزِلَة حجَّة من قَالَ إِن خبر الْوَاحِد إِذا لم يفد الْعلم عِنْد انْفِرَاده لم يفد الْعلم مَعَ نَظَائِره وَمَعَ الْقَرَائِن فَجحد الْعلم الْحَاصِل بالتواتر وبمنزلة مَا يذكر عَن إِيَاس بن مُعَاوِيَة أَن رجلا قَالَ لَهُ مَا تَقول فِي المَاء قَالَ حَلَال قَالَ وَالتَّمْر قَالَ حَلَال قَالَ فالنبيذ قَالَ مَاء وتمر فَقَالَ لَهُ إِيَاس بن مُعَاوِيَة أَرَأَيْت لَو ضربتك بكف من تُرَاب أَكنت أَقْتلك قَالَ لَا قَالَ فَإِن ضربتك بكف من تبن أَكنت أَقْتلك قَالَ لَا قَالَ فَإِن ضربتك بِمَاء أَكنت أَقْتلك قَالَ لَا قَالَ فَإِن أخذت المَاء والتبن وَالتُّرَاب فَجَعَلتهمَا طينا وَتركته حَتَّى جف وضربتك بِهِ أَقْتلك قَالَ نعم فَقَالَ كَذَلِك النَّبِيذ يَقُول إِن الْقَاتِل هُوَ الْقُوَّة الْحَاصِلَة بالتركيب والمفسد لِلْعَقْلِ هُوَ الْقُوَّة المسكرة الْحَاصِلَة بالتركيب وَكَذَلِكَ هُنَا الَّذِي يسكر النُّفُوس ويلهيها ويصدها عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة قد يكون فِي التَّرْكِيب وَلَيْسَت الْأَصْوَات المجتمعة فِي استفزارها للنفوس وإزعاجها إِمَّا بنياحة وتحزين وَإِمَّا بإطراب وإسكار وَإِمَّا بإغضاب وحمية بِمَنْزِلَة الصَّوْت الْوَاحِد وَهَذَا الْقُرْآن الَّذِي هُوَ كَلَام الله وَقد ندب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى تَحْسِين الصَّوْت بِهِ وَقَالَ زَينُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ

وَقَالَ لأبي مُوسَى لقد مَرَرْت بك البارحة وَأَنت تقْرَأ فَجعلت أستمع لقراءتك فَقَالَ لَو علمت أَنَّك تستمع لحبرته لَك تحبيرا وَكَانَ عمر يَقُول يَا أَبَا مُوسَى ذكرنَا رَبنَا فَيقْرَأ أَبُو مُوسَى وهم يَسْتَمِعُون

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أذن الله لشئ كأذنه لنَبِيّ حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ ويجهر بِهِ وَقَالَ لله أَشد أذنا إِلَى الرجل الْحسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ من صَاحب الْقَيْنَة إِلَى قَيْنَته وَمَعَ هَذَا فَلَا يسوغ أَن يقْرَأ الْقُرْآن بألحان الْغناء وَلَا أَن يقرن بِهِ من الألحان مَا يقرن بِالْغنَاءِ من الْآلَات وَغَيرهَا لَا عِنْد من يَقُول بِإِبَاحَة ذَلِك وَلَا عِنْد من يحرمه بل الْمُسلمُونَ متفقون على الْإِنْكَار لِأَن يقرن بتحسين الصَّوْت بِالْقُرْآنِ الْآلَات المطربة بالفم كالمزامير وباليد كالغرابيل فَلَو قَالَ قَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَرَأَ الْقُرْآن وَقد استقرأه من ابْن مَسْعُود وَقد اسْتمع لقِرَاءَة أبي مُوسَى وَقَالَ لقد أُوتى مِزْمَارًا من مَزَامِير دَاوُد فَإِذا قَالَ قَائِل إِذا جَازَ ذَلِك بِغَيْر هَذِه الألحان فَلَا

بِتَغَيُّر الحكم بِأَن يسمع بالألحان كَانَ هَذَا مُنْكرا من القَوْل وزورا بأفاق النَّاس وَأما الْمُقدمَة الثَّانِيَة وَهِي قَوْله بعد أَن أثبت الْإِبَاحَة إِن مَا أوجب للمستمع أَن يوفر الرَّغْبَة على الطَّاعَات وَيذكر مَا أعد الله لِعِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ من الدَّرَجَات ويحمله على التَّحَرُّز من الزلات وَيُؤَدِّي إِلَى قلبه فِي الْحَال صفاء الواردات مُسْتَحبّ فِي الدّين ومختار فِي الشَّرْع فَنَقُول تَحْقِيق هَذِه الْمُقدمَة أَن الله سُبْحَانَهُ يحب الرَّغْبَة فِيمَا أَمر بِهِ والحذر مِمَّا نهى عَنهُ وَيُحب الْإِيمَان بوعده ووعيده وتذكر ذَلِك وَمَا يُوجِبهُ من خَشيته ورجائه ومحبته والإنابة إِلَيْهِ وَيُحب الَّذين يحبونه فَهُوَ يحب الْإِيمَان أُصُوله وفروعه وَالْمُؤمنِينَ وَالسَّمَاع يحصل المحبوب وَمَا حصل المحبوب فَهُوَ مَحْبُوب فالسماع مَحْبُوب وَهَذِه الْمُقدمَة مبناها على أصلين أَحدهمَا معرفَة مَا يُحِبهُ الله وَالثَّانِي أَن السماع يحصل مَحْبُوب الله خَالِصا أَو راجحا فَإِنَّهُ إِذا حصل محبوبه ومكروهه وَالْمَكْرُوه أغلب كَانَ مذموما وَإِن تكافأ فِيهِ المحبوب وَالْمَكْرُوه لم يكن وَلَا مَكْرُوها

أما الأَصْل الأول وَهُوَ معرفَة مَا يُحِبهُ الله فَهِيَ أسهل وَإِن كَانَ غلط فِي كثير مِنْهَا كثير من النَّاس وَأما الأَصْل الثَّانِي وَهُوَ ان السماع الْمُحدث يحصل هَذِه المحبوبات فالشأن فِيهَا فَفِيهَا زل من زل وضل من ضل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَنحن نتكلم على ذَلِك بِوُجُوه نبين بهَا إِن شَاءَ الله الْمَقْصُود الْوَجْه الأول أَن نقُول يجب أَن يعرف أَن الْمرجع فِي الْقرب والطاعات والديانات والمستحبات إِلَى الشَّرِيعَة لَيْسَ لأحد أَن يبتدع دينا لم يَأْذَن الله بِهِ وَيَقُول هَذَا يُحِبهُ الله بل بِهَذِهِ الطَّرِيق بدل دين الله وشرائعه وابتدع الشّرك وَمَا لم ينزل الله بِهِ سُلْطَانا وكل مَا فِي الْكتاب وَالسّنة وَكَلَام سلف الْأمة وأئمة الدّين ومشايخه من الحض على اتِّبَاع مَا أنزل إِلَيْنَا من رَبنَا وَاتِّبَاع صراطه الْمُسْتَقيم وَاتِّبَاع الْكتاب وَاتِّبَاع الشَّرِيعَة وَالنَّهْي عَن ضد ذَلِك فكله نهى عَن هَذَا وَهُوَ ابتداع دين لم يَأْذَن الله بِهِ سَوَاء كَانَ الدّين فِيهِ عبَادَة غير الله وَعبادَة الله بِمَا لم يَأْمر بِهِ بل دين الْحق أَن نعْبد الله وَحده لَا شريك لَهُ بِمَا أمرنَا بِهِ على أَلْسِنَة رسله كَمَا قَالَ الفضيل بن عِيَاض فِي قَوْله ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا [سُورَة الْملك 2] قَالَ أخلصه وأصوبه قيل يَا أَبَا عَليّ مَا أخلصه وأصوبه فَقَالَ إِن الْعَمَل

إِذا كَانَ خَالِصا وَلم يكن صَوَابا لم يقبل وَإِذا كَانَ صَوَابا وَلم يكن خَالِصا لم يقبل حَتَّى يكون خَالِصا صَوَابا والخالص أَن يكون لله وَالصَّوَاب أَن يكون على أَلْسِنَة وَكَلَام الْمَشَايِخ الَّذين ذكرهم أَبُو الْقَاسِم فِي هَذَا الأَصْل كثير مثل مَا ذكره عَن الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي أَنه قَالَ رُبمَا يَقع النُّكْتَة فِي قلبِي من نكت الْقَوْم أَيَّامًا فَلَا أقبل مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدين عَدْلَيْنِ الْكتاب وَالسّنة وَعَن صَاحبه أَحْمد بن أبي الْحوَاري أَنه قَالَ من عمل بِلَا أَتبَاع سنة فَبَاطِل عمله وَعَن سهل بن عبد الله التسترِي أَنه قَالَ كل فعل يَفْعَله العَبْد بِغَيْر اقْتِدَاء طَاعَة كَانَ أَو مَعْصِيّة فَهُوَ عَيْش النَّفس وكل فعل يقفعله بالاقتداء فَهُوَ عَذَاب على النَّفس وَعَن أبي حَفْص النَّيْسَابُورِي أَنه قَالَ من لم يزن أَفعاله وأحواله كل وَقت بِالْكتاب وَالسّنة وَلم يتهم خواطره فَلَا تعده فِي ديوَان الرِّجَال وَعَن الْجُنَيْد بن مُحَمَّد أَنه قَالَ الطّرق كلهَا مسدودة على الْخلق إِلَّا من اقتفى أثر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن الْجُنَيْد أَيْضا أَنه قَالَ من لم يحفظ الْقُرْآن وَلم يكْتب الحَدِيث لَا يقْتَدى بِهِ فِي هَذَا الْأَمر لِأَن علمنَا هَذَا مُقَيّد بِالْكتاب وَالسّنة وَعَن أبي

عُثْمَان النَّيْسَابُورِي أَنه قَالَ من أَمر السّنة على نَفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة وَمن أَمر الْهوى على نَفسه نطق بالبدعة قَالَ الله تَعَالَى وَإِن تطيعوا تهتدوا [سُورَة النُّور 54] وَعَن أبي حَمْزَة الْبَغْدَادِيّ قَالَ من علم طَرِيق الْحق تَعَالَى سهل عَلَيْهِ سلوكه وَلَا دَلِيل على الطَّرِيق إِلَى الله إِلَّا مُتَابعَة الرَّسُول فِي أَحْوَاله وأقواله وأفعاله وَعَن ابي عَمْرو بن نجيد قَالَ كل حَال لَا يكون نتيجة علم فَإِن ضَرَره أَكثر على صَاحبه من نَفعه وَسُئِلَ عَن التصوف فَقَالَ الصَّبْر تَحت الْأَمر والنهى وَعَن أبي يَعْقُوب النهرجورى قَالَ أفضل الْأَحْوَال مَا قَارن الْعلم وَمثل هَذَا كثير فِي كَلَام أَئِمَّة الْمَشَايِخ وهم إِنَّمَا وصوا بذلك لما يعلمونه من حَال كثير من السالكين أَنه يجْرِي مَعَ ذوقه ووجده وَمَا يرَاهُ ويهواه غير مُتبع لسبيل الله الَّتِي بعث بهَا وَهَذَا نوع الْهوى بِغَيْر هدى من الله وَالسَّمَاع الْمُحدث يُحَرك الْهوى وَلِهَذَا كَانَ بعض الْمَشَايِخ المصنفين فِي ذمه سمى كِتَابه الدَّلِيل الْوَاضِح فِي النهى عَن ارْتِكَاب الْهوى الفاضح وَلِهَذَا كثيرا مَا يُوجد فِي كَلَام الْمَشَايِخ الْأَمر بمتابعة الْعلم يعنون بذلك

الشَّرِيعَة كَقَوْل أبي يزِيد البسطامي رَحمَه الله عملت فِي المجاهدة ثَلَاثِينَ سنة فَمَا وجدت شَيْئا أَشد عَليّ من الْعلم ومتابعته وَلَوْلَا اخْتِلَاف الْعلمَاء لتفتت وَاخْتِلَاف الْعلمَاء رَحْمَة إِلَّا فِي تَجْرِيد التَّوْحِيد وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن النوري من رَأَيْته يدعى مَعَ الله حَالَة تخرجه عَن حد الْعلم الشَّرْعِيّ فَلَا تقربن مِنْهُ وَقَالَ أَبُو عُثْمَان النَّيْسَابُورِي الصُّحْبَة مَعَ الله بِحسن الْأَدَب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مَعَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأتباع سنته وَلُزُوم ظَاهر الْعلم والصحبة مَعَ أَوْلِيَاء الله بالاحترام والخدمة والصحبة مَعَ الْأَهْل بِحسن الْخلق والصحبة مَعَ الإخوان بدوام الْبشر مَا لم يكن إِثْمًا والصحبة مَعَ الْجَهَالَة بِالدُّعَاءِ لَهُم وَالرَّحْمَة عَلَيْهِم وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لما كَانَ أصل الطَّرِيق هُوَ الْإِرَادَة وَالْقَصْد وَالْعَمَل فِي ذَلِك فِيهِ من الْحبّ والوجد مَا لَا يَنْضَبِط فكثير مَا يعْمل السالك بِمُقْتَضى مَا يجده فِي قلبه من الْمحبَّة وَمَا يُدْرِكهُ ويذوقه من طعم الْعِبَادَة وَهَذَا إِذا لم يكن مُوَافقا لأمر الله وَرَسُوله وَإِلَّا كَانَ صَاحبه فِي ضلال من جنس ضلال الْمُشْركين وَأهل الْكتاب الَّذين اتبعُوا أهوائهم بِغَيْر هدى من الله

قَالَ الله تَعَالَى أَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ أفأنت تكون عَلَيْهِ وَكيلا [سُورَة الْفرْقَان 43] وَقَالَ تَعَالَى فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك فَأعْلم أَنما يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين [سُورَة الْقَصَص 50] وَقَالَ تَعَالَى وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم إِن رَبك هُوَ أعلم بالمعتدين [سُورَة الْأَنْعَام 119] وَقَالَ تَعَالَى وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم قل إِن هدى الله الله هُوَ الْهدى وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم مَا لَك من الله من ولى وَلَا نصير [سُورَة الْبَقَرَة 120] وَقَالَ تَعَالَى {قل يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل} [سُورَة الْمَائِدَة 77] وَكَثِيرًا مَا يبتلى من أهل السماع بشعبة من حَال النَّصَارَى من الغلو فِي الدّين وَاتِّبَاع أهواء قوم قد ضلوا من قبل وَإِن كَانَ فيهم من فِيهِ فضل وَصَلَاح فهم فِيمَا ابتدعوه من ذَلِك ضالون عَن سَبِيل الله يحسبون أَن هَذِه الْبِدْعَة تهديهم إِلَى محبَّة الله وَإِنَّهَا لتصدهم عَن سَبِيل الله فَإِنَّهُم عشوا عَن ذكر الله الَّذِي هُوَ كِتَابه عَن استماعه وتدبره واتباعه

وَقد قَالَ تَعَالَى {وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين وَإِنَّهُم ليصدونهم عَن السَّبِيل وَيَحْسبُونَ أَنهم مهتدون حَتَّى إِذا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْت بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس القرين وَلنْ ينفعكم الْيَوْم إِذْ ظلمتم أَنكُمْ فِي الْعَذَاب مشتركون} [سُورَة الزخرف 36 39] وَقد قَالَ تَعَالَى {ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر فاتبعها وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ إِنَّهُم لن يغنوا عَنْك من الله شَيْئا وَإِن الظَّالِمين بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالله ولي الْمُتَّقِينَ} [سُورَة الجاثية 18 19] فالشريعة الَّتِي جعله عَلَيْهَا تَتَضَمَّن مَا أَمر بِهِ وكل حب وذوق وَوجد لَا تشهد لَهُ هَذِه الشَّرِيعَة فَهُوَ من أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ فَإِن الْعلم بِمَا يُحِبهُ الله إِنَّمَا هُوَ مَا أنزلهُ الله إِلَى عباده من هداه وَلِهَذَا قَالَ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ {وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم} [سُورَة الْأَنْعَام 119] وَقَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى {فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} [سُورَة الْقَصَص 50] فَكل من اتبع ذوقا أَو وجدا بِغَيْر هدى من الله سَوَاء كَانَ ذَلِك عَن حب أَو بغض فَلَيْسَ لأحد أَن يتبع مَا يُحِبهُ فيأمر بِهِ ويتخذه دينا وَينْهى عَمَّا يبغضه ويذمه ويتخذ ذَلِك دينا إِلَّا بهدى من الله وَهُوَ شَرِيعَة الله الَّتِي جعل عَلَيْهَا رَسُوله وَمن اتبع مَا يهواه حبا وبغضا بِغَيْر الشَّرِيعَة فقد اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله

وَلِهَذَا كَانَ السّلف يعدون كل من خرج عَن الشَّرِيعَة فِي شئ من الدّين من أهل الْأَهْوَاء ويجعلون أهل الْبدع هم أهل الْأَهْوَاء ويذمونهم بذلك ويأمرون بألا يغتر بهم وَلَو أظهرُوا مَا أظهروه من الْعلم وَالْكَلَام وَالْحجاج أَو الْعِبَادَة وَالْأَحْوَال مثل المكاشفات وخرق الْعَادَات كَقَوْل يُونُس بن عبد الْأَعْلَى قلت للشَّافِعِيّ تَدْرِي يَا أَبَا عبد الله مَا كَانَ يَقُول فِيهِ صاحبنا أُرِيد اللَّيْث بن سعد وَغَيره كَانَ يَقُول لَو رَأَيْته يمشي على المَاء لَا تثق بِهِ وَلَا تعبأ بِهِ وَلَا تكَلمه قَالَ الشَّافِعِي فَإِنَّهُ وَالله مَا قصر وَعَن عَاصِم قَالَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة تعلمُوا الْإِسْلَام فَإِذا تعلمتموه فَلَا ترغبوا عَنهُ وَعَلَيْكُم بالصراط الْمُسْتَقيم فَإِنَّهُ الْإِسْلَام وَلَا تحرفوا الْإِسْلَام يَمِينا وَشمَالًا وَعَلَيْكُم بِسنة نَبِيكُم وَالَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابه وَإِيَّاكُم وَهَذِه الْأَهْوَاء الَّتِي تلقى بَين النَّاس الْعَدَاوَة والبغضاء فَحدثت الْحسن قَالَ صدق ونصح قَالَ فَحدثت حَفْصَة بنت سِيرِين فَقَالَت أَبَا عَليّ أَنْت حدثت مُحَمَّدًا بِهَذَا قلت لَا قَالَت فحدثه إِذا وَقَالَ أبي بن كَعْب عَلَيْكُم بالسبيل وَالسّنة فَإِنَّهُ مَا على الأَرْض عبد على السَّبِيل وَالسّنة ذكر الله فَفَاضَتْ بِهِ عَيناهُ من خشيَة الله فيعذبه

وَمَا على الأَرْض عبد على السَّبِيل وَالسّنة ذكر الله فِي نَفسه فأقشعر جلده من خشيَة الله إِلَّا كَانَ مثله كَمثل شَجَرَة قد يبس وَرقهَا فهى كَذَلِك إِذْ أصابتها ريح شَدِيدَة فتحات عَنْهَا وَرقهَا ولتحط عَنهُ خطاياه كَمَا تحات عَن تِلْكَ الشَّجَرَة وَرقهَا وَإِن اقتصادا فِي سَبِيل وَسنة خير من اجْتِهَاد فِي خلاف سَبِيل وَسنة فانظروا أَن يكون عَمَلكُمْ إِن كَانَ اجْتِهَادًا أَو اقتصادا أَن يكون على منهاج الْأَنْبِيَاء وسنتهم وَكَذَلِكَ قَالَ عبد الله بن مَسْعُود الاقتصاد فِي السّنة خير من الِاجْتِهَاد فِي الْبِدْعَة وَقيل لأبي بكر بن عَيَّاش يَا أَبَا بكر من السنى قَالَ الَّذِي إِذا ذكرت الْأَهْوَاء لم يغْضب لشئ مِنْهَا وَهَذَا أصل عَظِيم من أصُول سَبِيل الله وَطَرِيقه يجب الاعتناء بِهِ وَذَلِكَ أَن كثيرا من الْأَفْعَال قد يكون مُبَاحا فِي الشَّرِيعَة أَو مَكْرُوها أَو متنازعا فِي إِبَاحَته وكراهته وَرُبمَا كَانَ محرما أَو متنازعا فِي تَحْرِيمه فتستحبه طَائِفَة من النَّاس يَفْعَلُونَهُ على أَنه حسن مُسْتَحبّ وَدين وَطَرِيق يَتَقَرَّبُون بِهِ حَتَّى يعدون من يفعل ذَلِك أفضل مِمَّن لَا يَفْعَله وَرُبمَا جعلُوا ذَلِك

من لَوَازِم طريقتهم إِلَى الله أَو جَعَلُوهُ شعار الصَّالِحين وأولياء الله وَيكون ذَلِك خطأ وضلالا وابتداع دين لم يَأْذَن بِهِ الله مِثَال ذَلِك حلق الرَّأْس فِي غير الْحَج وَالْعمْرَة لغير عذر فَإِن الله قد ذكر فِي كِتَابه حلق الرَّأْس وتقصيره فِي النّسك وَذكر حلقه لعذر فِي قَوْله {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} [سُورَة الْبَقَرَة 196] وَأما حلقه لغير ذَلِك فقد تنَازع الْعلمَاء فِي إِبَاحَته وكراهته نزاعا مَعْرُوفا على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وَلَا نزاع بَين عُلَمَاء الْمُسلمين وأئمة الدّين أَن ذَلِك لَا يشرع وَلَا يسْتَحبّ وَلَا هُوَ من سَبِيل الله وَطَرِيقه وَلَا من الزّهْد الْمَشْرُوع للْمُسلمين وَلَا مِمَّا أثنى الله بِهِ على أحد من الْفُقَرَاء وَمَعَ هَذَا فقد اتَّخذهُ طوائف من النساك الْفُقَرَاء والصوفية دينا حَتَّى جَعَلُوهُ شعارا وعلامة على أهل الدّين والنسك وَالْخَيْر وَالتَّوْبَة والسلوك إِلَى الله المشير إِلَى الْفقر والصوفية حَتَّى أَن من لم يفعل ذَلِك يكون منقوصا عِنْدهم خَارِجا عَن الطَّرِيقَة المفضلة المحمودة عِنْدهم وَمن فعل ذَلِك دخل فِي هديهم وطريقهم وَهَذَا ضلال عَن طَرِيق الله وسبيله بآتفاق الْمُسلمين واتخاذ ذَلِك دينا وشعارا لاهل الدّين من أَسبَاب تَبْدِيل الدّين بل جعله عَلامَة على المروق من الدّين أقرب فَإِن الَّذِي يكرههُ وَإِن فعله صَاحبه عَادَة لَا عبَادَة

يحْتَج بِأَنَّهُ من سيماء الْخَوَارِج المارقين الَّذين جَاءَت الْأَحَادِيث الصِّحَاح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذمهم من غير وَجه وروى عَنهُ ص سِيمَاهُمْ التحليق فَإِذا كَانَ هَذَا سيماء أُولَئِكَ المارقين وَفِي الْمسند وَالسّنَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من تشبه بِقوم فَهُوَ مِنْهُم كَانَ هَذَا على بعده من شعار أهل الدّين أولى من الْعَكْس

وَلِهَذَا لما جَاءَ صبيغ بن عسل التَّمِيمِي إِلَى عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَسَأَلَهُ من الْمُتَشَابه ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله وضربه ضربا عَظِيما كشف رَأسه فَوَجَدَهُ ذَا ضفيرتين فَقَالَ لَو وَجَدْتُك محلوقا لضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك لِأَنَّهُ لَو وجده محلوقا اسْتدلَّ بذلك على أَنه من الْخَوَارِج المارقين وَكَانَ يقْتله لأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتالهم وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صفتهمْ يحقر أحدكُم صلَاته مَعَ صلَاتهم وصيامه مَعَ صِيَامهمْ وقراءته مَعَ قراءتهم يقرأون الْقُرْآن لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَام كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية وَلَا ريب أَن الْخَوَارِج كَانَ فيهم من الِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة والورع مَا لم

يكن فِي الصَّحَابَة كَمَا ذكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكِن لما كَانَ على غير الْوَجْه الْمَشْرُوع أفْضى بهم إِلَى المروق من الدّين وَلِهَذَا قَالَ عبد الله بن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب اقتصاد فِي سنة خير من اجْتِهَاد فِي بِدعَة وَقد تَأَول فيهم على بن أبي طَالب الَّذِي قَاتلهم بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ قِتَاله لَهُم من أعظم حَسَنَاته وغزواته الَّتِي يمدح بهَا لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حض على قِتَالهمْ وَقَالَ لَئِن أدركتهم لأقتلنهم قتل عَاد وَقَالَ أَيْنَمَا لقيتموهم فآقتلوهم فَإِن فِي قَتلهمْ أجرا عِنْد الله لمن قَتلهمْ يَوْم الْقِيَامَة وَفِي الصَّحِيح عَن عَليّ أَيْضا لَو يعلم الَّذين يقاتلونهم مَاذَا لَهُم على لِسَان مُحَمَّد لنكلوا عَن الْعَمَل

وَكَانُوا يتشددون فِي أَمر الذُّنُوب والمعاصي حَتَّى كفرُوا الْمُسلمين وأوجبوا لَهُم الخلود فِي النَّار وَلَا ريب أَن كثيرا من النساك والعباد والزهاد قد يكون فِيهِ شُعْبَة من الْخَوَارِج وَإِن كَانَ مُخَالفا لَهُم فِي شعب أُخْرَى فلزوم زِيّ معِين من اللبَاس سَوَاء كَانَ مُبَاحا أَو كَانَ مِمَّا يُقَال إِنَّه مَكْرُوه بِحَيْثُ يَجْعَل ذَلِك دينا ومستحبا وشعارا لأهل الدّين هُوَ من الْبدع أَيْضا فَكَمَا أَنه لَا حرَام إِلَّا مَا حرمه الله فَلَا دين إِلَّا مَا شَرعه الله الْوَجْه الثَّانِي ان قَوْلهم إِن هَذَا السماع يحصل مَحْبُوب الله وَمَا حصل محبوبه فَهُوَ مَحْبُوب لَهُ قَول بَاطِل وَكثير من هَؤُلَاءِ أَو أَكْثَرهم حصل لَهُم الضلال والغواية من هَذِه الْجِهَة فظنوا أَن السماع يثير محبَّة الله ومحبة الله هِيَ أصل الْإِيمَان الَّذِي هُوَ عمل الْقلب وبكمالها يكمل وَهِي فِيمَا يذكرهُ أَبُو طَالب وَغَيره نِهَايَة المقامات وَرُبمَا قَالَ بَعضهم هِيَ الْمقَام الَّتِي يرتقي مُقَدّمَة الْعَامَّة وَسَاقه الْخَاصَّة وَيَقُول من يَقُول مِنْهُم إِن السماع هُوَ من تَوَابِع الْمحبَّة وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوهُ لما يحركه من محبَّة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِذْ السماع يُحَرك من كل قلب مَا فِيهِ فَمن كَانَ فِي قلبه حب الله

وَرَسُوله حرك السماع هَذَا الْحبّ وَمَا يتبع الْحبّ من الوجد والحلاوة وَغير ذَلِك كَمَا يثير من قُلُوب أُخْرَى محبَّة الْأَوْثَان والصلبان والإخوان والخلان والأوطان والعشراء والمردان والنسوان وَلِهَذَا يذكر عَن طَائِفَة من أعيانهم سَماع القصائد فِي بَاب الْمحبَّة كَمَا فعل ابو طَالب فَيُقَال إِن مَا يهيجه هَذَا السماع المبتدع وَنَحْوه من الْحبّ وحركة الْقلب لَيْسَ هُوَ الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله بل اشتماله على مَا لَا يُحِبهُ الله وعَلى مَا يبغضيه أَكثر من اشتماله على مَا يُحِبهُ وَلَا يبغضبه وَحده عَمَّا يُحِبهُ الله وَنَهْيه عَن ذَلِك أعظم من تحريكه لما يُحِبهُ الله وَإِن كَانَ يثير حبا وحركة ويظن أَن ذَلِك يُحِبهُ الله وَأَنه مِمَّا يُحِبهُ الله فَإِنَّمَا ذَلِك من بَاب اتِّبَاع الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَين فِي كِتَابه محبته وَذكر موجباتهما وعلاماتها وَهَذَا السماع يُوجب مضادا لذَلِك منافيا لَهُ وَذَلِكَ أَن الله يَقُول فِي كِتَابه {وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} [سُورَة الْبَقَرَة 165] وَقَالَ {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله وَيغْفر لكم ذنوبكم} [سُورَة آل عمرَان 31] وَيَقُول {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ}

{أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم} [سُورَة الْمَائِدَة 54] فَهَذِهِ ثَلَاثَة أصُول لاهل محبَّة الله إخلاص دينهم ومتابعة رَسُوله وَالْجهَاد فِي سَبيله فَإِنَّهُ اخبر عَن الْمُشْركين الَّذين يتخذون الأنداد أَنهم يحبونهم كَمَا يحبونَ الله ثمَّ قَالَ {وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} [سُورَة الْبَقَرَة 165] فالمؤمنون أَشد حبا لله من الْمُشْركين الَّذين يحبونَ الأنداد كَمَا يحبونَ الله فَمن أحب شَيْئا غير الله كَمَا يحب الله فَهُوَ من الْمُشْركين لَا من الْمُؤمنِينَ ومحبة رَسُوله من محبته وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ أَن عمر قَالَ لَهُ يَا رَسُول الله وَالله لأَنْت أحب إِلَيّ من كل شئ إِلَّا من نَفسِي فَقَالَ لَا يَا عمر حَتَّى أكون أحب إِلَيْك من نَفسك قَالَ فَأَنت أحب إِلَى من نَفسِي قَالَ فَأَنت الْآن يَا عمر

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه قَالَ ثَلَاث من كن فِيهِ فقد وجد حلاوة الْإِيمَان وَفِي لفظ لَا يجد حلاوة الْإِيمَان إِلَّا من كَانَ فِيهِ ثَلَاث خِصَال أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله وَأَن يكره أَن يرجع فِي الْكفْر بعد إِذْ أنقذه الله مِنْهُ كَمَا يكره أَن يلقى فِي النَّار وَقد قَالَ الله تَعَالَى قل إِن كَانَ أباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فيتربصوا حَتَّى يَأْتِي الله بأَمْره فَلم يرض مِنْهُم أَن يكون حبهم لله وَرَسُوله كحب الْأَهْل وَالْمَال وَأَن يكون حب الْجِهَاد فِي سَبيله كحب الْأَهْل وَالْمَال بل حَتَّى يكون الْجِهَاد فِي سَبيله الَّذِي هُوَ تَمام حبه وَحب رَسُوله أحب إِلَيْهِم من الْأَهْل وَالْمَال فَهَذَا يَقْتَضِي أَن يكون حبهم لله وَرَسُوله مقدما على كل محبَّة لَيْسَ عِنْدهم شئ يحبونه كحب الله بِخِلَاف الْمُشْركين

وَيَقْتَضِي الأَصْل الثَّانِي وَهُوَ ان يكون الْجِهَاد فِي سَبيله أحب إِلَيْهِم من الْأَهْل وَالْمَال فَإِن ذَلِك هُوَ تَمام الْإِيمَان الَّذِي ثَوَابه حب الله وَرَسُوله كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم برتابوا إِيمَانًا لَا يكون بعده ريب {وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله} [سُورَة الحجرات 15] وَبِذَلِك وصف أهل الْمحبَّة فِي قَوْله {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم} [سُورَة الْمَائِدَة 54] فَأخْبر سُبْحَانَهُ بذلهم للْمُؤْمِنين وعزهم على الْكَافرين وجهادهم فِي سَبيله وَأَنَّهُمْ لَا يخَافُونَ لومة لائم فَلَا يخَافُونَ لوم الْخلق لَهُم على ذَلِك وَهَؤُلَاء هم الَّذين يحْتَملُونَ الملام والعذل فِي حب الله وَرَسُوله وَالْجهَاد فِي سَبيله وَالله يُحِبهُمْ وهم يحبونه لَيْسُوا بِمَنْزِلَة من يحْتَمل الملام والعذل فِي محبَّة مَا لَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله وَلَا بِمَنْزِلَة الَّذين أظهرُوا من مكروهات الْحق مَا يلامون عَلَيْهِ ويسمون بالملامتية ظانين أَنهم لما أظهرُوا مَا يلومهم الْخلق عَلَيْهِ من الْمُنْكَرَات مَعَ صحتهم فِي الْبَاطِن كَانَ ذَلِك من صدقهم وإخلاصهم وهم فِي ذَلِك إِنَّمَا يتبعُون الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس

فَإِن ذَلِك الْمُنكر الَّذِي يكرههُ الله وَرَسُوله لَا يكون فعله مِمَّا يُحِبهُ الله وَرَسُوله وَلَا يكون من الصدْق وَالْإِخْلَاص فِي حب الله وَرَسُوله وَالنَّاس يلامون عَلَيْهِ وسنام ذَلِك الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فَإِنَّهُ أَعلَى مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله واللائمون عَلَيْهِ كثير إِذْ كثير من النَّاس الَّذين فيهم إِيمَان يكرهونه وهم إِمَّا مخذلون مفترون للهمة والإرادة فِيهِ وَإِمَّا مرجفون مضعفون للقوة وَالْقُدْرَة عَلَيْهِ وَإِن كَانَ ذَلِك من النِّفَاق قَالَ الله تَعَالَى {قد يعلم الله المعوقين مِنْكُم والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يأْتونَ الْبَأْس إِلَّا قَلِيلا} [سُورَة الْأَحْزَاب 18] وَقَالَ تَعَالَى لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض والمرجفون فِي الْمَدِينَة لنغرينك بهم ثمَّ لَا يجاورونكم فِيهَا إِلَّا قَلِيلا [سُورَة الْأَحْزَاب 60] وَأما الأَصْل الثَّالِث وَهُوَ مُتَابعَة السّنة والشريعة النَّبَوِيَّة قَالَ الله تَعَالَى {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} [سُورَة آل عمرَان 31] قَالَ طَائِفَة من السّلف ادّعى قوم على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنهم يحبونَ الله فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة فَجعل حب العَبْد لرَبه مُوجبا

ومقتضيا لاتباع رَسُوله وَجعل اتِّبَاع رَسُوله مُوجبا ومقتضيا لمحبة الرب عَبده فَأهل اتِّبَاع الرَّسُول يُحِبهُمْ الله وَلَا يكون حبا لله إِلَّا من يكون مِنْهُم وَإِذا عرفت هَذِه الْأُصُول فعامة أهل السماع الْمُحدث مقصرون فِي هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة وهم فِي ذَلِك متفاوتون تَفَاوتا كثيرا بِحَسب قُوَّة اعتياضهم بِالسَّمَاعِ الْمُحدث عَن السماع الْمَشْرُوع وَمَا يتبع ذَلِك حَتَّى آل الْأَمر بِأخر إِلَى الانسلاخ من الْإِيمَان بِالْكُلِّيَّةِ ومصيره منافقا مَحْضا أَو كَافِرًا صرفا وَأما عامتهم وغالبهم الَّذين فيهم حب الله وَرَسُوله وَمَا يتبع ذَلِك فهم فِيهِ مقصرون تَجِد فيهم من التَّفْرِيط فِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَمَا يدْخل فِيهِ من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر والتفريط فِي مُتَابعَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَرِيعَته وسنته وأوامره وزواجره أمرا عَظِيما جدا وَكَذَلِكَ فِي أَمر الْإِخْلَاص لله تَجِد فيهم من الشّرك الْخَفي أَو الجلى أمورا كَثِيرَة وَلِهَذَا كَانَ هَذَا السماع سَماع المكاء والتصدية إِنَّمَا هُوَ فِي الأَصْل سَماع الْمُشْركين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} [سُورَة الْأَنْفَال 35] وَفِيهِمْ من اتِّخَاذ أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله مَا ضاهوا بِهِ النَّصَارَى فِي كثير من ذَلِك حَتَّى ان مِنْهُم من يعبد بعض الْبشر ويعبد قُبُورهم فيدعوهم ويستغيث بهم ويتوكل عَلَيْهِم ويخافهم ويرجوهم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا هُوَ من حُقُوق الله وَحده لَا

شريك لَهُ ويطيعون سادتهم وكبارهم فِي تَحْلِيل الْحَرَام وَتَحْرِيم الْحَلَال وَيَقُول بَعضهم فِي اتِّحَاد الله بِبَعْض مخلوقاته وحلوله فيهم شَبيه مَا قالته النَّصَارَى فِي الْمَسِيح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلِهَذَا يكون كثير من سماعهم الَّذِي يُحَرك وجدهم ومحبتهم إِنَّمَا يُحَرك وجدهم ومحبتهم لغير الله كَالَّذِين اتَّخذُوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَأما الشَّرِيعَة وَمَا أَمر الله بِهِ وَنهى عَنهُ وأحله وَحرمه ففيهم من الْمُخَالفَة لذَلِك بل من الاستخفاف بِمن يتَمَسَّك بِهِ مَا الله بِهِ عليم حَتَّى سقط من قلبوهم تَعْظِيم كثير من فَرَائض الله وَتَحْرِيم كثير من مَحَارمه فكثيرا مَا يضيعون فَرَائِضه ويستحلون مَحَارمه ويتعدون حُدُوده تَارَة اعتقادا وَتارَة عملا وَكثير من خيارهم الَّذين هم مُؤمنُونَ يقعون فِي كثير من فروع ذَلِك وَإِن كَانُوا مستمسكين بأصول الْإِسْلَام وَأما غير هَؤُلَاءِ فيصرحون بِسُقُوط الْفَرَائِض كالصلوات الْخمس وَغَيرهَا وبحل الْخَبَائِث من الْخمر وَالْفَوَاحِش اَوْ الظُّلم أَو الْبَغي أَو غير ذَلِك لَهُم وتزول عَن قُلُوبهم الْمحبَّة لكثير مِمَّا يُحِبهُ الله وَرَسُوله كالمحبة التَّامَّة الَّتِي هِيَ كَمَال الْإِيمَان بل لَا بُد أَن ينقص فِي

قُلُوبهم حب مَا أحبه الله وَرَسُوله فَلَا يبْقى لِلْقُرْآنِ وَالصَّلَاة وَنَحْو ذَلِك فِي قُلُوبهم من الْمحبَّة والحلاوة وَالطّيب وقرة الْعين مَا هُوَ الْمَعْرُوف لاهل كَمَال الْإِيمَان بل قد يكْرهُونَ بعض ذَلِك ويستثقلونه كَمَا هُوَ من نعت الْمُنَافِقين الَّذين قَالَ الله فيهم {وَإِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى} [سُورَة النِّسَاء 142] وَقد يهجرون الْقُرْآن الَّذِي مَا تقرب الْعباد إِلَى الله بِأحب إِلَيْهِ مِنْهُ بل قد يستثقلون سَمَاعه وقراءته لما اعتاضوا عَنهُ من السماع وَقد يقومُونَ بِبَعْض هَذِه الْعِبَادَات الشَّرْعِيَّة صورا ورسما كَمَا يَفْعَله المُنَافِقُونَ لَا محبَّة وَحَقِيقَة ووجدا كَمَا يَفْعَله الْمُؤْمِنُونَ وَأما الْجِهَاد فِي سَبِيل الله فالغالب عَلَيْهِم أَنهم ابعد عَنهُ من غَيرهم حَتَّى نجد فِي عوام الْمُؤمنِينَ من الْحبّ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والمحبة والتعظيم لأمر الله وَالْغَضَب والغيرة لمحارم الله وَقُوَّة الْمحبَّة والموالاة لأولياء الله وَقُوَّة البغض والعداوة لأعداء الله مَا لَا يُوجد فيهم بل يُوجد فيهم ضد ذَلِك وَمَعْلُوم أَن أهل الْإِيمَان وَالصَّلَاح مِنْهُم لَا يفقدون هَذَا بِالْكُلِّيَّةِ لَكِن هَذَا السماع الْمُحدث هُوَ وتوابعه سَبَب ومظنة لضد الْجِهَاد فِي سَبِيل الله حَتَّى ان كثيرا مِنْهُم يعدون ذَلِك نقصا فِي طَرِيق الله وعيبا ومنافيا للسلوك الْكَامِل إِلَى الله وَمن السَّبَب الَّذِي ضل بِهِ هَؤُلَاءِ وغووا مَا وجدوه فِي كثير مِمَّن ينتسب

إِلَى الشَّرِيعَة من الداعين إِلَى الْجِهَاد من ضعف حَقِيقَة الْإِيمَان وَسُوء النيات والمقاصد وبعدهم عَن النيات الْخَالِصَة لله وَصَلَاح قُلُوبهم وسرائرهم وَعَن أَن يقصدوا بِالْجِهَادِ أَن تكون كلمة الله هِيَ الْعليا وَأَن يكون الدّين كُله لله كَمَا وجدوه فِي كثير مِمَّن يذم السماع الْمُحدث من قسوة الْقلب والبعد عَن مَكَارِم الْأَخْلَاق وذوق حَقِيقَة الْإِيمَان فَهَذَا التَّفْرِيط فِي حُقُوق الله والعدوان على حُدُوده الَّذِي وجد فِي هَؤُلَاءِ وأمثالهم مِمَّن لَا يتدين بِالسَّمَاعِ الْمُحدث بل يتدين بِبَعْض هَذِه الْأُمُور صَار شُبْهَة لأولئك كَمَا أَن التَّفْرِيط والعدوان الْمَوْجُود فِي أهل السماع الْمُحدث صَار شُبْهَة لأولئك فِي ترك كثير مِمَّا عَلَيْهِ كثير مِنْهُم من حقائق الْإِيمَان وَطَاعَة الله وَرَسُوله وَلِهَذَا تفرق هَؤُلَاءِ فِي الدّين وَصَارَت كل طَائِفَة مبتدعة لدين لم يشرعه االله ومنكرة لما مَعَ الطَّائِفَة الْأُخْرَى من دين الله وَصَارَ فيهم شبه الْأُمَم قبلهم كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمن الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخذنَا ميثاقهم فنسوا حظا مِمَّا ذكرُوا بِهِ فأعرينا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة [سُورَة الْمَائِدَة 14] وَقَالَ تَعَالَى وَقَالَت الْيَهُود لَيست النَّصَارَى على شئ وَقَالَت

النَّصَارَى لَيست الْيَهُود على شئ [سُورَة الْبَقَرَة 113] وَقَالَ تَعَالَى {أفتؤمنون بِبَعْض الْكتاب وتكفرون بِبَعْض} [سُورَة الْبَقَرَة 85] وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات} [سُورَة آل عمرَان 105] وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شئ [سُورَة الْأَنْعَام 159] وَأما دين الله وهداه الَّذِي أنزل بِهِ كِتَابه وَبعث بِهِ رَسُوله فَهُوَ اتِّبَاع كِتَابه وسنته فِي جَمِيع الْأُمُور وَترك اتِّبَاع مَا يُخَالف ذَلِك فِي جَمِيع الْأُمُور وَالْإِجْمَاع على ذَلِك كَمَا قَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حق تُقَاته وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ كُنْتُم أَعدَاء فألف بَين قُلُوبكُمْ فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا وكنتم على شفا حُفْرَة من النَّار فأنقذكم مِنْهَا كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تهتدون ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتهم بعد إيمَانكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون وَأما الَّذين ابْيَضَّتْ وُجُوههم فَفِي رَحْمَة الله

{هم فِيهَا خَالدُونَ} [سُورَة آل عمرَان 102 107] وَأما كَون الشّعْر فِي نَفسه لَا يستمع إِلَيْهِ إِلَّا إِذا كَانَ من الْكَلَام الْمُبَاح أَو الْمُسْتَحبّ وَالشعر الْمَقُول فِي سَماع المكاء والتصدية كثير مِنْهُ أَو أَكْثَره لَيْسَ كَذَلِك فَهَذَا مقَام آخر نبينه إِن شَاءَ الله فَصَارَ احتجاجهم بِمَا سَمعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الشّعْر على اسْتِمَاع الْغناء مردودا بِهَذِهِ الْوُجُوه الثَّلَاث قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقد سمع الأكابر الابيات بالألحان فَمن قَالَ بإباحته مَالك بن أنس وَأهل الْحجاز كلهم يبيحون الْغناء فَأَما الحداء فإجماع مِنْهُم على إِبَاحَته قلت هَذَا النَّقْل يتَضَمَّن غَلطا بِإِثْبَات بَاطِل وَترك حق وَقد تبع فِيهِ أَبَا عبد الرَّحْمَن على مَا ذكره فِي مَسْأَلَة السماع وَذَلِكَ أَن الْمَعْرُوف

عِنْد أَئِمَّة السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مثل عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس وَجَابِر بن عبد الله وَغَيرهم وَعَن أَئِمَّة التَّابِعين ذمّ الْغناء وإنكاره وَكَذَلِكَ من بعدهمْ من أَئِمَّة الْإِسْلَام فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة حَتَّى ذكر زَكَرِيَّا بن يحيى السَّاجِي فِي كِتَابه الَّذِي ذكر فِيهِ إِجْمَاع أهل الْعلم وَاخْتِلَافهمْ فَذكر أَنهم متفقون على كَرَاهَته إِلَّا رجلَانِ إِبْرَاهِيم بن سعد من أهل الْمَدِينَة وَعبيد بن الْحسن الْعَنْبَري من أهل الْبَصْرَة وَأما نقلهم لإباحته عَن مَالك وَأهل الْحجاز كلهم فَهَذَا غلط من أَسْوَأ الْغَلَط فَإِن أهل الْحجاز على كَرَاهَته وذمه وَمَالك نَفسه لم

يخْتَلف قَوْله وَقَول أَصْحَابه فِي ذمه وكراهته بل هُوَ من المبالغين فِي ذَلِك حَتَّى صنف أَصْحَابه كتبا مُفْردَة فِي ذمّ الْغناء وَالسَّمَاع وَحَتَّى سَأَلَهُ إِسْحَاق بن عِيسَى الطباع عَمَّا يترخص فِيهِ أهل الْمَدِينَة من الْغناء فَقَالَ إِنَّمَا يَفْعَله عندنَا الْفُسَّاق وَقد ذكر مُحَمَّد بن طَاهِر فِي مَسْأَلَة السماع حِكَايَة عَن مَالك أَنه ضرب بطبل وَأنْشد ابياتا وَهَذِه الْحِكَايَة مِمَّا لَا يتنازع أهل الْمعرفَة فِي أَنَّهَا كذب على مَالك وَكَذَلِكَ الشَّافِعِي لم يخْتَلف قَوْله فِي كَرَاهَته وَقَالَ فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بأدب الْقُضَاة الْغناء لَهو مَكْرُوه يشبه الْبَاطِل وَمن استكثر مِنْهُ فَهُوَ سَفِيه ترد شَهَادَته وَقد قَالَ عَن السماع الديني الْمُحدث خلفت بِبَغْدَاد

شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التغبير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن نعم كَانَ كثير من أهل الْمَدِينَة يسمع الْغناء وَقد دخل مَعَهم فِي ذَلِك بعض فقهائهم فَأَما أَن يكون هَذَا قَول اهل الْحجاز كلهم أَو قَول مَالك فَهَذَا غلط وَكَانَ النَّاس يعيبون من اسْتحلَّ ذَلِك من أهل الْمَدِينَة كَمَا عابوا على غَيرهم حَتَّى كَانَ الْأَوْزَاعِيّ يَقُول من أَخذ يَقُول أهل الْكُوفَة فِي النَّبِيذ وَبقول أهل مَكَّة فِي الْمُتْعَة وَالصرْف وَيَقُول أهل الْمَدِينَة فِي الْغناء أَو قَالَ الحشوش والغناء فقد جمع الشَّرّ كُله أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ وَأما فُقَهَاء الْكُوفَة فَمن أَشد النَّاس تَحْرِيمًا للغناء وَلم يتنازعوا فِي ذَلِك وَلم يَكُونُوا يعتادونه كَمَا كَانَ يَفْعَله أهل الْمَدِينَة بل كَانُوا بالنبيذ الْمُتَنَازع فِيهِ وَقد سُئِلَ ماللك عماا يترخص فِيهِ بعض ااهل الْمَدِينَة من الْغناء فَقَالَ لَا إِنَّمَا يَفْعَله عندنَا الْفُسَّاق وَقد سُئِلَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن الْغناء فَقَالَ إِذا ميز الله الْحق من الْبَاطِل من أَي قسم يكون الْغناء

ثمَّ قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقد وَردت الْأَخْبَار واستفاضت الْآثَار فِي ذَلِك وروى عَن ابْن جريج أَنه كَانَ يرخص فِي السماع فَقيل لَهُ إِذا أَتَى بك يَوْم الْقِيَامَة وَيُؤْتى بحسناتك وسيئاتك فَفِي أَي الجنبين يكون سماعك فَقَالَ لَا فِي الْحَسَنَات وَلَا فِي السَّيِّئَات يَعْنِي أَنه من الْمُبَاحَات قلت لَيْسَ ابْن جريج وَأهل مَكَّة مِمَّن يعرف عَنْهُم الْغناء بل الْمَشْهُور عَنْهُم أَنهم كَانُوا يعيرون من يفعل ذَلِك من أهل الْمَدِينَة وَإِنَّمَا الْمَعْرُوف عَنْهُم الْمُتْعَة وَالصرْف ثمَّ هَذَا الْأَثر وَأَمْثَاله حجَّة على من احْتج بِهِ فَإِنَّهُ لم يَجْعَل مِنْهُ شَيْئا من الْحَسَنَات وَلم ينْقل عَن السّلف أَنه عد شَيْئا من أَنْوَاعه حَسَنَة فَقَوله على ذَلِك لَا يُخَالف الْإِجْمَاع وَمن فعل شَيْئا من ذَلِك على انه من اللَّذَّة الْبَاطِلَة الَّتِي لَا مضرَّة فِيهَا وَلَا مَنْفَعَة فَهَذَا كَمَا يرخص للنِّسَاء فِي الْغناء وَالضَّرْب بالدف فِي الأفراح مثل قدوم الْغَائِب وَأَيَّام الأعياد بل يؤمرون بذلك فِي العرسات كَمَا روى اعلنوا النِّكَاح واضربوا عَلَيْهِ بالدف وَهُوَ مَعَ

ذَلِك بَاطِل كَمَا فِي الحَدِيث الَّذِي فِي السّنَن أَن امْرَأَة نذرت أَن تضرب لقدوم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا قدم عمر أمرهَا بِالسُّكُوتِ وَقَالَ إِن هَذَا رجل لَا يحب الْبَاطِل

وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ كل لَهو يلهو بِهِ الرجل فَهُوَ بَاطِل إِلَّا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبة امْرَأَته فَإِنَّهُنَّ من الْحق وَالْبَاطِل من الْأَعْمَال هُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة فَهَذَا يرخص فِيهِ للنفوس الَّتِي لَا تصبر على مَا ينفع وَهَذَا الْحق فِي الْقدر الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْأَوْقَات الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِك الأعياد والأعراس وقدوم الْغَائِب وَنَحْو ذَلِك وَهَذِه نفوس النِّسَاء وَالصبيان فهن اللواتي كن يغنين فِي ذَلِك على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخلفائه ويضربن بالدف وَأما الرِّجَال فَلم يكن ذَلِك فيهم بل كَانَ السّلف يسمون الرجل المغنى مخنثا لتشبهه بِالنسَاء وَلِهَذَا روى اقرأوا الْقُرْآن بِلُحُونِ الْعَرَب وَإِيَّاكُم وَلُحُون الْعَجم والمخانيث وَالنِّسَاء

ولهذ لما سُئِلَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن الْغناء فَقَالَ للسَّائِل با ابْن أخي ارأيت إِذا ميز الله يَوْم الْقِيَامَة بَين الْحق وَالْبَاطِل فَفِي أَيهمَا يَجْعَل الْغناء فَقَالَ فِي الْبَاطِل قَالَ فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال فَكَانَ الْعلم بِأَنَّهُ من الْبَاطِل مُسْتَقرًّا فِي نُفُوسهم كلهم وَإِن فعله بَعضهم مَعَ ذَلِك إِذْ مُجَرّد كَون الْفِعْل بَاطِلا إِنَّمَا يَقْتَضِي عدم منفعَته لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمه إِلَّا أَن يتَضَمَّن مفْسدَة قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَأما الشَّافِعِي رَحمَه الله فَإِنَّهُ لَا يحرمه ويجعله فِي الْعَوام مَكْرُوها حَتَّى لَو احترف الْغناء اَوْ اتّصف على الدَّوَام بِسَمَاعِهِ على وَجه التلهي بِهِ ترد بِهِ الشَّهَادَة ويجعله مِمَّا يسْقط الْمُرُوءَة وَلَا يلْحقهُ بالمحرمات قَالَ وَلَيْسَ كلامنا فِي هَذَا النَّوْع من السماع فَإِن هَذِه الطَّائِفَة جلت مرتبتهم عَن أَن يسمعوا بلهو أَو يقعدوا للسماع بسهو أَو يَكُونُوا بقلوبهم متفكرين فِي مَضْمُون لَغْو أَو يستمعوا على صفة غير كُفْء

قلت لم يخْتَلف قَول الشَّافِعِي فِي كَرَاهَته والنهى عَنهُ للعوام والخواص لَكِن هَل هِيَ كَرَاهَة تَحْرِيم أَو تَنْزِيه أَو تَفْضِيل بَين بعض وَبَعض هَذَا مِمَّا يتنازع فِيهِ أَصْحَابه وَهَذَا قَوْله فِي سَماع الْعَامَّة وَأما السماع الديني الَّذِي جعله أَبُو الْقَاسِم للخاصة فَهُوَ عِنْد الشَّافِعِي من فعل الزَّنَادِقَة كَمَا قَالَ خلفت بِبَغْدَاد شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التغبير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن فَعنده أَن هَذَا السماع اعظم من ان يُقَال فِيهِ مَكْرُوه أَو حرَام بل هُوَ عِنْده مضاد للْإيمَان وَشرع دين لم يَأْذَن الله بِهِ وَلم ينزل بِهِ سُلْطَان وَإِن كَانَ من الْمَشَايِخ الصَّالِحين من تَأَول فِي ذَلِك وبتأويله واجتهاده يغْفر الله لَهُ خطأه ويثيبه على مَا مَعَ التَّأْوِيل من عمل صَالح فَذَلِك لَا يمْنَع أَن يُقَال مَا فِي الْفِعْل من الْفساد إِذْ التَّأْوِيل من بَاب الْمعَارض فِي حق بعض النَّاس تدفع بِهِ عِنْد الْعقُوبَة كَمَا تدفع بِالتَّوْبَةِ والحسنات الماحية وَهَذَا لمن استفرغ وَسعه فِي طلب الْحق فَقَوْل الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي هَؤُلَاءِ كَقَوْلِه فِي اهل الْكَلَام

حكمى فِي أهل الْكَلَام أَن يضْربُوا بِالْجَرِيدِ وَالنعال وَيُطَاف بهم فِي العشائر والقبائل وَيُقَال هَذَا جَزَاء من ترك الْكتاب وَالسّنة وَأَقْبل على الْكَلَام وَقَوله لِأَن يبتلى العَبْد بِكُل ذَنْب مَا خلا الشّرك بِاللَّه خير لَهُ من أَن يبتلى بالْكلَام وَمَعَ هَذَا فقد ابتلى بِبَعْض ذَلِك على وَجه التَّأْوِيل طوائف من أهل الْعلم وَالدّين والتصوف وَالْعِبَادَة وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَام فِي السماع على وَجْهَيْن احدهما سَماع اللّعب والطرب فَهَذَا يُقَال فِيهِ مَكْرُوه أم محرم أَو بَاطِل أَو مرخص فِي بعض أَنْوَاعه الثَّانِي السماع الْمُحدث لأهل الدّين والقرب فَهَذَا يُقَال فِيهِ إِنَّه بِدعَة وضلالة وَإنَّهُ مُخَالف لكتاب الله وَسنة رَسُوله وَإِجْمَاع السالفين جَمِيعهم وَإِنَّمَا حدث فِي الْأمة لما أحدث فِي الْأمة لما أحدث الْكَلَام فَكثر هَذَا فِي الْعلمَاء وَهَذَا فِي الْعباد لهَذَا كَانَ يزِيد بن هَارُون الوَاسِطِيّ وَهُوَ من أَتبَاع التَّابِعين وأواخر

الْقُرُون الثَّلَاثَة تجمتع فِي مَجْلِسه الْأُمَم الْعَظِيمَة وَكَانَ أجل مَشَايِخ الْإِسْلَام إِذْ ذَاك فَكَانَ ينْهَى عَن الجمهية وَعَن الْمُغيرَة هَؤُلَاءِ أهل الْكَلَام الْمُخَالف للْكتاب وَالسّنة وَهَؤُلَاء أهل السماع الْمُحدث الْمُخَالف للْكتاب وَالسّنة وَلِهَذَا لم يسْتَطع أحد مِمَّن يسْتَحبّ السماع الْمُحدث ويستحسنه أَن يحْتَج لذَلِك بأثر عَمَّن مضى وَلَا بِأَصْل فِي الْكتاب وَالسّنة قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقد روى عَن ابْن عمر اثار فِي إباحتة للسماع وَكَذَلِكَ عبد الله بن جَعْفَر أبي طَالب قَالَت أما النَّقْل عَن ابْن عمر فَبَاطِل بل الْمَحْفُوظ عَن أبن عمر ذمه للغناء وَنَهْيه عَنهُ وَكَذَلِكَ عَن سَائِر أَئِمَّة الصَّحَابَة كأبن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَغَيرهم مِمَّن ائتم بهم الْمُسلمُونَ فِي دينهم وَأما مَا يذكر من فعل عبد الله بن جَعْفَر فِي أَنه كَانَ لَهُ جَارِيَة يسمع غناءها فِي بَيته فعبد الله بن جَعْفَر لَيْسَ مِمَّن يصلح أَن يُعَارض قَوْله فِي

الدّين فضلا عَن فعله لقَوْل ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وأمثالهم وَمن احْتج بِفعل مثل عبد الله فِي الدّين فِي مثل هَذَا لزمَه أَن يحْتَج بِفعل مُعَاوِيَة فِي قِتَاله لعلى وبفعل ابْن الزبير فِي قِتَاله فِي الْفرْقَة وأمثال ذَلِك مِمَّا لايصلح لأهل الْعلم وَالدّين أَن يدخلوه فِي أَدِلَّة الدّين وَالشَّرْع لَا سِيمَا النساك والزهاد وَأهل الْحَقَائِق لَا يصلح لَهُم أَن يَتْرُكُوهُ سَبِيل الْمَشْهُورين بالنسك والزهد بَين الصَّحَابَة ويتبعوا سَبِيل غَيرهم وَمَا أحسن مَا قَالَ حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ يَا معشر الْقُرَّاء اسْتَقِيمُوا وخذوا طَرِيق من كَانَ قبلكُمْ فوَاللَّه لَئِن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقا بَعيدا وَلَئِن أَخَذْتُم يَمِينا وَشمَالًا لقد ضللتم ضلالا بَعيدا ثمَّ الَّذِي فعله عبد الله بن جَعْفَر كَانَ فِي دَاره لم يكن يجْتَمع عِنْده على ذَلِك وَلَا يسمعهُ إِلَّا مِمَّن ملوكته وَلَا يعده دينا وَطَاعَة بل هُوَ عِنْده من الْبَاطِل وَهَذَا مثل مَا يَفْعَله بعض أهل السعَة من اسْتِمَاع غناء جَارِيَته فِي بَيته وَنَحْو ذَلِك فَأَيْنَ هَذَا من هَذَا هَذَا لَو كَانَ مِمَّا يصلح أَن يحْتَج بِهِ فَكيف وَلَيْسَ بِحجَّة أصلا قَالَ وَكَذَلِكَ عَن عمر وَغَيره فِي الحداء قلت أما الحداء فقد ذكر الِاتِّفَاق على جَوَازه فَلَا يحْتَج بِهِ فِي

وَقد ثَبت أَن عَامر بن الْأَكْوَع كَانَ يَحْدُو الصَّحَابَة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من السَّائِق قَالُوا عَامر بن الاكوع فَقَالَ يرحمه الله فَقَالُوا يَا رَسُول الله لَوْلَا امتعتنا بِهِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع قَالَ خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسرنا لَيْلًا فَقَالَ رجل من الْقَوْم لعامر بن الْأَكْوَع أَلا تسمعنا من هنياتك وَكَانَ عَامر رجلا شَاعِرًا فَنزل يَحْدُو بالقوم يَقُول ... وَالله لَوْلَا أَنْت مَا اهتدينا وَلَا تصدقنا وَلَا صلينَا فَاغْفِر فدَاء لَك مَا اقتفينا وَثَبت الْأَقْدَام إِن لاقينا وألقين سكينَة علينا إِنَّا إِذا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا ... وبالصياح عولوا علينا ... فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذَا السَّائِق قَالُوا عَامر ابْن الْأَكْوَع فَقَالَ يرحمه الله فَقَالَ رجل من الْقَوْم وَجَبت يَا نَبِي الله لَوْلَا أمتعنا بِهِ فَذكر الحَدِيث فِي استشهاده فِي تِلْكَ الْغَزْوَة غَزْوَة خَيْبَر

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سَلمَة بن الاكوع قَالَ لما كَانَ يَوْم خَيْبَر قَاتل أخي قتالا شَدِيدا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَارْتَد عَلَيْهِ سَيْفه فَقتله فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك وَشَكوا فِيهِ رجل مَاتَ فِي سلاحه قَالَ سَلمَة فقفل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من خَبِير فَقلت يَا رَسُول الله أئذن لي أَن ارجز لَك فَأذن لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عمر أعلم مَا تَقول قَالَ فَقلت ... لَوْلَا الله مَا اهتدينا وَلَا تصدقنا وَلَا صلينَا ... فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صدقت ... فأنزلن سكينَة علينا وَثَبت الْأَقْدَام إِن لَا قينا ... وَالْمُشْرِكُونَ قد بغوا علينا ... فَلَمَّا قضيت رجزي قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ هَذَا قلت لَهُ أخي فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يرحمه الله قَالَ فَقلت يَا رَسُول الله وَالله إِن نَاسا ليهابون الصَّلَاة عَلَيْهِ

يَقُولُونَ رجل مَاتَ بسلاحه فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كذبُوا مَاتَ جاهدا مُجَاهدًا فَلهُ أجره مرَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ قد ثَبت فِي الصَّحِيح حَدِيث أَنْجَشَة الحبشي الَّذِي كَانَ يَحْدُو حَتَّى قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رويدك أَنْجَشَة سوقك بِالْقَوَارِيرِ يَعْنِي النِّسَاء أمره بالرفق بِهن لِئَلَّا تزعجهن الْإِبِل فِي السّير إِذا اشْتَدَّ سَيرهَا وينزعجن بِصَوْت الْحَادِي فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض أَسْفَاره وَغُلَام أسود يُقَال لَهُ أَنْجَشَة يحدوا فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيحك انجشه رويدك سوقك بِالْقَوَارِيرِ قَالَ أَبُو قلَابَة يَعْنِي النِّسَاء وَأَخْرَجَاهُ من حَدِيث ثَابت عَن أنس بِنَحْوِهِ وَمن حَدِيث قَتَادَة عَن أنس قَالَ كَانَ للنَّبِي ص خَادِم يُقَال لَهُ أَنْجَشَة وَكَانَ حسن الصَّوْت فَقَالَ لَهُ النَّبِي رويدك يَا أَنْجَشَة لَا تكسر الْقَوَارِير قَالَ قَتَادَة يَعْنِي ضعفة النِّسَاء

وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن أبي قلَابَة قَالَ كَانَت أم سليم فِي الثّقل وأنجشة غُلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسُوق بِهن فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ وَسلم يَا أنجش رويدك سوقك بِالْقَوَارِيرِ وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن ثَابت عَن أنس قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فحدا الْحَادِي فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْفق يَا أَنْجَشَة وَيحك بِالْقَوَارِيرِ واحتجاجهم بإنشاد الشّعْر كَمَا قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَأنْشد بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الاشعار فَلم ينْه عَنْهَا وروى أَنه ص استنشد الْأَشْعَار وَهَذَا من الْقيَاس الْفَاسِد كَمَا تقدم قَالَ وَمن الْمَشْهُور الظَّاهِر حَدِيث الجاريتين وَذكر حَدِيث الجاريتين

اللَّتَيْنِ كَانَتَا تُغنيَانِ فِي بَيت عَائِشَة بِمَا تقاولت بِهِ الْأَنْصَار يَوْم بُعَاث فَقَالَ أَبُو بكر مزمور الشَّيْطَان فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دعهما يَا أَبَا بكر فَإِن لكل قوم عيدا وعيدنا هَذَا الْيَوْم وَقد تقدم أَن الرُّخْصَة فِي الْغناء فِي أَوْقَات الأفراح للنِّسَاء وَالصبيان أَمر مَضَت بِهِ السّنة كَمَا يرخص لَهُم فِي غير ذَلِك من اللّعب وَلَكِن لَا يَجْعَل الْخَاص عَاما وَلِهَذَا لما قَالَ أَبُو بكر أمزمور الشَّيْطَان فِي بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُنكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه التَّسْمِيَة وَالصَّحَابَة لم يَكُونُوا يفضلون شَيْئا من ذَلِك وَلَكِن ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرا خَاصّا بقوله إِن لكل قوم عيدا وَهَذَا عيدنا وَمثل هَذَا قَوْله لعمر لَو رآك سالكا فجأ لسلك فجا غير فجك لما خَافَ مِنْهُ النِّسَاء فِيمَا كن يفعلنه بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعلم أَن هَذَا وَإِن كَانَ من الشَّيْطَان لَكِن الرُّخْصَة فِيهِ لهَؤُلَاء لِئَلَّا يَدعُوهُم إِلَى

مَا يفْسد عَلَيْهِم دينهم إِذْ لَا يُمكن صرفهم عَن كل مَا تتقاضاه الطبائع من الْبَاطِل والشريعة جَاءَت بتحصيل الْمصَالح وتكميلها وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها فَهِيَ تحصل أعظم المصلحتين بِفَوَات أدناهما وتدفع أعظم الفسادين بأحتمال أدناهما فَإِذا وصف الْمُحْتَمل بِمَا فِيهِ من الْفساد مثل كَونه من عمل الشَّيْطَان لم يمْنَع ذَلِك أَن يكون قد وَقع بِهِ مَا هُوَ أحب إِلَى الشَّيْطَان مِنْهُ وَيكون إقرارهم على ذَلِك من الْمَشْرُوع فَهَذَا أصل يَنْبَغِي التفظن لَهُ والشيطان يوسوس لبني آدم فِي أُمُور كَثِيرَة من الْمُبَاحَات كالتخلي وَالنِّكَاح وَغير ذَلِك وَهُوَ يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم فَلَا يُمكن حفظ جيمع بني آدم من كل مَا للشَّيْطَان فِيهِ نصيب لَكِن الشَّارِع يَأْمر بالتمكن من ذَلِك كَمَا شرع التَّسْمِيَة والاستعاذة عِنْد التخلي وَالنِّكَاح وَغير ذَلِك وَلَو لم يفعل الرجل ذَلِك لم نقل إِنَّه يَأْثَم بالتخلي وَنِكَاح أمْرَأَته وَنَحْو ذَلِك وَكَذَلِكَ ذكر الْعرس وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الْأَنْصَار فيهم غزل وَلَو أرسلتم من يَقُول

.. أَتَيْنَاكُم أَتَيْنَاكُم فحيانا وحياكم ... وَقد تقدم ان الْخَاص لايجعل ومدار الْحجَج فِي هَذَا الْبَاب وَنَحْوه إِمَّا على قِيَاس فَاسد وتشبيه الشئ بِمَا لَيْسَ مثله وَإِمَّا على جعل الْخَاص عَاما وَهُوَ أَيْضا من الْقيَاس الْفَاسِد وَإِمَّا احتجابهم بِمَا لَيْسَ بِحجَّة أصلا ثمَّ احْتج أَبُو الْقَاسِم بِمَا هُوَ من جنس الْقيَاس الْفَاسِد فَذكر حَدِيث الْبَراء بن عَازِب قَالَ سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول حسنوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ فَإِن الصَّوْت الْحسن يزِيد الْقُرْآن حسنا وحديثا عَن أنس مَرْفُوعا لكل شئ حلية وَحلية الْقُرْآن الصَّوْت

وَهَذَا ضَعِيف عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رِوَايَة عبد الله بن مُحرز وَهُوَ ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ بِحَال وَقَالَ دلّ هَذَا الْخَبَر على فَضِيلَة الصَّوْت قلت هَذَا دلّ على فضل الصَّوْت الْحسن بِكِتَاب الله لم يدل على فضيلته بِالْغنَاءِ وَمن شبه هَذَا بِهَذَا فقد شبه الْبَاطِل بأعظم الْحق وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين} [سُورَة يس 69] فَكيف نشبه مَا أَمر الله بِهِ من تِلَاوَة كِتَابه وتحسينه بالصوت بِمَا لم يَأْمر بتحسين الصَّوْت بِهِ هَذَا مثل من قَالَ إِذا أَمر الله بِالْقِتَالِ فِي سَبيله بِالسَّيْفِ وَالرمْح وَالرَّمْي دلّ على فَضِيلَة الضَّرْب والطعن ثمَّ يحْتَج بذلك على الضَّرْب والطعن وَالرَّمْي فِي غير سَبِيل الله وَمثل من قَالَ إِذا أَمر الله بإنفاق المَال فِي سَبيله دلّ على فَضِيلَة المَال ويحتج بذلك على إِنْفَاق المَال فِي غير سَبيله أَو قَالَ إِذا أَمر الله بالاستعفاف بِالنِّكَاحِ دلّ على فَضِيلَة النِّسَاء ويحتج بذلك على فَضِيلَة النِّسَاء ويحتج بذلك على فَضِيلَة النِّكَاح ويحتج بذلك على فَضِيلَة مَا لم يَأْذَن الله بِهِ من النِّكَاح

وَكَذَلِكَ كل مَا يعين على طَاعَة الله من تفكر أَو صَوت أَو حَرَكَة أَو قُوَّة أَو مَال أَو أعوان أَو غير ذَلِك فَهُوَ مَحْمُود فِي حَال إعانته على طَاعَة الله ومحابه ومراضيه وَلَا يسْتَدلّ بذلك على أَنه فِي نَفسه مَحْمُود على الْإِطْلَاق ويحتج بذلك على أَنه مَحْمُود إِذا استعين بِهِ على مَا هُوَ من طَاعَة الله وَلَا يحْتَج بِهِ على مَا لَيْسَ هُوَ من طَاعَة الله بل هُوَ من الْبدع فِي الدّين أَو الْفُجُور فِي الدُّنْيَا وَمثل هَذَا قَوْله ص لله أَشد أذنا إِلَى الرجل الْحسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ من صَاحب الْقَيْنَة إِلَى قَيْنَته وَقَالَ مَا أذن الله لشئ كأذنه لنَبِيّ حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يجْهر بِهِ بل قَوْله ص لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَن التَّغَنِّي الْمَشْرُوع هُوَ بِالْقُرْآنِ وَأَن من تغنى بِغَيْرِهِ فَهُوَ مَذْمُوم وَلَا يُقَال هَذَا يدل على اسْتِحْبَاب حسن التَّغَنِّي وَقَوله لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ إِمَّا أَن يُرِيد بِهِ الحض على أصل الْفِعْل وَهُوَ نفس التغنى بِالْقُرْآنِ وَإِمَّا أَن يُرِيد بِهِ مُطلق التغنى

وَهُوَ على صفة الْفِعْل وَالْأول هُوَ أَن يكون تغنيه إِذا تغنى بِالْقُرْآنِ لَا بِغَيْرِهِ وَهَذَا كَمَا وَقع فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} [سُورَة الْمَائِدَة 49] هَل هُوَ أَمر بِأَصْل الحكم أَو بِصفتِهِ إِذا حكم وَالْمعْنَى الثَّانِي ذمّ لمن تغنى بِغَيْرِهِ مُطلقًا دون من ترك التَّغَنِّي بِهِ وَبِغَيْرِهِ والمنعى الأول ذمّ لمن ترك التغنى بِهِ دون من تغنى بِهِ وَمن تغنى بِغَيْرِهِ ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم حَدِيث ابْن عَاصِم عَن شبيب بن بشر عَن أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صوتان ملعونان صَوت ويل عِنْد مُصِيبَة وَصَوت مزمار عِنْد نعْمَة مَفْهُوم الْخطاب يَقْتَضِي إِبَاحَة غير هَذَا فِي غير هَذِه الْأَحْوَال وَإِلَّا لبطل التَّخْصِيص قلت هَذَا الحَدِيث من أَجود مَا يحْتَج بِهِ على تَحْرِيم الْغناء كَمَا فِي اللَّفْظ الْمَشْهُور عَن جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِنَّمَا نهيت عَن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فاجرين صَوت

عِنْد نعْمَة لَهو وَلعب وَمَزَامِير الشَّيْطَان وَصَوت عِنْد مُصِيبَة لطم خدود وشق جُيُوب وَدَعوى بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَنهى عَن الصَّوْت الَّذِي يفعل عِنْد النِّعْمَة كَمَا نهى عَن الصَّوْت الَّذِي يفعل عِنْد الْمُصِيبَة وَالصَّوْت الَّذِي عِنْد النِّعْمَة هُوَ صَوت الْغناء وَأما قَوْله صَوت مزمار فَإِن نفس صَوت الْإِنْسَان يُسمى مِزْمَارًا كَمَا قيل لأبي مُوسَى لقد اوتي هَذَا مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد وكما قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ أبمزمور الشَّيْطَان فِي بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما قَوْله مَفْهُوم الْخطاب يَقْتَضِي إِبَاحَة غير هَذَا جَوَابه من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن مثل اللَّفْظ الَّذِي ذكره لَا مَفْهُوم لَهُ عِنْد أَكثر أهل الْعلم

والتخصيص فِي مثل هَذَا كَقَوْلِه ص ثَلَاث فِي امتي من أَمر الْجَاهِلِيَّة وَمن قَالَ إِنَّه يكون لَهُ مَفْهُوم فَذَلِك إِذا لم يكن للتخصيص سَبَب آخر وَهَذَا التَّخْصِيص لكَون هَذِه الْأَصْوَات هِيَ الَّتِي كَانَت مُعْتَادَة فِي زَمَنه كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم خشيَة إملاق} [سُورَة الْإِسْرَاء 31] وَالثَّانِي أَن اللَّفْظ الَّذِي ذكره الرَّسُول يدل على مورد النزاع فَإِنَّهُ صَوت النِّعْمَة وَلَو لم تكن نعْمَة لَكَانَ تَنْبِيها عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إِذا نهى عَن ذَلِك عِنْد النِّعْمَة وَالْإِنْسَان مَعْذُور فِي ذَلِك كَمَا رخص فِي غناء النِّسَاء فِي الأعراس والأعياد وَنَحْو ذَلِك فَلِأَن ينْهَى عَن ذَلِك بِدُونِ ذَلِك بِدُونِ أولى وَأَحْرَى والألات الملهية قد صَحَّ فِيهَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه تَعْلِيقا مَجْزُومًا بِهِ دَاخِلا فِي شَرطه عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم الْأَشْعَرِيّ أَنه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَيَكُونن فِي أمتِي أَقوام يسْتَحلُّونَ الْحر وَالْحَرِير وَالْخمر وَالْمَعَازِف ولينزلن أَقوام إِلَى جنب علم يروح بسارحة

لَهُم يَأْتِيهم لحاجتهم فَيَقُولُونَ ارْجع إِلَيْنَا غَدا فيبيتهم الله وَيَضَع الْعلم ويمسخ آخَرين قردة وَخَنَازِير إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقد روى أَن رجلا أنْشد بَين يَدي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ... أَقبلت فلاح لَهَا عارضان كالسبج ...

.. أَدْبَرت فَقلت لَهَا والفؤاد فِي وهج هَل على ويحكما ان عشقت من حرج ... فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا حرج إِن شَاءَ الله قلت هَذَا الحَدِيث مَوْضُوع بأتفاق أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ لَا أصل لَهُ وَلَيْسَ هُوَ فِي شئ من دواوين الْإِسْلَام وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَاد بل هُوَ من جنس الحَدِيث الآخر الَّذِي قيل فِيهِ إِن أَعْرَابِيًا أَتَى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنشده ... قد لسعت حَيَّة الْهوى كبدى فَلَا طَبِيب لَهَا وَلَا راقى إِلَّا الحبيب الَّذِي شغفت بِهِ فَعنده رقيتي وترياقي ...

وَهَذَا أَيْضا مَوْضُوع بأتفاق أهل الْعلم كذب مفترى وَكَذَلِكَ مَا يرْوى من أَنهم تواجدوا وَأَنَّهُمْ مزقوا الْخِرْقَة وَنَحْو ذَلِك كل ذَلِك كذب لم يكن فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة لَا بالحجاز وَلَا بِالشَّام وَلَا بِالْيمن وَلَا بالعراق وَلَا خُرَاسَان من يجْتَمع على هَذَا السماع الْمُحدث فضلا عَن أَن يكون كَانَ نَظِيره على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا كَانَ أحد يمزق ثِيَابه وَلَا يرقص فِي سَماع وَلَا شئ من ذَلِك أصلا بل لما حدث التغبير فِي أَوَاخِر الْمِائَة الثَّانِيَة وَكَانَ أَهله من خِيَار الصُّوفِيَّة وَحدث من جِهَة الْمشرق الَّتِي يطلع مِنْهَا قرن الشَّيْطَان وَمِنْهَا الْفِتَن قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ خلفت بِبَغْدَاد شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التغبير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن وَالَّذين شهدُوا هَذَا اللَّغْو متأولين من أهل الصدْق وَالْإِخْلَاص وَالصَّلَاح غمرت حسناتهم مَا كَانَ لَهُم فِيهِ وَفِي غَيره من السَّيِّئَات أَو الْخَطَأ

فِي مواقع االأجتهاد وَهَذَا سَبِيل كل صالحي هَذِه الْأمة فِي خطئهم وزلاتهم قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون لَهُم مَا يشاؤون عِنْد رَبهم ذَلِك جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا ويجزيهم أجرهم بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ} [سُورَة الزمر 33 35] وَذَلِكَ كالمتأولين فِي تنَاول الْمُسكر من صالحي أهل الْكُوفَة وَمن اتبعهم على ذَلِك وَإِن كَانَ المشروب خمرًا لَا يشك فِي ذَلِك من اطلع على اقوال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأقوال الصَّحَابَة وَكَذَلِكَ المتأولون للمتعة وَالصرْف من اهل مَكَّة متبعين لما كَانَ يَقُوله ابْن عَبَّاس وَإِن كَانَ قد رَجَعَ عَن ذَلِك أَو زادوا عَلَيْهِ إِذْ لَا يشك فِي ذَلِك وَأَنه من أَنْوَاع الرِّبَا الْمحرم وَالنِّكَاح الْمحرم من اطلع على نُصُوص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ المتأولون فِي بعض الْأَطْعِمَة والحشوش من أهل الْمَدِينَة وَإِن كَانَ لَا يشك فِي تَحْرِيم ذَلِك من اطلع على نُصُوص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَكَذَلِكَ مَا دخل فِيهِ من دخل من السَّابِقين وَالتَّابِعِينَ من الْقِتَال فِي الْفِتْنَة وَالْبَغي بالتأويل مَعَ مَا علم فِي ذَلِك من نُصُوص الْكتاب وَالسّنة من ترك الْقِتَال وَالصُّلْح فَمَا تَأَول فِيهِ قوم من ذَوي الْعلم وَالدّين من مطعوم أَو مشروب اَوْ منكوح أَو مَمْلُوك أَو مِمَّا قد علم أَن الله قد حرمه وَرَسُوله لم يجز

اتباعهم فِي ذَلِك مغفورا لَهُم وَإِن كَانُوا خِيَار الْمُسلمين وَالله قد غفر لهَذِهِ الْأمة الْخَطَأ وَالنِّسْيَان كَمَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَهُوَ سُبْحَانَهُ يمحو السَّيِّئَات بِالْحَسَنَاتِ وَيقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَمَّا ذكره الشَّيْخ أَبُو طَالب الْمَكِّيّ فِي كِتَابه قوت الْقُلُوب حَيْثُ ذكر أَنه من أنكر السماع مُطلقًا غير مُقَيّد فقد أنكر على سبعين صديقا وَلَعَلَّ الْإِنْكَار الْيَوْم يَقع على خلق عَظِيم من الصديقين لَكِن يُقَال الَّذين أَنْكَرُوا ذَلِك أَكثر من سبعين صديقا وَسبعين صديقا وَسبعين صديقا وهم أعظم علما وإيمانا وَأَرْفَع دَرَجَة فَلَيْسَ الِانْتِصَار بطَائفَة من الصديقين على نظرائهم لَا سِيمَا من هُوَ أكبر وأكبر بأدل من الْعَكْس فَإِن الْقَائِل إِذا قَالَ من شرع هَذَا السماع الْمُحدث وَجعله مِمَّا يتَقرَّب بِهِ فقد خَالف جَمَاهِير الصديقين من هَذِه الامة ورد عَلَيْهِم كَانَ قَوْله أصح وَأقوى فِي الْحجَّة دع مَا سوى ذَلِك وَهنا أصل يجب اعْتِمَاده وَذَلِكَ أَن الله سُبْحَانَهُ عصم هَذِه الْأمة أَن تَجْتَمِع على ضَلَالَة وَلم يعْصم آحادها من الْخَطَأ لَا صديقا وَلَا غير صديق لَكِن إِذا وَقع بَعْضهَا فِي خطأ فَلَا بُد أَن يُقيم الله فِيهَا من يكون

على الصَّوَاب فِي ذَلِك الْخَطَأ لِأَن هَذِه الْأمة شُهَدَاء على النَّاس وهم شُهَدَاء الله فِي الارض وهم خير أمة أخرجت للنَّاس يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر فَلَا بُد أَن تَأمر بِكُل مَعْرُوف وتنهى عَن كل مُنكر فَإِذا كَانَ فِيهَا من يَأْمر بمنكر متأولا فَلَا بُد أَن يكون فِيهَا من يَأْمر بذلك الْمَعْرُوف فَأَما الِاحْتِجَاج بِفعل طَائِفَة من الصديقين فِي مَسْأَلَة نازعهم فِيهَا أعدائهم فَبَاطِل بل لَو كَانَ المنازع لَهُم أقل مِنْهُم عددا وَأدنى منزلَة لم تكن الْحجَّة مَعَ أَحدهمَا إِلَّا بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله فَإِنَّهُ بذلك أمرت الامة كَمَا قَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول فَإِن تنازعهم فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر [سُورَة النِّسَاء 59] فَإِذا تنازعت الْأمة وولاه الْأُمُور من الصديقين وَغَيرهم فَعَلَيْهِم جَمِيعهم أَن يردوا مَا تنازعوا فِيهِ إِلَى الله وَرَسُوله وَمن الْمَعْلُوم أَن الصديقين الَّذين أباحوا بعض الْمُسكر كَانُوا أسبق من هَؤُلَاءِ وَأكْثر وأكبر وَكَذَلِكَ الَّذين استحلوا الْمُتْعَة وَالصرْف وَبَعض المطاعم الخبيثة والحشوش وَالَّذين استحلوا الْقِتَال فِي الْفِتْنَة متأولين معتقدين أَنهم على الْحق وَغير ذَلِك هم أسبق من هَؤُلَاءِ وَأكْثر وأكبر فَإِذا نهى عَمَّا نهى الله عَنهُ وَرَسُوله لم يكن لأحد أَن يَقُول هَذَا إِنْكَار

على كَذَا وَكَذَا رجلا من السَّابِقين وَالتَّابِعِينَ فَإِن هَذَا الْإِنْكَار كَانَ من نظرائهم وَمن هُوَ فَوْقهم أَو قَرِيبا مِنْهُم وَعند التَّنَازُع فالمرد إِلَى الله وَرَسُوله وَلَكِن من ذهب إِلَى القَوْل الْمَرْجُوح ينْتَفع بِهِ فِي عذر المتأولين فَإِن عَامَّة مَا حرمه الله مثل قتل النَّفس بِغَيْر حق وَمثل الزِّنَا وَالْخمر وَالْميسر وَالْأَمْوَال والاعراض قد اسْتحلَّ بعض أَنْوَاعه طوائف من الامة بالتأويل وَفِي المستحلين قوم من صالحي الْأمة وَأهل الْعلم وَالْإِيمَان مِنْهُم لَكِن المستحل لذَلِك لَا يعْتَقد أَنه من الْمُحرمَات وَلَا أَنه دَاخل فِيمَا ذمه الله وَرَسُوله فالمقاتل فِي الْفِتْنَة متأولا لَا يعْتَقد أَنه قتل مُؤمنا بِغَيْر حق والمبيح للمتعة والحشوش وَنِكَاح الْمُحَلّل لَا يعْتَقد أَنه أَبَاحَ زنا وسفاحا والمبيح للنبيذ المتأول فِيهِ ولبعض أَنْوَاع الْمُعَامَلَات الربوية وعقود المخاطرات لَا يعْتَقد أَنه أَبَاحَ الْخمر وَالْميسر والربا وَلَكِن وُقُوع مثل هَذَا التَّأْوِيل من الْأَئِمَّة المتبوعين أهل الْعلم وَالْإِيمَان صَار من أَسبَاب المحن والفتنة فَإِن الَّذين يعظمونهم قد يقتدون بهم فِي ذَلِك وَقد لَا يقفون عِنْد الْحَد الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ أُولَئِكَ بل يتعدون ذَلِك وَيزِيدُونَ زيادات لم تصدر من أُولَئِكَ الْأَئِمَّة السَّادة وَالَّذين يعلمُونَ تَحْرِيم جنس ذَلِك الْفِعْل قد يعتدون على المتأولين بِنَوْع

من الذَّم فِيمَا هُوَ مغْفُور لَهُم ويتبعهم آخَرُونَ فيزيدون فِي الذَّم مَا يسْتَحلُّونَ بِهِ من أَعْرَاض إخْوَانهمْ وَغير أعراضهم مَا حرمه الله وَرَسُوله فَهَذَا وَاقع كثير فِي موارد النزاع الَّذِي وَقع فِيهِ خطأ من بعض الْكِبَار وَاعْتبر ذَلِك بِمَسْأَلَة السماع الَّتِي تكلمنا فِيهَا فَإِن الله سُبْحَانَهُ شرع للْأمة مَا أغناهم بِهِ عَمَّا لم يشرعه حَيْثُ أكمل الدّين وَأتم عَلَيْهِم النِّعْمَة ورضى لَهُم الْإِسْلَام دينا وَهُوَ سَماع الْقُرْآن الَّذِي شَرعه لَهُم فِي الصَّلَاة الَّتِي هِيَ عماد دينهم وَفِي غير الصَّلَاة مُجْتَمعين ومنفردين حَتَّى كَانَ أَصْحَاب مُحَمَّد إِذا اجْتَمعُوا أمروا وَاحِدًا مِنْهُم ان يقْرَأ وَالْبَاقُونَ يسمعُونَ وَكَانَ عمر بن الْخطاب يَقُول لأبي مُوسَى يَا أَبَا مُوسَى ذكرنَا رَبنَا فَيقْرَأ وهم يَسْتَمِعُون وَقد بسطنا القَوْل فِي ذَلِك فِي غير هَذَا الْموضع وَإِنَّمَا ذكرنَا هُنَا نكتا تتَعَلَّق بِالسَّمَاعِ قَالَ تَعَالَى {الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابها مثاني تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله} [سُورَة الزمر 23] وَذكر سَماع الْمُؤمنِينَ والعارفين وَالْعَالمِينَ والنبيين فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا} [سُورَة الْأَنْفَال 2] وَقَالَ تَعَالَى إِن الَّذين أُوتُوا الْعلم من قبله إِذا يُتْلَى عَلَيْهِم يخرون للأذقان سجدا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبنَا إِن كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا ويخرون للأذقان يَبْكُونَ ويزيدهم خشوعا [سُورَة الْإِسْرَاء 108 109]

وَقَالَ أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين من ذُرِّيَّة آدم وَمِمَّنْ حملنَا مَعَ نوح وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم وَإِسْرَائِيل وَمِمَّنْ هدينَا واجتبينا إِذا تتلى عَلَيْهِم آيَات الرَّحْمَن خروا سجدا وبكيا [سُورَة مَرْيَم 58] وَقَالَ تَعَالَى الَّذين يستعون القَوْل فيتبعون أحْسنه [سُورَة الزمر 18] وَقَالَ وَالَّذين إِذا ذكرُوا بآيَات رَبهم لم يخروا عَلَيْهَا صمًّا وعميانا [سُورَة الْفرْقَان 73] وَقَالَ تَعَالَى وَقَالَ الَّذين كفرُوا لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تغلبون [سُورَة فصلت 26] وَقَالَ تَعَالَى وَقَالَ الرَّسُول يَا رب إِن قومِي اتَّخذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُورًا [سُورَة الْفرْقَان 30] وَقَالَ تَعَالَى إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون [سُورَة الانفال 23] وَقَالَ فَمَا لَهُم عَن التَّذْكِرَة معرضين كَأَنَّهُمْ حمر مستنفرة فرت من قسورة [سُورَة المدثر 49 51] وَقَالَ {وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جعلنَا بَيْنك وَبَين الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حِجَابا مَسْتُورا} الْآيَة [سُورَة الْإِسْرَاء 54]

وَقَالَ {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره حَتَّى يسمع كَلَام الله} [سُورَة التَّوْبَة 6] وَقَالَ تَعَالَى {اتل مَا أُوحِي إِلَيْك من الْكتاب} [سُورَة العنكبوت 45] وَقَالَ فاقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ [سُورَة المزمل 20] وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَقَالَ من قَرَأَ الْقُرْآن فَلهُ بِكُل حرف عشر حَسَنَات أما إِنِّي لَا أَقُول ألم حرف وَلَكِن أَقُول ألف حرف وَلَام حرف وَمِيم حرف وَهَذَا بَاب وَاسع يضيق هَذَا الْموضع عَن ذكر جُزْء مِنْهُ فَلَمَّا انقرضت الْقُرُون الفاضلة حصل فَتْرَة فِي هَذَا السماع الْمَشْرُوع الَّذِي بِهِ صَلَاح الْقُلُوب وَكَمَال الدّين وَصَارَ أهل التَّغْيِير فِيهِ أحد رجلَيْنِ رجل معرض عَن السماع الْمَشْرُوع وَغير الْمَشْرُوع وَرجل احْتَاجَ إِلَى سَماع القصائد والأبيات فأحدث سَماع القصائد والأبيات كالتغير وَكَانَ الأكابر الَّذين حَضَرُوهُ لَهُم من التَّأْوِيل مَا لَهُم فَأَقَامَ الله فِي الْأمة من أنكر ذَلِك كَمَا هُوَ سنة الله فِي هَذِه الْأمة الآمرة بِالْمَعْرُوفِ الناهية عَن الْمُنكر

وَهَؤُلَاء المنكرون فيهم المقتصد فِي إِنْكَاره وَمِنْهُم المتأول بِزِيَادَة فِي الْإِنْكَار غير مَشْرُوعَة كَمَا أحدث أُولَئِكَ مَا لَيْسَ مَشْرُوعا وَصَارَ على تَمَادى الايام يزْدَاد الْمُحدث من السماع ويزداد التَّغْلِيظ فِي أهل الْإِنْكَار حَتَّى آل الْأَمر من أَنْوَاع الْبدع والضلالات والتفرق والاختلافات إِلَى مَا هُوَ من أعظم القبائح الْمُنْكَرَات الَّتِي لَا يشك فِي عظم إثمها وتحريمها من لَهُ أدنى علم وإيمان وأصل هَذَا الْفساد من ذَلِك التَّأْوِيل فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد فَمن ثبته الله بالْقَوْل الثَّابِت أعْطى كل ذِي حق حَقه وَحفظ حُدُود الله فَلم يتعدها {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فقد ظلم نَفسه} [سُورَة الطَّلَاق 1] فالشر فِي التَّفْرِيط بترك الْمَأْمُور أَو الْعدوان بتعدي الْحُدُود وحصلت الزِّيَادَات فِي جَمِيع الْأَنْوَاع المبتدعة فَإِن أصل سَماع القصائد كَانَ تلحينا بإنشاد قصائد مرققة للقلوب تحرّك تَحْرِيك الْمحبَّة والشوق أَو الْخَوْف والخشية أَو الْحزن والأسف وَغير ذَلِك وَكَانُوا يشترطون لَهُ الْمَكَان والإمكان والخلان فيشترطون أَن يكون المجتمعون لسماعها من أهل الطَّرِيق المريدين لوجه الله وَالدَّار الْآخِرَة وَأَن يكون الشّعْر المنشد غير مُتَضَمّن لما يكره سَمَاعه فِي الشَّرِيعَة وَقد يشْتَرط بَعضهم أَن يكون القوال مِنْهُم وَرُبمَا اشْترط بَعضهم ذَلِك فِي

الشَّاعِر الَّذِي انشأ تِلْكَ القصائد وَرُبمَا ضمُّوا إِلَيْهِ آلَة تقوى الصَّوْت وَهُوَ الضَّرْب بالقضيب على جلد مخدة أَو غَيرهَا وَهُوَ التغبير وَمن الْمَعْلُوم أَن اسْتِمَاع الْأَصْوَات يُوجب حَرَكَة النَّفس بِحَسب ذَلِك الصَّوْت الَّذِي يُوجب الْحَرَكَة وَهُوَ يُوجب الْحَرَكَة وللأصوات طبائع متنوعة تتنوع آثارها فِي النَّفس وَكَذَلِكَ للْكَلَام المسموع نظمه ونثره فَيجْمَعُونَ بَين الصَّوْت الْمُنَاسب والحروف الْمُنَاسبَة لَهُم وَهَذَا الْأَمر يَفْعَله بَنو آدم من أهل الديانَات البدعية كالنصارى والصابئة وَغير أهل الديانَات مِمَّن يُحَرك بذلك حبه وشوقه ووجده أَو حزنه وأسفه أَو حميته وغضبه أَو غير ذَلِك فخلف بعد أُولَئِكَ من صَار يجمع عَلَيْهِ أخلاطا من النَّاس ويرون اجْتِمَاعهم لذَلِك شبكة تصطاد النُّفُوس بزعمهم إِلَى التَّوْبَة والوصول فِي طَرِيق أهل الارادة وأحدث بعد أُولَئِكَ أَيْضا الِاسْتِمَاع من المخانيث المعروفين بِالْغنَاءِ لأهل الفسوق وَالزِّنَا وَرُبمَا استمعوه من الصّبيان المردان أَو من النسوان الملاح كَمَا يفعل أهل الدساكر والمواخير وَقد يجمعُونَ فِي السماع أَنْوَاع الْفُسَّاق والفجار وَرُبمَا قصدُوا التكاثر بهم والافتخار لَا سِيمَا إِن كَانُوا من أهل الرياسة واليسار وَكَثِيرًا

مَا يحضر فِيهِ أَنْوَاع المردان وَقد يكون ذَلِك من أكبر مَقَاصِد أهل السماع وَرُبمَا ألبسوهم الثِّيَاب المصبغة الْحَسَنَة وأرقصوهم فِي طابق الرقص والدوران وَجعلُوا مشاهدتهم بل معانقتهم مَطْلُوبا لمن يحضر من الْأَعْيَان وَإِذا غلبهم وجد الشَّيْطَان رفعوا الْأَصْوَات الَّتِي يبغضها الرَّحْمَن وَكَذَلِكَ زادوا فِي الابتداع فِي إنشاد القصائد فكثيرا مَا ينشدون أشعار الْفُسَّاق والفجار وَفِيهِمْ كثير ينشدون أشعار الْكفَّار بل ينشدون مَا لَا يستجيزه أَكثر اهل التَّكْذِيب وَإِنَّمَا يَقُوله أعظم النَّاس كفرا بِرَبّ الْعَالمين وأشدهم بعدا عَن الله وَرَسُوله وَالْمُؤمنِينَ وَزَادُوا أَيْضا فِي الْآلَات الَّتِي تستثار بهَا الْأَصْوَات مِمَّا يصنع بالأفواه وَالْأَيْدِي كأبواق الْيَهُود ونواقيس النَّصَارَى من يبلغ الْمُنْكَرَات كأنواع الشبابات والصفارات وأنواع الصلاصل والأوتار المصوتات مَا عظمت بِهِ الْفِتْنَة حَتَّى رَبًّا فِيهَا الصَّغِير وهرم فِيهَا الْكَبِير وَحَتَّى اتَّخذُوا ذَلِك دينا وديدنا وجعلوه من الْوَظَائِف الرَّاتِبَة بِالْغَدَاةِ والعشى كَصَلَاة الْفجْر وَالْعصر وَفِي الْأَوْقَات والاماكن الفاضلات واعتاضوا بِهِ عَن الْقُرْآن والصلوات وَصدق فيهم قَوْله {فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة}

{وَاتبعُوا الشَّهَوَات} [سُورَة مَرْيَم 59] وَصَارَ لَهُم نصيب من قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} [سُورَة الْأَنْفَال 35] إِذْ المكاء هُوَ الصفير وَنَحْوه من الْغناء والتصدية هِيَ التصفيق بِالْأَيْدِي فَإِذا كَانَ هَذَا سَماع الْمُشْركين الَّذِي ذمه الله فِي كِتَابه فَكيف إِذا اقْترن بالمكاء الصفارات المواصيل وبالتصدية مصلصلات الغرابيل وَجعل ذَلِك طَرِيقا ودينا يتَقرَّب بِهِ إِلَى الْمولى الْجَلِيل وَظهر تَحْقِيق قَول عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب كَمَا ينْبت المَاء البقل بل أفْضى الْأَمر إِلَى أَن يجْتَمع فِي هَذَا السماع على الْكفْر بالرحمن والاستهزاء بِالْقُرْآنِ والذم للمساجد والصلوات والطعن فِي أهل الْإِيمَان والقربات وَالِاسْتِخْفَاف بالأنبياء وَالْمُرْسلِينَ والتحضيض على جِهَاد الْمُؤمنِينَ ومعاونة الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ واتخاذ الْمَخْلُوق إِلَهًا من دون رب الْعَالمين وَشرب أَبْوَال المستمعين وَجعل ذَلِك من أفضل أَحْوَال العارفين وَرفع الْأَصْوَات الْمُنْكَرَات الَّتِي أَصْحَابهَا شَرّ من الْبَهَائِم السائمات الَّذين قَالَ الله فِي مثلهم {أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} [سُورَة الْفرْقَان 44] وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ أُولَئِكَ هم الغافلون} [سُورَة الْأَعْرَاف 179] الَّذين

يَفْعَلُونَ فِي سماعاتهم مَا لَا يَفْعَله الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَلِهَذَا يتولون من يتولاهم من الْيَهُود وَالنَّصَارَى والصابئة وَالْمُشْرِكين وَالْمَجُوس ويجعلونهم من إخْوَانهمْ وأصحابهم وَأهل خرقتهم مَعَ معاداتهم للأنبياء وَالْمُؤمنِينَ فَصَارَ السماع الْمُحدث دائرا بَين الْكفْر والفسوق والعصيان وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وكفره من أغْلظ الْكفْر وأشده وفسوقه من اعظم الفسوق وَذَلِكَ أَن تَأْثِير الْأَصْوَات فِي النُّفُوس من أعظم التَّأْثِير يغنيها ويغذيها حَتَّى قيل إِنَّه لذَلِك سمى غناء لِأَنَّهُ يُغني النَّفس وَهُوَ يفعل فِي النُّفُوس أعظم من حميا الكؤوس حَتَّى يُوجب للنفوس أحوالا عَجِيبَة يظنّ أَصْحَابهَا أَن ذَلِك من جنس كرامات الْأَوْلِيَاء وَإِنَّمَا هُوَ من الْأُمُور الطبيعية الْبَاطِلَة المبعدة عَن الله إِذْ الشَّيَاطِين تمدهم فِي هَذَا السماع بأنواع الْإِمْدَاد كَمَا قَالَ تَعَالَى {وإخوانهم يمدونهم فِي الغي ثمَّ لَا يقصرون} [سُورَة الْأَعْرَاف 202] وَقَالَ للشَّيْطَان واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك [سُورَة الْإِسْرَاء 64] فَرُبمَا يخف أحدهم حَتَّى يرقص فَوق رؤوسهم وَيكون شَيْطَانه هُوَ المغوى لنفوسهم

وَلِهَذَا كَانَ مرّة فِي سَماع يحضرهُ الشَّيْخ شبيب الشطي فَبَيْنَمَا هم فِي سَماع أحدهم وَإِذا بعفريت يرقص فِي الْهَوَاء على رؤوسهم فتعجبوا مِنْهُ وَطلب الشَّيْخ لمريده الشَّيْخ أَبَا بكر بن فينان وَكَانَ لَهُ حَال وَمَعْرِفَة فَلَمَّا رَآهُ صرخَ فِيهِ فَوَقع فَمَا فرغوا طلب مِنْهُ ان ينصفه وَقَالَ هَذَا سلبني حَالي فَقَالَ الشَّيْخ لم يكن لَهُ حَال وَلَكِن كَانَ بالرحبة فَحَمله شَيْطَانه إِلَى هُنَا وَجعل يرقص بِهِ فَلَمَّا رَأَيْت الشَّيْطَان صرخت فِيهِ فهرب فَوَقع هَذَا والقصة مَعْرُوفَة يعرفهَا أَصْحَاب الشَّيْخ وَصَارَ فِي أهل هَذَا السماع الْمُحدث الَّذين اتَّخذُوا دينهم لَغوا وَلَعِبًا ضد مَا أحبه الله وشرعه فِي دين الْحق الَّذِي بعث بِهِ رَسُوله من عَامَّة الْوُجُوه بل صَار مُشْتَمِلًا على جَمِيع مَا حرمه الله وَرُسُله كَمَا قَالَ تَعَالَى {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [سُورَة الْأَعْرَاف 33] فَصَارَ فِيهِ من الْفَوَاحِش الظَّاهِرَة والباطنة وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق والإشراك بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَالْقَوْل على الله بِغَيْر علم مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله فَإِنَّهُ تنوع وتعدد وتفرق أَهله فِيهِ وصاروا شيعًا لكل قوم ذوق ومشروب وَطَرِيق

يفارقون بِهِ غَيرهم حَتَّى فِي الْحُرُوف المنشدة والأصوات الملحنة والأذواق الْمَوْجُودَة والحركات الثائرة وَالْقَوْم المجتمعين وَصَارَ من فِيهِ من الْعلم وَالْإِيمَان مَا ينهاه عَمَّا ظهر تَحْرِيمه من أَنْوَاع الْكفْر وَالظُّلم وَالْفَوَاحِش يُرِيد أَن يحد حدا للسماع الْمُحدث يفصل بِهِ بَين مَا يسوغ مِنْهُ وَمَا لَا يسوغ فَلَا يكَاد يَنْضَبِط حد لَا بالْقَوْل وَلَا بِالْعَمَلِ فَإِن قرب فِي الضَّبْط والتحديد بالْقَوْل لم يَنْضَبِط لَهُ بِالْعَمَلِ إِذْ ينْدر وجود تِلْكَ الشُّرُوط حَتَّى إِنَّه اجْتمع مرّة بِبَغْدَاد فِي حَال عمارتها وَوُجُود الْخلَافَة بهَا أَعْيَان الشُّيُوخ الَّذين يحْضرُون السماع الْمفْتُون فَلم يَجدوا من يصلح لَهُ فِي بَغْدَاد وسوادها إِلَّا نَفرا إِمَّا ثَلَاثَة وَإِمَّا أَرْبَعَة وَإِمَّا نَحْو ذَلِك وَسبب هَذَا الإضراب أَنه لَيْسَ من عِنْد الله وَمَا كَانَ من عِنْد غير الله وجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ منيبين إِلَيْهِ واتقوه وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين من الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} [سُورَة الرّوم 30 32] ثمَّ مَعَ اشتماله على الْمُحرمَات كلهَا أَو بَعْضهَا يرَوْنَ أَنه من أعظم القربات بل أعظمها وأجلها قدرا وَأَن أَهله هم الصفوة أَوْلِيَاء الله وَخيرته من خلقه وَلَا يرضون بمساواة السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين والانصار وَسلف الْأمة حَتَّى يتفضلوا عَلَيْهِم وَفِيهِمْ من يساوون أنفسهم

بالأنبياء وَالْمُرْسلِينَ وَفِيهِمْ من يتفضل أَيْضا على الانبياء وَالْمُرْسلِينَ على أَنْوَاع من الْكفْر الَّتِي لَيْسَ هَذَا موضعهَا وجماع الْأَمر انه صَار فِيهِ وَفِيمَا يتبعهُ فِي وَسَائِل ذَلِك ومقاصده فِي موجوده ومقصوده فِي صفته ونتيجته ضد مَا فِي السماع والعبادات الشَّرْعِيَّة فِي وسائلها ومقاصدها موجودها ومقصودها صفتهَا ونتيجتها فَذَاك يُوجب الْعلم وَالْإِيمَان وَهَذَا يُوجب الْكفْر والنفاق وَلِهَذَا كَانَ أَعْرَاب النَّاس أهل الْبَوَادِي من الْعَرَب وَالتّرْك والكرد وَغَيرهم أَكثر اسْتِعْمَالا لَهُ من أهل الْقرى فَإِنَّهُم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {الْأَعْرَاب أَشد كفرا ونفاقا وأجدر أَلا يعلمُوا حُدُود مَا أنزل الله على رَسُوله} [سُورَة التَّوْبَة 97] وَلِهَذَا كَانَ يحضرهُ الشَّيَاطِين كَمَا أَن سَماع أهل الْإِيمَان تحضره الْمَلَائِكَة وتنزل عَلَيْهِم فِيهِ الشَّيَاطِين وتوحى إِلَيْهِم كَمَا تنزل الْمَلَائِكَة على الْمُؤمنِينَ وتقذف فِي قُلُوبهم مَا امرهم الله فَإِن الْمَلَائِكَة تنزل عِنْد سَماع الْقُرْآن وَعند ذكر الله كَمَا فِي الصَّحِيح مَا اجْتمع قوم فِي بَيت من بيُوت الله يَتلون كتاب الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينهم إِلَّا غشيتهم الرَّحْمَة وَنزلت عَلَيْهِم السكينَة وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَة وَذكرهمْ الله فِيمَن عِنْده

وَفِي الصَّحِيح أَن أسيد بن الْحضير كَانَ يقْرَأ سُورَة الْكَهْف فَرَأى مثل الظلة فِيهَا أَمْثَال المصابيح فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ السكينَة تنزلت لسَمَاع الْقُرْآن وَفِي الصَّحِيح إِن لله مَلَائِكَة فضلا عَن كتاب النَّاس فَإِذا رَأَوْا قوما يذكرُونَ الله تنادوا هلموا إِلَى حَاجَتكُمْ الحَدِيث بِطُولِهِ وَهَذَا السماع الْمُحدث تحضره الشَّيَاطِين كَمَا رأى ذَلِك من كشف لَهُ وكما تُوجد آثَار الشَّيَاطِين فِي أَهله حَتَّى أَن كثيرا مِنْهُم يغلب عَلَيْهِ الوجد فيصعق كَمَا يصعق المصروع ويصيح كصياحه وَيجْرِي على لِسَانه من الْكَلَام مَا لَا يفهم مَعْنَاهُ وَلَا يكون بلغته كَمَا يجْرِي على لِسَان المصروع وَرُبمَا كَانَ ذَلِك من شياطين قوم من الْكفَّار الَّذِي يكون أهل ذَلِك السماع مشابهين لقُلُوبِهِمْ كَمَا يُوجد ذَلِك فِي أَقوام كثيرين كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي

وجدهم واختلاطهم بلغَة التّرْك التتر الْكفَّار فَينزل عَلَيْهِم شياطينهم ويغوونهم ويبقون منافقين موالين لَهُم وهم يظنون أَنهم من أَوْلِيَاء الله وَإِنَّمَا هم من أَوْلِيَاء الشَّيْطَان وَحزبه وَلِهَذَا يُوجد فِيهِ مِمَّا يُوجد فِي الْخمر من الصد عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة وَمن إِيقَاع الْعَدَاوَة والبغضاء حَتَّى يقتل بَعضهم بَعْضًا فِيهِ وَلِهَذَا يَفْعَلُونَهُ على الْوَجْه الَّذِي يُحِبهُ الشَّيْطَان ويكرهه الرَّحْمَن وَذَلِكَ من وُجُوه أَحدهَا أَن الْعِبَادَات الشَّرْعِيَّة مثل الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْحج قد شرع فِيهَا من مجانبة جنس الْمُبَاشرَة الْمُبَاحَة فِي غَيرهَا مَا هُوَ من كمالها وتمامها فَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} [سُورَة الْبَقَرَة 187] وَقَالَ {فَالْآن باشروهن وابتغوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر} [سُورَة الْبَقَرَة 187] وَقَالَ {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} [سُورَة النِّسَاء 43] وَأعظم ذَلِك الْحَج فَلَيْسَ للْمحرمِ أَن يُبَاشر فِيهِ النِّسَاء وَلَا ينظر إِلَيْهِم لشَهْوَة والمعتكف قريب مِنْهُ والصائم دونه والمصلى لَا يصاف النِّسَاء بل يؤخرن عَن صُفُوف الرِّجَال ويصلين خلف الرِّجَال كَمَا

قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير صُفُوف الرِّجَال أَولهَا وشرها آخرهَا وَخير صُفُوف النِّسَاء آخرهَا وشرها أَولهَا وَلَيْسَ للمصلى فِي حَال صلَاته أَن ينظر إِلَى مَا يلهيه عَن الصَّلَاة لَا نسَاء وَلَا غَيرهم بل قد ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه إِذا مر أَمَامه الْمَرْأَة وَالْحمار وَالْكَلب الْأسود وضع صلَاته وَإِن كَانَ قد ثَبت عَن النَّبِي ص

أَنه كَانَ يُصَلِّي وَعَائِشَة مُضْطَجِعَة فِي قبلته بِاللَّيْلِ فِي الظلمَة فَإِذا أَرَادَ أَن يسْجد غمزها فاللابث غير الْمَار وَلم يكن ذَلِك يلهيه لِأَنَّهُ كَانَ بِاللَّيْلِ فِي الظلمَة وَكَذَلِكَ مس النِّسَاء لشَهْوَة ينْقض الطَّهَارَة عِنْد اكثر الْعلمَاء فَإِذا كَانَ هَذَا فِي النّظر والمباشرة الْمُبَاح فِي غير حَال الْعِبَادَة نهى الله عَنهُ حَال الْعِبَادَة لما فِي ذَلِك من المباينة لِلْعِبَادَةِ والمنافاة لَهَا فَكيف بِمَا هُوَ حرَام خَارج عَن الْعِبَادَة كالنظر إِلَى الْبَغي والمباشرة لَهَا فَكيف بِالنّظرِ إِلَى المردان الصَّباح المخانيث وَغير المخانيث والمباشرة لَهُنَّ ثمَّ هَذَا قد يفعل لمُجَرّد شَهْوَة النّظر فَيكون قبيحا مَكْرُوها خَارج الْعِبَادَة فَكيف فِي حَال الْعِبَادَة وَهَؤُلَاء قد يجْعَلُونَ ذَلِك مِمَّا لَا يتم السماع إِلَّا بِهِ بل ويتخذونه فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا من الْعِبَادَات فيجعلون حضورهم فِي السماع

وَالسَّمَاع من النِّسَاء وَالصبيان من جملَة القربات والطاعات وَهَذَا من أعظم تَبْدِيل الدّين فَإِن الرجل لَو جعل النّظر إِلَى امْرَأَته فِي الصَّلَاة أَو الصّيام أَو الِاعْتِكَاف من جملَة الْعِبَادَة كَانَ مبتدعا بل كَانَ هَذَا كفرا فَكيف إِذا جعل النّظر إِلَى الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة أَو الْأَمْرَد فِي الصَّلَاة من جملَة الْعِبَادَات كَمَا يَفْعَله بَعضهم وَقد أوقد شمعة على وَجه الْأَمْرَد فيستجليه فِي صلَاته ويعد ذَلِك من عباداته هَذَا من أعظم تَبْدِيل الدّين ومتابعة الشَّيَاطِين وَهَذَا إِذا كَانَ الْعَمَل عبَادَة فِي نَفسه كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام فَكيف إِذا كَانَ الْعَمَل بِدعَة عَظِيمَة وَهُوَ سَماع المكاء والتصدية وَضم إِلَيْهِ مُشَاهدَة الصُّور الجميلة وَجعل سَماع هَذِه الْأَصْوَات ورؤية هَذِه الصُّور من الْعِبَادَات فَهَذَا من جنس دين الْمُشْركين وَلَقَد حَدثنِي بعض الْمَشَايِخ أَن بعض مُلُوك فَارس قَالَ لشيخ رَآهُ قد جمع النَّاس على مثل هَذَا الِاجْتِمَاع يَا شيخ إِن كَانَ هَذَا هُوَ طَرِيق الْجنَّة فَأَيْنَ طَرِيق النَّار الْوَجْه الثَّانِي أَن التطريب بالآلات الملهية محرم فِي السماع الَّذِي أحبه الله وشرعه وَهُوَ سَماع الْقُرْآن فَكيف يكون قربَة فِي السماع الَّذِي لم يشرعه الله وَهل ضم مَا يشرعه الله إِلَى مَا ذمه يصير الْمَجْمُوع الْمعِين بعضه

لبَعض مِمَّا أحبه الله ورضيه الْوَجْه الثَّالِث كَثْرَة أيقاد النَّار بالشموع والقناديل وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يشرع فِي الصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن إِذْ فِيهِ من تَفْرِيق الْقُلُوب وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ خلاف الْمَقْصُود الْوَجْه الرَّابِع التنوع فِي المطاعم والمشارب فِيهِ وَلَيْسَ شَأْن الْعِبَادَات وَإِنَّمَا شرع نوع ذَلِك عِنْد الْفَرَاغ من الْعِبَادَة وَأما أَن يكون هَذَا التنوع فِي المطاعم والمشارب فِي السماع من الْعِبَادَة الَّتِي يتَقرَّب بهَا الى الله فَلَا وَأما مُوجبه من الحركات الْمُخْتَلفَة والأصوات الْمُنكرَة والحركات الْعَظِيمَة فَهَذَا أجل من ان يُوصف وَلَا يُمكن رد مُوجبه بعد قيام الْمُقْتَضى التَّام كَمَا لَا يُمكن رد السكر عَن النَّفس بعد شرب مَا يسكر من الْخمر بل إسكاره للنفوس وصده عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة أعظم مِمَّا فِي الْخمر بِكَثِير فَإِن الصَّلَاة كَمَا ذكر الله تَعَالَى {تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} [سُورَة العنكبوت 45] وَهَذَا أَمر مجرب محسوس يجد الْإِنْسَان من نَفسه أَن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر ويجد أهل السماع أَن نُفُوسهم

تميل إِلَى الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَلِهَذَا يتعاطى كل أحد من الْفَاحِشَة حَتَّى تعاطى كثير من المتصوفة صُحْبَة الْأَحْدَاث ومشاهدتهم وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ العينان يزينان وزناهما النّظر وغالب أَهله يخالطون الْأَحْدَاث والنسوان الْأَجَانِب وَمن امْتنع مِنْهُم عَن ذَلِك لورع أَو غَيره فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَنْتَهِي عَن ذَلِك بِغَيْر هَذَا السماع وَأما هَذَا السماع فال ينهاه عَن ذَلِك قطعا بل يَدعُوهُ إِلَيْهِ لَا سِيمَا النُّفُوس الَّتِي بهَا رقة ورياضة وزهد فَإِن سَماع الصَّوْت يُؤثر فِيهَا تَأْثِيرا عَظِيما وَكَذَلِكَ مُشَاهدَة الصُّور وَيكون ذَلِك قوتا لَهَا وَبِهَذَا اعتاض الشَّيْطَان فِيمَن يفعل ذَلِك من المتصوفة فَإِنَّهُ لم يبال بعد أَن أوقعهم فِيمَا يفْسد قُلُوبهم وسمعهم وأبصارهم أَلا يشْتَغل بِجمع الْأَمْوَال وَالسُّلْطَان اذا قد تكون فتْنَة أحدهم بذلك اعظم من الفتنه بالسلطان وَالْمَال فَإِن جنس ذَلِك مُبَاح وَقد يستعان بِهِ على طَاعَة الله وَأما مَا يشغل بِهِ هَؤُلَاءِ أنفسهم فَإِنَّهُ دين فَاسد منهى عَنهُ مضرته راجحة على منفعَته الْوَجْه الْخَامِس تَشْبِيه الرِّجَال بِالنسَاء فَإِن المغاني كَانَ السّلف يسمونهم مخانيث لِأَن الْغناء من عمل النِّسَاء وَلم يكن على عهد النَّبِي

ص يُغني فِي الأعراس إِلَّا النِّسَاء كالإماء والجواري الحديثات السن فَإِذا تشبه بهم الرجل كَانَ مخنثا وَقد لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المخنثين من الرِّجَال والمترجلات من النِّسَاء وَهَكَذَا فِيمَن يحْضرُون فِي السماع من المردان الَّذين يسمونهم الشُّهُود فيهم من التخنث بِقدر مَا تشبهوا بِالنسَاء وَعَلَيْهِم من اللَّعْنَة بِقدر ذَلِك وَقد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَمر بِنَفْي المخنثين وَقَالَ أخرجوهم من بُيُوتكُمْ فَكيف نمر بقربهم ونعظمهم ونجعلهم طواغيت معظمون بِالْبَاطِلِ الَّذِي حرمه الله وَرَسُوله وَأمر بعقوبة أَهله وإذلالهم وَهَذَا مضاد فِي أمره فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من حَالَتْ شَفَاعَته دون حد من حُدُود الله فقد ضاد الله فِي أمره رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الشَّفَاعَة بالْكلَام فَكيف بِالَّذِي يعظم

المتعدين لحدود الله ويعينهم على ذَلِك وَيجْعَل ذَلِك دينا لَا سِيمَا التَّعْظِيم لما هُوَ من جنس الْفَوَاحِش فَإِن هَذَا من شَأْنه إِذا كَانَ مُبَاحا ستره أَو إخفاؤه وَأَهله لَا يجوز أَن يجْعَلُوا من وُلَاة الْأُمُور وَلَا يكون لَهُم نصيب من السُّلْطَان بِمَا فيهم من نقص الْعقل وَالدّين فَكيف بِمن هُوَ من جنس هَؤُلَاءِ مِمَّن لَعنه الله وَرَسُوله فَإِن من يعظم الْقَيْنَات الْمُغَنِّيَات وَيجْعَل لَهُنَّ رياسة وَحكما لأجل مَا يستمع مِنْهُنَّ من الْغناء وَغَيره عَلَيْهِ من لعنة الله وغضبه أعظم مِمَّن يُؤمر الْمَرْأَة الْحرَّة ويملكها وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا أَفْلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة فَالَّذِي يعظم المخنثين من الرِّجَال وَيجْعَل لَهُم من الرياسة وَالْأَمر على الْأَمر الْمحرم مَا يَجْعَل هُوَ احق بلعنة الله وغضبه من أُولَئِكَ فَإِن غناء الْإِمَاء والاستمتاع بِهن من جنس الْمُبَاح وَمَا زَالَ الْإِمَاء وغيرهن من

النِّسَاء يغنين على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فِي الأفراح كالعرس وقدوم الْغَائِب وَنَحْو ذَلِك بِخِلَاف من يَسْتَمِعُون الْغناء من المردان وَالنِّسَاء الأجنبيات ويجتمعون مَعَهم على الْفَوَاحِش فَإِنَّمَا يكون ذَلِك من أعظم الْمُحرمَات فَكيف إِذا جعل ذَلِك من الْعِبَادَات وَقد كتبنَا فِي غير هَذَا الْموضع مِمَّا يتَعَلَّق بذلك مَا لَا يحْتَملهُ هَذَا الْموضع الْوَجْه السَّادِس أَن رفع الْأَصْوَات فِي الذّكر الْمَشْرُوع لَا يجوز إِلَّا حَيْثُ جَاءَت بِهِ السّنة كالأذان والتلبية وَنَحْو ذَلِك فَالسنة لِلذَّاكِرِينَ والداعين أَلا يرفعوا أَصْوَاتهم رفعا شَدِيدا كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أبي مُوسَى أَنه قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكُنَّا إِذا علونا على شرف كبرنا فارتفعت أصواتنا فَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس اربعوا على انفسكم فَإِنَّكُم لَا تدعون أَصمّ وَلَا غَائِبا إِنَّمَا تدعون سميعا قَرِيبا إِن الَّذِي تدعون أقرب إِلَى احدكم من عنق رَاحِلَته وَقد قَالَ تَعَالَى {ادعوا ربكُم تضرعا وخفية إِنَّه لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} [سُورَة الْأَعْرَاف 55] وَقَالَ عَن زَكَرِيَّا {إِذْ نَادَى ربه نِدَاء خفِيا} [سُورَة مَرْيَم 3] وَقَالَ تَعَالَى وَاذْكُر رَبك فِي نَفسك تضرعا وخفية وَدون الْجَهْر من القَوْل بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال وَلَا تكن من الغافلين [سُورَة الْأَعْرَاف 205]

وَفِي هَذِه الْآثَار عَن سلف الْأمة وأئمتها مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه كَمَا قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رفع الصَّوْت بِالدُّعَاءِ بِدعَة وَكَذَلِكَ نَص عَلَيْهِ أَحْمد ابْن حَنْبَل وَغَيره وَقَالَ قيس بن عباد وَهُوَ من كبار التَّابِعين من أَصْحَاب على عَلَيْهِ السَّلَام روى عَنهُ الْحسن الْبَصْرِيّ قَالَ كَانُوا يستحبون خفض الصَّوْت عِنْد الذّكر وَعند الْجَنَائِز وَعند الْقِتَال وَهَذِه المواطن الثَّلَاثَة تطلب النُّفُوس فِيهَا الْحَرَكَة الشَّدِيدَة وَرفع الصَّوْت عِنْد الذّكر وَالدُّعَاء لما فِيهِ من الْحَلَاوَة ومحبة ذكر الله ودعائه وَعند الْجَنَائِز بالحزن والبكاء وَعند الْقِتَال بِالْغَضَبِ وَالْحمية ومضرته أكبر من منفعَته بل قد يكون ضَرَرا مَحْضا وَإِن كَانَت النَّفس تطلبه كَمَا فِي حَال المصائب وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ منا من لطم الخدود وشق الْجُيُوب ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة وتبرأ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصالفة والحالقة والشاقة والصالفة الَّتِي ترفع صَوتهَا بالمصي

وَقَالَ إِن الله لَا يُؤَاخذ على دمع الْعين وَلَا على حزن الْقلب وَلَكِن يُؤَاخذ على هَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانه أَو يرحم وَقَالَ إِن النائحة إِذا لم تتب فَإِنَّهَا تلبس يَوْم الْقِيَامَة درعا من جرب وسربالا من قطران وَهَذِه الْأَحَادِيث وَغَيرهَا فِي الصِّحَاح وَلِهَذَا عظم نهى الْعلمَاء عَمَّا ابتدع فِيهَا مثل الضَّرْب بِالدُّفُوفِ وَنَحْو ذَلِك وَرَأَوا تقطيع الدُّف فِي الْجِنَازَة كَمَا نَص عَلَيْهِ أَحْمد وَغَيره بِخِلَاف الدُّف فِي الْعرس فَإِن ذَلِك مَشْرُوع وَأما الْقِتَال فَالسنة أَيْضا فِيهِ خفض الصَّوْت وَلِهَذَا قَالَ حماس بن قيس بن خَالِد لامْرَأَته يَوْم فتح مَكَّة ... إِنَّك لَو شهِدت يَوْم الخندمة إِذْ فر صَفْوَان وفر عِكْرِمَة وَأَبُو يزِيد قَائِم كالموتمه واستقبلهم بِالسُّيُوفِ الْمسلمَة يقطعن كل ساعد وجمجمة ضربا فَلَا يسمع إِلَّا غمغمه لَهُم نهيت خلفنا وهمهمه لم تنطقي فِي اللوم أدنى كَلمه ...

وَهَذِه الدقادق والأبواق الَّتِي تشبه قرن الْيَهُود وناقوس النَّصَارَى لم تكن تعرف على عهد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَلَا من بعدهمْ من أُمَرَاء الْمُسلمين وَإِنَّمَا حدث فِي ظَنِّي بعض مُلُوك الْمشرق من أهل فَارس فَإِنَّهُم أَحْدَثُوا فِي أَحْوَال الْإِمَارَة والقتال أمورا كَثِيرَة وانبثت فِي الأَرْض لكَون ملكهم انْتَشَر حَتَّى رَبًّا فِي ذَلِك الصَّغِير وهرم فِيهَا الْكَبِير لَا يعْرفُونَ غير ذَلِك بل يُنكرُونَ أَن يتَكَلَّم أحد بِخِلَافِهِ حَتَّى ظن بعض النَّاس أَن ذَلِك من إِحْدَاث عُثْمَان بن عَفَّان وَلَيْسَ كَذَلِك بل وَلَا فعله عَامَّة الْخُلَفَاء والأمراء بعد عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَلَكِن ظهر فِي الْأمة مَا أخبر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ لتأخذن مَأْخَذ الْأُمَم قبلكُمْ شبْرًا شبْرًا وذراعا بِذِرَاع قَالُوا فَارس وَالروم قَالَ وَمن النَّاس إِلَّا هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ فِي الحَدِيث الآخر لتركبن سنَن من كَانَ قبلكُمْ حَذْو القذة بالقذة حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَب لدخلتموه قَالُوا يَا رَسُول الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى قَالَ فَمن وكلا الْحَدِيثين فِي الصَّحِيح أخبر بِأَنَّهُ يكون فِي الْأمة من يتشبه باليهود وَالنَّصَارَى وَيكون فِيهَا من يتشبه بِفَارِس وَالروم

وَلِهَذَا ظهر فِي شَعَائِر الْجند المقاتلين شَعَائِر الْأَعَاجِم من الْفرس وَغَيرهم حَتَّى فِي اللبَاس وأعمال الْقِتَال والأسماء الَّتِي تكون لأسباب الإمرة مثل الْأَلْفَاظ المضافة إِلَى دَار كَقَوْلِهِم ركاب دَار وطشت دَار وخان دَار فَإِن ذَلِك فِي لُغَة الْفرس بِمَعْنى صَاحب وحافظ فَإِذا قَالُوا جَان دَار فالجان هِيَ الرّوح فِي لغتهم فالجان دَار بِمَعْنى حَافظ الرّوح وَصَاحب الرّوح وَكَذَلِكَ الركاب دَار أَي صَاحب الركاب وحافظ الركاب وَهُوَ الَّذِي يسرج الْفرس ويلجمه وَيكون فِي ركاب الرَّاكِب وَكَذَلِكَ صَاحب الطشت الَّذِي يغسل الثِّيَاب والأبدان وَكَذَلِكَ برد دَار وَهُوَ صَاحب العتبة وَهُوَ الْمُوكل بدار الْأَمِير كالحداد والبواب الَّذِي يمْنَع من الدُّخُول وَالْخُرُوج وَيَأْذَن فِيهِ وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ جمدار وَسلَاح دَار وجوكان دَار وبندق دَار ودوادار وخرندار واستادار لصَاحب الثِّيَاب الَّذِي يحفظ الثِّيَاب وَمَا يتَعَلَّق بذلك وَلِصَاحِب السِّلَاح والجوكان والبندق والدواه وخزانة المَال والاستدانة وَهِي التَّصَرُّف فِي إِخْرَاج المَال وَصَرفه فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الطَّعَام واللباس وَغير ذَلِك وَيَتَعَدَّى ذَلِك إِلَى وُلَاة الطَّعَام وَالشرَاب فَيَقُولُونَ مرق دَار أَي صَاحب المرقة وَمَا يتَعَلَّق بهَا وشراب دَار لصَاحب الشَّرَاب وَيَقُولُونَ مهما ندار أَي صَاحب المهم كَمَا يَقُولُونَ مهمان خاناه أَي بَيت المهم والمهمة وَهُوَ فِي لغتهم الضَّيْف أَي بَيت الْإِضَافَة وَصَاحب الضِّيَافَة

مهمان دَار لمثل رَسُول يرد على الْأَمِير والعيون الَّذين هم الجواميس وَنَحْو ذَلِك مِمَّن يتَّخذ لَهُ ضِيَافَة وَيُوجد مِنْهُ أَخْبَار وَكتب وَيُعْطى ذَلِك وَنَحْو ذَلِك فَإِن الأف وَالنُّون فِي لغتهم جمع كَمَا يَقُولُونَ مسلمان وفقيهان وعالمان أَي مُسلمُونَ وفقهاء وعلماء وَنَحْو ذَلِك قَوْلهم فرَاش خاناه أَي بَيت الْفرس والفراش يسمونه بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيّ وَيَقُولُونَ زرد خاناه أَي بَيت الزرد وَهَذَا الْخَاص هُوَ عَام فِي الْعرف يُرَاد بِهِ بَيت السِّلَاح مُطلقًا وَإِن ذكر لفظ الزرد خَاصَّة كَمَا كَانَ الصَّحَابَة يعبرون عَن السِّلَاح بالحلقة وَالْحَلقَة هِيَ الدروع المسرودة من السرد الَّذِي يُقَال لَهُ الزرد فنقلت السِّين زايا وَرُبمَا قَالُوا الْحلقَة وَالسِّلَاح أَي الدروع وَالسِّلَاح وَلِهَذَا لما صَالح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صَالحه من يهود صَالحهمْ على أَن لَهُ الْحلقَة وَفِي السِّيرَة كَانَ فِي بني فلَان وَفُلَان من الْأَنْصَار الْحلقَة والحصون أَي هم الَّذين لَهُم السِّلَاح الَّذين يُقَاتلُون بهَا والحصون الَّتِي يأوون إِلَيْهَا كَمَا يكون لأمراء النَّاس من أَصْنَاف الْمُلُوك المعاقل والحصون والقلاع وَلَهُم السِّلَاح فَإِن هَذِه الْأُمُور هِيَ جنن الْقِتَال وَبهَا يمْتَنع الْمقَاتل وَالْمَطْلُوب بِخِلَاف من لَا سلَاح لَهُ وَلَا حصن فَإِنَّهُ مُمكن

من نَفسه مَقْدُور عَلَيْهِ فِي مثل الْأَمْصَار وَإِن كَانَ الْقِتَال على الْخَيل بِالسِّلَاحِ هُوَ أَعلَى وَأفضل من الْقِتَال فِي الْحُصُون بِالسِّلَاحِ فالحصان خير من الْحُصُون وَمن لم يكن قِتَاله إِلَّا فِي الْحُصُون والجدر فَهُوَ مَذْمُوم كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْيَهُود {لَا يقاتلونكم جَمِيعًا إِلَّا فِي قرى مُحصنَة أَو من وَرَاء جدر بأسهم بَينهم شَدِيد تحسبهم جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ} [سُورَة الْحَشْر 14] والمحدثات فِي أَمر الْإِمَارَة وَالْملك والقتال كَثِيرَة جدا لَيْسَ هَذَا موضعهَا فَإِن الْأمة هِيَ فِي الأَصْل اربعة أَصْنَاف كَمَا ذكر ذَلِك فِي قَوْله فاقرأوا مَا تيَسّر من الْقُرْآن علم أَن سَيكون مِنْكُم مرضى وَآخَرُونَ يضْربُونَ فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل الله وَآخَرُونَ يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله [سُورَة المزمل 20] فالصنف الْوَاحِد الْقُرَّاء وهم جنس الْعلمَاء والعباد وَيدخل فيهم من تفرع من هَذِه الْأَصْنَاف من المتكلمة والمتصوفة وَغَيرهم والصنف الآخر المكتسب بِالضَّرْبِ فِي الأَرْض وَأما المقيمون من أهل الصناعات والتجارات فَيمكن أَن يَكُونُوا من الْقُرَّاء المقيمين أَيْضا بِخِلَاف الْمُسَافِر فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا مرض العَبْد أَو

سَافر كتبه لَهُ من الْعَمَل مثل مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ صَحِيح مُقيم أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابي مُوسَى وَالله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ذكر هَذِه الْأَصْنَاف فِي الْآيَة ليبين من يسْقط عَنهُ قيام اللَّيْل من أهل الْأَعْذَار فَذكر الْمَرِيض وَالْمُسَافر اللَّذين ذكرا فِي الحَدِيث وَذكر الْمُسَافِرين فِي ضَرْبَيْنِ الضاربين فِي الأَرْض يَبْتَغُونَ من فضل الله والمقاتلين فِي سَبِيل الله وهم التُّجَّار والأجناد وَالْمَقْصُود هُنَا ان الْأَجْنَاس الْأَرْبَعَة من الْمُقَاتلَة والتجار وَمن يلْحق بهم من الصناع والقراء وَأهل الْأَعْذَار كالمرضى وَنَحْوهم كل هَؤُلَاءِ قد حصل فيهم من الْأَنْوَاع الْمُخْتَلفَة مَا يطول وَصفه وأمورهم مَا بَين حسن مَأْمُور بِهِ وَبَين قَبِيح منهى عَنهُ ومباح واشتمال أَكثر أُمُورهم على هَذِه الثَّلَاثَة الْمَأْمُور بِهِ والمنهى عَنهُ والمباح وَالْوَاجِب الْأَمر بِمَا أَمر الله بِهِ وَالنَّهْي عَمَّا نهى عَنهُ وَالْإِذْن فِيمَا أَبَاحَهُ الله

لَكِن إِذا كَانَ الشَّخْص أَو الطَّائِفَة لَا تفعل مَأْمُورا إِلَّا بمحظور أعظم مِنْهُ أَو لَا تتْرك مَأْمُورا إِلَّا لمحظور أعظم مِنْهُ لم يَأْمر امرا يسْتَلْزم وُقُوع مَحْظُور رَاجِح وَلم ينْه نهيا يسْتَلْزم وُقُوع مَأْمُور رَاجِح فَإِن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر هُوَ الَّذِي بعثت بِهِ الرُّسُل وَالْمَقْصُود تَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها بِحَسب الْإِمْكَان فَإِذا كَانَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مستلزما من الْفساد أَكثر مِمَّا فِيهِ من الصّلاح لم يكن مَشْرُوعا وَقد كره أَئِمَّة السّنة الْقِتَال فِي الْفِتْنَة الَّتِي يسميها كثير من اهل الْأَهْوَاء الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر فَإِن ذَلِك إِذا كَانَ يُوجب فتْنَة هِيَ اعظم فَسَادًا مِمَّا فِي ترك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لم يدْفع أدنى الفسادين باعلاهما بل يدْفع أعلاهما بِاحْتِمَال أدناهما كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا انبئكم بِأَفْضَل من دَرَجَة الصّيام وَالصَّلَاة وَالصَّدَََقَة والامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر قَالُوا بلَى يَا رَسُول الله قَالَ إصْلَاح ذَات الْبَين فَإِن فَسَاد ذَات الْبَين هِيَ الحالقة لَا أَقُول تحلق الشّعْر وَلَكِن تحلق الدّين

لَكِن الْمَقْصُود هُنَا ان هَذِه الْأَصْوَات المحدثة فِي امْر الْجِهَاد وَإِن ظن أَن فِيهَا مصلحَة راجحة فَإِن الْتِزَام الْمَعْرُوف هُوَ الَّذِي فِيهِ الْمصلحَة الراجحة كَمَا فِي اصوات الذّكر إِذْ السَّابِقُونَ الْأَولونَ والتابعون لَهُم بِإِحْسَان أفضل من الْمُتَأَخِّرين فِي كل شئ من الصَّلَاة وجنسها من الذّكر وَالدُّعَاء وَقِرَاءَة الْقُرْآن واستماعه وَغير ذَلِك وَمن الْجِهَاد والإمارة وَمَا يتَعَلَّق بذلك من أَصْنَاف السياسات والعقوبات والمعاملات فِي إصْلَاح الْأَمْوَال وصرفها فَإِن طَرِيق السّلف أكمل فِي كل شئ وَلَكِن يفعل الْمُسلم من ذَلِك مَا يقدر عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} [سُورَة التغابن 16] وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي وَإِن حسن الصَّوْت مِمَّا أنعم الله تَعَالَى بِهِ على صَاحبه من النَّاس قَالَ الله تَعَالَى {يزِيد فِي الْخلق مَا يَشَاء} [سُورَة فاطر 1] قيل فِي التَّفْسِير من ذَلِك الصَّوْت الْحسن وذم

الله وسبحانه الصَّوْت الفظيع فَقَالَ تَعَالَى {إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير} [سُورَة لُقْمَان 19] قلت كَون الشئ نعْمَة لَا يقتضى اسْتِبَاحَة اسْتِعْمَاله فِيمَا شَاءَ الْإِنْسَان من الْمعاصِي وَلَا يَقْتَضِي إِلَّا حسن اسْتِعْمَاله بل النعم المستعملة فِي طَاعَة الله يحمد صَاحبهَا عَلَيْهَا وَيكون ذَلِك شكرا لله يُوجب الْمَزِيد من فَضله فَهَذَا يَقْتَضِي حسن اسْتِعْمَال الصَّوْت الْحسن فِي قِرَاءَة الْقُرْآن كَمَا كَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يفعل وكما كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستمع لقرَاءَته وَقَالَ مَرَرْت بك البارحة وَأَنت تقْرَأ فَجعلت اسْتمع لقراءتك فَقَالَ لَو علمت أَنَّك تستمع لحبرته لَك تحبيرا وَقَالَ لقد أُوتى هَذَا مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد فَأَما اسْتِعْمَال النعم فِي الْمُبَاح الْمَحْض فَلَا يكون طَاعَة فَكيف فِي الْمَكْرُوه أَو الْمحرم وَلَو كَانَ ذَلِك جَائِزا لم يكن قربَة وَلَا طَاعَة إِلَّا بِإِذن الله وَمن

جعله طَاعَة لله بِدُونِ ذَلِك فقد شرع من الدّين مالم يَأْذَن بِهِ الله وَمَعْلُوم أَن الْقُوَّة نعْمَة وَالْجمال نعْمَة وَغير ذَلِك من نعم الله الَّتِي لَا يحصيها إِلَّا هُوَ فَهَل يَجْعَل أحد مُجَرّد كَون الشئ نعْمَة دَلِيلا على اسْتِحْبَاب إعماله فِيمَا شَاءَ الْإِنْسَان أم يُؤمر الْمُنعم عَلَيْهِ بألا يستعملها فِي مَعْصِيّة وَينْدب إِلَى أَلا يستعملها إِلَّا فِي طَاعَة الله تَعَالَى فآلاستدلال بِهَذَا منزلَة من اسْتدلَّ بإنعام الله بالسلطان وَالْمَال على مَا جرت عَادَة النُّفُوس بِاسْتِعْمَال ذَلِك فِيهِ من الظُّلم وَالْفَوَاحِش وَنَحْو ذَلِك فآستعمال الصَّوْت الْحسن فِي الأغاني وآلات الملاهي مثل اسْتِعْمَال الصُّور الْحَسَنَة فِي الْفَوَاحِش وَاسْتِعْمَال السُّلْطَان بالكبرياء وَالظُّلم والعدوان وَاسْتِعْمَال المَال فِي نَحْو ذَلِك ثمَّ يُقَال لَهُ هَذِه النِّعْمَة يستعملها الْكفَّار والفساق فِي أَنْوَاع من الْكفْر والفسوق أَكثر مِمَّا يستعلها الْمُؤْمِنُونَ فِي الْإِيمَان فَإِن استمتاع الْكفَّار والفساق بالأصوات المطربة أَكثر من استمتاع الْمُسلمين فَأَي حمد لَهَا بذلك إِن لم تسْتَعْمل فِي طَاعَة الله وَرَسُوله وَأما قَوْله إِن الله ذمّ الصَّوْت الفظيع فَهَذَا غلط مِنْهُ فَإِن الله لَا يذم مَا خلقه وَلم يكن فعلا للْعَبد إِنَّمَا يذم العَبْد بأفعاله الاختيارية

دون مَا لَا اخْتِيَار لَهُ فِيهِ وَإِن كَانَ صَوته قبيحا فَإِنَّهُ لَا يذم على ذَلِك وَإِنَّمَا يذم بأفعاله وَقد قَالَ الله فِي الْمُنَافِقين {وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم وَإِن يَقُولُوا تسمع لقَولهم} [سُورَة المُنَافِقُونَ 4] وَقَالَ {وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه وَهُوَ أَلد الْخِصَام} [سُورَة الْبَقَرَة 204] وَإِنَّمَا ذمّ الله مَا يكون بآختيار العَبْد من رفع الصَّوْت الرّفْع الْمُنكر كَمَا يُوجد ذَلِك فِي أهل الغلظ والجفاء كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجفَاء والغلط وقسوة الْقُلُوب فِي الْفَدادِين من أهل الْوَبر وهم الصياحون صياحا مُنْكرا وَقد قَالَ الله تَعَالَى {واقصد فِي مشيك واغضض من صَوْتك}

{إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير} [سُورَة لُقْمَان 19] فَأمره أَن يغض من صَوته كَمَا أَمر الْمُؤمنِينَ أَن يغضوا من أَبْصَارهم وكما أمره أَن يقْصد فِي مَشْيه وَذَلِكَ كُله فِيمَا يكون بِاخْتِيَارِهِ لَا مدْخل لذه الصَّوْت وَعدم لذته فِي ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين يُنَادُونَك من وَرَاء الحجرات أَكْثَرهم لَا يعْقلُونَ} [سُورَة الحجرات 4] وَقَالَ لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ القَوْل سُورَة الحجرات 2 وَقَالَ إِن الَّذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتهم عِنْد رَسُول الله أُولَئِكَ الَّذين امتحن الله قُلُوبهم للتقوى سُورَة الحجرات 3 وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن عبد الله بن عَمْرو فِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّوْرَاة قَالَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ ولاصخاب بالأسواق وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيئَة وَلَكِن يعْفُو وَيغْفر

وَفِي الصَّحِيح أَيْضا انه أَمر ان يبشر خَدِيجَة بِبَيْت فِي الْجنَّة من قصب لَا صخب فِيهِ وَلَا نصب وَعنهُ ص قَالَ إِنَّمَا نهيت عَن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فاجرين صَوت عِنْد نعْمَة صَوت لَهو وَلعب وَمَزَامِير الشَّيْطَان وَصَوت عِنْد مُصِيبَة لطم خدود وشق جُيُوب وَدُعَاء بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة ثمَّ قَالَ ابو الْقَاسِم واستلذاذ الْقُلُوب واشتياقها إِلَى الْأَصْوَات الطّيبَة واسترواحها إِلَيْهَا مِمَّا لَا يُمكن جحوده فَإِن الطِّفْل يسكن إِلَى الصَّوْت الطّيب والجمل يقاسى تَعب السّير ومشقة الحمولة فيهون عَلَيْهِ بالحداء قَالَ الله تَعَالَى أَفلا ينظرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت [سُورَة الغاشية 17]

وَحكى إِسْمَاعِيل بن علية قَالَ كنت أمشى مَعَ الشَّافِعِي رَحمَه الله وَقت الهاجرة فجزنا بِموضع يَقُول فِيهِ أحد شَيْئا فَقَالَ مل بِنَا إِلَيْهِ ثمَّ قَالَ أيطربك هَذَا فَقلت لَا فَقَالَ مَالك حسن قلت قد كَانَ مستغنيا عَن أَن يستشهد على الامور الحسية بحكاية مكذوبة على الشَّافِعِي فَإِن إِسْمَاعِيل بن علية شيخ الشَّافِعِي لم يكن مِمَّن يمشي مَعَه وَلم يرو هَذَا عَن الشَّافِعِي بل الشَّافِعِي روى عَنهُ وَهُوَ من أجلاء شُيُوخ الشَّافِعِي وَابْنه ابراهيم بن إِسْمَاعِيل كَانَ متكلما تلميذا لعبد الرَّحْمَن بن كيسَان الْأَصَم أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة وَكَانَ قد ذهب إِلَى مصر وَكَانَ بَينه وَبَين الشَّافِعِي مناوأة حَتَّى كَانَ الشَّافِعِي يَقُول فِيهِ أَنا مُخَالف لِابْنِ علية فِي كل شئ حَتَّى فِي قَول لَا إِلَه إِلَّا الله لِأَنِّي أَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله الَّذِي كلم مُوسَى من وَرَاء الْحجاب وَهُوَ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله الَّذِي خلق فِي الْهَوَاء كلَاما يسمعهُ مُوسَى وَهَذَا يذكر لَهُ أول رِسَالَة فِي أصُول الْفِقْه ويظن بعض النَّاس أَن ابْنه يشْتَبه

بِأَبِيهِ فَإِنَّهُ شيخ الشَّافِعِي وَأحمد وطبقتهما فَهَذِهِ الْحِكَايَة يعلم انها مفتراة من لَهُ أدنى معرفَة بِالنَّاسِ وَلَو صحت عَمَّن صحت عَنهُ لم يكن فِيهَا إِلَّا مَا هُوَ مدرك بالإحساس من ان الصَّوْت الطّيب لذيذ مطرب وَهَذَا يشْتَرك فِيهِ جَمِيع النَّاس لَيْسَ هَذَا من أُمُور الدّين حَتَّى يسْتَدلّ فِيهِ بالشافعي بل ذكر الشَّافِعِي فِي مثل هَذَا غض من منصبه مثل مَا ذكر ابْن طَاهِر عَن مَالك رَحمَه الله حِكَايَة مكذوبة وَأهل المواخر أعلم بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة من أَئِمَّة الدّين وَلَو حكى مثل هَذَا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم النديم وَأبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ صَاحب الأغاني لَكَانَ أنسب من ان يحكيها عَن الشَّافِعِي ثمَّ يُقَال كَون الصَّوْت الْحسن فِيهِ لذه أَمر حسى لَكِن أَي شئ فِي هَذَا مِمَّا يدل على الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من كَونه مُبَاحا اَوْ مَكْرُوها اَوْ محرما وَمن كَون الْغناء قربَة أَو طَاعَة بل مثل هَذَا ان يَقُول الْقَائِل استلذاذا بِالْوَطْءِ مِمَّا لَا يُمكن جحوده واستلذاذ النُّفُوس بِالْوَطْءِ مِمَّا لَا يُمكن جحوده واستلذاذها بِالْمُبَاشرَةِ للجميل من النِّسَاء وَالصبيان مِمَّا لَا يُمكن جحوده واستلذاذها بِالنّظرِ إِلَى الصُّور الجميلة مِمَّا لَا يُمكن جحوده

واستلذاذها بأنواع المطاعم والمشارب مِمَّا لَا يُمكن جحوده فَأَي دَلِيل فِي هَذَا لمن هداه الله على مَا يُحِبهُ ويرضاه أَو يبيحه ويجيزه وَمن الْمَعْلُوم أَن هَذِه الْأَجْنَاس فِيهَا الْحَلَال وَالْحرَام وَالْمَعْرُوف وَالْمُنكر بل كَانَ الْمُنَاسب لطريقة الزّهْد فِي الشَّهَوَات وَاللَّذَّات وَمُخَالفَة الْهوى ان يسْتَدلّ بِكَوْن الشئ لذيذا مشتهى على كَونه مباينا لطريق الزّهْد والتصوف كَمَا قد يفعل كثير من الْمَشَايِخ يزهدون بذلك فِي جنس الشَّهَوَات وَاللَّذَّات وَهَذَا وَإِن لم يكن فِي نَفسه دَلِيلا صَحِيحا فَهُوَ اقْربْ إِلَى طَريقَة الزّهْد والتصوف من الِاسْتِدْلَال بِكَوْن الشئ لذيذا على كَونه طَرِيقا إِلَى الله وكل من الاستدلالين بَاطِل فَلَا يسْتَدلّ على كَونه مَحْمُودًا أَو مذموما أَو حَلَالا اَوْ حَرَامًا إِلَّا بالأدلة الشَّرْعِيَّة لَا بِكَوْنِهِ لذيذا فِي الطَّبْع أَو غير لذيذ وَلِهَذَا يُنكر على من يتَقرَّب إِلَى الله بترك جنس اللَّذَّات كَمَا قَالَ ص للَّذين قَالَ احدهم أما أَنا فأصوم لَا أفطر وَقَالَ الآخر أما أَنا فأقوم لَا أَنَام وَقَالَ الآخر أما أَنا فَلَا اتزوج النِّسَاء وَقَالَ الآخر أما أَنا فَلَا آكل اللَّحْم فَقَالَ النَّبِي ص

لكني أَصوم وَأفْطر وأقوم وأنام وأتزوج النِّسَاء وآكل اللَّحْم فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني وَقد أنزل الله تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ [سُورَة الْمَائِدَة 87] ثمَّ إِن أَبَا الْقَاسِم وَطَائِفَة مَعَه تَارَة يمدحون التَّقَرُّب إِلَى الله بترك جنس الشَّهَوَات وَتارَة يجْعَلُونَ ذَلِك دَلِيلا على حسنه وَكَونه من القربا ت وَهَذَا بِحَسب وجد أحدهم وهواه لَا بِحَسب مَا أنزل الله وأوحاه وَمَا هُوَ الْحق وَالْعدْل وَمَا هُوَ الصّلاح والنافع فِي نفس الْأَمر وَالتَّحْقِيق أَن الْعَمَل لَا يمدح وَلَا يذم لمُجَرّد كَونه لَذَّة بل إِنَّمَا يمدح مَا كَانَ لله أطوع وَلِلْعَبْدِ أَنْفَع سَوَاء كَانَ فِيهِ لَذَّة أَو مشقة قرب لذيذ هُوَ طَاعَة وَمَنْفَعَة وَرب مشق هُوَ طَاعَة وَمَنْفَعَة وَرب لذيذ أَو مشق صَار مَنْهِيّا عَنهُ ثمَّ لَو اسْتدلَّ بِهَذَا على تَحْسِين الْقُرْآن بِهِ لَكَانَ مناسبا فَإِن الِاسْتِعَانَة بِجِنْس اللَّذَّات على جنس الطَّاعَات مِمَّا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة كَمَا يستعان بِالْأَكْلِ وَالشرب على الْعِبَادَات قَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم

واشكروا لله [سُورَة الْبَقَرَة 172] وَقَالَ كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا [سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 51] وَفِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لسعد إِنَّك لن تنْفق نَفَقَة تبتغى بهَا وَجه الله إِلَّا ازددت بهَا دَرَجَة ورفعة حَتَّى اللُّقْمَة ترفعها إِلَى فِي امْرَأَتك وَقَالَ فِي بضع أحدكُم أَهله صَدَقَة وَكَذَلِكَ حَمده فِي النعم كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح إِن الله ليرضى عَن العَبْد أَن يَأْكُل الْأكلَة فيحمده عَلَيْهَا فَلَو قَالَ إِن الله خلق فِينَا الشَّهَوَات وَاللَّذَّات لنستعين بهَا على كَمَال مصالحنا فخلق فِينَا شَهْوَة الْأكل واللذة بِهِ فَإِن ذَلِك فِي نَفسه نعْمَة وَبِه يحصل بَقَاء جسومنا فِي الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ شَهْوَة النِّكَاح واللذة بِهِ هُوَ فِي نَفسه وربه يحصل بَقَاء النَّسْل فَإِذا استعين بِهَذِهِ القوى على

مَا أمرنَا كَانَ ذَلِك سَعَادَة لنا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكُنَّا من الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم نعْمَة مُطلقَة وَإِن استعملنا الشَّهَوَات فِيمَا حظره علينا بِأَكْل الْخَبَائِث فِي نَفسهَا أَو كسبها كالمظالم أَو بالإسراف فِيهَا أَو تعدينا أَزوَاجنَا أَو مَا ملكت أَيْمَاننَا كُنَّا ظالمين معتدين غير شاكرين لنعمته لَكَانَ هَذَا كلَاما حسنا وَالله قد خلق الصَّوْت الْحسن وَجعل النُّفُوس تحبه وتلتذ بِهِ فَإِذا استعنا بذلك فِي اسْتِمَاع مَا امرنا باستماعه وَهُوَ كِتَابه وَفِي تَحْسِين الصَّوْت بِهِ كَمَا أمرنَا بذلك حَيْثُ قَالَ زَينُوا الْقُرْآن باصواتكم وكما كَانَ يفعل أَصْحَابه بِحَضْرَتِهِ مثل أبي مُوسَى وَغَيره كُنَّا قد استعملنا النِّعْمَة فِي الطَّاعَة وَكَانَ هَذَا حسنا مَأْمُورا بِهِ كَمَا كَانَ عمر بن الْخطاب يَقُول لأبي مُوسَى يَا أَبَا مُوسَى ذكرنَا رَبنَا فَيقْرَأ وهم يَسْتَمِعُون وَكَانَ أَصْحَاب مُحَمَّد ص إِذا اجْتَمعُوا أمروا وَاحِدًا مِنْهُم أَن يقْرَأ وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُون فَهَذَا كَانَ استماعهم وَفِي مثل هَذَا السماع كَانُوا يستعملون الصَّوْت الْحسن ويجعلون التذاذهم بالصوت الْحسن عونا لَهُم على طَاعَة الله وعبادته باستماع كِتَابه فيثابون على هَذَا الالتذاذ إِذْ اللَّذَّة الْمَأْمُور بهَا الْمُسلم يُثَاب عَلَيْهَا كَمَا يُثَاب على أكله وشربه ونكاحه وكما يُثَاب على لذات

قلبه بِالْعلمِ وَالْإِيمَان فَإِنَّهَا أعظم اللَّذَّات وحلاوة ذَلِك أعظم الحلاوات وَنَفس التذاذه وَإِن كَانَ متولدا عَن سعته وَهُوَ فِي نَفسه ثَوَاب فالمسلم يُثَاب على عمله وَعمل مَا يتلود عَن عمله ويثاب عَمَّا يلتذ بِهِ من ذَلِك مِمَّا هُوَ أعظم لَذَّة مِنْهُ فَيكون متقلبا فِي نعْمَة ربه وفضله فَأَما أَن يسْتَدلّ بِمُجَرَّد استلذاذ الْإِنْسَان للصوت أَو ميل الطِّفْل إِلَيْهِ أَو استراحة الْبَهَائِم بِهِ على جَوَاز أَو اسْتِحْبَاب فِي الدّين فَهُوَ من أعظم الضلال وَهُوَ كثير فِيمَن يعبد الله بِغَيْر الْعلم الْمَشْرُوع وَمن الْمَعْلُوم أَن الاطفال والبهائم تستروح بِالْأَكْلِ وَالشرب فَهَل يسْتَدلّ بذلك على ان كل أكل وَشرب فَهُوَ حسن مَأْمُور بِهِ وأصل الْغَلَط فِي هَذِه الْحجَج الضعيفة أَنهم يجْعَلُونَ الْخَاص عَاما فِي الْأَدِلَّة المنصوصة وَفِي عُمُوم الْأَلْفَاظ المستنبطة فيجنحون إِلَى أَن الْأَلْفَاظ فِي الْكتاب وَالسّنة أَبَاحَتْ أَو حمدت نوعا من السماع يدرجون فِيهَا سَماع المكاء والتصدية أَو يجنحون إِلَى الْمعَانِي الَّتِي دلّت على الْإِبَاحَة أَو الِاسْتِحْبَاب فِي نوع من الْأَصْوَات وَالسَّمَاع يجْعَلُونَ ذَلِك متناولا لسَمَاع المكاء والتصدية وَهَذَا جمع بَين مَا فرق الله بَينه بِمَنْزِلَة قِيَاس الَّذين قَالُوا إِنَّمَا البيع مثل

الرِّبَا وأصل هَذَا الْقيَاس الْمُشْركين الَّذين عدلوا بِاللَّه وَجعلُوا لله أندادا سووهم بِرَبّ الْعَالمين فِي عبادتها أَو اتخاذها آلِهَة وَكَذَلِكَ من عدل رَسُوله متنبئا كذابا كمسيلمة الْكذَّاب أَو عدل بكتابه وتلاوته واستماعه كلَاما آخر أَو قِرَاءَته أَو سَمَاعه أَو عدل بِمَا شَرعه من الدّين دينا آخرا شَرعه لَهُ شركاؤه فَهَذَا كُله من فعل الْمُشْركين وَإِن دخل فِي بعضه من الْمُؤمنِينَ قوم متأولون فَالنَّاس كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون [سُورَة يُوسُف 106] فالشرك فِي هَذِه الْأمة أخْفى من دَبِيب النَّمْل وَهَذَا مقَام يَنْبَغِي للْمُؤْمِنين التدبر فِيهِ فَإِنَّهُ مَا بدل دين الله فِي الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة وَفِي هَذِه الْأمة إِلَّا بِمثل هَذَا الْقيَاس وَلِهَذَا قيل مَا عبدت الشَّمْس وَالْقَمَر إِلَّا بالمقاييس وأصل الشّرك أَن تعدل بِاللَّه تَعَالَى مخلوقاته فِي بعض مَا يسْتَحقّهُ وَحده فَإِنَّهُ لم يعدل أحد بِاللَّه شَيْئا من الْمَخْلُوقَات فِي جَمِيع الْأُمُور فَمن عبد غَيره أَو توكل عَلَيْهِ فَهُوَ مُشْرك بِهِ كمن عمد إِلَى كَلَام الله الَّذِي أنزلهُ وَأمر باستماعه فَعدل بِهِ سَماع بعض الاشعار وَقد روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام كفضل الله على خلقه رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره

وروى أَيْضا عَنهُ مَا تقرب الْعباد إِلَى الله بشئ أحب إِلَيْهِ مِمَّا خرج مِنْهُ يَعْنِي الْقُرْآن وَهَذَا مَحْفُوظ عَن خباب بن الْأَرَت أحد الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين السَّابِقين قَالَ يَا هَناه تقرب إِلَى الله بِمَا اسْتَطَعْت فَلَنْ يتَقرَّب إِلَيْهِ بشئ احب اليه من كَلَامه فَإِذا عدل بذلك مَا نزه الله عَنهُ وَرَسُوله بقوله تَعَالَى وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي

لَهُ [سُورَة يس 69] وَجعله قُرْآنًا للشَّيْطَان كَمَا فِي الحَدِيث فَمَا قرآني قَالَ الشّعْر كَانَ هَذَا عدل كَلَام الرَّحْمَن بِكَلَام الشَّيْطَان وَهَذَا قد جعل الشَّيْطَان عدلا للرحمن فَهُوَ من جنس الَّذين قَالَ الله فيهم فكبكبوا فِيهَا هم والغاوون وجنود ابليس أَجْمَعُونَ قَالُوا وهم فِيهَا يختصون تالله إِن كُنَّا لفي ضلال مُبين إِذْ نسويكم بِرَبّ الْعَالمين [سُورَة الشُّعَرَاء 94 98] وَالِاسْتِدْلَال بِكَوْن الصَّوْت الْحسن نعْمَة واستلذاذ النُّفُوس بِهِ على جَوَاز اسْتِعْمَاله فِي الْغناء أَو اسْتِحْبَاب ذَلِك فِي بعض الصُّور مثل الِاسْتِدْلَال بِكَوْن الْجمال نعْمَة ومحبة النُّفُوس الصُّور الجميلة على جَوَاز اسْتِعْمَال الْجمال الَّذِي للصبيان فِي إمتاع النَّاس بِهِ مُشَاهدَة ومباشرة وَغير ذَلِك اَوْ اسْتِحْبَاب ذَلِك فِي بعض الصُّور وَهَذَا أَيْضا قد وَقع فِيهِ طوائف من المتفلسفة والمتصوفة والعامة كَمَا وَقع فِي الصَّوْت أَكثر من هَؤُلَاءِ لَكِن الواقعون فِي الصُّور فيهم من لَهُ من الْعقل وَالدّين مَا لَيْسَ لهَؤُلَاء إِذْ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ رجل مَشْهُور بَين النَّاس شهرة عَامَّة بِخِلَاف أهل السماع وَلَكِن هم طرقوا لَهُم الطَّرِيق وذرعوا الذريعة حَتَّى آل الْأَمر بِكَثِير من النَّاس أَن قَالُوا وفعلوا فِي الصَّوْت نَظِير مَا قَالَه هَؤُلَاءِ وفعلوه فِي الصُّور يحتجون على جَوَاز النّظر إِلَيْهِ والمشاهدة بِمثل نَظِير

ص إِن الله جميل يحب الْجمال وينسون قَوْله إِن الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالكُم وَلَكِن ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ ويحتجون بِمَا فِي ذَلِك من رَاحَة النُّفُوس ولذاتها كَمَا يحْتَج هَؤُلَاءِ ويكرمون ذَا الصُّورَة على مَا يبذله من صورته وإشهادهم إِيَّاهَا كَمَا يكرم هَؤُلَاءِ ذَا الصَّوْت على مَا يبذله من صَوته وإسماعهم إِيَّاه بل كثيرا مَا يجمع فِي الشَّخْص الْوَاحِد بَين الصُّورَة وَالصَّوْت كَمَا يفعل فِي الْمُغَنِّيَات من الْقَيْنَات وَقد زين الشَّيْطَان لكثير من المتنسكة والعباد أَن محبَّة الصُّور الجميلة إِذا لم يكن بِفَاحِشَة فَإِنَّهَا محبَّة لله كَمَا زين لهَؤُلَاء أَن اسْتِمَاع هَذَا الْغناء لله ففيهم من يَقُول هَذَا اتِّفَاقًا وَفِيهِمْ من يظْهر أَنه يُحِبهُ لغير فَاحِشَة ويبطن محبَّة الْفَاحِشَة وَهُوَ الْغَالِب لَكِن مَا أظهروه من الرَّأْي الْفَاسِد وَهُوَ أَن يحب لله مَا لم يَأْمر الله

بمحبته هُوَ الَّذِي سلط الْمُنَافِق مِنْهُم على أَن يَجْعَل ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى الْكَبَائِر وَلَعَلَّ هَذِه الْبِدْعَة مِنْهُم اعظم من الْكَبِيرَة مَعَ الْإِقْرَار بِأَن ذَلِك ذَنْب عَظِيم وَالْخَوْف من الله من الْعقُوبَة فَإِن هَذَا غَايَته أَنه مُؤمن فَاسق قد جمع سَيِّئَة وَحسنه وَأُولَئِكَ مبتدعة ضلال حِين جعلُوا مَا نهى الله عَنهُ مِمَّا أَمر الله بِهِ وزين لَهُم سوء أَعْمَالهم فرأوه حسنا وبمثلهم يضل أُولَئِكَ حَتَّى لَا ينكروا الْمُنكر إِذا اعتقدوا أَن هَذَا يكون عبَادَة الله وَمن جعل مَا لم يَأْمر الله بمحبته محبوبا لله فقد شرع دينا لم يَأْذَن الله بِهِ وَهُوَ مبدأ الشّرك كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله [سُورَة الْبَقَرَة 165] فَإِن محبَّة النُّفُوس الصُّورَة وَالصَّوْت قد تكون عَظِيمَة جدا فَإِذا جعل ذَلِك دينا وسمى لله صَار كالأنداد والطواغيت المحبوبة تدينا وَعبادَة كَمَا قَالَ تَعَالَى وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم [سُورَة الْبَقَرَة 93] وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُم أَن امشوا واصبروا على آلِهَتكُم [سُورَة ص 6] بِخِلَاف من أحب الْمُحرمَات مُؤمنا بِأَنَّهَا من الْمُحرمَات فَإِن من احب الْخمر والغناء وَالْبَغي والمخنث مُؤمنا بِأَن الله يكره ذَلِك ويبغضه فَإِنَّهُ لَا يُحِبهُ محبَّة مَحْضَة بل عقله وإيمانه يبغض هَذَا الْفِعْل ويكرهه وَلَكِن قد غَلبه هَوَاهُ فَهَذَا قد يرحمه الله إِمَّا بتوبة إِذا قوى مَا فِي إيمَانه من بغض ذَلِك وكراهته حَتَّى دفع الْهوى وَإِمَّا بحسنات ماحية وَإِمَّا بمصائب مكفرة وَإِمَّا بِغَيْر ذَلِك

أما إِذا اعْتقد أَن هَذِه الْمحبَّة لله فإيمانه بِاللَّه يُقَوي هَذِه الْمحبَّة ويؤيدها وَلَيْسَ عِنْده إِيمَان يزعه عَنْهَا بل يجْتَمع فِيهَا دَاعِي الشَّرْع والطبع الْإِيمَان وَالْهدى وَذَلِكَ أعظم من شرب النَّصْرَانِي للخمر فَهَذَا لَا يَتُوب من هَذَا الذَّنب وَلَا يتَخَلَّص من وباله إِلَّا أَن يهديه الله فَتبين لَهُ أَن هَذِه الْمحبَّة لَيست محبَّة لله وَلَا أَمر الله بهَا بل كرهها وَنهى عَنْهَا وَإِلَّا فَلَو ترك أحدهم هَذِه الْمحبَّة لم يكن ذَلِك تَوْبَة فَإِنَّهُ يعْتَقد أَن جِنْسهَا دين بِحَيْثُ يرضى بذلك من غَيره ويأمره بِهِ ويقره عَلَيْهِ وَتَركه لَهَا كَتَرْكِ الْمُؤمن بعض التطوعات والعبادات وَلَيْسَ فِي دين الله محبَّة أحد لحسنه قطّ فَإِن مُجَرّد الْحسن لَا يثيب الله عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقب وَلَو كَانَ كَذَلِك كَانَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام لمُجَرّد حسنه أفضل من غَيره من الانبياء لحسنه وَإِذا اسْتَوَى شخصان فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة وَكَانَ أَحدهمَا أحسن صُورَة وَأحسن صَوتا كَانَا عِنْد الله سَوَاء فَإِن اكرم الْخلق عِنْد الله أَتْقَاهُم يعم صَاحب الصَّوْت الْحسن وَالصُّورَة الْحَسَنَة إِذا اسْتعْمل ذَلِك فِي طَاعَة الله دون مَعْصِيَته كَانَ أفضل من هَذَا الْوَجْه كصاحب المَال وَالسُّلْطَان إِذا اسْتعْمل ذَلِك فِي طَاعَة الله دون مَعْصِيَته فَإِنَّهُ بذلك الْوَجْه أفضل مِمَّن لم يشركهُ فِي تِلْكَ الطَّاعَة وَلم يمْتَحن بِمَا امتحن بِهِ حَتَّى خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى ثمَّ ذَلِك الْغَيْر إِن كَانَ لَهُ عمل صَالح آخر يُسَاوِيه بِهِ وَإِلَّا كَانَ الأول أفضل مُطلقًا

وَهَذَا عَام لجَمِيع الْأُمُور الَّتِي أنعم الله تَعَالَى بهَا على بني آدم وابتلاهم بهَا فَمن كَانَ فِيهَا شاكرا صَابِرًا كَانَ من أَوْلِيَاء الله الْمُتَّقِينَ وَكَانَ مِمَّن امتحن بمحبة حَتَّى صَبر وشكر وَإِن لم يكن الْمُبْتَلى صَابِرًا شكُورًا بل ترك مَا أَمر الله بِهِ وَفعل مَا نهى الله عَنهُ كَانَ عَاصِيا أَو فَاسِقًا أَو كَافِرًا وَكَانَ من سلم من هَذِه المحنة خيرا مِنْهُ إِلَّا أَن يكون لَهُ ذنُوب أُخْرَى يكافيه بهَا وَإِن جمع بَين طَاعَة ومعصية فَإِن ترجحت طَاعَته كَانَ أرجح مِمَّن لم يكن لَهُ مثل ذَلِك وَإِن ترجحت مَعْصِيَته كَانَ السَّالِم من ذَلِك خيرا مِنْهُ فَإِن كَانَ لَهُ مَال يتَمَكَّن بِهِ فِي الْفَوَاحِش وَالظُّلم فَخَالف هَوَاهُ وأنفقه فِيمَا يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله أحب الله ذَلِك مِنْهُ وأكرمه وأثابه وَمن كَانَ لَهُ صَوت حسن فَترك اسْتِعْمَاله فِي التخنيث والغناء واستعلمه فِي تَزْيِين كتاب الله والتغني بِهِ كَانَ بِهَذَا الْعَمَل الصَّالح وبترك الْعَمَل السئ أفضل مِمَّن لَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ يُثَاب على تِلَاوَة كتاب الله فَيكون فِي عمله معنى الصَّلَاة وَمعنى الزَّكَاة وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أذن الله لشئ كأذنه لبني حسن الصَّوْت يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يجْهر بِهِ وَقَالَ لله أَشد أذنا للرجل الْحسن الصَّوْت بِالْقُرْآنِ من صَاحب الْقَيْنَة إِلَى قَيْنَته

وَمن كَانَ لَهُ صُورَة حَسَنَة فعف عَمَّا حرم الله تَعَالَى وَخَالف هَوَاهُ وجمل نَفسه بلباس التَّقْوَى الَّذِي قَالَ الله فِيهِ يَا بني آدم قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباسا يوارى سوءاتكم وريشا ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير [سُورَة الْأَعْرَاف 26] كَانَ هَذَا الْجمال يُحِبهُ الله وَكَانَ من هَذَا الْوَجْه أفضل مِمَّن لم يُؤْت مثل هَذَا الْجمال مَا لَا يكساه وَجه العَاصِي فَإِن كَانَت خلقته حَسَنَة ازدادت حسنا وَإِلَّا كَانَ عَلَيْهَا من النُّور وَالْجمال بحسبها وَأما أهل الْفُجُور فتعلو وُجُوههم ظلمَة الْمعْصِيَة حَتَّى يكسف الْجمال الْمَخْلُوق قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ إِن للحسنة لنورا فِي الْقلب وضياء فِي الْوَجْه وَقُوَّة فِي الْبدن وَزِيَادَة فِي الرزق ومحبة فِي قُلُوب الْخلق وَإِن للسيئة لظلمة فِي الْقلب وغبرة فِي الْوَجْه وضعفا فِي الْبدن ونقصا فِي الرزق وبغضة فِي قُلُوب الْخلق وَهَذَا يَوْم الْقِيَامَة يكمل حَتَّى يظْهر لكل اُحْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتم بعد إيمَانكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون وَأما الَّذين ابْيَضَّتْ وُجُوههم فَفِي رَحْمَة الله هم فِيهَا خَالدُونَ [سُورَة آل عمرَان 106 107] وَقَالَ تَعَالَى وَيَوْم الْقِيَامَة ترى الَّذين كذبُوا على الله وُجُوههم مسودة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للمتكبرين [سُورَة الزمر 60]

وَقَالَ تَعَالَى وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة ووجوه يَوْمئِذٍ باسرة تظن أَن يفعل بهَا فاقرة [سُورَة الْقِيَامَة 22 25] وَقَالَ تَعَالَى وُجُوه يَوْمئِذٍ ضاحكة مستبشرة ووجوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة ترهقها قترة اولئك هم الْكَفَرَة الفجرة [سُورَة عبس 38 42] وَقَالَ تَعَالَى وُجُوه يَوْمئِذٍ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نَارا حامية [سُورَة الغاشية 2 4] ووجوه يَوْمئِذٍ ناعمة لسعيها راضية [سُورَة الغاشية 89] وَقَالَ تَعَالَى وَإِن يستغيثوا يغاثوا بِمَاء كَالْمهْلِ يشوى الْوُجُوه [سُورَة الْكَهْف 29] وَقَالَ تَعَالَى إِن الْأَبْرَار لفي نعيم على الأرائك ينظرُونَ تعرف فِي وُجُوههم نَضرة النَّعيم [سُورَة المطففين 22 24] وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تزَال الْمَسْأَلَة بأحدهم حَتَّى يجِئ يَوْم الْقِيَامَة وَلَيْسَ فِي وَجهه مزعة لحم

وَقَالَ من سَأَلَ النَّاس وَله مَا يَكْفِيهِ جَاءَت مَسْأَلته خدوشا أَو كدوحا فِي وَجهه يَوْم الْقِيَامَة وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أول زمرة تلج الْجنَّة على صُورَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر وَالَّذين يَلُونَهُمْ كأشد كَوْكَب فِي السَّمَاء إضاءة وَقَالَ يَوْم حنين شَاهَت الْوُجُوه لوجوه الْمُشْركين وأمثال هَذَا كثير مِمَّا فِيهِ وصف أهل السَّعَادَة بنهاية الْحسن وَالْجمال والبهاء وَأهل الشَّقَاء بنهاية السوء والقبح وَالْعَيْب وَقد قَالَ تَعَالَى فِي وصفههم فِي الدُّنْيَا مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بنيهم إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوههم من أثر السُّجُود [سُورَة الْفَتْح 29] فَهَذِهِ السيما فِي وُجُوه الْمُؤمنِينَ والسيما الْعَلامَة وَأَصلهَا من الوسم وَكَثِيرًا مَا يسْتَعْمل فِي الْحسن كَمَا

جَاءَ فِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسيم قسيم وَقَالَ الشَّاعِر ... غُلَام رَمَاه الله بالْحسنِ يافعا لَهُ سيماء لَا تشق على الْبَصَر ... وَقَالَ الله تَعَالَى فِي صفة الْمُنَافِقين وَلَو نشَاء لأرينا كهم فَلَعَرَفْتهمْ بِسِيمَاهُمْ [سُورَة مُحَمَّد 30] فَجعل لِلْمُنَافِقين سِيمَا أَيْضا وَقَالَ وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات تعرف فِي وُجُوه الَّذين كفرُوا الْمُنكر [سُورَة الْحَج 72] فَهَذِهِ السيما وَهَذَا الْمُنكر قد يُوجد فِي وَجه من صورته المخلوقة وضيئة كَمَا يُوجد مثل ذَلِك فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان لَكِن بالنفاق قبح وَجهه فَلم يكن فِيهِ الْجمال الَّذِي يُحِبهُ الله وأساس ذَلِك النِّفَاق وَالْكذب وَلِهَذَا يُوصف الْكذَّاب بسواد الْوَجْه كَمَا يُوصف الصَّادِق ببياض

الْوَجْه كَمَا أخبر الله بذلك وَلِهَذَا روى عَن عمر بن الْخطاب أَنه أَمر بتعزيز شَاهد الزُّور بِأَن يسود وَجهه ويركب مقلوبا على الدَّابَّة فَإِن الْعقُوبَة من جنس الذَّنب فَلَمَّا اسود وَجهه بِالْكَذِبِ وقلب الحَدِيث سود وَجهه وقلب فِي ركُوبه وَهَذَا أَمر محسوس لمن لَهُ قلب فَإِن مَا فِي الْقلب من النُّور والظلمة وَالْخَيْر وَالشَّر يسرى كثيرا إِلَى الْوَجْه وَالْعين وهما أعظم الْأَشْيَاء ارتباطا بِالْقَلْبِ وَلِهَذَا يرْوى عَن عُثْمَان أَو غَيره أَنه قَالَ مَا أسر أحد بسريرة إِلَّا أبداها الله على صفحات وَجهه وفلتات لِسَانه وَالله قد أخبر فِي الْقُرْآن أَن ذَلِك قد يظْهر فِي الْوَجْه فَقَالَ وَلَو نشَاء لأريناكم فَلَعَرَفْتهمْ بِسِيمَاهُمْ [سُورَة مُحَمَّد 30] فَهَذَا تَحت الْمَشِيئَة ثمَّ قَالَ ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل [سُورَة مُحَمَّد 30] فَهَذَا مقسم عَلَيْهِ مُحَقّق لَا شَرط فِيهِ وَذَلِكَ أَن ظُهُور مَا فِي قلب الْإِنْسَان على لِسَانه أعظم من ظُهُوره فِي وَجهه لكنه يَبْدُو فِي الْوَجْه بدوا خفِيا يُعلمهُ الله فَإِذا صَار خلقا ظهر لكثير من النَّاس وَقد يقوى السوَاد وَالْقِسْمَة حَتَّى يظْهر لجمهور النَّاس وَرُبمَا مسخ قردا أَو خنزيرا كَمَا فِي الْأُمَم قبلنَا وكما فِي هَذِه الْأمة أَيْضا وَهَذَا كالصوت المطرب إِذا كَانَ مُشْتَمِلًا على كذب وفجور فَإِنَّهُ مَوْصُوف بالقبح وَالسوء الْغَالِب على مَا فِيهِ من حلاوة الصَّوْت

فذو الصُّورَة الْحَسَنَة إِمَّا أَن يتَرَجَّح عِنْده الْعِفَّة والخلق الْحسن وَإِمَّا أَن يتَرَجَّح فِيهِ ضد ذَلِك وَإِمَّا أَن يتكافآ فَإِن ترجح فِيهِ الصّلاح كَانَ جماله بِحَسب ذَلِك وَكَانَ أجمل مِمَّن لم يمْتَحن تِلْكَ المحنة وَإِن ترجح فِيهِ الْفساد لم يكن جميلا بل قبيحا مذموما فَلَا يدْخل فِي قَوْله إِن الله جميل يحب الْجمال وَإِن تكافأ فِيهِ الْأَمْرَانِ كَانَ فِيهِ من الْجمال والقبح بِحَسب ذَلِك فَلَا يكون محبوبا وَلَا مبغضا والنبيصلى االله عَلَيْهِ وَسلم ص ذكر هَذِه الْكَلِمَة للْفرق بَين الْكبر الَّذِي يبغضه الله وَالْجمال الَّذِي يُحِبهُ الله فَقَالَ لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله الرجل يحب أَن يكون ثَوْبه حسنا وَنَعله حسنا أَفَمَن الْكبر ذَلِك فَقَالَ لَا إِن الله جميل يحب الْجمال الْكبر بطر الْحق وغمط النَّاس فَأخْبر أَن تَحْسِين الثَّوْب قد يكون من الْجمال الَّذِي يُحِبهُ الله كَمَا قَالَ تَعَالَى خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد [سُورَة الْأَعْرَاف 31] فَلَا يكون حِينَئِذٍ من الْكبر

وَقد يرد أَنه لَيْسَ كل ثوب جميل وكل نعل جميل فَإِن الله يُحِبهُ فَإِن الله يبغض لِبَاس الْحَرِير وَيبغض الْإِسْرَاف وَالْخُيَلَاء فِي اللبَاس وَإِن كَانَ فِيهِ جمال فَإِذا كَانَ هَذَا فِي لبس الثِّيَاب الَّذِي هُوَ سَبَب هَذَا القَوْل فَكيف فِي غَيره وَتَفْسِير هَذَا قَوْله ص إِن الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالكُم وَلَكِن ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ فَعلم أَن مُجَرّد الْجمال الظَّاهِر فِي الصُّور وَالثيَاب لَا ينظر الله إِلَيْهِ وَإِنَّمَا ينظر إِلَى الْقُلُوب والأعمال فَإِن كَانَ الظَّاهِر مزينا مُجملا بِحَال الْبَاطِن أحبه الله وَإِن كَانَ مقبحا مدنسا بقبح الْبَاطِن أبغضه الله فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يحب الْحسن الْجَمِيل وَيبغض السَّيئ الْفَاحِش وَأهل جمال الصُّورَة يبتلون بالفاحشة كثيرا وَاسْمهَا ضد الْجمال فَإِن الله سَمَّاهُ فَاحِشَة وسوءا وَفَسَادًا وخبيثا فَقَالَ تَعَالَى وَلَا تقربُوا الزِّنَا إِنَّه كَانَ فَاحِشَة وساء سَبِيلا [سُورَة الْإِسْرَاء 32] وَقَالَ وَلَا تقربُوا الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن [سُورَة الْأَنْعَام 151] وَقَالَ أتأتون الْفَاحِشَة مَا سبقكم بهَا من أحد من الْعَالمين [سُورَة الْأَعْرَاف 80]

وَقَالَ وجاءه قومه يهرعون إِلَيْهِ وَمن قبل كَانُوا يعلمُونَ السَّيِّئَات [سُورَة هود 78] وَقَالَ ونجيناه من الْقرْيَة الَّتِي كَانَت تعْمل الْخَبَائِث [سُورَة الْأَنْبِيَاء 74] وَقَالَ رب انصرني على الْقَوْم المفسدين [سُورَة العنكبوت 30] وَقَالَ وأمطرنا عَلَيْهِم مَطَرا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين [سُورَة الْأَعْرَاف 84] والفاحش والخبيث ضد الطّيب والجميل فَإِذا كَانَ كَذَلِك أبغضه الله وَلم يُحِبهُ وَلم يكن مندرجا فِي الْجَمِيل وَنَظِير ذَلِك قَوْله ص إِن الله لَا يحب الْفُحْش وَلَا التَّفَحُّش وَقَوله إِن الله يبغض الْفَاحِش البذئ فَلَو أفحش

الرجل وبذأ بِصَوْتِهِ الْحسن كَانَ الله يبغض ذَلِك وَنفي المخنثين سنة من سنَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثابته عَنهُ فِي موضِعين فِي حق الزَّانِي والزانية اللَّذين لم يحصنا كَمَا قَالَ جلد مائَة وتغريب عَام وَفِي حق المخنث وَهُوَ إِخْرَاجه من بَين النَّاس وَذَلِكَ أَن الْفَاحِشَة لَا تقع إِلَّا مَعَ قدرَة ومكنة الْإِنْسَان لَا يطْلب ذَلِك إِلَّا إِذا طمع فِيهِ بِمَا يرَاهُ من أَسبَاب المكنة فَمن الْعقُوبَة على ذَلِك قطع أَسبَاب المكنة فَإِذا تغرب الرجل عَن أَهله وأعوانه وأنصاره الَّذِي يعاونون وينصرونه ذلت نَفسه وانقهرت فَكَانَ ذَلِك جَزَاء نكالا من الله من الْجلد وَلِأَنَّهُ مُفسد لأحوال من يساكنه فيبعد عَنْهُم وَكَذَلِكَ المخنث يفْسد أَحْوَال الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا فَلَا يسكن مَعَ وَاحِد من الصِّنْفَيْنِ وَقد كَانَ من سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسنة خلفائه التَّمْيِيز بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء والمتأهلين والعزاب فَكَانَ الْمَنْدُوب فِي الصَّلَاة أَن يكون الرِّجَال فِي مقدم الْمَسْجِد وَالنِّسَاء فِي مؤخره

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير صُفُوف الرِّجَال أَولهَا وشرها آخرهَا وَخير صُفُوف النِّسَاء آخرهَا وشرها أَولهَا وَقَالَ يَا معشر النِّسَاء لَا ترفعن رؤوسكن حَتَّى يرفع الرِّجَال رؤوسهم من ضيق الأزر وَكَانَ إِذا سلم لبث هنيهة هُوَ وَالرِّجَال لينصرف النِّسَاء أَولا لِئَلَّا يخْتَلط الرِّجَال وَالنِّسَاء وَكَذَلِكَ يَوْم الْعِيد كَانَ النِّسَاء يصلين فِي نَاحيَة فَكَانَ إِذا قضى الصَّلَاة خطب الرِّجَال ثمَّ ذهب فَخَطب النِّسَاء فوعظهن وحثهن على الصَّدَقَة كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيح وَقد كَانَ عمر بن الْخطاب وَبَعْضهمْ يرفعهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ عَن أحد ابواب الْمَسْجِد أَظُنهُ الْبَاب الشَّرْقِي لَو تركنَا هَذَا الْبَاب للنِّسَاء فَمَا دخله عبد الله بن عمر حَتَّى مَاتَ وَفِي السّنَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ للنِّسَاء لَا تحققن

الطَّرِيق وامشين فِي حافته أَي لَا تمشين فِي حق الطَّرِيق وَهُوَ وَسطه وَقَالَ على عَلَيْهِ السَّلَام مَا يغار أحدكُم أَن يزاحم امْرَأَته العلوج بمنكبها يَعْنِي فِي السُّوق وَكَذَلِكَ لما قدم الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَة كَانَ العزاب ينزلون دَارا مَعْرُوفَة لَهُم متميزة عَن دور المتأهلين فَلَا ينزل العزب بَين المتأهلين وَهَذَا كُله لِأَن اخْتِلَاط أحد المصنفين بِالْآخرِ سَبَب الْفِتْنَة فالرجال إِذا اختلطوا بِالنسَاء كَانَ بِمَنْزِلَة اخْتِلَاط النَّار والحطب وَكَذَلِكَ العزب بَين الآهلين فِيهِ فتْنَة لعدم مَا يمنعهُ فَإِن الْفِتْنَة تكون لوُجُود الْمُقْتَضى وَعدم الْمَانِع فالمخنث الَّذِي لَيْسَ رجلا مَحْضا وَلَا هُوَ امْرَأَة مُحصنَة لَا يُمكن خلطه بِوَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِخْرَاجِهِ من بَين النَّاس وعَلى هَذَا المخنث من الصّبيان وَغَيرهم لَا يُمكن من معاشرة الرِّجَال وَلَا يَنْبَغِي أَن تعاشر الْمَرْأَة المتشبهة بِالرِّجَالِ النِّسَاء بل يفرق بَين بعض الذكران وَبَين بعض النِّسَاء إِذا خيفت الْفِتْنَة كَمَا قَالَ ص مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لسبع وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لعشر وَفرقُوا بَينهم فِي

الْمضَاجِع وَقد نهى عَن مُبَاشرَة الرجل فِي ثوب وَاحِد وَعَن مُبَاشرَة الْمَرْأَة الْمَرْأَة فِي ثوب وَاحِد مَعَ ان الْقَوْم لم يَكُونُوا يعْرفُونَ التلوط وَلَا السحاق وَإِنَّمَا هُوَ من تَمام حفظ حُدُود الله كَمَا أَمر الله بذلك فِي كِتَابه وَقد روى أَن عمر بلغه أَن رجلا يجْتَمع إِلَيْهِ نفر من الصّبيان فَنهى عَن ذَلِك وأبلغ من ذَلِك أَنه نفى من شَبَّبَ بِهِ النِّسَاء وَهُوَ نصر بن حجاج لما سمع امْرَأَة شببت بِهِ وتشتهيه وَرَأى هَذَا سَبَب الْفِتْنَة فجز شعره لَعَلَّ سَبَب الْفِتْنَة يَزُول بذلك فَرَآهُ أحسن النَّاس وجنتين فَأرْسل بِهِ إِلَى الْبَصْرَة ثمَّ إِنَّه بعث يطْلب الْقدوم إِلَى وَطنه وَيذكر الا ذَنْب لَهُ فَأبى عَلَيْهِ وَقَالَ أما وَأَنا حَيّ فَلَا وَذَلِكَ أَن الْمَرْأَة إِذا أمرت بالاحتجاب وَترك التبرج وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ من أَسبَاب الْفِتْنَة بهَا وَلها فَإِذا كَانَ فِي الرِّجَال من قد صَار فتْنَة للنِّسَاء أَمر أَيْضا بمباعدة سَبَب الْفِتْنَة إِمَّا بتغيير هَيئته وَإِمَّا بالانتقال عَن الْمَكَان الَّذِي تحصل بِهِ الْفِتْنَة فِيهِ لِأَنَّهُ بِهَذَا يحصن دينه ويحصن النِّسَاء دينهن

وَبِدُون ذَلِك مَعَ وجود الْمُقْتَضى مِنْهُ ومنهن لَا يُؤمن ذَلِك وَهَكَذَا يُؤمر من يفتن النِّسَاء من الصّبيان أَيْضا وَذَلِكَ أَنه إِذا احْتج إِلَى المباعدة الَّتِي تزيل الْفِتْنَة كَانَ تبعيد الْوَاحِد أيسر من تبعيد الْجَمَاعَة الرِّجَال أَو النِّسَاء إِذْ ذَاك غير مُمكن فتحفظ حُدُود الله ويجانب مَا يُوجب تعدِي الْحُدُود بِحَسب الْإِمْكَان وَإِذا كَانَ هَذَا فِيمَن لَا رِيبَة فِيهِ وَلَا ذَنْب فَكيف بِمن يعرف بالريبة والذنب وَهَكَذَا الْمَرْأَة الَّتِي تعرف بريبة تفتن بهَا الرِّجَال تبعد عَن مَوَاضِع الريب بِحَسب الْإِمْكَان فَإِن دفع الضَّرَر عَن الدّين بِحَسب الْإِمْكَان وَاجِب فَإِذا كَانَ هَذَا هُوَ السّنة فَكيف بِمن يكون فِي جمعه من أَسبَاب الْفِتْنَة مَا الله بِهِ عليم وَالرجل الَّذِي يتشبه بِالنسَاء فِي زيهن وَاسْتِعْمَال أَسمَاء الْجمال وَالْحسن والزينة وَنَحْو ذَلِك فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة والقبح والشين والدنس فِي الْأَعْمَال الْفَاسِدَة أَمر ظَاهر فِي الْكتاب وَالسّنة وَكَلَام الْعلمَاء مثل اسْم الطّيب وَالطَّهَارَة والخبث والنجاسة وَمن ذَلِك مَا فِي حَدِيث أبي ذَر الْمَشْهُور وَقد رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من حِكْمَة آل دَاوُد حق على الْعَاقِل أَن يكون لَهُ سَاعَة يُنَاجِي فِيهَا ربه وَسَاعَة يُحَاسب فِيهَا نَفسه وَسَاعَة يكون فِيهَا مَعَ أَصْحَابه الَّذين يخبرونه عَن ذَات نَفسه

وَسَاعَة يَخْلُو فِيهَا بلذاته فِيمَا يحل ويجمل فَذكر الْحل وَالْجمال وَهَذَا يشْهد لقَوْل الْفُقَهَاء فِي الْعَدَالَة إِنَّهَا صَلَاح الدّين والمروءة قَالُوا والمروءة اسْتِعْمَال مَا يجمله ويزينه وتجنب مَا يدنسه ويشينه وَهَذَا يرجع إِلَى الْحسن والقبح فِي الْأَعْمَال وَأَن الْأَعْمَال وَأَن الْأَعْمَال تكون حَسَنَة وَتَكون قبيحة وَإِن كَانَ الْحسن هُوَ الملائم النافع والقبيح هُوَ الْمنَافِي فالشئ يكمل ويجمل وَيحسن بِمَا يُنَاسِبه ويلائمه وينفعه ويلتذ بِهِ كَمَا يفْسد ويقبح بِمَا يُنَافِيهِ ويضره ويتألم بِهِ والأعمال الصَّالِحَة هِيَ الَّتِي تناسب الْإِنْسَان والأعمال الْفَاسِدَة هِيَ الَّتِي تنافيه وَلِهَذَا لما قَالَ بعض الْأَعْرَاب إِن مدحي زين وذمي شين قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَاك الله فمدحه يزين عِنْده لِأَنَّهُ مدحه بِحَق وَدَمه يشينه لِأَنَّهُ حق وَهَذَا الْحسن وَالْجمال الَّذِي يكون عَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة فِي الْقلب يسري إِلَى الْوَجْه والقبح والشين الَّذِي يكون عَن الْأَعْمَال الْفَاسِدَة فِي الْقلب

يسري إِلَى الْوَجْه كَمَا تقدم ثمَّ إِن ذَلِك يقوى بِقُوَّة الْأَعْمَال الصَّالِحَة والأعمال الْفَاسِدَة فَكلما كثر الْبر وَالتَّقوى قوى الْحسن وَالْجمال وَكلما قوى الْإِثْم والعدوان قوى الْقبْح والشين حَتَّى ينْسَخ ذَلِك مَا كَانَ للصورة من حسن وقبح فكم مِمَّن لم تكن صورته حَسَنَة وَلَكِن من الْأَعْمَال الصَّالِحَة مَا عظم بِهِ جماله وبهاؤه حَتَّى ظهر ذَلِك على صورته وَلِهَذَا ظهر ذَلِك ظهورا بَينا عِنْد الْإِصْرَار على القبائح فِي آخر الْعُمر عِنْد قرب الْمَوْت فنرى وُجُوه أهل السّنة وَالطَّاعَة كلما كبروا ازْدَادَ حسنها وبهاؤها حَتَّى يكون أحدهم فِي كبره أحسن واجمل مِنْهُ فِي صغره ونجد وُجُوه أهل الْبِدْعَة وَالْمَعْصِيَة كلما كبروا عظم قبحها وشينها حَتَّى لَا يَسْتَطِيع النّظر إِلَيْهَا من كَانَ منبهرا بهَا فِي حَال الصغر لجمال صورتهَا وَهَذَا ظَاهر لكل اُحْدُ فِيمَن يعظم بدعته وفجوره مثل الرافضة وَأهل الْمَظَالِم وَالْفَوَاحِش من التّرْك وَنَحْوهم فَإِن الرافضي كلما كبر قبح وَجهه وَعظم شينه حَتَّى يقوى شبهه بالخنزير وَرُبمَا مسخ خنزيرا وقردا كَمَا قد تَوَاتر ذَلِك عَنْهُم ونجد المردان من التّرْك وَنَحْوهم قد يكون أحدهم فِي صغره من أحسن النَّاس صُورَة ثمَّ إِن الَّذين يكثرون الْفَاحِشَة تجدهم فِي

الكبرأقبح النَّاس وُجُوهًا حَتَّى إِن الصِّنْف الَّذِي يكثر ذَلِك فيهم من التّرْك وَنَحْوهم يكون أحدهم أحسن النَّاس صُورَة فِي صغره وأقبح النَّاس صُورَة فِي كبره وَلَيْسَ سَبَب ذَلِك أمرا يعود إِلَى طبيعة الْجِسْم بل الْعَادة المستقيمة تناسب الْأَمر فِي ذَلِك بل سَببه مَا يغلب على احدهم من الْفَاحِشَة وَالظُّلم فَيكون مخنثا ولوطيا وظالما وعونا للظلمة فيكسوه ذَلِك قبح الْوَجْه وشينه وَمن هَذَا أَن الَّذين قوي فيهم الْعدوان مسخهم الله قردة وَخَنَازِير من الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه سَيكون فِي هَذِه الْأمة أَيْضا من يمسخ قردة وَخَنَازِير فَإِن الْعُقُوبَات والمثوبات من جنس السَّيِّئَات والحسنات كَمَا قد بَين ذَلِك فِي غير مَوضِع وَلَا ريب أَن مَا لَيْسَ محبوبا لله من مسخوطاته وَغَيرهَا تزين فِي نفوس كثير من النَّاس حَتَّى يروها جميلَة وحسنة يَجدونَ فِيهَا من اللَّذَّات مَا يُؤَيّد ذَلِك وَإِن كَانَت اللَّذَّات متضمنة لآلام أعظم مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين والقناطير المقنطرة من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْخَيْل المسومة والأنعام والحرث ذَلِك مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالله عِنْده حسن المآب} [سُورَة آل عمرَان 14] وَقَالَ {أَفَمَن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا فَإِن الله يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} [سُورَة فاطر 8]

وَقَالَ تَعَالَى وَكَذَلِكَ زين لفرعون سوء عمله وَصد عَن السَّبِيل وَمَا كيد فِرْعَوْن إِلَّا فِي تبات [سُورَة غَافِر 37] وَقَالَ وَكَذَلِكَ زينا لكل أمة عَمَلهم ثمَّ إِلَى رَبهم مرجعهم فينبئهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ [سُورَة الْأَنْعَام 108] وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذ زين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم وَقَالَ لَا غَالب لكم الْيَوْم من النَّاس وَإِنِّي جَار لكم} [سُورَة الْأَنْفَال 48] وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ عَن الْمُؤمنِينَ {وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون} [سُورَة الحجرات 7] فَهُوَ سُبْحَانَهُ يزين لكل عَامل عمله فيراه حسنا وَإِن كَانَ ذَلِك الْعَمَل سَيِّئًا فَإِنَّهُ لَوْلَا حسنا لم يَفْعَله إِذْ لَو رَآهُ سَيِّئًا لم يردهُ وَلم يختره إِذْ الْإِنْسَان مجبول على محبَّة الْحسن وبغض السئ فالحسن الْجَمِيل مَحْبُوب مُرَاد والسئ الْقَبِيح مَكْرُوه مبغض والأعيان وَالْأَفْعَال المبغضة من كل وَجه لَا تقصد بِحَال كَمَا ان المحبوبة من كل وَجه لَا تتْرك بِحَال وَلَكِن قد يكون الشئ محبوبا من وَجه مَكْرُوها من وَجه ويقبح من وَجه وَيحسن من وَجه وَلِهَذَا كَانَ الزَّانِي لَا يَزْنِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَالسَّارِق لَا يسرق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن كَامِل الْإِيمَان فَإِنَّهُ لَو كَانَ اعْتِقَاده بقبح ذَلِك الْفِعْل اعتقادا تَاما

لم يَفْعَله بِحَال وَلِهَذَا كَانَ كل عَاص لله تَعَالَى جَاهِلا كَمَا قَالَ ذَلِك أَصْحَاب مُحَمَّد ص فَإِنَّهُ لَو كَانَ عَالما حق الْعلم بِمَا فعله لم يفعل الْقَبِيح وَلم يتْرك الْوَاجِب بل قد زين لكل أمة عَمَلهم لَكِن العَاصِي إِذا كَانَ مَعَه أصل الْإِيمَان فَإِنَّهُ لَا يزين لَهُ عمله من كل وَجه بل يستحسنه من وَجه ويغضه من وَجه وَلَكِن حِين فعله يغلب تَزْيِين الْفِعْل وَلذَلِك قَالَ {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات} [سُورَة آل عمرَان 14] الْآيَة فَإِن هُنَا شَيْئَيْنِ حب الشَّهَوَات وَأَنه زين ذَلِك الْفُحْش وَحسن فَرَأَوْا تِلْكَ الْمحبَّة حَسَنَة فَلذَلِك اسْتَقَرَّتْ هَذِه الْمحبَّة عِنْدهم وتمتعوا بِهَذِهِ المحبات فَإِذا رَأَوْا ذَلِك الْحبّ قبيحا لما يتبعهُ من الضَّرَر لم يسْتَقرّ ذَلِك فِي قُلُوبهم فَإِن رُؤْيَة ذَلِك الْحبّ حسنا يَدْعُو إِلَيْهِ قبيحا ينفر عَنهُ وَكَذَلِكَ ذكر فِي الْإِيمَان أَنه حببه إِلَى الْمُؤمنِينَ وزينه فِي قُلُوبهم حَتَّى رَأَوْهُ حسنا فَإِن الشئ إِذا حبب وزين لم يتْرك بِحَال

وَهنا أخبر سُبْحَانَهُ انه هُوَ الَّذِي حبب إِلَيْهِم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبهم وَفِي الشَّهَوَات قَالَ {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات} [سُورَة آل عمرَان 14] وَلم يقل المزين بل ذكر الْعُمُوم وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِك زينا لكل أمة عَمَلهم} [سُورَة الْأَنْعَام 108] وكما حذف المزين هُنَاكَ قَالَ {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات} [سُورَة آل عمرَان 14] فَجعل المزين نفس الْحبّ لَهَا لم يَجْعَل المزين هُوَ المحبوب كَمَا أخبر أَنه زين لكل أمة عَملهَا فَإِن المزين نفس الْحبّ لَهَا لم يَجْعَل المزين هُوَ المحبوب بل هُوَ حب الشَّهَوَات فَإِن المزين إِذا كَانَ نفس الْحبّ وَالْعَمَل لم ينْصَرف الْقلب عَن ذَلِك بِخِلَاف مَا لَو كَانَ المزين هُوَ المحبوب فقد زين الشئ المحبوب وَلَكِن الْإِنْسَان لَا يُحِبهُ لما يقوم بِقَلْبِه من الْعلم بِحَالهِ والبغض فَفرق بَين التزيين الْمُتَّصِل بِالْقَلْبِ وتزيين الشئ الْمُنْفَصِل عَنهُ فِيهِ رد على الْقَدَرِيَّة الَّذين يجْعَلُونَ التزيين الْمُنْفَصِل وَكَذَلِكَ قَوْله {زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا} [سُورَة فاطر 8] وَهُوَ سُبْحَانَهُ امتن فِي الْإِيمَان بشيئين بِأَنَّهُ حببه إِلَيْنَا وزينه فِي قُلُوبنَا فالنعم تتمّ بهما بِالْعلمِ والمحبة وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح من غير وَجه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه

لعن المخنثين من الرِّجَال والمترجلات من النِّسَاء وَفِي الصَّحِيح أَيْضا أَنه لعن المتشبهين من الرِّجَال بِالنسَاء والمتسشبهات من النِّسَاء بِالرِّجَالِ وَفِي الصَّحِيح أَنه أَمر بِنَفْي المخنثين وإخراجهم من الْبيُوت كَمَا روى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لعن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المتشبهين من الرِّجَال بِالنسَاء والمتشبهات من النِّسَاء بِالرِّجَالِ وَفِي رِوَايَة لعن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المخنثين من الرِّجَال والمسترجلات من النِّسَاء وَقَالَ أخرجوهم من بُيُوتكُمْ فَاخْرُج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فُلَانَة وَأخرج عمر فلَانا فَإِذا كَانَ الرجل الَّذِي يتشبه بِالنسَاء فِي لباسهن وزيهن وزينتهن ملعونا قد لَعنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف بِمن يتشبه بِهن فِي مُبَاشرَة الرِّجَال لَهُ فِيمَا يتمع الرِّجَال بِهِ بتمكينه من ذَلِك لغَرَض يَأْخُذهُ أَو لمحبته لذَلِك فَكلما كثرت مشابهته لَهُنَّ كَانَ أعظم للعنه وَكَانَ معلونا من وَجْهَيْن من جِهَة الْفَاحِشَة الْمُحرمَة فَإِنَّهُ يلعن على ذَلِك وَلَو كَانَ هُوَ الْفَاعِل وَمن جِهَة تخنثه لكَونه من جنس الْمَفْعُول بِهن

فَمن جعل شَيْئا من التخنث دينا أَو طلب ذَلِك من الصّبيان مثل تَحْسِين الصَّبِي صورته أَو لِبَاسه لأجل نظر الرِّجَال واستمتاعهم بذلك فِي سَماع وَغير سَماع أَلَيْسَ يكون مبدلا لدين الله من جنس الَّذِي إِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ وَإِذا كَانَت الْفَاحِشَة الْعَرَب الْمُشْركين كشف عوارتهم عِنْد الطّواف لِئَلَّا يطوفون فِي ثِيَاب عصوا الله فِيهَا فَكيف بِمَا هُوَ أعظم من ذَلِك والمخنث قد يكون مَقْصُوده معاشرة النِّسَاء ومباشرتهن وَقد يكون تخنثه بِمُبَاشَرَة الرِّجَال ونظرهم ومحبتهم وَقد يجمع الْأَمريْنِ وَفِي المتنسكين من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة خلق كثير وَهَؤُلَاء شَرّ مِمَّن يفعل هَذِه الْأُمُور على غير وَجه التدين فَإِن يُوجد فِي الْأُمَم الْجَاهِلِيَّة من التّرْك وَنَحْوهم من يتشبه فيهم من النِّسَاء بِالرِّجَالِ وَمن يتشبه من الرِّجَال بِالنسَاء خلق عَظِيم حَتَّى يكون لنسائهم من الإمرة وَالْملك وَالطَّاعَة والبروز للنَّاس وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ من خَصَائِص الرِّجَال مَا لَيْسَ لِنسَاء غَيرهم وَحَتَّى ان الْمَرْأَة تخْتَار لنَفسهَا من شَاءَت من ممالكيها وَغَيرهم لقهرها للزَّوْج وَحكمهَا وَيكون فِي كثير من صبيانهم من التخنث وتقريب الرِّجَال لَهُ وإكرامه لذَلِك أَمر عَظِيم حَتَّى قد يغار بعض صبيانهم من النِّسَاء وَحَتَّى يتخذهم الرِّجَال كالسراري لَكِن هم لَا يَفْعَلُونَ ذَلِك تدينا فَالَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِك تدينا شَرّ مِنْهُم فَإِنَّهُم جعلُوا دينا والفاحشة حَسَنَة لَا لما فِي ذَلِك من ميل الطباع فَهَكَذَا من جعل

مُجَرّد الصَّوْت الَّذِي تحبه الطباع حسنا فِي الدّين فِيهِ شبه من هَؤُلَاءِ لَكِن فِي الْمُشْركين من هَذِه الْأمة من يتدين بذلك لأجل الشَّيَاطِين كَمَا يُوجد فِي الْمُشْركين من التّرْك التتار وساحرهم الطاغوت صَاحب الجبت الَّذِي تسميه التّرْك البوق وَهُوَ الَّذِي تستخفه الشَّيَاطِين وتخاطبه ويسألها عَمَّا يُرِيد وَيقرب لَهَا القرابين من الْغنم المنخنقة وَغير ذَلِك وَيضْرب لَهَا بِأَصْوَات الطبول وَنَحْو ذَلِك وَمن شَرطه أَن يكون مخنثا يُؤْتى كَمَا تُؤْتى الْمَرْأَة فَكلما كَانَت الْأَفْعَال أولى بِالتَّحْرِيمِ كَانَت أقرب إِلَى الشَّيَاطِين وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ من أَن الْحسن الصُّورَة وَالصَّوْت وَسَائِر من أنعم الله عَلَيْهِ بِقُوَّة أَو بِجَمَال أَو نَحْو ذَلِك إِذا اتَّقى الله فِيهِ كَانَ أفضل مِمَّن لم يُؤْت مَا لم يمْتَحن فِيهِ فَإِن النعم محن فَإِن أهل الشَّهَوَات من النِّسَاء وَالرِّجَال يميلون إِلَى ذِي الصُّورَة الْحَسَنَة وَيُحِبُّونَهُ ويعشقونه ويرغبونه بأنواع الكرامات ويرهبونه عِنْد الِامْتِنَاع بأنواع المخوفات كَمَا جرى ليوسف عَلَيْهِ السَّلَام وَغَيره وَكَذَلِكَ جماله يَدعُوهُ إِلَى أَن يطْلب مَا يهواه لِأَن جماله قد يكون أعظم من المَال المبذول فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ حسن الصَّوْت قد يدعى إِلَى أَعمال فِي المكروهات كَمَا أَن

المَال وَالسُّلْطَان يحصل بهما من المكنة مَا يدعى مَعَ ذَلِك إِلَى أَنْوَاع الْفَوَاحِش والمظال فَإِن الْإِنْسَان لَا تَأمره نَفسه بِالْفِعْلِ إِلَّا مَعَ نوع من الْقُدْرَة وَلَا يفعل بقدرته إِلَّا مَا يُريدهُ وشهوات الغي مستكنة فِي النُّفُوس فَإِذا حصلت الْقُدْرَة قَامَت المحنة فإمَّا شقى وَإِمَّا سعيد وَيَتُوب الله على من تَابَ فَأهل الامتحان إِمَّا أَن يرتفعوا وَإِمَّا أَن ينخفضوا وَأما تحرّك النُّفُوس عَن مُجَرّد الصَّوْت فَهَذَا أَيْضا محسوس فَإِنَّهُ يحركها تحريكا عَظِيما جدا بالتفريح والتحزين والإغضاب والتخويف وَنَحْو ذَلِك من الحركات النفسانية كَمَا أَن النُّفُوس تتحرك أَيْضا عَن الصُّور بالمحبة تَارَة وبالبغض أُخْرَى وتتحرك عَن الْأَطْعِمَة بالبغض تَارَة والنفرة أُخْرَى فَتحَرك الصّبيان والبهائم عَن الصَّوْت هُوَ من ذَلِك لَكِن كل مَا كَانَ أَضْعَف كَانَت الْحَرَكَة بِهِ أَشد فحركة النِّسَاء بِهِ أَشد من حَرَكَة الرِّجَال وحركة الصّبيان أَشد من حَرَكَة الْبَالِغين وحركة الْبَهَائِم أَشد من حَرَكَة الْآدَمِيّين فَهَذَا يدل على أَن قُوَّة التحرك عَن مُجَرّد الصَّوْت لقُوَّة ضعف الْعقل فَلَا يكون فِي ذَلِك حمد إِلَّا وَفِيه من الذَّم أَكثر من ذَلِك وَإِنَّمَا حَرَكَة الْعُقَلَاء عَن الصَّوْت الْمُشْتَمل على الْحُرُوف الْمُؤَلّفَة المتضمنة للمعاني المحبوبة وَهَذَا أكمل مَا يكون فِي اسْتِمَاع الْقُرْآن وَأما التحرك بِمُجَرَّد الصَّوْت فَهَذَا أَمر لم يَأْتِ الشَّرْع بالندب إِلَيْهِ وَلَا عقلاء النَّاس يأمرون بذلك بل يعدون ذَلِك من قلَّة الْعقل وَضعف

الرَّأْي كَالَّذي يفزع عَن مُجَرّد الْأَصْوَات المفزعة المرعبة وَعَن مُجَرّد الْأَصْوَات المغضبة قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أذن الله لشئ كأذنه لنَبِيّ يتغني بِالْقُرْآنِ وروى حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أذن الله لشئ مَا أذن الله لنَبِيّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ قَالَ وَقيل إِن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يستمع لقرَاءَته الْجِنّ وَالْإِنْس والوحش وَالطير إِذْ قَرَأَ الزبُور وَكَانَ يحمل من مَجْلِسه أَرْبَعمِائَة جَنَازَة مِمَّن قد مَاتَ مِمَّن سمعُوا قِرَاءَته وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ لقد أعْطى مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد وَقَالَ

معَاذ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو علمت أَنَّك تسمع لحبرته لَك تحبيرا قلت هَذَا القَوْل لابي مُوسَى كَانَ لم يكن لِمعَاذ ومضمون هَذِه الْآثَار اسْتِحْبَاب تَحْسِين الصَّوْت بِالْقُرْآنِ وَهَذَا مِمَّا لَا نزاع فِيهِ فالاستدلال بذلك على تَحْسِين بِالْغنَاءِ أفسد من قِيَاس الرِّبَا على البيع إِذْ هُوَ من بَاب تنظير الشّعْر بِالْقُرْآنِ وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين} [سُورَة يس 69] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا تنزلت بِهِ الشَّيَاطِين وَمَا يَنْبَغِي لَهُم وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُم عَن السّمع لمعزولون} [سُورَة الشُّعَرَاء 210 212] {ألم تَرَ أَنهم فِي كل وَاد يهيمون وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [سُورَة الشُّعَرَاء 225226] وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا هُوَ بقول شَاعِر قَلِيلا مَا تؤمنون وَلَا بقول كَاهِن قَلِيلا مَا تذكرُونَ} [سُورَة الحافة 4142] وَهَذَا الْقيَاس مثل قِيَاس سَماع المكاء والتصدية الَّذِي ذمه الله فِي كِتَابه وَأخْبر أَنه صَلَاة الْمُشْركين على سَماع الْقُرْآن الَّذِي أَمر الله بِهِ فِي كِتَابه وَأخْبر أَنه سَماع النَّبِيين وَالْمُؤمنِينَ وَقِيَاس لأئمة الصَّلَاة كالخلفاء الرَّاشِدين وَسَائِر أَئِمَّة الْمُؤمنِينَ بالمخنثين المغاني الَّذين قد يسمون الْجد أَو القوالين

وَقِيَاس للمؤذن الدَّاعِي إِلَى الصَّلَاة وَسَمَاع الْقُرْآن بالمزمار الداعى إِلَى حَرَكَة المستمعين للمكاء والتصدية وَقد روى الطَّبَرَانِيّ فِي معجمهه عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الشَّيْطَان قَالَ يارب اجْعَل لى قُرْآنًا قَالَ قرآنك الشّعْر قَالَ اجْعَل لى مُؤذنًا قَالَ مؤذنك المزمار قَالَ اجْعَل لى كِتَابه قَالَ كتابتك الوشم قَالَ اجْعَل لى بَيْتا قَالَ بَيْتك الْحمام قَالَ اجْعَل لى طَعَاما قَالَ طَعَامك مالم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ فَمن قَاس قُرْآن الله فَالله يجازيه بِمَا يسْتَحقّهُ وَقد قَالَ الله تَعَالَى {فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَسَوف يلقون غيا} سُورَة مَرْيَم 59 فَهَؤُلَاءِ يشتغلون بالشهوات عَن الصَّلَاة وَلِهَذَا فَإِن من هَؤُلَاءِ الشُّيُوخ من يقْصد الاجتماعات فِي الْحمام وَيكون لَهُ فبها حَال وَظُهُور لكَونه مادته من الشَّيَاطِين فَإِن الشَّيْطَان يظْهر أَثَره فِي بَيته وَعِنْده أوليائه وتأذين مؤذنه وتلاوة قرآنه كَمَا يظْهر ذَلِك على أهل المكاء والتصدية

وَإِذا كَانَ السماع نَوْعَيْنِ سَماع الرَّحْمَن وَسَمَاع الشَّيْطَان كَانَ مَا بَينهمَا من أعظم الْفرْقَان لَكِن الْأَقْسَام هُنَا أَرْبَعَة إِمَّا أَن يشْتَغل العَبْد بِسَمَاع الرَّحْمَن دون سَماع الشَّيْطَان أَو بِسَمَاع الشَّيْطَان دون سَماع الرَّحْمَن أَو يشْتَغل بالسماعين أَو لَا يشْتَغل بِوَاحِد مِنْهُمَا فَالْأول حَال السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان وَأما الثَّانِي فحال الْمُشْركين الَّذين قَالَ الله فيهم {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} [سُورَة الْأَنْفَال 35] وَهُوَ حَال من يتَّخذ ذَلِك دينا وَلَا يستمع الْقُرْآن فَإِن كَانَ يشْتَغل بِهَذَا السماع شَهْوَة لَا دينا ويعرض عَن الْقُرْآن فهم الْفجار والمنافقون إِذا أبطنوا حَال الْمُشْركين وَأما الَّذين يشتغلون بالسماعين فكثير من المتصوفة وَالَّذين يعرضون عَنْهُمَا على مَا يَنْبَغِي كثير من المتعربة فَهَذِهِ النُّصُوص المأثورة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي فِيهَا مدح الصَّوْت الْحسن بِالْقُرْآنِ وَالتَّرْغِيب فِي هَذَا السماع فيحتج بهَا على المعرض عَن هَذَا السماع الشَّرْعِيّ الإيماني لَا يحْتَج بهَا على حسن السماع البدعي الشركي بل الراغبون فِي السماعين جَمِيعًا والزاهدون فِي السماعين جَمِيعًا خارجون عَن مَحْض الاسْتقَامَة والشريعة القرآنية الْكَامِلَة هَؤُلَاءِ

معتدون وَهَؤُلَاء مفرطون وَإِنَّمَا الْحق الرَّغْبَة فِي السماع الإيماني الشَّرْعِيّ والزهد فِي السماعي الشركي البدعي ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم حِكَايَة أبي بكر الرقي فِي الْغُلَام الَّذِي حدا بالجمال حَتَّى قطعت مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام فِي يَوْم فَلَمَّا حط عَنْهَا مَاتَت وحدا بجمل فهام على وَجهه وَقطع حباله قَالَ الرقي وَلم أَظن أَنِّي سَمِعت صَوتا أطيب مِنْهُ وَوَقعت لوجهي حَتَّى أَشَارَ عَلَيْهِ بِالسُّكُوتِ فَسكت فَقَالَ حَدثنَا أَبُو حَاتِم السجسْتانِي حَدثنَا أَبُو نصر السراج قَالَ حكى الرقي قلت مَضْمُون هَذِه الْحِكَايَة أَن الصَّوْت البليغ فِي الْحسن قد يُحَرك النُّفُوس تحريكا عَظِيما خَارِجا عَن الْعَادة وَهَذَا مِمَّا لَا ريب فِيهِ فَإِن الْأَصْوَات توجب الحركات الإرادية بحسنها وَهِي فِي الأَصْل ناشئة عَن حركات إرادية وَيخْتَلف تأثيرها باخْتلَاف نوع الصَّوْت وَقدره بل هِيَ من أعظم المحركات أَو أعظمها وَإِذا اتّفق قُوَّة الْمُؤثر واستعداد الْمحل قوى التَّأْثِير فالنفوس المستعدة لصِغَر أَو انوثة أَو جزع وَنَحْوه أَو لفراغ وَعدم شغل أَو ضعف عقل إِذا اتَّصل بهَا صَوت عَظِيم حسن قوى أزعجها غَايَة الإزعاج لَكِن هَذَا لَا يدل على جَوَاز ذَلِك وَلَا فِيهِ مَا يُوجب مدحه وَحسنه بل مثل هَذَا أدل على الذَّم والنهى مِنْهُ على الْحَمد والمدح فَإِن هَذَا يفْسد النُّفُوس أَكثر مِمَّا يصلحها ويضرها أَكثر مِمَّا ينفعها وَإِن كَانَ فِيهِ نفع فأثمة أَكثر من نَفعه

وَقد قَالَ الله للشَّيْطَان واستفرز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك [سُورَة الْإِسْرَاء 64] فالصوت الشيطاني يستفز بني آدم وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا نهيت عَن صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فاجرين وَذكر صَوت النِّعْمَة وَصَوت الْمعْصِيَة ووصفهما بالحمق والفجور وَهُوَ الظُّلم وَالْجهل وَقَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ اقصد فِي مشيك واغضض من صَوْتك [سُورَة لُقْمَان 19] والمغنى بِهَذِهِ الْأَصْوَات لم يغض من صَوته والمتحركون بهَا الراقصون لم يقصدوا فِي مشيهم بل المصوتون أَتَوا بالأحمق الْجَاهِل الظَّالِم الْفجْر من الْأَصْوَات والمتحركين أَتَوا بالأحمق الْجَاهِل الْفَاحِش من الحركات وَرُبمَا جمع الْوَاحِد بَين هذَيْن النَّوْعَيْنِ وَجعل ذَلِك من أعظم الْعِبَادَات ثمَّ قَالَ ابو الْقَاسِم سَمِعت الشَّيْخ ابا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ سَمِعت مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْعَزِيز سَمِعت أَبَا عَمْرو الْأنمَاطِي سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول وَسُئِلَ مَا بَال الْإِنْسَان يكون هادئا فَإِذا سمع السماع اضْطربَ فَقَالَ إِن الله لما خَاطب الذَّر فِي الْمِيثَاق الأول بقوله أَلَسْت بربكم [سُورَة الْأَعْرَاف 172] استفرغت عذوبة سَماع الْكَلَام الْأَرْوَاح فَإِذا سمعُوا السماع حركهم ذكر ذَلِك

قلت هَذَا الْكَلَام لَا يعلم صِحَّته عَن الْجُنَيْد والجنيد أجل من أَن يَقُول مثل هَذَا فَإِن هَذَا الِاضْطِرَاب يكون لجَمِيع الْحَيَوَان ناطقه وأعجمه حَتَّى يكون فِي الْبَهَائِم أَيْضا وَيكون للْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ ثمَّ الِاضْطِرَاب قد يكون لحلاوة الصَّوْت ومحبته وَقد يكون للخوف مِنْهُ وهيبته وَقد يكون للحزن والجزع وَقد يكون للغضب ثمَّ من الْمَعْلُوم أَن الصَّوْت المسموع لَيْسَ هُوَ ذَاك أصلا وَلَو سمع العَبْد كَلَام الله كَمَا سَمعه مُوسَى بن عمرَان لم يكن سَمَاعه لاصوات الْعباد محركا لذكر ذَلِك بل الْمَأْثُور ان مُوسَى مقت الْآدَمِيّين لما وقر فِي مسامعه من كَلَام الله ثمَّ التَّلَذُّذ بالصوت أَمر طبعي لَا تعلق لَهُ بكونهم سمعُوا صَوت الرب أصلا ثمَّ إِن أحدا لَا يذكر ذَلِك السماع أصلا إِلَّا بِالْإِيمَان وَالنَّاس متنازعون فِي أَخذ الْمِيثَاق وَفِي ذَلِك السماع بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه ثمَّ إِن مَذْهَب الْجُنَيْد فِي السماع كَرَاهَة التَّكَلُّف لحضوره والاجتماع عَلَيْهِ وَعِنْده أَن من تكلّف السماع فتن بِهِ فَكيف يعلله بِهَذَا وَقد ذكر أَبُو الْقَاسِم ذَلِك فَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول سَمِعت الْحُسَيْن بن أَحْمد بن جَعْفَر سَمِعت أَبَا بكر بن ممشاد سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول السماع فتْنَة لمن طلبه ترويح لمن صادفه

فَأخْبر انه فتْنَة لمن قَصده وَلم يَجعله لمن صادفه مُسْتَحبا وَلَا طَاعَة بل جعله رَاحَة فَكيف يَقُول إِنَّه أظهر خطاب الْحق الْمُتَقَدّم وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا على الدقاق يَقُول السماع حرَام على الْعَوام لبَقَاء نُفُوسهم مُبَاح للزهاد لحُصُول مجاهدتهم مُسْتَحبّ لاصحابنا لحياة قُلُوبهم قلت قد قدم ابو الْقَاسِم فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ أبي على الرُّوذَبَارِي وَهُوَ قديم توفّي بعد الْعشْرين وثلاثمائة صحب الْجُنَيْد والطبقة الثَّانِيَة وَكَانَ يَقُول أستاذي فِي التصوف الْجُنَيْد وَفِي الْفِقْه أَبُو الْعَبَّاس بن سُرَيج وَفِي الْأَدَب ثَعْلَب وَفِي الحَدِيث إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَقَالَ فِيهِ ابو الْقَاسِم هُوَ اظرف الْمَشَايِخ واعلمهم بالطريقة قَالَ سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ رَحمَه الله يَقُول سَمِعت أَبَا الْقَاسِم الدِّمَشْقِي يَقُول سُئِلَ ابو عَليّ الرُّوذَبَارِي عَمَّن يسمع الملاهي وَيَقُول هِيَ لي حَلَال لِأَنِّي وصلت إِلَى دَرَجَة لَا يُؤثر

فِي اخْتِلَاف الْأَحْوَال فَقَالَ نعم قد وصل لعمري وَلَكِن إِلَى سقر فَقَوْل الدقاق هُوَ مُبَاح للزهاد لحُصُول مجاهدتهم هُوَ الَّذِي انكره أَبُو عَليّ الرُّوذَبَارِي فَكيف بقوله مُسْتَحبّ وسنتكلم إِن شَاءَ الله على هَذَا ثمَّ إِنَّه ذكر بعد هَذَا أَنه سمع الْأُسْتَاذ أَبَا عَليّ الدقاق رَحمَه الله يَقُول السماع طبع إِلَّا عَن شرع وخرق إِلَّا عَن حق وفتنة إِلَّا عَن عِبْرَة وَهَذَا الْكَلَام يُوَافق قَول الرُّوذَبَارِي وَيُخَالف قَوْله إِنَّه مُبَاح للزهاد لحُصُول مجاهدتهم مُسْتَحبّ لِأَصْحَابِنَا لحياة قُلُوبهم فَإِنَّهُ جعل كل سَماع لَيْسَ بمشروع فَهُوَ عَن الطَّبْع وَمَعْلُوم أَن سَماع المكاء والتصدية لَيْسَ مَشْرُوعا فَيكون مسموعا بالطبع مُطلقًا وَقَالَ سَمِعت أَبَا حَاتِم السجسْتانِي يَقُول سَمِعت أَبَا نصر الصُّوفِي يَقُول سَمِعت الوجيهي يَقُول سَمِعت ابا عَليّ الرُّوذَبَارِي يَقُول كَانَ الْحَارِث بن اسد المحاسبي يَقُول ثَلَاث إِذا وجدن نمتنع بِهن وَقد فقدناهن حسن الْوَجْه مَعَ الصيانة وَحسن الصَّوْت مَعَ الدّيانَة وَحسن الإخاء مَعَ الْوَفَاء

قلت قد قررت قبل هَذَا الْمَعْنى بِأَن الْحسن فِي الصُّورَة وَالصَّوْت إِن لم يكن مَعَ تقوى الله وَإِلَّا لم يكن إِلَّا مذموما وَمن الدّيانَة أَن يكون حسن الصَّوْت مُسْتَعْملا فِيمَا أَمر الله بِهِ قَالَ ابو الْقَاسِم وَسُئِلَ ذُو النُّون الْمصْرِيّ عَن الصَّوْت الْحسن فَقَالَ مخاطبات وإشارات أودعها الله كل طيب وطيبة وَسُئِلَ مرّة أُخْرَى عَن السماع فَقَالَ وَارِد حق يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق فَمن أصغى إِلَيْهِ بِحَق تحقق وَمن أصغى إِلَيْهِ بِنَفس تزندق قلت هَذَا الْكَلَام لم يسْندهُ عَن ذِي النُّون وَإِنَّمَا أرْسلهُ إرْسَالًا وَمَا يُرْسِلهُ فِي هَذِه الرسَالَة قد وجد كثير مِنْهُ مَكْذُوب على اصحابه إِمَّا أَن يكون أَبُو الْقَاسِم سَمعه من بعض النَّاس فَاعْتقد صدقه أَو يكون من فَوْقه كَذَلِك أَو وجده مَكْتُوبًا فِي بعض الْكتب فأعتقد صِحَّته وَمن كَانَ من الْمُرْسلين لما يذكرُونَهُ من الْأَوَّلين والآخرين يعْتَمد فِي إرْسَاله لصحيح النَّقْل وَالرِّوَايَة عَن الثِّقَات فَهَذَا يعْتَمد إرْسَاله لصحيح النَّقْل وَالرِّوَايَة عَن الثِّقَات فَهَذَا يعْتَمد إرْسَاله وَأما من عرف فِيمَا يُرْسِلهُ كثير من الْكَذِب لم يوثق بِمَا يُرْسِلهُ فَهَذَا التَّفْصِيل مَوْجُود فِيمَن يُرْسل النقول عَن النَّاس من أهل المصنفات وَمن أَكثر الْكَذِب الْكَذِب على الْمَشَايِخ الْمَشْهُورين فقد رَأينَا من ذَلِك وَسَمعنَا مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله وَهَذَا أَبُو الْقَاسِم مَعَ علمه وَرِوَايَته

بِالْإِسْنَادِ وَمَعَ هَذَا فَفِي هَذِه الرسَالَة قِطْعَة كَبِيرَة من المكذوبات الَّتِي لَا يُنَازع فِيهَا من لَهُ أدنى معرفَة بِحَقِيقَة حَال الْمَنْقُول عَنْهُم وَأما الَّذِي يسْندهُ من الحكايات فِي بَاب السماع فعامته من كتابين كتاب اللمع لأبي نصر السراج فَإِنَّهُ يرْوى عَن أبي حَاتِم السجسْتانِي عَن أبي نصر عَن عبد الله بن عَليّ الطوسي ويروى عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد التَّمِيمِي عَنهُ وَمن كتاب السماع لأبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ قد سَمعه مِنْهُ فَإِن كَانَ هَذَا الْكَلَام ثاببتا عَن ذِي النُّون رَحمَه الله عَلَيْهِ فَالْكَلَام عَلَيْهِ من وَجْهَيْن من جِهَة الِاحْتِجَاج بالقائل وَمن جِهَة تَفْسِير الْمَنْقُول أما الأول فقد نقلوا أَن ذَا النُّون حضر هَذَا السماع بالعراق وَقد ذكر أَبُو الْقَاسِم حِكَايَة بعد ذَلِك مُرْسلَة فَقَالَ وَحكى أَحْمد ابْن مقَاتل العكي قَالَ لما دخل ذُو النُّون الْمصْرِيّ بَغْدَاد اجْتمع إِلَيْهِ الصُّوفِيَّة وَمَعَهُ قَوَّال يَقُول شَيْئا فاستأذنوه بِأَن يَقُول بَين يَدَيْهِ فَأذن لَهُ فابتدأ يَقُول ... صَغِير هَوَاك عذبني فَكيف بِهِ إِذا احتكا ...

.. وَأَنت جمعت من قلبِي هوى قد كَانَ مُشْتَركا أما ترثى لمكتئب إِذا ضحك الخلي بَكَى ... قَالَ فَقَامَ ذُو النُّون وَسقط على وَجهه وَالدَّم يقطر من جَبينه وَلَا يسْقط على الأَرْض ثمَّ قَامَ رجل من الْقَوْم يتواجد فَقَالَ لَهُ ذُو النُّون {الَّذِي يراك حِين تقوم} [سُورَة الشُّعَرَاء 218] فَجَلَسَ الرجل قَالَ وَسمعت أَبَا عَليّ الدقاق يَقُول كَانَ ذُو النُّون صَاحب إِسْرَاف على ذَلِك الرجل حَيْثُ نبهه أَن ذَلِك لَيْسَ مقَامه وَكَانَ ذَلِك الرجل صَاحب إنصاف حَيْثُ قبل ذَلِك مِنْهُ فَرجع وَقعد فَهَذَا وَنَحْوه هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْأَئِمَّة كالشافعي فِي قَوْله خلفت بِبَغْدَاد شَيْئا أحدثته الزَّنَادِقَة يسمونه التغبير يصدون بِهِ النَّاس عَن الْقُرْآن فَيكون ذُو النُّون هُوَ أحد الَّذين حَضَرُوا التغبير الَّذِي أنكرهُ الْأَئِمَّة وشيوخ السّلف وَيكون هُوَ أحد المتأولين فِي ذَلِك وَقَوله فِيهِ كَقَوْل شُيُوخ الْكُوفَة وعلمائها فِي النَّبِيذ الَّذين اسْتَحَلُّوهُ مثل سُفْيَان الثَّوْريّ وَشريك ابْن عبد الله وَأبي حنيفَة ومسعر بن كدام وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَغَيرهم من أهل الْعلم وَكَقَوْلِه عُلَمَاء مَكَّة وشيوخها فِيمَا اسْتَحَلُّوهُ من الْمُتْعَة وَالصرْف كَقَوْل عَطاء بن ابي رَبَاح وَابْن جريج وَغَيرهمَا وكقول طَائِفَة من شُيُوخ الْمَدِينَة وعلمائها فِيمَا اسْتَحَلُّوهُ من الحشوش وكقول طَائِفَة من

شُيُوخ الشاميين وعلمائها فِيمَا كَانُوا اسْتَحَلُّوهُ من الْقِتَال فِي الْفِتْنَة لعَلي بن أبي طَالب وَأَصْحَابه وكقول طوائف من أَتبَاع الَّذين قَاتلُوا مَعَ عَليّ من اهل الْحجاز وَالْعراق وَغَيرهم فِي الْفِتْنَة إِلَى أَمْثَال ذَلِك مِمَّا تنازعت فِيهِ الْأمة وَكَانَ فِي كل شقّ طَائِفَة من اهل الْعلم وَالدّين فَلَيْسَ لأحد أَن يحْتَج لأحد الطَّرِيقَيْنِ بِمُجَرَّد قَول أَصْحَابه وَإِن كَانُوا من أعظم النَّاس علما ودينا لَان المنازعين لَهُم هم أهل الْعلم وَالدّين وَقد قَالَ الله تَعَالَى فَإِن تنازعتم فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر [سُورَة النِّسَاء 59] فالرد عِنْد التَّنَازُع إِنَّمَا يكون إِلَى كتاب الله وَسنة رَسُوله نعم إِذا ثَبت عَن بعض المقبولين عِنْد الْأمة كَلَام فِي مثل موارد النزاع كَانَ فِي ذَلِك حجَّة على تقدم التَّنَازُع فِي ذَلِك وعَلى دُخُول قوم من اهل الزّهْد وَالْعِبَادَة والسلوك فِي مثل هَذَا وَلَا ريب فِي هَذَا لَكِن مُجَرّد هَذَا لَا يتيح للمريد الَّذِي يُرِيد الله وَيُرِيد سلوك طَرِيقه أَن يَقْتَدِي فِي ذَلِك بهم مَعَ ظُهُور النزاع بَينهم وَبَين غَيرهم وإنكار غَيرهم عَلَيْهِم بل على المريد أَن يسْلك الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين انعمت عَلَيْهِم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَيتبع مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فَإِن ذَلِك هُوَ صِرَاط الله الَّذِي ذكره ورضى بِهِ فِي قَوْله وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تَتبعُوهُ السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله [سُورَة الْأَنْعَام 153] وَهَذَا أصل فِي أَنه لَا يحْتَج فِي مَوَاضِع النزاع والاشتباه بِمُجَرَّد قَول اُحْدُ مِمَّن نوزع فِي ذَلِك

وَأما الْوَجْه الثَّانِي فَقَوْل الْقَائِل عَن الصَّوْت الْحسن مخاطبات وإشارات أودعها الله كل طيب وطيبة لَا يجوز أَن يُرَاد بِهِ ان كل صَوت طيب كَائِنا مَا كَانَ بِأَن الله أودعها مخاطبات يُخَاطب بهَا عباده فَإِن هَذَا القَوْل كفر صَرِيح إِذْ ذَلِك يسْتَلْزم أَن تكون الْأَصْوَات الطّيبَة الَّتِي يستعملها الْمُشْركُونَ وَأهل الْكتاب فِي الِاسْتِعَانَة بهَا على كفرهم قد خَاطب بهَا الله عباده وَأَن تكون الْأَصْوَات الطّيبَة الَّتِي يستفز بهَا الشَّيْطَان لبني آدم كَمَا قَالَ تَعَالَى {واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك وأجلب عَلَيْهِم بخيلك ورجلك} [سُورَة الْإِسْرَاء 64] أَن تكون هَذِه الْأَصْوَات الشيطانية إِذا كَانَت طيبَة قد أودعها مخاطبات يُخَاطب بهَا عباده وَأَن تكون اصوات الملاهي قد أودعها الله مخاطبات يُخَاطب بهَا عباده وَمن الْمَعْلُوم أَن هَذَا لَا يَقُوله عَاقل فضلا عَن أَن يَقُوله مُسلم ثمَّ لَو كَانَ الامر كَذَلِك فَلم لم يستمع الْأَنْبِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ من الْأَوَّلين والآخرين إِلَى كل صَوت صَوت ويأمروا أتباعهم بذلك لما فِي ذَلِك من اسْتِمَاع مخاطبات الْحق إِذْ قد علم أَن اسْتِمَاع مخاطبات الْحق من أفضل القربات فقد ظهر أَن هَذَا الْكَلَام لَا يجوز أَن يكون عُمُومه وإطلاقه حَقًا يبْقى ان يُقَال هَذَا خَاص ومقيد فِي الصَّوْت الْحسن إِذا اسْتعْمل على الْوَجْه الْحسن فَهَذَا حق مثل ان يزين بِهِ كَلَام الله كَمَا كَانَ أَبُو مُوسَى الاشعري يفعل وَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَرْت بك البارحة

وَأَنت تقْرَأ فَجعلت أستمع لقراءتك فَقَالَ لَو علمت أَنَّك تستمع لحبرته لَك تحبيرا وَكَانَ عمر يَقُول لَهُ ذكرنَا رَبنَا فَيقْرَأ وهم يستعمون فَلَا ريب أَن ذَا الصَّوْت الْحسن إِذا تَلا بِهِ كتاب الله فَإِنَّهُ يكون حِينَئِذٍ قد أودع الله ذَلِك مخاطبات وإشارات وَهُوَ مَا فِي كِتَابه من المخاطبات والإشارات فقد ظهر أَن هَذَا الْكَلَام إِذا حمل على السماع الْمَشْرُوع الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله كَانَ محملًا حسنا وَإِن حمل على عُمُومه وإطلاقه كَانَ كفرا وضلالا يبْقى بَين ذَلِك الْعُمُوم وَهَذَا الْخُصُوص مَرَاتِب مِنْهَا ان يحمل ذَلِك على مَا يجده المستمع فِي قلبه من المخاطبات والإشارات من الصَّوْت وَإِن لم يَقْصِدهُ المصوت الْمُتَكَلّم فَهَذَا كثير مَا يَقع لَهُم وَأكْثر الصَّادِقين الَّذين حَضَرُوا هَذَا السماع يشيرون إِلَى هَذَا الْمَقْصد وَصَاحب هَذِه الْحَال يكون مَا يسمعهُ مذكرا لَهُ مَا كَانَ فِي قلبه من الْحق وَهَذَا يكون على وَجْهَيْن أَحدهمَا من الصَّوْت الْمُجَرّد الَّذِي لَا حرف مَعَه كأصوات الطُّيُور والرياح والآلات وَغير ذَلِك فَهَذَا كثير مَا ينزله النَّاس على حُرُوف بِوَزْن ذَلِك الصَّوْت وَكَثِيرًا مَا يُحَرك مِنْهُم مَا يُنَاسِبهَا من فَرح أَو

حزن أَو غضب أَو شوق أَو نَحْو ذَلِك كَقَوْل بَعضهم ... رب وَرْقَاء هتوف فِي الضُّحَى صدحت فِي فنن عَن فنن رُبمَا أبكى فَلَا أفهمها وَهِي قد تبْكي فَلَا تفهمني غير أَتَى بالجوى اعرفها وَهِي أَيْضا بالجوى تعرفنِي ... وَالثَّانِي يكون من صَوت بحروف منظومة إِمَّا شعر وَإِمَّا غَيره وَيكون المستمع ينزل تِلْكَ الْمعَانِي على حَاله سَوَاء قصد ذَلِك النَّاظِم والمنشد أَو لم يقْصد ذَلِك مثل أَن يكون فِي الشّعْر عتاب وتوبيخ أَو أَمر بِالصبرِ على الملام فِي الْحبّ أَو ذمّ على التَّقْصِير فِي الْقيام بِحُقُوق الْمحبَّة اَوْ تحريض على مَا فرض للْإنْسَان من الْحُقُوق أَو إغضاب وحمية على جِهَاد الْعَدو ومقاتله أَو امْر ببذل النَّفس وَالْمَال فِي نيل الْمَطْلُوب ورضا المحبوب أَو غير ذَلِك من الْمعَانِي المجلمة الَّتِي يشْتَرك فِيهَا محب الرَّحْمَن ومحب الْأَوْثَان ومحب الأوطان ومحب النسوان ومحب المردان ومحب الإخوان ومحب الخلان وَرُبمَا قرع السّمع حُرُوف أُخْرَى لم ينْطق بهَا الْمُتَكَلّم على وزن حُرُوفه كَمَا يذكر عَن بَعضهم أَنه سمع قَائِلا يَقُول ستر بري فَوَقع فِي سَمعه اسع تَرَ بَرى وَقد ذكر ذَلِك فِيمَا بعد ابو الْقَاسِم فَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد بن

مُحَمَّد الصُّوفِي يَقُول سَمِعت عبد الله بن عَليّ الطوسي يَقُول سَمِعت يحيى بن على الرِّضَا الْعلوِي قَالَ سمع ابْن حلوان الدِّمَشْقِي طَوافا يُنَادى ياه سعتر بري فَسقط مغشيا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاق سُئِلَ فَقَالَ حسبته يَقُول اسع تَرَ بري وَسمع عتبَة الْغُلَام رجلا يَقُول ... سُبْحَانَ رب السَّمَاء إِن الْمُحب لفى عناء ... فَقَالَ عتبَة صدقت وَسمع رجل آخر ذَلِك القَوْل فَقَالَ كذبت فَكل وَاحِد يسمع من حَيْثُ هُوَ لَا سِيمَا وأكثرها إِنَّمَا وضعت لمحبة لَا يُحِبهَا الله وَرَسُوله مثل بعض هَذِه الْأَجْنَاس وَإِنَّمَا الْمُدَّعِي لمحبة الله وَرَسُوله يَأْخُذ مَقْصُوده مِنْهَا بطرِيق الِاعْتِبَار وَالْقِيَاس وَهُوَ الْإِشَارَة الَّتِي يذكرونها وَلِهَذَا قَالَ مخاطبات وإشارات فالمخاطبات كدلالة النُّصُوص والإشارات كدلالة الْقيَاس وَلَا بُد أَن يكون قد علم أَن تِلْكَ المخاطبات والإشارات إِنَّمَا يفهم مِنْهَا المستمع ويتحرك فِيهَا حَرَكَة يُحِبهَا الله وَرَسُوله فَيكون قد علم من غَيرهَا ان مَا يَقْتَضِيهِ من الشُّعُور وَالْحَال مرضى عِنْد ذِي الْجلَال بِدلَالَة الْكتاب

وَالسّنة وَإِلَّا فَإِن مُجَرّد الِاسْتِحْسَان بالذوق والوجدان إِن لم يشْهد لَهُ الْكتاب وَالسّنة وَإِلَّا كَانَ ضلالا وَمن هَذَا الْبَاب ضل طوائف من الضَّالّين وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَمن الْمَعْلُوم أَن مثل هَذَا جَمِيعه لَا يجوز أَن يَجْعَل طَرِيقا إِلَى الله وَيجمع عَلَيْهِ عباد الله وَيسْتَحب للمريدين وَجه الله لَان مَا فِيهِ من الضَّرَر هُوَ اضعاف مَا فِيهِ من الْمَنْفَعَة لَهُم وَلَكِن قد صَادف السِّرّ الَّذِي يكون فِي قلبه حق بعض هَذِه المسموعات فَيكون مذكرا لَهُ ومنبها وَهَذَا معنى قَول الْجُنَيْد السماع فتْنَة لمن طلبه ترويح لمن صادفه وَأما قَول الْقَائِل السماع وَارِد حق يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق فَمن أصغى إِلَيْهِ بِحَق تحقق وَمن أصغى إِلَيْهِ بِنَفس تزندق فالسماع الْمَوْصُوف أَنه وَارِد حق الَّذِي يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق هُوَ أخص من السماع الَّذِي قد يُوجب التزندق فَالْكَلَام فِي ظَاهره متناقض لِأَن قَائِله أطلق القَوْل بِأَنَّهُ وَارِد حق يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق ثمَّ جعل من أصغى إِلَيْهِ بِنَفس تزندق ووارد الْحق الَّذِي يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق لَا يكون مُوجبا للتزندق لَكِن قَائِله قصد أَولا السماع الَّذِي يَقْصِدهُ أهل الارادة لوجه الله فلفظه وَإِن كَانَ فِيهِ عُمُوم فَاللَّام لتعريف الْمَعْهُود أَي يزعج قُلُوب أهل هَذِه الْإِرَادَة إِلَى الْحق لكَونه يُحَرك تباكيهم ويهيج باطنهم فتتحرك قُلُوبهم إِلَى الله الَّذِي يُرِيدُونَ وَجهه وَهُوَ إلههم ومعبودهم ومنتهى محبوبهم وَنِهَايَة مطلوبهم

ثمَّ ذكر أَنه من أصغى إِلَى هَذَا السماع تزندق وَهُوَ من أصغى إِلَيْهِ بِإِرَادَة الْعُلُوّ فِي الأَرْض وَالْفساد وَجعل محبَّة الْخَالِق من جنس محبَّة الْمَخْلُوق وَجعل مَا يطْلب من الِاتِّصَال بِذِي الْجلَال من جنس مَا يطْلب من الِاتِّصَال بالخلق فَإِن هَذَا يُوجب التزندق فِي الاعتقادات والإرادات فَيصير صَاحبه منافقا زنديقا وَقد قَالَ عبد الله بن مَسْعُود الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب كَمَا ينْبت المَاء البقل وَلِهَذَا تزندق بِالسَّمَاعِ طوائف كَثِيرَة كَمَا نبهنا عَلَيْهِ قبل هَذَا وَيُقَال هُنَا من الْمَعْلُوم أَن النَّفس سَوَاء أُرِيد بهَا ذَات الْإِنْسَان أَو ذَات روحه الْمُدبرَة لجسده أَو عني بهَا صِفَات ذَلِك من الشَّهْوَة والنفرة وَالْغَضَب والهوى وَغير ذَلِك فَإِن الْبشر لَا يَخْلُو من ذَلِك قطّ وَلَو فرض أَن قلبه يَخْلُو عَن حَرَكَة هَذِه القوى والإرادات فعدمها شئ وسكونها شئ آخر والعدم مُمْتَنع عَلَيْهَا وَلَكِن قد تسكن وَلَكِن إِذا كَانَت سَاكِنة وَمن شَأْن السماع أَن يحركها فَكيف يُمكن الْإِنْسَان أَن يسكن الشئ مَعَ ملابسته لما يُوجب حركته فَهَذَا أَمر بِالتَّفْرِيقِ بَين المتلازمين وَالْجمع بَين المتناقضين وَهُوَ يشبه أَن يُقَال لَهُ أَدَم مُشَاهدَة الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ والأمرد أَو مُبَاشَرَته بالقبلة واللمس وَغير ذَلِك من غير أَن تتحرك نَفسك أَو فرجك إِلَى الِاسْتِمْتَاع بِهِ وَنَحْو ذَلِك فَهَل الْأَمر بِهَذَا إِلَّا من احمق النَّاس

وَلِهَذَا قَالَ من قَالَ من الْعلمَاء العارفين إِن أَحْوَال السماع بعد مُبَاشَرَته تبقى غير مقدورة للْإنْسَان بل تبقى حَرَكَة نَفسه وَأَحْوَالهَا أعظم من احوال الْإِنْسَان بعد مُبَاشرَة شرب الْخمر فَإِن فعل هَذَا السماع فِي النُّفُوس أعظم من فعل حميا الكؤوس وَقَوله من أصغى إِلَيْهِ بِحَق تحقق فَيُقَال عَلَيْهِ وَجْهَان أَحدهمَا أَن يُقَال إِن الإصغاء إِلَيْهِ بِحَق مَأْمُون الغائلة أَن يخالطه بَاطِل أَمر غير مَقْدُور عَلَيْهِ للبشر أَكثر مِمَّا فِي قُوَّة صَاحب الرياضة والصفاء التَّام أَن يكون حِين الإصغاء لَا يجد فِي نَفسه إِلَّا طلب الْحق وإرادته لكنه لَا يَثِق بِبَقَائِهِ على ذَلِك بل إِذا سمع خالط الإصغاء بِالْحَقِّ الإصغاء بِالنَّفسِ إِذْ تجرد الْإِنْسَان عَن صِفَاته اللَّازِمَة لذاته محَال مُمْتَنع الثَّانِي أَن يُقَال وَمن أَيْن يعلم أَن كل من أصغى إِلَيْهِ بِحَق تحقق بل المصغى إِلَيْهِ بِحَق يحصل لَهُ من الزندقة والنفاق علما وَحَالا مَا قد لَا يشْعر بِهِ كَمَا قَالَ عبد الله بن مَسْعُود الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب كَمَا ينْبت المَاء البقل والنفاق هُوَ الزندقة وَمن الْمَعْلُوم أَن البقل ينْبت فِي الأَرْض شَيْئا فَشَيْئًا لَا يحس النَّاس بنباته فَكَذَلِك مَا يَبْدُو فِي الْقُلُوب من الزندقة والنفاق قد لَا يشْعر بِهِ أَصْحَاب الْقُلُوب بل يظنون أَنهم مِمَّن تحقق وَيكون فيهم شبه كثير مِمَّن تزندق يُوضح هَذَا ان دَعْوَى التحقق وَالتَّحْقِيق والحقائق قد كثرت على أَلْسِنَة

أَقوام هم من أعظم النَّاس زندقة ونفاقا قَدِيما وحديثا من الباطنية القرامطة والمتفلسفة الاتحادية وَغير هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ قَوْله هُوَ وَارِد حق يزعج الْقُلُوب إِلَى الْحق يُقَال لَهُ إِن كَانَ قد تنزعج بِهِ بعض الْقُلُوب أَحْيَانًا إِلَى الْحق فالأغلب عَلَيْهِ أَنه يزعجها إِلَى الْبَاطِل وقلما يزعجها إِلَى الْحق مَحْضا بل قد يُقَال إِنَّه لَا يفعل ذَلِك بِحَال بل لابد أَن يضم إِلَى ذَلِك شئ من الْبَاطِل فَيكون مزعجا لَهَا إِلَى الشّرك الْجَلِيّ أَو الْخَفي فَإِن مَا يزعج إِلَيْهِ هَذَا السماع مُشْتَرك بَين الله وَبَين خلقه فَإِنَّمَا يزعج إِلَى الْقدر الْمُشْتَرك وَذَلِكَ هُوَ الْإِشْرَاك بِاللَّه وَلِهَذَا لم يذكر الله هَذَا السماع فِي الْقُرْآن إِلَّا عَن الْمُشْركين الَّذين قَالَ فيهم {وَمَا كَانَ صلَاتهم عِنْد الْبَيْت إِلَّا مكاء وتصدية} [سُورَة الْأَنْفَال 35] فَلَا يكون مزعجا للقلوب إِلَى إِرَادَة الله وَحده لَا شريك لَهُ بل يزعجها إِلَى الْبَاطِل تَارَة وَإِلَى الْحق وَالْبَاطِل تَارَة وَلَو كَانَ يزعج إِلَى الْحق الَّذِي يُحِبهُ الله خَالِصا أَو راجحا لَكَانَ من الْحسن الْمَأْمُور بِهِ الْمَشْرُوع ولكان شَرعه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله أَو فعله ولكان من سنة خلفائه الرَّاشِدين ولكان الْمُؤْمِنُونَ فِي الْقُرُون الثَّلَاثَة يَفْعَلُونَهُ لَا يتركون مَا أحبه الله وَرَسُوله وَمَا يُحَرك الْقُلُوب إِلَى الله تحريكا يُحِبهُ الله وَرَسُوله

وَأَيْضًا فَهَذَا الإزعاج إِلَى الْحق قد يُقَال إِنَّه إِنَّمَا قد يحصل لمن لم يقْصد الِاسْتِمَاع بل صادفه مصادفة سَماع شئ يُنَاسب حَاله بِمَنْزِلَة الفأل لمن خرج فِي حَاجَة فَأَما من قصد الِاسْتِمَاع إِلَيْهِ والتغني بِهِ فقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَحكى جَعْفَر بن نصير عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ تنزل الرَّحْمَة على الْفُقَرَاء فِي ثَلَاثَة مَوَاطِن عِنْد السماع فَإِنَّهُم لَا يسمعُونَ إِلَّا عَن حق وَلَا يقومُونَ إِلَّا عَن وجد وَعند أكل الطَّعَام فَإِنَّهُم لَا يَأْكُلُون إِلَّا عَن فاقة وَعند مجاراة الْعلم فَإِنَّهُم لَا يذكرُونَ إِلَّا صفة الْأَوْلِيَاء وَذكر عقيب هَذَا فَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول سَمِعت الْحُسَيْن بن أَحْمد بن جَعْفَر يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول السماع فتْنَة لمن طلبه ترويح لمن صادفه وَذكر بعد هَذَا سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول سَمِعت عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الرَّازِيّ يَقُول سَمِعت الْجُنَيْد يَقُول إِذا رَأَيْت المريد يحب السماع فَأعْلم أَن فِيهِ بَقِيَّة من البطالة

قلت فهاتان المقالتان أسندهما عَن جُنَيْد وَأما القَوْل الأول فَلم يسْندهُ بل أرْسلهُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مفسران وَالْقَوْل الأول مُجمل فَإِن كَانَ الأول مَحْفُوظًا عَن الْجُنَيْد فَهُوَ يحْتَمل السماع الْمَشْرُوع فَإِن الرَّحْمَة تنزل على أَهله كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فأستمعوا لَهُ وأنصتوا لَعَلَّكُمْ ترحمون [سُورَة الْأَعْرَاف 204] فَذكر أَن اسْتِمَاع الْقُرْآن سَبَب الرَّحْمَة وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح مَا اجْتمع قوم فِي بَيت من بيُوت الله يَتلون كتاب الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينهم إِلَّا غشيتهم الرَّحْمَة وتنزلت عَلَيْهِم السكينَة وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَة وَذكرهمْ الله فِيمَن عِنْده وَقد ذكر الله فِي غير مَوضِع من كِتَابه أَن الرَّحْمَة تحصل بِالْقُرْآنِ كَقَوْلِه تَعَالَى وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين [سُورَة الْإِسْرَاء] وَقَالَ هَذَا بصائر من ربكُم وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ [سُورَة الْأَعْرَاف 203] وَقَالَ ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شئ وَهدى وَرَحْمَة [سُورَة النَّحْل 89] يبين ذَلِك أَن لفظ السماع يدْخل فِيهِ عِنْدهم السماع الشَّرْعِيّ كسماع الْقُرْآن والخطب الشَّرْعِيَّة والوعظ الشَّرْعِيّ وَقد أَدخل أَبُو الْقَاسِم

هَذَا النَّوْع فِي بَاب السماع وَذكر أَبُو الْقَاسِم هَذَا النَّوْع فِي بَاب السماع وَذكر فِي ذَلِك آثارا فَقَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد التَّمِيمِي يَقُول سَمِعت عبد الله بن الصُّوفِي يَقُول سَمِعت الرقي يَقُول سَمِعت بن الْجلاء يَقُول كَانَ بالمغرب شَيْخَانِ لَهما أَصْحَاب وتلامذة يُقَال لأَحَدهمَا جبلة وَللثَّانِي رُزَيْق فزار رُزَيْق يَوْمًا جبلة فَقَرَأَ رجل من أَصْحَاب رُزَيْق شَيْئا فصاح رجل من أَصْحَاب جبلة صَيْحَة وَمَات فَلَمَّا أَصْبحُوا قَالَ جبلة لرزيق أَيْن الَّذِي قَرَأَ بالْأَمْس فليقرأ آيَة فَقَرَأَ فصاح جبلة صَيْحَة فَمَاتَ الْقَارئ فَقَالَ جبلة وَاحِد بِوَاحِد والبادي أظلم فَهَذَا من سَماع الْقُرْآن وَأما الْمَوْت بِالسَّمَاعِ فمسألة أُخْرَى نتكلم عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله فِي موضعهَا قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَسُئِلَ إِبْرَاهِيم المارستاني عَن الْحَرَكَة عِنْد السماع فَقَالَ بَلغنِي أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قصّ فِي بني إِسْرَائِيل فمزق وَاحِد

مِنْهُم قَمِيصه فَأوحى الله إِلَيْهِ قل لَهُ مزق لي قَلْبك وَلَا تمزق لي ثِيَابك فَهَذَا سَماع لقصص الْأَنْبِيَاء قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَسَأَلَ أَبُو عَليّ المغازلي الشبلي فَقَالَ رُبمَا يطْرق سَمْعِي آيَة من كتاب الله عز وَجل فتحدوني عَليّ ترك الْأَشْيَاء والإعراض عَن الدُّنْيَا ثمَّ أرجع إِلَى احوالي وَإِلَى النَّاس فَقَالَ الشبلي مَا اجتذبك إِلَيْهِ فَهُوَ عطف مِنْهُ عَلَيْك ولطف وَمَا ردك إِلَى نَفسك فَهُوَ شَفَقَة مِنْهُ عَلَيْك لِأَنَّهُ لَا يَصح لَك التبري من الْحول وَالْقُوَّة فِي التَّوَجُّه إِلَيْهِ فَهَذَا سَماع فِي الْقُرْآن وَقَالَ سَمِعت أَبَا حَاتِم السجسْتانِي يَقُول سَمِعت أَبَا نصر السراج يَقُول سَمِعت أَحْمد بن مقَاتل العكي يَقُول كنت مَعَ الشبلي فِي مَسْجِد لَيْلَة فِي شهر رَمَضَان وَهُوَ يُصَلِّي خلف إِمَام لَهُ وَأَنا بجنبه فَقَرَأَ

الإِمَام {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك} [سُورَة الْإِسْرَاء 86] فزعق زعقة قلت طارت روحه وَهُوَ يرتعد وَيَقُول بِمثل هَذَا يُخَاطب الأحباء يردد ذَلِك كثيرا فَهَذَا سَماع الْقُرْآن قَالَ وَحكى عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ دخلت على السّري يَوْمًا فَرَأَيْت عِنْده رجلا مغشيا عَلَيْهِ فَقلت مَا لَهُ فَقَالَ سمع آيَة من كتاب الله تَعَالَى فَقلت تقْرَأ عَلَيْهِ ثَانِيًا فقرئ فأفاق فَقَالَ لي من ايْنَ علمت هَذَا فَقلت إِن قَمِيص يُوسُف ذهبت بِسَبَبِهِ عين يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ بِهِ عَاد بَصَره فآستحسن مني ذَلِك قَالَ وَسمعت ابا حَاتِم السجسْتانِي يَقُول سَمِعت أَبَا نصر السراج يَقُول سَمِعت عبد الْوَاحِد بن علوان يَقُول كَانَ شَاب يصحب الْجُنَيْد فَكَانَ إِذا سمع شَيْئا من الذّكر يزعق فَقَالَ لَهُ الْجُنَيْد يَوْمًا إِن فعلت ذَلِك مرّة أُخْرَى لم تصحبني فَكَانَ إِذا سمع شَيْئا يتَغَيَّر ويضبط نَفسه حَتَّى كَانَ يقطر من كل شَعْرَة من بدنه فيوما من

الْأَيَّام صَاح صَيْحَة تلفت بهَا نَفسه فَهَذَا سَماع الذّكر لَا يخْتَص بِسَمَاع الشّعْر الملحن فَقَوْل الْقَائِل تنزل الرَّحْمَة عَلَيْهِم عِنْد السماع يَصح ان يُرَاد بِهِ هَذَا السماع الْمَشْرُوع وَقَوله لَا يقومُونَ إِلَّا عَن وجد يَعْنِي أَنهم صَادِقُونَ لَيْسُوا متصنعين بِمَنْزِلَة الْمظهر للوجد من غير حَقِيقَة لَكِن قد يُقَال قَوْله لَا يَسْتَمِعُون إِلَّا عَن حق هَذَا التَّقْيِيد لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي السماع الشَّرْعِيّ فَإِنَّهُ حق بِخِلَاف السماع الْمُحدث فَإِنَّهُ يسمع بِحَق وباطل فَيُقَال وَكَذَلِكَ سَماع الْقُرْآن وَغَيره قد يكون رِيَاء وَسُمْعَة وَقد يكون بِلَا قلب وَلَا حُضُور وَلَا تدبر وَلَا فهم وَلَا ذوق وَقد أخبر الله عَن الْمُنَافِقين أَنهم إِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى وَالصَّلَاة مُشْتَمِلَة على السماع الشَّرْعِيّ وَقد أخبر الله عَن كَرَاهَة الْمُنَافِقين للسماع الشَّرْعِيّ فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه {وَإِذا مَا أنزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم وماتوا وهم كافرون} إِلَى قَوْله {وَإِذا مَا أنزلت سُورَة نظر بَعضهم إِلَى بعض هَل يراكم من أحد ثمَّ انصرفوا صرف الله قُلُوبهم بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ} [سُورَة التَّوْبَة 124 127] فَهَؤُلَاءِ المُنَافِقُونَ يَنْصَرِفُونَ عَن السماع الشَّرْعِيّ

وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذا كَانَ الْمسند الْمَحْفُوظ الْمَعْرُوف من قَول الْجُنَيْد أَنه رَحمَه الله لَا يحمد هَذَا السماع المبتدع وَلَا يَأْمر بِهِ وَلَا يثني عَلَيْهِ بل الْمَحْفُوظ من أَقْوَاله يُنَافِي ذَلِك لم يجز أَن يعمد إِلَى قَول مُجمل روى عَنهُ بِغَيْر إِسْنَاد فَيحمل على أَنه مدح هَذَا السماع الْمُحدث وَقد روى بعض النَّاس أَن الْجُنَيْد كَانَ يحضر هَذَا السماع فِي أول عمره ثمَّ تَركه وحضوره لَهُ فعل وَالْفِعْل قد يسْتَدلّ بِهِ على مَذْهَب الرجل وَقد لَا يسْتَدلّ وَلِهَذَا يُنَازع النَّاس فِي مَذْهَب الْإِنْسَان هَل يُوجد من فعله وَقَالَ بعض السّلف أَضْعَف الْعلم الرُّؤْيَة وَهُوَ قَوْله رَأَيْت فلَانا يفعل وَقد يفعل الشئ بِمُوجب الْعَادة والموافقة من بعد اعْتِقَاد لَهُ فِيهِ وَقد يفعل نِسْيَانا لَا لاعْتِقَاده فِيهِ أَو حضا وَقد يَفْعَله وَلَا يعلم أَنه ذَنْب ثمَّ يعلم بعد ذَلِك أَنه ذَنْب ثمَّ يَفْعَله وَهُوَ ذَنْب وَلَيْسَ أحد مَعْصُوما عَن أَن يفعل مَا هُوَ ذَنْب لَكِن الْأَنْبِيَاء معصومون من الأقرار على الذُّنُوب فيتأسى بأفعالهم الَّتِي أقرُّوا عَلَيْهَا لِأَن الْإِقْرَار عَلَيْهَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَيست ذَنبا وَأما غير الْأَنْبِيَاء فَلَا فَكيف بِمن يكون فعل فعلا ثمَّ تَركه وأقصى مَا يُقَال إِن الْجُنَيْد كَانَ يفعل أَولا هَذَا السماع على طَرِيق

الِاسْتِحْسَان لَهُ والاستحباب أَو يَقُول ذَلِك فَيكون هَذَا لَو صَحَّ مُعَارضا لأقواله المحفوظة عَنهُ فَيكون لَهُ فِي الْمَسْأَلَة قَولَانِ وَقد قَالَ ابو الْقَاسِم حكى عَن الْجُنَيْد أَنه قَالَ السماع يحْتَاج إِلَى ثَلَاثَة أَشْيَاء الزَّمَان وَالْمَكَان والإخوان وَهَذِه حِكَايَة مُرْسلَة والمراسيل فِي هَذِه الرسَالَة لَا يعْتَمد عَلَيْهَا إِن لم تعرف صِحَّتهَا من وَجه آخر كَمَا تقدم وَلَو صَحَّ ذَلِك وَأَنه أَرَادَ سَماع القصائد لَكَانَ هَذَا أحد قوليه وَذَلِكَ أَن قَوْله السماع فتْنَة لمن طلبه ترويح لمن صادفه صَرِيح بِأَنَّهُ مَكْرُوه مَذْمُوم منهى عَنهُ لمن قَصده وَهَذَا هُوَ الَّذِي نقرره فَقَوْل الْجُنَيْد رَضِي الله عَنهُ من مَحْض الَّذِي قُلْنَاهُ وَقَوله ترويح لمن صادفه لم يثبت مِنْهُ وَإِنَّمَا أثبتوا أَنه رَاحَة وَجعل ذَلِك مَعَ المصادفة لَا مَعَ الْقَصْد والتعمد والمصادفة فِيهَا قسم لَا ريب فِيهِ وَهُوَ اسْتِمَاع دون اسْتِمَاع كالمرء يكون مارا فَيسمع قَائِلا يَقُول بِغَيْر قَصده واختياره أَو يكون جَالِسا فِي مَوضِع فيمر عَلَيْهِ من يَقُول أَو يسمع قَائِلا من مَوضِع آخر بِغَيْر قَصده

وَأما إِذا اجْتمع بِقوم لغير السماع إِمَّا حضر عِنْدهم أَو حَضَرُوا عِنْده وَقَالُوا شَيْئا فَهَذَا قد يُقَال إِنَّه صادفه السماع فَإِنَّهُ لم يمش إِلَيْهِ ويقصده وَقد يُقَال بل إصغاؤه إِلَيْهِ واستماعه الصَّوْت يَجعله مستمعا فَيَجْعَلهُ غير مصادف وَقد قَالَ تَعَالَى وَقد نزل عَلَيْكُم فِي الْكتاب أَن إِذا سَمِعْتُمْ آيَات الله يكفر بهَا ويستهزأ بهَا فَلَا تقعدوا مَعَهم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره إِنَّكُم إِذا مثلثم [سُورَة النِّسَاء 140] فَجعل الْقَاعِد المستمع بِمَنْزِلَة الْقَائِل فَأكْثر مَا يُقَال إِن الْجُنَيْد اراد بالمصادفة هَذِه الصُّورَة وَهُوَ مَعَ جعله ترويحا لم يَجعله سَببا للرحمة وَهَذَا غَايَته أَن يكون مُبَاحا لَا يكون حسنا وَلَا رَحْمَة وَلَا مُسْتَحبا وَالْكَلَام فِي إِبَاحَته وتحريمه غير الْكَلَام فِي حسنه وصلاحه ومنفعته وَكَونه قربَة وَطَاعَة فالجنيد لم يقل شَيْئا من هَذَا وَقَول الْقَائِل تنزل الرَّحْمَة على أهل السماع إِذا أَرَادَ بِهِ سَماع القصائد يَقْتَضِي أَنه حسن وَأَنه نَافِع فِي الدّين وَكَلَام الْجُنَيْد صَرِيح فِي خلاف ذَلِك قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَسُئِلَ الشبلي عَن السماع فَقَالَ ظَاهره فتْنَة وباطنه عِبْرَة فَمن عرف الْإِشَارَة حل لَهُ السماع بالعبرة وَإِلَّا فقد استدعى الْفِتْنَة وَتعرض للبلية

قلت هَذَا القَوْل مُرْسل لم يسْندهُ فَالله أعلم بِهِ فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا عَن الشبلي فقد نبهنا على ان الْأَئِمَّة فِي طَرِيق الْحق الَّذين يعْتد بأقوالهم كَمَا يعْتد بأقوال أَئِمَّة الْهدى هم مثل الْجُنَيْد وَسَهل وَنَحْوهمَا فَإِن اقوالهم صادرة عَن أصل وهم مستهدون فِيهَا وَأما الشبلي وَنَحْوه فَلَا بُد من عرض أَقْوَاله وأحواله على الْحجَّة فَيقبل مِنْهَا مَا وَافق الْحق دون مَا لم يكن كَذَلِك لِأَنَّهُ قد كَانَ يعرض لَهُ زَوَال الْعقل حَتَّى يذهب بِهِ إِلَى المارستان غير مرّة وَقد يخْتَلط اختلاطا دون ذَلِك وَمن كَانَ بِهَذِهِ الْحَال فَلَا تكون أَقْوَاله وأفعاله فِي مثل هَذِه الْأَحْوَال مِمَّا يعْتَمد عَلَيْهَا فِي طَرِيق الْحق وَلَكِن لَهُ أَقْوَال وأفعال حَسَنَة قد علم حسنها بِالدَّلِيلِ فَتقبل لحسنها فِي نَفسهَا وَإِن كَانَ لَهُ حَال أُخْرَى بِغَيْر عقله أَو اخْتَلَط فِيهَا اَوْ وَقع مِنْهُ مَا لَا يصلح وَمَعْلُوم أَن الْجُنَيْد شَيْخه هُوَ الإِمَام المتبع فِي الطَّرِيق وَقد أخبر أَن لسَمَاع فتْنَة لمن طلبه فتقليد الْجُنَيْد فِي ذَلِك أولى من تَقْلِيد الشبلي فِي قَوْله ظَاهره فتْنَة وباطنه عِبْرَة إِذْ الْجُنَيْد أَعلَى وَأفضل وَأجل بأتفاق الْمُسلمين وَقد أطلق القَوْل بِأَنَّهُ فتْنَة لطالبه وَهُوَ لَا يُرِيد أَنه فتْنَة فِي الظَّاهِر فَقَط إِذْ من شَأْن الْجُنَيْد أَن يتَكَلَّم على صَلَاح الْقُلُوب

وفسادها فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنه يفتن الْقلب لمن طلبه وَهَذَا نهى مِنْهُ وذم لمن يَطْلُبهُ مُطلقًا ومخالفا لما أرسل عَن الشبلي أَنه قَالَ من عرف الْإِشَارَة حل لَهُ السماع بالعبرة وَهَذَا التَّفْصِيل يضاهي قَول من يَقُول هُوَ مُبَاح أَو حسن للخاصة دون الْعَامَّة وَقد تقدم الْكَلَام على ذَلِك وَأَنه مَرْدُود لِأَن قَائِله اخْتلف قَوْله فِي ذَلِك وَمَا أعلم احدا من الْمَشَايِخ المقبولين يُؤثر عَنهُ فِي السماع نوع رخصَة وَحمد إِلَّا ويؤثر عَنهُ الذَّم وَالْمَنْع فهم فِيهِ كَمَا يذكر عَن كثير من الْعلمَاء أَنْوَاع من مسَائِل الْكَلَام فَلَا يُوجد عَمَّن لَهُ فِي الْأمة حمد شئ من ذَلِك إِلَّا وَعنهُ مَا يُخَالف ذَلِك وَهَذَا من رَحْمَة الله بعباده الصَّالِحين حَيْثُ يردهم فِي آخر أَمرهم إِلَى الْحق الَّذِي بَعثه بِهِ رَسُوله وَلَا يجعلهم مصرين على مَا يُخَالف الدّين الْمَشْرُوع كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صفة الْمُتَّقِينَ الَّذين أعد لَهُم الْجنَّة فَقَالَ وسارعوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض أعدت لِلْمُتقين الَّذين يُنْفقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء والكاظمين الغيظ وَالْعَافِينَ عَن النَّاس وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا انفسهم ذكرُوا الله فآستغفروا لذنوبهم وَمن يغْفر الذُّنُوب إِلَّا الله وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ أُولَئِكَ جزاؤهم مغْفرَة من رَبهم وجنات تجْرِي من تحتهَا

الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَنعم أجر الْعَالمين [سُورَة آل عمرَان 133 136] وَقَول الْقَائِل من عرف الْإِشَارَة حل لَهُ السماع بالعبرة وَقد تقدم ان الْإِشَارَة هِيَ الِاعْتِبَار وَالْقِيَاس لِأَن يَجْعَل الْمَعْنى الَّذِي فِي القَوْل مثلا مَضْرُوبا لِمَعْنى حق يُنَاسب حَال المستمع وَلِهَذَا قَالَ بَاطِنه عِبْرَة يُقَال لَهُ هَب أَنه يُمكن الِاعْتِبَار بِهِ لَكِن من أَيْن لَك ان كل مَا أمكن أَن يعْتَبر بِهِ الْإِنْسَان يكون حَلَالا لَهُ مَعَ أَن الِاعْتِبَار قد يكون بِمَا يسمع وَيرى من الْمُحرمَات فَهَل لَاحَدَّ أَن يعْتَبر بِقصد النّظر إِلَى الزِّينَة الْبَاطِنَة من الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة وَيعْتَبر بِقصد الِاسْتِمَاع إِلَى اقوال المستهترين بآيَات الله أَو غير ذَلِك مِمَّا لَا يجوز قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقيل لَا يَصح السماع إِلَّا لمن كَانَت لَهُ نفس ميتَة وقلب حَيّ فنفسه ذبحت بسيوف المجاهدة وَقَلبه حَيّ بِنور الْمُشَاهدَة وَهَذَا التففضيل من جنس مَا تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ

قَالَ وَسُئِلَ ابو يَعْقُوب النهرجوري عَن السماع فَقَالَ حَال يُبْدِي الرُّجُوع إِلَى الْأَسْرَار من حَيْثُ الإحراق قلت وَهَذَا وصف لما يعقب السماع من الاحوال الْبَاطِنَة وَقُوَّة الْحَرَارَة والإحراق والوجودية وَهَذَا امْر يحسه الْمَرْء ويجده ويذوقه لَكِن لَيْسَ فِي ذَلِك مدح وَلَا ذمّ إِذْ مثل هَذَا يُوجد لعباد الْمَسِيح والصليب وَعباد الْعجل وَعباد الطواغيت وَيُوجد للعشاق وَغير ذَلِك فَإِن لم تكن هَذِه الْأَحْوَال مِمَّا يُحِبهَا الله وَرَسُوله لم تكن محمودة وَلَا ممدوحة قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَقيل السماع لطف غذَاء الْأَرْوَاح لأهل الْمعرفَة وَهَذَا القَوْل لم يسم قَائِله وَلَا ريب ان السماع فِيهِ غذَاء وَقد قيل إِنَّمَا سمى الْغناء غناء لِأَنَّهُ يُغني النَّفس لَكِن الأغذية والمطاعم مِنْهَا طيب وَمِنْهَا خَبِيث وَلَيْسَ كل مَا استلذه الْإِنْسَان لحسنه يكون طيبا فَإِن أكل الْخِنْزِير يستلذه آكله وشارب الْخمر يستلذها شاربها

وَمِمَّا يبين ذَلِك أَن سَماع الألحان يتغذى بِهِ أهل الْجَهْل أَكثر مِمَّا يتغذى بِهِ أهل الْمعرفَة كَمَا يتغذى بِهِ الْأَطْفَال والبهائم وَالنِّسَاء وكما يكثر فِي أهل الْبَوَادِي والأعراب وكل من ضعف عقله ومعرفته كَمَا هُوَ مشهود فَأَما السماع الشَّرْعِيّ فَلَا إِنَّه غذَاء طيب لأهل الْمعرفَة كَمَا أخبر الله بذلك فِي قَوْله {وَإِذا سمعُوا مَا أنزل إِلَى الرَّسُول ترى أَعينهم تفيض من الدمع مِمَّا عرفُوا من الْحق} [سُورَة الْمَائِدَة 83] ثمَّ ذكر أَبُو الْقَاسِم قَول ابي على الدقاق السماع طبع إِلَّا عَن شرع وخرق إِلَّا عَن حق وفتنة إِلَّا عَن عِبْرَة وَهَذَا كَلَام حسن وَقد قدمنَا ذكره فَإِنَّهُ جعل مَا لَيْسَ بمشروع هُوَ عَن الطَّبْع فَلَا يكون مَحْمُودًا مستحسنا فِي الدّين وَطَرِيق الله وَقَوله خرق إِلَّا عَن حق وفتنة الأ عَن عِبْرَة يَقْتَضِي أَنه إِذا لم يكن عَن حق فَهُوَ مَذْمُوم وَأَنه لم يكن عَن عِبْرَة فَهُوَ فتْنَة وَهَذَا كَلَام صَحِيح وَلَا يَقْتَضِي ذَلِك أَن يسْتَحبّ كل مَا يظنّ أَن فِيهِ عِبْرَة أَو أَنه عَن حق إِذا لم يكن مَشْرُوعا لِأَنَّهُ قد قَالَ إِنَّه طبع إِلَّا عَن شرع قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَيُقَال السماع على قسمَيْنِ سَماع بِشَرْط

الْعلم والصحو فَمن شَرط صَاحبه معرفَة الاسامي وَالصِّفَات وَإِلَّا وَقع فِي الْكفْر الْمَحْض وَسَمَاع بِشَرْط الْحَال فَمن شَرط صَاحبه الفناء عَن احوال البشرية والتنقي من آثَار الحظوظ بِظُهُور أَحْكَام الْحَقِيقَة قلت قَوْله معرفَة الْأَسَامِي وَالصِّفَات يَعْنِي أَسمَاء الْحق وَصِفَاته وَذَلِكَ لِأَن المسموع هُوَ الْمَشْرُوع من الصِّفَات الَّتِي يُوصف بهَا المخلوقون وهم إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مقصودهم مِنْهَا بطريقة الْإِشَارَة وَالِاعْتِبَار كَمَا تقدم فَيحْتَاج ذَلِك إِلَى أَن نفرق بَين مَا يُوصف بِهِ الرب ويوصف بِهِ الْمَخْلُوق لِئَلَّا تجْعَل تِلْكَ الصِّفَات صِفَات لله فَيكون فتْنَة وَكفرا هَذَا إِذا كَانَ صَاحبه صَاحِيًا يعلم مَا يَقُول وَأما إِذا كَانَ فانيا عَن الشُّعُور بالكائنات لم يحمل القَوْل على ذَلِك لعدم شعوره بِهِ فَلَا بُد أَن يكون شَاعِرًا بالأحوال البشرية وَيكون متنقيا عَن الحظوظ البشرية الَّتِي تميل إِلَى الْمَخْلُوقَات وَذَلِكَ بِظُهُور سُلْطَان التَّوْحِيد على قلبه وَهُوَ قَوْله ظُهُور أَحْكَام الْحَقِيقَة وَهَذَا التَّفْصِيل يحْتَاج إِلَيْهِ من يستحسن بعض أَنْوَاع السماع الْمُحدث لأهل الطَّرِيق إِلَى الله والفتنة تحصل بِالسَّمَاعِ من وَجْهَيْن من جِهَة الْبِدْعَة فِي الدّين وَمن جِهَة الْفُجُور فِي الدُّنْيَا أما الأول فَلَمَّا قد يحصل بِهِ من الاعتقادات الْفَاسِدَة فِي حق الله اَوْ الإرادات والعبادات الْفَاسِدَة الَّتِي لَا تصلح لله مَعَ مَا يصد عَنهُ من

الاعتقادات الصَّالِحَة والعبادات الصَّالِحَة تَارَة بطرِيق المضادة وَتارَة بطرِيق الِاشْتِغَال فَإِن النَّفس تشتغل وتستغني بِهَذَا عَن هَذَا وَأما الْفُجُور فِي الدُّنْيَا فَلَمَّا يحصل بِهِ من دواعي الزِّنَا وَالْفَوَاحِش وَالْإِثْم وَالْبَغي على النَّاس فَفِي الْجُمْلَة جَمِيع الْمُحرمَات قد تحصل فِيهِ وَهُوَ مَا ذكرهَا الله فِي قَوْله {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [سُورَة الاعراف 33] قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَحكى عَن احْمَد بن ابي الْحوَاري أَنه قَالَ سَأَلت أَبَا سُلَيْمَان عَن السماع فَقَالَ من اثْنَيْنِ أحب إِلَى من الْوَاحِد قلت هَذِه الْمقَالة ذكرهَا مُرْسلَة فَلَا يعْتَمد عَلَيْهَا وَإِن أُرِيد بهَا السماع الْمُحدث فَهِيَ بَاطِلَة عَن ابي سُلَيْمَان فَإِن أَبَا سُلَيْمَان رَضِي الله عَنهُ لم يكن من رجال السماع وَلَا مَعْرُوفا بِحُضُورِهِ كَمَا أَن الفضيل بن عِيَاض ومعروفا الْكَرْخِي رحمهمَا الله وَنَحْوهمَا لم يَكُونَا مِمَّن يحضر هَذَا السماع قَالَ أَبُو الْقَاسِم سُئِلَ أَبُو الْحُسَيْن النوري عَن الصُّوفِي فَقَالَ من سمع السماع وآثر الْأَسْبَاب

قلت هَذَا النَّقْل مُرْسل فَلَا يعْتَمد عَلَيْهِ وَلَعَلَّ الْمَقْصُود بِهَذَا هُوَ الصُّوفِي المذموم عِنْدهم التصوف فَإِنَّهُ جمع بَين إِيثَار السماع الَّذِي يدل على الْأَهْوَاء الْبَاطِلَة وَضعف الْإِرَادَة وَالْعِبَادَة وإيثار الْأَسْبَاب الَّتِي تنقصه عِنْدهم عَن التَّوَكُّل فضعف كَونه يعبد الله وَضعف كَونه يستعينه وَإِلَّا فالنوري لَا يَجْعَل هَذَا شرطا فِي الصُّوفِي الْمُحَقق قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَسُئِلَ أَبُو عَليّ الرُّوذَبَارِي عَن السماع يَوْمًا فَقَالَ ليتنا تخلصنا مِنْهُ راسا بِرَأْس قلت هَذَا الْكَلَام من مثل هَذَا الشَّيْخ الَّذِي هُوَ أجل الْمَشَايِخ الَّذين صحبوا الْجُنَيْد وطبقته يُقرر مَا قدمْنَاهُ من أَن حُضُور الشَّيْخ السماع لَا يدل على مذْهبه واعتقاد حسنه فَإِنَّهُ يتَمَنَّى أَلا يكون عَلَيْهِ فِيهِ إِثْم بل يخلص مِنْهُ لَا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ وَلَو كَانَ من جنس المستحبات لم يقل ذَلِك فِيهِ إِلَّا لتقصير المستمع لَا لجنس الْفِعْل وَلَيْسَ لَهُ أَن يَقُول ذَلِك إِلَّا عَن نَفسه لَا يَجْعَل هَذَا حكما عَاما فِي أهل ذَلِك الْعَمَل كَمَا يرْوى عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يَقُول وددت أَنِّي انفلت من هَذَا الامر رَأْسا بِرَأْس قَالَ هَذَا بعد توليه الْخلَافَة

لفرط خَشيته أَلا يكون قد قَامَ بِحُقُوق وَلم يقل هَذَا فِي أبي بكر رَضِي الله عَنهُ بل مَا يزَال يشْهد لَهُ بِالْقيامِ فِي الْخلَافَة بِالْحَقِّ وَلذَلِك كَانَ عمر خَوفه يحملهُ على ذَلِك القَوْل فَقَوْل أبي عَليّ لَيْسَ من هَذَا الْجِنْس بل وصف الطَّائِفَة كلهَا بذلك فَعلم أَنه لَا يعْتَقد فِيهِ انه حسن وَإِن كَانَ فَاعِلا لَهُ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت الشَّيْخ أَبَا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ يَقُول سَمِعت أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول من ادّعى السماع وَلم يسمع صَوت الطُّيُور وصرير الْبَاب وصفير الرِّيَاح فَهُوَ مفتر مُدع قلت هَذَا الَّذِي قَالَه أَبُو عُثْمَان هُوَ مِمَّا يفصلون بِهِ بَين سَماع الْعبْرَة وَسَمَاع الْفِتْنَة فَإِن سَماع الْعبْرَة الَّذِي يُحَرك وجد السالكين بِالْحَقِّ يحصل بِسَمَاع هَذِه الْأَصْوَات لَا يقف على السماع الَّذِي يهواه أهل الْفِتَن وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت أَبَا حَاتِم السجسْتانِي يَقُول سَمِعت أَبَا نصر السراج الطوسي يَقُول سَمِعت أَبَا الطّيب أَحْمد بن مقَاتل العكي يَقُول قَالَ جَعْفَر كَانَ ابْن زيري من أَصْحَاب الْجُنَيْد شَيخا

فَاضلا فَرُبمَا كَانَ يحضر مَوضِع السماع فَإِن استطابة فرش إزَاره وَجلسَ وَقَالَ الصُّوفِي مَعَ قلبه وَإِن لم يستطبه قَالَ السماع لأرباب الْقُلُوب وَمر وَأخذ نَعْلَيْه قلت سنتكلم إِن شَاءَ الله على مثل هَذِه الْحَال وَهُوَ الْمَشْي مَعَ طيب الْقلب وَمَا يَذُوق الْإِنْسَان ويجد فِيهِ صَلَاح الْقلب ونبين أَن السلوك الْمُسْتَقيم هَكَذَا من غير اعْتِبَار لطيب الْقلب وَمَا يجده ويذوقه من الْمَنْفَعَة واللذة وَالْجمع على الله وَنَحْو ذَلِك أما ذَلِك الْحَال فَهُوَ مَذْمُوم فِي الْكتاب وَالسّنة ضلال فِي الطَّرِيق وَهُوَ مبدأ ضلال من ضل من الْعباد والنساك والمتصوفة والفقراء وَنَحْوهم وَحَقِيقَته اتِّبَاع الْهوى بِغَيْر هدى من الله وَقد تقدم من كَلَام الْمَشَايِخ فِي ذمّ هَذَا مَا فِيهِ كِفَايَة فَإِن مُجَرّد طيب الْقلب لَيْسَ دَلِيلا على أَنه إِنَّمَا طَابَ لما يُحِبهُ الله ويرضاه بل قد يطيب بِمَا لَا يُحِبهُ الله ويرضاه مِمَّا يكرههُ أَولا يكرههُ أَيْضا لَا سِيمَا الْقُلُوب الَّتِي أشربت حب الْأَصْوَات الملحنة فقد قَالَ عبد الله بن مَسْعُود الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقُلُوب كَمَا ينْبت المَاء البقل

وَإِطْلَاق القَوْل بِأَن الصُّوفِي مَعَ قلبه هُوَ من جنس مَا ذمّ بِهِ هَؤُلَاءِ المتصوفة حَتَّى جعلُوا من اهل الْبدع لأَنهم أَحْدَثُوا فِي طَرِيق الله أَشْيَاء لم يشرعها الله فَكَانَ لَهُم نصيب من قَوْله تَعَالَى أم لَهُم شُرَكَاء شرعوا لَهُم من الدّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله [سُورَة الشورى 21] مثل مَا ذكره الْخلال بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَذكر الصُّوفِيَّة فَقَالَ لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا أَصْحَاب الْكَلَام وَعَلَيْكُم بأصحاب القماطر فَإِنَّهُم بِمَنْزِلَة الْمَعَادِن والمفاصل هَذَا يخرج درة وَهَذَا يخرج قِطْعَة ذهب ويروى عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ لَو تصوف رجل أول النَّهَار لم يَأْتِ نصف النَّهَار إِلَّا وَهُوَ أَحمَق قَالَ ابو الْقَاسِم سَمِعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن رَحمَه الله تَعَالَى يَقُول سَمِعت عبد الْوَاحِد بن بكر يَقُول سَمِعت عبد الله بن عبد الْمجِيد الصُّوفِي يَقُول سُئِلَ رُوَيْم عَن وجود الصُّوفِيَّة عِنْد السماع فَقَالَ يشْهدُونَ الْمعَانِي الَّتِي تعزب عَن غَيرهم فتشير إِلَيْهِم

إِلَيّ إِلَيّ فيتنعمون بذلك من الْفَرح ثمَّ يَقع الْحجاب فَيَعُود ذَلِك الْفَرح بكاء فَمنهمْ من يخرق ثِيَابه وَمِنْهُم من يَصِيح وَمِنْهُم من يبكي كل إِنْسَان على قدره قلت هَذَا وصف لما يعتريهم من الْحَال لَيْسَ فِي ذَلِك مدح وَلَا ذمّ إِذْ مثل هَذِه الْحَال يكون للْمُشْرِكين وَأهل الْكتاب إِذْ قد يشْهدُونَ بقلوبهم مَعَ انهم يفرحون بهَا فتتبع ذَلِك الْمحبَّة فَإِن الْفَرح يتبع الْمحبَّة فَمن أحب شَيْئا فَرح بِوُجُودِهِ وتألم لفقده والمحبوب قد يكون حَقًا وَقد يكون بَاطِلا قَالَ تَعَالَى {وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} [سُورَة الْبَقَرَة 165] وَقَالَ تَعَالَى {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل بكفرهم} [سُورَة الْبَقَرَة 93] فقد يكون الْمَرْء محبا لله صَادِقا فِي ذَلِك لَكِن يكون مَا يشهده من الْمعَانِي السارة خيالات لَا حَقِيقَة لَهَا فيفرح بهَا وَيكون فرحه لغير الْحق وَذَلِكَ مَذْمُوم قَالَ تَعَالَى {ثمَّ قيل لَهُم أَيْن مَا كُنْتُم تشركون من دون الله قَالُوا ضلوا عَنَّا بل لم نَكُنْ ندعوا من قبل شَيْئا كَذَلِك يضل الله الْكَافرين ذَلِكُم بِمَا كُنْتُم تفرحون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَبِمَا كُنْتُم تمرحون}

وَقد علم أَن سَماع المكاء والتصدية إِنَّمَا ذكره الله فِي القرأن عَن الْمُشْركين وَلَا يَخْلُو من نوع شرك جلي أَو خَفِي وَلِهَذَا يَحْكِي عَنْهُم تِلْكَ الْأُمُور الْبَاطِلَة الَّتِي بَدَت لَهُم أَولا كَمَا قَالَ تَعَالَى {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَوجد الله عِنْده} [سُورَة النُّور 39] وَمَعَ هَذَا فقد يكون فِي تِلْكَ الْمعَانِي الَّتِي تشاهد وتحتجب من حقائق الْإِيمَان مَا يفرح بِهِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْضا وَلَوْلَا مَا فِيهِ من ذَلِك لما الْتبس على فريق من الْمُؤمنِينَ لَكِن قد لبس الْحق فِيهِ بِالْبَاطِلِ هَذَا الْأَمر مِنْهُ لَيْسَ بِحَق مَحْض أصلا وبالحق الَّذِي فِيهِ نفق على من نفق عَلَيْهِ من الْمُؤمنِينَ وزهادهم وصوفيتهم وفقرائهم وعبادهم وَلَكِن لضعف إِيمَانهم نفق عَلَيْهِم وَلَو تحققوا بِكَمَال الْإِيمَان لتبين لَهُم مَا فِيهِ من الشّرك وَلبس الْحق بِالْبَاطِلِ وَلِهَذَا تبين ذَلِك لمن أَرَادَ الله أَن يكمل إيمَانه مِنْهُم فيتوبون مِنْهُ كَمَا هُوَ الْمَأْثُور عَن عَامَّة الْمَشَايِخ الْكِبَار الَّذين حَضَرُوهُ فَإِنَّهُم تَابُوا مِنْهُ كَمَا تَابَ كثير من كبار الْعلمَاء مِمَّا دخلُوا فِيهِ من الْبدع الكلامية قَالَ أَبُو الْقَاسِم سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد

التَّمِيمِي يَقُول سَمِعت عبد الله بن عَليّ يَقُول سَمِعت الحصري يَقُول فِي بعض كَلَامه إيش أعمل بِسَمَاع يَنْقَطِع إِذا انْقَطع من يستمع مِنْهُ يَنْبَغِي أَن يكون سماعك سَمَاعا مُتَّصِلا غير مُنْقَطع وَقَالَ الحصري يَنْبَغِي أَن يكون ظمأ دَائِم وَشرب دَائِم فَكلما ازْدَادَ شربه ازْدَادَ ظمؤه قلت هَذَا الْكَلَام فِيهِ عيب لأهل هَذَا السماع وَبَيَان أَن الْمُؤمن عمله دَائِم لَيْسَ بمنقطع كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحب الْعَمَل إِلَى الله مَا داوم عَلَيْهِ صَاحبه فَيكون اجْتِمَاع قلبه لمعاني الْقُرْآن دَائِما غير مُنْقَطع لَا يزَال عطشانا طَالبا شاربا

كَمَا قَالَ تَعَالَى لنَبيه {واعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} [سُورَة الْحجر 99] وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ لم يَجْعَل الله لعَبْدِهِ الْمُؤمن أَََجَلًا دون الْمَوْت وَقد اعْتقد بعض الغالطين من هَؤُلَاءِ ان الْمَعْنى اعبد رَبك حَتَّى تحصل لَك الْمعرفَة ثمَّ اترك الْعِبَادَة وَهَذَا جهل وضلال بأجماع الْأمة بل الْيَقِين هُنَا كاليقين فِي قَوْله {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين} [سُورَة المدثر 47] فِي الصَّحِيح لما مَاتَ عُثْمَان بن مَظْعُون قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما عُثْمَان فقد أَتَاهُ الْيَقِين من ربه وَالله مَا أَدْرِي وَأَنا رَسُول الله مَا يفعل بِي فَأَما الْيَقِين الَّذِي هُوَ صفة العَبْد فَذَاك قد فعله من حِين عبد ربه وَلَا تصح الْعِبَادَة إِلَّا بِهِ وَإِن كَانَ لَهُ دَرَجَات مُتَفَاوِتَة قَالَ تَعَالَى آلم ذَلِك الْكتاب لَا ريب فِيهِ هدى لِلْمُتقين إِلَى قَوْله وبالآخرة هم يوقنون [سُورَة الْبَقَرَة 1 4]

وَقَالَ وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بأياتنا يوقنون [سُورَة السَّجْدَة 24] وَقَالَ عَن الْكفَّار وَإِذا قيل إِن وعد الله حق والساعة لَا ريب فِيهَا قُلْتُمْ مَا ندرى مَا السَّاعَة إِن تظن إِلَّا ظنا وَمَا نَحن بمستيقنين [سُورَة الجاثية 32] قَالَ أَبُو الْقَاسِم وَجَاء عَن مُجَاهِد فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {فهم فِي رَوْضَة يحبرون} [سُورَة الرّوم 15] أَنه السماع من الْحور الْعين بِأَصْوَات شهية نَحن الخالدات فَلَا نموت أبدا وَنحن الناعمات فَلَا نبأس أبدا وَهَذَا فِيهِ أَنهم ينعمون فِي الْآخِرَة بِالسَّمَاعِ وَقد تقدم الْكَلَام على هَذَا وَأَن التنعم بالشئ فِي الْآخِرَة لَا يَقْتَضِي أَن يكون عملا حسنا أَو مُبَاحا فِي الدُّنْيَا وَقَالَ وَقيل السماع نِدَاء والوجد قصد وَهَذَا كَلَام مُطلق فَإِن المستمع يُنَادِيه مَا يستمعه بِحَق تَارَة وبباطل أُخْرَى والواجد هُوَ قَاصد يُجيب الْمُنَادِي الَّذِي قد يَدْعُو إِلَى حق وَقد يَدْعُو إِلَى بَاطِل فَإِن الْوَاجِد تَجِد فِي نَفسه إِرَادَة وقصدا

قَالَ وَسمعت مُحَمَّد بن الْحُسَيْن يَقُول سَمِعت أَبَا عُثْمَان المغربي يَقُول قُلُوب أهل الْحق قُلُوب حَاضِرَة وأسماعهم أسماع مَفْتُوحَة وَهَذَا كَلَام حسن قَالَ تَعَالَى {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد} [سُورَة ق 37] قَالُوا وَهُوَ حَاضر الْقلب لَيْسَ بغائبه وَوصف الله الْكفَّار بِأَنَّهُم صم بكم عمي لَا يسمعُونَ وَلَا يعْقلُونَ وَأَن فِي آذانهم وقرا وَأَنه ختم على قُلُوبهم وعَلى سمعهم قَالَ وسمعته يَعْنِي أَبَا عبد الرَّحْمَن يَقُول سَمِعت الْأُسْتَاذ أَبَا سهل الصعلوكي يَقُول المستمع بَين استتار وتجل فالاستتار يُوجب التلهيب والتجلي يُورث الترويح والاستتار يتَوَلَّد مِنْهُ حركات المريدين وَهُوَ مَحل الضعْف وَالْعجز والتجلي يتَوَلَّد مِنْهُ سُكُون الواصلين وَهُوَ مَحل الاسْتقَامَة والتمكن وَذَلِكَ

صفة الحضرة لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الذبول تَحت موارد الهيبة قَالَ تَعَالَى {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصتُوا} [سُورَة الْأَحْقَاف 29] قلت هَذَا كَلَام على أَحْوَال أهل السماع وَهُوَ مُطلق فِي السماع الشَّرْعِيّ والبدعي لكنه إِلَى وصف حَال الْمُحدث أقرب وَهُوَ وصف لبَعض أَحْوَالهم فَإِن أَحْوَالهم أَضْعَاف ذَلِك وَأما الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ فَفِيهِ كَلَام لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه قَالَ وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الْحِيرِي السماع على ثَلَاثَة أوجه فَوجه مِنْهَا للمريدين والمبتدئين يستدعون بذلك الْأَحْوَال الشَّرِيفَة ويخشى عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْفِتْنَة والمراءاة وَالثَّانِي للصادقين يطْلبُونَ الزِّيَادَة فِي أَحْوَالهم ويستمعون من ذَلِك مَا يُوَافق أوقاتهم وَالثَّالِث لأهل الاسْتقَامَة من العارفين وَهَؤُلَاء لَا يختارون على الله فِيمَا يرد على قُلُوبهم من الْحَرَكَة والسكون قلت هَذَا الْكَلَام مُطلق فِي السماع يتَنَاوَل الْقسمَيْنِ

فصل في محبة الجمال

فصل فِي محبَّة الْجمال ثَبت فِي صَحِيح مُسلم عَن عبد الله بن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا يدْخل النَّار أحد فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة خَرْدَل من إِيمَان وَلَا يدْخل الْجنَّة أحد فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة خَرْدَل من كبر وَفِي رِوَايَة لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر فَقَالَ رجل إِن الرجل يحب أَن يكون ثَوْبه حسنا وَنَعله حسنا فَقَالَ إِن الله جميل يحب الْجمال الْكبر بطر الْحق وغمط النَّاس فَقَوله إِن الله جميل يحب الْجمال قد أدرج فِيهِ حسن الثِّيَاب الَّتِي هِيَ الْمَسْئُول عَنْهَا فَعلم أَن الله يحب الْجمال والجميل من اللبَاس وَيدخل فِي عُمُومه وبطريق الفحوي الْجَمِيل من كل شئ هَذَا كَقَوْلِه فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ إِن الله نظيف يحب النَّظَافَة

وَقد ثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ إِن الله طيب يحب الأطيباء وَهَذَا مِمَّا يسْتَدلّ بِهِ على التجمل فِي الْجمع والأعياد كَمَا فِي الصَّحِيح أَن عمر بن الْخطاب رأى حلَّة تبَاع فِي السُّوق فَقَالَ يَا رَسُول الله لَو اشْتريت هَذِه تلبسها فَقَالَ إِنَّمَا يلبس هَذِه من لَا خلاق لَهُ فِي الْآخِرَة وَهَذَا يُوَافقهُ فِي حسن الثِّيَاب مَا فِي السّنَن عَن ابي الْأَحْوَص الْجُشَمِي قَالَ رَآنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى أطمار فَقَالَ هَل لَك من مَال قلت نعم قَالَ من أَي المَال قلت من كل مَا

أَتَى الله من الْإِبِل وَالشَّاء قَالَ فلتر نعْمَة الله وكرامته عَلَيْك وَفِي السّنَن أَيْضا عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله يحب أَن يرى أثر نعْمَته على عَبده لَكِن هَذَا الظُّهُور لنعمة الله وَمَا فِي ذَلِك من شكره وَالله يحب أَن يشْكر وَذَلِكَ لمحبته الْجمال وَهَذَا الحَدِيث قد ضل قوم بِمَا تأولوه عَلَيْهِ وَآخَرُونَ رَأَوْهُ مُعَارضا لغيره من النُّصُوص وَلم يهتدوا للْجمع فالاولون قد يَقُولُونَ كل مَصْنُوع الرب جميل لقَوْله الَّذِي أحسن كل شئ خلقه [سُورَة السَّجْدَة 7] فَنحب كل شئ وَقد يستدلون بقول بعض الْمَشَايِخ الْمحبَّة نَار تحرق فِي الْقلب كل مَا سوى مُرَاد المحبوب والمخلوقات كلهَا مُرَاده وَهُوَ لَا يَقُوله قَائِلهمْ فَصرحَ بِإِطْلَاق الْجمال وَأَقل مَا يُصِيب هَؤُلَاءِ أَنهم يتركون الْغيرَة لله وَالنَّهْي عَن الْمُنكر والبغض فِي الله وَالْجهَاد فِي سَبيله وَإِقَامَة حُدُوده

وهم فِي ذَلِك متناقضون إِذْ لَا يتمكنون من الرِّضَا بِكُل مَوْجُود فَإِن الْمُنْكَرَات هِيَ أُمُور مضرَّة لَهُم ولغيرهم وَيبقى أحدهم مَعَ طبعة وذوقه وهواه يُنكر مَا يكره ذوقه دون مَا لَا يكره ذوقه وينسلخون عَن دين الله وَرُبمَا دخل أحدهم فِي الِاتِّحَاد والحلول الْمُطلق وَمِنْهُم من يحض الْحُلُول أَو الِاتِّحَاد بِبَعْض الْمَخْلُوقَات كالمسيح أَو عَليّ بن أبي طَالب أَو غَيرهمَا من الْمَشَايِخ والملوك والمردان فَيَقُولُونَ بحلوله فِي الصُّور الجميلة ويعبدونها وَمِنْهُم من لَا يرى ذَلِك لَكِن يتدين يحب الصُّور الجميلة من النِّسَاء الْأَجَانِب والمردان وَغير ذَلِك وَيرى هَذَا من الْجمال الَّذِي يُحِبهُ الله وَيُحِبهُ هُوَ ويلبس الْمحبَّة الطبيعية الْمُحرمَة بالمحبة الدِّينِيَّة وَيجْعَل مَا حرمه الله مِمَّا يقرب إِلَيْهِ {وَإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء} [سُورَة الْأَعْرَاف 28] وَالْآخرُونَ قَالُوا ثَبت فِي صَحِيح مُسلم عَن ابي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِن الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَإِنَّمَا ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ وَمَعْلُوم أَنه لم ينف نظر الْإِدْرَاك لَكِن نظر الْمحبَّة

وَقد قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين {وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم وَإِن يَقُولُوا تسمع لقَولهم كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة} [سُورَة المُنَافِقُونَ 4] وَقَالَ تَعَالَى {وَكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} [سُورَة مَرْيَم 74] والأثاث المَال من اللبَاس وَنَحْوه والرئي المنطر فَأخْبر ان الَّذين أهلكهم قبلهم كَانُوا أحسن صورا وأموالا لنتبين أَن ذَلِك لَا ينفع عِنْده وَلَا يعبأ بِهِ وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا فضل لعربي على عجمي وَلَا لأبيض على أسود إِلَّا بالتقوى وَفِي السّنَن عَنهُ أَنه قَالَ البذاذة من الايمان وَأَيْضًا فقد حرم علينا من لِبَاس الْحَرِير وَالذَّهَب وآنية الذَّهَب وَالْفِضَّة مَا هُوَ أعظم الْجمال فِي الدُّنْيَا وَحرم الله الْفَخر وَالْخُيَلَاء واللباس الَّذِي فِيهِ الْفَخر وَالْخُيَلَاء كإطالة الثِّيَاب

حَتَّى ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا ينظر الله يَوْم الْقِيَامَة إِلَى من جر إزَاره بطرا وَفِي الصَّحِيح عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من جر ثَوْبه خُيَلَاء لم ينظر الله إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة وَفِي الصَّحِيح أَيْضا قَالَ بَيْنَمَا رجل يجر أزاره من الْخُيَلَاء خسف بِهِ فَهُوَ يتجلجل فِي الأَرْض إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقد قَالَ تَعَالَى فِي حق قَارون {فَخرج على قومه فِي زينته} [سُورَة الْقَصَص 79] قَالُوا ثِيَاب الأرجوان وَلِهَذَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ رَآنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى ثَوْبَيْنِ معصفرين فَقَالَ إِن هَذِه من ثِيَاب

الْكفَّار فَلَا تلبسها قلت أغسلهما قَالَ احرقهما وَلِهَذَا كره الْعلمَاء الْمُحَقِّقُونَ الْأَحْمَر المشبع حمرَة كَمَا جَاءَ النَّهْي عَن الميثرة الْحَمْرَاء وَقَالَ عمر بن الْخطاب دعوا هَذِه الرَّايَات للنِّسَاء وَقد بسطنا القَوْل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي موضعهَا وَأَيْضًا فقد قَالَ الله تَعَالَى {قل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم} إِلَى قَوْله وتوبوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤمنِينَ [سُورَة النُّور 30 31] وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن ابي هُرَيْرَة العينان تزينان وزناهما النّظر وَفِي الصَّحِيح عَن جرير بن عبد الله قَالَ سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن نظر الْفجأَة فَقَالَ اصرف بَصرك

وَفِي السّنَن أَنه قَالَ لعَلي يَا عَليّ لَا تتبع النظرة النظرة فَإِنَّمَا لَك الأولى وَلَيْسَت لَك الْآخِرَة وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم زهرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا لنفتنهم فِيهِ ورزق رَبك خير وَأبقى} [سُورَة طه 131] وَقَالَ وَلَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ ازواجنا مِنْهُم وَلَا تحزن عَلَيْهِم واخفض جناحك للْمُؤْمِنين [سُورَة الْحجر 88] وَقَالَ {زين للنَّاس حب الشَّهَوَات من النِّسَاء والبنين والقناطير المقنطرة من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْخَيْل المسومة والأنعام والحرث ذَلِك مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالله عِنْده حسن المآب قل أؤنبئكم بِخَير من ذَلِكُم للَّذين اتَّقوا عِنْد رَبهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَأَزْوَاج مطهرة ورضوان من الله وَالله بَصِير بالعباد} [سُورَة آل عمرَان 13 15] وَقد قَالَ مَعَ ذمه لمذامه من هَذِه الزِّينَة {قل من حرم زِينَة الله الَّتِي أخرج لِعِبَادِهِ والطيبات من الرزق قل هِيَ للَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا خَالِصَة يَوْم الْقِيَامَة} [سُورَة الْأَعْرَاف 32]

فَنَقُول أعلم أَن مَا يصفه بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من محبَّة الْأَجْنَاس المحبوبة من الْأَعْيَان وَالصِّفَات وَالْأَفْعَال وَمَا يبغضه من ذَلِك هُوَ مثل مَا يَأْمر بِهِ من الْأَفْعَال وَينْهى عَنهُ من ذَلِك فَإِن الْحبّ والبغض هما أصل الامر والنهى وَذَلِكَ نَظِير مَا يعده على الاعمال الْحَسَنَة من الثَّوَاب ويتوعد بِهِ على الْأَعْمَال السَّيئَة من الْعقَاب فَأمره وَنَهْيه ووعده وحبه وبغضه وثوابه وعقابه كل ذَلِك من جنس وَاحِد والنصوص النَّبَوِيَّة تَأتي مُطلقَة عَامَّة من الْجَانِبَيْنِ فتتعارض فِي بعض الْأَعْيَان وَالْأَفْعَال الَّتِي تندرج فِي نُصُوص الْمَدْح والذم وَالْحب والبغض وَالْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد وَقد بسطنا الْكَلَام على مَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الْقَاعِدَة فِي غير مَوضِع لتعلقها بأصول الدّين وفروعه فَإِن من أكبر الْمسَائِل الَّتِي تتبعها مَسْأَلَة الْأَسْمَاء وَالْأَحْكَام فِي فساق اهل الْملَّة وَهل يجْتَمع فِي حق الشَّخْص الْوَاحِد الثَّوَاب وَالْعِقَاب كَمَا يَقُوله أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أم لَا يجْتَمع ذَلِك وَهل يكون الشئ الْوَاحِد محبوبا من وَجه مبغوضا من وَجه مَحْمُودًا من وَجه مذموما من وَجه كَمَا يَقُوله جُمْهُور الْخَوَارِج والمعتزلة وَهل يكون الْفِعْل الْوَاحِد مَأْمُورا بِهِ من وَجه مَنْهِيّا عَنهُ من وَجه وَقد تنَازع فِي ذَلِك أهل الْعلم من الْفُقَهَاء والمتكلمين وَغَيرهم

والتعارض بَين النُّصُوص إِنَّمَا هُوَ لتعارض المتعارض الْمُقْتَضى للحمد والذم من الصِّفَات الْقَائِمَة بِذَاتِهِ تَعَالَى وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْجِنْس مُوجبا للكفر أَو الْفِتْنَة فَأول مَسْأَلَة فرقت بَين الْأمة مَسْأَلَة الْفَاسِق الملي فأدرجته الخوراج فِي نُصُوص الْوَعيد وَالْخُلُود فِي النَّار وحكموا بِكُفْرِهِ ووافقتهم الْمُعْتَزلَة على دُخُوله فِي نُصُوص الْوَعيد وخلوده فِي النَّار لَكِن لم يحكموا بِكُفْرِهِ فَلَو كَانَ الشئ خيرا مَحْضا لم يُوجب فرقة وَلَو كَانَ شرا مَحْضا لم يخف أمره لَكِن لِاجْتِمَاع الْأَمريْنِ فِيهِ أوجب الْفِتْنَة وَكَذَلِكَ مسالة الْقدر الَّتِي هِيَ من جملَة فروع هَذَا الأَصْل فَإِنَّهُ اجْتمع فِي الْأَفْعَال الْوَاقِعَة الَّتِي نهى الله عَنْهَا أَنَّهَا مُرَادة لَهُ لكَونهَا من الموجودات وَأَنَّهَا غير محبوبة لَهُ وَلَا مرضية بل ممقوتة مبغوضة لكَونهَا من المنهيات فَقَالَ طوائف من اهل الْكَلَام الْإِرَادَة والمحبة وَالرِّضَا وَاحِدَة أَو متلازمة ثمَّ قَالَت الْقَدَرِيَّة وَالله لم يحب هَذِه الافعال وَلم يرضها فَلم يردهَا فأثبتوا وجود الكائنات بِدُونِ مَشِيئَة

وَلِهَذَا لما قَالَ غيلَان القدري لِرَبِيعَة بن عبد الرَّحْمَن يَا ربيعَة نشدتك بِاللَّه أَتَرَى الله يحب أَن يعْصى فَقَالَ لَهُ ربيعَة أفترى الله يعْصى قسرا فَكَأَنَّهُ ألقمه حجرا يَقُول لَهُ نزهته عَن محبَّة الْمعاصِي فسلبته الْإِرَادَة وَالْقُدْرَة وَجَعَلته مقهورا مقسورا وَقَالَ من عَارض الْقَدَرِيَّة بل كل مَا أَرَادَهُ فقد أحبه ورضيه ولزمهم ان يكون الْكفْر والفسوق والعصيان محبوبا لله مرضيا وَقَالُوا أَيْضا يَأْمر بِمَا لَا يُريدهُ وكل ماأمر بِهِ من الْحَسَنَات فَإِنَّهُ لم يردهُ وَرُبمَا قَالُوا وَلم يُحِبهُ وَلم يرضه إِلَّا إِذا وجد وَلَكِن أَمر بِهِ وَطَلَبه فَقيل لَهُم هَل يكون طلب وَإِرَادَة واستدعاء بِلَا إِرَادَة وَلَا محبَّة وَلَا رضَا هَذَا جمع بَين النقيضين فتحيروا فَأُولَئِك سلبوا الرب خلقه وَقدرته وإرادته وَهَؤُلَاء سلبوا محبته وَرضَاهُ وإرادته الدِّينِيَّة وَمَا يَصْحَبهُ أمره وَنَهْيه من ذَلِك فَكَمَا أَن الْأَوَّلين لم يثبتوا أَن الشَّخْص الْوَاحِد يكون مثابا معاقبا بل إِمَّا مثاب وَإِمَّا معاقبه فَهَؤُلَاءِ لم يبينوا أَن الْفِعْل الْوَاحِد يكون مرَادا من وَجه دون وَجه مرَادا غير مَحْبُوب بل إِمَّا مُرَاد مَحْبُوب وَإِمَّا غير مُرَاد وَلَا مَحْبُوب وَلم يجْعَلُوا الْإِرَادَة إِلَّا نوعا وَاحِدًا وَالتَّحْقِيق أَنه يكون مرَادا غير

مَحْبُوب وَلَا مرضى وَيكون مرَادا من وَجه دون وَجه وَيكون محبوبا مرضيا غير مُرَاد الْوُقُوع والإرادة نَوْعَانِ إِرَادَة دينية وَهِي الْمُقَارنَة الْأَمر وَالنَّهْي وَالْحب والبغض وَالرِّضَا وَالْغَضَب وَإِرَادَة كونية وَهِي الْمُقَارنَة للْقَضَاء وَالْقدر والخلق وَالْقُدْرَة وكما تفَرقُوا فِي صِفَات الْخَالِق تفَرقُوا فِي صِفَات الْمَخْلُوق فَأُولَئِك لم يثبتوا لَهُ إِلَّا قدرَة وَاحِدَة تكون قبل الْفِعْل وَهَؤُلَاء لم يثبتوا لَهُ إِلَّا قدرَة وَاحِدَة تكون مَعَ الْفِعْل أُولَئِكَ نفوا الْقُدْرَة الكونية الَّتِي بهَا يكون الْفِعْل وَهَؤُلَاء نفوا الْقُدْرَة الدِّينِيَّة الَّتِي بهَا يَأْمر الله العَبْد وينهاه وَهَذَا من أصُول تفرقهم فِي مَسْأَلَة تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وانقسموا إِلَى قدرية مَجُوسِيَّة تثبت الْأَمر وَالنَّهْي وتنفى الْقَضَاء وَالْقدر وَإِلَى قدرية مشركية شَرّ مِنْهُم تثبت الْقَضَاء وَالْقدر وَتكذب بِالْأَمر وَالنَّهْي أَو بِبَعْض ذَلِك وَإِلَى قدرية إبليسية تصدق بالأمرين لَكِن ترى ذَلِك تناقضا مُخَالف للحق وَالْحكمَة وَهَذَا شَأْن عَامَّة مَا تتعارض فِيهِ الْأَسْبَاب والدلائل تَجِد فريقا يَقُولُونَ بِهَذَا دون هَذَا وفريقا بِالْعَكْسِ وفريقا رَأَوْا الْأَمريْنِ واعتقدوا

تناقضهما فصاروا متحيرين أَو معرضين عَن التَّصْدِيق بهما جَمِيعًا أَو متناقضين مَعَ هَذَا تَارَة وَمَعَ هَذَا تَارَة وَهَذَا تَجدهُ فِي مسَائِل الْكَلَام والاعتقادات ومسائل الْإِرَادَة والعبادات كَمَسْأَلَة السماع الصوتي وَمَسْأَلَة الْكَلَام ومسأئل الصِّفَات وَكَلَام الله وَغير ذَلِك من الْمسَائِل وجماع القَوْل فِي ذَلِك أَن كل أَمريْن تَعَارضا فَلَا بُد أَن يكون أَحدهمَا راجحا أَو يَكُونَا متكافئين فَيحكم بَينهمَا بِحَسب الرجحان ويحسب التكافؤ فالعملان والعاملان إِذا امتاز كل مِنْهُمَا بِصِفَات فَإِن ترجح أَحدهمَا فَهُوَ الرَّاجِح وَإِن تكافئا سوى بَينهمَا فِي الْفضل والدرجة وَكَذَلِكَ أَسبَاب الْمصَالح والمفاسد وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّة بِأَنَّهُ يعْطى كل دَلِيل حَقه وَلَا يجوز أَن تَتَكَافَأ الْأَدِلَّة فِي نفس الْأَمر عِنْد الْجُمْهُور لَكِن تَتَكَافَأ فِي نظر النَّاظر وَأما كَون الشئ الْوَاحِد من الْوَجْه الْوَاحِد ثَابتا منتفيا فَهَذَا لَا يَقُوله عَاقل وأصل هَذَا كُله الْعدْل بالتسوية بَين المتماثلين فَإِن الله تَعَالَى يَقُول {لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ} [سُورَة الْحَدِيد 25] وَقد بسطنا القَوْل فِي ذَلِك وَبينا أَن الْعدْل جماع الدّين وَالْحق وَالْخَيْر كُله فِي غير مَوضِع وَالْعدْل الْحَقِيقِيّ قد يكون متعذرا إِمَّا عمله وَإِمَّا الْعَمَل بِهِ

لَكِن التَّمَاثُل من كل وَجه غير مُمكن أَو غير مَعْلُوم فَيكون الْوَاجِب فِي مثل ذَلِك مَا كَانَ أشبه بِالْعَدْلِ وَأقرب إِلَيْهِ وَهِي الطَّرِيقَة المثلى وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا} [سُورَة الْأَنْعَام 152] وعَلى هَذَا فَالْحق الْمَوْجُود وَهُوَ الثَّابِت الَّذِي يُقَابله الْمَنْفِيّ وَالْحق الْمَقْصُود وَهُوَ الْمَأْمُور بِهِ المحبوب الَّذِي يُقَابله المنهى عَنهُ المبغوض ثَلَاثَة أَقسَام فَإِنَّهَا فِي الْحق الْمَقْصُود إِمَّا أَمر ترجحت الْمصلحَة المحبوبة فِيهِ وَهَذَا يُؤمر بِهِ وَإِمَّا أَمر ترجحت فِيهِ الْمفْسدَة الْمَكْرُوهَة فَهَذَا ينْهَى عَنهُ وَإِمَّا أَمر اسْتَوَى فِيهِ هَذَا وَهَذَا فَهَذَا لَا يُؤمر بِهِ وَلَا ينْهَى عَنهُ وَلَا يتَرَجَّح فِيهِ الْحبّ وَلَا يتَرَجَّح فِيهِ البغض بل يكون عفوا وَمَا دون هَذَا إِن كَانَ مثل هَذَا مَوْجُودا فَإِن النَّاس يتنازعون فِي وجوده فَقيل هُوَ مَوْجُود وَقيل بل هُوَ يقدر فِي

الْفِعْل لَا وجود لَهُ بل لَا بُد من الرجحان كَمَا قيل مثل ذَلِك فِي تكافؤ الْأَدِلَّة وعَلى هَذَا فَالْأَمْر الَّذِي ترجحت فِيهِ الْمصلحَة وَأمر بِهِ غلب فِيهِ جَانب الْمحبَّة مَعَ أَن الَّذِي فِيهِ الْمفْسدَة مبغض لكنه مُرَاد فَهُوَ مُرَاد بغيض وَالْأَمر الَّذِي ترجح فِيهِ جَانب الْمصلحَة مَحْبُوب لكنه مُرَاد التّرْك مَحْبُوب فَهُوَ مَحْبُوب فِي نَفسه لَكِن لملازمته لما هُوَ بغيض وَجب أَن يُرَاد تَركه تبعا لكَرَاهَة لَازِمَة فَإِنَّهُ بغض اللَّازِم وَنفى الْمَلْزُوم فحاصله أَن المُرَاد إِرَادَة جازمة هُوَ أحد الْأَمريْنِ إِمَّا الْفِعْل وَإِمَّا التّرْك وَالْأول هُوَ الْمَأْمُور بِهِ وَالثَّانِي هُوَ المنهى عَنهُ لَكِن مَعَ هَذَا فقد يشْتَمل الْمَفْعُول على بغيض مُحْتَمل ويشتمل الْمَتْرُوك على حبيب مرفوض فَهَذَا أصل نَافِع فَهَذَا فِي الْفِعْل الْوَاحِد وَأما الْفَاعِل الْوَاحِد الَّذِي يعْمل الْحَسَنَة والسيئة مَعًا وَهُوَ وَإِن كَانَ التَّفْرِيق بَينهمَا مُمكنا لكنه هُوَ يعملهما جَمِيعًا أَو يتركهما جَمِيعًا لكَون محبته لأَحَدهمَا مستلزمة لمحبته للاخرى وبغضه لأَحَدهمَا مستلزما لبغضه لِلْأُخْرَى فَصَارَ لَا يُؤمر إِلَّا بالْحسنِ من الْفِعْلَيْنِ وَلَا ينْهَى إِلَّا عَن السئ مِنْهُمَا وَإِن لزم ترك الْحَسَنَة لَا يَنْبَغِي أَن يَأْمُرهُ فِي مثل هَذَا بِالْحَسَنَة المرجوحة فَإِنَّهُ يكون أمرا بِالسَّيِّئَةِ وَلَا ينهاه

عَن السَّيئَة المرجوحة فَإِنَّهُ يكون نهيأ عَن الْحَسَنَة الراجحة وَهَكَذَا الْمعِين يعين على الْحَسَنَة الراجحة وعَلى ترك السَّيئَة المرجوحة وَهَذَا أصل عَظِيم تدخل فِيهِ أمورا عَظِيمَة مثل الطَّاعَة لأئمة الْجور وَترك الْخُرُوج عَلَيْهِم وَغير ذَلِك من الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة وَهَكَذَا حكم الطَّائِفَة الْمُشْتَملَة أفعالها على حَسَنَات وسيئات بِمَنْزِلَة الْفَاعِل فِي ذَلِك وَبِمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْفِعْل الْوَاحِد وَالْفَاعِل الْوَاحِد تظهر أُمُور كَثِيرَة إِمَّا الْحق الْمَوْجُود وَإِمَّا أَن يكون الشئ فِي نَفسه ثَابتا ومنتفيا لَكِن كثيرا مَا تحصل الْمُقَابلَة بَين إِثْبَات عَام وَنفي عَام وَيكون الْحق فِي التَّفْصِيل وَهُوَ ثُبُوت بعض ذَلِك الْعَام وَانْتِفَاء بعضه وَهَذَا هُوَ الْغَالِب على الْمسَائِل الْكِبَار الَّتِي يتنازع فِيهَا أحزاب الْكَلَام والفلسفة وَنَحْوهم وَالدَّلِيل إِمَّا أَن يكون دَلِيلا مَعْلُوما فَهَذَا لَا يكون إِلَّا حَقًا لَكِن كثيرا مَا يظنّ الْإِنْسَان أَن الشئ مَعْلُوم وَلَا يكون مَعْلُوما وَحِينَئِذٍ فَإِذا ظن ظان تعَارض الْأَدِلَّة الْمَعْلُومَة كَانَ غالطا فِي تعارضها بل يكون أحد الْأَمريْنِ لَازِما إِمَّا كلهَا أَو بَعْضهَا غير مَعْلُوم وَإِمَّا أَن مُوجب الدَّلِيل حق من غير تعَارض وَإِن ظَنّه الظَّان تَعَارضا فَالْحق الْمَوْجُود لَا ينافى الْحق الْمَوْجُود بل يكون مِنْهُمَا مَوْجُودا بِخِلَاف الْحق الْمَقْصُود فَإِنَّهُ قد

يقْصد الضدان لما فِي كل مِنْهُمَا من الْمصَالح الْمَقْصُودَة لَكِن لَا يُوجد الضدان وَإِن كَانَ الدَّلِيل مغلبا للظن اعْتقد فِيهِ مُوجبه وَإِذا تَعَارَضَت هَذِه الْأَدِلَّة رجح راجحها وَسوى بَين متكافيها إِذا تقرر ذَلِك فَنَقُول قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله جميل يحب الْجمال كَقَوْلِه للَّذي علمه الدُّعَاء اللَّهُمَّ إِنَّك عَفْو تحب الْعَفو فأعف عني وَقَوله تَعَالَى {إِن الله يحب التوابين وَيُحب المتطهرين} [سُورَة الْبَقَرَة 222] وَإِن الله نظيف يحب النَّظَافَة فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذا كَانَ يحب الْعَفو لم يُوجب هَذَا أَلا يكون فِي بعض أَنْوَاع الْعَفو من الْمعَارض الرَّاجِح مَا يُعَارض مَا فِيهِ من محبَّة الْعَفو وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ يَنْبَغِي أَن يعْفُو عَن كل محرم فَلَا يُعَاقب مُشْركًا وَلَا فَاجِرًا لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة وَهَذَا خلاف الْوَاقِع ولوجب أَن يسْتَحبّ لنا الْعَفو عَن كل كَافِر وَفَاجِر فَلَا نعاقب أحدا على شئ وَهَذَا خلاف مَا أمرنَا بِهِ وَخلاف مَا هُوَ صَلَاح لنا وَنَافِع فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَكَذَلِكَ محبته للمتطهرين ومحبته للنظافة لَا تمنع حُصُول الْمعَارض الرَّاجِح مثل أَن يكون المَاء مُحْتَاجا إِلَيْهِ للعطش فمحبته لسقي العطشان راجحة على محبته للطَّهَارَة والنظافة

وَكَذَلِكَ سَائِر مَا يتزاحم من الْوَاجِبَات والمستحبات فَإِنَّهَا جَمِيعهَا محبوبة لله وَعند التزاحم يقدم أحبها إِلَى الله والتقرب إِلَيْهِ بالفرائض أحب إِلَيْهِ من التَّقَرُّب إِلَيْهِ بالنوافل وَبَعض الْوَاجِبَات والمستحبات إِلَيْهِ من بعض وَكَذَلِكَ إِذا تعَارض الْمَأْمُور والمحظور فقد تعَارض حَبِيبه وبغيضه فَيقدم أعظمهما فِي ذَلِك فَإِن كَانَ محبته لهَذَا أعظم من بغضه لهَذَا قدم وَإِن كَانَ بغضه لهَذَا أعظم من حبه لهَذَا قدم كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر قل فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} [سُورَة الْبَقَرَة 219] وعَلى هَذَا اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَة بترجيح خير الخيرين وَدفع شَرّ الشرين وترجيح الرَّاجِح من الْخَيْر وَالشَّر المجتمعين وَالله سُبْحَانَهُ يحب صِفَات الْكَمَال مثل الْعلم وَالْقُدْرَة وَالرَّحْمَة وَنَحْو ذَلِك فَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف وَفِي كل خير وَفِي الصَّحِيح عَنهُ انه قَالَ لَا يرحم الله من لَا يرحم النَّاس

وَفِي الصَّحِيح أَيْضا عَنهُ إِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء وَفِي السّنَن حَدِيث ثَابت عَنهُ الراحمون يرحمهم الرَّحْمَن ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء وَمَعَ هَذَا فقد قَالَ تَعَالَى فِي حد الزَّانِي والزانية {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} [سُورَة النُّور 2] وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} [سُورَة التَّوْبَة 73] وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة من رَحْمَة الله بعباده فَإِن الله إِنَّمَا أرسل مُحَمَّدًا رَحْمَة للْعَالمين وَهُوَ سُبْحَانَهُ أرْحم بعباده من الوالدة بِوَلَدِهَا لَكِن قد تكون الرَّحْمَة الْمَطْلُوبَة لَا تحصل إِلَّا بِنَوْع من ألم وَشدَّة تلْحق بعض النُّفُوس كَمَا ورد فِي الْأَثر إِذا قَالُوا للْمَرِيض اللَّهُمَّ ارحمه يَقُول الله كَيفَ أرحمه من شئ بِهِ أرحمه وَكَذَلِكَ كَون الْفِعْل عفوا وصف يَقْتَضِي محبَّة الله لَهُ فَإِذا عَارضه

مَا هُوَ احب إِلَى الله مِنْهُ اَوْ اشْتَمَل على بغض الله لَهُ أعظم من محبته لذَلِك الْعَفو قدم الرَّاجِح فكون الشئ جميلا يَقْتَضِي محبَّة الله لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أحسن كل شئ خلقه إِذْ كل مَوْجُود فَلَا بُد فِيهِ من وَجه الْحِكْمَة الَّتِي خلقه الله لَهَا وَمن ذَلِك الْوَجْه يكون حسنا محبوبا وَإِن كَانَ من وَجه آخر يكون مستلزما شَيْئا يُحِبهُ الله ويرضاه أعظم مِمَّا فِيهِ نَفسه من البغض فَهَذَا مَوْجُود فِينَا فقد يفعل الشَّخْص الْفِعْل كشرب الدَّوَاء الكرية الَّذِي بغضه لَهُ أعظم من حبه لَهُ وَهَذَا لما تضمن مَا هُوَ محبته لَهُ أعظم من بغضه للدواء أَرَادَهُ وشاءه وَفعله فَأَرَادَ بالإرادة الجازمة الْمُقَارنَة للقدرة فعلا فِيهِ مِمَّا يبغضه أَكثر مِمَّا يُحِبهُ لكَونه مستلزما لدفع مَا هُوَ إِلَيْهِ أبْغض ولحصول مَا محبته لَهُ أعظم من بغضه لهَذَا فَإِن بغضه للمرض ومحبته للعافية أعظم من بغضه للدواء فالأعيان الَّتِي نبغضها كالشياطين والكافرين وَكَذَلِكَ الْأَفْعَال الَّتِي نبغضها من الْكفْر والفسوق والعصيان خلقهَا وَأَرَادَ وجودهَا لما تستلزمه من الْحِكْمَة الَّتِي يُحِبهَا وَلما فِي وجودهَا من دفع مَا هُوَ إِلَيْهِ أبْغض فَهِيَ مُرَادة لَهُ وَهِي مبغضة لَهُ مسخوطة كَمَا بَينا هَذَا فِي غير هَذَا الْموضع وَأما الْجمال الْخَاص فَهُوَ سُبْحَانَهُ جميل يحب الْجمال وَالْجمال الَّذِي

لِلْخلقِ من الْعلم وَالْإِيمَان وَالتَّقوى أعظم من الْجمال الَّذِي لِلْخلقِ وَهُوَ الصُّورَة الظَّاهِرَة وَكَذَلِكَ الْجَمِيل من اللبَاس الظَّاهِر فلباس التَّقْوَى أعظم واكمل وَهُوَ يحب الْجمال الَّذِي للباس التَّقْوَى أعظم مِمَّا يحب الْجمال الَّذِي للباس الرياش وَيُحب الْجمال لِلْخلقِ أعظم مِمَّا يحب الْجمال الَّذِي لِلْخلقِ كَمَا ثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ أكمل الْمُؤمنِينَ إِيمَانًا أحْسنهم خلقا وَفِي صَحِيح مُسلم عَن النواس بن سمْعَان قَالَ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْبر وَالْإِثْم فَقَالَ الْبر حسن الْخلق وَالْإِثْم مَا حاك فِي نَفسك وكرهت أَن يطلع عَلَيْهِ النَّاس وَفِي السّنَن عَنهُ انه قَالَ أثقل مَا يوضع فِي الْمِيزَان الْخلق الْحسن

وروى عَنهُ أَنه قَالَ لأم سَلمَة يَا ام سَلمَة ذهب حسن الْخلق بِخَير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمن الْمَعْلُوم أَن أحب خلقه إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فَإِذا كَانَ أكملهم إِيمَانًا أحْسنهم خلقا كَانَ أعظمهم محبَّة لَهُ أحْسنهم خلقا والخلق الدّين كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} [سُورَة الْقَلَم 4] قَالَ ابْن عَبَّاس على دين عَظِيم وَبِذَلِك فسره سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأحمد بن حَنْبَل وَغَيرهمَا كَمَا قد بَيناهُ فِي غير هَذَا الْموضع وَهُوَ سُبْحَانَهُ يبغض الْفَوَاحِش وَلَا يُحِبهَا وَلَا يَأْمر بهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء} [سُورَة الْأَعْرَاف 28]

فَإِذا كَانَ الْجمال متضمنا لعدم مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ أَو لوُجُوده مَا هُوَ أبْغض لَهُ لزم من ذَلِك فَوَات مَا فِي الْجمال المحبوب فَإِذا كَانَ فِي جمال الثِّيَاب بطر وفخر وخيلاء وسرف فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يحب كل مختال فخور وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين إِذا أَنْفقُوا لم يُسْرِفُوا وَلم يقترُوا} [سُورَة الْفرْقَان 67] بل هُوَ يبغض البطر الفخور المختال والمسرف وَقَالَ إِن المسرفين هم أَصْحَاب النَّار [سُورَة غَافِر 43] فَلهَذَا قَالَ ص لَا ينظر الله يَوْم الْقِيَامَة إِلَى من جر أزاره خُيَلَاء وبطرا فَإِنَّهُ ببغضه فَلَا ينظر إِلَيْهِ وَإِن كَانَ فِيهِ جمال فَإِن ذَلِك غرق فِي جَانب مَا يبغضه الله من الْخُيَلَاء والبطر وَكَذَلِكَ الْحَرِير فِيهِ من السَّرف وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء مَا يبغضه الله وينافي التَّقْوَى الَّتِي هِيَ مَحْبُوب الله كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ أَنه نزع فروج الْحَرِير وَقَالَ لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتقين

وَكَذَلِكَ سَائِر مَا حرمه الله وَكَرِهَهُ مِمَّا فِيهِ جمال فَإِن ذَلِك لاشْتِمَاله على مَكْرُوه ألحق على مَا فِيهِ مِمَّا يبغضه الله أعظم مِمَّا فِيهِ من محبوبه ولتفويته مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ الصُّور الجميلة من الرِّجَال وَالنِّسَاء فَإِن أحدهم إِذا كَانَ خلقه سَيِّئًا بِأَن يكون فَاجِرًا أَو كَافِرًا مُعْلنا أَو منافقا كَانَ البغض أَو المقت لخلقه وَدينه مستعليا على مَا فِيهِ من الْجمال كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم [سُورَة المُنَافِقُونَ 4] وَقَالَ وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا [سُورَة الْبَقَرَة 204] فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا أعجبه صورهم الظَّاهِرَة لِلْبَصَرِ وأقوالهم الظَّاهِرَة للسمع لما فِيهِ من الْأَمر المعجب لَكِن لما كَانَت حقائق أَخْلَاقهم الَّتِي هِيَ أملك بهم مُشْتَمِلَة على مَا هُوَ أبْغض الْأَشْيَاء وأمقتها إِلَيْهِ لم يَنْفَعهُمْ حسن الصُّورَة وَالْكَلَام وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله لَا ينظر إِلَى صوركُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالكُم وَإِنَّمَا ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ وَأَعْمَالكُمْ

وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ إِذا كَانَ فَاجِرًا فَإِن ذَلِك يفوت حسن الْخلق وَالتَّقوى الَّتِي هِيَ أحب إِلَى الله من ذَلِك وَيُوجب بغض الله للفاحشة ولصاحبها ولسئ الْخلق ومقته وغضبه عَلَيْهِ مَا هُوَ أعظم بِكَثِير مِمَّا فِيهِ من الْجمال الْمُقْتَضى للمحبة وَكَذَلِكَ الْقُوَّة وَإِن كَانَت من صِفَات الْكَمَال الَّتِي يُحِبهَا الله فَإِذا كَانَت الْإِعَانَة على الْكفْر والفجور الَّذِي بغض الله لَهُ ومقته عَلَيْهِ وتفويته لما يُحِبهُ من الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح أعظم بِكَثِير من مُجَرّد مَا فِي الْقُوَّة من الامر المحبوب ترجح جَانب البغض بِقدر ذَلِك فَإِذا كَانَت الْقُوَّة فِي الْإِيمَان كَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف وَمن الْمَعْلُوم أَن الله يحب الْحَسَنَات وَأَهْلهَا وَيبغض السَّيِّئَات وَأَهْلهَا فَهُوَ يحب كل مَا أَمر بِهِ أَمر إِيجَاب أَو أَمر اسْتِحْبَاب وكل مَا حَمده وَأثْنى عَلَيْهِ من الصِّفَات مثل الْعلم وَالْإِيمَان والصدق وَالْعدْل وَالتَّقوى وَالْإِحْسَان وَغير ذَلِك وَيُحب المقسطين وَيُحب التوابين وَيُحب المتطهرين وَيُحب الْمُحْسِنِينَ وَالَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص وَيبغض الْكفْر وأنواعه وَالظُّلم وَالْكذب وَالْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَلَا أحد أغير مِنْهُ وكل مَا حرمه يبغضه

فَإِذا كَانَ مَعَ الْجمال أَو غَيره مِمَّا فِيهِ وَجه محبَّة مَا هُوَ بغيض من الْفَوَاحِش أَو الْكَذِب أَو الظُّلم أَو غير ذَلِك كَمَا ذكره فِي قَوْله {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} [سُورَة الْأَعْرَاف 33] فَإِن ذَلِك يفوت مَا هُوَ أحب إِلَى الله من الْجمال بِكَثِير وَيُوجب من مقت الله وبغضه مَا هُوَ أعظم بِكَثِير مِمَّا لمُجَرّد الْجمال من الْحبّ وَيُوجب النَّهْي عَمَّا يُوجب هَذِه السَّيِّئَات الْكَثِيرَة ويفوت الْجمال الْأَفْضَل وَهُوَ كَمَال الْخلق وَحسنه وَمَا فِي ذَلِك من الْحَسَنَات وَكَانَ مَا فِي ذَلِك من المبغضات وَترك المحبوبات راجحا على الْحبّ الَّذِي للجمال وعَلى هَذَا يجْرِي الْأَمر على محبَّة الْإِنْسَان للشئ الْجَمِيل من الصُّورَة وَالنَّظَر إِلَيْهِ وَمَا يدْخل فِي ذَلِك من قُوَّة الْحبّ وَالزِّيَادَة فِيهِ الَّتِي تسمى الْعِشْق فَإِن ذَلِك إِذا خلا عَن الْمفْسدَة الراجحة مثل أَن يحب الْإِنْسَان امْرَأَته وجاريته حبا معتدلا أَو يحب مَا لَا فتْنَة فِيهِ كحبه للجميل من الدَّوَابّ وَالثيَاب وَيُحب وَلَده وأباه وَأمه وَنَحْو ذَلِك من محبَّة الرَّحِم كنوع من الْجمال الْحبّ المعتدل فَهَذَا حسن

أما إِذا أحب النِّسَاء الاجانب أَو المردان وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا الْحبّ مُتَضَمّن للمحبة الحيوانية وَلَيْسَ فِي ذَلِك مُجَرّد محبَّة الْجمال والمحبة الحيوانية مِمَّا يبغضها الله ويمقتها وتوابعها منهى عَنْهَا مَعَ ذَلِك سَوَاء كَانَ مَعَ الْمحبَّة فعل الْفَاحِشَة الْكُبْرَى أَو كَانَت للتمتع بِالنّظرِ وَالسَّمَاع وَغير ذَلِك فالتمتع مُقَدمَات الْوَطْء فَإِن كَانَ الْوَطْء حَلَالا حلت مقدماته وَإِن كَانَ الْوَطْء حَرَامًا حرمت مقدماته وَإِن كَانَ فِي ذَلِك رفض للجمال كَمَا فِيهِ رفض للذة الْوَطْء الْمحرم فَإِن مَا فِي ذَلِك مِمَّا يبغضه الله ويمقت عَلَيْهِ أعظم مِمَّا فِي مُجَرّد الْجمال من الْحبّ المتضمن وَذَلِكَ مُتَضَمّن لتفويت محاب الله من التَّقْوَى والعفاف والإقبال على مصَالح الدّين وَالدُّنْيَا أعظم بِكَثِير مِمَّا فِيهَا من مُجَرّد حب الْجمال فَلهَذَا كَانَت هَذِه مذمومة مَنْهِيّا عَنْهَا حَتَّى حرم الشَّارِع النّظر فِي ذَلِك بلذة وشهوة وَبِغير لَذَّة وشهوة إِذا خَافَ النَّاظر الْفِتْنَة والفتنة مخوفة فِي النّظر إِلَى الْأَجْنَبِيَّة الْحَسَنَة والأمرد الْحسن فِي أحد قولي الْعلمَاء الَّذِي يُصَحِّحهُ كثير من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَأحمد وَغَيرهمَا وَهَذَا قد يخْتَلف بأختلاف الْعَادَات والطبائع وَأما النّظر للْحَاجة من غير شَهْوَة وَلَا لَذَّة فَيجوز وَلِهَذَا لم يَأْمر الله وَلَا رَسُوله وَلَا أهل الْعلم وَالْإِيمَان بعشق الصُّور الجميلة

وَلَا أثنوا على مَا كَانَ كَذَلِك وَكَذَلِكَ الْعُقَلَاء من جَمِيع الْأُمَم وَلَكِن طَائِفَة من المتفلسفة والمتصوفة تَأمر بذلك وتثنى عَلَيْهِ لما فِيهِ زَعَمُوا من إصْلَاح النَّفس ورياضتها وتهذيب الْأَخْلَاق واكتساب الصِّفَات المحمودة من السماحة والشجاعة وَالْعلم والفصاحة والاختيال وَنَحْو ذَلِك من الْأُمُور حَتَّى أَن طَائِفَة من فلاسفة الرّوم وَالْفرس وَمن اتبعهم من الْعَرَب تَأمر بِهِ وَكَذَلِكَ طَائِفَة من المتصوفة حَتَّى يَقُول أحدهم يَنْبَغِي للمريد أَن يتَّخذ لَهُ صُورَة يجْتَمع قلبه عَلَيْهَا ثمَّ ينْتَقل مِنْهَا إِلَى الله وَرُبمَا قَالُوا إِنَّهُم يشْهدُونَ الله فِي تِلْكَ الصُّورَة وَيَقُولُونَ هَذِه مظَاهر الْجمال ويتأولون قَوْله ص إِن الله جميل يحب الْجمال على غير تَأْوِيله فَهَؤُلَاءِ وأمثالهم مِمَّن يدْخل فِي ذَلِك يَزْعمُونَ أَن طريقهم مُوَافق لطريق الْعقل وَالدّين والخلق وَإِن اندرج فِي ذَلِك من الْأُمُور الْفَاحِشَة مَا اندرج وَهَؤُلَاء لَهُم نصيب من قَوْله تَعَالَى {وَإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء} [سُورَة الْأَعْرَاف 28] لَكِن الْعَرَب الَّذين كَانُوا سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة إِنَّمَا كَانَت فاحشتهم الَّتِي قَالُوا فِيهَا مَا قَالُوا طوافهم بِالْبَيْتِ عُرَاة لاعتقادهم أَن ثِيَابهمْ الَّتِي

عصوا الله فِيهَا لَا تصلح أَن يعبد الله فِيهَا فَكَانُوا ينزهون عبَادَة الله عَن ملامسة ثِيَابهمْ فيقعون فِي الْفَاحِشَة الَّتِي هِيَ كشف عَوْرَاتهمْ وَأما هَؤُلَاءِ فَأَمرهمْ أجل وَأعظم إِذْ غَايَة مَا كَانَ أُولَئِكَ يَفْعَلُونَ طواف الرِّجَال وَالنِّسَاء عُرَاة مختلطين حَتَّى كَانَت الْمَرْأَة مِنْهُم تَقول ... الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله وَمَا بدا مِنْهُ فَلَا أحله ... وَلم يكن ذَلِك الِاخْتِلَاط والاجتماع إِلَّا فِي عبَادَة ظَاهِرَة لَا يَتَأَتَّى فِيهَا فعل الْفَاحِشَة الْكُبْرَى وَلم يقصدوا بالتعري إِلَّا التنزة من لِبَاس الذُّنُوب بزعمهم فَالَّذِينَ يَجْتَمعُونَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والمردان لسَمَاع المكاء والتصدية ويطفئون المصابيح حَتَّى لَا يرى أحدهم الآخر حَتَّى اجْتَمعُوا على غناء وزنا ومطاعم خبيثة وَجعلُوا ذَلِك عبَادَة فَهَؤُلَاءِ شَرّ من أُولَئِكَ بِلَا ريب فَأن هَؤُلَاءِ فتحُوا أَبْوَاب جَهَنَّم كَمَا روى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أَكثر

مَا يدْخل النَّاس النَّار فَقَالَ الأجوفان الْفَم والفرج قَالَ التِّرْمِذِيّ حسن صَحِيح وَكَذَلِكَ روى عَنهُ أَنه قَالَ أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم شهوات الغي فِي بطونكم وفروجكم ومضلات الْفِتَن وَفِي الصَّحِيح عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ حجبت النَّار بالشهوات وحجبت الْجنَّة بالمكاره وَفِي رِوَايَة مُسلم حفت مَكَان حجبت وَإِذا كَانَت النَّار محجوبة ومحفوفة بالشهوات لم يدْخل النَّار إِلَّا بهَا وَإِذا كَانَت الْجنَّة محجوبة ومحفوفة بالمكاره لم يدْخل الْجنَّة إِلَّا بهَا

وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن سهل بن سعد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من يضمن لي مَا بَين لحييْهِ وَمَا بَين رجلَيْهِ أضمن لَهُ الْجنَّة وَمَا بَين لحييْهِ يتَنَاوَل الْكَلَام وَالطَّعَام كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَأبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلْيقل خيرا أَو ليصمت فَبين ص أَنه من ضمن لَهُ هذَيْن ضمن لَهُ الْجنَّة وَهَذَا يَقْتَضِي أَن من هذَيْن يدْخل النَّار وَلِهَذَا حرم الله الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَحرم أَيْضا انتهاك الْأَعْرَاض وَجعل فِي الْقَذْف بالفاحشة من الْعقُوبَة الْمقدرَة وَهِي حد الْقَذْف ثَمَانِينَ جلدَة وَبَين ص أَن الزِّنَا من الْكَبَائِر وَأَن قذف الْمُحْصنَات الْغَافِلَات من الْكَبَائِر وَهُوَ وَهُوَ من نوع الْكَبَائِر إِذْ لم يَأْتِ عَلَيْهِ

الْقَاذِف بأَرْبعَة شُهَدَاء وَإِن كَانَ قد وَقع فَإِنَّهُ أظهر مَا يحب الله إخفاؤه كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين يحبونَ أَن تشيع الْفَاحِشَة فِي الَّذين آمنُوا لَهُم عَذَاب أَلِيم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} [سُورَة النُّور 19] وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل أمتِي معافى إِلَّا المجاهرين وَإِن من المجاهرة أَن يعْمل الرجل بِاللَّيْلِ عملا ثمَّ يصبح وَقد ستره الله عَلَيْهِ فَيَقُول يَا فلَان عملت البارحة كَذَا وَكَذَا بَات يستره ربه وَيُصْبِح يكْشف ستره وَقَالَ من ابتلى من هَذِه القاذورة بشئ فليستتر بستر الله فَإِنَّهُ من يُبْدِي لنا صفحته نقم عَلَيْهِ كتاب الله وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن صَفْوَان بن مُحرز أَن رجلا سَأَلَ ابْن عمر كَيفَ سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي النَّجْوَى قَالَ يدنو أحدكُم من ربه حَتَّى يضع كنفه عَلَيْهِ فَيَقُول عملت كَذَا وَكَذَا فَيَقُول نعم

وَيَقُول عملت كَذَا وَكَذَا فَيَقُول نعم فيقرره ثمَّ يَقُول سترتها عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنا أغفرها لَك الْيَوْم وَلِهَذَا يكثر وُقُوع النَّاس فِي أحد هذَيْن الذنبين فَمن النَّاس من يبتلى بالفاحشة وَإِن كَانَ ممسكا عَن الْكَلَام وَمن النَّاس من يَبْتَلِي بالْكلَام والاعتداء على غَيره بِلِسَانِهِ وَإِن كَانَ عفيفا عَن الْفَاحِشَة وَأَيْضًا فَإِن من الْكَلَام المنهى عَنهُ الْخَوْض فِي الدّين بالبدع والضلالات مَعَ تضمنه لشَهْوَة الطَّعَام وَمَا بَين الفرجين يتَضَمَّن أقوى الشَّهَوَات وَذَلِكَ من الِاسْتِمْتَاع بالخلاق فِي الدُّنْيَا كَمَا جمع الله تَعَالَى بَينهمَا بقوله فَاسْتَمعُوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كَمَا استمتع الَّذين من قبلكُمْ بخلاقهم وخضتم كَالَّذي خَاضُوا [سُورَة التَّوْبَة 69] الأول يتَضَمَّن الشُّبُهَات وَالثَّانِي يتَضَمَّن الشَّهَوَات الأول يتَضَمَّن الدّين الْفَاسِد وَالثَّانِي يتَضَمَّن الدُّنْيَا الْفَاجِرَة

وَكَانَ السّلف يحذرون من هذَيْن النَّوْعَيْنِ من المبتدع فِي دينه والفاجر فِي دُنْيَاهُ كل من هذَيْن النَّوْعَيْنِ وَإِن لم يكن كفرا مَحْضا فَهَذَا من الذُّنُوب والسيئات الَّتِي تقع من أهل الْقبْلَة وجنس الْبدع وَإِن كَانَ شرا لَكِن الْفُجُور شَرّ من وَجه آخر وَذَلِكَ أَن الْفَاجِر الْمُؤمن لَا يَجْعَل الْفُجُور شرا من الْوَجْه الآخر الَّذِي هُوَ حرَام مَحْض لَكِن مَقْرُونا بأعتقاده لتحريمه وَتلك حَسَنَة فِي أصل الِاعْتِقَاد وَأما المبتدع فَلَا بُد ان تشْتَمل بدعته على حق وباطل لَكِن يعْتَقد ان باطلها حق أَيْضا فَفِيهِ من الْحسن مَا لَيْسَ فِي الْفُجُور وَمن السئ مَا لَيْسَ فِي الْفُجُور وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ فَمن خلص من الشَّهَوَات الْمُحرمَة والشهوات المبتدعة وَجَبت لَهُ الْجنَّة وَهَذِه هِيَ الثَّلَاثَة الْكَلَام المنهى عَنهُ وَالطَّعَام المنهى عَنهُ وَالنِّكَاح المنهى عَنهُ فَإِذا اقْترن بِهَذِهِ الْكَبَائِر استحلالها كَانَ ذَلِك أمرا فَكيف إِذا جعلت طَاعَة وقربة وعقلا ودينا وَهَؤُلَاء هم الَّذين يسْتَحقُّونَ عُقُوبَة أمثالهم من الْأُمَم كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه يكون فِي هَذِه الْأمة من يمسخ قردة وَخَنَازِير وكما روى أَنه سَيكون فِيهَا خسف وَقذف ومسخ وَقَالَ بعض السّلف فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد}

[سُورَة هود 83] أَي من ظالمي هَذِه الْأمة وَفِي ذَلِك من الْأَحَادِيث مَا يضيق هَذَا الْموضع عَن ذكره وَفِي عامتها يذكر استحلالهم لَهَا وأصل الضلال والغي من هَؤُلَاءِ الَّذين يستحسنون عشق الصُّور ويحمدونه ويأمرون بِهِ وَإِن قيدوه مَعَ ذَلِك بالعفة أَن الْمحبَّة هِيَ أصل كل حَرَكَة فِي الْعَالم فَالنَّفْس إِذا لم يكن فِيهَا حَرَكَة وَلَا هِيَ قَوِيَّة الهمة والإرادة حَتَّى تحصل لَهَا محبَّة شَدِيدَة كَانَت تِلْكَ المنهيات عَنْهَا هِيَ أصُول الشَّرّ وَهِي الَّتِي إِذا ظَهرت قَامَت السَّاعَة كَمَا فِي الصَّحِيح عَن أنس أَنه قَالَ لأحدثنكم حَدِيثا لَا يحدثكمونه أحد بعدِي سمعته من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم وَيظْهر الْجَهْل وَيشْرب الْخمر وَيظْهر الزِّنَا ويقل الرِّجَال وتكثر النِّسَاء حَتَّى يكون لخمسين امْرَأَة قيم وَاحِد

فَمن ظُهُور الْجَهْل ظُهُور الْكَلَام فِي الدّين بِغَيْر علم وَهُوَ الْكَلَام بِغَيْر سُلْطَان من الله وسلطان الله كِتَابه وَمن ظُهُور الزِّنَا ظُهُور اللواط وَإِن كَانَ لَهُ اسْم يَخُصُّهُ فَهُوَ شَرّ نَوْعي الزِّنَا وَلكَون ظُهُور شهوات الغي الْبَطن والفرج هِيَ أغلب مَا يدْخل النَّاس النَّار كَمَا ذكر ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا وَهُوَ مُؤمن وَالتَّوْبَة معروضة بعد وَالسَّرِقَة بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ أعظم مَقْصُود الْأكل وَلِهَذَا يعبر عَن اخذه بِالْأَكْلِ كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [سُورَة الْبَقَرَة 188] وَهَذِه الثَّلَاثَة هِيَ الَّتِي يعْقد الْفُقَهَاء فِيهَا أَبْوَاب الْحُدُود بَاب حد الزِّنَا بَاب حد السّرقَة بَاب حد شرب الْخمر وَرَابِعهَا بَاب حد الْقَذْف مندرجة فِيمَا بَين لحييْهِ وَبَين رجلَيْهِ

وَقد روى هَذَا الحَدِيث البُخَارِيّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَزْنِي العَبْد حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشرب وَهُوَ مُؤمن وَلَا يقتل وَهُوَ مُؤمن قَالَ عِكْرِمَة قلت لِابْنِ عَبَّاس كَيفَ ينْزع الْإِيمَان مِنْهُ قَالَ هَكَذَا وَشَبك بَين أَصَابِعه ثمَّ أخرجهَا فَإِن تَابَ عَاد إِلَيْهِ هَكَذَا وَشَبك بَين أَصَابِعه فَإِذا اقْترن بِهَذِهِ الْكَبَائِر تِلْكَ الْمحبَّة فِي نفس صَاحبهَا فَإِنَّهَا توجب حركتها وَقُوَّة إرادتها فيعطي من المَال مَا لم يكن يُعْطِيهِ وَيقدم على مخاوف لم يكن يقدم عَلَيْهَا ويحتال وَيُدبر مَا لم يكن يحتاله ويدبره قبل ذَلِك وَيصير والها من التفكر وَالنَّظَر مَا لم يكن قبل ذَلِك فَلَمَّا رَأَوْا مَا فِيهِ من هَذِه الْأُمُور الَّتِي هِيَ من جنس المحمودات حمدوه بذلك وَهَذَا من جنس من حمد الْخمر لما فِيهَا من الشجَاعَة وَالْكَرم وَالسُّرُور وَنَحْو ذَلِك

وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ كلهم لحظوا مَا فِيهَا من جنس المحبوب وأغفلوا مَا تتضمنه من جنس المذموم فَإِن الَّذِي يورثه الْعِشْق من نقص الْعقل وَالْعلم وَفَسَاد الْخلق وَالدّين والاشتغال عَن مصَالح الدّين وَالدُّنْيَا أَضْعَاف مَا يتضمنه من جنس الْمَحْمُود وأصدق شَاهد على ذَلِك مَا يعرف من أَحْوَال الْأُمَم وَسَمَاع أَخْبَار النَّاس فِي ذَلِك فَهُوَ يُغني عَن مُعَاينَة ذَلِك وتجريبه وَمن جرب ذَلِك أَو عاينه اعْتبر بِمَا فِيهِ كِفَايَة فَلم يُوجد قطّ عشق إِلَّا وضرره أعظم من منفعَته وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي رسَالَته وَمن أصعب الْآفَات فِي هَذِه الطَّرِيقَة صُحْبَة الْأَحْدَاث وَمن ابتلاه الله بشئ من ذَلِك فبإجماع الشُّيُوخ هَذَا عبد أهانه الله وخذله بل عَن نَفسه شغله وَلَو لِأَلف الف كَرَامَة أَهله وهب أَنه بلغ رُتْبَة الشُّهَدَاء لما فِي الْخَبَر من التَّلْوِيح بذلك أَلَيْسَ قد شغل ذَلِك الْقلب

بمخلوق وأصعب من ذَلِك تهوين ذَلِك على الْقلب حَتَّى يعد ذَلِك يَسِيرا وَقد قَالَ تَعَالَى {وتحسبونه هينا وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم} [سُورَة النُّور 15] وَهَذَا الوَاسِطِيّ رَحمَه الله يَقُول إِذا أَرَادَ الله هوان عبد أَلْقَاهُ إِلَى هَؤُلَاءِ الأنتان والجيف وَقَالَ سَمِعت أَبَا عبد الله الصُّوفِي يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن أَحْمد النجار يَقُول سَمِعت أَبَا عبد الله الحصري يَقُول سَمِعت فتحا الْموصِلِي يَقُول صَحِبت ثَلَاثِينَ شَيخا كَانُوا يعدون من الابدال فكلهم أوصوني عِنْد فراقي إيَّاهُم وَقَالُوا لي اتَّقِ معاشرة الاحداث ومخالطتهم وَمن ارْتقى فِي هَذَا الْبَاب عَن حَال الْفسق وَأَشَارَ إِلَى أَن ذَلِك من بلايا الْأَرْوَاح وَأَنه لَا يضر فَمَا قَالُوهُ من وساوس الْقَائِلين

بِالسَّمَاعِ وإيراد حكايات عَن بعض الشُّيُوخ كَانَ الأولى بهم إسبال السّتْر على هناتهم وآفاتهم فَذَلِك نَظِير الشّرك وقرين الْكفْر فليحذر المريد من مجالسة الْأَحْدَاث ومخالطتهم فَإِن الْيَسِير مِنْهُ فتح بَاب الخذلان وبدء حَال الهجران ونعوذ بِاللَّه من قَضَاء السوء وَهنا أصل عَظِيم نَافِع يجب اعْتِبَاره وَهُوَ ان الْأُمُور المذمومة فِي الشَّرِيعَة كَمَا ذَكرْنَاهُ هُوَ مَا ترجح فَسَاده على صَلَاحه كَمَا أَن الْأُمُور المحمودة مَا ترجح صَلَاحه على فَسَاده فالحسنات تغلب فِيهَا الْمصَالح والسيئات تغلب فِيهَا الْمَفَاسِد والحسنات دَرَجَات بَعْضهَا فَوق بعض والسيئات بَعْضهَا أكبر من بعض فَكَمَا أَن أهل الْحَسَنَات ينقسمون إِلَى الْأَبْرَار الْمُقْتَصِدِينَ والسابقين المقربين فَأهل السَّيِّئَات ينقسمون إِلَى الْفجار الظَّالِمين وَالْكفَّار المكذبين وكل من هَؤُلَاءِ هم دَرَجَات عِنْد الله وَمن الْمَعْلُوم أَن الْحَسَنَات كلما كَانَت أعظم كَانَ صَاحبهَا أفضل فَإِذا انْتقل الرجل من حَسَنَة إِلَى أحسن مِنْهَا كَانَ فِي مزِيد التَّقْرِيب وَإِن

انْتقل إِلَى مَا هُوَ دونهَا كَانَ فِي التَّأَخُّر وَالرُّجُوع وَكَذَلِكَ السَّيِّئَات كلما كَانَت أعظم كَانَ صَاحبهَا أولى بِالْغَضَبِ واللعنة وَالْعِقَاب وَقد وَقَالَ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير اولي الضَّرَر وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل الله بأمولهم وأنفسهم فضل الله الْمُجَاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم على القاعدين دَرَجَة [سُورَة النِّسَاء 95] وَقَالَ {أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام} إِلَى قَوْله {الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله وَأُولَئِكَ هم الفائزون} [سُورَة التَّوْبَة 19 20] وَقَالَ لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل [سُورَة الْحَدِيد 10] وَقَالَ يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات [سُورَة المجادلة 11] وَكَذَلِكَ قَالَ فِي السَّيِّئَات إِنَّمَا النسئ زِيَادَة فِي الْكفْر [سُورَة التَّوْبَة 37] وَقَالَ زدناهم عذَابا فَوق الْعَذَاب [سُورَة النَّحْل 88] وَقَالَ وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم [سُورَة التَّوْبَة 125] وَقَالَ فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا [سُورَة الْبَقَرَة 10]

وَقَالَ وننزل من الْقُرْآن مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين وَلَا يزِيد الظَّالِمين إِلَّا خسارا [سُورَة الْإِسْرَاء 82] وَمَعْلُوم أَن التَّوْبَة هِيَ جماع الرُّجُوع من السَّيِّئَات إِلَى الْحَسَنَات وَلِهَذَا لَا يحبط جَمِيع السَّيِّئَات إِلَّا التَّوْبَة وَالرِّدَّة هِيَ جماع الرُّجُوع من الْحَسَنَات إِلَى السَّيِّئَات وَلِهَذَا لَا يحبط جَمِيع الْحَسَنَات إِلَّا الرِّدَّة عَن الْإِيمَان وَكَذَلِكَ مَا ذَكرْنَاهُ فِي تفَاوت السَّيِّئَات هُوَ فِي الْكفْر وَالْفِسْق والعصيان فالكفار بَعضهم دون بعض وَلِهَذَا يذكر الْفُقَهَاء فِي بَاب الرِّدَّة وَالْإِسْلَام انْتِقَال الرجل كَأحد الزَّوْجَيْنِ من دين إِلَى دين آخر انْتِقَال إِلَى دين خير من دينه أَو دون دينه أَو مثل دينه فَيَقُولُونَ إِذا صَار الْكِتَابِيّ مجوسيا أَو مُشْركًا فقد انْتقل إِلَى شَرّ من دينه وَإِذا صَار الْمُشرك أَو الْمَجُوسِيّ كتابيا فقد انْتقل إِلَى خير من دينه وَإِذا تهود النَّصْرَانِي أَو بِالْعَكْسِ فقد انْتقل إِلَى نَظِير دينه والتمجس يقر عَلَيْهِ بالِاتِّفَاقِ وَأما الْإِشْرَاك فَلَا يقر عَلَيْهِ إِلَّا بعض النَّاس عِنْد بعض الْعلمَاء والصابئة نَوْعَانِ عِنْد الْمُحَقِّقين وعَلى قَوْلَيْنِ عِنْد آخَرين وَمَعْرِفَة مَرَاتِب الْأَدْيَان مُحْتَاج إِلَيْهَا فِي مَوَاضِع كَثِيرَة لمعْرِفَة مَرَاتِب الْحَسَنَات وَالْفُقَهَاء يذكرُونَ ذَلِك لأجل معرفَة أحكامهم وتناكحهم وذبائحهم وَفِي دِمَائِهِمْ وقتالهم وإقرارهم بالجزية المضروبة عَلَيْهِم وَنَحْو ذَلِك من الْأَحْكَام الَّتِي جَاءَ بهَا الْكتاب وَالسّنة فِي أهل الْملَل والأحزاب

الَّذين قَالَ الله فيهم وَمن يكفر بِهِ من الْأَحْزَاب فَالنَّار موعده [سُورَة هود 17] وَقد قَالَ الله تَعَالَى لنَبيه فَلذَلِك فآدع واستقم كَمَا أمرت وَلَا تتبع أهواءهم وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب وَأمرت لأعدل بَيْنكُم [سُورَة الشورى 15] وَالْعدْل وضع كل شئ فِي مَوْضِعه كَمَا أَن الظُّلم وضع الشئ فِي غير مَوْضِعه وَلِهَذَا لما اقْتتلَتْ فَارس الْمَجُوس وَالروم النَّصَارَى وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة إِذْ ذَاك وَهُوَ فِي طَائِفَة قَليلَة مِمَّن آمن بِهِ كَانَ هُوَ وَأَصْحَابه يحبونَ أَن تغلب الرّوم لأَنهم أهل كتاب وَكَانَ الْمُشْركُونَ يحبونَ أَن تغلب فَارس لأَنهم من جنسهم لَيْسُوا أهل كتاب فَأنْزل الله فِي ذَلِك آلم غلبت الرّوم فِي أدنى الأَرْض [سُورَة الرّوم 12] والقصة مَشْهُورَة فِي كتب الحَدِيث وَالتَّفْسِير والمغازي وَإِذا كَانَ كَذَلِك فقد يكون الرجل على طَريقَة من الشَّرّ عَظِيمَة فَينْتَقل إِلَى مَا هُوَ أقل مِنْهَا شرا وَأقرب إِلَى الْخَيْر فَيكون حمد تِلْكَ الطَّرِيقَة ومدحها لكَونهَا طَريقَة الْخَيْر الممدوحة مِثَال ذَلِك أَن الظُّلم كُله حرَام مَذْمُوم فأعلاه الشّرك فَإِن الشّرك لظلم عَظِيم وَالله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وأوسطه ظلم الْعباد بالبغي والعدوان وَأَدْنَاهُ ظلم العَبْد نَفسه فِيمَا بَينه وَبَين الله فَإِذا كَانَ الرجل مُشْركًا كَافِرًا فَأسلم بَاطِنا وظاهرا بِحَيْثُ

صَار مُؤمنا وَهُوَ مَعَ إِسْلَامه يظلم النَّاس وَيظْلم نَفسه فَهُوَ خير من أَن يبْقى على كفره وَلَو كَانَ تَارِكًا لذَلِك الظُّلم واما إِذا أسلم فَقَط وَهُوَ مُنَافِق فِي الْبَاطِن فَهَذَا فِي الْآخِرَة فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار وَأما فِي الدُّنْيَا فقد يكون أضرّ على الْمُسلمين مِنْهُ لَو بقى على كفره وَقد لَا يكون كَذَلِك فَإِن إِضْرَار الْمُنَافِقين بِالْمُؤْمِنِينَ يخْتَلف بآختلاف الْأَحْوَال لَكِن إِذا أسلم نفَاقًا فقد يُرْجَى لَهُ حسن الْإِسْلَام فَيصير مُؤمنا كمن أسلم تَحت السَّيْف وَكَذَلِكَ من أسلم لرغبة أَو لرهبة أَو نَحْو ذَلِك فالإسلام وَالْإِيمَان أصل كل خير وَجَمَاعَة وَكَذَلِكَ من كَانَ ظَالِما للنَّاس فِي نُفُوسهم واموالهم وأعراضهم فانتقل عَن ذَلِك الى مَا يظلم بِهِ نَفسه خَاصَّة من خمر وزنا فَهَذَا أخف لأثمة وَأَقل لعذابه وَهَكَذَا النَّحْل الَّتِي فِيهَا بِدعَة قد يكون الرجل رَافِضِيًّا فَيصير زيديا فَلذَلِك خير لَهُ وَقد يكون جهميا غير قدري أَو قدريا غير جهمي أَو يكون من الْجَهْمِية الْكِبَار فيتجهم فِي بعض الصِّفَات دون بعض وَنَحْو ذَلِك فَهَؤُلَاءِ المتفسلفة وَنَحْوهم مِمَّن مدح الْعِشْق والغناء وَنَحْو ذَلِك وجعلوه مِمَّا يستعينون بِهِ على رياضة أنفسهم وتهذيبها وصلاحها

من هَذَا الْبَاب فَإِن هَؤُلَاءِ فِي طريقهم من الشّرك والضلال مَا لَا يُحْصِيه إِلَّا ذُو الْجلَال فَإِن المتفلسفة قد يعْبدُونَ الْأَوْثَان وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَنَحْو ذَلِك فَإِذا صَار أحدهم يروض نَفسه بالعشق لعبادة الله وَحده أَو رياضة مُطلقَة لَا يعبد فِيهَا غير الله كَانَ ذَلِك خيرا لَهُ من أَن يعبد غير الله وَكَذَلِكَ الاتحادية الَّذين يجْعَلُونَ الله هُوَ الْوُجُود الْمُطلق أَو يَقُولُونَ إِنَّه يحل فِي الصُّور الجميلة مَتى تَابَ الرجل مِنْهُم من هَذَا وَصَارَ يسكن نَفسه بعشق بعض الصُّور وَهُوَ لَا يعبد إِلَّا الله وَحده كَانَت هَذِه الْحَال خيرا من تِلْكَ الْحَال فَهَذِهِ الذُّنُوب مَعَ صِحَة التَّوْحِيد خير من فَسَاد التَّوْحِيد مَعَ عدم هَذِه الذُّنُوب وَلِهَذَا نجد النَّاس يفضلون من كَانَ من الْمُلُوك وَنَحْوهم إِنَّمَا يظلم نَفسه بِشرب الْخمر وَالزِّنَا أَو الْفَوَاحِش ويتجنب ظلم الرّعية ويتحرى الْعدْل فيهم على من كَانَ يتَجَنَّب الْفَوَاحِش وَالْخمر وَالزِّنَا وينتصب لظلم النَّاس فِي نُفُوسهم وَأَمْوَالهمْ وأعراضهم وَهَؤُلَاء الظَّالِمُونَ قد يجْعَلُونَ الظُّلم دينا يَتَقَرَّبُون بِهِ بجهلهم كَمَا أَن أُولَئِكَ الظَّالِمين لأَنْفُسِهِمْ قد يجْعَلُونَ ذَلِك بجهلهم دينا يَتَقَرَّبُون بِهِ فالشيطان قد زين لكثير من هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء سوء عَمَلهم فرأوه حسنا لَكِن كثير من النَّاس يجمعُونَ بَين هَذَا وَهَذَا فَإِن من عُقُوبَة السَّيئَة

السَّيئَة بعْدهَا وَمن ثَوَاب الْحَسَنَة الْحَسَنَة بعْدهَا والحسنات والسيئات قد تتلازم وَيَدْعُو بَعْضهَا إِلَى بعض كَمَا فِي الصَّحِيح عَن عبد الله بن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ عَلَيْكُم بِالصّدقِ فَإِن الصدْق يهدي إِلَى الْبر وَالْبر يهدي إِلَى الْجنَّة وَلَا يزَال الرجل يصدق ويتحرى الصدْق حَتَّى يكْتب عِنْد الله صديقا وَإِيَّاكُم وَالْكذب فَإِن الْكَذِب يهدي إِلَى الْفُجُور والفجور يهدي إِلَى النَّار وَلَا يزَال العَبْد يكذب ويتحرى الْكَذِب حَتَّى يكْتب عِنْد الله كذابا فالصدق مِفْتَاح كل خير كَمَا ان الْكَذِب مِفْتَاح كل شَرّ وَلِهَذَا يَقُولُونَ عَن بعض الْمَشَايِخ إِنَّه قَالَ لبَعض من استتابه من أَصْحَابه أَنا لَا أوصيك إِلَّا بِالصّدقِ فتأملوا فوجدوا الصدْق يَدعُوهُ إِلَى كل خير وَلِهَذَا فرق الله سُبْحَانَهُ بَين أهل السَّعَادَة وَأهل الشقاوة بذلك فَقَالَ فَمن أظلم مِمَّن كذب على الله وَكذب بِالصّدقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّم مثوى للْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون لَهُم مَا يشاؤون عِنْد رَبهم ذَلِك جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ليكفر الله

عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا ويجزيهم أجرهم بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ [سُورَة الزمر 32 35] وترتيب الْكَبَائِر ثَابت فِي الْكتاب وَالسّنة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ قلت يَا رَسُول أَي الذَّنب أعظم قَالَ أَن تجْعَل الله ندا وَهُوَ خلقك قلت ثمَّ أَي قَالَ أَن تقتل ولدك خشيَة أَن يطعم مَعَك قلت ثمَّ أَي قَالَ أَن تُزَانِي بحليلة جَارك وتصديق ذَلِك فِي كتاب الله وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله بِالْحَقِّ وَلَا يزنون [الْفرْقَان 68] وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاء أكبر الْكَبَائِر الْكفْر ثمَّ قتل النَّفس بِغَيْر حق ثمَّ الزِّنَا لَكِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر لِابْنِ مَسْعُود من جنس أَعلَى فأعلى الْكفْر هُوَ أَن تجْعَل الله ندا بِخِلَاف الْكِتَابِيّ الَّذِي لَيْسَ بمشرك فَإِنَّهُ دون ذَلِك وَأعظم الْقَتْل ولدك وَأعظم الزِّنَا الزِّنَا بحليلة الْجَار

وَهَذَا كَمَا ذكرنَا أَن الظُّلم ثَلَاث مَرَاتِب الشّرك ثمَّ الظُّلم لِلْخلقِ ثمَّ ظلم النَّفس فالقتل من ظلم الْخلق فَإِذا كَانَ قتلا للْوَلَد الَّذِي هُوَ بعضه مِنْك كَانَ فِيهِ الظلمان وَالزِّنَا هُوَ من ظلم النَّفس لَكِن إِذا كَانَ بحليلة الْجَار صَار فِيهِ الظلمان أَيْضا لَكِن الْمُغَلب فِي الْقَتْل ظلم الْغَيْر وَالظُّلم فِي الزِّنَا ظلم النَّفس وَلِهَذَا كَانَ الْقود حَقًا للآدمي إِن شَاءَ اسْتَوْفَاهُ وَإِن شَاءَ عَفا عَنهُ وَكَانَ حد الزِّنَا حدا لله لَيْسَ لآدَمِيّ فِيهِ حق معِين لَكِن قد يقْتَرن بِبَعْض انواع الزِّنَا وَيَقْتَضِي أمورا تضر النَّاس يكون بهَا أعظم من قتل لَا يضر بِهِ إِلَّا الْمَقْتُول فَقَط وَأَيْضًا فَقتل النَّفس يدْخل فِيهِ من التَّأْوِيل مَا لَيْسَ يدْخل فِي الزِّنَا فَإِن حَلَاله بَين من حرَامه بِخِلَاف الْقَتْل فَإِن فِيهِ مَا يظْهر تَحْرِيمه وَفِيه مَا يظْهر وُجُوبه أَو اسْتِحْبَابه أَو حلّه وَفِيه مَا يشْتَبه وَلِهَذَا جعل الله فِيهِ شَيْئا وَلم يَجْعَل ذَلِك فِي الزِّنَا بقوله وَلَا يقتلُون النَّفس الْآيَة [سُورَة الْفرْقَان 68]

الجزء 2

فِي الْغيرَة وانواعها وَمَا فِيهَا من مَحْمُود ومذموم فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله بن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا اُحْدُ اغير من الله من اجل ذَلِك حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَمَا اُحْدُ احب اليه الْمَدْح من الله وَلذَلِك مدح نَفسه وَفِي رِوَايَة لمُسلم وَلَيْسَ اُحْدُ احب اليه الْعذر من الله من اجل ذَلِك انْزِلْ الْكتاب وارسل الرُّسُل جمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الحَدِيث بَين وَصفَة سُبْحَانَهُ بأكمل الْمحبَّة للممادح واكمل البغض للمحارم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة قَالَ قَالَ سعد بن عبَادَة لَو رَأَيْت رجلا مَعَ امْرَأَتي لأضربنه بِالسَّيْفِ غير مصفح فَبلغ ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ تعْجبُونَ من غيرَة سعد

وَالله لأَنا اغير مِنْهُ وَالله اغير منى وَمن اجل غيرَة الله حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَلَا اُحْدُ احب اليه الْعذر من الله من اجل ذَلِك بعث الْمُنْذرين والمبشرين وَلَا اُحْدُ احب اليه المدحة من الله من اجل ذَلِك وعد الله الْجنَّة وَقَالَ البُخَارِيّ وَقَالَ عبيد الله بن عَمْرو عَن عبد الْملك لَا شخص اغير من الله وَترْجم البُخَارِيّ على ذَلِك بَاب وَفِي الصَّحِيح عَن ابي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ ان الله يغار وَغَيره الله ان يَأْتِي الْمُؤمن مَا حرم عَلَيْهِ وَفِي الصَّحِيح عَن اسماء انها سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَا شَيْء اغير من الله وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَا

امة مُحَمَّد مَا اُحْدُ اغير من اله ان يَزْنِي عَبده اَوْ تَزني امته وَفِي السّنَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ ان من الْغيرَة مَا يُحِبهَا الله وَمن الْغيرَة مَا يكرهها فالغيرة الَّتِي يُحِبهَا الله الْغيرَة فِي الرِّيبَة والغيرة الَّتِي يكرهها الله الْغيرَة فِي غير رِيبَة وان من الْخُيَلَاء مَا يُحِبهَا الله وَمن الْخُيَلَاء مَا يبغضها الله فالخيلاء الَّتِي يُحِبهَا اختيال الرجل نَفسه عِنْد الْحَرْب وَعند الصَّدَقَة وَالْخُيَلَاء الَّتِي يبغضها الله اختيال الرجل فِي الْبَغي وَالْفَخْر وَقد ثَبت فِي الصِّحَاح ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعمر دخلت الْجنَّة فَرَأَيْت امْرَأَة تتوضأ الى جَانب قصر فَقلت لمن هَذَا فَقَالُوا لعمر بن الْخطاب فَأَرَدْت ان ادخله فَذكرت غيرتك فَقَالَ

عمر بن الْخطاب يَا رَسُول الله بِأبي وامي اَوْ عَلَيْك اغار وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث اسماء لما كَانَت تنقل النَّوَى للزبير قَالَت فَلَقِيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ نفر من الانصار فدعاني ثمَّ قَالَ إخ إخ ليحملني خَلفه فَاسْتَحْيَيْت ان اسير مَعَ الرِّجَال وَذكرت الزبير وغيرته وَكَانَ اغير النَّاس فَعرف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اني قد استحييت فَمضى فَجئْت الزبير فَقلت لَقِيَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى رَأْسِي النَّوَى وَمَعَهُ نفر من اصحابه فَأَنَاخَ لأركب فَاسْتَحْيَيْت مِنْهُ وَذكرت غيرتك فَقَالَ وَالله لحملك النَّوَى كَانَ اشد على من ركوبك مَعَه قَالَت حَتَّى ارسل الى ابي ابو بكر بعد ذَلِك بخادم تكفيني سياسة الْفرس فَكَأَنَّمَا اعتقني فقد اخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا اُحْدُ اغير من الله وَقَالَ غيرَة الله ان يَأْتِي الْمُؤمن مَا حرم عَلَيْهِ وَهَذَا يعم جَمِيع الْمُحرمَات

وَقَالَ وَمن اجل غيرَة الله حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن فَهَذَا تَخْصِيص لغيرته من الْفَوَاحِش وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث عَائِشَة لَا اُحْدُ اغير من الله ان يَزْنِي عَبده اَوْ تَزني امته فَهَذِهِ الْغيرَة من الْفَوَاحِش وَكَذَلِكَ عَامَّة مَا يُطلق من الْغيرَة انما هُوَ من جنس الْفَوَاحِش وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه اغير من غَيره من الْمُؤمنِينَ وان الْمُؤمن يغار وَالله يحب الْغيرَة وَذَلِكَ فِي الرِّيبَة وَمن لَا يغار فَهُوَ ديوث وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث لَا يدْخل الْجنَّة ديوث فالغيرة المحبوبة هِيَ مَا وَافَقت غيرَة الله تَعَالَى وَهَذِه الْغيرَة هِيَ ان تنتهك محارم الله وَهِي ان تُؤْتى الْفَوَاحِش الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة لَكِن غيرَة العَبْد الْخَاصَّة هِيَ من ان يشركهُ الْغَيْر فِي اهله فغيرته من فَاحِشَة اهله لَيست كغيرته من زنا الْغَيْر لِأَن هَذَا يتَعَلَّق بِهِ وَذَاكَ لَا يتَعَلَّق بِهِ الا من جِهَة بغضه لمبغضة الله وَلِهَذَا كَانَت الْغيرَة الْوَاجِبَة عَلَيْهِ هِيَ فِي غيرته على اهله واعظم ذَلِك امْرَأَته ثمَّ اقاربه وَمن هُوَ تَحت طَاعَته وَلِهَذَا كَانَ لَهُ اذا زنت ان يلاعنها لما عَلَيْهِ فِي ذَلِك من الضَّرَر بِخِلَاف مَا اذا زنا غير امْرَأَته وَلِهَذَا

يحد قَاذف الامرأة الَّتِي لم يكمل عقلهَا ودينها اذا كَانَ زَوجهَا مُحصنا فِي اُحْدُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ احدى الرِّوَايَتَيْنِ عَن احْمَد فالغيرة الْوَاجِبَة مَا يتضمنه النَّهْي عَن المخزي والغيرة المستحبة مَا اوجبت الْمُسْتَحبّ من الصيانة واما الْغيرَة فِي غير رِيبَة وَهِي الْغيرَة فِي مُبَاح لَا رِيبَة فِيهِ فَهِيَ مِمَّا لَا يُحِبهُ الله بل ينْهَى عَنهُ اذا كَانَ فِيهِ ترك مَا امْر الله وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تمنعوا اماء الله مَسَاجِد الله وبيوتهن خير لَهُنَّ واما غيرَة النِّسَاء بَعضهنَّ من بعض فَتلك لَيْسَ مَأْمُورا بهَا لَكِنَّهَا من امور الطباع كالحزن على المصائب وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ كلوا غارت امكم لما كسرت الْقَصعَة وَقَالَت عَائِشَة اَوْ لَا يغار مثلى على مثلك وَقَالَت مَا غرت على امْرَأَة مَا غرت على خَدِيجَة

وَعَن فَاطِمَة انها قَالَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان النَّاس يَقُولُونَ انك لَا تغار لبناتك لما اراد على ان يتَزَوَّج بنت ابي جهل وخطب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذكر صهرا لَهُ من ابي الْعَاصِ وَقَالَ حَدثنِي فصدقني ووعدني فوفاني وَقَالَ ان بني الْعَاصِ استأذنوني فِي ان يزوجوا بنتهم عليا واني لَا آذن ثمَّ لَا آذن الا ان يُرِيد ابْن ابي طَالب ان يُطلق ابْنَتي ويتزوج ابنتهم وَالله لَا تَجْتَمِع بنت رَسُول الله وَبنت عَدو الله عِنْد رجل ابدا فَهَذِهِ الْغيرَة الَّتِي جَاءَت بهَا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وغيرة الله أَن يَأْتِي العَبْد مَا حرم عَلَيْهِ وغيرته ان يَزْنِي عَبده اَوْ تَزني امته وغيرة الْمُؤمن ان يفعل ذَلِك عُمُوما وخصوصا فِي حَقه والغيرة الَّتِي يُحِبهَا الله الْغيرَة فِي رِيبَة والغيرة الَّتِي يبغضها الله الْغيرَة الَّتِي فِي غير ربية وَهنا انقسم بَنو آدم اربعة اقسام قوم لَا يغارون على حرمات الله بِحَال وَلَا على حرمهَا مثل الديوث والقواد وَغير ذَلِك وَمثل اهل الاباحة الَّذين لَا يحرمُونَ مَا

فصل ومن اسباب ذلك ما وقع من الاشراك في لفظ الغيرة في كلام المشايخ

حرم الله وَرَسُوله وَلَا يدينون دين الْحق وَمِنْهُم من يَجْعَل ذَلِك سوكا وطريقا واذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله امرنا بهَا قل ان الله لَا يَأْمر بالفحشاء سُورَة الاعراف 28 وَقوم يغارون على مَا حرمه الله وعَلى مَا امْر بِهِ مِمَّا هُوَ من نوع الْحبّ والكره يجْعَلُونَ ذَلِك غيرَة فَيكْرَه احدهم من غَيره امورا يُحِبهَا الله وَرَسُوله وَمِنْهُم من جعل ذَلِك طَرِيقا ودينا ويجعلون الْحَسَد والصد عَن سَبِيل الله وبغض مَا احبه الله وَرَسُوله غيرَة وَقوم يغارون على مَا امْر الله بِهِ دون مَا حرمه فنراهم فِي الْفَوَاحِش لَا يبغضونها وَلَا يكرهونها بل يبغضون الصَّلَوَات والعبادات كَمَا قَالَ تَعَالَى فيهم فخلف من بعدهمْ خلف أضاعوا الصَّلَاة وَاتبعُوا الشَّهَوَات فَسَوف يلقون غيا سُورَة مَرْيَم 59 وَقوم يغارون مِمَّا يكرههُ الله وَيُحِبُّونَ مَا يُحِبهُ الله هؤلا هم اهل الايمان فصل وَمن اسباب ذَلِك مَا وَقع من الاشراك فِي لفظ الْغيرَة فِي كَلَام الْمَشَايِخ اهل الطَّرِيق فَإِنَّهُم تكلمُوا فِيهَا بمعاني بَعْضهَا مُوَافق لعرف الشَّارِع وَبَعضهَا لَيْسَ كَذَلِك وبضعهم حمد مِنْهَا مَا حَمده الشَّارِع وَبَعْضهمْ حمد مِنْهَا مَا لم يحمده الشَّارِع بل ذمه

وَقد تقدم ان الْغيرَة الَّتِي وصف الله بهَا نَفسه اما خَاصَّة وَهُوَ ان يَأْتِي الْمُؤمن مَا حرم عَلَيْهِ واما عَامَّة وَهِي غيرته من الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن واما الْغيرَة فِي اصْطِلَاح طَائِفَة من اهل الطَّرِيق فَقَالَ ابو الْقَاسِم الْقشيرِي الْغيرَة كَرَاهَة مُشَاركَة الْغَيْر واذا وصف الْحق بالغيرة فَمَعْنَاه انه لَا يرضى بمشاركة الْغَيْر مَعَه فِيمَا هُوَ حق لَهُ تَعَالَى من طَاعَة عَبده لَهُ فَقَوله الْغيرَة كَرَاهَة مُشَاركَة الْغَيْر اشار بِلَفْظ الْغَيْر الى اشتقاق لفظ الْغيرَة وَهَذَا اقْربْ فَإِن الْغيرَة اما من تغير الغائر واما من مزاحمه الْغَيْر لَكِن قَوْله كَرَاهَة مُشَاركَة الْغَيْر هُوَ اصْطِلَاح خَاص لَيْسَ بمطابق لاصطلاح الشَّارِع بل هُوَ اعم مِنْهُ من وَجه واخص مِنْهُ من وَجه اما كَونه اعم فَإِنَّهُ يدْخل فِيهِ مُشَاركَة الْغَيْر الْمُبَاحَة كالمشاركة فِي الاموال والعبادات والطاعات وَهَذِه لَيست غيرَة مَأْمُورا بهَا بل بَعْضهَا محرم وَهُوَ حسد وَيدخل فِيهَا الْمُشَاركَة فِي الْبضْع والغيرة على ذَلِك غيرَة مَشْرُوعَة

وَأما كَونه اخص فانه يخرج مِنْهُ الْغيرَة الَّتِي لَا يُشَارِكهُ فِيهَا مثل غيرَة الْمُؤمن ان يَزْنِي اقاربه اَوْ غيرته ان تنتهك محارم الله فَإِن الله يغار من ذَلِك وَالْمُؤمن مُوَافق لرَبه فيحب مَا احب وَيكرهُ مَا كره وَلِهَذَا وصف غيرَة الله بِمَا يُوَافق اصطلاحة فَقَالَ غيرَة الله انه لَا يرضى بمشاركة الْغَيْر مَعَه فِيمَا هُوَ حق لَهُ من طَاعَة عَبده وَهَذِه الْغيرَة اعم مِمَّا ذكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وَجه وابعد عَن مَقْصُود الْغيرَة الَّتِي ذكرهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غيرَة الْحق سُبْحَانَهُ فقد فسر غيرته ان يَأْتِي الْمُؤمن مَا حرم عَلَيْهِ وَبِأَن يَزْنِي عَبده اَوْ تَزني امته وَقَالَ من اجل غيرته حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن فَجعل الغبرة مُطلقَة مُتَعَلقَة بِفعل الْمُحرمَات وَجعل عظمها وسلطانها فِي اتيان الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَمن جعلهَا لنفي الْمُشَاركَة فِي حَقه كَانَ دُخُول الشّرك فِي الله فِي بَاب الْغيرَة عِنْده اولى من دُخُول الْفَوَاحِش وَكَانَ اسْتِعْمَال لفظ الْغيرَة فِي الشّرك اولى من اسْتِعْمَال لفظ الْغيرَة فِي الزِّنَا وايضا اذا جعلناها لنفي الْمُشَاركَة فِيمَا هُوَ حق لَهُ من طَاعَة عَبده فقد يدْخل فِي ذَلِك مَا يَفْعَله العَبْد من الْمُبَاحَات على غير وَجه التَّقَرُّب فان هَذَا لم يَفْعَله لله وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ من غيرَة الله الَّتِي وصف الرَّسُول بهَا ربه وايضا فالمشاركة فِيمَا هُوَ حق لَهُ فد لَا يدْخل فِيهِ فعل الْفَوَاحِش

والمحرمات اذا لم يقْصد العَبْد بهَا طَاعَة غَيره وان كَانَ مُطيعًا فِيهَا للشَّيْطَان وانما يدْخل فِيهِ مَا فعله من الطَّاعَات لله وَلغيره برا وَنَحْوه وَمَعَ هَذَا فقد يُقَال بل كل مَا كَانَ من ترك وَاجِب اَوْ فعل محرم فَفِيهِ مُشَاركَة الْغَيْر مَعَه مَا يسْتَحقّهُ من طَاعَة عَبده وعَلى هَذَا فَيدْخل كل ذَنْب فِيمَا يغار الله مِنْهُ سَوَاء كَانَ ترك وَاجِب مَا اَوْ فعل محرم وَهَذَا الْمَعْنى حسن مُوَافق للشريعة فَإِن الله يبغض ذَلِك ويمقته فَيكون لفظ الْغيرَة مرادافا للفظ البغض والمقت والسخط لَكِن هُوَ اعم مِمَّا يظْهر فِي عرف الشَّارِع حَيْثُ جعل غيرته ان يَأْتِي الْمُؤمن مَا حرم عَلَيْهِ وَجعل غيرته ان يَزْنِي عَبده اَوْ تَزني امته وَمن غيرته ان حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَهَذِه الْغيرَة اخص من مُطلق البغض الا ان يُقَال ترك للشريعة واما تَسْمِيَته غيرَة فَهُوَ امْر اصطلاحي والنزاع فِيهِ لَفْظِي ثمَّ انه ذكر عَن بعض الْمَشَايِخ مذهبين فِي الْغيرَة احدهما يتَضَمَّن الْغيرَة مِمَّا لَا يغار الله مِنْهُ بل يُحِبهُ وَالثَّانِي يتَضَمَّن ترك الْغيرَة مِمَّا يغار الله مِنْهُ وَيُحب الْغيرَة مِنْهُ وَيَأْمُر ذَلِك

وَكِلَاهُمَا مَذْهَب مَذْمُوم مُتَضَمّن اما لترك مَأْمُور يُحِبهُ الله اَوْ لفعل مَكْرُوه يكرههُ الله وَذكر من كَلَامه وَكَلَام الْمَشَايِخ مَا هُوَ حسن مَقْبُول فَاشْتَمَلَ كَلَامه فِي الْغيرَة على الاقسام الثَّلَاثَة فالاول من الْغيرَة كَرَاهَة تَوْبَة العاصين وَعبادَة الْمُقَصِّرِينَ كَمَا ذكر عَن الشبلى انه سُئِلَ مَتى يستريح قَالَ اذا لم ار لَهُ ذَاكِرًا وَقَالَ حكى ان الشبلي مَاتَ ابْن لَهُ كَانَ اسْمه ابو الْحسن فحزنت امهِ عَلَيْهِ وَقطعت شعرهَا وَدخل الشبلي الْحمام وتنور بلحيته فَكل من اتاه معزيا لَهُ قَالَ ايش هَذَا يَا ابا بكر فَكَانَ يَقُول مُوَافقَة لأهلي فَقَالَ لَهُ بَعضهم اخبرني يَا ابا بكر لم فعلت هَذَا قَالَ علمت انهم يعزونني على الْغَفْلَة وَيَقُولُونَ آجرك الله تَعَالَى ففديت ذكرهم لله تَعَالَى

على الْغَفْلَة بلحيتي قَالَ واذن الشبلي مرّة فَلَمَّا انْتهى الى الشَّهَادَتَيْنِ قَالَ لَوْلَا انك امرتني مَا ذكرت مَعَك غَيْرك قَالَ وَسمع النورى رجلا يُؤذن فَقَالَ طعنة وسم الْمَوْت وَسمع كَلْبا ينبح فَقَالَ لبيْك وَسَعْديك فَقيل لَهُ ان هَذَا ترك للدّين فَإِنَّهُ يَقُول للمؤذن فِي تشهده طعنة وسم الْمَوْت ويلبي عِنْد نباح الْكلاب فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ اما الْمُؤَذّن فانه يذكرهُ على رَأس الْغَفْلَة واما الْكَلْب فَإِن الله يَقُول وان من شَيْء الا يسبح بِحَمْدِهِ سُورَة الاسراء 44 وَمثل هَذَا الْكَلِمَات والحكايات لَا تصلح ان تذكر للاقتداء اَوْ سلوك سَبِيل وَطَرِيقَة لما فِيهَا من مُخَالفَة امْر الله وَرَسُوله وَالَّذِي يصدر عَنهُ امثال هَذِه الامور ان كَانَ مَعْذُورًا بقصور فِي اجْتِهَاده اَوْ

غيبَة فِي عقله فَلَيْسَ من اتبعهُ بمعذور مَعَ وضوح الْحق والسبيل وان كَانَت سيئتة مغفورة لما اقْترن بهَا من حسن قصد وَعمل صَالح فَيجب بَيَان الْمَحْمُود والمذموم لِئَلَّا يكون لبسا للحق بِالْبَاطِلِ وابو الْحُسَيْن النوري وابو بكر الشبلي رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا كَانَا معروفين بتغيير الْعقل فِي بعض الاوقات حَتَّى ذهب الشبلي الى المارستان مرَّتَيْنِ والنوري رَحمَه الله كَانَ فِيهِ وَله وَقد مَاتَ بأجمة قصب لما غَلبه الوجد حَتَّى ازال عقله وَمن هَذِه حَاله لَا يصلح ان يتبع فِي حَال لَا يُوَافق امْر الله وَرَسُوله وان كَانَ صَاحبهَا مَعْذُورًا اَوْ مغفورا لَهُ وان كَانَ لَهُ من الايمان وَالصَّلَاح والصدق والمقامات المحمودة مَا هُوَ من اعظم الامور فَلَيْسَ هُوَ فِي ذَلِك بأعظم من السَّابِقين الاولين من الْمُهَاجِرين والانصار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ باحسان فانهم يتبعُون فِي طَاعَة وَلَا يذكرُونَ الا بالجميل الْحسن وَمَا صدر مِنْهُم من ذَنْب اَوْ تَأْوِيل وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا امْر الله بِهِ وَرَسُوله لَا يتبعُون فِيهِ فَهَذَا اصل يحب اتِّبَاعه فحلق اللحيه منهى عَنهُ ومثلة كرهها الله وَرَسُوله والمعزي اَوْ الْمُؤَذّن وان لم يكن مَعَه كَمَال الْحُضُور فَلَا يجوز سبه وذمه على مَا

اظهره من ذكر الله بل يُؤمر بِمَا يكمل ذَلِك من حقائق الْقُلُوب المحمودة وان كَانَ ذَاكِرًا لله بِلِسَانِهِ فأعظم الْمَرَاتِب ذكر الله بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان ثمَّ ذكر الله بِالْقَلْبِ ثمَّ ذكر الله بِاللِّسَانِ وَقد رُوِيَ ان الْمَلَائِكَة حضرت محتضرا لم تَجِد لَهُ حَسَنَة الا ان لِسَانه يَتَحَرَّك بِذكر الله فَكَانَ ذَلِك مِمَّا رَحمَه الله بِهِ وَقد قَالَ رجل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اوصني فان شرائع الاسلام قد كثرت على فَقَالَ لَا يزَال لسَانك رطبا بِذكر الله وَقَالَ الله تَعَالَى انا مَعَ عَبدِي مَا ذَكرنِي وَالذكر يكون بِلِسَان الانسان وَلَكِن يكون لِقَلْبِهِ من ذَلِك نصيب اذ الاعضاء لَا تتحرك الا بارادة الْقلب لَكِن قد تكون الْغَفْلَة غالبة عَلَيْهِ وَذَلِكَ الْكَلَام خير من الْعَدَم وَالله يُحِبهُ وَيَأْمُر بِهِ

وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسلم اذا سمع الْمُؤَذّن لَا يَغْزُو الا اغار وَكثير من المؤذنين لَا يكون كَامِل الْحُضُور بل المُنَافِقُونَ الَّذين يظهرون الايمان بألسنتهم دون قُلُوبهم يقرونَ على ذَلِك فِي الظَّاهِر بِأَمْر الله وَرَسُوله فَكيف بِالْمُؤمنِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ اذا سَمِعْتُمْ نهاق الْحمير فتعوذوا بِاللَّه من الشَّيْطَان فانها رَأَتْ شَيْطَانا واذا سَمِعْتُمْ صياح الديكة فَسَلُوا الله من فَضله فَإِنَّهَا رَأَتْ ملكا وَفِي سنَن ابي دَاوُد عَن جَابر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اذا سَمِعْتُمْ نباح الْكلاب ونهيق الْحمر بِاللَّيْلِ فتوذوا بِاللَّه مِنْهُنَّ فَإِنَّهُنَّ يرين مَا لَا ترَوْنَ وَثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ من حَدِيث ابي هُرَيْرَة انه قَالَ اذا اذن الْمُؤَذّن ادبر الشَّيْطَان وَله ضراط لَا يسمع التأذين فَإِذا قصى

التأذين اقبل فاذا ثوب بِالصَّلَاةِ ادبر فَإِذا قضى التثويب اقبل حَتَّى يخْطر بَين الْمَرْء وَنَفسه فَيَقُول اذكر كَذَا اذكر كَذَا لما لم يكن يذكر حَتَّى يضل الرجل لم يدر كم صلى فَإِذا كَانَ التأذين يطرد الشَّيْطَان ونباح الْكلاب يكون عَن رُؤْيَة الشَّيَاطِين كَيفَ يصلح ان يُقَال لهَذَا طعنة وسم الْمَوْت لأجل تَقْصِير هَذَا بغفلة فِي قلبه وَلِهَذَا لبيْك وَسَعْديك لكَون الْكَلْب يسبح بِحَمْدِهِ فَإِن هَذِه حجَّة فَاسِدَة اما ذَلِك الغافل فَإِن اجره ينقص بغفلته كَمَا روى ابو دَاوُد فِي السّنَن عَن عمار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ ان العَبْد لينصرف من صلَاته وَلم يكْتب لَهُ مِنْهَا الا نصفهَا الا ثلثهَا الا ربعهَا الا خمسها الا سدسها حَتَّى قَالَ الا عشرهَا فَلَا ريب ان الاجر ينقص بالغفلة لَكِن اسْتِحْقَاق الْعقُوبَة نوع آخر واذا اسْتحق الْعقُوبَة لم يجز ان تكون عُقُوبَته مُقَابلَة لما اظهره من الْحَسَنَة

واما نباح الْكَلْب ان كَانَ تسبيحا فصوت الْمُؤَذّن اولى ان يكون تسبيحا فبكل حَال لَا يكون نباح الْكلاب الَّذِي يقْتَرن بِهِ الشَّيْطَان ادنى من ذَلِك من صَوت الْمُؤَذّن الَّذِي هُوَ سَبَب لهروب الشَّيَاطِين فَإِن ذَلِك ان كَانَ لدلالته على الربوبية فصوت الْمُؤَذّن اكمل وان كَانَ لعبادته بِمَا يسْتَحقّهُ الرب من الالهية فصوت الْمُؤَذّن اعظم عبَادَة لله من نباح الْكَلْب فتسبيح كل شَيْء بِحَمْدِهِ يدْخل فِيهِ الْمُؤَذّن بِكُل حَال اعظم مِمَّا يدْخل فِيهِ الْكَلْب فَكيف يدْخل الْكَلْب النابح وَيخرج الْمُؤَذّن لنَوْع من الْغَفْلَة فَهَذَا وَالْكَلب محرم اقتناؤه الا لضَرُورَة من صيد اَوْ حرث اَوْ مَاشِيَة وَمن اقتنى كَلْبا بِغَيْر هَذِه الثَّلَاثَة نقص كل يَوْم من عمله قِيرَاط وتلبية الْكَلْب فِي نباحه امْر مُنكر لَا وَجه لَهُ اصلا فَلَا يتبع اُحْدُ فِي ذَلِك وان كَانَ مَعْذُورًا اَوْ مغفورا لَهُ مشكورا على حَسَنَات غير هَذَا وَكَذَلِكَ الْحِكَايَة عَن الشبلي انه لما انْتهى الى الشَّهَادَتَيْنِ قَالَ لَوْلَا انك امرتني مَا ذكرت مَعَك غَيْرك فان ذكر هَذَا فِي بَاب الْغيرَة مُنكر من القَوْل وزور لَا يصلح الا ان نبين ان هَذَا من الْغيرَة الَّتِي يبغض الله صَاحبهَا بل الْغيرَة من الشَّهَادَة لرسله بالرسالة من الْكفْر وشعبه وَهل يكون موحدا شَاهدا لله بالالهية الا من شهد لرسله بالرسالة وَقد بَينا فِي غير مَوضِع من الْقَوَاعِد وَغَيرهَا ان كل من لم يشْهد برسالة الْمُرْسلين فَإِنَّهُ لَا يكون الا مُشْركًا يَجْعَل مَعَ الله الها اخر وان التَّوْحِيد والنبوة متلازمان وكل من ذكر الله عَنهُ فِي كِتَابه انه مُشْرك فَهُوَ مكذب

للرسل وَمن اخبر عَنهُ انه مكذب للرسل فانه مُشْرك وَلَا تتمّ الشَّهَادَة لله بالالهية الا بِالشَّهَادَةِ لعَبْدِهِ بالرسالة كَمَا جَاءَ مَرْفُوعا فِي قَوْله تَعَالَى ورفعنا لَك ذكرك سُورَة الانشراح 4 قَالَ لَا اذكر الا ذكرت معي وَلَا تتمّ لامتك خطْبَة وَلَا تشهد حَتَّى يشْهدُوا انك عَبدِي ورسولي وَكَذَلِكَ الْحِكَايَة الَّتِي سَمعتهَا من بعض الْفُقَرَاء عَن ابي الْحسن الخزفاني انه قَالَ لَا اله الا الله من دَاخل الْقلب مُحَمَّد رَسُول

الله من القرط قَالَ ابو الْقَاسِم وَمن ينظر الى ظَاهر هَذَا اللَّفْظ يتَوَهَّم انه استصغر الشَّرْع وَلَا كَمَا يخْطر بالبال اذ الاخطار للأغيار بالإظافة الى قدر الْحق متصاغرة فِي التَّحْقِيق وَهَذِه الْحِكَايَة ايضا من اقبح الْكَلَام وافحشه وَذكر هَذَا فِي بَاب الْغيرَة من انكر الْمُنكر فَإِن هَذَا الْكَلَام لَا يُقَال انه استصغار للشَّرْع بل هُوَ من اكبر شعب النِّفَاق واعظم اركان الْكفْر وَصَاحبه ان لم يغْفر الله لَهُ لحسن قَصده فِي تَعْظِيم الرب كَمَا غفر للَّذي قَالَ اذا انا مت فاحرقوني واسحقوني وذروني فِي اليم فغفر لَهُ شكه فِي قدرته على اعادته لخشيتة مِنْهُ وَلم يتب من مثل هَذَا الْكَلَام والا كَانَ هَذَا الْكَلَام مُوجبا لعَظيم عِقَابه وَذَلِكَ ان الايمان بالرسل عَلَيْهِم السَّلَام لَيْسَ من بَاب ذكر

الاغيار بل لَا يتم التَّوْحِيد لله وَالشَّهَادَة لَهُ بالوحدانية والايمان بِهِ الا بالايمان بالرسالة فَمن جعل الايمان بملائكة الله وَكتبه وَرُسُله مغايرا للْإيمَان بِهِ وَجعل الاعراض عَنهُ من بَاب الْغيرَة المعظمة عِنْد الْمَشَايِخ فقد ضل سَعْيه وَهُوَ يحْسب انه يحسن صنعا وَمن لم تكن الشَّهَادَة بالرسالة دَاخله فِي ضمن قلبه بِالشَّهَادَةِ بالألوهية فَلَيْسَ بِمُؤْمِن وَفِي مثل هَذَا جَاءَ الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن اسماء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ انه اوحى الي انكم تفتنون فِي قبوركم مثل وقريبا من فتْنَة الدَّجَّال يُؤْتى الرجل فِي قَبره فَيُقَال لَهُ مَا علمك بِهَذَا الرجل الَّذِي بعث فِيكُم فَأَما الْمُؤمن اَوْ الموقن فَيَقُول هَذَا هُوَ مُحَمَّد عبد الله وَرَسُوله جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهدى فَآمَنا بِهِ واتبعناه واما الْمُنَافِق اَوْ المرتاب فَيَقُول آه آه لَا ادري سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا فقلته

ثمَّ انك تَجِد هَؤُلَاءِ الَّذين يغلون بزعمهم فِي التَّوْحِيد حَتَّى يعرضون عَن الْكتاب وَالسّنة ويستخفون بحرمتهما ويعظم احدهم شَيْخه ومتبوعه اكثر مِمَّا يعظم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتحدهم يشركُونَ بِاللَّه فِي استغاثتهم بِغَيْرِهِ وخوفهم ورجائهم لغيره ومحبتهم لغيره فتجد فيهم من انواع الشّرك الجلى والخفي الَّتِي نهى الله عَنْهَا وَرَسُوله مَا الله بِهِ عليم وَمَعَ هَذَا فيعرضون عَمَّا هُوَ من تَمام التَّوْحِيد زعما انهم يحققون التَّوْحِيد واما اعتذار ابي الْقَاسِم عَنهُ بِأَن الاخطار للاغيار بالإظافة الى قدر الْحق متصاغرة فعذر بَاطِل وَذَلِكَ ان الشَّاهِد للرسول بالرسالة لم يَجعله ندا لله وَلَا شَرِيكا لَهُ وَلَا ظهيرا حَتَّى يفاضل بَينهمَا هَذَا الْكَلَام يَلِيق بِمن يَقُول ان الله ثَالِث ثَلَاثَة اَوْ يَجْعَل الله شَرِيكا وَولدا اَوْ بِمن يستغيث بمخلوق ويتوكل عَلَيْهِ اَوْ يعْمل لَهُ اَوْ يشْتَغل بِهِ عَن الله فَيُقَال لَهُ فاعبده واصطبر لعبادته هَل تعلم لَهُ سميا سُورَة مَرْيَم 65 وَيُقَال لَهُ فاعبد الله مخلصا لَهُ الدّين الا لله الدّين الْخَالِص وَالَّذين اتَّخذُوا من دونه اولياء مَا نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى ان الله يحكم بَينهم يَوْم الْقِيَامَة فيا هم فِيهِ

يَخْتَلِفُونَ سُورَة الزم 2 3 وَقَوله تَعَالَى ام اتَّخذُوا من دون الله شُفَعَاء قل اَوْ لَو كَانُوا لَا يملكُونَ شَيْئا وَلَا يعْقلُونَ قل لله الشَّفَاعَة جيمعا سُورَة الزمر 4443 الى امثال ذَلِك مِمَّا فِي كتاب الله من الْآيَات الَّتِي فِيهَا تَجْرِيد التَّوْحِيد وتحقيقه وَقطع مُلَاحظَة الاغيار فِي الْعِبَادَة والاستغاثة وَالدُّعَاء وَالْمَسْأَلَة والتوكل والرجاء والخشية وَالتَّقوى والانابة وَنَحْو ذَلِك مِمَّا هُوَ من خَصَائِص حق الربوبية الَّتِي لَا تصلح لملك مقرب وَلَا نَبِي مُرْسل فَأَما الايمان بِالْكتاب وَالرَّسُول فَهَذَا من تَمام الايمان بِاللَّه وتوحيده لَا يتم الا بِهِ وَذكر الله بِدُونِ هَذَا غير نَافِع اصلا بل هُوَ سعى ضال وَعمل بَاطِل لم يتنازع الْمُسلمُونَ فِي ان الرجل لَو قَالَ اشْهَدْ ان لَا اله الا الله وَلم يقر بَان مُحَمَّدًا رَسُول الله انه لم يكن مُؤمنا وَلَا مُسلما وَلَا يسْتَحق الا الْعَذَاب وَلَو شهد ان مُحَمَّدًا رَسُول الله لَكَانَ مُؤمنا مُسلما عِنْد كثير من الْعلمَاء وَبَعْضهمْ يفرق بَين من كَانَ معترفا بِالتَّوْحِيدِ كاليهود وَمن لم يكن معترفا بِهِ وَبَعْضهمْ لَا يَجعله مُسلما الا بالنطق بِالشَّهَادَتَيْنِ وَهِي ثَلَاثَة اقوال مَعْرُوفَة فِي مَذْهَب احْمَد وَغَيره وَهَذَا معنى مَا يروي فِي بعض الْآثَار يَا مُحَمَّد تذكر وَلَا اذكر فأرضى وَاذْكُر وَلَا تذكر فاقبض يَعْنِي ذكره بالرسالة وَمن ذكره

بالرسالة فقد تضمن ذَلِك ذكر الله واما من ذكر الله وَلم يذكرهُ بالرسالة فَإِنَّهُ لَا يكون مُؤمنا وَحَيْثُ جَاءَ فِي الاحاديث يخرج من النَّار من قَالَ لَا اله الا الله واسعد النَّاس بشفاعتي يَوْم الْقِيَامَة من قَالَ لَا اله الا الله مخلصا من قلبه وَنَحْو ذَلِك فَلِأَن ذَلِك مُسْتَلْزم الايمان بالرسالة كَمَا بَيناهُ فِي غير هَذَا الْموضع وانه لَا تصح هَذِه الْكَلِمَة الا من المقرين بالرسالة وَبِمَا وَقع فِيهِ هَؤُلَاءِ وامثالهم من ضعف الايمان بِالْكتاب وَالرَّسُول وَبَعض انواع الضَّلَالَة والجهالة حَتَّى فِي الشّرك الَّذِي زَعَمُوا انهم فروا مِنْهُ فنسأل الله مُقَلِّب الْقُلُوب ان يثبت قُلُوبنَا على دينه وَكَذَلِكَ قَول الشبلي لما سُئِلَ مَتى تستريح فَقَالَ اذا لم ار لَهُ ذَاكِرًا وَذكر هَذَا فِي الْغيرَة الَّتِي هِيَ من طَرِيق اولياء الله وعباده الصَّالِحين من اعظم الْمُنْكَرَات وَمن القَوْل الَّذِي يبغضه الله وَرَسُوله واولياؤه من الاولين والآخرين ايغار الْمُؤمن ان يذكر الله اَوْ يغار

ان تنتهك محارم الله وَلَيْسَ لهَذَا القَوْل وَجه يحمد بِهِ واما قَائِله فَلَعَلَّهُ كَانَ مسلوب الْعقل حِين قَالَ ذَلِك فقد كَانَ كثيرا مَا يَزُول عقله فان قصد بِهِ ان احدا لَا يذكرهُ كَمَا يسْتَحقّهُ فَالَّذِي يسْتَحقّهُ هُوَ الْعِبَادَة الَّتِي هِيَ حَقه على عباده وَهُوَ لَا يكلفهم اكثر من طاقتهم وَهَذَا هُوَ الَّذِي يؤمرون بِهِ ويقبله الله مِنْهُم وان قصد انهم يقصرون فِي الْوَاجِب فبعض الْوَاجِب خير من تَركه كُله وَإِن كَانَ هَذَا لضيق فِي نَفسه وحرج فِي فُؤَاده فَهَذَا من الْغيرَة الَّتِى يبغضها الله وَرَسُوله وَهُوَ شَرّ من حسد وَمِمَّا يشبه هَذَا مَا ذكره لَهُ مرّة بعد اصحابنا الْفُقَرَاء وَفِيه خير وَدين وَمَعْرِفَة انه كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فَقَامَ آخر يُصَلِّي قَالَ فَأَخَذَتْنِي الْغيرَة فَقلت لَهُ هَذَا حسد وضيق عطن وظلم لَيْسَ بِغَيْرِهِ انما لغيره اذا انتهكت محارم الله وَالله تَعَالَى وَاسع عليم يسع عباده الاولين والأخرين وَهُوَ يحب ذَلِك وَيَأْمُر بِهِ وَيَدْعُو اليه فَكيف يبغض الْمُؤمن مَا يُحِبهُ وَهَذَا الْقدر وَاقع كثير من ارباب الاحوال حَتَّى يقتل بَعضهم

بَعْضًا ويعتدى بَعضهم على بعض يُؤْذى بَعضهم بَعْضًا وَيَقُولُونَ هَذَا غيرَة على الْحق وانما هُوَ تعدِي لحدوده وظلم لِعِبَادِهِ وَصد عَن سَبيله وتمثيل فِيهِ للحق تَعَالَى بِالْمَرْأَةِ اَوْ الامرد الَّذِي يتغاير عَلَيْهِم الْفُسَّاق لضيق الْمحل غير الاشراك وَاصل ذَلِك من طلب الْفساد والعلو فِي الارض وَطلب الِانْفِرَاد بالتأله لَا لأجل الله لَكِن لاجل الاستعلاء فِي الارض فَهُوَ من الْكبر والحسد من جنس ذَنْب ابليس وَفرْعَوْن واخي ابْن ادم لَا من اعمال عوام الْخلق فضلا عَن مؤمنيهم فضلا عَن اولياء الله الْمُتَّقِينَ وَلِهَذَا نجد امثال هَؤُلَاءِ من اقل النَّاس غيرَة اذا انتهكت محارم الله وَيكون الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُم فِي تَعب وَالْمُشْرِكُونَ مِنْهُم فِي رَاحَة ضد مَا نعت الله بِهِ الْمُؤمنِينَ حَيْثُ قَالَ اشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم سُورَة الْفَتْح 29 وَقَالَ اذلة على الْمُؤمنِينَ اعزة على الْكَافرين سُورَة الْمَائِدَة 54 فشأنهم من جنس الْخَوَارِج الَّذين قَالَ فيهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقتلُون اهل الاسلام وَيدعونَ اهل الاوثان

واما الْمَذْهَب الثَّانِي فَإِنَّهُ قَالَ وَمن النَّاس من قَالَ ان الْغيرَة من صِفَات اهل البدائة وان الموحد لَا يشْهد الْغيرَة وَلَا يَتَّصِف بِالِاخْتِيَارِ وَلَيْسَ لَهُ فِيمَا يجْرِي فِي المملكة تحكم بل الْحق سُبْحَانَهُ اولى بالاشياء فِيمَا يقْضى على مَا يقْضى وَقَالَ سَمِعت الشَّيْخ ابا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ رَحمَه الله يَقُول سَمِعت ابا عُثْمَان المغربي يَقُول الْغيرَة من عمل المريدين فَأَما اهل الْحَقَائِق فَلَا قَالَ سمعته يَقُول سَمِعت ابا نصر الاصبهاني يَقُول سَمِعت الشبلي يَقُول الْغيرَة غيرتان فغيرة البشرية على النُّفُوس وغيرة الالهية على الْقُلُوب قلت اما نفي الْغيرَة مُطلقًا وَجعلهَا من عمل المريدين فَهَذَا يضاهي قَول من يشْهد تَوْحِيد الربوبية وان الله خَالق كل شَيْء وربه

ومليكة لَا يشْهد تَوْحِيد الالهية وَمَا يسْتَحقّهُ الرب من عِبَادَته وطاعته وَطَاعَة رسله فَلَا يفرق بَين الْمُؤمن وَالْكَافِر والاعمى والبصير والظلمات والنور واهل الْجنَّة واهل النَّار وَهَذَا من جنس قَول الْمُشْركين الَّذين قَالُوا {لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء} سُورَة الانعام 148 فَإِن الْمُشْركين استدلوا بِالْقدرِ على نفي الامر وَالنَّهْي والمحبوب وَالْمَكْرُوه وَالطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة وَمن سلك هَذَا المسلك فَهُوَ فِي نوع من الْكفْر الْبَين وَقَول الْقَائِل ان الموحد لَا يَتَّصِف بِالِاخْتِيَارِ كَلَام مُجمل فَإِن اراد بِهِ انه لَا يخْتَار بِنَفسِهِ ولنفسه فقد احسن وان اراد بِهِ انه لَا يخْتَار مَا اخْتَارَهُ الله وامر بِهِ واحبه ورضيه وامره هُوَ ان يختاره ويريده وَيُحِبهُ فَهَذَا كفر وإلحاد بل الْمُؤمن عَلَيْهِ ان يُرِيد ويختار وَيُحب ويرضى وَيطْلب ويجتهد فِيمَا امْر الله بِهِ واحبه ورضيه واراده وَاخْتَارَهُ دينا وَشرعا وَكَذَلِكَ قَوْله لَيْسَ لَهُ فِيمَا يجْرِي فِي المملكة تحكم ان اراد بِهِ انه لَا يُعَارض الله فِي امْرَهْ وَنَهْيه فَهَذَا حسن وَحقّ فَإِن عَلَيْهِ ان يرضى بِمَا امْر الله بِهِ وَيسلم لله وَمن ذَلِك التَّسْلِيم لرَسُوله كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} سُورَة النِّسَاء 65

وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم} سُورَة الاحزاب 36 وَقَالَ تَعَالَى {ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} سُورَة مُحَمَّد 47 وَقَالَ تَعَالَى ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا للَّذين كَرهُوا مَا انْزِلْ اله سنطيعكم فِي بعض الامر وَالله يعلم اسرارهم سُورَة مُحَمَّد 26 وَقَالَ تَعَالَى واذا مَا انزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول ايكم زادته هَذِه ايمانا فَأَما الَّذين امنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون واما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا الى رجسهم وماتوا وَهُوَ كافرون سُورَة التَّوْبَة 125 124 وامثال هَذَا كثير وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حَالَتْ شَفَاعَته دون حد من حُدُود الله فقد ضاد الله فِي امْرَهْ رَوَاهُ ابو دَاوُد وَغَيره وَقَوله الموحد لَا يشْهد الْغيرَة وَلَا يَتَّصِف بِالِاخْتِيَارِ فالتوحيد الَّذِي بعث الله بِهِ رسله وَانْزِلْ بِهِ كتبه هُوَ ان يعبد الله وَحده لَا شريك لَهُ فَهُوَ تَوْحِيد الالوهية وَهُوَ مُسْتَلْزم لتوحيد الربوبية وَهُوَ ان يعبد الْحق رب كل شَيْء فَأَما مُجَرّد تَوْحِيد الربوبية وَهُوَ شُهُود ربوبية الْحق لكل شَيْء فَهَذَا التَّوْحِيد كَانَ فِي الْمُشْركين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون} سُورَة يُوسُف 106

وَكَذَلِكَ ان اراد اعترافه بِأَنَّهُ لَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه وشهوده لفقره وعبوديته وفقر سَائِر الكائنات وان الله هُوَ رب كل شَيْء وعالم بِكُل شَيْء ومليكه لَا يخلق وَلَا يرْزق الا هُوَ وَلَا يعْطى وَلَا يمْنَع الا هُوَ لَا مَانع لما اعطى وَلَا مطعي لما منع {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا وَمَا يمسك فَلَا مُرْسل لَهُ من بعده} سُورَة فاطر 2 {قل أَفَرَأَيْتُم مَا تدعون من دون الله إِن أرادني الله بضر هَل هن كاشفات ضره أَو أرادني برحمة هَل هن ممسكات رَحمته قل حسبي الله عَلَيْهِ يتوكل المتوكلون} سُورَة الزمر 38 {وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يردك بِخَير فَلَا راد لفضله يُصِيب بِهِ من يَشَاء من عباده وَهُوَ الغفور الرَّحِيم} سُورَة يُونُس 107 {يَا أَيهَا النَّاس أَنْتُم الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيّ الحميد} سُورَة فاطر 15 فَإِن اراد هَذِه المشهد فَهَذَا ايضا من الايمان وَالدّين فالاول الاقرار بالامر وَالنَّهْي وَاتِّبَاع ذَلِك هُوَ عِبَادَته وَهَذَا الاقرار بِالْقضَاءِ وَالْقدر وشهود الافتقار الى الله هُوَ استعانته

وَلِهَذَا قَالَ فِي الصَّلَاة {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} سُورَة الْفَاتِحَة 5 قَالَ الله فَهَذِهِ الْآيَة بيني وَبَين عَبدِي ولعبدي مَا سَأَلَ وعَلى وعَلى هَذَا يخرج قَول ابي يزِيد اريد الا اريد أَي اريد الا اريد بنفسي ولنفسي بل لَا أُرِيد الا مَا امرتني انت بإرادته واما عدم الْإِرَادَة مُطلقًا فمحال طبعا وَطَلَبه محرم شرعا وَالْمقر بذلك فَاسد الْعقل وَالدّين والمريد لجَمِيع الْحَوَادِث الْمَأْمُور بهَا والمنهى عَنْهَا كَافِر بدين الله وَمَا جَاءَت بِهِ رسله واما المريد لما امْر ان يُريدهُ ويعمله والكاره لما نهى عَنهُ فَهَذَا هُوَ الْمُؤمن الموحد فَإِن اراد بقوله الموحد لَا يشْهد الْغيرَة وَلَا يَتَّصِف بِالِاخْتِيَارِ انه لَا يخْتَار شَيْئا اصلا لَا مِمَّا امْر بِهِ وَلَا مِمَّا نهى عَنهُ فَهَذَا مَعَ بُطْلَانه فِي الْوَاقِع وفساده فِي الْعقل فَهُوَ من اعظم المروق من دين الله اذ عَلَيْهِ ان يُرِيد كل مَا يُحِبهُ الله تَعَالَى ويرضاه لَهُ وَيُحِبهُ لَهُ ويستعين الله على هَذِه الارادة وَالْعَمَل بهَا فَإِنَّهُ لَا حول وَلَا قُوَّة الا بِهِ كَمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قُلُوبنَا على دينك

وَاصل صَلَاح الْقلب صَلَاح ارادته وَنِيَّته فَإِن لم يصلح ذَلِك لم يصلح الْقلب وَالْقلب هُوَ المضغة الَّتِي اذا صلحت صلح لَهَا سَائِر الْجَسَد واذا فَسدتْ فسد لَهَا سَائِر الْجَسَد وَكَذَلِكَ قَوْله لَيْسَ لَهُ فِيمَا يجْرِي فِي المملكة تحكم ان اراد بِهِ انه لَا يغار اذا انتهكت محارم الله وَلَا يغْضب الله وَلَا يَأْمر بِمَعْرُوف وَلَا ينْهَى عَن مُنكر وَلَا يُجَاهد فِي سَبِيل الله فَهَذَا فَاسق مارق بل كَافِر وان اظهر الاسلام فَهُوَ مُنَافِق وان كَانَ لَهُ نصيب من الزّهْد وَالْعِبَادَة مَا كَانَ فِيهِ وَمَعْلُوم ان الْمُؤمن لَا يَخْلُو من ذَلِك بِالْكُلِّيَّةِ وَمن خلا من ذَلِك بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ مُنَافِق مَحْض وَكَافِر صَرِيح اذا الْمُؤمن لَا بُد ان يكون الله وَرَسُوله احب اليه مِمَّا سواهُمَا وَلَا بُد ان يتبرأ من الاشراك بِاللَّه واعداء الله كَمَا قَالَ تَعَالَى لقد كَانَ لكم اسوة حَسَنَة فِي ابراهيم وَالَّذين مَعَه اذ قَالُوا لقومهم إِنَّا برَاء مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبدُونَ نم دون الله كفرنا بكم وبدا بَيْننَا وَبَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء ابدا حَتَّى تؤمنوا بِاللَّه وَحده سُورَة الممتحنة 4

وَقَالَ عَن ابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام {أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين} سُورَة الشُّعَرَاء 77 وَقَالَ تَعَالَى واذ قَالَ ابراهيم لابيه وَقَومه انني برَاء مِمَّا تَعْبدُونَ الا الَّذِي فطرني فَإِنَّهُ سيهدين سُورَة الزخرف 2627 وَقَالَ تَعَالَى {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أَو إخْوَانهمْ أَو عشيرتهم أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وأيدهم بِروح مِنْهُ} سُورَة المجادلة 22 وَقَالَ تَعَالَى ترى كثيرا مِنْهُم يتولون الَّذين كفرُوا لبئس مَا قدمت لَهُم انفسهم ان سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ وَلَو كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيّ وَمَا انْزِلْ اليه مَا اتخذوهم اولياء وَلَكِن كثيرا مِنْهُم فَاسِقُونَ سُورَة الْمَائِدَة 80 81 وَقَالَ {لَا تَتَّخِذُوا الَّذين اتَّخذُوا دينكُمْ هزوا وَلَعِبًا من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَالْكفَّار أَوْلِيَاء} سُورَة الْمَائِدَة 57 وَقَالَ {لَا تَتَوَلَّوْا قوما غضب الله عَلَيْهِم} سُورَة الممتحنة 13 وَهَذَا كثير جدا وايضا فالقائل لذَلِك لَا يثبت عَلَيْهِ بل لَا بُد ان يكره امورا كَثِيرَة مضرَّة وَكَثِيرًا مَا يعتدى فِي انكارها حَتَّى يخرج عَن الْعدْل فَهَذَا خُرُوج

عَن الْعقل وَالدّين وَعَن الانسانية بِالْكُلِّيَّةِ اذا اخذ على عُمُومه واما ان قبل ذَلِك فِي بعض الامور بِحَيْثُ يتْرك الْكَرَاهَة احيانا لما كرهه الله والغيرة احيانا اذا انتهكت محارم اله فَهَذَا نَاقص الايمان بِحَسب ذَلِك بل قد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن ابي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ من رأى مِنْكُم مُنْكرا فليغيره بِيَدِهِ فَإِن لم يسْتَطع فبلسانه فَإِن لم يسْتَطع فبقلبه وَذَلِكَ اضعف الايمان فَإِن لم يكن فِي الْقلب انكار مَا يكرههُ ويبغضه لم يكن فِيهِ ايمان وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ من مَاتَ وَلم يغز وَلم يحدث نَفسه بالغزو مَاتَ على شُعْبَة نفاق وَتَحْقِيق ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى {قل إِن كَانَ آباؤكم وأبناؤكم وَإِخْوَانكُمْ وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله وَجِهَاد فِي سَبيله فتربصوا} الاية سُورَة التَّوْبَة 24 وَقد ذكر الله فِي سُورَة بَرَاءَة وَغَيره من صفة الْمُنَافِقين مَا فِيهِ غبرة لهَؤُلَاء وَوصف الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بقوله والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات

{بَعضهم أَوْلِيَاء بعض يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويقيمون الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة ويطيعون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ سيرحمهم الله} سُورَة التَّوْبَة 71 وَكَذَلِكَ قَوْله بل الْحق اولى بالاشياء فِيمَا يقْضى على مَا يقْضى فِيهِ تَقْصِير فِي خلق الرب وامره فَإِن قَوْله اولى قد يفهم مِنْهُ ان لَهُ شَرِيكا بل لَا خَالق الا الله وَلَا رب غَيره قل ادعوا الَّذين زعمتم من دون الله لَا تَمْلِكُونَ مِثْقَال ذرة فِي السَّمَوَات وَلَا فِي الارض وَمَا لَهُم فيهمَا من شرك وَمَا لَهُ مِنْهُم من ظهير وَلَا تَنْفَع الشَّفَاعَة عِنْده الا لمن اذن لَهُ الاية سُورَة سبأ 22 23 واما الامر فانه سُبْحَانَهُ امْر الْعباد ونهاهم فعلى العَبْد ان يفعل مَا امْرَهْ بِهِ من الْغيرَة وَغَيرهَا فَإِذا كَانَ قد امْرَهْ بِأَن يغار لمحارمه اذا انتهكت وان يُنكر الْمُنكر بِمَا يقدر عَلَيْهِ من يَده وَلسَانه وَقَلبه فَلم يفعل فَإِنَّمَا هُوَ فَاسق عَن امْر ربه لَا تَارِك لمشاركته اذ سَبِيل لَهُ الى الشّركَة بِحَال وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا اله الا هُوَ وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير فالاحتجاج بِكَوْنِهِ اولى من العَبْد بخلقه على ترك مَا امْر بِهِ من محبوبة ومرضية وطاعته وعبادته فِي الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي

عَن الْمُنكر فِيهِ امران قبيحان توهم نوع مُشَاركَة من العَبْد لَهُ اذا اطاعه وَعَبده واسقاط مَا امْر بِهِ واحبه من الْغيرَة وَهَذَا الْكَلَام كَأَن قَائِله لم يغالب الْمَقَادِير بِنَفسِهِ لنَفسِهِ مثل الْمُلُوك المتغالبين والامم المتعادين من أهل الْجَاهِلِيَّة الَّذين لَيْسَ فيهم من هُوَ مُطِيع لله وَرَسُوله بجهاده بل كِلَاهُمَا مُتبع هَوَاهُ خَارج عَن طَاعَة مَوْلَاهُ اذا اعْرِض الْمُؤمن عَنْهُم وَلم يعاون وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا بباطنه وَلَا بظاهرة اذا كَانَا فِي مَعْصِيّة الله سَوَاء فَهُوَ محسن فِي ذَلِك واما اذا كَانَ الامر عبَادَة لرَبه وَهُوَ مستعين بِهِ فِيهِ فَكيف يكون الاعراض عَن هَذَا الامر طَريقَة عباد الله الصَّالِحين واولياء الله الْمُتَّقِينَ وَهل الاعراض عَن هَذَا الا من طَريقَة الْجَاهِلين الظَّالِمين الْفَاسِقين عَن امْر رب الْعَالمين واما قَول الشَّيْخ ابي عُثْمَان الْغيرَة من عمل المريدين فَأَما هَل الْحَقَائِق فَلَا فَلم يرد وَالله اعْلَم بذلك الْغيرَة على محارم الله وَهِي الْغيرَة الشَّرْعِيَّة فَإِن قدر الشَّيْخ ابى عُثْمَان اجل من أَن

يَجْعَل الْغيرَة الَّتِي وصف الله بهَا نَفسه وَكَانَ رَسُوله فِيهَا اكمل من غَيره وَهِي مِمَّا اوجبه الله واحبه من عمل المريدين دون اهل الْحَقَائِق وانما يَعْنِي الْغيرَة الاصطلاحية الَّتِي يسميها هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخّرُونَ غيرَة كَا قدمْنَاهُ مثل الْغيرَة المتضمنة للمنافسة والحسد مثل ان يغار احدهم اذا رأى احدا سبقه الى الْحق اَوْ نَالَ مِنْهُ نَصِيبا وافرا وَنَحْو ذَلِك فَإِن هَذَا كثير جدا فِي السالكين فَقَالَ الشَّيْخ ان هَذِه الْغيرَة تعرض للمريدين حَيْثُ لم يشْهدُوا الْحَقَائِق وان الله هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِع فَأَما اهل الْحَقَائِق الَّذين يشْهدُونَ ان الله هُوَ الْمُعْطى الْمَانِع وانه لَا رب غَيره فَإِنَّهُم لَا يغارون على مَا وهبه الله عباده من هباته المستحبة اَوْ الْمُبَاحَة وَلَا يعتبون على الْحَوَادِث كَمَا يَفْعَله من يَفْعَله من النَّاس فِي سبهم الدَّهْر كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ لَا تسبوا الدَّهْر فَإِن الله هُوَ الدَّهْر بِيَدِهِ الامر يقلب اللَّيْل وَالنَّهَار وَقَالَ يَقُول الله تَعَالَى يُؤْذِينِي ابْن ادم يسب الدَّهْر وانا الدَّهْر بيَدي الامر اقلب اللَّيْل وَالنَّهَار

فَهَذَا الَّذِي فسر بِهِ الشَّيْخ ابو عُثْمَان هُوَ فرقان وَكَذَلِكَ مَا ذكره الشبلي انه قَالَ الْغيرَة غيرتان فغيرة البشرية على النُّفُوس وغيرة الالهية على الْقُلُوب قَالَ الشبلي غيرَة الالهية على الانفاس ان تضيع فِيمَا سوى الله اذا فسر بِأَن الْبشر يغارون على الحظوظ مِمَّا هُوَ من جنس المنافسة والمحاسدة وَلَيْسَ هَذَا بمحمود واما الْغيرَة الالهية على الْقُلُوب على مَا يفوتها من محاب الْحق ومراضيه فَهَذَا كَلَام حسن من احسن كَلَام الشبلي رَحْمَة الله عَلَيْهِ فَإِن كَانَ هَذَا يغار على نَفسه فَلَا كَلَام وان كَانَ يغار من حَال غَيره فَفِيهِ شبه مَا من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا حسد الا فِي اثْنَتَيْنِ رجل اتاه الله الْحِكْمَة فَهُوَ يقْضِي بهَا وَيعلمهَا ورحل اتاه الله مَالا وسلطه على هَلَكته فِي الْحق فَإِنَّهُ اخبر انه لَا يَنْبَغِي لأحد الا يغبط احدا الا على هَذَا وَكَذَلِكَ مَا ذكره ابو الْقَاسِم الْقشيرِي بعد ذَلِك حَيْثُ قَالَ وَالْوَاجِب ان يُقَال الْغيرَة غيرتان غيرَة الْحق على العَبْد وَهُوَ ان

لَا يَجعله لِلْخلقِ فيضن بِهِ عَلَيْهِم وغيرة العَبْد للحق وَهُوَ ان لَا يَجْعَل شَيْئا من احواله وانفاسه لغير الْحق فَلَا يُقَال انا اغار على الله وَلَكِن يُقَال انا اغار لله فَإِن الْغيرَة على الله جهل وَرُبمَا تُؤدِّي الى ترك الدّين والغيره لله توجب تَعْظِيم حُقُوقه وتصفية الاعمال لَهُ فَهَذَا كَلَام جيد لكنه بالاصطلاح الْحَادِث لَيْسَ هُوَ بالاصطلاح الْقَدِيم فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بَين ان غيرَة الله ان يَأْتِي الْمُؤمن مَا حرم عَلَيْهِ وَهَذَا يشْتَرك فِيهِ السَّابِقُونَ والمقتصدون وهم اولياء الله الَّذين لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ ثمَّ السَّابِقُونَ يَجْعَل اعمالهم كلهَا لله فَإِنَّهُم الَّذين لَا يزالون يَتَقَرَّبُون الى الله بالنوافل حَتَّى يُحِبهُمْ وَمن احب الله وابغض لله واعطى لله وَمنع لله فقد اسْتكْمل الايمان فَإِذا صانهم عَن الْعَمَل لغيره فَصَارَت اعمالهم كلهَا لله تركُوا الْمَحَارِم واتوا بالواجبات والمستحبات وَقد شبه تنزيههم عَن فضول الْمُبَاح وَعَن فعل المكروهات

وَترك المستحبات غيرَة من الْحق عَلَيْهِم فَهَذَا امْر اصطلاحى لَكِن الْمَعْنى صَحِيح مُوَافق الْكتاب وَالسّنة واما قَوْله غيرَة العَبْد للحق ان لَا يَجْعَل شَيْئا من احواله وانفاسه لغير الْحق فَهَذَا غيرَة على نَفسه ان يكون شَيْء من عمله لغير الله وَهَذَا ايضا حَال هَؤُلَاءِ السَّابِقين الاتين بالفرائض والنوافل المجتنبين للمحارم والمكاره قَالَ الله تَعَالَى {فَمنهمْ ظَالِم لنَفسِهِ وَمِنْهُم مقتصد وَمِنْهُم سَابق بالخيرات} سُورَة فاطر 32 وَلَا ريب انه يدْخل فِي هَذَا غيرته اذا انتهكت محارم الله فانه اذا لم يغر لله حِينَئِذٍ مَعَ امْر الله لَهُ بالغيرة لم يكن عمله الَّذِي اشْتغل بِهِ عَن هَذَا الْحق لله وَكَانَ للشَّيْطَان وَكَذَلِكَ قَوْله لَا يُقَال اغار على الله وَلَكِن يُقَال انا اغار لله كَلَام حسن جيد كَمَا قَالَ الْغيرَة على الله جهل وَهِي كَمَا قدمْنَاهُ حسد وَكبر يسمونه غَيره فيحب احدهم ان لَا يشركهُ غَيره فِي

التَّقَرُّب الى الله وابتغاء الْوَسِيلَة اليه ويريدون ان يسموا ذَلِك باسم حسن لِئَلَّا يذموا عَلَيْهِ ويسمونه غيرَة لَان من عَادَة الْبشر اذا احب احدهم انسانا محبَّة طبيعية سَوَاء كَانَت محبتة مُحرمَة كمحبة الْأُمُور وَالْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة أَو غير مُحرمَة كمحبة أم أَنه ببشر يته يغار من ان يُشَارِكهُ فِي ذَلِك اُحْدُ فَجعلُوا محبتهم لله بِمَنْزِلَة هَذِه الْمحبَّة وَهَذَا من اعظم الْجَهْل وَالظُّلم بل محبَّة الله من شَأْنهَا ان يحب العَبْد ان جَمِيع الْمَخْلُوقَات يشركونه فِي ذَلِك كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالَّذِي نفس بِيَدِهِ لَا يُؤمن احدكم حَتَّى يحب لاخيه من الْخَيْر مَا يُحِبهُ لنَفسِهِ وَمثل هَذِه الْغيرَة المذمومة مَا ذكره طَائِفَة من السّلف قَالُوا لَا تقبل شَهَادَة الْقُرَّاء اَوْ قَالُوا الْفُقَهَاء بَعضهم على بعض لِأَن

بَينهم حسد كحسد النُّفُوس على زريبة الْغنم وَيُقَال فلَان وَفُلَان يتصاولان على الرياسة تصاول الفحلين فَلَا ريب ان فحول الْبَهَائِم تتغاير وتتحاسد وتتصاول على اناثها يطْلب كل مِنْهَا من الاخر ان لَا يزاحمه كَمَا يتغاير الفحول الادميون على مناكحهم وَهَذَا فِيمَا امْر الله بِهِ محرم كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تقاطعوا وَلَا تدابروا وَكُونُوا عباد الله اخوانا وَكَذَلِكَ شبه تغاير الضراير لَكِن هُنَا قد يعْتَرض امْر فِيهِ شُبْهَة وَهُوَ ان يكون من المعارف والاحوال مَا يُقَال فِيهِ انه لَا يصلح لبَعض النَّاس فيغار احدهم ان تكون تِلْكَ الامور كَذَلِك المنقوص الَّذِي يصنع مثل ذَلِك

ويصفون الله بالغيرة ان يَجْعَل هَذَا كَهَذا فَهَذَا قد يكون حَقًا وان لم يسم فِي الشَّرْع غيرَة فان الله سُبْحَانَهُ يكره وَيبغض ان يكون مَعَ العَبْد مَا يَسْتَعِين بِهِ على مَعْصِيّة الله دون طَاعَته وان يكون مَا جعله للْمُؤْمِنين مَعَ الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ يَنْبَغِي ان يكرهوا ذَلِك فَكل مَا نهى الله عَنهُ وامر الْمُؤمنِينَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ وازالته فَهُوَ يكرههُ وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى {سأصرف عَن آياتي الَّذين يتكبرون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق} سُورَة الاعراف 146 قَالَ طَائِفَة من السّلف امْنَعْ قُلُوبهم عَن فهم الْقُرْآن هَذَا مَا ذكره عَن السّري انه قرئَ بَين يَدَيْهِ {وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جعلنَا بَيْنك وَبَين الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حِجَابا مَسْتُورا} سُورَة الاسراء 45 فَقَالَ السّري لاصحابه اتدرون مَا هَذَا الْحجاب هَذَا حجاب الْغيرَة وَلَا اُحْدُ اغير من الله تَعَالَى

فَهَذَا يشبه قَوْله {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة} سُورَة الانعام 110 وَقَوله {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} سُورَة الصَّفّ 5 فَإِن الله عاقب المعرض عَن اتِّبَاع مَا بعث بِهِ رسله بالحجاب الَّذِي فِي قُلُوبهم فَسمى السّري هَذَا حجاب الْغيرَة لِأَنَّهُ تَعَالَى يكره وَيبغض ان يكون هَؤُلَاءِ الَّذين كفرُوا وفسقوا عَن امْرَهْ يُعْطون مَا يعطاه الْمُؤمن من الْفَهم لسَبَب هَذِه الْغيرَة الَّتِي وصف الرَّسُول بهَا ربه فان غيرته ان يَأْتِي العَبْد مَا حرم عَلَيْهِ ذكرهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي غيرَة على مَا هُوَ من افعال العَبْد الَّتِي نهى عَنْهَا واما هَذِه الْغيرَة فَهِيَ غيرَة على مَا هُوَ من فعل الرب وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصف الله بانه يغار على مَا يقدر عَلَيْهِ من الافعال وَلَكِن لما رأى السّري ان الشَّيْء المحبوب النَّفس تغار عَلَيْهِ ان يكون فِي غير مَحَله سمى ذَلِك حجاب الْغيرَة وَالله يحب لِعِبَادِهِ ان يفعلوه من جِهَة كَونهم

مأمورين بِهِ لكنه سُبْحَانَهُ لَا يَفْعَله بهم وَلَا يحب من يَفْعَله بهم فَلَا بُد من التَّفْرِيق بَين مواقع الامر وَالنَّهْي ومواقع الْقَضَاء وَالْقدر وان كَانَت الافعال الْوَاقِعَة من الْعباد يشْتَرك فِيهَا الامر وَالنَّهْي واما احوال الْقلب وانفاسه فَإِن الاحوال تحولات الْقلب وَالنَّفس والهوى الَّذِي يحمل الصَّوْت واحوال الْقلب فهما الطف مَا فِي الايمان قَالَ ابو الْقَاسِم ربط الْحق بأقدامهم الخذلان وَاخْتَارَ لَهُم الْبعد واخرجهم عَن مَحل الْقرب وَلذَلِك يؤخروا وَفِي مَعْنَاهُ انشدوا ... انا اصب لن هويت وَلَكِن ... مَا احتيالي لسوء رأى الموالى ...

وَقَالَ وَفِي مَعْنَاهُ قَالُوا سقيم لَا يُعَاد ومريد لَا يُرَاد سَمِعت الاستاذ ابا عَليّ يَقُول سَمِعت الْعَبَّاس الْمروزِي يَقُول كَانَ لي بداية حَسَنَة فَكنت اعرف كم بَقِي بيني وَبَين الْوُصُول الى مقصودي من الظفر بمرادي فَرَأَيْت لَيْلَة من اللَّيَالِي فِي الْمَنَام كأنني اتدهده من حالق جبل فَأَرَدْت الْوُصُول الى ذروته قَالَ فحزنت واخذني النّوم فَرَأَيْت قَائِلا يَقُول يَا عَبَّاس الْحق لم يرد مِنْك ان تصل الى مَا كنت طلبت وَلكنه فتح على لسَانك الْحِكْمَة قَالَ فَأَصْبَحت وَقد الهمت كَلِمَات الْحِكْمَة وَقَالَ سَمِعت الاستاذ ابا عَليّ يَقُول كَانَ شيخ من الشُّيُوخ لَهُ حَال وَوقت مَعَ الله فخفى مُدَّة لم ير بَين الْفُقَرَاء ثمَّ ظهر بعد ذَلِك لَا على مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْوَقْت فَسئلَ عَنهُ

فَقَالَ واه وَقع الْحجاب قَالَ وَكَانَ الاستاذ ابو عَليّ اذا وَقع شَيْء فِي خلال الْمجْلس يشوش قُلُوب الْحَاضِرين يَقُول هَذَا من غيرَة الْحق يُرِيد ان لَا يجرس مَا يجْرِي من صفاء هَذَا الْوَقْت وانشدوا فِي مَعْنَاهُ ... هَمت بإتياننا حَتَّى اذا نظرت ... الى المراة نهاها وَجههَا الْحسن مَا كَانَ هَذَا جزائي من محاسنها ... عذبت بالهجر حَتَّى شفني الْحزن ... قلت ذكر هَذِه الامور فِي بَاب الْغيرَة مُضر وَمَعَ ان الْحق يغار ان يُعْطي بعض النَّاس مَا يُعْطِيهِ لأوليائه الْمُتَّقِينَ من السَّابِقين والمقربين فقد سموا منع الْحق غيرَة كَمَا تقدم لَكِن هَذَا اللَّفْظ يشْعر بِأَن الْحق منع ذَلِك العَبْد الْعَطاء الْعَظِيم عِنْده وَكَون العَبْد لَيْسَ اهلا لَهُ كَمَا يغار على الْكَرِيمَة ان تتَزَوَّج بِغَيْر الْكُفْء

وَهَذَا الْمَعْنى صَحِيح كَمَا قَالَ تَعَالَى واذا جَاءَتْهُم اية قَالُوا لن نؤمن حَتَّى نؤتى مثل مَا اوتي الله الله اعْلَم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته سُورَة الانعام 124 وكما قَالَ تَعَالَى {وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه مَا عَلَيْك من حسابهم من شَيْء وَمَا من حِسَابك عَلَيْهِم من شَيْء فَتَطْرُدهُمْ فَتكون من الظَّالِمين وَكَذَلِكَ فتنا بَعضهم بِبَعْض لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ من الله عَلَيْهِم من بَيْننَا أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم بِالشَّاكِرِينَ} سُورَة الانعام 52 53 وَهَذَا الْمَعْنى اذا ذكر العَبْد وظلمه واقامة الْحجَّة عَلَيْهِ اَوْ بَيَان حِكْمَة الرب وعدله كَانَ حسنا فَإِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم} سُورَة الشورى 30 وَهُوَ لَا يمْنَع من ذَلِك مَا يسْتَحقّهُ العَبْد اصلا وَلَا يمْنَع الثَّوَاب الا اذا منع سَببه وَهُوَ الْعَمَل الصَّالح فَأَما مَعَ وجود السَّبَب وَهُوَ الْعَمَل الصَّالح فَإِنَّهُ من يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما سُورَة طه 112 وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُعْطِي الْمَانِع لَا مَانع لما اعطى وَلَا معطي لما منع لَكِن من على الانسان بالايمان وَالْعَمَل الصَّالح ثمَّ لم يمنعهُ

مُوجب ذَلِك اصلا بل يُعْطِيهِ من الثَّوَاب والقرب مَالا عين رَأَتْ وَلَا اذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر وَحَيْثُ مَنعه ذَلِك فَلَا يبْقى سَببه وَهُوَ الْعَمَل الصَّالح وَلَا ريب انه يهدي من يَشَاء ويضل من يَشَاء لَكِن ذَلِك كُله حِكْمَة مِنْهُ وَعدل فَمَنعه للأسباب الَّتِي هِيَ الاعمال الصَّالِحَة من حكمته وعدله واما المسببات بعد وجود اسبابها فَلَا يمْنَعهَا بِحَال الا اذا لم تكن اسبابا صَالِحَة اما لفساد فِي الْعَمَل واما السَّبَب يُعَارض مُوجبه وَمُقْتَضَاهُ فَيكون لعدم الْمُقْتَضى اَوْ لوُجُود الْمَانِع واذا كَانَ مَنعه وعقوبته من عدم الايمان وَالْعَمَل الصَّالح ابْتِدَاء حِكْمَة مِنْهُ وَعدل فَلهُ الْحَمد فِي الْحَالين وَهُوَ الْمَحْمُود على كل حَال كل عَطاء مِنْهُ فضل وكل عُقُوبَة مِنْهُ عدل وَهَذَا الْموضع يغلط فِيهِ كثير من النَّاس فِي تمثلهم بالاشعار وَفِي مواجيدهم فَإِنَّهُم يتمثلون بِمَا يكون بَين الْمُحب والمحبوب وَالسَّيِّد وَالْعَبْد من الْعباد من صدق الْمُحب وَالْعَبْد فِي حبه واستفراغه وَسعه وبحب المحبوب وَالسَّيِّد واعراضه وصده كالبيت الَّذِي

.. انشده حَيْثُ قَالَ ... انا صب بِمن هويت وَلَكِن ... مَا احتيالي لسوء راى الموَالِي ... وَفِي مَعْنَاهُ قَالُوا سقيم لَا يُعَاد ومريد لَا يُرَاد وَهَذَا التَّمْثِيل يشْعر بِأَن العَبْد صَادِق الارادة تَامّ السَّعْي وانما الاعراض من الْمولى وَهَذَا غلط بل كفر فَإِن الله يَقُول من تقرب الي شبْرًا تقربت مِنْهُ ذِرَاعا وَمن تقرب الى ذِرَاعا تقربت اليه باعا وَمن اتاني يمشي اتيته هروله وَقد اخبر انه من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر امثالها وانه يُضَاعِفهَا سَبْعمِائة ضعف ويضاعفها اضعافا كَثِيرَة وَاخْبَرْ انه من هم بحسنة كتبت لَهُ حَسَنَة كَامِلَة فَإِن عَملهَا كتبت لَهُ عشر حَسَنَات الى سَبْعمِائة ضعف الى اضعاف كَثِيرَة وَمن هم بسيئة لم تكْتب عَلَيْهِ فَإِن تَركهَا لله كتبت لَهُ حَسَنَة كَامِلَة وان عَملهَا لم تكْتب عَلَيْهِ الا سَيِّئَة وَاحِدَة وَقَالَ سُبْحَانَهُ {وَالَّذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} سُورَة مُحَمَّد 17

وَقَالَ {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما} سُورَة طه 112 وَقَالَ {من كَانَ يُرِيد حرث الْآخِرَة نزد لَهُ فِي حرثه} سُورَة الشورى 20 الى امثال ذَلِك فَكيف يظنّ اَوْ يُقَال ان العَبْد يتَقرَّب اليه كَمَا يتَقرَّب العَبْد والمحب الصَّادِق الى محبوبة وسيده وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يقربهُ اليه وَلَا يتَقرَّب مِنْهُ بل يصده ويمنعه كَمَا يفعل ذَلِك الْمَخْلُوق اما لبخله واما لتضرره واما لغير ذَلِك وَقد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصِّحَاح انه قَالَ لله اشد فَرحا بتوبة عَبده من احدكم يرى رَاحِلَته اذا وجدهَا عَلَيْهَا طَعَامه وَشَرَابه لن يكون بتوبة التائب اعظم فَرحا من الْوَاجِد لطعامه وَشَرَابه ومركبه بعد الْخَوْف المفضى الى الْهَلَاك كَيفَ يتَمَثَّل لَهُ بالتجنى والصد والاعراض وَسُوء رأى الموَالِي وبحق الله مِمَّا يَفْعَله السَّادة بعبيدهم والمحبوب مَعَ محبه وَكَيف يتَمَثَّل لَهُ بقَوْلهمْ سقيم لَا يُعَاد ومريد لَا يُرَاد وَهل فِي الصَّادِقين مَعَ الله سقيم لَا يُعَاد وَهل اراد الله اُحْدُ بِصدق فَلم يردهُ الله

وَقد ثَبت فِي صَحِيح مُسلم ان الله يَقُول عَبدِي مَرضت فَلم تعدني قَالَ رب كَيفَ اعودك وانت رب الْعَالمين فَيَقُول ان عَبدِي فلَانا مرض فَلم تعده اما انك لوعدته لَوَجَدْتنِي عِنْده وَالله قد اخبر انه من كَانَ يُرِيد حرث الاخرة نزد لَهُ فِي حرثه وَقَالَ وَمن اراد الاخرة وسعى لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤمن فأؤلئك كَانَ سَعْيهمْ مشكورا سُورَة الاسراء 19 وَفِي الْجُمْلَة فَهَذَا الْبَاب تَكْذِيب بِمَا وعده الله عباده الصَّالِحين وَنسبَة الله الى مَا نزه نَفسه عَنهُ من ظلم الْعباد بإضاعة اعمالهم الصَّالِحَة بِغَيْر ذَنْب لَهُم وَلَا عدوان وتمثيل لله بالسيد الْبَخِيل الظَّالِم وَنَحْوه واقامة لعذر النَّفس وَنسبَة لَهَا الى اقامة الْوَاجِب فَفِيهِ من الْكبر وَالدَّعْوَى مَا فِيهِ وَالْحق الَّذِي لَا ريب فِيهِ ان ذَلِك جَمِيعه لَا يكون الا لتفريط العَبْد وعدوانه بِأَن لَا يكون الْعَمَل الَّذِي عمله صَالحا اَوْ يكون لَهُ من السَّيِّئَات مَا يُؤَخر العَبْد وَإِنَّمَا العَبْد ظَالِم جَاهِل يعْتَقد انه قد

اتى بِمَا يسْتَوْجب كَمَال التَّقْرِيب وَلَعَلَّ الَّذِي اتى بِهِ انما يسْتَوْجب بِهِ اللَّعْنَة وَالْغَضَب بِمَنْزِلَة من مَعَه نقد مغشوش جَاءَ ليَشْتَرِي مَتَاعا رفيعا فَلم يبيعوه فَظن انهم ظلموه وَهُوَ الظَّالِم وَهُوَ فِي ذَلِك شَبيه بِأحد ابْني ادم اذ قربا قربانا فَتقبل من احدهما وَلم يتَقَبَّل من الاخر قَالَ لأَقْتُلَنك قَالَ انما يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ سُورَة الْمَائِدَة 27 وعَلى هَذَا الاصل تخرج حِكَايَة عَبَّاس وامثالها فَإِنَّهُ لم يعين مَطْلُوبه وَمرَاده وَمَا الْعَمَل الَّذِي عمله فقد طلب امرا وَلم يَأْتِ بِعَمَلِهِ الَّذِي يصلح لَهُ واما كَون الْحق لم يرد مِنْهُ ان يصل الى مَطْلُوبه فقد يكون لعدم استئهاله وَقد يكون لتضرره لَو حصل لَهُ وَكم مِمَّن يتشوق الى الدَّرَجَات الْعَالِيَة الَّتِي لَا يقدر ان يقوم بحقوقها فَيكون وُصُوله اليها وبالا فِي حَقه وَهَذَا فِي امْر الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمِنْهُم من عَاهَدَ الله لَئِن آتَانَا من فَضله لنصدقن ولنكونن من الصَّالِحين فَلَمَّا آتَاهُم من فَضله بخلوا بِهِ وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم إِلَى يَوْم يلقونه} سُورَة التَّوْبَة 75 77

وغالب من يتَعَرَّض للمحن والابتلاء ليرتفع بهَا ينخفص بهَا لعدم ثباته فِي المحن بِخِلَاف من ابتلاه الْحق ابْتِدَاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت من قبل أَن تلقوهُ فقد رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُم تنْظرُون} سُورَة آل عمرَان 143 وَقَالَ يَا ايها الَّذين امنوا لم تَقولُونَ مَالا تفلعون كبر مقتا عِنْد الله ان تَقولُوا مَالا تَفْعَلُونَ سُورَة الصَّفّ 3 وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا عبد الرَّحْمَن لَا تسْأَل الامارة فانك ان اعطيتها عَن مَسْأَلَة وكلت اليها وان اعطيتها عَن غير مَسْأَلَة اعنت عَلَيْهَا وَقَالَ اذا سَمِعْتُمْ بالطاعون بِبَلَد فَلَا تقدمُوا عَلَيْهِ واذا وَقع بِأَرْض وانتم بهَا فَلَا تخْرجُوا فِرَارًا مِنْهَا قَالَ ابو الْقَاسِم وَاعْلَمُوا ان من سنة الْحق مَعَ اوليائه

انهم اذا ساكنوا غيرا اَوْ لاحظوا شَيْئا اَوْ ضاجعوا بقلبوهم شَيْئا شوش عَلَيْهِم ذَلِك فيغار على قُلُوبهم بِأَن يُعِيدهَا خَالِصَة لنَفسِهِ فارغة عَمَّا ساكنوه وَقَالَ سَمِعت السلمى يَقُول سَمِعت ابا زيد الْمروزِي الْفَقِيه يَقُول سَمِعت ابراهيم بن سِنَان سَمِعت مُحَمَّد بن حسان يَقُول بَيْنَمَا انا ادور فِي جبل لبنان اذ خرج علينا رجل شَاب قد احرقته السمُوم والرياح فَلَمَّا نظر الى ولى هَارِبا فتبعته وَقلت لَهُ تعظنى بِكَلِمَة فَقَالَ احذروه فَإِنَّهُ غيور لَا يحب ان يرى فِي قلب عَبده سواهُ

وَقَالَ سَمِعت السلمى يَقُول سَمِعت النصراباذي يَقُول الْحق غيور وَمن غيرته انه لم يَجْعَل اليه طَرِيقا سواهُ قلت هَذِه الْغيرَة تدخل فِي الْغيرَة الَّتِي وصفهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اذ قَالَ غيرَة الله ان يَأْتِي الْمُؤمن مَا حرم عَلَيْهِ واعظم الذُّنُوب ان تجْعَل لله ندا وَهُوَ خلقك وَتجْعَل مَعَه الها اخر والشرك مِنْهُ جليل وَمِنْه دَقِيق فالمقتصدون قَامُوا بِوَاجِب التَّوْحِيد وَالسَّابِقُونَ المقربون قَامُوا بمستحبه مَعَ واجبه وَلَا شَيْء احب الى الله من التَّوْحِيد وَلَا شَيْء ابغض اليه من الشّرك وَلِهَذَا كَانَ الشّرك غير مغْفُور بل هُوَ اعظم الظُّلم وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل الْمُؤمن مثل الخامة من الزَّرْع تفيئها الرِّيَاح تَارَة تميلها وتعدلها اخرى وَمثل الْمُنَافِق كَمثل شَجَرَة الارز لَا تزَال ثابته على اصلها حَتَّى يكون انجعافها مرّة وَاحِدَة

فَالله تَعَالَى يبتلى عَبده الْمُؤمن ليطهره من الذُّنُوب والمعايب وَمن رَحمته بِعَبْدِهِ المخلص ان يصرف عَنهُ مَا يغار عَلَيْهِ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء إِنَّه من عبادنَا المخلصين} سُورَة يُوسُف 24 وكما قَالَ {إِنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطَان على الَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} سُورَة النَّحْل 99 فاذا صرف عَنهُ مَا يغار عَلَيْهِ مِنْهُ كَانَ ذَلِك من رَحمته بِهِ واصطفائه اياه وان كَانَ فِي ذَلِك مشقة عَلَيْهِ فَهُوَ تَارَة يمنعهُ مِمَّا يكرههُ لَهُ وَتارَة ليطهره مِنْهُ بالابتلاء فاذا كَانَ يغار من ذَلِك فاذا فعل العَبْد مَا يغار عَلَيْهِ فقد يُعَاقِبهُ على ذَلِك بِقدر ذَنبه كَمَا قَالَ ابو الْقَاسِم وَحكى عَن السّري انه قَالَ كنت اطلب رجلا صديقا مرّة من الاوقات فمررت فِي بعض الْجبَال فَإِذا انا بِجَمَاعَة زمنى ومرضى وعميان فَسَأَلت عَن حَالهم فَقَالُوا هَا هُنَا رجل يخرج فِي السّنة مرّة فيدعو لَهُم فيجدون

الشِّفَاء فَصَبَرت حَتَّى خرج ودعا لَهُم فوجدوا الشِّفَاء فقفوت اثره وتعلقت بِهِ وَقلت لَهُ بِي عِلّة باطنة فَمَا دواؤها فَقَالَ يَا سري خل عني فَإِنَّهُ غيور لَا يراك تساكن غَيره فَتسقط من عينه وَهَذَا من قَوْله تَعَالَى {لَا تجْعَل مَعَ الله إِلَهًا آخر فتقعد مذموما مخذولا} سُورَة الاسراء 22 وَقَوله {فَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر فَتكون من الْمُعَذَّبين} سُورَة الشُّعَرَاء 213 وَقَوله {وَمن يُشْرك بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خر من السَّمَاء فتخطفه الطير أَو تهوي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق} سُورَة الْحَج 31 وَقَوله وَلَقَد اوحى اليك والى الَّذين من قبلك لَئِن اشركت ليحبطن عَمَلك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وَكن من الشَّاكِرِينَ سُورَة الزمر 65 66 وَقَوله {ذَلِك هدى الله يهدي بِهِ من يَشَاء من عباده وَلَو أشركوا لحبط عَنْهُم مَا كَانُوا يعْملُونَ} سُورَة الانعام 88 وَقَوله {فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه فَلبث فِي السجْن بضع سِنِين} يُوسُف 42

واما مقَام الرجل وامثاله فِي ذَلِك الزَّمَان بجبل لبنان فان جبل لبنان وَنَحْوه كَانَ ثغرا للْمُسلمين لكَونه بساحل الْبَحْر مجاورا لِلنَّصَارَى بِمَنْزِلَة عسقلان والاسكندرية وَغَيرهمَا من الثغور وَكَانَ صالحو الْمُسلمين يُقِيمُونَ بالثغور للرباط فِي سَبِيل الله وَمَا ورد من الاثار فِي فضل هَذِه الْبِقَاع فلفضل الرِّبَاط فِي سَبِيل الله واما بعد غَلَبَة النَّصَارَى عَلَيْهَا والقرامطة وَالرَّوَافِض فَلم يبْق فِيهَا فضل وَلَيْسَ بِهِ فِي تِلْكَ الاوقات اُحْدُ من الصَّالِحين وَلَا يشرع فِي ديننَا سُكْنى الْبَوَادِي وَالْجِبَال الا عِنْد الْفِرَار من الْفِتَن اذ كَانَ الْمُقِيم بِالْمِصْرِ يلجأ اليها عِنْد الْفِتْنَة فِي دينه فيهاجر الى حَيْثُ لَا يفتن فَإِن المُهَاجر من هجر مَا نهى الله عَنهُ وَقد بسطنا هَذَا فِي غير الْموضع قلت فقد ظهر انهم يعنون بغيرة الْحق نَحْو مَا وصف بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان من غيرته على عَبده ان يَأْتِي مَحَارمه فَيدْخلُونَ فِي ذَلِك مَا لَا يُحِبهُ من فضول الْمُبَاح وَقد يعنون بهَا غيرته على مواجده وعطاياه الَّتِي لأوليائه ان يَضَعهَا فِي غير محلهَا فَجعلُوا الْغيرَة تَارَة فِي امْرَهْ وَنَهْيه وَتارَة فِي قَضَائِهِ وَقدره

واما الْغيرَة من اهل الطَّرِيق فقد يَعْنِي بهَا الْمَعْنى الشَّرْعِيّ وَهُوَ ان يغار الْمُؤمن ان تنتهك محارم الله ويدخلون فِي ذَلِك اباء المقربين من غيرتهم ان يكون الشَّيْء من امورهم لغير الله وَذَلِكَ قد يَعْنِي بهَا ان يغار الانسان على محاب الْحق ومرضاته ان تكون فِي غير محلهَا وَهَذَا قريب وَقد يَعْنِي بهَا ان يغار الانسان ان يُشَارِكهُ غَيره فِي طَرِيق الْحق ومواهبه وَيكون هَذَا حسدا واستكبارا وشبها بغيرة الضرائر على الرجل اَوْ غَيره الفحول على الانثى وَقد يَعْنِي بهَا ان يغار على الْحق ان يذكرهُ اُحْدُ اَوْ ان يعرفهُ اُحْدُ اَوْ ان ينظر اليه اُحْدُ كَمَا يغار الانسان على محبوبه الْعَزِيز عِنْده كَمَا تقدم عَن الشبلي وكما حَكَاهُ عَن بَعضهم قَالَ قيل لبَعْضهِم اتريد ان ترَاهُ فَقَالَ لَا قيل وَلم قَالَ انزه وَذَلِكَ الْجمال عَن نظر مثلى

قَالَ وَفِي الْمَعْنى انشدوا ... اني لأحسد ناظري عليكا ... حَتَّى اغض اذا نظرت اليكا واراك تخطر فِي شمائلك الَّتِي ... هِيَ فتنتي فَأَغَارَ مِنْك عليكا ... وكما ذكر فِي بَاب الْمحبَّة فَقَالَ سَمِعت الشَّيْخ ابا عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ يَقُول سَمِعت مَنْصُور بن عبد الله يَقُول سَمِعت الشبلي يَقُول الْمحبَّة ان تغار على المحبوب ان يُحِبهُ مثلك وَهَذَا ايضا وَجه فَاسد جدا وَهُوَ جهل بِاللَّه وَبِمَا يسْتَحقّهُ وتشبيه لَهُ بالمحبوب من الْبشر وَظن من هَذَا الْقَائِل انه اذا رأى الله حصل بذلك نقص فِي حق الله اَوْ ضَرَر عَلَيْهِ فان الانسان انما يغار على محبوبه مِمَّا فِيهِ عَلَيْهِ ضَرَر اَوْ عَليّ الْمُحب فِيهِ ضَرَر فيغار من الشّركَة لما فِيهِ من الضَّرَر وَقد يغار عَلَيْهِ من نَفسه لاستشعاره بِهِ ان ذَلِك نقص وَذَلِكَ كُله محَال فِي حق الله

وَمن قَالَ هَذَا قد يَقُول اغار عَلَيْهِ من ان احبه ومثلى لَا يصلح ان يعبده وانما اعبد من يعبده وَنَحْو ذَلِك مِمَّا زينه الشَّيْطَان للْمُشْرِكين واهل الضلال وَذَلِكَ انهم قد يدْخلُونَ فِي غيرَة الله مَنعه لمواهبه وعطاياه من الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وتقربوا اليه بأصناف القربات كَمَا قد يمْنَع السَّيِّد والمحبوب عبيده ومحبيه مَا يستحقونه وَهَذَا ايضا جهل بِاللَّه وَتَكْذيب بوعده وتجوير لَهُ وتزكية لنفوسهم وَهُوَ بَاطِل وَفِي الْجُمْلَة فالغيرة المحمودة اما ترك مَا نهى الله عَنهُ اَوْ ترك مَا لم يَأْمر الله بِهِ وَلَا اوجبه وَمن لم يكن فِيهِ اُحْدُ الْحَالين فَهُوَ مِمَّن فسق عَن امْر ربه وَالثَّانيَِة حَال الكمل الصَّادِقين فَأَما الْغيرَة على مَا لم يحرمه اَوْ على مَا اباحه الله لِعِبَادِهِ ان يفعلوه وَهُوَ لَا يكرههُ وَلَا يسخطه فَهُوَ مَذْمُوم كُله كَمَا تقدم

فصل فيما ذكره الاستاذ ابو القاسم القشيري في باب الرضا عن الشيخ ابي

فَهَذِهِ الْغيرَة الاصطلاحية من مدحها مُطلقًا فقد أَخطَأ وَمن ذمها مُطلقًا فقد أَخطَأ وَالصَّوَاب ان يحمد مِنْهَا مَا حَمده الله وَرَسُوله ويذم مِنْهَا مَا ذمه الله وَرَسُوله وَهَذَا يَقع كثيرا للسالكين فِي هَذَا الْخلق وَغَيره فَإِنَّهُ يلبس الْحق بِالْبَاطِلِ وَلِهَذَا السَّبَب يُنكر كثير من النَّاس مثل هَذَا الطَّرِيق لما فِيهِ من لبس الْحق بِالْبَاطِلِ وَالْآخرُونَ يعظمونه لما فِيهِ من الْحق وَالصَّوَاب الْفرْقَان {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} سُورَة النُّور 40 فصل فِيمَا ذكره الاستاذ ابو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي بَاب الرِّضَا عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان الدَّارَانِي رَحمَه الله انه قَالَ الرِّضَا ان لَا تسْأَل الله الْجنَّة وَلَا تستعيذ بِهِ من النَّار

فان النَّاس تنازعوا فِي هَذَا الْكَلَام فَمنهمْ من انكره وَمِنْهُم من قبله وَالْكَلَام على هَذَا الْكَلَام من وَجْهَيْن أَحدهمَا من جِهَة ثُبُوته عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان وَالثَّانِي من جِهَة صِحَّته فِي نَفسه وفساده اما الْمقَام الاول فَيَنْبَغِي ان يعلم ان الاستاذ ابا الْقَاسِم الْقشيرِي لم يذكرهُ عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان بِإِسْنَاد وانما ذكره مُرْسلا عَنهُ فِي رسَالَته عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ والمشايخ وَغَيرهم تَارَة يذكرهُ بِإِسْنَاد وَتارَة يذكرهُ مُرْسلا وَكَثِيرًا مَا يَقُول فِي الرسَالَة وَقيل عَنهُ كَذَا ثمَّ الَّذِي يذكرهُ الاستاذ ابو الْقَاسِم [بِالْإِسْنَادِ] تَارَة يكون اسناده صَحِيحا وَتارَة يكون ضَعِيفا بل مَوْضُوعا وَمَا يذكرهُ مُرْسلا ومحذوفا

لقَائِل اولى وَهَذَا كَمَا يُوجد [ذَلِك] فِي مصنفات الْفُقَهَاء فَإِن فِيهَا من الاحاديث والْآثَار مَا هُوَ صَحِيح وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيف وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْضُوع فالموجود فِي كتب الرَّقَائِق والتصوف من الاثار المنقولة فِيهَا الصَّحِيح وفيهَا الضَّعِيف وفيهَا الْمَوْضُوع وَهَذَا امْر مُتَّفق عَلَيْهِ بَين جَمِيع الْمُسلمين لَا يتنازعون فِي ان هَذِه الْكتب فِيهَا هَذَا وفيهَا هَذَا بل نفس الْكتب المصنفة فِي الحَدِيث والاثار فِيهَا هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ الْكتب المصنفة فِي التَّفْسِير فِيهَا هَذِه وَهَذَا مَعَ ان اهل الحَدِيث اقْربْ الى معرفَة المنقولات وَفِي كتبهمْ هَذَا وَهَذَا فَكيف غَيرهم والمصنفون قد يكونُونَ أَئِمَّة فِي الْفِقْه اَوْ التصوف اَوْ الحَدِيث ويروون هَذَا تَارَة لأَنهم لم يعلمُوا انه كذب وَهُوَ الْغَالِب على اهل الدّين فَإِنَّهُم لَا يحتجون بِمَا يعلمُونَ انه كذب وَتارَة

يذكرُونَهُ وان علمُوا انه كذب اذ قصدهم رِوَايَة مَا روى فِي ذَلِك الْبَاب وَرِوَايَة الاحاديث المكذوبة مَعَ بَيَان انها كذب جَائِز واما رِوَايَتهَا مَعَ الْإِمْسَاك عَن ذَلِك رِوَايَة عمل فَإِنَّهُ حرَام عِنْد الْعلمَاء لما ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ من حدث عني بِحَدِيث وَهُوَ يرى انه كذب فَهُوَ اُحْدُ الْكَاذِبين وَقد فعل ذَلِك كثير من الْعلمَاء متأولين انهم لم يكذبوا وانما نقلوا مَا رَوَاهُ غَيرهم وَهَذَا يسهل اذ رَوَوْهُ ليعرف انه

روى لَا لأجل الْعَمَل بِهِ والاعتماد عَلَيْهِ وَالْمَقْصُود هُنَا ان مَا يُوجد فِي الرسَالَة وامثالها من كتب الْفِقْه والتصوف والْحَدِيث من المنقولات عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيره من السّلف فِيهِ الصَّحِيح وَفِيه الضَّعِيف وَفِيه الْمَوْضُوع فَالصَّحِيح الَّذِي قَامَت الدّلَالَة على صدقه والموضوع الَّذِي قَامَت الدّلَالَة على كذبه عَلَيْهَا وَلَا يحْتَج بهَا فَإِن الضعْف ظَاهر عَلَيْهَا وَإِن كَانَ هُوَ لَا يتَعَمَّد واما لاتهامه وَلَكِن يُمكن ان يكون صَادِقا فِيهِ فَإِن الْفَاسِق قد يصدق والغالط قد يحفظ وغالب ابواب الرسَالَة فِيهِ الاقسام الثَّلَاثَة وَمن ذَلِك بَاب الرِّضَا فَإِنَّهُ ذكر فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا صَحِيحا فِي اثناء الْبَاب وَهُوَ حَدِيث الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ ذاق طعم

الايمان من رَضِي بِاللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دينا وَبِمُحَمَّدٍ نَبيا وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه وان كَانَ الاستاذ لم يذكر ان مُسلما رَوَاهُ لَكِن رَوَاهُ بِإِسْنَاد صَحِيح وَذكر فِي اول هَذَا الْبَاب حَدِيثا ضَعِيفا بل مَوْضُوعا وَهُوَ حَدِيث جَابر الطَّوِيل الَّذِي رَوَاهُ من حَدِيث الْفضل بن عِيسَى الرقاشِي عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر فَهُوَ وان كَانَ اول حَدِيث ذكره فِي الْبَاب فَإِن حَدِيث الْفضل بن عِيسَى من اوهى الاحاديث واسقطها وَلَا نزاع بَين الائمة انه لَا يعْتَمد عَلَيْهَا وَلَا يحْتَج بهَا فَإِن الضعْف ظَاهر عَلَيْهَا وان كَانَ هُوَ لَا يعْتَمد الْكَذِب فَإِن كثيرا من الزهاد

وَالْفُقَهَاء لَا يحْتَج بِحَدِيثِهِمْ لسوء الْحِفْظ لَا لاعتماد الْكَذِب وَهَذَا الرقاشِي اتَّفقُوا على ضعفه كَمَا يعرف ذَلِك ائمة هَذَا الشَّأْن حَتَّى قَالَ ايوب السّخْتِيَانِيّ لَو ولد فضل اخرس لَكَانَ خيرا لَهُ وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة لَا شَيْء وَقَالَ الامام احْمَد وَالنَّسَائِيّ هُوَ ضَعِيف وَقَالَ يحيى بن معِين رجل سوء وَقَالَ ابو حَاتِم وابو زرْعَة مُنكر الحَدِيث وَكَذَلِكَ مَا ذكره من الاثار فانه قد ذكر اثارا حَسَنَة بأسانيد حسنه مثل مَا رَوَاهُ عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان الدَّارَانِي انه قَالَ اذا سلا العَبْد عَن الشَّهَوَات فَهُوَ رَاض فَإِن هَذَا رَوَاهُ عَن شَيْخه ابي

عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ بِإِسْنَادِهِ وَالشَّيْخ ابو عبد الرَّحْمَن كَانَت لَهُ عناية بِجمع كَلَام هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ وحكاياتهم وصنف فِي الاسماء كتاب الطَّبَقَات طَبَقَات الصُّوفِيَّة وَكتاب زهاد السّلف وَغير ذَلِك وصنف فِي الابواب كتاب مقامات الاولياء وَغير ذَلِك ومصنفاته تشْتَمل على الاقسام الثَّلَاثَة وَذكر عَن الشَّيْخ ابي عبد الرَّحْمَن انه قَالَ سَمِعت النصراباذي يَقُول من اراد ان يبلغ مَحل الرِّضَا فليلزم مَا جعل الله رِضَاهُ فِيهِ فَإِن هَذَا الْكَلَام فِي غَايَة الْحسن فَإِنَّهُ من لزم مَا يرضى الله من امْتِثَال اوامره وَاجْتنَاب نواهيه لَا سِيمَا اذ قَامَ بواجبها ومستحبها

يُرْضِي الله عَنهُ كَمَا انه من لزم محبوبات الله احبه الله كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وَمَا تقرب الي عَبدِي بِمثل اداء مَا افترضت عَلَيْهِ وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب الى بالنوافل حَتَّى احبه فَإِذا احببته الحَدِيث وَذَلِكَ ان الرِّضَا نَوْعَانِ احدهما الرِّضَا بِفعل مَا امْر بِهِ وَترك مَا نهى عَنهُ ويتناول مَا اباحه الله من غير تعد الى الْمَحْظُور كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه إِن كَانُوا مُؤمنين} سُورَة التَّوْبَة 62 وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو أَنهم رَضوا مَا}

{آتَاهُم الله وَرَسُوله وَقَالُوا حَسبنَا الله سيؤتينا الله من فَضله وَرَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون} سُورَة التَّوْبَة 59 فَهَذَا الرِّضَا وَاجِب وَكَذَلِكَ ذمّ من تَركه بقوله {وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا مِنْهَا إِذا هم يسخطون} سُورَة التَّوْبَة 58 وَالنَّوْع الثَّانِي الرِّضَا بالمصائب كالفقر وَالْمَرَض والذل فَهَذَا الرِّضَا مُسْتَحبّ فِي اُحْدُ قولي الْعلمَاء وَلَيْسَ بِوَاجِب وَقد قيل انه وَاجِب وَالصَّحِيح ان الْوَاجِب هُوَ الصَّبْر كَمَا قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رَحمَه الله الرِّضَا عَزِيز وَلَكِن الصبرمعول الْمُؤمن وَقد روى فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ ان اسْتَطَعْت ان تعْمل لله بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِين فافعل

فَإِن لم تستطع فَإِن فِي الصَّبْر على مَا تكره خيرا كثيرا واما الرِّضَا بالْكفْر والفسوق والعصيان فَالَّذِي عَلَيْهِ ائمة الدّين انه لَا يرضى بذلك فَإِن الله لَا يرضاه كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} سُورَة الزمر 7 وَقَالَ {وَالله لَا يحب الْفساد} سُورَة الْبَقَرَة 205 وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن ترضوا عَنْهُم فَإِن الله لَا يرضى عَن الْقَوْم الْفَاسِقين} سُورَة التَّوْبَة 96 وَقل تَعَالَى فَجَزَاؤُهُ حهنم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَاعد لَهُ عذَابا عَظِيما سُورَة النِّسَاء: 93 وَقَالَ {ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} سُورَة مُحَمَّد 28

وَقَالَ {وعد الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْكفَّار نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا هِيَ حسبهم} سُورَة التَّوْبَة 68 وَقَالَ {لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ} سُورَة الْمَائِدَة 80 وَقَالَ {فَلَمَّا آسفونا انتقمنا مِنْهُم} سُورَة الزخرف 55 فَإِذا كَانَ الله سُبْحَانَهُ لَا يرضى لَهُم مَا عملوه بل يسخطه ذَلِك وَهُوَ يسْخط عَلَيْهِم ويغضب عَلَيْهِم فَكيف يسوغ لِلْمُؤمنِ ان يرضى ذَلِك وان لَا يسْخط ويغضب لما يسْخط الله ويغضبه وانما ضل هُنَا فريقان من النَّاس قوم من اهل الْكَلَام المنتسبين الى السّنة فِي مناظرة الْقَدَرِيَّة ظنُّوا ان محبَّة الْحق وَرضَاهُ وغضبه وَسخطه يرجع الى ارادته وَقد علمُوا انه مُرِيد لجَمِيع الكائنات

خلافًا للقدرية وَقَالُوا هُوَ ايضا محب لَهَا مُرِيد لَهَا ثمَّ اخذوا يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه فَقَالُوا لَا يحب الْفساد بِمَعْنى لَا يُرِيد الْفساد أَي لَا يُريدهُ للْمُؤْمِنين وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر بِمَعْنى لَا يُريدهُ أَي لَا يُريدهُ للْمُؤْمِنين وَهَذَا غلط عَظِيم فَإِن هَذَا عِنْدهم بِمَنْزِلَة ان يُقَال لَا يحب الايمان وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الايمان بِمَعْنى لَا يُريدهُ للْكَافِرِينَ وَلَا يرضاه للْكَافِرِينَ وَقد اتّفق اهل الاسلام على ان مَا امْر الله بِهِ فَإِنَّهُ يكون مُسْتَحبا يُحِبهُ ثمَّ قد يكون مَعَ ذَلِك وَاجِبا وَقد يكون مُسْتَحبا لَيْسَ بِوَاجِب سَوَاء فعل اَوْ لم يفعل وَالْكَلَام على هَذَا مَبْسُوط فِي غير هَذَا الْموضع والفريق الثانى من غالطي المتصوفة شربوا من هَذِه الْعين فَشَهِدُوا ان الله رب الكائنات جَمِيعهَا وَعَلمُوا انه قدر كل

شَيْء وشاءه وظنوا انهم لَا يكونُونَ راضين حَتَّى يرْضوا بِكُل مَا يقدره الله ويقضيه من الْكفْر والفسوق والعصيان حَتَّى قَالَ بَعضهم الْمحبَّة نَار تحرق من الْقلب كل مَا سوى مُرَاد المحبوب قَالُوا والكون كُله مُرَاد المحبوب وضل هَؤُلَاءِ ضلالا عَظِيما حَيْثُ لم يفرقُوا بَين الارادة الدِّينِيَّة والكونية والاذن الديني والكوني والامر الديني والكوني والبعث الكوني والديني والارسال الكوني والديني كَمَا بسطناه فِي غير هَذَا الْموضع وَهَؤُلَاء يؤول بهم الامر الى ان لَا يفرقُوا بَين الْمَحْظُور والمأمور واولياء الله واعداء الله والانبياء والمتقين ويجعلون الَّذين امنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الارض ويجعلون الْمُتَّقِينَ كالفجار ويجعلون الْمُسلمين كالمجرمين ويعطلون الامر وَالنَّهْي والوعد والوعيد والشرائع وَرُبمَا سموا هَذَا حَقِيقَة ولعمري انه حَقِيقَة كونية لَكِن هَذِه

الْحَقِيقَة الكونية قد عرفهَا عباد الاصنام كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات والارض ليَقُولن الله سُورَة لُقْمَان 25 وَقَالَ {قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِن كُنْتُم تعلمُونَ سيقولون لله قل أَفلا تذكرُونَ} الايات سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 84 85 فالمشركون الَّذين يعْبدُونَ الاصنام كَانُوا مقرين بَان الله خَالق كل شَيْء وربه ومليكه فَمن كَانَ هَذَا مُنْتَهى تَحْقِيقه كَانَ غَايَته ان يكون كعباد الاصنام وَالْمُؤمن انما فَارق الْكفْر بِالْإِيمَان بِاللَّه وبرسله وبتصديقهم فِيمَا اخبروا وطاعتهم فِيمَا امروا وَاتِّبَاع مَا يرضاه الله وَيُحِبهُ دون مَا يَقْضِيه ويقدره من الْكفْر والفسوق والعصيان وَلَكِن يرضى بِمَا اصابه من المصائب لَا بِمَا فعله من المعايب فَهُوَ من الذُّنُوب يسْتَغْفر وعَلى المصائب يصبر كَمَا قَالَ تَعَالَى فاصبر ان وعد الله حق واستغفر لذبنك

سُورَة غَافِر 55 فَيجمع بَين طَاعَة الامر وَالصَّبْر على المصائق كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا} سُورَة ال عمرَان 120 وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن تصبروا وتتقوا فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} سُورَة ال عمرَان 186 وَقَالَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام {إِنَّه من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} سُورَة يُوسُف 90 وَالْقَصْد هُنَا ان مَا ذكره الْقشيرِي عَن النصراباذي من احسن الْكَلَام حَيْثُ قَالَ من اراد ان يبلغ مَحل الرِّضَا فليلزم مَا جعل الله رِضَاهُ فِيهِ وَكَذَلِكَ قَول الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان اذا سلا الْبعد عَن الشَّهَوَات فَهُوَ رَاض وَذَلِكَ ان العَبْد انما يمنعهُ من الرِّضَا والقناعة طلب نَفسه لفضول شهواتها فاذا لم يحصل سخط فاذا سلا عَن شهوات

نَفسه رَضِي بِمَا قسم الله لَهُ من الرزق وَكَذَلِكَ مَا ذكره عَن الفضيل بن عِيَاض انه قَالَ لبشر الحافي الرِّضَا افضل من الزّهْد فِي الدُّنْيَا لِأَن الراضي لَا يتَمَنَّى فَوق مَنْزِلَته كَلَام حسن لَكِن اشك فِي سَماع بشر الحافي من الفضيل وَكَذَلِكَ مَا ذكره مُعَلّقا قَالَ وَقيل قَالَ الشبلي بَين يَدي الْجُنَيْد لَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه فَقَالَ الْجُنَيْد قَوْلك ذَا ضيق صدر وضيق الصَّدْر لترك الرِّضَا بِالْقضَاءِ فَإِن هَذَا من احسن الْكَلَام وَكَانَ الْجُنَيْد رَضِي الله عَنهُ سيد الطَّائِفَة وَمن احسنهم تَعْلِيما وتأديبا وتقويما وَذَلِكَ ان هَذِه الْكَلِمَة هِيَ كلمة استعانة لَا كلمة استرجاع وَكثير من النَّاس يَقُولهَا عِنْد المصائب بِمَنْزِلَة الاسترجاع ويقولها جزعا لَا صبرا

فالجنيد انكر على الشبلي حَاله فِي سَبَب قَوْله لَهَا اذ كَانَت حَالا يُنَافِي الرِّضَا وَلَو قَالَهَا على الْوَجْه الْمَشْرُوع لم يُنكر عَلَيْهِ وَفِيمَا ذكره آثَار ضَعِيفَة مثل مَا ذكره مُعَلّقا قَالَ وَقيل قَالَ مُوسَى الهي دلَّنِي على عمل اذا عملته رضيت عني فَقَالَ انك لَا تطِيق ذَلِك فَخر مُوسَى سَاجِدا متضرعا فَأوحى الله اليه يَا ابْن عمرَان رضائي فِي رضائك عني فَهَذِهِ الْحِكَايَة الاسرائيلية فِيهَا نظر فَإِنَّهُ قد يُقَال لَا يصلح ان يحْكى مثلهَا عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعْلُوم ان هَذِه الاسرئيليات لَيْسَ لَهَا اسناد وَلَا تقوم بهَا حجَّة فِي شَيْء من الدّين الا اذا كَانَت منقوله لنا نقلا صَحِيحا مثل مَا ثَبت عَن

نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه حَدثنَا بِهِ عَن بني اسرائيل وَلَكِن مِنْهُ مَا يعلم كذبه مثل هَذِه فَإِن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من أعظم اولى الْعَزْم واكابر الْمُرْسلين فيكف يُقَال انه لَا يُطيق ان يعْمل مَا يُرْضِي الله بِهِ عَنهُ وَالله تَعَالَى رَضِي عَن السَّابِقين الاولين من الْمُهَاجِرين والانصار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان افلا يرضى عَن مُوسَى بن عمرَان كليم الرَّحْمَن وَقَالَ تَعَالَى ان الَّذين امنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات اولئك هم خير الْبَريَّة جزاؤهم عِنْد رَبهم جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الانهارخ الدّين فِيهَا ابدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ سُورَة الْبَيِّنَة 867 وَمَعْلُوم ان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام من افضل الَّذين امنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات

ثمَّ ان الله خص مُوسَى بمزية فَوق الرِّضَا حَيْثُ قَالَ {وألقيت عَلَيْك محبَّة مني ولتصنع على عَيْني} سُورَة طه 39 ثمَّ ان قَوْله لَهُ فِي الْخطاب يَا ابْن عمرَان يُخَالف مَا ذكره الله من خطابه لَهُ فِي الْقُرْآن حَيْثُ قَالَ يَا مُوسَى وَذَلِكَ الْخطاب فِيهِ نوع غض مِنْهُ كَمَا يظْهر وَمثل مَا ذكره عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ انه كتب لأبي مُوسَى الاشعري اما بعد فَإِن الْخَيْر كُله فِي الرِّضَا فَإِن اسْتَطَعْت ان ترْضى والا فاصبر فَهَذَا الْكَلَام كَلَام حسن وان لم يعلم اسناده واذا تبين ان فِيمَا ذكره مُسْندًا ومرسلا ومعلقا مَا هُوَ صَحِيح فَهَذِهِ الْكَلِمَة لم يذكرهَا عَن ابي سُلَيْمَان الا مُرْسلَة وبمثل ذَلِك لَا تثبت عَن ابي سُلَيْمَان بِاتِّفَاق النَّاس فَإِنَّهُ وان قَالَ بعض النَّاس ان الْمُرْسل حجَّة فَهَذَا لم يعلم ان الْمُرْسل هُوَ مثل الضَّعِيف وَغير

الضَّعِيف فَأَما اذا عرف ذَلِك فَلَا تبقى حجَّة بِاتِّفَاق الْعلمَاء كمن علم انه تَارَة يحفظ الاسناد وَتارَة يغلط فِيهِ والكتب المسندة فِي اخبار هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ وَكَلَامهم مثل كتاب حلية الاولياء لأبي نعيم وطبقات الصُّوفِيَّة للشَّيْخ ابي عبد الرَّحْمَن وصفوة الصفوة لِابْنِ الْجَوْزِيّ وامثال ذَلِك لم يذكرُوا فِيهَا هَذِه الْكَلِمَة عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان وَقد ذكرُوا فِيهَا عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان الاثر الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ مُسْندًا حَيْثُ قَالَ لاحمد دبن ابي الْحوَاري يَا احْمَد لقد اوتيت من الرِّضَا نَصِيبا لَو القاني فِي النَّار لَكُنْت بذلك رَاضِيا فَهَذَا الْكَلَام مأثور عَن ابي سُلَيْمَان بِالْإِسْنَادِ وَلِهَذَا اسنده عَنهُ الْقشيرِي من طَرِيق شَيْخه ابي عبد الرَّحْمَن بِخِلَاف تِلْكَ الْكَلِمَة فَإِنَّهَا لم تسند عَنهُ فَلَا اصل لَهَا عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان

ثمَّ ان الْقشيرِي قرن هَذِه الْكَلِمَة الثَّابِتَة عَن ابي سُلَيْمَان بِكَلِمَة احسن مِنْهَا فَإِنَّهُ قبل ان يَرْوِيهَا قَالَ وَسُئِلَ ابو عُثْمَان يَعْنِي ابا عُثْمَان الْحِيرِي النَّيْسَابُورِي عَن قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَسأَلك الرِّضَا بعد الْقَضَاء فَقَالَ لِأَن الرِّضَا بعد الْقَضَاء هُوَ الرِّضَا فَهَذَا الَّذِي قَالَه الشَّيْخ ابو عُثْمَان كَلَام حسن سديد ثمَّ اسند بعد هَذَا عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان انه قَالَ ارجو ان اكون عرفت طرفا من الرِّضَا لَو انه ادخلني النَّار لَكُنْت بذلك رَاضِيا فَتبين بذلك ان مَا قَالَه ابو سُلَيْمَان لَيْسَ هُوَ رضى وانما هُوَ عزم

على الرِّضَا وانما الرِّضَا مَا يكون بعد الْقَضَاء واذا كَانَ هَذَا عزما على الرِّضَا فالعزم قد يَدُوم وَقد يَنْفَسِخ وَمَا اكثر انْفِسَاخ عزائم النَّاس خُصُوصا الصُّوفِيَّة وَلِهَذَا قيل لبَعْضهِم بِمَ عرفت الله قَالَ بِفَسْخ العزائم وَنقض الهمم وَقد قَالَ تَعَالَى لمن هُوَ افضل من هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ {وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت من قبل أَن تلقوهُ فقد رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُم تنْظرُون} سُورَة آل عمرَان 143 وَقَالَ تَعَالَى يَا ايها الَّذين امنوا لم تَقولُونَ مَالا تَفْعَلُونَ كبر مقتا عِنْد الله ان تَقولُوا مَالا تَفْعَلُونَ ان الله يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص سُورَة الصَّفّ 42 وَفِي التِّرْمِذِيّ ان بعض الصَّحَابَة قَالُوا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو علمنَا أَي الْعَمَل احب الى الله لعملناه فَأنْزل الله هَذِه الاية

وَقد قَالَ تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين قيل لَهُم كفوا أَيْدِيكُم وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال إِذا فريق مِنْهُم يَخْشونَ النَّاس كخشية الله أَو أَشد خشيَة وَقَالُوا رَبنَا لم كتبت علينا الْقِتَال لَوْلَا أخرتنا إِلَى أجل قريب} الاية سُورَة النِّسَاء 77 فَهَؤُلَاءِ الَّذين كَانُوا قد عزموا على الْجِهَاد واحبوه لما ابتلوا بِهِ كرهوه وفروا مِنْهُ واين الم الْجِهَاد من الم النَّار وَعَذَاب الله الَّذِي لَا طَاقَة لأحد بِهِ مثل هَذَا يذكر عَن سمنون الْمُحب انه كَانَ يَقُول ... وَلَيْسَ لي فِي سواك حَظّ ... فَكيف مَا شِئْت فاختبرني ... فَأَخذه الاسر من سَاعَته أَي حصر بَوْله فَكَانَ يَدُور على الْمكَاتب وَيفرق الْجَوْز على الصّبيان وَيَقُول ادعوا لعمكم الْكذَّاب وَحكى ابو نعيم الاصبهاني عَن ابي بكر الوَاسِطِيّ انه

قَالَ قَالَ سمنون يَا رب قد رضيت بِكُل مَا تقضيه على فاحتبس بَوْله اربعة عشر يَوْمًا فَكَانَ يتلوى كَمَا تتلوى الْحَيَّة على الرمل يتلوى يَمِينا وَشمَالًا فَلَمَّا اطلق بَوْله قَالَ يَا رب تبت اليك قَالَ ابو نعيم فَهَذَا الرِّضَا الَّذِي ادّعى سمنون ظهر غلطه فِيهِ بِأَدْنَى بلوى هَذَا مَعَ ان سمنون كَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْمحبَّة وَله مقَام مَشْهُور حَتَّى روى عَن ابراهيم بن فاتك انه قَالَ رَأَيْت سمنونا يتَكَلَّم على النَّاس فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فجَاء طَائِر صَغِير فَقرب مِنْهُ ثمَّ قرب فَلم يزل يدنو مِنْهُ

حَتَّى جلس على يَده ثمَّ لم يزل يضْرب بمنقاره الارض حَتَّى سقط مِنْهُ دم وَمَات الطَّائِر قَالَ ورأيته تكلم يَوْمًا فِي الْمحبَّة فَاصْطَفَقَتْ قناديل الْمَسْجِد وَكسر بَعْضهَا بَعْضًا وَقد ذكر الْقشيرِي فِي بَاب الرِّضَا عَن رُوَيْم الْمقري رَفِيق سمنون حِكَايَة تناسب هَذَا حَيْثُ قَالَ قَالَ رُوَيْم الرِّضَا ان لَو جعل جَهَنَّم عَن يَمِينه مَا سَأَلَ الله ان يحولها عَن يسَاره فَهَذَا يشبه قَول سمنون فَكيف مَا شِئْت فامتحني واذا لم يطق الصَّبْر على عسر الْبَوْل افيطيق ان تكون جَهَنَّم عَن يمنيه

والفضيل بن عِيَاض كَانَ اعلى طبقَة من هَؤُلَاءِ وابتلى بعسر الْبَوْل فغلبه الالم حَتَّى قَالَ بحبي لَك الا فرجت عني فانفرج عَنهُ ورويم وان كَانَ من رُفَقَاء الْجُنَيْد فَلَيْسَ هُوَ عِنْدهم من هَذِه الطَّبَقَة بل الصُّوفِيَّة يَقُولُونَ انه رَجَعَ الى الدُّنْيَا وَترك التصوف حَتَّى روى عَن جَعْفَر الْخُلْدِيِّ صَاحب الْجُنَيْد انه قَالَ من اراد ان يستكتم سرا فَلْيفْعَل كَمَا فعل رُوَيْم كتم حب الدُّنْيَا اربعين سنة فَقيل وَكَيف يتَصَوَّر ذَلِك قَالَ ولى اسماعيل بن اسحاق القَاضِي قَضَاء بَغْدَاد وَكَانَت بَينهمَا مَوَدَّة اكيدة فَجَذَبَهُ اليه وَجعله وَكيلا على بَابه فَترك لبس التصوف وَلبس الْخَزّ والقصب والديبقى وَأكل الطَّيِّبَات وَبنى الدّور واذا هُوَ كَانَ يكتم حب الدُّنْيَا مَا لم يجدهَا فَلَمَّا وجدهَا اظهر مَا كَانَ يكتم من حبها هَذَا مَعَ انه رَحمَه الله كَانَ لَهُ من الْعِبَادَات مَا هُوَ مَعْرُوف وَكَانَ فَقِيها على مَذْهَب دَاوُد

وَهَذِه الْكَلِمَات الَّتِي تصدر عَن صَاحب حَال لم يفكر فِي لَوَازِم اقواله وعواقبها لَا تجْعَل طَريقَة وَلَا تتَّخذ سَبِيلا وَلَكِن قد يسْتَدلّ بهَا على مَا لصَاحِبهَا من الرِّضَا والمحبة وَنَحْو ذَلِك وَمَا مَعَه من التَّقْصِير فِي معرفَة حُقُوق الطَّرِيق وَمَا يقدر عَلَيْهِ من التَّقْوَى وَالصَّبْر وَمَا لَا يقدر عَلَيْهِ من التَّقْوَى وَالصَّبْر وَالرسل صلوَات الله عَلَيْهِم اعْلَم بطرِيق سَبِيل الله واهدى وانصح فَمن خرج عَن سنتهمْ وسبيلهم كَانَ منقوصا مخطئا محروما وان لم يكن عَاصِيا اَوْ فَاسِقًا اَوْ كَافِرًا وَيُشبه هَذَا الاعرابي الَّذِي دخل عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مَرِيض كالفرخ فَقَالَ هَل كنت دَعَوْت الله بِشَيْء فَقَالَ كنت اقول اللَّهُمَّ مَا كنت معذبي بِهِ فِي الاخرة فعجله لي فِي الدُّنْيَا فَقَالَ سُبْحَانَ الله لَا تستطيعه اَوْ لَا تُطِيقهُ هلأ قلت رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الاخرة حَسَنَة وقنا عَذَاب النَّار

فَهَذَا ايضا حمله خَوفه من عَذَاب الاخرة ومحبته لِسَلَامَةِ عاقبته على ان يطْلب تَعْجِيل ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَكَانَ مخطئا فِي ذَلِك غالطا وَالْخَطَأ والغلط مَعَ حسن الْقَصْد وسلامته وَصَلَاح الرجل وفضله وَدينه وزهده وورعه وكراماته كثير جدا فَلَيْسَ من شَرط ولي الله ان يكون مَعْصُوما من الْخَطَأ والغلط بل وَلَا من الذُّنُوب وافضل اولياء الله بعد الرُّسُل ابو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ لما عبر رُؤْيا اصبت بَعْضًا وأخطأت بَعْضًا وَيُشبه وَالله اعْلَم ان ابا سُلَيْمَان لما قَالَ هَذِه الْكَلِمَة لَو القاني فِي النَّار لَكُنْت بذلك رَاضِيا ان يكون بعض النَّاس حَكَاهُ بِمَا

فهمه من الْمَعْنى انه قَالَ الرِّضَا ان لَا تسْأَل الله الْجنَّة وَلَا تستعيذه من النَّار وَتلك الْكَلِمَة الَّتِي قَالَهَا ابو سُلَيْمَان مَعَ انها لَا تدل على رِضَاهُ بذلك وَلَكِن تدل على عَزمَة بِالرِّضَا بذلك وَنحن نعلم ان ذَلِك الْعَزْم لَا يسْتَمر بل يَنْفَسِخ وان مثل هَذِه الْكَلِمَة كَانَ تَركهَا احسن من قَوْلهَا وانها مستدركة كَمَا استدركه دَعْوَى سمنون ورويم وَغير ذَلِك فَإِن بَين هَذِه الْكَلِمَة وَبَين تِلْكَ فرقا عَظِيما فان تِلْكَ الْكَلِمَة مضمونها ان من سَأَلَ الله الْجنَّة واستعاذه من النَّار لَا يكون رَاضِيا وَفرق بَين من يَقُول انا اذا فعل بِي كَذَا كنت رَاضِيا وَبَين من يَقُول لَا يكون رَاضِيا الا من لَا يطْلب خيرا وَمن لَا يهرب من شَرّ وَبِهَذَا وَغَيره يعلم ان الشَّيْخ ابا سُلَيْمَان كَانَ اجل من ان

يَقُول مثل هَذَا الْكَلَام فَإِن الشَّيْخ ابا سُلَيْمَان من اجلاء الْمَشَايِخ وساداتهم وَمن اتبعهم للشريعة حَتَّى انه كَانَ يَقُول انه ليمر بقلبي النُّكْتَة من نكت الْقَوْم فَلَا اقبلها الا بِشَاهِدين الْكتاب وَالسّنة فَمن لَا يقبل نكت قلبه الا بِشَاهِدين يَقُول مثل هَذَا الْكَلَام وَقَالَ الشَّيْخ ابو سُلَيْمَان ايضا لَيْسَ لمن ألهم شَيْئا من الْخَيْر ان يَفْعَله حَتَّى يسمع فِيهِ بأثر فَإِذا سمع فِيهِ بأثر كَانَ نورا على نور بل صَاحبه احْمَد بن ابي الْحوَاري كَانَ من اتبع الْمَشَايِخ للسّنة فَكيف ابو سُلَيْمَان وَتَمام تَزْكِيَة ابي سُلَيْمَان من هَذَا الْكَلَام يظْهر بالْكلَام فِي الْمقَام الثَّانِي وَهُوَ قَول الْقَائِل كَائِنا من كَانَ الرِّضَا ان لَا تسْأَل الله الْجنَّة وَلَا تستعيذه من النَّار ونقدم قبل ذَلِك مُقَدّمَة يتَبَيَّن

بهَا اصل مَا وَقع فِي مثل هَذِه الْكَلِمَات من الِاشْتِبَاه وَالِاضْطِرَاب وَذَلِكَ ان قوما كثيرا من النَّاس من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة وَغَيرهم ظنُّوا ان الْجنَّة لَيست إِلَّا التنعم بالمخلوق من اكل وَشرب ولباس وَنِكَاح وَسَمَاع اصوات طيبَة وشم رَوَائِح طيبَة وَلم يدخلُوا فِي مُسَمّى الْجنَّة نعيما غير ذَلِك ثمَّ صَارُوا حزبين حزبا انكروا ان يكون للعباد نعيم غير تنعمهم بِهَذِهِ الامور المخلوقة واشباهها ثمَّ من هَؤُلَاءِ من انكر ان يكون الْمُؤْمِنُونَ يرَوْنَ رَبهم كَمَا ذهب الى ذَلِك الْجَهْمِية من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم وَمِنْهُم من اقر بِالرُّؤْيَةِ اما الرُّؤْيَة الَّتِي اخبر بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا هُوَ مَذْهَب اهل السّنة وَالْجَمَاعَة واما بِرُؤْيَة فَسرهَا بِزِيَادَة كشف اَوْ علم اَوْ جعلهَا بحاسة سادسة وَنَحْو

ذَلِك من الاقوال الَّتِي ذهب اليها ضرار بن عَمْرو وَطَوَائِف من اهل الْكَلَام المنتسبين الى نصر اهل السّنة فِي مَسْأَلَة الرُّؤْيَة وان كَانَ مَا يثبتونه من جنس مَا نفته الْمُعْتَزلَة والضرارية والنزاع بَينهم لَفْظِي ونزاعهم مَعَ اهل السّنة معنوي وَلِهَذَا كَانَ بشر المريسي وامثاله يفسرون الرُّؤْيَة بِنَحْوِ من تَفْسِير هَؤُلَاءِ وَالْمَقْصُود هُنَا ان مثبتة الرُّؤْيَة مِنْهُم من انكر ان يكون الْمُؤمن ينعم بِنَفس رُؤْيَته ربه قَالُوا لِأَنَّهُ لَا مُنَاسبَة بَين الْمُحدث وَالْقَدِيم كَمَا ذكر ذَلِك الاستاذ ابو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ فِي الرسَالَة النظامية وكما ذكره ابو الْوَفَاء بن عقيل فِي بعض كتبه

ونقلوا عَن ابْن عقيل انه سمع قَائِلا يَقُول أَسأَلك لَذَّة النّظر الى وَجهك فَقَالَ يَا هَذَا هَب ان لَهُ وَجها اله وَجه يتلذذ بِالنّظرِ اليه وَذكر ابو الْمَعَالِي ان الله يخلق لَهُم نعيما بِبَعْض الْمَخْلُوقَات مُقَارنًا للرؤية فَأَما التنعم بِنَفس الرُّؤْيَة فَأنكرهُ وَجعل هَذَا من اسرار التَّوْحِيد واكثر مثبتي الرُّؤْيَة يقرونَ بتنعم الْمُؤمنِينَ بِرُؤْيَة رَبهم وَهُوَ مَذْهَب سلف الامة وأئمتها ومشايخ الطَّرِيق

كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّهُمَّ بعلمك الْغَيْب وبقدرتك على الْخلق احيني مَا كَانَت الْحَيَاة خيرا لي وتوفني اذا كَانَت الْوَفَاة خيرا لي اللَّهُمَّ اني أَسأَلك خشيتك فِي الْغَيْب وَالشَّهَادَة وَأَسْأَلك كلمة الْحق فِي الْغَضَب وَالرِّضَا وَأَسْأَلك الْقَصْد فِي الْفقر والغنى وَأَسْأَلك نعيما لَا ينْفد وقرة عين لَا تَنْقَطِع وَأَسْأَلك الرِّضَا بعد الْقَضَاء وَأَسْأَلك برد الْعَيْش بعد الْمَوْت وَأَسْأَلك لَذَّة النّظر الى وَجهك وَأَسْأَلك الشوق الى لقائك فِي غير ضراء مضرَّة وَلَا فتْنَة مضلة اللَّهُمَّ زينا بزينة الايمان واجعلنا هداة مهتدين وَفِي صَحِيح مُسلم وَغَيره عَن صُهَيْب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اذا دخل اهل الْجنَّة الْجنَّة نَاد مُنَاد يَا اهل الْجنَّة ان لكم عِنْد الله موعدا يُرِيد ان ينجزكموه فَيَقُولُونَ مَا هُوَ الم يبيض وُجُوهنَا ويثقل موازيننا ويدخلنا الْجنَّة ويجرنا من النَّار قَالَ

فَيكْشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ اليه فَمَا اعطاهم شَيْئا احب اليهم من النّظر اليه وَكلما كَانَ الشَّيْء احب كَانَت اللَّذَّة بنيله اعظم وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين السّلف والائمة ومشايخ الطَّرِيق كَمَا روى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ انه قَالَ لَو علم العابدون انهم لَا يرَوْنَ رَبهم فِي الاخرة لذابت نُفُوسهم فِي الدِّينَا شوقا اليه وَكَلَامهم فِي ذَلِك كثير ثمَّ هَؤُلَاءِ الَّذين وافقوا السّلف والائمة والمشايخ على التنعم بِالنّظرِ الى الله تَعَالَى وَتَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَة الْمحبَّة الَّتِي هِيَ اصل ذَلِك فَذهب طوائف من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء الى ان الله لَا تحب نَفسه وانما الْمحبَّة محبَّة طَاعَته وعبادته وَقَالُوا هُوَ ايضا لَا يحب عباده الْمُؤمنِينَ وانما محبته ارادته للإحسان اليهم ولإثابتهم وَدخل فِي هَذَا القَوْل من انتسب الى نصر السّنة من اهل

الْكَلَام حَتَّى وَقع فِيهِ طَائِفَة من اصحاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَاحْمَدْ كَالْقَاضِي ابي بكر وَالْقَاضِي ابي يعلى وابي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وامثال هَؤُلَاءِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة شُعْبَة من التجهم والاعتزال فَإِن اول من انكر الْمحبَّة فِي الاسلام الْجَعْد بن دِرْهَم استاذ الجهم بن صَفْوَان

فضحى بِهِ خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي وَقَالَ ايها النَّاس ضحوا تقبل الله ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مضح بالجعد بن دِرْهَم انه زعم ان الله لم يتَّخذ ابراهيم خَلِيلًا وَلم يكلم مُوسَى تكليما ثمَّ نزل فذبحه وَالَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَاتفقَ عَلَيْهِ سلف الامة وأئمتها وَجَمِيع مَشَايِخ الطَّرِيق ان الله يحب وَيُحب وَلِهَذَا وافقهم على ذَلِك من تصوف من اهل الْكَلَام كَأبي الْقَاسِم الْقشيرِي وابي حَامِد الْغَزالِيّ وامثالهما وَنصر ذَلِك ابو حَامِد فِي الاحياء وَغَيره وَكَذَلِكَ ابو الْقَاسِم ذكر ذَلِك فِي الرسَالَة على طَرِيق الصُّوفِيَّة كَمَا فِي كتاب ابي طَالب الْمَكِّيّ الْمُسَمّى بقوت الْقُلُوب وابو حَامِد مَعَ كَونه تَابع فِي ذَلِك الصُّوفِيَّة اسْتندَ فِي ذَلِك

لما وجده من كتب الفلاسفة من اثبات نَحْو ذَلِك حَيْثُ قَالُوا يعشق ويعشق وَقد بسطت الْكَلَام على هَذِه الْمَسْأَلَة الْعَظِيمَة فِي الْقَوَاعِد الْكِبَار بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه وَقد قَالَ الله تَعَالَى {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} سُورَة الْمَائِدَة 54 وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} سُورَة الْبَقَرَة 165 وَقَالَ تَعَالَى {أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله} سُورَة التَّوْبَة 24 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ ثَلَاث من كن فِيهِ وجد حلاوة الايمان ان يكون الله وَرَسُوله احب اليه مِمَّا سواهُمَا وان يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ الا لله وان يكره ان يرجع فِي الْكفْر بعد ان انقذه الله مِنْهُ كَمَا يكره ان يقذف فِي النَّار

وَالْمَقْصُود هُنَا ان هَؤُلَاءِ المتجهمة من الْمُعْتَزلَة وَمن وافقهم الَّذين يُنكرُونَ حَقِيقَة الْمحبَّة يلْزمهُم ان ينكروا التَّلَذُّذ بِالنّظرِ اليه وَلِهَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة عِنْدهم الا التنعم بِالْأَكْلِ وَالشرب وَنَحْو ذَلِك وَهَذَا القَوْل بَاطِل بِالْكتاب وَالسّنة واتفاق سلف الامة ومشايخها فَهَذَا اُحْدُ الحزبين الغالطين والحزب الثَّانِي طوائف من المتصرفة والمتفقرة والمتنسكة وافقوا هَؤُلَاءِ على ان الْمحبَّة لَيست الا هَذِه الامور الَّتِي يتنعم بهَا الْمَخْلُوق وَلَكِن وافقوا السّلف والائمة على اثبات رُؤْيَة الله والتنعم بِالنّظرِ اليه واصابوا فِي ذَلِك وصاروا يطْلبُونَ هَذَا النَّعيم وتسمو همتهم اليه وَيَخَافُونَ فَوَاته وَصَارَ احدهم يَقُول مَا عبدتك شوقا الى جنتك وَلَا خوفًا من نارك وَلَكِن

لانظر اليك اَوْ اجلالا لَك وامثال هَذِه الْكَلِمَات ومقصودهم بذلك طلب مَا هُوَ اعلى من الاكل وَالشرب والتمتع بالمخلوق وَلَكِن غلطوا فِي اخراج ذَلِك من الْجنَّة وَقد يغلطون ايضا فِي ظنهم انهم يعْبدُونَ الله بلاحظ وَلَا ارادة وان كل مَا يطْلب مِنْهُ فَهُوَ حَظّ النَّفس وتوهموا ان الْبشر يعْمل بِلَا ارادة وَلَا مَطْلُوب وَلَا مَحْبُوب وَهُوَ سوء معرفَة بِحَقِيقَة الايمان وَالدّين والاخرة وَسبب ذَلِك ان همة احدهم الْمُتَعَلّقَة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تقنيه عَن نَفسه حَتَّى لَا يشْعر بِنَفسِهِ واراداتها فيظن انه يفعل بِغَيْر مُرَاد وَالَّذِي طلبه وعلق بِهِ همته هُوَ غَايَة مُرَاده ومحبوبه ومطلوبه وَهَذَا كَحال كثير من الصَّالِحين والصادقين وارباب الاحوال والمقامات يكون لاحدهم وجد صَحِيح وذوق سليم لَكِن لَيْسَ لَهُ

عبارَة تبين مُرَاده فَيَقَع فِي كَلَامه غلط وَسُوء ادب مَعَ صِحَة مَقْصُوده وان كَانَ من النَّاس من يَقع مِنْهُ غلط فِي مُرَاده واعتقاده فَهَؤُلَاءِ الَّذين قَالُوا مثل هَذَا الْكَلَام اذا عنوا بِهِ طلب رُؤْيَة الله تَعَالَى اصابوا فِي ذَلِك لَكِن أخطأوا من جِهَة انهم جعلُوا ذَلِك خَارِجا عَن الْجنَّة فأسقطوا حُرْمَة اسْم الْجنَّة وَلزِمَ من ذَلِك امور مُنكرَة وَنَظِير ذَلِك مَا ذكره عَن الشبلي رَحمَه الله انه سمع قَارِئًا يقْرَأ {مِنْكُم من يُرِيد الدُّنْيَا ومنكم من يُرِيد الْآخِرَة} سُورَة آل عمرَان 152 فَصَرَخَ وَقَالَ ايْنَ من يُرِيد الله فيحمد مِنْهُ كَونه اراد الله وَلَكِن غلط فِي ظَنّه ان الَّذين ارادوا الأخرة مَا ارادوا الله

وَهَذِه الاية فِي اصحاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين كَانُوا مَعَه بِأحد وهم افضل الْخلق فَإِن لم يُرِيدُوا الله افيريد الله من هُوَ دونهم كالشبلي وامثاله وَمثل ذَلِك مَا اعرفه عَن بعض الْمَشَايِخ انه سُئِلَ مرّة عَن قَوْله {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} سُورَة التَّوْبَة 111 قَالَ فَإِذا كَانَت الانفس والاموال فِي ثمن الْجنَّة فالرؤية بِمَ تنَال فَأَجَابَهُ مُجيب بِمَا يشبه هَذَا السُّؤَال وَالْوَاجِب ان نعلم ان كل مَا اعده الله لأوليائه من نعيم بِالنّظرِ اليه وَمَا سوى ذَلِك فَهُوَ فِي الْجنَّة كَمَا ان كل مَا توعد بِهِ اعداءه هُوَ فِي النَّار وَقد قَالَ تَعَالَى {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} سُورَة السَّجْدَة 17

وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الله اعددت لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا اذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر بله مَا اطعتم عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْله فِي حَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان ادنى اهل الْجنَّة منزلَة من ينظر فِي ملكه من مسيرَة الف عَام وان اعلاهم منزلَة من ينظر الى وَجه الله بكرَة وعشيا

وَقَوله فِي حَدِيث صُهَيْب اذا دخل اهل الْجنَّة الْجنَّة نَادَى مُنَاد يَا اهل الْجنَّة ان لكم عِنْد الله موعدا الحَدِيث ثمَّ قَالَ فَيكْشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ اليه وَشبه ذَلِك واذا علم ان جَمِيع ذَلِك وامثاله دَاخل فِي الْجنَّة فَالنَّاس على دَرَجَات متفاوته كَمَا قَالَ تَعَالَى {انْظُر كَيفَ فضلنَا بَعضهم على}

{بعض وللآخرة أكبر دَرَجَات وأكبر تَفْضِيلًا} سُورَة الاسراء 21 وكل مَطْلُوب للْعَبد بِعبَادة وقربة اَوْ دُعَاء اَوْ غير ذَلِك من مطَالب الاخرة هُوَ فِي الْجنَّة وَطلب الْجنَّة والاستعاذة من النَّار طَرِيق انبياء الله وَرُسُله وَجَمِيع اولياء الله السَّابِقين المقربين واصحاب الْيَمين كَمَا فِي السّنَن ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ بعض اصحابه كَيفَ تَقول فِي دعائك قَالَ اقول اللَّهُمَّ اني أَسأَلك الْجنَّة واعوذ بك من النَّار اما اني لَا احسن دندنتك وَلَا دندنة معَاذ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حولهَا ندندن فقد اخبر انه

هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعاذ وَهُوَ افضل الائمة الراتبين بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انما يدندنون حول الْجنَّة أفيكون قَول اُحْدُ فَوق قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعاذ وَمن يُصَلِّي خلفهمَا من الْمُهَاجِرين والانصار وَلَو طلب هَذَا العَبْد مَا طلب كَانَ فِي الْجنَّة وَأهل الْجنَّة نَوْعَانِ سَابِقُونَ مقربون وأبرار أَصْحَاب يَمِين قَالَ تَعَالَى كلا ان كتاب الابرار لفي عليين وَمَا ادراك مَا عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون ان الابرار لفي نعيم على الأرائك ينظرُونَ تعرف فِي وُجُوههم نَضرة النَّعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بهَا المقربون سُورَة المطففين 18 27

قَالَ ابْن عَبَّاس تمزج لأَصْحَاب الْيَمين مزجا ويشربها المقربون صرفا وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ اذا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذّن فَقولُوا مثل مَا يَقُول ثمَّ صلوا على فانه من صلى على مرّة صلى الله عَلَيْهِ عشرا ثمَّ سلوا الله لي الْوَسِيلَة فانها دَرَجَة فِي الْجنَّة لَا تنبغي الا لعبد من عباد الله وارجو ان اكون انا ذَلِك العَبْد فَمن سَأَلَ الله لي الْوَسِيلَة حلت عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَة فقد اخبر ان الْوَسِيلَة الَّتِي لَا تصلح الا لعبد وَاحِد من عباد الله وَرَجا ان يكون هُوَ ذَلِك العَبْد هِيَ دَرَجَة فِي الْجنَّة فَهَل بَقِي بعد الْوَسِيلَة شَيْء اعلى مِنْهَا يكون خَارِجا عَن الْجنَّة يصلح للمخلوقين

وَثَبت فِي الصَّحِيح ايضا فِي حَدِيث الْمَلَائِكَة الَّذين يَلْتَمِسُونَ النَّاس فِي مجَالِس الذّكر قَالَ فَيَقُولُونَ للرب تَعَالَى وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك قَالَ فَيَقُول وَمَا يطْلبُونَ قَالُوا يطْلبُونَ الْجنَّة قَالَ فَيَقُول وَهل رأوها قَالَ فَيَقُولُونَ لَا قَالَ فَيَقُول فَكيف لَو رأوها قَالَ فَيَقُولُونَ لَو رأوها لكانوا اشد لَهَا طلبا قَالَ وَمِمَّا يستعيذون قَالُوا يستعيذون من النَّار قَالَ فَيَقُول فَهَل رأوها قَالَ فَيَقُولُونَ لَا قَالَ فَيَقُول فيكف لَو رأوها قَالُوا لَو رأوها لكانوا اشد مِنْهَا استعاذه قَالَ فَيَقُول اشهدكم اني قد اعطيتهم مَا يطْلبُونَ واعذتهم مِمَّا يستعيذون اَوْ كَمَا قَالَ قَالَ فَيَقُولُونَ فيهم فلَان الخطاء جَاءَ لحَاجَة فَجَلَسَ مَعَهم قَالَ فَيَقُول هم الْقَوْم لَا يشقى

بهم جليسهم فَهَؤُلَاءِ الَّذين هم من افضل اولياء الله كَانَ مطلوبهم الْجنَّة ومهربهم من النَّار وايضا فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بَايع الانصار لَيْلَة الْعقبَة وَكَانَ الَّذين بَايعُوهُ من افضل السَّابِقين الاولين الَّذين هم افضل من هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ كلهم قَالُوا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْترط لِرَبِّك وَلِنَفْسِك ولاصحابك قَالَ اشْتَرِ لنَفْسي ان تنصروني مِمَّا تنْصرُونَ مِنْهُ انفسكم واهليكم وَاشْترط لِأَصْحَابِي ان تواسوهم قَالُوا فَإِذا فعلنَا ذَلِك فَمَا لنا قَالَ لكم الْجنَّة قَالُوا امدد يدك فوَاللَّه لَا نقيلك وَلَا نستقيلك وَقد قالو لَهُ فِي اثناء

الْبيعَة ان بَيْننَا وَبَين الْقَوْم حِبَالًا وعهودا وانا ناقضوها فَهَؤُلَاءِ الَّذين بَايعُوهُ هم من اعظم خلق الله محبَّة لله وَرَسُوله وبذلا لنفوسهم واموالهم فِي رضَا الله وَرَسُوله على وَجه لَا يلحقهم فِيهِ اُحْدُ من هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرين قد كَانَ غَايَة مَا طلبوه بذلك الْجنَّة فَلَو كَانَ هُنَاكَ مَطْلُوب اعلى من ذَلِك لطلبوه لكِنهمْ علمُوا ان فِي الْجنَّة كل مَحْبُوب ومطلوب بل وَفِي الْجنَّة مَا لَا

تشعر بِهِ النُّفُوس لتطلبه فَإِن الطّلب وَالْحب والارادة فرع عَن الشُّعُور والاحساس والتصور فَمَا لَا يحسه الانسان وَلَا يتصوره وَلَا يشْعر بِهِ يمْتَنع ان يَطْلُبهُ وَيُحِبهُ ويريده وَالْجنَّة فِيهَا هَذَا وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَهُم مَا يشاؤون فِيهَا ولدينا مزِيد} سُورَة ق 35 وَقَالَ {وفيهَا مَا تشتهيه الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين} سُورَة الزخرف 71 فَفِيهَا كل مَا يشتهونه وفيهَا مزِيد على ذَلِك وَهُوَ مَا لم يبلغهُ علمهمْ ليشتهوه كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا اذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر وَهَذَا بَاب وَاسع فَإِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة فَقَوْل الْقَائِل الرِّضَا ان لَا تسْأَل الله الْجنَّة وَلَا تستعيذه من النَّار ان اراد بذلك ان لَا تسْأَل الله مَا هُوَ دَاخل فِي مُسَمّى الْجنَّة الشَّرْعِيَّة فَلَا تسأله النّظر اليه وَلَا غير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَطْلُوب جَمِيع الانبياء والاولياء وانك لَا تستعيذ بِهِ

لَا من احتجابه عَنْك وَلَا من تعذيبك فِي النَّار فَهَذَا الْكَلَام مَعَ كَونه مُخَالفا لجَمِيع الانبياء وَالْمُرْسلِينَ وَسَائِر الْمُؤمنِينَ فَهُوَ متناقض فِي نَفسه فَاسد فِي صَرِيح الْمَعْقُول وَذَلِكَ ان الراضي الَّذِي لَا يسْأَل انما لَا يسْأَله لرضاه عَن الله وَرضَاهُ عَنهُ انما هُوَ بعد مَعْرفَته بِهِ ومحبته لَهُ فَإِذا قدر انه حجب فَرضِي بِزَوَال كل نعيم فَرضِي بِزَوَال رِضَاهُ عَن الله وبزوال محبته لله واذا لم يبْق مَعَه رضَا عَن الله وَلَا محبَّة لله فَكَأَنَّهُ قَالَ يُرْضِي ان لَا يرضى وَهَذَا جمع بَين النقيضين وَلَا ريب انه كَلَام من لم يتَصَوَّر مَا يَقُول وَلَا عقله يُوضح ذَلِك ان الراضي انما يحملهُ على احْتِمَال المكاره والآلام مَا يجده من لَذَّة الرِّضَا وحلاوته فَإِذا فقد تِلْكَ الْحَلَاوَة واللذة امْتنع ان يحْتَمل الما ومرارة فَكيف يتَصَوَّر ان يكون رَاضِيا وَلَيْسَ مَعَه من حلاوة الرِّضَا مَا يحمل بِهِ مرَارَة المكاره

وانما هَذَا من جنس كَلَام السَّكْرَان والفاني الَّذِي وجد فِي نَفسه حلاوة الرِّضَا فَظن ان هَذَا يبْقى مَعَه على أَي حَال كَانَ وَهَذَا غلط عَظِيم مِنْهُ كغلط سمنون كَمَا تقدم وان اراد بذلك ان لَا يسْأَل التَّمَتُّع بالمخلوق بل يسْأَل مَا هُوَ اعلى من ذَلِك فقد غلط من وَجْهَيْن من جِهَة انه لم يَجْعَل ذَلِك الْمَطْلُوب من الْجنَّة وَهُوَ أَعلَى نعيم الْجنَّة وَمن جِهَة انه ايضا اثْبتْ انه طَالب مَعَ كَونه رَاضِيا فَإِذا كَانَ الرِّضَا لَا يُنَافِي هَذَا الطّلب فَلَا يُنَافِي طلبا اخر اذا كَانَ مُحْتَاجا الى مَطْلُوبه وَمَعْلُوم ان تنعمه بِالنّظرِ لَا يتم الا بسلامته من النَّار وبتنعمه من الْجنَّة بِمَا هُوَ دون النّظر وَمَا لَا يتم الْمَطْلُوب الا بِهِ فَهُوَ مَطْلُوب فَيكون طلبه للنَّظَر طلبا للوازمه الَّتِي مِنْهَا النجَاة من النَّار فَيكون رِضَاهُ لَا يُنَافِي طلب حُصُول الْمَنْفَعَة وَلَا دفع الْمضرَّة عَنهُ وَلَا طلب حُصُول الْجنَّة وَدفع النَّار وَلَا غَيرهمَا مِمَّا هُوَ من لَوَازِم النّظر فَتبين تنَاقض قَوْله وايضا فَإِذا لم يسْأَل الله الْجنَّة لم يستعذ بِهِ من النَّار فإمَّا ان يطْلب من الله مَا هُوَ دون ذَلِك مِمَّا يحْتَاج اليه من جلب مَنْفَعَة وَدفع

مضبرة واما ان لَا يَطْلُبهُ فَإِن طلب مَا هُوَ دون ذَلِك واستعاذ مِمَّا هُوَ دون ذَلِك فَطَلَبه للجنة اولى واستعاذته من النَّار اولى وان كَانَ الرِّضَا ان لَا يطْلب شَيْئا قطّ وَلَو كَانَ مُضْطَرّا اليه وَلَا يستعيذ من شَيْء قطّ وَلَو كَانَ مضرا بِهِ فَلَا يَخْلُو اما ان يكون ملتفتا بِقَلْبِه الى الله فِي ان يفعل بِهِ ذَلِك واما ان يكون معرضًا عَن ذَلِك فَإِن الْتفت بِقَلْبِه الى الله فَهُوَ طَالب مستعيذ بِحَالهِ وَلَا فرق بَين الطّلب بِالْحَال والقال بل هُوَ بهما اكمل واتم فَلَا يعدل عَنهُ وان كَانَ معرضًا عَن جَمِيع ذَلِك فَمن الْمَعْلُوم انه لَا يحيا وَيبقى الا بِمَا يُقيم حَيَاته وَيدْفَع مضاره فَذَلِك الَّذِي بِهِ يحيا من طلب جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار اما ان يُحِبهُ ويطلبه ويريده من اُحْدُ اَوْ لَا يُحِبهُ وَلَا يَطْلُبهُ وَلَا يُريدهُ فَإِن احبه وَطَلَبه واراده من غير الله كَانَ مُشْركًا مذموما فضلا على ان يكون مَحْمُودًا

وان قَالَ لَا احبه وَلَا اطلبه وَلَا اريده لَا من الله وَلَا من خلقه قيل هَذَا مُمْتَنع فِي الْحَيّ فَإِن الْحَيّ يمْتَنع عَلَيْهِ ان لَا يحب مَا بِهِ يبْقى وَهَذَا امْر مَعْلُوم بالحس وَمن كَانَ بِهَذِهِ المثابة امْتنع ان يُوصف بِالرِّضَا فَإِن الراضي مَوْصُوف بحب وارادة خَاصَّة اذ الرِّضَا مُسْتَلْزم لذَلِك فَكيف يسلب عَنهُ ذَلِك كُله فَهَذَا وامثاله مِمَّا يبين فَسَاد هَذَا الْكَلَام فِي الْعقل واما الرِّضَا فِي سَبِيل الله وَطَرِيقه وَدينه فَمن وُجُوه احدها ان يُقَال الراضي لَا بُد ان يفعل مَا يرضاه الله الا فَكيف يكون رَاضِيا عَن الله من لَا يفعل مَا يرضاه الله وَكَيف يسوغ رضَا مَا يكرههُ الله ويسخطه ويذمه وَينْهى عَنهُ وَبَيَان هَذَا ان الرِّضَا الْمَحْمُود اما ان يكون الله يُحِبهُ ويرضاه

واما ان لَا يُحِبهُ ويرضاه فَإِن لم يكن يُحِبهُ ويرضاه لم يكن هَذَا الرِّضَا مَأْمُورا بِهِ لَا امْر ايجاب وَلَا امْر اسْتِحْبَاب فَإِن من الرِّضَا مَا هُوَ كفر كرضا الْكفَّار بالشرك وَقتل الانبياء وتكذيبهم ورضاهم بِمَا يسخطه الله ويكرهه قَالَ تَعَالَى {ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} سُورَة مُحَمَّد 28 فَمن اتبع مَا يسْخط الله بِرِضَاهُ وَعَمله فقد اسخط الله وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان الْخَطِيئَة اذا عملت فِي الارض كَانَ من غَابَ عَنْهَا ورضيها كمن شَهِدَهَا وَمن شَهِدَهَا وسخطها كَانَ كمن غَابَ عَنْهَا وانكرها وَقَالَ صلى الله

عَلَيْهِ وَسلم سَيكون بعدِي امراء تعرفُون وتنكرون فَمن انكر فقد برِئ وَمن كره فقد سلم وَلَكِن من رَضِي وتابع وَقَالَ تَعَالَى {يحلفُونَ لكم لترضوا عَنْهُم فَإِن ترضوا عَنْهُم فَإِن الله لَا يرضى عَن الْقَوْم الْفَاسِقين} سُورَة التَّوْبَة 96 فرضانا عَن الْقَوْم الْفَاسِقين لَيْسَ مِمَّا يُحِبهُ الله ويرضاه وَهُوَ لَا يرضى عَنْهُم وَقَالَ تَعَالَى {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة فَمَا مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا قَلِيل} سُورَة التَّوْبَة: 38 فَهَذَا رضى قد ذمه الله وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين لَا يرجون لقاءنا وَرَضوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا واطمأنوا بهَا} سُورَة يُونُس 7 فَهَذَا أَيْضا مَذْمُوم وشواهد هَذَا كَثِيرَة

فَمن رَضِي بِكُفْرِهِ وَكفر غَيره وفسقه وَفسق غَيره ومعاصيه ومعاصي غَيره فَلَيْسَ هُوَ مُتبعا لرضا الله وَلَا هُوَ مُؤمن بِاللَّه بل هُوَ مسخط لرَبه وربه غَضْبَان عَلَيْهِ لَا عَن لَهُ ذام لَهُ متوعد لَهُ بالعقاب وَطَرِيق الله الَّتِي يَأْمر بهَا الْمَشَايِخ المهتدون انما هِيَ الامر بِطَاعَة الله وَالنَّهْي عَن مَعْصِيَته فَمن امْر وَاسْتحبَّ اَوْ مدح الرِّضَا الَّذِي يكرههُ الله ويذمه وَينْهى عَنهُ ويعاقب اصحابه فَهُوَ عَدو لله لَا ولي لله وَهُوَ يصد عَن سَبِيل الله وَطَرِيقه لَيْسَ بسالك لسبيله وَطَرِيقه واذا كَانَ الرِّضَا الْمَوْجُود فِي بني آدم مِنْهُ مَا يُحِبهُ الله وَمِنْه مَا يكرههُ ويسخطه وَمِنْه مَا هُوَ مُبَاح لَا من هَذَا وَلَا من هَذَا كَسَائِر اعمال الْقُلُوب من الْحبّ والبغض وَغير ذَلِك كلهَا يَنْقَسِم الى مَحْبُوب لله ومكروه لله ومباح فَإِذا كَانَ الامر كَذَلِك فالراضي الَّذِي لَا يسْأَل الله الْجنَّة وَلَا يستعيذه من النَّار يُقَال لَهُ سُؤال

الله الْجنَّة واستعاذته من النَّار اما ان تكون وَاجِبَة واما ان تكون مُسْتَحبَّة واما ان تكون مُبَاحَة واما ان تكون مُحرمَة واما ان تكون مَكْرُوهَة وَلَا يَقُول مُسلم انها مُحرمَة وَلَا مَكْرُوهَة وَلَيْسَت ايضا مُبَاحَة مستوية الطَّرفَيْنِ وَلَو قيل انها كَذَلِك فَفعل الْمُبَاح المستوى الطَّرفَيْنِ لَا يُنَافِي الرِّضَا اذ لَيْسَ من شَرط الراضي ان لَا يَأْكُل وَلَا يشرب وَلَا يلبس وَلَا يفعل امثال هَذِه الامور فَإِذا كَانَ مَا يَفْعَله من هَذِه الامور لَا يُنَافِي رِضَاهُ اينافي رِضَاهُ دُعَاء وسؤال هُوَ مُبَاح واذا كَانَ الدُّعَاء وَالسُّؤَال كَذَلِك وَاجِبا اَوْ مُسْتَحبا فمعلوم ان الله يرضى بِفعل الْوَاجِبَات والمستحبات فَكيف يكون الراضي الَّذِي هُوَ من اولياء الله لَا يفعل مَا يرضاه الله وَيُحِبهُ بل يفعل مَا يسخطه ويكرهه وَهَذِه صفة اعداء الله لَا اولياء الله والقشيري قد ذكر هَذَا فِي اوائل بَاب الرِّضَا فَقَالَ اعْلَم ان الْوَاجِب على العَبْد ان يرضى بِقَضَاء الله الَّذِي امْر

بِالرِّضَا بِهِ اذ لَيْسَ كل مَا هُوَ بِقَضَائِهِ يجوز للْعَبد اَوْ يجب على العَبْد الرِّضَا بِهِ كالمعاصي وفنون محن الْمُسلمين وَهَذَا الَّذِي قَالَه قَالَه قبله وَبعده وَغَيره وَمَعَهُ غير وَاحِد من الْعلمَاء كَالْقَاضِي ابي بكر وَالْقَاضِي ابي يعلى وامثالهما لما احْتج عَلَيْهِم بعض الْقَدَرِيَّة بِأَن الرِّضَا بِقَضَاء الله مَأْمُور بِهِ فَلَو كَانَت الْمعاصِي بِقَضَاء الله لَكنا مأمورين بِالرِّضَا بهَا الرِّضَا بِمَا نهى الله عَنهُ لَا يجوز فأجابهم اهل السّنة عَن ذَلِك بِثَلَاثَة اجوبة أَحدهَا وَهُوَ جَوَاب هَؤُلَاءِ وجماهير الائمة ان هَذَا الْعُمُوم لَيْسَ بِصَحِيح فلسنا مأمورين ان نرضى بِكُل مَا قضى وَقدر وَلم يَجِيء فِي الْكتاب وَالسّنة امْر بذلك وَلَكِن علينا ان نرضى بِمَا امرنا بِالرِّضَا بِهِ كطاعة الله وَرَسُوله وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره ابو الْقَاسِم وَالْجَوَاب الثَّانِي انهم قَالُوا انا نرضى بِالْقضَاءِ الَّذِي هُوَ

صفة الله اَوْ فعله وَلَا نرضى بالمقضى الَّذِي هُوَ مَفْعُوله وَفِي هَذَا الْجَواب ضعف قد بَيناهُ فِي غير هَذَا الْموضع الثَّالِث انهم قَالُوا ان هَذِه الْمعاصِي لَهَا وَجْهَان وَجه الى العَبْد من حَيْثُ هِيَ فعله وصنعه وَكَسبه وَوجه الى الرب من حَيْثُ انه خلقهَا وقضاها وقدرها فنرضى من الْوَجْه الَّذِي يُضَاف بِهِ الى الله وَلَا نرضى من الْوَجْه الَّذِي يُضَاف بِهِ الى العَبْد اذ كَونهَا شرا وقبيحة ومحرمة وسببا للعذاب والذم وَنَحْو ذَلِك انما هُوَ من جِهَة كَونهَا مُضَافَة الى العَبْد وَهَذَا مقَام فِيهِ من كشف الْحَقَائِق والاسرار مَا قد ذكرنَا مِنْهُ مَا ذكرنَا فِي غير هَذَا الْموضع وَلَا يحْتَملهُ هَذَا الْمَكَان فَإِن هَذَا مُتَعَلق بمسائل الصِّفَات وَالْقدر وَهُوَ من اعظم مطَالب الدّين واشرف عُلُوم الاولين والاخرين وادقها على عقول اكثر الْعَالمين

وَالْمَقْصُود هُنَا ان مَشَايِخ الصُّوفِيَّة وَغَيرهم من الْعلمَاء قد بينوا أَن من الرِّضَا مَا يكون جَائِزا وَمِنْه مَالا يكون جَائِزا فضلا عَن كَونه مُسْتَحبا اَوْ من صِفَات المقربين وان ابا الْقَاسِم ذكر فِي الرسَالَة ذَلِك ايضا فَإِن قيل هَذَا الَّذِي ذكرتموه امْر بَين وَاضح فَمن ايْنَ غلط من قَالَ الرِّضَا ان لَا تسْأَل الله الْجنَّة وَلَا تستعيذه من النَّار وَغلط من يستحسن مثل هَذَا الْكَلَام كَائِنا من كَانَ قيل غلطوا فِي ذَلِك لأَنهم رَأَوْا ان الراضي بِأَمْر لَا يطْلب غير ذَلِك الامر فَالْعَبْد اذا كَانَ فِي حَال من الاحوال فَمن رِضَاهُ ان لَا يطْلب غير تِلْكَ الْحَال ثمَّ انهم رَأَوْا ان اقصى المطالب الْجنَّة واقصى المكاره النَّار فَقَالُوا يَنْبَغِي ان لَا يطْلب شَيْئا وَلَو انه الْجنَّة وَلَا يكره شَيْئا وَلَو انه النَّار فَهَذَا وَجه غلطهم وَدخل الضلال عَلَيْهِم من وَجْهَيْن احدهما ظنهم ان الرِّضَا بِكُل مَا يكون امْر يُحِبهُ الله ويرضاه

وان هَذَا من اعظم طرق اولياء الله فَجعلُوا الرِّضَا بِكُل حَادث وكائن اَوْ بِكُل حَال يكون فِيهَا العَبْد طَرِيقا الى الله فضلوا ضلالا مُبينًا الطَّرِيق الى الله انما هِيَ ان ترضيه بِأَن تفعل مَا يُحِبهُ ويرضاه لَا ان ترْضى بِكُل مَا يحدث وَيكون فَإِنَّهُ هُوَ لم يَأْمُرك بذلك وَلَا رضيه لَك وَلَا احبه بل هُوَ سُبْحَانَهُ يكره ويسخط وَيبغض على اعيان اَوْ افعال مَوْجُودَة لَا يحصيها الا هُوَ وَولَايَة الله مُوَافَقَته بِأَن تحب مَا يحب وَتبْغض مَا يبغض وَتكره مَا يكره وتسخط مَا يسْخط وتوالي من يوالي وتعادي من يعادي فَإِذا كنت تحب وترضى مَا يسخطه ويكرهه كنت عدوه وَلَا وليه وَكَانَ كل ذمّ نَالَ من رَضِي مَا اسخط الله قد نالك فَتدبر هَذَا فَإِنَّهُ تَنْبِيه على اصل عَظِيم ضل فِيهِ من طوائف النساك والصوفية والعباد الْعَامَّة من لَا يحصيهم الا الله

الْوَجْه الثَّانِي انهم لم يفرقُوا بَين الدُّعَاء الَّذِي امروا بِهِ امْر ايجاب وامر اسْتِحْبَاب وَبَين الدُّعَاء الَّذِي نهوا عَنهُ اَوْ لم يؤمروا بِهِ وَلم ينهوا عَنهُ فَإِن دُعَاء العَبْد لرَبه ومسألته اياه ثَلَاثَة انواع نوع امْر بِهِ العَبْد اما امْر ايجاب واما امْر اسْتِحْبَاب مثل قَوْله {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} سُورَة الْفَاتِحَة 6 وَمثل دُعَائِهِ فِي اخر الصَّلَاة كالدعاء الَّذِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر بِهِ اصحابه فَقَالَ اذا قعد احدكم فِي التَّشَهُّد فليستعذ بِاللَّه من ارْبَعْ من عَذَاب جَهَنَّم وَعَذَاب الْقَبْر وفتنة الْمحيا وَالْمَمَات وفتنة الْمَسِيح الدَّجَّال فَهَذَا دُعَاء امْر بِهِ النَّبِي

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّحَابَة ان يدعوا بِهِ فِي اخر صلَاتهم وَقد اتّفقت الامة على انه مَشْرُوع يُحِبهُ الله وَرَسُوله ويرضاه وَتَنَازَعُوا فِي وُجُوبه فأوجبه طَاوُوس وَطَائِفَة وَهُوَ قَول فِي مَذْهَب احْمَد وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا هُوَ مُسْتَحبّ والادعيه الَّتِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو بهَا اَوْ يعلم اصحابه ان يدعوا بهَا لَا تخرج عَن ان تكون وَاجِبَة اَوْ مستحبه وكل وَاحِد من الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب فَالله يُحِبهُ ويرضاه وَمن فعله رَضِي الله عَنهُ وارضاه فَهَل يكون من الرِّضَا ترك مَا يُحِبهُ ويرضاه وَنَوع من الدُّعَاء ينْهَى عَنهُ كالاعتداء فِي الدُّعَاء مثل ان يسْأَل الرجل مَا لَا يصلح لَهُ مِمَّا هُوَ من خَصَائِص الانبياء وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِي وَرُبمَا هُوَ من خَصَائِص الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مثل ان يسْأَل لنَفسِهِ الْوَسِيلَة الَّتِي لَا تصلح الا لعبد من عباده اَوْ

يسْأَل الله ان يَجعله افضل من اولياء الله حَتَّى يكون افضل من ابي بكر وَعمر اَوْ يسْأَل الله ان يَجعله بِكُل شَيْء عليم اَوْ على كل شَيْء قدير اَوْ يرفع عَنهُ كل حجاب يمنعهُ من مطالعة الغيوب وامثال ذَلِك اَوْ مثل من يَدعُوهُ ظَانّا انه مُحْتَاج الى عباده وانهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب مِنْهُ ذَلِك الْفِعْل وَيذكر انه اذا لم يَفْعَله حصل لَهُ ضير من الْخلق فَهَذَا وَنَحْوه جهل بِاللَّه واعتداء فِي الدُّعَاء وان وَقع فِي نَحْو ذَلِك طَائِفَة من الشُّيُوخ وَمثل ان يَقُول اللَّهُمَّ اغْفِر لي ان شِئْت فيظن ان الله قد يفعل الشَّيْء مُخْتَارًا وَقد يعقله مكْرها كالملوك فَيَقُول اغْفِر لي ان شِئْت وَقد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك وَقَالَ لَا يقل

احدكم اللَّهُمَّ اغْفِر لي ان شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ان شِئْت وَلَكِن ليعزم الْمَسْأَلَة فَإِن الله لَا مكره لَهُ وَمثل ان يقْصد السجع فِي الدُّعَاء ويتشهق ويتشدق وامثال ذَلِك فَهَذِهِ الادعية وَنَحْوهَا منهى عَنْهَا وَمن الدُّعَاء مَا هُوَ مُبَاح كَطَلَب الفضول الَّتِي لَا مَعْصِيّة فِيهَا وَالْمَقْصُود ان الرِّضَا الَّذِي هُوَ من طَرِيق الله لَا يتَضَمَّن ترك وَاجِب وَلَا ترك مُسْتَحبّ فالدعاء الَّذِي هُوَ وَاجِب اَوْ مُسْتَحبّ لَا يكون تَركه من الرِّضَا كَمَا ان ترك سَائِر الْوَاجِبَات لَا يكون من الرِّضَا الْمَشْرُوع وَلَا فعل الْمُحرمَات من الرِّضَا الْمَشْرُوع

فقد تبين غلط هَؤُلَاءِ من جِهَة ظنهم ان الرِّضَا مَشْرُوع بِكُل مَقْدُور وَمن جِهَة انهم لم يميزوا بَين الدُّعَاء الْمَشْرُوع ايجابا اَوْ اسْتِحْبَابا وَالدُّعَاء غير الْمَشْرُوع وَقد علم بالاضطرار من دين الاسلام ان طلب الْجنَّة من الله والاستعاذة بِهِ من النَّار هُوَ من اعظم الادعية الْمَشْرُوعَة لكل اُحْدُ من الْمُرْسلين والنبيين وَجَمِيع الصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وان ذَلِك لَا يخرج عَن كَونه وَاجِبا اَوْ مُسْتَحبا وَطَرِيق اولياء الله الَّتِي يسلكونها لَا تخرج عَن فعل وَاجِبَات ومستحبات اذ مَا سوى ذَلِك محرم اَوْ مَكْرُوه اَوْ مُبَاح لَا مَنْفَعَة فِيهِ فِي الدّين ثمَّ انه مِمَّا اوقع هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْغَلَط انهم وجدوا كثيرا من النَّاس لَا يسْأَلُون الله جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار حَتَّى طلب الْجنَّة والاستعاذة من النَّار من جِهَة كَون ذَلِك عبَادَة وَطَاعَة

وَخيرا بل من جِهَة كَون النَّفس تطلب ذَلِك فَرَأَوْا ان من الطَّرِيق ترك مَا تختاره النَّفس وتريده وان لَا يكون لأَحَدهم ارادة اصلا بل يكون مَطْلُوبه الجريان تَحت الْقد كَائِنا من كَانَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ادخل كثيرا مِنْهُم فِي الرهبانية وَالْخُرُوج عَن الشَّرِيعَة حَتَّى تركُوا من الاكل وَالشرب واللباس وَالنِّكَاح مَا يَحْتَاجُونَ اليه وَمَا لَا تتمّ مصلحَة دينهم الا بِهِ فانهم رَأَوْا الْعَامَّة تعد هَذِه الامور عبَادَة بِحكم الطَّبْع والهوى وَالْعَادَة وَمَعْلُوم ان الافعال الَّتِي تقع على هَذَا الْوَجْه لَا تكون عبَادَة وَلَا طَاعَة وَلَا قربَة فَرَأى اولئك ان الطَّرِيق الى الله ترك هَذِه الامور لِأَنَّهَا من الطبيعيات والعادات فلازموا من الْجُوع والسهر وَالْخلْوَة والصمت وَغير ذَلِك مِمَّا فِيهِ ترك الحظوظ وَاحْتِمَال المشاق مَا اوقعهم فِي ترك وَاجِبَات ومستحبات وَفعل مكروهات ومحرمات

وكلا الْأَمريْنِ غير مَحْمُود وَلَا مَأْمُور بِهِ وَلَا طَرِيق الى الله طَرِيق المفرطين الَّذين فعلوا هَذِه الامور الْمُحْتَاج اليها على غير وَجه الْعِبَادَة والقربة الى الله وَطَرِيق الْمُعْتَدِينَ الَّذين تركُوا هَذِه الافعال بل الْمَشْرُوع ان تفعل بنية التَّقَرُّب الى الله وان يشْكر الله قَالَ تَعَالَى {كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا} سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 51 وَقَالَ تَعَالَى {كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا لله} سُورَة الْبَقَرَة 172 فَأمر بِالْأَكْلِ وَالشُّكْر فَمن أكل وَلم يشْكر كَانَ مذموما وَمن لم يَأْكُل لم يشْكر كَانَ مذموما وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ ان الله ليرضى عَن العَبْد ان يَأْكُل الْأكلَة فيحمده عَلَيْهَا وَيشْرب الشربة فيحمده عَلَيْهَا

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسعد انك لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله الا ازددت بهَا دَرَجَة ورفعة حَتَّى اللُّقْمَة ترفعها الى فِي امْرَأَتك وَفِي الصَّحِيح ايضا انه اذا انفق الرجل على اهله يحتسبها فَهُوَ لَهُ صدقه فَكَذَلِك الادعية هَب ان من النَّاس من يسْأَل الله جلب الْمَنْفَعَة لَهُ وَدفع الْمضرَّة عَنهُ طبعا وَعَادَة لَا شرعا وَعبادَة فَلَيْسَ من الْمَشْرُوع لي ان ادْع الدُّعَاء مُطلقًا لأجل تَقْصِير هَذَا وتفريطه بل افعله انا شرعا وَعبادَة

ثمَّ اعْلَم ان الَّذِي يَفْعَله شرعا وَعبادَة انما يسْعَى فِي مصلحَة نَفسه وَطلب حظوظه المحمودة فَهُوَ يطْلب مصلحَة دُنْيَاهُ واخرته بِخِلَاف الَّذِي يَفْعَله طبعا فَإِنَّهُ انما يطْلب مصلحَة دُنْيَاهُ فَقَط كَمَا قَالَ تَعَالَى فَمن النَّاس من يَقُول رَبنَا اتنا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الاخرة من خلاق وَمِنْهُم من يَقُول رَبنَا اتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الاخرة حَسَنَة وقنا عَذَاب النَّار اولئك لَهُم نصيب مِمَّا كسبوا وَالله سريع الْحساب سُورَة الْبَقَرَة 200 202 وَحِينَئِذٍ فطالب الْجنَّة والمستعيذ من النَّار انما يطْلب حَسَنَة الاخرة فَهُوَ مَحْمُود وَمِمَّا يبين الامر فِي ذَلِك ان يرد قَول هَؤُلَاءِ بِأَن العَبْد لَا يفعل مَأْمُورا وَلَا يتْرك مَحْظُورًا فَلَا يُصَلِّي وَلَا يَصُوم وَلَا يتَصَدَّق وَلَا يحجّ وَلَا يُجَاهد وَلَا يفعل شَيْئا من الْخَيْر فَإِن ذَلِك انما فَائِدَته حُصُول الثَّوَاب وَدفع الْعقَاب فاذا كَانَ هُوَ لَا يطْلب حُصُول الثَّوَاب الَّذِي هُوَ الْجنَّة وَلَا دفع الْعقَاب الَّذِي هوالنار فَلَا يفعل مَأْمُورا وَلَا يتْرك مَحْظُورًا وَيَقُول انا رَاض بِكُل مَا يَفْعَله بِي وان

كفرت وفسقت وعصيت بل يَقُول انا اكفر وافسق واعصي حَتَّى يعاقبني وارضى بعقابه فأنال دَرَجَة الرِّضَا بِقَضَائِهِ وَهَذَا قَول من هُوَ اجهل الْخلق واحمقهم واضلهم واكفرهم اما جَهله وحمقه فَلِأَن الرِّضَا بذلك مُمْتَنع مُتَعَذر وَلِأَن ذَلِك مُسْتَلْزم الْجمع بَين النقيضين واما كفره فَلِأَنَّهُ مُسْتَلْزم لتعطيل دين الله الَّذِي بعث بِهِ رسله وَانْزِلْ بِهِ كتبه وَلَا ريب ان مُلَاحظَة الْقَضَاء وَالْقدر اوقعت كثيرا من اهل الارادة من المتصوفة فِي ان تركُوا من الْمَأْمُور وفعلوا من الْمَحْظُور مَا صَارُوا بِهِ إِمَّا ناقصين محرومين وَإِمَّا عاصين وَإِمَّا فاسقين وَإِمَّا كَافِرين وَقد رَأَيْت من ذَلِك الوانا {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} سُورَة النُّور 40 وَهَؤُلَاء والمعتزله وَنَحْوهم من الْقَدَرِيَّة فِي طرفِي نقيض هَؤُلَاءِ يلاحظون الْقدر ويعرضون عَن الامر واولئك يلاحظون الامر ويعرضون عَن الْقدر والطائفتان تظن ان مُلَاحظَة الامر

وَالْقدر مُتَعَذر كَمَا ان طَائِفَة تجْعَل ذَلِك مُخَالفا للحكمة وَالْعدْل وَهَذِه الاصناف الثَّلَاثَة هِيَ الْقَدَرِيَّة الْمَجُوسِيَّة والقدرية المشركية الْقَدَرِيَّة الابليسية وَقد بسطنا الْكَلَام على هَذِه الْفرق فِي غير هَذَا الْموضع واكثر مَا يبتلى بِهِ السالكون اهل الاراداة والعامة فِي هَذَا الزَّمَان هِيَ الْقَدَرِيَّة المشركية فَيَشْهَدُونَ الْقدر ويعرضون عَن الامر كَمَا قَالَ فيهم بعض الْعلمَاء انت عِنْد الطَّاعَة قدرى وَعند الْمعْصِيَة جبري أَي مَذْهَب وَافق هَوَاك تمذهبت بِهِ وانما الْمَشْرُوع الْعَكْس وهوان يكون عِنْد الطَّاعَة يَسْتَعِين الله عَلَيْهَا قبل الْفِعْل ويشكره عَلَيْهَا بعد الْفِعْل ويجتهد ان لَا يعْصى فَإِذا اذنب وَعصى بَادر الى التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار كَمَا فِي الحَدِيث سيد الاسْتِغْفَار ان يَقُول العَبْد ابوء لَك

بنعمتك عَليّ وابوء بذنبي فَاغْفِر لي وكما فِي الحَدِيث الصَّحِيح الالهي يَا عبَادي انما هِيَ اعمالكم احصيها لكم ثمَّ اوفيكم اياها فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد غير ذَلِك لَا يَلُومن الا نَفسه وَمن هَذَا الْبَاب دخل قوم من اهل الارادة فِي ترك الدُّعَاء واخرون جعلُوا التَّوَكُّل والمحبة وَنَحْو ذَلِك من مقامات الْعَامَّة وامثال هَذِه الاغاليط الَّتِي قد تكلمنا عَلَيْهَا فِي غير هُنَا الْموضع

وَبينا الْفرق بَين الصَّوَاب وَالْخَطَأ فِي ذَلِك وَلِهَذَا وامثاله يُوجد فِي كَلَام ائمة هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ الْوَصِيَّة بِاتِّبَاع الْعلم والشريعة كَقَوْل سهل بن عبد الله التسترِي رَحمَه الله الْعَمَل بِلَا اقْتِدَاء عَيْش النَّفس وَالْعَمَل بالاقتداء عَذَاب على النَّفس وَقَالَ كل وجد لَا يشْهد لَهُ الْكتاب وَالسّنة فَهُوَ بَاطِل وَقَالَ الْجُنَيْد بن مُحَمَّد من لم يقْرَأ الْقُرْآن وَيكْتب الحَدِيث لَا يقْتَدى بِهِ فِي هَذَا الشَّأْن لِأَن علمنَا هَذَا مُقَيّد بِالْكتاب وَالسّنة وَقَالَ احْمَد بن ابي الْحوَاري من عمل عملا بِلَا اتِّبَاع سنة رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَاطِل عمله

فصل في السكر واسبابه وأحكامه

فصل فِي السكر واسبابه وَأَحْكَامه قد تَكَلَّمت فِيمَا مضى من الْقَوَاعِد على مَعَاني الفناء الْمَوْجُود فِي كَلَام الْمَشَايِخ والصوفية وانه ثَلَاثَة اقسام قسم كَامِل للسابقين وَقسم نَاقص لأَصْحَاب الْيَمين وَقسم ثَالِث للظالمين الْفَاسِقين والكافرين فَالْأول الفناء عَن عبَادَة مَا سوى الله والاستعانة بِهِ بِحَيْثُ لَا يعبد الا الله وَلَا يَسْتَعِين الا بِاللَّه وَهَذَا هُوَ دين الاسلام وَالثَّانِي الفناء عَن شُهُود مَا سوى الله بِحَيْثُ يغيب بمشهوده عَن شُهُوده وَهَذَا لمن لم يقدر على الْجمع بَين شُهُود الْحَقَائِق وَعبادَة الْخَالِق بل مَا شهده عِنْده ومعبوده وَاحِد فمشهوده وَاحِد وَهَذَا يعتري كثيرا كالعيسوية من هَذِه الامة الَّذين لَهُم وصف الْعِبَادَة دون الشَّهَادَة فَلهم قُوَّة فِي الْعِبَادَة والانابة والمحبة يجتذبهم

ذَلِك الى معبودهم ومقصودهم ومحبوبهم وَلَيْسَ لَهُم قُوَّة مَعَ ذَاك على شُهُود سَائِر مَا يقوم بِهِ من الكائنات وَمَا يسْتَحقّهُ من الاسماء وَالصِّفَات فَهَؤُلَاءِ اذا لم يتْركُوا وَاجِبا لم يضرهم وان تركُوا مُسْتَحبا مشتغلين عَنهُ بِمَا هُوَ افضل مِنْهُ لم ينقلوا عَن مقامهم وان اشتغلوا عَمَّا تَرَكُوهُ من الْمُسْتَحبّ بِمَا لَيْسَ مثله فانتقالهم الى ذَلِك الافضل افضل اذا امكن والا فَفعل الْمَقْدُور عَلَيْهِ من الصَّالِحَات خير من الاهتمام بِمَا يعجز عَنهُ ويصد عَن غَيره وان تركُوا وَاجِبا اَوْ فعلوا محرما مَعَ امكان الْعلم وَالْقُدْرَة فهم مؤاخذون على ذَلِك وان كَانَ مَعَ سُقُوط التَّمْيِيز لسَبَب يعذرُونَ بِهِ مثل زَوَال عقل بِسَبَب غير مَحْظُور اَوْ سكر بِسَبَب غير مَحْظُور اَوْ عجز لَا تَفْرِيط فِيهِ فَلَا ذمّ عَلَيْهِم وان كَانَ مَعَ التَّكْلِيف فسبب الذَّم قَائِم ثمَّ لَهُم حكم الله فيهم كَمَا لسَائِر الْمُؤمنِينَ من كَون الذَّنب صَغِيرا اَوْ كَبِيرا مَقْرُونا بحسنات ماحية اَوْ غير ذَلِك من احكام السَّيِّئَات مالم يخرجُوا الى الْقسم الثَّالِث وَهُوَ فنَاء الْكَافرين وَهُوَ جعل وجود الاشياء هُوَ عين وجود الْحق اَوْ جود نَفسه عين وجوده كَمَا بَيناهُ من مَذَاهِب اهل الْحُلُول والاتحاد فِي غير هَذَا الْموضع فان هَذَا كفر وَصَاحبه كَافِر بعد قيام الْحجَّة عَلَيْهِ وان كَانَ جَاهِلا اَوْ متأولا لم تقم عَلَيْهِ الْحجَّة

كَالَّذي قَالَ اذا انا مت فاحرقوني ثمَّ ذروني فِي اليم فَهَذَا امْرَهْ الى الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} سُورَة النِّسَاء 43 فَجعل الْغَايَة الَّتِي يَزُول بهَا حكم السكر ان يعلم مَا يَقُول فَمَتَى كَانَ لَا يعلم مَا يَقُول فَهُوَ فِي السكر واذا علم مَا يَقُول خرج عَن حكمه فَهَذَا اصل يجب اعْتِمَاده وَهَذَا هُوَ حد السَّكْرَان عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء قَالَ احْمَد بن حَنْبَل بِمَا نَقله عَن سعيد بن جُبَير انه قَالَ اذا لم يعلم بثيابه من ثِيَاب غَيره وَلَا نَعله من نعال غَيره فَجعل ذَلِك عدم التَّمْيِيز بَين ثَوْبه وثوب غَيره ويروي عَن الشَّافِعِي انه قَالَ اذا اخْتَلَط كَلَامه المنظوم وافشى سره المكتوم فالسكر يجمع مَعْنيين وجود لَذَّة وَعدم تَمْيِيز وَالَّذِي يقْصد السكر قد يقْصد احدهما وَقد يقْصد كِلَاهُمَا وَهُوَ اثم فَإِن النَّفس لَهَا اهواء وشهوات تلتذ بنيلها وادراكها وَالْعقل وَالْعلم بِمَا فِي تِلْكَ الافعال من الْمضرَّة فِي الدُّنْيَا والاخرة يمْنَعهَا عَن ذَلِك فَإِذا زَالَ الْعقل الْحَافِظ انبسطت النَّفس فِي اهوائها

وَحرم الله السكر لسببين ذكرهمَا الله فِي كِتَابه بقوله {إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر ويصدكم عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة} سُورَة الْمَائِدَة 91 فَأخْبر انه يُوجب الْمفْسدَة الفاشية من النَّفس بِعَدَمِ الْعقل وَيمْنَع الْمصلحَة الَّتِي لَا تتمّ الا بِالْعقلِ الَّتِي خلق لَهَا العَبْد وَهِي ذكر الله وَالصَّلَاة وَقد يكون سَبَب السكر من الْأَلَم كَمَا يكون من اللَّذَّة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَترى النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى وَلَكِن عَذَاب الله شَدِيد} سُورَة الْحَج 2 فَأخْبر انهم يرَوْنَ سكارى وَمَا هم بسكارى فَإِذا عرف ذَلِك فسبب السكر مَا يُوجب اللَّذَّة وَيمْنَع الْعلم فَمِنْهُ السكر بالأطعمه والاشربة المسكرة فَإِن طاعمها يحصل لَهُ بذلك لَذَّة وسرور وَهُوَ الْحَامِل لأكْثر النَّاس على شربهَا ويغيب عقله فتغيب عَنهُ الهموم والاحزان تِلْكَ السَّاعَة وَمن النَّاس من يقْصد الْمَنْفَعَة للبدن وَلَكِن يحصل لَهُ من الْمضرَّة بالأفعال والأقوال الَّتِي تتولد عَن السكر وَيمْنَع عَن الْمَنْفَعَة من ذكر الله وَالصَّلَاة وَغَيرهمَا مَا هُوَ اعظم اثما من مَنْفَعَتهَا فَإِن اللَّذَّة

الْحَاصِلَة بِذكر الله وَالصَّلَاة بَاقِيَة دافعة للهموم والاحزان لَيْسَ دَفعه اياه وَقت الصَّلَاة فَقَط كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة} سُورَة الْبَقَرَة 45 وَقَالَ {إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} سُورَة العنكبوت 45 فَفِي هَذِه اللَّذَّة وَالْمَنْفَعَة الْعَظِيمَة الشَّرِيفَة الدافعة للمضار مَا يُغني عَن تِلْكَ القاصرة الْمَانِعَة مِمَّا هُوَ اكمل مِنْهَا والجالبة لمضرة تربي عَلَيْهَا وَهَذَا السكر جسماني وَمن السكر مَا يكون بحب الصُّور اما النِّسَاء واما الصّبيان فَإِنَّهُ اذا استحكم الْحبّ وَحصل للمحب اتِّصَال فقد يسكر كَمَا قَالَ بَعضهم ... سَكرَان سكر هوى وسكر مدامة ... فَمَتَى إفاقة من بِهِ سَكرَان ... وَوقت الْجِمَاع ينقص تَمْيِيز اكثر النَّاس ايضا وَهُوَ مبدأ سكر وَمن السكر ايضا مَا يكون بحب الرياسة وَالْمَال اَوْ شِفَاء الغيظ فَإِنَّهُ اذا قوى ذَلِك اوجب سكرا وانما كَانَت هَذِه الاشياء قد توجب سكرا لِأَن السكر شَبيه مَا يُوجب اللَّذَّة الْقَاهِرَة الَّتِي تغمر الْعقل

فصل ومن أقوى الأسباب المقتضية للسكر سماع الأصوات المريبة من وجهين من

وَسبب اللَّذَّة ادراك المحبوب فَإِذا كَانَت الْمحبَّة قَوِيَّة وادراك الْمُحب قَوِيا وَالْعقل والتمييز ضَعِيفا كَانَ ذَلِك سَببا للسكر لَكِن ضعف الْعقل تَارَة يكون من ضعف نفس الانسان الْمُحب وَتارَة يكون من قُوَّة السَّبَب الْوَارِد وَلِهَذَا يحصل من السكر للمبتدئين فِي ادراك الرياسة وَالْمَال والعشق وَالْخمر مَا لَا يحصل لمن اعْتَادَ ذَلِك وَتمكن فِيهِ فصل وَمن أقوى الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة للسكر سَماع الْأَصْوَات المريبة من وَجْهَيْن من جِهَة انها فِي نَفسهَا توجب لَذَّة قَوِيَّة ينغمر مَعهَا الْعقل وَمن جِهَة أَنَّهَا تحرّك النَّفس إِلَى نَحْو محبوبها كَائِنا مَا كَانَ فَتحصل بِتِلْكَ الْحَرَكَة والشوق والطلب مَعَ مَا قد تخيل المحبوب وتصوره لذات عَظِيمَة تقهر الْعقل أَيْضا فتجتمع لَذَّة الألحان والاشجان وَلِهَذَا يقرن سَماع الألحان بالشرب كثيرا إِمَّا شراب الْأَجْسَام وَإِمَّا شراب النُّفُوس وَإِمَّا شراب الْأَرْوَاح وَهُوَ مَا يقْتَرن بالصوت من الْأَقْوَال الَّتِي فِيهَا ذكر الْحبّ والمحبوب وأحوالهما فَإِن سَماع الْأَقْوَال شراب وغذاء وقوت للقلوب فيجتمع

فصل اذا تبين هذا فاعلم ان اللذة والسرور امر مطلوب بل هو مقصود

سَماع الْحُرُوف الطّيبَة والاصوات الطّيبَة فَإِن ذَلِك اقوى مِمَّا اذا انْفَرد احدهما مثل سَماع كَلَام يطيب للمستمع بِلَا اصوات ملحنة مثل من يُنَاجِي بِحَدِيث لحنه اَوْ يجْهر بِهِ جَهرا قَرِيبا وَمثل سَماع اصوات طيبَة لَا حُرُوف فِيهَا كأصوات الطُّيُور الطّيبَة واصوات الْآلَات المصنوعة من العيدان والاوتار والشبابة وَالصَّوْت الَّذِي يلحنه الْآدَمِيّ بِلَا حُرُوف وَنَحْو ذَلِك فَأَما اذا اجْتمع هَذَا وَهَذَا فَهُوَ اقوى ويؤثر فِي النُّفُوس تَأْثِيرا عَظِيما كتأثير الْخمر اَوْ اشد فصل اذا تبين هَذَا فَاعْلَم ان اللَّذَّة وَالسُّرُور امْر مَطْلُوب بل هُوَ مَقْصُود كل حَيّ وَكَونه امرا مَطْلُوبا ومقصودا امْر ضَرُورِيّ من وجود الْحَيّ وَهُوَ فِي الْمَقَاصِد والغايات بِمَنْزِلَة الْحس والعلوم البديهية فِي المبادئ والمقدمات فَإِن الانسان بل وكل حَيّ لَهُ علم واحساس وَله عمل وارادة فَعلمه لَا يجوز ان يكون كُله نظريا استدلاليا يقف على الدَّلِيل بل لَا بُد لَهُ من علم بديهي اولى لِأَنَّهُ لَو وقف كل علم

على علم اخر لزم الدّور اَوْ التسلسل فَإِنَّهُ اذا توقف الْعلم الثَّانِي على علم اول فَالْأول ان توقف على ذَلِك الثَّانِي بِحَيْثُ لَا يكون الا بعده لزم الدّور وان توقف على شَيْء قبل ذَلِك الاول لزم التسلسل فَلَا بُد من علم اول يحصل ابْتِدَاء بِلَا علم قبله وَلَا دَلِيل وَلَا حجَّة وَلَا مُقَدّمَة وَذَلِكَ علم بده النَّفس وابتدئ فِيهَا وَهُوَ اول فيسمى بديهيا واوليا وَهُوَ من نوع مَا تضطر النَّفس اليه فيسمى ضَرُورِيًّا فَإِن النَّفس تضطر الى الْعلم تَارَة والى الْعَمَل اخرى وَذَلِكَ الْعَمَل الِاخْتِيَار الارادي لَهُ مُرَاد فَذَلِك المُرَاد اما ان يُرَاد لنَفسِهِ اَوْ لشَيْء اخر وَلَا يجوز ان يكون كل مُرَاد لغيره لانه ان كَانَ الَّذِي قبله دَائِما لزم الدّور وان كَانَ الَّذِي بعده دَائِما لزم التسلسل فَلَا بُد من مُرَاد مَطْلُوب مَحْبُوب لنَفسِهِ فَإِذا حصل المحبوب الْمَطْلُوب المُرَاد فاقتران اللَّذَّة وَالنعْمَة والفرح وَالسُّرُور بِهِ على مِقْدَار قُوَّة محبته وارادته وقوته فِي نَفسه امْر ذوقي وجودي ضَرُورِيّ وَلِهَذَا غلب على كَلَام الْعباد الصُّوفِيَّة اهل الارادة وَالْعَمَل اسْم الذَّوْق وَالسُّرُور وَالنعْمَة فالشهوة والارادة والمحبة والطلب وَنَحْو ذَلِك من الاسماء

المتقاربة اذا تعقبها الذَّوْق والوجد والادراك والوصول والنيل والاصابة وَنَحْو ذَلِك من الاسماء المتقاربة تعقب ذَلِك النِّعْمَة وَالسُّرُور واللذة وَالطّيب وَنَحْو ذَلِك من الاسماء المتقاربة فان جنس اللَّذَّة يتعقب ادراك الملائم الْمَطْلُوب لَيْسَ هومدرك الملائم الْمَطْلُوب كَمَا يَعْتَقِدهُ بعض اهل الفلسفة وَالْكَلَام وكما غلب على اهل التصوف وَالْعِبَادَة ذكر ذَلِك وَغلب على كَلَام الْعلمَاء الْمُتَكَلِّمين اهل النّظر والبحث وَالْكَلَام اهل البديهة وَالنَّظَر والضرورة وَالدَّلِيل وَالِاسْتِدْلَال وكل وَاحِد من هذَيْن الامرين تَحْتَهُ اجناس واصناف بَعْضهَا حق وَبَعضهَا بَاطِل فَلهَذَا وَجب اعْتِبَار ذَلِك جَمِيعه بِالْكتاب وَالسّنة فَخير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهدى هدى مُحَمَّد وَلِهَذَا كَانَ ائمة الْهدى مِمَّن يتَكَلَّم فِي الْعلم وَالْكَلَام اَوْ فِي الْعَمَل وَالْهدى والتصوف يوصون بِاتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة وَينْهَوْنَ عَمَّا خرج عَن ذَلِك كَمَا امرهم الله وَالرَّسُول وَكَلَامهم فِي ذَلِك كثير منتشر مثل قَول سهل بن عبد الله التسترِي كل وجد لَا يشْهد لَهُ الْكتاب وَالسّنة فَهُوَ بَاطِل

فصل واذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي انما تذم اذا اعقبت الما اعظم

فصل واذا كَانَت اللَّذَّة مَطْلُوبَة لنَفسهَا فَهِيَ انما تذم اذا اعقبت الما اعظم مِنْهَا اَوْ منعت لَذَّة خيرا مِنْهَا وتحمد اذا اعانت على اللَّذَّة المستقرة وَهُوَ نعيم الاخرة الَّتِي هِيَ دائمة عَظِيمَة كَقَوْلِه تَعَالَى وَكَذَلِكَ مكنا ليوسف فِي الارض يتبوا مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نصيب برحمتنا من نشَاء وَلَا نضيع اجْرِ الْمُحْسِنِينَ ولأجر الاخرة خير للَّذين امنوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ سُورَة يُوسُف 56 57 وَقَالَ تَعَالَى بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا والاخرة خير وابقى سُورَة الاعلى 16 17 وَقَالَ تَعَالَى عَن السَّحَرَة الَّذين امنوا {فَاقْض مَا أَنْت قَاض إِنَّمَا تقضي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا} الى قَوْله {وَالله خير وَأبقى} سُورَة طه 72 73 وَالله سُبْحَانَهُ انما خلق الْخلق لدار الْقَرار وَهِي الْجنَّة وَالنَّار فَأَما الدَّار الدُّنْيَا فمنقطعة ولذاتها لَا تصفوا وَلَا تدوم ابدا بِخِلَاف الاخرة فَإِن لذاتها وَنَعِيمهَا صَاف من الكدر دَائِم غير مُنْقَطع لَيْسَ فِيهَا حزن وَلَا نصب وَلَا لغوب واهل الْجنَّة لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يبصقون وَلَا يَمْتَخِطُونَ بل فِيهَا مَا تشْتَهي الانفس وتلذ الاعين

وهم فِيهَا خَالدُونَ فشهوة النُّفُوس وَلَذَّة الْعُيُون هُوَ النَّعيم الْخَالِص وَالْخُلُود هُوَ الدَّوَام والبقاء {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} سُورَة السَّجْدَة 17 فَإِن الله اعد لِعِبَادِهِ الصَّالِحين مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا اذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر بله مَا اطلعهم عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنى هُوَ الَّذِي قَالَه العَبْد الصَّالح حَيْثُ قَالَ يَا قوم اتبعوني اهدكم سَبِيل الرشاد ياقوم انما هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا مَتَاع وان الاخرة هِيَ دَار الْقَرار سُورَة غَافِر 38 39 فَأخْبر ان الدُّنْيَا مَتَاع نتمتع بهَا الى غَيرهَا وان الاخرة هِيَ المستقر واذا عر ف ان لذات الدُّنْيَا وَنَعِيمهَا انما هِيَ مَتَاع ووسيلة الى لذات الاخرة وَكَذَلِكَ خلقت فَكل لَذَّة اعانت على لذات الاخرة فَهُوَ مِمَّا امْر الله بِهِ وَرَسُوله ويثاب على تَحْصِيل اللَّذَّة بِمَا يئوب اليه مِنْهَا من لذات الْآخِرَة الَّتِي اعانت هَذِه عَلَيْهَا وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤمن يُثَاب على مَا يقْصد بِهِ وَجه الله من اكله وشربه ولباسه ونكاحه وشفاء غيظه بقهر عدوه فِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَلَذَّة علمه وايمانه وعبادته وَغير ذَلِك ولذات جسده وَنَفسه وروحه من اللَّذَّات الحسية والوهمية والعقلية

وكل لَذَّة اعقبت الما فِي الدَّار الاخرة اَوْ منعت لَذَّة الاخرة فَهِيَ مُحرمَة مثل لذات الْكفَّار والفساق بعلوهم فِي الارض وفسادهم مثل اللَّذَّة الَّتِي تحصل بالْكفْر والنفاق كلذة الَّذين اتَّخذُوا من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله وَلَذَّة عقائدهم الْفَاسِدَة وعباداتهم الْمُحرمَة وَلَذَّة غلبهم للْمُؤْمِنين الصَّالِحين وَقتل النُّفُوس بِغَيْر حَقّهَا وَالزِّنَا وَالسَّرِقَة وَشرب الْخمر وَلِهَذَا اخبر الله ان لذاتهم املاء ليزدادوا اثما وانها مكر واستدراج مثل اكل الطَّعَام الطّيب الَّذِي فِيهَا سم وَهَذَا الْمَعْنى قد قَرّرته ايضا فِي قَاعِدَة السكر واما اللَّذَّة الَّتِي لَا تعقب لَذَّة فِي دَار الْقَرار وَلَا الما وَلَا تمنع لَذَّة دَار الْقَرار فَهَذِهِ لَذَّة بَاطِلَة اذ لَا مَنْفَعَة فِيهَا وَلَا مضرَّة وزمانها يسير لَيْسَ لتمتع النَّفس بهَا قدر وَهِي لَا بُد ان تشغل عَمَّا هُوَ خير مِنْهَا فِي الاخرة وان لم تشغل عَن اصل اللَّذَّة فِي الاخرة وَهَذَا هُوَ الَّذِي عناه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله كل لَهو يلهو بِهِ الرجل فَهُوَ بَاطِل الا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امْرَأَته فانهن من الْحق رَوَاهُ مُسلم وَكَقَوْلِه لعمر لما دخل عَلَيْهِ وَعِنْده جواري يضربن بالدف فأسكتهن لدُخُوله وَقَالَ ان هَذَا

رجل لَا يحب الْبَاطِل فَإِن هَذَا اللَّهْو فِيهِ لَذَّة وَلَوْلَا ذَلِك لما طلبته النُّفُوس وَلَكِن مَا اعان على اللَّذَّة الْمَقْصُودَة من الْجِهَاد وَالنِّكَاح فَهُوَ حق واما مَا لم يعن على ذَلِك فَهُوَ بَاطِل لَا فَائِدَة فِيهِ وَلَكِن اذا لم يكن فِيهِ مضرَّة راجحة لم يحرم وَلم ينْه عَنهُ وَلَكِن قد يكون فعله مَكْرُوها لِأَنَّهُ يصد عَن اللَّذَّة الْمَطْلُوبَة اذ لَو اشْتغل اللاهي حِين لهوه بِمَا يَنْفَعهُ وَيطْلب لَهُ اللَّذَّة الْمَقْصُودَة لَكَانَ خيرا لَهُ والنفوس الضعيفة كنفوس الصّبيان وَالنِّسَاء قد لَا تشتغل اذا تركته بِمَا هُوَ خير مِنْهَا لَهَا بل قد تشتغل بِمَا هُوَ شَرّ مِنْهُ اَوْ بِمَا يكون التَّقَرُّب الى الله بِتَرْكِهِ فَيكون تمكينها من ذَلِك من بَاب الاحسان اليها وَالصَّدَََقَة عَلَيْهَا كإطعامها واسقائها فَلهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان بعض انواع اللَّهْو من الْحق وَكَانَ الْجَوَارِي الصغيرات يضربن بالدف عِنْده وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمكنهن من عمل هَذَا الْبَاطِل بِحَضْرَتِهِ احسانا اليهن

وَرَحْمَة بِهن وَكَانَ هَذَا الامر فِي حَقه من الْحق الْمُسْتَحبّ الْمَأْمُور بِهِ وان كَانَ هُوَ فِي حقهن من الْبَاطِل الَّذِي لَا يُؤمر اُحْدُ سواهن بِهِ كَمَا كَانَ اعطاؤه الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم مَأْمُورا بِهِ فِي حَقه وجوبا أَو استجابا وَإِن لم مَأْمُور بِهِ لأحد كَمَا كَانَ مزاحه مَعَ من يمزح مَعَه من الاعراب وَالنِّسَاء وَالصبيان تطييبا لقُلُوبِهِمْ وتفريحا لَهُم مُسْتَحبا فِي حَقه يُثَاب عَلَيْهِ وان لم يكن اولئك مأمورين بالمزح مَعَه وَلَا منهيين عَن ذَلِك فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يبْذل للنفوس من الاموال وَالْمَنَافِع مَا يتألقها بِهِ على الْحق الْمَأْمُور وَيكون المبذول مِمَّا يلتذ فِيهِ الاخذ وَيُحِبهُ لَان ذَلِك وَسِيلَة الى غَيره وَلَا يفعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك مَعَ من لَا يحْتَاج الى ذَلِك كالمهاجرين والانصار بل بذل لَهُم انواعا اخر من الاحسان وَالْمَنَافِع فِي دينهم ودنياهم وَعمر رَضِي الله عَنهُ لَا يحب هَذَا الْبَاطِل وَلَا يحب سَمَاعه

وَلَيْسَ هُوَ مَأْمُورا اذ ذَاك من التَّأْلِيف بِمَا امْر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تصبر نَفسه على سَمَاعه فَكَانَ اعراض عمر عَن الْبَاطِل كمالا فِي حَقه وَحَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اكمل ومحبة النُّفُوس للباطل نقص لَكِن لَيْسَ كل الْخلق مأمورين بالكمال وَلَا يُمكن ذَلِك فيهم فَإِذا فعلوا مَا بِهِ يدْخلُونَ الْجنَّة لم يحرم عَلَيْهِم مَا لَا يمنعهُم من دُخُولهَا وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ كمل من الرِّجَال كثير وَلم يكمل من النِّسَاء الا اربعة

فصل فإذا تبين ان السكر مؤلف من امرين وجودي وهو اللذة وعدمي وهو عدم

هَذَا مَعَ الْعلم بِأَن الْجنَّة يدخلهَا كثير من النِّسَاء وَالرِّجَال اكثر من الَّذين كملوا من الطَّائِفَتَيْنِ فصل فَإِذا تبين ان السكر مؤلف من امرين وجودي وَهُوَ اللَّذَّة وعدمي وَهُوَ عدم الْعقل والتمييز وَقد تقدم الْكَلَام على اللَّذَّة وان جِنْسهَا لَا يذم إِلَّا لمعارض رَاجِح من فَوَات مَنْفَعَة اَوْ دُخُول مضرَّة وتحمد اذا كَانَت مَقْصُودَة اَوْ مُعينَة على الْمَقْصُود واما الْوَصْف الاخر وَهُوَ عدم الْعقل والتمييز فَهَذَا لَا يحمد بِحَال من جِهَة نَفسه فَلَيْسَ فِي كتاب الله وَلَا سنة رَسُوله مدح وَحمد لعدم الْعقل والتمييز وَالْعلم بل قد مدح الله الْعلم وَالْعقل وَالْفِقْه وَنَحْو ذَلِك فِي غير مَوضِع وذم عدم ذَلِك فِي مَوَاضِع

مثل قَوْله تَعَالَى {قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} سور الزمر 9 وَقَالَ {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات} سُورَة فاطر 22 وَقَالَ تَعَالَى مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع وَمَا كَانُوا يبصرون اولئك الَّذين خسروا انفسهم وضل عَنْهُم مَا كانو يفترون الى قَوْله {مثل الْفَرِيقَيْنِ كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَل يستويان مثلا أَفلا تذكرُونَ} سُورَة هود 24 وَقَالَ {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ أُولَئِكَ هم الغافلون} سُورَة الاعراف 179 وَقَالَ {أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} سُورَة الْفرْقَان 44 وَقَالَ {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم} سُورَة آل عمرَان 18 وَقَالَ لِتَعْلَمُوا ان الله على كل شَيْء قدير وان الله قد احاط بِكُل شئ علما سُورَة الطَّلَاق 12 وَقَالَ {فَاعْلَم أَنه لَا إِلَه إِلَّا الله} سُورَة مُحَمَّد 19 وَقَالَ {وَقل رب زِدْنِي علما} سُورَة طه 114

فصل فإذا تبين أن جنس عدم العقل والفقه لا يحمد بحال في الشرع بل

وَقَالَ {اعلموا أَن الله شَدِيد الْعقَاب وَأَن الله غَفُور رَحِيم} سُورَة الْمَائِدَة 98 وَقَالَ {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن أم على قُلُوب أقفالها} سُورَة مُحَمَّد 24 وَقَالَ اَوْ لم ينْظرُوا فِي ملكوت السَّمَوَات والارض وَمَا خلق الله من شَيْء سُورَة الاعراف 185 وَقَالَ {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} سُورَة الْحَشْر 2 وَهَذَا كثير فِي الْقُرْآن يَأْمر ويمدح التفكر والتدبر والتذكر وَالنَّظَر وَالِاعْتِبَار وَالْفِقْه وَالْعلم وَالْعقل والسمع وَالْبَصَر والنطق وَنَحْو ذَلِك من انواع الْعلم واسبابه وكماله ويذم اضداد ذَلِك فصل فَإِذا تبين أَن جنس عدم الْعقل وَالْفِقْه لَا يحمد بِحَال فِي الشَّرْع بل يحمد الْعلم وَالْعقل وَيُؤمر بِهِ أَمر إِيجَاب أَو أَمر اسْتَجَابَ وَلَكِن من الْعلم مَالا يُؤمر بِهِ الشَّخْص نوعا أَو عينا إِمَّا لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَة فِيهِ لَهُ لِأَنَّهُ يمنعهُ عَمَّا يَنْفَعهُ وَقد ينْهَى عَنهُ إِذا كَانَ

فِيهِ مضرَّة لَهُ وَذَلِكَ ان من الْعلم مَالا يحملهُ عقل الانسان فيضره كَمَا قَالَ عَليّ بن ابي طَالب رَضِي الله عَنهُ حدثوا النَّاس بِمَا يعْرفُونَ ودعوا مَا يُنكرُونَ اتحبون ان يكذب الله وَرَسُوله وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود مَا من رجل يحدث قوما بِحَدِيث لَا تبلغه عُقُولهمْ الا كَانَ فتْنَة لبَعْضهِم وَمن الْكَلَام مَا يُسمى علما وَهُوَ جهل مثل كثير من عُلُوم الفلاسفة واهل الْكَلَام والاحاديث الْمَوْضُوعَة والتقليد الْفَاسِد واحكام النُّجُوم وَلِهَذَا روى ان من الْعلم جهلا وَمن القَوْل عيا وَمن الْبَيَان سحرًا وَمن الْعلم مَا يضر بعض النُّفُوس لاستعانتها بِهِ على اغراضها الْفَاسِدَة فَيكون بِمَنْزِلَة السِّلَاح للمحارب وَالْمَال لِلْفَاجِرِ وَمِنْه مَا لامنفعة فِيهِ لعُمُوم الْخلق مثل معرفَة دقائق الْفلك وثوابته وتوابعه

وحركة كل كَوْكَب فَإِنَّهُ بمنزله حركات التَّغَيُّر عندنَا وَمِنْه مَا يصد عَمَّا يحْتَاج اليه فَإِن الانسان مُحْتَاج الى بعض الْعُلُوم والى اعمال وَاجِبَة فاذا اشْتغل بِمَا لَا يحْتَاج اليه عَمَّا يحْتَاج اليه كَانَ مذموما فبمثل هَذِه الْوُجُوه يذم الْعلم بِكَوْنِهِ لَيْسَ علما فِي الْحَقِيقَة وان سَمَّاهُ اصحابه وَغَيرهم علما وَهَذَا كثير حدا اَوْ يكون الانسان يعجز عَن حمله اَوْ يَدعُوهُ ويعينه على مَا يضرّهُ اَوْ يمنعهُ عَمَّا يَنْفَعهُ وَقد يكون فِي حق الانسان لَا مَحْمُودًا وَلَا مذموما هَذَا كُله فِي جنس الْعلم وَكَذَلِكَ الْقُوَّة الَّتِي بهَا يعلم الانسان وَيعْقل وَتسَمى عقلا فَهَذِهِ لَا يحمد عدمهَا ايضا الا اذا كَانَ بوجودها يحصل ضَرَر فان من النَّاس من لَو جن لَكَانَ خيرا لَهُ فَإِنَّهُ يرْتَفع عَنهُ التَّكْلِيف وبالعقل يَقع فِي الْكفْر والفسوق والعصيان فَإِن الْعقل قد يُرَاد بِهِ الْقُوَّة الغريزية فِي الانسان الَّتِي بهَا يعقل وَقد يُرَاد بِهِ نفس ان يعقل ويعى وَيعلم فَالْأول قَول الامام احْمَد وَغَيره من السّلف الْعقل غريزة وَالْحكمَة فطنة

فصل فهكذا زوال العقل بالسكر هو من نوع زواله بالإغماء والجنون ونحو

وَالثَّانِي قَول طوائف من اصحابنا وَغَيرهم الْعقل ضرب من الْعُلُوم الضرورية وَكِلَاهُمَا صَحِيح فَإِن الْعقل فِي الْقلب مثل الْبَصَر فِي الْعين يُرَاد بِهِ الادراك تَارَة وَيُرَاد بِهِ الْقُوَّة الَّتِي جعلهَا الله فِي الْعين يحصل بهَا الادراك فَإِن كل وَاحِد من علم العَبْد واداركه وَمن علمه وحركته حول وَلكُل مِنْهُمَا قُوَّة وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه وَلِهَذَا تَجِد الْمَشَايِخ الاصحاء من الصُّوفِيَّة يوصون بِالْعلمِ ويأمرون باتباعه كَمَا تَجِد الاصحاء من اهل الْعلم يوصون بِالْعَمَلِ ويأمرون بِهِ لما يخَاف فِي كل طَريقَة من ترك مَا يجب من الاخرى فصل فَهَكَذَا زَوَال الْعقل بالسكر هُوَ من نوع زَوَاله بالإغماء وَالْجُنُون وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا لَا يُؤمر بِهِ الْمُؤْمِنُونَ بِحَال وَلَا يحمد

مِنْهُم وان حصل لَهُم مَعَ ذَلِك ذوق ايماني وَوجد عرفاني مِمَّا هُوَ مَحْمُود ومأمور بِهِ فَذَاك هوالمحمود لَا عدم الْعقل والتمييز وَلِهَذَا لم يكن فِي الصَّحَابَة من حَاله السكر لَا عِنْد سَماع الْقُرْآن وَلَا عِنْد غَيره وَلَا تكلم الاولون بالسكر وانما تكلم بِهِ طَائِفَة من متأخري الصُّوفِيَّة صَار يحصل لَهُم نوع سكر بِمَا فِي قُلُوبهم من الذَّوْق والوجد مَعَ سُقُوط التَّمْيِيز وَالْعقل ويفرقون بَين الصحو وَالسكر وَالسكر لهَؤُلَاء هُوَ من جنس الاغماء والغشي الْحَاصِل عِنْد السماع الَّذِي حدث فِي بعض التَّابِعين من الْبَصرِيين وَغَيرهم فَإِن لسكر والاغماء والغشي كلهَا زَوَال الْعقل والتمييز لَكِن تفترق اسبابها واذواقها فقد يكون اُحْدُ الذوقين والوجدين عَن محبَّة وَلَذَّة وَقد يكون عَن خشيَة والم وَقد يكون عَن عجز عَن الاداراك لفرط العظمة الَّتِي تجلت للْإنْسَان كَمَا وَقع لمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَهَذِهِ الامور يجب ان يعرف انها لَيست كمالا مُطلقًا كالفناء لَكِن يحمد مَا فِيهَا من الامور المحمودة الايمانية من ذوق اَوْ وجد

فصل فقد تبين ان احد وصفي السكر منفعة في الاصل والوصف الاخر اثم كما

ايماني مَشْرُوع اَوْ محبَّة ايمانية اوخشية ايمانية وَلَا يحمد مِنْهَا مَا زَاد على الْمُسْتَحبّ وَمَا شغل عَن مَا هُوَ احب مِنْهُ ويذم مِنْهَا مَا تضمن ترك وَاجِب من علم اَوْ عمل اوفعل محرم لَكِن اذا كَانَ المذموم بِغَيْر تَفْرِيط من العَبْد وَلَا عَن عدوان مِنْهُ لم يذم مِنْهُ وكما ذكرت مثل ذَلِك فِي قاعة المولهين وعقلاء المجانين والمغلوبين فِي احوالهم وَمن يسلم اليه حَاله وَمن لَا يسلم اليه حَاله فَإِن السكر نوع من الْغَلَبَة ويذم من لم يحصل لَهُ من هَذِه الاحوال مَا يجب حُصُوله كَمَا ينقص من عدم مِنْهَا مَا يسْتَحبّ حُصُوله فَهَكَذَا يجب التَّفْصِيل فِي هَذِه الاحوال وَالله اعْلَم فصل فقد تبين ان اُحْدُ وصفي السكر مَنْفَعَة فِي الاصل وَالْوَصْف الاخر اثم كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْخمر {قل فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} سُورَة الْبَقَرَة 219 وَقد يقْتَرن باللذة مَا يمْنَع ان تكون مصلحَة اذا استعين بهَا على اثم وعدوان كَمَا يستعان بالاكل وَالشرب على الْكفْر والفسوق والعصيان وَقد يقْتَرن

بِعَدَمِ الْعقل مَا يمْنَع ان يكون مفْسدَة اذا استعين بِهِ على ترك الاثم والعدوان فالاصل حمد علم الْقلب وذوقه ولذته مَا لم يشْتَمل على مفْسدَة راجحة بل وذوق الْجِسْم ولذته مَعَ علم الْقلب وعقله لِأَن هَذِه كلهَا خيرات فَإِن الْعلم خير وذوق الْقلب خير واللذة بِهِ خير لَكِن قد يعارضها مَا يَجْعَلهَا شرا واذا لم يجْتَمع التَّمْيِيز واللذة بل اما صحو بِلَا لَذَّة اَوْ لَذَّة بِلَا صحو فقد يتَرَجَّح هَذَا تَارَة وَهَذَا تَارَة فَأَما الْمُؤْمِنُونَ فالصحو خير لَهُم فَإِن السكر يصدهم عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة ويوقع بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء وَكَذَلِكَ الْعقل خير لَهُم لِأَنَّهُ يزيدهم ايمانا واما الْكفَّار فزوال عقل الْكَافِر خير لَهُ وللمسلمين اما لَهُ فَلِأَنَّهُ لَا يصده عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة بل يصده عَن الْكفْر وَالْفِسْق واما للْمُسلمين فَلِأَن السكر يُوقع بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء فَيكون ذَلِك خيرا للْمُؤْمِنين وَلَيْسَ هَذَا اباحة للخمر وَالسكر وَلكنه دفع لشر الشرين بأدناهما وَلِهَذَا كنت امْر اصحابنا ان لَا يمنعوا الْخمر عَن اعداء

الْمُسلمين من التتار والكرج وَنَحْوهم واقول اذا شربوا لم يصدهم ذَلِك عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة بل عَن الْكفْر وَالْفساد فِي الارض ثمَّ انه يُوقع بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء وَذَلِكَ مصلحَة للْمُسلمين فصحوهم شَرّ من سكرهم فَلَا خير فِي اعانتهم على الصحو بل قد يسْتَحبّ اَوْ يجب دفع شَرّ هَؤُلَاءِ بِمَا يُمكن من سكر وَغَيره فَهَذَا فِي حق الْكفَّار وَمن الْفُسَّاق الظلمَة من اذا صَحا كَانَ فِي صحوه من ترك الْوَاجِبَات واعطاء النَّاس حُقُوقهم وَمن فعل الْمُحرمَات والاعتداء فِي النُّفُوس والاموال مَا هُوَ اعظم من سكره فَإِنَّهُ اذا كَانَ يتْرك ذكر الله وَالصَّلَاة فِي حَال سكره وَيفْعل مَا ذكرته فِي حَال صحوه وَإِذا كَانَ فِي حَال صحوه يفعل حروبا وفتنا لم يكن فِي شربه مَا هُوَ اكثر من ذَلِك ثمَّ اذا كَانَ فِي سكره يمْتَنع عَن ظلم الْخلق فِي النُّفُوس والاموال والحريم وَيمْسَح ببذل اموال تُؤْخَذ على وَجه فِيهِ نوع من التَّحْرِيم ينْتَفع بهَا النَّاس كَانَ ذَلِك اقل عذَابا مِمَّن يصحو فيعتدى على النَّاس فِي النُّفُوس والاموال والحريم وَيمْنَع النَّاس الْحُقُوق الَّتِي يجب اداؤها

فَالْحَاصِل انه تجب الموازنة بَين الْحَسَنَات والسيئات الَّتِي تَجْتَمِع فِي هَذَا الْبَاب وامثاله وجودا وعدما كَمَا قررت مثل ذَلِك فِي قَاعِدَة تعَارض السَّيِّئَات والحسنات فان السكر والصحو قد يكونَانِ من هَذَا الْبَاب وَهَكَذَا الْكسر والصحو فِي الأذواق الايمانية والمواجيد العرفانية فَمن السالكين من اذا حصل لَهُ سكر حصل لَهُ فِيهِ مَنْفَعَة وايمان وان كَانَ فِيهِ من النَّقْص وَعدم التَّمْيِيز مِمَّا يحْتَاج مَعَه الى الْعقل مَا فِيهِ فَيكون خيرا من صحو لَيْسَ فِيهِ الا الْغَفْلَة عَن ذكر الله وقسوة الْقُلُوب وَالْكفْر والفسوق وَالْخُيَلَاء وَنَحْو ذَلِك من ترك الْحَسَنَات وَفعل السَّيِّئَات واما الصحو الْمُشْتَمل على الْعلم والايمان وتذوق صَاحبه طعم الايمان وَوجد حلاوته فَهُوَ خير من السكر بِلَا شكّ فَعَلَيْك بالموازنة فِي هَذِه الاحوال والاعمال الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة حَتَّى يظْهر لَك التَّمَاثُل والتفاضل وتناسب احوال اهل الاحوال الْبَاطِنَة لِذَوي الاعمال الظَّاهِرَة لَا يسما فِي هَذِه الازمان الْمُتَأَخِّرَة الَّتِي غلب فِيهَا خلط الاعمال الصَّالِحَة بِالسَّيِّئَةِ فِي جَمِيع الاصناف لنرجح عِنْد الازدحام والتمانع خير الخيرين وندفع عِنْد الِاجْتِمَاع شَرّ الشرين

فصل قال الله تعالى لما اهبط آدم ومن معه الى الارض

ونقدم عِنْد التلازم تلازم الْحَسَنَات والسيئات مَا ترجح مِنْهَا فَإِن غَالب رُؤُوس الْمُتَأَخِّرين وغالب الامة من الْمُلُوك والامراء والمتكلمين وَالْعُلَمَاء والعباد واهل الاموال يَقع غَالِبا فيهم ذَلِك واما الماشون على طَريقَة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين فليسوا اكثر الْأمة وَلَكِن على هَؤُلَاءِ الماشين على طَريقَة الْخُلَفَاء ان يعاملوا النَّاس بِمَا امْر الله بِهِ وَرَسُوله من الْعدْل بَينهم واعطاء كل ذِي حق حَقه واقامة الْحُدُود بِحَسب الامكان اذ الْوَاجِب هُوَ الامر بِالْمَعْرُوفِ وَفعله وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَتَركه بِحَسب الامكان فَإِذا عجز اتِّبَاع الْخُلَفَاء الرَّاشِدين عَن ذَلِك قدمُوا خير الخيرين حصولا وَشر الشرين دفعا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين فصل قَالَ الله تَعَالَى لما اهبط آدم وَمن مَعَه الى الارض قُلْنَا اهبطا مِنْهَا جَمِيعًا فَأَما يَأْتينكُمْ مني هدى فَمن تبع هُدَايَ فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا فِيهَا يَحْزَنُونَ وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا اولئك اصحاب النَّار هم فِيهِ خَالدُونَ سُورَة الْبَقَرَة 38 39 وَقَالَ تَعَالَى فاما يَأْتينكُمْ مني هدى فَمن اتبع هُدَايَ فَلَا يضل وَلَا يشقى وَمن اعْرِض عَن ذكري فان لَهُ معيشة ضنكا ونحشره يَوْم الْقِيَامَة اعمى قَالَ رب لم حشرتني اعمى وَقد كنت

بَصيرًا قَالَ كَذَلِك اتتك آيَاتنَا فسيتها وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى سُورَة طه 123 126 وَقَالَ قَالَ اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو وَلكم فِي الارض مُسْتَقر ومتاع الى حِين قَالَ فِيهَا تحيون وفيهَا تموتون وَمِنْهَا تخرجُونَ يَا بني آدم قد انزلنا عَلَيْكُم لباسا يواري سؤاتكم وريشسا ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير ذَلِك من ايات الله لَعَلَّهُم يذكرُونَ يَا بني آدم لَا يفتننكم الشَّيْطَان كَمَا اخْرُج ابويكم من الْجنَّة ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما سوءاتهما انه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم انا جعلنَا الشَّيَاطِين اولياء للَّذين لَا يُؤمنُونَ سُورَة الاعراف 24 27 فَأخْبر سُبْحَانَهُ بنعمته على بني آدم بِمَا انزله من اللبَاس الَّذِي يواري سواءتهم وَمن الريش وانزاله لَهُ كَمَا قَالَ وانزلنا الْحَدِيد سُورَة الْحَدِيد 25 {وَأنزل لكم من الْأَنْعَام} سُورَة الزمر 6 وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا انْزِلْ الله دَاء الا انْزِلْ لَهُ شِفَاء

وَاخْبَرْ سُبْحَانَهُ ان لِبَاس التَّقْوَى خير من هَذَا اللبَاس كَمَا قَالَ لما امرهم بالزاد فَقَالَ {وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} سُورَة الْبَقَرَة 197 فهما لباسان وزادان ثمَّ قَالَ يابني آدم لَا يفتننكم الشَّيْطَان كَمَا اخْرُج ابويكم من الْجنَّة ينْزع عَنْهُمَا لباسهما ليريهما من سوءاتهما سُورَة الاعراف 27 فَنهى بنى آدم أَن يفتتنوا بفتنة الشَّيْطَان كَمَا فتن أبويهما وَذَلِكَ بِمَعْصِيَة الله وَطَاعَة الشَّيْطَان فِي خلاف أَمر الله وَنَهْيه وَأَنه لما نزع عَن الْأَبَوَيْنِ لبأسهم فَكَذَلِك قد ينْزع عَن الذُّرِّيَّة لِبَاس التَّقْوَى ولباس الْبدن ليريها سوءاتهما قَالَ تَعَالَى أَنه يراكم هُوَ وقبيلة من حَيْثُ لَا يرونهم إِنَّا جعلنَا الشَّيْطَان أَوْلِيَاء للَّذين لَا يُؤمنُونَ سُورَة الْأَعْرَاف 27 فَأخْبر

ان الشَّيَاطِين اولياء للَّذين لَا يُؤمنُونَ بهدى الله الَّذِي بعث بِهِ رسله كَمَا قَالَ وَمن يَعش عَن ذكر الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين وانهم ليصدونهم عَن السَّبِيل وَيَحْسبُونَ انهم مهتدون حَتَّى اذا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْت بيني وَبَيْنك بعد المشرقين فبئس القرين سُورَة الزخرف 36 38 وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَان فبعزتك لاغوينهم اجمعين الا عِبَادك مِنْهُم المخلصين سُورَة ص 82 83 قَالَ هَذَا صِرَاط على مُسْتَقِيم ان عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان الا من اتبعك من الغاوين سُورَة الْحجر 41 42 وَقَالَ انه لَيْسَ لَهُ سُلْطَان على الَّذين امنوا على رَبهم يَتَوَكَّلُونَ انما سُلْطَانه على الَّذين يتولونه وَالَّذين هم بِهِ مشركون سُورَة النَّحْل 99 100 وَقَالَ {وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم وَإِن أطعتموهم إِنَّكُم لمشركون} سُورَة الانعام 121 ثمَّ اخبر عَن اولياء الشَّيْطَان الَّذين لَا يُؤمنُونَ فَقَالَ {وَإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاء أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ} سُورَة

الاعراف 28 فَقَوْلهم وَالله امرنا بهَا يَقْتَضِي انهم متدينون بهَا يرونها عبَادَة وَطَاعَة كَمَا كَانَ مشركو الْعَرَب يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة وَيَقُولُونَ لَا نطوف فِي الثِّيَاب الَّتِي عصينا الله فِيهَا إِلَّا الحمس قُرَيْش وحلفاؤها فَكَانُوا يطوفون فِي ثِيَابهمْ وَكَانَ غَيرهم قد يطوف فِي ثِيَاب احمسى ان حصل لَهُ ذَلِك والا طَاف عُريَانا حَتَّى كَانَت الْمَرْأَة تَطوف عُرْيَانَة وَرُبمَا سترت فرجهَا بِيَدِهَا وَتقول ... الْيَوْم يَبْدُو بعضه اَوْ كُله ... وَمَا بدا مِنْهُ فَلَا احله ... وَكَانَ من طَاف فِي ثِيَابه من الحمس القاها فسميت لقى وَحرمت عَلَيْهِ وَكَانُوا ايضا فِي الاحرام لَا يَأْكُلُون من الدّهن الَّذِي فِي الانعام وَلِهَذَا لما فتح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة وغزا تَبُوك

انْزِلْ الله بَرَاءَة وامره الله بِالْبَرَاءَةِ الى اهل الْعَهْد الْمُطلق من الشّرك وبسيرهم فِي الارض اربعة اشهر وَقَالَ {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} سُورَة التَّوْبَة 5 فَبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابا بكر الصّديق اميرا على الْحَاج وامره ان يُنَادي ان لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك وَلَا يطوف عُرْيَان فَكَانُوا يصرخون بهَا من الْمَوْسِم كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيح وَغَيره فِي حَدِيث ابي هُرَيْرَة وَغَيره وَهُوَ من الْمُتَوَاتر واردفه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعلي بن ابي طَالب ان لَا ينْبذ للمعاهدين عهودهم لِأَن عَادَتهم كَانَت ان لَا يقبلُوا بنبذ الْعَهْد وحله الا من الْكَبِير اَوْ بعض اهل بَيته فأخرهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اذ ذَاك على عَادَتهم ليقبلوا ذَلِك وَكَانَ ابو بكر هُوَ الامام الَّذِي يُقيم للنَّاس مناسكهم وَيُصلي بهم وَيحكم فيهم وعَلى مَعَه ليبلغ رِسَالَة الْبَرَاءَة الى اهل العهود

فَكَانَ اولياء الشَّيْطَان اذا فعلوا هَذِه الْفَاحِشَة وَهِي ابداء السوءات فِي الطّواف يحتجون بشيئين يَقُولُونَ {وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} وَهَذَا هُوَ الرُّجُوع الى الْعَادة والاتباع والتقليد للأسلاف وَيَقُولُونَ {وَالله أمرنَا بهَا} وَهَذَا قَول بِغَيْر علم

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى قل ان الله لَا يَأْمر بالفحشاء سُورَة الاعراف 28 فان الْفَحْشَاء قبيحة مُنكرَة تنكرهَا الْقُلُوب بفطرتها وَالله لَا يَأْمر بمنكر وَهَذَا يَقْتَضِي ان الافعال القبيحة السَّيئَة تكون على صِفَات تمنع مَعهَا ان الله يَأْمر بهَا وَفِي هَذَا نزاع مَعْرُوف بَين النَّاس بَيناهُ فِي غير هَذَا الْموضع ثمَّ قَالَ {أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ} سُورَة الاعراف 28 أَي اتقولون انه امْر بِهَذَا وانتم لَا تعلمُونَ انه امْر بِهِ اذ لَيْسَ مَعكُمْ الا عَادَة ابائكم ودينكم وانتم لَا تعلمُونَ ان الله انْزِلْ بِهَذَا سُلْطَانا فَهَذِهِ الاية يدْخل فِيهَا كل من تعبد بِفَاحِشَة وامر مُنكر وان احْتج بِالْعَادَةِ الَّتِي لسلفه اَوْ زعم ان الله يَأْمر بذلك اَوْ لما يذكرهُ من الاسباب كَقَوْل مُشْركي الْعَرَب هَذِه الثِّيَاب عصينا الله فِيهَا فَلَا نطوف لَهُ فِيهَا يُرِيدُونَ وَقت الْعِبَادَة ان يجتنبوا ثِيَاب الْمعْصِيَة وَكَذَلِكَ تقسيمهم النَّاس الى قسمَيْنِ حمس وَغير حمس

واباحتهم للحمس مَا يحرم على غَيرهم من الطّواف فِي الثِّيَاب وَمن الطَّعَام وَعدم دُخُول الْبيُوت المنقوبة فِي الاحرام من ابوابها واسقاطهم عَن الحمس الافاضة من عَرَفَة بالافاضة من مُزْدَلِفَة فَمن هَذَا الْبَاب مَا يَدعِي قوم من اشراف بني هَاشم وَمن يَزْعمُونَ انهم مِنْهُم لموافقتهم لَهُم على رَأْي كالتشيع وَغَيره انهم مختصون بِهِ فِي الْعِبَادَات والمحظورات فَهَذَا نَظِير مَا كَانَت الحمس تدعيه

وَمن هَذَا الْبَاب مَا يَفْعَله قوم من المتزهدة من كشف سوءاتهم فِي سماعاتهم وحماماتهم اَوْ غير ذَلِك وَيَقُولُونَ هَذَا طريقنا وَهَذَا فِي طريقنا فَهَذَا مثل قَوْلهم {وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا} وابلغ من ذَلِك تعبد طوائف من المتزهدة والمتعبدة بمعاشرة الاحداث المردان وَالنِّسَاء الاجانب وَالنَّظَر اليهم وَالْخلْوَة بهم والمحبة والهوى فيهم وَبِمَا قد يكون وَقد لَا يكون وَرَاء ذَلِك من الْفَاحِشَة الْكُبْرَى وَهَذَا ابتدأه الْمُشْركُونَ من الصابئة وَغير الصابئة الَّذين هم اولياء الشَّيَاطِين الَّذين هم مشركون كَمَا ذكر ابْن سينا فِي إشاراته وَزعم انه مِمَّا يعين على السلوك والتأله الْعِشْق الْعَفِيف واستماع الاصوات الملحنة كَمَا ذكر ايضا الشّرك بِعبَادة الصُّور وَيذكر هُوَ وطائفته عبَادَة الْكَوَاكِب وَهَذَا فِي النَّصَارَى ايضا مِنْهُ جَانب قوي وهم ايضا قد ابتدعوا شركا لم ينزل الله بِهِ سُلْطَانا كَمَا قَالَ تَعَالَى اتَّخذُوا احبارهم

{وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله والمسيح ابْن مَرْيَم وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يشركُونَ} سُورَة التَّوْبَة 31 وَلِهَذَا كثر هَذَا فِي طوائف الزهاد والعباد من هَذِه الامة من المبتدعة الخارجين عَن الشَّرِيعَة ورسالة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذَا الْوَجْه وان كَانُوا من وَجه اخر داخلين فِيهَا فَهَذَا شَأْن الطرائق المبتدعة كلهَا يجْتَمع فِيهَا الْحق وَالْبَاطِل وَمن الْمَعْلُوم ان هَذَا الَّذِي يَفْعَلُونَهُ من الْفَوَاحِش الظَّاهِرَة اَوْ الْبَاطِنَة وَقد قَالَ تَعَالَى قَالَ انما حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن والاثم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وان تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وان تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ سُورَة الاعراف 33 وَقَالَ تَعَالَى {وذروا ظَاهر الْإِثْم وباطنه} سُورَة الانعام 120 وَقد قَالَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس ابي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ العينان تزنيان وزناهما النّظر الاذنان تزنيان وزناهما السّمع وَاللِّسَان يَزْنِي وزناه النُّطْق وَالْقلب يتَمَنَّى ذَلِك ويشتهي والفرج يصدق ذَلِك ويكذبه

فَمَا كَانَ من السّمع وَالْبَصَر وَاللِّسَان فِي هَذَا الْبَاب فهومن زِنَاهُ وَالزِّنَا من الْفَوَاحِش وَالله لَا يَأْمر بالفحشاء فَالله تَعَالَى لَا يَأْمر ان يعبده ويتقرب اليه بِالْعشرَةِ للمردان الصَّباح وَالنَّظَر اليهم والاصغاء الى كَلَامهم وَنَحْو ذَلِك اتقولون على الله مَالا تعلمُونَ سُورَة الاعراف 28 بل قد حرم الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وان اتي هَذِه الْفَوَاحِش مُعْتَقدًا تَحْرِيمهَا فَهُوَ من الْمُسلمين الَّذين قَالَ فيهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث ابي ذَر من مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا دخل الْجنَّة وان زنا وان سرق فَإِن الْمُسلم الَّذِي يَأْتِي بِفَاحِشَة اما ان يَتُوب الى الله ويستغفره فَيدْخل فِي قَوْله وَالَّذين اذا فعلوا فَاحِشَة اَوْ ظلمُوا انفسهم ذكرُوا الله فاستغفروا لذنوبهم وَمن يغْفر الذُّنُوب الا الله وَلم يصروا على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ اولئك جزاؤهم مغْفرَة من

{رَبهم وجنات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا وَنعم أجر العاملين} سُورَة ال عمرَان 135 136 وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يعْمل سوءا أَو يظلم نَفسه ثمَّ يسْتَغْفر الله يجد الله غَفُورًا رحِيما} سُورَة النِّسَاء 110 وَقَالَ تَعَالَى {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} سُورَة هود 114 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان رجلا اصاب من امْرَأَة قبله فَأتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر ذَلِك لَهُ فَأنْزل عَلَيْهِ {وأقم الصَّلَاة طرفِي النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} الاية سُورَة هود 114 قَالَ الرجل الى هَذِه الاية قَالَ لمن عمل بهَا من امتي وَقد قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش وَإِذا مَا غضبوا هم يغفرون} سُورَة الشورى 37

وَقَالَ {الَّذين يجتنبون كَبَائِر الْإِثْم وَالْفَوَاحِش إِلَّا اللمم إِن رَبك وَاسع الْمَغْفِرَة} سُورَة نجم 32 قَالَ ابْن عَبَّاس مَا رَأَيْت شَيْئا اشبه باللمم مِمَّا قَالَ ابو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان الْعَينَيْنِ تزنيان وزناهما النّظر وَذكر الحَدِيث وَالْمُسلم اذا اتى الْفَاحِشَة لَا يكفر وان كَانَ كَمَال الايمان الْوَاجِب قد زَالَ عَنهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن وَلَا يشرب الْخمر حِين يشْربهَا

وَهُوَ مُؤمن وَلَا ينتهب نهبة ذَات شرف يرفع النَّاس اليه فِيهَا ابصارهم وَهُوَ مُؤمن فَأصل الايمان مَعَه وَهُوَ قد يعود الى الْمعْصِيَة وَلكنه يكون مُؤمنا اذا فَارق الدُّنْيَا كَمَا فِي الصَّحِيح عَن عمر ان رجلا كَانَ يَدعِي حمارا وَكَانَ يشرب الْخمر وَكَانَ كلما اتي بِهِ الى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْر بجلده فَقَالَ رجل لَعنه الله مَا اكثر مَا يُؤْتى بِهِ الى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تلعنه فَإِنَّهُ يحب الله وَرَسُوله فَشهد لَهُ بِأَنَّهُ يحب الله وَرَسُوله وَنهى عَن لعنته كَمَا تقدم فِي الحَدِيث الاخر الصَّحِيح وان زنا وان سرق وَذَلِكَ ان مَعَه اصل الِاعْتِقَاد ان الله حرم ذَلِك وَمَعَهُ خشيه عِقَاب الله ورجاء رَحْمَة الله وايمانه بِأَن الله يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ فَيغْفر الله لَهُ بِهِ كَمَا فِي الصَّحِيح عَن ابي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وَقَالَ اذنب عبد ذَنبا فَقَالَ أَي رب اني اذنبت ذَنبا فَاغْفِر لي فَقَالَ ربه علم عَبدِي ان لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ قد غفرت لعبدي ثمَّ اذنب ذَنبا اخر فَقَالَ أَي رب اذنبت ذَنبا فاغفره لي فَقَالَ ربه علم عبدى أَن لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ قد غفرت لعبدى ثمَّ أذْنب ذَنبا آخر فَقَالَ أَي رب قد اذنبت ذَنبا فاغفره لي فَقَالَ علم عَبدِي ان لَهُ رَبًّا يغْفر الذَّنب وَيَأْخُذ بِهِ قد غفرت لعبدي فَلْيفْعَل مَا شَاءَ وَكَذَلِكَ فِي الصِّحَاح من غير وَجه حَدِيث الَّذِي لم يعْمل خيرا قطّ وَقَالَ لأَهله اذا انا مت فاحرقوني ثمَّ اسحقوني ثمَّ ذروني فِي يَوْم ريح الحَدِيث فَقَالَ الله لَهُ مَا حملك على مَا فعلت قَالَ خشيتك يَا رب فغفر الله لَهُ بِتِلْكَ الخشية وَكَذَلِكَ من افضل اعمال الْمُؤمن التَّوْبَة كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للغامريه الَّتِي اقرت بِالزِّنَا حَتَّى رَجمهَا لقد

تابت تَوْبَة لَو تابها مكس لغفر لَهُ وَهل وجدت تَوْبَة افضل من ان جَادَتْ بِنَفسِهَا لله وَحَدِيث صَلَاة التَّوْبَة مَحْفُوظ فِي السّنَن عَن عَليّ عَن ابي بكر الصّديق عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ مَا من مُسلم يُذنب ذَنبا فيتوضأ وَيحسن الْوضُوء ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ويستغفر الله الا غفر لَهُ وَقَرَأَ هَذِه الاية وَالَّذين اذا فعلوا فَاحِشَة اَوْ ظلمُوا انفسهم ذكرُوا الله سُورَة آل عمرَان 135 وَهَذَا بَاب وَاسع فان الذُّنُوب الَّتِي يبتلى بهَا الْعباد يسْقط عَنْهُم

عَذَابهَا اما بتوبة تجب مَا قبلهَا واما باستغفار واما بحسنات يذْهبن السَّيِّئَات واما بِدُعَاء الْمُسلمين وشفاعتهم اَوْ بِمَا يَفْعَلُونَهُ لَهُ من الْبر واما بشفاعة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيره فِيهِ يَوْم الْقِيَامَة واما ان يكفر الله خطاياه بِمَا يُصِيبهُ من المصائب فقد تَوَاتر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان مَا يُصِيب الْمُسلم من اذى شَوْكَة فَمَا فَوْقهَا الا حط الله بهَا خطاياه كَمَا تحط الشَّجَرَة الْيَابِسَة وَرقهَا واصناف الْحَسَنَات الَّتِي تكفر بهَا السَّيِّئَات كَثِيرَة اكثر من السَّيِّئَات من انواع الْبر جَمِيعهَا كَمَا جَاءَ ذَلِك فِي الاحاديث النَّبَوِيَّة الْمُطَابقَة لكتاب الله تَعَالَى واهل السّنة وَالْجَمَاعَة متفقون على انه لَا يكفر الْمُسلم بِمُجَرَّد

الذَّنب كَمَا يَقُوله الْخَوَارِج وَلَا انه يخرج من الايمان بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا يَقُوله الْمُعْتَزلَة لَكِن ينقص الايمان وَيمْنَع كَمَاله الْوَاجِب وان كَانَت المرجئة تزْعم ان الايمان لَا ينقص ايضا فمذهب اهل السّنة المتبعون للسلف الصَّالح ان الايمان يزِيد بِالطَّاعَةِ وَينْقص بالمعصية فَأَما استحلال مَا حرم الله وَرَسُوله من الْفَوَاحِش وَغَيرهَا فَهُوَ كفر وبمثله اهلك الله قوم لوط الَّذين استحلوا الْفَاحِشَة وفعلوها معلنين بهَا مستحلين لَهَا قَالَ تَعَالَى فَلَمَّا جَاءَ امرنا جعلنَا عاليها سافلها وامطرنا عَلَيْهَا حِجَارَة من سجيل منضود مسومة عِنْد رَبك وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد سوة هود 82 83 وَقد روى عَن قَتَادَة من الظَّالِمين من هَذِه الامة وَقد روى انه يكون فِيهَا خسف وَقذف ومسخ

وَقد شرع الله سُبْحَانَهُ فِي شَرِيعَة اهل التَّوْرَاة وَشَرِيعَة اهل الْقُرْآن رجم الزَّانِي الْمُحصن بِالْحِجَارَةِ كَمَا رجم الله اهل الْفَاحِشَة واما اهل الْفَاحِشَة واللوطية فيرجمان سَوَاء كَانَا بكرين اَوْ ثيبين عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء كَمَا رجم الله قوم لوط وَلَيْسَ فِي الذُّنُوب مَا يُعَاقب اهله بِالرَّجمِ الا اهل هَذِه الْفَاحِشَة وَقد رجم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير وَاحِد رجم الْيَهُودِيين ورجم مَا عز بن مَالك ورجم الغامدية ورجم اخر وَكَذَلِكَ رجم خلفاؤه الراشدون ايضا وَكَذَلِكَ مَا يُعَاقب الله بِهِ اهل ذَلِك كَمَا روى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه تَعْلِيقا مَجْزُومًا بِهِ وَهُوَ دَاخل فِي الصَّحِيح الَّذِي شَرطه عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم الاشعري انه سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَيَكُونن من امتي اقوام يسْتَحلُّونَ الْحر وَالْحَرِير وَالْخمر وَالْمَعَازِف ولينزلن اقوام الى جنب علم يروح عَلَيْهَا بسارحة لَهُم يَأْتِيهم لحاجتهم فَيَقُولُونَ ارْجع الينا غَدا فيبيتهم الله

وَيَضَع الْعلم ويمسخ اخرين قردة وَخَنَازِير الى يَوْم الْقِيَامَة فالعقوبة بِمَا عوقبت بِهِ الامم الْمُتَقَدّمَة من قذف ومسخ وَخسف انما يكون لمن شاركهم فاستحل مَا حرمه الله وَرَسُوله كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيَكُونن من امتي اقوام يسْتَحلُّونَ ثمَّ قد يسْتَحل بَعضهم بعض انواع الْخمر بِتَأْوِيل كَمَا اسْتحلَّ ذَلِك اهل الْكُوفَة كَمَا روى فِي الحَدِيث لَيَكُونن من امتي اقوام يسْتَحلُّونَ الْخمر يسمونها باسم غير اسْمهَا

فالاستحلال الَّذِي يكون من موارد الِاجْتِهَاد وَقد أَخطَأ المستحل فِي تَأْوِيله مَعَ ايمانه وحسناته هُوَ مِمَّا غفره الله لهَذِهِ الامة من الْخَطَأ فِي قَوْله رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا ان نَسِينَا اَوْ اخطأنا سُورَة الْبَقَرَة 286 كَمَا اسْتحلَّ بَعضهم بعض انواع الرِّبَا واستحل بَعضهم نوعا من الْفَاحِشَة وَهُوَ اتيان النِّسَاء فِي حشوشهن واستحل بَعضهم بعض انواع الْخمر واستحل بَعضهم اسْتِمَاع المعازف واستحل بَعضهم من دِمَاء بعض بالتأويل مَا اسْتحلَّ فَهَذِهِ الْمَوَاضِع الَّتِي تقع من اهل الايمان وَالصَّلَاح تكون سيئات مكفرة اَوْ مغفورة اَوْ خطأ مغفورا وَمَعَ هَذَا فَيجب بَيَان مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة من الْهَدْي وَدين الْحق والامر بذلك وَالنَّهْي عَن خلَافَة بِحَسب الامكان ثمَّ هَذِه الامور الَّتِي كَانَت من اولئك تكْثر وتتغلظ فِي قوم اخرين بعدهمْ حَتَّى تَنْتَهِي بهم الى استحلال محارم الله وَالْخُرُوج عَن دين الله واذا تغلظت هَذِه الامور عاقب الله اصحابها بِمَا يَشَاء

وَقد كَانَ بعض الصَّحَابَة ظن ان الْخمر حرمت على الْعَامَّة دون الَّذين امنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَشربهَا متأولا فَأحْضرهُ عمر وَاتفقَ هُوَ وائمة الصَّحَابَة كعلي وَغَيره على انهم ان اصروا على استحلالها كفرُوا وان اقروا بِالتَّحْرِيمِ جلدُوا فأقروا بِالتَّحْرِيمِ ثمَّ حصل لذَلِك نوع من الْيَأْس والقنوط لما فعل فَكتب اليه عمر حم تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْعَلِيم غَافِر الذَّنب وقابل التوب شَدِيد الْعقَاب سُورَة غَافِر 1 3 واظنه قَالَ مَا ادري أَي ذنبيك اعظم اسحلالك الرجس ام يأسك من رَحْمَة الله وَهَذَا من علم امير الْمُؤمنِينَ وعدله فَإِن الْفَقِيه كل الْفَقِيه لَا يؤيس النَّاس من رَحْمَة الله وَلَا يجرئهم على معاصي الله وَاسْتِحْلَال الْمُحرمَات كفر واليأس من رَحْمَة الله كفر وَلِهَذَا كَانَ دين الله بَين الحرورية والمرجئة فالمسلم يُذنب وَيَتُوب كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يروي عَن ربه يَا عبَادي انكم تخطئون بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وانا اغْفِر الذُّنُوب فاستفغروني اغْفِر لكم

وَفِي صَحِيح مُسلم عَنهُ ايضا من حَدِيث ابي هُرَيْرَة قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بِقوم يذنبون فيستغفرون الله فَيغْفر لَهُم وَنَحْوه فِي الصَّحِيح من رِوَايَة ابي ايوب وَقَالَ لعَائِشَة لما قيل فِيهَا الْإِفْك يَا عَائِشَة ان كنت الممت بذنب فاستغفري الله وتوبى اليه فَإِن العَبْد اذا اعْترف بِذَنبِهِ وَتَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ وان كنت برئية فسيبرئك الله

وَفِي الصَّحِيح عَن جُنْدُب ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدث ان رجلا قَالَ لَا يغْفر الله لفُلَان وان الله قَالَ من الَّذِي يتألى على اني لَا أَغفر لفُلَان فَإِنِّي قد غفرت لفُلَان واحبطت عَمَلك وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَابْن ماجة عَن انس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل ابْن آدم خطاء وَخير الْخَطَّائِينَ التوابون وَقَالَ ان العَبْد اذا اذنب نكتت فِي قلبه نكته سَوْدَاء فَإِن تَابَ وَنزع واستغفر صقل قلبه وان زَاد فِيهَا حَتَّى تعلو قلبه فَذَلِك الران الَّذِي قَالَ الله تَعَالَى فِيهِ كلا بل ران على

قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ سُورَة المطففين 14 وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابي مُوسَى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ان الله يبسط يَده بِاللَّيْلِ ليتوب مسئ النَّهَار ويبسط يَده بِالنَّهَارِ ليتوب مسئ اللَّيْل حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا وَهَذَا الْبَاب وَاسع وَالله تَعَالَى يقبل تَوْبَة العَبْد من جَمِيع الذُّنُوب الشّرك فَمَا دونه كَمَا قَالَ تَعَالَى يَا عبَادي الَّذين اسرفوا على انفسهم الاية سُورَة الزمر 53 وَقَالَ ان الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ثمَّ لم يتوبوا الاية سُورَة البروج 10 وَقَالَ تَعَالَى فان تَابُوا واقاموا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فإخوانكم فِي الدّين سُورَة التَّوْبَة 11

وَقَالَ تَعَالَى لقد كفر الَّذين قَالُوا ان الله ثَالِث ثَلَاثَة وَمَا من اله الا اله وَاحِد وان لم ينْتَهوا عَمَّا يَقُولُونَ ليمسن الَّذين كفرُوا مِنْهُم عَذَاب اليم افلا يتوبون الى الله ويستغفرونه وَالله غَفُور رَحِيم سُورَة الْمَائِدَة 73 74 وَقَالَ قل للَّذين كفرُوا ان ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف سُورَة الانفال 38 فَمن تَابَ من هَذِه الاعتقادات الْفَاسِدَة وَهُوَ استحلال شَيْء من الْمُحرمَات اَوْ التدين بِشَيْء مِنْهَا قبل الله تَوْبَته واما من اسْتحلَّ ذَلِك اَوْ تدين بِهِ وان لم يَفْعَله فَالَّذِي يفعل ذَلِك وَهُوَ مُعْتَقد للتَّحْرِيم خير مِنْهُ فَإِن هَذَا مُؤمن مذنب واما الاستحلال لَهَا والتدين بهَا فَهُوَ كفر فَأَما اهل الاباحة الَّذين لَا يحرمُونَ شَيْئا من الْفَوَاحِش وَغَيرهَا فَهَؤُلَاءِ كفار من اعظم النَّاس كفرا وَكَذَلِكَ استحلال التلو مثل من يظنّ ان قَوْله اَوْ مَا ملكت ايمانكم سُورَة النِّسَاء 3 يتَنَاوَل الذكران اَوْ يظنّ قَوْله ولعَبْد مُؤمن خير من مُشْرك سُورَة الْبَقَرَة 221 هُوَ فِي الموطوء لَا

فِي الزَّوْج اَوْ يظنّ ان ذَلِك يُبَاح فِي السّفر اَوْ بعد اربعين يَوْمًا اَوْ نَحْو ذَلِك فَهَذَا يكفر بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَمثل هَؤُلَاءِ قد يعاقبهم الله بِمَا عاقب بِهِ قوم لوط وَقد يحْشر مَعَهم لِأَن دينه دينهم بِخِلَاف الْمقر بِتَحْرِيم ذَلِك فَإِنَّهُ مُسلم واما التدين بذلك فَهُوَ اعظم من استحلاله وَهَؤُلَاء المتدينون مَا يكادون يتدينون بِنَفس فعل الْفَاحِشَة الْكُبْرَى وَلَكِن بمقدماتها من النّظر والتلذذ بِهِ والمباشرة والعشق للنسوان الاجانب وَالصبيان ويزعمون ان ذَلِك يصفي نُفُوسهم وارواحهم ويرقيهم الى الدَّرَجَات الْعَالِيَة وَفِيهِمْ من يزْعم انه يُخَاطب من تِلْكَ الصُّورَة وتتنزل عَلَيْهِ اسرار ومعارف وَفِيهِمْ من يترقى لغير ذَلِك فَيَقُول انه يتجلى لَهُ فِيهَا الْحَقَائِق وَرُبمَا زعم ان الله يحل فِيهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ علوا كَبِيرا وَقد يَسْجُدُونَ لَهَا وَمن هَؤُلَاءِ من يزْعم ان دحْيَة الْكَلْبِيّ كَانَ امردا وان جِبْرِيل كَانَ يَأْتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صُورَة امرد وَيَقُول لَهُ مَا احب ان تَأتِينِي الا فِي صُورَة امرد وَفِيهِمْ من يتَأَوَّل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت رَبِّي فِي

أحسن صُورَة وَفِي صُورَة كَذَا وَكَذَا وَيجْعَل الْأَمْرَد ربه وَهَؤُلَاء الحلولية والاتحادية مِنْهُم من يَخُصُّهُ بالصور الجميلة وَيَقُول مظَاهر الْجمال وَمِنْهُم من يَقُول بالاتحاد الْمُطلق والحلول الْمُطلق لَكِن هُوَ يتَّخذ لنَفسِهِ من الْمظَاهر مَا يُحِبهُ

فَهُوَ كَمَا الله تَعَالَى أرايت من أَتَّخِذ إلهه هَوَاهُ أفأنت تكون عَلَيْهِ وَكيلا سُورَة الْفرْقَان 43 وَقَالَ أَفَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ وأضله الله على علم وَختم على سَمعه وَقَلبه وَجعل على بَصَره غشاوة فَمن يهديه من بعد الله أَفلا تذكرُونَ سُورَة الجاثية 23 وَهَؤُلَاء يَجْعَل أحدهم معبود من جنس موطوئة وَإِذا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا اباءنا وَالله أمرنَا بهَا قل إِن الله لَا يَأْمر بالفحشاءأتقولون على الله مَالا تعلمُونَ سُورَة الْأَعْرَاف قل إِنَّمَا حرم ربى الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن والاثم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مالم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن

فصل في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ سُورَة الاعراف 33 وَكثير من هَؤُلَاءِ انما يُنكر بِكَلَامِهِ اباحة ذَلِك التَّعَبُّد بِهِ وَلَكِن حَاله حَال من يتعبد بِهِ حَتَّى انهم يتواصون فِيمَا بَينهم بِأَن المريد السالك يَنْبَغِي ان يتَّخذ لنَفسِهِ صُورَة يجْتَمع عَلَيْهَا ثمَّ يترقى مِنْهَا الى الله اَوْ انه يُشَاهد فِيهَا الله فصل فِي الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر هُوَ الَّذِي انْزِلْ الله بِهِ

كتبه وارسل بِهِ رسله وَهُوَ من الدّين فان رِسَالَة الله اما اخبار واما انشاء فالاخبار عَن نَفسه عز وَجل وَعَن خلقه مثل التَّوْحِيد والقصص الَّذِي ينْدَرج فِيهِ الْوَعْد والوعيد والانشاء الامر وَالنَّهْي والاباحة وَهَذَا كَمَا ذكر فِي الحَدِيث ان قل هُوَ الله اُحْدُ سُورَة الاخلاص تعدل ثلث الْقُرْآن لتضمنها الثُّلُث الَّذِي هُوَ التَّوْحِيد لِأَن الْقُرْآن تَوْحِيد وامر وقصص وَقَوله سُبْحَانَهُ فِي صفة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث سُورَة الاعراف 157 هُوَ لبَيَان كَمَال رسَالَته فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي امْر الله على

لِسَانه بِكُل مَعْرُوف وَنهى عَن كل مُنكر واحل كل طيب وَحرم كل خَبِيث وَلِهَذَا روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ انما بعثت لاتمم مَكَارِم الاخلاق وَقَالَ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ أَنما مثلى وَمثل الانبياء كَمثل رجل بنى دَارا فأتمها وأكملها الا مَوضِع لبنة فَكَانَ النَّاس يطيفون بهَا ويعجبون من حسنها وَيَقُولُونَ

لَوْلَا مَوضِع اللبنة فَأَنا تِلْكَ اللبنة فبه أكمل الله الدّين المتضمن لِلْأَمْرِ بِكُل مَعْرُوف وَالنَّهْي عَن كل مُنكر واحلال كل طيب وَتَحْرِيم كل خَبِيث واما من كَانَ قبله من الرُّسُل فقد كَانَ يحرم على اممهم بعض الطَّيِّبَات كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فبظلم من الَّذين هادوا حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات احلت لَهُم سُورَة النِّسَاء 160 وَرُبمَا لم يحرم عَلَيْهِم جَمِيع الْخَبَائِث كَمَا قَالَ تَعَالَى كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني اسرائيل الا مَا حرم اسرائيل على نَفسه من قبل ان تنزل التَّوْرَاة سُورَة آل عمرَان 93 وَتَحْرِيم الْخَبَائِث ينْدَرج فِي معنى النَّهْي عَن الْمُنكر كَمَا ان احلال الطَّيِّبَات ينْدَرج فِي معنى الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لِأَن تَحْرِيم الطَّيِّبَات هُوَ مِمَّا نهى الله عَنهُ وَكَذَلِكَ

الْأَمر بِجَمِيعِ الْمَعْرُوف وَالنَّهْي عَن كل مُنكر مِمَّا لم يتم الا للرسول الَّذِي تمم الله بِهِ مَكَارِم الاخلاق المندرجة فِي الْمعرفَة وَقد قَالَ الله تَعَالَى الْيَوْم اكملت لكم دينكُمْ واتممت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا سُورَة الْمَائِدَة فقد اكمل الله لنا الدّين واتم علينا النِّعْمَة وَرَضي لنا الاسلام دينا وَكَذَلِكَ وصف الله الامة بِمَا وصف بِهِ نبيها حَيْثُ قَالَ كُنْتُم خير امة اخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتؤمنون بِاللَّه سُورَة آل عمرَان 110 وَقَالَ والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم اولياء بعض يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر سور التَّوْبَة 71 وَلِهَذَا قَالَ ابو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ كُنْتُم خير النَّاس

للنَّاس تأتون بهم فِي الاقياد والسلاسل حَتَّى تدخلوهم الْجنَّة فَبين الله سُبْحَانَهُ ان هَذِه الامة خير الامم للنَّاس فهم انفعهم لَهُم وأعظمهم أحسانا إِلَيْهِم لأَنهم كملوا أَمر النَّاس بِالْمَعْرُوفِ ونهيهم عَن الْمُنكر من جِهَة الصّفة وَالْقدر حَيْثُ امروا بِكُل مَعْرُوف ونهوا عَن كل مُنكر لكل اُحْدُ واقاموا ذَلِك بِالْجِهَادِ فِي سَبِيل الله بِأَنْفسِهِم واموالهم وَهَذَا كَمَال النَّفْع لِلْخلقِ وَسَائِر الامم لم يأمروا كل اُحْدُ بِكُل مَعْرُوف وَلَا نهوا كل اُحْدُ عَن كل مُنكر وَلَا جاهدوا على ذَلِك بل مِنْهُم من لم يجاهدوا وَالَّذين جاهدوا كبنى اسرائيل فغاية جهادهم كَانَ لدفع عدوهم من ارضهم كَمَا يُقَاتل الصَّائِل الظَّالِم لَا لدَعْوَة الْمُجَاهدين الى الْهدى وَالْخَيْر وَلَا لأمرهم بِالْمَعْرُوفِ

ونهيهم عَن الْمُنكر كَمَا قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقوم ادخُلُوا الارض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم وَلَا ترتدوا على ادباركم فتنقلبوا خاسرين قَالُوا يَا مُوسَى ان فِيهَا قوما جبارين وانا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا فَإِن يخرجُوا مِنْهَا فَإنَّا داخلون الى قَوْله فَاذْهَبْ انت وَرَبك فَقَاتلا انا هَا هُنَا قَاعِدُونَ سُورَة الْمَائِدَة 2421 وكما قَالَ تَعَالَى الم تَرَ الى الملا من بني اسرائيل من بعد مُوسَى اذ قَالُوا لنَبِيّ لَهُم ابْعَثْ لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله قَالَ هَل عسيتم ان كتب عَلَيْكُم الْقِتَال الا تقاتلوا قَالُوا وَمَا لنا الا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله وَقد اخرجنا من دِيَارنَا وابنائنا سُورَة الْبَقَرَة 246 فعللوا الْقِتَال بِأَنَّهُم اخْرُجُوا من دِيَارهمْ وابنائهم وَمَعَ هَذَا كَانُوا ناكلين عَمَّا امروا بِهِ من ذَلِك وَلِهَذَا لم تحل الْغَنَائِم لَهُم وَلم يَكُونُوا يطؤون بِملك الْيَمين

وَمَعْلُوم ان اعظم الامم الْمُؤمنِينَ قبلنَا هم بَنو اسرائيل كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق على صِحَّته فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ خرج علينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عرضت على البارحة الانبياء بأممهم فَجعل يمر النَّبِي وَمَعَهُ الرجل وَالنَّبِيّ مَعَه الرّجلَانِ وَالنَّبِيّ مَعَه الرَّهْط وَالنَّبِيّ لَيْسَ مَعَه اُحْدُ وَرَأَيْت سوادا كثيرا سد الْأُفق وَفِي رِوَايَة فَإِذا الطَّرِيق ممتلئة بِالرِّجَالِ فرجوت ان يكون امتي فَقلت هَذِه امتي فَقيل هَذَا مُوسَى فِي بني اسرئيل وَلَكِن انْظُر هَكَذَا وَهَكَذَا

فَرَأَيْت سوادا كثيرا قد سد الافق فَقيل هَؤُلَاءِ امتك وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ الْفَا يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب فَتفرق النَّاس وَلم يتَبَيَّن لَهُم فَتَذَاكَرَ اصحاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا اما نَحن فولدنا فِي الشّرك وَلَكنَّا امنا بِاللَّه وَرَسُوله وَلَكِن هَؤُلَاءِ أَبْنَاؤُنَا فَبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ هم الَّذين لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يسْتَرقونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عكاشة بن مُحصن فَقَالَ امنهم انا يَا رَسُول الله قَالَ نعم فَقَامَ اخر فَقَالَ امنهم انا فَقَالَ سَبَقَك بهَا عكاشة وَلِهَذَا كَانَ اجماع هَذِه الامة حجَّة لِأَن الله قد اخبر انهم

يأمرون بِكُل مَعْرُوف وَينْهَوْنَ عَن كل مُنكر فَلَو اتَّفقُوا على اباحة محرم اَوْ اسقاط وَاجِب اَوْ تَحْرِيم حَلَال اَوْ اخبار عَن الله اَوْ خلقه بباطل لكانوا متصفين بالامر بمنكر وَالنَّهْي عَن مَعْرُوف والامر بالمنكر وَالنَّهْي عَن الْمَعْرُوف لَيْسَ من الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح بل الاية تَقْتَضِي ان مَا لم تَأمر بِهِ الْأمة فَلَيْسَ من الْمَعْرُوف وَمَا لم تنه عَنهُ فَلَيْسَ من الْمُنكر واذا كَانَت امرة بِكُل مَعْرُوف ناهية عَن كل مُنكر فَكيف يجوز ان تَأمر كلهَا بمنكر اَوْ تنهي كلهَا عَن مَعْرُوف وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا اخبر بِأَنَّهَا تَأمر بِالْمَعْرُوفِ وتنهى عَن الْمُنكر فقد اوجب ذَلِك على الْكِفَايَة مِنْهَا بقوله ولتكن مِنْكُم امة يدعونَ الى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون سُورَة آل عمرَان 104 واذا اخبر بِوُقُوع الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن المنكرمنها

لم يكن من شَرط ذَلِك ان يصل امْر لامر وَنهى الناهي مِنْهَا الى كل مُكَلّف فِي الْعَالم اذ لَيْسَ هَذَا من شَرط تَبْلِيغ الرسَالَة فَكيف يشْتَرط فِيمَا هُوَ من توابعها بل الشَّرْط ان يتَمَكَّن المكلفون من وُصُول ذَلِك اليهم ثمَّ اذا فرطوا فَلم يسعوا فِي وُصُوله اليهم مَعَ قيام فَاعله بِمَا يجب عَلَيْهِ كَانَ التَّفْرِيط مِنْهُم لَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ وجوب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لَا يجب على كل اُحْدُ بِعَيْنِه بل هُوَ على الْكِفَايَة كَمَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَلما كَانَ الْجِهَاد من تَمام ذَلِك كَانَ الْجِهَاد ايضا كَذَلِك فَإِذا لم يقم بِهِ من يقوم بواجبه اثم كل قَادر بِحَسب قدرته اذ هُوَ وَاجِب على كل انسان بِحَسب قدرته كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رأى مِنْكُم مُنْكرا فليغيره بِيَدِهِ فَإِن لم يسْتَطع فبلسانه فَإِن لم يسْتَطع فبقلبه وَذَلِكَ اضعف الايمان

واذ كَانَ كَذَلِك فمعلوم ان الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر واتمامه بِالْجِهَادِ هُوَ من اعظم الْمَعْرُوف الَّذِي امرنا بِهِ وَمن النَّهْي عَن الْمُنكر اقامة الْحُدُود على من خرج من شَرِيعَة الله وَيجب على اولى الامر وهم عُلَمَاء كل طَائِفَة وامراؤها ومشايخها ان يقومُوا على عامتهم ويأمروهم بِالْمَعْرُوفِ وينهوهم عَن الْمُنكر فيأمرونهم بِمَا امْر الله بِهِ وَرَسُوله مثل شرائع الاسلام وَهِي الصَّلَوَات الْخمس فِي مواقيتها وَكَذَلِكَ الصَّدقَات الْمَشْرُوعَة وَالصَّوْم الْمَشْرُوع وَحج الْبَيْت الْحَرَام وَمثل الايمان بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الاخر والايمان بِالْقدرِ خَيره وشره وَمثل الاحسان وَهُوَ ان تبعد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فانه يراك وَمثل مَا امْر الله بِهِ وَرَسُوله من الامور الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة وَمثل اخلاص الدّين لله والتوكل على الله وان يكون الله وَرَسُوله احب اليه مِمَّا سواهُمَا والرجاء لرحمة الله والخشية من عَذَابه وَالصَّبْر لحكم الله وَالتَّسْلِيم لأمر الله وَمثل صدق الحَدِيث وَالْوَفَاء بالعهود واداء الامانات الى اهلها وبر الْوَالِدين وصلَة الارحام والتعاون على الْبر وَالتَّقوى والاحسان الى الْجَار واليتيم والمسكين وَابْن السَّبِيل والصاحب وَالزَّوْجَة

والمملوك وَالْعدْل فِي الْمقَال والفعال ثمَّ النّدب الى مَكَارِم الاخلاق مثل ان تصل من قَطعك وتعطى من حَرمك وَتَعْفُو عَن ظلمك وَمن الامر بِالْمَعْرُوفِ كَذَلِك الامر بالائتلاف والاجتماع وَالنَّهْي عَن الِاخْتِلَاف والفرقة وَغير ذَلِك واما الْمُنكر الَّذِي نهى الله عَنهُ وَرَسُوله فأعظمه الشّرك بِاللَّه وَهُوَ ان يَدْعُو مَعَ الله الها اخر كَالشَّمْسِ وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب اَوْ كملك من الْمَلَائِكَة اَوْ نَبِي من الانبياء اَوْ رجل من الصَّالِحين اَوْ اُحْدُ من الْجِنّ اَوْ تماثيل هَؤُلَاءِ اَوْ قُبُورهم اَوْ غير ذَلِك مِمَّا يدعى من دون الله تَعَالَى اَوْ يستغاث بِهِ اَوْ يسْجد لَهُ فَكل هَذَا واشباهه من الشّرك الَّذِي حرمه الله على لِسَان جَمِيع رسله وَمن الْمُنكر كل مَا حرمه الله كَقَتل النَّفس بِغَيْر الْحق واكل اموال النَّاس بِالْبَاطِلِ بِالْغَصْبِ اَوْ بالربا اَوْ الميسر والبيوع والمعاملات الَّتِي نهى عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ قطيعة الرَّحِم وعقوق الْوَالِدين وتطفيف الْمِكْيَال وَالْمِيزَان والاثم وَالْبَغي وَكَذَلِكَ الْعِبَادَات المبتدعة الَّتِي لم يشرعها الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغير ذَلِك والرفق سبييل الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر

وَلِهَذَا قيل ليكن امرك بِالْمَعْرُوفِ بِالْمَعْرُوفِ ونهيك عَن الْمُنكر غير مُنكر واذا كَانَ الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر من اعظم الْوَاجِبَات اَوْ المستحبات فالواجبات والمستحبات لَا بُد ان تكون الْمصلحَة فِيهَا راجحة على الْمفْسدَة اذ بِهَذَا بعثت الرُّسُل وانزلت الْكتب وَالله لَا يحب الْفساد بل كل مَا امْر الله بِهِ فَهُوَ صَلَاح وَقد اثنى الله على الصّلاح والمصلحين وَالَّذين امنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وذم الْفساد والمفسدين فِي غير مَوضِع فَحَيْثُ كَانَت مفْسدَة الامر وَالنَّهْي اعظم من مصْلحَته لم يكن مِمَّا امْر الله بِهِ وان كَانَ قد ترك وَاجِب وَفعل محرم إِذْ لمُؤْمِن عَلَيْهِ ان يتقى الله فِي عباد الله وَلَيْسَ عَلَيْهِ هدَاهُم وَهَذَا من معنى قَوْله تَعَالَى يَا

ايها الَّذين امنوا عَلَيْكُم انفسكم لَا يضركم من ضل اذا اهْتَدَيْتُمْ سُورَة الْمَائِدَة 105 والاهتداء انما يتم بأَدَاء الْوَاجِب فَإِذا قَامَ الْمُسلم بِمَا يجب عَلَيْهِ من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر كَمَا قَامَ بِغَيْرِهِ من الْوَاجِبَات لم يضرّهُ ضلال الضال وَذَلِكَ يكون تَارَة بِالْقَلْبِ وَتارَة بِاللِّسَانِ وَتارَة بِالْيَدِ فَأَما الْقلب فَيجب بِكُل حَال اذا لَا ضَرَر فِي فعله وَمن لم يَفْعَله فَلَيْسَ هُوَ بِمُؤْمِن كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ ادنى اَوْ اضعف الايمان وَقَالَ لَيْسَ وَرَاء ذَلِك من الايمان حبه خَرْدَل وَقيل لِأَبْنِ مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ من ميت الاحياء فَقَالَ الَّذِي لَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا وَهَذَا هُوَ

الْمفْتُون الْمَوْصُوف بِأَن قلبه كالكوز مجخيا فِي حَدِيث حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ تعرض الْفِتَن على الْقُلُوب عرض الْحَصِير الحَدِيث وَهنا يغلط فريقان من النَّاس فريق يتْرك مَا يجب من الامر وَالنَّهْي تَأْوِيلا لهَذِهِ الاية كَمَا قَالَ ابو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي خطبَته ايها النَّاس انكم تقرأون هَذِه الاية عَلَيْكُم انفسكم لَا يضركم من ضل اذا اهْتَدَيْتُمْ سُورَة الْمَائِدَة 105 وانكم تضعونها فِي غير موضعهَا واني سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ان النَّاس اذا رَأَوْا الْمُنكر فَلم يغيروه اَوْ شكّ ان يعمهم الله بعقاب مِنْهُ

والفريق الثَّانِي من يُرِيد ان يَأْمر وَيُنْهِي اما بِلِسَانِهِ واما بِيَدِهِ مُطلقًا من غير فقه وَلَا حكم وَلَا صَبر وَلَا نظر فِي مَا يصلح من ذَلِك وَمَا لَا يصلح وَمَا يقدر عَلَيْهِ وَمَا لَا يقدر كَمَا فِي حَدِيث ابي ثَعْلَبه الْخُشَنِي سَأَلت عَنْهَا اي الاية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ بل ائْتَمرُوا بالعروف وَتَنَاهوا عَن الْمُنكر حَتَّى اذا رَأَيْت شحا مُطَاعًا وَهوى مُتبعا ودينا مُؤثرَة واعجاب كل ذِي رأى بِرَأْيهِ وَرَأَيْت امْرأ لَا يدان لَك بِهِ فَعَلَيْك بِنَفْسِك ودع عَنْك امْر الْعَوام فَإِن من ورائك ايام الصَّبْر الصَّبْر فِيهِنَّ مثل قبض على الْجَمْر لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ كَأَجر خمسين رجلا يعْملُونَ مثل عمله فَيَأْتِي بِالْأَمر وَالنَّهْي مُعْتَقدًا انه مُطِيع فِي

ذَلِك لله وَرَسُوله وَهُوَ مُعْتَد فِي حُدُوده كَمَا نصب كثير من اهل الْبدع والاهواء نَفسه لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي كالخوارج والمعتزلة والرافضة وَغَيرهم من غلط فِيمَا اتاه من الامر وَالنَّهْي وَالْجهَاد وَغير ذَلِك فَكَانَ فَسَاده اعظم من صَلَاحه وَلِهَذَا امْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصبرِ على جور الائمة وَنهى عَن قِتَالهمْ مَا اقاموا الصَّلَاة وَقَالَ ادوا اليهم حُقُوقهم وسلوا الله حقوقكم وَقد بسطنا القَوْل فِي ذَلِك فِي غير هَذَا الْموضع وَلِهَذَا كَانَ من اصول اهل السّنة وَالْجَمَاعَة لُزُوم الْجَمَاعَة وَترك قتال الائمة وَترك الْقِتَال فِي الْفِتْنَة واما اهل الاهواء

كالمعتزلة فيرون الْقِتَال للأئمة من اصول دينهم وَيجْعَل الْمُعْتَزلَة اصول دينهم خَمْسَة التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ سلب الصِّفَات وَالْعدْل الَّذِي هُوَ التَّكْذِيب بِالْقدرِ والمنزلة بَين المنزلتين وانفاذ الْوَعيد والامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الَّذِي فِيهِ قتال الائمة وَقد تَكَلَّمت على قتال الائمة فِي غيرهذا الْموضع وجماع ذَلِك دَاخل فِي الْقَاعِدَة الْعَامَّة فِيمَا اذا تَعَارَضَت الْمصَالح والمفاسد والحسنات والسيئات اَوْ تزاحمت فانه يجب تَرْجِيح الرَّاجِح مِنْهَا فِيمَا اذا ازدحمت الْمصَالح والمفاسد وتعارضت الْمصَالح والمفاسد فَإِن الْأَمر والنهى وَإِن كَانَ متضمنا لتحصل مصلحَة وَدفع مفْسدَة فَينْظر فِي الْمعَارض لَهُ فَإِن كَانَ الَّذِي يفوت من الْمصَالح اَوْ يحصل من الْمَفَاسِد اكثر لم يكن مَأْمُورا بِهِ بل يكون محرما اذا كَانَت مفسدته اكثر من مصْلحَته

لَكِن اعْتِبَار مقادير الْمصَالح والمفاسد هُوَ بميزان الشَّرِيعَة فَمَتَى قدر الانسان على اتِّبَاع النُّصُوص لم يعدل عَنْهَا وَلَا اجْتهد رَأْيه لمعْرِفَة الاشباه والنظائر وَقل ان تعوز النُّصُوص من يكون خَبِيرا بهَا وبدلالتها على الاحكام وعَلى هَذَا اذا كَانَ الشَّخْص اوالطائفة جامعين بَين مَعْرُوف ومنكر بِحَيْثُ لَا يفرقون بَينهمَا بل اما ان يفعلوهما جَمِيعًا اَوْ يتركوهما جَمِيعًا لم يجز ان يؤمروا بِمَعْرُوف وَلَا ان ينهوا عَن مُنكر بل ينظر فَإِن كَانَ الْمَعْرُوف اكثر امْر بِهِ وان استلزم مَا هُوَ دونه من الْمُنكر وَلم ينْه عَن مُنكر يسْتَلْزم تَفْوِيت مَعْرُوف اعظم مِنْهُ بل يكون النَّهْي حِينَئِذٍ من بَاب الصد عَن سَبِيل الله وَالسَّعْي فِي زَوَال طَاعَته وَطَاعَة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَزَوَال فعل الْحَسَنَات وان كَانَ الْمُنكر اغلب نهي عَنهُ وان استلزم فَوَات مَا هُوَ

دونه من الْمَعْرُوف وَيكون الامر بذلك الْمَعْرُوف المستلزم للْمُنكر الزَّائِد عَلَيْهِ امرا بمنكر وسعيا فِي مَعْصِيّة الله وَرَسُوله وان تكافأ الْمَعْرُوف وَالْمُنكر المتلازمان لم يُؤمر بهما وَلم ينْه عَنْهُمَا فَتَارَة يصلح الامر وَتارَة يصلح النَّهْي وَتارَة لَا يصلح لَا امْر وَلَا نهي حَيْثُ كَانَ الْمُنكر وَالْمَعْرُوف متلازمين وَذَلِكَ فِي الامور الْمعينَة الْوَاقِعَة واما من جِهَة النَّوْع فَيُؤْمَر بِالْمَعْرُوفِ مُطلقًا وَينْهى عَن الْمُنكر مُطلقًا وَفِي الْفَاعِل الْوَاحِد والطائفة الْوَاحِدَة يُؤمر بمعروفها وَينْهى عَن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها بِحَيْثُ لَا يتَضَمَّن الامر بِمَعْرُوف فَوَات مَعْرُوف اكبر مِنْهُ اَوْ حُصُول مُنكر فَوْقه وَلَا يتَضَمَّن النَّهْي عَن الْمُنكر حُصُول مَا هُوَ انكر مِنْهُ اَوْ فَوَات مَعْرُوف ارجح مِنْهُ

واذا اشْتبهَ الْأَمر استثبت الْمُؤمن حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ الْحق فَلَا يقدم على الطَّاعَة الا بِعلم وَنِيَّة واذا تَركهَا كَانَ عَاصِيا فَترك الامر الْوَاجِب مَعْصِيّة وَفعل مَا نهى عَنهُ من الامر مَعْصِيّة وَهَذَا بَاب وَاسع وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه وَمن هَذَا الْبَاب اقرار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الله بن ابي وامثاله من ائمة النِّفَاق والفجور لما لَهُم من الاعوان فإزالة منكره بِنَوْع من عِقَابه مستلزمة ازاله مَعْرُوف اكبر من ذَلِك بغضب قومه وحميتهم وبنفور النَّاس اذا سمعُوا ان مُحَمَّدًا يقتل اصحابه وَلِهَذَا لما خطب النَّاس فِي قصَّة الْإِفْك بِمَا خاطبهم بِهِ

وَاعْتذر مِنْهُ وَقَالَ لَهُ سعد بن معَاذ قَوْله الَّذِي احسن فِيهِ حمى لَهُ سعد بن عبَادَة مَعَ حسن ايمانه وَصدقه وتعصب لكل مِنْهُم قبيله حَتَّى كَادَت تكون فتْنَة وَاصل هَذَا ان تكون محبَّة الانسان للمعروف وبغضه للْمُنكر وارادته لهَذَا وكراهته لهَذَا مُوَافقا لحب الله وبغضه وارادته وكراهته الشرعيتين وان يكون فعله للمحبوب وَدفعه للمكروه بِحَسب قوته وَقدرته فَإِن الله لَا يُكَلف نفسا الا وسعهَا وَقد قَالَ فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم سُورَة التغابن 16

فَأَما حب الْقلب وبغضه وارادته وكراهته فَيَنْبَغِي ان تكون كَامِلَة جازمة لَا يُوجب نقص ذَلِك الا نقص الايمان واما فعل الْبدن فَهُوَ بِحَسب قدرته وَمَتى كَانَت ارادة الْقلب وكراهته كَامِلَة تَامَّة وَفعل العَبْد مَعهَا بِحَسب قدرته فَإِنَّهُ يعْطى ثَوَاب الْفَاعِل الْكَامِل كَمَا قد بَيناهُ فِي غير هَذَا الْموضع فَإِن من النَّاس من يكون حبه وبغضه وارادته وكراهته بِحَسب محبته نَفسه وبغضها لَا بِحَسب محبَّة الله وَرَسُوله وبغض الله وَرَسُوله وَهَذَا من نوع الْهوى فَإِن اتبعهُ الانسان فقد اتبع هَوَاهُ وَمن اضل مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله سُورَة الْقَصَص 50 فَإِن اصل الْهوى هُوَ محبَّة النَّفس وَيتبع ذَلِك بغضها والهوى نَفسه وَهُوَ الْحبّ والبغض الَّذِي فِي النَّفس لَا

يلام العَبْد عَلَيْهِ فَإِن ذَلِك لَا يملكهُ وانما يلام على اتِّبَاعه كَمَا قَالَ تَعَالَى يَا دَاوُد انا جعلناك خَليفَة فِي الارض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله سُورَة ص 26 وَقَالَ تَعَالَى {وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} سُورَة الْقَصَص 50 وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث منجيات خشيَة الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْقَصْد فِي الْفقر والغنى وَكلمَة الْحق فِي الْغَضَب وَالرِّضَا وَثَلَاث مهلكات شح مُطَاع وَهوى مُتبع واعجاب الْمَرْء بِنَفسِهِ وَالْحب والبغض يتبعهُ ذوق عِنْد وجود المحبوب والمبغض

وَوجد وارادة وَغير ذَلِك فَمن اتبع ذَلِك بِغَيْر امْر الله وَرَسُوله فَهُوَ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله بل قد يتمادى بِهِ الامر الى ان يتَّخذ الهه هَوَاهُ وَاتِّبَاع الاهواء فِي الديانَات اعظم من اتِّبَاع الاهواء فِي الشَّهَوَات فَإِن الاول حَال الَّذين كفرُوا من اهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} سُورَة الْقَصَص 50 وَقَالَ تَعَالَى ضرب لكم مثلا من انفسكم هَل لكم مِمَّا ملكت ايمانكم الاية الى قَوْله {بل اتبع الَّذين ظلمُوا أهواءهم بِغَيْر علم} سُورَة الرّوم 28 29 وَقَالَ تَعَالَى وَقد فضل لكم مَا حرم عَلَيْكُم الا مَا

{اضطررتم إِلَيْهِ وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم} سُورَة الانعام 119 الاية وَقَالَ تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ غير الْحق وَلَا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل} سُورَة الْمَائِدَة 77 وَقَالَ تَعَالَى {وَلنْ ترْضى عَنْك الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تتبع ملتهم قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم مَا لَك من الله من ولي وَلَا نصير} سُورَة الْبَقَرَة 120 وَقَالَ تَعَالَى فِي الاية الاخرى {وَلَئِن اتبعت أهواءهم من بعد مَا جَاءَك من الْعلم إِنَّك إِذا لمن الظَّالِمين} سُورَة الْبَقَرَة 145 وَقَالَ {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله وَلَا تتبع أهواءهم} سُورَة الْمَائِدَة 49 وَلِهَذَا كَانَ من خرج عَن مُوجب الْكتاب وَالسّنة من المنسوبين الى الْعلمَاء والعباد يَجْعَل من اهل الاهواء كَمَا كَانَ

السّلف يسمونهم اهل الاهواء وَذَلِكَ ان كل من لم يتبع الْعلم فقد اتبع هَوَاهُ وَالْعلم بِالدّينِ لَا يكون الا بِهَدي الله الَّذِي بعث بِهِ رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع {وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم} سُورَة الانعام 119 وَقَالَ فِي مَوضِع اخر {وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} سُورَة الْقَصَص 50 فَالْوَاجِب على العَبْد ان ينظر فِي نفس حبه وبغضه وَمِقْدَار حبه وبغضه هَل هُوَ مُوَافق لأمر الله وَرَسُوله وَهُوَ هدى الله الَّذِي انزله على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحَيْثُ يكون مَأْمُورا بذلك الْحبّ والبغض لَا يكون مُتَقَدما فِيهِ بَين يَدي الله وَرَسُوله فَإِنَّهُ قد قَالَ تَعَالَى {لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} سُورَة الحجرات 1

وَمن احب اَوْ ابغض قبل ان يَأْمُرهُ الله وَرَسُوله فَفِيهِ نوع من التَّقَدُّم بَين يَدي الله وَرَسُوله وَمُجَرَّد الْحبّ والبغض هُوَ هوى لَكِن الْمحرم مِنْهُ اتِّبَاع حبه وبغضه بِغَيْر هدى من الله وَلِهَذَا قَالَ الله لنَبيه دَاوُد {وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد} سُورَة ص 21 فَأخْبر ان من اتبع هَوَاهُ اضله ذَلِك عَن سَبِيل الله وَهُوَ هداه الَّذِي بعث بِهِ رَسُوله وَهُوَ السَّبِيل اليه وَتَحْقِيق ذَلِك ان الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر هُوَ من اوجب الاعمال وافضلها واحسنها وَقد قَالَ تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} سُورَة الْملك 2 وَهُوَ كَمَا قَالَ الفضيل بن عِيَاض رَحمَه الله خلصه واصوبه فَإِن الْعَمَل اذا كَانَ خَالِصا وَلم يكن

صَوَابا لم يقبل واذا كَانَ صواباه وَلم يكن خَالِصا لم يقبل حَتَّى يكون خَالِصا صَوَابا والخالص ان يكون لله وَالصَّوَاب ان يكون على السّنة فَالْعَمَل الصَّالح لَا بُد ان يُرَاد بِهِ وَجه الله تَعَالَى فَإِن الله تَعَالَى لَا يقبل من الْعَمَل الا مَا اريد بِهِ وَجهه وَحده كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن ابي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَقُول الله تَعَالَى انا اغنى الشُّرَكَاء عَن الشّرك من عمل عملا اشرك فِيهِ غَيْرِي فَأَنا مِنْهُ برِئ وَهُوَ كُله للَّذي اشرك وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ اصل الاسلام وَهُوَ دين الله الَّذِي بعث بِهِ جَمِيع رسله وَله خلق الْخلق وَهُوَ حَقه على عباده ان

يعبدوه وَلَا يشركوا بِهِ شَيْئا وَلَا بُد مَعَ ذَلِك ان يكون الْعَمَل صَالحا وَهُوَ مَا امْر الله بِهِ وَرَسُوله وَهُوَ الطَّاعَة فَكل طَاعَة عمل صَالح وكل عمل صَالح طَاعَة وَهُوَ الْعَمَل الْمَشْرُوع الْمسنون اذ الْمَشْرُوع الْمسنون هُوَ الْمَأْمُور بِهِ امْر ايجاب اَوْ اسْتِحْبَاب وَهُوَ الْعَمَل الصَّالح وَهُوَ الْحسن وَهُوَ الْبر وَهُوَ الْخَيْر وضده الْمعْصِيَة وَالْعَمَل الْفَاسِد والسيئة والفجور وَالشَّر وَالظُّلم وَالْبَغي وَلما كَانَ الْعَمَل لَا بُد فِيهِ من شَيْئَيْنِ النِّيَّة وَالْحَرَكَة كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اصدق الاسماء حَارِث وَهَمَّام فَكل اُحْدُ حَارِث وَهَمَّام لَهُ عمل وَنِيَّة

لَكِن النِّيَّة المحمودة الَّتِي يتقبلها الله ويثيب عَلَيْهَا هِيَ ان يُرَاد الله وَحده بذلك الْعَمَل وَالْعَمَل الْمَحْمُود هُوَ الصَّالح وَهُوَ الْمَأْمُور بِهِ وَلِهَذَا كَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ اجْعَل عملى كُله صَالحا واجعله لوجهك خَالِصا وَلَا تجْعَل لأحد فِيهِ شَيْئا واذا كَانَ هَذَا حد كل عمل صَالح فَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر يجب ان يكون كَذَلِك هَذَا فِي حق الامر الناهي بِنَفسِهِ وَلَا يكون عمله صَالحا ان لم يكن بِعلم وَفقه كَمَا قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز من عبد الله بِغَيْر علم كَانَ مَا

يفْسد اكثر مِمَّا يصلح وكما فِي حَدِيث معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ الْعلم امام الْعَمَل وَالْعَمَل تَابعه وَهَذَا ظَاهر فَإِن الْقَصْد وَالْعَمَل ان لم يكن بِعلم كَانَ جهلا وضلالا واتباعا للهوى كَمَا تقدم وَهَذَا هُوَ الْفرق بَين اهل الْجَاهِلِيَّة واهل الاسلام فَلَا بُد من الْعلم بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنكر والتمييز بَينهمَا وَلَا بُد من الْعلم بِحَال الْمَأْمُور وَحَال الْمنْهِي وَمن الصّلاح ان يَأْتِي بالامر وَالنَّهْي على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَهُوَ اقْربْ الطّرق الى حُصُول الْمَقْصُود وَلَا بُد فِي ذَلِك من الرِّفْق كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانَ الرِّفْق فِي شَيْء الا زانه وَلَا كَانَ العنف فِي شَيْء الا شانه وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان الله رَفِيق يحب الرِّفْق

فِي الامر كُله وَقَالَ ان الله رَفِيق يحب الرِّفْق وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطي على العنف وَلَا بُد ايضا ان يكون حَلِيمًا صبورا على الاذى فَلَا بُد ان يحصل لَهُ اذى فَإِن لم يحلم ويصبر كَانَ مَا يفْسد اكثر مِمَّا يصلح كَمَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ {وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر واصبر على مَا أَصَابَك إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} سُورَة لُقْمَان 17 وَلِهَذَا امْر الله الرُّسُل وهم ائمة الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن

الْمُنكر بِالصبرِ كَقَوْلِه لخاتم الرُّسُل عَلَيْهِ السَّلَام بل ذَلِك مقرون بتبليغ الرسَالَة فَإِنَّهُ اول مَا ارسل انزلت عَلَيْهِ سُورَة {يَا أَيهَا المدثر} بعد ان انزلت عَلَيْهِ سُورَة اقْرَأ الَّتِي بِهِ نبئ فَقَالَ الله تَعَالَى يَا ايها المدثر قُم فَأَنْذر وَرَبك فَكبر وثيابك فطهر وَالرجز فاهجر وَلَا تمنن تستكثر ولربك فاصبر سُورَة المدثر 1 7 فَافْتتحَ آيَات الارسال الى الْخلق بالامر بالانذار وختمها بالامر بِالصبرِ وَنَفس الانذار امْر بِالْمَعْرُوفِ وَنهي عَن الْمُنكر فَعلم انه يجب بعد ذَلِك الصَّبْر وَقَالَ تَعَالَى {واصبر لحكم رَبك فَإنَّك بأعيننا} سُورَة الطّور 48 وَقَالَ تَعَالَى {واصبر على مَا يَقُولُونَ واهجرهم هجرا جميلا} سُورَة المزمل 10 وَقَالَ {فاصبر كَمَا صَبر أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل} سُورَة الاحقاف 35 وَقَالَ فاصبر لحكم

{رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت} سُورَة الْقَلَم 48 وَقَالَ {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} سُورَة النَّحْل 127 وَقَالَ واصبر فَإِن الله لَا يضيع اخر الْمُحْسِنِينَ سُورَة هود 115 فَلَا بُد من هَذِه الثَّلَاثَة الْعلم والرفق وَالصَّبْر الْعلم قبل الْأَمر وَالنَّهْي والرفق مَعَه وَالصَّبْر بعده وان كَانَ كل من الثَّلَاثَة لَا بُد ان يكون مستصحبا فِي هَذِه الاحوال وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الاثر عَن بعض السّلف وَرَوَوْهُ مَرْفُوعا ذكره القَاضِي ابو يعلى فِي الْمُعْتَمد لَا يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر الا من كَانَ فَقِيها فِيمَا يَأْمر بِهِ فَقِيها فَمَا يُنْهِي عَنهُ رَفِيقًا فِيمَا يَأْمر بِهِ رَفِيقًا فِيمَا ينْهَى عَنهُ حَلِيمًا فِيمَا يَأْمر بِهِ حَلِيمًا فِيمَا ينْهَى عَنهُ وليعلم ان اشْتِرَاط هَذِه الْخِصَال فِي الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مِمَّا يُوجب صعوبته على كثير من النُّفُوس فيظن انه بذلك يسْقط عَنهُ فيدعه وَذَلِكَ قد يضرّهُ اكثر مِمَّا يضرّهُ الامر بِدُونِ هَذِه الْخِصَال اَوْ اقل فَإِن ترك الامر الْوَاجِب مَعْصِيّة وَفعل مَا نهى عَنهُ فِي الامر مَعْصِيّة فالمنتقل من مَعْصِيّة الى

مَعْصِيّة اكبر مِنْهَا كالمستجير من الرمضاء بالنَّار والمنتقل من مَعْصِيّة الى مَعْصِيّة كالمتنقل من دين بَاطِل الى دين بَاطِل قد يكون الثَّانِي شرا من الاول وَقد يكون دونه وَقد يكونَانِ سَوَاء فَهَكَذَا تَجِد المقصر فِي الامر وَالنَّهْي والمعتدي فِيهِ قد يكون ذَنْب هَذَا اعظم وَقد يكون ذَنْب ذَاك اعظم وَقد يكونَانِ سَوَاء وَمن الْمَعْلُوم بِمَا ارانا الله من اياته فِي الافاق وَفِي انفسنا وَبِمَا شهد بِهِ فِي كِتَابه ان الْمعاصِي سَبَب المصائب فسيئات المصائب وَالْجَزَاء هِيَ من سيئات الاعمال وان الطَّاعَة سَبَب النِّعْمَة فإحسان العَبْد الْعَمَل سَبَب لاحسان الله قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} سُورَة الشورى 30 وَقَالَ تَعَالَى {مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} سُورَة النِّسَاء 79 وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين توَلّوا مِنْكُم يَوْم التقى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا استزلهم الشَّيْطَان بِبَعْض مَا كسبوا وَلَقَد عَفا الله عَنْهُم}

سُورَة آل عمرَان 155 وَقَالَ تَعَالَى {أَو لما أَصَابَتْكُم مُصِيبَة قد أصبْتُم مثليها قُلْتُمْ أَنى هَذَا قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم} سُورَة آل عمرَان 165 وَقَالَ {أَو يوبقهن بِمَا كسبوا ويعف عَن كثير} سُورَة الشورى 34 وَقَالَ {وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم فَإِن الْإِنْسَان كفور} سُورَة الشورى 48 وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} سُورَة الانفال 33 وَقد اخبر الله سُبْحَانَهُ بِمَا عاقب بِهِ اهل السَّيِّئَات من الامم كقوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم لوط واصحاب مَدين وَقوم فِرْعَوْن فِي الدُّنْيَا وَاخْبَرْ بِمَا سيعاقبهم بِهِ فِي الاخرة وَلِهَذَا قَالَ مُؤمن آل فِرْعَوْن يَا قوم اني اخاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد وَيَا قوم اني اخاف عَلَيْكُم يَوْم التناد يَوْم تولون مُدبرين مَا لكم من الله من عَاصِم وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد سُورَة غَافِر 30 33

وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِك الْعَذَاب ولعذاب الْآخِرَة أكبر} سُورَة الْقَلَم 33 وَقَالَ {سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ ثمَّ يردون إِلَى عَذَاب عَظِيم} سُورَة التَّوْبَة 101 وَقَالَ {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر لَعَلَّهُم يرجعُونَ} سُورَة السَّجْدَة 21 وَقَالَ {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} سُورَة الدُّخان 10 الى قَوْله {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى إِنَّا منتقمون} سُورَة الدُّخان 16 وَلِهَذَا يذكر الله فِي عَامَّة سور الانذار مَا عاقب بِهِ اهل السَّيِّئَات فِي الدُّنْيَا وَمَا اعده لَهُم فِي الاخرة وَقد يذكر فِي السُّورَة وعد الاخرة فَقَط اذ عَذَاب الاخرة اعظم وثوابها اعظم وَهِي دَار الْقَرار وانما يذكر مَا يذكرهُ من الثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي الدُّنْيَا تبعا كَقَوْلِه فِي قصَّة يُوسُف {وَكَذَلِكَ مكنا ليوسف فِي الأَرْض يتبوأ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نصيب برحمتنا من نشَاء وَلَا نضيع أجر}

{الْمُحْسِنِينَ ولأجر الْآخِرَة خير للَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} سُورَة يُوسُف 56 57 وَقَالَ {فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة} سُورَة آل عمرَان 148 وَقَالَ وَالَّذين هَاجرُوا فِي الله من بعد مَا ظلمُوا لنبؤئنهم فِي الدُّنْيَا حَسَنَة ولأجرة الاخرة اكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ الَّذين صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ سُورَة النَّحْل 41 42 وَقَالَ عَن ابراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {وَآتَيْنَاهُ أجره فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين} سُورَة العنكبوت 27 واما ذكره لعقوبة الدُّنْيَا والاخرة فَفِي مثل والنازعات غرقا والناشطات نشطا سُورَة النازعات 201 ثمَّ قَالَ يَوْم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة سُورَة النازعات فَذكر القيامه مُطلقًا ثمَّ قَالَ هَل اتاك حَدِيث مُوسَى اذ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى اذْهَبْ الى فِرْعَوْن انه طَغى سُورَة النازعات 15

17 - الى قَوْله {إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى} سُورَة النازعات 26 ثمَّ ذكر المبدأ اَوْ الْمعَاد مفصلا فَقَالَ {أأنتم أَشد خلقا أم السَّمَاء بناها} الى قَوْله {فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى} سُورَة النازعات 34 الى قَوْله تَعَالَى فَأَما من طَغى وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى سُورَة النازعات 37 41 الى آخر السُّورَة وَكَذَلِكَ فِي المزمل ذكر قَوْله وذرنى والمكذبين اولى النِّعْمَة ومهلهم قَلِيلا ان لدينا انكالا وَجَحِيمًا سُورَة المزمل 11 12 الى قَوْله {فأخذناه أخذا وبيلا} سُورَة المزمل 16 وَكَذَلِكَ فِي سُورَة الحاقة ذكر قصَص الامم كثمود وَعَاد وَفرْعَوْن ثمَّ قَالَ تَعَالَى {فَإِذا نفخ فِي الصُّور نفخة وَاحِدَة}

{وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكة وَاحِدَة} سُورَة الحاقة 13 14 الى تَمام مَا ذكره من امْر الْجنَّة وَالنَّار وَكَذَلِكَ فِي سُورَة ن والقلم ذكر قصَّة اهل الْبُسْتَان الَّذين منعُوا حق اموالهم وَمَا عاقبهم بِهِ ثمَّ قَالَ {كَذَلِك الْعَذَاب ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ} سُورَة الْقَلَم 33 وَكَذَلِكَ فِي سُورَة التغابن قَالَ ألم يأتكم نبأ الَّذين كفرُوا من قبل فذاقوا وبال امرهم وَلَهُم عَذَاب اليم ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا اُبْشُرْ يهدوننا فَكَفرُوا وتولوا وَاسْتغْنى الله وَالله غَنِي حميد سُورَة التغابن 5 6 ثمَّ قَالَ {زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا قل بلَى وربي لتبعثن} سُورَة التغابن 7 وَكَذَلِكَ فِي سُورَة ق ذكر حَال الْمُخَالفين للرسل وَذكر الْوَعْد والوعيد فِي الاخرة وَكَذَلِكَ فِي سُورَة الْقَمَر ذكر هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ فِي ال حم مثل حم غَافِر والسجدة والزخرف وَالدُّخَان غير ذَلِك الى

غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى فَإِن التَّوْحِيد والوعد والوعيد من اول مَا انْزِلْ كَمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن يُوسُف بن مَاهك قَالَ اني عِنْد عَائِشَة ام الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا اذا جاءها عراقي فَقَالَ أَي الْكَفَن خير قَالَت وَيحك وَمَا يَضرك قَالَ يَا ام الْمُؤمنِينَ اريني مصحفك قَالَت لم قَالَ لعَلي أؤلف الْقُرْآن عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يقْرَأ غير مؤلف قَالَت وَمَا يَضرك ايه قَرَأت قبل انما نزل اول مَا نزل مِنْهُ سُورَة من الْمفصل فِيهَا ذكر الْجنَّة وَالنَّار حَتَّى اذا ثاب النَّاس الى الاسلام نزل الْحَلَال وَالْحرَام وَلَو نزل اول شَيْء لَا تشْربُوا الْخمر لقالوا لَا نَدع الْخمر ابدا وَلَو نزل لَا تَزْنُوا لقالوا لَا نَدع الزِّنَا ابدا لقد نزل بِمَكَّة على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واني لجارية العب {بل السَّاعَة موعدهم والساعة أدهى}

{وَأمر} سُورَة الْقَمَر 46 وَمَا نزلت سُورَة الْبَقَرَة وَالنِّسَاء الا وانا عِنْده قَالَ فأخرجت لَهُ الْمُصحف فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آي السُّور واذا كَانَ الْكفْر والفسوق والعصيان سَبَب الشَّرّ والعدوان فقد ينْدب الرجل أَو الطَّائِفَة ويسكت أخرون عَن الامر وَالنَّهْي فَيكون ذَلِك من ذنوبهم وينكر عَلَيْهِم اخرون انكارا مَنْهِيّا عَنهُ فَيكون ذَلِك من ذنوبهم فَيحصل التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف وَالشَّر وَهَذَا من اعظم الْفِتَن والشرور قَدِيما وحديثا اذ الانسان ظلوم جهول وَالظُّلم وَالْجهل انواع فَيكون ظلم الاول وجهله من نوع وظلم كل من الثَّانِي وَالثَّالِث وجهلهما من نوع اخر واخر وَمن تدبر الْفِتَن الْوَاقِعَة رأى سَببهَا ذَلِك وَرَأى ان مَا وَقع بَين امراء الْأمة وعلمائها وَمن دخل فِي ذَلِك من مُلُوكهَا ومشايخها وَمن تَبِعَهُمْ من الْعَامَّة من الْفِتَن هَذَا اصلها

يدْخل فِي ذَلِك اسباب الضلال والغي الَّتِي هِيَ الاهواء الدِّينِيَّة والشهوانية وَهِي الْبدع فِي الدّين والفجور فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ ان اسباب الضلال والغي الَّتِي هِيَ الْبدع فِي الدّين والفجور فِي الدُّنْيَا مُشْتَركَة تعم بني آدم لما فيهم من الظُّلم وَالْجهل فبذنب بعض النَّاس يظلم نَفسه وَغَيره بِفعل الزِّنَا اَوْ التلوط اَوْ غَيره اَوْ بِشرب خمر اَوْ ظلم فِي المَال بِجِنَايَة اَوْ سَرقَة اَوْ غصب وَنَحْو ذَلِك وَمَعْلُوم ان هَذِه الْمعاصِي وان كَانَت مستقبحة مذمومة فِي الْعقل وَالدّين فَهِيَ مشتهاة فِي الطباع ايضا وَمن شَأْن النُّفُوس انها لَا تحب اخْتِصَاص غَيرهَا بِشَيْء وزيادته عَلَيْهَا لَكِن تُرِيدُ

ان يحصل لَهَا مَا حصل لَهُ وَهَذَا هُوَ الْغِبْطَة الَّتِي هِيَ ادنى نَوْعي الْحَسَد فَهِيَ تُرِيدُ الاستعلاء على الْغَيْر والاستئثار دونه اَوْ تحسده وتتمنى زَوَال النِّعْمَة عَنهُ وان لم يحصل فَفِيهَا من إِرَادَة الْعُلُوّ وَالْفساد والاستكبار والحسد مَا مُقْتَضَاهُ انها تخْتَص عَن غَيرهَا بالشهوات فَكيف اذا رَأَتْ الْغَيْر قد اسْتَأْثر عَلَيْهَا بذلك واختص بهَا دونهَا فالمعتدل مِنْهُم فِي ذَلِك الَّذِي يحب الِاشْتِرَاك والتساوي واما الاخر فظلوم حسود وَهَذَانِ يقعان فِي الامور الْمُبَاحَة والامور الْمُحرمَة لحق الله فَمَا كَانَ جنسه مُبَاحا من اكل وَشرب وَنِكَاح ولباس وركوب واموال اذا وَقع فِيهَا الِاخْتِصَاص حصل بِسَبَبِهِ الظُّلم وَالْبخل والحسد واصلها الشُّح كَمَا فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ إيَّاكُمْ وَالشح فان الشُّح اهلك من كَانَ قبلكُمْ امرهم بالبخل فبخلوا وامرهم بالظلم فظلموا وامرهم بالقطيعة فَقطعُوا

وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى فِي وصف الانصار وَالَّذين تبوأوا الدَّار والايمان من قبلهم أَي من قبل الْمُهَاجِرين {وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا} سُورَة الْحَشْر 9 أَي لَا يَجدونَ الْحَسَد مِمَّا اوتي اخوانهم من الْمُهَاجِرين {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} سُورَة الْحَشْر 9 ثمَّ قَالَ {وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون} سُورَة التغابن 16 ورؤى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف يطوف بِالْبَيْتِ وَيَقُول رب قنى شح نَفسِي رب قني شح نَفسِي رب قنى شح نَفسِي فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ اذا وقيت شح نَفسِي فقد وقيت الْبُخْل وَالظُّلم والقطيعة اَوْ كَمَا قَالَ فَهَذَا الشُّح الَّذِي هُوَ شدَّة حرص النَّفس يُوجب الْبُخْل بِمَنْع

مَا هُوَ عَلَيْهِ وَالظُّلم بِأخذ مَال الْغَيْر وَيُوجب قطيعة الرَّحِم وَيُوجب الْحَسَد وَهُوَ كَرَاهَة مَا اخْتصَّ بِهِ الْغَيْر وَتمنى زَوَاله والحسد فِيهِ بخل وظلم فانه بخل بِمَا اعطيه عَن غَيره وظلمه بِطَلَب زَوَال ذَلِك عَنهُ فَإِذا كَانَ هَذَا فِي جنس الشَّهَوَات الْمُبَاحَة فَكيف بالمحرمة كَالزِّنَا وَشرب الْخمر وَنَحْو ذَلِك واذا وَقع فِيهَا اخْتِصَاص فَإِنَّهُ يصير فِيهَا نَوْعَانِ أَحدهمَا احدهما بغضها لما فِي ذَلِك من الِاخْتِصَاص وَالظُّلم كَمَا يَقع فِي الامور الْمُبَاحَة الْجِنْس أَحدهمَا وَالثَّانِي بغضها لما فِي ذَلِك من حق الله وَلِهَذَا كَانَت الذُّنُوب ثَلَاثَة أَقسَام احدها مَا فِيهِ ظلم للنَّاس كالظلم بِأخذ الْأَمْوَال وَمنع

الْحُقُوق والحسد وَنَحْو ذَلِك وَالثَّانِي مَا فِيهِ ظلم للنَّفس فَقَط كشرب الْخمر وَالزِّنَا اذا لم يَتَعَدَّ ضررهما وَالثَّالِث مَا يجْتَمع فِيهِ الْأَمْرَانِ مثل ان يَأْخُذ المتولى أَمْوَال النَّاس يزنى بهَا وَيشْرب بهَا الْخمر وَمثل ان يَزْنِي بِمن يرفعهُ على النَّاس بذلك السَّبَب ويضرهم كَمَا يَقع مِمَّن يحب بعض النِّسَاء وَالصبيان وَقد قَالَ الله تَعَالَى قل انما حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن والاثم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وان تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وان تَقولُوا على الله مَالا تعلمُونَ سُورَة الاعراف 33 وامور النَّاس انما تستقيم فِي الدُّنْيَا مَعَ الْعدْل الَّذِي قد

يكون فِيهِ الِاشْتِرَاك فِي بعض انواع الْإِثْم اكثر مِمَّا تستقيم مَعَ الظُّلم فِي الْحُقُوق وان لم يشْتَرك فِي اثم وَلِهَذَا قيل ان الله يُقيم الدولة العادلة وان كَانَت كَافِرَة وَلَا يُقيم الظالمة وان كَانَت مسلمة وَيُقَال الدُّنْيَا تدوم مَعَ الْعدْل وَالْكفْر وَلَا تدوم مَعَ الظُّلم والاسلام وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ ذَنْب اسرع عُقُوبَة من الْبَغي وَقَطِيعَة الرَّحِم فالباغي يصرع فِي الدُّنْيَا وان كَانَ مغفورا لَهُ مرحوما فِي الاخرة وَذَلِكَ ان الْعدْل نظام كل شَيْء فَإِذا اقيم امْر الدُّنْيَا بِالْعَدْلِ قَامَت وَإِن لم يكن لصَاحِبهَا فِي الأخرة من خلاق

وَمَتى لم تقم بِالْعَدْلِ لم تقم وان كَانَ لصَاحِبهَا من الايمان مَا يَجْزِي بِهِ فِي الاخرة فَالنَّفْس فِيهَا دَاعِي الظُّلم لغَيْرهَا بالعلو عَلَيْهِ الْحَسَد لَهُ والتعدي عَلَيْهِ فِي حَقه وفيهَا دَاعِي الظُّلم لنَفسهَا بتناول الشَّهَوَات القبيحة كَالزِّنَا وَأكل الْخَبَائِث فَهِيَ قد تظلم من لَا يظلمها وتؤثر هَذِه الشَّهَوَات وان لم يَفْعَلهَا غَيرهَا فَإِذا رَأَتْ نظراءها قد ظلمُوا اَوْ تناولوا هَذِه الشَّهَوَات صَار دَاعِي هَذِه الشَّهَوَات اَوْ الظُّلم فِيهَا اعظم بِكَثِير وَقد تصبر ويهيج ذَلِك لَهَا من بغض ذَلِك الْغَيْر وحسده وَطلب عِقَابه وَزَوَال الْخَيْر عَنهُ مَا لم يكن فِيهَا قبل ذَلِك وَلها حجَّة عِنْد نَفسهَا من جِهَة الْعقل وَالدّين بِكَوْن ذَلِك الْغَيْر قد ظلم نَفسه وَالْمُسْلِمين وان امْرَهْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيه عَن الْمُنكر وَاجِب وَالْجهَاد على ذَلِك من الدّين

وَالنَّاس هُنَا ثَلَاثَة اقسام قوم لَا يقومُونَ إِلَّا فِي اهواء نُفُوسهم فَلَا يرضون الا بِمَا يعطونه وَلَا يغضبون الا لما يحرمونه فَإِذا اعطى احدهم مَا يشتهيه من الشَّهَوَات الْحَلَال اَوْ الْحَرَام زَالَ غَضَبه وَحصل رِضَاهُ وَصَارَ الْأَمر الَّذِي كَانَ عِنْده مُنْكرا ينْهَى عَنهُ ويعاقب عَلَيْهِ ويذم صَاحبه ويغضب عَلَيْهِ مرضيا عَنهُ وَصَارَ فَاعِلا لَهُ وشريكا فِيهِ ومعاونا عَلَيْهِ ومعاديا لمن ينْهَى عَنهُ وينكر عَلَيْهِ وَهَذَا غَالب فِي بني آدم يرى الانسان وَيسمع من ذَلِك مَا لَا يُحْصِيه الا الله وَسَببه ان الانسان ظلوم جهول فَلذَلِك لَا يعدل بل رُبمَا كَانَ ظَالِما فِي الْحَالين يرى قوما يُنكرُونَ على المتولى ظلمه لرعيته واعتداءه عَلَيْهِم فيرضى اولئك

المنكرين بِبَعْض الشَّيْء من منصب اَوْ مَال فينقلبون اعوانا لَهُ واحسن احوالهم ان يسكنوا عَن الانكار عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ تراهم يُنكرُونَ على من يشرب الْخمر ويزني وَيسمع الملاهي حَتَّى يدخلُوا احدهم مَعَهم فِي ذَلِك اَوْ يرضوه بِبَعْض ذَلِك فتراه حِينَئِذٍ قد صَار عونا لَهُم وَهَؤُلَاء قد يعودون بإنكارهم الى اقبح من الْحَال الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَقد يعودون الى مَا هُوَ دون ذَلِك اَوْ نَظِيره وَقوم يقومُونَ قومه ديانَة صَحِيحَة يكونُونَ فِي ذَلِك مُخلصين لله مصلحين فِيمَا عملوه ويستقيم لَهُم ذَلِك حَتَّى يصبروا على مَا اوذوا فَهَؤُلَاءِ هم الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وهم من خير امة اخرجت للنَّاس يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويؤمنون بِاللَّه

وَقوم يجْتَمع فيهم هَذَا وَهَذَا وهم غَالب الْمُؤمنِينَ فَمن فِيهِ دين وَله شَهْوَة تَجْتَمِع فِي قُلُوبهم ارادة الطَّاعَة وارادة الْمعْصِيَة وَرُبمَا غلب هَذَا تَارَة وَهَذَا تَارَة وَهَذِه الْقِسْمَة الثلاثية كَمَا قيل الانفس ثَلَاث امارة ومطمئنة ولوامة فالأولون هم اهل الانفس الامارة الَّتِي تَأْمُرهُمْ بالسوء والأوسطون هم اهل النُّفُوس المطمئنة الَّتِي قيل فِيهَا يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي الي رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي سُورَة الْفجْر 27 30 والاخرون هم اهل النُّفُوس اللوامة الَّتِي تفعل الذَّنب ثمَّ تلوم عَلَيْهِ وتتلوم تَارَة كَذَا وَتارَة كَذَا اَوْ تخلط عملا صَالحا وَأخر سَيِّئًا وَهَؤُلَاء يُرْجَى ان يَتُوب عَلَيْهِم اذا اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ كَمَا

قَالَ الله تَعَالَى {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا عَسى الله أَن يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله غَفُور رَحِيم} سُورَة التَّوْبَة 102 وَلِهَذَا لما كَانَ النَّاس فِي زمن ابي بكر وَعمر اللَّذين امْر الْمُسلمُونَ بالاقتداء بهما كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقتدوا باللذين من بعدِي ابي بكر وَعمر اقْربْ عهدا بالرسالة وَأعظم ايمانا وصلاحا وأئمتهم اقوم بِالْوَاجِبِ واثبت فِي الطُّمَأْنِينَة لم تقع فتْنَة اذ كَانُوا فِي حكم الْقسم الْوسط وَلما كَانَ فِي اخر خلَافَة عُثْمَان فِي خلَافَة على رَضِي الله

عَنْهُمَا كثر الْقسم الثَّالِث فَصَارَ فيهم شَهْوَة وشبهة مَعَ الايمان وَالدّين وَصَارَ ذَلِك فِي بعض الْوُلَاة وَبَعض الرعايا ثمَّ كثر ذَلِك بعد فَنَشَأَتْ الْفِتْنَة الَّتِي سَببهَا مَا تقدم من عدم تمحيص التَّقْوَى وَالطَّاعَة فِي الطَّرفَيْنِ واختلاطما بِنَوْع من الْهوى والعصبية فِي الطكرفين وكل مِنْهُمَا متأول أَنه يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر وان مَعَه الْحق وَالْعدْل وَمَعَ هَذَا التَّأْوِيل نوع من الْهوى فَفِيهِ نوع من الظَّن وَمَا تهوى الانفس وان كَانَت احدى الطَّائِفَتَيْنِ اولى بِالْحَقِّ من الاخرى فَلهَذَا يجب على الْمُؤمن ان يَسْتَعِين بِاللَّه ويتوكل عَلَيْهِ فِي ان يُقيم قلبه وَلَا يزيغه ويثبته على الْهدى وَالتَّقوى وَلَا يتبع الْهوى كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلذَلِك فَادع واستقم كَمَا أمرت وَلَا تتبع أهواءهم وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب وَأمرت لأعدل بَيْنكُم}

{الله رَبنَا وربكم} سُورَة الشورى 15 وَهَذَا ايضا حَال الامة فِيمَا تَفَرَّقت فِيهِ وَاخْتلفت فِي المقالات والعبادات وَهَذِه الامور مِمَّا تعظم بهَا المحنة على الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ الى شَيْئَيْنِ الى دفع الْفِتْنَة الَّتِي ابتلى بهَا نظراؤهم من فتْنَة الدّين وَالدُّنْيَا عَن نُفُوسهم مَعَ قيام الْمُقْتَضى لَهَا فَإِن مَعَهم نفوسا وشياطين كَمَا مَعَ غَيرهم فَمَعَ وجود ذَلِك من نظرائهم يقوى الْمُقْتَضى عِنْدهم كَمَا هُوَ الْوَاقِع فيقوى الدَّاعِي الَّذِي فِي نفس الانسان وشيطانه ودواعي الْخَيْر كَذَلِك وَمَا يحصل من الدَّاعِي بِفعل الْغَيْر والنظير فكم من النَّاس لم يرد خيرا وَلَا شرا حَتَّى رأى غَيره

لَا سِيمَا ان كَانَ نَظِيره يَفْعَله فَفعله فَإِن النَّاس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بَعضهم بِبَعْض وَلِهَذَا كَانَ الْمُبْتَدِئ بِالْخَيرِ وبالشر لَهُ مثل من تبعه من الاجر والوزر كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ اجرها واجر من عمل بهَا الى يَوْم الْقِيَامَة من غير ان ينقص من اجورهم شَيْئا وَمن سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا الى يَوْم الْقِيَامَة من غير ان ينقص من اوزارهم شَيْئا وَذَلِكَ لاشتراكهم فِي الْحَقِيقَة وان حكم الشَّيْء حكم نَظِيره وشبيه الشَّيْء منجذب اليه فَإِذا كَانَ هَذَانِ داعيين قويين فَكيف اذا انْضَمَّ اليهما داعيان اخران

وَذَلِكَ ان كثيرا من اهل الْمُنكر يحبونَ من يوافقهم على مَا هم فِيهِ ويبغضون من لَا يوافقهم وَهَذَا ظَاهر فِي الديانَات الْفَاسِدَة من مُوالَاة كل قوم لموافقيهم ومعاداتهم لمخالفيهم وَكَذَلِكَ فِي امور الدُّنْيَا والشهوات كثيرا مَا يخْتَار اهلها ويؤثرون من يشاركهم فِي امورهم وشهواتهم اما للمعاونة على ذَلِك كَمَا فِي المتغلبين من اهل الرياسات وقطاع الطَّرِيق وَنَحْو ذَلِك واما لتلذذهم بالموافقة كَمَا فِي المجتمعين على شرب الْخمر مثلا فَإِنَّهُم يحبونَ ان يشرب كل من حضر عِنْدهم واما لكراهتهم امتيازه عَنْهُم بِالْخَيرِ اما حسدا لَهُ على ذَلِك وَمَا لِئَلَّا يَعْلُو عَلَيْهِم بذلك ويحمد دونهم وَإِمَّا لِئَلَّا يكون لَهُ عَلَيْهِم حجَّة وَإِمَّا لخوفهم من معاقبته لَهُم بِنَفسِهِ اَوْ بِمن يرفع ذَلِك اليهم وَلِئَلَّا

يَكُونُوا تَحت منته وحظره وَنَحْو ذَلِك من الاسباب قَالَ الله تَعَالَى {ود كثير من أهل الْكتاب لَو يردونكم من بعد إيمَانكُمْ كفَّارًا حسدا من عِنْد أنفسهم من بعد مَا تبين لَهُم الْحق} سُورَة الْبَقَرَة 109 وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقين {ودوا لَو تكفرون كَمَا كفرُوا فتكونون سَوَاء} سُورَة النِّسَاء 89 وَقَالَ عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ ودت الزَّانِيَة لَو زنى النِّسَاء كُلهنَّ والمشاركة قد يختارونها فِي نفس الْفُجُور كالاشتراك فِي شرب الْخمر وَالْكذب والاعتقاد الْفَاسِد وَقد يختارونها فِي النَّوْع الثَّانِي كالزاني الَّذِي يود ان غَيره يَزْنِي اَوْ السَّارِق الَّذِي يود ان غَيره يسرق لَكِن فِي غير الْعين الَّتِي زنى بهَا اَوْ سَرَقهَا وَأما الدَّاعِي الثَّانِي فقد يأمرون الشَّخْص بمشاركتهم فِيمَا هم

عَلَيْهِ من الْمُنكر فَإِن شاركهم والا عادوه وآذوه على وَجه قد يَنْتَهِي الى حد الاكراه اَوْ لَا يَنْتَهِي الى حد الاكراه ثمَّ ان هَؤُلَاءِ الَّذين يختارون مُشَاركَة الْغَيْر لَهُم فِي قَبِيح فعلهم اَوْ يأمرونه بذلك ويستعينون بِهِ على مَا يريدونه مَتى شاركهم وعاونهم واطاعهم انتقصوه واستخفوا بِهِ وَجعلُوا ذَلِك حجَّة عَلَيْهِ فِي امور اخرى وان لم يشاركهم عادوه وآذوه وَهَذِه حَال غَالب الظَّالِمين القادرين وَهَذَا الْمَوْجُود فِي الْمُنكر مَوْجُود نَظِيره فِي الْمَعْرُوف وابلغ مِنْهُ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} سُورَة الْبَقَرَة 165 فَإِن دَاعِي الْخَيْر اقوى فَإِن الانسان فِيهِ دَاع يَدعُوهُ الى الايمان وَالْعلم الصدْق وَالْعدْل واداء الامانة فاذا وجد من يعْمل مثل ذَلِك صَار لَهُ دَاع اخر لَا سِيمَا اذا كَانَ نَظِيره لَا سِيمَا مَعَ المنافسة وَهَذَا مَحْمُود حسن فَإِن وجد من يحب مُوَافَقَته على ذَلِك ومشاركته لَهُ من الْمُؤمنِينَ وَالصَّالِحِينَ وَمن يبغضه اذا لم يفعل

ذَلِك صَار لَهُ دَاع ثَالِث فَإِذا امروه بذلك ووالوه على ذَلِك وعادوه وعاقبوه على تَركه صَار لَهُ دَاع رَابِع وَلِهَذَا يُؤمر الْمُؤْمِنُونَ ان يقابلوا السَّيِّئَات بضدها من الْحَسَنَات كَمَا يُقَابل الطَّبِيب الْمَرَض بضده فَيُؤْمَر الْمُؤمن بِأَن يصلح نَفسه وَذَلِكَ بشيئين بِفعل الْحَسَنَات وبترك السَّيِّئَات وَهَذِه اربعة انواع وَيُؤمر ايضا بإصلاح غَيره بِهَذِهِ الانواع الاربعة بِحَسب قدرته وامكانه قَالَ تَعَالَى وَالْعصر ان الانسان لفي خسر الا الَّذين امنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ سُورَة الْعَصْر 1 3 وروى عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ انه قَالَ لَو فكر النَّاس كلهم فِي سُورَة الْعَصْر لكفتهم وَهُوَ كَمَا قَالَ

فَإِن الله تَعَالَى اخبر فِيهَا ان جَمِيع النَّاس خاسرون الا من كَانَ فِي نَفسه مُؤمنا صَالحا وَمَعَ غَيره موصيا بِالْحَقِّ موصيا بِالصبرِ واذا عظمت المحنة كَانَ ذَلِك لِلْمُؤمنِ الصَّالح سَببا لعلو الدرجَة وعظيم الاجر كَمَا سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اي النَّاس اشد بلَاء قَالَ الانبياء ثمَّ الصالحون ثمَّ الامثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فَإِن كَانَ فِي دينه صلابة زيد فِي بلائه وان كَانَ فِي دينه رقة خفف عَنهُ وَمَا يزَال الْبلَاء بِالْمُؤمنِ حَتَّى يمشي على وَجه الارض وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَة وَحِينَئِذٍ فَيحْتَاج من الصَّبْر الى مَا لَا يحْتَاج اليه غَيره وَذَلِكَ هُوَ سَبَب

الامامة فِي الدّين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون} سُورَة السَّجْدَة 24 فَلَا بُد من الصَّبْر على فعل الْحسن الْمَأْمُور وَترك السيء الْمَحْظُور وَيدخل فِي ذَلِك الصَّبْر على الاذى وعَلى مَا يُقَال وَالصَّبْر على مَا يُصِيبهُ من المكاره وَالصَّبْر عَن البطر عِنْد النعم وَغير ذَلِك من انواع الصَّبْر وَلَا يُمكن العَبْد ان يصبر ان لم يكن لَهُ مَا يطمئن لَهُ ويتنعم بِهِ ويغتذى بِهِ وَهُوَ الْيَقِين كَمَا فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ ابو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ يَا ايها النَّاس سلوا الله الْيَقِين والعافية فانه لم يُعْط اُحْدُ بعد الْيَقِين خيرا من الْعَافِيَة فسلوهما الله

وَكَذَلِكَ اذا امْر غَيره بِحسن اَوْ احب مُوَافَقَته لَهُ على ذَلِك اَوْ نهى غَيره عَن شَيْء فَيحْتَاج ان يحسن الى ذَلِك الْغَيْر إحسانا يحصل بِهِ مَقْصُود من حُصُول المحبوب واندفاع الْمَكْرُوه فَإِن النُّفُوس لَا تصبر على المر الا بِنَوْع من الحلو لَا يُمكن غير ذَلِك وَلِهَذَا امْر الله تَعَالَى بتأليف الْقُلُوب حَتَّى جعل للمؤلفة قُلُوبهم نَصِيبا فِي الصَّدقَات وَقَالَ تَعَالَى لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} سُورَة الاعراف 199 وَقَالَ تَعَالَى {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة} سُورَة الْبَلَد 17 فَلَا بُد ان يصبر وان يرحم وَهَذَا هُوَ الشجَاعَة وَالْكَرم وَلِهَذَا يقرن الله تَعَالَى بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة تَارَة وَهِي

الاحسان الى الْخلق وَبَينهَا وَبَين الصَّبْر تَارَة وَلَا بُد من الثَّلَاثَة الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّبْر لَا تقوم مصلحَة الْمُؤمنِينَ الا بذلك فِي صَلَاح نُفُوسهم واصلاح غَيرهم لَا سِيمَا كلما قويت الْفِتْنَة والمحنة فَإِن الْحَاجة الى ذَلِك تكون اشد فالحاجة الى السماحة وَالصَّبْر عَامَّة لجَمِيع بنى آدم لَا تقوم مصلحَة دينهم وَلَا ديناهم الا بهما وَلِهَذَا فَإِن جَمِيعهم يتمادحون بالشجاعة وَالْكَرم حَتَّى ان ذَلِك عَامَّة مَا يمدح بِهِ الشُّعَرَاء ممدوحيهم فس شعرهم وَكَذَلِكَ يتذامون بالبخل والجبن والقضايا الَّتِي يتَّفق عَلَيْهَا عقلاء بني آدم لَا تكون الا حَقًا كاتفاقهم على مدح الصدْق وَالْعدْل وذم الْكَذِب وَالظُّلم وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سَأَلَهُ الاعراب

حَتَّى اضطروه الى سَمُرَة فتعلقت بردائه فَالْتَفت اليهم وَقَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو ان عِنْدِي عدد هَذِه الْعضَاة نعما لقسمته عَلَيْكُم ثمَّ لَا تجدوني بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كذوبا وَلَكِن يتنوع ذَلِك بتنوع الْمَقَاصِد وَالصِّفَات فَإِنَّمَا الاعمال بِالنِّيَّاتِ وانما لكل امْرِئ من نوى وَلِهَذَا جَاءَ الْكتاب وَالسّنة بذم الْبُخْل والجبن ومدح الشجَاعَة والسماحة فِي سَبِيل الله دون مَا لَيْسَ فِي سَبيله فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرّ مَا فِي الْمَرْء شح هَالِع

وَجبن خَالع وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من سيدكم يَا بني سَلمَة فَقَالُوا الْجد بن قيس على انا نزنه بالبخل فَقَالَ وَأي دَاء أدوى من الْبُخْل وَفِي رِوَايَة ان السَّيِّد لَا يكون بَخِيلًا بل سيدكم الابيض الْجَعْد بشر بن الْبَراء بن معْرور وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح قَول جَابر بن عبد الله لأبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُمَا اما ان تُعْطِينِي واما ان تبخل عني فَقَالَ تَقول واما ان تبخل عني واي دَاء ادوى من الْبُخْل فَجعل الْبُخْل من اعظم الامراض

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سلمَان بن ربيعَة قَالَ قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ قسم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسما فَقلت يَا رَسُول الله وَالله لغير هَؤُلَاءِ احق بِهِ مِنْهُم فَقَالَ انهم خيروني بَين ان يَسْأَلُونِي بالفحش وَبَين ان يبخلوني وَلست بباخل يَقُول انهم يَسْأَلُونِي مَسْأَلَة لَا تصلح فَإِن اعطيتهم والا قَالُوا هُوَ بخيل فقد خيروني بَين امرين مكروهين لَا يتركوني من احدهما الْمَسْأَلَة الْفَاحِشَة والتبخيل والتبخيل اشد فأدفع الاشد بإعطائهم وَالْبخل جنس تَحْتَهُ انواع كَبَائِر وَغير كَبَائِر قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا يَحسبن الَّذين يَبْخلُونَ بِمَا آتَاهُم الله من فَضله هُوَ خيرا لَهُم بل هُوَ شَرّ لَهُم سيطوقون مَا بخلوا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة} سُورَة آل عمرَان 180

وَقَالَ {واعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين إحسانا} سُورَة النِّسَاء 36 الى قَوْله ان الله لَا يحب من كَانَ مختالا فخورا الَّذين يَبْخلُونَ ويأمرون النَّاس بالبخل سُورَة النِّسَاء 36 37 وَقَالَ تَعَالَى وَمَا مَنعهم ان تقبل مِنْهُم نفقاتم الا انهم كفرُوا بِاللَّه وبرسوله وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة الا وهم كسَالَى وَلَا يُنْفقُونَ الا وهم كَارِهُون سُورَة التَّوْبَة 54 وَقَالَ فَلَمَّا آتَاهُم من فَضله بخلوا بِهِ وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم الى يَوْم يلقونه سُورَة التَّوْبَة 76 77 وَقَالَ {وَمن يبخل فَإِنَّمَا يبخل عَن نَفسه} سُورَة مُحَمَّد 38 وَقَالَ فويل للمصلين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون الَّذين هم يراءون وَيمْنَعُونَ الماعون سُورَة الماعون 407 وَقَالَ وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله فبشرهم بِعَذَاب اليم يَوْم يحمى عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم فتكوى بهَا جباههم وجنوبهم وظهروهم الاية سُورَة التَّوْبَة

34 - 35 وَكثير من الاي فِي الْقُرْآن من الامر بالايتاء والاعطاء وذم من ترك ذَلِك كُله ذمّ للبخل وَكَذَلِكَ ذمه للجبن كثير فِي مثل قَوْله {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى فِئَة فقد بَاء بغضب من الله ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} سُورَة الانفال 16 وَقَوله عَن الْمُنَافِقين ويحلفون بِاللَّه انهم لمنكم وَمَا هم مِنْكُم وَلَكنهُمْ قوم يفرقون لَو يَجدونَ ملْجأ اَوْ مغارات اَوْ مدخلًا لولوا اليه وهم يجمحون سُورَة التَّوْبَة 56 57 وَقَوله {فَإِذا أنزلت سُورَة محكمَة وَذكر فِيهَا الْقِتَال رَأَيْت الَّذين فِي قُلُوبهم مرض ينظرُونَ إِلَيْك نظر المغشي عَلَيْهِ من الْمَوْت} سُورَة مُحَمَّد 20 وَقَوله ألم تَرَ الى الَّذين قيل لَهُم كفوا ايديكم واقيموا الصَّلَاة وَأتوا الزَّكَاة فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال اذا فريق مِنْهُم يَخْشونَ النَّاس كخشية الله أواشد خشيَة وَقَالُوا رَبنَا لم كتبت

{علينا الْقِتَال لَوْلَا أخرتنا إِلَى أجل قريب قل مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى وَلَا تظْلمُونَ فتيلا} سُورَة النِّسَاء 77 وَمَا فِي الْقُرْآن من الحض على الْجِهَاد وَالتَّرْغِيب فِيهِ وذم الناكلين عَنهُ والتاركين لَهُ كُله ذمّ للجبن وَلما كَانَ صَلَاح بني آدم لَا يتم فِي دينهم ودنياهم الا بالشجاعة وَالْكَرم بَين الله سُبْحَانَهُ انه من تولى عَنهُ بترك الْجِهَاد بِنَفسِهِ ابدل الله بِهِ من يقوم بذلك وَمن تولى عَنهُ بإنفاق مَاله ابدل الله بِهِ من يقوم بذلك فَقَالَ يَا ايها الَّذين امنوا مالكم اذا قيل لكم انفروا فِي سَبِيل الله اثاقلتم الى الارض ارضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الاخرة فَمَا مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الاخرة الا قَلِيل الا تنفرُوا يعذبكم عذَابا اليما ويستبدل قوما غَيْركُمْ وَلَا تضروه شَيْئا وَالله على كل شَيْء قدير سُورَة التَّوْبَة 38 39 وَقَالَ تَعَالَى {هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ تدعون لتنفقوا فِي}

{سَبِيل الله فمنكم من يبخل وَمن يبخل فَإِنَّمَا يبخل عَن نَفسه وَالله الْغَنِيّ وَأَنْتُم الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ ثمَّ لَا يَكُونُوا أمثالكم} سُورَة مُحَمَّد 38 وبالشجاعة وَالْكَرم فِي سَبِيل الله فضل الله السَّابِقين فَقَالَ {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى} سُورَة الْحَدِيد 10 وَقد ذكر الْجِهَاد بِالنَّفسِ وَالْمَال فِي سَبيله ومدحه فِي غير آيَة من كِتَابه وَذَلِكَ هُوَ الشجَاعَة والسماحة فِي طَاعَته سُبْحَانَهُ وَطَاعَة رَسُوله وملاك الشجَاعَة الصَّبْر الَّذِي يتَضَمَّن قُوَّة الْقلب وثباته وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين} سُورَة الْبَقَرَة 249 وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم فِئَة فاثبتوا}

واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون واطيعوا الله وَرَسُوله وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم واصبروا ان الله مَعَ الصابرين سُورَة الانفال 45 46 والشجاعة لَيست هِيَ قُوَّة الْبدن فقد يكون الرجل قوي الْبدن ضَعِيف الْقلب وانما هِيَ قُوَّة الْقلب وثباته فَأن الْقِتَال مَدَاره على قُوَّة الْبدن وصنعته لِلْقِتَالِ وعَلى قُوَّة الْقلب وخبرته بِهِ والمحمود مِنْهُمَا مَا كَانَ بِعلم وَمَعْرِفَة دون التهور الَّذِي لَا يفكر صَاحبه وَلَا يُمَيّز بَين الْمَحْمُود والمذموم وَلِهَذَا كَانَ الْقوي الشَّديد هُوَ الَّذِي يملك نَفسه عِنْد الْغَضَب حَتَّى يفعل مَا يصلح دون مَا لَا يصلح فَأَما المغلوب حِين غَضَبه فَلَيْسَ هُوَ بِشُجَاعٍ وَلَا شَدِيد وَقد تقدم ان جماع ذَلِك هُوَ الصَّبْر فَإِنَّهُ لَا بُد مِنْهُ وَالصَّبْر صبران صَبر عِنْد الْغَضَب وصبر عِنْد الْمُصِيبَة كَمَا قَالَ الْحسن رَحمَه

الله مَا تجرع عبد جرعة اعظم من جرعة حلم عِنْد الْغَضَب وجرعة صَبر عِنْد الْمُصِيبَة وَذَلِكَ لِأَن أصل ذَلِك هُوَ الصَّبْر على المؤلم وَهَذَا هوالشجاع الشَّديد الَّذِي يصبر على المؤلم والمؤلم ان كَانَ مِمَّا يُمكن دَفعه اثار الْغَضَب وان كَانَ مِمَّا لَا يُمكن دَفعه اثار الْحزن وَلِهَذَا يحمر الْوَجْه عِنْد الْغَضَب لثوران الدَّم عِنْد استشعار الْقُدْرَة ويصفر عِنْد الْحزن لغور الدَّم عِنْد استشعار الْعَجز وَلِهَذَا جمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ مُسلم عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا تَعدونَ الرقوب فِيكُم قَالُوا الرقوب الَّذِي لَا يُولد لَهُ قَالَ لَيْسَ ذَاك بالرقوب وَلَكِن الرقوب الرجل الَّذِي لم يقدم من وَلَده شَيْئا ثمَّ قَالَ ماتعدون الصرعة فِيكُم قُلْنَا الَّذِي لَا يصرعه الرِّجَال فَقَالَ لَيْسَ

بذلك وَلَكِن الصرعة الَّذِي يملك نَفسه عِنْد الْغَضَب فَذكر مَا يتَضَمَّن الصَّبْر عِنْد الْمُصِيبَة وَالصَّبْر عِنْد الْغَضَب قَالَ الله تَعَالَى فِي الْمُصِيبَة {وَبشر الصابرين الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} الاية سُورَة الْبَقَرَة 155 156 وَقَالَ تَعَالَى فِي الْغَضَب {وَمَا يلقاها إِلَّا الَّذين صَبَرُوا وَمَا يلقاها إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيم} سُورَة فصلت 35 وَهَذَا الْجمع بَين صَبر الْمُصِيبَة وصبر الْغَضَب نَظِير الْجمع بَين صَبر الْمُصِيبَة وصبر النِّعْمَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى وَلَئِن اذقنا

الانسان منا رَحْمَة ثمَّ نزعناها مِنْهُ انه ليؤوس كفور وَلَئِن اذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليَقُولن ذهب السَّيِّئَات عني انه لفرح فخور الا الَّذين صَبَرُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير سُورَة هود 9 11 وَقَالَ لكيلا تأسوا على مَا فاتكم وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم سُورَة الْحَدِيد 23 وَبِهَذَا وصف كَعْب بن زُهَيْر من وَصفه من الصَّحَابَة الْمُهَاجِرين حَيْثُ قَالَ ... لَيْسُوا مفاريح ان نَالَتْ رماحهم ... كثرا وَلَيْسوا مجازيعا اذا نيلوا ... وَكَذَلِكَ قَالَ حسان بن ثَابت فِي صفة الانصار ... لَا فَخر ان هم اصابوا من عدوهم ... وان اصيبوا فَلَا خور وَلَا هلع ...

وَقَالَ بعض الْعَرَب فِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغلب فَلَا يبطر ويغلب فَلَا يضجر وَلما كَانَ الشَّيْطَان يدعوالناس عِنْد هذَيْن النَّوْعَيْنِ الى تعدِي الْحُدُود بقلوبهم واصواتهم وايديهم نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ لما قيل لَهُ لما رأى ابراهيم فِي النزع أَتَبْكِي اَوْ لم تنه عَن الْبكاء فَقَالَ انما نهيت عَن صَوْتَيْنِ احمقين فاجرين صَوت عِنْد نعْمَة لَهو وَلعب وَمَزَامِير الشَّيْطَان وَصَوت عِنْد مُصِيبَة لطم خدود وشق جُيُوب وَدُعَاء بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَجمع بَين الصوتين وَأما نَهْيه عَن ذَلِك فِي المصائب فَمثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ منا من لطم الخدود وشق الْجُيُوب ودعا بِدَعْوَى

الْجَاهِلِيَّة وَقَالَ انا برِئ من الحالقة والصالقة والشاقة وَقَالَ مَا كَانَ من الْعين وَالْقلب فَمن الله وَمَا كَانَ من الْيَد وَاللِّسَان فَمن الشَّيْطَان وَقَالَ ان الله لَا يُؤَاخذ على دمع الْعين

وَلَا حزن الْقلب وَلَكِن يعذب بِهَذَا اَوْ يرحم واشار الى لِسَانه وَقَالَ من ينح عَلَيْهِ فانه يعذب بِمَا نيح عَلَيْهِ وَاشْترط على النِّسَاء فِي الْبيعَة الا يَنحن وَقَالَ ان النائحة اذا لم تتب قبل مَوتهَا فَإِنَّهَا تلبس يَوْم

الْقِيَامَة درعا من جرب وسربالا من قطران وَقَالَ فِي الْغَلَبَة والمصائب والفرح ان الله كتب الاحسان على كل شَيْء فَإِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة واذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة وليحد احدكم شفرته وليرح ذَبِيحَته وَقَالَ ان اعْفُ النَّاس قتلة اهل الايمان

وَقَالَ لَا تمثلوا وَلَا تغدروا وَلَا تقتلُوا وليدا الى غير ذَلِك مِمَّا امْر بِهِ فِي الْجِهَاد من الْعدْل وَترك الْعدوان اتبَاعا لقَوْله تَعَالَى {وَلَا يجرمنكم شنآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} سُورَة الْمَائِدَة 8 وَلقَوْله تَعَالَى {وقاتلوا فِي سَبِيل الله الَّذين يقاتلونكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} سُورَة الْبَقَرَة 190 وَنهى عَن لِبَاس الْحَرِير وتختم الذَّهَب وَالشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة واطالة الثِّيَاب الى غير ذَلِك من انواع السَّرف وَالْخُيَلَاء فِي النعم وذم الَّذين يسْتَحلُّونَ الْخمر وَالْحَرِير وَالْمَعَازِف

وَجعل فيهم الْخَسْف وَالْمَسْخ وَقد قَالَ الله تَعَالَى {إِن الله لَا يحب من كَانَ مختالا فخورا} سُورَة النِّسَاء 36 وَقَالَ عَن قَارون {إِذْ قَالَ لَهُ قومه لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين} سُورَة الْقَصَص 76 وَهَذِه الامور الثَّلَاثَة مَعَ الصَّبْر عَن الاعتداء فِي الشَّهْوَة هِيَ جَوَامِع هَذَا الْبَاب وَذَلِكَ ان الانسان بَين مَا يُحِبهُ ويشتهيه وَبَين مَا يبغضه ويكرهه فَهُوَ يطْلب الاول بمحبته وشهوته وَيدْفَع الثَّانِي ببغضه ونفرته واذا حصل الاول اَوْ انْدفع الثَّانِي اوجب لَهُ فَرحا وسرورا وان حصل الثَّانِي اَوْ انْدفع الاول حصل لَهُ حزن فَهُوَ مُحْتَاج عِنْد الْمحبَّة والشهوة ان يصبر عَن عدوانهما وَعند الْغَضَب والنفرة ان يصبر على عدوانهما وَعند الْفَرح ان يصبر عَن عدوانه وَعند الْمُصِيبَة ان يصبر عَن الْجزع مِنْهَا فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر الصوتين الاحمقين الفاجرين الصَّوْت الَّذِي يُوجب الاعتداء فِي الْفَرح حَتَّى يصير الانسان فَرحا

فخورا وَالصَّوْت الَّذِي يُوجب الْجزع عِنْد الْحزن حَتَّى يصير الانسان هلوعا جزوعا واما الصَّوْت الَّذِي يثير الْغَضَب لله كالأصوات الَّتِي تقال فِي الْجِهَاد من الاشعار المنشدة فَتلك لم تكن بآلات وَكَذَلِكَ اصوات الشُّهْرَة فِي الْفَرح فَرخص مِنْهَا فِيمَا وَردت بِهِ السّنة من الضَّرْب بالدف فِي الاعراس والافراح للنِّسَاء وَالصبيان وَعَامة الاشعار الَّتِي تنشد بالاصوات لتحريك النُّفُوس هِيَ من هَذِه الاقسام الاربعة اشعار الْمحبَّة وَهِي النسيب واشعار الْغَضَب وَالْحمية وَهِي الحماسة والهجاء واشعار المصائب كالمراثي واشعار النعم والفرح وَهِي المدائح وَالشعرَاء جرت عَادَتهم ان يمشوا مَعَ الطَّبْع كَمَا قَالَ الله تَعَالَى ألم تَرَ انهم فِي كل وَاد يهيمون وانهم يَقُولُونَ مَالا يَفْعَلُونَ سُورَة الشُّعَرَاء 225 226 وَلِهَذَا اخبر انهم يتبعهُم الْغَاوُونَ والغاوي هُوَ الَّذِي يتبع هَوَاهُ بِغَيْر علم وَهَذَا هُوَ

الغي وَهُوَ خلاف الرشد كَمَا ان الضال هُوَ الَّذِي لَا يعلم مصْلحَته وَهُوَ خلاف الْمُهْتَدي قَالَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والنجم اذا هوى مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى سُورَة النَّجْم 1 2 وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي فَلهَذَا تجدهم يمدحون جنس الشجَاعَة وجنس السماحة اذ كَانَ عدم هذَيْن مذموما على الاطلاق واما وجودهما فَفِيهِ تَحْصِيل مَقَاصِد النُّفُوس على الاطلاق لَكِن الْعَاقِبَة فِي ذَلِك

لِلْمُتقين واما غير الْمُتَّقِينَ فَلهم عاجلة لَا عَاقِبَة وَالْعَاقبَة وان كَانَت فِي الاخرة فَتكون فِي الدُّنْيَا ايضا كَمَا قَالَ تَعَالَى لما ذكر قصَّة نوح ونجاته بالسفينة {قيل يَا نوح اهبط بِسَلام منا وبركات عَلَيْك وعَلى أُمَم مِمَّن مَعَك وأمم سنمتعهم ثمَّ يمسهم منا عَذَاب أَلِيم} قَالَ {تِلْكَ من أنباء الْغَيْب نوحيها إِلَيْك} الى قَوْله {فاصبر إِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين} سُورَة هود 48 49 وَقَالَ {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} سُورَة الْبَقَرَة 194 وَالْفرْقَان ان يحمد من ذَلِك مَا حَمده الله وَرَسُوله فَإِن الله تَعَالَى هُوَ الذى حَمده زين وذمه شين دون غَيره من الشُّعَرَاء والخطباء وَغَيرهم وَلِهَذَا لما قَالَ الْقَائِل من بني تَمِيم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ان حمدي زين وذمي شين قَالَ لَهُ ذَاك الله وَالله سُبْحَانَهُ حمد الشجَاعَة السماحة فِي سَبيله كَمَا فِي الصَّحِيح عَن ابي مُوسَى الاشعري رَضِي الله عَنهُ قَالَ قيل يَا رَسُول الله الرجل يُقَاتل شجاعة وَيُقَاتل حمية وَيُقَاتل رِيَاء فَأَي ذَلِك فِي سَبِيل الله فَقَالَ من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله وَقَالَ قَالَ سُبْحَانَهُ {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدّين كُله لله} سُورَة الانفال 39 وَذَلِكَ ان هَذَا هُوَ الْمَقْصُود الَّذِي خلق الله الْخلق لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} سُورَة الذاريات 56 فَكل مَا كَانَ لأجل الْغَايَة

الَّتِي خلق لَهُ الْخلق كَانَ مَحْمُودًا عِنْد الله وهوالذي يبْقى لصَاحبه وينفعه الله بِهِ وَهَذِه الاعمال هِيَ الْبَاقِيَات الصَّالِحَات وَلِهَذَا كَانَ النَّاس اربعة اصناف من يعْمل لله بشجاعة وبسماحة فَهَؤُلَاءِ هم الْمُؤْمِنُونَ المستحقون للجنة وَمن يعْمل لغير الله بشجاعة وَمن وسماحة فَهَذَا ينْتَفع بذلك فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الاخرة من خلاق وَمن يعْمل لله لَكِن بِلَا شجاعة وَلَا سماحة فَهَذَا فِيهِ من النِّفَاق وَنقص الايمان بِقدر ذَلِك وَمن لَا يعْمل لله وَلَا فِيهِ شجاعة وَلَا سماحة فَهَذَا لَيْسَ لَهُ دنيا وَلَا آخِرَة فَهَذِهِ الاخلاق وَالْأَفْعَال يحْتَاج اليها الْمُؤمن عُمُوما وخصوصا فِي أَوْقَات المحن والفتن الشَّدِيدَة فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ الى

صَلَاح نُفُوسهم وَدفع الذُّنُوب عَن نُفُوسهم عِنْد الْمُقْتَضى للفتنة عِنْدهم ويحتاجون ايضا الى امْر غَيرهم وَنَهْيه بِحَسب قدرتهم وكل من هذَيْن الامرين فِيهِ من الصعوبة مَا فِيهِ وان كَانَ يَسِيرا على من يسره الله عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَن الله امْر الْمُؤمنِينَ بِالْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح وامرهم بدعوة النَّاس وجهادهم على الايمان وَالْعَمَل الصَّالح كَمَا قَالَ الله تَعَالَى ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عَزِيز الَّذين ان مكناهم فِي الارض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر وَللَّه عَاقِبَة الامور سُورَة الْحَج 40 41 وكما قَالَ {إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد} سُورَة غَافِر 51 وكما قَالَ {كتب الله لأغلبن أَنا ورسلي إِن الله قوي عَزِيز} سُورَة المجادلة 21 وكما قَالَ {وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} سُورَة الصافات

173 - وَقَالَ {وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله هم الغالبون} سُورَة الْمَائِدَة 56 وَلما كَانَ فِي الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْجهَاد فِي سَبِيل الله من الِابْتِلَاء والمحن مَا يتَعَرَّض بِهِ الْمَرْء للفتنة صَار فِي النَّاس من يتعلل لترك مَا وَجب عَلَيْهِ من ذَلِك بِأَنَّهُ يطْلب السَّلامَة من الْفِتْنَة كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين {وَمِنْهُم من يَقُول ائْذَنْ لي وَلَا تفتني أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا} سُورَة التَّوْبَة 49 الاية وَقد ذكرُوا فِي التَّفْسِير انها نزلت فِي الْجد بن قيس لما امْرَهْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتجهز لغزو الرّوم وأظن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ هَل لَك فِي نسَاء بني الاصفر فَقَالَ يَا رَسُول الله اني رجل لَا اصبر على النِّسَاء واني اخاف الْفِتْنَة

بنساء بني الاصفر فائذن لي وَلَا تفتني وَهَذَا الْجد هُوَ الَّذِي تخلف عَن بيعَة الرضْوَان تَحت الشَّجَرَة واستتر بجمل احمر وَجَاء فِيهِ الحَدِيث ان كلهم مغْفُور لَهُ الا صَاحب الْجمل الاحمر فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهِ {وَمِنْهُم من يَقُول ائْذَنْ لي وَلَا تفتني أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا} سُورَة التَّوْبَة 49 يَقُول انه طلب الْقعُود ليسلم من فتْنَة النِّسَاء فَلَا يفتتن بِهن فَيحْتَاج الى الِاحْتِرَاز من الْمَحْظُور ومجاهدة نَفسه عَنهُ فيتعذب بذلك اَوْ يواقعه فيأثم فَإِن من رأى الصُّور الجميلة وأحبها فَإِن لم يتَمَكَّن مِنْهَا اما لتَحْرِيم الشَّارِع وَأما للعجز عَنْهَا تعذب قلبه وان

قدر عَلَيْهَا وَفعل الْمَحْظُور هلك وَفِي الْحَلَال من ذَلِك من معالجة النِّسَاء مَا فِيهِ بلَاء فَهَذَا وَجه قَوْله {وَلَا تفتني} قَالَ الله تَعَالَى {أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا} سُورَة التَّوْبَة 49 يَقُول ان نفس اعراضه عَن الْجِهَاد الْوَاجِب ونكوله عَنهُ وَضعف ايمانه وَمرض قلبه الَّذِي زين لَهُ ترك الْجِهَاد فتْنَة عَظِيمَة قد سقط فِيهَا فَكيف يطْلب التَّخَلُّص من فتْنَة صَغِير لم تصبه بِوُقُوعِهِ فِي فتْنَة عَظِيمَة قد اصابته وَالله تَعَالَى يَقُول وقاتلوهم حَتَّى لت تكون فتْنَة وَيكون الدّين كُله لله سُورَة الانفال 39 فَمن ترك الْقِتَال الَّذِي امْر الله بِهِ لِئَلَّا تكون فتْنَة فَهُوَ فِي الْفِتْنَة سَاقِط بِمَا وَقع فِيهِ من ريب

قلبه وَمرض فُؤَاده وَتَركه مَا امْر الله بِهِ من الْجِهَاد فَتدبر هَذَا فان هَذَا مقَام خطر وَالنَّاس فِيهِ على قسمَيْنِ قسم يأمرون وَينْهَوْنَ ويقاتلون طلبا لإِزَالَة الْفِتْنَة زَعَمُوا وَيكون فعلهم ذَلِك اعظم فتْنَة كالمقتتلين فِي الْفِتَن الْوَاقِعَة بَين الامة مثل الْخَوَارِج وأقوام ينكلون عَن الامر وَالنَّهْي والقتال الَّذِي يكون بِهِ الدّين كُله لله وَتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا لِئَلَّا يفتنوا وهم قد سقطوا فِي الْفِتْنَة وَهَذِه الْفِتْنَة الْمَذْكُورَة فِي سُورَة بَرَاءَة دخل فِيهَا الافتتان بالصور الجميلة فَإِنَّهَا سَبَب نزُول الْآيَة وَهَذِه حَال كثير من المتدينة يتركون مَا يجب عَلَيْهِم من امْر وَنهي وَجِهَاد يكون بِهِ الدّين لله وَتَكون بِهِ كلمة الله هِيَ الْعليا لِئَلَّا يفتنوا بِجِنْس الشَّهَوَات

وهم قد وَقَعُوا فِي الْفِتْنَة الَّتِي هِيَ اعظم مِمَّا زَعَمُوا انهم فروا مِنْهُ وانما الْوَاجِبَة عَلَيْهِم الْقيام بِالْوَاجِبِ من الامر وَالنَّهْي وَترك الْمَحْظُور والاستعانة بِاللَّه على الامرين وَلَو فرض ان فعل الْوَاجِب وَترك الْمَحْظُور وهما متلازمان وانما تركُوا ذَلِك لكَون نُفُوسهم لَا تطاوعهم الا على فعلهمَا جَمِيعًا اَوْ تكرهما جَمِيعًا مثل كثير مِمَّن يجب الرياسة اَوْ المَال اَوْ شهوات الغي فانه اذا فعل مَا وَجب عَلَيْهِ من امْر وَنهي وَجِهَاد وامارة وَنَحْو ذَلِك فَلَا بُد ان يفعل مَعهَا شَيْئا من الْمَحْظُورَات فَالْوَاجِب عَلَيْهِ ان ينظر أغلب الامرين فَإِن كَانَ الْمَأْمُور اعظم اجرا من ترك ذَلِك الْمَحْظُور لم يتْرك ذَلِك لما يخَاف ان يقْتَرن بِهِ مَا هُوَ دونه فِي الْمفْسدَة وان كَانَ ترك الْمَحْظُور اعظم اجرا لم يفوت ذَلِك برجاء ثَوَاب فعل وَاجِب يكون دون ذَلِك فَذَلِك يكون بِمَا يجْتَمع لَهُ من الامرين من الْحَسَنَات والسيئات فَهَذَا هَذَا وتفصيل ذَلِك يطول

وكل بشر على وَجه الارض فَلَا بُد لَهُ من امْر وَنهي وَلَا بُد ان يَأْمر وَينْهى حَتَّى لَو انه وَحده لَكَانَ يَأْمر نَفسه وينهاها اما بِمَعْرُوف واما بمنكر كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِن النَّفس لأمارة بالسوء} سُورَة يُوسُف 53 فَإِن الْأَمر هُوَ طلب الْفِعْل وارادته وَالنَّهْي طلب التّرْك وارادته وَلَا بُد لكل حى من ارادة وَطلب فِي نَفسه يقتضى بهما فعل نَفسه ويقتضى بهما فعل غَيره اذا امكن ذَلِك فَإِن الانسان حَيّ يَتَحَرَّك بإرادته وَبَنُو آدم لَا يعيشون الا باجتماع بَعضهم مَعَ بعض واذا اجْتمع اثْنَان فَصَاعِدا فَلَا بُد ان يكون بَينهمَا ائتمار بِأَمْر وتناه عَن امْر وَلِهَذَا كَانَ اقل الْجَمَاعَة فِي الصَّلَاة اثْنَيْنِ كَمَا قيل الِاثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة لَكِن لما كَانَ ذَلِك اشتراكا فِي مُجَرّد الصَّلَاة حصل بِاثْنَيْنِ احدهما امام والاخر مَأْمُوم كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ

وَسلم لمَالِك ابْن الْحُوَيْرِث وَصَاحبه رَضِي الله عَنْهُمَا اذا حضرت الصَّلَاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وَكَانَا متقاربين فِي الْقِرَاءَة وَأما فِي الامور العادية فَفِي السّنَن انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يحل لثَلَاثَة يكونُونَ فِي سفر إِلَّا أمروا عَلَيْهِم احدهم

واذا كَانَ الامر وَالنَّهْي من لَوَازِم وجود بني آدم فَمن لم يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي امْر الله بِهِ وَرَسُوله وينه عَن الْمُنكر الَّذِي نهى الله عَنهُ وَرَسُوله وَيُؤمر بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي امْر الله بِهِ وَرَسُوله وينه عَن الْمُنكر الَّذِي نهى الله عَنهُ وَرَسُوله وَإِلَّا فَلَا بُد من ان يَأْمر وَينْهى وَيُؤمر وَينْهى اما بِمَا يضاد ذَلِك واما بِمَا يشْتَرك فِيهِ الْحق الَّذِي انزله الله بِالْبَاطِلِ الَّذِي لم ينزله الله واذا اتخذ ذَلِك دينا كَانَ دينا مبتدعا ضَالًّا بَاطِلا وَهَذَا كَمَا ان كل بشر فَإِنَّهُ حَيّ متحرك بإرادته همام حَارِث فَمن لم تكن نِيَّته صَالِحَة وَعَمله عملا صَالحا لوجه الله والا كَانَ عملا فَاسِدا اَوْ لغير وَجه الله وَهُوَ الْبَاطِل كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن سعيكم لشتى} سُورَة اللَّيْل

وَهَذِه الاعمال كلهَا بَاطِلَة من جنس أَعمال الْكفَّار {الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله أضلّ أَعْمَالهم} سُورَة مُحَمَّد 1 وَقَالَ تَعَالَى وَالَّذين كفرُوا اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى اذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَوجد الله عِنْده فوفاه حسابه وَالله سريع الحسباب سُورَة النُّور 39 وَقَالَ {وَقدمنَا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} سُورَة الْفرْقَان 23 وَقد امْر الله تَعَالَى فِي كِتَابه بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله وَطَاعَة اولي الْأَمر من الْمُؤمنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} سُورَة النِّسَاء 59 وَأولُوا الامر اصحاب الامر وذووه وهم الَّذين يأمرون النَّاس وينهونهم وَذَلِكَ يشْتَرك فِيهِ اهل الْيَد وَالْقُدْرَة واهل الْعلم وَالْكَلَام فَلهَذَا كَانَ اولو الامر صنفين الْعلمَاء والامراء فاذا صلحوا صلح النَّاس واذا فسدوا فسد النَّاس

كَمَا قَالَ ابو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ للأحمسية لما سَأَلته مَا بقاؤنا على هَذَا الامر الصَّالح قَالَ مَا استقامت لكم ائمتكم وَيدخل فيهم الْمُلُوك والمشايخ واهل الدِّيوَان وكل من كَانَ متبوعا فَإِنَّهُ من اولى الامر وعَلى كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ ان يَأْمر بِمَا امْر الله بِهِ وَينْهى عَن مَا نهى الله عَنهُ وعَلى كل وَاحِد مِمَّن عَلَيْهِ طَاعَته ان يطيعه فِي طَاعَة الله وَلَا يطيعه فِي مَعْصِيّة الله كَمَا قَالَ ابو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ حِين تولى امْر الْمُسلمين وخطبهم فَقَالَ فِي خطبَته ايها النَّاس الْقوي فِيكُم الضَّعِيف عِنْدِي حَتَّى آخذ مِنْهُ الْحق والضعيف فِيكُم الْقوي عِنْدِي حَتَّى آخذ لَهُ الْحق اطيعوني مَا اطعت الله وَرَسُوله

فصل واذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين ان يراد بها

فَإِذا عصيت الله فَلَا طَاعَة لي عَلَيْكُم فصل واذا كَانَت جَمِيع الْحَسَنَات لَا بُد فِيهَا من شَيْئَيْنِ ان يُرَاد بهَا وَجه الله وان تكون مُوَافقَة للشريعة فَهَذَا فِي الاقوال والافعال فِي الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح فِي الامور العلمية والامور العملية العبادية وَلِهَذَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ان اول ثَلَاثَة تسجر بهم جَهَنَّم رجل تعلم الْعلم وَعلمه وَقَرَأَ الْقُرْآن وأقرأه ليقول النَّاس هُوَ عَالم وقارئ وَرجل قَاتل وجاهد ليقول النَّاس هُوَ شُجَاع وجرئ وَرجل تصدق

واعطى ليقول النَّاس هُوَ جواد وسخي فَإِن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة الَّذين يُرِيدُونَ الرِّيَاء والسمعة هم بِإِزَاءِ الثَّلَاثَة الَّذين بعد النَّبِيين من الصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ فَإِن من تعلم الْعلم الَّذِي بعث الله بِهِ رسله وَعلمه لوجه الله كَانَ صديقا وَمن قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا وَقتل كَانَ شَهِيدا وَمن تصدق يَبْتَغِي بذلك وَجه الله كَانَ صَالحا وَلِهَذَا يسْأَل المفرط فِي مَاله الرّجْعَة وَقت الْمَوْت كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا من اعطي مَالا فَلم يحجّ مِنْهُ وَلم يزك سَأَلَ الرّجْعَة وَقت الْمَوْت وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى وانفقوا

{من مَا رزقناكم من قبل أَن يَأْتِي أحدكُم الْمَوْت فَيَقُول رب لَوْلَا أخرتني إِلَى أجل قريب فَأَصدق وأكن من الصَّالِحين} سُورَة المُنَافِقُونَ 10 فَفِي هَذِه الامور العلمية الكلامية يحْتَاج الْمخبر بهَا ان يكون مَا يخبر بِهِ عَن الله وَالْيَوْم الاخر وَمَا كَانَ وَمَا يكون حَقًا وصوابا وَمَا يَأْمر بِهِ وَمَا يُنْهِي عَنهُ كَمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل عَن الله فَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمُوَافق للسّنة والشريعة المتبع لكتاب الله وَسنة رَسُوله كَمَا ان الْعِبَادَات الَّتِي يتعبد الْعباد بهَا اذا كَانَت مِمَّا شرعة الله وامر الله بِهِ وَرَسُوله كَانَت حَقًا صَوَابا مُوَافقا لما بعث الله بِهِ رسله وَمَا لم يكن كَذَلِك من الْقسمَيْنِ كَانَ من الْبَاطِل والبدع المضلة وَالْجهل وان كَانَ يُسَمِّيه من يُسَمِّيه علوما ومعقولات وعبادات ومجاهدات واذواقا ومقامات

وَيحْتَاج ايضا ان يُؤمر بذلك لأمر الله بِهِ وَينْهى عَنهُ لنهي الله عَنهُ ويخبر بِمَا اخبر الله بِهِ لِأَنَّهُ حق وايمان وَهدى كَمَا أخْبرت بِهِ الرَّسُول كَمَا تحْتَاج الْعِبَادَة إِلَى أَن يقْصد بهَا وَجه الله فاذا قيل ذَلِك لاتباع الْهوى وَالْحمية اَوْ لإِظْهَار الْعلم والفضيلة اَوْ لطلب السمعة والرياء كَانَ بِمَنْزِلَة الْمقَاتل شجاعة وحمية ورياء وَمن هُنَا يتَبَيَّن لَك مَا وَقع فِيهِ كثير من اهل الْعلم والمقال واهل الْعِبَادَة وَالْحَال واهل الْحَرْب والقتال من لبس الْحق بِالْبَاطِلِ فِي كثير من الاصول فكثيرا مَا يَقُول هَؤُلَاءِ من الاقوال مَا هُوَ خلاف الْكتاب وَالسّنة اَوْ مَا يتَضَمَّن خلاف السّنة ووفاقها وَكَثِيرًا مَا يتعبد هَؤُلَاءِ بعبادات لم يَأْمر الله بهَا بل

قد نهى عَنْهَا اَوْ مَا يتَضَمَّن مَشْرُوعا ومحظورا وَكَثِيرًا مَا يُقَاتل هَؤُلَاءِ قتالا مُخَالفا لِلْقِتَالِ الْمَأْمُور بِهِ اَوْ متضمنا لمأمور بِهِ ومحظور ثمَّ كل من الاقسام الثَّلَاثَة الْمَأْمُور بِهِ والمحظور والمشتمل على الامرين قد يكون لصَاحبه نِيَّة حَسَنَة وَقد يكون مُتبعا لهواه وَقد يجْتَمع لَهُ وَهَذَا وَهَذَا فَهَذِهِ تِسْعَة اقسام فِي هَذِه الامور فِي الاموال المنفقة عَلَيْهَا من الاموال السُّلْطَانِيَّة الفئ وَغَيره والاموال الْمَوْقُوفَة والاموال الْمُوصى بهَا والاموال الْمَنْذُورَة وانواع العطايا وَالصَّدقَات والصلات وَهَذَا كُله من لبس الْحق بِالْبَاطِلِ وخلط عمل صَالح واخر شَيْء والسيء من ذَلِك قد يكون صَاحبه مخطئا اَوْ نَاسِيا مغفورا لَهُ كالمجتهد المخطىء الَّذِي لَهُ اجْرِ وخطؤه مغْفُور لَهُ وَقد

يكون صَغِيرا مكفرا باجتناب الْكَبَائِر وَقد يكون مغفورا بتوبة اَوْ بحسنات تمحو السَّيِّئَات اَوْ مكفرا بمصائب الدُّنْيَا وَنَحْو ذَلِك الا ان دين الله الَّذِي انْزِلْ بِهِ كتبه وَبعث بِهِ رسله مَا تقدم من ارادة الله وَحده بِالْعَمَلِ الصَّالح وَهَذَا هُوَ الاسلام الْعَام الَّذِي لَا يقبل الله من اُحْدُ غَيره قَالَ تَعَالَى {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} سُورَة آل عمرَان 85 وَقَالَ تَعَالَى شهد الله انه لَا اله الا هُوَ وَالْمَلَائِكَة واولو الْعلم قَائِما بِالْقِسْطِ لَا اله الا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم ان الدّين عِنْد الله الاسلام سُورَة آل عمرَان 18 19 والاسلام يجمع مَعْنيين احدهما الاستسلام والانقياد فَلَا يكون متكبرا وَالثَّانِي الاخلاص من قَوْله تَعَالَى {ورجلا سلما لرجل} سُورَة الزمر 29 فَلَا يكون مُشْتَركا وَهُوَ ان يسلم

العَبْد لله رب الْعَالمين كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمن يرغب عَن مِلَّة ابراهيم الا من سفه نَفسه وَلَقَد اصطفيناه فِي الدُّنْيَا وانه فِي الاخرة لمن الصَّالِحين اذ قَالَ لَهُ ربه اسْلَمْ قَالَ اسلمت لرب الْعَالمين ووصى بهَا ابراهيم بنيه وَيَعْقُوب يَا بني ان الله اصْطفى لكم الدّين فَلَا تموتن الا وانتم مُسلمُونَ سُورَة الْبَقر 130 132 وَقَالَ تَعَالَى قل انني هَدَانِي رَبِّي الى صِرَاط مُسْتَقِيم دينا قيمًا مِلَّة ابراهيم حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين قل ان صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين لَا شريك لَهُ وَبِذَلِك أمرت وانا اول الْمُسلمين سُورَة الانعام 161 163 والاسلام يسْتَعْمل لَازِما معدي بِحرف اللَّام مثل مَا ذكر فِي هَذِه الايات وَمثل قَوْله تَعَالَى {قَالَت رب إِنِّي ظلمت نَفسِي وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان لله رب الْعَالمين} سُورَة النَّمْل 44 وَمثل قَوْله تَعَالَى {وأنيبوا إِلَى ربكُم وَأَسْلمُوا لَهُ من قبل أَن يأتيكم الْعَذَاب ثمَّ لَا تنْصرُونَ} سُورَة الزمر 54

وَمثل قَوْله أفغير دين الله يَبْغُونَ وَله اسْلَمْ من فِي السَّمَوَات والارض طَوْعًا وَكرها واليه يرجعُونَ سُورَة آل عمرَان 83 وَمثل قَوْله قل اندعوا من دون الله مَالا ينفعنا وَلَا يضرنا ونرد على اعقابنا بعد اذ هدَانَا الله كَالَّذي استهوته الشَّيَاطِين فِي الارض حيران لَهُ اصحاب يَدعُونَهُ الى الْهَدْي ائتنا قل ان هدى الله هُوَ الْهَدْي وامرنا لنسلم لرب الْعَالمين وان اقيموا الصَّلَاة واتقوه وَهُوَ الَّذِي اليه تحشرون سُورَة الانعام 71 72 وَيسْتَعْمل مُتَعَدِّيا مَقْرُونا بِالْإِحْسَانِ كَقَوْلِه تَعَالَى وَقَالُوا لن يدْخل الْجنَّة الا من كَانَ هودا اَوْ نَصَارَى تِلْكَ امانيهم قل هاتوا برهانكم ان كُنْتُم صَادِقين بلَى من اسْلَمْ وَجهه لله وَهُوَ محسن فَلهُ اجره عِنْد ربه وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ سُورَة الْبَقَرَة 111 112 وَقَوله تَعَالَى {وَمن أحسن دينا مِمَّن أسلم وَجهه لله وَهُوَ محسن وَاتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا}

سُورَة النِّسَاء 125 فقد انكر الله ان يكون دين احسن من هَذَا الدّين هُوَ اسلام الْوَجْه لله مَعَ الاحسان وَاخْبَرْ انه كل {من أسلم وَجهه لله وَهُوَ محسن فَلهُ أجره عِنْد ربه وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} سُورَة الْبَقَرَة 112 اثْبتْ هَذِه الْكَلِمَة الجامعة والقضية الْعَامَّة ردا لما زَعمه من زَعمه انه لَا يدْخل الْجنَّة الامتهود اَوْ متنصر وَهَذَانِ الوصفان وهما اسلام الْوَجْه لله والاحسان هما الاصلان المتقدمان وهما كَون القَوْل وَالْعَمَل خَالِصا لله صَوَابا مُوَافقا للسّنة والشريعة وَذَلِكَ ان إِسْلَام الْوَجْه لله هُوَ يتَضَمَّن اخلاص الْقَصْد وَالنِّيَّة لله كَمَا قَالَ بَعضهم ... اسْتغْفر الله ذَنبا لست محصيه ... رب الْعباد اليه الْوَجْه وَالْعلم ...

وَقد اسْتعْمل هُنَا اربعة الفاظ اسلام الْوَجْه واقامة الْوَجْه كَقَوْلِه تَعَالَى {وَأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد} سُورَة الاعراف 29 وَقَوله تَعَالَى {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} سُورَة الرّوم 30 وتوجيه الْوَجْه كَقَوْل الْخَلِيل وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات والارض حَنِيفا وَمَا انا من الْمُشْركين سُورَة الانعام 79 وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي دُعَاء الاستفتاح فِي صلَاته وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات والارض حَنِيفا وَمَا انا من الْمُشْركين سُورَة الانعام 79 وَكَانَ يَقُول اذا اوى الى فرَاشه اللَّهُمَّ اسلمت نَفسِي اليك ووجهت وَجْهي اليك رَوَاهُ الْبَراء بن عَازِب فِي الصَّحِيح ايضا

فَالْوَجْه يتَنَاوَل المتوجه بِكَسْر الْجِيم والمتوجه بِفَتْح الْجِيم اليه ويتناول التَّوَجُّه نَفسه كَمَا يُقَال أَي وَجه تُرِيدُ أَي أَي جِهَة وناحية تقصد وَذَلِكَ انهما متلازمان فَحَيْثُ توجه الانسان توجه وَجهه وَوَجهه مُسْتَلْزم لتوجهه وَهَذَا فِي بَاطِنه وَظَاهره جَمِيعًا فَهِيَ اربعة امور وَالْبَاطِن هُوَ الاصل وَالظَّاهِر هُوَ الْكَمَال والشعار فاذا توجه قلبه الى شَيْء تبعه وَجهه الظَّاهِر فَإِذا كَانَ العَبْد قَصده وَمرَاده وتوجهه الى الله فَهَذَا صَلَاح ارادته وقصده فَإِذا كَانَ مَعَ ذَلِك محسنا فقد اجْتمع لَهُ

ان يكون عمله صَالحا وان يكون لله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه فليعمل عملا صَالحا وَلَا يُشْرك بِعبَادة ربه أحدا} الْكَهْف 110 وَهُوَ قَول عمر رَضِي الله عَنهُ اللَّهُمَّ اجْعَل عَمَلي كُله صَالحا واجعله لوجهك خَالِصا وَلَا تجْعَل لأحد فِيهِ شَيْئا وَالْعَمَل الصَّالح هُوَ الاحسان وَهُوَ فعل الْحَسَنَات وَهُوَ مَا امْر الله بِهِ وَالَّذِي امْر الله بِهِ هُوَ الَّذِي شَرعه الله وَهُوَ الْمُوَافق لكتاب الله وَسنة رَسُوله فقد اخبر الله تَعَالَى انه من اخلص قَصده لله وَكَانَ محسنا فِي عمله فَإِنَّهُ مُسْتَحقّ للثَّواب سَالم من الْعقَاب وَلِهَذَا كَانَ ائمة السّلف رَحِمهم الله يجمعُونَ هذَيْن الاصلين كَقَوْل الفضيل بن عِيَاض فِي قَوْله تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ}

{أَيّكُم أحسن عملا} سُورَة الْملك 2 قَالَ اخلصه واصوبه فَقيل لَهُ يَا ابا على مَا اخلصه واصوبه فَقَالَ ان الْعَمَل اذا كَانَ صَوَابا وَلم يكن خَالِصا لم يقل واذا كَانَ خَالِصا وَلم يكن صَوَابا لم يقبل حَتَّى يكون خَالِصا صَوَابا والخالص ان يكون لله وَالصَّوَاب ان يكون على السّنة وَقد روى ابْن شاهين واللالكائي عَن سعيد بن جُبَير قَالَ لَا يقبل قَول الا بِعَمَل وَلَا يقبل قَول وَعمل الا بنية وَلَا يقبل قَول وَعمل وَنِيَّة الا بموافقة السّنة ورويا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ مثله وَلَفظ مَا روى عَن الْحسن لَا يصلح مَكَان لَا يقبل ووهذا فِيهِ رد على الَّذين يجْعَلُونَ مُجَرّد القَوْل كَافِيا فَأخْبر أَنه لَا بُد من قَول وَعمل المرجئة اذا الايمان قَول وَعمل لَا بُد من هذَيْن كَمَا قد بسطناه فِي غير هَذَا الْموضع وَبينا ان مُجَرّد

تَصْدِيق الْقلب ونطق اللِّسَان مَعَ البغض لله وشرائعه والاستكبار على الله وشرائعة لايكون ايمانا بِاتِّفَاق الْمُؤمنِينَ حَتَّى يقْتَرن بالتصديق عمل صَالح وَاصل الْعَمَل عمل الْقلب وَهُوَ الْحبّ والتعظيم الْمنَافِي للبغض والاستكبار ثمَّ قَالُوا لَا يقل قَول وَعمل الا بنية وَهَذَا ظَاهر فَإِن القَوْل وَالْعَمَل اذا لم يكن خَالِصا لله لم يقبله الله تَعَالَى ثمَّ قَالُوا لَا يقبل قَول وَعمل وَنِيَّة الا بموافقة السّنة وَهِي الشَّرِيعَة وَهِي مَا امْر الله بِهِ وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن القَوْل وَالْعَمَل وَالنِّيَّة الَّذِي لَا يكون مسنونا مَشْرُوعا قد امْر الله بِهِ يكون بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة لَيْسَ مِمَّا يُحِبهُ الله فَلَا يقبله الله وَلَا يصلح مثل اعمال الْمُشْركين واهل الْكتاب وَلَفظ السّنة فِي كَلَام السّلف يتَنَاوَل السّنة فِي الْعِبَادَات وَفِي

فصل في الإكراه وما يتعلق به

الاعتقادات وان كَانَ كثير مِمَّن صنف فِي السّنة يقصدون الْكَلَام فِي الاعتقادات وَهَذَا كَقَوْل ابْن مَسْعُود وابي بن كَعْب وابي الدَّرْدَاء رضى الله عَنْهُم اقتصاد فِي سنة خير من اجْتِهَاد فِي بِدعَة وامثال ذَلِك فصل فِي الْإِكْرَاه وَمَا يتَعَلَّق بِهِ ان الله سُبْحَانَهُ أمرنَا بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ طَاعَته وَطَاعَة رَسُوله وَهُوَ الصّلاح والحسنات وَالْخَيْر وَالْبر وَنهى عَن الْمُنكر وَهُوَ مَعْصِيَته ومعصية رَسُوله وَهُوَ الْفساد والسيئات وَالشَّر والفجور وَقيد الايجاب بالاستطاعة والوسع واباح مِمَّا حرم مَا يضْطَر الْمَرْء اليه غير بَاغ وَلَا عَاد

فَقَالَ تَعَالَى {اتَّقوا الله حق تُقَاته} سُورَة آل عمرَان 102 وَقَالَ {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} سُورَة التغابن 16 وَثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ ذروني مَا تركتكم فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافهمْ على انبيائهم فَإِذا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَاجْتَنبُوهُ واذا امرتكم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم فَأوجب مِمَّا امْر بِهِ مَا يُسْتَطَاع وَكَذَلِكَ فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حَدِيث اخر انكم لن تُحْصُوا اَوْ تستطيعوا كل مَا امرتم بِهِ وَلَكِن وَقَالَ ان هَذَا الدّين يسر وَلنْ يشاد الدّين اُحْدُ الا غَلبه فسددوا وقاربوا وَاسْتَعِينُوا بالغدوة والروحة وَشَيْء من الدلجة وَالْقَصْد الْقَصْد تبلغوا

وَقَالَ تَعَالَى فِي صفة هَذَا النَّبِي {يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم} سُورَة الاعراف 157 وَهَذَا الْعَام الْمُجْمل فَصله فَقَالَ لما اوجب الصّيام {وَمن كَانَ مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} سُورَة الْبَقَرَة 185 وَقَالَ لما ذكر التَّيَمُّم {مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم} سُورَة الْمَائِدَة 6

وَقَالَ {وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده هُوَ اجتباكم وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} سُورَة الْحَج 78 وَقَالَ لما اوجب الْجِهَاد {لَيْسَ على الضُّعَفَاء وَلَا على المرضى وَلَا على الَّذين لَا يَجدونَ مَا يُنْفقُونَ حرج إِذا نصحوا لله وَرَسُوله} سُورَة التَّوْبَة 91 وَقَالَ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولي الضَّرَر} سُورَة النِّسَاء 95 وَقَالَ فِي الْهِجْرَة {إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم} الى قَوْله الا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِك عَسى الله ان يعفوا عَنْهُم وَكَانَ الله عفوا غَفُورًا سُورَة النِّسَاء 98 99 وَقَالَ تَعَالَى فِي الانفاق يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو سُورَة الْبَقَرَة 219 وَقَالَ فِي الْعُمُوم {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا} الاية سُورَة الْبَقَرَة 286

وَثَبت فِي الصَّحِيح ان الله تَعَالَى قَالَ قد فعلت وان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقْرَأ بِحرف مِنْهَا الا اعطيه وَقَالَ {لينفق ذُو سَعَة من سعته وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه فلينفق مِمَّا آتَاهُ الله لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا مَا آتاها سَيجْعَلُ الله بعد عسر يسرا} سُورَة الطَّلَاق 7 وَقَالَ {وَالَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا} سُورَة الاعراف 42 وَقَالَ {وأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا} سُورَة الانعام 152 وَقَالَ وَدَاوُد وَسليمَان اذ يحكمان فِي الْحَرْث اذ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين ففهمناها سُلَيْمَان وكلا اتينا حكما وعلما سُورَة الانبياء 78 79 وَقَالَ {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن}

{تقصرُوا من الصَّلَاة} سُورَة النِّسَاء 101 وَقَالَ فِي الْقُرْآن {فاقرؤوا مَا تيَسّر مِنْهُ} سُورَة المزمل 20 وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ انْزِلْ الْقُرْآن على سَبْعَة احرف فأقرأوا مَا تيَسّر مِنْهُ وَقَالَ فِي الْمُحرمَات {إِنَّمَا حرم عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَإِن الله غَفُور رَحِيم} سُورَة النَّحْل 115 وَفِي الاية الاخرى قل لَا اجد فِيمَا اوحى الى محرما على طاعم يطعمهُ الاان يكون ميتَة اَوْ دَمًا مسفوحا اَوْ لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس اَوْ فسقا اهل لغير الله بِهِ فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَإِن رَبك غَفُور

{رَحِيم} سُورَة الانعام 145 وَهَاتَانِ فِي السورتين المكيتين الانعام والنحل وَقَالَ فِي السورتين المدينيتن {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا} الى قَوْله {فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ إِن الله غَفُور رَحِيم} سُورَة الْبَقَرَة 172 173 وَفِي الاية الاخرى حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا اهل لغير الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أكل السَّبع الا مَا ذكيتم وَمَا ذبح على النصب وان تستقسموا بالأزلام ذَلِكُم فسق الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ فَلَا تخشوهم واخشون الْيَوْم اكملت لكم دينكُمْ واتممت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دين فَمن اضْطر فِي مَخْمَصَة غير متجانف لإثم فَإِن الله غَفُور رَحِيم سُورَة الْمَائِدَة 3 فَهَذَا فِي تَحْرِيم المطاعم قد رفع الاثم عَمَّن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد والباغي والعادي قد قيل انهما صفة للشَّخْص مُطلقًا فالباغي كالباغي على امام الْمُسلمين واهل الْعدْل مِنْهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا}

الَّتِي تبغي حَتَّى تفئ الى امْر الله سُورَة الحجرات 9 والعادي كالصائل قَاطع الطَّرِيق الَّذِي يُرِيد النَّفس اَوْ المَال وَقيل انهما صفة لغير الْمُضْطَر فالباغي الَّذِي يبغى الْمحرم مَعَ قدرته على الْحَلَال والعادي الَّذِي يتَجَاوَز قدر الْحَاجة كَمَا قَالَ فَمن اضْطر فِي مَخْمَصَة غير متجانف لإثم سُورَة الْمَائِدَة 3 وَقَالَ فِي المناكح وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا ان ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات فمما ملكت ايمانكم من فَتَيَاتكُم الْمُؤْمِنَات سُورَة النِّسَاء 25 الى قَوْله {يُرِيد الله ليبين لكم وَيهْدِيكُمْ سنَن الَّذين من قبلكُمْ وَيَتُوب عَلَيْكُم وَالله عليم حَكِيم} سُورَة النِّسَاء 26 {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم وَخلق الْإِنْسَان ضَعِيفا} النِّسَاء 28 وَقَالَ ايضا فِي مَحْظُورَات الْعِبَادَات كالإحرام {وَلَا تحلقوا}

رءوسكم حَتَّى يبلغ الْهدى مجله فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا اَوْ بِهِ اذى من رَأسه ففديه من صِيَام اَوْ صَدَقَة اَوْ نسك فاذا امنتم فَمن تمتّع بالغمرة الى الْحَج فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهدى سُورَة الْبَقَرَة 196 ثمَّ قَالَ {وَلَا تحلقوا رؤوسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} الاية سُورَة الْبَقَرَة 196 وَفِي الصَّلَاة الْخَوْف قَالَ {وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة فلتقم طَائِفَة مِنْهُم مَعَك وليأخذوا أسلحتهم فَإِذا سجدوا فليكونوا من وَرَائِكُمْ ولتأت طَائِفَة أُخْرَى} الاية سُورَة النِّسَاء 102 وَقَالَ فِي مَحْظُور الْكَلَام بالْكفْر {من كفر بِاللَّه من بعد إيمَانه إِلَّا من أكره وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا فَعَلَيْهِم غضب من الله وَلَهُم عَذَاب عَظِيم} سُورَة النَّحْل 156 وَقَالَ {لَا يتَّخذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ وَمن يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من الله فِي شَيْء إِلَّا أَن تتقوا مِنْهُم تقاة} سُورَة آل عمرَان 28 وَقَالَ فِي مَحْظُور الفعال وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء ان اردن تَحَصُّنًا لتبتغوا عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا وَمن يُكْرهن فَإِن الله من بعد اكراههن غَفُور رَحِيم سُورَة النُّور 33 فأباح سُبْحَانَهُ عِنْد الاكراه ان ينْطق الرجل بالْكفْر بِلِسَانِهِ اذا

كَانَ قلبه مطمئنا بِالْإِيمَان بِخِلَاف من شرح بالْكفْر صَدرا وأباح للْمُؤْمِنين ان يتقوا من الْكَافرين تقاة مَعَ نَهْيه لَهُم عَن مُوَالَاتهمْ وَعَن ابْن عَبَّاس ان التقية بِاللِّسَانِ وَلِهَذَا لم يكن عندنَا نزاع فِي ان الاقوال لَا يثبت حكمهَا فِي حق الْمُكْره بِغَيْر حق فَلَا يَصح كفر الْمُكْره بِغَيْر حق وَلَا ايمان الْمُكْره بِغَيْر حق كالذمي الموفى بِذِمَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ {لَا إِكْرَاه فِي الدّين قد تبين الرشد من الغي} سُورَة الْبَقَرَة 256 بِخِلَاف الْمُكْره بِحَق كالمقاتلين من اهل الْحَرْب حَتَّى يسلمُوا ان كَانَ قِتَالهمْ الى الاسلام اَوْ اعطاء الْجِزْيَة ان كَانَ الْقِتَال على احدهما كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الى قَوْله {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم} سُورَة التَّوْبَة 5 وكما قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امرت ان اقاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا ان لَا اله الا الله وان مُحَمَّدًا رَسُول الله فاذا قالوها

عصموا منى دِمَاءَهُمْ واموالهم الا بِحَقِّهَا وحسابهم على الله وَلِهَذَا لم صَحَّ بيع الْمُكْره بِغَيْر حق وشراؤه وَسَائِر عقوده الْمَالِيَّة وَلَا نِكَاحه وطلاقه وَسَائِر عقوده البضعية وَلَا يَمِينه ونذره وَسَائِر الْعُقُود الَّتِي اكره عَلَيْهَا بِغَيْر حق بِخِلَاف مَا اكره عَلَيْهِ بِحَق كَالدّين اذا وَجب عَلَيْهِ بيع مَاله لوفاء دينه وكما فِي الصَّحِيح عَن ابي هُرَيْرَة قَالَ بَيْنَمَا نَحن عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اذ خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ انْطَلقُوا الى يهود فخرجنا مَعَه حَتَّى جِئْنَا بَيت الْمدَارِس فَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فناداهم فَقَالَ يَا معشر يهود اسلموا يسلمُوا قَالُوا قد بلغت يَا ابا الْقَاسِم فَقَالَ ذَلِك اريد ثمَّ قَالَ الثَّانِيَة فَقَالُوا قد بلغت يَا ابا الْقَاسِم ثمَّ قَالَ الثَّالِثَة فَقَالَ اعلموا انما الارض لله وَرَسُوله واني اريد ان اجليكم من هَذِه الارض فَمن وجد مِنْكُم بِمَالِه شَيْئا فليبعه والا فاعلموا ان الارض لله وَرَسُوله

وكالمبايع للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا امْرَهْ الله ان يُبَايع عَلَيْهِ وعَلى هَذَا يخرج الْمُكْره على الْبيعَة للأمير اذا كَانَ مكْرها هَل هُوَ مكره بِحَق اَوْ بِغَيْر حق وَهل هُوَ مبايع على مَا امْرَهْ الله ان يُبَايع عَلَيْهِ اَوْ على غير ذَلِك وَقد يتَأَوَّل بعض اهل الاهواء هَذِه الْآيَات على غير تَأْوِيلهَا كتأويل الرافضة انهم هم الْمُؤْمِنُونَ وان سواهُم كافرون فقد يستعملون مَعَهم التقية وَلَهُم فِي ذَلِك من الْبَاطِل مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه

واما الاكراه على الافعال الْمُحرمَة فَهَل يُبَاح بالاكراه على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن احْمَد احداهما لَا تُبَاح الافعال الْمُحرمَة كَأَكْل الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَشرب الْخمر بِالْإِكْرَاهِ بِخِلَاف الاقوال كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس انما التقية بِاللِّسَانِ وَلِأَن الافعال يثبت حكمهَا بِدُونِ الْقَصْد حَتَّى من الْمَجْنُون وَغَيره بِخِلَاف الاقوال فَإِنَّهُ يعْتَبر فِيهَا الْمَقْصد وَالثَّانيَِة وَهِي اشهر انها تُبَاح بِالْإِكْرَاهِ كَمَا تُبَاح الْمُحرمَات بالأضطرار فَإِن الْمُكْره قد يخَاف من الْقَتْل اعظم مِمَّا يخَاف الْمُضْطَر غير بَاغ وَلَا عَاد وَلِأَن الْمُضْطَر يتَنَاوَلهُ الاضرار لفظا اَوْ معنى فَإِنَّهُ مُضْطَر غير بَاغ وَلَا عَاد وَقد دلّ على ذَلِك قَوْله تَعَالَى وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء ان اردن تَحَصُّنًا لتبتغوا عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا وَمن يكرههن فَإِن الله من بعد اكرههن غَفُور رَحِيم سُورَة الانور 33 وَهَذَا فِي الافعال الْمُحرمَة لحق الله فِيهَا فَأَما قتل الْمَعْصُوم فَلَا يُبَاح بالاكراه بِلَا نزاع لانه لَيْسَ لَهُ ان يحيى نَفسه بِمَوْت ذَلِك الْمَعْصُوم وَلَيْسَ ذَلِك بِأولى من الْعَكْس بل طلبه احياء نَفسه

بالاعتداء على غَيره ظلم مَحْض واذا كَانَ الْمُضْطَر الى إطْعَام نَفسه لَيْسَ لغيره ان يَأْخُذهُ مِنْهُ عِنْد الِاضْطِرَار فَلَيْسَ لأحد ان يقتل غَيره ليحيى هُوَ نَفسه بل هَذَا ظلم وعدوان وَهُوَ مُوجب للقود على الْمُكْره وَالْمكْره فِي مَذْهَب احْمَد وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي لاشْتِرَاكهمَا فِي الْفِعْل هَذَا بِالْمُبَاشرَةِ الْمُحرمَة وَهَذَا بالتسبب المفضى الى الْفِعْل غَالِبا وَقيل انما يجب على الْمُكْره الظَّالِم لِأَن الْمُكْره قد صَار كالآلة وَهَذَا قَول ابي حنيفَة وَقيل بِالْعَكْسِ وَهُوَ قَول زيد وَهُوَ قَول ردئ فَإِنَّهُ لحظ ظَاهر الْمُبَاشرَة اَوْ السَّبَب وَهَذَا فِي الْمُكْره الَّذِي يفعل بِإِرَادَة اكراه عَلَيْهَا وَلِهَذَا صَحَّ ان يُقَال فِي هَذَا الْمُكْره هُوَ مُرِيد مُخْتَار وَصَحَّ ان يُقَال لَيْسَ بمختار فان الْمُخْتَار من لَهُ اخْتِيَار وارادة وَهَذَا الْمُكْره ارادته واختياره الَّذِي هُوَ فِيهِ ان لَا يفعل ذَلِك الْفِعْل الَّذِي اكره عَلَيْهِ وَلَكِن لما الجئ بِمَا يُوقع بِهِ من الْعَذَاب الى احداث اخْتِيَار اخر وارادة اخرى يفعل بهَا مَا اكره عَلَيْهِ صَحَّ اثبات الِاخْتِيَار والارادة لَهُ بِاعْتِبَار مَا احدثه الاكراه فِيهِ وَصَحَّ نفي ذَلِك بِاعْتِبَار انه من

نَفسه لَيْسَ لَهُ اخْتِيَار وَلَا ارادة بل ارادته واختياره فِي نفي ذَلِك الْفِعْل وَحَقِيقَة الْأَمر ان لَهُ ارادتين الارادة الاصلية ان لَا يفعل هَذَا بل هُوَ كَارِه لَهُ مبغض لَهُ نافر عَنهُ وَلَا طَرِيق لَهُ الى ذَلِك الا فعل مَا اكره عَلَيْهِ فَصَارَت فِيهِ ارادة ثَانِيَة تخَالف الاولى لهَذَا السَّبَب فَهَذَا الْمُكْره وان كَانَ عَاقِلا انما يفعل بِغَيْر ارادته واختياره الاصلي فَهُوَ يفعل بِإِرَادَة اخرى وَاخْتِيَار اخر وَيفْعل ايضا بقدرته وَلِهَذَا صَحَّ ان يرد على فعله الامر والنهى والاباحة فَيُقَال يُبَاح لَهُ التَّكَلُّم وَيحرم عَلَيْهِ قتل الْمَعْصُوم واما ان اكره الرجل على الزِّنَا فَإِذا قَالَ بعض الْفُقَهَاء انه لَا يكون مكْرها اذ انه فَاعل بقدرة وَاخْتِيَار لم يَصح ذَلِك وَكَذَلِكَ الجائع الْفَقِير الَّذِي سرق ليَأْكُل لَا اثم عَلَيْهِ وَقد اضْطر الى تِلْكَ الارادة وَالِاخْتِيَار لمخمصته فالضرر الَّذِي لحقه أَلْجَأَهُ الى هَذِه الارادة وَالْفِعْل فَأَما الْمَفْعُول بِهِ الْفِعْل الَّذِي هُوَ مَحل غَيره وَآلَة لَهُ مثل الْمَرْأَة أَو

الصَّبِي الَّذِي يشد ويربط وَيفجر بِهِ وَمثل الَّذِي يوجر الْخمر ويلذ بهَا من غير قصد اصلا وَلَا فعل اصلا كَمَا يلذ النَّائِم الَّذِي لَا شُعُور لَهُ وكما يحقن الْمَرِيض النَّائِم الَّذِي لم يشْعر بالحقنة فَهَذَا لَا فعل لَهُ اصلا بل هُوَ مَحل لفعل غَيره وَآله لَهُ واذا لم يكن مِنْهُ فعل لم يقل انه فعل محرما وَلَا غير محرم بل غَيره فعل فِيهِ اَوْ بِهِ محرما فالإثم حِينَئِذٍ على ذَلِك الْفَاعِل لَكِن ان صدر مِنْهُ نوع تَمْكِين بِأَن لَا يستفرغ وَسعه فِي الِامْتِنَاع اَوْ نوع ارادة بِأَن لَا تكون ارادته جازمة فِي الِامْتِنَاع فَذَلِك فِيهِ نوع فعل والارادة الجازمة هِيَ الَّتِي يقْتَرن بهَا الْقُدْرَة فالمكره على شَيْء انما يمْتَنع بِمِقْدَار مَا يقدر عَلَيْهِ من الِامْتِنَاع عَمَّا يفعل بِهِ فَمَتَى كَانَت ارادة الانسان جازمة فِي الِامْتِنَاع فَلَا بُد ان يفعل مقدوره وَمَتى فعل مقدوره كَانَ بِمَنْزِلَة الْمُمْتَنع الْكَامِل الِامْتِنَاع الَّذِي لم يفعل بِهِ شَيْء فَإِن الارادة الجازمة المقترن بهَا كَمَال الْقُدْرَة يجْرِي صَاحبهَا مجْرى الْفَاعِل التَّام فِي الثَّوَاب وَالْعِقَاب

فالمستكره على الزِّنَا بِهِ من امْرَأَة اَوْ صبي يكون استكراهه اما بِالْكَرَاهَةِ حَتَّى لَا يُرِيد التَّمْكِين وَهُوَ الْقَاسِم الاول واما بِأَن يفعل بِهِ مَعَ كَمَال امْتِنَاعه وَهُوَ كَمَال ارادته فِي الِامْتِنَاع بِحَيْثُ يفعل مقدوره فِي الِامْتِنَاع وَلَو لم يمْتَنع حَتَّى فعل بِهِ كَانَ مطاوعا وَكَانَ زَانيا وان لم يطْلب ذَلِك لَان الله اوجب عَلَيْهِ كَمَال النفور عَن ذَلِك والغيرة مِنْهُ والبغض لَهُ بِحَيْثُ يقرن بذلك كَمَال الِامْتِنَاع فَإِذا لم يُوجد مِنْهُ هَذَا النفور وَهَذَا الِامْتِنَاع كَانَ مطاوعا فان دفع الصَّائِل على الْحُرْمَة وَاجِب بِلَا نزاع واما دفع الصَّائِل على النَّفس الَّذِي يُرِيد قتل الْمَعْصُوم بِغَيْر حق اذا لم يكن الْقِتَال فِي فتْنَة فَهَل يجب دَفعه فِيهِ قَولَانِ هما رِوَايَتَانِ عَن احْمَد ان الْمُمكن لَيْسَ بفاعل بل وَلَو اراد مُرِيد قَتله وَجب عَلَيْهِ ذَلِك كَمَا يجب عَلَيْهِ الاكل من الْميتَة عِنْد المخمصة فَكَمَا يحرم عَلَيْهِ قتل نَفسه يجب عَلَيْهِ فعل مَا لَا تبقى النَّفس الا بِهِ من طَعَام وشراب وَدفع ضَرَر بلباس وَنَحْو ذَلِك فَإِذا امكنه الْهَرَب وَنَحْوه وَجب عَلَيْهِ ذَلِك واما اذا كَانَ دفع الصَّائِل عَن نَفسه يحْتَاج الى قتال الصَّائِل فَهُنَا فِيهِ مَحْذُور اخر وان كَانَ جَائِزا وَهُوَ قتل الاخر فَلهَذَا خرج الْخلاف فِي وجوب دَفعه عَن نَفسه

وأصل هَذَا أَن الذى لم يرد الْفِعْل الْمحرم بِهِ عَلَيْهِ ان يبغضه بغضا تَاما يقْتَرن بِهِ فعل الْمَقْدُور من الدّفع فَإِذا لم يُوجد ذَلِك فَهُوَ تَارِك لما وَجب عَلَيْهِ من البغض وَالدَّفْع وَهل يكون مرِيدا لَهُ فالمزني بِهِ من غير فعل وَلَا إِرَادَة وَلَا كَمَال بغض وَدفع هَل يُقَال إِنَّه مُرِيد زَان وَهل يُقَال] عَن الْمَقْتُول من غير فعل مِنْهُ وَلَا إِرَادَة وَلَا كَمَال بغض وَدفع [إِنَّه مُرِيد لقتل نَفسه قَاتل] أَو [يُقَال بل لَيْسَ بمبغض وَلَا مُمْتَنع وَهل انْتِفَاء البغض والامتناع مُسْتَلْزم للإرادة وَالْفِعْل وَسبب الِاشْتِبَاه ان الانسان قد يَخْلُو عَن ارادة الشَّيْء وكراهته وحبه وبغضه كَمَا يَخْلُو عَن التَّصْدِيق بالشَّيْء والتكذيب لَهُ فكم من امور يُحِبهَا من وَجه ويبغضها من وَجه فالأقسام اربعة اما مُرَاد واما مَكْرُوه واما مُرَاد مَكْرُوه واما غير مُرَاد وَلَا مَكْرُوه وَلَكِن اذا كَانَ الْمُقْتَضى لإِرَادَة الْمَقْدُور قَائِما فَإِنَّمَا يُوجب وجود ارادته وَفعله الا لمَانع وَكَذَلِكَ اذ كَانَ الْمُقْتَضى لِبُغْض فعل الْمحرم بِهِ والامتناع من ذَلِك قَائِما

فَإِذا لم يُوجد البغض والامتناع فَلَا بُد من معَارض مَانع وَذَلِكَ هُوَ الْمُقْتَضى للإرادة والتمكين فالإنسان قد لَا يُرِيد الشَّيْء وَلَا يكرههُ لعدم سَبَب الارادة وَالْكَرَاهَة فَأَما مَعَ وجود الْمُقْتَضى فَلَا بُد من وجود مُقْتَضَاهُ الا لمَانع فَلهَذَا من لم يبغض وَلم يمْتَنع عَن فعل الْمحرم بِهِ مَعَ قدرته على الِامْتِنَاع فَأَنَّهُ يكون مرِيدا فَاعِلا وَلِهَذَا يُقَال انه مُطَاوع وان كَانَ قد يجْتَمع فِي قلبه البغض لذَلِك والارادة باعتبارين كَمَا يجْتَمع فِي قلب الْمُكْره على الشَّيْء ارادة فعل الْمُكْره عَلَيْهِ وَكَرَاهَة ذَلِك باعتبارين فَمن أوجر طَعَاما محرما يقدر على الِامْتِنَاع مِنْهُ فَلم يفعل اَوْ فعل بِهِ فَاحِشَة يقدر على الِامْتِنَاع مِنْهَا فَلم يفعل كَانَت مَعْصِيَته بترك مَا وَجب عَلَيْهِ من الْكَرَاهَة والامتناع وبفعل مَا نهى من الارادة والمطاوعة وَلَا يكون غير مُرِيد وَلَا فَاعل الا اذا كَانَ كَارِهًا تَامّ الْكَرَاهَة وَذَلِكَ يُوجب فعل الْمَقْدُور عَلَيْهِ من الِامْتِنَاع فَأَما اذا كَانَ كَارِهًا كَرَاهَة قَاصِرَة فَإِن الارادة تصْحَب مثل هَذِه الْكَرَاهَة وَفِي مثل هَذَا يصحبها الْفِعْل لَا محَالة لِأَن الْمُقْتَضى لكَمَال الْكَرَاهَة قَائِم وَهُوَ مَا فِي ذَلِك من الْحُرْمَة والعقوبة فَإِذا لم تحصل هَذِه الْكَرَاهَة فإمَّا لضعف الْمُقْتَضى وَهُوَ الْعلم فِي ذَلِك من الْحُرْمَة والعقوبة واما لوُجُود الْمَانِع وَهُوَ نوع من الارادة

عَارض للبغض اَوْ سَببه اما وجود لَذَّة من الْفِعْل واما رَغْبَة فِي عوض واما رهبة اوجبت ارادة الْمُكْره وَحِينَئِذٍ فَيكون بِمَنْزِلَة الْفَاعِل لرغبة اَوْ رهبة لَا يكون بِمَنْزِلَة عديم الْفِعْل وَلِهَذَا مَضَت الشَّرِيعَة بِأَن المطاوعة زَانِيَة وَكَذَلِكَ الْمَفْعُول بِهِ من الذكران كَمَا قَالَ تَعَالَى {الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة أَو مُشركَة والزانية لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان أَو مُشْرك وَحرم ذَلِك على الْمُؤمنِينَ} سُورَة النُّور 3 وَلَو ادعِي مُدع ان الْمَفْعُول بِهِ اذا لم يُوجد مِنْهُ ارادة وَلَا حَرَكَة فِي الْفِعْل لم يكن فَاعِلا لم يقبل ذَلِك بل يُقَال لَوْلَا وجود ارادة توجب البغض الْمُقْتَضى للامتناع لم يكن فَاعِلا وَقد ذكر الْفُقَهَاء الملموس هَل تنْتَقض طَهَارَته كاللامس على قَوْلَيْنِ هما رِوَايَتَانِ عَن احْمَد وَكَذَلِكَ الْمَوْطُوءَة فِي رَمَضَان هَل

تجب عَلَيْهَا كَفَّارَة اخرى على هَذَا يظْهر الْفرق فِي الاحكام بَين الْمُمكن من فعل الْفَاحِشَة بِهِ والممكن من قبل نَفسه وَفِي الْجُمْلَة فَإِن فعل الْفَاحِشَة حرَام لَا يُبَاح بِحَال وَلَا يُبَاح بِمَا يُقَال انه ضَرُورَة بِخِلَاف تَمْكِين الانسان من قبل نَفسه فَإِن جنس هَذَا يُبَاح بل كَمَا فعل عمار والاول حَال أكَابِر الصَّحَابَة وَقد اخرجا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن خباب بن الارت قَالَ شَكَوْنَا الى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ متوسط بردة لَهُ فِي ظلّ الْكَعْبَة فَقُلْنَا يَا رَسُول الا تَسْتَنْصِر لنا الا تَدْعُو لنا فَقَالَ قد كَانَ من قبلكُمْ يُؤْخَذ الرجل فيحفر لَهُ فِي الارض فَيجْعَل فِيهَا فيجاء بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَع على رَأسه فَيجْعَل نِصْفَيْنِ وَيُمشط بِأَمْشَاط الْحَدِيد مَا دون عظمه من لحم وَعصب فَمَا يصده ذَلِك عَن دينه وَالله لَيتِمَّن الله هَذَا الامر حَتَّى يسير الرَّاكِب من صنعاء الى حَضرمَوْت لَا يخَاف الا الله وَالذِّئْب على غنمه وَلَكِنَّكُمْ قوم تعجلون

وَمَعْلُوم ان هَذَا انما ذكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي معرض الثَّنَاء على اولئك لصبرهم وثباتهم وليكون ذَلِك عزة للْمُؤْمِنين من هَذِه الامة وَقد دلّ على ذَلِك ايضا مَا ذكره الله فِي قصَّة اصحاب الاخدود حَيْثُ قَالَ {إِن الَّذين فتنُوا الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} سُورَة البروج 10 الاية وَقد روى مُسلم فِي صَحِيحه عَن صُهَيْب قصتهم مبسوطة فِيهَا ان الراهب صَبر حَتَّى قتل وان الْغُلَام امْر بقتل نَفسه لما علم ان ذَلِك سَبَب لايمان النَّاس إِذا رَأَوْا تِلْكَ الْآيَة وَأَن النَّاس لما آمنو فتنهم الْكفَّار حَتَّى يرجِعوا عَن دينهم فَلم يرجِعوا حَتَّى ان الْمَرْأَة الَّتِي ارادت ان ترجع انطق الله صبيها وَقَالَ اصْبِرِي يَا اماه فَإنَّك على الْحق

وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَا يزالون يقاتلونكم حَتَّى يردوكم عَن دينكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا وَمن يرتدد مِنْكُم عَن دينه فيمت وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حبطت أَعْمَالهم} الاية سُورَة الْبَقَرَة 217 وَقَالَ تَعَالَى قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه لنخرجنك يَا شُعَيْب وَالَّذين آمنُوا مَعَك من قريتنا اَوْ لتعودن فِي ملتنا قَالَ اولو كُنَّا كارهين قد افترينا على الله كذبا ان عدنا فِي ملتكم بعد اذ نجانا الله مِنْهَا وَمَا يكون لنا ان نعود فِيهَا الا ان يَشَاء الله رَبنَا وسع رَبنَا كل شَيْء علما على الله توكلنا رَبنَا افْتَحْ بَيْننَا وَبَين قَومنَا بِالْحَقِّ وانت خير الفاتحين سُورَة الاعراف 88 89 وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالَ الَّذين كفرُوا لرسلهم لنخرجنكم من أَرْضنَا أَو لتعودن فِي ملتنا فَأوحى إِلَيْهِم رَبهم لَنهْلكَنَّ الظَّالِمين ولنسكننكم الأَرْض من بعدهمْ ذَلِك لمن خَافَ مقَامي وَخَافَ وَعِيد} سُورَة ابراهيم 13 14 وَقَالَ {كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهمْ وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بِالْبَاطِلِ ليدحضوا بِهِ الْحق فَأَخَذتهم فَكيف كَانَ عِقَاب} سُورَة غَافِر 5 وَقَالَ {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّه واصبروا إِن الأَرْض}

{لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين} سُورَة الاعراف 128 وَقَالَ {وَلَقَد كذبت رسل من قبلك فصبروا على مَا كذبُوا وأوذوا حَتَّى أَتَاهُم نصرنَا وَلَا مبدل لكلمات الله وَلَقَد جَاءَك من نبإ الْمُرْسلين} سُورَة الانعام 34 وَقَالَ {وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله وَالله خير الماكرين} سُورَة آل عمرَان 54 وَقَالَ {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ مستهم البأساء وَالضَّرَّاء وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله أَلا إِن نصر الله قريب} سُورَة الْبَقَرَة 214 وَهَكَذَا اخبار هَذِه الْأمة من السّلف وَالْخلف كالممتحنين من السَّابِقين الاولين وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان مثل الَّذين انْزِلْ الله فيهم الْقُرْآن حَيْثُ قَالَ {وَمَا لكم لَا تقاتلون فِي سَبِيل الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان الَّذين يَقُولُونَ رَبنَا}

{أخرجنَا من هَذِه الْقرْيَة الظَّالِم أَهلهَا وَاجعَل لنا من لَدُنْك وليا وَاجعَل لنا من لَدُنْك نَصِيرًا} سُورَة النِّسَاء 75 وَفِي الْهِجْرَة قَالَ الا الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِك عَسى الله ان يعْفُو عَنْهُم سُورَة النِّسَاء 99 وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابي هُرَيْرَة ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَدْعُو فِي صلَاته اللَّهُمَّ انج عَيَّاش بن ابي ربيعَة وَسلمهُ بن هِشَام اللَّهُمَّ انج الْوَلِيد بن الْوَلِيد اللَّهُمَّ أَنْج الْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف وَفِي الصَّحِيح ايضا فِي حَدِيث الْحُدَيْبِيَة قصَّة ابي جندل بن سُهَيْل بن عَمْرو لما جَاءَ يُوسُف فِي قيوده ورده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اليهم وقصة ابي بَصِير وَغَيرهمَا من الْمُسْتَضْعَفِينَ

وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح عَن سعيد بن زيد انه قَالَ لقد رَأَيْتنِي وان عمر موثقي على الاسلام وَلَو انقض اُحْدُ مِمَّا عملتم بعثمان كَانَ محقوقا ان ينْقض فَهَؤُلَاءِ كلهم اخْتَارُوا الْقَيْد وَالْحَبْس على النُّطْق بِكَلِمَة الْكفْر وَقد اوذى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وابو بكر وَعمر وَغَيرهمَا بأنواع من الاذى بِالضَّرْبِ وَغَيره وصبروا على ذَلِك وَلم ينْطق اُحْدُ مِنْهُم بِكَلِمَة كفر بل قد سعوا فِي قتل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأنواع مِمَّا قدرُوا عَلَيْهِ من السَّعْي وَهُوَ صابر لأمر الله كَمَا امْرَهْ الله تَعَالَى

وان كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اخبر فِي اثناء الامر بَان الله يعصمه من النَّاس فَلم يكن قد اخبر اولا بانه يعْصم من انواع الاذى واما السَّابِقُونَ فَلم يخبروا بذلك وَكَذَلِكَ خبيب بن عدي الَّذِي صلبه الْمُشْركُونَ حِين اخرجوه من الْحرم وَلم يتَكَلَّم بِكَلِمَة الْكفْر وقصته فِي الصَّحِيح لَكِن قد يُقَال ان هَذَا لم يكن قصدهم مِنْهُ ان يعود الى دينهم فَإِنَّهُ كَانَ من الانصار وَكَانُوا يقتلونه بِمن قتل مِنْهُم يَوْم بدر بِخِلَاف اقاربهم وحلفائهم ومواليهم فَإِنَّهُم كَانُوا يحبونهم ويكرمونهم وَلم يَكُونُوا يُرِيدُونَ مِنْهُم الا الْكفْر بعد الايمان وَقد ذمّ الله فِي كِتَابه من يرْتَد ويفتتن وَلَو اكره وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذمه الله بقوله {وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا} سُورَة النَّحْل 106 وَكَذَلِكَ يذم من يتْرك الْوَاجِب الظَّاهِر وَيفْعل الْمحرم الظَّاهِر عِنْدَمَا يُصِيبهُ من الاذى والفتن كَمَا قَالَ {وَلَا يزالون يقاتلونكم} سور الْبَقَرَة 217 الاية كَمَا تقدم

وَقَالَ تَعَالَى {وَمن النَّاس من يعبد الله على حرف فَإِن أَصَابَهُ خير اطْمَأَن بِهِ وَإِن أَصَابَته فتْنَة انْقَلب على وَجهه خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين} سُورَة الْحَج 11 وَقَالَ آلم احسب النَّاس ان يتْركُوا ان يَقُولُوا آمنا وهم لَا يفتنون وَلَقَد فتنا الَّذين من قبلهم فليعلمن الله الَّذين صدقُوا وليعلمن الْكَاذِبين الاية الى قَوْله {وَمن النَّاس من يَقُول آمنا بِاللَّه فَإِذا أوذي فِي الله جعل فتْنَة النَّاس كعذاب الله وَلَئِن جَاءَ نصر من رَبك ليَقُولن إِنَّا كُنَّا مَعكُمْ أَو لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا فِي صُدُور الْعَالمين} سُورَة العنكبوت 1 10 وَقَالَ ام حسبتم ان تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ الْآيَة سُورَة الْبَقَرَة 214 وَقَالَ {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَيعلم الصابرين} سُورَة آل عمرَان 142 وَقَالَ لما ذكر الرِّدَّة الَّتِي اسْتثْنى مِنْهَا الْمُكْره وَقَلبه مطمئن بالايمان وَلَكِن من شرح بالْكفْر صَدرا فَعَلَيْهِم غضب من الله وَلَهُم عَذَاب عَظِيم ذَلِك بِأَنَّهُم استحبوا الْحَيَاة الدُّنْيَا على الاخرة وان الله لَا يهدي الْقَوْم الْكَافرين سُورَة النَّحْل 106

ثمَّ قَالَ {ثمَّ إِن رَبك للَّذين هَاجرُوا من بعد مَا فتنُوا ثمَّ جاهدوا وصبروا إِن رَبك من بعْدهَا لغَفُور رَحِيم} سُورَة النَّحْل 110 نزلت فِي الَّذين فتنهم الْمُشْركُونَ حَتَّى اصابوهم ثمَّ هَاجرُوا بعد ذَلِك وَجَاهدُوا وصبروا فَأخْبر الله انه غفر لَهُم ورحمهم فَعلم ان تِلْكَ الْفِتْنَة كَانَت من ذنوبهم وَذَلِكَ اما لعدم الاكراه التَّام الْمُبِيح للنطق بِكَلِمَة الْكفْر واما لعدم الطُّمَأْنِينَة بِالْإِيمَان فَلَا يسْتَحق صَاحبه الْوَعيد وعَلى من اكره على الْخُرُوج فِي العساكر الظالمة مثل ان يكره المستضعفون من الْمُؤمنِينَ على الْخُرُوج مَعَ الْكَافرين لقِتَال الْمُؤمنِينَ كَمَا اخْرُج الْمُشْركُونَ عَام بدر مَعَهم طَائِفَة من الْمُسْتَضْعَفِينَ فَهَؤُلَاءِ اذا امكنهم ترك الْخُرُوج بِالْهِجْرَةِ اَوْ بغَيْرهَا والا فهم مفتونون وَفِيهِمْ نزل قَوْله تَعَالَى ان الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة ظالمي انفسهم قَالُوا فِيمَا كُنْتُم قَالُوا كُنَّا مستضعفين فِي الارض قَالُوا الم تكن ارْض الله وَاسِعَة فتهاجروا فِيهَا سُورَة النِّسَاء

97 - لأَنهم فعلوا الْمحرم مَعَ الْقُدْرَة على تَركه وَقد روى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَن ابي الاسود قَالَ قطع على اهل الْمَدِينَة بعث فاكتتبت فِيهِ فَلَقِيت عِكْرِمَة فَأَخْبَرته فنهاني اشد النَّهْي ثمَّ قَالَ اخبرني ابْن عَبَّاس ان اناسا من الْمُسلمين كَانُوا مَعَ الْمُشْركين يكثرون سَواد الْمُشْركين على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيأتى السهْم فَيَرْمِي بِهِ فَيُصِيب احدهم فيقتله اَوْ يضْربهُ فيقتله فَأنْزل الله {إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة ظالمي أنفسهم} سُورَة النِّسَاء 97 واما اذا كَانُوا غير قَادِرين على التّرْك بِحَيْثُ لَو لم يخرجُوا لقتلهم الْمُشْركُونَ وَنَحْو ذَلِك فَهَؤُلَاءِ غير مأثومين فِي الاخرة لما روى ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَغْزُو هَذَا الْبَيْت جَيش من النَّاس فَبَيْنَمَا هم ببيداء من الارض اذ خسف بهم فَقَالَت ام

سَلمَة ففيهم الْمُكْره يَا رَسُول الله قَالَ يحشرون على نياتهم وَفِي الصَّحِيح عَن حُذَيْفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ سَتَكُون فتْنَة الْقَاعِد فِيهَا خير من السَّاعِي من تشرف لَهَا تستشرفه فَمن وجد ملْجأ اَوْ معَاذًا فليعذ بِهِ وَفِي رِوَايَة فَإِذا وَقعت فَمن كَانَ لَهُ ابل فليلحق بإبله وَمن كَانَ لَهُ غنم فليلحق بغنمه وَمن كَانَت لَهُ ارْض فليلحق بأرضه فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله أَرَأَيْت ان اكرهت حَتَّى ينْطَلق بِي الى اُحْدُ الصفين يضربني رجل بِسَيْفِهِ ويجئ سهم فَيَقْتُلنِي قَالَ يبوء بإثمه وإثمك وَيكون من اصحاب النَّار

فقد امْر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْهِجْرَةِ الى حَيْثُ لَا يُقَاتل وبإفساد السِّلَاح الَّذِي يُقَاتل بِهِ فِي الْفِتْنَة وَاخْبَرْ ان الْمُكْره لَا اثم عَلَيْهِ وَلما كَانَ الْقِتَال فِي الْفِتْنَة كَانَ قَاتله قَاتلا لَهُ بِغَيْر حق فباء بإثمه واثم صَاحبه واما الْمُكْره الَّذِي يُقَاتل طَائِفَة بِحَق كَالَّذي يكون فِي صف الْكفَّار والمرتدين والمارقين من الاسلام فَلَا اثم على من قَتله بل هُوَ مثاب على الْجِهَاد وان افضى الى قَتله

كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْعَبَّاس اما ظاهرك فَكَانَ علينا واما سريرتك فَإلَى الله وَقد اخرجا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر ان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ اذا انْزِلْ الله بِقوم عذَابا اصاب الْعَذَاب من كَانَ فيهم ثمَّ يبعثون على نياتهم فَهَذَا ايضا دَلِيل على ان الْمُكْره على تَكْثِير سَواد المقاتلين بِغَيْر حق وان اصابة عَذَاب الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يحْشر فِي الاخرة على نياته فَهَذَا كُله يدل على انه لَيْسَ كل مكره على فعل محرم يَأْثَم بِهِ كأشهر الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْعلمَاء وَمن ذَلِك مقَام الْمُسلمين بَين الْمُشْركين مستضعفين وَقد دلّ الْقُرْآن على هَذَا وعَلى هَذَا وَمِنْه استئسار الْمُسلم اذا اكرهه الْكَافِر وَقَالَ ان لم تستأسر والا قتلتك فَإِن دُخُوله فِي اسره محرم لَوْلَا الاكراه وَقد فعل ذَلِك خبيب بن عدي وَغَيره وهم فِي ذَلِك كالمستضعفين

وَقد دلّ على ذَلِك نَص الْقُرْآن بقوله تَعَالَى {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا لتبتغوا عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا وَمن يكرههن فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم} سُورَة النُّور 33 فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الاكراه على الْبغاء فالاكراه على شرب الْخمر واكل الْميتَة دون ذَلِك فان الزِّنَا من اكبر الْكَبَائِر بعد الْقَتْل كَمَا دلّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك عِنْدَمَا سُئِلَ أَي الذَّنب اعظم قَالَ ان تجْعَل لله ندا الحَدِيث الى قَوْله ثمَّ أَي قَالَ ان تُزَانِي بحليلة جَارك ثمَّ قَرَأَ {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون} سروة الْفرْقَان 68 وَمَعْلُوم ان المكرهات من الاماء على الْبغاء كَمَا كَانَ ابْن ابي وامثاله يكْرهُونَ اماءهم على الِاكْتِسَاب بالبغاء لَيْسَ هوان يفعل بهَا بِلَا فعل مِنْهَا بل هُوَ ان تكره حَتَّى تقصد ذَلِك وتفعله وَلِهَذَا سَمَّاهُ بغاء وَذَلِكَ الْقسم لَيْسَ فِيهِ بغاء وَلِهَذَا قَالَ {لتبتغوا عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا} سُورَة النُّور 33 وَذَلِكَ انما يحصل فِي الْعَادة لمن

تفعل لَا بِمن ترْبط حَتَّى يفعل بهَا ولان ذَلِك هُوَ الْعَادة الْمَعْرُوفَة الَّتِي تزل الْقُرْآن عَلَيْهَا فَهَذِهِ الاية فِي فعل الْفَاحِشَة وَتلك الاية فِي الدُّخُول تَحت حكم الْكفَّار وَكِلَاهُمَا من الافعال وَقد روى مُسلم فِي صَحِيحه عَن جَابر قَالَ كَانَ عبد الله بن ابي ين سلول يَقُول لجارية لَهُ اذهبي فابغينا شَيْئا قَالَ فَأنْزل الله تَعَالَى {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء} الاية سُورَة النُّور 33 وَفِي رِوَايَة ان جَارِيَة لعبد الله بن ابي يُقَال لَهَا مُسَيْكَة واخرى يُقَال لَهَا اميمة كَانَ يُرِيدهُمَا على الزِّنَا فشكيا ذَلِك الى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْزل الله هَذِه الاية وَقد ذكر البُخَارِيّ مَا رَوَاهُ اللَّيْث عَن نَافِع ان صَفِيَّة بنت ابي عبيد اخبرته ان عبدا من رَقِيق الامارة وَقع على وليدة من الْخمس فاستكرهها حَتَّى اقتضها فجلده عمر الْحَد ونفاه

وَلم يجلد الوليدة من اجل انه استكرهها وَقَالَ الزُّهْرِيّ فِي الامة الْبكر يفترعها الْحر يُقيم ذَلِك الحكم من الامة الْعَذْرَاء بِقدر ثمنهَا ويجلد وَلَيْسَ فِي الامة الثّيّب فِي قَضَاء الائمة غرم وَلَكِن عَلَيْهِ الْحَد وَهَذِه مَسْأَلَة المستكرهة على الزِّنَا والامة المطاوعة وَالْكَلَام فِي الْمهْر لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه وَذكر مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَاجر ابراهيم بسارة دخل بهَا قَرْيَة فِيهَا ملك من الْمُلُوك اَوْ جَبَّار من الْجَبَابِرَة فَأرْسل اليه ان ارسل الى بهَا فَأرْسل بهَا فَقَامَ اليها فَقَامَتْ تتوضا وَتصلي فَقَالَت اللَّهُمَّ ان كنت آمَنت بك وبرسولك فَلَا تسلط عَليّ الْكَافِر فغط حَتَّى ركض بِرجلِهِ وَمن الْمَعْلُوم ان الَّذين كَانُوا يكْرهُونَ الاماء لم يكن بوعيد الْقَتْل بل بِالضَّرْبِ وَنَحْوه فَإِذا اكرهت الْمَرْأَة اَوْ الصَّبِي على الْفُجُور بِهِ بِمثل ذَلِك {فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم} سُورَة النُّور 33 وَلِهَذَا قيل فِي الْمُطلقَة ثَلَاثًا اذا كتم الزَّوْج طَلاقهَا وَلم يكن

لَهَا حجَّة انها تقيم عِنْده لِأَنَّهَا مُكْرَهَة على ذَلِك وَلَا يحل لَهَا قَتله والمستكرهة على الزِّنَا فِي وجوب الْمهْر فلهَا ان تَأْخُذ مَا اعطاه من مهرهَا وَمن لم يُوجب لَهَا الْمهْر فَهَل لَهَا ان تَأْخُذ ذَلِك اذا اعطته طَوْعًا ام يكون من مهر الْبَغي وانما الاجود اذا لم يحل ذَلِك ان يَأْخُذ مَا يُعْطِيهِ الْفَاجِر ويصرفه فِي مصَالح الْمُسلمين اَوْ يتْركهُ اَوْ فَأَما اذا اخذ الْعِوَض لأجل الْمُسْتَقْبل فَهَذَا مطاوعة اللَّهُمَّ الا اذا كَانَ الاكراه مستمرا وَالْمكْره مُسْتَمر الْكَرَاهَة لما يفعل بِهِ لَا يحملهُ الا مُجَرّد الاكراه وَهَذَا يدْخل فِيهِ من يقهر من المماليك واليتامى وَغَيرهم على الْفَاحِشَة بِهِ وَمن اسره الْعَدو من المسلمات فزنوا بِهن فَإِن مِنْهُم من يكون كَارِهًا لذَلِك تَامّ الْكَرَاهَة لَا يفعل ذَلِك الا مكْرها فَهَذَا لَا يسْتَحق الْعقُوبَة وَمِنْهُم من تَجْتَمِع فِيهِ الرهبة وَالرَّغْبَة فيخاف فِي الِامْتِنَاع من الْعَذَاب وَيُعْطى على المطاوعة الْعِوَض آخر الْجُزْء الثَّانِي وَالْحَمْد لله وَحده وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسَلَامه ثمَّ تكمل فِي النّصْف من شهر صفر سنة سَبْعَة وَعشر وَسَبْعمائة

§1/1