الاستغاثة في الرد على البكري

ابن تيمية

* قال الحافظ ابن كثير: "والمقصود أن الشيخ رد على البكري ونقض أقواله نقضاً أجاد فيه وأفاد، وبيَّن ما فيه من حق وباطل في مجلدة كبيرة، أبطل فيها أنواع الشرك الاعتقادي والعملي وما يتفرع منهما بالأدلة والبراهين القاطعة المقبولة؛ التي تسر أهل السنة وتقرّ أعينهم عند سماعها، وتسوِّد وجوه أهل الأهواء والبدع ويرهقها قتر وذلة، فرحم الله من قبل الحق ونصره، ورد الباطل وخذله وأهله". تلخيص الاستغاثة - لابن كثير (ص 5) هذا الكتاب في الأصل رسالة ماجستير تقدم بها المحقق إلى قسم الثقافة الإسلامية بكلية التربية بجامعة الملك سعود، ونوقشت في الثاني من شهر الله المحرم عام 1417 هـ وبتوفيق الله -تعالى- وفضله أجيزت الرسالة بتقدير ممتاز.

الاسْتغَاثَة في الرَّد عَلَىَ البَكْرِيّ

(ح) مكتبة دَار الْمِنْهَاج للنشر والتوزيع، 1425 هـ فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر ابْن تَيْمِية، أَحْمد بن عبد الْحَلِيم الاستغاثة فِي الرَّد على الْبكْرِيّ/ أَحْمد بن عبد الْحَلِيم ابْن تَيْمِية؛ عبد الله بن دجين السهلي - الرياض، 1425 هـ 510 ص؛ 17 × 24 سم ردمك: 5 - 4 - 9557 - 9960 1 - التَّوْحِيد 2 - الْبدع فِي الْإِسْلَام أ- السهلي، عبد الله بن دجين (مُحَقّق) ب- العنوان ديوي 240 ... 7260/ 1425 جَمِيع حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار الْمِنْهَاج بالرياض الطبعَة الأولى، 1426 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة 1426 هـ، لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطى من الناشر. مكتبة دَار الْمِنْهَاج للنشر والتوزيع المَملكَة العَربيَّة السّعُوديَّة. الرّيَاضِ المركز الرئيسي: طَريق الْملك فَهد/ شمَال الجَوازات هَاتِف 4065553 - فاكس 4083698 - ص ب 51929 الرياض 11553 الْفُرُوع: طَريق خَالِد بن الْوَلِيد (إنكاس سَابقاً) ت 2322095 مَكة المكَرمة - الشامية هَاتِف 5730980

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الرسل والنبيين وعلى آله وصحبه، وبعد: فأحمد الله -تعالى- على ما منَّ به من نِعَمه العظيمة، وأعظمها نعمة الإسلام والتوحيد واتباع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهذه أكبر النِعَم التي لم يوفق لها طوائف من المسلمين، وهذه الطبعة الثانية من كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري"، لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وقد راجعت الكتاب على الأصول الخطية، وعلى المخطوطة الرابعة التي لم تكن كاملة في الطبعة الأولى، وهي مخطوطة المعهد العلمي بحائل، والتي أرمز لها بـ "ح"، وبفضل الله وحده، تم إصلاح بعض المواضع المشكلة، وتصحيح أخرى في هذه الطبعة، كما اختصرت التعليقات والتعريفات، وحذفت بعضها الآخر، ليسهل انتشار الكتاب، ويكون في مجلدة واحدة. وفّق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. د. عبد الله بن دجين السهلي 14/ 6/ 1425 هـ الرياض

مقدمة الطبعة الأولى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، ثم أما بعد: فإنه لا يشك مسلم في، أهمية التوحيد الخالص، وضرورته للبشرية أجمع، فما أرسل الله رسولاً إلا وأمره أن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده وينذرهم الشرك، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، فالشرك خطره عظيم، ومن تأمل القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وجدهما مصرِّحين، ببطلان دين المشركين وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسله، وأنهم أولياء الشيطان وعباده، وأنهم أهل النار الذين لا يخرجون منها، وهم الذين حلت بهم المثلات ونزلت بهم العقوبات. ولذا كانت وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وفي آخر لحظات عمره - صلى الله عليه وسلم -، التحذير من هذا الداء الوبيل، كما أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬1)، وفي رواية: "وصالحيهم"، ولقد كانت الأمة على هذه الوصية الشريفة فى القرون الثلاثة، حتى أصابها ما أصاب الأمم قبلها فظهرت بدعة القبورية (¬2)، أواخر القرن الثالث الهجري، ¬

_ (¬1) انظر: ص 224. (¬2) القبورية -أو عباد القبور-: نسبة للقبور، ويراد بهم: كل طائفة جاوزت الحد =

حين ضعفت دولة بني العباس، لما تفرقت الأمة وكثر فيها الزنادقة، وقد شاعت بين الرافضة أولاً، لما صارت لهم دويلات، كدولة بني بويه، ودويلات الباطنية من العبيدية (¬1) والإسماعيلية (¬2) وغيرهم، حيث نشروا بدع المشاهد والقبور، والعبادة عندها، ودعاء المقبور وغير ذلك. ثم انتشرت في القرن الرابع والخامس وما بعدهما، وسارت الطرق الصوفية على سبيل الرافضة تنشر هذه البدع، وتروِّجها، حتى عمَّت البلوى في كثير من بلاد الإسلام. هذا من ناحية ... ومن ناحية أخرى: لما عُرّبت كتب اليونان الوثنية، عكف عليها من سُمُّوا بفلاسفة الإسلام كالفارابي (ت 339 هـ) (¬3) وابن سينا (ت 280 هـ) (¬4) وغيرهما، فتأثروا بها ونقلوها، وخالفوا طريقة المرسلين، وسايرهم كثير من المتكلمين؛ كالمعتزلة والأشاعرة وغيرهم، فاختلقوا قضايا موهومة؛ ومشاكل أوقعوا أنفسهم فيها، زعماً منهم أنهم دعاة للتوحيد، وحماة لعقائد المسلمين، وحقيقة حالهم لا للفلاسفة كسروا ولا للإسلام نصروا (¬5)، وكانوا سبب تسلط الفلاسفة عليهم وعلى الإسلام، فلم يعرفوا التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام. فمن هذه الطرق الرافضة والفلاسفة والمتكلمين والصوفية الخرافية تسربت البدع القبورية إلى بعض المسلمين وكان من أعظم هذه البدع، بل أمُّ هذه البدع الاستغاثة بالأموات، حتى وصل حال الأمة الإسلامية كما وصفها ¬

_ = في تعظيم المقبور، وقد يكون هذا التعظيم شركاً أكبر أو من وسائل الشرك. ووجدت هذه الطوائف في كثير من الأمم، وسلفهم قوم نوح -عليه السلام- وأول من عُرف بهذا الأمر في الأمة الإسلامية الرافضة في آخر القرن الثالث الهجري. انظر: ص 48 من هذا الكتاب، وكتاب جهود علماء الحنفية، تأليف د. شمس الدين السلفي الأفغاني الطبعة الأولى 1416 هـ الناشر دار الصميعي - الرياض. (¬1) انظر: ص 324. (¬2) انظر: ص 176. (¬3) انظر: ص 320. (¬4) انظر: ص 272. (¬5) مجموع الفتاوى لابن تيمية 16/ 300.

الإمام العلامة الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني (¬1) في قصيدته: أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث ووداً ليس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالواحد الصمد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أُهِلَّت لغير الله جهلاً على عمد وكم من طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن بالأيدي (¬2) نعم هذه حال بعض المنتسبين للإسلام -هداهم الله- يستغيثون بالمقبورين، ويدعونهم من دون الله، ويطوفون بالقبور، ويحجون إليها، ويرون أنهم قد أربوا في الربح على حجاج البيت الحرام. فعزمت أن يكون موضوع رسالتي للماجستير في هذا المجال، تحقيقاً أو موضوعاً. وخلال البحث وجدت أن أغلب من كتب في هذا ينقل أو يحيل إلى كتاب عظيم الفائدة غزير المعنى، قد استوفى المسألة بحثاً وتحقيقاً وتحريراً لإمام من أئمة المسلمين وعَلَم من أعلام السنة النبوية، وهو كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري" للإمام المجدد شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (ت 728 هـ) محيي السنة وقامع البدعة، وهو من أوفى الكتب في هذه المسألة (الاستغاثة بالأموات)، ومن أجلّ الكتب التي نافحت عن العقيدة الصحيحة، ودرأت الشبهات الشيطانية، رد فيه شيخ الإسلام على أحد دعاة القبورية في عصره، وهو علي بن يعقوب البكري (ت 724 هـ). ويمكن إيجاز أهمية الكتاب بما يلي: ¬

_ (¬1) هو أبو إبراهيم عز الدبن محمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني، المعروف كأسلافه بالأمير، مجتهد من بيت الإمامة باليمن، تعرض لمحن من بعض المتعصبين والعوام، له تصانيف نافعة أشهرها "سبل السلام"، توفي -رحمه الله- 1182 هـ ـ انظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، تأليف العلامة محمد بن علي الشوكاني 2/ 133 الطبعة الأولى 1348 هـ مطبعة السعادة القاهرة - مصر، والأعلام 6/ 38. (¬2) انظر: ديوان الأمير الصنعاني، للإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، قدم له وأشرف على طبعه علي السيد صبح المدني ص 129 الطبعة الأولى 1384 هـ مطبعة المدني - القاهرة.

أولاً: إنه أول وأفضل كتاب في الرد على من استغاث بالمقبور، وقضية الاستغاثة بالأموات من أهم موضوعات الخلاف بين دعاة التوحيد ودعاة الشرك، بل هي الركيزة الأساسية في الخلاف، فهو كتاب مهم في موضوع هام. ثانياً: غالب من تكلم في قضية الاستغاثة يرجع إلى هذا الكتاب، ويبلغ النقل أحياناً عدة صفحات متتابعة، ولا يحسن العناية بهذه الكتب دون مصدرها الذي إليه تورد وعنه تصدر. ثالثاً: ندرة الكتاب في المكتبات، مطالبة كثير من أهل العلم بإخراجه مع سوء الطبعة السابقة وكثرة الأخطاء في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وكثرة السقط والتحريف والتصحيف، دون أي خدمة أو معالجة، يقابل ذلك كتب أهل البدعة، التي نراها منتشرة ومحققة، ومطبوعة طباعة فاخرة. رابعاً: على ما في طبعة الكتاب السابقة من تحريف وسقط، ففيها أخطاء علمية كبيرة، منها: عنونة الكتاب بـ "تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري"، وهذا غير صحيح، فكتاب "تلخيص الاستغاثة" غير "كتاب الرد على البكري"، فالثاني أصل، والأول تلخيص له، فكتاب تلخيص الاستغاثة لابن كثير، والرد على البكري لابن تيمية، فبينهما فرق. وهذا الخطأ أدى لأخطاء علمية أخرى، فنقل بعض الباحثين من تلخيص الاستغاثة، وجعل المرجع الرد على البكري (¬1). كما أن في التلخيص نصوصاً لابن كثير لم يذكرها ابن تيمية إطلاقاً، بل في الأصل ما يخالف أحدها، وقد بينت هذا في الكلام على التلخيص (¬2). خامساً: هذا الكتاب كما أنه وضّح أصل بدعة الاستغاثة بالمقبور وبداية وجودها في الأمة الإسلامية، فهو كذلك يعالج كثيراً من البدع المتعلقة بالقبور وغيرها. ¬

_ (¬1) انظر: على سبيل المثال: كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه، تأليف د. عبد الرحمن الفريوائي ص 598، 601 - 605، 613، 620، الطبعة الأولى 1416 هـ الناشر دار العاصمة الرياض، وكتاب الدر النضيد في تخريج كتاب التوحيد، تأليف صالح العصيمي ص 55 الطبعة الأولى 1413 هـ الناشر دار ابن خزيمة - الرياض. (¬2) انظر: ص 85.

سادساً: إنه من مصنفات إمام له قدم راسخ في العلم والفهم، متحرر من ربقة التقليد والتعصب، وهو شيخ الإسلام بحق. لهذه الأسباب وغيرها، اخترت هذا الكتاب "كتاب الاستغاثة في الرد على البكري لشيخ الإسلام ابن تيمية" تحقيقاً ودراسة، وذلك في أطروحة الماجستير، وقد أيد هذا الاختيار أساتذتي في قسم الثقافة الإسلامية. وقد واجهتني بعض الصعوبات عند تسجيل الموضوع وعند العمل فيه، منها: أولاً: إن هذا الكتاب لم يحظ بما حظيت به كتب الشيخ الأخرى من الحفظ والعناية، فقد فُقد منه أوله، وقد بذلت كثيراً من الجهد والوقت في البحث عنه ولم أجد أي ذكر له، ولربما كان هذا سبباً في إعراض كثيرٍ من الباحثين المهتمين بتراث هذا الإمام عن تحقيقه، فأملي من القراء الكرام من وجد شيئاً من ذلك أن يرشدني إليه مشكوراً مأجوراً مجزيّاً من الله خيراً. ثانياً: عدم ذكر فهارس المخطوطات والمصادر العلمية لهذا الكتاب أو أي معلومات عنه إلا فيما ندر، ويدل على ذلك أن جميع النسخ الخطية التي اعتمدت عليها لم ترد في فهرسٍ متداول. ثالثاً: عدم تعاون بعض دور المخطوطات. رابعاً: مع كثرة ما استطعت جمعه من مخطوطات الكتاب إلا أنه وللأسف يوجد فيها سقط وتحريف وتصحيف، وقد أمضيت أوقاتاً طويلة محاولاً إكمال سقط أو إصلاح تحريف؛ أو تصحيف، كما قال بعضهم: "ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفاً، أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ، وشريف المعاني، أيسر عليه من إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام" (¬1). قلت: هذه الصعوبة على الكاتب نفسه، فكيف بغيره مع بُعد الزمن، وقصور الهمم، وقلة البضاعة. ¬

_ (¬1) الحيوان للجاحظ، ت. عبد السلام هارون 1/ 79، ط. الثانية، الناشر مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر.

ومن أهم نتائج هذا البحث، إثبات المؤلف أن الاستغاثة بالأموات قضية مبتدعة لم تعرفها الأمة الإسلامية عدا الشيعة، إلا في نهاية القرن الثالث الهجري، وأن هذه البدعة الشركية بدأت في الأمة بذكر قصص من استغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم صارت إلى ما كان عليه البكري، ومع ذلك لم يستوعب جميع شبهات القبورية. فهذه القضية عند هؤلاء القوم في توسع مطرد. وعملي في الكتاب على قسمين: * القسم الأول: الدراسة: وبتكون من بابين: الباب الأول: ترجمة المؤلف وموقف البكري منه. الباب الثاني: دراسة للكتاب. * القسم الثاني: تحقيق الكتاب: وبين يدي التحقيق وصف للنسخ الخطية ومنهج التحقيق، وقد اعتمدت على أربع نسخ، واستفدت من النسخ الأخرى ثم أعقبت ذلك بالفهارس المختلفة. * منهج التحقيق: جعلت أقدم هذه النسخ وأفضلها هي الأصل، وهي المحفوظة بجامعة أم القرى، وقارنتها بثلاث نسخ أخرى، وهي نسخة المكتبة السعودية التابعة للإفتاء ورمزت لها بحرف "ف"، ونسخة دارة الملك عبد العزيز وأصلها في مكتبة جامعة الملك عبد العزيز بجدة ورمزت لها بحرف "د"، ونسخة المعهد العلمي بحائل ورمزت لها بحرف "ح". وقد عرَّفت بالفرق والمذاهب تعريفاً موجزاً، وترجمت لغير المشهورين من الأعلام، وعزوت الآيات والأحاديث وعلقت على بعض المواضع التي أرى أنها تحتاج إلى تعليق، كل ذلك بقدر الطاقة والاستطاعة مع الاختصار قدر الإمكان.

وبعد، فأشكر الله تعالى وأحمده على ما منّ به ووفَّق، فحقه تعالى أن يذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُعصى، ثم أشكر والديّ اللذين ربَّياني وأحاطاني بعنايتهما ورعايتهما، ثم أقدم الشكر الجزيل لكل من ساهم أو سأل أو ساعد في هذا البحث، وأخص أساتذتي سعادة الأستاذ الدكتور محمد أبو الغيط الفرت المشرف على الرسالة بوافر الشكر والامتنان، على ما بذله من وقت وجهد. وأشكر فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على تفضله وتكرمه بقبول مناقشة هذه الرسالة رغم انشغاله وضيق وقته، كما أشكر سعادة أستاذنا الدكتور رزق بن يوسف الشامي الذي أعطاني من وقته وجهده الكثير، وقد كان مع هذه الرسالة منذ كانت فكرة حتى أصبحت رسالة ليتفضل بمناقشتها، فلهم مني جميعاً وافر الشكر والتقدير، وأسأله تعالى أن يجعل العمل لوجهه خالصاً، وأن ينفع به يوم لا ينفع مال ولا بنون. وحسبي أني بذلت جهدي وطاقتي؛ فإن أصبت فذلك قصدت، والخير أردت، ورجائي ممن يجد ما يفيد الكتاب أن يبعث إليّ مشكوراً. وما أحسن ما قال الشاعر: وإن تجد عيباً فسد الخللا ... فجلَّ من لاعيب فيه وعلا فما كان من صواب فمن الله وحده، هو المانّ به، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله منه. والله وحده هو المعين والهادي إلى سواء السبيل، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد.

القسم الأول: الدراسة

القسم الأول: الدراسة وتتكون من ترجمة مختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية والبكري ودراسة للكتاب

الباب الأول: في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية وترجمة البكري

الباب الأول: في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية وترجمة البكري وفيه فصلان: الفصل الأول: ترجمة مختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية الفصل الثاني: ترجمة البكري وموقفه من ابن تيمية

الفصل الأول: ترجمة مختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية

الفصل الأول: ترجمة مختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من العلماء البارزين، بل لعل تاريخ الإسلام في عصوره الوسطى والأخيرة لم يشهد شخصية أشهر من ابن تيمية، اعترف لها بالفضل الصديق والخصم، وهو أشهر من أن يُعَرَّف به، وقد حظي بتراجم عديدة، مفردة وغير مفردة، كما أن كتبه ورسائله وفتاواه صارت مجالاً خصباً للتأليف والدراسة والنشر والتحقيق، ولم يغفل محققوها وناشروها الترجمة له. ولذلك يصعب حصر المصادر والمراجع التي تناولت حياته بالشرح والتفصيل فما بالك بالإحاطة بحياة هذا الإمام الفذ. لذا سأقتصر على ترجمة مختصرة. * ترجمة موجزة للمؤلف: اسمه ونسبه ومولده ونشأته: هو شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس، أحمد بن العلامة (شهاب الدين أبي المحاسن) عبد الحليم بن (مجد الدين أبي البركات) عبد السلام بن (أبي محمد) عبد الله بن (أبي القاسم) الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني الدمشقي. ولد يوم الاثنين العاشر أو الثاني عشر من ربيع الأول سنة (661 هـ) بحران (¬1)، ولما بلغ من العمر سبع سنين انتقل مع والده إلى دمشق، لسوء أحوال حران وما حولها بعد استيلاء التتار عليها. ¬

_ (¬1) حران: بتشديد الراء، من مدن الجزيرة، قيل: سميت بهاران أخي إبراهيم -عليه السلام- =

* مكانته ومنزلته

وقد نشأ في عائلة اشتهرت بالعلم والمكانة، فجده مجد الدين عبد السلام بن عبد الله من العلماء الأعلام، صاحب التصانيف النافعة التي منها: "المنتقى من أحاديث الأحكام"، "والمجرد في الفقه" وغيرهما. ووالده شهاب الدين أبو المحاسن شيخ حران وحاكمها وخطيبها بعد وفاة والده مجد الدين. وإخوته ثلاثة، وهم: بدر الدين أبو القاسم محمد بن خالد الحراني، وشقيقاه: زين الدين عبد الرحمن بن عبد الحليم، وشرف الدين عبد الله بن عبد الحليم، جميعهم اشتهروا بالعلم والفضل. ففي هذه البيئة العلمية الصالحة كانت نشأة ابن تيمية، وقد بدأ بطلب العلم أولاً على والده وعلماء دمشق، فحفظ القرآن وهو صغير، ودرس الحديث والفقه والأصول والتفسير، وعُرف بالذكاء وقوة الحفظ والنجابة منذ صغره، ثم توسع في دراسة العلوم وتبحر فيها حتى أفتى ودرَّس قبل بلوغ العشرين عاماً، وما لبث أن صار إماماً يعترف له الجهابذة بالعلم والفضل والإمامة، قبل بلوغ الثلاثين من عمره. * مكانته ومنزلته: لقد تبوأ شيخ الإسلام ابن تيمية مكانة عظيمة بين علماء عصره، لأسباب منها: 1 - العلم الغزير، فهو إن درّس أو خطب أو أفتى أو كتب رسالة أو كتاباً في أي فن من الفنون أتى بما يفوق علماء عصره، وما يبهر عقولهم. 2 - بُعده عن المناصب أو أخذ رواتب من الدولة، وكان ذلك عن عزم وتصميم، فلم يتول القضاء أو الإمارة أو غيرها، حتى وهو في السجن لم يأكل من الطعام الذي يُحضر له في السجن. 3 - جهاده في سبيل الله، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ¬

_ = لأنه أول من بناها فعرِّبت فقيل حران، وبها منازل الصابئة الذي يقال لهم: (الحرانيون). فتحها عياض بن غنم سنة 17 هـ لما فتح الجزيرة، وهناك حران الكبرى وحران الصغرى قريتان بالبحرين، وحران أيضاً من قرى حلب. انظر: معجم البلدان، تأليف ياقوت الحموي تحقيق فريد عبد الرحمن الجندي 2/ 271 - 272 رقم 3586، الطبعة الأولى 1410 هـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.

* جهاده وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر

وفضحه أصحاب الحيل الشيطانية، ورده على أهل الأهواء والبدع. * جهاده وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: لقد تميزت حياة ابن تيمية -يرحمه الله- بهذه الميزة العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، والكلام حول هذا الجانب يطول، ولكن نشير إلى مسائل مهمة تتعلق بموضوع هذا الكتاب، وهي التطبيق العملي له، فمن ذلك: 1 - كسره للأصنام والأماكن التي تعظّم من دون الله -تعالى-، قال ابن القيم: "وقد كان بدمشق كثير من الأنصاب، فيسَّر الله -سبحانه- كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين، كالعمود المخلق، والنصب الذي كان بمسجد التاريخ من المصلى يعبده الجهال، والنصب الذي كان تحت الطاحون، الذي عند مقابر النصارى، ينتابه الناس للتبرك به، وكان صورة صنم في نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به، وقطع الله النصب الذي كان عند الرحبة يسرج عنده، وبتبرك به المشركون وكان عموداً طويلاً على رأسه حجر كالكرة، وعند مسجد درب الحجر نصب قد بني عليه مسجد صغير يعبده المشركون يسر الله كسره" (¬1). وله مواقف عظيمة في جهاد التتار والنصارى، وطوائف من ضلَّال المسلمين من الفلاسفة والمتكلمين والرافضة والباطنية والصوفية وغيرهم. وقد فضح هذه الطوائف وبيّن ضلالها بقلمه ولسانه، وجاهدهم بيده. والمطلع على هذا الجانب من حياة الشيخ يكاد يجزم بأنه لم يبق له من وقته فُضلة، وقد حورب وأوذي وسجن مرات في سبيل الله، حتى وافته منيته مسجوناً. ولا تزال بحمد الله ردود الشيخ سلاحاً فعالاً ضد أعداء الحق ودعاة ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن القيم، تحقيق محمد عفيفي 1/ 329 الطبعة الثانية 1409 هـ ـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت، وانظر كتاب: ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم خادمه أحمد الغياني، تحقيق محب الدين الخطيب ص 8 - 12 طبعة 1368 هـ الناشر المطبعة السلفية ومكتبتها القاهرة - مصر، والبداية والنهاية 14/ 38.

* محنته وسجونه

البدع، لأنها تستند على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدي السلف، مع قوة الاستنباط والاستدلال والاحتجاج بالشرع والعقل، مع إنصاف وعدل. وردود الشيخ كما كانت رداً شافياً وقوياً وتقويماً لضلال فرق عصره -رحمه الله- فهي رد على امتداد هذه الفرق في هذا العصر، ولذلك فإن كثيراً ممن قام بالرد على أي فرقة لا بد أنه استفاد من كتابات الشيخ وردوده. * محنته وسجونه: امتحن شيخ الإسلام ابن تيمية محناً عديدة، ما تكاد تنتهي محنة حتى تبدأ محنة جديدة، إلى أن لقي ربه وهو في سجن القلعة بدمشق. ولعل من أعظم أسباب هذه المحن عداء بعض العلماء والقضاة له؛ لمواقفه العظيمة؛ ووجاهته عند الناس؛ وتشرّب كثير منهم بالبدع: من بدع الفلاسفة وأهل الكلام أو القبورية والصوفية، وأول هذه المحن محنته بسبب الفتوى الحموية (¬1)، ثم محنته ومناظرته حول الفتوى الواسطية (¬2)، وهما في تقرير مذهب السلف في الصفات والرد على المتكلمين، لذا لم يكن للصوفية دور بارز فيهما، وإنما كان لبعض رجالاتهم سعي لدى السلطان؛ لامتحان الشيخ مرة بعد أخرى. ثم كان امتحان الشيخ وذهابه إلى مصر وسجنه بالجب ثمانية عشر شهراً، أما محنته مع الصوفية ففي مصر بعد خروجه من السجن وبقائه فيها، كان يتطرق إلى جوانب عقدية تمس أحوال الصوفية وبدعهم؛ فقام نصر ¬

_ (¬1) ملخص هذه المحنة: أن شيخ الإسلام ابن تيمية كتب جواباً سئل عنه من حماة في الصفات، فذكر فيه مذهب السلف، ورجحه على مذهب المتكلمين، فقام عليه بعض الأشاعرة لأنهم يرجحون مذهب المتكلمين، وقد كانت في ربيع الأول سنة 698 هـ. انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة، تأليف د. عبد الرحمن المحمود، 1/ 176 - 178، ط. الأولى 1415 هـ الناشر مكتبة الرشد الرياض. (¬2) وبدأت هذه المحنة في يوم الاثنين الثامن من رجب سنة 705 هـ حين ورد مرسوم من السلطان بأن يسأل الشيخ عن عقيدته، فأحضر الشيخ العقيدة الواسطية والتي كتبت قبل سبع سنين، وقرئت وجرى نقاش حول عدة قضايا، وعقدت مجالس أخرى انتهت لصالح الشيخ. انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة، تأليف د. عبد الرحمن المحمود 1/ 179 - 182.

المنبجي (¬1) وابن عطاء الله السكندري (¬2) -وللبكري دور فيها- بإثارة أتباعهم من المتصوفة، فاجتمع خلق كثير منهم؛ من أهل الخوانق والربط والزوايا واتفقوا أن يشكوا الشيخ إلى السلطان، فطلع منهم خلق كثير إلى القلعة وكانت لهم ضجة شديدة لفتت انتباه السلطان، واستعانوا عليه بالأمراء وغيرهم، وذلك في شوال سنة 707 هـ. فأمر السلطان أن يُعقد له مجلس، فَعُقِد له مجلس يوم الثلاثاء العاشر من شهر شوال سنة 707 هـ، وادعى عليه ابن عطاء بأشياء، فلم يثبت عليه منها شيء، لكنه قال: "لا يستغاث إلا بالله، لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبارة، ولكن يتوسل به، ويستشفع به إلى الله"، فبعض الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شيء، ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة (¬3) أن هذا فيه قلة أدب، فحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة، فقال القاضي: "قد قلت له ما يقال لمثله"، ثم جاء الأمر من الدولة أن يخيّر بين أن يسير إلى دمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس، فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزماً ما شرط، فأجاب أصحابه إلى ما اختاروا جبراً لخواطرهم، ثم لما سافر ليلة 18 شوال من السنة نفسها، رُد من الطريق وقيل: "إن الدولة ما ترضى إلا بالحبس"، فقال القاضي ابن جماعة: "وفيه ¬

_ (¬1) هو: أبو الفتح نصر بن سليمان بن عمر الكبجي المنبجي صوفي له زاوية بالحسينية، كان الجاشنكير يعتقد فيه، وكان يغالي في محبة ابن عربي الصوفي، مات سنة 719 هـ ودفن بزاويته. انظر: ذيول العبر في خبر من غبر، لشمس الدين الذهبي، تحقيق أبو هاجر محمد زغلول 4/ 55 الطبعة الأولى 1405 هـ ـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، والبداية والنهاية 14/ 104. (¬2) هو: أبو الفضل تاج الدين أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله الإسكندري، صوفي شاذلي، من أشد خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية توفي سنة 709 هـ. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر 1/ 275 ترجمة رقم 702، والأعلام للزركلي 1/ 222. (¬3) هو بدر الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني، الحموي الأصل ولي الحكم والخطابة بالقدس، ثم نقل منه إلى قضاء مصر، كان -رحمه الله- ديّناً ورعاً، له تصانيف نافعة منها: "المنهل الروي في الحديث النبوي" وغيره، توفي سنة 733 هـ. انظر: البداية والنهاية 14/ 178، والأعلام 5/ 297.

مصلحة له"، واستناب ابن جماعة بعض القضاة أن يحكموا فيه بالحبس فامتنع أحدهم وتحير الآخر، فلما رأى الشيخ توقفهم في حبسه قال: "أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة"، فأرسل إلى حبس القضاة وأذن له بأن يكون معه من يخدمه، وكان ذلك كله بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولة، فإنه كان قد استحوذ على عقل الجاشنكير (¬1) الذي تسلطن فيما بعد. واستمر الشيخ في الحبس يستفتى؛ ويقصده الناس ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة، ثم عقد له مجلس بالصالحية بعد ذلك كله، ونزل الشيخ بالقاهرة وأكب الناس على الاجتماع به (¬2). فلما كثر اجتماع الناس بالشيخ وترددهم عليه ساء ذلك أعداءه وحصرت صدورهم؛ وصاحب ذلك تسلطن الجاشنكير تلميذ نصر المنبجي، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ينال من الجاشنكير؛ ومن شيخه نصر المنبجي، ويتكلم في ابن عربي وأتباعه. فقرروا أن يسيِّروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفي؛ -في نهاية شهر صفر سنة 709 هـ- ومنعوا أن يذهب معه أحد من أصحابه رجاء أن يقتل، وأقام بثغر الإسكندرية في برج مليح واسع؛ يتردد عليه الناس وقد لحق به أصحابه، وبقي ثمانية أشهر، فلما رجع السلطان الناصر إلى الحكم وقدم مصر في يوم عيد الفطر 709 هـ؛ لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ ابن تيمية من الإسكندرية، فقدم إليه في الثامن من شهر شوال. وبقي الشيخ في القاهرة إلى سنة 712 هـ، حيث خرج لجهاد التتر صحبة ¬

_ (¬1) هو ركن الدين الملك المظفر بيبرس الجاشنكير المنصوري، من سلاطين المماليك، كان من مماليك المنصور قلاوون، وتسلطن في زمن الناصر محمد قلاوون، لما ذهب الناصر للكرك مكرهاً، في سنة 709 هـ، كان يعظم نصر المنبجي الإتحادي، وهذا سبب إيذاء شيخ الإسلام في عهده. انظر: البداية والنهاية 14/ 60 - 61 والأعلام 2/ 79. (¬2) انظر: البداية والنهاية 14/ 49 - 50، والعقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، تأليف الإمام محمد بن أحمد بن عبد الهادي، تحقيق محمد حامد الفقي ص 270 - 272 الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، والكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية، تأليف مرعي الكرمي الحنبلي، تحقيق نجم عبد الرحمن ص 133 الطبعة الأولى 1406 هـ، الناشر دار الغرب الإسلامي بيروت - لبنان.

* مؤلفاته ورسائله

الجيش المصري؛ وقدم دمشق أول ذي القعدة سنة 712 هـ (¬1)، ثم سجن الشيخ وامتحن بسبب فتواه في الطلاق باعتبار الثلاث بكلمة واحدة طلاقاً رجعياً، في الثاني والعشرين من شهر رجب سنة 719 هـ (¬2). ثم كانت أعظم المحن التي مرت على الشيخ وأتباعه، وهي محنته بسبب فتواه في شد الرحال إلى القبور، وقد كُذِبَ عليه فيها وحرِّفت، حتى جاء مرسوم السلطان بإقامته في القلعة في السادس من شهر شعبان سنة 726 هـ، وسجن جماعة من أتباعه وضيِّق عليهم، وعزر جماعة منهم على دواب، ونودي عليهم، ثم أطلقوا؛ سوى ابن القيم الذي حبس في القلعة، ثم أخرج ما عند الشيخ من الكتب بأمر السلطان، وصار يكتب رسائله بالفحم، فكان ذلك من أعظم المصائب عليه (¬3) حتى مات -يرحمه الله- في الحبس. ولا يخفى دور الصوفية والرافضة في هذه المحنة، وقد انتصر له كثير من العلماء: من علماء الشام وبغداد وغيرهم، وكتبوا بما يوافق قوله في المسألة (¬4)، وكان له -رحمه الله- دور إيجابي في هذه المحن، من الثبات على الحق وتحويل جو المحنة إلى خدمة المبدأ الذي يدعو إليه (¬5). * مؤلفاته ورسائله: كتب ابن تيمية ورسائله كثيرة جداً يصعب حصرها والإحاطة بها، وقد ضاع بعضها، وفقدت أجزاء من بعضها الآخر -مثل كتاب الاستغاثة-، لأن هذه المحن التي مر بها هو وأتباعه لا بد أن تنال كتبه ورسائله، وقد وصل الأمر إلى أن يخاف أتباعه أن يظهروا كتبه (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: البداية والنهاية 14/ 73 والعقود ص 278 والكواكب ص 135. (¬2) انظر: البداية والنهاية 14/ 72 والعقود ص 325 وما بعدها، والكواكب ص 146. (¬3) انظر: البداية والنهاية 14/ 146. (¬4) انظر: العقود الدرية 342 وما بعدها، والكواكب 159. (¬5) انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة تأليف د. عبد الرحمن المحمود 1/ 194 - 196. (¬6) انظر: العقود الدرية ص 64.

ونقصر الكلام هنا على بعض مؤلفاته التي أفردها في الاستغاثة والتوسل وبدع القبور، منها: 1 - رسالة الاستغاثة: وهي جواب مختصر في حكم الاستغاثة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد طبعت عدة طبعات (¬1)، وهذه الرسالة هي الأساس لكتابنا الذي نحن بصدد دراسته وتحقيقه، فقد رد البكرى على هذه الرسالة فرد عليه ابن تيمية بهذا الكتاب. ونقل ابن تيمية غالب هذه الرسالة في كتابه قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (¬2)، وفي هذا الكتاب أيضاً (¬3)، وقد كتبها سنة 711 هـ في مصر قال: "وكنت وأنا بالديار المصرية في سنة 711 هـ قد استُفتيتُ عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ... " (¬4). 2 - رسالة أخرى: وهي جواب عن سؤال أطول من السؤال السابق، ويظهر أن السائل من تلاميذ ابن تيمية، ويشير إلى كلام البكري دون ذكر اسمه، ويذكر أقواله مثل: "تكفير من منع الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -"، وفي السؤال أيضاً بعض أقوال ابن تيمية من كتاب الرد على البكري. وقد أجاب الشيخ على السؤال أيضاً دون ذكر للبكري، ولكن يظهر من ألفاظ الجواب وكأنها مختصرة من هذا الكتاب، ولم يذكر لها عنواناً أو تاريخ تأليف، ولكن من المؤكد أنها بعد الرسالة السابقة وردِّ البكري عليها (¬5). ¬

_ (¬1) طبعت ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد 1/ 108 - 113 طبعة 1412 هـ الناشر دار عالم الكتب الرياض - السعودية، وطبعت مستقلة بعناية محمود إمام منصور (الناشر مكتبة الصحابة بطنطا). (¬2) ص 244 بتحقيق ربيع هادي المدخلي، الطبعة الأولى 1412 هـ، الناشر لينة دمنهور. (¬3) ص 196. (¬4) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 244. (¬5) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 101 - 107.

3 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: وهذا الكتاب من أهم كتب شيخ الإسلام في هذه القضية، وغالبه عن التوسل: أنواعه، وحكم كل نوع وأدلته، ورد على أدلة المخالفين له، والفرق بين التوسل والاستغاثة والشفاعة والدعاء وما بين هذه الأنواع من الفروق، وغير ذلك، وكما سبق فقد ضمنه أجزاء من رسالة الاستغاثة. وقد ألفه بالشام بعد سنة 712 هـ لقوله: "وكنت وأنا بالديار المصرية في سنة 711 هـ" (¬1). ويلاحظ أن كثيراً من القضايا التي أوردها المؤلف في هذا الكتاب، أوردها في كتاب الاستغاثة في الرد على البكري مختصرة جداً (¬2)، وقد جائت في التلخيص أيضاً مخنصرة (¬3). 4 - كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري" وهو كتابنا الذي نحن بصدده. 5 - "قاعدة في التوسل": وهي، غير الكتاب السابق، محفوظة في المكتبة الظاهرية ضمن مجاميع في 16 ورقة، وله نسخة في الجامعة الإسلامية برقم 1052 (¬4). 6 - وكتاب "الرد على الأخنائي": وهو في الرد على القاضي تقي الدين المالكي، في مسألة شد الرحال، وقد طبع عدة مرات، وهو آخر كتبه التي ألفها (¬5). ¬

_ (¬1) قاعدة جليلة ص 244. (¬2) مثل الحكاية المنسوية عن مالك، انظر: قاعدة جليلة ص 147 وما بعدها. وص 264 من هذا الكتاب، وحديث الأعمى. انظر: ص 189 من قاعدة جليلة وص 257 من هذا الكتاب. (¬3) انظر: ص 5، 25، 28، 33، 69، 118 - 121. (¬4) انظر مقدمة: مسألة في الكنائس لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق علي الشبل ص 73 الطبعة الأولى 1416 هـ، الناشر مكتبة العبيكان الرياض - السعودية. (¬5) وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، وقام الشيخ أحمد العنزي بتحقيق هذا الكتاب رسالة ماجستير في جامعة الملك سعود وطبع.

* وفاته

7 - وكتاب "الجواب الباهر في زوار المقابر": كتبه للسلطان في زيارة القبور وما كُذبَ عليه فيها، وهو مطبوع ضمن مجموع الفتاوى، وله طبعة مستقلة في مجلد. 8 - "ومختصر الأخنائية": وهو مختصر الرد على الأخنائي، وهو مطبوع ضمن مجموع الفتاوى. وله رسائل وأجوبة صغيرة أخرى في هذا الموضوع. * وفاته: توفي الشيخ -يرحمه الله- وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق ليلة الاثنين 20 من شهر ذي القعدة سنة 728 هـ، أثر مرض ألم به أياماً يسيرة. وقد اعتبر المؤرخون جنازة ابن تيمية من الجنائز المشهورة النادرة، فيشبهونها بجنازة الإمام أحمد بن حنبل. وقد هبَّ كل أهل دمشق ومن حولها للصلاة عليه وتشييع جنازته -رحمه الله- وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء (¬1). ¬

_ (¬1) مصادر الترجمة: المراجع التي ترجمت لابن تيمية كثيرة جداً، ولتقصيها تححّاج إلى مؤلف مستقل، أذكر منها: 1 - الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، تأليف عمر بن علي البزار ص 16 وما بعدها، بتحقيق زهير الشاويش الطبعة الثالثة 1400 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 2 - ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية بقلم خادمه أحمد الغياني، ص 7 وما بعدها. 3 - العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، تأليف الحافظ محمد بن عبد الهادي. 4 - ذيول العبر في خبر من غبر للذهبي، تحقيق أبو ماهر محمد زغلول 4/ 84. 5 - البداية والنهاية لابن كثير، وقد ذكره في مواضع عديدة منها 14/ 40 - 43، 56، 126، 148 وغيرها. 6 - الوافي بالوفيات، تأليف صلاح الدين الصفدي الطبعة الثانية عناية س. ديدرنيغ 5/ 15 وما بعدها. 7 - كتاب الذيل على طبقات الحنابلة، تأليف زين الدين عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد الدمشقي المعروف بابن رجب، تصحيح محمد حامد الفقي 2/ 387 وما بعدها طبعة 1372 مطبعة السنة المحمدية القاهرة. =

الفصل الثاني: ترجمة البكري وموقفه من شيخ الإسلام ابن تيمية

الفصل الثاني: ترجمة البكري وموقفه من شيخ الإسلام ابن تيمية تضن المصادر علينا بترجمة البكري، وأغلب من ترجم له ذكره باختصار شديد، حتى ذكره الذهبي والسيوطي في ثلاثة أسطر فقط (¬1)، ويظهر أنه كان ¬

_ = 8 - المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، لبرهان الدين إبراهيم بن مفلح، تحقيق د. عبد الرحمن العثيمين 1/ 89 وما بعدها الطبعة الأولى 1410 هـ ـ الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. 9 - الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية، تأليف الإمام مرعي الكرمي الحنبلي ص 51 وما بعدها. 10 - الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، تأليف مرعي الكرمي الحنبلي، تحقيق نجم عبد الرحمن ص 23 وما بعدها الطبعة الأولى 1404 هـ، الناشر دار الفرقان عمان الأردن ومؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 11 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، تأليف جمال الدين ابن تغري بردي 9/ 271 - 272 طبعة دار الكتب المصرية 1361 هـ. 12 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تأليف ابن حافظ ابن حجر العسقلاني 1/ 144 وما بعدها ترجمة رقم 409. 13 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، للعلامة الشوكاني 1/ 63. 14 - شذرات المذهب في أخبار ما ذهب، تأليف عبد الحي بن العماد الحنبلي الطبعة الثانية 1402 هـ الناشر دار الغرب بيروت - لبنان 6/ 80. 15 - فهرس الفهارس والإثبات، تأليف عبد الحي الكتاني عناية د. إحسان عباس 1/ 274 وما بعدها طبعة دار الغرب الإسلامي بيروت. 16 - شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين، جمع صلاح الدين المنجد ص 64 الطبعة الأولى 1967 م، الناشر دار الكتاب الجديد بيروت - لبنان. وتراجمه -رحمه الله- كثيرة لو استرسلت في ذكرها لطال بنا المقام، وفيما ذكر كفاية -إن شاء الله-. (¬1) ذيول العبر للذهبي 4/ 69 - 70، وحسن المحاضرة لجلال الدين السيوطي 1/ 423 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة الأولى 1387 هـ طبعة عيسى البابي الحلبي.

1 - اسمه ونسبه ومولده

مغموراً لم يُعرف إلا بسبب رد شيخ الإسلام ابن تيمية عليه. وهذا مصداق ما ذكره السلف عن أهل البدع، قال: أبو بكر بن عياش -لما قيل له أن بالمسجد أقواماً يجلسون ويجلس إليهم الناس-، فقال: "من جلس للناس جُلس إليه، ولكن أهل السنة يموتون ويبقى ذكرهم، لأنهم أحيوا بعض ما جاء به الرسول فكان لهم نصيب من قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشرح: 4]، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم، لأنهم شانوا بعض ما جاء به الرسول فبترهم الله فكان له نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر: 3] " (¬1) قلت: صدق والله، وترجمة البكري خير مثال على ذلك. 1 - اسمه ونسبه ومولده: هو أبو الحسن نور الدين علي بن يعقوب بن جبريل بن عبد المحسن البكري الشافعي المصري، ينتهي نسبه إلى عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ولد سنة 673 هـ. 2 - شيوخه وآثاره العلمية: قال مترجموه: "هو الإمام الفقيه الزاهد"، سمع مسند الشافعي على وزيرة بنت المنجا. ومن شيوخه ابن الجزري (¬2) الذي نهى تلميذه البكري وأنكر عليه رده على ابن تيمية، وقال له: "أنت لا تحسن الكلام"، وابن الرفعة (¬3) الذي أوصاه أن يكمل شرح الوسيط، والمسمى المطلب، ولم يتفق ¬

_ (¬1) تلخيص كتاب الاستغاثة ص 76. (¬2) هو أبو عبد الله شمس الدين محمد يوسف الجزري، ولد سنة 637 هـ بالجزيرة وسافر إلى مصر، ولّى خطابة جامع القلعة ثم جامع ابن طولون، من فقهاء الشافعية له شرح منهاج البيضاوي، توفي في ذي القعدة سنة 711 هـ وقيل 716 هـ والصواب 716 هـ، لأن الحادثة التي يشير إليها شيخ الإسلام حدثت بعد 712 هـ. انظر: شذرات المذهب 6/ 42 والدرر الكامنة 4/ 299 رقم الترجمة 830 وحسن المحاضرة 1/ 544 والأعلام 7/ 151. (¬3) هو نجم الدين أحمد بن محمد بن علي الأنصاري يعرف بابن الرفعة، فقيه شافعي، كان محتسب القاهرة وناب في الحكم، له كفاية النبيه في شرح التنبيه، والمطلب وغيرهما، توفي سنة 710 هـ. انظر: البداية والنهاية 14/ 66 والأعلام للزركلي 1/ 222.

3 - مذهبه الفقهي

للبكري ذلك، لما كان يغلب عليه من التّجلي (¬1) والانقطاع، وله كتاب في "البيان" وآخر في "تفسير سورة الفاتحة" وكتاب "الأحكام"، لم أجد منها شيئاً سواء كان مخطوطاً أو مطبوعاً، وله فتوى في تكفير ابن عربي قبحه فيها ولعنه (¬2)، وابن عربي أهل للتقبيح والتكفير. ولم أجد من ذكر له تلاميذ، فلعله لم يجلس للتدريس أصلاً، فهو ليس أهلاً لذلك، وبجمع أقواله إلى بعضها يصدق قول شيخه فيه: "إنه لا يحسن الكلام"، ففيها ركاكة العبارة، وضعف الأسلوب، ولذلك فهو ليس من العلماء، بل لديه نوع مشاركة في بعض العلوم. ومن أثنى عليه فإنما نظر إلى جانب جميل في البكري وهو التديّن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشجاعة فيما يرى أنه الحق، ولكن يفسد عليه هذا كله، سوء الاعتقاد، ومصادمة أصول الإسلام العظام في الدعوة لعبادة القبور من دون الله -تعالى-. 3 - مذهبه الفقهي: البكري شافعي المذهب أورده السبكي والإسنوي في طبقات الشافعية، والعبادي في ذيل طبقات الفقهاء الشافعيين، إلا أنه لا يوجد له أي أثر في المذهب. 4 - عقيدة البكري: البكَري صوفي قبوري؛ كما هو واضح فيما نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، يدافع عن أقوال الصوفية ويعظمها، اتلدعو إلى تعظيم القبور ¬

_ (¬1) التجلي عند الصوفية وهو: ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب، وإنما جمع الغيوب باعتبار تعدد موارد التجلي، فإن لكل اسم إلهي بحسب حيطته ووجوهه تجليَّات متنوعة. ثم ذكر الجرجاني أمهات الغيوب وجعلها سبعة. انظر التعريفات للجرجاني ص 51 باب التاء. (¬2) انظر: جزء في عقيدة ابن عربي وحياته من كتاب العقد الثمين لتقي الدين الفاسي، عناية علي حسن عبد الحميد ص 34 الطبعة الثانية 1413 هـ الناشر دار ابن الجوزي الدمام - السعودية.

5 - طريقة البكري الصوفية

ودعاء المقبورين من دون الله -تعالى-، بل يكفر ويرمي بالزندقة كل من يرد عليه ضلاله؛ كما فعل مع شيخ الإسلام ابن تيمية، ويرى مثل سلفه الأقدمين أن إنكار بدع القبورية مؤذن بالهلاك، كما قال تعالى عن سلفه قولهم لإبراهيم -عليه السلام- لما نهاهم عن الشرك: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} [الأنعام: 80 - 81]. فقد قال البكري: (لقد خشيت على كثير من أهل الإقليم بسبب تقاعدهم عن نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -) (¬1)، وهذه عادة عباد القبور في كل عصر ومصر، وقد برأه شيخ الإسلام ابن تيمية من القول بالحلول والاتحاد (¬2)، وهذا من عدله -رحمه الله- وإنصافه. ومع صوفيته وقبوريته فقد أغفله الشعراني في طبقاته، ولم أجد له ذكراً في المصادر الصوفية، ولعل تكفيره ابن عربي شيخ الصوفية الأكبر هو السبب في إغفاله. وأما اعتقاده في الأسماء والصفات والقدر فليس له كلام واضح فيها، ولكنه يرى بعض آراء الأشاعرة، فهو يرى أن التوحيد هو توحيد الربوبية فقط (¬3)، وينكر السببية (¬4)، ويقول بالجبر (¬5)، وغير ذلك. 5 - طريقة البكري الصوفية: ما وصلنا عن الرجل يظهر أنه لا ينتسب إلى طريقة معينة، وأما بعض الطرق الصوفية التي يطلق عليها اسم البكرية، فلم أجد من نسبه إلى أي منها، وهما: الأولى: "البكرية" وتنسب إلى عماد الدين عبد الرحمن بن محمد البكري ¬

_ (¬1) تلخيص الاستغاثة ص 142. (¬2) انظر: ص 177. (¬3) انظر: ص 164. (¬4) انظر: ص 195 - 196. (¬5) انظر: ص 168.

6 - منهج البكري في التكفير

الصقلي (ت 380 هـ) (¬1) وقد رد عليه الإمام ابن أبي زيد القيرواني الأندلسي (¬2) (ت 386 هـ)، في كتابيه "كشف التلبيس في الرد على البكرية"، و"الاستظهار في الرد على البكرية"، ومما أنكر عليه ابن أبي زيد الغلو في كرامات الأولياء، مثل: قلب الأعيان، ورؤية الله في اليقظة. وقد ورد اسم هذه الطائفة في بعض المصادر "الفكرية" (¬3)؛ والصواب البكرية. الثانية: الطريقة البكرية الصوفية المعاصرة الموجودة في مصر وغيرها، وإن كان رؤساء الطريقة ينتسبون إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، وأبو بكر بريء من ضلالهم وإفكهم كما ينتسب البكري، وقد ذكر رؤساء الطائفة ممن ينسب للصديق - رضي الله عنه - محمد توفيق البكري في كتابه "بيت الصديق" ولم يذكر علي بن يعقوب البكري (¬4). 6 - منهج البكري في التكفير: التكفير حق لله -تعالى- فلا يكفر إلا مَنْ كفره الله ورسوله، أما التكفير عند البكري فحاله كحال المبتدعة يبتدعون البدعة ويكفرون من خالفهم فيها، ¬

_ (¬1) هو عماد الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله البكري الصقلي، متصوف مالكي المذهب، له "الأنوار في علم الأسرار" توفي سنة 380 هـ. انظر: الأعلام للزركلي 3/ 225. (¬2) هو أبو محمد عبد الله بن أبي زيد (عبد الرحمن) القيرواني المالكي، عالم أهل المغرب، يقال له: مالك الصغير، كان -رحمه الله- على طريقة السلف في الأصول (الاعتقاد)، لا يدري الكلام ولا يتأول. ذا بر وإيثار وإنفاق على الطلبة، ولما ألف الاستظهار والكشف شنع عليه الصوفية وغيرهم، وأشاعوا أنه ينفي الكرامات، وهو لم يقل بذلك وله غيرهما "الرسالة" المشهورة، وكتاب "الإقتداء بأهل السنة" وغيرها، توفي -رحمه الله- سنة 386 هـ. انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض 6/ 215 وما بعدها، والسير للذهبي 17/ 10 رقم 4. (¬3) انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض تحقيق سعيد أعراب 6/ 218 ط الأولى مطبعة فضالة المحمدية المغرب، ومعالم الإيمان في معرفة أهل القيروان تصنيف عبد الرحمن الأنصاري، وأكمله أبو القاسم التنوخي، تحقيق محمد ماضور 3/ 111، وتراجم المؤلفين التونسيين تأليف محمد محفوظ 2/ 444 طـ الأولى دار الغرب الإسلامي. (¬4) انظر: بيت الصديق، تأليف محمد بن توفيق البكري طبعة 1323 هـ مكتبة المؤيد القاهرة، والكتاب كله ترجمة لرؤساء هذه الطائفة.

7 - مواقفه مع شيخ الإسلام ابن تيمية

وأقوال البكري في هذه المسألة تبنى على ما سبق ذكره في آثاره العلمية، فهو ليس من الراسخين في العلم، ولذلك نجده يكيل الكفر والزندقة والسب لشيخ الإسلام ابن تيمية كيلاً لا لسبب شرعي، كما نجده أيضاً يكفر ابن عربي محيي الدين ويلعنه، وابن عربي أهل لذلك، فهل تكفير البكري مبني على أسس شرعية؟ أم حسب الهوى؟ ومن خلال دراسة أقواله يظهر أنه يكفر من خالفه مهما كانت هذه المخالفة صواباً أو خطأ. 7 - مواقفه مع شيخ الإسلام ابن تيمية: آذى البكري شيخ الإسلام ابن تيمية بالقول والعمل، أما القول فقد رماه بالزندقة، قال: (إن المجيب -أي ابن تيمية- لا يثبت على تأويل، وإنما يذهب إليه عند الخوف زندقة منه على ما علمته)، وأحياناً يصل إلى حد التكفير (¬1). واستعدى السلطان في عصره على شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (لقد خشيت على كثير من أهل الإقليم بسبب تقاعدهم عن نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإهلاكة وإهلاك أمثاله خصوصاً أهل الدولة وأصحاب الحكم) (¬2). ولكن جعل الله كيده في نحره وسلط الله السلطان عليه، وسلم الله أهل العلم والإيمان. وأما بالعمل فقد كان من أشد الصوفية على شيخ الإسلام ابن تيمية، ففي محنته معهم عام 707 هـ عندما ادعوا عليه أنه يمنع الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض الحاضرين: [يعزر]، قال البكري: "لا معنى لهذا القول، فإنه إن كان تنقيصاً يقتل، وإن لم يكن تنقيصاً [لا يعزر] " (¬3). وفي رجب، وقيل شعبان سنة 711 هـ تعصب على شيخ الإسلام ابن تيمية جماعة من الغوغاء معهم البكري نور الدين وتفردوا به وضربوه، وقد استفرد البكري بالشيخ ووثب عليه، ونتش أطواقه (¬4) وقال: "احضر معي إلى ¬

_ (¬1) انظر: ص 388 من أصل الكتاب. (¬2) تلخيص الاستغاثة ص 142. (¬3) الدرر الكامنة 1/ 155، وفي الأصل يعذر، وبالهامش صوابه يعزر، وقد انفرد بذكر هذا الموقف للبكري ابن حجر في الدرر الكامنة. (¬4) أطواق مفردها الطَّاق، وهو نوع من الملابس وهو الطيلسان، وقيل: الطيلسان =

8 - موقف البكري مع السلطان (الملك الناصر محمد بن قلاوون)

الشرع، فلي عليك دعوى"، فلما تكاثر الناس انملص، فطُلب -أي البكري- من جهة الدولة فهرب واختفى، وثار بسبب ذلك فتنة، وحضر جماعة كثيرة من الجند وغيرهم إلى الشيخ لأجل الانتصار له، فلم يجبهم، وقال: "أنا ما أنتصر لنفسي". وأكثروا عليه في القول حتى قال لهم: "إما أن يكون الحق لي، أو لكم أو لله، فإن كان الحق لي فهم في حل، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني فلا تستفتوني؛ وافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه كما يشاء ومتى شاء"، ولما طلبت الدولة البكري هرب واختفى عند شيخ الإسلام ابن تيمية لما كان مقيماً في مصر حتى شفع فيه عند السلطان وعفى عنه (¬1). فانظر نبل موقف ابن تيمية، وموقف البكري منه، قابل العفو والصفح بالظلم والعدوان، والشفاعة له باستعداء الدولة والسلطان. 8 - موقف البكري مع السلطان (الملك الناصر محمد بن قلاوون): في النصف من المحرم سنة 714 هـ بلغ البكري أن النصارى قد استعاروا من قناديل جامع عمرو بن العاص بمصر شيئاً؛ وعلقوه في كنيسة، فأخذ معه طائفة كبيرة من الناس وهجم على الكنيسة والنصارى في المجمع ونكل بهم؛ وبلغ منهم مبلغاً عظيماً، وعاد إلى الجامع وأهان قوّمته وأكثر الوقيعة في خطيب الجامع، فبلغ السلطان فأمر بإحضار القضاة وفيهم ابن الوكيل (¬2)؛ وأحضر البكري فتكلم ووعظ وذكر آيات من القرآن وأحاديث، واتفق أنه أغلظ في العبارة للسلطان، ثم قال: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" (¬3) ¬

_ = الأخضر. انظر: لسان العرب لابن منظور 10/ 233 كلمة طوق، الطبعة الأولى 1410 هـ الناشر دار صادر بيروت - لبنان. (¬1) انظر: البدابة والنهاية 14/ 76 والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 400 والعقود الدرية ص 286 والكواكب الدرية ص 139. (¬2) هو صدر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد المعروف بابن المرحل، وبابن الوكيل، شيخ الشافعية في زمانه، كان ينصب العداوة لابن تيمية، توفي سنة 716 هـ، انظر: ذيول العبر في خبر من غبر للذهبي 4/ 45 والبداية والنهاية لابن كثير 14/ 87 - 88. (¬3) أخرجه أبو داود في السنن في (كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي) 4/ 514 رقم =

فقال له السلطان -وقد اشتد غضبه-: أنا جائر؟ قال: "نعم، أنت سلطت الأقباط على المسلمين وقويت دينهم"، فلم يتمالك السلطان نفسه أن أخذ السيف وهمَّ بالقيام ليضربه، فبادر بعض الأمراء وأمسك يده، فالتفت إلى ابن مخلوف وقال: "يا قاضي يتجرأ علي هذا، ما الذى يجب عليه"، قال: "لم يقل شيئاً يوجب العقوبة"، فصاح السلطان بالبكري: اخرج عني، فقام وخرج، فقال ابن الوكيل: "ما كان ينبغي أن يغلظ ويتكلم برفق"، فأعجب السلطان، فقال ابن جماعة: "قد تجرأ وما بقي إلا أن يزاحم السلطان"، فانزعج السلطان وقال: "اقطعوا لسانه"، فبادر الأمراء ليفعلوا ذلك بالبكري، فارتعد وصاح واستغاث بالأمراء فرقّوا له؛ وألحوا على السلطان في السؤال في أمره؛ والشفاعة فيه حتى رق له، وأمر بنفيه ومنعه من الفتوى، ودخل ابن الوكيل على السلطان وهو يبكي وينتحب، فظن السلطان أنه أصابه شيء، فقال له: "خير خير"، فقال: "البكري عالم صالح (¬1) لكنه ناشف الدماغ"، قال: "صدقت" وسكن غضبه (¬2). وقال الذهبي: "وأراد قطع يده لفتاويه" (¬3). قلت: لعل الذهبي يقصد حادثة غير هذه الحادثة، فقد انتقد شيخ الإسلام ابن تيمية فتوى للبكري في بيت المال (¬4)، ولم أجد من ذكر هذه الفتوى. ¬

_ = 4344 عناية د. بدر الدين جنتن آر الطبعة الثانية 1413 هـ، الناشر دار سحنون - تونس، والترمذي في الجامع في (كتاب الفتن، باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) 4/ 471 رقم 2174 ولفظهما: " ... كلمة عدل ... "، قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. أ. هـ. عناية د. بدر الدين جنتين آر الطبعة الثانية 1413 هـ، الناشر دار سحنون - تونس، وابن ماجه في السنن في (أبواب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2/ 383 رقم 4060 ورقم 4061 تحقيق د. محمد الأعظمي، الطبعة الأولى 1403 هـ الناشر شركة الطباعة العربية السعودية الرياض - السعودية، والإمام أحمد في المسند 3/ 19، 4/ 314، 315 واللفظ له، عناية د. بدر الدين جنتن آر الطبعة الثانية 1413 هـ، الناشر دار سحنون - تونس وصححه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته 1/ 248 رقم 1100 أشرف على طبعه زهير الشاويش الطبعة الثانية 1406 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. (¬1) هذا وصف ابن الوكيل للبكري. (¬2) الدرر الكامنة 1/ 157. (¬3) ذيول العبر 4/ 70. (¬4) انظر: ص 394 من هذا الكتاب.

9 - وفاته وشعره

وقد كتب ابن تيمية في الرد على البكري ثم شغل عن إكمال الرد عليه؛ حتى حصل له هذا الموقف للبكري مع السلطان؛ يقول ابن تيمية: "كنت قد أجبت عن كلامه إلى هذا الموضع، واتفقت أمور شغلتني عن تمام ذلك حتى أنزل الله بأسه بهذا الجاهل الظالم وحزبه الجاهلين الظالمين، وكانوا في ذلك نظير المستفتحين من المشركين، وهذا الوعيد الذي ذكره في كلامه به وبأحزابه أليق؛ وهم به أحق، وهكذا فعل الله -تعالى- بهم حيث عاقبه وحزبه عقوبة المعتدين الظالمين، عقوبة لم يعاقب بها أحداً من أشكالهم" (¬1). من هذه المواقف يظهر جلياً أن البكري اتصف بالحدة والغلظة مع كل من خالفه، وبسط لسانه في الإنكار دون حكمة ودون روية، وصفه ابن حجر: "بأنه أكثر القلاقل" (¬2). ومع هذا فالبكري ديّنٌ متعفف طارح للتجمل. 9 - وفاته وشعره: تنقل بأعمال مصر حتى توفي يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر سنة 724 هـ، ودفن بالقرافة (¬3) قال ابن كثير: وكانت جنازته مشهورة غير مشهودة. * من شعره -عفا الله عنا وعنه-: كن يا علي على الطريق الأقوم ... واذعن لخلاق (الأنام) (¬4) وسلم ودع الهوى والنفس عنك بمعزل ... والوجه منك أقم لدين قيم (¬5) ¬

_ (¬1) تلخيص الاستغاثة ص 142 - 143، وانظر: ص 391 من هذا الكتاب. (¬2) الدرر الكامنة 1/ 141. (¬3) القرافة: خطة بفسطاط من مصر كانت لبني غصن بن سيف بن وائل من المعافر، وقرافة بطن المعافر نزلوها فسميت بهم، وهي مقبرة أهل مصر، وبها أبنية ومحال واسعة ومشاهد على القبور. انظر: معجم البلدان 4/ 359 - 360 رقم 9480، وهذه المشاهد حصلت في العصور المتأخرة. (¬4) في هامش طبقات السبكي 10/ 371: (العباد). (¬5) مصادر الترجمة: 1 - طبقات الشافعية الكبرى، تأليف تاج الدين عبد الوهاب السبكي 10/ 370 - 371، تحقيق عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي، الطبعة الأولى طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 2 - طبقات الشافعية لجمال الدين عبد الرحيم الإسنوي 1/ 288، تحقيق عبد الله الجبوري، طبعة دار العلوم 1401 هـ. 3 - ذيول العبر للذهبي 4/ 69 - 70. 4 - والبداية والنهاية لابن كثير 14/ 76، 125. 5 - ذيل طبقات الفقهاء الشافعيين للعبادي 3/ 197 تحقيق د. أحمد عمر هاشم، ود. محمد زينهم طبعة المكتبة الثقافة الدينية بورسعيد - مصر. 6 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر 3/ 139 - 141 رقم الترجمة 321. 7 - شذرات المذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي 6 - 64، حسن المحاضرة للسيوطي 1/ 423. 8 - البدر الطالع للشوكاني 1/ 502، الأعلام للزركلي 5/ 32 - 33، معجم المؤلفين تأليف عمر رضا كحالة 7/ 262 طبعة مطبعة الترفي 1387 هـ.

الباب الثاني: دراسة الكتاب

الباب الثاني: دراسة الكتاب ويتكون من ستة فصول: الفصل الأول: الاستغاثة وأقسامها. الفصل الثاني: الكتب المؤلفة في موضوع الاستغاثة. الفصل الثالث: عنوان الكتاب ونسبته للمؤلف. الفصل الرابع: منهج المؤلف في الكتاب.

الفصل الأول: الاستغاثة أقسامها وحكمها

الفصل الأول: الاستغاثة أقسامها وحكمها الاستِغَاثةُ: مصدر، وعند النحاة من أنواع النداء، وتعريفها لغة: أن يطلب من المُنادى الإغاثة لغيره، وهي: طلب الغوث وهو كشف الشدة، كالاستنصار طلب النصر، وكالاستجارة والاستعاذة، فكلها من أنواع الطلب والدعاء لأن الفعل الثلاثي إذا تقدمه السين والتاء دل على طلب الشيء، والنداء والدعاء بمعنى واحد، وبين الاستغاثة والدعاء عموم وخصوص مطلق يجتمعان في مادة دعاء المستغيث، وينفرد الدعاء الذي هو مطلق الطلب أو السؤال من غير المستغيث، وينفرد الدعاء الذي هو مطلق الطلب أو السؤال من غير المستغيث. والمستغاث به هو المطلوب منه الغوث، والمستغيث هو الذي يطلب الإغاثة من غيره، ولفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما يستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به. والفرق بين الاستغاثة والتوسل، أنه في الاستغاثة لا يقال: استغثت إليك بفلان أن يفعل بي كذا، وإنما يقال: استغثت بفلان أن يفعل بي كذا، وفي التوسل يقال ذلك، كما أن من سأل بشيء أو توسل به لا يكون مخاطباً له ولا مستغيثاً به، لأن قول السائل المتوسل: أتوسل إليك يا إلهي بكذا، إنما هو خطاب لله، لا لذلك المتوسل به، بخلاف المستغاث به فإنه مخاطب مسؤول منه الغوث. أقسام الاستغاثة: وتنقسم الاستغاثة إلى: استغاثة مشروعة، واستغاثة ممنوعة، والاستغاثة المشروعة أنواع: أولها: الاستغاثة بالله -تعالى-، وهي الاستغاثة المأمور ما في الشرع، فلا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله -تعالى-، وكل غوث فهو من عنده.

قال تعالى إخباراً عن المؤمنين في استغاثتهم إياه ليلة بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9]، وقد أمر تعالى عباده أن يدعوه ويستغيثوه، فهو تعالى غياث المستغيثين: ومعناه المدرك لعباده في الشدائد، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60] عبادتي: أي دعائي. الثاني: الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يقدر عليه ويليق بمنصبه، وهذا لا يُنازع فيه مسلم، وهذا النوع جائز أيضاً في حق غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من عامة المؤمنين وخاصتهم، بل والفجار والكفار أيضاً، ومن هذا النوع ما وردت به النصوص من الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة. قال تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)} [القصص: 15]، فهذه الاستغاثة في ما يقدر عليه موسى -عليه السلام-، وهذا لا ينافي كمال التوحيد. وقد غلط بعض الغلاة فسوَّى بين حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وموته، وأثبتوا له بعد موته حياة حقيقية كحياته - صلى الله عليه وسلم - في الحياة الدنيا، وأن الشهداء أحياء في قبورهم وحياة الأنبياء أكمل، وبناء على هذا أجازوا الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حياً وميتاً. ولم يعلموا أن حياته - صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- حياة برزخية، وهذه الحياة البرزخية من الغيب الذي أخبرنا الله به، ولم نعلم حقيقتها وكنهها، فوجب علينا الإيمان بحياة الأنبياء على هذا الأساس مع الجزم باختلافها عن الحياة الدنيا، ولو أريد أن حياتهم كحياتهم في الدنيا لاقتضت جميع لوازمها من أعمال، وتكليف، وعبادة، ونطق، وغير ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: حياة الأنبياء بعد وفاتهم، لأبي بكر البيهقي، تحقيق د. أحمد الغامدي ص 32 وما بعدها، الطبعة الأولى 1414 هـ الناشر مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية.

الاستغاثة الممنوعة

* وأما الاستغاثة الممنوعة فهي أقسام أيضاً: الأول: الاستغاثة بالنبي أو الرجل الصالح الحيين الشاهدين الحاضرين فيما لا يقدر عليه إلا الله -تعالى-؛ مثل غفران الذنوب وهداية القلوب، وشفاء المرض، والرزق والنصر على الأعداء، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله -تعالى-، وهذه الاستغاثة من الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة، وهذا شرك العرب في الجاهلية. إلا أن هؤلاء قد يزيدون على شرك العرب في الجاهلية، أنهم يشركون أيضاً في توحيد الربوبية الذي أقرّ به مشركو العرب، الذين أقروا بأن الله خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم، أما هؤلاء الغلاة فمنهم من لا يقبل الرزق إلا من شيوخهم. وأيضاً فإن مشركي العرب يخلصون لله في الشدائد، وهؤلاء الغلاة يزدادون شركاً في الشدائد، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الثاني: الاستغاثة بالميت سواء كان نبياً أو غير نبي، وحجتهم في ذلك تسويتهم بين حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومماته، كما سبق بيانه، واعتقاد بعضهم في شيوخهم أن لهم تصرفاً في الكون بعد الممات، واعتمدوا على حكايات مكذوبة لسدنة القبور ليأكلوا ما أموال الناس بالباطل. الثالث: الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والرجل الصالح في حال غيبته، وهذا أيضاً لا يجوز، فإنه لا يسمع الاستغاثة ولا يعلم الغيب، وعمدة القائلين بجوازها حكايات لا تصح، فضلاً عن أن تكون دليلاً في الدين، منها: أن أحدهم استغاث بالله فلم يغثه، فاستغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والشيخ الفلاني فأغاثه، وفرَّج كربته. وقد تتمثل الشياطين بالمستغاث به إمعاناً في إضلال المستغيثين بهم، وتُحْضِر لهم بعض مطالبهم، وحصول مطالبهم يجعل هذه الأسباب مباحة، فإنه ليس كل ما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه ولو كان نافعاً. فهذه أقسام الاستغاثة، عرف المسلمون الاستغاثة المشروعة، ولم يعرف القبورية إلا الاستغاثة الممنوعة، وجعلوها أصل دينهم.

الفصل الثاني: الكتب المؤلفة في موضوع الاستغاثة

الفصل الثاني: الكتب المؤلفة في موضوع الاستغاثة كلام الأئمة المتقدمين في مسألة الاستغاثة بالمخلوقين قليل، فهي مسألة واضحةٌ ناصعة لا لبس فيها، ولا تحتاج إلى بيان، "فإن آيات القرآن الكريم ناطقة بحظر دعاء كل أحد، لا من الأحياء، ولا من الأموات سواء كانوا أنبياء أو صالحين، أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة أو بغيرها، فإن الأمور غير المقدورة للعباد لا تطلب إلا من الله خالق القدر ومنشئ البشر" (¬1). "ومن المعلوم أيضاً أن الدعاء عبادة من أجلَّ العبادات، بل هو أكرمها على الله ... فإن لم يكن الإشراك فيه شركاً؛ فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك؛ فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركاً من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء هو أكبر شرك المشركين الذين بُعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). ولذلك كانت ترد هذه القضية عرضاً، في تفسير آية من الكتاب العزيز، أو نقل خبر عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أو عن الصحابة - رضي الله عنهم -، أو قصص من أخبار التابعين والسلف الصالح. ولذا قلما يفردونها في مصنف خاص، أو يتكلمون في حكمها وأنواعها وما لا يجوز صرفه لغير الله، وما يجوز الاستغاثة فيه بغير الله مما يقدر عليه البشر، لشدة وضوحها ومعرفة الناس ما. ¬

_ (¬1) انظر: فتح البيان تتمة منهاج التأسيس ص 347، نقلاً عن دعاوى المناوئين ص 273. (¬2) تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله ص 217، عناية عبد الله حجاج الطبعة الأولى 1416 هـ، الناشر مكتبة التراث الإسلامي - القاهرة.

* القسم الأول: الكتب المؤلفة في الاستغاثة بالله -تعالى-

وقد شهد بهذا أحد القبورية وهو محمد بن موسى النعمان المالكي (ت 683 هـ) فقال: "أما بعد فإنه سبق جماعة من العلماء الأعلام إلى جمع أخبار من استغاث بالله -تعالى- فقصدت أن أذكر ما وقع لي ممن استغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولاذ به في شدته" (¬1). لهذا فالكتب التي تعرضت لموضوع الاستغاثة ثلاثة أقسام: القسم الأول: الكتب المؤلفة في الاستغاثة بالله -تعالى-، وهي ما كانت على الإسلام الصحيح الذي لم يعرف بدعة القبورية. والقسم الثاني: الانحراف في مسألة الاستغاثة بالمقبورين. والقسم الثالث: ردود أهل السنة والجماعة على هذا الانحراف وبيان حكم الاستغاثة بغير الله. وإليك هذه الأقسام بشيء من التفصيل. * القسم الأول: الكتب المؤلفة في الاستغاثة بالله -تعالى-: لم يصنف السلف هذه الكتب ليوضحوا القضية، أو يبينوا حكمها، أو يردوا بدعة القبورية، فهي قضية واضحة لا لبس فيها، أوضحها القرآن الكريم، وأبانها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم تعرف الأمة بعدُ بدعة القبورية حتى تردها، بل لعله لم يتوقع أحد منهم وقوع الاستغاثة بالأموات في هذه الأمة. فهذه المؤلفات لجمع الأخبار في هذا الباب، وكانت تحكي حال الأمة في اللجوء إلى الله تعالى عند الكرب والشدة، ورجائه ودعائه وحده، لا يلجأون لنبي ولا لملك من الملائكة ولا لرجل من الصالحين. قال القاضي التنوخي: "فإني لما رأيت أبناء الدنيا متقلبين فيها بين خير وشر، ونفع وضر، ولم أر لهم في أيام الرخاء أنفع من الشكر والثناء، ولا في أيام المحنة والبلاء أنجع من الصبر والدعاء، .... وجدت من أقوى ما يفزع إليه من أناخ الدهر بمكروهه عليه، قراءة الأخبار التي تنبئ عن تفضل الله -عز وجل- على من حصل قبله في محصله، ونزل به مثل بلائه ومعضله، بما أتاحه الله -تعالى- له من صنيع أسهل الأرزاق، ومعونة حل بها من الخناق، ... فإن ¬

_ (¬1) مصباح الظلام - مخطوط بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مصور عن شستربتي رقم 3677 ص 1 بترقيمي.

* من المؤلفات في هذا القسم

معرفة الممتحن بذلك تشحذ بصيرته للصبر، وتقويه عزيمته على التسليم لله مالك كل أمر، والتفويض إلى من بيده ملك النواصي، وإذا علم الله -سبحانه وهو علام الغيوب- من عبده الممتحن المبتلى صدق اللجوء إليه، وانقطاع أمله إلا من عنده، لم يكله إلى سعيه وجهده، ولم يرض له باحتماله وطوقه، ولم يخله من عنايته ورفقه .... " (¬1). وهذه القصص التي ذكروها البعض منها في القرآن الكريم، والبعض الآخر في السنة النبوية، ومنها ما ورد عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم. * من المؤلفات في هذا القسم: 1 - " الفرج بعد الشدة والضيق"، لأبي الحسن علي بن محمد المدائني (ت 225 هـ). 2 - "الفرج بعد الشدة"، لأبي بكر بن أبي الدنيا (ت 281 هـ). 3 - "مجابو الدعوة"، لأبي بكر بن أبي الدنيا أيضاً. 4 - "الفرج بعد الشدة"، للقاضي أبي علي المحسن بن أبي القاسم التنوخي (ت 384 هـ)، وهذا الكتاب أجمع الكتب السابقة وأوسعها، وله مختصرات كثيرة منها: مختصر لطف الله بن حسن التوقاني. 5 - كتاب "المستصرخين بالله"، للقاضي (بهاء الدين أبي الوليد) يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث بن الصفار القرطبي (ت سنة 429 هـ)، وصف الذهبي كتبه: "بأنها نافعة" (¬2). 6 - كتاب "المستغيثين بالله -تعالى- عند المهمات والحاجات والمتضرعين إليه سبحانه بالرغبات والدعوات، وما يسر الله -الكريم- لهم من الإجابات والكرامات"، تأليف الإمام الحافظ (أبي القاسم) خلف بن ¬

_ (¬1) الفرج بعد الشدة 1/ 5 - 6 الطبعة الأولى 1375 هـ الناشر مكتبة الخانجي - مصر، والمثنى ببغداد. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء، تأليف الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، أشرف على تحقيقه شعيب الأرنؤوط 17/ 569 - 570 رقم الترجمة 375 الطبعة السادسة 1409 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان، ومصباح الظلام ص 2 مخطوط، والأعلام للزركلي 8/ 262.

* القسم الثاني: الانحراف في مسألة الاستغاثة

عبد الملك بن مسعود بن بشكوال (ت سنة 578 هـ)، وقد نقل في كتابه من مصنفات ابن أبي الدنيا مثل "الفرج بعد الشدة"، وكتاب "المستصرخين بالله" و"الدعاء" لابن أبي حاتم، و"الأخبار" للطحاوي، و"من عُرف بالإجابة" للقصري غيرها، جمعه بدون تمحيص وتدقيق، فجمع بين الغث والسمين (¬1). وقد ذكر فيه الآيات والآثار التي ورد فيها لفظ الاستغاثة، وبعض قصص من استغاثوا بالله فأغاثهم. 7 - "العدة للكرب والشدة"، جمع أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي (ت 643 هـ) (¬2). 8 - "الفرج بعد الشدة والضيقة"، تأليف الشريف إبراهيم بن عبد الله الحازمي. وأما ما ورد عرضاً فكثير جداً، فلا يكاد يخلو كتاب حديث أو تفسير من ذكر الاستغاثة بالله (¬3). * القسم الثاني: الانحراف في مسألة الاستغاثة: تعتبر الاستغاثة بالأموات من أهم عقائد القبورية، فهي الغاية التي لا ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة كتاب المستغيثين ص 7، ضبط نصه غنيم عباس غنيم، الناشر دار المشكاة - القاهرة الطبعة الأولى 1414 هـ، والسير للذهبي 21/ 139 رقم الترجمة 71، وما ذكر من مصادر هذا الكتاب تعرضت للاستغاثة بالله. (¬2) طُبع بتحقيق/ ياسر إبراهيم، الناشر دار المشكاة - القاهرة الطبعة الأولى 1414 هـ. (¬3) يضاف إلى هذه الكتب، أن جميع من ألف في الدعاء: باباً في كتاب، أو كتاباً مفرداً، كلهم يبيّن أن الدعاء بجميع أنواعه يجب إخلاصه لله -تعالى- منها: الدعاء لمحمد بن الفضيح الضبي الكوفي (ت 195 هـ)، والدعاء لأبي داود السجستاني (ت 275 هـ) صاحب السنن، والدعاء لابن أبي الدنيا (ت 281 هـ)، والدعاء لابن أبي عاصم (ت 287 هـ)، والدعاء لأبي عبد الله ابن فطيس الأندلسي (ت 319 هـ)، والدعاء لأبي عبد الله المحاملي (ت 330 هـ)، والدعاء للطبراني (ت 360 هـ)، والدعاء لابن أبي زيد القيرواني (ت 389 هـ)، وشأن الدعاء للخطابي (ت 388 هـ)، والدعوات لجعفر بن محمد بن المعتز المستغفري (ت 432 هـ)، والدعوات الكبير للبيهقي (ت 458 هـ). فهذه بعض كتب المتقدمين، وأما المتأخرون فلا يحصيهم إلا الله، وانظر: كتب الدعاء في الصحاح كصحيح البخاري ومسلم، والسنن وغيرها.

غاية وراءها، والمقصد الأسمى، فهم يثبتون أن الأموات يعلمون الغيب؛ وأن لهم التصرف المطلق في الكائنات، وأنهم أحياء في قبورهم حياة كحياتنا؛ وأنهم يسمعون نداء المستغيثين بهم، كل ذلك ليجوِّزوا الاستغاثة بهم، ولذا قال بعض العلماء: "الاستغاثة بالأموات أُمُّ الشركيات" (¬1). لذلك اهتم القبورية بهذه المسألة، وأوْلوها عنايتهم، وألفوا فيها المؤلفات عرضاً ورداً، وحسب ما يصل إلينا، وحسب ادعاء ابن النعمان في كتابه "مصباح الظلام"، فهو يعتبر أول كتاب في هذا الانحراف، أي في القرن السابع الهجري. ومن المعلوم أن بدع القبور ظهرت في آخر القرن الثالث الهجري، في عهد الدولة البويهية الرافضية، فهذه البدعة بدأت متقدمة عند الرافضة، لأن أصل دينهم قائم على عبادة الأئمة، وقد تسربت فيما بعد إلى بعض المنتسبين إلى السنة. لذا لن أذكر كتب الرافضة في هذه المسألة لأنها كثيرة، وسأقتصر على كتب القبورية فقط: 1 - "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام"، تأليف (شمس الدين أبو عبد الله) محمد بن موسى بن النعمان المراكشي المزالي التلمساني الفاسي (ت سنة 683 هـ) (¬2). وحسب علمي لم يطبع، وقد حصلت على نسخة خطية منه من قسم ¬

_ (¬1) جهود علماء الحنفية 2/ 1049. (¬2) انظر: الأعلام للزركلي 7/ 118 ومعجم المؤلفين 12/ 68 طبعة الترقي بدمشق 1380 هـ، والمنخل لغربلة خرافات ابن الحاج في المدخل، تأليف د. محمد الخميس ص 22 - 23، الطبعة الأولى 1416 هـ، الناشر دار الصميعي الرياض - السعودية. وفي كشف الظنون 2/ 1706 نسب هذا الكتاب لأبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي (ت 634 هـ)، وهذه النسبة لا تصح لأنه إمام محدث، وقد ذكر مترجموه أن له كتاب "مصباح الظلام" وأنه على غرار "الشهاب" في الحديث، فلعله اشتبه على صاحب كشف الظنون. انظر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، تأليف شمس الدين الأفغاني 2/ 1050.

المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مصورة من مخطوط في مكتبة شستربتي رقم (3677)، وغاية كاتبه جمع أخبار من استغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولاذ به في شدته وتوسل إلى الله به (¬1)، وحسب ما وصل إلينا فهو أول كتاب يذكر الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من دون الله -عز وجل-، وإن كان أقل ضلالاً ممن جاء بعده. وقد ذكر أشياء صحيحة مثل أحاديث الشفاعة، وأحاديث معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في تكثير الماء أو الطعام لكن في غير موضعها. وذكر أشياء معلوم بطلانها مثل قصة مالك مع المنصور، وقصة العتبي؛ يظن أنها صحيحة. وهو كما وصفه ابن تيمية: "وغاية ما ذكره نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم" (¬2). وهو قدوة لكل قبوري جاء بعده، فقد نقل منه البكري في رده على ابن تيمية (¬3)، ونقل منه النبهاني في "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق" (¬4). 2 - كتاب البكري (ت 724 هـ) في الرد على ابن تيمية ولم يصل إلينا سوى ما أورده ابن تيمية للرد عليه في كتابنا هذا، ولم تذكر لنا مصادر ترجمة البكري أي شيء عنه، وهو رد على فتوى في حكم الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لابن تيمية، قال ابن تيمية: "وقد ذهب إليه الجواب ووقف عليه، وزعم أنه يرد عليه، فافترى على المجيب" (¬5). وقد ذهب البكري في جوابه إلى جواز الاستغاثة بالنبي والرجل الصالح، بل كفَّر من أنكرها، وجعلها من صفات الكمال للنبي - صلى الله عليه وسلم - التي يكفر من أنكرها. 3 - "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق"، تأليف يوسف بن إسماعيل النبهاني (ت سنة 1350 هـ) (¬6)، حمل فيه على شيخ الإسلام ابن تيمية، وأجاز ¬

_ (¬1) انظر: ص 2 من المخطوط. (¬2) انظر: ص 384. (¬3) انظر: ص 245. (¬4) ص 242 الطبعة الثانية 1374 هـ، الناشر مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده - مصر. (¬5) انظر: ص 302. (¬6) وقد طبع الكتاب طبعتين، الأولى طبعة دار الفكر بيروت 1350 هـ، والثانية عام 1374 هـ في مجلد.

الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين والأولياء. وهو والله شواهد الضلال. 4 - "الإغاثة بأدلة الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -"، تأليف حسن بن علي السقاف -هداه الله- قال فيه بالاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وجعل عمدته أدلة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 5 - "نفحات القرب والاتصال بإثبات التصرف للأولياء بعد الانتقال"، تأليف شهاب الدين أبي العباس الحموي الحنفي (ت 1098 هـ). 6 - "تحريض الأغبياء على الاستغاثة بالأنبياء والأولياء"، تأليف عبد الله بن إبراهيم الميرغني (ت 1207 هـ). 7 - "أنوار الانتباه بحِلِّ النداء بيا رسول الله"، تأليف أحمد رضا الأفغاني إمام البريلوية (ت 1340 هـ)، وله كتابان آخران هما: "بركات الاستمداد" و"حدائق بخشش" يعني حدائق الهبات، كله استغاثات بالأموات (¬2). وأما عقد القبورية الأبواب والفصول في كتبهم للاستغاثة بالأموات؛ فكثيرة (¬3). ¬

_ (¬1) الطبعة الأولى عام 1410 هـ، الناشر مكتبة الإمام النووي عمان - الأردن. (¬2) انظر: جهود علماء الحنفية 2/ 1052. (¬3) انظر: على سبيل المثال: "شفاء السقام" للسبكي الباب الثامن في التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ص 113 ط بولاق، والتركمة، وص 160 ط لجنة التراث ببيروت، نقلاً عن جهود علماء الحنفية 2/ 1053، وفي طبعة دار الآفاق الجديدة بيروت - لبنان الطبعة الثانية 1978 ص 16 حُرف عنوان الباب إلى الاستعانة بدل الاستغاثة، وما ذاك إلا محاولة للتهرب من القول بهذه العقيدة الشركية، التي هي أم الشركيات، ولا غرابة فقد حرَّفوا كلام الله ورسوله فأئمتهم من باب أولى. و"غوث العباد" للحمامي ص 211 طبعة الديوبندية، "والتوسل" لابن مرزوق ص 185 الباب الثامن، "وحجة الله على العاملين" الباب الثاني 2/ 785. و"حقيقة التوسل والوسيلة في ضوء الكتاب والسنة"، لموسى محمد علي الباب الثاني الفصل الأول ص 137 وما بعدها والثاني ص 155 - 175. و"التوسل" لمحمد حسنين مخلوف ص 73، و"النقول الشرعية" للشطي ص 106 و"مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل ما العوام" لعلوي أحمد الحداد، طـ المطبعة العامرة الشرفية مصر 1325 هـ ص 26، و"فصل الخطاب في ضلالات ابن عبد الوهاب" للقبانى ق 60 خ، "والفجر الصادق" لجميل الزهاوي ص 40 طـ مكتبة المليجي مصر 1323 هـ وغّيرها كثير، وغالب من رد على دعوة الشيخ محمد بن =

* القسم الثالث: ردود أهل السنة والجماعة

* القسم الثالث: ردود أهل السنة والجماعة: لما انتشر ضلال القبورية، انتدب للرد عليهم علماء السنة في كل زمان، وقد أفردوا هذه القضية في مؤلفات مثل: 1 - "الاستغاثة في الرد على البكري" لابن تيمية، وهو كتابنا هذا، وفيه رد ابن تيمية على البكري. 2 - "غاية الأماني في الرد على النبهاني"، للعلامة أبي المعالي محمود شكري الألوسي (ت 1342 هـ) ويقع في مجلدين، رد فيه على شواهد الحق للنبهاني، وطبع في عصر المؤلف ولم يذكر عليه اسم المؤلف الصريح خوفاً من كبار الصوفية المتنفذين في الدولة العثمانية، وطبع ثانية باسم المؤلف ولم يذكر تاريخ الطبعة (¬1). 3 - "الرد على شبهات المسشغيثين بغير الله"، تأليف الشيخ أحمد بن ¬

_ = عبد الوهاب من هذا الصنف مثل: ابن عفالق، وعبد الله بن داود الزبيري والكوكباني، وابن جرجيس، ومصطفى الدجوي، وشيخ الكذب زيني دحلان. وللتوسع. انظر: جهود علماء الحنفية 2/ 1054، ودعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 347. علماً أن بعض هؤلاء القبورية قد يسمي الاستغاثة توسلاً أو استمداداً أو نداء أو غير ذلك. أما الرافضة فلم أذكر شيئاً عنهم هنا فأصل دينهم هذا الشرك الأكبر، وهم أول من أحدث هذا الشرك الصراح في الأمة الإسلامية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الأخنائي ص 48 (بهامش تلخيص الاستغاثة): "وأول من وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور أهل البدع من الروافض ونحوهم الذين يعطلون المساجد، يعظمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذب فيها ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطاناً". ومنهم سرى هذا البلاء إلى الطرق الصوفية، فالناس عيال عليهم في هذا الشرك. انظر: على سبيل المثال: بحار الأنوار 94/ 22 وما بعدها، نقلاً عن أصول مذهب الشيعة 2/ 449، وفقد خصصوا لكل إمام وظيفة، فأحدهم للنجاة من السلاطين، وآخر للآخرة، وثالث للعافية، وهكذا. ولا يغرنك هذا الغثاء، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]. (¬1) وقد رد على النبهاني غيره مثل: الشيخ أحمد بن عيسى في "تهديم المباني في الرد على النبهاني"، وعبد العزيز السويح في قصيدة في الرد على يوسف النبهاني (خ) دارة الملك عبد العزيز رقم 245.

إبراهيم بن عيسى طبع ضمن الجامع الفريد (¬1)، وهو رد على صاحب كتاب "أنموذج الحقائق" في الاستغاثة وغيرها. 4 - "رسالة في حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد"، تأليف الشيخ محمد بن سلطان المعصومي الحنفي (ت 1379 هـ) (¬2). وهي عبارة عن جواب عن سؤال من طلبة تركستان، أطال النقل فيها ممن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. 5 - "حكم من استغاث بغير الله"، تأليف العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية (¬3). وهي تعليق على أبيات نشرت في ذكرى المولد النبوي الشريف تضمنت الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما عقد أهل السنة الفصول والأبواب فى الرد على القبورية في استغاثتهم بالأموات فكثيرة جداً، لا يتيسر حصرها (¬4). ¬

_ (¬1) الطبعة الثانية ص 535 على نفقة عبد العزيز ومحمد الجميح، طبعة مكتبة ابن تيمية القاهرة - مصر. (¬2) طبعت ثلاث طبعات الأولى بمصر، والثانية بالباكستان وهي طبعة حجرية، والطبعة الثالثة بعناية وتقديم د. محمد الخُميس عام 1414 هـ , الناشر دار العاصمة الرياض. (¬3) طبعت مستقلة، وضمن مجموع فتاوى الشيخ 1/ 108 - 115، طبعة مكتبة المعارف - الرياض 1413 هـ. (¬4) الأئمة المتقدمون كلامهم قليل في هذه المسألة، لأنها لم تنتشر وتعرف في زمنهم، وأما من عُرفت هذه البدعة في عصره فكتبهم طافحة ببيان التوحيد، ورد ما يضاده، ومن أهم ما يضاده الاستغاثة بالأموات , منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ)، وابن القيم (ت 751 هـ)، وابن كثير (ت 773 هـ)، وابن أبي العز الحنفي (ت 792 هـ)، والشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت 1206 هـ)، وأئمة الدعوة السلفية في نجد، والشوكاني والأمير الصنعاني، ومحمد رشيد رضا (ت 1935 م)، ومحمد سلطان المعصومي (ت 1379 هـ)، وصنع الله الحلبي (ت 1120 هـ)، والشيخ ولي الله الدهلوي (ت 1176 هـ) والأسرة الألوسية، والسهسواني الهندي، ومبارك الميلي الجزائري، وعبد الظاهر أبو السمح، والشيخ ناصر الدين الألباني وتلاميذه وغيرهم ممن لا يحصيهم إلا الله، وقد يكون غيرهم أولى بالذكر ولكن هذا الذي حضرني، فهؤلاء جميعاً كتبهم طافحة ببيان التوحيد، ورد هذه البدعة الشركية التي هي أم الشركيات "الاستغاثة بالأموات". وإليك أسماء بعض الكتب: "إغاثة اللهفان" لابن القيم 2/ 321، وكتاب "التوحيد الذي هو حق على العبيد" للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ص 65، باب من الشرك أن يستغيث بغير الله ويدعو =

الفصل الثالث: عنوان الكتاب ونسبته للمؤلف

الفصل الثالث: عنوان الكتاب ونسبته للمؤلف * عُرف الكتاب بعنوانين: أولهما: كتاب "الاستغاثة"، ويضيف بعضهم: المعروف "بالرد على البكري"، أو "في الرد على البكري". أ- سماه المؤلف بـ "الاستغاثة الكبير" (¬1)، وقال: الكبير، ليميز عن رسالة الاستغاثة له. ب- جاء هذا الاسم على طرة جميع النسخ التي حصلت عليها، وهي: ¬

_ = غيره، تحقيق محمد عفيفي الطبعة الأولى 1411 هـ, وشروحه "تيسر العزيز الحميد" للشيخ سليمان بن عبد الله و"فتح المجيد" ص 128 و"قرة عيون الموحدين" للشيخ عبد الرحمن بن حسن تحقيق بشير عيون ص 83، و"القول المفيد على كتاب التوحيد" شرح فضيلة الشيخ محمد العثيمين عناية د. سليمان أبا الخيل ود. خالد المشيقح 1/ 261. وما بعدها، و"الدين الخالص" تأليف محمد صديق حسن خان 2/ 176 - 177، 270 - 272، 306، 307، و"تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد" للأمير الصنعاني ص 27 - 30، و"الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد" للشوكاني تحقيق أبو عبد الله الحلبي ص 9 - 15، و"منهج الإمام الشوكاني في العقيدة" تأليف عبد الله نومسوك ص 493 وما بعدها، و"شفاء الصدور في زيارة القبور" تأليف مرعي الحنبلي 129 - 172، و"الديوبندية" تأليف سيد طالب ص 69 - 86، و"أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية". ناصر القفاري 2/ 449 وما بعدها، 494 - 497، و"رسالة الشرك ومظاهره" تأليف مبارك الميلي ص 195 وما بعدها، و"جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية" تأليف شمس الدين السلفي الأفغاني 2/ 1047 وما بعدها، و"دعوة التوحيد" تأليف د. محمد خليل هراس ص 55، و"الحماسة الدينية في الرد على بعض الصوفية"، تأليف حسن عبد الرحمن السني البحيري، عناية د. محمد الخميس ص 51 وما بعدها الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار العاصمة بالرياض، وغيرهم كثير. (¬1) انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية، ت. ربيع المدخلي ص 224 ط. الأولى 1412 هـ، الناشر مكتبة دمنهور - مصر.

نسخة جامعة أم القرى وقد جعلتها الأصل؛ ونسخة الإفتاء ورمزها (ف)، ومنها نسخة في مكتبة جامعة الملك سعود، ونصهما "كتاب الاستغاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية راداً به على ابن البكري"، ونسخة دارة الملك عبد العزيز بالرياض رقم 739 ورمزها (د) ونصها "كتاب الاستغاثة الشهير بالرد على البكري" وأصلها محفوظ بمكتبة الملك عبد العزيز بجدة برقم 2886، ونسخة المعهد العلمي بحائل رقم 39 ضمن مجموع ورمزها (ح) ونصها "كتاب الاستغاثة"، وفي قطعة من الكتاب المحفوظة في مكتبة الدولة ببرلين (قال أبو العباس رحمه الله في "كتاب الاستغاثة في الرد على البكري"). وبهذا الاسم ذكره الصفدي في "فوات الوفيات" (¬1) ونصه: "وكتاب في الاستغاثة"، والعلامة عبد الرحمن بن حسن في كتابه: "كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس" (¬2) ونصه: (وقال رحمه الله (أي شيخ الإسلام) في "كتاب الاستغاثة في الرد على البكري")، وسمَّاه بهذا الاسم أيضاً الشيخ أحمد بن عيسى في كتابه: "الرد على شبهات المستغيثين بغير الله" (¬3)، والعلامة محمود شكري الألوسي في غاية الأماني ونصه: "قال -رحمه الله- في "كتاب الاستغاثة الذي رد به على البكري" (¬4). وأيضاً سماه بهذا الاسم محمد الشيباني في كتابه "أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية" (¬5)، والدكتور عبد الرحمن المحمود في كتابه: "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (¬6) ونصه: "والرد على البكري المعروف بالاستغاثة"، والدكتور علي الشبل في "مقدمة مسألة في الكنائس لشيخ الإسلام ابن تيمية" (¬7) ونصه: "الاستغاثة والرد على البكري". العنوان الثاني: الرد على البكري في الاستغاثة. ¬

_ (¬1) انظر: شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين، جمع د. صلاح الدين المنجد ص 64. (¬2) ص 205 تحقيق عبد العزيز الزير آل حمد النشرة الأولى 1409 هـ الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. (¬3) ص 539 ضمن مجموع الجامع الفريد الطبعة الثانية. (¬4) غاية الأماني في الرد على النبهاني 1/ 30. (¬5) ص 44 الطبعة الأولى 1409 الناشر مكتبة ابن تيمية - الكويت. (¬6) 1/ 211. (¬7) ص 26.

وقد ذكره بهذا الاسم ابن القيم في أسماء مؤلفات ابن تيمية (¬1) ونصه: "كتاب في الرد على البكري في الاستغاثة" في مجلد. وابن عبد الهادي في العقود الدرية (¬2) ونصه: "وكتاب الرد على البكري في الاستغاثة" مجلد. ولكن يظهر أن ابن القيم لم يجزم بهذا العنوان، وإنما ذكر موضوع الكتاب، فعلى سبيل المثال عندما جزم بعناوين كتب أخرى للشيخ قال مثلاً: كتاب الإيمان وكتاب الاستقامة، وقد ذكره بهذا العنوان أيضاً عبد العزيز الزير آل حمد في حاشية كتاب: "كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس"، للشيخ عبد الرحمن بن حسن (¬3). كما ورد هذا العنوان أو قريب منه على طرة مخطوطتين لا قيمة لهما وهما: الأولى بعنوان: خلاصة رد ابن تيمية على البكري في الاستغاثة والمحفوظة في خزانة المكتبة التيمورية برقم (281)، وهي مختصرة تصرف الناسخ في مواضع كثيرة. الثانية بعنوان: رد ابن تيمية على ما رد عليه ابن يعقوب البكري في مسألة الاستغاثة. والمحفوظة في خزانة المكتبة التيمورية أيضاً برقم (405) وهي قطعة من تلخيص الكتاب، وليس فيها من نص الكتاب شيء. مما سبق يتبين أنه قد جاء عنوانان للكتاب، وهما متفقان مضموناً. ويتبين أيضاً أن العنوان الأول وهو: "كتاب الاستغاثة" سمَّاه به المؤلف، وورد في جميع النسخ، الخطية وعند أكثر المترجمين لمؤلفه، غير أنهم أضافوا جملة "المعروف بالرد على البكري" أو "في الرد على البكري" تمييزاً للكتاب عن رسالة المؤلف المعروفة بالاسم نفسه، وتعريفاً بموضوع الكتاب، وقد عُرف الكتاب واشتهر بعنوان: "كتاب الاستغاثة في الرد على البكري". وللأسف الشديد فإن طبعة 1346 هـ فيها خطأ كبير في عنوان الكتاب كما سبقت الإشارة إليه. ¬

_ (¬1) ص 19 تحقيق د. صلاح الدين المنجد الطبعة الثالثة 1976 م. (¬2) ص 19 تحقيق محمد حامد الفقي، طبعة مطبعة حجازي بالقاهرة عام 1356 هـ. (¬3) انظر: حاشية ص 162 والصفحات من 270 - 334 النشرة الأولى 1415 هـ.

* نسبة الكتاب إلى المؤلف

* نسبة الكتاب إلى المؤلف: تثبت نسبة الكتاب إلى مؤلفه بأدلة كثيرة مشهورة، منها: أولاً: ذكر المؤلف له في كتابه قاعدة جليلة كما تقدم. ثانياً: ما جاء على النسخ الخطية للكتاب من نسبة الكتاب إلى مؤلفه شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية. ثالثاً: قد نص على نسبته إلى المؤلف الإمام ابن القيم في كتابه: أسماء مؤلفات ابن تيمية (¬1)، والصفدي في فوات الوفيات (¬2)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (¬3) وغيرهم ممن سبق ذكرهم. رابعاً: أحال ابن تيمية في هذا الكتاب إلى بعض كتبه الأخرى؛ مثل كتاب: "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، فقد أشار إليه في عدة مواضع وسماه باسمه، ونقل من الصارم ونقل منه البكري أيضاً (¬4). خامساً: ما جاء في آخر المخطوطات من قول النساخ: "هذا آخر ما وجدت من كتاب الاستغاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية" (¬5). سادساً: النقول الكثيرة من الكتاب، والتي نسبوا فيها الكتاب لمؤلفه. ¬

_ (¬1) ص 19. (¬2) انظر: شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره ص 64. (¬3) ص 37. (¬4) ص 376، 386، 393. (¬5) انظر: ص 427.

الفصل الرابع: منهج المؤلف في الكتاب

الفصل الرابع: منهج المؤلف في الكتاب لم يكن هذا الكتاب الرد الوحيد لشيخ الإسلام ابن تيمية، بل له كتب كثيرة في الرد على الخصوم، مثل: "منهاج السنة"، "والجواب الصحيح"، "وبيان تلبيس الجهمية وتأسيس بدعهم الكلامية"، والرد على الأخنائي" وغيرها. وقد سار في هذه الردود على منهج واحد، ولدراسة هذا المنهج نحتاج إلى رسائل لنعطيه حقه (¬1)، لذا نقتصر هنا على أهم ميزات منهج ابن تيمية في هذا الكتاب منها: 1 - الشمولية في الرد: قد يظن المطلع على الكتاب من أول وهلة أنه رد على شخص البكري، ولكن من معايشة الكتاب يتبين أنه رد على القبورية، وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية في وصف هذه الطائفة، فذكر اعتقاداتهم وأقوالهم وأشعارهم وما يحصل من بعضهم، ومناقشاته معهم، وما ذكره بعض الناس له عنهم، في مواضع متعددة. فيقول عن هذه الطائفة: "ويذكرون حكايات يظنينها صدقاً، منها أن أهل الصُّفَّة قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار لما انهزم" (¬2). وقد ساعد الشيخ على ذلك؛ سعة اطلاعه على تاريخ الفرق، وبدعهم وتاريخ نشوء كل بدعة، وكتبهم وبلدانهم، وكل ما يتعلق بهم. ¬

_ (¬1) انظر: الكلام على منهج ابن تيمية في: موقف ابن تيمية من الأشاعرة، تأليف د. المحمود 1/ 218 وما بعدها. (¬2) انظر: ص 247.

2 - وضوح الهدف والغاية

وكان هذا هو منهجه في ردوده الأخرى، لأن المقصود بالرد هم الطوائف لا الأعيان، فرد ابن تيمية على البكري على اعتبار أنه أحد القبورية. ويمثل الشمول أيضاً في الرد على كل ما ذكره البكري وإن لم يكن في موضوع الاستغاثة، يقول ابن تيمية: "ونحن نتكلم على ما ذكره وإن لم يختص بمسألتنا لما فيه من تمام الكلام على ما ذكره كله" (¬1). 2 - وضوح الهدف والغاية: يوضح شيخ الإسلام ابن تيمية الهدف من هذا الكتاب، فيقول: "ثم إن الأصحاب تقاضوني على كلام هذا الظالم الجاهل، لئلا يغتر بكلامه بعض الطغام (¬2)، حتى قال لي بعضهم: إن الكلام على هذه المسألة من أفضل الكلام، إذ فيها بيان التوحيد ونفي الشرك عن الصمد المجيد" (¬3). ويبين هدف أهل السنة والجماعة عموماً من الردود على المبتدعة فيقول: "وأهل العلم والإيمان؛ فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم ... ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء؛ بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا" (¬4). وفي مقابل ذلك يصف منهج أهل البدعة فيقول: "وهذه الطريقة التي سلكها هذا وأمثاله هي طريقة أهل البدع، الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة؛ مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: ص 414. (¬2) الطغام جمع طغمة وهو الرجل الأحمق. انظر: لسان العرب لابن منظور 12/ 368 الطبعة الأولى 1410 هـ, الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. (¬3) تلخيص الاستغاثة ص 4. (¬4) انظر: ص 251. (¬5) انظر: ص 249.

3 - ثبات المنهج والثقة به

لذلك نجد رد ابن تيمية خالٍ من التكفير والكذب والتوتر، بينما البكري كفر شيخ الإسلام ابن تيمية وسبه ولعن واتهم النيات، وحمّلَ الكلام ما لم يحتمل. 3 - ثبات المنهج والثقة به: وحدة منهج شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وثقته بما عنده من الحق المبني على الكتاب والسنة وأقوال السلف؛ بارزة في جميع ما كتب. وعلى هذا نجد هذا الكتاب على وتيرة واحدة، فهو يصف الخصم بالجهل والظلم ولا يكفره، وإن كان يشتد عليه، أحياناً، إلا أنه لا يخرج عن حدود الشرع، ويستدال على كل مسألة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف الصالح. بينما البكري يصف الشيخ مرة بالإلحاد (¬1)، ومرة بالزندقة والكفر (¬2)، ويستشهد بأقوال القبورية أمثاله. كما نجد هذا الكتاب مشبعاً بروح الثقة وبسلامة المنهج، وعدالة القضية، وموافقته للكتاب والسنة، ومخالفة خصمه لها، فيقول: "وقد طاف -أي البكري- بجوابه على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه" (¬3). وينقل ابن تيمية رد شيخ البكري عليه فيقول: "وقد كفانا شيخه وغيره من الناس، فبينوا ضلاله وجهله ما (¬4) ذكروه وذموه وعابوه وتنقصوه به" (¬5). ويرد على فهم البكري في الاستغاثة فيقول: "وهذا الكلام كذب باطل لم يسبقه إليه أحد" (¬6)، ويقول في إحدى المسائل: "وما علمت إلى ساعتى هذه أحداً من علماء المسلمين الذين يستحقون الإفتاء نازع في هذا" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: ص 204. (¬2) انظر: ص 388. (¬3) انظر: ص 248. (¬4) كذا في الأصل والأولى (بما). (¬5) انظر: ص 254. (¬6) انظر: ص 256. (¬7) انظر: ص 334.

4 - الأمانة العلمية والصدق

4 - الأمانة العلمية والصدق: ينقل شيخ الإسلام أقوال البكري بالنص ثم يقوم بالرد عليها، وهذا منهج رضيه لنفسه واتبعه ودعا إليه. وقد نعى على البكري كذبه وافتراءه عليه، فبعد أن ذكر كلام البكري الذي ادعى أنه لشيخ الإسلام بلفظه: "فيقال: في هذا الكلام من الكذب والافتراء والظلم والاعتداء والجهل والضلال ما يظهر عند التأمل" (¬1)، ثم ذكر نص جوابه الذي كذب عليه البكري فيه. أما البكري فعلى النقيض من ذلك، فلم يذكر ألفاظ ابن تيمية أو جوابه، بل يقول عنه: (إنه يخلط في الحقائق ويلحد في الآيات) (¬2). 5 - العدل والانصاف: نجد ابن تيمية يعتذر عن البكري، ويحكم عليه بعدل وإنصاف، يقول ابن تيمية بعد أن ذكر مشابهة قوله وأشباهه للنصارى: "وإن كانوا لا يعلمون لوازم قولهم" (¬3)، وأيضاً عند ذكره لمشابهة قوله للاتحادية؛ يقول: "لكن هذا الرجل -أي البكري- وأمثاله لم يصلوا إلى الاتحاد بل وقفوا عند القدر وهو شهود القيومية" (¬4)، ويقول: "وهذا الكلام باطل لم يسبقه إليه أحد، لا ريب أنه لجهله وهواه وقع في هذا، وإلا فما تعمد أن يقول ما يعلم أنه كذب" (¬5). ويحلل سبب خطأ البكري فيقول: "فدخل عليه الخطأ من وجوه: منها: أنه جعل المتوسل به بعد موته في الدعاء مستغيثاً به ... والثاني: ظنه أن توسل الصحابة به في حياته كان توسلاً بذاته لا بدعائه وشفاعته، فيكون التوسل به بعد موته كذلك" (¬6). كما نجده يقر البكري على الصواب؛ ويؤيده ويستدل عليه، فيقول: "ونحن نقول بموجب هذا الكلام وهو معناه الصحيح" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: ص 196. (¬2) انظر: ص 204. (¬3) انظر: ص 205. (¬4) انظر: ص 177. (¬5) انظر: ص 256. (¬6) انظر: ص 244. (¬7) انظر: ص 254.

6 - المقارنة والتحليل

وعند كلامه عن تكفير البكري له يقول: "التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفر الله ورسوله" (¬1). 6 - المقارنة والتحليل: من أهداف الكتاب الرئيسة بيان الشرك الذي وقع فيه القبورية، وأن بعضهم وقع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، ولبيان هذا الضلال العظيم وتوضيح خطره يقارنه المؤلف بشرك العرب في الجاهلية، الذين نزل عليهم القرآن وقاتلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستباح أموالهم ودماءهم (¬2). ثم يبين من خلال هذه المقارنة أن شرك العرب أهون من شرك هؤلاء، فالعرب في الجاهلية مقرُّون بتوحيد الربوبية، وأن الله هو الخالق الرازق، بينما هؤلاء القبورية يعتقدون أن شيوخهم يرزقونهم ويحفظونهم، فهم أشركوا في توحيد العبادة وتوحيد الربوبية (¬3). ويقارن بين بيوت النيران وبيوت الكواكب والمقابر، وبين المشاهد التي على القبور ومشاهد الأصنام (¬4). ويقارن بين حال أهل التوحيد مع الأنبياء وتأدبهم معهم واتباعهم لهم، وحال أهل الشرك معهم الذين يخالفون أمرهم ويسلطون العامة والجهال عليهم، وأن أهل الشرك هم المنتقصون حقاً للرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- (¬5). بعد هذه المقارنات يبحث المؤلف عن مصدر هذا الشرك، فيوضح أن هذا الشرك انتقل إلى هؤلاء القبورية من الفلاسفة، الذين أخذوا دينهم عن الصابئة المشركين (¬6)، وأن متأخري المتكلمين والصوفية أدخلوا بعض ضلال الصابئة على المسلمين (¬7). ثم يعود للمقارنة مرة أخرى ليقارن بين شرك الصابئة وشرك العرب , ¬

_ (¬1) انظر: ص 252. (¬2) انظر: ص 309. (¬3) انظر: ص 318 - 322. (¬4) انظر: ص 310 وما بعدها. (¬5) انظر: ص 326. (¬6) انظر: ص 314. (¬7) انظر: ص 316.

7 - الاستطراد والتكرار

ليصل إلى أن شرك الصابئة المشركين -لأن الصابئة طوائف- شر من شرك العرب (¬1). فالمؤلف -رحمه الله- أراد بهذه المقارنات بيان خطورة ما وقعوا فيه من الشرك، وما هي مصادره، ليتيسر تجنبه وعلاجه. * * * وبعد، فهذه أبرز سمات منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الكتاب، وتركت غيرها للاختصار، وقد يدعي بعض الناس كثرة استطرادات الشيخ وتكرارها، فنقول وبالله التوفيق: 7 - الاستطراد والتكرار: يلاحظ على منهج ابن تيمية عموماً إطالة النفس مع الخصوم، حتى إن القارئ يجد صعوبة بالغة في ملاحقة الأفكار التي يناقشها، وهذا جزء من منهجه الذي ارتضاه؛ لأنه لا يمكن قطع دابر بعض الشبه إلا بملاحقة أصولها، ومناقشة تلك الأصول التي لا بد لردها من عرضها بوضوح ليتم نقضها بوضوح أيضاً. وفي كتابنا هذا بعض هذه الاستطرادات المفيدة جداً في توضيح بعض المسائل، فمثلاً أطال المؤلف في الكلام على سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس من الدنيا وأبان حكمها والآثار الواردة في النهي عنه في مواضع (¬2). وقد أراد بهذا الاستطراد الرد على دعوى البكري: أن من استغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد استغاث بالله، فيكون من سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد سأل الله، قياساً عليها. فيلزم من هذا حض الناس على سؤاله، والأمر عكس ذلك، فقد ورد ذم من سأله ومدح من لم يسأله، يقول -رحمه الله-: "فإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على زعم هذا قد جعل من استغاث به فإنما استغاث بالله، وقد حضه على ذلك، فمن سأله فإنما سأل الله، فيلزم أن يحض الناس على سؤاله، والأمر بالعكس، بل مدح من لم يسأله وذم كثيراً ممن سأله" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: ص 315. (¬2) انظر: ص 177 وما بعدها. (¬3) انظر: ص 182.

وفي استطراد آخر: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم براءة عائشة أم لا؟ فقد أراد بهذا الاستطراد أن يوضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم الغيب وأنه بشر، والرد على من يغلو فيه - صلى الله عليه وسلم - ويرفعه إلى درجة الألوهية (¬1). ويعلل المؤلف الإطالة فيقول: "ونحن نتكلم على ما ذكره وإن لم يختص بمسألتنا، لما فيه من تمام الكلام على ما ذكره كله" (¬2)، ويقول أيضاً: "وبعض الناس يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له، لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات، أو كانت جلية، لم تفرح نفسه به" (¬3). ويكرر المؤلف ما يذكره في مواضع عديدة، فمثلاً وصف حال القبورية واستغاثتهم بشيوخهم، وإضلال الشياطين لهم، ذكر هذا عدة مرات بصيغ مختلفة، وقد أراد بذلك التأكيد على ضلالهم في هذه القضية، فهي قضية الكتاب الأساسية، وفي التكرار بطرح متجدد فائدة عظيمة لاختلاف أفهام الناس، ويعلل المؤلف ذلك بقوله: "ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا، وظهروا وانتشروا وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق، وأفضل أهل الطريق، حتى فضلوهم على الأنبياء والمرسلين وأكابر مشايخ الدين، لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال، وإيضاح هذا الضلال، ولكن يعلم أن الضلال لا حد له، وأن العقول إذا فسدت لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرق بين نوع الإنسان، فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو شر من الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء كتشبيه مسيلمة الكذاب بسيد أولي الألباب، هو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين، الذين يفسدون الدنيا والدين" (¬4). ولا يخفى أن الكتاب لم يؤلف مرة واحدة، بل على مرحلتين، بينهما فترة من الزمن، مما أدى إلى بُعد المؤلف عن أوله، وبالتالي تكرر طرح بعض ¬

_ (¬1) انظر: ص 368 وما بعدها. (¬2) انظر: ص 414. (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 9/ 213. (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 2/ 357 - 358.

القضايا التى ذكرها في أوله، ومع ذلك فهو يكرر كثيراً قوله: "هذا ليس مما نحن فيه" (¬1). وأيضاً فإنه -رحمه الله- يكتب كتبه من ذاكرته دون ترتيب للمعلومات أو تناول للمصادر. ¬

_ (¬1) انظر: ص 399 من أصل الكتاب.

القسم الثاني: تحقيق الكتاب

القسم الثاني: تحقيق الكتاب

الباب الأول

الباب الأول ويتكون من فصلين: الفصل الأول: وصف النسخ الخطية ونماذج منها. الفصل الثاني: منهج التحقيق.

الفصل الأول: وصف النسخ الخطية للكتاب

الفصل الأول: وصف النسخ الخطية للكتاب بعد البحث والتدقيق حصلت بتوفيق الله على ست نسخ خطية، تم تحقيق الكتاب على أربع منها، واستفدت من الخامسة، وأعرضت عن السادسة لعدم صلاحيتها للمقابلة كما سيأتي. وقد اشتركت هذه المخطوطات في ملاحظتين: 1 - إن أول الكتاب سقط منها. 2 - جميعها متأخرة. وإليك وصف النسخ الخطية: * النسخة الأولى: وهي الأصل، الذي اعتمدت عليه في تحقيق الكتاب، حصلت على صورتها من قسم المخطوطات بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وهي مسجلة تحت رقم (1472) بمكتبة الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، وعلى طرتها ختم الجامعة - قسم المخطوطات، ورقمها، والعنوان؛ وهو: "كتاب الاستغاثة لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه- راداً على البكري". وقد رُقّمَتْ المخطوطة في أعلى الصفحات بترقيم جديد حيث بلغت 103 ورقة، وقد أخطأ واضع الترقيم في أوله؛ حيث رقم على أساس الصفحات في الأولى والثانية، ثم رقم على أساس الورقات فيما بعد، وأخطأ في العد في الورقة 101 حيث كرر الرقم مرتين. لذلك قصت بترقيمها على أساس عدد الصفحات في كل وجه صفحتان، وقد بلغت 206 صفحات، في كل صفحة 24 سطراً تقريباً، وفي كل سطر 12

* النسخة الثانية ورمزها (ف)

كلمة تقريباً وخطها جيد، فيه أغلاط إملائية، وعدم النقط أحياناً، والناسخ هو: "محمد بن عثمان بن يحيى"، كما جاء في آخر النسخة، وتاريخ النسخ (1284 هـ). وفي الهوامش تصحيح لبعض الكلمات، أو إكمال لسقط في الأصل، وفي أحيان قليلة أو نادرة التعليق على النص، قد تصل لثلاثة مواضع أو أربعة، والتعليق بخط الأصل نفسه. وفي الجانب الأعلى الأيسر وقف، نصه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يعلم الناظر إليه والواقف عليه؛ بأن فاضلة بنت سنان وقفت هذا الكتاب على طلبة العلم؛ بشرط الصيانة، وجعلت النظر لها مدة حياتها، فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم. كتبه شاهداً به (إبراهيم بن سعيد القويزاني) حُرِّر في سنة (1284 هـ). وتحت العنوان كلام حول التوكل واليقين لا علاقة له بالموضوع. * النسخة الثانية ورمزها (ف): وحصلت على صورتها من نسخة مصورة بالمكتبة السعودية بالرياض -التابعة لرئاسة البحوث العلمية والإفتاء، وهي مسجلة برقم (766)، وفي جامعة الملك سعود- قسم المخطوطات نسخة منها غير واضحة. وتقع في 190 صفحة؛ في كل صفحة 23 سطراً؛ وفي كل سطر عشر كلمات تقريباً، والمقاس 24 × 17 سم تقريباً. والناسخ هو الشيخ صالح بن عبد العزيز بن صالح بن مرشد، وتاريخ النسخ سنة (1319 هـ) وخطها جيد وواضح. وعلى طرة النسخة في الوسط العنوان، وهو: "كتاب الاستغاثة لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية -قدس الله روحه- راداً على ابن البكري جزى الله شيخ الإسلام عن الإسلام والمسلمين خيراً". وعلى الجانب الأيمن الأعلى في الصفحة الأولى وقف، ونصه: "يعلم من يراه بأن الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل سلمه الله وقف هذا الكتاب لوجه الله -تعالى- على طلبة العلم لا يباع ولا يورث ولا يحبس،

*النسخة الثالثة ورمزها (د)

فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إنه سميع عليم، وصلى الله على محمد سنة 1350 هـ" 22 ل (¬1). وهي أقرب النسخ إلى الأصل. * النسخة الثالثة ورمزها (د): وحصلت على صورتها من نسخة مصورة في دارة الملك عبد العزيز بالرياض، مسجلة برقم (739)، وأصلها في قسم المخطوطات بمكتبة جامعة الملك عبد العزيز بجدة في خزانة الشيخ محمد نصيف مسجلة برقم (2886)، وهي جزءان: الجزء الأول: تلخيص كتاب الاستغاثة ويقع 175 صفحة. الجزء الثاني: وهو نص الكتاب ويقع في 228 صفحة في كل صفحة 17 سطراً، وفي كل سطر عشر كلمات تقريباً، ومقسم على أربعة عشر كراساً، وتاريخ النسخ (1326 هـ) ولم يذكر اسم الناسخ. ومن هذه المخطوطة نشرت أول طبعة للكتاب سنة 1346 هـ، وفي أول المخطوط ذكر الناسخ أنها منقولة عن أصل لدى آل الشطي الحنابلة بدمشق. وهي نسخة جيدة، خطها كبير، مقابلة على نسخة أخرى، ويكثر الناسخ من ألفاظ الثناء بعد لفظ الجلالة؛ مثل: تعالى أو -سبحانه وتعالى- بعد لفظ الجلالة، وأيضاً يكثر الصلاة والسلام بعد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، زيادة على النسخ الأخرى، وأحياناً قليلة يبدل حروف العطف، الفاء بدل الواو، والواو بدل أو وغير ذلك، وأخطاء نحوية قليلة. وكل هذا لم أشر إليه، وقد أشرت إلى بعضه في الطبعة الأولى وعلى طرة النسخة في الوسط العنوان ونصه: "الجزء الثاني من كتاب الاستغاثة الشهير بالرد على ابن البكري، تأليف شيخ الإسلام علم الأعلام بحر العلوم العقلية والنقلية تاج السادة الحنبلية، الحافظ الناقد الورع الكامل أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الشهير بابن تيمية الحراني الحنبلي -قدس الله سره آمين- المتوفى سنة 728 هـ". وتحته تنبيه: "هذا الجزء نقل من قطعة هي من أصل كتاب الاستغاثة ¬

_ (¬1) كذا في الأصل المخطوط.

* النسخة الرابعة ورمزها (ح)

الكامل لمؤلفه شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وأما الجزء الذي قبله فإنما نسخ من تاريخ ابن كثير حيث اختصر هذا الكتاب فيه، فوصل الجزء الأول المختصر بهذا الثاني للفائدة الناجزة التي لا ينبغي أن يحرم قارؤه، ومتى ظفر بالأصل الكامل فيجب نسخه كله على حدة فليتنبه". (كتبه جمال الدين القاسمي). * النسخة الرابعة ورمزها (ح): وحصلت على صورتها من الأصل في مكتبة المعهد العلمي بحائل مسجلة برقم 13 ضمن مجموع، في مكتبة الشيخ علي العبد الله اليعقوب. وتقع في 148 صفحة وهي غير مرقمة، في كل صفحة 31 سطراً، وفي كل سطر خمس عشرة أو ست عشرة كلمة، وخطها متقن وجيد، قليلة الأخطاء. والناسخ هو عطية بن سليمان -أحد علماء حائل-، وتاريخ النسخ 1320 هـ. وعلى طرة المخطوطة العنوان وهو: "كتاب الاستغاثة، تأليف شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية في الرد على البكري". وتحته وقف في وسط الصفحة، نصه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فليعلم الناظر فيه والمطلع عليه، بأن هذا الكتاب وقف لوجه الله -تعالى- لا يباع ولا يوهب ولا يبدل، فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم، وهو بيد كاتب الأحرف طلال بن نايف مدة حياته، ثم من بعده لطلبة العلم المستحقين بشرط الحفظ والصيانة والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين سنة 1322 هـ" (ختم طلال بن نايف). وفي الطبعة الأولى ولم أحصل على نسخة واضحة منها، حيث صورت على آلة التصوير العادية، مما أدى لعدم وضوح بعض الكلمات التي بين الوجهين، لذا لم أُشِرْ إلى اختلافها أو ما لا يظهر في الصورة، إلا عند

الضرورة، واستفدت منها في الترجيح بين النسخ الثلاث الأخرى، ثم حصلت على نسخة واضحة وراجعت المواضع التي تحتاج إلى مراجعة في الطبعة الثانية. * * * وهناك نسخ أخرى ليس لها أهمية ولم أستفد منها في مقابلة النسخ، أذكرها باختصار وهي: 1 - نسخة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، والمخفوظة برقم 5053/ خ في قسم المخطوطات، وقد حصلت على نسخة منها، وليس عليها عنوان، وهي مجموع كبير غير مرقم ولا مرتب، أوله عن المحبة (مجهول المؤلف)، وآخره كتاب الاستغاثة، إلا أن أوراقه غير مرتبة، وفيها ما ليس من الكتاب , وتاريخ النسخ سنة 1274 هـ، وخطه جيد، وفيه سقط كلمات وأسطر وصفحات أحياناً. 2 - "خلاصة رد ابن تيمية على البكري في الاستغاثة"، والمحفوظة في خزانة المكتبة التيمورية برقم (281)، وعدد صفحاتها 270 صفحة، منها 138 تلخيص كتاب الاستغاثة، و 132 لصفحة نص كتاب الاستغاثة، والناسخ هو محب الدين الخطيب الدمشقي، وتاريخ النسخ صفر سنة 1319 هـ. وقد حصلت على نسخه منها، وهي كما في عنوانها خلاصة للرد، وليست نفس كتاب الاستغاثة، حيث تصرف الناسخ في نص الكتاب، ما بين حذف وإضافة، وتبديل للنص وتقديم وتأخير، لذا أعرضت عنها سوى مواطن قليلة، وأشير إليها بـ "ت". 3 - قطعة من كتاب الاستغاثة، حصلت عليها من الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل، وأصلها محفوظ في مكتبة الدولة ببرلين بألمانيا، وهذه النسخنة عبارة عن مقتطفات من الكتاب في خمس عشرة صفحة. 4 - هذه النسخة ليست للكتاب، وعنوانها: "رد ابن تيمية على البكري في الاستغاثة"، وهي صفحات قليلة من تلخيص الاستغاثة، وفي فهرس خزانة المكتبة التيمورية ذكر أنها نسخة من الكتاب، وليست كذلك، وقد حصلت على نسخة منها وهي محفوظة في خزانة المكتبة التيمورية برقم (405).

* تاريخ تأليف الكتاب

* تاريخ تأليف الكتاب: رد البكري على ابن تيمية كان بعد تأليف ابن تيمية لرسالة الاستغاثة، والتي كتبها سنة 711 هـ، كما ذكر ذلك في قاعدة جليلة حيث يقول: "وكنت وأنا بالديار المصرية في سنة إحدى عشرة وسبعمائة قد استفتيت في التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ... " (¬1). وقد ألف ابن تيمية الكتاب على مرحلتين: الأولى: قبل 714 هـ، والثانية بعد ذلك. يقول -رحمه الله-: "كنت قد أجبت عن كلامه إلى هذا الموضع واتفقت أمور شغلت عن تمام ذلك، حتى أنزل الله بأسه بهذا الجاهل الظالم وحزبه الجاهلين الظالمين" (¬2). ومراده بقوله: "حتى نزل الله بأسه بهذا الجاهل الظالم"، يشير إلى ما حدث للبكري مع السلطان في شهر محرم عام 714 هـ (¬3). فعلى هذا، الجزء الأول من الكتاب أُلف ما بين عام 711 هـ إلى 714 هـ والجزء الثاني بعد 714 هـ، وقبل وفاة البكري 724 هـ، فظاهر كلام ابن تيمية أن البكري حي. ولعل تأليف الكتاب على مرحلتين كان سبباً في ضياع الجزء الأول منه. ولم يشر المؤلف هنا صراحة إلا إلى كتابه "الصارم المسلول"، ويُرجع إلى بحوثه الأخرى دون ذكر لها. ¬

_ (¬1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 244. (¬2) تلخيص الاستغاثة ص 142. (¬3) انظر: البداية والنهاية، لابن كثير 14/ 76.

الصفحة الأولى والأخيرة من المخطوط الأصل المحفوظ في جامعة أم القرى

الصفحة الأولى والأخيرة من مخطوطة (ف) المحفوظة بالمكتبة السعودية

الصفحة الأولى والأخيرة من مخطوطة (د) المحفوظة بدارة الملك عبد العزيز

الصفحة الأولى والأخيرة من مخطوطة (ح) المحفوظة في معهد حائل العلمي

الفصل الثاني: منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه

الفصل الثاني: منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه (1) تحقيق النص: سلكت في تحقيق النص أن جعلت أفضل النسخ أصلاً، وقارنتها بغيرها وهي نسخة أم القرى، فما سقط من الأصل أثبته من النسخ بين معقوفين []، وما كان من زيادة أو سقط من النسخ الأخرى بينته في الهامش، مع وضع النقص قوسين ()، وما سقط من نص الكتاب في جميع النسخ، حاولت إكماله من الكتاب نفسه إذا كان المؤلف كرر الكلام نفسه في موضع آخر، أو من كتبه الأخرى، أو مِمَنْ نقل عن هذا الكتاب، فإن لم أجد في ذلك، اجتهادت ووضعت ما أظنه يناسب المعنى، وهذا قليل جداً. وجعلت كلام البكري بين قوسين متميزين {}، وعزوت الآيات في المتن بين معقوفين صغيرين، وبينت مواضع بداية صفحة المخطوطة الأصل بخط مائل، يقابله رقم الصفحة في الجانب الأيسر. وقد أغفلت ألفاظ الثناء بعد لفظ الجلالة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في نسخة (د) لكونها زيادات من الناسخ. (2) عزو الأحاديث والآثار: في عزو الأحاديث حاولت -بقدر الإمكان- الاختصار، واقتصرت على القدر الضروري في عزو الحديث؛ تفادياً لإثقال الكتاب بالحواشي. فالأحاديث الموجودة في الصحيحين، أو أحدهما، فإني أكتفي في الغالب بعزوها لكل منهما أو أحدهما، لأن المقصود هو الاطمئنان على درجة الحديث، وذلك حاصل بعزوه للصحيحين أو أحدهما.

(3) توثيق الأقوال والمسائل والآراء الفقهية

واذا كان أصله في الصحيحين وليس اللفظ لهما فإني أعزوه لهما ولصاحب اللفظ، دون أن أطيل في التخريج. وإذا لم أجد اللفظ الذي ذكره المؤلف، فإني أذكر المصادر التي ألفاظها قريبة من لفظ المؤلف، ولا أذكر المصادر الأخرى. وأما الأحاديث التي ليست في الصحيحين، فإني أجتهد قدر استطاعتي في نقل أقوال العلماء المعتبرين في درجتها، وإذا كان بينهم اختلاف في درجته، بذلت الجهد في الترجيح. وإذا لم أجد في الحديت كلاماً لأحد الأئمة، أجتهد في دراسة سنده بنفسي، مع الاستعانة بأهل الاختصاص، ثم أذكر ما توصلت إليه وهذا قليل جداً. أما الآثار عن السلف التي ينقلها المؤلف، فإني أبذل جهدي في تخريجها من مصادرها؛ إذا لم أجد من تكلم على إسنادها، أتكلم عليه أو أنقل السند للقارئ؛ إذا لم أتمكن من نقده، وما لم أجد مصادره بينت ذلك. (3) توثيق الأقوال والمسائل والآراء الفقهية: حرصت على توثيق كل مسألة ذكرها المؤلف، وبيان مصدرها، وإذا لم يتيسر ذلك نقلت من المراجع التي نقلت من المصدر الأصلي. وقد أذكر بعض الأقوال والآراء التي تعضد رأي المؤلف من المتقدمين أو المتأخرين باختصار، حتى لا أثقل الكتاب. إلا أنه واجهني أن المؤلف نقل من بعض الكتب النادرة، ككتب الباطنية، وكتب غلاة الصوفية وغيرهم، وهذه لا تتوفر في هذه البلاد -حفظها الله بحفظه- وهي نادرة في كثير من البلاد، وفي كثير من المكتبات الكبيرة، ولذلك لم يتيسر توثيق هذه الأقوال، وقد وثقت ما وقع لي بمراجع مساعدة أو ناقلة عن المصادر الأصلية. كما خرّجت الشواهد الشعرية، ونسبتها إلى قائليها، وقليل منها لم أعرف قائله. ومع ذلك، فهناك مسائل وأقوال لم أجد لها مراجع، من نصوص

(4) التراجم والتعريفات

ونقول، أو آراء ونحوها، وحسبي أني بحثت وبذلت الجهد في البحث والاستقصاء، والله الموفق. (4) التراجم والتعريفات: عرَّفت بالأعلام غير المشهورين في أول مرة يذكرهم المؤلف، ولم أعرف بالمشهورين؛ لأن التعريف بهم غمط لشهرتهم، كمشاهير الصحابة، والأئمة الأربعة، واكتفيت بمرجعين أو ثلاثة للتعريف، في الغالب، أما القبائل والأماكن والكلمات فأعرف منها ما أرى أنه يحتاج إلى تعريف. (5) المصادر والمراجع: حرصت كل الحرص على أن أوحد النسخة والطبعة لكل مرجع، ليسهل على القارئ والباحث الرجوع إلى المراجع التي عزوت إليها عند الحاجة، وقد ذكرت كامل المعلومات عن المرجع في أول مرة أذكره. وفي حالات قليلة اضطررت للرجوع إلى طبعة أخرى، فأشير إلى الطبعة المغايرة في الهامش. (6) الرموز والمصطلحات: نظراً لكثرة الرجوع إلى بعض الكتب، حاولت اختصار أسمائها، فقد رمزت لكتاب سير أعلام النبلاء للذهبي بـ (السير). وأما رموز النسخ فهي كما يلي: الأصل: نسخة جامعة أم القرى. ف: نسخة الإفتاء. د: نسخة دارة الملك عبد العزيز، وأصلها بجامعة الملك عبد العزيز. ح: نسخة المعهد العلمي بحائل. ت: نسخة المكتبة التيمورية. ط: النسخة المطبوعة عام 1346 هـ.

الباب الثاني: كتاب تلخيص الاستغاثة لابن كثير

الباب الثاني: كتاب تلخيص الاستغاثة لابن كثير ويتكون من فصول: الفصل الأول: تعريف بالكتاب والملخص. الفصل الثاني: نسبة التلخيص لابن كثير. الفصل الثالث: منهج ابن كثير في التلخيص. الفصل الرابع: الموضوعات التي انفرد بها التلخيص. الفصل الخامس: الموضوعات التي سقطت من الكتاب الأصل أو جاءت مختصرة فيه.

الفصل الأول: كتاب تلخيص الاستغاثة

الفصل الأول: كتاب تلخيص الاستغاثة (¬1) حظيت كثير من المصنفات المفقودة؛ أو أجزاء منها؛ قبل فقدانها باهتمامات ودراسات نفيسة، حفظت لنا قطعاً من تلك الكتب المفقودة كالمنتخبات والمنتقيات والتهذيبات والمختصرات وغيرها (¬2). ومن هذه الكتب كتابنا موضوع الدراسة، كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري"، فقد لخصه ابن كثير في كتاب "تلخيص كتاب الاستغاثة". والتلخيص في اللغة هو: التبيين والشرح، يقال لخصت الشيء ولحصته، بالخاء والحاء، إذا استقصيت في بيانه وشرحه وتحبيره، ويطلق التلخيص أيضاً على: التقريب والاختصار. وقد جاء كتاب "تلخيص الاستغاثة" مطابقاً لمعناه، فقد لخص موضوعات الكتاب الأصل، وقرب مسائله، وشرح أخرى، وذكر ما فقد منه، واختصر مطوله وجمع مكرره. وقد طبع كتاب "تلخيص الاستغاثة" في مقدمة كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري" عام 1346 هـ في المطبعة السلفية - مصر، وجُعلا كتاباً واحداً، فعلى غلافه وضع عنوانه كما يلي: "تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري"، ففي هذا العنوان خطأ علمي أوقع بعض الباحثين في أخطاء علمية. ¬

_ (¬1) وضع التلخيص مع هذا الكتاب سيوقع كثيراً من الناس في الخطأ، ثم بأيهما يسمى الكتاب، وهما كتابان مختلفان. لذا فقد ذكرته هنا للاستفادة منه في معالجة النقص في "كتاب الاستغاثة في الرد على البكري". (¬2) انظر: القواعد المنهجية في التنقيب عن المفقود من الكتب والأجزاء التراثية، تأليف د. حكمت بشير ياسين ص 163 ط الأولى 1412 هـ, الناشر مكتبة المؤيد - الرياض.

وقد أُعيد طبعه عام 1405 هـ بالدار العلمية - الهند، دون أي تصحيح. ويقع التلخيص في 155 صفحة من القطع المتوسط. وبعد البحث حصلت على ثلاث نسخ خطية لكتاب تلخيص الاستغاثة وهي: * النسخة الأولى: جاءت في مقدمة نسخة دارة الملك عبد العزيز (د) والتي أصلها في مكتبة جامعة الملك عبد العزيز بجدة، في خزانة الشيخ محمد نصيف والمسجلة برقم (2886)، ويقع التلخيص في 175 صفحة، وفي آخره: "بلغ معارضة على أصل مخطوط جيد في دمشق الشام، وتمت المعارضة في 25 جمادى الثانية 1330"، وكتبه جمال الدين القاسمي عُفي عنه. وعلى هذه النسخة طبع الكتاب. * النسخة الثانية: جاءت أيضاً في مقدمة نسخة المكتبة التيمورية والتي عنوانها: "خلاصه رد ابن تيمية على البكري في الاستغاثة"، والمسجلة برقم (281)، ويقع التلخيص في 138 صفحة. والناسخ هو الشيخ محب الدين الخطيب الدمشقي، وتاريخ النسخ صفر 1319 هـ. * النسخة الثالثة: وهي قطعة من التلخيص، وليس فيها شيء من نص الكتاب، وعنوانها "رد ابن تيمية على البكري في الاستغاثة"، وهي محفوظة في خزانة المكتبة التيمورية برقم (405). وينسب التلخيص للإمام العلامة عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي (ت 773 هـ)، صاحب كتاب "تفسير القرآن العظيم" والبداية والنهاية" وغيرهما. وهو تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية مؤلف كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري"، وقد كان ابن كثير معجباً بشيخه ابن تيمية محباً له، حتى امتُحن بسبب ذلك، وأوذي وسُجن.

فهو قام بخدمة كتاب شيخه الذي خشي عليه من الضياع، بعد أن فقدت أجزاء منه كان قد اطلع عليها، وهو في نفس الوقت رد على من رد على شيخه ابن تيمية.

الفصل الثاني: نسبة التلخيص لابن كثير

الفصل الثاني: نسبة التلخيص لابن كثير ليس بالأمر الهين أن نؤمن بصحة نسبة أي كتاب كان إلى مؤلفه، ولا سيما الكتب غير المشهورة، ولا بد من التأكد من ذلك بالنظر في فهارس الكتب والمؤلفين، ودراسة مادة الكتاب نفسه. وهنا لا نجد مصادر مستقلة تنسب هذا التلخيص لابن كثير، أو تتكلم عن التلخيص أصلاً، فليس أمامنا سوى ما جاء على المخطوطات ودراسة مادة الكتاب ومقارنتها بمؤلفات المؤلف الأخرى، وإليك الأدلة التي تؤيد نسبة كتاب تلخيص الاستغاثة لابن كثير: أولاً: ورد في مقدمة التلخيص نسبته لابن كثير حيث كُتب في وسط الصفحة: "يعرف هذا الكتاب بالرد على البكري (كلمة غير واضحة) وجد في مجموع مخطوط في مكتبة الأفاضل بني الشطي شيوخ الحنابلة في دمشق الشام منقولاً من تاريخ ابن كثير -رحمه الله تعالى- وقد لخص أصل كتاب الشيخ -رضي الله عنه-" (¬1). ويؤكد العلامة جمال الدين القاسمي هذه النسبة فيقول في بداية الكتاب الأصل: "وأما الجزء الأول الذي قبله، فإنما نسخ من تاريخ ابن كثير حيث اختصر هذا الكتاب فيه" (¬2). ولم أجد في النسخ المطبوعة لتاريخ ابن كثير ذكر لهذا التلخيص، وهذا أمر مستبعد، فإن تلخيص الكتب أو الإطالة في ذكرها ليس من منهج ابن كثير في تاريخه، ولكن المحتمل أن يكون اختصره في الكتاب المفقود الذي أفرده لترجمة ابن تيمية (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الصفحة الأولى من المخطوطة (د)، وفي بداية التلخيص: ترجمة البكري من تاريخ ابن كثير، ولعل الذي نقلها النساخ. (¬2) انظر: صفحة العنوان من المخطوطة (د). (¬3) انظر: أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف محمد بن إبراهيم =

لعل ابن كثير لم يصرح في كتبه الأخرى بذكر هذا التلخيص خوفاً على نفسه، فقد أوذي لانتسابه لشيخ الإسلام، وقوله ببعض فتاويه. ثانياً: الملخِّص عالم بالرجال وبالجرح والتعديل، وبالحديث وعلله، فهو يطيل في نقد الرواة، ويوازن بين أقوال النقاد وعلماء الرجال، ويبين درجة الأحاديث، ويعزوها لمصادرها وبأسانيدها أحياناً. ثالثاً: وهو أيضاً من كبار تلاميذ الشيخ، واسع الاطلاع، فيصرح ببعض مصادر ابن تيمية التي نقل منها ولم يذكرها، وهذه الصفات تتوفر في ابن كثير. رابعاً: اهتمام ابن كثير بترجمة البكري في تاريخه، أكثر من خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية الآخرين، مع أنه من أقلهم شأناً، فقد يدل ذلك على أن له جهداً علمياً في هذا المجال. خامساً: موافقته لآراء ابن كثير: أ- عند ذكره لخبر دانيال (¬1)، قال: "وهذا قد رويناه في كتاب المغازي لابن إسحاق من رواية يونس بن بكير إلى أبي العالية"، وهذا السند ذكره ابن كثير في قصص الأنبياء (¬2). ب- وأيضاً حديث: "لا يستغاث بي"، ضعفه في التلخيص (¬3)، وفي التفسير قال: "هذا الحديث غريب جداً" (¬4). جـ- في تفسير قول الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1]، قال في التلخيص (¬5): "فجعل المشركين غير أهل الكتاب"، وهذا ¬

_ = الشيباني ص 188، فقد ذكر هذا الكتاب المفقود. ومقدمة مسند الفاروق لابن كثير للمحقق د. عبد المعطي قلعجي ص 85، فقد ذكره بعنوان "مناقب ابن تيمية" ضمن الكتب المفقودة. (¬1) تلخيص الاستغاثة ص 29. (¬2) ص 527 الطبعة الثامنة 1408 هـ الناشر دار القلم بيروت - لبنان. (¬3) تلخيص الاستغاثة ص 153. (¬4) تفسير القرآن العظيم لابن كثير طبعة 1403 هـ الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان 3/ 173. (¬5) ص 149.

هو رأي ابن كثير في تفسير هذه الآية في كتابه تفسير القرآن العظيم (¬1). د- عند ذكره لذي القرنين في التلخيص (¬2) قال: "والصحيح أنه لم يكن نبياً"، وفى البداية والنهاية قرر ذلك فقال: "والصحيح أنه كان ملكاً من الملوك العادلين" (¬3)، وضعف الروايات التي ذكرت نبوته. فلهذه الأدلة وعدم المنازع في نسبته، فالراجح صحة نسبته إليه. ¬

_ (¬1) 4/ 537. (¬2) ص 64. (¬3) 2/ 105.

الفصل الثالث: منهج ابن كثير في التلخيص

الفصل الثالث: منهج ابن كثير في التلخيص أولاً: حاول ابن كثير ذكر المفقود من الكتاب بلفظ الشيخ، فيورد أكثر هذه المواضع بقوله: "قال الشيخ", ثم يذكر رد الشيخ، وقد يستطرد أحياناً في الرد من عنده. فمن ذلك حديث الكوة، فقد أشار ابن تيمية (¬1) إلى تقدمه في أول الكتاب "المفقود"، ونجد ابن كثير يذكره بالنص. وهذا يؤكد أن الملخص وقف على الجزء المفقود. ثانياً: لم يتطرق لبعض الموضوعات الموجودة في آخر الكتاب، مثل حديث حجاج آدم وموسى. ثالثاً: لخص بعض الموضوعات الأخرى الموجودة في الكتاب الأصل، وجمع كلام المؤلف في موضع واحد رابعاً: كرر بعض الموضوعات مثل سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة والسلام عليه بعد وفاته، (¬2) وغيره. خامساً: في التلخيص مواضع ليست من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، مثل وصف ابن كثير لكتاب ابن تيمية الرد كلى البكري، وفي الغالب إذا قال الملخص: "والمقصود"، فما بعدها من كلامه. سادساً: ضعف الملخص، حديث: "لا يستغاث بي"، وابن تيمية لم يجزم بضعف الحديث أو صحته في موضعين من الأصل (¬3)، بل يرى ابن تيمية أن غالب أحاديث ابن لهيعة الصحة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: ص 265. (¬2) تلخيص الاستغاثة ص 34 - 35، وص 117 - 118. (¬3) انظر: ص 184، 186 من الأصل، وص 153 من التلخيص. (¬4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 26.

الفصل الرابع: الموضوعات التي انفرد بها التلخيص أو أطال فيها

الفصل الرابع: الموضوعات التي انفرد بها التلخيص أو أطال فيها * أولاً: الموضوعات التي انفرد التلخيص بذكرها: أ- رأى ابن تيمية في البكري أنه لا يخاطب خطاب العلماء، ووجوب تعزيره التعزير البليغ، وأنه ليس له خبرة بالأدلة الشرعية، أو أقوال أهل العلم، ويشكك في سريرته ومراده، ثم يكله لله تعالى (¬1). ب- سبب تأليف هذا الرد، فإنه بطلب من أصحاب ابن تيمية حتى لا يضل الناس بكلام البكري، وأن الكلام في هذه المسألة من أفضل الكلام، إذ فيه بيان التوحيد ونفي الشرك عن الله تعالى (¬2). جـ- تأليب البكري للسلطة على ابن تيمية، فقد نقل عنه ابن تيمية قوله: (ولقد خشيت على كثير من أهل الإقليم بسبب تقاعدهم عن نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإهلاكه وإهلاك أمثاله، خصوصاً أهل الدولة وأصحاب الحكم)، وفي رد ابن تيمية أبان أنه رد عليه إلى هذا الحد ثم شغل عنه، حتى حصل موقف البكري مع السلطان ونفاه عن القاهرة ومنعه من الفتوى، فأكمل الرد عليه (¬3). د- دعوى البكري أن جماعة من الأنبياء توسلوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - منهم نوح وإدريس وأيوب -عليهم السلام-، ولم يذكر لها إسناداً أو يعزُها، وقد رد عليه ابن تيمية وبيَّن كذبه في هذه الدعوى (¬4). ¬

_ (¬1) تلخيص الاستغاثة ص 3. (¬2) المرجع السابق ص 4. (¬3) المرجع السابق ص 142 - 143. (¬4) المرجع السابق ص 6, 22 قلت: وقد نقل البكري هذه الدعوى عن الرافضة كما سيأتي.

* ثانيا: الموضوعاث التي أطال الملخص فيها

* ثانياً: الموضوعاث التي أطال الملخص فيها: وردت بعض الموضوعات في أصل الكتاب مختصرة جداً، وأطال الملخص فيها وهي: أ- أدلة البكري في الاستغاثة وهي: * توسل آدم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأكل من الشجرة (¬1). * القصة المنسوبة للإمام مالك مع أبي جعفر المنصور (¬2). * حديث فتح الكوة على القبر الشريف (¬3). * حديث الأعمى في التوسل (¬4). ب- سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة والسلام عليه، وذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وانتهى إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - يسمع القريب ويُبلغ سلام البعيد وصلاته, وإذا لم يسمع الصلاة والسلام من البعيد إلا بواسطة فمن باب أولى أن لا يسمع دعاء الغائب واستغاثته، وكرر هذا في موضعين (¬5). جـ- تضعيف حديث: "لا يستغاث بي" وذكر أن المؤلف أورده للاعتضاد به، وليس للاعتماد عليه، وأنه موجود في دواوين الإسلام من قرون متطاولة، ولم ينكر لفظه أحد من أهل العلم (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: ص 262 من هامش الأصل، وص 5 وما بعده من تلخيص الاستغاثة. (¬2) انظر: ص 264 من هامش الأصل وص 25 من التلخيص. (¬3) انظر: ص 265 وما بعدها من هامش الأصل الكتاب وص 28 وص 69 من التلخيص. (¬4) انظر: ص 257 من هامش الأصل الكتاب وص 128 من التلخيص. (¬5) انظر: ص 227 من أصل الكتاب وص 33 وما بعدها وص 118 - 121 من التلخيص. (¬6) انظر: ص 199 من أصل الكتاب وص 153 - 155 من التلخيص.

الفصل الخامس: الموضوعات التي فقدت من الكتاب الأصل أو جاءت مختصرة فيه

الفصل الخامس: الموضوعات التي فقدت من الكتاب الأصل أو جاءت مختصرة فيه البحث عن نصوص كتاب مفقود يحتاج إلى بحث دقيق، في اختيار المصادر وانتقاء النصوص منها (¬1)، وحيث أن كتاب تلخيص الاستغاثة تلخيص "لكتاب الاستغاثة في الرد على البكري"، لذلك حفل بنصوص لم ترد في الأصل. فتتميماً للفائدة، قمت بجمع هذه النصوص والتي فقدت من كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري" أو جاءت مختصرة فيه، واتبعت المنهج الحالي: * وضع عنوان لكل فقرة. * جمع كل موضوع في فقرة واحدة وإن جاء في التلخيص مكرراً أو متفرقاً، مع حذف المكرر. * المحافظة على نص التلخيص وعبارته ما أمكن إلى ذلك سبيلاً. * عزو الآيات والأحاديث باختصار شديد، والإحالة على كتاب التلخيص المحقق. * عدم التعريف بالأعلام أو الأماكن أو التعليق على القضايا. * إصلاح السقط، أو العبارة الركيكة من الأصول الخطية أو حسب ما يقتضيه السياق. ¬

_ (¬1) القواعد المنهجية ص 25.

1 - رأي ابن تيمية في البكري

1 - رأي ابن تيمية في البكري: قال ابن تيمية: رأيت أن مثل هذا لا يخاطب خطاب العلماء، وإنما يستحق التأديب البليغ، والنكال الوجيع الذي يليق بمثله من السفهاء، إذا سلم من التكفير فإنه لجهله ليس له خبرة بالأدلة الشرعية التي تتلقى منها الأحكام، ولا خبرة بأقوال أهل العلم الذين هم أئمة أهل الإسلام. بل يريد أن يتكلم بنوع مشاركة في فقه وأصول وتصوف، ومسائل كبار بلا معرفة ولا تعرُّف، والله أعلم بسريرته، هل هو طالب رياسة بالباطل، أو ضال يشبّه الحالي (¬1) بالعاطل، أو اجتمع فيه الأمران، وما هو من الظالمين ببعيد. 2 - وصف ابن تيمية لرد البكري عليه: قال: وكلامه في الاستغاثة بغير الله أتى فيه من الجهالات بالعجب العجاب. قال: فمجموع ما قاله ما علمت أنه سبقه إليه أحد من المسلمين، ومع هذا لم يجترئ على أن يكتب فيها شيئاً حتى نظر جوابي في الاستفتاء الذي كتبته، وأرسل به إليّ، فاستعان به على ما قاله، وأعاره بعض الأمراء -كما أخبرني (¬2) - كتابي الذي كنت صنفته من مدة وسمَّيته: "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، فإني ذكرت فيه ما يجب على من سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من العقوبات الشرعية، وذكرت فيه من أصول هذه المسألة وفروعها والدلائل الشرعية عليها، وكلام أئمة الإسلام فيه، ما يعرفه من وقف عليه. فأخذ هذا الكلام مما ذكرته في ذلك وجعلته صيانة لعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل النفاق والاعتداء، ما استعمله هذا الجاهل الظالم في حق أهل العلم والاهتداء. 3 - سبب رد ابن تيمية على البكري: قال شيخ الإسلام: ثم إن الأصحاب تقاضوني تعليقاً على كلام هذا ¬

_ (¬1) كذا في الأصول الخطية. (¬2) في الرد على البكري ص 386 لم يذكر هذه الزيادة.

4 - استدلال البكري بحديث آدم في الرد على ابن تيمية

الظالم الجاهل لئلا يضل بكلامه بعض الطغام، حتى قال بعضهم: إن الكلام على هذه المسألة من أفضل الكلام، إذ فيها بيان التوحيد ونفي الشرك عن الصمد المجيد، فإن أول ما نشأ الشرك وعبادة غير الله من القبور، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الهياج الأسدي أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال له: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّيته" (¬1)، فأمره بمحو الشرك وأصله الذي ينشأ منه. 4 - استدلال البكري بحديث آدم في الرد على ابن تيمية: مما استدل به البكري الحديث الذي يُروى أن آدمَ -عليه السلام- لما أكل من الشجرة وجرى ما جرى استشفع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله، فقال له: "يا آدم كيف عرفت محمداً ولم أخلقه بعد؟ "، قال له: "لما نفخت فيّ الروح رفعت رأسي فرأيت على قائم العرش لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، فقلت: إنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك"، فقال: "صدقت يا آدم إنه لأحب خلقي إليّ، وإذ سألتني به فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك وهو آخر الأنبياء من ذريتك" (¬2)، ذكره في رده مع نظائره من هذا الجنس الذي لا يستجيز الصبيان ذكره، فضلاً عن الجهال، فضلاً عمن شمَّ للعلم شة أو نشق له رائحة. قال (¬3): وقد رواه بصيغ مختلفة من المفسرين والمحدثين من لا أحصيهم كثرة ولم يروه من المرويات المنكرة. قال: وقد جاء أن نوحاً وإدريس وأيوب وموسى وجماعة من الأنيياء توسلوا به. * رد ابن تيمية (قال شيخ الإسلام ابن تيمية) في نقض كلامه وحل إبرامه: فيقال: أولاً: هذا الحديث وأمثاله لا يحتج به في إثبات حكم شرعي، لم يسبقه أحد من الأئمة إليه، وإثبات عبادة لم يقلها أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم؛ إلا من هو أجهل الناس بطرق الأحكام الشرعية وأضلهم في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في (كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر) 2/ 666 رقم 969 واللفظ له إلا قوله: "لا أدع"، فلفظ مسلم: "لا تدع". (¬2) سيأتي تخريجه في ص 262. (¬3) أي البكري.

المسالك الدينية، فإن هذا الحديث لم ينقله أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بإسناد حسن ولا صحيح بل ولا ضعيف يستأنس به ويعتضد به، وإنما نقل هذا وأمثاله كما تنقل الإسرائيليات التي كانت في أهل الكتاب، وتنقل عن مثل كعب ووهب وابن إسحاق (¬1)، ونحوهم ممن أخذ ذلك عن مسلمة أهل الكتاب أو غير مسلمتهم أو عن كتبهم. كما روي أن عبد الله بن عمرو وقعت له صحف يوم اليرموك من الإسرائيليات فكان يحدث منها بأشياء. ويكفيك أن هذا الحديث ليس في شيء من دواوين، الحديث التي يعتمد عليها. وقد جمع غير واحد من الحفاظ قصة آدم (¬2)، ومن أجمعهم أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه الكبير"، فإنه روى عامة ما رواه الناس ولم يذكر هذا، وإنما ذكر هذا وأمثاله من يجمع الموضوعات الكثيرة والأكاذيب العظيمة. ومما يبين كذب هذا أن الله -سبحانه وتعالى- قال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 37 - 38]، فأخبر أنه تاب بالكلمات التي تلقاها منه وقد قال تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية، فأخبر أنه أمرهم بالهبوط عقب هذه الكلمات، وأخبر أنه تاب عليه عقب الكلمات وأمره بالهبوط، فكان أمره بالهبوط عقب الكلمات التي تلقاها منه وهي قولهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، أو كلمات تشبه هذه الكلمات ذكر ذلك طائفة كثيرة من المفسرين، ومن ذكر أن الكلمات التي تلقاها من ربه غير هذه لم يكن معه حجة في خلاف ظاهر القرآن. وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب "التوبة" في هذه الكلمات أشياء كثيرة كلها تدور على ما ذكره الله في كتابه من قول آدم وحواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وأيضاً فإن قولهما: {ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} يتضمن الإقرار والاستغفار، ومن هو دون آدم أقر بذنبه واستغفر منه غُفِرَ له، كما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: "إن كنتِ ألممتِ بذنب فاستغفري وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله ¬

_ (¬1) أشار المؤلف لهذا في الأصل ص 322 , وانظر: غير مأمور تراجمهم هناك. (¬2) أي قصة آدم وأكله من الشجرة، وتوبته، ولم يذكر هذا الخبر الباطل.

5 - كذب البكري في تكثير رواة حديث توسل آدم

عليه" (¬1) وقال -تعالى-: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110]، وكذلك الآية التي في آل عمران، وإذا حصلت مغفرة بالتوبة حل المقصود لها لا بغيرها، وقد ثبت في الصحيح عن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله وأن التوبة تهدم ما كان قبلها" (¬2). وأيضاً فلو كان آدم قد قال هذا لكانت أمة محمد أحق به منه، بل كان الأنبياء من ذريته أحق، وقد علم كل عالم بالآثار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أمته به؛ ولا نقل عن أحد من الصحابة الأخيار؛ ولا نقله أحد من العلماء الأبرار، فعلم أنه من أكاذيب أهل الوضع والاختلاق الذين وضعوا من الكذب أكثر مما بأيدي المسلمين من الصحيح (¬3)، لكن الله فرق بين الحق والباطل بأهل النقد العارفين بالنقل علماء التعديل والتجريح. 5 - كذب البكري في تكثير رواة حديث توسل آدم: وأما قوله: (إن هذا قد رواه بصيغ مختلفة من المفسرين والمحدثين ... إلى آخره)، فما أدري من أيهما أعجب من تكثيره لمن رواه كأنهم من الحفاظ الكبار أو من سكوته عن مقابلتهم بالرد والإنكار، إذ مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن هو عارف بطرق الحديث مميز بين الصحيح والضعيف. 6 - الأحاديث الواردة في كتابة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقد روى أبو بكر الآجري وابن الجوزي آثاراً في أن اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مكتوباً على ساق العرش وعلى أبواب الجنة، وهذا ممكن، فإنه قد ثبت عن ميسرة قال: قلت يا رسول الله متى كنت نبياً، وفي رواية: متى كتبت نبياً؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" (¬4)، وفي مسند أحمد وغيره بإسناد حسن عن ¬

_ (¬1) سيأتي تخريج الحديث ص 368. (¬2) أخرجه مسلم في (كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج) 1/ 12 رقم 121. (¬3) في ط: (الصحيح) وقد صححتها من الأصول الخطية. (¬4) أخرجه الترمذي في (كتاب المناقب، باب في فضل النبي) - صلى الله عليه وسلم 5/ 585 رقم 3609. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا =

7 - الأحاديث الموضوعة

العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينه سأنبئكم بأول أمري، دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني كأنها خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" (¬1)، وفي حديث أبي هريرة سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: متى وجبت لك النبوة؟ قال: "بين خلق آدم ونفخ الروح فيه" (¬2)، رواه الترمذي وحسنه، فتبين من هذه الأحاديث أن الله كتب اسمه بعد خلق آدم وقبل نفخ الروح فيه. 7 - الأحاديث الموضوعة: وأما ما يرويه كثير من الجهال والاتحادية وغيرهم من أنه قال: "كنت نبياً وآدم بين الماء والطين، وآدم لا ماء ولا طين" (¬3)، فهذا مما لا أصل له لا من نقل ولا من عقل، فإن أحداً من المحدثين لم يذكره، ومعناه باطل فإن آدم -عليه السلام- لم يكن بين الماء والطين قط، فإن الطين ماء وتراب، وإنما كان بين الروح والجسد. ثم هؤلاء الضلال يتوهمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حينئذٍ موجوداً وأن ذاته خلقت قبل الذوات، ويستشهدون على ذلك بأحاديث مفتراة مثل حديثٍ فيه: "أنه كان نوراً حول العرش" فقال: "يا جبريل أنا كنت ذلك النور" (¬4)، ويدّعي ¬

_ = من هذا الوجه. وفي الباب عن مسيرة الفجر، والإمام أحمد في المسند 5/ 59 واللفظ له وصححه ابن تيمية في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 2/ 147. (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/ 127 وغيره، وللتوسع. انظر: شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه للدكتور عبد الرحمن الفريوائي 2/ 449. وما بعدها. (¬2) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة 1/ 48. رقم 6 وقد عزاه ابن كثير في البداية والنهاية للترمذي أيضاً 3/ 18، ولم أجده في جامع الترمذي، ولا عزاه إليه أحد، وقد أخرج الترمذي الحديث السابق (وآدم بين الروح والجسد). والله أعلم. (¬3) حديث موضوع. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/ 283، وكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه 2/ 453. (¬4) حديث موضوع نسبه بعض الجهلة لمصنف عبد الرزاق، ولم يذكره في مصنفه، ولا في تفسيره، ولم يذكره المصنفون في الموضوعات سوى العلجوني في كشف الخفاء 1/ 265 - 266، مما يدل على أنه وضع متأخراً من قبل ابن عربي وأتباعه. انظر: تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام في حديث النور المنسوب لمصنف =

8 - دعوى البكري في توسل الأنبياء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -

أحدهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل. 8 - دعوى البكري في توسل الأنبياء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: وأعجب من هذا قوله: إن نوحاً وإدريس وأيوب وجماعة من الأنبياء توسلوا به، فمثل هذا [لا] (¬1) يجوز لمسلم أن يبني دينه الذي يكفر به من خالفه على مثل هذا النقل الذي لا يعتمد عليه من يدري ما يقول (¬2). ومعلوم أن ما جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - أضبط وأتم وأكمل، وهو علينا أوجب، وأمتنا به أعرف، ولو قال قائل في زماننا: قد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كذا وفعل كذا؛ محتجاً به من غير أن يعرف ما يستند إليه من العزو والإسناد لكان قائل ذلك من أصجهل الناس وأبعدهم عن طريق الرشاد، دع من يستدل على تكفير غيره مما يرويه عن أولئك الأنبياء الذين قد أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - إذا حدثنا أهل الكتاب عنهم أن لا نصدقهم ولا نكذبهم، بل مثل هذا إذا وجدناه في كتب أهل الكتاب أو في كتب المسلمين منقولاً، لم يجز لنا أن نصدقه، ومن صدقه فقد عصى الله ورسوله، ولو صح فغايته أن يكون شرع من قبلنا. 9 - أمثلة لما ورد عن أنبياء بني إسرائيل: وفي المأثور عن الأنبياء المتقدمين ما يدل على أن ذلك لم يكن مشروعاً لهم مثل ما ذكره الحافظ أبو نعيم في "كتاب الحلية" (¬3) في ترجمة أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا أبي، حدثنا [أحمد بن محمد بن عمر اللُّنَبانيُّ] (¬4)، حدثنا الحسين يعني أبا علي الحسين بن عبد الله بن شاكر السمرقندي: سمعت عبد الله بن ¬

_ = عبد الرزاق، تأليف: أحمد عبد القادر الشنقيطي ط. الثانية 1402 دار اليقين ص 6 وما بعدها. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصول الخطية، ولا يستقيم المعنى بدونه. (¬2) نقل البكري هذه الدعوى عن الرافضة. انظر: تفسير الحسن العسكري (ت 260 هـ) ص 90 - 91، نقلاً عن التفسير والمفسرون 2/ 95 - 96. (¬3) 10/ 9 ط الثالثة 1400 هـ، الناشر دار الكتاب العربي بيروت. (¬4) كذا في الحلية، أحمد بن محمد 10/ 9. وانظر: السير 15/ 311، وفي (ط) و (د) أحمد يعني محمد بن عمر اللبناني.

الجلا (¬1) يقول: قال يوسف عليه السلام: "اللهم أني أتوجه إليك بصلاح آبائي إبراهيم خليلك وإسحاق ذبيحك (¬2) ويعقوب إسرائيلك"، فأوحى الله إليه يا يوسف: "تتوجه إليّ بنعمة أنا أنعمت بها عليهم"، قال أحمد (¬3): فقلت لأبي سليمان الداراني: كنت لبعض الأولياء قبل اليوم أشد حباً، فقال: إنما يتقرب إليه بحب أوليائه [أولاً] (¬4) ثم بعد منزلة سعد (¬5) القلب، وقد ذكر بعض الناس في هذا الأثر أن الله قال له: "وأي حق لآبائك علي" (¬6)، لأنه -سبحانه وتعالى- هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والنبوة كما قال تعالى بعد ذكره لهم وثنائه عليهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} [مريم: 58] الآية، وكذلك الآية، التي في النساء: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] الآية، وقال في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}. وأما ما استحقوه عليه فكقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103]، فهو سبحانه أحقه على نفسه بحكم إحسانه وفضله ووعده، لا هم أحقوه عليه؛ كالحق الذي للإنسان على من له عنده يد، ولهذا ليس لأحد أن يُدِلَّ على الله بصلاح سلفه فإنه ليس صلاحهم من عمله الذي يستحق به الجزاء؛ كأهل الغار الثلاثة فإنهم لم يتوسلوا إليه بصلاح سلفهم وإنما توسلوا إلى الله بأعمالهم لما علموا أن الله -سبحانه وتعالى- يثيب العاملين على أعمالهم كما قال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وسعي غيره ليس له كما لا تزر وازرة وزر أخرى كما قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 36 - 39]، وإن ¬

_ (¬1) في الحلية (الحذاء) 10/ 9. (¬2) الذبيح هو إسماعيل -عليه السلام-، وهذا الخبر من الإسرائيليات، وقد جاء فيه ما خالف ديننا فهو مكذوب، وسيأتي رد المؤلف لها وأنه احتج بها لإلزام الخصم فقط. (¬3) أي أحمد بن أبي الحواري. (¬4) كذا في الحلية 10/ 9 وفي (ط) و (د) والتيمورية (أولى) ولا يستقيم المعنى. (¬5) كذا في (ط) و (د)، وفي الحلية (تشغل)، وفي التيمورية (تستعد). (¬6) وقد ذكر في موضع آخر أنه قد جاء قريب من ذلك عن داود -عليه السلام-.

10 - استدلال البكري بقصة الامام مالك مع أبي جعفر المنصور

كان المرء قد ينتفع بسعي غيره لكنه ليس له فلا [يمن] (¬1) ويدل بما ليس له (¬2). فإن كانت الإسرائيليات حجة فهذا فيه دليل، على أنه لا يسأل الله بحق الأنبياء. وإن لم تكن حجة لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليات، ثم إن توسل النبي المتقدم بالنبي الذي بعده يقتضي أن يكون أفضل منه، فيقتضي أن يتوسل نوح بإبراهيم، وداود بعيسى، وإسرائيل بموسى، ومثل هذا لو كان حقاً لكان أصلاً في العلم الصحيح، ولكن المتقدم من الأنبياء يبشر بمن يأتي بعده منهم، وليس هو مأموراً باتباع شريعة من يأتي بعده. بل إما أن يكون مأموراً باتباع شريعة توحى إليه أو شريعة رسول قبله، فهو مستغن عمن بعده متبع لمن قبله، فكيف يتوسل بالمتأخر؛ ولا يتوسل بالمتقدم الذي يجب عليه اتباعه؟. 10 - استدلال البكري بقصة الامام مالك مع أبي جعفر المنصور: قال الشيخ: (قال المعترض وقد رُوي أن أبا جعفر لما ناظر مالكاً في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدب قوماً فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2]، وذم آخرين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4]، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال له: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به) (¬3). * رد ابن تيمية - قال الشيخ: فيقال: (الجواب) عن هذا من وجهين: (أحدهما) المطالبة بصحة هذه الحكاية وليس معه ولا مع من ينقلها (¬4) ¬

_ (¬1) في (د) و (ط) لا يمت، وفي التيمورية (لا يمن). (¬2) وأيضاً لا يمن ولا يدل بعمله على الله لما ورد في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، انظر: ص 233. (¬3) سيأتي تخريجه في ص 264. (¬4) في الأصل (به) وفي (ت) (بها)، ويستقيم المعنى بدونها.

إسناد صحيح ولا ضعيف، وإنما غايته أن يعزوها إلى "الشفا" أو إلى من نقلها منه، وكل عالم بالحديث يعلم أن في هذا الكتاب من الأحاديث والآثار ما ليس له أصل ولا يجوز الاعتماد عليه، فإذا قال القاضي عياض ذكره فلان في كتابه فهو الصادق في خطابه؛ وإذا لم يذكره من أين نقله لم نتهمه؛ ولكن نتهم من فوقه، وقد رأيناه ينقل من كتب فيها كذب كثير وهو صادق في نقله منها لكن [من] (¬1) فوقه لا يجوز الاعتماد عليهم. الوجه الثاني: أن يقال هذه الحكاية كذب بلا ريب من وجوه: منها أنها مخالفة لمذهب مالك ومذهب سائر الأئمة، فإنهم متفقون على أن من سلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أراد الدعاء فإنه يستقبل القبلة، كما روي ذلك عن الصحابة، وتنازعوا وقت السلام عليه هل يستقبل القبلة أو القبر؟ على قولين: قال أبو حنيفة: يستقبل "القبلة أيضاً". وقال: غيره: "يستقبل القبر وقت السلام عليه". وأما وقت الدعاء فما أعلم إماماً خالف في أنه يستقبل القبلة، بل الأئمة متفقون على أن قبلة المسلمين التي يستقبلونها في جميع أدعيتهم وأمكنتهم هي الكعبة، ويستحب لكل من دعا الله أن يستقبل الكعبة حيث كان، وأين كان، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستقبلها، فيستقبلها وقت الذكر والدعاء بعرفة ومزدلفة وبين الجمرات وعلى الصفا والمروة، وعقب الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغيره، وما جعل أحد من الأئمة قبر أحد من الأنبياء قبلة للدعاء، وإنما يستقبل قبورهم أهل الجهل عند عباداتهم، ومن هؤلاء الغلاة من يستقبل قبورهم ويصلي إليها، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" (¬2). (ومنها) أن مالك من قوة متابعته للسنة كره أن يقال زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مما لا يستريب أحد في ثبوته عنه، مع أن لفظ زيارة القبور في الجملة مما جاءت به السنة في غير قبره، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: "استأذنت ربي أن ¬

_ (¬1) كذا في (ت) وفي (د) و (ط) ما. (¬2) أخرجه الإمام مسلم في (كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبور والصلاة عليه) 2/ 667 رقم 972.

11 - استدلال البكري بحديث الكوة

أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن في، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" (¬1)، والأحاديث في ذلك كثيرة. ثم بسط الشيخ الكلام على ذلك. 11 - استدلال البكري بحديث الكوة: أما ذكره (أي البكري) من أن أهل المدينة شكوا إلى عائشة فأمرتهم أن يعملوا كوة إلى السقف حتى لا يكون بينه وبين السماء حائل، ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل وتفتقت شحماً فسمي عام الفتيق، فقد ذكر هذا فيما أظن محمد بن الحسن بن زبالة فيما صنفه في أخبار المدينة (¬2). * رد ابن تيمية وجوابه من وجهين: أحدهما: أن هذا محمد بن زبالة ضعيف لا يحتج به، والثابت عن الصحابة باتفاق أهل العلم أنهم كانوا إذا استسقوا دعوا الله؛ إما في المسجد وإما في الصحراء، وهذا الاستسقاء المشروع باتفاق أهل العلم، فإنهم اتفقوا على دعاء الله واستغفاره. واختلفوا هل يصلى للاستسقاء على قولين: وجمهورهم على أنه يصلى له، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فلم يعرف الصلاة في الاستسقاء، والجمهور عرفوا ذلك بما ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في الاستسقاء ركعتين، والصحابة في زمن عمر وغيره صلوا واستشفعوا بالعباس وغيره، ولم يكشفوا عن قبره، ولو كان مشروعاً لما عدلوا عنه. وهذا العلم العام المتفق عليه لا يعارض بما يرويه ابن زبالة وأمثاله؛ ممن لا يجوز الاحتجاج به، ولو قال عالم يستحب عند الاستسقاء أو غيره أن يكشف عن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء والصالحين لكان مبتدعاً بدعة مخالفة للسنة المشروعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن خلفائه. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في (كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه -عز وجل- في زيارة قبر أمه) 2/ 671 رقم 976. (¬2) سيأتي تخريجه في ص 265.

الثاني: أن هذا الفعل ليس حجة على محل النزاع سواء كان مشروعاً أو لم يكن، فإن هذا استنزال للغيث على قبره، والله -تعالى- ينزل رحمته على قبور أنبيائه وعباده الصالحين، وليس في ذلك سؤال لهم بعد موتهم ولا طلب ولا استغاثة بهم، والاستغاثة بالميت والغائب سواء كان نبياً أو ولياً ليس مشروعاً ولا هو من صالح الأعمال، إذ لو كان مشروعاً أو حسناً من العمل لكانوا به أعلم وإليه أسبق، ولم يصح عن أحد من السلف أنه فعل ذلك. ومما يبيّن كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان بعضه باقياً كما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد" (¬1). ولم تزل الحجر كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان نائبه على المدينة ابن عمه عمر بن عبد العزيز وكانت حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - شرقي المسجد وقبليَّه، فأمره أن يشتريها من ملاكها ورثة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتراها وأدخلها في المسجد، فزاد في قبلي المسجد وشرقيه، ومن حينئذٍ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، وإلا فهي قبل ذلك كانت خارجة عن المسجد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد موته، ثم إنه بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك من أجل كنس أو تنظيف. ولو صح ذلك لكان حجة ودليلاً على أن القوم لم يكونوا يُقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت ولا يسألون الله به، وإنما فتحوا على القبر لتنزل الرحمة عليه ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه، فأين هذا من هذا؟! والمخلوق إنما ينفع المخلوق بدعائه أو بعمله، فإن الله -تعالى- يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة السلام على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومحبته وطاعته وموالاته، فهذه الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه، وإن أريد أن نتوسل إليه بما تُحب ذاته وإن لم يكن هناك ما يحب الله أن نتوسل به من الإيمان والعمل الصالح فهذا باطل عقلاً وشرعاً، أما عقلاً فلأنه ليس في كون ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في ص 266.

12 - استدلال القبورية بحديث الأعمى

الشخص المعين محبوباً له ما يوجب كون حاجتي تقضى بالتوسل بذاته، إذا لم يكن مني ولا منه سبب تقضى به حاجتي، فإن كان منه دعاءٌ لي؛ أو كان مني إيمان به وطاعة له، فلا ريب أن هذه وسيلة، وأما نفس ذاته المحبوبة فأي وسيلة في فيها، إذا لم يحصل في السبب الذي أمرت به فيها، ولهذا لو توسل به من كفر به مع محبته له لم ينفعه، والمؤمن به ينفعه الإيمان به وهو أعظم الوسائل. فتبين: أن الوسيلة بين العباد وبين ربهم -عز وجل- الإيمان بالرسل وطاعتهم {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69]، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]. وأما الشرع فيقال العبادات كلها مبناها على الاتباع لا على الابتداع، فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، فليس لأحد أن يصلي إلى قبره ويقول: وهو أحق بالصلاة إليه من الكعبة، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". 12 - استدلال القبورية بحديث الأعمى: حديث الأعمى رواه الترمذي والنسائي والإمام أحمد وصححه الترمذي ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علّم رجلاً فيقول: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي فشفّعه فيّ"، وروى النسائي نحوه. وفي الترمذي وابن ماجه عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضريراً أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: "إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك"، فقال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء، فذكر نحوه، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف ولفظه: أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري، قال: فانطلِق فتوضأ ثم صلي ركعتين ثم قل (¬1): "اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، ¬

_ (¬1) في (ط) قال، والتصحيح من التيمورية.

يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري، اللهم فشفّعه فيّ"، فرجع وقد كشف الله بصره. وقال أحمد في مسنده: حدثنا روح، حدّثنا شعبة عن عمير بن يزيد الخطمي المديني قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضريراً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت أخّرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت لك"، قال: بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ وأن يدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي، اللهم فشفعني فيه وشفعه فيّ"، قال: ففعل الرجل فبرأ، فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء، فمن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقاً حياً وميتاً، وهذا يستدل به من توسل بذاته بعد موته وفي مغيبه، ويظنون أن توسل الأعمى والصحابة به في حياته كان بمعنى الإقسام به على ربه؛ أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته ولا يحتاج هو أن يدعو لهم ولا إلى أن يطيعوه، ويظنون أن كل من توسل بالرسول كما توسل به ذلك الأعمى مشروع له. وقول هؤلاء باطل شرعاً وقدَراً، فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله، ومنهم من يقول هذه قضية عين فيثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم، لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها، والفرق ثابت شرعاً وقدراً بين من دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين من لم يدع له، فلا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر، وهذا الأعمى شفع له النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال في دعائه: "اللهم فشفعه فيّ" فعلم أنه شفع فيه، وكذلك قوله: "إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك"، فقال: ادع لي فدعا له، وقد أمره أن يصلي ويدعو لنفسه أيضاً، فحصل الدعاء من الجهتين، وكذلك قول عمر في استسقائه بالعباس. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - علَّم رجلاً أن يتوسل به في حياته؛ كما ذكر عمر أنهم يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه، فلو كان التوسل به حياً وميتاً سواء؛ والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن

13 - استدلال القبورية بسماع الميت

لم يدع له؛ لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وأقربهم وسيلة إليه، وكذلك لو كان كل أعمى توسل به وإن لم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، ولو أن كل أعمى دعا بدعاء ذلك الأعمى وفعل كما فعل من الوضوء والصلاة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زماننا هذا لم يوجد على وجه الأرض أعمى، فعدول عمر والصحابة عن هذا إلى هذا وما يشرع من الدعاء وينفع عما لا يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير الخير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن، دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه، ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه. وحديث الأعمى إنما ظهر بسبب كلامنا، ومن جهة أصحابنا اتصل علمه إلى هؤلاء المبتدعة، فإن الفقيه أبا محمد بن عبد السلام لم يقف على هذا الحديث ولم يعرف صحته، فإنه علق الجواب بجواز التوسل به - صلى الله عليه وسلم - على صحته فكأنه لم يصح عنده إما لعدم علمه بتصحيح الترمذي له أو أنه اطلع فيه على قادح معارض، ولولا الإطالة لتكلمنا على ذلك فنحن لا حاجة بنا إلى شيء من ذلك، فإنا بالحديث عاملون وله موافقون وبه عالمون، والحديث ليس فيه إلا أنه طلب من الله عز وجل ولم يطلبها من مخلوق، ونحن إلى الله -تعالى- نرغب وإياه نسأل، فهو المدعو المسؤول كما أنه المعبود المستعان، لا نشرك به شيئاً (¬1). 13 - استدلال القبورية بسماع الميت: لو قال القائل: سؤال الغائب حياً وميتاً كسؤال الشاهد، فإن الأنبياء والأولياء يسمعون خطاب الغائب البعيد ويسمع أحدهم خطاب الناس البعيدين عنه. قلنا: هذا محال في العادة المعروفة، وإذا وقع ذلك في بعض الصور كان من باب خرق العادة، والعادة قد تخرق بأن يسمع الأدنى خطاب الأعلى، كما ¬

_ (¬1) انظر: تخريج الحديث ص 257.

سمع سارية خطاب عمر: "يا سارية الجبل، يا سارية الجبل"، ويجوز خرق العادة بالعكس، لكن إثبات هذا في حق معين لا يكون إلا بحجة تدل على وقوع ذلك في حقه. فإن قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع الخطاب البعيد والقريب، قيل: ليس في هذا الحديث المعروف ما يدل على التسوية بين القريب والبعيد في سمع خطابه بل الحديث يدل على نقيض ذلك، ففي السنن حديث أوس بن أوس الذي رواه أبو داود وغيره ورواه ابن حبان في صحيحه والدارقطني في سننه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، وفيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علّي، قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمت (قال: يقولون بليت)، قال: إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" (¬1). والحديث الذي رواه أحمد في مسنده وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، وصلّوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاكم تبلغني" (¬2)، والحديث الذي رواه النسائي وابن حبان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام" (¬3)، وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن موسى بن محمد بن حبان عن أبي بكر الحنفي حدثنا عبيد الله بن نافع، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن قال: سمعت الحسين بن علي يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلّوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ولا تتخذوا بيتي عيداً، صلوا عليّ وسلموا ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في (كتاب الصلاة، باب فضل يوم الجمعة)، 1/ 275 رقم 1047 ت. محمد محيي الدين عبد الحميد، والنسائي في كتاب الجمعة، باب إكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة 3/ 19 رقم 1372، صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/ 32 رقم 1527. وانظر: الصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي ت. السلفي ص 158 - 159. (¬2) انظر: تخريج الحديث ص 228. (¬3) أخرجه النسائي في (كتاب السهو، باب السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -) 3/ 43 رقم 1280، والإمام أحمد في المسند 1/ 441 وغيرهم. وصححه ابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص 202.

فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني أينما كنتم" (¬1). وروى الروياني في مسنده والبزار وغيرهما عن نعيم بن ضمضم عن عمران بن الحميري قال: قال لي عمار بن ياسر: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمار إن لله ملكاً أعطاه الله أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إذا مت إلى يوم القيامة فلا يصلي عليّ أحد صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه فقال: صلى عليك فلان كذا وكذا، فيصلي الرب على ذلك المصلي بكل واحدة عشراً" (¬2)، وقال أبو أحمد الزبيري: حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: "ليس أحد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يصلي عليه صلاة إلا وهي تبلغه يقول له الملك: فلان يصلي عليك كذا وكذا صلاة" (¬3). وقال ابن وهب: أخبرني عمرو بن [الحارث] (¬4) عن سعيد بن أبى هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحداً لا يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ"، قال: قلت: وبعد الموت؟ قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، فهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة والسلام يعرضان عليه، وأن ذلك يصل حيثما كنا، وفي سنن ¬

_ (¬1) انظر: تخريج الحديث ص 228 - 229. (¬2) أخرجه البزار في مسنده كما في مختصر زوائد مسند البزار لابن حجر ت. صبري عبد الخالق 2/ 436 رقم 2164 و 2165، وقال: لا نعلمه يُروى عن عمار إلا بهذا الإسناد. الطبعة الأولى 1412 هـ الناشر مؤسسة الكتب الثقافية. وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال في ترجمة عمران 5/ 93 رقم 306/ 1273 وقال: "لا يتبع عليه". وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 162: "رواه الطبراني ونعيم بن ضمضم ضعيف، وابن الحميري اسمه عمران، قال البخاري: لا يتابع على حديثه، وقال صاحب الميزان: لا يعرف وبقيه رجاله رجال الصحيح". (¬3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 2/ 218 رقم 584 ت/ محمد السعيد زغلول الطبعة الأولى 1410 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت، وابن عدي في الكامل في ترجمة أبي يحيى القتات 3/ 238 - 239 رقم 44/ 729، وقال في آخر ترجمته: "وفي حديثه بعض ما فيه إلا إنه يكتب حديثه". (¬4) كذا في سنن ابن ماجه 1/ 300، وفي الأصل (الحرث).

14 - صور السؤال وحكم كل صورة

أبي داود عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام" (¬1)، وهذا الحديث هو الذي اعتمد عليه العلماء كأحمد وأبي داود وغيرهما في السلام عليه عند قبره وزيارة قبره، إذ لم يكن معهم سند يستندون إليه في زيارة قبره إلا هذا الحديث، والأحاديث التي رويت في زيارة قبره ضعيفة بل موضوعة، وأكثرها وضعت بعد الإمام أحمد وأمثاله. فهذه النصوص التي ذكرناها تدل على أنه يسمع سلام القريب ويبلَّغ سلام البعيد وصلاته، لا أنه يسمع ذلك المصلي والمسلِّم، وإذا لم يسمع الصلاة والسلام من البعيد إلا بواسطة فإنه لا يسمع دعاء الغائب واستغاثته بطريق الأولى والأحرى، والنص إنما يدل على أن الملائكة تبلغه الصلاة والسلام، ولم يدل على أنه يبلغه غير ذلك. والحديث الذي فيه: "ما من رجل يسلم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام"، فهمَ العلماء منه السلام عند قبره خاصة فلا يدل على البعيد، فإن السنة إذا زار الرجل القبور مطلقاً أن يسلم عليهم ويدعو لهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم. وقد بسط الشيخ الكلام في هذا الموضع بسطاً طويلاً ومقصوده توحيد الله سبحانه، وطلب الحوائج منه والذب عن حومة الإخلاص وأن لا يسأل إلا الله. 14 - صور السؤال وحكم كل صورة: قال الشيخ: فإن هنا أربعة معاني أحدها: أن يسأل الله تفريج الكربة بالمتوسل به، ولا يسأل المتوسل به شيئاً، كما يفعله كثير ممن يتوسل بالأموات. الثاني: أن يسأل الله ويسأل المتوسل به أن يدعو كما كان الصحابة يتوسلون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء، ثم من بعده بعمه العباس، وبيزيد بن الأسود الجرشي وغيرهما. والثالث: أن يسأل المتوسل به أن يسأل الله له تفريج الكربة ولا يسأل الله. ¬

_ (¬1) انظر: تخريج الحديث ص 227.

والرابع: أن يسأل المستغاث به أن يفرج الكربة ولا يسأل الله. فأما الأول: فهو سائل لله وحده ومستغيث به، وليس مستغيثاً بالمتوسل به إلا أن يريد بالاستغاثة السؤال به. وأما الثاني: فهو استغاثة بالله في تفريج الكربة واستغاثة بالشفيع أن يسأل الله هو توسل به (أي بدعائه وشفاعته)، وهذا هو المشروع في الدنيا والآخرة في حياة الشفيع وسؤاله أو في حال مشاركة الشفيع له في السؤال لا في حال انفراده هو بالسؤال. وكذلك الثالث: إذا سأل المتوسل به أن يسأل الله كما يسأله الناس يوم القيامة: فهذا لا ريب في جوازه وإن سمي استغاثة به. وأما الرابع: وهو أن يسأل المستغاث به تفريج الكربة، فهذا استغاثة به ليس توسلاً به بل المستغاث به مطلوب منه الفعل فإن لم يكن قادراً عليه لم يجز أن يطلب منه ما لا يقدر عليه. فالأول: سؤال به وليس استغاثة أصلاً وبعض الناس يسميه توسلاً به. والثاني: فيه استغاثة به وتوسل به. والثالث: فيه استغاثة في سؤال الله وليس فيه سؤال به. والرابع: استغاثة في تفريج الكربة لكن لا يجوز ذلك من ميت ولا غائب ولا من حي حاضر إلا فيما يقدر عليه خاصة، وليس هذا هو التوسل به. والتوجه المشروع الذي كانت الصحابة تفعله إنما كان بدعائه وشفاعته، ولا ريب أن من سأل الله تفريج الكربة بواسطة سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته فقد استغاث به، وهذا جائز كما كان الناس يفعلونه في حياته وكما يفعلونه في الآخرة في حياته أيضاً. ولكن هذا ليس مشروعاً بعد موته ولم يفعله أحد من الصحابة بعد موته؛ بل عدلوا عن التوسل بدعائه وشفاعته إلى التوسل بدعاء غيره من الأخيار كالعباس ويزيد بن الأسود وغيرهما، فلا دين إلا ما شرعه الله ورسوله كما أنه لا حرام إلا ما حرمه. ومن ذهب إلى الاستغاثة بالموتى فقد شرع له ديناً لم يؤذن له به.

15 - أحاديث زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها موضوعة

15 - أحاديث زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها موضوعة: الأحاديث التي رويت في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها ضعيفة بل موضوعة، وليس في السنن الأربعة منها حديث واحد فضلاً عن الصحيحين، ولا احتج الأئمة بشيء منها ولا رووا شيئاً منها لا مالك ولا الشافعي ولا أحمد ولا الثوري ولا الأوزاعي ولا الليث ولا أبو حنيفة ولا إسحاق بن راهويه ولا أحد من أئمة المسلمين وذلك مثل قوله: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي" (¬1)، ومثل ما يروون عنه أنه قال: "من زارني بعد مماتي وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة" (¬2). فهذه الأحاديث وما أشبهها كلها كذب موضوع على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يثبت عنه لفظ واحد في زيارة قبره، ولكن روى الأولان من قد يروي الموضوعات كالبزار والدارقطني كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، كيف يكون زائر قبره كالمهاجر إليه في حياته؟ فإن زيارته في حياته إنما شرعت لمن يأتي ويبايعه على الإسلام والجهاد، أو يهاجر إليه لطلب الآخرة أو يطلب منه العلم أو نحو ذلك من المقاصد المأمور بها في حياته التي لا يحصل شيء منها بزيارة قبره. 16 - مراتب بدعة سؤال الموتى: أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجة أو يستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس بكثير من الأموات وهو من جنس عبادة الأصنام. ولهذا تتمثل لهم الشياطين على صورة الميت أو الغائب كما كانت تتمثل لعباد الأصنام، بل أصل عبادة الأصنام إنما كانت من القبور كما قال ابن عباس وغيره، وقد يرى أحدهم القبر قد انشقّ وخرج الميت فعانقه أو صافحه أو كلّمه؛ ويكون ذلك شيطاناً تمثل على صورته، وهذا يوجد كثيراً عند قبور الصالحين، وأما السجود للميت أو للقبر فهو أعظم وكذلك تقبيله. ¬

_ (¬1) حديث موضوع لا أصل له. انظر: الصارم المنكي ص 172. (¬2) موضوع، قال النووي في المجموع -شرح المهذب-: "وهذا باطل ليس مروياً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف، بل وضعه بعض الفجرة" 8/ 277. ط المكتبة السلفية.

17 - دعاء صفة من صفات الله

المرتبة الثانية: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، فيقصد زيارته لذلك أو للصلاة عنده؛ أو لأجل طلب حوائجه منه، فهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق أئمة المسلمين وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين. المرتبة الثالثة: أن يسأل صاحب القبر أن يسأل الله له، وهذا بدعة باتفاق أئمة المسلمين. 17 - دعاء صفة من صفات الله: (في الرد على البكري) أن مسألة الله بأسمائه وصفاته وكلماته جائز مشروع كما جاءت به الأحاديث، وأما دعاء صفاته وكلماته فكفر باتفاق المسلمين، فهل يقول مسلم: يا كلام الله اغفر لي وارحمني وأغثني أو أعنِّي، أو: يا علم الله، أو: يا قدرة الله، أو: يا عزة الله، أو: يا عظمة الله ونحو ذلك؟ أو سمع من مسلم أو كافر أنه دعا ذلك من صفات الله وصفات غيره؟ أو يطلب من الصفة جلب منفعة أو دفع مضرة أو إعانة أو نصراً أو إغاثة أو غير ذلك؟ والنصارى وإن كانوا يقولون: المسيح هو الكلمة ويدعونه ويتخذونه إلهاً فهو عندهم عين قائمة بنفسها حاملة للصفات؟ ليس المسيح عندهم صفة قائمة بموصوف، ولكن مذهبهم متناقض حيث يجعلون الإله واحداً والأقانيم ثلاثة، ويدعون أن المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة، فإن فسروا الأقنوم بما يجري مجرى الصفة لزم أن تكون الصفة خالقة وهم لا يقولون ذلك، وإن فسره بما يجري مجرى الموصوف لزم أن تكون الذات الموصوفة وهي الآب هي المسيح وهم لا يقولون ذلك، فقولهم متناقض في نفسه باتفاق عقلاء بني آدم، ولم يقولوا إن مجرى الصفة القائمة بغيرها تدعى وتسأل. 18 - سبب ضلال القبورية وأصل شبهتهم: قال: وقوله: (من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربه أو استغاث به سواء كان ذلك بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيرهما مما هو في معناهما)، فهذا القول لم يقله أحد من الأمم بل هو مما اختلقه هذا المفتري، وإلا فلينقل ذلك عن أحد من الناس، وما زلت أتعجب من هذا القول وكيف يقوله عاقل،

والفرق واضح بين السؤال بالشخص والاستغاثة به. وأريد أن أعرف من أين دخل اللبس على هؤلاء الجهال؟ فإن معرفة المرض وسببه يعين على مداواته وعلاجه، ومن لم يعرف أسباب المقالات -وإن كانت باطلة- لم يتمكن من مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم، فوقع لي أن سبب هذا الضلال والاشتباه عليهم أنهم عرفوا أن يقال سألت الله بكذا كما في الحديث: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت المنان" (¬1)، ورأيي أن الاستغاثة تتعدي بنفسها كما يتعدى السؤال كقوله {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9]، وقوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، فظنوا أن قول القائل استغثت بفلان كقوله سألت بفلان والمتوسل إلى الله بغائب أو ميت تارة يقول: أتوسل إليك بفلان، وتارة يقول: أسألك بفلان، فإذا قيل ذلك بلفظ الاستغاثة فإما أن يقول أستغيثك بفلان، أو أستغيث إليك بفلان، ومعلوم أن كلا هذين القولين ليس من كلام العرب. وأصل الشبهة على هذا التقدير أنهم لم يفرقوا بين الباء في استغثت به التي يكون المضاف بها مستغاثاً مدعواً مسؤولاً مطلوباً منه، وبالاستغاثة المحضة من الإغاثة التي يكون المضاف بها مطلوباَّ به لا مطلوباً منه، فإذا قيل: توسلت به أو سألت به أو توجهت به فهي الاستغاثة كما تقول كتبت بالقلم، وهم يقولون أستغيثه وأستغث به من الإغاثة، كما يقولون: استغثت الله واستغثت به من الغوث، فالله في كلا الموضعين مسؤول مطلوب منه. وإذا قالوا لمخلوق: استغثته واستغثت به من الغوث كان المخلوق مسؤولاً مطلوباً منه، وأما إذا قالوا: استغثت به من الإغاثة فقد يكون مسؤولاً وقد لا يكون مسؤولاً، وكذلك استنصرته واستنصر به، فإن المستنصر يكون مسؤولاً مطلوباً؛ وأما المستنصر به فقد يكون مسؤولاً وقد لا يكون مسؤولاً. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في (كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر) 3/ 52 رقم 1298، وأبو داود في (كتاب الصلاة، باب الدعاء) 2/ 79 - 80 رقم 1495، والترمذي في (كتاب الدعوات، باب خلق الله مائة رحمة)، 5/ 550 - رقم 3544 وغيرهم، ولفظهم: " .... لا إله إلا أنت المنان ... "؛ صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 416 رقم 1299، ط الأولى للطبعة الجديدة 1419 هـ. الناشر مكتبة المعارف - الرياض.

19 - أهمية التوحيد

فلفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به، وقول القائل استغثت فلاناً واستغثت به معنى طلبت منه الإغاثة لا بمعنى توسلت به، فلا يجوز للإنسان الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. 19 - أهمية التوحيد: التوحيد أصل كل خير وجماعه، والشرك أصل كل شر وجماعه. والموجبتان: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار" (¬1)، ولهذا لما جمع -سبحانه وتعالى- بين ما أمر به وبين ما حرمه في قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، ثم قال تعالي: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]، وأصل الكفر والشرك مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء الجهال فيهم من الشرك ومخالفة الرسول ما لا خفاء به على المؤمن العليم، وهم فيه درجات منهم من يأتي بالشرك البيّن، والإنكار البيّن لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهذا يستتاب باتفاق الأئمة، ومنهم من هو مخطئ في دقيق ذلك، ومنهم من هو بين هذا وهذا إما فاسق وإما عاص. 20 - استعداء البكري للدولة: وقوله: (لقد خشيت على كثير من أهل الإقليم بسبب تقاعدهم عن نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإهلاكه وإهلاك أمثاله خصوصاً أهل الدولة وأصحاب الحكم إلى آخره). جواب ابن تيمية: فيقال: كنت قد أجبت على كلامه إلي هذا الموضع واتفقت أمور شغلت عن تمام ذلك حتى أنزل الله بأسه بهذا الجاهل الظالم ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة" 1/ 94 رقم 93 ولفظه: " ... لا يشرك بالله ... "، وأخرج مسلم الشطر الأول في "كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة مطلقاً 1/ 55 رقم 26 بلفظه.

21 - مدح البكري لكتاب المؤلف الصارم المسلول

وحزبه الجاهليق الظالمين، وكانوا في ذلك نظير المستفتحين من المشركين، وهذا الوعيد الذي ذكره في كلامه به وبأحزابه أليق وهم به أحق، وهكذا فعل الله -تعالى- بهم حيث عاقبه وحزبه عقوبة المعتدين الظالمين، عقوبة لم يعاقب بها أحداً من أشكالهم، وهؤلاء مضاهون للمشركين الذين ناظروا إمام الحنفاء -إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه- كما قال تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} إلى قوله {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 78 - 83]، فإنهم خوَّفوا إبراهبم بما عبدوه من دون الله فقال لهم: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} فإنه ليس للمؤمن أن يخاف إلا الله، فلا يستحق ملك مقرب ولا نبي مرسل أن يُخشى ويُتقى، كما لا يستحق أن يصلى له ويصام، بل هذا كله لا يصلح إلا لله وحده لا إِله إلا هو، ثم قال الخليل: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} وهذا استثناء منقطع، أي: لكن إن شاء ربي شيئاً كان، فأنا أخاف ربي. ثم قال: وكيف أخاف ما أشركتم مكان المخلوقات؟ وأنتم لا تخافون إشراككم بالله ما لم ينزل به سلطاناً، يقولا: فكيف لا تخافون أنكم عبدتم غير الله بغير سلطان من الله، وهكذا يقول أتباع إبراهيم الخليل الذين هم على ملته لمن خرج عنها من أشباه النصارى وغيرهم: كيف نخاف ما أشركتموه ودعوتموه من دون الله كائناً من كان سواء كان ملكاً أو نبياً أو شيخاً أو غيره؟ وأنتم لا تخافون الله حيث دعوتم غيره بغير سلطان من الله، فإن هذا الذي تفعلونه بدعة لم يأمركم الله بها ولا رسوله وفيها من الشرك ما فيها!! ولو لم يكن فيها شرك فكيف يسوغ لكم أن تشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله؟ ومعلوم أن من شرع عبادة يتقرب بها إلى الله ويجعلها وسيلة له إلى الله يرجو عليها ثواب الله إما واجبة أو مستحبة؛ فلا بد أن يكون من الدين الذي شرعه الله وأمر به، وإلا كان حظ صاحبها الإبعاد والطرد، ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع. 21 - مدح البكري لكتاب المؤلف الصارم المسلول: وقد وقف هذا الرجل، (أي البكري) على الكتاب الذي صنفه المجيب في "سابِّ الرسول" واعترف أنه ما رأى في هذا الباب مثله، فكيف يسوغ له مع هذا أن ينسبه إلى نقيض ذلك؟ ولو قدر أن هذا في نفس الأمر تنقص فهو مما

22 - رد على البكري على استشهاد ابن تيمية بحديث لا يستغاث بي

تكلم فيه صاحبه بالاجتهاد، وقد أجمع المسلمون على أن مسائل الاجتهاد لا تدخل في السبِّ الذي يستحق صاحبه الوعيد. 22 - رد على البكري على استشهاد ابن تيمية بحديث لا يستغاث بي: قال البكري: (وأورد هذا الرجل حديثاً أن منافقاً كان يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله"، قال: والكلام على هذا الكافر الضال من وجوه، الأول: عدم تسليم صحة الحديث له إلى آخر كلامه) (¬1). * رد ابن تيمية قال الشيخ: والجواب عن هذا الكلام -مع ما فيه من الجهل والإلحاد والشرك في الدين والافتراء على الله والرسول وعباده المؤمنين- أن يقال: هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه، بل ذكر في ضمن غيره ليتبين أن معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب والسنة، كما أنه إذا ذكر حكم بدليل معلوم ذُكِرَ ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك من الاعتضاد والمعاونة، لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي. ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة؛ من الأخبار التي تُكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك، وبآثار الصحابة والتابعين، بل بأقوال المشايخ والإسرائيليات والمنامات مما يصلح للاعتضاد، فما يصلح للاعتضاد نوع وما يصلح للاعتماد نوع، وهذا الخبر من النوع الأول فإنه رواه الطبراني في معجمه من حديث ابن لهيعة، وقد قال أحمد: "قد كتبت حديث الرجل لأعتبر وأستشهد به مثل حديث ابن لهيعة"، فإن عبد الله بن لهيعة قاضي مصر كان من أهل العلم والدين باتفاق العلماء ولم يكن ممن يكذب باتفاقهم، ولكن قيل إن كتبه احترقت فوقع في بعض حديثه غلط، ولهذا فرقوا بين من حدَّث عنه قديماً و [بين من حدَّث عنه] حديثاً، وأهل السنن يروون له، والسياق الذي ذكر فيه ¬

_ (¬1) سيأتي تخريج الحديث ص 199.

هذا الحديث في جواب الفتيا (¬1) لفظه: فأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يطلب إلا من الله، لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم، إلى أن ذكر الحديث لأن فيه لفظ الاستغاثة التي كان فيها النزاع وهو في كتاب مشهور. وقد روى الناس هذا الحديث من أكثر من خمسمائة سنة إن كان ضعيفاً، وإلا فهو مروي من زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما زال العلماء يقرؤون ذلك ويسمعونه في المجالس الكبار والصغار ولم يقل أحد من المسلمين إن إطلاق القول: إنه لا يستغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كفر ولا حرام، وكان في إيراده بيان تقدم تكلم العلماء والسلف بهذا اللفظ، ولو كان عبد الله بن لهيعة ذاكراً لا آثراً لم ينكره المسلمون عليه؛ لكان في ذلك مستند لهذا الإطلاق، فإن الرجل قاضي مصر في ذلك الزمان وهو من أكبر العلماء المفتين ونظير لليث بن سعد، والغلط الذي وقع في حديثه لا يمنعه أن يكون من أهل الاجتهاد والفتيا. ¬

_ (¬1) أي فتوى ابن تيمية وتسمي "الاستغاثة" أو "رسالة الاستغاثة".

النص المحقق

سلسلة منشورات مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع بالرياض (15) الاستغاثة في الرد على البكري تأليف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله - (المتوفى 728 هـ) دراسة وتحقيق د. عبد الله بن دجين السهلي عضو هيئة التدريس بقسم الثقافة الإسلامية - جامعة الملك سعود

فصل [1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) [وأما ما ذكره من تأويل الحديث فهو من جنس دين النصارى لا من جنس دين المسلمين، وبيان ذلك من وجوه: الأول] (¬2) قوله: (إن الله -تعالى- لتشريف رسوله والمقربين عنده خاطبهم تارة بتنزيلهم منزلة نفسه في الأفعال، وتارة نزَّل نفسه منزلتهم في الأفعال والأوصاف، وكلاهما تشريف عظيم). فيقال: هذا كذب علي الله وشرك به، وهو من جنس أقوال أهل الحلول (¬3) ¬

_ (¬1) كما مر في المقدمة، فإن الكتاب مفقود منه أوله، وقد سبق بيان أهم موضوعات الجزء المفقود، ومن المعلوم أن مما فُقد البسملة والحمد لله والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - والتي دائماً يبدأ به المؤلف كتبه، وجميع النسخ الموجودة بدأت الكتاب بالبسملة، وهي من وضع النساخ وفيها كفاية لأنها من أبلغ الثناء والذكر، وقد اقتصر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مراسلاته؛ كما في كتابه لهرقل عظيم الروم، صحيح البخاري (كتاب بدء الوحي، باب رقم 7) 1/ 23 تحقيق محمد علي قطب طبعة 1411 هـ الناشر المكتبة العصرية بيروت - لبنان، وكذلك الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في بداية كتابه "الصحيح" و"خلق أفعال العباد"، الطبعة الأولى 1404، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان وغيره. (¬2) ما بين المعقوفتين من (د) و (ت) وسقط من الأصل و (ف) و (ح). (¬3) الحلول: عند الصوفية معناه أن الله -تعالى- يصطفي أجساماً يحل فيها بمعاني الربوبية، فيزيل عنها معاني البشرية، وأن الله يحل بالعارفين من أوليائه وأصفيائه، وهذا زعم طائفة الحلولية. انظر: معجم مصطلحات الصوفية، تأليف د. عبد المنعم الحفني ص 82، الطبعة الأولى 1400 هـ الناشر دار المسيرة بيروت - لبنان. وأغلب فرق الحلولية عند كتاب الفرق ترجع إلى غلاة الرافضة. انظر: الفرق بين الفرق ص 254، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان. وقسمهم ابن تيمية قسمين: الأول: من يقول بالحلول الخاص، وهو قول النساطرة من النصارى، وغالية الرافضة، =

والاتحاد (¬1) كالنصارى (¬2)، فليس في خطاب الله المطلق تنزيل أحد منزلة نفسه في الأفعال، ولا تنزيل نفسه في الأفعال والأوصاف منزلتهم، بل هو إله واحدٌ لا شريك له، وكل من في السموات والأرض آتيه عبداً {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 94 - 95]. ومن قال (¬3): إن الرب منزل (¬4) المخلوق منزلة نفسه في الأفعال، أو يَنْزِلَ هو منزلة المخلوق في الأفعال والأوصاف فقد زعم أن الله -سبحانه- يجعل له نداً، وأنه يقيم المخلوق مقامه في الخلق والرزق والإحياء والإماتة وإجابة الدعاء وكونه معبوداً، وأنه يقوم مقام العبد في الصلاة والصيام والطواف وغير ذلك من أفعال العباد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)} [النحل: 17]. ومن أخص أوصاف الرب تعالى القدرة على الخلق والاختراع، فليس ذلك ¬

_ = وغالية النساك، الذين يقولون بالحلول في الأولياء. الثاني: الحلول العام، وهو قول متقدمي الجهمية، وغالب متعبدة الجهمية، انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 2/ 171 - 172. (¬1) الاتحاد: معناه تصيير الذاتين واحدة، وهو حال الصوفي الواصل، وعند الصوفية قيل: هو شهود وجود واحد مطلق من حيث إن جميع الأشياء موجودة بوجود ذلك الواحد، معدومة في أنفسها، لا من حيث إن لما سوى الله وجوداً خاصاً به يصير متحداً بالحق، وقيل: غير ذلك. انظر: معجم مصطلحات الصوفية للحفني ص 9 - 10. وقد قسمهم ابن تيمية أيضاً إلى قسمين الأول: من يقول بالاتحاد الخاص، وهو قول يعقوبية النصارى، ومن وافقهم من الغلاة المنتسبين للإسلام. الثاني: الاتحاد العام وهو قول من يقول: إن عين وجود الله، هو عين وجود الكائنات، وهو قول ابن عربي وأمثاله من أهل الوحدة. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 2/ 172. وبعض الباحثين يجعل الحلول والاتحاد شيئاً واحداً، والصواب التفريق بينهما. انظر: نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام، تأليف سارة بنت عبد المحسن آل سعود ص 33 - 35 الطبعة الأولى 1411 هـ الناشر دار المنارة جدة. (¬2) كذا في الأصل و (ح) وسقطت من (ف) وفي هامش (د) في نسخة (كالنصارى). (¬3) في هامش (د) في نسخة (زعم). (¬4) في (د) و (ح) ينزل.

متابعة الأشاعرة للجهمية في زعمهم أن العبد ليس بفاعل

لغيره أصلاً، حتى إن كثيراً من، النظار [المثبتين] (¬1) للقدر كالأشعري (¬2) وغيره جعلوا هذا هو أخص وصف الرب -تعالى-، كما جعل الجبائي (¬3) وغيره من المعتزلة (¬4) ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) المثبتة. (¬2) هو: أبو الحسن، علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق الأشعري، يرجع نسبه إلى صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو موسى الأشعري، كان معتزلياً ثم تاب منه، وأعلن اتباعه للإمام أحمد، وإليه ينتسب الأشاعرة، ومؤسس مذهبهم حقيقة هو ابن كلَّاب؟ ومذهب الأشعري خير من مذهب الأشاعرة بعده وأقرب إلى السنة منهم، ولكن مجرد الانتساب إليه بدعة. من مؤلفاته: "المقالات" و"الإبانة" وغيرها، مات ببغداد سنة 324 هـ. انظر: السير 15/ 85 ترجمه رقم 51، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 28، 6/ 359 والأعلام 4/ 263. وانظر: الكلام على مذهب الأشاعرة في إثبات القدرة لله -تعالى- في شرح المقاصد لسعد الدين التفتازاني، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة 4/ 89 وما بعدها الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر دار عالم الكتب بيروت. (¬3) هو: أبو علي، محمد بن عبد الوهاب البصري، شيخ المعتزلة، له كتاب "الأصول" و"النهي عن المنكر" وغيرهما وإليه تنسب الجبائية إحدى فرق المعتزلة، وهذه المسألة انفرد بها عن أصحابه وهي مبنية على نفيه لصفات الله حيث قال: عالم لذاته، قادر حي لذاته، وقد خالفه ابنه أبو هاشم في -هذه المسألة- أخص وصف الله، مات بالبصرة سنة 303 هـ. انظر: الملل النحل 1/ 76 - 84، والسير 14/ 183 رقم الترجمة 103، والأعلام 6/ 256. وانظر: الكلام على هذه المسألة عند المعتزلة والأشاعرة في شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي تعليق أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، تحقيق د. عبد الكريم زيدان ص 182 - 201، الطبعة الثالثة رمضان 1408 هـ، الناشر مكتبة وهبه القاهرة - مصر. (¬4) المعتزلة: سمّوا معتزلة لأن واصل بن عطاء لما أظهر بدعته طرده الحسن البصري من مجلسه، فاعتزل عند سارية من سواري المسجد وانضم إليه قرينه في الضلالة عمرو بن عبيد، فقال الناس فيهما: إنهما اعتزلا قول الأمة، وسمي أتباعهما من يومئذٍ "معتزلة"، ويقال لهم قدرية لردهم لقضاء الله، ويلقبون أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد وغير ذلك، وهم ينفون صفات الله تعالى ويطلقون عليه السلوب، وقالوا بخلق القرآن، ونفوا الرؤية، وأنكروا قضاء الله وقدره للمعاصي، وأثبتوها للعباد دونه، وهم فرق كثيرة، يكفر بعضها بعضاً. انظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع لأبي الحسين الملطي ت. يمان المياديني ص 49 الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر رمادي للنشر الدمام، ومقالات الإسلاميين واختلاف المصلين تأليف أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: ت. محمد محيي الدين عبد الحميد 1/ 253 الطبعة الثانية 1379 هـ، الناشر مكتبة العلوم والحكم المدينة، والملل والنحل 1/ 43 - 44.

مذهب جمهور أهل السنة أن العبد فاعل حقيقة

أخص وصفه القدم (¬1)، ومقصود المعتزلة أن لا يثبتوا له صفة قديمة لامتناع المشاركة في أخص وصفه، ومقصود أولئك المثبتين أن لا يشركه غيره في الخلق، وقد يقولون: لا يشركه غيره في الفعل؛ وهو قول من يقول: العبد فاعل مجازاً لا حقيقة وهو كاسب حقيقة، كما هو قول الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وهو في الأصل قول جهم بن صفوان (¬2)، وهو أول من عُرِفَ في الإسلام أنه قال: إن العبد ليس بفاعل. لكن جمهور أهل السنة (¬3) من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم يقولون: إنه فاعل حقيقة؛ وجمهور هؤلاء يقولون: إن فعله مفعول للرب بناءً على أن الخلق غير المخلوق، كما هو قول الأكثرين وهو مذهب السلف وأهل الحديث والفقهاء. وأما من قال: إن الفعل هو المفعول وأن فعل العبد فعل الرب، ولم يفرق بين الفعل والمفعول (¬4) فيلزمه لوازم تبطل قوله كما قد بسط في غير ¬

_ (¬1) (القدم) سقطت من (د). (¬2) هو: أبو محرز جهم بن صفوان الراسبي، مولاه السمرقندي، رأس الجهمية، أنكر الصفات، وقال بخلق القرآن، وقال بالإرجاء والجبر، وقد زرع شراً عظيماً. قتل سنة 128 هـ في آخر دولة بني أمية. انظر: خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل للبخاري ص 9، والتنبيه والرد للملطي ص 113، والسير 6/ 26 ترجمة رقم 8. (¬3) أهل السنة: يراد بلفظ أهل السنة أحد معنيين: أ- المعنى الأعم: ويراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة. ب- المعنى الأخص: ويراد به أهل الحديث والسنة المحضة وأهل الأثر فلا يدخل إلا من أثبت صفات الله -تعالى- ويقول: القرآن غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة. قلت: فيخرج الأشعرية والماتريدية والصوفية والمعتزلة ومتأخرو الخوارج وغيرهم من أهل الأهواء. والثاني هو المعنى الأكثر والأشهر وهو مراد المؤلف هنا. انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم 2/ 221، الطبعة الأولى 1406، الناشر مؤسسة قرطبة. (¬4) مسألة: هل الخلق هو المخلوق أو غيره؟ هذه المسألة مشهورة بين المتكلمين ويطلقون عليها مسألة التكوين، ويعرِّفونها بأنها المعنى الذي يعبر عنه بالفعل والخلق والتخليق والإيجاد والإحداث والاختراع ونحو ذلك. =

هذا الموضع (¬1). ¬

_ = بيان ذلك: أنه إذا كان من المتفق عليه بين جميع الطوائف أن الله -تعالى- هو الذي خلق السموات والأرض، كما اتفقوا على أن هذه المخلوقات وجدت منفصلة عنه، إلا أنهم اختلفوا في أنه تعالى لما خلقها هل قامت به صفة الخلق، أو أن الخلق هو نفس المخلوق من غير أن تقوم به صفة؟ فهذه المسألة سبب في الخلاف في الصفات الفعلية أو الاختيارية، وارتباطها بها قوي جداً. فإنه من المعلوم أن السموات والأرض أو غيرهما من المخلوقات ليست مخلوقة منذ الأزل، بل هي حادثة، فحين خلقها الله لا بد أن تكون قد تجددت له صفة لم تكن موجودة من قبل، فبخلقه للسماء قامت به صفة الخلق لها لأن السماء لم تكن مخلوقة من قبل، ومعنى ذلك -حسب تعبير أهل الكلام- أن الله حلت به الحوادث التي لم تكن موجودة من قبل. فالذين ينفون الصفات الفعلية وحلول الحوادث قالوا بأن الخلق هو المخلوق والفعل هو المفعول، ومعنى ذلك صفة الخلق أو الفعل لا تقوم بالله -تعالى- ويفسرون أفعاله تعالى أن ذلك وجد بقدرته من غير أن يكون منه فعل قام بذاته، بل حاله قبل أن يخلق وبعد ما خلق سواء، لم يتجدد عندهم إلا إضافة نسبة وهي أمر عدمي لا وجودي، وهذا هو مذهب الأشاعرة ومن وافقهم، وسبب التزامهم هذا القول دليلهم على حدوث العالم. أما جمهور أهل السنة ومن تابعهم كالكرَّامية والصوفية والماتريدية وبعض المعتزلة -كل طائفة بحسب أصولها- فيقولون: إن الخلق غير المخلوق والفعل غير المفعول، فيثبتون صفة الخلق والفعل قائمة بالله، ويقولون بوجود المخلوق والمفعول المنفصل عن الله -تعالى-، ومعلوم أن أهل السنة يثبتون صفات الفعل لله -تعالى- وأنها تتعلق بميشئته وإرادته وقدرته وحكمته، فإذا اقتضت حكمته فعلُها فَعَلها وإن اقتضت حكمته أن لا يفعلها لم تكن، فهي قديمة النوع أو الجنس وإن كانت أحاده توجد شيئاً فشيئاً حيناً وآخر. ورد أهل السنة دعوى الأشاعرة أن القول بأن الخلق هو المخلوق يستلزم التسلسل وهذا ممتنع، بأن التسلسل ليس تسلسلاً في الفاعلين والعلل الفاعلة، وإنما هو تسلسل في الآثار، وهو حصول الشيء بعد شيء، والسلف على إثباته، وهذا عمدة أدلة الأشاعرة، وسيعود المؤلف إلى الكلام عن هذه المسألة بعد صفحات قليلة ص 146. وللتوسع. انظر: خلق أفعال العباد للبخاري ص 112 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/ 149، 229 - 230، 298 والملل والنحل 1/ 108، ولوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية للعلامة محمد السفاريني 1/ 252 - 253 الطبعة الثالثة 1411 هـ، الناشر المكتب الإسلامي- بيروت لبنان، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة، تأليف د. عبد الرحمن المحمود 3/ 1204 - 1207. (¬1) بسط المؤلف هذا الموضوع في عدة مواضع من كتبه منها: درء تعارض العقل والنقل، تحقيق د. محمد رشاد سالم 2/ 264 - 270، 4/ 60، 59/ 579، طبعة دار الكنوز الأدبية. =

أخص وصف للرب ليس هو صفة واحدة

وبيّن أن القدرة على الاختراع من خصائص الرب، وأخص وصف الرب ليس هو صفة واحدة، بل علمه بكل شيء من خصائصه، وقدرته على كل شيء من خصائصه، وخلقه لكل شيء من خصائصه، والمقصود هنا ما يتعلق بكلام (¬1) هذا الرجل الذي ضاهى المشركين الحلولية من النصارى (¬2) وغالية الشيعة (¬3) وجهال الصوفية (¬4). ¬

_ = ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/ 148 - 149، 229 - 230، 16/ 375 - 377، وشرح حديث النزول - ضمن مجموع الفتاوى 5/ 528 - 536 وغيرها. (¬1) في (د) الكلام على قول. (¬2) الحلولية من النصارى هم النساطرة، الذين يقولون: إن اللاهوت حل في الناسوت، وتدرع به، كحلول الماء في الإناء. انظر: الملل والنحل 1/ 224، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 2/ 171 - 172. (¬3) غالية الشيعة: هم الذين غلوا في علي، فمنهم من ادعى فيه الألوهية، وأنه لم يمت، وسيرجع إلى الدنيا قبل القيامة، وقال آخرون منهم إنه في السحاب وأن الأئمة ينسخون الشرائع وغير ذلك، ومن فرقهم الكيسانية، والسبئية أتباع "عبد الله بن سبأ" والخطابية، والمنصورية وغيرها. قال البغدادي في الفرق بين الفرق ص 254 "وجميع فرق الغلاة خارجون عن فرق الإسلام". أ. هـ. وانظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 1/ 66 - 88، والملل والنحل (1/ 146 - 154) وعقائد الثلاث وسبعين 1/ 85، ومذهبهم أنه لا يمتنع ظهور الروحاني بالجسماني كجبريل في صورة دحية الكلبي، فلا يبعد أن يظهر الله -تعالى- في صورة بعض الكاملين وأولى الناس بذلك علي وأولاده الذين هم خير البرية، انظر: الفرق بين الفرق ص 254 وشرح المقاصد 4/ 59. (¬4) الصوفية: نسبة إلى لبس الصوف لاختصاص أصحابه به. يقسمهم بعض الباحثين إلى: أ- مدرسة الزهد وأصحابها من النساك والزهاد والعباد، ويطلق عليهم صوفية خطأ، لأنهم أهل الإسلام الصحيح. ب- مدرسة وحدة الوجود والحلول والاتحاد وأصحابها الحلاج وابن عربي والتلمساني وابن الفارض وغيرهم وهؤلاء مشركون. جـ- المتصوفة المنحرفون أصحاب الطرق، والصوفية بعد القرن الثامن الهجري يتابعون ابن عربي الزنديق ويعتبرون مذهباً واحداً، لا خلاف بينهم، والخلاف في التصريح بمذهب ابن عربي وعدمه. وللصوفية مخالفات كثيرة مثل الشرك الأكبر، وتحضير الأرواح والشعوذة، وبناء الأضرحة والمشاهد على القبور وغير ذلك. انظر: اللمع للسراج الطوسي ص 41، والتعرف لمذهب أهل التصوف، تأليف الكلاباذي ضبط وتخريج أحمد شمس الدين ص 9 وما بعدها الطبعة الأولى 1413 هـ، =

عودة لكلام البكري في منزلة المقربين

حيث قال: (إن الله تعالى ينزل المقربين منزلة نفسه تارة وينزل نفسه منزلتهم في الأفعال والأوصاف تارة)، فإن هذا كلام مخالف لدين المسلمين وسنبّين جهله وخطأه فيما تأوله على ذلك من القرآن والحديث. فنقول: أما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} [الفتح: 10]، فليس فيها أن نفس الفعل القائم بالرسول ومخاطبته لهم ومد يده لمبايعتهم هو نفس فعل الله ومخاطبته ومبايعته، بل فيها أن من بايع الرسول فقد بايع الله كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصّى الله ومن عصى أميري فقد عصاني" (¬1). فطاعة أميره طاعته، ومعصية أميره معصيته، لأنه أمر بطاعة (¬2) (أميره ونهى عن معصيته، وطاعته طاعة [لله] (¬3) لأن الله أمر بطاعته) (¬4) فمن أطاعه ¬

_ = الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 5 - 7، 17 - 21، والتصوف المنشأ والمصادر، تأليف إحسان إلهي ظهير ص 20 وما بعدها الطبعة الأولى 1406 هـ، الناشر إدارة ترجمان السنة لاهور - باكستان، والسالمية (رسالة دكتوراه) للمحقق 1/ 248 و 3/ 1071. ومذهبهم في هذا يقولون: إن السالك إذا أمعن في السلوك، وخاصة لجهة الأصول، فربما يحل الله فيه -تعالى الله عما يقولون-، بحيث لا يتمايز أو يتحد به لا أثنينية ولا تغاير وصح أن يقول: هو أنا وأنا هو. انظر: شرح المقاصد 4/ 59. (¬1) أخرجه البخاري في (كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 5/ 2231 رقم (137) وطرفه 2957، ومسلم في (كتاب الإمارة، باب طاعة الأمراء في غير معصية الله) 3/ 1446 رقم 1835، وغيرهما بألفاظ متقاربة، وقريبة من لفظ المؤلف. (¬2) في (د) بطاعته. (¬3) كذا في (ف) و (ح) وفي هامش (د) وفي الأصل (الله). (¬4) ما بين القوسين سقط من (د)، وفي هامشها أنه هكذا في نسخة أخرى.

خلق الله للفاعل وفعله ليس فيه تشريف

فقد أطاع الله لأن الله أمر بامتثال ما أمر به (¬1) لا أن (¬2) نفس الفعل القائم بأميره نفس فعله ولا نفس فعله هو نفس فعل الرب -تعالى-. واعلم أن من قال من النظار: إن أفعال العباد كلها فعل الله، فلا فرق عندهم بين أفعال المؤمنين والكفار والبهائم وحركات الجمادات، فإن مرادهم أن كل ما سوى الله فهو فعله أي مفعوله، وعلى قول هؤلاء فلا فرق بين فعل الرسول وغيره، وليس في كون الله خالقاً لشيء تفضيلٌ لذلك المخلوق على غيره، فإن الله خالق كل شيء. كذلك على قول الجمهور الذين يقولون: إن أفعال العباد مفعولة له مخلوقة له ليست فعله؛ بل هي فعل الفاعلين، والله -تعالى- خالق الفاعل وفعله، فعلى القولين لا فضيلة في ذلك لمخلوق على مخلوق، فلا تظن أن في هذا تشريفاً لمقرب لا رسول ولا غيره. وهذه مما يبين به خطأ هؤلاء الجهال الذين لا يفرقون بين ما خلقه الله وقدّره وما أمر به وفرضه، فجعل الله -تعالى- مبايعة الرسول مبايعة لله وطاعة الرسول طاعة لله ليس (¬3) من جهة خلق الله أفعال العباد والقيومية (¬4) الشاملة للمخلوقات، فإن كونه خالقاً لكل شيء وكونها بمشيئته وقدرته، ليس فيها (¬5) تفضيل مخلوق على مخلوق، [إذ] (¬6) التفضيل إنما يكون بما به الاختصاص لا بما يشترك الجميع فيه. ومن جعل مبايعة الرسول مبايعة لله لأجل أن الله خالق كل شيء، نظراً منه إلى القيومية الشاملة لكل مخلوق؛ لزمه أن يكون من بايع الكفار والفساق مبايعاً لله، لأن الله خالق كل شيء، فيكون هؤلاء قد جعلوا مبايعة خاتم ¬

_ (¬1) في (د) لأن أمره من أمر الله. (¬2) في (ف) لأن. (¬3) في (د) (ليست). ومصححة في الهامش بكلمة غير واضحة. (¬4) القيومية من صفة القيوم؛ ومعنى القيوم هو: القائم برزق ما خلق وحفظه. انظر: تفسير الطبري (المسمى جامع البيان في تأويل القرآن) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري 3/ 8، الطبعة الأولى 1412 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت لبنان. (¬5) في (ف) فيه. (¬6) كذا في (د) و (ف) و (ح)، وفي الأصل "إذا" وهو خطأ.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبلغ لأمر الله ونهيه ولا يقوم مقام الرب ولا يفعل فعله

الرسل - صلى الله عليه وسلم - كمبايعة فرعون وأمثاله من المشركين، وهذا يقع فيه كثير ممن يلحظ القيومية الشاملة العامة المتناولة لكل مخلوق، وهؤلاء من أكفر الخلق، ويجعلون هذا منافياً للأمر والنهي، وهم من جنس الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} إلى قوله: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (¬1) [الأنعام: 148]. فإن (¬2) هؤلاء إنما يتبعون أهواءهم ولا يتكلمون بعلم فإن قولهم في غاية المناقضة، فإن الواحد من هؤلاء إذا آذاه غيره أو ظلمه قابله وعاقبه ولا يمكنه أن يعذره بالقدر ومشاهدة القيومية، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع. وجهة تفضيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جهة كون الله -تعالى- أرسله مبلغاً لأمره ونهيه، مبيّناً لما يحبه ويرضاه وما يبغضه ويسخطه، فما أمر به الرسول فالله آمر به، وما نهى عنه فالله نهى عنه، ومن بايعه فعاهده وعاقده (¬3)؛ على أن يطيعه في الجهاد إذا أمر به، وعلى (¬4) أن [لا يفر] (¬5) و (¬6) على أن يقاتل حتى يموت كما بايعه المسلمون تحت الشجرة (¬7)، فهم معاهدون لله معاقدون له على طاعته فيما أطاعوا فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الذين بايعوه قبل ذلك ليلة العقبة لما بايعه الأنصار، ولهذا قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7]، فسمعهم وطاعتهم لما أمرهم ومعاهدتهم على ذلك هو سمع وطاعة لله -تعالى- ومعاهدة له، وعهد الله إلى خلقه هو (¬8) أمره ونهيه الذي بلغته رسله. ¬

_ (¬1) قوله تعالى: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ساقط من الأصل. (¬2) في (د) كذلك. (¬3) في (د) وعاهده وعاقد. (¬4) (وعلى) سقط من (د) و (ف). (¬5) كذا في (د) و (ف) وفي الأصل، و (ح) لا يفروا، والسياق عن المفرد. (¬6) في (د) أو. (¬7) يشير إلى بيعة المسلمين للنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الحديبية، تحت الشجرة يقول تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وأخرج البخاري في (كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية) 3/ 1270 رقم 4169 عن يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية؟ قال: على الموت. (¬8) في (د) وهو.

[والتخصيص والتفضيل يظهر في الوفاء به ومتابعة الرسل، ولهذا] (¬1) قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، أي: أوفوا بأمري أوفِ بوعدكم الذي وعدتكم (¬2)، فإن المعاهدة والمبايعة (¬3)، تتضمن المعاوضة من الجانبين فهم إذا أوفوا بما عاهدوا الله عليه من الطاعة، وفى الله -تعالى- بما عاهد عليه من الأجر والثواب كما قالت الأنصار لما قالت (¬4) للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك، فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أبناءكم ونساءكم، ولأصحابي أن تواسوهم"، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: "لكم الجنة"، قالوا: أمدد يدك، فوالله لا نقيلك لا نستقيلك (¬5). فهم لما عاهدوه على هذا ليطيعوه فيه، قد عاهدوا ربه -عز وجل- الذي أمرهم بذلك، والله -تعالى- هو الذي يوفي بعهدهم فيدخلهم الجنة. وفي الحديث الصحيح عن شداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سيد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح). (¬2) في (د) على الوفاء به. (¬3) في (د) المبايعة والمعاهدة. (¬4) (قالت) سقطت من (د). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/ 119 - 120 من حديث ابن مسعود البدري ولفظه: " ... فقال قائلهم -أي الأنصار وهو أبو أمامة- سل يا محمد لربك ما شئت ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله -عز وجل- وعليكم إذا فعلنا ذلك، فقال: "أسالكم لربي ... ، وأسالكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم"، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة، قالوا: فلك ذلك". قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6/ 48 طبعة 1408 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت لبنان: رواه أحمد مرسلا ورجاله رجال الصحيح، وذكره بعد ذلك مسنداً وفيه مجالد وفيه ضعف وحديثه حسن -إن شاء الله-. أ. هـ. وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة، تحقيق د. محمد رواس وعبد البر عباس (الطبعة الثالثة 1412 هـ، الناشر: دار النفائس بيروت - لبنان) 1/ 303، 308 رقم 226 بلفظ قريب جداً ولم يذكر أصحابه. والطبراني في المعجم الكبير 2/ 186 والمعجم الصغير تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان 2/ 110 (طبعة 1388 هـ، الناشر المكتبة السلفية المدينة المنورة - السعودية) من حديث جابر بن عبد الله، ولم يذكر أصحابه، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 49: رواه الطبراني في الثلاثة ورجاله ثقات. أ. هـ.

الاستدلال بتميز فعل الموكل عن فعل وكيله، على تميز فعل الخالق عن فعل خلقه

الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما [استطعت] (¬1)، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها حين يصبح موقناً بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها حين يمسي موقناً بها فمات من ليلته دخل الجنة" (¬2). فقوله: "وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت"، أي على ما عهدته إلينا من طاعتك (¬3)؛ وما وعدتنا به من ثوابك؛ أمتثل أمرك وأرجو وعدك. ومن المعلوم أن الإنسان لو استناب نائباً ووكل وكيلاً في عقودٍ كبيع وإجارة ومزارعة ونحو ذلك لكان المعاقد للوكيل معاقداً لموكله، بحيث إن وفّى للموكل (¬4) فقد وفّى للوكيل (¬5)، وإن غدر بالوكيل فقد غدر بالموكل، والموكل عليه أن يُوفِي بما عاقد عليه الوكيل، والوكيل (¬6) إذا سمى (¬7) موكله في العقد تعلقت حقوق العقد بالموكل، وهل يكون الوكيل ضامناً (¬8)، على قولين معروفين، هما روايتان عن أحمد، ومن قال إن حقوق العقد تتعلق بالوكيل كما يحكى عن أبي حنيفة يقول: إنها بعد ذلك تنتقل إلى الموكل، ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ف) و (ح) وفي الأصل (سطعة). (¬2) أخرجه البخاري في (كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا أصبح) رقم (6323) (4/ 1990) وأحمد في المسند 4/ ط 12 - 125 واللفظ له، وقد أخرجه غيرهم. (¬3) في (د) ووعدك. (¬4) كذا في جميع النسخ والأولى للوكيل. (¬5) كذا في جميع النسخ والأولى للموكل. (¬6) كذا في الأصل و (ح) وفي (ف): للوكيل وفي (د): وللوكيل. (¬7) في (د): (استمر) وهو خطأ. (¬8) في هامش الأصل: الصحيح أنه لا يضمن إلا إذا خالف أمر الموكل. أ. هـ. وهذا هو الراجح، فإن الوكيل نائب المالك أشبه المودع لا ضمان عليه إلا إذا خالف أمر الموكل أو تعدى. انظر: الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، تأليف موفق الدين بن قدامة المقدسي 2/ 254 الطبعة الثانية، الناشر المكتب الإسلامي بيروت لبنان، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لأبي الوليد محمد بن رشد القرطبي، المشهور بابن رشد الحفيد 2/ 227، الناشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.

زعم الحلولية أن الله تعالى استخلف آدم في الأرض يقوم مقامه ورد المؤلف

ولهذا تنازعوا في المسلم إذا وكَّل ذمياً في شراء الخمر، فقال الجمهور: لا يصح لأن الملك يحصل للموكل، والمسلم ليس له أن يملك الخمر، وأبو حنيفة يقول: ملكها الذمي ابتداء ثم دخلت في ملك المسلم ضرورة كالميراث (¬1)، وعلى كل تقدير فمآل الأمر إلى الموكل. ومع هذا ففعل الوكيل متميز عن فعل موكله، وكلامه متميز عن كلامه، ليس أحدهم هو الآخر، ففعل المخلوق أشد مباينة لفعل الخالق من مباينة فعل مخلوق لمخلوق، فإذا (¬2) كان (¬3) مبايعة الوكيل مبايعة للموكل؛ مع تميز الفعلين، فالتمايز في الخالق أولى، ولو أرسل مُرسل رسولاً إلى شخص ليعاهده عقداً من العقود: [هدنة] (¬4)، أو نكاحاً أو غير ذلك؛ لكانت معاهدة الرسول معاهدة لمرسله مع تميز أحد الفعلين عن الآخر، ومِع كون المُرسل والرسول من جنس واحد، ومع أنه يمكن أن يقيم الموكل وكيله مقَامه في عامة أفعاله، لأن الوكيل يفعل مثلما يفعله موكله. وأما الرب -تعالى- فيمتنع أن يفعل أحد مثل فعله، ويمتنع أن يستخلف أحداً يقوم مقامه في فعله، فإنه سبحانه خالق فعل ذلك الشخص، وهو سبحانه شاهد لا يغيب. وهذا موضعٌ غلط فيه طائفة من الناس، فظنوا أن الله يستخلف أحداً عن نفسه؛ [وادعى] (¬5) بعضهم أن آدم خليفة عن الله في الأرض يقوم مقامه، وأنه جمع له حقائق (¬6) أسمائه الحسنى، قالوا: وهو معنى تعليمه الأسماء كلها، ¬

_ (¬1) والصواب: أن ما لا يجوز للمسلم أن يعقد عليه لا يجوز أن يوكل فيه كشراء الخمر، لأن الخمر ليس محلّاً للعقد. انظر: المغني للعلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله بن قدامة 5/ 263، الناشر دار الكتاب العربي بيروت لبنان، وبهامشه الشرح الكبير. (¬2) في (د) و (ف) و (ح) وإذا. (¬3) كذا في جميع النسخ والأولى كانت. (¬4) كذا في (د) وفي الأصل و (ف) و (ح) وهدنه - بزيادة واو. (¬5) كذا في (د) و (ف) و (ح) وفي الأصل "والدعى". (¬6) (حقائق) سقطت من (د) و (ف)، يزعم بعض الصوفية أن لكل اسم من أسماء الله الحسنى خواصاً وأسراراً تتعلق به، وتجاوز بعضهم فزعموا بأن لكل اسم خادماً روحانياً يخدم من يواظب على الذكر به، ويدعون أنهم يكشفون بأسماء الله أسرار المغيبات، =

استخلاف المخلوق لمخلوق لعجزه وجهله، والله تعالى عليم قدير

وهذا قول أهل الحلول والاتحاد كابن عربي (¬1) صاحب الفصوص، وأمثاله من أهل الإلحاد. وهذا جهل وكفر، فإن الله -تعالى- هو الذي يخلق كل شيء؛ ويدبر أمر السماء والأرض، وهو خالق آدم، كما هو خالق سائر المخلوقات، وهو شاهد لا يغيب. والمخلوق يستخلف مخلوقاً عن نفسه لعجزه أو جهله أو مغيبه، وأفعال الخليفة عن غيره يفعلها بنفسه لا يحدثها الذي استخلفه. والله -تعالى- على كل شيء قدير وهو بكل شيء عليم، وهو شاهد لا يغيب، وهو الذي يخلق كل شيء، فالعبد يستخلف ربه كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا سافر: "اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا" (¬2)، فإن المقيم هو ¬

_ = والخافي من المكنونات، وزعم بعضهم أن اسم الله الأعظم سر من الأسرار، يُمنح لبعض الأفراد، فيفتحون به المغلقات، ويخرقون به العادات، ويكون لهم به من الخواص ما ليس لغيرهم من الناس، إلى غير ذلك من الدعاوى الباطلة، التي لم يحصل مثلها لرسل الله وأوليائه من خلقه -سبحانك هذا بهتان عظيم-، وليس لهم دليل من كتاب ولا سنة ولا عقل ولا قول إمام معتبر، وهذه المقولة باب للخرافة والسحر والشعوذة والدجل، وتلاعب الشياطين بالناس -كما بيّنه المؤلف وسيأتي-. انظر: أسماء الله وصفاته في معتقد أهل السنة والجماعة، تأليف د. عمر سليمان الأشقر ص 39 - 40 الطبعة الثانية 1414 هـ الناشر دار النفائس عمان الأردن. (¬1) هو محيي الدين أبو بكر محمد بن علي بن محمد الطائي الحاتمي، يلقبه غلاة الصوفية بالشيخ الأكبر، صاحب التواليف الكثيرة ومن أردئها كتاب "الفصوص" قال الذهبي عنه: فإن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كفر، أ. هـ. وهو قدوة القائلين بوحدة الوجود، كفره كثير من علماء المذاهب الأربعة، وصنَّف بعضهم في الرد عليه منهم المصنف في "الرد على الأقوم على ما في فصوص الحكم"، والبقاعي في "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي" وغيرهم، هلك في ربيع الآخر سنة 638 هـ. انظر: السير 23/ 48 رقم الترجمة 43، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 2/ 362، والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين لتقي الدين الفاسي - جزء فيه عقيدة ابن عربي وحياته اعتنى به علي حسن علي عبد الحميد ص 12 وما بعدها، والأعلام/ 281. (¬2) أخرجه الإمام مسلم أوله في كتاب الحج، باب (ما قول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره) 2/ 978 رقم 1342، والإمام أحمد في المسند 5/ 83 من حديث عبد الله بن سرجس واللفظ له، وأخرجه غيرهم.

معاني الاستخلاف في نصوص من الكتاب والسنة

الذي (¬1) يدبر أمر بيته، فإذا سافر سأل الله -تعالى- أن يخلفه فيهم. وكما رُوي أنه سُمع يوم موت (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً يقول: "إن في الله عزاءً من كل هالك وعوضاً من كل مصيبة، وخلفاً من كل ما فات، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المصاب من حُرم الثواب" (¬3). وكذلك العبد يخلف العبد في أهله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من جهز غازياً فقد غزا ومن خَلَفَهُ في أهله بخير فقد غزا" (¬4). ¬

_ (¬1) في هامش (د): في نسخة (عند أهله). (¬2) في (د) مات. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في (كتاب الجنائز، باب ما يقول في التعزية) 4/ 60 بذيله الجوهر النقي لعلاء الدين ابن التركمان (طبعة دار المعرفة بيروت - لبنان) وقال: رُوى معناه عن جابر، ومن وجه آخر عن أنس وفي أسانيده ضعف. أ. هـ. وابن أبي الدنيا في الهواتف، تحقيق مجدي السيد إبراهيم الناشر مكتبة الساعي الرياض ص 23 - 24 ولفظ المؤلف أوله من الرواية الثالثة، وأخره من الثانية، عند ابن أبي الدنيا، وأبو نعيم الأصفهاني في دلائل النبوة تحقيق د. محمد رواس وعبد البر عباس 2/ 565، وزاد أن الرجل هو الخضر، وابن سعد في الطبقات الكبرى 2/ 275 (طبعة 1367 هـ الناشر دار بيروت ودار صادر بيروت - لبنان). قال ابن كثير في البداية والنهاية 5/ 262: روايات هذا الخبر كلها مرسلة، ما عدا رواية القاسم العامري عن أبيه عن جده وقد ضعفه غير واحد من الأئمة، وتركه بالكلية آخرون. أ. هـ. وشذ أبو عبد الله الحاكم فصحح الخبر في المستدرك على الصحيحين 3/ 57 - 58 (طبعة دار الكتاب العربي بيروت - لبنان) وبذيله التلخيص، وذكر أن القائل في الرواية الأولى هم الملائكة، أما في الرواية الثانية فذكر أنه الخضر -ولم يصحح سندها- وقال عباد بن عبد الصمد: ليس من شرط هذا الكتاب، ووافقه الذهبي، ولا يخفى تساهل الحاكم في التصحيح. وقد ضعف سند الحاكم البيهقي في السنن 4/ 60. وقال زين الدين عبد الرحيم العراقي في تخريج إحياء علوم الدين المسمى: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار، عناية أشرف عبد المقصود 2/ 1221 رقم 4412 (الطبعة الأولى 1415 هـ، الناشر مكتبة طبرية الرياض) قال في تخريج هذا الخبر: لم أجد فيه ذكر اليسع، وأما ذكر الخضر في التعزية فأنكر النووي وجوده في كتب الحديث، وقال: إنما ذكره الأصحاب. قلت (أي العراقي): بل قد رواه الحاكم في المستدرك في حديث أنس ولم يصححه ولا يصح. ثم بيّن ضعف أسانيد ابن أبي الدنيا، ثم قال: كما رواه الشافعي في الأم وليس فيه ذكر الخضر. أ. هـ. وقد ذكر ابن حجر في الزهر النضر في نبأ الخضر ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (الناشر مكتبة طيبة الرياض) 2/ 216 - 219: روايات هذا الخبر وبيّن ضعفها. وسيأتي الكلام على الخضر وأنه لا يصح شيء في حياته، انظر: ص 159. (¬4) أخرجه البخاري في (كتاب الجهاد والسير، باب فضل من جهز غازياً أو خلفه =

وقال - صلى الله عليه وسلم - في قصة ماعز: "أو (¬1) كلما نفرنا في الغزو خلف أحدهم له نبيب (¬2) كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة (¬3) من اللبن، إن الله أمكنني من أحدهم لأجعلّنه نكالاً" (¬4)، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، أي يخلف بعضكم بعضاً، وكما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]، وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس: 14]. وداود -عليه السلام- جعله الله خليفة عمن كان قبله كما جاءت بذلك الآثار، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)} [الزخرف: 60]، [وقد] (¬5) قيل إنَّ مِنْ هنا للبدل أي بدلاً منكم، كما قالوا في قوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء: 42]، أي: بدلاً من الرحمن، [وأنشدوا] (¬6): فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على [طهيان] (¬7) ¬

_ = بخير) 2/ 879 رقم 2843. ومسلم في (كتاب الإمارة، باب فضل الصدقة في سبيل الله (3/ 1506 برقم 1895. والنسائي في (كتاب الجهاد، باب فضل من جهز غازياً) 6/ 46 رقم 3178 واللفظ له. (¬1) (أو) سقطت من (د). (¬2) النبيب: هو صوت التيس عند السفاد، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، تأليف مجد الدين الجزري ابن الأثير، تحقيق طاهر الزاوي ومحمود الطناحي 5/ 4 باب النون مع الباء طبعة المكتبة العلمية بيروت - لبنان. (¬3) الكثبة من اللبن: أي القليل من اللبن، والكثبة: كل قليل جمعته من طعام أو لبن أو غير ذلك، والجمع كثب. المرجع السابق 4/ 151 باب الكاف مع الثاء. (¬4) أخرجه مسلم في (كتاب الحدود، باب من اعترف بالزنى) 3/ 1319 رقم 1692، وغيره بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف. (¬5) كذا في (د) و (ف) و (ح) وسقطت من (الأصل). (¬6) كذا في (د) و (ف) و (ح) وفي الأصل أنشد. (¬7) كذا في (ح) ولسان العرب، وفي الأصل (طهان) وفي (د) طهيات وفي الهامش في نسخة طهمان وسقطت من (ف)، وهذا البيت نسبه ابن منظور في لسان العرب للأحول الكندي. والطهيان: خشبة يبرد عليها الماء. انظر: لسان العرب لابن منظور 15 (17 - 18).

الرب تعالى يمتنع في حقه لص بحانه أن يقيم مقامه من يفعل مثل فعله

قالوا (¬1): معناه بدلاً من ماء زمزم، [وفي حديث أبي سعيد الذي رواه مسلم في صحيحه: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (¬2). والمقصود هنا أن المخلوق يمكن أن يقيم مقامه من يفعل مثل فعله. وأما الرب سبحانه وتعالى فهذا ممتنع في حقه، ممتنع لذاته أن يكون غير الله مماثلاً له في ذاته أو (¬3) صفاته أو أفعاله، فإن المثلين يجوز على أحدهما ما جاز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، والرب حي قيوم غني صمد واجب بنفسه قديم بنفسه (¬4)، مستحق لصفات الكمال بنفسه، ممتنع ¬

_ (¬1) في (د) و (ف) وقالوا بزيادة واو. (¬2) ما بين المعقوفتين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح)، والحديث أخرجه مسلم في (كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء) 4/ 2098 رقم 2742 ولفظه: " ... فينظر كيف تعملون ... "، وفي رواية: " ... لينظر كيف ... " وغيره. (¬3) في (د) و (ف) (واو). (¬4) (قديم بنفسه) سقطت من (د)، وإطلاق القديم على الله -تبارك وتعالى- اختلف فيه: فأطلقه على الله -تعالى- أهل الكلام من المعنزلة والأشاعرة، بل ذهب الجبائي وغيره من المعتزلة إلى أنه أخص وصف لله -تعالى-. انظر: الملل والنحل 1/ 83، ليثبتوا به وجود الله قبل كل شيء. ومنعه السلف، انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الطنفي، أخرج أحاديثها العلامة ناصر الدين الألباني ص 112 - 113 (الطبعة الثامنة 1404 هـ الناشر المكتب الإسلامي - بيروت لبنان) ولفظ القديم في لغة الرسول التي جاء بها القرآن خلاف الحديث كان كان مسبوقاً بغيره كقوله: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، وهو عند أهل الكلام عبارة ما لم يزل أو عما لم يسبقه وجود غيره إن لم يكن مسبوقاً بعدم نفسه، ويجعلونه -إذا أريد بها هذا- من باب المجاز، ولفظ "المحدث" في القرآن مقابل للفظ "القديم". انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 245، وقال المؤلف أيضاً في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 9/ 300 - 301: أما إذا احتيج إلى الإخبار عنه .... فقيل في تحقيق الإثبات بل هو سبحانه قديم موجود وهو ذات قائمة بنفسها وقيل: ليس بشيء، فقيل: بل هو شيء، فهذا سائغ، وإن كان لا يدعى بمثل هذه الأسماء التي ليس فيها ما يدل على مدح. أ. هـ. وقد استدل بعض السلف بحديث أبي هريرة في الأسماء حيث ورد في بعض رواياته اسم "القديم". =

إبطال استشهاد البكري والحاولية بقوله تعالى: {وما رميت}

اتصافه بنقائضها، فإن كماله من لوازم ذاته الواجبة الوجود بنفسها التي يمتنع (¬1) عدمها أو عدم شيء من لوازمها، والمخلوق يجب أن يكون معدوماً محدثاً فقيراً، فلو تماثلا للزم أن يكون كلاً منهما واجب الوجود واجب العدم؛ قديماً محدثاً؛ غنياً بنفسه فقيراً بنفسه، وذلك جمع بين النقيضين، وإذا كان المخلوق الذي يرسل من يماثله لا يكون فعله هو فعله، فالخالق الذي يرسل بعض عباده أبعد أن يكون فعله هو فعله، حتى تكون نفس بيعة الرسول نفس بيعة المرسِل، وإذا كان خالقاً لذلك الفعل وغيره من المخلوقات؛ فهو بهذا (¬2) الاعتبار لا اختصاص له، والله -تعالى- قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]. فإن محمداً رسول الله، وبيعته عن مرسله ليست بيعة لنفسه (¬3) والجزاء على مرسله، ولهذا قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]. وأما استشهاده بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] فمن هذا الجنس، وهو قد سبقه إلى هذا المعنى الذي توهمه طائفة من الجهال (¬4)، وذلك أن الله لم يُضفِ الرمي هنا إلى نفسه؛ لمجرد كونه خالقاً لأفعال العباد، فإن هذا قدر مشترك ببن رمي النبي وسائر أفعاله غير الرمي، وبين رمي غيره من الناس وبين أفعالهم (¬5)، فأفعال العسكرين يوم بدر خلقها الله كما خلق سائر أفعال الحيوان، ولو جاز أن يقال: إن الله رمى؛ لكونه خلق حركة العبد، لقيل: إنه يكر ويفر ويركب ويعدو ويصوم ويطوف، [ونحو ذلك] (¬6)؛ لكونه يخلق ذلك. ¬

_ = وسيأتي بيان حكم الاستدلال بالحديث، واتفاق أهل العلم أن الأسماء ليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هي مدرجة، انظر: ص 201. (¬1) في (د) ممتنع. (¬2) في (د) هذا. (¬3) في (د) لنفسي وهو خطأ. (¬4) هذه الآية استدل بها الاتحادية على مذهبهم. انظر: معجم مصطلحات الصوفية، د. عبد المنعم الحفني ص 181 حرث العين. (¬5) في (د) فإن. (¬6) ما بين المعقوفتين من (د)، وسقطت من الأصل و (ف) و (ح).

وقد رُوي أن المحاصرين لعثمان -رضي الله عنه- كانوا يرمونه بالحجارة، فقال: لِمَ ترموني بالحجارة (¬1)؟ فقالوا: لم نرمك، ولكن الله رماك، قال: كذبتم، لو رماني الله أصابني، وأنتم ترمونني ولا تصيبونني (¬2)، وهو صادق في ذلك، فإن الله لما رمى قوم لوط، وأصحاب الفيل أصابهم، ولكنهم هم رموا عثمان. والله -تعالى- قال (¬3): {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ حفنة من تراب و (¬4) غيّره، فرمى بها المشركين فأصابت عيونهم، وهزمهم الله بها، ولم يكن في قدرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، بل الله -تعالى- أوصل ذلك إليهم، والرمي له طرفان: حذف (¬5) بالمرمي، ووصول إلى العدو ونكاية فيهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الأول، والله فعل الثاني، والمعنى: ما أوصلت الرمي إذ حذفته (¬6)، ولكن الله أوصله وهزمهم به، فالذي أثبته الله لنبيه غير الذي نفاه عنه، وقد أثبت له رمياً؛ بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ}، ونفى عنه رمياً بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ} فكان (¬7) هذا غير هذا؛ لئلا يتناقض الكلام (¬8). ¬

_ (¬1) (الحجارة) سقطت من (د). (¬2) أخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه المسمى تاريخ الأمم والملوك 2/ 672. (الطبعة الثالثة 1411 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان) في خبر استشهاد عثمان -رضي الله عنه- ولفظه: " ... لو رمانا الله لم يخطئنا، وأنتم تخطؤننا"، قال: كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وطلحة وذكر الخبر. وقد ذكره المؤلف بصيغة التمريض. (¬3) في (د) يقول. (¬4) في (د) أو. (¬5) في (د) خذف: ويعني رمى وخص بعضهم به الحصى. لسان العرب 9/ 61. (¬6) في (د) (أو خذفته). (¬7) في (د) وكان. (¬8) هذه الآية نزلت في يوم بدر، ونحو هذا نُقل عن عكرمة ومجاهد وقتادة غيرهم. قال ابن جرير الطبري في تفسيره 6/ 202: في قوله تعالى لنبيه -عليه السلام-: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، فأضاف الرمي إلى نبي الله، ثم نفاه عنه، وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي، إذ كان جلَّ ثناؤه هو الموصل المرميّ به إلى الذين رُمُوا به من المشركين، والمسبب الرمية لرسوله. =

ولو كان المراد كما ظنه هذا وأمثاله؛ ممن يحتج بهذه الآية، على أن الله [خالق] (¬1) أفعال العباد، ويضحك المعتزلة وغيرهم من القدرية (¬2) عليه إذا احتج بهذه الآية، [و] (¬3) لو كان هذا (¬4) المراد لساغ أن يقال مثل هذا في جميع أفعال العباد، فيقال: ما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب، (وما طفت إذ طفت ولكن الله طاف) (¬5)، وما أكلت إذ أكلت ولكن الله أكل، [و] (¬6) (لكان يقال لكل من رمى بقوس ما) (¬7) رميت إذ رميت ولكن الله رمى، ويقال للكفار إذا رموا المسلمين: ما رميتم ولكن الله رمى، وأشباه هذا مما لا يقوله مسلم، ولا عاقل. ثم إن الله -تعالى- ذكره هذه الآية لبيان نعمته على نبيه [وعلى] (¬8) ¬

_ = فيقال للمنكرين ما ذكرنا -أي منكري القدر-: قد علمتم إضافة الله رمى نبيه - صلى الله عليه وسلم - المشركين إلى نفسه، بعد وصف نبيه به، وإضافته إليه، وذلك فعل واحد، كان من الله تسبيبه وتسديده، ومن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحذف والإرسال. أ. هـ. انظر: تفسير الطبري 6/ 202 - 203 والجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي 7/ 385 (لم يذكر الناشر)، تصحيح أحمد البردوني وآخرين الطبعة الثانية، وتفسير ابن كثير 2/ 295. (¬1) كذا في (د) و (ف) و (ح) وفي الأصل (خَلِقُ) ولا يصح رسم الكلمة أو ضبطها. (¬2) القدرية: هم نفاة القدر، وكان أوائلهم أنكروا علم الله السابق، وأول من قال بالقدر معبد الجهني، ظهرت هذه الفرقة في آخر عهد الصحابة -رضي الله عنهم -، ولذا يلقبون أحياناً بالقدرية الأولى، وقد كان موقف الصحابة منهم شديداً، حيث تبرؤا منهم وانتشر القول بالقدر على يد المعتزلة، حتى عرفوا بالقدرية. ولذلك قيل عنهم مجوس الأمة لقولهم بالأصلين يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره، والقدرية فرق، عدها بعض كتاب الفرق سبع فرق. انظر: صحيح مسلم (كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان) 1/ 36 رقم 8، والتنبيه والرد للملطي ص 176، والملل للشهرستاني 1/ 43، والقضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود ص 117 وما بعدها الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار النشر الدولي الرياض. (¬3) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف). (¬4) (هذا) سقط من (د). (¬5) ما بين القوسين في (د) (وما ظننت إذ ظننت ولكن الله ظن). (¬6) كذا في (ح) و (ط) وسقطت من الأصل و (ف) و (د). (¬7) ما بين القوسين في (د) (يقال لكن من رمى بالقوس وما). (¬8) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف).

اتفاق المسلمين على أفعال العباد لا تنفي عنهم، وتنسب للرب تعالى

المؤمنين يوم بدر، وما أيدهم به من النصر، فلو أريد كونه خالقاً لفعله؛ لكان هذا قدراً مشتركاً بين جميع الناس، بل لا بد أن يكون لرميه خاصة يعجز عنها الخلق، فعلها الله تأييداً لنبيه ونصراً له؛ وإنعاماً عليه وعلى المؤمنين. فتبين أن هذه الآية حجة عليه لا له كالأولى، وأن الله -تعالى- فرَّق بين فعل الخلق وفعل نفسه، ولم ينزل أحداً منزلة نفسه في الأفعال. ومما يبيّن ذلك أن أفعال العباد لا يجوز أن تُنفى عنهم باتفاق المسلمين، من قال إن الله خالقها، ومن قال إن الله لم يخلقها، لا يجوز أن يقال هذا ما أكل ولا شرب ولا قعد ولا ركب ولا طاف، ولا ركع ولا سجد ولا صام ولا سعى، ولكن الله هو الذي أكل وشرب وقعد وركب وطاف وركع وسجد وصام وسعى، وسواء كانت أفعالاً (¬1) محمودة أو مذمومة، وسواء كانت سبباً لخرق العادة أم لا؟ فلا يقال إن موسى ما ضرب بعصاه البحر ولا الحجر؛ ولكن الله ضرب، ولا يقال إن نوحاً ما ركب السفينة؛ ولكن الله ركب، ولا يقال إن المسيح ما ارتفع إلى السماء بل الله ارتفع، ولا يقال محمد - صلى الله عليه وسلم - ما ركب البراق (¬2) وأمثال هذا. فالفعل المختص بالمخلوق لا يضاف إلى الله -تعالى-؛ إلا على بيان أن الله خلقه، وجعل صاحبه فاعلاً، كقول الخليل -عليه السلام-: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، وكما قال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]، [وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} (¬3) [السجدة: 24]، (وقال تعالى) (¬4) {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]. ولا يقال: إن الله يقيم الصلاة، ويدعو إلى النار، ولا أنه قد أسلم، ¬

_ (¬1) في (د) الأفعال. (¬2) البراق: هي الدابة التي ركبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء. سمي بذلك لنصوع لونه وشدة بريقه. وقيل: لسرعة حركته شبيه فيها بالبرق. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1/ 120 باب الباء مع الراء. (¬3) ما بين المعقوفتين في (د)، وسقط من الأصل و (ف) و (ح). (¬4) ما بين القوسين سقط من (ف) وفي (د) (وقال).

وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} [المعارج: 19 - 21]، ولا يوصف الله بالهلع والجزع، وجماع الأمر أن الله لا يوصف بمخلوقاته، وهذه هي أدلة السلف وأهل السنة؛ على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه -سبحانه- لا يوصف بما خلقه في غيره، فإذا خلق في غيره حركة أو طعماً (¬1) أو ريحاً أو لوناً كالسواد والبياض؛ لم يوصف بأنه المتحرك بها، ولا بأنه متروح أو أبيض أو أسود، (وإذا خلق في غيره سمعاً وبصراً وحياة أو قدرة لم يوصف بذلك) (¬2)، وإذا خلق في غيره كلاماً لم يوصف بأنه هو المتكلم به، ويُعبرون عن ذلك بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل؛ ولم يعد على غيره، [واشتق] (¬3) لذلك المحل منه اسم ولم يشتق لغيره، فإذا خلق في محل حركة أو علماً أو قدرة كان ذلك المحل هو المتحرك العالم القادر لا الخالق لتلك الصفة فيه. وأورد المعتزلة نقضاً (¬4) على هذا صفات الأفعال، فقالوا: هو عادل بعدلٍ خَلَقَه في غيره. فأجاب أئمة السلف وجمهورهم بطرد الدليل بناء على أن الفعل غير المفعول، واستدل الإمام أحمد وغيره بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعوذ بكلمات الله التامات" (¬5)، قالوا: وهو لا يستعيذ بمخلوق، وطرد هذا قوله: "اللهم إني ¬

_ (¬1) (طعماً) سقطت من (د) و (ف). (¬2) ما بين القوسين سقط من (د). (¬3) كذا في (د) و (ف) وفي الأصل وشتق. (¬4) في (د): نقصاً. (¬5) أخرجه مسلم في (كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من سوء القضاء) 4/ 2080 رقم 2708، وأوله: "من نزل منزلاً ثم قال: ... الحديث"، واستدل به البخاري في خلق أفعال العباد والرد على الجهمية ص 89، وابن خزيمة في كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب -عز وجل- تحقيق د. عبد العزيز الشهوان 1/ 400 (الطبعة الثالثة 1414 هـ الناشر مكتبة الرشد الرياض)، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية تقديم وتعليق بدر البدر ص 149 (الطبعة الأولى 1405 هـ، الناشر الدار السلفية حولي - الكويت)، ونقله الخطابي في معالم السنن عن الإمام أحمد.

إجماع السلف على أن الخلق غير اليخلوق ونقل ذلك عنهم

أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك" (¬1)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه وبكلماته (¬2)، وهذا مذهب جمهور المسلمين، أن الخلق (¬3) غير المخلوق وهو المنقول عن السلف والأئمة، كما ذكره البخاري (¬4) في كتاب خلق الأفعال، وهو الذي ذكره البغوي (¬5) صاحب شرح السنة، وهو الذي ذكره الكلاباذي (¬6) أنه اعتقاد الصوفية، وهو قول ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في (كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود) 1/ 352 رقم 486 ولفظه: " ... وأعوذ بك منك ... "، والحاكم في المستدرك في كتاب الصلاة (1/ 288) واللفظ له. وفي استدلال السلف بهذا الحديث قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ بأفعال الرب وصفاته، فاستعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه، فمعافاته ورضاه غير مخلوقة لأنه استعاذ بهما، والعافية القائمة ببدن العبد مخلوقة فإنها نتيجة معافاته. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/ 229 - 230، وشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن القيم، تعليق مصطفى أبو النصر الشلبي 2/ 266 الطبعة الأولى 1412 هـ، الناشر مكتبة السوادي جدة. (¬2) في (د) (وكلماته) بدون باء. (¬3) في (ف) بياض. (¬4) هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، الإمام المشهور صاحب الصحيح المعروف بصحيح البخاري وله: "خلق أفعال العباد"، أثنى عليه الأئمة، توفي سنة 256 هـ. نقل إجماع أهل العلم على أن الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول في كتابه "خلق أفعال العباد" ص 112. انظر: السير 12/ 391 ترجمة رقم 171، والأعلام 6/ 34. (¬5) هو محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي، من أئمة السنة له مصنفات. توفي في شوال سنة 516 هـ، وقيل 510 هـ. وذكر البغوي في كتابه شرح السنة أن الخلق غير المخلوق في باب أسماء الله -سبحانه وتعالى- 5/ 29، تحقيق شعيب الأرنؤوط ومحمد زهير الشاويش. انظر: السير 19/ 439 ترجمة رقم 258، والأعلام 2/ 259. (¬6) هو أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي البخاري، ويقال: محمد بن إبراهيم والأول هو ما ذكره المؤلف في الاستقامة 1/ 82، محدث صوفي توفي سنة 380 هـ، وأشهر كتبه: "التعرف لمذهب أهل التصوف"، وقد ذكر ما أشار إليه المؤلف في كتابه التعرف تعليق أحمد شمس الدين ط. الأولى 1413 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت ص 38 - 39 الباب السابع: "اختلافهم في أنه لم يزل خالقاً، ونصه: والفعل غير المفعول". انظر: الاستقامة لابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم 1/ 82 - 83 (الطبعة الثانية 1409 هـ، الناشر مكتبة السنة القاهرة - مصر)، والأعلام 5/ 295.

الكرامية (¬1)، وكثير من المعتزلة، وأصحاب أبي حنيفة (¬2)، وجمهور أصحاب مالك والشافعي وأحمد، لا من وافق منهم الأشعري وغيره الذين يقولون: الخلق هو المخلوق، كما اختاره ابن عقيل (¬3) وغيره، وهو أول قول القاضي أبي يعلى (¬4) ثم رجع عنه، وهو اختيار [أبي] (¬5) المعالي الجويني (¬6) وغيره، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع (¬7). ¬

_ (¬1) الكرَّامية: هم أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام، نسب لهم الأشاعرة أقوالاً كثيرة، واشتهر قولهم: الإيمان هو القول باللسان فقط. وقد وافقوا السلف في قولهم إن الخلق غير المخلوق، نقل ذلك عنهم الشهرستاني وغيره. انظر: المقالات 1/ 223، والملل والنحل 1/ 108 - 113، ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية تحقيق د. محمد رشاد سالم 2/ 379 الطبعة الأولى 1406 هـ، الناشر مؤسسة قرطبة، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/ 103. (¬2) انظر: الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية ص 64 وما بعدها، وشرح العقائد النسفية ص 47، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/ 298. (¬3) هو أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد البغدادي، الحنبلي المتكلم، شيخ الحنابلة، تاب من الاعتزال. له "الفنون" و"الرد على الأشاعرة وإثبات الحرف والصوت" وغيرها توفي سنة 513 هـ. وقد قال بأن الخلق هو المخلوق كما نقله عنه ابن تيمية في الفتاوى 6/ 231. انظر: السير 19/ 443 ترجمة رقم 259 الأعلام 4/ 313. (¬4) هو أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد البغدادي، الحنبلي ابن الفراء، عالم العراق في زمانه، ولي القضاء، له "أحكام القرآن" و"المعتمد" و"العدة" وغيرها. توفي سنة 458 هـ وللقاضي أبي يعلى ثلاثة مواقف من الصفات الفعلية التي هي أساس قضية الخلق والمخلوق، الأول: وافق فيها الأشاعرة، والثاني: أثبتها على أنها صفات ذاتية للرب -تعالى-، والثالث: وافق السلف وأثبتها وأنها تتعلق بالمشيئة والاختيار في "كتابه إبطال التأويلات"، وفي الموقف الثالث قال: بأن الخلق غير المخلوق. انظر: مقدمة المحقق في كتاب: مسائل الإيمان، للقاضي أبي يعلى، تحقيق سعود الخلف ص 76 - 93، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12/ 436، والسير 18/ 89 ترجمه رقم 40، والأعلام 6/ 99. (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (أبو). (¬6) هو ضياء الدين أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله الجويني، حج وجاور أربع سنين يدرس ويفتي، ولذا لقب بإمام الحرمين. ومع فرط ذكائه وإمامته لا يدري الحديث -كما يليق به- لا متناً ولا سنداً، رجح في آخر حياته مذهب السلف في الصفات وأقر به. له كتاب: "الإرشاد في أصول الدين" سنة 478 هـ. انظرت السير 18/ 476 ترجمه رقم 468، والأعلام 4/ 160. (¬7) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/ 149، 229 - 240، ومنهاج السنة =

أصناف من يصفون الله ببعض المخلوقات وغلطهم

والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن الله لا يوصف بالمخلوقات، فلا يوصف بما خلقه في غيره من الصفات وإن كانت صفات كمال، فكيف يوصف بما خلقه في غيره من أفعال العباد، وتُجعل الأفعال القائمة بالمخلوقات صفات له؛ يشتق له منها (¬1) أسماء، فهذا مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول؛ مناقض للقواعد والأصول، ولكن بعض من ناظر القدرية في هذا المقام انحرف كما انحرفوا، وقابل باطلاً بباطل، ورد بدعة ببدعة. والذين يصفون الله ببعض المخلوقات صنفان: صنف غلطوا في الصفات، وصنف غلطوا في القدر، فالأول الجهمية (¬2) من المعتزلة وغيرهم (¬3) الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق؛ فوصفوه بما خلقه في غيره، وكذلك يقولون: رضاه وغضبه هو [ما يخلقُهُ] من الثواب والعقاب، وإرادته خلقها لا في محلّ؛ كما تقوله المعتزلة من البصريين (¬4) فيصفونه بمخلوقات بائنة عنه. ¬

_ = 2/ 379، وسبق ذكر بعض هذه المواضع؛ كما في ص 128، وقد نصر هذا القول أيضاً ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/ 151، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح صحيح البخاري، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، حقق المجلد الأول والثاني العلامة عبد العزيز ابن باز 13/ 539 الطبعة الأولى 1410 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت لبنان، والسفاريني في لوامع الأنوار 1/ 252 - 253، والألوسي في غاية الأماني 2/ 338 وغيرهم. (¬1) في (د) منه. (¬2) الجهمية: هم أتباع الجهم بن صفوان، وهي فرقة معطلة تنكر أسماء الله وصفاته، وتقول بالجبر والإرجاء، تنقسم الجهمية إلى ثلاث فرق: الجهمية المحضة أو الغالية وهم أشر الجهمية، والجهمية المعتزلة الذين يقرون بالأسماء وينفون الصفات، والجهمية الصفاتية الذين يعطلون بعض الصفات الخبرية ومنهم الكلَّابية، ويطلق عليهم أحياناً الجهمية الجبرية لقولهم بالجبر. والمؤلف أراد الفرقة الثانية وهم الجهمية المعتزلة. وكل معتزلي جهمي، وليس كل جهمي معتزلي. انظر: التنبيه والرد للملطي ص 110 وما بعدها والمقالات 1/ 338، والملل والنحل 1/ 86 - 88، وتاريخ الجهمية والمعتزلة للعلامة جمال الدين القاسمي ص 53 - 55 الطبعة الثالثة 1405 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. (¬3) في الأصل و (ف) (هم) زيادة. (¬4) هذا مذهب الجبَّائية -من معتزلة البصرة- وغيرهم. انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 440، التنبيه والرد للملطي ص 52 - 54.

الصنف الثاني: الجهمية الجبرية وغلطهم في القدر

والصنف الثاني: الجهمية الجبرية الذين قالوا: إن أفعال العباد نفس فعله، وفعله هو مفعوله، كما يقوله الجهم بن صفوان وأتباعه كالأشعري ومن وافقه، وهؤلاء لم يثبتوا له فعلاً قائماً بنفسه غير المخلوقات المباينة له، فإذا كان خالق أفعال العباد لزم أن تكون هي فعله ولا تكون فعلاً لغيره، وحينئذٍ فالصفات الفعليّة التي يصفون بها الربّ، مثل كونه خالقاً ورازقاً وعادلاً؛ إنما تتصف عندهم فيها بمخلوقاته؛ وتتصف أيضاً عندهم بأفعال العباد كلها، فالجهم بن صفوان أعظم الناس وصفاً له بمخلوقاته في كلامه وأفعال العباد وغير ذلك. والمعتزلة وافقوه في الكلام ونحوه من الصفات دون أفعال العباد، ووافقوه في فعله لغير أفعال العباد؛ لكون أفعال العباد عندهم ليست فعلاً له، فالجهمية والمعتزلة متفقون على أنه يوصف بمخلوقاته، لكن المعتزلة عندهم هو خلق كلامه ورضاه وغضبه وإراداته فيوصف بها، ولم يخلق أفعال العباد فلا يوصف بها. و [أما] (¬1) جهم فعنده أنه خلق الجميع فلزمه أن يوصف بالجميع، والأشعري وافق جهماً في المخلوقات من أفعال العباد وغيرها؛ دون الكلام والإرادة فإنهما عنده صفات تقوم بالله، لكنه وافقه على أن المخلوق هو الخلق، وهو يصفه بالصفات الفعلية فوافقه على اتصافه بالمخلوق من هذا الوجه، صار هو والمعتزلة متقابلين، هو ينكر عليه قولهم في الكلام والإرادة، وأصاب في إنكاره عليهم، وهم ينكرون عليه قوله في أن أفعال العباد فعله (¬2)، وهم وإن أصابوا في (¬3) هذا الإنكار؛ لكنهم ينكرون أن تكون مخلوقة لله (¬4)، وهذا منكر، والأشعري يثبت للعبد قدرة محدثة وكسباً (¬5)، ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ف) و (ح)، وسقطت من الأصل. (¬2) انظر: رد الأشاعرة على المعتزلة في: الإرادة في شرح المقاصد 4/ 128 - 130، وفي مسألة الكلام 4/ 143 - 151 من نفس المرجع. ورد المعتزلة عليهم في أفعال العباد في شرح الأصول الخمسة ص 332. (¬3) في (ف) (فهذا). (¬4) في (ف) (يكون مخلوقه لله) وفي (د) (يكون مخلوق). (¬5) الكسب الأشعري: يقول الأشاعرة: الأفعال مسندة إلى الله -تعالى- خلقاً وإلى =

مذهب سلف الأمة ومن وافقهم: أن الله لا يوصف بمخلوقاته

ولكن يقول قدرته لا تأثير لها في المقدور، وما أثبته من الكسب لا يتحقق الفرق بينه وبين الفعل، فكأن حقيقة قوله في أفعال العباد هو معنى قول جهم. وأما سلف وأئمة الفقهاء وأهل الحديث وجمهور المنتسبين إلى السنة وطوائف من أهل الكلام (¬1) من المرجئة (¬2) والكرامية وغيرهم؛ فسلموا من هذه الأقوال الفاسدة، ولم يصفوا الله بمخلوقاته، وإنما وصفوه بما يقوم به من صفاته وأفعاله. ¬

_ = العبد كسباً بإثبات قدرة مقارنة للفعل. ولكن قدرة العبد غير مؤثرة، والمقدور والقدرة كلاهما واقع بقدرة الله، لكن الشيء الذي حصل بخلق الله وكونه متعلق القدرة الحادثة هو الكسب. انظر: الكليات لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي، مقابلة وطبع د. عدنان درويش ومحمد المصري ص 161 - 162، الطبعة الثانية 1413 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. ويقال: ثلاثة لا يُعلم لها حقيقة: أحوال أبي هاشم، وطفرة النظَّام، وكسب الأشعري، وحقيقة الكسب عند الأشاعرة يقترب من الجبر كما ذكر المؤلف، ويقال: (أو هي من كسب الأشعري)، وأهل السنة أثبتوا للعبد قدرة مؤثرة، وبها يزول الإشكال. والقدرة غير المؤثرة لا تسمى قدرة. (¬1) الكلام هو حقيقة عرفية فيمن يتكلم في الدين بغير طريقة المرسلين، ومتقدموهم كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب والسنة والآثار، وأما المتأخرون فلا يذكرون إلا الأصول المبتدعة وأعرضوا عن الكتاب السنة، وهم: الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية والمرجئة والكرامية وغيرهم، انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 10/ 366 - 367، 18/ 224 - 225 ودرء تعارض العقل والنقل 1/ 158 - 166، وشرح الطحاوية ص 208 - 210. (¬2) المرجئة: سموا المرجئة لقولهم بالإرجاء، وله معنيان: أحدهما التأخير حيث يؤخرون العمل، والثاني: إعطاء الرجاء؛ حيث قالوا: "لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة"، وقيل معنى ثالث مقابل الشيعة أي وضع علي بن أبي طالب رابع الخلفاء خلافاً للرافضة. وهم أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة. وقد ذم السلف هذه الفرق. قال الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء. أ. هـ. انظر: التنبيه والرد للملطي ص 57، والمقالات 1/ 202، 211، والفرق بين الفرق ص 25.

الحلولية يصفون الله تعالى ببعض أفعال العباد

وأما الحلولية الذين يصفونه ببعض أفعال المخلوقات، كما تقوله النصارى في المسيح والغالية في الأئمة والشيوخ والقائلون بالحلول العام -كقول ابن عربي-: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه (¬1) فهؤلاء فساد قولهم أظهر من هذا كله، وقول هذا المتخلف (¬2) يرجع إلى قول هؤلاء، وإن كان قد لا يلتزمه لو عرف أنه يلزمه. وأما الخبر الذي استشهد به من قوله: "استطعمتك"، فلفظه في الصحيح يقول الله -تعالى-: "عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: ربِّ كليف أطعمك وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: ربِّ كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلو عدته لوجدتني عنده" (¬3)، وهذا الخبر ليس فيه فعل للعبد، وإنما فيه جوعه ومرضه، ولكن ظن أن لفظة "استطعمتك" وأنه جعل استطعام العبد استطعام الرب، وأيضاً فالخبر مقيد لم يطلق الخطاب إطلاقًا، وإنما بيّنَ أن عبده هو الذي مرض، وهو الذي جاع، وقال: "لو أطعمته لوجدت ذلك عندي"، ولم يقل لوجدتني أكلته، وقال: "لو عدته لوجدتني عنده؛ ولم يقل لوجدتني إياه". والحديث خطاب مفسر مُبين أن الرب ليس هو العبد؛ ولا صفته صفته؛ ولا فعله فعله، أكثر ما فيه استعمال لفظ الجوع والمرض مقيدًا مبينًا للمراد، فلم يطلق الخطاب إطلاقًا، وأيضًا فقد عَلمَ المخاطب أن الرب لا يجوع ولا ¬

_ (¬1) هذا البيت لابن عربي ونصه: ألا كل قول في الوجود (البيت). انظر: الفتوحات المكية لابن عربي (4/ 14) طبعة 1329 هـ مصطفى الحلبي، دار الكتب العربية القاهرة. (¬2) أي البكري. (¬3) أخرجه مسلم في (كتاب البر والصلة، باب فضل عيادة المريض) رقم (2569) (4/ 1990) ولفظه: "إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا ربِ كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده. أما علَمت أنك لو عدته لوجدتني عنده. يا ابن ... الحديث".

يمرض، فلم يكن تلبيس لا من جهة السمع؛ ولا من جهة العقل، بل المتكلم بيّن فيه مراده، والمستمع (¬1) لم يشتبه عليه، بخلاف ما إذا أضيف [الفعل] (¬2) إلى (¬3) العبد الذي يمكن منه الفعل؛ الفعل قد قام به، فإنه إذا جعل فعله فعل الرب لم يعقل هذا؛ إلا إذا أريد أنه خالقه، و [إذا] (¬4) أريد ذلك فالصواب أن يقال فعل العبد مخلوق للرب ومفعول له، لا يطلق أنه فعله لما فيه من التلبيس؛ ولما فيه من نفي فعل الرب؛ ولما فيه من نفي كون العبد فاعِلًا، ثم إنه لا فرق في ذلك [بين المقربين وغير المقربين بهذا الاعتبار] (¬5). بل قد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83]، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1] ونوح محمود مقرب، والشياطين أعداء لله، وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} [الإسراء: 5]، كما قال تعالى: {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]، [وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}] (¬6) [النحل: 36]، كما أنه يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، فيخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، وقد خلق المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وخلق النبات والدواب كلها طيبها وخبيثها، فجهة الخلق عامة شاملة، فلو كان قوله: "يبايعونك" وقوله: "ولكن الله رمى" من الخلق الشامل والقيومية العامة؛ للزم أن يقال مثل ذلك في كل مبايعٍ ورامٍ، وإن كان من الكافرين، ولم يكن في ذلك خاصّة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولا فضل له على أحدٍ من المخلوقين. ¬

_ (¬1) في (د) (له). (¬2) كذا في (د) و (ف) و (ح) وفي الأصل (العقل). (¬3) (إلى) سقطت من (د). (¬4) كذا في (د) وفي الأصل و (ف) و (ح) (لأنه). (¬5) ما بين المعقوفبن من (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) (هذا الاعتبار بين المقربين). (¬6) كذا في (د) و (ت)، والآية سقطت من الأصل و (ف) و (ح).

شرح حديث الأولياء

وأما حديث الأولياء فليس من هذا الباب بالكلية، وإنما فيه: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي" (¬1)، ولم يقل: أنا أسمع وأنا أبصر، ولا أنا أبطش ولا أنا أمشي، وقد [صرح] (¬2) بالفرق فيه بين الرب والعبد من وجوه متعددة، كقوله: "من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة" (¬3)، ففرق بين نفسه ووليه وعدوه ووليه، ثمّ قال: "ما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه" (¬4)، ففرق بين المتقرب والمتقرب إليه، ثم قال: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ... " إلى آخره (¬5)، فلم يقل كنت إياه، ولا فيه أن فعل أحدهما هو ¬

_ (¬1) حديث الأولياء أخرجه البخاريّ في (كتاب الرقاق، باب التواضع) 4/ 2039 رقم 6502 وغيره، وهذا اللّفظ الّذي ذكره المؤلِّف أعلاه انفرد به الحكيم التّرمذيّ في ختم الأولياء، تحقيق عثمان إسماعيل يحيى ص 332 (طبعة المطبعة الكاثوليكية بيروت - لبنان) ولم يذكر له سندًا. وسيورد المؤلِّف أجزاء من الحديث فيما بعد. قال ابن رجب إنّه من غرائب الصحيح، وقد رُوي من عدة وجوه لا تخلو كلها من مقال. أ. هـ. جامع العلوم تحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس 2/ 330 وما بعدها (الطبعة الثّالثة 1412 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان). وقال ابن حجر في فتح الباري 11/ 415: إنَّ للحديث طرقًا يدلُّ مجموعها على أنّه له أصلًا. أ. هـ. وقال ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرّحمن وأولياء الشيطان، تحقيق د. عبد الرحمن اليحيى ص 50 (الطبعة الأولى 1414 هـ الناشر دار طويق الرياض): هذا أصح حديث يروى في الأولياء. أ. هـ. وجمع طرق الحديث وتكلم عليها السيوطيّ في القول الجلي في حديث الولي في كتاب الحاوي للفتاوى، لجلال الدِّين عبد الرّحمن السيوطيّ 2/ 92 - 95، طبعة دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. (¬2) كذا في (د) و (ت) وفي الأصل و (ف) و (ح) صح. (¬3) هذا الجزء من الحديث أخرجه البخاري ولفظه " ... آذنته بالحرب ... "، وبلفظ البخاريّ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والأسماء والصفات والزهد في الرِّواية الأولى وفي الرِّواية للزهد الثّانية: " ... فقد استحل محاربتي ... "، والطبراني في المعجم الكبير عن أبي أمامة: "من أهان لي وليًا، فقد برزني بالمحاربة"، وكذا رواية أنس، ولم يذكر هذا السياق ابن حجر في فتح الباري 11/ 416 عند الكلام على روايات الحديث. (¬4) أخرج هذا الجزء أبو نعيم في إلى حلية 8/ 318 - 319 من حديث أنس والحكيم التّرمذيّ في ختم الولاية ص 332 الفصل السّادس، وابن أبي الدنيا في الأولياء من حديث أنس بن مالك ص 27 وغيرهم بألفاظ قريبة من لفظ المؤلِّف، وأصله في الصحيح. (¬5) هذا الجزء من الحديث أخرجه البخاري في (كتاب الرقاق، باب التواضع) 4/ 2030 رقم 6502 ولفظه: " ... فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به، وبصره الّذي يبصر =

المثال العلمي

فعل الآخر، ولكن أخبر أن إحساس العبد وفعله يقع به، لأنّ العبد إذا صار لله فيما يحبه ويرضاه، ويحب ما يحب، ويبغض ما يبغض، ويرضى بما يرضى، ويأمر بما يأمر، وينهى بما ينهى صار الإيمان به ومعرفته وتوحيده في قلبه، فإحساسه وأفعاله [تقع] (¬1) به، وهذا فيما في القلب نظير قوله فيما للسان: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" (¬2)، فقال: تحركت بي؛ وإنما تتحرك باسمه، كذلك قوله: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي"، أي بما في قلبه من الإيمان بي، وقد يسمى هذا المثال العلّمي (¬3)، وهذا كثير في الكلام؛ كقول القائل: ¬

_ = به، ويده الّتي يبطش بها، ورجله الّذي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته". وقال ابن حجر في فتح الباري 11/ 419 في شرح الحديث: بعد ذكر أقوال العلماء فيه، قال: وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه؛ من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتّى يصفى من الكدورات يصير في معنى الحق -تعالى الله عن ذلك-، وأنّه يفنى عن نفسه جملة حتّى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تفسير عدمًا صرفًا في شهوده وإن لم تعدم في الخارج، وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث: "ولئن سألني، ولئن استعاذني"، فإنّه كالصريح في الرَّدِّ عليهم. أ. هـ. وكذلك رد على الاتحادية والحلولية في تمسكهم بهذا الحديث ابن رجب في جامع العلوم والحكم 2/ 247. (¬1) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) يقع. (¬2) أخرجه البخاريّ في (كتاب التّوحيد، باب قول الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} وفعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حين ينزل عليه الوحي) تعليقًا جازمًا به (5/ 2350) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ولفظه: "قال الله -تعالى-: أنا مع عبدي حيثما ذكرني وتحركت بي شفتاه"، وفي رواية الكشميني -أحد رواة البخاريّ-: "ما ذكرني" فتح الباري لابن حجر 13/ 611، وأخرجه أيضاً أحمد في المسند 2/ 540 موصولًا، والحاكم في المستدرك 2/ 496 في كتاب الدُّعاء وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. ووصله ابن حجر وذكر طرقه في تغليق التعليق 5/ 362 - 364 باب قوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)}. (¬3) والمثال العلّمي هو: أن محبة الله تستولي على قلب المُحب بحيث يفنى بها عن غيرها، ويغلب محبوبه على قلبه حتّى كأنّه يراه ويشاهده، فإن لم يكن عنده معرفة صحيحة بالله وما يجب له وما يستحيل عليه، وإلا طرق باب الحلول إنَّ لم يلجه. والمثال العلّمي غير الحقيقة الخارجية وإن كان مطابق لها، فمحله القلب ومحل الحقيقة الخارج. =

ساكن في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره (¬1) وقال آخر (¬2): ومن عجبي أني أحنُّ إليهم ... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي (¬3) وقد يسمى هذا حلولًا، لحلول معرفته ومحبته في العارف (¬4) المحب، وقد غلط بعض النَّاس فظن أن ذات المعلوم المحبوب محل، وهذا غلط، كما غلط من قال بحلول ذات الرب في بعض عبيده كالنصارى ومن ضاهاهم من غلاة الشيعة، وجهَّال الصوفية. الوجه الثّاني قوله: (فإذا غلب على المقرب شهود القيومية ورؤية ¬

_ = انظر: طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم ص 23 طبعة 1413 هـ على نفقة محمّد بن صالح بن سلطان، ومجوع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 2/ 386، وجامع العلوم والحكم 2/ 346. (¬1) هذا البيت نسبه القشيرتي للجنيد، قيل للجنيد قل: لا إله إِلَّا الله، فقال: ما نسيته فأذكره!! وقال: حاضر في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره فهو مولاي ومعتمدي ... ونصيبي منه أوفره انظر: الرسالة القشيرية لأبي القاسم عبد الكريم القشيري، تحقيق د. عبد الحليم محمود ومحمود الشريف 2/ 596، باب أحوالهم عند الخروج من الدنيا (طبعة 1974) الناشر دار الكتب الحديثة - مصر. (¬2) في (د): الآخر. (¬3) في (ف): أضلاعي. دم لم أجد من ذكر قائل هذين البيتين. (¬4) العارف عند الصوفية قال السمرقندي: هو من أشهده الله ذاته وصفاته وأسماءه وأفعاله، فالمعرفة حال تحدث من شهوده. انظر: اصطلاحات الصوفية، تأليف كمال الدِّين عبد الرزّاق الكاشي السمرقندي ص 54، طبعة سلسلة إشاعة العلّو - القاهرة. وقد جعل الصوفية من صفات العارف: الحيرة ودوام التفكير، حيرة في الله -تعالى- والصمت والخوف ورحمة الناس والغيرة على محارم الله، وزاد ابن عربي اطلاعه على الغيب من غير حجاب. انظر: من قضايا التصوف في ضوء الكتاب والسُّنَّة، تأليف د. محمّد السَّيِّد الجليند ص 127 - 129 الطبعة الثّالثة 1410 هـ الناشر دار اللواء الرياض. وهذه الصفات منها ما ورد ذمه في الشّرع كالصمت، وبعضها لا يتصف به مسلم كالحيرة في الله، وبعضها كفر بالله -تعالى-.

الرد على كلام البكري في شهود القيومية (الربوبية)

التّوحيد، كما جاء في مقام الإحسان (¬1) "أن تعبد الله كأنك تراه" (¬2)، نطق برد الأشياء إلى خالقها وغلب ذلك على نطقه). فيقال: مشهد (¬3) القيومية يشهد فيه أن الله خالق كلّ شيء، وهذا الشهود العام يتناول ما دخل من إيمان وكفر، وأمّا الإحسان الّذي فيه "أن تعبد الله كأنك تراه"، فهذا مقام من يميز بين المأمور والمحظور، فإن العبد إذا قدّر (¬4) كأنّه يشاهد ربه فعل ما أُمر به وترك ما نُهي عنه، ووَالى أولياءه وعادى أعداءه، وهذا مشهد الإلهية (¬5) الّذي دعت إليه الرسل؛ حيث أمروا بعبادة الله وحده وطاعته، وليس هذا هو مشهد القيومية، ولكن من أكبر من هذا الرَّجل غلطوا في هذا، -فغلط مثل هذا لا يُنكر- لا سيما كثير من الشيوخ المعظمين عند هذا وأمثاله، فإنهم لا يفرقون بين هذا وهذا؛ بل ويُعدون نهاية العارفين الفناء (¬6) في توحيد الربوبية وشهود القيومية ¬

_ (¬1) الإحسان: لغة: فعل ما ينبغي أن يفعل من الخير، وفي الشّريعة: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك (التعريفات 12 باب الألف). (¬2) أخرجه البخاريّ في (كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان (1/ 40 برقم 50 من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وأوله: "كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بارزًا يومًا للناس، فأتاه رجل فقال: ... الحديث"، ومسلم في (كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان) 1/ 36 رقم 8. (¬3) في (د) شهدوا. (¬4) في (ط) صار. (¬5) مشهد الإلهية: هو شهادة أن لا إله إِلَّا الله، وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه كذلك، فلا أحد يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلّى له ويسجد، ويستحق -سبحانه- نهاية الحب مع كمال الذل، فهو المطاع وحده على الحقيقة، والمألوه وحده وله الحكم وحده. وهذا المشهد هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء، وهو أعلى من مشهد الربوبية الّذي هو مشهد القيومية، ولذلك فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية. انظر" طريق الهجرتين لابن القيم ص 44 - 45. (¬6) قسم ابن تيمية الفناء على ثلاثة أقسام: فناء عن عبادة السِّوَى وهو: عبادة الله وحده وهو التّوحيد، وفناء عن شهود السِّوَى وهو: الفناء عن شهود ما سوى الله، وهو الاصطلام، والثّالث الفناء عن وجود السِّوَى وهو: قول أهل وحدة الوجود. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 370. =

والاصطلام (¬1) في شهود القدر الجاري، ويقول أحدهم إنَّ مشاهدة العارف المنتهي في القربة لحكم الله -الّذي هو مشهد (¬2) مشيئته العامة- لم يدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة. وقد يقول أحدهم: هذا العارف يكون الجمع (¬3) في قلبه مشهودًا والفرق (¬4) على لسانه موجودًا ومرادهم بالجمع شهود القدر. ¬

_ = والمؤلِّف هنا يشير إلى القسم الثّاني وهو الفناء عن شهود ما سوى الله، وهو الّذي يشير إليه أكثر الصوفية المتأخرين، ويعدونه غاية، وأصل هذا الفناء الاستغراق في توحيد الربوبية وهو رؤية الله بخلق الأشياء، وملكها واختراعها، وأنّه ليس في الوجود قط إِلَّا ما شاءه وكونه. فيشهد ما اشتركت فيه المخلوقات من خلق الله إياها، ومشيئته لها، وقدرته عليها، وشمول قيوميته وربوبيته لها. ولا يشهد ما افترقت فيه من محبة الله لهذا وبغضه لهذا، وأمره بما أمر به، ونهيه عما نهى عنه، وموالاته لأوليائه ومعاداته لأعدائه. انظر: مدارج السالكين لابن القيم 1/ 173 - 178، ولكن توحيد الربوبية لا يكفي في النجاة فضلًا عن أن يكون شهوده والفناء فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم، فالغاية الّتي لا غاية وراءها ولا نهاية بعدها هو توحيد الإلهية. انظر: طريق الهجرتين ص 30. (¬1) الاصطلام في عرف الصوفية هو: الوله الغالب على القلب، وهو قريب من الهيمان. وقيل: هو غلبات الحق الذي يجعل كلية العبد مغلوبة له بامتحان اللطف في نفي إرادته. انظر: اصطلاحات الصوفية للكاشي السمرقندي ص 5، ومعجم مصطلحات الصوفية للحفني ص 17 حرف الألف. (¬2) (مشهد) سقطت من (ف). (¬3) الجمع في عرف الصوفية هو: شهود الأشياء بالله والتبري من الحول والقوة إِلَّا بالله. التعريفات للجرجاني ص 77 باب الجيم. والصواب أن الجمع ينقسم إلى قسمين: الأوّل: الجمع ويراد به جمع الوجود وهو يزيل التفرقة بين الرب والعبد، والخالق والمخلوق، والقديم والحديث. وهذا جمع الملاحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا أبطل الباطل. والثّاني: الجمع ويراد به الجمع بين إلإرادة والطلب على المراد المطلوب وحده، وهذا هو الجمع الصحيح. مدارج السالكين 3/ 445. (¬4) الفرق في عرف الصوفية هو: تكثر الواحد بظهيره في المراتب الّتي هي ظهور شؤون الذات الأحدية. وتلك الشؤون في الحقيقة اعتبارات محضة لا تحقيق لها إِلَّا عند بروز الواحد بصورها. التعريفات للجرجاني ص 66 باب الفاء. =

غاية التحقيق عند البكري وأمثاله الإقرار بتوحيد الربوبية الذي أقر به عباد الأصنام

وهؤلاء غاية تحقيقهم شهود التّوحيد الّذي أقر به عبَّاد الأصنام (¬1) العرب، كانوا يُقرون بأن الله خالقُ كلّ شيء وربّه ومليكه؛ كما أخبر الله عنهم في القرآن في غير موضع، كقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} [المؤمنون: 84 - 89]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وقد أخبر الله تعالى عنهم أنّهم احتجوا في ذلك بقوله: {سَيَقُولُ} [الأنعام: 148]. وقد ظن طائفة من المثبتين للقدر أنّهم قالوا هذا على سبيل التكذيب بالقدر والاستهزاء به (¬2)، لقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148]، وبهذا أجابوا القدرية لما احتجت (¬3) عليهم بهذه الآية، وهذا غلط، فإن العرب كلهم كانوا يثبتون القدر، ويقرون أن الله خالق كلّ شيء وربه ومليكه فلم يكونوا مكذبين بذلك، ولا ذمهم الله -سبحانه- على التكذيب بالقدر؛ بل على الاحتجاج به على إبطال الأمر والنهي، وقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148]، أي كذبوا بالأمر والنهي الّذي جاءت به الرسل، فإن هذا هو تكذيب الذين من قبلهم؛ الذين ذكر الله في القرآن، ولهذا قال: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148]، أي: فإن المحتج ¬

_ = والصواب أن الفرق ينقسم أيضاً إلى قسمين الأوّل: الفرق بين القديم والمحدث، وبين الخالق والمخلوق، ويقابل جمع الملاحدة، ويقولون الجمع ما أسقط هذا الفرق، وهذا هو الفرق الصحيح. والثّاني: الفرق بين الهمة والإرادة، ويقابل الجمع الصحيح أي الجمع بين الإرادة والطلب على المراد المطلوب وحده، وهذا الفرق مذموم. مدارج السالكين 3/ 445. (¬1) في (د) فإن عباد الأصنام من العرب. (¬2) مثل التفتازاني في شرح المقاصد 4/ 274. (¬3) في (د) أحتججت.

ظن البكري وأمثاله أن من شهد الربوبية سقط عنه الملام مثل (الخضر)

بالقدر لا يحتج به إِلَّا إذا لم يكن عنده علم؛ بل يتبع هواه، فإنها حجة متناقضة، إذ لو احتج عليه بالقدر لما قبل هو ذلك منه (¬1)، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. فمن كان غاية توحيده شهود القيومية والربوبية العامة؛ كان قد شهد ما أقر به المشركون، ولم يكن قد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإنما يشهد ذلك من شهد الفرق بين المأمور والمحظور، وبين أولياء الله وأعدائه، وبين توحيده والإشراك به، وعَبَدَ الله كأنّه يراه، وهذا شهد الفرق في الجمع؛ فهو مع شهود القيومية؛ يشهد أنّه (¬2) الإله المستحق للعبادة دون سواه، ووجوب طاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، ويستعينه على فعل ما أمر وترك ما حظر، وشهوده أنّه خلق الملائكة والشياطين؛ (لا يحجبه عن أن يشهد أن الملائكة أولياؤه والشّياطين أعداؤه، وكذلك شهوده أنّه خالق أفعال العباد) (¬3)؛ لا يحجبه عن أن يشهد [أنّه يحب] (¬4) الإيمان والعمل الصالح، ويرضاه ويكرم أهله ويقربهم إليه، وينهى عن الكفر والفسوق والعصيان ويمقت أهله ويعاقبهم، فمن غلط هذا؛ ظن أن مجرد شهود القيومية هو شهود (¬5) المقربين، وظن أن هذا هو عبادة الرب، كأنّه يراه. ومن هؤلاء (من يظن) (¬6) أن من (¬7) شهد القيومية سقط عنه الملام، ومنهم من يقول إنَّ الخضر (¬8) سقط عنه الملام لشهوده القيومية، وهذا كله ¬

_ (¬1) قرر هذا المعنى ابن جرير الطبرى. انظر: تفسير الطبري 5/ 387 - 388، ونقل إجماع أهل التفسير على هذا. (¬2) في (د) أن وهو خطأ. (¬3) ما بين القوسين سقط من (د) و (ح) وبهامش (ف). (¬4) ما بين المعقوفين من (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل. (¬5) في (ف) شهد. (¬6) ما بين القوسين سقط من (ف). (¬7) (من) سقطت من (ف). (¬8) الخضر هو صاحب موسى -عليه السلام-، اختلف في اسمه، ونسبه، ونبوته، وقد قيل فيه أقوال كثيرة، قال ابن حجر في الزهر النضر في نبأ الخضر (ضمن مجموعة الرسائل =

نهاية سلوكهم لا يحبون ما أحب الله، ولا يبغضون ما أبغضه

باطل، وطرد هذا القول يجر إلى شرٍّ من أقوال اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يميزون في الجملة بين أمور منكرة، كما يميزون بين الصدق والعدل وبين الكذب والظلم، وهؤلاء إذا شهدوا القيومية العامة؛ لم يميزوا بين المعروف والمنكر، ولا بين الصدق الكذب، والعدل والظلم، وهم في هذا النَّفْي لا يثبتون؛ بل يميزون تمييزًا طبعيًا لا شرعيًّا، فيفرق أحدهم بين ما يهواه وبين ما لا يهواه، فيطلب هذا وينفر عن هذا، ويمدح من وافق غرضه، ويذم من خالف غرضه، ولهذا كان هؤلاء نهاية سلوكهم هو الفناء والجمع والاصطلام، لا يحبون ما أحب الله، ولا يبغضون ما أبغض الله، فإن الإرادة والمحبة والرضا سواء عندهم (¬1)، كما تقول القدريّة من المعتزلة وغيرهم. ¬

_ = المنيرية) 2/ 198: كان بعض أكابر العلماء يقول: أول عقدة تحل من الزندقة اعتقاد كون الخضر نبيًا، لأنّ الزنادقة يتذرعون بكونه غير نبي إلى أن الولي أفضل من النّبيّ. أ. هـ، وقد وردت آثار ضعيفة وموضوعة في تعميره حتّى يكذب الدجال، وقد تتبع ابن كثير في قصص الأنبياء ص 459 - 460 الأخبار الواردة في حياته ثمّ قال: وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم، وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدًا لا يقوم بمثلها حجة في الدِّين، والحكايات الواردة لا يخلو أكثرها عن ضعف الإسناد، وما كان منها صحيحًا فهو عن غير معصوم، وذهب جماهير العلماء إلى أنّه مات، منهم البخاريّ وإبراهيم الحربيّ، وألف ابن الجوزي كتاب: "عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر"، ونصوص الكتاب والسُّنَّة تدل على موته. أ. هـ. وقد استدل الصوفية بقصة الخضر في الحقيقة والشريعة، وفي طاعة المريد لشيخه طاعة مطلقة وغيرها، وأشد وأدهى تمثل الشّياطين لهم وادعائها أنّها الخضر، وسبب ذلك طمع الشّياطين بهؤلاء، قال المؤلِّف في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/ 392: لم يقل أحد قط من الصّحابة: أن الخضر أتاه ولا موسى، ولا عيسى، ولا أنّه سمع رد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليه. أ. هـ. ويوجد في بعض بلدان العالم الإسلامي مشاهد يدَّعون أنّها للخضر. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 27/ 100 - 120، وكتاب فوائد حديثية، تأليف ابن القيم، تحقيق مشهور بن حسن وإياد القيسي ص 81 وما بعدها (الطبعة الأولى 1416 هـ، الناشر دار ابن الجوزي الدمام)، والخضر وآثاره بين الحقيقة والخرافة، تأليف أحمد الحصين (الطبعة الأولى 1407 هـ الناشر دار البخاريّ بريدة). (¬1) هل الإرادة تستلزم الرضا والمحبة؟ الخلاف في هذه المسألة على قولين: القول الأوّل: أن الإرادة تستلزم الرضا والمحبة، وهذا قول الجهمية والمعتزلة وأغلب الأشاعرة، واختلفوا فيما يقع من الكفر والمعاصي هل هو محبوب لله لكونه مرادًا له؟ فقالت المعتزلة القدرية: قد عُلمَ أن اللهّ يحب الإيمان والعمل الصالح ولا يحب الفساد، ولا يرضى الكفر =

لكن أولئك قالوا: هو (¬1) لا يحب الكَفر والفسوق والعصيان فلا يريده، فيكون ما يقع من ذلك بدون مشيئته وقدرته، فيكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون. وقال هؤلاء: هو أراد الكفر والفسوق والعصيان، فهو يحب ذلك ويرضاه، وإن كان لا يريده (¬2) دينًا، بل يريد تنعيم من أطاعه وتعذيب من عصاه. ثمّ قال هؤلاء: هذا الفرق يعود إلى حظوظ (¬3) أنفسهم، فالعارف الفاني عن حظوظه في شهود قيوميته لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة. ثمّ قالوا: والأنبياء والصديقون يقومون بالفرق لأجل العامة، رحمة بهم، وهذا عندهم من التلبيس الّذي أمرت به الخاصة، وهم يبطنون ما يظهرون، ¬

_ = والمعاصي، فلما كان هذا ثابت لزم أن تكون المعاصي ليست مقدرة له ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه، وقالت الجهمية ومن اتبعها من الأشاعرة: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وكل ما في الوجود فهو بمشيئته وقدرته، وهو خالقه، وعلى هذا فالكون كله، قضاؤه وقدره، وطاعته ومعصيته، وخيره وشره، محبوب لله، لأنّه مريد له وخالقه، وقد حاول بعض الأشاعرة التخفيف من الألفاظ وبعضهم تجنب التصريح بذلك ونهى عنه. والقول الثّاني: أن الإرادة لا تستلزم الرضا والمحبة، وهو قول عامة أهل السُّنَّة المثبتين للقدر، قالوا: إنَّ الله وإن كان يريد المعاصي قدرًا، فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها. وأن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية هي المتمضنة للمحبة والرضا، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، فالإرادة الدينية هي المذكورة في مثل قول النَّاس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به، والإرادة الكونية هي المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 459 وما بعدها، والإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لأبي المعالي الجويني، تحقيق أسعد تميم ص 211 - 219 (الطبعة الأولى 1405 هـ، الناشر مؤسسة الكتب الثقافية بيروت - لبنان)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 356 - 358، 8/ 240 - 241، وشفاء العلّيل لابن القيم 1/ 141 - 142، وشرح الطحاوية ص 113 - 114، 251، 447، والقضاء والقدر، تأليف د. عبد الرحمن المحمود ص 196 - 200. (¬1) (هو) سقطت من (د). (¬2) في (ف): يريد وهو خطأ. (¬3) حظوظ جمع حظ وهو النصيب. المصباح المنير، تأليف أحمد الفيومي المُقرئ ص 54 الناشر مكتبة لبنان بيروت - لبنان.

متابعتهم لشياطين الإنس والجن، والكفار

فإنّه يكون الجمع في قلوبهم مشهودًا، والفرق في ألسنتهم موجودًا، فالقائم بالفرق عندهم لا يكون إِلَّا واقفًا مع حظه أو ملبّسًا (¬1) بإيمانه لأجل غيره، إذ لا فرق بنسبة إلى الله عندهم. ومن عرف ما جاءت به الرسل من إثبات محبة الله ورضاه، وفرحه بتوبة التائبين وسخطه وغضبه ومقته لمن عصاه، وعرف أن الفرق ثابت بالنسبة إلى القدر مع شمول المشيئة لكلّ واقع؛ وصار على ملة إبراهيم الّذي اتخذه الله خليلًا، فأحب الله وأحب ما يحبه الله، كان متابعًا لما أمر الله به وأحبّه ورضيه، ولم يكن مع مجرد الإرادة. فإن هؤلاء دخلوا بإرادة أنفسهم فانتهوا إلى الإرادة الخلقية، ومن دخل بالإرادة الّتي هي أمر الله ونهيه مصدقًا لما أخبر الرسول من الفرق الثابت في كتاب الله وأفعاله، كان على دين الإسلام الّذي أرسل الله به رسله وأنزل كتبه، على ملة إبراهيم ودين محمّد - صلى الله عليه وسلم -؛ ومن لم يقل بالفرق في نفس الأمر فإنّه خارج عن حقيقة الإيمان كما أنّه خارج عن شريعة الإسلام، فليس معه حقيقة إيمانية، ولا شريعة إسلامية، وإنّما معه حقيقة خلقية قدرية أقر بها عبَّاد الأصنام الذين هم مشركون، وذلك أن شهود القيومية بلا جمع ممتنع طبعًا وشرعًا، فمن لم يشهد الفرق الشرعي الإلهي؛ وإلا كان مع الفرق الطبعي النفساني أو مع فرق آخر شيطاني. فمن لم يعبد الرّحمن عبد الشيطان، {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)} [الزخرف: 36 - 38]، وذكر الرّحمن يراد به الذكر الّذي أنزله الله، كما قال تعالى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 123 - 126]، فمن أعرض عن هدى الله الّذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه؛ فلم ¬

_ (¬1) في (ف) ملتبسًا.

التوحيد المنجي: شهادة أن لا إله إلا الله

يفرق بين ما أمر الله به وما نهى عنه، كان معرضًا عن ذكره المنزّل، فيقيض له شيطانًا يصده عن سبيل الله؛ فيفرق بمجرد هواه، ومن أضل ممّن اتبع هواه بغير هدى من الله، ولو كان مثل هذا ذاكرًا لله ولم يشهد إِلَّا القيومية العامة، لم يشهد ما جاء به الكتاب المنزل من الفرق فإنّه يكون من أعظم أتباع الشّياطين. ولهذا يوجد الشيوخ العبَّاد (¬1) والزهَّاد من هؤلاء يتبعون شياطين الإنس والجن، فيكون أحدهم من خفراء الكفار وأعوانهم، ومنهم من يحسن الظن (¬2) بالكفار وأعوانهم ونظرائهم [فيحسبهم] (¬3) من أولياء الله المتقين؛ لا سيما إن رأى من الأحوال الشيطانية ما يغريه، مثل أن يخبره ببعض الغائبات، أو يحصل له نوع من التصرفات فيطير به الشيطان في [الهواء] (¬4)، ويحضر له طعامًا وغير ذلك، كما كان يحصل لعبَّاد الأصنام مع الشّياطين، وهذا التّوحيد توحيد الربوبية العامة، كان المشركون يقرون به فهو وحده لا ينجي من نار ولا يدخل الجنَّة (¬5). بل التّوحيد المنجي: شهادة أن لا إله إِلَّا الله وأن محمدًا رسول الله، بحيث يُقر بأن الله هو المستحق للعبادة دون ما سواه، وأن محمدًا رسوله، ¬

_ (¬1) في (د) و (ح) والعباد. (¬2) بياض في الأصل و (د) و (ف) و (ح) بمقدار كلمة، وليس في الكلام سقط كما يتضح من السياق. (¬3) بياض في الأصل و (د) و (ف) و (ح) بمقدار كلمة وما بين المعقوفين يقتضيه السياق كذا في (ط). (¬4) كذا في (ح) وفي، الأصل، و (ف) (الاهوا) وفي (د) (الهوى). (¬5) وقد ذكر المؤلِّف هذه الأحوال الشيطانية في كثير من كتبه، انظر: التوسل والوسيلة، 300 - 303، والفرقان بين أولياء الرّحمن وأولياء الشيطان ص 328 - 332، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/ 610 - 611، وغيرها، وذكرها غيره من أهل العلم، مثل: أكام المرجان في عجائب وغرائب الجان، تأليف بدر الدِّين أبي عبد الله الشبلي ص 124 وما بعدها، الطبعة الأولى 1408 هـ، الناشر المكتبة العصرية بيروت - لبنان، وكتاب عالم الجن والشياطن تأليف عمر سليمان الأشقر ص 83 وما بعدها، الطبعة الثّانية، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، وحقيقة الجن والشياطين، تأليف محمّد علي السيدابي ص 80 - 83، الطبعة الأولى 1407 هـ، الناشر دار الحارث الخرطوم - السودان.

فمن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن عصى الرسول فقد عصى الله، فيحل ما حلله الله ورسوله، ويحرم ما حرمه الله ورسوله، ويأمر بما أمر الله به ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله (¬1). وهذا المقام غلط فيه كثير من السالكين، لم يميزوا بين الأوّل والثّاني (¬2) ولو طردوا قولهم لخرجوا من الدِّين كما تخرج الشعرة من العجين. وإنّما طرده حذاق الملحدين منهم الذين يقولون: المسالك يشهد أوَّلًا طاعة ومعصية، ثمّ ثانيًا يشهد طاعة بلا معصية؛ وهو شهود القيومية، ثم لا تبقى لا طاعة ولا معصية وهو مشهد الوحدة (¬3) عندهم، ولهذا يقول بعض ¬

_ (¬1) عدم معرفة أهل الكلام بالتوحيد الأعظم توحيد الألوهية وعدم ذكره في كتبهم، أدى لانخراط كثير منهم في بدع القبور، وإقرارهم للشرك الأكبر ووسائله الّتي ترتكب عند الأشرحة. انظر: دعوة التّوحيد، تأليف د. مححمد خليل هراس ص 231 الطبعة الأولى 1406 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. ومن تاب من أهل الكلام رجع إلى ما ذكر المؤلِّف، قال الشهرستاني في نهاية الإقدام ص 123 - 124 (طبعة ألفرد جيوم الناشر مكتبة المتنبي القاهرة - مصر): أمّا تعطيل العالم عن الصانع العالم القادر الحكيم فلست أراها مقالة لأحد ولا أعرف عليه صاحب مقالة إِلَّا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية ... فما عددت هذه المسألة من النظريات الّتي يقام عليها برهان، فإن الفطر السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبدهية فكرتها على صانع حكيم عالم قدير {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ... ولهذا لم يردّ التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنَّما ورد بمعرفة التّوحيد ونفي الشرك، "أمرت أن أقاتل النَّاس حتّى يقولوا لا إله إِلَّا الله"، ولهذا جعل محل النزاع بين الرسل وبين الخلق التّوحيد ... أ. هـ. وللتوسع: انظر: كتاب التّوحيد لابن منده ص 71 وما بعدها، وهداية المريد لتحصيل معاني كتاب تجريد التّوحيد المفيد لتقي الدِّين المقريزي، تعليق أحمد طاحون ص 10 وما بعدها (طبعة 1414 هـ، الناشر مكتبة التراث الإسلامي القاهرة - مصر)، ورسالة في وجوب توحيد الله للعلّامة محمّد علي الشوكاني، تحقيق د. محمّد ربيع مدخلي ص 59 وما بعدها (الطبعة الأولى 1412 هـ، ـ الناشر دار المنار القاهرة - مصر)، والعلّم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ، للعلّامة صالح المقبلي ص 8 وما بعدها، وبهامشه كتاب الأرواح والنافح له أيضاً (الناشر مكتبة لبنان دمشق - سوريا) وغيرهم كثير. (¬2) في (د) (من توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية) وهو تفسير الأوّل والثّاني. (¬3) في (ف): الوحد، ومشهد الوحدة هو: في عرف الصوفية أن لا يشهد فيه ربًا وعبدًا، وخالقًا ومخلوقًا، وآمرًا ومأمورًا، وطاعة ومعصية بل الأمر كله واحد فيكون =

أقوال لأهل وحدة الوجود

شيوخ لعؤلاء: أنا كافر برب يعصى، ويقول. لو قتلت سبعين نبيًا ما كنت مخطئًا. ويقول الآخر وهو ابن عربي: الربُّ حقٌ والعبدُ حقٌّ ... يا ليت شعري من المكلَّف إنَّ قلت عبدٌ فذاك ميْتٌ ... أو قلت ربٌّ أنَّى يكلّف (¬1) والكلام (على هذا) (¬2) مبسوط في غير هذا الموضع، وإنَّما الغرض التنبيه على موضع الغلط والاشتباه. الوجه الثّالث: قوله: (إنَّ المقرب إذا غلب عليه هذا، نطق برد الأشياء إلى خالقها وغلب ذلك على نطقه). فيقال: سيد المقربين محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الّذي قاتل الكفار وكان يأمر بقطع [يد] (¬3) السارق ورجم الزاني وجلد الشارب، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطَّيِّبات ويحرم الخبائث؛ فلو غلب عليه مشهد القيومية وأن الأشياء جميعها مخلوقة لله؛ ولم يشهد ما فيها من الفرق؛ لَمَا كان ينبغي أن يأمر أحدًا، ولا ينهى أحدًا، ولا يقتل أحدًا، ولكان ينبغي أن يردّ كفر الكافرين وفسق الفاسقين إلى الخالق، كما قال (¬4) [في] (¬5) قوله: "ولكن الله حملكم" (¬6)، وبيّن أن يقال -والعياذ بالله- ولكن الله كفر وزنا وسرق وشرب ¬

_ = المسالك عندهم في بدايته يشهد طاعة ومعصية، ثمّ يرتفع عن هذا الفرق بكشف عندهم حتّى يشهد الأفعال كلها طاعة لله لا معصية فيها، وهذا ناقص عندهم أيضاً إذ هو متضمن للفرق، ثمّ يرتفع عندهم إلى مشهد الوحدة وما ثمّ غير. طريق الهجرتين لابن القيم ص 260. وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 11/ 244. (¬1) الفتوحات المكية لابن عربي 1/ 42، تحقيق د. عثمان يحيى، طبعة 1392 هـ الناشر الهيئة المصرية العامة للكتاب. (¬2) ما بين القوسين، سقط من (د). (¬3) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف). (¬4) بياض في الأصل و (ف) بمقدار سطر وفي هامش الأصل (بياض في الأصل). وفي الجملة سقط. وكذلك الجملة الّتي بعدها. (¬5) ما بين المعقوفتين من (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف). (¬6) هذا جزء من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-، أخرجه البخاريّ في (كتاب الخمس، باب ومن الدّليل على أن الخمس لنوائب المسلمين) 2/ 965 رقم 2133 بلفظه. =

تفريق الأنبياء والرسل بل وعامة بني آدم بين المأمور به والمنهي عنه

الخّمْرِ، فهل يقول هذا مؤمن أو عاقل؟ وقوله - صلى الله عليه وسلم-: "ولكن الله حملكم" سنذكره إن شاء الله. وإلا مشهد القيومية شامل لجميع الفعل، وإن فرق بين خلق الله لحملهم وكلامهم ولفعلهم ولتكذيب (¬1) المكذبين. أفترى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان يشهد القيومية في بعض الأشياء، وهو أعلم الخلق بالله، ومشركو العرب كانوا مقرين بأن الله رب كلّ شيء، وهم يقرون بمشهد القيومية. الوجه الرّابع: أن يقال له: مَنْ مِن المقربين كان يقف عند مشهد القيومية، فيرد جميع الأفعال إلى [الخالق] (¬2) من غير أن يشهد أنّها أفعال لفاعليها يستحقون عليها المدح والذم، والثواب والعقاب. وهذا القرآن ينطق عن جميع الأنبياء والمرسلين -وهم سادات المقربين- بأنّهم كانوا يفرقون بين المعروف والمنكر، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، ويأمرون بعبادة الله وحده، وينهون عن عبادة ما سواه، ولو لم يشهدوا إِلَّا القيومية الّتي ترد فيها الأفعال إلى خالقها، لم يأمروا ولم ينهوا ولم يمدحوا ويذموا، فإن العبد لا يأمر الله ولا ينهاه ولا يذمه ولا يعاقبه. والأنبياء كلهم على شهود الفرق، ومدح المحسن وذم المسيء، وإن كانوا مقرين بأن الله خالق كلّ شيء وربه ومليكه، فشهود القيومية العامة لا يناقض؛ أن يفعلوا ما أُمروا به، وأن يأمروا الخلق بعبادة الله وحده، وينهونهم عن عبادة ما سواه. بل عامة بني آدم من المسلمين والكفار يقرون بالقدر وبهذه القيومية، وهم مع هذا يثبتون الفرق بين المطلوب والمرغوب، ويمدحون من فعل ما يوافق مرادهم، ويذمون من خالف ذلك، ولا يرون الإقرار بالقيومية مناقضًا لذلك. ¬

_ = وسيأتي تخريج الخبر كاملًا في ص 172. (¬1) في (ف) والتكذيب -بزيادة ألف-. (¬2) كذا في (ت) و (ط) وفي الأصل و (د) و (ف) و (ح) "الخلق"، وهو خطأ.

الرد على زعم البكري أن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي أفعال الله في الحقيقة

الوجه الخامس: قوله: (فيكون المعنى حينئذٍ كما وردت الآية أن البيعة وإن كانت له في الصورة فهي مع ربه في المعنى، وكذا ما كان من الرّمي فكأنّه يقول: الاستغاثة وإن وقعت بي فإني لست المستغاث به في المعنى، إنّما المستغاث به الله -عَزَّ وجلَّ-). فيقال: قد تقدّم بيان فساد أصل (¬1) هذا الكلام، ثمّ نقول قوله: (هي مع ربّه في المعنى) أتريد به أن الله هو المرسل الّذي أمره أن يبايعهم على الجهاد، وأمرهم بالجهاد، وهو الّذي ثبتهم على الوفاء؟ أم تريد (¬2) أن الله هو الّذي خلق البيعة؟ فإنّه خالق كلّ شيء، والقيومية شاملة لكل شيء، أم تريد (¬3) به معنى ثالثًا؟ فإن أردت الأوّل فهو صحيح؛ لكن يناقض قولك، فإن هذا مختص بمن يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، [و] (¬4) لم ينزل الله أحدًا منزلة نفسه في الأفعال، ولا جعل الله أفعال محمّد كصومه وصلاته وحجه واعتماره وجهاده ونكاحه وأكله وشربه ودعائه وتضرعه فعلًا له، ولا جعل نفس مبايعته للمؤمنين فعلًا له، بل جعل المُبايع له إنّما يُبايع مُرسِله والجزاء عليه، كما جعل من أطاعه فقد أطاع الله، فهذا فعل (¬5) خاص؛ ليس عامًا في كلّ أفعاله. وأيضًا فلم يجعل هذا الفعل فعل الله، بل أخبر أن محمدًا رسول الله يبايع عنه والمبايعةُ لمُرسِلِه في الأصل، كما (¬6) أن الطاعة طاعة لمرسله في الأصل، وكما أن معاملة الوكيل معاملة مع موكله، وليس في هذا إسقاط فعل الوكيل (¬7) عن أن يكود وكيلًا، وإنّما فيه إثبات النيابة له عن غيره، وإن أردت أن الله خالق بيعته فهذا المعنى صحيح عند أهل السننة المثبتة للقدر، الّذي هو خلق الله خلافًا لنُفاته. ولكن إذا فسرت الآية بهذا سوَّيت بين الأنبياء والشياطين، وبين آدم ¬

_ (¬1) في (ف): أهل. (¬2) في (د) تريدون. (¬3) في (د) تريدون. (¬4) كذا في (ف) وسقطت من الأصل و (د) و (ح). (¬5) (فعل) سقطت من (د). (¬6) في (ف) (وكما). (¬7) في (د): عنه -زيادة-.

اللوازم التي تلزم البكري وأمثاله

وإبليس، وموسى وفرعون، وبين أولياء الله وأعدائه، ولزمك أن تقول كفر الكافرين لهم (¬1) في الصورة ولربهم في المعنى، ولعنه (¬2) للكفار هو للكفار في الصورة ولربهم في المعنى، وأيضًا فيقال لك: المبايعة فيها فعل من الرسول وفعل من الصّحابة؛ فعلى هذا التقدير يلزمك: (أن يكون الله بايع في المعنى، لأنّه خالق للأفعال كلها، وإلا فإذا جاز أن يقول البيعة له في الصورة ولربه في المعنى، لكون الله خالقه وخلق (¬3) فعله؛ لزمك) (¬4) أن تقول: بيعته لهم بيعة لله في المعنى، لأنّ الله خلقهم وخلق أفعالهم. ويلزمك على هذا التقدير أن تقول: إنَّ الذين بايعتهم إنّما بايعت الله، وطرده أن من قاتل شخصًا فإنّما قاتل الله، ومن بايعه فإنّما بايع الله، بل يلزمهم أقبح من هذا وهو أن من لامه أو جامعه أو ضاجعه فإنّما يفعل ذلك مع الله، فإن أصل هذا القول أن الله لما كان خالقًا لأفعال العباد، كان الفعل لهم في الصورة وله في المعنى، وهذا عام في كلّ الأفعال في الخير والشر، وان أردت معنى ثالثًا فبيّنه. الوجه السّادس قوله: (البيعة وإن كانت في الصورة له فهي مع ربه، إذا لم يردّ معنى الإرسال والتبليغ المختص بالأمر والنهي، كان مقتضاه أن الرسول لم يفعل شيئًا ولا بايع، ولكن الرب هو الّذي فعل ذلك في المعنى). وهذا أن أُريد به خلق الأفعال، فقد تقدّم بطلان إرادة ذلك هنا، ؤإن أريد (¬5) به الحلول بأن يكون الرب -سبحانه- هو المتكلم على لسان الرسول، كما أن الجنّي يتكلم على لسان المصروع، (فالكلام في الصورة للمصروع) (¬6) وفي الباطن للجني فهذا هو الكفر الصريح، وهذا مذهب النصارى، وهؤلاء يشبهون النصارى في كثير من أمورهم، ولهذا سُلط عليهم النصارى، يُهينونهم كما أهانوا أهل هذا الشخص وأمثاله. وكنت أقول لهم: إنَّ الله وعد بنصره المؤمنين على الكافرين، وأنتم مشابهون للنصارى، وفيهم من هو أكفر من النصارى وأعظم إلحادًا ونفاقًا من ¬

_ (¬1) (لهم) سقطت من (د). (¬2) في (د) (أو لعنته). (¬3) في (د) (خالق). (¬4) ما بين القوسين سقط من (ف). (¬5) (أريد) سقطت من (ف). (¬6) ما بين القوسين سقط من (د).

الرد على تفسير البكري لحديث "لا يستغاث بي"

النصارى، كثير مَنْ بُغْضُيهم للنصارى إنّما هو لهوى وحظ كونهم لهم في الدنيا رياسة ومال أكثر (¬1) منهم، لا يبغضونه لأجل كفرهم ودينهم، إذ كانوا مشاركين لهم في كثير منه (¬2)، وبعضهم أشد كفرًا ونفاقًا من النصارى، وبعض النصارى أكفر منهم، وطائفة من شيوخهم يميلون إلى النصارى أكثر من المسلمين، ويأمرونهم بالبقاء على دينهم، ويقولون إذا صرتم محققين على طريقتنا فلا حاجة بكم إلى الإسلام، بل دوموا على النصرانية. ثمّ إنَّ الآية يمتنع أن يراد بها الحلول فإنّه قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، ويد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كانت مع أيديهم لا فوقها، فلم تكن يده يدًا لله، ولأنّه قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]، ولم يقل فإنك تؤتيه، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 18]، ولم يقل أنك أنت علمت ما في قلوبهم، ولا أنزلت السكينة عليهم. الوجه السابع قوله: (فكأنّه يقول الاستغاثة وإن وقعت بي فإني لست المستغاث به في المعنى إنّما (¬3) المستغاث به الله). فيقال: إنّه لم يقل لم تستغيثوا بي؛ وإنَّما استغثتم بالله، ولكن قال: "إنه لا يستغاث بي وإنّما يستغاث بالله" (¬4)، وهذا نفي للمستقبل لا للماضي (¬5). الوجه الثّامن: أن يقال: هذا الرَّجل فسَّر الاستغاثة بالتوسل (¬6) ¬

_ (¬1) في (د) و (ح) كثير. (¬2) في (د) مهم. (¬3) في (د) وإنما -بزيادة واو-. (¬4) هذه قطعة من حديث عبادة بن الصامت، وسيأتي نصه كاملًا ص 199. (¬5) في (د) للماضي. (¬6) الوسيلة في اللُّغة هي: المنزلة عند الملك. وَسَلَ فلان إلى الله إذا عمل عملًا تقرب به إلى الله. والواسل الراغب إلى الله. لسان العرب لابن منظور 11/ 724 - 725، وتوسل إلى ربه بوسيلة تقرب إليه بعمل. المصباح المنير ص 253 مادة وسل. وقال ابن تيمية: وجماع الوسيلة الّتي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إِلَّا بذلك. والتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والتوجه به في كلام الصّحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به، كما يقسمون =

به (¬1) كما تقدّم قوله: (إنَّ كلّ من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به، سواء كان (¬2) بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيره)، وقال: (قول القائل أتوسل إليك برسولك (¬3) (وأستغيث برسولك) (¬4) عندك أن تغفر لي، استغاث بالرسول حقيقة في لغة جميع (¬5) الأُمَّة). وهذا الكلام وإن كان باطلًا كما تقدّم (¬6)؛ فالمقصود هنا أنّه جعل الّذي يسأل الله به مستغيثًا به، وهنا قد جعل الاستغاثة بسؤاله فقد جعل المستغيث به مستغيثًا بالله في المعنى، وهذا (¬7) لا يصح إذا أريد به السؤال به (¬8)، فإن الله هو مسؤول لا مسؤول به. وحينئذٍ فما قال في الاستغاثة به هنا يناقض ما تقدّم؛ إِلَّا أن يجعل الاستغاثة تعم النوعين، ويلزمه أن يجعل كلّ من سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فإنّما سأل الله، ويلزمه ذلك في غيره، وحينئذٍ فيسأل المخلوق كما يسأل الخالق، وهذا لا يقوله عاقل فضلًا عن مسلم. الوجه التّاسع: أنّه لو صح (¬9) هذا النَّفْي والإثبات باعتبار القيومية، لقيل هذا لكل من كان كذلك، فيقال: لمن بايع النَّاس كلهم وواجرهم وشاركهم إنك ¬

_ = ويسألون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح. والخلاصة: أن التوسل يراد به معنيان صحيحان باتِّفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة. الأوّل: التوسل بطاعته والإيمان به وهو أصل الإيمان والإسلام. والثّاني: التوسل بدعاء النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته لا بذاته، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة. والثّالث: التوسل بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته. وهذا لم يفعله الصّحابة لا في حياته ولا بعد مماته ولا عند قبره ولا غير قبره. وينقل فيه أحاديث ضعيفة. أ. هـ. باختصار. انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 79 - 82. (¬1) سقطت من (د). (¬2) في (د) كانت. (¬3) في (د): عندك. (¬4) ما بين القوسين سقط من (ف). (¬5) في (ف) جمع. (¬6) يشير المؤلِّف هنا إلى الجزء المففود من الكتاب، وسيتعرض له المؤلِّف مرّة أخرى، وقد ذكر الملخص ما أشار إليه المؤلِّف، وقد ذكرنا نصه كاملًا تحت عنوان: سبب ضلال القبورية وأصل شبهتهم. (¬7) (وهذا) سقطت من (د). (¬8) (به) سقطت من (ف). (¬9) في (د): توضح.

ظن بعض شيوخ الصوفية أن الله تعالى مع التتار في غزوهم لبلاد المسلمين

إنّما بايعت الله وواجرت الله وشاركت الله، ويقال للذي استغاث بموسى الّذي قال الله فيه: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّه} [القصص: 15]، إنّه لم يستغث بموسى وإنَّما استغاث الله، ويقال لمن استنصر المؤمنين الذين (¬1) قال الله فيهم: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، إنّما استنصروا الله والنصر على الله، ويقال في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، [إنّما استعانوا الله] (¬2) والله يُعين، وقد خاطبني مرّة شيخ من شيوخ هؤلاء الضلال، لما قدم التتار (¬3) -آخر قدماتهم- وكنت أُحرض الناس على جهادهم، فقال لى هذا الشّيخ: أُقاتل الله، فقلت له: هؤلاء التتار هُم الله، وهم من شر الخلق؟ (¬4) إنّما هم عباد الله خارجون عن دين الله، وإن قدّر أنّهم كما يقولون فالذي يقاتلهم هو الله، ويكون الله يقاتل الله، وقول هذا الشّيخ لازم لهذا وأمثاله. الوجه العاشر: أن يقال إذا كان الأمر كما ذكرته من شهود القيوميّة فأي مدح في هذا للرسول - صلّى الله عليه وسلم -، وأي فائدة في هذا القول، أو ترى الصدّيق والصحابة ما كانوا يقرون بأن الله رب كلّ شيء ومليكه وأن العبد لا يمكنه أن يفعل شيئًا إِلَّا بمشيئة الله -تعالى- وقدرته. ¬

_ (¬1) (الذين) سقطت من (ف). (¬2) ما بين المعقوفين يتطلبه السياق كما في (ط) بها وفي الأصل و (ف) و (د) و (ح) و (ت) واتقوا. (¬3) التتار هم بدو الترك ويطلق عليهم المغول، وتختلف لغتهم عن لغة الترك، ويعرفوذ بالصينية (تاتا)، موطنهم منغوليا جنوب شرق سيبريا على حدود الصين، وبلادهم اليوم من جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقًا، اجتاحوا العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري، في اجتياح لم يسبق مثله في التاريخ، ونشروا الرعب والقتل والتدمير في كلّ بلد يدخلونه، ثمّ هداهم الله للإسلام فيما بعد، وبعد حروب كثيرة، وللمؤلف -رحمه الله- مواقف مشرفة في جهادهم، وقد كان للصوفية والرافضة مواقف مخزية، قال أحدهم لشيخ الإسلام ابن تيمية: نحن ما ينفق حالنا إِلَّا عند التتر، وأمّا عند الشرع فلا. وقال الشّيخ عبد الرّحمن دمشقية: العلّاقة بين التتار والرفاعية عار وليست كرامة. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 374، والبداية والنهاية 13/ 98 وما بعدها و 14/ 51، ودائرة المعارف الإسلامية ترجمة أحمد الشنتناوي وآخرين 4/ 576 مادة تتر، والرفاعية تأليف عبد الرّحمن دمشقية ص 110 وما بعدها، الطبعة الأولى 1410 هـ. (¬4) في (د): هؤلاء.

نفي فعل العبد لا يجوز حتى عند الجبرية

الوجه الحادي عشر: أن ما كان من هذا الباب لا يجوز فيه نفي الفعل عن العبد، فإنّه مكابرة للحس ولو على مذهب الجبرية، بل إذا أريد نفي فلا بد من قرينة تببين المراد والحديث مطلق ليس فيه قرينة. الوجه الثّاني عشر: أمّا حديث أبي موسى الأشعري وقوله: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم"، لم يُرد به النبي - صلى الله عليه وسلم - كون الله خالق أفعال العباد؛ فإن هذا يتناول هذا الفعل وغيره من الأفعال. ومعلوم أن الله لم يقل لم أركب ولكن الله ركب، ولم يقل ما جاهدت في سبيل الله ولكن الله جاهد، ولم أسافر (¬1) ولكن الله سافر، ونحو ذلك. بل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما سألوه أن يحملهم، قال: والله ما أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه، فلما ذهب أبو موسى، بُعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنهب (¬2) إبل فأمر فبعث إلينا بخمس ذود غُرّ الذرى (¬3)، فقلنا: تغفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينه لا نفلح أبدًا، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم"، فلما لم يكن منه لا قصد ولا قدرة، صح أن يقول ما حملتكم لأني لم يكن عندي ما أحملكم عليه، ولكن الله حملكم بما يسره من الحمولة الّتي أتى بها بغير فعل مني، فنفى الحمل عن نفسه وأضافه إلى الله، لأنّه أراد به تيسير الحمولة ولم يكن له في هذا فعل، ثمّ قال: "وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إِلَّا أتيت الّذي هو خير وتحللتها" (¬4) ¬

_ (¬1) في (د) ولا سافرت. (¬2) (بنهب) سقطت من (ف). والنهب هو: الغارة والسلب. النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير (5/ 133) باب النون مع الهاء. (¬3) ذود غُر الذرى: الذود من الإبل هي ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل ما بين الثلاث إلى العشر، وقال أبو عبيد: "الذود من الإناث دون الذكور، والحديث عام فيهما"، النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/ 171 باب الذال مع الواو. غر الذرى: أي بيض الأسنمة سمانها، والذرى جمع ذروة وهي أعلى سنام البعير، وذروة كلّ شيء أعلاه. النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 159 باب الذال مع الراء. (¬4) هذا الحديث أخرجه البخاريّ في مواضع كثيرة من صحيحه، بألفاظ متقاربة، =

زعم البكري أن حديث "لا يستغاث بي" حث للاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -

وقال لهم هذا لما قالوا: إنك حلفت أن لا تحملنا، وكان قد قال: "ما عندي ممّا أحملكم عليها، فبيّن لهم أني حلفت للعسرة والعجز، وأن الله يسر بالحمولة، فهو الّذي حملكم، ومع هذا فإني أحنث في يميني للمصلحة الراجحة، وأكفّر. هذا الكلام يتضمن (¬1) جوابين من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كلّ منهما مستقل، وأمّا الجواب بأحدهما كأنّه يقول: أنا ما حملتكم وإن كنت حملتكم أنا أكفِّر، وعلى الأوّل يقول: الحمل الّذي طلبتموه ما حصل مني بل من الله، والحمل الّذي حلفت عليه أكفّر عنه. الوجه الثّالث عشر: قوله: (فإن صح هذا الحديث (¬2) لا يكون كما قال، من جعل الصديق بتأويله مخطئًا من غير ضرورة، بل يكون الحديث حثًا على الاستغاثة به - صلى الله عليه وسلم -). فيقال: أنت الّذي جعلته مخطئًا، حيث قال: إنّه [يستغيث] (¬3) بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فنفى النّبيّ ما أثبته، وقال: ليس هذا استغاثة بي؛ بل بالله، بل قولكم يستلزم تخطئة الرسول حيث جعلتم (¬4) من طلب من مخلوق حاجة لم يطلبها منه، بل إنّما (¬5) يطلبها من الله، وهذا مكابرة للحس والشّرع والعقل، وعلى ما قاله يجوز أن يقال لمن سأل كافرًا حاجة واستغاث به ما سألته ولا استغثت به، ويكون من قال إنّه سأل كافرًا مخطئًا، وهذا كما أنّه تخطئة منهم للصدِّيق، ¬

_ = فقد ورد بالأرقام التالية: 3133، 4385، 4415، 5518، 6623، 6649، 6678، 6680، 6718، 7555، وأقرب لفظ إلى لفظ المؤلِّف هو ما أخرجه في (كتاب التّوحيد، باب قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)}) 5/ 2362 رقم 7555. وأخرجه مسلم أيضاً بألفاظ متقاربة في (كتاب الإيمان، باب ندب من حلف يمينًا، فرأى غيرها خير منها) 3/ 1268) رقم 1649. قال النووي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: قال الماوردي: معناه أن الله -تعالى- أتاني ما حملتكم عليه ولولا ذلك لم يكن عندي ما أحملكم عليه. شرح مسلم للنووي 11/ 121. (¬1) في جميع النسخ إما ويظهر أنّها زيادة، وليسر لها معنى. (¬2) الحديث وسيأتي تخريجه ص 199. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل: لا يستغيث. (¬4) في (ف) جعلت. (¬5) في (د) وإنَّما.

المطلوب من النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة يقدر عليه، وتارة لا يقدر عليه

فهي تخطئة لجميع عقلاء بني آدم من المسلمين والكفار، وأيضًا فإنّه لا يلزم على ما ذكر المجيب تخطئة أبي بكر الصديق، فإن الصديق قد يعتقد عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في دفع ذلك المنافق بعض الأمور الّتي يقدر عليها البشر فبيّن له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه ليس عندي في دفعه حيلة، بل يستغاث الله في أمره، ومن المعلوم أن المطلوب من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تارة يقدر عليه، وتارة لا يقدر عليه، وقد يظن السائل أنّه يقدر عليه، ولا يكون قادرًا، وكان نساؤه يسألنه النفقة أحيانًا وليس عنده ما ينفق عليهن (¬1). وسألته الإعراب حتّى اضطروه إلى سَمُرة (¬2) فخطفت رداءه فقال: "ردوا عليَّ ردائي، فوالذي نفسي بيده لو أن عندي عدد هذه العضاه نعمًا لقسمتها بينكم ثمّ لا تجدوني بخيلًا ولا جبانًا ولا كذابًا" (¬3). وحقيقة قوله: لا يستغاث بي، وإن كان مراده الاستغاثة الكلية (¬4)، كما يقال: لا يستغاث بي ولا يتوكل علي، ولا أُدعى ولا أُسأل ونحو ذلك، فمراده النّهي عن الطلب الّذي لا يفعله إِلَّا الله، كما نهى عن ¬

_ (¬1) يشير المؤلِّف إلى حديث جابر بن عبد الله وغيره قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد النَّاس جلوسًا لم يؤذن لأحدٍ منهم، قال: فأذن لأبي بكر، فدخل، ثمّ أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جالسًا حوله نساؤه، واجمًا ساكتًا، قال فقال: لأقولن شيئًا أُضحك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة! سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "هن حولي كما ترى يسألنني النفقة"، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، فقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا أبدًا ليس عنده. ثمّ اعتزلهن شهرًا أو تسعًا وعشرين يومًا. ثمّ نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ... الآية} و، أخرجه مسلم في (كتاب الطّلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إِلَّا بالنية) 2/ 1104 - 1105 رقم 1478. (¬2) سمرة: هي نوع من شجر الطلح، وجمعها سَمُرُ. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (2/ 399) باب السين مع الميم. (¬3) الحديث أخرجه البخاريّ في (كتاب الجهاد والسير، باب الشجاعة في الحرب والجبن) 2/ 873 رقم 2821 وطرفه 3148 وغيره بألفاظ قريبة من لفظ المؤلِّف. (¬4) الاستغاثة الكلية هي: سؤال المستغاث به على اعتقاد أنّه قادر بقدرة مؤثرة على جلب نفع له أو دفع مضرة عنه. انظر: التوضيح عن توحيد الخلاق، تأليف سليمان بن عبد الله ص 303.

السجود له (¬1)، وكما نهى أن يقال: ما شاء الله وشاء محمّد، وقال لمن قال: ما شاء الله وشاء محمّد، ما روي عن ابن عبّاس قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم-: "ما شاء الله وشئت"، فقال: "أجعلتني لله ندًّا؟ قل ما شاء الله وحده" (¬2)، رواه النسائي وابن ماجه، ورواه الإمام أحمد ولفظه: "أجعلتني لله عدلاً، بل ما شاء الله وحده" (¬3). ¬

_ (¬1) يشير المؤلِّف إلى حديث معاذ -رضي الله عنه-، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: لما قدم معاذ من الشّام سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما هذا يا معاذ؟ "، قال: أتيت الشّام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم. فرددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعلوا، فإني لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ... الحديث"، أخرجه ابن ماجه في (أبواب النِّكاح، باب حق الزوج على المرأة) 1/ 341 رقم 1858، وأبو داود في (كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة) 2/ 604 رقم 214، والحاكم في المستدرك 2/ 187 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وأخرجه غيرهم، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 309: رواه بتمامه البزار وأحمد باختصار ورجاله رجال الصحيح. أ. هـ. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 96 رقم 40 - 196 (شرح أحمد شاكر) واللفظ له، وابن ماجه في (أبواب الكفارات، باب النّهي أن يقال ما شاء الله وشئت) 1/ 392 رقم 2130 ولفظه: "إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثمّ شئت"، قال شهاب الدِّين البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه دراسة وتقديم كمال الحوت 1/ 363 الطبعة الأولى 1406 هـ الناشر دار الجنان: في إسناده الأجلح مختلف فيه ضعفه أحمد. وأبو حاتم وغيرهم، ووثقه ابن معين والعجلي وباقي رجال الإسناد ثقات. أ. هـ وقال العلّامة أحمد شاكر في شرح المسند للإمام أحمد 3/ 96 رقم 1964 الطبعة الرّابعة 1373 هـ، الناشر دار المعارف مصر: صحيح الإسناد. أ. هـ. وحسنه العلّامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 216 - 217 رقم 139 (الطبعة الرّابعة 1405 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان)، وقال جاسم الدوسري في النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد (الطبعة الأولى 1404 هـ، الناشر دار الخلفاء للكتاب الإسلامي الكويت) ص 47 رقم 82 إسناده محتمل التحسين. أ. هـ. وأخرجه غيرهم. (¬3) أخرجه الإمام أحمد 1/ 283، 347، 214، وقال الشّيخ أحمد شاكر: في شرح المسند 3/ 253 رقم 1839 "صحيح الإسناد وما وجدت هذا الحديث في غير هذا المسند"، وصححه شعيب وعبد القادر الأرنؤوط في حاشية زاد المعاد 2/ 353 (بتحقيقهما الطبعة الخامسة والعشرون 1412 هـ، الناشر مؤسسة ومكتبة المنار الكويت)، وحسنه العلّامة ناصر الدِّين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 216 رقم 139.

يلزم البكري أنه ينبغي سؤال الناس

الوجه الرّابع عشر: أنّه إذا كان هذا حثًا على الاستغاثة به، بناء على ما ذكرت من شهود (¬1) القيومية وتوحيد الربوبية، وهذا عام لكل المخلوقات، فينبغي أن يحث على سؤال المخلوقين والرغبة إليهم، لأنّ السائل لهم عنده لا يسألهم؛ إنّما يسأل الله، كما أن المستغيث بمخلوق لا يستغيث به؛ إنّما يستغيث بالله على زعمكم. وهذا كثيرًا ما يقع فيه هؤلاء الإسماعيلية الاتحادية (¬2)، وأعرف منهم شخصًا كان معظمًا؛ وكان له حاجة إلى نصراني، فذهب إليه وخضع له، وقبّل يده ورجله، وربما قبَّل نعله، حتّى قضى حاجته، ثمّ جعل يقول: ما رأيت إِلَّا الله، وما كان ذلك الخضوع والتقبيل إِلَّا لله. وهؤلاء يصرحون في كتبهم بأن عُبّاد العجل ما عبدوا إِلَّا الله، وعُبّاد الأصنام ما عبدوا إِلَّا الله، وعُبّاد المسيح ما عبدوا إِلَّا الله وعندهم من عبد كلّ معبود كان محققًا موحدًا، وإنّما المقصر [عندهم] (¬3) من عبد بعض [المظاهر] (¬4) دون بعض، كالنصارى وعُبّاد العجل واللات والعزى، وفي كلام ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله من هذا ألوان (¬5)، لكن هذا الرَّجل وأمثاله ¬

_ (¬1) في (ف): مشهد. (¬2) الإسماعيلية: فرقة باطنية، انتسبت إلى إسماعيل بن جعفر، ظاهرها التشيع لآل البيت، وحقيقتها هدم شرائع الإسلام، تشعبت فرقها، منهم القرامطة والعبيديين -المسمون الفاطميين-، والحشاشية، والنزارية، والبهرة، والآغاخانيّة، والواقفة، وبعض هذه الفرق تشعبت إلى فرق أخرى. ولا يصح انتساب أئمة الإسماعيلية لإسماعيل بن جعفر، فإنّه لم يعقب أحدًا، ومن أقوالهم: أن الرب -تعالى- يتحد مع الأئمة أو يحل بهم، لذا قال المؤلِّف: الإسماعيلية الاتحادية، واستحلوا الحرمات والمحارم، وقد أطال اليمني في عقائد الثلاث والسبعين في ذكرهم 2/ 489 وما بعدها. انظر: الفرق بين الفرق ص 281، والملل والنحل 1/ 191، ودراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين، تأليف د. أحمد جلي ص 265 وما بعدها، الطبعة الثّانية 1408 هـ، الناشر مركز الملك فيصل الرياض. (¬3) كذا في (د) وسقطت من الأصل و (ف) و (ح). (¬4) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) الظّاهر. (¬5) وإليك بعض الأمثلة: حط من شأن نبي الله نوح -عليه السلام- وصوب قومه في عدم =

لم يصلوا إلى الاتحاد بل وقفوا عند القدر وهو شهيد القيومية (¬1)، ولكن إذا جعلوا من استغاث بمخلوق فإنّما استغاث بالله لأجل توحيد الربوبية وشهود القيومية؛ لزمهم أن من سجد لمخلوق لم يسجد إلا لله، ومن عبد مخلوقًا إنّما (¬2) عبد الله، ومن سأل مخلوقًا إنّما سأل الله. فإن قالوا: الأعمال بالنيات، قيل لهم: والذين قالوا: نستغيث بالنبي لم يذكروا أنّهم قصدوا غيره، وأنتم جعلتم ذلك بمجرده استغاثة بالله لشهود (¬3) القيومية، فيلزمكم أن يكون [الله] (¬4) ورسوله أمر بسؤال المخلوق، والاستغاثة بالمخلوق، وعبادة المخلوق؛ بالسجود للمخلوق (¬5)؛ والخوف من المخلوق ¬

_ = إجابة دعوته. انظر: فصوص الحكم لمحيي الدِّين ابن عربي، تحقيق أبو العلّا عفيفي ص 70 فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية، طبعة دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. وصوب السامري وعباد العجل من اليهود وخطأ هاراون -عليه السلام- في إنكاره عليهم، انظر: ص 192، 194 فص حكمة إمامية في كلمة هارونية. ويقول أيضاً في الفصوص ص 226 فص حكمة فردية في كلمة محمدية: "إِلَّا أن صاحب المعبود الخاص جاهل بلا شك في ذلك لاعتراضه على غيره فيما اعتقد في الله، إذ لو عرف ما قال الجنيد لون الماء لون إنائه لسلّم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده، وعرف الله في كلّ صورة، وكل مُعتقد فهو ظان ليس بعالم ولذلك "أنا عند ظن عبدي بي" لا أظهر إِلَّا في صورة معتقده، فإن شاء أطلق وإن شاء قيد"، وتابعه في هذا الضلال الجيلي في الإنسان الكامل، وابن الفارض في تائيته. انظر: الصوارم الحداد القاطعة لعلّائق مقالات أرباب الاتحاد للشوكاني، تحقيق محمّد ربيع المدخلي ص 123 وما (بعدها الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار الحرير القاهرة - مصر)، وهذه هي الصوفية، تأليف عبد الرّحمن الوكيل ص 95 - 97 (الطبعة الرّابعة 1984 م، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان). (¬1) هذه شهادة من ابن تيمية للبكري، وتبرئة له من القول بالاتحاد، وهذا من عدله وصدقه -رحمه الله- مع ما في رد البكري من التكفير والتشنيع، ومع ما يلزم البكري من اللوازم الباطلة الّتي ذكرها المؤلِّف فيما بعد. علمًا أن البكري كفر ابن عربي في فتواه الّتي نقلها الفاسي. انظر: العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، جزء فيه عقيدة؛ ابن عربي وحياته للإمام تقي الدِّين الفاسي ص 34، 35. (¬2) في (ف): فإنّما. (¬3) (لشهود) سقطت من (د). (¬4) كذا في (ح) و (ط) وفي الأصل و (ف) و (د): أصل. (¬5) في (د): لمخلوق.

نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سؤال المخلوقين لغير ضرورة

لأجل القيومية، فيلزم أن يكون كلّ شرك حرمه الله ورسوله؛ قد أمر الله به ورسوله باعتبار القيومية، لأنّ كلّ ما عُبد من دون الله فالقيومية تتناوله، فإذا كان اعتبارًا مسّوغًا لأنّ يعامل المخلوق معاملة الخالق، لزم أن يعامل المخلوقات كلها معاملة الخالق، من دعاء وسؤال، و (¬1) يصلّي لها ويسجد لها ويعبد. الوجه الخامس عشر: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن سؤال المخلوقين لغير ضرورة، ومدح من لم يسأل النَّاس شيئًا، فقال: "من سأل، النَّاس شيئًا (¬2) وله ما يغنيه جاءت مسألته كدوشًا أو خدوشًا في وجهه يوم القيامة (¬3) " (¬4)، (وقال: "لا تزال المسألةُ بأحدكم (¬5) حتّى يأتي يوم القيامة) (¬6) ليس في وجهه مزعة ¬

_ (¬1) (الواو) سقطت من (د). (¬2) (شيئًا) سقطت من (د) و (ف) و (ح). (¬3) في (ف) زاد: "ليس في وجهه مزعة لحم". (¬4) أخرجه التّرمذيّ في (كتاب الزَّكاة، باب من تحل له الزَّكاة) 3/ 40 رقم 650 وحسنه، والنسائي في (كتاب الزَّكاة، باب حد الغنى) 5/ 97 رقم 2590 وأبو داود في (كتاب الزَّكاة، باب من يعطي من الصَّدقة وحد الغنى) 2/ 277 رقم 1626 وزاد: قال يحيى: فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: فقد حدثناه زبيد عن محمّد بن عبد الرّحمن بن يزيد، وابن ماجه في (أبواب الزَّكاة، باب من سأل عن ظهر غنى) 1/ 339 رقم 1845، وأحمد في المسند 1/ 388، 441 جميعهم بألفاظ قريبة من لفظ المؤلِّف. وضعفوا الحديث للعلة الّتي ذكرها يحيى بن آدم وهي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير، وحكيم ضعيف انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلّامة شمس الحق العظيم آبادي، مع شرح ابن قيم الجوزية، تحقيق عبد الرّحمن محمّد عثمان 5/ 29 - 30 (الطبعة الثّانية 1388 هـ، الناشر المكتبة السلفية المدينة) وفتح الباري 3/ 435. وقد صحح الحديث الشّيخ أحمد شاكر في شرح المسند 5/ 248 رقم 3675 من طريق زبيد اليامي، والعلّامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 818 رقم 499. وقال: (حكيم بن جبير، لكن متابعة زُبيد وهو ابن الحارث الكوفي تقوي الحديث فإنّه ثقة ثبت، وكذلك سائر الرواة ثقات، فالإسناد صحيح من طريق زبيد). (¬5) في (د): بأحدهم. (¬6) ما بين القوسين سقط من (ف) وفي (د) سقط قوله "يوم القيامة".

لحم" (¬1)، وقال: "لا تحل المسألة إِلَّا لذي غرم مفظع أو دم موجع أو فقر مدقع" (¬2)، وقال (¬3) أيضاً في حديث قبيصة بن مخارق: "إنَّ المسألة لا تحل إِلَّا لثلاثة (¬4): الغارم، والّذي أصابته جائحة اجتاحت ماله، والذي أصابته فاقة حتّى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلان فاقة" (¬5). وقال في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنَّة بغير حساب: "هم الذين لا يَسْتَرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" (¬6)، وحديثهم في الصحيحين فمَدَحهم على ترك الاسترقاء، وقد دوي في بعض ألفاظه لا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاريّ في (كتاب الزَّكاة، باب من سأل النَّاس تكثرًا) 1/ 440 رقم 1474، ومسلم في (كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة) 2/ 730 رقم 1040 وغيرهما بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف. (¬2) أخرجه أبو داود في (كتاب الزَّكاة، باب متجوز فيه المسألة) 2/ 292 - 294 رقم 1641 من حديث طويل، والترمذي في (كتاب الزَّكاة، باب من لا تحل له الصَّدقة) 2/ 15 رقم 2216، وقال التّرمذيّ في الجامع 3/ 522: هذا حديث حسن لا نعرفه إِلَّا من حديث الأخضر بن عجلان وعبد الله الحنفي الّذي روى عن أنس"، وأحمد في المسند 3/ 127 بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلِّف، والاختلاف في تقديم بعض ألفاظ الحديث وتأخرها عند المؤلِّف. (¬3) في (د): فقال. (¬4) في (ف): وذكر هؤلاء الثلاثة. (¬5) أخرجه مسلم في (كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة) 2/ 722 رقم 1044 ولفظه عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها، فقال: أقم حتّى تأتينا الصَّدقة فنأمر لك بها" قال: ثمّ قال: يا قبيصة إنَّ المسألة لا تحل إِلَّا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتىِ يصيبها ثمّ يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتّى يصيب قوامًا من عيش (أو قال سدادًا من عيش) ورجل أصابته فاقة حتّى يقوم ثلاثة من ذوى الحجا ... الحديث" وقد أخرجه غيره. (¬6) أخرجه البخاري ومسلم في (كتاب الطب، باب أكتوى أو كوى غيره) 4/ 1825 رقم 5705 وطرفه رقم 5752 ومسلم (كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنَّة بغير حساب ولا عذاب) 1/ 198 - 200 رقم 218 بألفاظ متقاربة وخالفهم المؤلِّف في تقديم لفظة "ولا يكتون"، وزاد مسلم في الرِّواية الثّانية عنده "لا يرقون". وقال ابن القيم في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، تحقيق علي الشربجي وقاسم نوري ص 176 - 177 (الطبعة الأولى 1412 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان): قال شيخنا -أي ابن تيمية-: وهو الصواب، وهذه اللفظة -أي لا يرقون- وقعت مقحمة في الحديث، وهو غلط من بعض الرواة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الوصف الّذي استحق به هؤلاء دخول الجنَّة بغير حساب، وهو تحقيق التّوحيد وتجريده، فلا يسألون غيره أن يرقيهم. أ. هـ وانظر: مجموع فتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية 1/ 182.

مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن لا يسأله

يرقون، ولم يذكره البخاريّ فإنّه لا يثبت وإن رواه مسلم، ومعلوم أن المسترقي يقول لغيره: ارقني، فيطلب من غيره الرقية، فإن (¬1) كان مشهد (¬2) القيومية معتبرًا في سؤال الخلق، وجب أن يكون المسترقي إنّما سأل الله، وكان يكون مأمورًا بالاستغاثة بالخلق باعتبار مشهد القيومية. وقد قال الله -تعالى-: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7، 8]، فإن كان مشهد القيومية معتبرًا في هذا الباب: كان كلّ من سأل مخلوقًا فإنّما رغب إلى الله فلا يُنهى عن ذلك، بل يؤمر بالرغبة إلى الخلق. والله -تعالى- قد وصف الفقراء الممدوحين بأنّهم لا يسألون النَّاس إلحافًا، وسواء كان المعنى أنّهم لا يسألون النَّاس؛ أو يسألون النَّاس ولا يلحفون، فإن كان مشهد القيومية معتبرًا هنا، وجب أن يؤمر بسؤال الخلق والإلحاح في مسألتهم، فإنهم إنّما يلحفون في مسألة الله -تعالى- والله يحب الملحفين في الدُّعاء وهذا باب واسع. الوجه السّادس عشر: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد مدح من لا يسأله، وفضله على من سأله، بل ذم كثيرًا ممّن [سأله] (¬3)، فقال: "من سألنا أعطيناه ومن لم يسألنا فهو أحب إلينا" (¬4)، وقال: "يسألني أحدهم المسألةُ ويخرج بها يتأبطها نارًا. ¬

_ (¬1) في (د) و (ح) (وإن). (¬2) في (د) مشهود. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل "لمسئله". (¬4) أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة والتعفف، تحقيق مجدي السَّيِّد إبراهيم ص 74 رقم 76 طبعة مكتبة القرآن - القاهرة، ولفظه "من يستعف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن سألنا شيئًا فوجدناه أعطيناه، وواسيناه، ومن استعف عنا استغنى فهو أحب إلينا ممّن سألنا"، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 807 رقم 11419 (ط. 1419 هـ، الناشر دار الأفكار، الرياض)، وابن أبي شيبة في المصنِّف 3/ 211، بلفظ قريب من لفظ ابن أبي الدنيا، دون قوله: "ومن استعف عنا استغنى فهو ... ". قال العراقي في تخريج الإحياء 13/ 98 رقم 3976: رواه ابن أبي الدنيا في القناعة والحارث بن أبي أسامة في مسنده وفيه حصين بن هلال ولم أر من تكلم فيه، وباقيهم ثقات. أ. هـ. قلت: في القناعة هلال بن حصن، قال أشرف عبد المقصود في حاشية تخريج الإحياء: في الإتحاف 9/ 305 حصين بن هلال. أ. هـ ولم أجده في زوائد مسند الحارث. وقال محمّد بن طاهر الهندي في تذكرة الموضوعات ص 61 (وبذيلها قانون الموضوعات والضعفاء طبعة 1399، الناشر دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان): =

قالوا: يا رسول الله فلم تعطهم؟ فقال: يأبون إِلَّا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل" (¬1) وقال: "والذي نفسي بيده ما من أحد يسألني شيئًا فتخرج له المسألةُ ما لم أكن أريد (¬2) أعطيه فيبارك له فيه" (¬3)، أو كما قال لحكيم بن حزام في الحديث الصحيح الذي أخرجاه في الصحيحين قال: سألت رسول الله فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني ثمّ قال: "يا حكيم ما أنكر (¬4) مسألتك إنَّ هذا المال خضرة حلوة، فمن أخفي بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع"، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتّى أفارق الدنيا. هذا لفظ رواية البخاري، وفي رواية: "ولا تكون يد أحد من العرب فوق يدي"، فكان أبو بكر وعمر يعطيانه حقه من بيت المال فلا يأخذه (¬5). ¬

_ = سنده جيد. أ. هـ، وقال الحداد في المستخرج تخريج أحاديث إحياء علوم الدِّين: وله شواهد. انظر: المستخرج تخريج أحاديث إحياء علوم الدِّين، تأليف أبي عبد الله محمود محمّد الحداد 5/ 2265 - 2266 رقم 3596 الطبعة الأولى 1408 هـ، الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 16 ولفظه: "إنَّ أحدهم ليسألني المسألة فأعطيها إياه فيخرج بها يتأبطها وما هي إِلَّا نارًا، قال عمر ... "، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 94: ورجال أحمد رجال الصحيح. أ. هـ. وابن حبّان في الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان، تأليف علاء الدين علي بن بلبان تحقيق شعيب الأرنؤوط في (كتاب الزَّكاة، باب المسألة والأخذ) 8/ 202 رقم 3414 (الطبعة الأولى 1412 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان)، قال شعيب الأرنؤوط في حاشية الإحسان: إسناده قوي. أ. هـ. (¬2) (أريد) سقطت من (د). (¬3) أخرجه مسلم في (كتاب الزَّكاة، باب النّهي عن المسألة) 2/ 718 رقم 1038 ولفظه: "لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا، فتخرج له مسألته مني شيئًا وأنا له كاره، فيبارك له فيما أعطيته". (¬4) في (ح) ما أكثر. (¬5) أخرجه البخاريّ في (كتاب الزَّكاة، باب الاستعفاف عن المسألة) 1/ 439 رقم 1472 وأطرافه رقم 2750، 3143، 6441 واللفظ للبخاري كما ذكر المؤلِّف، إِلَّا قوله (ما أنكر مسألتك) -لم ترد في الصحيحين-، وأخرج الحديث لهذه اللفظة ابن أبي الدنيا في القناعة ص 19 بلفظه، والإمام أحمد في المسند 3/ 403 ولفظه (ما أكثر مسألتك) كما ورد في نسخة (ح)، وأمّا الرِّواية فقال ابن حجر في فتح الباري 3/ 429: وفي رواية =

شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة

فإن كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على زعم هذا قد جعل من استغاث به فإنّما استغاث بالله، وقد حضه على ذلك، (فمن سأله فإنّما) (¬1) سأل الله، فليلزم أن يحض النَّاس على سؤاله، والأمر بالعكس، بل مدح من لم يسأله وذم كثيرًا ممّن سأله. وأمّا الوجه الثّالث: قوله: (إنّه يصح أن يراد أنّه لا يستغاث بي على وجه التأثير والاقتدار، وإنّما ذلك لله، وفائدة التنبيه على ذلك أن لا يتعلّق به [أحد] (¬2) في الانتصار به من جهة السببية الظاهرة، كما يتعلّق النَّاس بالأسباب على الغفلة، بل يكون تعلّقهم للنظر إلى جانب الربوبية فيه، ومكانته عند ربه، فيكون ذلك كما قال: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس ... الخبر (¬3) ". فالجواب عنه من وجوه: أحدها: أن هذا الّذي ذكره موافق (¬4) في المعنى لما ذكره المجيب، فإنّه لا ريب أنّه يجوز أن يُسأل النّبيّ أمورًا؛ ويستغات به في أشياء، بل يجوز هذا في غير حق النبي، وقد قال في أول الجواب: أجمع المسلمون على أن النبيَّ يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله النَّاس ذلك وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة (¬5). ¬

_ = لإسحاق ولفظه: "قلت فوالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب"، وأخرج الحديث مسلم في (كتاب الزَّكاة، باب بيان اليد العلّيا خير من اليد السفلى) 2/ 717 رقم 1035 وغيرهم. (¬1) ما بين القوسين في (د) كمن. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل "واحد" بزيادة واو. (¬3) هذا الخبر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- وسيأتي بتمامه ص 188. (¬4) في (د): موافقه. (¬5) الشفاعة: هي السؤال في التجاوز عن الذنوب من الّذي وقع الجناية في حقه. التعريفات الجرجاني ص 172. وهذا التعريف قريب من التعريف اللغوي وحقيقتها: أن الله سبحانه هو الّذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود. والشفاعة نوعان، شفاعة منفية في القرآن، وهي الشفاعة للكافر والمشرك، والنوع الثّاني: الشفاعة الّتي أثبتها القرآن الكريم، وهي خالصة لأهل الإيمان وقيّدها تعالى بأمرين: (الأوّل) إذنه للشافع أن يشفع، لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} =

استغاثة الصحابة وتوسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وحضوره فيما يقدر عليه

ثمّ أهل السُّنَّة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصّحابة واستفاضت به السنن من أنّه يشفع لأهل، الكبائر من أمته (¬1)، ويشفع أيضاً لعموم الخلق، وأجمعوا على أن الصحابة كانوا يستغيثون به ويتوسلون به في حياته بحضرته كما في حديث عمر: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك (¬2) بنبينا فتسقينا" (¬3)، والذي ¬

_ = [البقرة: 255] والثّاني: رضا الله عمن أذن للشافع أن يشفع فيه، كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]، انظر: معارج القبول بشرح سُلم الوصول إلى علم الأصول في التّوحيد، تأليف الشّيخ حافظ الحكمي، ضبط وتعليق عمر بن محمود 1/ 866 الطبعة الثّانية 1413 هـ، الناشر دار ابن القيم الدمام - السعودية. والشفاعة المثبتة أنواع: الأولى: وهي العظمى، الخاصة بنبينا محمّد - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وهي الّتي أشار إليها المؤلف بقوله: "يشفع للخلق يوم القيامة بعد أنَّ يسأله النَّاس ذلك" كما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كنا مع النّبيّ في دعوة فرفعت إليه الذراع -وكانت تعجبه- فنهس منها نهسة، وقال: "أنا سيد النَّاس يوم القيامة، هل تدرون بم؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس، فيقول بعض النَّاس: ألَّا ترون ما أنتم فيه، إلى ما بلغكم؟ ألَّا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم، فيقول بعض النَّاس: أبوكم آدم، فيأتونه ... حتى يأتون محمدًا ... فيأتوني فاسجد تحت العرش، فيقال: يا محمّد ارفع رأسك واشفع تشفع وسل تعطه"، أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 2/ 1026 - 1027 رقم 3340، وهذه الشفاعة في أن يفصل سبحانه بين النَّاس. والثّانية: الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنَّة بغير حساب، كما في حديث السبعين ألفًا وسبق تخريجه. والثالثة: شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنَّة. والرّابعة: الشفاعة في أقوام أمر بهم إلى النّار لا يدخلوها، وفي إخراجا الموحدين من النار. والخامسة: الشفاعة في رفع درجات من يدخل الجنَّة فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم، وهذا الذي وافقت عليه المعتزلة ونفت ما سواه. والسّادسة: شفاعته في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب. انظر: شرح الطحاوية ص 229 - 233، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/ 204 وما بعدها، وللتوسع. انظر: كتاب الشفاعة، تأليف عبد الرحمن بن مقبل بن هادي الوادعي ص 17 - 158، الطبعة الثّانية 1403 هـ، الناشر مكتبة دار الأرقم - الكويت. (¬1) يشير المؤلِّف - رحمه الله - إلي النوع الرّابع من الشفاعة -كما في الفقرة السابقة- وقد تواترت الأدلة الشرعية على ثبوته، منها ما أخرجه البخاري عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرج قوم من النّار بشفاعة محمّد - صلى الله عليه وسلم - يسمين الجهنميين" (كتاب الرقاق، باب صفة الجنَّة والنار) 4/ 2035 رقم 6566. (¬2) (إليك) سقطت من (د). (¬3) أخرجه البخاري في (كتاب الاستسقاء، باب سؤال النَّاس الإمام الاستسقاء إذا =

الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ليست من الأسباب المشروعة

ذكره عمر قد جاء مفسرًا في سائر أحاديث الاستسقاء، وهو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدُّعاء والشفاعة، ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته فينا، وأن يقدم بين أيدينا شافعًا وسائلًا بأبي هو وأمي، فقد بين أنّه يجوز سفاله والطلب منه وهو الاستغاثة. ومعلوم أن هذا من جملة الأسباب الّتي تفعل على جهة التسبب مع التوكل على الله -عز وجل-، لا يطلب من مخلوق شيء على جهة أنّه مستقل بالقدرة والتأثير، فإن الاستقلال (¬1) من خصائص الرب -تعالى-. وإذا كان هذا الوجه متفقًا عليه فَحَمْلُ الحديث عليه لا يضر، وحينئذٍ فالمطلوب منه إمّا أن يكون قادرًا عليه، واما أن لا يكون قادرًا، فإن كان قادرًا طُلب على هذا الوجه، وإن لم يكن قادرًا عليه طُلب من الله، ولا منافاة بين المعنيين، لكن ظاهر لفظ الحديث -إن صح (¬2) - يقتضي أنّه لم يكن قادرًا على دفع ضرر ذلك المنافق، وأنّه أمرهم أن يستغيثوا فيه بالله -تعالى-. الوجه الثاني: أن يقال: الأسباب المخلوقة والمشروعة لا تنكر، والأسباب المشروعة تفعل مع التوكل على الله، لكن لما قلتم: إنَّ الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إِلَّا الخالق هو من الأسباب المشروعة، والكلام إنّما هو في هذا، وهذا هو الّذي نهى عنه. فالجواب حيث قيل: فأمّا ما لا يقدر عليه إِلَّا الله فلا يجوز أن يطلب إِلَّا من الله، لا يطلب ذلك من الملائكة ولا من غيرهم، فلا يجوز أن يقال لغير الله: اغفر لنا، واسقنا الغيث، وانصرنا على القوم الكافرين، أو اهد قلوبنا ونحو ذلك، ثمّ ذكر الحديث المذكور فبين أن المنهي عنه أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إِلَّا الخالق، والطالب من النّبيّ قد يظن (¬3) أن يقدر على قضاء حاجته ولا يكون كذلك، كما كان يسأله الناس؛ إمّا نساؤه إما ¬

_ = قحطوا) 1/ 302 رقم 1010 وطرفه 3710 وسيأتي الحديث بتمامه ص 197. (¬1) في (د) الاشتغال. (¬2) الحديث ضعيف وسيأتي تخريجه والكلام عليه. وسبق الكلام عليه في التلخيص وسيكرر المؤلِّف نفس العبارة بعد صفحات ص 186، وانظر: تخريج الحديث في ص 199. (¬3) (يظن) سقطت من (د).

أمثلة المطالب ليست عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حياته

غيرهن ما ليس عنده، وكما كان يأتونه في غزوة تبوك (¬1) ليحملهم فلا يجد ما يحملهم عليه، قال تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} [التوبة: 92]، وكما سأله أبو موسى الأشعري وأصحابه الأشعريون (¬2) أن يحملهم فقال: "والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه"، وكان هؤلاء الأشعريون من خيار الصّحابة؛ ظنوه قادرًا على حاجتهم ولم يكن كذلك. وفي الصحيحين أن فاطمة ابنته جاءت تسأله خادمًا فأتاها بعد أن نامت هي وعلي -رضي الله عنهما- فعلَّمها أن تُسبح وتُحمد وتُكبّر، وقال: "ذلك خير لكِ من خادم"، ولم يعطها الخادم (¬3). وقد قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ ¬

_ (¬1) تبوك: بالفتح ثمّ الضم، وواو ساكنة وكاف. موضع بين وادي القرى والشام، وقيل: بركة لأبناء سعد من بني عذرة، وهو حصن به عين ونخل، غزاها النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في سنة تسع للهجرة وهي آخر غزواته - وهي الآن مدينة كبيرة في شمال المملكة العربيّة السعودية. انظر: معجم البلدان 2/ 17 رقم 2445. (¬2) الأشعريون: بطن من كهلان، من القحطانية، وهم بنو الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وهم قبيلة مشهورة في اليمن، منهم أبو موسى الأشعري. قدموا على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليهم. انظر: اللباب في تهذيب الأنساب، تأليف عز الدِّين ابن الأثير 1/ 50 طبعة 1357 هـ، الناشر مكتبة القدسي القاهرة - مصر، ومعجم قبائل العرب القديمة والحديثة، تأليف عمر رضا كحالة 1/ 30 الطبعة الثّانية 1398 هـ الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. (¬3) أخرجه البخاريّ في (كتاب النفقات، باب عمر المرأة في بيت زوجها) 4/ 1727 رقم 5361 ولفظه: حدّثنا علي "أن فاطمة -عليها السلام- أتت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى، وبلغها أنّه جاءه رقيق، فلم تصادفه، فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة، قال: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال عَلَى مكانكما"، فجاء فقعد بيني وبينها، حتّى وجدت برد قدميه على بطني، فقال: "ألَّا أدلكما على خير ممّا سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما، أو أويتما إلى فراشكما، فسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا أربعًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم" وطرفه رقم 5362، ومسلم في (كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم) 4/ 2091 - 2092 رقم 2727 ورقم 2728.

تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)} [الإسراء: 26 - 28]، فأمره (¬1) تعالى إذا لم يجد ما يعطي السائل أن يقول له قولًا ميسورًا، وفي صفته أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آتاه طالب حاجة لم يرده إِلَّا بها أو بميسور من القول (¬2)، وقد قال -تعالى-: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263]، وقال -تعالى-: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} [الضحى: 9، 10]. ولما قدم عليه وفد هوازن مسلمين سألوه أن يردّ عليهم السبي والمال، فقال: "أحب الحديث إليَّ أصدقه ومعي من ترون، فاختاروا إحدى الطائفتين: إمّا السبي وإما المال" (¬3)، فهو تارة يسأل ما يقدر عليه، وتارة ما لا يقدر عليه. فهذا الحديث -إنَّ كان صحيحًا- فقد سأله بعض أصحابه أن يدفع عنهم ضرر ذلك المنافق، فأخبرهم أنّه لا يقدر عليه بل يطلب ذلك من الله، كما أن عمر بن الخطّاب (¬4) كتب إليه أبو عبيدة بن الجراح عام اليرموك يستنصره على الكفار، ويخبره أنّه قد نزل بهم جموع لا طاقة لهم بها، فلما وصل كتابه بكى النَّاس، (وكان من أشدهم عبد الرّحمن بن عوف وأشار على عمر أن يخرج بالناس) (¬5)، فرأى عمر أن ذلك لا يمكن، وكتب إليه (¬6): "مهما ينزل بامرئ مسلم من شدة فينزلها بالله يجعل الله (¬7) له فرجًا ومخرجًا، فإذا ¬

_ (¬1) في (د): فأمر. (¬2) أخرجه البخاريّ في (كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل 41907 رقم 6034 عن ابن المنكدر قال: "سمعت جابرًا -رضي الله عنه- يقول: ما سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قط فقال: لا". (¬3) أخرجه البخاريّ في (كتاب فرض الخُمس، باب ومن الدّليل على أن الخُمس لنوائب المسلمين (2/ 964 برقم 3131 - 3132 من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة. وأوله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه يردّ إليهم أموالهم وسبيهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: أحب الحديث. الحديث" وطرفه رقم 4318، 4319. (¬4) في (د) و (ف) -رضي الله عنه-، بعد ذكر عمر وأبي عبيدة -رضي الله عنهما-. (¬5) ما بين القوسين سقط من (ف). (¬6) في هامش (د) وفي نسخه "إلى أبو عبيدة" هكذا. (¬7) لفظ الجلالة سقط من (ف).

فهم الصحابة - رضي الله عنهم - لحديث "لا يستغاث بي"

جاءك كتابي هذا فاستعن بالله وقاتلهم" (¬1)، فأخبره أنّه لا يمكنه أن يعاونه في هذه القضية، وأمره أن يستعين بالله، وإن كان يمكنه أن يعينه. الوجه الثّالث (¬2): أنّه لو أريد هذا المعنى لقيل ما يدلُّ على هذا المعنى مثل أن يقال: توكلوا عليّ وأنا أغيثكم (¬3)، ولم يقل إنّه لا يستغاث بي، وإنَّما يستغاث بالله، فإنّه قد نفى وأثبت بكلام مطلق، وليس في الباب ما يدلُّ على ما ذكر. ويظهر هذا بالوجه الرّابع: وهو أن أبا بكر وغيره من الصّحابة أعلم بالله من أن يظنوا أنّه يستقل بالإبداع والاختراع، فمن حمل الحديث على هذا فقد نسب الصديق إلى غاية الضلال، أين من ينزه الصديق من الخطأ وينسبه إلى هذا؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - نفى وأثبت؛ وإن كان ما نفاه لم يخطر بقلوبهم فأي حاجة إلى نفيه؟ وإن قيل: إنهم ظنوه فذلك بهتان عظيم، بخلاف ظنهم أنّه يقدر على دفع المكروه، فإن هذا الظن قد كان يقع منهم كثيرًا، أو قد يكون الأمر كما يظنه الظّان، فليس فيه قدح لا في الصّحابة ولا في الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف من يقول: لا تعتقدوا فيّ أني مثل الله؛ أقدر وأستقل بالتأثير كما يفعل الله، فإن هذا المعنى لا يظنه به من هو دون الصّحابة، فكيف يظنونه هم، ومن أراد أن يأمر غيره بالتوكل مع السبب المأمور به، لا ينهاه عن السبب، بل يقول له كما قال: "اعقلها وتوكل" (¬4)، وكَما قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح "احرص ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مالك في الموطَّأ في (كتاب الجهاد، باب الترغيب في الجهاد) 2/ 446 رقم 6 ولفظه: " ... ومخرجًا، وأنّه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله -تعالى- يقول في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200] "، وقد أعله ابن حجر في فتح الباري 8/ 923 بالانقطاع، وأنّه موقوف على عمر، وأخرج الإمام أحمد عن عياض الأشعري؛ قال: كتبنا إلى عمر أنّه جاش إلينا الموت واستمددناه، فكتب إلينا إنّه قد جائني كتابكم تستمدوني، وإني أدلكم على من هو أعز نصرًا وأحضر جندًا، فاستنصروه، فإن محمّد - صلى الله عليه وسلم - قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم، فإذا أتاكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني". الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد ترتيب أحمد عبد الرّحمن البنا 23/ 82 رقم 190 الطبعة الثّالثة 1404 هـ الناشر دار الشهاب القاهرة مصر، وقال البنا: صحيح الإسناد. أ. هـ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 213: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. أ. هـ. وله شواهد. (¬2) في (ف) (عشر) زيادة. (¬3) في (ف) أعينكم. (¬4) أخرجه التّرمذيّ في (كتاب صفة القبامة، باب 10) 4/ 668 رقم 2517 من =

رد احتجاج البكري بحديث "من نزلت به فاقة"

على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" (¬1) وكما قال -تعالى-: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، وكما كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول لمن يبعثه في السرايا: "ادعهم إلى الإسلام ثمّ الهجرة وإلا فالجزية، فإن أجابوك وإلا فاستعن بالله وقاتلهم" (¬2)، لا يقال في مثل هذه لا تقاتل ولا تحرص على ما ينفعك. الوجه الخامس: أن الحديث الّذي ذكره حجة عليه، وهو حديث ابن مسعود عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من [نزلت] (¬3) به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أو شك له بالغنى، إمّا بموت عاجل، أو غنى عاجل" (¬4) رواه أبو داود والترمذي وصححه. فإنزال الفاقة بالناس أن يشكو إليهم ويترك الشكوى إلى الله، فلو كانت ¬

_ = حديث أنس بن مالك ولفظه: "قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ ... "، قال أبو عيسى: "وهذا حديث غريب من حديث أنس لا نعرفه إِلَّا من هذا الوجه. وقد روى عن عمرو بن أمية عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا"، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 303: رواه الطبراني عن عمرو بن أمية من طرق رجال أحدها رجال الصحيح غير يعقوب بن عبد الله بن عمرو بن أمية وهو ثقة. أ. هـ. ولم أجده في معاجم الطبراني الثّلاثة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته 1/ 242 رقم 1068. (¬1) أخرجه مسلم في (كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله) 4/ 2052 رقم 2664 من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وأوله: "المؤمّن القوي خير وأحب إلى الله ... " الحديث. (¬2) هذا الخبر ذكره المصنِّف مختصرًا، وقد أخرجه مسلم في (كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو) 3/ 1357 رقم 1731، ولفظه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثمّ قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُف عنهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام (سقطت "ثم" من روايات الحديث عند غير مسلم) ... الحديث" وأخرجه غيره. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (نزل). (¬4) أخرجه التّرمذيّ في (كتاب الزهد، باب ما جاء في الهم في الدنيا وحبها) 4/ 563 رقم 2326 ولفظه: " .... ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل"، وقال حديث حسن صحيح غريب، وأبو داود في (كتاب الزَّكاة، باب الاستعفاف) 2/ 296 رقم 1645 ولفظه: "من أصابته ... "، وأحمد في المسند 1/ 407، 442، والحاكم في المستدرك 1/ 408 في كتاب الزَّكاة وقال: صحيح الإسناد، وتابعه الذهبي، ورواه غيرهم.

الاستغاثة بالمخلوق جائزة لجاز إنزالها بالناس، وقد قال يعقوب -عليه السلام-: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7، 8]، وقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله (¬1)، وإذا استعنت فاستعن بالله" (¬2)، ورأى الفضيل بن عياض (¬3) رجلًا يشكو إلى رجل فقال: يا هذا أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك، وقال بعضهم: ذكر الله الصبر الجميل والهجر الجميل (والصفح (¬4) الجميل، فالصبر الجميل الّذي ليس فيه شكوى إلى المخلوق) (¬5)، والهجر الجميل الّذي ليس فيه أذى، والصفح الجميل الذي ليس فيه عتاب. وأما قوله: (المراد بالخبر التنبيه على (¬6) الرجوع إلى الله -تعالى- بالقلب لا ترك السبب، بل [أن] (¬7) يذكر الله في ذلك السبب). فيقال: الأسباب نوعان: سبب مأمور به، فهذا طاعة وعبادة لله، كطلب ¬

_ (¬1) لفظ الجلالة سقطت من (ف). (¬2) أخرجه الترمذي في (كتاب صفة القيامة، باب 59) 4/ 667 رقم 2516 واللفظ له وقال: حديث حسن صحيح، وأوله عن ابن عبّاس قال: كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: "يا غلام إنِّي أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله ... الحديث". وتكلم على الحديث وشرحه ابن رجب فقال في جامع العلوم والحكم 1/ 462: ذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة، وبعضها أصلح من بعض، وبكل حال، فطريق حنش الّتي خرجها التّرمذيّ حسنة جيدة. أ. هـ. وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 293 وغيرهم. (¬3) أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي الخراساني. كان يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، فتاب، وجاور البيت الحرام. كان فاضلًا عابدًا ورعًا، وكان ثقة صدوقًا، قال الذهبي في السير 8/ 439: قال الأصمعي: نظر الفضيل إلى رجل يشكو إلى رجل فقال أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك. مات سنة 187 هـ. انظر: السير 8/ 421 ترجمة رقم 114، والأعلام 5/ 153. (¬4) في (د) الصفح الجميل والهجر. (¬5) ما بين القوسين سقط من (ف). وشرح المصنِّف الصبر الجميل والهجر الجميل والصفح الجميل في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 10/ 666. (¬6) (على) سقطت من (د). (¬7) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل، وسيذكر المؤلِّف النص مرة أخرى ويثبتها. انظر: ص 194.

الخلاف بين العلماء في سؤال الناس عند الضرورة

الرزق؛ بالصناعة والتجارة، وكدفع العدو بالقتال، والأكل عند الجوع، واللباس عند البرد، فهذا ليس فيه إنزال الفاقة بهم ولا شكوى إليهم، وأمّا نفس سؤال النَّاس؛ فسؤالهم في الأصل محرم بالنصوص المحرمة له، وإنّما يباح عند الضّرورة (¬1). وتنازع العلماء هل يجب سؤالهم عند الضّرورة؟ فالمنصوص عن أحمد أنّه لا يجب سؤال الخلق (¬2)، مع إيجابه مع غيره من الأئمة الأربعة وغيرهم الأكل من الميِّتة عند الضّرورة (¬3)، فإن الله لم يوجب سؤال الخلق، بل قد وصى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - طائفة من أصحابه أن لا يسألوا النَّاس شيئًا، فكان (¬4) أحدهم إذا سقط سوطه لا يقول لأحد ناولني إياه، منهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: شرح مسلم للنووي 7/ 133 فقد نقل اتفاق العلماء على منع السؤال. وانظر: فتح الباري لابن حجر 3/ 428. (¬2) حكى الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سُئِلَ عن المسألة ... قيل لأبي عبيد الله: فإن اضطر إلى المسألة؟ قال: هي مباحة إذا اضطر، قيل له: فإن تعفف؟ قال: ذلك خير له، ثمّ قال: ما أظن أحدًا يموت من الجوع! الله يأتيه بالرزق. انظر: الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي 3/ 344. ونص العلّامة منصور البهوتي في كشاف القناع عن متن الإقناع 6/ 196 (راجعه هلال مصيلحي هلال، طبعة 1402 هـ، الناشر دار الفكر بيروت - لبنان) على أنّه يجب تقدّم السؤال على أكل الحرام. (¬3) قال ابن قدامة: وجوب الأكل من الميِّتة هو قول مسروق وظاهر كلام الأئمة الأربعة وغيرهم، وخالف بعضهم فقالوا الأكل من الميِّتة رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص، وقال النووي: والأصح وجوب الأكل. انظر: المغني وبهامشه الشرح 11/ 74، وروضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي، إشراف زهير الشاويش الطبعة الثّانية 1405 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت 3/ 282، وحاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع جمع عبد الرّحمن بن قاسم النجدي 7/ 432 الطبعة الثّانية 1403 هـ. (¬4) في (د) (وكان). (¬5) يشير المؤلِّف -رحمه الله- إلى حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: "ألَّا تبايعون رسول الله؟ "، وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثمّ قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ "، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثمّ قال: "ألا تبايعون رسول الله؟ "، قال: فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا (وأسر كلمة خفية) ولا تسألوا النَّاس شيئًا"، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدًا يناوله إياه. أخرجه مسلم في (كتاب الزَّكاة، باب كراهية سؤال النَّاس) 2/ 721 =

وصاحب الفاقة إذا (¬1) سأل الله -تعالى- (¬2) [أنزلها بالغني العليّ العلّيم القدير] (¬3). وقيل: يجب السؤال (¬4)، وهذا منقول عن الثّوري (¬5) وهو اختيار أبي الفرج ابن الجوزي (¬6)، وعلى هذا قال قائل: يسأل النَّاس ما يجب عليهم أن يعطوه إياه؛ إمّا من الزَّكاة وإما من غيرها، فإن إطعام الجائع فرض على الكفاية من النَّاس كما ثبت في، الصحيح عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: عودوا المريض وأطعموا البائع وفكوا العاني" (¬7)، وقد جاء في الحديث: "لو صدق السائل ما أفلح من رده" (¬8). ¬

_ = رقم 1043. وعن ابن أبي مليكة قال: ربما سقط الخطام من يد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فيضرب بذراع ناقته فينيخها فيأخذه، قال فقالوا له: لو أمرتنا نناولكه، فقال: إنَّ حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن لا أسأل النَّاس شيئًا"، أخرجه الإمام أحمد. انظر: الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد 23/ 66 رقم 148، وقال أحمد البنا: ابن أبي مليكة تابعي ثقة لم يدرك أبا بكر فإسناده ضعيف للانقطاع. أ. هـ. وهو كذلك. إِلَّا أن له شواهد صحيحة. (¬1) في الأصل و (ف) (سأل) زيادة. (¬2) في (د) و (ف) (إذا أنزلها بالله -تعالى-). (¬3) ما بين المعقوفتين، من (د) و (ت) وسقط من الأصل و (ف) و (ح). (¬4) وزاد بعض أهل العلم قولهم، يجب حال الاضطرار في العري والجوع. انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 5/ 49. (¬5) هو أبو عبد الله، سفيان بن سعيد بن مسروق الثّوريّ الكوفي شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، أمير المؤمنين في الحديث، له من الكتب "الجامع الكبير" و"الجامع الصغير" كلاهما من الحديث. توفي سنة 161 هـ. انظر: السير 7/ 229 ترجمة رقم 82 والأعلام 3/ 104. (¬6) هو جمال الدين، أبو الفرج عبد الرّحمن بن علي بن محمد القرشي البغدادي، الحنبلي رأسًا في التذكير والوعظ، وبحرًا في التفسير، صاحب التصانيف الكثيرة منها: "زاد "المسير" و"تذكرة الأريب" وغيرهما، نالته محنة في أواخر عمره، ووشوا به إلى الخليفة الناصر، توفي سنة 597 هـ، أنكر عليه بعض العلماء كلمات يخالف فيها السُّنَّة. انظر: السير 21/ 365 ترجمة رقم 192، والأعلام 3/ 316. (¬7) أخرجه البخاري في (كتاب الجهاد والسير، باب فكاك الأسير) 2/ 937 برقم 3046 وأطيافه بالأرقام 5174، 5373، 5649، 7173، وهذا اللّفظ أخرجه أبو يعلى في المسند 13/ 309 - 310 رقم 7325 من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- وأخرجه غيرهم. (¬8) أخرجه الطبراني، في المعجم الكبير 8/ 294 رقم 7967 ورقم 7968 ولفظه: "لو =

ونقل المروذي (¬1) عن أحمد أنّه إذا عَلم صدق السائل وجب أن يعطيه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج: 24، 25]، واذا كان يسألهم ما أوجب الله عليهم كان بمنزلة أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه الّذي جعل الله له في المال، وسؤال ذي السلطان جائز (¬2)، كمن سأل ¬

_ = أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردهم"، وأعله الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 102 بجعفر بن الزبير وقال: ضعيف أ. هـ. وذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص 82 تحقيق محمّد محيي الدين الأصفر (الطبعة الأولى 1409 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت، ودار الإشراق بيروت - لبنان): بلفظ المصنِّف وقال: ليس له أصل. أ. هـ. وذكر روايات الخبر ابن الجوزي في الموضوعات تحقيق عبد الرّحمن محمّد عثمان 2/ 155 الطبعة الأولى 1386 هـ المكتبة السلفية المدينة وبيّن ضعفها ونقل عن العقيلي قوله: لا يصح في هذا الباب عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شيء. أ. هـ. ويروى عن الإمام أحمد أنّه قال: أربعة أحاديث تدور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسواق ليس لها أصل، ذكر منها: "للسائل حق وإن جاء على فرس"، قال العراقي: لا يصح هذا الكلام عن الإمام أحمد فإنّه أخرج هذا الحديث في المسند ثمّ ذكر العراقي طرق الحديث وأعلها. انظرت التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، تأليف زين الدِّين العراقي، تحقيق عبد الرّحمن محمّد عثمان، الناشر المكتبة السلفية المدينة المنورة الطبعة الأولى 1389 هـ. (¬1) في (د) (المروزي) والصواب المروذي نسبة إلى مرو الروذ، والروذ بالذال المعجمة بالفارسية: النهر، من مدن خراسان. انظر: معجم البلدان 5/ 132 رقم (11167). وهو: أبو بكر أحمد بن محمّد بن الحجاج المروذي، صاحب الإمام أحمد، يقدمه أحمد على جميع أصحابه، ويأنس به، ويبعثه في الحاجة، قال له الإمام أحمد: كلّ ما قلت عني فهو على لساني وأنا قلته، نقل عن أحمد مسائل كثيرة، وهو الّذي أغمض الإمام أحمد، وكان فيمن غسله، روى جزءًا فيه كلام الإمام أحمد في علل الحديث ومعرفة الرجال، حققه صبحي البدري السامرائي، الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر مكتبة المعارف الرياض. توفي عام 275 هـ. انظر البداية والنهاية 11/ 58، والأعلام 1/ 205. (¬2) (جائز) سقطت من (ف): وقد اختلف العلماء في سؤال السلطان وقبول عطيته على ثلاثة أقوال: أولها: يحرم قبول عطية السلطان. الثّاني: يكره قبول عطية السلطان. الثّالث: الإباحة وهو الأصل، إذا كان ماله حلالًا، وتحرم إذا كان حرامًا، ومن شك فالاحتياط رده وهو الورع. وللتوسع. انظر: شرح مسلم 7/ 141، وفتح الباري 3/ 431.

المودع أن يردّ عليه وديعته، وأن يعطيه حقه من الميراث والمغنم ونحو ذلك. وعلى هذا فليس للسائل أن يسأل من لا فضل عنده، وليس له أن يتعدى في السؤال على الناس، وليس له أن يجزع ويعدل عن الصبر الجميل، وعليه أن يرغب إلي الله ويتوكل عليه بها وحينئذٍ فلا يكون قد أنزلها بالناس، مع أن القول الأوّل وهو عدم وجوب السؤال أظهر، فإن النصوص تقتضي أن ترك سؤال الخلق أفضل مطلقًا (¬1)، ولهذا قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في صفة السبعين ألفًا: "هم الذين لا يسترقون"، والمسترقي يطلب الدُّعاء (¬2) من الراقي، وقد قال - تعالى-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3]، فقد بين أنّه كافي من توكل عليه، وأنّه لا بد أن يرزق المتقي، من حيث لا يحتسب (¬3)، والميِّتة رزق ساقه الله إليه عند الضّرورة فليس له أن يمتنع من أكله فيعين على قتل نفسه، ولو أتاه مال من غير مسألة ولا إشراف نفس أخذه (¬4)، وهذا كله يدلُّ على أن سؤال الخلق والاستغاثنة بهم حرام في الأصل؛ لا يباح إِلَّا لضرورة، وهو في الأظهر أشد تحريمًا من الميِّتة. ¬

_ (¬1) هو الراجح، انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 344، وشرح مسلم 7/ 133، وفتح الباري 3/ 342. (¬2) في هامش (د): رقي. وفي (ط): الرقية. (¬3) في (ف) (قف على قوله لا بدّ أن يرزق المتقي من حيث لا يحتسب). أ. هـ، وهذه الجملة من باب التصديق بكلام الله -تعالى- والثقة بما عنده، وهي من جنس قوله في معركة شقحب لما حلف للأمراء والناس أنّهم منصورون في هذه الكرَّة، فيقول له الأمراء: قل إنَّ شاء الله، فيقول تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأول أشياء من كتاب الله، منها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)} [الحج: 60] انظر: البداية والنهاية 14/ 26. (¬4) يشير المؤلف إلى حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت عمر يقول، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيني العطاء، فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: "خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء، وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك"، أخرجه البخاري في (كتاب الزكاة، باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس) 1/ 440 رقم 1473.

السبب المشروع لا ينافي التوكل

فكيف يقال إنّه مأمور به فيما لا يقدر عليه الخلق؟ وهل قال أحد: إنَّ سؤال المخلوق والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله -تعالى- مأمور به أو مباح. ومن هنا يظهر الوجه السّادس: قوله (والمراد به التنبيه على الرجوع إلى الله -تعالى- بالقلب لا بترك السبب، بل أن يذكر الله في ذلك السبب). فيقال له: هذا إنّما يصح إذا كان السبب مشروعًا، فإن السبب المشروع لا ينافي التوكل، والكلام هنا في من يستغيث بالخلق فيما لا يقدر عليه إِلَّا الله، كما قيل في الجواب، فأمّا ما لا يقدر عليه إِلَّا الله فلا يجوز أن يطلب إِلَّا من الله، لا يطلب ذلك من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم. ومعلوم أن سؤال الخلق (¬1) مثل هذا باطل شرعًا وعقلًا، فمن الذي جعل هذا من الأسباب الشرعية؟ ومن قال إنَّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يكن عنده شيء يعطيه فينبغي للإنسان أن يسأله ويستغيث به؟ وإذا لم يمكنه دفع العدو ينبغي للإنسان أن يسأله ويستغيث به في ذلك؟ وقد تقدمت النصوص عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأنّه كان يمدح من لا يسأله مطلقًا، ويذمّ من يسأله ما لا يحب أن يعطيه، ويذمّ من يسأله ما لا يقدر عليه. فسؤاله والاستغاثة به (¬2) في ذلك أذى وعدوان عليه، يحرم فعله معه - صلى الله عليه وسلم -، أعظم ممّا يحرم أذى غيره والعدوان عليه، مع ما فيه من الشرك والجزع، وقد كان الصّحابة -رضوان الله عليهم- نُهوا أن يسألوه كما ثبت في الصحيح عن أنس -رضي الله عنه- قال: "نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يعجبنا أن يجيء الرَّجل من أهل البادية -العاقل- فيسأله ونحن نسمع" (¬3)، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، هذا وإن كان في سؤال العلم أحيانًا، فسؤال الدنيا أولى. وقد ذُم من كان يسأل الرسل الآيات، قال تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 108]، وقال تعالى: {يَسْأَلُكَ ¬

_ (¬1) في (د) (سؤال) زياده. (¬2) (به) سقطت من (د). (¬3) أخرجه مسلم في (كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام) 1/ 41 برقم 12 ولفظه: " ... رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء ... "، والنسائي في (كتاب الصِّيام، باب وجوب الصِّيام) 4/ 121 رقم 2089 وغيرهم.

فصل [2]

أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، ولو كان يجوز السؤال له (¬1) والاستغاثة به في كلّ ما يُسأل الله ويستغاث به فيه، -كما قال هؤلاء المفترون: إنّه تجوز الاستغاثة به وبغيره من الصالحين في كلّ ما يستغاث الله فيه-، لم يحرم من مسألته إِلَّا ما يحرم من مسألة الله، والعبد يجوز أن يسأل الله الرزق والعافية والنصر على الأعداء والهداية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز أن يسأله أحد كلّ ما (¬2) يقدر، فضلًا عن أن يسأله ما لا يقدر عليه؛ لما في ذلك من الأذى والعدوان عليه، وهو أحق بالتعزير والتوقير من غيره، فإذا كان يحرم أذى غيره بذلك؛ فأذاه أولى (¬3) بالتحريم، بل أذاه كفر، وأذى المؤمنين ذنب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 57، 58]. فصل قال: (وكثيرًا ما تنفى الأشياء في النصوص الشرعية إشارة إلى التّوحيد، ويثبتها الباري -سبحانه- في مواضع أخر اعتبارًا بالأسباب، وإثباتًا لبساط الحكمة، فيأتي هذا المبتدع (¬4) فيخلط في الحقائق ويلحد في الآيات، كما قال في الإغاثة والنصرة وغيرهم أنّها لا تصح في الخلق ولا يسألونها ولا تضاف إليهم، وأخطأ في ذلك، فإن هذه الحقائق تبتت للمخلوقات حقيقة لغوية بإجماع العلّماء ونصوص الكتاب والسُّنَّة اعتبارًا بالسبب والحكمة، وتنفى عن الخلق إشارة للتوحيد وانفراد الباري بخلقها، كما انفرد بخلق غيرها، كما قال سبحانه من بساط التّوحيد: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، وقال -عز وجل-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬5) [القصص: 56]، وقال: ¬

_ (¬1) (له) سقطت من (د). (¬2) في (ف) و (د) كما وفي (ط) ممّا. (¬3) (أولى) سقطت من (د). (¬4) في هامش الأصل: "يشير إلى شيخ الإسلام -رحمه الله- وهو المبتدع ... ثمّ ثلاث كلمات غير واضحة". (¬5) قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} سقط من (د).

بيان كذب البكري وظلمه وجهله

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، ثمّ قال لنبيه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] (¬1)، وفي الصحيح: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" (¬2)، وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وفي الصحيح: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (¬3) و"أعنّي على نفسك بكثرة (¬4) السجود" (¬5)، وجمع الوجهين في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. فيقال: في هذا الكلام من الكذب والافتراء الظلم والاعتداء والجهل والضلال ما يظهر عند التأمل، وجوابه من وجوه: الأوّل: أن لفظ المذكور جواب المسألة التي سألها، واعترض بعد جوابه، [وصورة السؤال: المسؤول من السادة العلماء أئمة الدِّين، أن يبينّوا ما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين. وصورة الجواب] (¬6): قد ثبت بالسُّنَّة المستفيضة [بل] (¬7) ¬

_ (¬1) في (ف) وقال في. (¬2) أخرجه البخاريّ في (كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا) 2/ 732 رقم 2443 بلفظه من حديث أنس بن مالك وطرفه رقم 6552. (¬3) أخرجه مسلم في (كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر) 4/ 2074 رقم 2699 من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وأوله: "من نفس عن مؤمن .... الحديث". (¬4) في (د) بكثر. (¬5) أخرجه مسلم في (كتاب الصّلاة، باب فضل السجود والحث عليه) 1/ 353 رقم 48 من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي وأوله: "كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: "سل"، فقلت: أسأَلُكَ مرافقتك في الجنَّة، قال: "أو غير ذلك؟ "، قلت: هو ذاك، قال ... الحديث". (¬6) بياض في الأصل و (د) و (ف) و (ح) و (ط). ما أثبت أعلاه من كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص 244، من كلام المؤلِّف عن هذه الرسالة ومن هنا تبدأ رسالة "الاستغاثة" لشيخ الإسلام ابن تيمية خرج أحاديثها محمود إمام منصور وسبق الإشارة إليها في الدراسة، وسيشير المؤلِّف بعد انتهائه من نقل أجزاء من الرسالة أنّه ذكر السؤال والجواب عليه كما في ص 204، ولم أُثبت السؤال من رسالة الاستغاثة لأنّه لا يستقيم معه الكلام، وقد قارنت الرسالة بهذا النص وتبين وجود سقط وتحريف بها. (¬7) كذا في (ف) وسقطت من الأصل و (د) و (ح). والسُّنَّة المستفيضة: هي السُّنَّة =

شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة وإذكار بعض الفرق لها

المتواترة واتفاق (¬1) الأُمَّة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - الشافِع المشفع، وأنّه يشفع في الخلائق يوم القيامة، وأن النَّاس يستشفعون به، ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم -عز وجل- وأنّه يشفع لهم، ثمّ اتفق أهل السُّنَّة والجماعة أنّه يشفع في أهل الكبائر وأنّه لا يخلد في النّار من أهل التّوحيد أحد. وأمّا الخوارج (¬2) والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين؛ إِلَّا ما يحكى عن طائفة قليلة منهم وهؤلاء مبتدعة ضلال وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل، ومن أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة عليه. وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمّه، وكذلك من أقر بشفاعته في الآخرَة؛ وأنكر ما كان الصّحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به؛ كما رواه البخاريّ في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعباس بن عبد المطلب (¬3) وقال: "اللَّهُمَّ إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا فيسقون" (¬4)، وفي سنن أبي داود ¬

_ = المشهورة عند المحدثين وجماعة من الفقهاء. وسميت بذلك لاشتهارها وتطلق على ما اشتهر على الألسنة، فتشمل ما له إسناد واحد فصاعدًا، بل ما لا يوجد له إسناد أصلًا. شرح نخبة الفكر لابن حجر العسقلاني، تعليق محمد الصباغ ص 14 (الطبعة الثّانية 1410 هـ، الناشر مكتبة الغزالي - دمشق). (¬1) في (د) باتِّفاق. (¬2) الخوارج: سموا بذلك لخروجهم على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بعد التحكيم، ويسمون الحرورية والنواصب والشراة، والوعيدية داخلة في الخوارج، ويجمع الخوارج القول بالتبري من عثمان وعلي -رضي الله عنهما-، ويكفرون أصحاب الكبائر، ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السُّنَّة حقًا واجبًا. ومن فرقهم: المحكمة الأولى، والأزارقة، والنجدات، والبيهسية، والعجاردة، والثعالبة، والصفرية، والإباضية. انظر: التنبيه والرد للملطي: 62، والمقالات 1/ 167 والملل والنحل 1/ 114 - 115 وما بعدها، والفرق بين الفرق ص 72 - 75، ودراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين تأليف د. أحمد جلي ص 90 - 91. (¬3) في (د) بالعباس -رضي الله عنه-. (¬4) أخرجه البخاريّ في (كتاب الاستسقاء، باب سؤال النَّاس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا) 2/ 302 رقم 1010، ولفظه: " ... استسقى ... قال: فيسقون" وطرفه رقم 3710.

توسل واستشفاع الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وحضوره فيما يقدر عليه

وغيره أن أعرابيًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، فسبَّح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى عُرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: "ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك" (¬1)، وذكر تمام الحديث. فأنكر قوله: "نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: "نستشفع بك على الله" بل أقره عليه فعُلم جوازه، فمن أنكر هذا فهو مخطئ ضال مبتدع؛ وفي كفره نزل وتفصيل. وأمّا من أقر بما ثبت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع من شفاغته والتوسل به ونحو ذلك، ولكن قال: إنّه لا يدعي إِلَّا الله وأن الأمور الّتي لا يقدر عليها ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في (كتاب السُّنَّة، باب في الجهمية والمعتزلة) 5/ 95 رقم 4726، والدارمي في الرَّدِّ على الجهمية تخريج وتعليق بدر البدر ص 41 رقم 71 (الطبعة الأولى 1405 هـ، الناشر الدَّار السلفية حولي الكويت)، والدارقطني في كتاب الصفات تدقيق وتعليق عبد الله الغنيمان ص 31 (الطبعة الأولى 1402 هـ، الناشر مكتبة الدَّار بالمدينة المنورة)، وابن خزيمة في التّوحيد وإثبات صفات الرب -عز وجل-، دراسة وتحقيق د. عبد العزيز الشهوان 1/ 239 (الطبعة الثالثة 1414 هـ، الناشر مكتبة الرشد الرياض). وقد استغرب الحديث ابن كثير في تفسيره 1/ 310، وضعفه الإمام المجدد محمّد بن عبد الوهّاب في بعض نسخ كتاب التّوحيد، وصنف ابن عساكر جزءًا ضعفه فيه. انظر: الدر النضيد في تخريج كتاب التّوحيد، تأليف صالح العصيمي ص 177 (الطبعة الأولى 1413 هـ الناشر دار ابن خزيمة الرياض)، وقال حمدي السلفي في حاشية المعجم الكبير للطبراني 2/ 133: لم يصح في أطيط العرش حديث. أ. هـ. وقال شعيب الأرنؤوط في حاشية شرح السُّنَّة 1/ 175: الحديث لا تقوم به حجة. أ. هـ. وضعفه الألباني في مختصر العلّو للذهبي ص 92 الطبعة الأولى 1491 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. وقال ابن تيمية في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 16/ 435 ولفظ "الأطيط" قد جاء في حديث جبير بن مطعم الّذي رواه أبو داود في السنن، وابن عساكر عمل فيه جزءًا، وجعل عمدة الطعن في ابن إسحاق، والحديث قد رواه علماء السُّنَّة كأحمد وأبي داود وغيرهما، وليس فيه إِلَّا ما له شاهد في رواية أخرى، ولفظ الأطيط قد جاء في غيره. أ. هـ. وأجاب ابن القيم عن علل الحديث على لسان المثبتين له وأطال في ذلك، انظر: عون المعبود 13/ 11 وما بعدها، وتبعه فريح البهلال في كتابه تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد ص 125 وما بعدها الطبعة الأولى 1415 هـ، الناشر دار الأثر الرياض. ممّا سبق يتبيّن أن الحديث، وقد يذكره أهل السُّنَّة في الكلام على إثبات العلّو مع الأدلة الكثيرة الّتي استدلوا بها، وشنع عليه المبتدعة لأجل إنكارهم للعلّو.

إِلَّا الله فلا تطلب إلا منه، مثل: غفران الذنوب؛ وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات ونحو ذلك، فهذا مصيب في ذلك، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضاً، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56] وكما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3]، وكما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، وقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. فالمعاني الثابتة بالكتاب والسُّنَّة يجب إثباتها، والمعاني المنفية بالكتاب والسُّنَّة يجب نفيها، والعبارة الداالة على المعاني نفيًا وإثباتًا، إنَّ وجدت في كلام (¬1) الله (¬2) ورسوله وجب إقرارها، كان وجدت في كلام أحد فظهر مراده من ذلك؛ رتب عليه حكمه؛ وإِلَّا رجع إليه فيه، وقد يكون في كلام الله ورسوله عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض النَّاس يفهم من تلك العبارة (¬3) غير مراد الله ورسوله، فهذا يُرد عليه فهمه، كما روى الطبراني في معجمه الكبير أنّه كان في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منافق [يؤذي] (¬4) المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إنّه لا يستغاث بي؛ إنما يستغاث بالله" (¬5)، فهذا إنّما أراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - المعنى ¬

_ (¬1) في (د) كتاب. (¬2) في (ط) زاد (وكلام). (¬3) (العبارة) سقطت من (ف). (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (يؤى). (¬5) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن عبادة بن الصامت -كما في مجمع الزوائد 10/ 159 - (ومسند عبادة من القسم المفقود من المعجم) وأحمد في المسند 1/ 317 ولفظه: " .... لا يقام لي ولكن يقام لله"، وابن سعد في الطبقات الكبرى 1/ 378 بلفظ الإمام أحمد. قال الهيثمي في مجمع الزوائد في إسناد الطبراني 10/ 159: رجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة وهو حسن الحديث. أ. هـ. وقال في إسناد الإمام أحمد 4/ 80: فيه راو لم يسم وابن لهيعة وهو حسن الحديث. أ. هـ. وقال ابن كثير في تفسيره 3/ 173: هذا الحديث غريب جدًا، أ. هـ وضعّف الحديث ربيع المدخلي في حاشية التوسل والوسيلة لابن تيمية ص 264. =

الثّاني، وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إِلَّا الله، وإلا فالصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يطلبون منه الدُّعاء ويستسقون به كما في صحيح البخاريّ عن ابن عمر قال: "ربما ذكرت قول الشاعر، [وأنا] (¬1) أنظر إلى وجه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يستسقي فما ينزل حتّى يجيش له الميزاب. وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ... ثِمَال اليتامى عصمة للأرامل وهو قول أبي طالب" (¬2)، ولهذا قال المصنفون في أسماء الله -تعالى-: يجب على كلّ مكلّف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إِلَّا الله، وإن كلّ غوث فمن عنده، وإن كان جعل ذلك على يد غيره؛ فالحقيقة له سبحانه (¬3)، ولغيره مجازًا، قالوا: ومن أسمائه المغيث والغياث، وجاء ذكر ¬

_ = وفي تلخيص الاستغاثة ص 153 - 154: هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه بل ذكر ضمن غيره ليتبيّن أن معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب والسُّنَّة، وهذا الخبر ممّا يصلح للاعتضاد به، وقد روى النَّاس هذا الحديث من أكثر من خمسمائة سنة إن كان ضعيفًا، وإلَّا فهو مروي من زمان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - .... أ. هـ. وفيما نقله الملخص عن ابن تيمية في التلخيص نظر، لأنّ ابن تيمية قال عن الحديث في ص 184: "إن صح" وأيضًا في ص 186 واستدل به في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة في ص 264 ولم يتكلم عليه. وقال في الفتاوى عن ابن لهيعة 18/ 26: "إنّه من أكابر علماء المسلمين وكان قاضيًا بمصر، كثير الحديث، لكن احترقت كتبه فصار يحدث من حفظه، فوقع في حديثه غلط كثير مع أن الغالب على حديثه الصِّحَّة. قال أحمد: اكتب حديث الرَّجل للاعتبار به مثل ابن لهيعة" وبهذا يتضح أن تضعيف الحديث في التلخيص غالبه زيادة من الملخص، وبناء على ما سبق يتضح أن الحديث ضعيف، ولكن كما قال الذهبي في السير 8/ 14 عن ابن لهيعة: "وبعضهم يبالغ في وهنه، ولا ينبغي إهداره، وتتجنب تلك المناكير، فإنّه عدل في نفسه. أ. هـ. (¬1) كذا في (ح) و (ط) وفي الأصل و (ف) و (د) إنّما. (¬2) أخرجه البخاريّ في (كتاب الاستسقاء، باب سؤال النَّاس الإمام إذا قحطوا) 1/ 302 رقم 1009 ولفظه: " ... كلّ ميزاب ... " وطرفه 1008، والبيت من قصيدة أبي طالب -عم النّبيِّ صلى الله عليه وسلم- قالها في استعطاف قريش ومدح النبي - صلى الله عليه وسلم - ومطلعها: ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كلّ العرى والوسائل انظر: سيرة ابن هشام 1/ 272 وثِمَال اليتامى: غياثهم، وفلان ثِمال بني فلان أي عمادهم وغياث لهم يقوم بأمرهم. لسان العرب 11/ 94 مادة ثمل. (¬3) في الأصل و (ف) (لذلك) وهي زيادة.

إطلاق اسم المغيث على الرب تعالى

المغيث في حديث أبي هريرة (¬1)، قالوا: وأجمعت الأمة على ذلك، وقال أبو عبد الله الحليمي (¬2): الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال غياث المستغيثين، ومعناه المدرك عبادة في الشدائد إذا دعوه، ومريحهم (¬3) ومخلصهم، وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا" (¬4) يقال: أغاثه إغاثة ¬

_ (¬1) يشير المؤلف إلي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ولفظه: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ... "، الذي ورد فيه سرد أسماء الله -عز وجل-. وقد أخرجته الترمذي في (كتاب الدعوات، باب 82) 5/ 530 - 532، وابن ماجه في (أبواب الدعاء، باب أسماء الله -عز وجل-) 2/ 348 رقم 3907، والحاكم في المستدرك 1/ 16، وابن حبان في الإحسان 3/ 881 رقم 808 وغيرهم. وقد ورد اسم "المغيث" المعجمة والمثلثة بدل "المقيت" بالقاف والمثناة عند ابن منده في التوحيد 2/ 206، والبيهقي في الأسماء والصفات 1/ 29، والمغيث لم يرد في القرآن الكريم أو السنة وكثير ممن ألف في أسمااء الله -تعالى- لم يذكره. مثل: تفسير أسماء الله لأبي إسحاق الزجاج، وشأن الدعاء لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، وصفات الله -عز وجل- تأليف علوي بن عبد الرحمن السقاف وغيرهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 6/ 379 - 380 - بعد أن ذكر رواية الترمذي وابن ماجه لهذا الحديث-: "وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين ليستا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كل منهما من كلام السلف، فالوليد ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين، كما جاء مفسراً في بعض طرق الحديث". أ. هـ، وقال ابن حجر في فتح الباري 11/ 257 - 260: "واختلف العلماء في سرد الأسماء هل هو مرفوع أو مدرج في الخبر من بعض الرواة، فمشى بعضهم على الأول واستدلوا به على جواز تسمية الله -تعالى- بما لم يرد في القرآن بصيغة الاسم، لأن كثيرًا من هذه الأسماء كذلك، وذهب الآخرون إلى أن التعيين مدرج لخلو أكثر الروايات عنه، ونُقل عن أكثر العلماء، والعلة في الحديث ليست تفرد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه". أ. هـ. (¬2) هو أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد البخاري الشافعي، من أهل الحديث، طويل الباع في الأدب والبيان، له كتاب "المنهاج في شعب الإيمان" مصنف نفيس، توفي سنة 403 هـ. انظر: السير 17/ 231 ترجمة رقم 138 وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير الدمشقي، تحقيق د. أحمد عمر هاشم ود. محمد زينهم 1/ 350، طبعة مكتبة الثقافة الدينية بورسعيد - مصر. (¬3) في رسالة الاستغاثة: ومجيبهم، وهي من إضافات الناشر. (¬4) أخرجه البخاري في (كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة) 1/ 303 رقم 1014، من حديث أنس بن مالك وأوله: "أن رجلًا دخل المسجد يوم جمعة ... " الحديث.

الاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يقدر عليه في حياته وحضوره لا ينكرها إلا ضال

وغياثًا وغوثًا، وهذا الاسم في هذا المعنى [المجيب] (¬1) والمستجيب، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]، إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر، قالوا: والفرق بين المستغيث والداعي، أن المستغيث ينادي بالغوث، والداعي ينادي بالمدعو، وقد تقدم حكاية هذا إلى آخره فليس هذا موضع استقصائه (¬2). وفيه: والاستغاثة بالرسول بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، كما أنه يستغاث بغيره بمعنى أن يطلب منه ما يليق به، ومن نازع في هذا المعنى فهو [إما] (¬3) كافر إن أنكر ما يكفر به؛ وإما مخطئ ضال، وأما بالمعنى الذي نفاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهي (¬4) أيضاً مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة [التي] (¬5) يكفر تاركها. ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي (¬6): استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي (¬7) -الشيخ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من رسالة الاستغاثة ص 51، وكتاب الدر النضيد للإمام الشوكاني، وقد نقل قطعة من هذا الكتاب، وفي جميع النسخ مجيب بدون (ال) التعريف ولا يستقيم المعنى، وفي (ط) (مجيب المجيب والمستجيب). انظر: الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد للإمام الشوكاني، تحقيق أبو عبد الله الحلبي ص 11 الطبعة الأولى 1414 هـ, الناشر دار ابن خزيمة الرياض. (¬2) هنا ترك المؤلف ثمانية عشر سطرًا من رسالة الاستغاثة له. (¬3) كذا في هامش (د) ورسالة الاستغاثة ص 17، وسسقطت من الأصل و (ف). (¬4) كذا في جميع النسخ و (ط)، والضمير يعود على الاستغاثة، وفي رسالة الاستغاثة ص 19، والدر النضيد للشوكاني ص 13 (فهو). (¬5) كذا في (ح) و (ط) وفي الأصل و (د) و (ف) الذي. (¬6) أبو يزيد، طيفور بن عيسى بن شروسان البسطامي، يحكى عنه الشطح في أشياء، منها ما لا يصح، أو يكون مقولًا عليه، وأشياء مشكلة لا مساغ لها، إذ ظاهرها إلحاد مثل سبحاني وما في الجبة إلا الله وغيرها. توفي سنة 261 هـ. انظر: السير 13/ 86 ترجمة رقم 49، والأعلام 3/ 235. (¬7) هو أبو عبد الله محمد سعيد القرشي له كتاب في شرح التوحيد نقل عنه أبو نعيم في حلية الأولياء بعض الأقوال. انظر: حلية الأولياء 10/ 377 ترجمة رقم 610، وذكره =

الاستغاثة والاستنصار منها ما لا يصلح إلا بالله، ومنها ما يصلح للمخلوق

المشهور بالديار المصرية وغيرها-: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون". وفي دعاء موسى -عليه السلام-: "اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله" (¬1)، ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق، صح إطلاق نفيها عما سوى الله -عز وجل-، ولهذا لا يُعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوّز مطلق الاستغاثة بغير الله، ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله. وكذلك [الاستعانة] (¬2) أيضاً منها ما لا يصلح إلا لله وهي المشار إليها بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فإنه لا يعين على ¬

_ = الكلاباذي بأبي عبد الله هيكل القرشي، وقال أحمد شمس الدين لم أجد له ترجمة: انظر: التعرف ص 28، وذكره صفي الدين الحسين الأنصاري في سير الأولياء في القرن السابع تحقيق مأمون محمود ياسين وعفت وصال ص 49 وما بعدها (الطبعة الأولى الناشر دار العالم بيروت - لبنان) ولم يذكر له نسبًا ولا مولدًا ولا تاريخ وفاة، وذكر ما يُقطع بكذبه فيه وظن أنه كرامة له، وكذلك الشعراني في الطبقات الكبرى مثل قولهم إنه كان أجذم أبرص أعمى وعند زواجه ببنت أحد أتباعه غير شكله إلى شاب جميل وسيم. وانظر: الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار لعبد الوهاب الشعراني 1/ 159 (الطبعة الأولى 1408 هـ, الناشر دار الجيل بيروت، وبالهامش الأنوار القدسية). (¬1) أخرجه البيهقي في الدعوات الكبير، تحقيق بدر البدر ص 171 رقم 233 من حديث ابن مسعود ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أعلمك الكلمات التي قالهن موسى -عليه السلام- حين انفلق البحر، قلت، بلى، قال: قل: " ... وبك المستغاث وأنت المستعان ... "، قال أبو بكر: تفرد به عبد الله بن نافع وليس بالقوي، وقال بدر البدر في حاشية الدعوات ص 171: إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن نافع. أ. هـ. والطبراني في المعجم الصغير 1/ 122 وقال: لم يروه عن الأعمش إلا وكيع، ولا عن وكيع إلا زكريا بن فروخ، تفرد به جعفر بن النضر، قال الهيثمي في المجمع 10/ 183: "رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم"، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، ضبط وتعليق مصطفى عمارة 2/ 618 (طبعة 1401 هـ الناشر دار الفكر بيروت - لبنان): "ورواه الطبراني في الصغير بإسناد جيد". وقال ربيع المدخلي في حاشية التوسل والوسيلة ص 264: ولقد بحثت كثيرًا عن ترجمة جعفر بن النضر فلم أقف له على ترجمة مما يؤيد قول الهيثمي. أ. هـ. وأخرجه غيرهم. (¬2) كذا في (د) و (ت)، وفي الأصل و (ف) الاستغاثة وسقطت من (ح).

رمي البكري للمؤلف بالإلحاد

العبادة الإعانة المطلقة إلا الله، وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. وكذلك الاستنصار، قال (¬1) تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] والنصر المطلق؛ وهو خلق ما به يغلب العدو لا يقدر عليه إلا الله (¬2)، فهذه ألفاظ جواب السؤال الذي طلب جوابه؛ كما تقدم ذكر سؤاله (¬3) والجواب. وقد ذهب إليه الجواب ووقف عليه، وزعم أنه يرد عليه فافترى على المجيب بقوله: (إنه يخلط في الحقائق ويلحد في الآيات كما قال في الإغاثة والنصرة وغيرهما، أنها لا تصح من الخلق ولا يُسألونها؛ ولا تضاف إليهم، وأخطأ في ذلك فإن هذه الحقائق ثبتت للمخلوقات حقيقة لغوية بإجماع العلماء، ونصوص الكتاب والسنة، اعتبارًا بالسبب والحكمة، وتنفى عن الخلق إشارة إلى التوحيد، وانفراد الباري -عز وجل- بخلقها، كما انفرد بخلق غيرها، كما قال تعالى من بساط التوحيد: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]). فيقال (¬4): المجيب لم ينفها عن الخلق مطلقًا كما ذكرت، بل قال: وقد [يستعان] (¬5) بالمخلوق فيما يقدر عليه كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ¬

_ (¬1) في (د) وقال: بزيادة واو. (¬2) إلى هنا انتهى النقل من رسالة الاستغاثة للمؤلف، وقد ترك منها أسطرًا قليلة عن حكم من أخطأ على علم أو اجتهد فأخطأ. (¬3) يشير المؤلف -رحمه الله- إلى الإجابة المتقدمة، وأما السؤال فلم أجده في جميع النسخ الموجودة لدي وفي بداية الجواب المسمى -رسالة الاستغاثة- بياض في جميع النسخ، وقد أوردت السؤال كما ذكره المؤلف في كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 159. (¬4) هذا هو الوجه الأول، لأن المؤلف سيذكر الوجه الثاني فيما بعد. (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (يستغاث)، والسياق عن الاستعانة.

تنزيه كلام الله تعالى عن التناقض

وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وكذلك الاستنصار قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، فقد ذكر هاتين الآيتين قبلك وفرق بين (¬1) [ما يضاف إلى المخلوق وما يضاف إلى الخالق؛ من النصر والإعانة كما فرق بين] (¬2)، هذا وهذا في الإغاثة، فنقلك عنه النفي العام كذب بيّن، ولكن هو فصّل فجعل ما يخص به الله الذي لا يضاف إلى غيره وهو المطلق، وإنما يضاف إلى المخلوق ما يليق به، وأنت تريد أن تجعل المخلوق عدل الخالق، يضاف إليه جميع ما يضاف إلى الرب -عز وجل- مضاهاة للحلولية والنصارى والمشركين، الذين أنت وأمثالك من طلائع جيوشهم، وأبواب مدائنهم، وهم دعاة إلى مذهبهم في الحقيقة، وإن كانوا لا يعلمون لوازم قولهم، وهذا بيّن يكشف ضلال هؤلاء. ونقول في الوجه الثاني: قوله: (وكثيرًا ما تنفي الأشياء في النصوص الشرعية إشارة إلى التوحيد، [و] (¬3) يثبتها الباري -سبحانه- في مواضع أخر اعتبارًا بالأسباب وإثباتًا لبساط الحكمة). هو كلام باطل فإن الله -سبحانه- لا ينفي شيئًا ويثبته، إذ الجمع بين نفيه وإثباته تناقض، وكلام الله منزه عن التناقض، قال الله -تعالى-: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، ولكن المنفي غير المثبت، فالذي ينفيه في موضع ليس هو الذي يثبته في موضع آخر، ولكن هؤلاء الضلال يجعلون المنفي عين المثبت، فيكون ما يضاف إلى الرب بطريق التوحيد؛ يضاف إلى غيره بطريق السبب والحكمة، ولهذا قالوا: إن كل ما يطلب من الله؛ يُطلب من غيره (بهذا الطريق) (¬4). فأشركوا في ربوبية الله، وفي دعاء الله وعبادته، حيث جعلوا ما يضاف ¬

_ (¬1) (بين) سقطت من (د). (¬2) ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل. (¬3) كذا في (د) و (ف) و (ح)، وسقطت الواو من الأصل. (¬4) ما بين القوسين في (ف) (بطريق) وبعدها بياض بمقدار كلمة، وفي (د) بياض بمقدار كلمة، وفي (ح) بياض بمقدار كلمتين، وليس في الكلام سقط.

إلى المخلوق يضاف إليه تعالى، فصار حقيقة قولهم أن المخلوق تضاف إليه مفعولات الله كلها، ويطلب منه مقدورات الرب كلها؛ لما في الخلق من السبب والحكمة، ولم يعلم هؤلاء الجهال أن السبب لا يستقل بالتأثير، بل تأثيره متوقف على سبب آخر وله موانع؛ وحينئذٍ فلا يجوز تخصيصه بالإضافة إليه، وإن كان سببًا، وأيضًا فالأسباب التي نعرفها مضبوطة، وأكثر ما فعله الله ويفعله لا نعرف نحن أسبابه، وأيضًا أثبتوا أسبابًا في خلقه وأمره ونهيه ما أنزل الله بها من سلطان، بل إثباتها مخالف للشرع والعقل، فضلوا في إثبات أسباب لا حقيقة لها، وفي [الإضافة] (¬1) إليها، وفي تعليق الحوادث كلها [بسبب] (¬2) واحد (¬3). ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) في الأصل إضافة. (¬2) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) سبب. (¬3) اختلف المسلمون في هذه المسألة علي ثلاث مذاهب: الأول: الفلاسفة والمعتزلة اعتمدوا على الأسباب. الثاني: الجهمية ومن تابعهم من الأشاعرة والماتريدية والذين أنكروا الأسباب والحكمة العلل والغايات. وعلى هذا زعم بعضهم: أن أحدهم إذا طلب شيئًا من نبي أو ولي فالله هو المعطي لمن سأل عند الطلب، ومن أسند التأثير لغير الله فقد أشرك. وانطلاقًا من هذا زعموا أن النار ليست سببًا في الإحراق، والأكل ليس سببًا في الشبع وغير ذلك. الثالث: مذهب السلف فقالوا: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. والله -سبحانه- ربط الأسباب بمسبباتها شرعًا وقدرًا، والشرع كله أسباب ومسببات، وهو سبحانه الذي جعل هذا سببًا لهذا، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فلا بد من تمام الشروط، وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 614، وتهافت الفلاسفة للغزالي تحقيق د. سليمان دنيا ص 239 - 251 (الطبعة السادسة الناشر دار المعارف القاهرة - مصر)، والحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة إملاء قوام السنة الأصبهاني، تحقيق محمد ربيع المدخلي 2/ 52 - 55 الطبعة الأولى 1411 هـ, الناشر دار الراية - الرياض، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/ 70، 175، 466، وشرح الطحاوية ص 460، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/ 628.

بعض مقولات الغلاة في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي شيوخهم

وقد حدثني بعض الثقات عن هذا الشخص (¬1) أنه كان يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم مفاتيح الغيب التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2): "خمس لا يعلمها إلا الله: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت" (¬3)، وأظنه ذكر عنه أنه قال: "علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله". وآخر من جنسه يباشر التدريس ويُنسب إليه الفتيا كان يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما يعلمه الله (¬4)، ويقدر علي ما يقدر عليه الله، وأن السر انتقل بعده إلى ¬

_ (¬1) أي البكري. (¬2) في هامش (د) في نسخه "تكذيبًا لقوله ولقول غيره وردًا عليهم". (¬3) أخرجه البخاري في (كتاب الاستسقاء، باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله) 1/ 310 رقم 1039، ومسلم في (كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان) 1/ 39 رقم 9 واللفظ له. وهو قطعة من حديث جبريل عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وأوله: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بارزًا يومًا للناس ... " الحديث. (¬4) يدّعِي زنادقة الصوفية هذه الدعوى ليس حبًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو تعظيمًا له كما يدعون، بل ليثبتوا بها أمرًا آخر خاصًّا بهم، يقول الشعراني: اعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُعطي القرآن مجملًا قبل جبريل من غير تفصيل الآيات والسور، فقيل له: لا تعجل بالقرآن الذي عندك قبل جبريل فنلقيه على الأمة مجملًا فلا يفهمه أحد عنك لعدم تفصيله {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي بتفصيل ما أجمل من المعاني في التوحيد والأحكام ... ويقول: ما بقي للأولياء إلا وحي الإلهام على لسان ملك مغيب لا يشاهد فيعلمهم بصحة حديث قيل بتضعيفه أو عكسه من طريق الإلهام من غير شهود للملك إذ لا يجمع بين شهود الملك والجاحدين. أ. هـ. الكبريت الأحمر بهامش اليواقيت والجواهر لعبد الوهاب الشعراني ص 6 طبعة 1378 هـ, الناشر شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي. وقال: وقد أخبرنا - صلى الله عليه وسلم - بأنه أوتي علم الأولين والآخرين، ونحن الآخرين بلا شك، وقد عمم محمد - صلى الله عليه وسلم - الحكم في العلم الذي أوتيه فيشمل كل علم منقول ومعقول ومفهوم وموهوب. أ. هـ. اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر لعبد الوهاب الشعراني 2/ 39 طبعة 1378 هـ, الناشر شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البايي الحلبي وبهامشه الكبريت الأحمر. قلت: كذب الشعراني لم يخبر - صلى الله عليه وسلم - بشيء من ذلك، هذا كلام الصوفية من كتبهم التي ذكر مؤلفها أنها في عقائدهم.

الحسن ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي (¬1) وقالوا هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع (¬2). وكان شيخ آخر معظّم عند أتباعه يدّعي هذه المنزلة؛ ويقول: إنه المهدي الذي بشّر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه يزوج عيسى بابنته، وأن نواصي الملوك والأولياء بيده، يولي من يشاء ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائمًا، وأنه هو الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر، وقد عزرته تعزيرًا بليغًا في يوم مشهود بحضرة من أهل المسجد الجامع يوم الجمعة بالقاهرة، فعرفه الناس وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة. ¬

_ (¬1) هو أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي المغربي، نسبه أتباعه ومريدوه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كعادة أهل كل طريقة صوفية، ينسبون إمامهم إلى آل البيت ولو كان من غير العرب أصلًا، ادعى لنفسه مرتبة القطب الغوث الجامع ووصفه بها أتباعه. انظر: الطبقات الكبرى وبهامشها الأنوار القدسية كلاهما للشعراني 2/ 4 وما بعدها الطبعة الأولى 1343 هـ, والأعلام 4/ 305، ودراسات في التصوف، تأليف إحسان إلهي ظهير ص 235 وما بعدها. ونقل عن أبي الحسن الشاذلي دعوى هذا العلم المزعوم تلميذه المرسي قال: وكان يقول -أي أبو الحسن-: والله ما كان اثنان من أصحاب هذا العلم في زمن واحد قط إلا واحدًا بعد واحد إلى الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وكان يقول: لا أعلم أحدًا اليوم يتكلم في هذا العلم غيري على وجه الأرض. أ. هـ. الطبقات الكبرى للشعراني 2/ 13. (¬2) القطب الغوث الفرد الجامع: القطب عرفه الصوفية: بأنه عبارة عن رجل واحد هو موضع نظر الله -تعالى- من العلم في كل زمان، يسمى غوثًا أيضاً باعتبار التجاء الملهوف إليه، وهو خلق على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ويسمى بقطب الأقطاب، وقطب العالم، والقطب الأكبر، وقطب الإرشاد، وقطب المدار. انظر: معجم مصطلحات الصوفية، تأليف د. عبد المنعم الحفني ص 217 حرف القاف. وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 27/ 96 عن (القطب الغوث الفرد الجامع): فهذا يقوله طوائف من الناس، ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام مثل تفسير بعضهم أن "الغوث" هو الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، وهذا من جنس قول النصارى في المسيح -عليه السلام- والغالية في علي وهذا كفر صريح، يستتاب منه صاحبه فإن تاب وإلا قتل. أ. هـ. وقال عبد الرحمن الوكيل في "هذه هي الصوفية" ص 124: القطب وأعوانه أسطورة خرافية، تنزع إلى تجريد الله من الربوبية والإلهية، وخلعها على كل وهم باطل سمي في الفلسفة: "العقل الأول" وفي النصرانية "الكلمة" وفي الصوفية "القطب".

ومن هؤلاء من يقول في قوله تعالي: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)} (¬1) [الفتح: 8، 9]: إن الرسول هو الذي يُسبح بكرة وأصيلًا (¬2)، ومنهم من يقول: أسقط الربوبية وقل في الرسول ما شئت: دع ما ادعَتْهُ النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم فإن فضلَ رسول الله ليس له ... حدٌّ فيعربُ عنه ناطقٌ بفم (¬3) وانسبْ إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلي قدره ما شئت من عظم لو ناسبت قدره آياته عِظَمًا ... أحيا اسمُه حين يُدعي دارسَ الرمم (¬4) ¬

_ (¬1) في (د) يقول وهي زيادة. (¬2) ومرادهم يسبحون للرسول بكرة وأصيلًا، وقد أجمع أهل التأويل على بطلان ذلك. قال ابن جرير في تفسيره 11/ 338: وقوله: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} يقول: تصلوا لله بالغدوات والعشيات، والهاء في قوله: {وَتُسَبِّحُوهُ} من ذكر الله وحده دون الرسول، وقد ذُكر ذلك في بعض القراءات: "وتسبحوا الله بكرة وأصيلا"، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. (¬3) في (ف) بقم وهو خطأ. (¬4) هذه الأبيات من قصيدة البوصيري, المعروفة "بالبردة" والتي مطلعها: أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعًا جرى مع مقلة بدم وفيها تقدم البيت الثالث علي الثاني، انظر: ديوان البوصيري، تحقيق محمد سيد كيلاني ص 193 الطبعة الأولي 1374 هـ, الناشر مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغلو، فإن من جملة معجزاته - صلى الله عليه وسلم - القرآن العظيم، وهو كلام الله، فكيف يحل لمسلم أن يقول: إن القرآن لا يناسب قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو منحط عن قدره، وهو كلام الله -تعالى- صفة من صفات الرب تعالى!! ثم إن اسم الله الأعظم وسائر أسمائه الحسنى إذا ذكرها الذاكر لم تحي دارس الرمم، وقد ذهب المتعصبون للناظم في كل واد من أودية التأويل، وقد أنكر أهل العلم على الشاعر منذ عصره إلى اليوم. انظر: غاية الأماني في الرد على النبهاني 2/ 350، والتوضيح عن توحيد الخلاق ص 320، والعقيدة السلفية تأليف محمد عبد الرحمن المغراوي، القسم الخامس الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار المنار الرياض ص 139 وما بعدها. وقائل هذه القصيدة شاعر وليس من أهل الفقه أو العلم، وأيضًا فقد كان يمدح ذوي السلطان، فمدح المماليك مدحًا فيه غلو كبير, وهجا العرب هجاء مرًا. انظر: مقدمة ديوان البوصيري، تحقيق محمد سيد كيلاني ص 5 - 11.

النصر المنقى ليس هو النصر المثبت

ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله فيجعلون الرسول معبودًا. ومنهم من يأتي قبر الميت الرجل أو المرأة -الذي يحسن به الظن لنفسه- فيقول: اغفر لي وارحمني، ولا [توقعني] (¬1) على زلة، [ولا توقفني على خطيئة] (¬2)، ونحو هذا الكلام يرد إلى أمثال هذه الأمور التي تتخذ (المخلوق إلهًا) (¬3)، ولما استقر في نفوس عامتهم تجد أحدهم إذا سئل عمن (¬4) ينهاهم عن هذا: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان عنده ما ثَمَّ إلا الله لِمَا استقر في نفوسهم، (أنهم يجعلون معه آلهة أخرى) (¬5)، وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، (وآخر يقول هذا معظّمًا لمن ينهى عن هذه الأمور حيث إنه عنده ما ثم إلا الله) (¬6)، وآخر يقول معظّمًا لمن يدعو إلى التوحيد، قد جعل الآلهة إلهًا واحدًا. والمقصود هنا أن نبيّن خطأه فيما ذكر عن الله -تعالى- من أنه ينفي الأشياء إشارة إلى التوحيد، ويثبتها اعتبارًا بالأسباب، ونبين أنه سبحانه لا ينفي ما يثبته ولا يثبت ما نفاه. أما قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] فهذا النصر المنفي في هذه الآية عن غير الله لم يثبته الله لغيره قط، والذي ذكره في قوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] ليس هذا هو ذاك، يبيّن هذا أنه قال: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} (¬7) [آل عمران: 124 - 126]، وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ ¬

_ (¬1) كذا في (د) وفي الأصل و (ف) و (ح) توقفني، بالفاء. (¬2) ما بين المعقوفتين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح). (¬3) في (د) المخلوق فيها إلهًا. (¬4) في (ف) عن من. (¬5) ما بين القوسين سقط من (د). (¬6) ما بين القوسين سقط من (د). (¬7) الآية (125) من (ح) وسقطت من الأصل و (ف) وفي (د) {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} إلى أن قال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

أقوال الناس في الأعمال المتولدة

الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1) [الأنفال: 9، 10]، فهو سبحانه قد أمدهم بالملائكة، ومعلوم أن نصر الملائكة لهم أعظم من [النصر] (¬2) الذي أُمروا به في قوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، فإن هؤلاء غاية ما يفعلونه دون ما تفعله الملائكة، ثم بيّن أنه وإن نزلت الملائكة وقاتلت؛ فالنصر لا يحصل بمجرد هذا؛ إن لم يحدث الله ما به ينتصر المؤمنون؛ وذلك لأن المقاتل من الملائكة والبشر غاية قدرته نفسه، وأما ما يتولد عن ذلك فهو لا يستقل به. والناس متنازعون في هذا، فكثير من النظّار المثبتين للقدر يقولون: إن جميع المتولدات فعل الله، ليست فعلًا للعباد، مثل الشبع والري وانقطاع العضو، وخروج السهم من القوس (¬3). وأما القدرية فيقول أكثرهم: إنها مفعول [فاعل] (¬4) السبب، ويقسمون الأفعال إلى مباشر ومتولد؛ لكنهم مع هذا يعلمون أن الفعل لا يتم بمجرد قدرة العبد، بل بأمور خارجة عن قدرته (¬5). ¬

_ (¬1) الآية سقطت من (ف). (¬2) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) (نصر). (¬3) مذهب الأشاعرة ومن وافقهم في هذه القضية ينبني على مذهبهم في خلق أفعال العباد، فإذا كان عندهم أن فعل العبد فعل الله حقيقة وللعبد مجازًا، فمن باب أولى الفعل المتولد ولذلك جعلوا الفعل المتولد فعلًا لله -تعالى- وردوا علي المعتزلة. انظر: الإرشاد للجويني، ص 206، والمواقف في علم الكلام للإيجي ص 316 طبعة عالم الكتب بيروت - لبنان، وشرح المقاصد 4/ 271 - 273. (¬4) كذا في (د) وفي الأصل و (ف) و (ح) وفاعل بزيادة واو. (¬5) اختلف المعتزلة في المتولدات فمنهم من علقها بالطبع كالجاحظ (أي بطبع الإنسان)، ومنهم من قال إنها تحدث في الجمادات تحصل فيها بطبع المحل وذهب إليه النظام ومعمر (أي بإيجاب الخلقة)، وقال ثمامة: أفعال التولد لا محدث لها عدا الإرادة. وأكثر المعتزلة قسموا أفعال التولد إلى قسمين: القسم الأول: ما تولد من غير الحي كحرق النار واختلفوا فيه، فقال بعضهم: فعل الله، وقال آخرون: فعل الطبيعة، وقال فريق ثالث: أفعال لا فاعل لها. القسم الثاني: ما تولد من الحي فقالوا من فعل الإنسان. انظر: شرح الأصول =

النصر الذي لا يقدر عليه إلا الله

وقالت الطائفة الثالثة: إن هذه المتولدات حادثة بفعل العبد وبالأسباب الأخرى، فالعبد مشارك فيها؛ لم ينفوا أثره كما نفاه الأولون، ولا جعلوه فاعلًا كالآخرين، بل جعلوه مشاركًا فيها، وهذا أعدل الأقوال (¬1)، ولهذا فرَّق الله -تعالى- بين الأعمال المباشرة والمتولدة في قوله -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} الآية، ثم قال: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 121]، فلما كان الإنفاق والسير عملًا مباشرًا قال فيه: {كُتِبَ لَهُم}، وتلك الأمور من النصب والجوع وغيظ الكفار والنيل من العدو [ليس] (¬2) مباشرًا، بل هو مما يسمى متولدًا، فلهذا قال فيه: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} لأنهم مشاركون في حصول هذه الآثار، وحصول هذه الآثار لا بد فيه من الأسباب التي يخلقها الله، ومن دفع الموانع، فلا تجوز أن تجعل مفعولة لسبب معين، بل هي مفعولة لله -تعالى-، وانتصار المؤمنين على الكفار هو أعظم من النيل الذي ينال من العدو، فإذا لم يكن هذا مفعولًا لمخلوق فكيف يكون النصر؟. وهب أن الملائكة نزلت بقذف الرعب في قلوب الكفار كما قال -تعالى-: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]، وأيضًا فهب أن الملائكة حضروا فمن الذي يخلق القدرة فيهم وفي المؤمنين، والقدرة التي بها يكون الفعل أكثر؛ لا [تكون] (¬3) إلا مع الفعل، وهب أن القدرة حصلت فمن يخلق الأسباب الخارجة؛ كقبول الجلود للجرح، وحصول الزهوق بعد الجرح والهزيمة المستمرة إذ يمكن أن الكفار يفرون ويكرون، ويمكن أنهم ¬

_ = الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 387 - 390 والملل والنحل 1/ 71، والمعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها، تأليف عواد المعتق ص 184، وما بعدها النشرة الأولى 1409 هـ الناشر دار العاصمة الرياض. (¬1) انظر: الفصل لابن حزم 3/ 136. (¬2) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) وليس بزيادة (واو). (¬3) كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) يكون.

المؤثر التام وعلاقته بالأثر

يقاتلون حتى يقتلوا؛ فلا يقتل منهم واحد حتى يقتل غيره. فالنصر الذي قال الله -تعالى- فيه {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، لا يقدر عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يقدر عليه إلا الله، ليس في الموجودات سبب يحصل به هذا النصر ولا موجب له إلا مشيئة الله، فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، فإن كل ما يكون لسبب فلا بد من حصول سبب آخر، ومن رفع موانع ثم خلق الأسباب. ورفع الموانع لا بد أن يُحدِثَ هو سبحانه ذلك الأثر بفعل منه، على أصح قوليّ الجمهور الذين يقولون: إن الخلق غير المخلوق، فإن هؤلاء لهم قولان: [هل] (¬1) يخلق بفعل واحد قديم يوجد جميع الموجودات؟ أم هو يوجد به المفعولات بأفعال متعاقبة، كما قال -تعالى-: {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] على قولين، ومن قال بالثاني قال: إن المؤثر التام يستلزم الأثر التام، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح فإن الفاعل إذا كان قبل حدوث المفعول وحين حدوثه على حال واحدة؛ كان تخصيص أحد الحالين بحدوث المفعول ترجيحًا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح، وهذا ممتنع في صريح العقل (¬2). فالأثر لا يوجد إلا إذا حصل مؤثره التام، فإنه بدون تمامه لا يكون مؤثرًا، فلا يحصل الأثر، وإذا تم وجب حصول الأثر، إذ لو لم يجب لأمكن وجوده؛ وأمكن عدمه، فكان (¬3) يتوقف على حدوث شيء آخر فلا يكون المؤثر تامًا، وهؤلاء يقولون: [إن] (¬4) القدرة مع الفعل، [وكذلك الإرادة، وسائر ما يتوقف عليه الفعل] (¬5) , وإن كان بعض ذلك قد يتقدم عليه ويبقى إلى ¬

_ (¬1) كذا في (د) وسقطت من الأصل، و (ف) و (ح). (¬2) قول أهل الكلام في العلة التامة (المؤثر التام) بأنه يجب أن يتراخى عنها معلولها، وقول الفلاسفة أن العلة التامة يجب أن يقارنها معلولها، وكلاهما غير صحيح، والصواب مذهب أهل السنة وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر فيكون عقبه، لا مقارنًا له، ولا متراخيًا عنه، كما يقال: كسرت الإناء فانكسر، وكما قال تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] فإذا كان كون شيئًا كان عقب تكوين الرب له، لا يكون مع تكوينه ولا متراخيا عنه. أ. هـ. من كتاب موقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/ 996. (¬3) كذا في جميع النسخ والصواب (فإن كان). (¬4) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف). (¬5) ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل.

الهداية المثبتة ليست هي الهداية المنفية

حين حصوله، لكن لا بد من وجوده معه؛ وهذا الفعل [الذي هو] (¬1) تكوين الرب، خارج عن جميع الأسباب المخلوقة. وأما قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، مع قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فقد اتفق المسلمون على أن تلك الهداية المنفية ليست هي الهداية المثبتة له، لا نزل في هذا بين أهل السنة والقدرية. وأما الهداية الثابتة (¬2) فهي الدعوة والبيان، وهذا (¬3) يشترك فيه من يحبه ومن لا يحبه، فإن عليه البلاغ المبين، وقد بلّغ - صلى الله عليه وسلم - البلاغ المبين، وقال في آخر عمره في حجة الوداع: "اللهم هل بلغت"؟ قالوا: نعم، قال: "اللهم اشهد" (¬4)، ونظير هذا قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17]، وقوله: {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6]، وقال تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، والهداية (¬5) هي الدلالة والإرشاد، بكلامه وبعلمه وأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه، وأما حصول الهدى في القلب فهذا لا يقدر عليه [إلا الله]، (¬6) باتفاق المسلمين سنيّهم وقدريّهم (¬7). أما أهل السنة فيقولون: إن الاهتداء الذي في القلب لا يقدر عليه إلا الله، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح). (¬2) في (ط) (المثبتة). (¬3) كذا الأصل و (ف) (ح) وفي (د) وهذه. (¬4) أخرجه البخاري في (كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى) 1/ 513 رقم 1739 وطرفه 7078، ومسلم في (كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال) 3/ 1305 رقم 1679، وأبو داود في (كتاب الخراج الإمارة، باب في كراهية الاقتراض في آخر الزمان) 3/ 362 - 363 رقم 2958 واللفظ له من حديث ذو الزوائد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوله: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ... " الحديث. (¬5) في (ف) فالهداية، وفي (د) و (ح) فإن الهداية. (¬6) كذا في (ف) وفي (د) أحد، وتأخر في الأصل عن هذا الموضع إلى نهاية الجملة، وسقط من (ح). (¬7) في الأصل (إلا الله) وفي هامش (د) وأصل (ط): (لأن أحدًا لا يستطيع أن يهدي القلوب، ويخلق الهدى فيها غير الله).

العلم الحاصل في القلب وعلاقته بالاستدلال والنظر

ولكن العبد يقدر علي أسبابه وهو المطلوب منه بقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]، وهو المنفي [عن] (¬1) الرسول بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]. وأما القدرية فيقولون: إن ذلك مقدور للعبد (¬2). ولهذا تنازعوا في العلم الحاصل في القلب عقب الاستدلال، فقالت القدرية: هو فعل العبد، وقالت المثبتة: هو مفعول الله كسب للعبد (¬3). وتنازعوا في النظر هل هو متضمن له مستلزم له أو مقترن اقترانًا عاديًا؟ على قولين مشهورين، والتحقيق أنه من جملة الأمور التي تسمى المتولدات كالشبع والري والرؤية في العين والسمع في الأذن، فهي حاصلة بفعل العبد المقدور له (¬4)، وبأسباب خارجة عن قدرته، ولهذا يثاب عليه لما له في حصوله من التسبب والاكتساب. ¬

_ (¬1) كذا في (ح) و (ط) وفي الأصل و (ف) و (د) من. (¬2) الهداية عند أهل السنة أربعة أقسام: الأول: الهداية إلى مصالح الدنيا، وهذا مشترك بين الحيوان والإنسان والمؤمن والكافر. الثاني: الهدى بمعني دعاء الخلق إلى الدين الحق. الثالث: هدى التوفيق والإلهام، الذي هو جعل الهدى في القلوب، وهذا القسم أخص من القسم السابق, وهذا القسم ضل فيه المعتزلة من القدرية وكذلك الجبرية، فقد فسر القدرية هذا القسم بالقسم الثاني هدى البيان العام والتمكن من الطاعة والاقتدار عليها. وقابلهم الجبرية ببدعة أخرى فأنكروا فعل العبد، وقدرته، والأسباب، وهدى الله أهل السنة للحق فأثبتوا كلا القسمين، وهذا القسم يستلزم أمرين: أحدهما فعل الرب -تعالى- وهو الهدى، والثاني فعل العبد وهو الاهتداء، وهو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي. والرابع: الهدى في الآخرة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} [يونس: 9]، وغيرها من الآيات، وهذا لهدى ثواب الاهتداء في الدنيا، كما أن خلال الآخرة جزاء ضلال الدنيا. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (18/ 171)، وشفاء العليل لابن القيم (1/ 181) وما بعدها، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 1/ 334، والإرشاد للجويني ص 233. (¬3) في جميع النسخ (ونظيره) ويظهر أنها زيادة، ولا يستقيم المعنى بها. (¬4) (له) سقطت من (د).

بيان الفرق بين المثبت والمنفي في بعض النصوص

وكذلك قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فإن هذه الاستعانة (¬1) التي يختص بها الله- تبارك وتعالى- لم يثبتها لغيره أبدًا، كما أن العبادة له لم يثبتها لغيره أبدًا، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ليس ذلك التعاون هو هذه الإعانة المطلوبة من الله، فإن إعانة الله لعبده على عبادته تكون بأمور لا يقدر عليها غيره، مثل جعل العلم والهدى في القلب، وجعل الإرادة والطلب في القلب، وخلق القوى الباطنة والظاهرة (¬2)، موضع (¬3) بناء الأسباب المنفصلة التي [بها] (¬4) تحصل العبادة. ومعونة الإنسان لغيره إنما هي بفعله القائم في محل قدرته، وهي شيء لا يخرج [عنه، وما خرج] (¬5) عن محل قدرته فقد تقدم الكلام فيه، وغايته أن يكون له فيه شرك. والمقصود أن ما أمر الخلق به وجعله فعلًا هو الذي نفاه عن غيره، وبيّن أنه يختص به. وأما قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]، فقد تقدم الكلام عليها، وبينّا غلط من ظن أن الرمي المنفي عن الرسول هو [عين] (¬6) المثبت له، وبينّا أن المنفي هو وصول الرمي إلى الكفار وتأثيره فيهم، والمثبت الحذف الذي يقدر (¬7) عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك [ظالمًا أو مظلومًا] (¬8) "، هو من جنس قوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وأما قوله تعالى: ¬

_ (¬1) في (ف) الاستغاثة، وفي هامش (د) في نسخة الاستغاثة. (¬2) في (ف) الظاهرة الباطنة. (¬3) في (د) موضع، ومصححه في الهامش (خلق). (¬4) كذا في (د) وسقطت من الأصل و (ف)، وفي (ح) (لا). (¬5) ما بين المعقوفتين من (د)، وسقط من الأصل و (ف) و (ح). (¬6) ما بين المعقوفتين من (د) و (ح)، وسقط من الأصل و (ف). (¬7) (يقدر) سقطت من (د)، وفي (ح) و (ط) فعله. (¬8) ما بين المعقوفتين من (د) و (ح)، وسقط من الأصل و (ف).

رد احتجاج البكري باللغة

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] فالمستعان به فعل يفعله العبد، والمعنى اصبروا وصلّوا فإن ذلك يعينكم على المطلوب. والأعمال الصالحة بينها تصادق وتلازم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا (¬1)، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا" (¬2)، أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، وهداية الصدق مثل إعانة الصبر والصلاة، وليس ذلك هو [ما] (¬3) أثبته الله لنفسه ونفاه عن غيره، -سبحانه وتعالى- أن يكون تأثيره مثل تأثير الأعراض. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -" [و] (¬4) الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، هو من جنس قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، فقد تبيّن أن جميع ما ذكره من النصوص ليس فيه أن ما نفاه عن غيره أثبته لغيره في موضع آخر، بل الذي أثبته لغيره غير الذي نفاه عن غيره. الوجه الثالث: قوله: (إن هذه الحقائق تثبت للمخلوقين حقيقة لغوية بإجماع العلماء) غايته أن قول العرب مات زيد وتحركت الشجرة وهبت الرياح ونحو ذلك، يسمى في لغتهم حقيقة، وهذا لا ينفعه لأن المضاف إلى المخلوق ليس هو الذي نفاه الرب عن غيره، فإنه يقال: أماته الله، والإماتة التي اختص الله بها لا تثبت لغيره، وإن قيل: إن فلانًا أماته، فالمراد أنه فعل فعلًا خلق الله الموت فيه مع أسباب أُخر هو من جملتها، وهو المضاف إلى ¬

_ (¬1) في (د) (وكذلك الأعمال السيئة بينها تصادق وتلازم، كما قال في نفس الحديث). (¬2) أخرجه البخاري في (كتاب الأدب، باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} 4/ 1923 رقم 6094، ومسلم في (كتاب البر والصلة، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله) 4/ 2013 رقم 2607 واللفظ له. (¬3) (ما) من (د) و (ح) وسقطت من الأصل وفي (ف) الذي. (¬4) كذا في (د) و (ح) وسقطت الواو من الأصل و (ف).

نفي الجهم للأسباب والحكمة ومتابعة الأشاعرة له

العبد، وليس هو الذي نفاه الرب عن غيره، فما يضاف إلى السبب لم ينفه الله عن غيره، وما نفاه لا يضاف إلى السبب، وأيضًا فهب أن هذه حقيقة لغوية أي قاعدة في هذا، والكلام (¬1) هنا في الحقائق العقلية والأحكام الشرعية، لا في استعمال الألفاظ، وليس كل من أضيف إليه الفعل لغة يترتب على ذلك الأحكام الشرعية التي للفاعلين (¬2). الوجه الرابع: قوله: (اعتبارًا بالأسباب وإثباتًا لبساط الحكمة)، ماذا تعني به؟ فإن الناس يتنازعون في ذلك فمنهم يقول ليس في الوجود سبب له تأثير وحكمة يُفعل لأجلها، بل (¬3) محض مشيئة الرب قرنت بين الشيئين قرانًا عاديًا، فإن تقدم سمي سببًا، وإن تأخر سمي حكمة، من غير أن يكون للمتقدم تأثير في اقتضاء الفعل، ولا للفعل تأثير في اقتضاء الحكمة، وليس عند هؤلاء في القرآن لام تعليل في فعل الله، هذا قول الجهم (¬4) بن صفوان ¬

_ (¬1) في (د) الكلام بدون واو. (¬2) يقسم الأصوليون الحقيقة إلى ثلاثة أقسام: الأول حقيقة لغوية وهي: اللفظ المستعمل فيما وضع له لغة. والثاني حقيقة عرفية، وهي: اللفظ الذي وضع لغة لمعنى ولكن استعمله أهل العرف في غير هذا المعنى وشاع حتى صار لا يفهم منه إلا هذا المعنى. وبعضهم جعل الحقيقة العرفية قسمين: عرفية عامة وعرفية خاصة، والثالث حقيقة شرعية هي: ألفاظ استعملها الشارع في معانٍ لم تضعها العرب لها، إما لمناسبة بينها وبين المعاني اللغوية وإما لغير مناسبة. واختلف العلماء هل الأصل الحقيقة الشرعية أم الحقيقة اللغوية على ثلاثة مذاهب. انظر: أصول الفقه، تأليف د. محمود أبو النور زهير 2/ 52 - 59 طبعة 1412 هـ الناشر المكتبة الأزهرية للتراث - القاهرة. ولما كان الكلام هنا في المعاني الشرعية وجب حمل الألفاظ على الحقيقة الشرعية وليس على الحقيقة اللغوية، قال موفق الدين ابن قدامة: "وإطلاق الألفاظ في لسان الشرع، وكلام الفقهاء، يجب حمله على الحقيقة الشرعية، دون اللغة ولا يكون مجملًا، لأن عادة الشارع استعمال هذه الأسامي على عرف الشارع لبيان الأحكام الشرعية". أ. هـ. روضة الناظر وجُنَّة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد، تأليف موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق عبد الكريم النملة 2/ 552 الطبعة الأولى 1413 هـ. (¬3) في (د) بلا. (¬4) في (د) جهم.

نزاع الناس في الأسباب والحكمة

وكثير من النظار المنتسبين إلى القدر كالأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد (¬1)، ولا يقولون: إن هذا الشخص ينسب إليهم، فعلى قولهم: لا سيب ولا حكمة (¬2). ومن الناس من أثبت حكمة منفصلة عن الرب يفعل لأجلها، وهو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية، ثم القدرية من هؤلاء يثبتون التأثير لأفعال الحيوان، ولا يثبتون تأثيرًا لغير ذلك (¬3). وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية (وكثير من) (¬4) أهل الكلام كالكرَّامية وغيرهم فإنهم يثبتون السبب والحكمة، لكن كثير من هؤلاء يتناقض، فيتكلم في الفقه بلون، وفي أصول الفقه بلون، وفي أصول الدين بألوان، ففي الفقه يُثبت الأسباب والحِكَم، وفي أصول الفقه يسمي العلل الشرعية أمارات (¬5)، خلاف ما يقوله في الفقه، وفي أصول الدين ينفي الحكمة والتعليل بالكلية، لظنه أن قول القدرية لا يمكن إبطاله إلا بذلك، والقليل من هؤلاء هو الذي يحقق الحكمة ويُبّين رجوعها إلى الفاعل الحكيم؛ مع حصول موجبها في مخلوقاته (¬6). ¬

_ (¬1) في (د) بل. (¬2) انظر: المواقف في علم الكلام, تأليف عضد الدين الإيجي ص 331 - 332، والحكمة والتعليل في أفعال الله تعالي، تأليف د. محمد ربيع المدخلي ص 62 وما بعدها الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر مكتبة لينة دمنهور. (¬3) انظر: شرح الأصول، الخمسة، للقاضي عبد الجبار ص 525. (¬4) ما بين القوسين سقط من (د). (¬5) أمارات: جمع أمارة بالفتح وهي العلامة. الكليات لأبي البقاء ص 187. (¬6) وقد أبان هذا التناقض -عند الأشاعرة ومن وافقهم- ابن المرتضى اليماني في إيثار الحق على الخلق ص 200 - 201 (طبعة مكتبة ابن تيمية القاهرة - مصر، ومكتبة العلم بجدة) فقد نقل عن ابن الحاجب اتفاق العلماء على أن أفعال الله -تعالى- في الشرائع معللة ... ثم قال: وجميع الأشعرية يتابعونه على ذلك في أصول الفقه كالرازي في المحصول والغزالي في المستصفي ... ثم قال: فالزنجاني والذهبي وابن كثير من أئمة الأثر والشافعية وأهل السنة وقد تطابقوا على تعليل أفعال الله بالحكمة من غير حكاية خلاف في ذلك. أ. هـ. وقد أطال في ذلك. وقال العلامة صالح المقبلي، اليمني في العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء =

البكري لم يتصور صحيحا، ولا عبر فصيحا

وهذه المسائل من أشرف العلم، وقد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع (¬1). والمقصود هنا أن (¬2) ما ذكره هذا الشخص (¬3) من النصوص ليس، فيه إثبات الأسباب والحكم لأفعال الرب التي نفاها عن غيره، وبيان ذلك أن الأسباب عند من يقول بإثباتها هي من جملة الحوادث (¬4)؛ التي يكون الرب -عز وجل- فاعلًا لها، فالقول في إحداثه للسبب والحكمة كالقول في إحداثه ما بينهما، يمتنع أن يكون شيء من ذلك محدثًا لغيره، بل هو مُحدث جميع (¬5) المحدثات، وليس في ذلك ما يوجب كون الأسباب محدثة، وأيضًا فهذه الآيات التي ذكر ليس فيها إثبات حكم شيء من المحدثات كقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} (¬6) [الأنفال: 72] , بل ولا فيها إثبات نسبة الفعل إلى الرب، بل فيها إثبات بعض أفعال العباد؛ كهدايته وإعانته، وأفعال العباد لا تختص بكونها أسبابًا دون غيرها من الحوادث، فكلام هذا الرجل كلام من لم يتصور صحيحًا ولا عبر فصيحًا. ¬

_ = والمشايخ ص 188 وبهامشه كتاب الأرواح النافح له أيضاً (طبعة مكتبة دار البيان دمشق): قال جماعة من متأخري المتكلمين منهم (أي الأشاعرة): "يستحيل تعليل أفعال الباري -تعالى- وظهر هذا المذهب وغلب حتى يظن من لم يكثر مطالعة كتبهم أنهم مجمعون عليه، وأما المكثر فيجد القائل بهذه المقالة هم الأقل في المتأخرين فضلاً عن المتقدمين ويرشدك إلى هذا إطباق فقهاء الأشاعرة على تعليل الأحكام". أ. هـ. (¬1) انظر: أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى 8/ 81 وما بعدها، وشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، تأليف ابن قيم الجوزية 2/ 127 - 256. والحكمة والتعليل في أفعال الله -تعالى-, تأليف د. محمد هادي ربيع المدخلي ص 13 - 75، ص 195 - 210. (¬2) (أن) سقطت من (د). (¬3) أي البكري. (¬4) الحوادث: جمع حادث وهو ما يكون مسبوقًا بالعدم، ويسمى حدوثًا زمنيًا، وقد يعبر عن الحدوث بالحاجة إلى الغير ويسمى حدوثًا ذاتيًا. التعريفات ص 81 باب الحاء. (¬5) في (د) لجميع. (¬6) الآية في جميع النسخ (وعليكم النصر) ولم ترد الآية بالواو بالقرآن الكريم، ويظهر أنه خطأ من الناسخ لأنه سبق ذكر الآية صحيحة.

الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ليست من الأسباب والحكمة

الوجه الخامس: أن يقال: نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببًا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر نبيًا كان أو غير نبي كان ذلك سببًا في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذي مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرّع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان [إلى يوم الدين] (¬1)؟. فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين أحدهما: أن هذه أسباب (¬2) لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله. والثانية: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سببًا كونيًا يجوز تعاطيه، فإن قتل المسافر قد يكون سببًا لأخذ ماله؛ وكلاهما محرم، والدخول في دين النصارى قد يكون سببًا لمال يعطونه؛ وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سببًا لما يؤخذ من المشهود له؛ وهو حرام، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سببًا لنيل مطالب؛ وهو محرم، والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب؛ وهو محرم، وكذلك الشرك مثل دعوة الكواكب والشياطين، وعبادة البشر قد يكون سببًا لبعض المطالب وهو محرم، فإن الله -تعالى- حرم من الأسباب ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته، وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحيانًا، وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقًا وأمرًا، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتًا أو غائبًا, أو (¬3) يستغيثوا به، سواء كان ذلك عند قبره أو لم يكن عند قبره (¬4)، وهم لا يقدرون على ذلك. بل نقول في الوجه السادس: سؤال الميت والغائب نبيًا كان أو غيره من المحرمات المنكرة؛ باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحسنه أحد من أئمة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف). (¬2) في (د) الأسباب. (¬3) في (د) وأن. (¬4) في (د) (والله تعالي حي عالم قادر لا يغيب كفى به شهيدًا وكفى به عليمًا).

كراهة العلماء لدعاء الرجل لنفسه عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -

المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين (¬1)، فإن أحدًا منهم ما كان يقول -إذا نزلت به تِرة (¬2) أو عرضت له حاجة- لميت يا: سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي!!، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته؛ ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها!! [وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال، ويشتد البأس بهم ويظنون الظنون، ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين] (¬3)، بل ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلًا، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها. وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف (¬4). ¬

_ (¬1) في (ف): الإسلام. (¬2) في (ف) مضرة وفي (ح) شدة. ترَة أي النقص، ويقال وتره حقه وماله، نقصه إياه. لسان العرب لابن منظور 5/ 274 مادة تر، وفي لغة تميم الكسر والفتح في لغة الحجاز. المصباح المنير ص 248 مادة وتر. (¬3) ما بين المعقوفتين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح). (¬4) قال بهذا المتقدمون من الصحابة والتابعين وغيرهم، نقل ابن فرحون عن ابن عساكر قال: قال ابن عساكر: والذي بلغنا عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وغيره من السلف الأولين الاختصار والإيجاز في السلام جدًا. انظر: إرشاد السالك إلى أفعال المناسك، تأليف ابن فرحون المالكي، تحقيق محمد بن الهادي أبو الأجفان (الطبعة الثلاثية الرابعة لسنة 1988 م الناشر وزارة الثقافة والإعلام بتونس). وروى عبد الرزاق في مصنفه 3/ 576 رقم 6724 عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه، وأخبرناه عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحدًا من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر. والسند صحيح. وفي مصنف ابن أبي شيبة 3/ 28 رقم 11792 سئل هشام: أكان عروة يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لا. وتابع الإمام مالك السلف -ابن عمر وغيره- في ترك التطويل، قال مالك: لا أرى أن =

أمثلة من الأقوال الباطلة في الاستغاثة بغير الله تعالى

وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف (¬1) الترياق المجرب، وقال بعضهم: فلان يدعى عند قبره، وقول بعض الشيوخ [لمريده] (¬2): إذا كانت لك حاجة إلى الله (¬3)، فاستغث بي أو قال: استغث عند قبري ونحو ذلك، فإن هذا وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم، وكثير من هؤلاء إذا ¬

_ = يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ولكن يسلم ويمضي، وقال القاضي أبو الوليد الباجي: عندي أنه يدعو للنبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الصلاة ولأبي بكر وعمر: انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، تحقيق محمد أمين وآخرين 2/ 119 - 120، (ط مكتبة الفارابي ومؤسسة علوم القرآن دمشق - سوريا). وقال ابن تيمية في الرد على الأخنائي ص 269 بهامش الرد على البكري (طبعة 1346 هـ): وروى أبو الحسن القزويني بسنده إلى إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري قال: ما رأيت أبي قط يأتي إلى قبر - صلى الله عليه وسلم -، وكان يكره إتيانه. وإبراهيم بن سعد من أكابر علماء المدينة وأكثرهم علمًا وأوثقهم، وأبوه سعد من أفضل أهل المدينة في زمن التابعين وأصلحهم وأعبدهم، وكان قاضي المدينة في زمن التابعين، وقد أدرك الصحابة وأكابر التابعين والفقهاء السبعة، ومعلوم أنه لم يكن ليخالفهم فيما اتفقوا عليه، وما نقل عنه ابنه يقتضي أنه كان لا يأتيه لا عند السفر ولا غيره بل يكره إتيانه مطلقًا كما كان جمهور الصحابة على ذلك، لما فهموا من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وأبو الحسن علي بن عمر القزويني وغيره من أهل العلم والدين ذكروا هذه الآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ليبيّنوا للناس كيف كان السلف يفعلون مثل ذلك، أ. هـ باختصار. (¬1) هو أبو محفوظ معروف بن فيروز، وقيل: فيرزان البغدادي المعروف بالكرخي، كان والداه نصارى فأسلما، اشتهر بالصلاح والزهد، ونسب إليه الصوفية أقوال كثيرة وهو من أعلامهم، توفي سنة 200 هـ, وقيل 204 هـ. انظر: السير 9/ 339 ترجمة رقم 111 والأعلام 7/ 269. ومقالة: قبر معروف الترياق المجرب تروى عن إبراهيم الحربي كما في السير 9/ 343 وهذا الكلام لا يسلم لقائله, فقد ورد النهي عن الدعاء عند قبر أفضل الخلق - صلى الله عليه وسلم - وإطالة الوقوف, فغيره أولي. ومثل هذه المقالة وسيلة للشرك، فإنه وسيلة لدعاء المقبور، كما يحدث اليوم، وإجابة الدعاء عند قبر معين لا تدل على المشروعية، فإن الدعاء يستجاب أحيانًا من كافر عند الأصنام. وقد ورد عن بعض السلف أن الترياق المجرب هو الدعاء، دعاء الله -عز وجل-، انظر: المستغيثين بالله, لابن بشكوال ص 95. (¬2) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف). (¬3) في (د) إلي الله حاجة.

إحداث المشاهد والسفر إليها بعد القرون الثلاثة

استغاث بالشيخ رأى صورته؛ وربما قضى بعض حاجته فيظن أنه الشيخ نفسه، أو أنه ملك تصور على صورته؛ أو أن (¬1) هذا من كراماته، [فيزداد به شركًا ومغالاة] (¬2)، ولا يعلم أن هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعُبّاد الأوثان، حيث تتراءى أحيانًا لمن تعبدها، وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وتقضي لهم بعض الطلبات، ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة. وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن بُني من ذلك [شيء] (¬3) في القرون الثلاثة المفضلة (¬4). بل ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذّر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يُتخذ مسجدًا (¬5)، وثبت في الصحيح عنه أنه قال -قبل إن ¬

_ (¬1) في (د) (وأن). (¬2) ما بين المعقوفتين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح). (¬3) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف). (¬4) قال المصنف في الفتاوى 27/ 466: "وكان ظهور المشاهد وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع, وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب، ثم جاءوا إلى أرض مصر، وقريبًا من ذلك ظهر بنو بويه، وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية" أ. هـ. وقد اشتد نكير السلف في القرون الثلاثة المفضلة على زخرفة المساجد وكتابة القرآن على جدرانها ووضع المحاريب وغيرها مما هي دون بناء المشاهد ودفن الموتى فيها، ولو كانت موجودة لنقل عنهم إنكارها. انظر: كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي ص 103 والباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة، تحقيق عادل عبد المنعم ص 40 (الناشر مكتبة الساعي الرياض)، والأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي، تحقيق مصطفى عاشور ص 52 وما بعدها، (الناشر مكتبة القرآن القاهرة)، وإصلاح المساجد من البدع والعوائد، للعلامة محمد جمال الدين القاسمي، تخريج وتعليق الألباني ص 1634 الطبعة الرابعة 1403 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. (¬5) أخرجه البخاري في (كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على =

توسل الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان بدعائه، وهذا تعذر بعد موته - صلى الله عليه وسلم -

يموت بخمس-: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" (¬1)، وقد تقدم في الجواب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما أجدبوا استسقى بالعباس وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون" (¬2)، فلم يذهبوا إلي القبور ولا توسَّلوا بميت ولا غائب، بل توسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - , وكان توسلهم بدعائه كالإمام مع المأموم, وهذا تعذر بموته. فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء والصالحين: اللهم إني أسألك بفلان أو بجاه فلان أو بحرمة فلان، فهذا لم يُنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز، ونُقل عن بعضهم جوازه (¬3)، فكيف يقول القائل للميت: أنا أستغيث بك، وأستجير ¬

_ = القبور) 1/ 395 رقم 1330 واللفظ له وأطرافه (435، 1390، 3453، 4441، 4443, 5815) ومسلم في (كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها) 1/ 376 رقم 529. (¬1) أخرجه مسلم في (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها) , 1/ 376 رقم 529. (¬2) (فيسقون) سقطت من (د). (¬3) سؤال الله -تعالى- بجاه فلان أو حرمته أو حقه أو غير ذلك، منعه أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما من أئمة الحنفية فقد جاء في الفتاوى الهندية: ويكره أن يقول في دعائه بحق فلان وكذا بحق أنبيائك وأوليائك أو بحق رسلك أو بحق البيت أو المشعر الحرام لأنه لا حق للمخلوق علي الله -تعالى- كذا في التبيين. أ. هـ. انظر: الفتاوى الهندية المسماة الفتاوى العالمكيرية لفخر الدين حسن بن منصور الحنفي وبهامشها فتاوى قاضيخان البزازية 5/ 318 الطبعة الثالثة 1400 هـ, الناشر دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان, وفتح القدير تأليف كمال الدين محمد بن عبد الواحد وبهامشه شرح العناية علي الهداية 8/ 498، طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان. ونقل المنع عن جمع من علماء الحنفية السهسواني الهندي في صيانة لإنسان عن وسوسة دحلان ص 205، الطبعة الرابعة 1410 هـ, الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة، ومكتبة العلم بجدة، وانظر: جهود علماء الحنفية 2/ 1123 وما بعدها. واتفق أئمة الدعوة السلفية على أنه بدعة محرمة مذمومة، انظر: الصواعق المرسلة الشهابية ص 14، ودعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 268 - 269 =

إيذاء الميت بسؤاله

بك، أو أنا (¬1) في حسبك، أو سل لي الله، ونحو ذلك، فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة؛ ولو (¬2) قُدّر أن (¬3) له تأثيرًا، فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح بل مفسدته راجحة على مصلحته كأمثاله من دعاء غير الله. وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو (¬4) ميت تتمثل له الشياطين، وربما كانت على صورة ذلك الغائب، وربما كلمته، وربما قضت له أحيانًا بعض حوائجه، كما تفعل شياطين الأصنام، وهذا مما قد جري لغير واحد فينبغي أن يُعرف. ومن هؤلاء من يؤذي الميت بسؤاله إياه؛ أعظم مما يؤذيه لو كان حيًّا، وربما قضيت حاجته مع ذم يلحقه، كما كان الرجل يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا (¬5) فيعطيه ويقول: "إن أحدكم (¬6) يسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها نارًا", ومن هذا، الحكاية المذكورة في الذي جاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه سكباجًا (¬7)؛ فأتاه بعض أهل المدينة فأطعمه سكباجًا وأمره بالخروج من المدينة، وقال: إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يطعمه وأن يخرجه، وقال: من ¬

_ = ومنعه الشيخ مبارك بن محمد الميلي أمين مال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في رسالة الشرك ومظاهره ص 213، الطبعة الأولى 1409 هـ, الناشر مكتبة الإيمان الإسكندرية - مصر، وهي إجماع من علماء الجمعية كما في تقديم الأمين العام في ص 7. وقال بجوازه بعض العلماء من المالكية والشافعية ومتأخري الحنفية ومتقدمي الحنابلة. انظر: الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت الطبعة الثانية 1408 هـ، طبعة ذات السلاسل - الكويت. وأما الأئمة المتقدمون كالإمام مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم فكلامهم في هذه المسائل قليل لأنها لم تكن في زمنهم، وإنما حدثت بعد ذلك. (¬1) في (د) وأنا. (¬2) في (ف) لو بدون (واو). (¬3) في هامش (د) في "نسخه لما يقولونه تأثيرًا فليس هو من الأسباب المشروعة ولا له تأثير صالح". (¬4) (أو) سقطت من (د). (¬5) (أحيانًا) سقطت من (د). (¬6) في (د) و (ح) أحدهم. (¬7) السِكباج بالكسر طعام معرب، وهو لحم يطبخ بخل. القاموس المحيط للفيروز آبادي، تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة ص 248، الطبعه الثالثة 1413 هـ, الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان.

يقيم بالمدينة لا يتمنى ذلك (¬1) أو كما قال ولا ريب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ومن هو دونه حيّ يسمع كلام الناس، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد -عليه السلام- " (¬2)، و ["ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه" (¬3)، ¬

_ (¬1) وانظر قصة قريبة منها في: وفاء الوفا في أخبار دار المصطفي، لنور الدين السمهودي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد 4/ 1384 (الطبعة الأولى 1374 هـ, الناشر مكتبة محمد المدني المدينة)، وعمدة أدلة القائلين بالاستغاثة مثل هذه الحكايات والمنامات وهذه حكايات ترد زعمهم. (¬2) أخرجه أبو داود في (كتاب المناسك، باب زيارة القبور) 5342 رقم 2041 ولفظه: "ما من أحد يسلم ... "، وأحمد في المسند 2/ 527، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 245 باب زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم. وقد صححه المصنف وقال على شرط مسلم في اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق د. ناصر العقل 2/ 663 , وابن القيم في عون المعبود 6/ 26 وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي في الرد على السبكي، تحقيق أبي عبد الرحمن السلفي ص 188 - 197 (الطبعة الأولى 1412 هـ, الناشر مؤسسة الرياض بيروت - لبنان): واعلم أن هذا هو الذي اعتمد عليه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من الأئمة في مسألة الزيارة، وهو أجود ما استُدل به في هذا الباب، ومع هذا فإنه لا يسلم من مقال في إسناده، ونزاع في دلالته أ. هـ. باختصار. وحسن الحديث الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 338، الطبعة الأولى 1412 هـ, الناشر مكتبة المعارف الرياض. (¬3) أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار، تحقيق علي النجدي ناصف 1/ 334 (طبعة إحياء التراث الإسلامي - الجمهورية العربية المتحدة) باب جامع في الوضوء من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ولفظه: "ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان ... إلا عرفه ورد عليه السلام"، ونقل المؤلف تصحيح عبد الحق الأشبيلي صاحب الأحكام في الفتاوى 24/ 331، وأخرجه أيضاً الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 6/ 137 ترجمة رقم 3175 (الطبعة الأولى 1409 هـ, الناشر مكتبة الخانجي - القاهرة والمكتبة العربية - بغداد) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ولفظه: " ... إلا عرفه ورد عليه السلام"، وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وذكره الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب تحقيق السعيد بسيوني زغلول 4/ 19 رقم 6055 (الطبعة الأولى 1406 هـ، الناشر دار الكتب بيروت - لبنان) عن عائشة -رضي الله عنهما- ولفظه: " ... يزور قبر حميمه فيسلم عليه ويقعد عنده إلا رد عليه السلام وآنس به حتى يقوم من عنده"، وفيه عبد الله بن سمعان. وأخرجه ولي الدين العراقي في جزء منتقى من حديثه، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ص 226 - 227، مجلة الحكمة العدد الخامس في شهر شوال 1415 هـ. وقال ابن رجب في أهوال القبور في أحوال أهلها إلى النشور ص 73 (الطبعة 1357 هـ =

مفاسد سؤال الميت

رواه ابن عبد البر وصححه] (¬1). لكن في مسألتهم أنواع من المفاسد منها إيذاؤهم له بالسؤال، ومنها إفضاء ذلك إلى الشرك، وهذه المفسدة توجد مع الموت دون الحياة، فإن أحدًا من الأنبياء والصالحين لم يُعبد في حياته، إذ هو ينهى عن ذلك، وأما بعد الموت فهو لا ينهى، فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثنًا يعبد، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتخذوا قبري عيدًا" (¬2)، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا ¬

_ = مطبعة أم القرى مكة المكرمة): "أخرجه ابن عبد البر، وقال عبد الحق الأشبيلي: إسناده صحيح، يشير إلى أن رواته كلهم ثقات وهو كذلك إلا أنه غريب بل منكر". أ. هـ وضعف أيضاً حديث أبي هريرة وحديث عائشة. ونقل العراقي في تخريج الإحياء 2/ 1229 رقم 4435، وابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص 225: تصحيح الأشبيلي، ونص ابن عبد الهادي أنه في العاقبة. قلت: ذكر الحديث عبد الحق الإشبيلي في كتاب العاقبة ص 120، تحقيق أبي عبد الرحمن المصري الأثري عدة طبعات، ولم أجد تصحيحه. وقد ضعف الحديث ابن الجوزي والمناوي. انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، تأليف عبد الرؤوف المناوي 5/ 487 (الطبعة الأولى 1356 هـ, الناشر المكتبة التجارية - مصر). وضعف طرق الحديث ابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص 224 - 225 ما عدا حديث ابن عباس سكت عنه، وضعفه العلامة الألباني في حاشية الآيات البينات ص 70، وضعف بعض طرق الحديث الذهبي في السير 12/ 590 ومما سبق يتبين أن الحديث ضعيف من طرقه كلها، والله أعلم. (¬1) ما بين المعقوفين من (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 2/ 150 رقم 7542 من حديث علي بن حسين عن أبيه عن جده ولفظه: "لا تتخذوا ... ولا بيوتكم قبورًا وصلوا علي حيث ما كنتم" ورقم 7543، وعبد الرزاق في مصنفه باب السلام على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -3/ 577 رقم 6726، وأبو يعلى في مسنده 1/ 361 - 362 رقم 469. وأخرجه أبو داود في (كتاب المناسك، باب زيارة القبور) 2/ 534 رقم 2042 ولفظه: "لا تجعلوا ... "، وصحح النووي حديث أبي داود في الأذكار ص 172، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط (الطبعة الثانية 1409 هـ دار الهدى - الرياض)، وأخرجه أيضاً أحمد في المسند 2/ 367، والقاضي في فضائل الصلاة على النبي ص 36 رقم 20 كلاهما بلفظ أبي داود. وسعيد بن منصور في سننه -كما في اقتضاء الصراط (2/ 302) - ولم أجده في المطبوع منها - وقال المصنف في اقتضاء الصراط 2/ 659 - 660 في حديث أبي داود: "وهذا إسناده =

يعبد" (¬1)، وقال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} [نوح: 23]: إن هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم (¬2)، ولهذا المعنى لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وأما النبي والصالح إذا (¬3) بنى له مسجدًا في ¬

_ = حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه، وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد معروفة". أ. هـ. وقال أيضاً في 2/ 662 عن الإسناد المرسل لهذا الحديث: "وهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده". أ. هـ. وقد أطال الكلام على هذا الحديث، وقال شمس الدين السخاوي في القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع ص 155 (الطبعة الثالثة 1397 هـ المكتبة العلمية المدينة المنورة): "حديث حسن وله شاهد". أ. هـ. وقال العلامة الألباني في حاشية كتاب فضائل الصلاة على النبي للإمام إسماعيل القاضي المالكي ص 36 الطبعة الثالثة 1397 هـ, الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان: "حديث صحيح بطرقه وشواهده". (¬1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ مرسلًا في (كتاب قصر الصلاة في السفر) 1/ 172، والحميدي في مسنده، باب الجنائز 2/ 445 رقم 1025 ولفظه: " ... وثنا، لعن الله قوما اتخذوا أو (جعلوا) قبور أنبيائهم مساجد"، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، طبعة دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، وأحمد في المسند 2/ 246 وعبد الرزاق في مصنفه مرسلًا 1/ 406 رقم 1587 ولفظه: " ... وثنا يصلى إليه فإنه اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وكذا ابن أبي شيبة 2/ 150 رقم 7544، وأبو سعيد المفضل المكي في فضائل المدينة تحقيق محمد الحافظ وغزوة بدر ص 39 رقم 52 (الطبعة الأولى 1405 هـ الناشر دار الفكر دمشق سوريا)، وأبو يعلى في مسنده 12/ 33 - 34 رقم 6681 ولفظه: "لا تجعلن قبري وثنًا، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وابن سعد في الطبقات 2/ 241 - 242 وغيرهم. وصححه ابن عبد البر في التمهيد 5/ 42. (¬2) أخرجه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع: كانت لهذيل، وأما يغوث: فكانت لمراد ثم لبني عطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق: فكانت لهمدان، وأما نسر: فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء لرجال صالحين، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت" (كتاب التفسير، باب تفسير سورة نوح) 3/ 1572 رقم 4920، وانظر: أقوال السلف في تفسير الطبري في تفسير هذه الآية 12/ 253 - 254. (¬3) في (د) (إذ).

فصل [3]

حياته يصلي فيه معه فهذا من أفضل الأعمال، فحكم الحياة يفارق حكم الممات، وذلك كما جاءت السنة بذلك. فصل قال: (ثم اعلم أنه من نفى الحقائق نفيًا عامًا يفهم به الإشارة للتوحيد وإفراد الباري بالقدرة عددناه من المنزهين، ولم نجعل ذلك إبطالًا للحكمة إذ الألفاظ يعتبر حكمها بما تفهم العقول منها بمقتضى الأوضاع والقرائن، ومن خص الرسول أو (¬1) الملائكة بنفي خاص، يُفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب فقد نقصهم بعبارته؛ وإن نوى معاني التوحيد، ولم يجعل الله لأحد تنقيص الرسول، وأجمع الخلف والسلف على وجوب تعظيمهم في الاعتقاد والأقوال والأفعال). والجواب من وجوه: أحدها: أن الجواب المذكور ليس فيه تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر بل قد صرح فيه بالعموم، وقيل فيه: من قال: لا يدعى إلا الله، وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله فلا تطلب إلا منه، مثل غفران الذنوب، وهداية القلوب وإنزال المطر، وإنبات النبات ونحو ذلك، فهذا مصيب، ولذلك حيث ذكر هذا فلم يُذكر (¬2) إلا على وجه التعميم، فدعوى المدعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والملائكة خصوا بالذكر كذب لا يحتاج إلى جواب. الوجه الثاني: أن يقال التحقيق في هذا الباب؛ أنه إذا كان المنفي (¬3) لا يصلح لمخلوف؛ فذكرت الأنبياء والملائكة على سبيل تحقيق النفي العام، كان هذا من أحسن الكلام، وكان هذا من باب التنبيه، كما يقال لا تجوز العبادة إلا لله -تعالى- لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، فينبه بنفيها عن الأعلى على انتفائها عمن هو دونهم بطريق الأولى، وكذلك إذا كان المخصوص بالذكر ممن قد حصل فيه غلو، كما يقال ليس في الصحابة معصوم، لا عليّ ولا غيره، وليس في النبيين إله لا المسيح ولا غيره، فهذا أحسن. ¬

_ (¬1) في (ف) (واو). (¬2) في (د) (يذكره). (¬3) في (د) النفي.

ذكر الملائكة والأنبياء لتحقيق العموم وأمثلة ذلك في الكتاب والسنة

فالمخصص إذا كان فيه فائدة مطلوبة كان حسنًا، ومنه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} [النجم: 19 - 26]، فنفى سبحانه أن تغني شفاعة الملائكة الذين في السماء إلا من بعد إذنه، تنبيهًا بذلك على [أن] (¬1) من دونهم أولى أن لا تغني شفاعتهم، فإن المشركين كانوا يقولون عن الأصنام إنها تشفع لهم، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18] , ولا يجوز أن يكون الكلام تنقيصًا بالملائكة، ولذلك قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)} [النساء: 171، 172]، فإنه لما كان الكلام في إثبات توحيد الله -تعالى- والنهي عن الغلو في الدين الذي فيه تشبيه المخلوق بالخالق، قال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}، بعد أن قال: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} وقال في الآية الأخري: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، فنسبه إلى أمه وهذا قد جرى في القرآن في غير موضع، فنسبه إلى أمه لينفي نسبته إلى غيرها، فلا ينسب إلى الله أنه ابنه؛ ولا إلى أب من البشر؛ لا كما زعمت ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (ح) و (ط)، وسقطت من الأصل و (د).

من غلا في طائفة ذكر له من هو أعلى منها وأمثلة ذلك

النصارى الغالية فيه، ولا كما زعمت اليهود الكافرة به (¬1). وأبلغ من هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17]، فذكر أهل الأرض جميعًا؛ وخص المسيح وأمه بالذكر؛ من أنه إن أراد إهلاكهم لن يملك أحد لهم منه شيئًا، لأن المسيح وأمه اتُخِذَا إلهين كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، فكان التخصيص بالذكر لنفي هذا الشرك والغلو الذي وقع في المسيح وأمه، ولم يكن ذلك من باب التنقيص بالمسيح وأمه، بل كان التخصيص لأجل أن الكلام وقع في ذلك المعين. فالتخصيص للحاجة إلى ذكر المخصوص والعلم به؛ أو لأجل التنبيه به على ما سواه، ولهذا لا يكون التخصيص في هذا (¬2) مفهومه مخالفة، بنفي نقيض الحكم عن ما سواه، وهو الذي يسمى دليل الخطاب للتخصيص (¬3)، لم يكن للاختصاص بالحكم، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ ¬

_ (¬1) زعم اليهود أن عيسى -عليه السلام- ولد زنا، واتهموا أمه بزكريا وأنه كاذب في دعوى نبوته، ولذلك لقي جزاءه بالقتل، وقابلهم النصارى بزعم آخر وهو أنه إله، أو ابن إله واختلفوا في طبيعته، وهدى الله المسلمين للحق بإذنه فشهدوا بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. انظر: تاريخ الطبري (1/ 353)، وقصص الأنبياء لابن كثير ص 575. (¬2) في (د) هذه. (¬3) دليل الخطاب هو: إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه. وأما نوع التخصيص الذي ذكره المؤلف هنا فهو فحوي الخطاب ويسمى تنبيه الخطاب، ومفهوم الموافقة، وهو نوعان: تنبيه بالأقل على الأكثر كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فإنه نبه بالنهي عن قول أف على النهي عن الشتم والضرب وغير ذلك، والنوع الآخر تنبيه بالأكثر على الأقل مثل ما ذكره المؤلف. انظر: تقريب الوصول إلى علم الأصول، تأليف أبي القاسم محمد الغرناطي المالكي، تحقيق د. محمد المختار الشنقيطي ص 168 - 169، الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة، ومكتبة العلم بجدة، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي، تعليق عبد الرزاق عفيفي -رحمه الله- 4/ 3، الطبعة الثانية 1402 هـ, الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان.

وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 79، 80] فتخصيص الملائكة والنبيين بالذكر تنبيه على [من] (¬1) دونهم، فإنه (¬2) لا يأمر باتخاذ الصالحين أربابًا بطريق الأولى. ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل" (¬3)، فكان تخصيصه بالذكر لتحقيق العموم، وأن هذا النفي يتناول أفضل الخلق، فلا يظن أحدٌ غيره أنه يدخل الجنة بعمله. وكذلك قوله في الحديث الصحيح: "ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّلَ به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن"، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم" (¬4). ومنه قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء: 26 - 29]، فذكر هذا الوعيد في الملائكة، وخصهم بالذكر، تنبيهًا على أن دعوى الإلهية لا تجوز لأحدٍ من المخلوقين لا ملك ولا غيره، وإنه لو قدر وقوع ذلك من ملك من الملائكة لكان جزاؤه جهنم، فكيف من دونهم! وهذا (¬5) ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ما). (¬2) في (د) أن. (¬3) أخرجه البخاري في (كتاب المرضى، باب نهي تمني المريض الموت) 4/ 1816 رقم 5673 ولفظه: " ... بفضل ورحمه" وطرفه 6467، ومسلم في (كتاب صفات المنافقين، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله) 4/ 2169 رقم 2816 بألفاظ متقاربة، وأحمد في المسند 2/ 473 واللفظ له. (¬4) أخرجه مسلم في (كتاب صفات المنافقين، باب تحريش الشيطان) 4/ 2186 رقم 2814، وأحمد في المسند 1/ 401 واللفظ له من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وأخرجه غيرهم. (¬5) (وهذا) سقطت من (ف).

تخصيص إفراد الله بالآلهية، ومنه قوله تعالى في الأنبياء: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} [الأنعام: 87، 88]، والأنبياء معصومون من الشرك والكفر (¬1)، ولكن المقصود بيان أن الشرك لو صدر من أفضل الخلق لأحبط عمله، فكيف بغيره؟. وكذلك قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} [الزمر: 65] مع أن الشرك منه ممتنع، لكن بيّن بذلك أنه إذا قدر وجوده كان مستلزمًا لحبوط عمل المشرك وخسرانه كائنًا من كان، وخوطب بذلك أفضل الخلق لبيان عظم هذا الذنب، لا لنقص (¬2) قدر المخاطب كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة: 44 - 47]، ليبيّن سبحانه أنه ينتقم ممن يكذب في الرسالة كائنًا من كان، وأنه لو قدر أنه غيّر الرسالة لانتقم منه، والمقصود نفي هذا التقدير (¬3) لانتفاء لازمه. وكذلك قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] (ثم قال:) (¬4) {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24]، وفي الحديث المعروف: "إن الله لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم" (¬5)، فهذا من بيان عدل الرب وإحسانه وتقصير الخلق عن واجب ¬

_ (¬1) (والكفر) سقطت من (ف). (¬2) (لا لنقص) سقطت من (د)، وفي (ف) و (ح) (لغض). (¬3) بياض في الأصل و (ف) بمقدار ثلاث كلمات وفي (د) و (ح) بمقدار كلمتين وليس في الجملة سقط. (¬4) ما بين القوسين سقط من (ف) و (د). (¬5) أخرجه أبو داود في (كتاب السنة، باب في القدر) 5/ 75 رقم 4699 بلفظ قريب وأوله: "قال ابن الديملي أتيت أُبيّ بن كعب فقلت له وقع في نفسي شيء من القدر ... الحديث"، وابن ماجه في المقدمة، باب القدر 1/ 16 - 17 رقم 65 وأحمد في المسند 5/ 182، 185، 189 وغيرهم بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف، وقد صححه الألباني في حاشية مشكاة المصابيح (1/ 117) الطبعة الثانية 1399 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت.

حقه؛ حتى الملائكة والأنبياء وغيرهم، وأنه لو عذبهم لم يكن ظالمًا لهم، فكيف بمن دونهم؟ وهذا باب واسع. فمن غلا في طائفة من الناس؛ فإنه يُذكر له من هو أعلى منه ويبيّن أنه لا يجوز هذا الغلو فيه، فكيف يجوز الغلو في الأدنى؟ كما قال بعض الشيعة لبعض شيوخ أهل (¬1) السنة: تقول (¬2) إن مولانا أمير المؤمنين عليًا كان معصومًا، فقال: أبو بكر وعمر عندنا أفضل منه وما كانا معصومين. وكما يقال لمن يعظّم شيخه أو أميره بأنه يطاع في كل شيء، وأنه لا تنبغي مخالفته، [فيقال] (¬3) له: أبو بكر أفضل منه، وقد قال: "أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوِّموني" (¬4)، وكما ظن الغالي أن الصالحين لا يؤذيهم عدوهم، [ولا يجرحون] (¬5) لاعتقاده أن ذلك نقص فيهم، وأنهم (¬6) قادرون علي دفع كل أذى، فيقال: أفضل الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أوذي وقد جرح يوم أحد (¬7)، وذلك كرامة من الله -تعالى- ليعظم أجره ويزيده (¬8) رفعة بالصبر على الأذى في الله. ¬

_ (¬1) (أهل) سقطت من (ف) و (د). (¬2) في (ف) نقول. (¬3) كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) (فقال) وفي هامش الأصل (لعله فيقال). (¬4) أخرج ابن جرير أول الأثر عن أبي بكر -رضي الله عنه- في تاريخه 2/ 450، وكذلك ابن كتير في تاريخه 6/ 294، وقال ابن كثير: هذا إسناد صحيح، وآخره عند ابن جرير في 2/ 469 من قوله: "إنما أنا متبع ولست بمبتدع ... "، وعند ابن كثير 6/ 296. (¬5) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) يخرجون، وما أثبت أعلاه هو الصواب للسياق. (¬6) في الأصل كرر أنهم. (¬7) في هامش (د) وكسرت رباعيته، قلت: يشير المؤلف -رحمه الله- إلى ما أخرجه البخاري عن سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أما والله إني لا أعرف من كان يغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... (إلى أن قال) وكسرت رباعيته يومئذٍ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه) (كتاب المغازي، باب ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أحد) 3/ 1243 رقم 4075. (¬8) في هامش (د) الله بذلك.

[وكذلك] (¬1) لو حلف حالف بشيخه، فقيل له: لا تحلف بغير الله؛ فمن حلف بغير الله فقد أشرك (¬2)، وكذلك إذا اعتقد معتقد بشيخه أنه يشفع لمريديه (¬3)، وأن له راية في الآخرة يُدْخِلُ تحتها مريديه (¬4) الجنة، فيقال له: المرسلون أفضل منه، وسيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء يشفع يسجد بين يدي الله -عز وجل-، ويحمد ربه بمحامد، فيقال له: "ارفع رأسك وقل يسمع (¬5) وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي، فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة" (¬6). فهو - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع إلا بعد يؤذن له، بل يبدأ (¬7) بالسجود لله والثناء عليه، ثم إذا أذن له في الشفاعة وشفع، حد له، حدًا يدخلهم الجنة، فليست الشفاعة مطلقة (¬8) في حقه، ولا يشفع إلا بإذن الله، فكيف يكون الشيخ إن كانت له شفاعة؟. وكذلك إذا قيل عن بعض الشيوخ: إن قبره ترياق مجرب (¬9)، قيل له: إذا كانت قبور الأنبياء عليهم السلام ليست ترياقًا مجربًا فكيف تكون قبور الشيوخ؟. وكذلك إذا قيل: إن الشيخ الميت يستسقى عند قبره، ويقسم به على الله، ويعرّف عنده عشية عرفة (¬10) ونحو ذلك، قيل له: إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل لذلك. (¬2) هذا لفظ حديث أخرجه أبو داود في (كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء) 3/ 570 رقم 3251، والترمذي في (كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهة الحلف بغير الله) 4/ 110 رقم 1535 وزاد: " ... كفر أو أشرك"، وقال حديث حسن، وأحمد في المسند 2/ 96، 125 من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- واللفظ له، وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند 7/ 229، وجاسم الدوسري في النهج السديد ص 223 رقم 464. (¬3) في هامش (د) يوم القيامة. (¬4) في (ح) (مريده). (¬5) في (د) لك. (¬6) أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب قوله -عز وجل-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} 5/ 2312 رقم 7410 وطرفاه: 3340، 4712، 3361، ومسلم في (كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها) 1/ 183 رقم 193 واللفظ لمسلم. (¬7) في هامش (د) أولا. (¬8) في (د) له مطلقًا. (¬9) في الأصل (أو أنه) وهي زائدة. (¬10) التعريف: هو اجتماع الناس عشية يوم عرفة في غير عرفة يفعلون ما يفعله الحاج =

سيد الخلق لم تستسقِ الصحابة -رضوان الله عليهم- عند قبره، ولا أقسموا به على الله، ولا عرّفوا عند قبره، فكيف غيره؟. وكذلك إذا قيل: إنه يسجد لقبر الشيخ أو يُستلم ويُقبّل، قيل: إذا كان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسجد له ولا يستلم ولا يقبّل باتفاق الأئمة (¬1)، فكيف بقبر غيره؟. وكذلك إذا قيل: الموضع الذي كان الشيخ يصلي فيه لا يصلي فيه غيره احترامًا له، قيل له (¬2): إذا كان الصحابة صلوا في الموضع الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيه، فكيف لا يصلي في موضع مصلى غيره؟ وهو أحق بالاحترام من كل أحد. وكذلك إذا قيل: إن الشيخ الميت يدعى ويسأل ويستغاث به، قيل له (¬3): إذا كان الأنبياء بعد موتهم لا يدعون ولا يسألون ولا يستغاث بهم، فكيف [بمن دونهم] (¬4)؟. وإذا قيل: يُطلب من الشيخ كل شيء، فقيل: ما لا يقدر عليه إلا الله؛ لا يطلب من الأنبياء، فكيف يطلب ممن دونهم؟. وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول (¬5): لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك (¬6)، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة، فيقول: يا رسول الله: أغثني، فأقول: لا ¬

_ = يوم عرفة من الدعاء والثناء. انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث، للعلامة أبي شامة الشافعي، تحقيق عادل عبد المنعم ص 48، وسيأتي بيان هذه البدعة والكلام عنها ص 307. (¬1) نقل هذا الإجماع الإمام النووي في الإيضاح في المناسك ص 160 - 161 الطبعة الثانية 1406 هـ، وقال الغزالي في إحياء علوم الدين 3/ 103: مس وتقبيل المشاهد من عادات اليهود والنصارى. أ. هـ. وقد ذكره غيرهم. (¬2) سقط من (ف) و (د). (¬3) سقط من (ف) و (د). (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل: بغيرهم، وعليها إشارة للهامش وليس فيه شيء. (¬5) في (ف) (قد أبلغتك) وهي زيادة على نص البخاري. (¬6) في (د) و (ح) قد أبلغتك لا أملك لك من الله شيئًا.

أملك لك شيئًا قد أبلغتك (¬1) " (¬2)، أخرجاه. فقد أخبر أنه يستغيث به أهل الغلول يوم القيامة فلا يغيثهم، بل يقول: [قد أبلغتكم] (¬3) لا أملك لكم من الله شيئًا. كما قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا (¬4) " (¬5). وهذا النوع من الكلام يقال على وجه [العموم] (¬6)، (تارة يقال: السجود لا يصلح إلا لله لا لنبي ولا لغيره) (¬7)، وتارة يقال: السجود لا يصلح للأنبياء، فكيف بمن دونهم، وتارة يقول السائل: هل أسجد للشيخ؟ فيقال له: الرسول لا يسجد له، فكيف يسجد للشيخ؟ فتارة يذكر الاسم العام ويخص الأفضل بالذكر تحقيقًا للعموم؛ وأنه لا يستثنى من هذا العموم أحدٌ؛ وإن كان أفضل. كما يقال: مات الناس حتى الأنبياء، وتارة يذكر الأفضل ويعطف عليه غيره تحقيقًا للعموم، وتارة يختص الأفضل بالذكر تنبيهًا على من سواه، فهذا النمط من الكلام حيث ذكر الأفضل فيه فإنه لا يراد اختصاصه بالحكم، بل يراد به العموم؛ وتحقيق العموم، وأن هذا الحكم ثابت في حق الأفضل، فكيف من (¬8) دونه؟. ¬

_ (¬1) في (د) و (ح) قد أبلغتك لا أملك لك من الله شيئًا. (¬2) أخرجه البخاري في (كتاب الجهاد والسير، باب الغلول) 2/ 944 رقم 3073 واللفظ له، ومسلم في (كتاب الإمارة، باب غلظ تحريم الغلو) 3/ 1461 رقم 1831. (¬3) كذا في (د)، وفي (ح) (أبلغتكم) وفي الأصل و (ف) (أبلغتك). (¬4) في (ف) سقط قوله: "يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا". (¬5) أخرجه البخاري في (كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والأولاد في الأقارب) 12/ 848 برقم 2753 وطرفه رقم 3527، ومسلم في (كتاب الإيمان، باب قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} 1/ 192 برقم 206 بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف. (¬6) ما بين المعقوفتين ليس في جميع النسخ، وفي (ح) بياض بمقدار كلمة، وقد أخذتها من تكرار المصنف لنفس المعنى في الكلام الذي بعدها بأسطر. (¬7) ما بين القوسين سقط من (د). (¬8) في (د) بمن.

الاستغاثة المنفية نوعان: بالميت، وفيما لا يقدر عليه إلا الله

وحينئذٍ فإذا قدر أن سائلًا سأل هل يستغاث بميت من الأنبياء والصالحين؟ فقيل له: لا [تستغث] (¬1) بأحد منهم لا نبي ولا غيره، أو قيل: لا يستغاث بالنبي فكيف بمن دونه!! أو قيل: أفضل الخلق لا يستغاث به، أو نحو ذلك من العبارات التي يفهم منها عموم النفي، وأنه ذُكر الأفضل تحقيقًا للعموم، كان هذا من أحسن الكلام كما تقدم. كما إذا قيل: لا يُسجد لقبره ولا يتمسح به ولا يقبل، ولا يتخذ وثنًا يعبد ونحو ذلك. وكذلك لو كان الخطاب ابتداءً في سياق التوحيد ونفي خصائص الرب عن العبد، فقيل: ما لا يقدر عليه إلا الله لا يطلب إلا منه لا من نبي ولا غيره، أو قيل: لا يستغاث فيه بالنبي، فكيف من دونه أو نحو هذا الكلام كان حسنًا. فالاستغاثة المنفية نوعان: أحدهما: الاستغاثة بالميت مطلقًا في كل شيء. والثاني (¬2): الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق. فليس لأحد أن يسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله لا نبيًا ولا غيره، ولا يستغيث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق، وليس لأحد أن يسأل ميتًا؛ أو يستغيت به في شيء من الأشياء؛ سواء كان نبيًا أو غيره، وإذا كان كذلك فجميع ما وقع هو من هذا الباب، ولم يفهم أحد من الخلق شيئًا إلا هذا. الوجه الثالث: قوله: (من نفى الحقائق نفيًا عامًا يفهم به الإشارة للتوحيد، وإفراد الباري بالقدرة، عددناه من المنزهين؛ ولم (¬3) يجعل ذلك إبطالًا للحكمة، ومن خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص، يفهم من طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب، فقد نقصهم بعبارته وإن نوى معاني التوحيد). يقال له: أولًا قولك: عددناه من المنزهين، عبارة في غير موضعها، بل حقه أن يقال: من الموحدين، فإن التنزيه نفي النقائص عن الله -عز وجل- , وأما (¬4) الإشارة إلي التوحيد وإفراده بالقدرة فيسمى توحيدًا. ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (يستغيث). (¬2) في (د) الثانية. (¬3) في (د) فلم. (¬4) في (ف) (فأما).

نفي الربوبية عن المخلوق ليس فيه تنقص له

ويقال له: قولك: (خصهم بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب) كلام مجمل؛ فماذا تريد به؟ أتريد به عدم صلاحيتهم للأسباب التي أثبتها الله -تعالى- لهم، مثل عدم صلاحية الملائكة للنزول بالوحي والعذاب وتدبير (¬1) العالم، وعدم صلاحية الرسول لتبليغ رسالة (¬2) الله ونحو ذلك، مما أثبته الله لهم، أو عدم صلاحيتهم لما اختص الرب -تبارك وتعالى-[به] (¬3) مثل أن يطلب منهم الأمور التي لا يقدر عليها غيره، وعدم صلاحيتهم لكونهم يُسألون ويدعون بعد موتهم، أو يطلب منهم كما يطلب من الله. فإن عنيت الأول فقائله أعظم جرمًا من أن يقال: نقصهم بعبارته، إذ قد يكون كافرًا، مثل أن يتضمن نفيه جحد رسالة الرسول، أو جحد نزول الملائكة عليه بالوحي، أو جحد ما يدخل في الإيمان من الإيمان بالملائكة، ولكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب. وإن أردت الثاني فليس في نفي خصائص الربوبية عن المخلوق نقص له يجب تنزيهه عنه، فضلًا [عن] (¬4) أن يجب نفيه عنه، فمن قال: لا إله إلا الله لم يكن قد نقص الملائكة والأنبياء بنفي الآلهية عنهم، (ومن قال: إن الملائكة والأنبياء) (¬5) ليسوا أربابًا ولا آلهة ولا يعبدون ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، كان (¬6) قد نفى عنهم ما يختص به الرب -تبارك وتعالى- ولم ينف عنهم (ما هم أسباب فيه) (¬7)، وإنما يكون نافيًا للأسباب إذا قال: لا شفاعة لهم ولا يشفعون لأحد ولا يدعون لأحد، أو دعاؤهم لا ينفع أحدًا، فهذا (¬8) باطل بل كفر، أو قال إنه لا يتوسل إلى الله بالإيمان بهم ومحبتهم ¬

_ (¬1) في (ف) (تدبّر). (¬2) في (ف) و (د) و (ح) رسالات. (¬3) كذا في (د) و (ح)، وسقطت من الأصل و (ف). (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل. (¬5) ما بين القوسين سقط من (د) وعليه إشارة للهامش وليس فيه شيء. (¬6) في (ف) (كما). (¬7) ما بين القوسين سقط من (د)، وفي (ط) الأسباب. (¬8) في (د) فهو.

تجويز البكري الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين في كل ما يستغاث بالله فيه

وطاعتهم، أو لا يتوسل إليه بدعائهم وشفاعتهم فهذا باطل بل كفر. وهذا المفتري لما قال إنه يجوز أن يستغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل، ما يستغاث بالله فيه؛ وأن ذلك صحيح في حق النبي والصالحين، وقال: (إن كل من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة؛ فقد استغاث به سواء كان حيًا أو ميتًا، وإن من سأله وطلب منه فقد استغات به، فاقتضى ذلك أنه يطلب منه حيًا وميتًا كل شيء، كما (¬1) يطلب من الله (¬2)، (ويطلب بالتوسل به حيًا وميتًا كل (¬3) ما يطلب من الله، وأن ذلك ثابت للصالحين أيضاً)، اقتضى كلامه أنه يطلب من المخلوق حيًا وميتًا كل ما يطلب من الخالق -سبحانه وتعالى-) (¬4). ومعلوم (¬5) أن هذا الذي قاله لو كان حقًا لم يجز نفي الاستغاثة به بوجه من الوجوه، كما لا يجوز نفي شفاعته التي أثبتها الله، ونفي استشفاع الناس به يوم القيامة كما نطقت به (¬6) النصوص، ونفي توسل الصحابة بشفاعته ودعائه في الدنيا. فمن قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع لأحد ولا يستشفع به، وإنه لم تكن الصحابة يستشفعون به فهو مفتر كذاب؛ بل هو كافر بعد قيام الحجة عليه. وأما من قال: إنه لا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، أو قال إنه لا يسأل بعد موته كما كان يسأل في حياته فهذا قد أصاب؛ فأين هذا من هذا!!. وأما من قال: إنه لا يقسم على الله بمخلوق ولا يتوسل بميت ولا يُسأل بذات مخلوق، فإن الصحابة إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، ولما مات لم (¬7) يتوسلوا بدعائه ولشفاعته ولم يتوسلوا بذاته، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه توسل إلى الله بميت [في دعائه] (¬8)، ولا أقسم به عليه. ¬

_ (¬1) في (د) (ما) بدون (كاف) وفي الهامش: "ويطلب بالتوسل به حيًا وميتًا". (¬2) في (د) الخالق -سبحانه وتعالى-. (¬3) في (ف) (شيء) عليها أثر شطب خفيف. (¬4) ما بين القوسين سقط من (د). (¬5) بياض في (ف) بمقدار كلمتين. (¬6) في (د) إشارة للهامش وفيه: "وأن ذلك ثابت للصالحين أيضاً"، ثم كلمة غير واضحة. (¬7) (لم) سقطت من (ف) و (د) و (ح). (¬8) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (بدعائه).

تحريم العلماء السؤال بحق الأنبياء

وهكذا قد قال أبو حنيفة وأبو يوسف (¬1) وغيرهما: إنه لا يجوز أن يقال: أسألك بحق الأنبياء، وكذلك قال أبو محمد ابن عبد السلام (¬2): إنه لا يقسم عليه بحق الأنبياء وتوقف في نبينا - صلى الله عليه وسلم - لظنه أن ذلك خبر (¬3) يخصه، وليس كذلك. فهذا وإن كان مصيبًا ففيه نزاع؛ فقد نقل عن بعض العلماء أنه لا يجوز أن يتوسل إلى الله به بعد موته، ونُقل ذلك (¬4) في منسك الحج الذي نقله المروذي (¬5) عن الإمام أحمد. وقد تنازع العلماء في القسم به، هل ينعقد به على قولين أشهرهما: أنه لا ينعقد اليمين به، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة [وأحد] (¬6) القولين في مذهب أحمد، والثاني تنعقد به اليمين وهو الرواية الأخرى عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه، وعلى هذه الرواية فهل الحلف يختص به؛ أو يُحلف بسائر الأنبياء؟ على وجهين أشهرهما الأول، والثاني ذكره ابن عقيل وغيره. ¬

_ (¬1) هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، البغدادي، صاحب أبي حنيفة وتلميذه، صاحب حديث وسنة تولى القضاء، ولُقب بقاضي القضاة، صنف "الخراج" و"الآثار" وغيرهما، وهو الذي استتاب بشرًا المريسي توفي سنة 182 هـ. انظر: السير 8/ 535 ترجمه رقم 249، والأعلام 8/ 193 وقد سبق الكلام على هذه المسألة في ص 225. (¬2) هو عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي، اشتهر بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، انتهت إليه رئاسة الشافعية، له "القواعد الكبرى والصغرى" وغيرها توفي 660 هـ. انظر: البداية والنهاية 13/ 264، والأعلام 4/ 21. ونص فتواه قال: "لما ذكر حديث الأعمى (وسيأتي تخريجه والكلام عليه) وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء". أ. هـ فتاوى العز بن عبد السلام خرج أحاديثه عبد الرحمن عبد الفتاح ص 126 - 127 الطبعة الأولى 1406 هـ, الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان. (¬3) في (د) (خيرًا). (¬4) (ذلك) سقطت من (د). (¬5) في (د) المروزي والصواب المروذي بالذال وسبق التعريف به في ص 192. (¬6) كذا في جميع النسخ، وفي الأصل "أحدى" وهو خطأ.

مذهب الجمهور أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق

فقد يقال: إن التوسل به والإقسام على الله به [هو] (¬1) من جنس الحلف به، فيكون النزاع في هذا كالنزاع في هذا (¬2). والصواب ما عليه الجمهور من أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق لا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره (¬3). ولكن لم يسم (¬4) أحد من الأمم هذا استغاثة، فإن الاستغاثة به (¬5) طلب منه لا طلب به، وهذا اعتقد جواز هذا بالإجماع وسماه استغاثة، فلزم جواز الاستغاثة به بعد موته بالإجماع (¬6)، فإذا (¬7) جاز أن يتوسل به في كل شيء جاز أن يستغاث به في كل شيء، ثم إنه لم يجعل هذا وحده معنى الاستغاثة؛ بل جعل الاستغاثة الطلب منه أيضاً، وكان لا يميز (¬8) بين هذا المعنى وهذا المعنى، بل يجوز عنده أن يستغيث به في كل ما يستغاث الله فيه؛ على معنى أنه وسيلة من وسائل الله في طلب الغوث، وهذا عنده ثابت للصالحين. ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح) , وسقطت من الأصل و (ف). (¬2) فرق المؤلف -رحمه الله- بين التوسل والإقسام، فقال: إن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة، والمقسم أعلى من هذا فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم. انظر: التوسل والوسيلة ص 115. (¬3) وقد قال بهذا الأئمة من المذاهب الأربعة، قال به ابن قدامة المقدسي من الحنابلة في المغني 11/ 209 وبهامشه الشرح الكبير، والقدوري من الحنفية: كما في اللباب في شرح الكتاب، تأليف عبد الغني الحنفي، تحقيق محمود أمين النواوي 4/ 5 طبعة دار الحديث، والاختبار لتعليل المختار تأليف عبد الله الموصلي الحنفي، تعليق الشيخ محمود أبو دقيقة 4/ 51 الطبعة الثالثة 1395 هـ الناشر دار المعرفة. وأبو عمر من المالكية في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق عبد الله صديق 14/ 367 - 368، وابن حجر من الشافعية في فتح الباري 11/ 651 - 652. (¬4) في (ف) (يسمه) وفي (د) فوق السطر (يسمى). (¬5) (به) سقطت من (ف). (¬6) من هنا يبدأ فراغ في وسط السطر في (ف) بمقدار ثلاث كلمات تقريبًا، في عدة أسطر، وليس في الكلام سقط. (¬7) في (ف) وإذا. (¬8) هنا انتهى الفراغ في أسطر (ف).

سبب خطأ البكري في الاستغاثة

والاستغاثة طلب الغوث [كالاستعانة] (¬1) والانتصار، وذلك ثابت في حياته، وهو ثابت عند هذا الضال بعد موته (¬2) بثبوتها في حياته، لأنه عند الله في مزيد دائم لا ينقص جاهه، فدخل عليه الخطأ من وجوه (¬3): منها: أنه جعل المتَوسِّل به بعد موته في الدعاء مستغيثًا به، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازًا؛ مع دعواه الإجماع على ذلك، وأن المستغاث به هو المسؤول المطلوب منه لا المسؤول به. والثاني: ظنه أن توسل الصحابة به في حياته كان توسلًا بذاته لا بدعائه وشفاعته؛ فيكون التوسل به بعد موته كذلك، وهذا غلط يوافقه عليه طائفة من الناس؛ بخلاف الأول فإني ما علمت أحدًا وافقه عليه. الثالث: أنه أدرج سؤاله أيضاً في الاستغاثة وهذا صحيح جائز في حياته، وهو قد سوى في ذلك بين محياه ومماته، وهنا أصاب في لفظ الاستغاثة؛ لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته ينقل عن أحد (¬4) من العلماء؛ لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري (¬5)، ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) كالاستغاثة. (¬2) في (د): موتها. (¬3) في هامش الأصل: (جاعلها في الأصل الخطاب ولا أظن ذلك)، قلت: لعله يقصد كلمة الخطأ. (¬4) (أحد) سقطت من (د). (¬5) هو أبو زكريا، جمال الدين يحيى بن يوسف بن يحيى الأنصاري، من أهل صرصر (قرية قرب بغداد) شاعر له منظومات في الفقه والعقيدة وغيرها منها: "المنتقى في مدائح الرسول - صلى الله عليه وسلم -، و"عقيدة" وغيرها، قاتل التتار يوم دخلوا بغداد بعكازه، فقتلوه سنة 656 هـ. انظر: البداية والنهاية 13/ 239، والأعلام 8/ 177 ومن شعره الذي أشار له شيخ الإسلام ابن تيمية قوله في قصيدته اللامية: يا رسول الله يا من مدحه ... من القوافي أقوم الألفاظ قيلا مسَّني ضرُّ عناه ثابت ... من ذنوب غادرت قلبي كليلا إلى غير ذلك مما قاله، وقد استشهد بشعره النبهاني في كتابه: شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، وغيره من القائلين بالاستغاثة بالمخلوق، كما سبقهم إلى ذلك البكري كما أشار المؤلف، وقد أول بعضهم بعض أقواله، لكن بعض شعره تأويله مشكل. انظر: غاية الأماني في الرد على النبهاني، للألوسي 2/ 342 - 345.

بعض حكايات غلاة الصوفية في الاستغاثة بشيوخهم

النعمان (¬1) كان له كتاب: "المستغيثين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة والمنام"، وهذا الرجل قد نقل [منه] (¬2) فيما يغلب على ظني، وهؤلاء لهم صلاح ودين؛ لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام؛ الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام ومعرفة الحلال والحرام، وليس معهم دليل شرعي؛ ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد؛ إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر (¬3) خطوات معدودة واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس وأكبر منه، [ومنهم] (¬4) من يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه، [ويدعو به] (¬5) ويدعون (¬6) عنده، وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أو سنة أو قول عن الصحابة والأئمة، وهؤلاء ليس عندهم إلا قول طائفة من الشيوخ: إذا كانت لكم حاجة فاستغيثوا [بي] (¬7)، وتعالوا إلي قبري ونحو ذلك؛ مما فيه تصويبه لأصحابه بالاستغاثة به حيًا وميتًا، ومعهم قول طائفة ¬

_ (¬1) انظر: المقدمة ص 47. (¬2) كذا في (ف) و (د) وفي الأصل (فيه) وفي (ح) (عنه). (¬3) هو محيي الدين أبو محمد، عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الجيلي أو الجيلاني، تنتسب إليه الطريقة القادرية، عليه مأخذ في بعض أقواله، وبعض ذلك مكذوب عليه، له: "الغنية لطالب طريق الحق" وغيرها. توفي في بغداد سنة 561 هـ. انظر: سير 20/ 439 ترجمة رقم 286، والأعلام 4/ 47. وانظر هذه الحكايات الباطلة في: "بهجة الأسرار ومعدن الأنوار" لنور الدين الشنوطي ت 713 هـ، نقلًا عن دراسات في التصوف تأليف إحسان إلهي ظهير ص 249 وما بعدها, الطبعة الأولى 1409 هـ, الناشر إدارة ترجمان السنة لاهور - باكستان. (¬4) بياض في جميع النسخ بمقدار كلمتين، وفي هامش الأصل: (بياض في الأصل) وما بين المعقوفين من (ط). (¬5) كذا في (ف) وفي، (د) و (ح) (ويدعوا)، وفي الأصل (ويدعونه)، وفي الهامش: لعله (ويدعوا به). (¬6) في (ف) و (د) و (ح) يدعوا. (¬7) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) به وفي هامش الأصل لعله: "فاستغيثوا بي".

أخرى: قبر معروف أو غيره ترياق مجرب، والدعاء عند قبر الشيخ (¬1) مجاب ونحو ذلك، ومعهم أن طائفة من الناس استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض تلك الحوائج وأخبر ببعض ما سئل عنه. وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء أو (¬2) الصالحين أو (¬3) الكواكب والأوثان، فإن الشياطين كثيرًا ما تتمثل لهم فيرونها قد تخاطب أحدهم ولا يراها. ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال (¬4) المقام، وكلما كان القوم أعظم جهلًا وضلالًا كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر، وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو طعام أو لباس أو غير ذلك، وهو لا يرى أحدًا أتاه به، فيحسب ذلك كرامة؛ وإنما هي من الشيطان، وسببه شركه بالله وخروجه عن طاعة الله ورسوله إلى طاعة [الشياطين] (¬5)، فأضلتهم الشياطين (¬6) بذلك كما كانت تضل عُباد الأصنام، ومثل هذه الأحوال لا تكون من كرامات أولياء الله المتقين. ثم انقسموا حزبين: حزبًا رأوا فيمن (¬7) يفعلها من الكفر والفسوق والعصيان ما يخرجه عن كونه من أولياء الله المتقين، (وكذبوا بما ينقل عنه من ذلك، وحزبًا رأوا ذلك منه أو يثبت بالنقل المتواتر عن واحد أو عدد من ذلك ما يوجب حصول مثل ذلك لهؤلاء، فيظنون أنهم من أولياء الله المتقين) (¬8). ثم من هؤلاء من يقول: من أولياء الله من له طريق إلى الله غير مبايعة الرسل، ومن هؤلاء من يفضل كثيرًا من الأولياء على الأنبياء، ومنهم من يقول: هؤلاء يتصرفون بالقدر (¬9) والمشيئة تصرفًا خرجوا به عن حكم وجوب ¬

_ (¬1) في (ط) زاد الناسخ كلمة (فلان) وجعلها بين معقوفين، وهي شرح للمعنى. (¬2) (أو) في (د) و (ح) واو. (¬3) (أو) في (د) واو. (¬4) في (د) و (ح) (لطال هذا). (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل شيطان. (¬6) في (ف) الشيطان. (¬7) في (د) فيما. (¬8) ما بين القوسين ساقط من (د). (¬9) في (د) القدرة.

حكايات كفرية يزعمون أنها من حقائق العارفين وأسرار أولياء الله

طاعة الأنبياء عليهم، وصاروا غير مكلفين بأمر الأنبياء ونهيهم. ويذكرون حكايات يظنونها صدقًا، منها أن أهل الصفة قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار لما [انهزم] (¬1) بعض أصحابه يوم أحد وحنين، فقال لهم: يا أصحابي أين تذهبون وتدعوني؟ فقالوا: نحن مع الله، من كان الله معه كنا معه. ومرادهم أن كل من معه القدر كانوا معه؛ وإن كان كافرًا أو فاسقًا؛ من غير نظر في العاقبة ولا في وعد الله ووعيده. ويذكرون ما هو أعظم كفرًا من هذه الحكاية، وهو أن الله -تعالى- أطلع رسوله على سر (¬2) ليلة المعراج وأمره أن لا يخبر به أحدًا، وأنه رأى أهل الصفة يتكلمون به، فقال لهم: من أين لكم هذا؟ فقالوا: أخبرنا الله به، فقال: يا رب ألم تأمرني أن أكتم هذا السر؟ فقال: أنا أمرتك أن تكتمه، وأنا أخبرهم به. وقد ذكر لي هذه الأمور غير واحد من كبار شيوخ هؤلاء عن غير واحد من شيوخهم (¬3)؛ فبيّنت لهم كذب هذا، حتى قلت لبعضهم: الصفة إنما كانت بالمدينة، والمعراج كان بمكة فلم يكن ليلة المعراج أحد يُذكر أنه من أهل الصفة (¬4). وأعظم من هذا كفرًا ما يذكره بعضهم أن الله أمر نبيه بزيارة أهل الصفة، وأنه ذهب ليزورهم فلم يفتحوا له الباب، وقالو له: اذهب إلى من أرسلت إليه فإنه لاحاجة لنا بك، وأنه عاد إلى ربه فأمره أن يذهب إليهم ويتأدب معهم؛ ويقول: خادمكم محمد جاء ليزوركم (¬5)، ونحو هذه الكفريات التي لا يقولها إلا من هو أبعد الناس عن الإيمان بالله ورسوله. ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (نهزم) بدون همزة. (¬2) في هامش (د) سر الأسرار. (¬3) في هامش (د) شيوخهم الكبار. (¬4) في هامش (د) في نسخة: "فلم يكن ليلة المعراج أحد يعرف الصُّفَّة ولا أهلها، والصُّفَّة إنما كانت بمسجد المدينة، والمسجد إنما بني بعد الهجرة، والهجرة كانت بعد المعرج بمدة". (¬5) في هامش الأصل (سبحان الله ما أعظم هذه الفرية، ومن أكفر ممن اعتقد هذا، أعوذ بالله من زيغ القلوب ورين الذنوب)، وفي هامش (د) في نسخة: (وكل هذا كفر من قائله ومعتقده فإن هذه) [كذا].

إجماع علماء مصر على موافقة ابن تيمية في رسالة الاستغاثة

ومع هذا فهي أصحابها من حقائق العارفين وأسرار أولياء الله المصطفين خواص الرب، الذين هم أفضل من الأنبياء والمرسلين عند أصحابهم هؤلاء الكفار، الذين هم أكفر من اليهود والنصارى. فهذه حكايات في آثار حصلت لبعض من استغاث ببعض المخلوقين الميتين والغائبين، وعندهم عادات وجدوا عليها سلفهم [ممن] (¬1) كان له نوع من العلم والعبادة والزهد، فليس معهم بذلك حديث يروى، ولا نقل عن [صحابي] (¬2) ولا تابعي ولا قول إمام مرضي. ولهذا لما نُبه من نُبه من فضلائهم على ذلك تنبهوا وعلموا أنّ ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام؛ بل هو مشابهة لعباد الأصنام. لكن هؤلاء كلهم ما فيهم من يَعُدُّ نفي هذا والنهي عنه كفر؛ إلا مثل هذا الأحمق الضال، الذي حاق به وبيل النكال فإنه من غلاة أهل البدع الذين يبتدعون القول ويكفرون من خالفهم فيه، كالخوارج والروافض والجهمية، فإن هذا القول الذي قالوه لم يوافقهم عليه أحد من علماء المسلمين الأولين والآخرين. وقد طاف بجوابه علي علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه، وقد كان بعض الناس يوافقه على جواز التوسل بالنبي الميت؛ لكنهم لم يوافقوه على تسميته استغاثة، ولا على كفر من أنكر الاستغاثة به (¬3)، ولا جعلوا هذا السبب، بل عامتهم وافقوا على منع الاستغاثة به؛ بمعنى أن يطلب منه ما لا يقدر عليه. ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (فمن). (¬2) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) (صاحب) وهي صحيحة، ولكن ما أثبت أعلاه موافق لما بعدها. (¬3) في الأصل "بمعنى أنه يطلب منه" ومشطوب عليه، قال الألوسي عن المؤلف لما نقل إجماع علماء مصر في زمنه: وهو ثقة فيما يحكيه بالإجماع. أ. هـ غاية الأماني في الرد على النبهاني 2/ 348. وانظر: المقدمة ص 22، فقد عقد للشيخ مجلس في شوال سنة 707 هـ في قضية الاستغاثة ولم يثبت عليه شيء.

مناظرة المؤلف للمبتدعة وانتصار الحق

وما علمت عالمًا نازع في أن الاستغاثة بالنبي وغيره من المخلوقين بهذا المعنى لا تجوز، مع أن قومًا كان لهم غرض (¬1) وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قيامًا عظيمًا، واستعانوا بمن كان له غرض من ذوي السلطان، وجمعوا الناس؛ وعقدوا مجلسًا عظيمًا ضل فيه سعيهم، وظهر فيه جهلهم، وخاب فيهم قصدهم، وظهر فيه الحق لمن كان يعاونهم من الأعيان؛ وتمنوا أن ما فعلوه ما كان، لأنه كان سببًا لظهور الحق مع الذي عادوه وقاموا عليه وسببًا لانقلاب [الخلق] (¬2) إليه، وكانوا كالحافر (¬3) حتفه بظلفه، والجادع مارن (¬4) أنفه بكفه، مع فرط [عصبيتهم] (¬5) وكثرة جمعهم وقوة سلطانهم ومكايدة شيطانهم. وهذه الطريقة التي سلكها هذا وأمثاله هي لطريقة أهل البدع؛ الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة ويكفّرُون من خالفهم في بدعتهم، كالخوارج المارقين الذين ابتدعوا ترك العمل بالسنة المخالفة في زعمهم للقرآن، وابتدعوا التكفير بالذنوب، وكفّروا من خالفهم حتى كفّروا عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومن والاهما من المهاجرين والأنصار وسائر المؤمنين. نقل الأشعري في كتاب المقالات أن الخوارج مجمعة على تكفير علي -رضي الله عنه- (¬6). وكذلك الرافضة ابتدعوا تفضيل علي على الثلاثة وتقديمه في الإمامة والنص عليه، ودعوى (¬7) العصمة له، وكفّروا من خالفهم، وهم جمهور ¬

_ (¬1) في هامش (د) في نسخة: "غرض وهوى من ذوي السلطان". (¬2) كذا في (د) وفي الأصل و (ف) و (ح) الحق. (¬3) في (ف) كالحامل. (¬4) المارن هو ما دون قصبة الأنف، وهو ما لان منا،، والجمع مَوَارِن. المصباح المنير ص 217 مادة (مرن). (¬5) كذا في (ح) وفي الأصل و (د) عصبهم، وفي (ف) عصبتهم. (¬6) انظر: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (1/ 167)، وزاد: وهم مختلفون: هل كفره شرك أم لا؟. (¬7) في (ف) (وادعوا).

الصحابة وجمهور المؤمنين حتى كفّروا أبا بكر وعمر وعثمان ومن تولاهم (¬1)، هذا الذي عليه أئمتهم (¬2). وكذلك الجهمية ابتدعت نفي الصفات المتضمن في الحقيقة لنفي الخالق ونفي صفاته وأفعاله وأسمائه؛ وأظهرت القول بأنه لا يرى؛ وأن كلامه مخلوق خلقه في غيره لم يتكلم هو بنفسه وغير ذلك، ثم إنهم امتحنوا الناس فدعوهم إلى هذا وجعلوا يكفّرون من لم يوافقهم على ذلك. وكذلك القدرية ابتدعت التكذيب بالقدر؛ وأنكرت مشيئة الله النافذة وقدرته التامة وخلقه لكل شيء، وكفّروا أو [منهم] (¬3) من كفّر من خالفه. وكذلك الحلولية والمعطلة [للذات] (¬4) والصفات يُكفر [كثير] (¬5) منهم من خالفهم، فالذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان منهم من يكفّر من خالفه، والذين يقولون: إنه لا مباين للمخلوقات ولا حال (¬6) فيها فمنهم من يكفّر من خالفه (¬7). والذين يقولون ليس كلامه إلا معنًى واحد قائمًا بذاته، ومعنى التوراة والإنجيل (والقرآن واحد) (¬8)، والقرآن العزيز ليس هو كلامه؛ بل كلام جبرائيل (¬9) أو غيره، فمنهم من يُكفّر من خالفه. ¬

_ (¬1) في (د) توليهم. (¬2) انظرت التنبيه والرد ص 45، ومقالات الإسلاميين 1/ 89، بل إنهم كفّروا الزيدية وهم منهم، ومعاصروهم يصرحون بهذا. انظر: أصول مذهب الشيعة الإمامية، تأليف د. ناصر القفاري 2/ 716 وما بعدها الطبعة الثانية 1415 هـ. (¬3) كذا في (ط) وفي جميع النسخ تأخرت الكلمة هكذا (أو من كفر منهم من) ولا يصح لها معنى. (¬4) كذا في (د) و (خ) وفي الأصل و (ف) في الذات. (¬5) كذا في (ح) و (د) و (ف)، وفي الأصل كثيرًا. (¬6) في (د) و (ح) ولا عال عليها. (¬7) في هامش الأصل (قلتُ: العجب ممن نجا كيف نجا ليس العجب من هلك كيف هلك، ولهذا لم يقنع من قريش بعبادة الأصنام حتى صيّرهم مجانين يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء). (¬8) ما بين القوسين سقط من (د). (¬9) في (ف) و (د) و (ح) جبريل، وهذا هو مذهب الكلَّابية والأشاعرة والماتريدية. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12/ 376 - 377 وشرح المقاصد 4/ 152 =

طريقة أهل السنة والجماعة العلم والعدل والرحمة

والذين يقولون بقدم بعض أحوال العبد، كالذين يقولون بقدم صوته بالقرآن أو قدم بعض أفعاله أو صفاته، وقدم أشكال المداد، فمنهم من يكفّر من خالفه (¬1). بل والذين يقولون بقدم روح العبد أو بقدم كلامه مطلقاً أو قدم أفعاله الصالحة أو (¬2) أفعاله مطلقاً، فمنهم من يكفّر من خالفه. والذين يقولون إن الله يُرى بالأعين في الدنيا (¬3)، منهم من يُكفّر من خالفه. والذين يُهينون المصحف وربما كتبوه بالنجاسة فمنهم من يُكفّر من خالفه، ونظائر هذا متعددة. وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان؛ فيهم العلم والعدل والرحمة؛ فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة: 8]، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء؛ بل إذا عاقبوهم وبيَّنوا خطأهم وجهلهم وظلمهم؛ كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله وأن تكين كلمة الله هي العليا. فالمؤمنون أهل السنة هم يقاتلون في سبيل الله ومن قاتلهم يقاتل في ¬

_ = وما بعدها، والعقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية، تأليف عبد الله الجديع ص 297 - 299 الطبعة الثانية 1416 هـ، الناشر دار الإمام مالك ودار الصميعي الرياض، وقد أفرد الجديع فصلاً في الرد عليهم. انظر: ص 345 وما بعدها. (¬1) وهذا مذهب بعض السالمية ومن وافقهم. انظر: السالمية للمحقق 2/ 482 - 491، رسالة دكتوراه، والعقيدة السلفية في كلام رب البرية ص 300 - 301؛ والسالمية هم أتباع أبي الحسن أحمد بن محمد بن سالم البصري (ت 327 هـ تقريباً). انظر: السالمية للمحقق 1/ 34 - 35. (¬2) في (د) (واو). (¬3) قال به بعض الصوفية. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5/ 79 - 489 - 490، والسالمية للمحقق 2/ 581 - 589.

شرطا قبول العمل: الإخلاص والمتابعة

سبيل الطاغوت، كالصديق أهل الردة، وكعلي بن أبي طالب مع الخوارج المارقين ومع الغلاة والسبائية (¬1)، فأعمالهم خالصة لله -تعالى- موافقة للسنة، وأعمال مخالفيهم لا خالصة ولا صواباً؛ بل بدعة واتباع هوى، ولهذا يسمون أهل البدع وأهل الأهواء. قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة (¬2). فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك؛ ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله. وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأيضاً فإن تكفير الشخص المعيّن وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يُكفر. ولهذا لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون (¬3) ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، والصواب السبئية وهم: أصحاب عبد الله بن سبأ، قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 4/ 518: "هو رأس المنافقين، أظهر الإسلام وأراد فساد دين المسلمين، كما أفسد بولس دين النصارى". أ. هـ. وهو الذي يقال له ابن السوداء، كان يهودياً من أهل صنعاء فأسلم لا رغبة فيه بل لفساد، له دور كبير في أحداث الفتنة التي قُتل فيها عثمان -رضي الله عنه-، ادعى هو وأصحابه في علي -رضي الله عنه- الإلهية. انظر: مقالات الإسلاميين 1/ 86، والملل والنحل 1/ 174، وعقائد الثلاث وسبعين 1/ 472. (¬2) انظر: حلية الأولياء 8/ 95 الطبعة الرابعة 1405 هـ. (¬3) هو أبو عمرو، قدامة بن مظعون الجمحي، من السابقين للإسلام هاجر للحبشة، وشهد بدراً، وليّ إمرة البحرين لعمر، شرب مرة الخمرة متأولاً، فحده عمر، وعزله من إمرة البحرين توفي سنة 36 هـ. انظر: السير 1/ 161 ترجمة رقم 10، والأعلام 5/ 191. =

موقف المؤلف من تكفير الجهمية من الحلولية والنفاة

وأصحابه شرب الخمر؛ وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحاً على ما فهموه من آية المائدة؛ اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة التي عرضت [لهم] (¬1) حتى يتبيّن لهم الحق، فإن أصروا على الجحود كفروا. وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، فأمر الله البَرَّ فرد ما أخذ، وأمر البحر فرد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما فعلت، قال خشيتك يا رب فغفر له" (¬2)، فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته، وأنه لا يعيده أو جوز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلاً لم يتبيّن له الحق فغفر له. ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون (¬3) الله -تعالى- فوق العرش لما وقعت محنتهم، أن لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم (¬4). ¬

_ = وأخرج هذه القصة كاملة عبد الرزاق في مصنفه 9/ 240 رقم 1076، والبيهقي في السنن 8/ 316 باب من وجد منه ريح شراب أو لقي سكران، وقال شعيب الأرنؤوط في حاشية السير 1/ 161 رجاله ثقات. أ. هـ. (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (عليهم). (¬2) أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب حديث أبو اليمان أخبرنا شعيب) رقم 3481، 2/ 1082 وطرفه رقم 3478، ومسلم في (كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله) رقم (2756) ورقم (2757) (4/ 2110) بألفاظ متقاربه وقريبة من لفظ المؤلف. (¬3) (يكون) سقطت من (د). (¬4) سُئل العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين -رحمه الله- عن كلام المصنف أعلاه فقال في مجموع مخطوط: "تضمن كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- مسألتين أحدهما: عدم تكفيرنا لمن كفرنا وظاهر كلامه أنه سواء كان متأولاً أم لا، وقد صرح طائفة من العلماء أنه إذا قال ذلك متأولاً لا يكفر ...... والمسألة الثانية: إن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها ... إلخ، يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة، وقد صرح بذلك في =

عدم مقابلة المؤلف للبكري بمثل جهله وتكفيره

وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، فكان هذا خطابنا. فلهذا لم يقابل جهله وافتراؤه بالتكفير بمثله، كما لو شهد شخص بالزور على شخص، أو قذفه بالفاحشة كذباً عليه لم يكن له أن يشهد عليه بالزور ولا أن يقذفه بالفاحشة. وقد كفانا ذلك شيخه وغيره من الناس، فبيّنوا من ضلاله وجهله ما (¬1) ذكروه وذموه وعابوه وتنقصوه (¬2) به كما هو معروف عن شيخه الجزري وغيره من أهل العلم. والمقصود هنا أن قوله: (ومن خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم فقد تنقصهم (¬3) بعبارته) فهي كلمة حق أريد بها باطل (¬4). ونحن نقول بموجب هذا الكلام وهو معناه الصحيح فإن من نفى ما يستحقونه من [الرتبة] (¬5) وما يصلحون له من الأسباب فهو مفتر كذاب، لكن الشأن [ليس] (¬6) المنفي هو من هذا الباب، ولو لم تقابل دعواه إلا بالمنع ¬

_ = موضع آخر، ونقل ابن عقيل عن الأصحاب أنه لا يعاقب ... قال: وهذا جارٍ على ما تقرر في الأصول لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح .. فمن بلغته رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة فلا يعذر في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا عذر بعد ذلك بالجهل، وقد أخبر سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم. أ. هـ. باختصار. انظر: مجموع يشتمل على رسائل وفوائد كثيرة أصولية ومنظومة ومديح ومراثي، تأليف العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين وآخرين، جمع عبد الله الربيعة (مخطوط) قسم المخطوطات جامعة الملك سعود رقم 3422/ 9 ص 30 - 33. (¬1) كذا في جميع النسخ والأولى (بما). (¬2) في (ف) وتنقصوا. (¬3) في (ف) و (د) و (ح) نقصهم. (¬4) في (د) باطلاً. (¬5) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) الربوبية وفي الأصل عليها إشارة للهامش وليس فيه شيء. (¬6) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف).

الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه قد تكون سببا وقد لا تكون

لكفانا، فإنه يقال له: لا نسلم أن الاستغاثة بهم مشروعة في كل ما يستغاث فيه بالله، ولا أنها وسيلة من وسائل الله في ذلك كله، بل سلمنا أن الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه قد نكون سبباً وقد لا تكون، فإن الناس يستغيثون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة في الشفاعة فيشفع لهم، ويستغيث به من أنذره في دفع الذنوب فيقول: "لا أملك لك من الله شيئاً" كما في الحديث الصحيح، "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك (¬1) شيئاً قد أبلغتك". وليس كل من طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يقدر عليه يعطيه إياه؛ إذ قد يكون ذلك غير جائز، كما في الصحيح أنه سأله الفضل بن عباس وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أن يوليهما على الصدقات فلم يجبهما وقال: "إنها أوساخ الناس، وإن الصدقة لا تحل لمحمد و [لا] (¬2) لآل محمد" (¬3). وكذلك سأله وفد هوازن السبي والمال فبذل لهم إحدى الطائفتين، وسألته أم حبيبة أن يتزوج أختها فقال: "إنها لا تحل لي" (¬4). بل يقال: لا نسلم أن التوسل، بذاتهم مشروعة بحال في الحياة والممات، وليس في شيء مما ذكر دليل على مورد النزاع، فإن مضمون ما ذكره جُملٌ: أحدها: أن الاستغاثة طلب الإغاثة والتخلص من الكربة والشدة، وأن ¬

_ (¬1) في (د) زاد (من الله). (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل. (¬3) أخرجه مسلم في (كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة) 2/ 752 رقم 1072، وأبو داود في (كتاب الخراج والإمارة، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى) / 386 رقم 1985، والنسائي في (كتاب الزكاة، باب استعمال آل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة) 5/ 105 رقم 2607 وغيرهم بألفاظ متقاربة وقريبة جداً من لفظ المؤلف. (¬4) أخرجه البخاري في (كتاب النكاح، باب ما يحل من النساء وما يحرم) رقم 6106، 4/ 1645 من حديث أم حبيبة، وطرفه 5107 ولفظه عن أم حبيبة قالت: قلت يا رسول الله، هل لك في بنت أبي سفيان؟ قال: "فأفعل ماذا"، قلت: تنكح، قال: "أتحبين"؟ قلت: لست لك بمُخلية، وأحب من شركني فيك أختي، قال: "إنها لا تحل لي" ... الحديث. وأم حبيبة هي، أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان -رضي الله عنهما-.

جهل البكري وهواه أوقعه في الكذب

الإغاثة تضاف إلى المخلوق كما يُضاف إليه الإطعام والاستعانة والإعانة والهداية والتعليم، وهذا صحيح، وليس فيه أن الميت يستغاث به، كما أنه ليس فيه أن (¬1) يستطعم ويستسقى ويستهدى ويستنصر ويستغاث به، ولا فيه أن ما كان من هذا الباب لا يقدر عليه إلا الله فإنه يطلب من غيره. والجملة الثانية التي من كلامه: أن من توسل إلى الله -تعالى- بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به؛ سواء كان بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيرهما مما [في] (¬2) معناهما، وقول القائل: أتوسل إليك يا إلهي برسولك عندك أن تغفري لي، استغاثة بالرسول حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم. وهذا الكلام كذب باطل لم يسبقه إليه أحد، ولا ريب أنه لجهله وهواه وقع في هذا، وإلا فما تعمد أن يقول ما يعلم أنه كذب، ولم يقل أحد قط أستغيث برسولك عندك، ولا هذا عند أحد، لا العرب ولا غيرهم، وهو ظن أن الباب في التوسل كالباب في الاستغاثة وليس كذلك، فإنه يقال: استغاثه واستغاث به، كما يقال (¬3): استعانه واستعان به، فالمستغاث به هو المسؤول، وأما المتوسل به فهو الذي يتسبب به إلى المسؤول. الجملة الثالثة: قوله: (إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته؛ لأنه عند الله في مزيد دائم (¬4) لا ينقص جاهه)، وهذا لفظ صحيح لو كان معنى الاستغاثة: الإقسام به والتوسل بذاته، فإن ذاته بعد الموت لم تنقص، بل هي في مزيد دائم من ربه -عز وجل- بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -، لكن هذه المقدمة باطلة كما قد عرف، فأما إذا كان معنى الاستغاثة هو الطلب منه، فما الدليل على أن الطلب منه ميتاً كالطلب منه حياً؟ وعلو درجته بعد الموت لا يقتضي أن يسأل، كما لا يقتضي أن يستفتى، ولا يمكن أحداً أن يذكر دليلاً شرعياً على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع، بل الأدلة الدالة على تحريم ذلك كثيرة. حتى إذا قُدر أن الله وكَّلهم (¬5) بأعمال يعملونها بعد الموت؛ لم يلزم من ¬

_ (¬1) في (د) و (ح) أنه. (¬2) كذا في (د) و (ف) و (ح)، وفي الأصل (فيه). (¬3) في (د) أنه. (¬4) في (د) ثم وهي زيادة. (¬5) في (د) و (ح) يكلفهم.

رد احتجاج القبورية بحديث الأعمى

ذلك جواز دعائهم، كما لا يجوز دعاء الملائكة؛ وإن كان الله وكلهم بأعمال يعملونها لما في ذلك من الشرك والذريعة إلى الشرك. وهو قد احتج بحديث الأعمى الذي قال: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة" (¬1) وهذا الحديث لا حجة فيه لوجهين. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في (كتاب الدعوات، باب 118) 5/ 569 رقم 3578 ولفظه عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك", قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في"، قال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبي جعفر الخطمي. وبهذا اللفظ أخرجه ابن ماجه في (أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الحاجة) 2521 رقم 1381 والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 417 رقم 659 وعبد الله ابن الإمام أحمد في المسند 4/ 138 والحاكم في المستدرك 1/ 313 وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه البيهقي في الدلائل (باب ما في تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه حين لم يصبر وما ظهر في ذلك من آثار النبوة) 6/ 166 ولفظه: " ... قال: "فإن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت الله" ... نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضيها، اللهم شفعه في وشفعني في نفسي"، قال البيهقي: هذا لفظ العباس زاد محمد بن يونس في روايته قال: فقام وقد أبصر، ورويناه في كتاب الدعوات بإسناد صحيح عن روح بن عبادة شعبة, ففعل الرجل فبرأ، وكذلك رواه حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي، وبهذا اللفظ أخرجه النسائي أيضاً في عمل اليوم والليلة ص 417 رقم 658 وعبد الله ابن الإمام أحمد في المسند 4/ 138 وزاد قال: فكان يقول هذا مراراً ثم قال بعد: أحسب أن فيها أن تشفعني فيه، ففعل الرجل فبرأ، وقد أخرجه غيرهم. وهنا وقفات: أولاً: في الحديث اختلاف في الإسناد قال النسائي في عمل اليوم الليلة ص 418: خالفهما هشام الدستوائي فقال: عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن خراشة. عن أبي أمامة بن سهل عن عثمان. أ. هـ. وفي الإسناد السابق عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة. وأما في المتن فالترمذي ومن معه لم يستوعبوا لفظه كما استوعبه سائر العلماء بل رووه إلى قوله: "اللهم شفعه في". ومدار الحديث على أبي جعفر الخطمي وعليه الاختلاف في إسناد هذا الحديث، ومتنه، وقد تفرد بهذا الحديث فإنه يدور عليه وحده، وليس له متابعات ولا شواهد. انظر: حاشية قاعدة جليلة ص 189. ورأى طائفة من أهل العلم ضعف الحديث، لأن أبا جعفر فيه كلام، وبعضهم ضعف =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الإسناد لأجل عدم التثبت أن أبا جعفر هو الخطمي، معتمدين على نفي الترمذي أن يكون هو الخطمي كما نقل ابن تيمية عنه في قاعدة جليلة ص 168. انظر: صيانة الإنسان ص 127، وهذه مفاهيمنا، تأليف الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ص 36، طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض. وذهب العلامة الألباني في التوسل في أنواعه وأحكامه، تنسيق محمد عيد العباسي ص 6 (الطبعة الخامسة 1406 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان) إلى أن الإسناد جيد لا شبهة فيه. أ. هـ وهذا هو الراجح. ثانياً: أن لفظة: "يا محمد" والتي يتمسك بها بعضهم في دعاء الميت والغائب لم ترد في كل روايات الحديث، وورد في بعض ألفاظ الحديث "إني أتوجه به إلى ربي". انظر: الرد على القبوريين تأليف حمد آل معمر ص 85، وفي حال ثبوتها فهي دالة على خطاب الحاضر في القلب مثل التشهد. ثالثاً: التوجه في الحديث لابد أن يكون بواحد من ثلاثة أمور: 1 - أتوجه إليك بجسد نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -. 2 - أتوجه إليك بجاه نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -. 3 - أتوجه إليك بدعاء نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -. واستدل المتصوفة بالحديث على التوسل والتوجه بالذات والجاه ولم يذكروا دليلاً سوى قصة سيأتي ذكرها، واستدل السلف بهذا الحديث على التوسل بالدعاء للأدلة التالية: 1 - أن الأعمى إنما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليدعو له، وذلك قوله: "ادع الله أن يعافيني" فهو قد توسل إلى الله -تعالى- بدعائه - صلى الله عليه وسلم -، لأنه يعلم أن دعاءه - صلى الله عليه وسلم - أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة إلى أن يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويطلب منه الدعاء، بل كان يقعد في بيته، ولكنه لم يفعل هذا، لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم. وأن التوسل لابد فيه من طلب الدعاء من المتوسل به. 2 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو أفضل له، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك". 3 - إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: "فادع"، فهذا يقتضي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا له، لأنه - صلى الله عليه وسلم - خير من وفى بما وعد وقد وعده بالدعاء. 4 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه الأعمى إلى التوسل بالعمل الصالح وهو توسل مشروع، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه، وهذه الأعمال طاعة لله يقدمها بين يدي دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له. 5 - زعم بعض الصوفية أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إشئت دعوت"، أي إن شئت علمتك دعاء تدعو به، ولقنتك إياه، وهذا التأويل واجب عندهم ليتفق أول الحديث مع آخره، والجواب أن آخر الحديث: "اللهم فشفعه في، وشفعني فيه" تفسير للدعاء، أي: اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته - صلى الله عليه وسلم -. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 6 - أن العلماء ذكروا هذا الحديث في معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه. 7 - لو كان التوسل في هذا الحديث بذاته وجاهه - صلى الله عليه وسلم - كما يفهمه هؤلاء المتأخرون، لكان المفروض أن يحصل الشفاء لغير هذا الأعمى، وبالذات من الصحابة -رضي الله عنهم - وهم أقرب الناس إليه ومعرفة به. 8 - أن الجميع يتفقون على حذف المضاف وهو أمر معروف في اللغة، والتقدير إما أن يكون: 1 - إني أتوجه إليك (بدعاء) نبيك، ولابد للترجيح من دليل يدل عليه، وليس في الحديث أي إشارة أو ذكر للذات أو الجاه، وليس في الكتاب أو السنة أو فعل الصحابة ما يدل على التوسل بالذات أو الجاه، وأما الدعاء فعليه أدلة كثيرة من طلب الدعاء وقوله "وشفعني فيه" وغيرها. انظر: قاعدة جليلة ص 191 وما بعدها، وتلخيص الاستغاثة ص 129 - 130، والتوسل للألباني ص 76 وما بعدها، وهذه مفاهيمنا ص 37، وكشف المتواري من تلبيسات الغماري، تأليف علي حسن عبد الحميد ص 65 وما بعدها (الطبعة الأولى 1410 هـ، الناشر دار ابن الجوزي الدمام). 9 - أن التوسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - توسل مشروع موافق لنصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة -رضي الله عنهم-, مثل توسل عمر بدعاء العباس، ولو كان مشروعاً التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاهه لما عدل عنه ووافقه الصحابة، وكذلك معاوية توسل بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي رضي الله عنهم أجمعين. فإذا تبين بحمد الله أنه لا دليل لهم في هذا الحديث، فإنهم استدلوا بقصة أخرجها البيهقي في دلائل النبوة تحقيق د. عبد المعطي قلعجي 6/ 168 (الطبعة الأولى 1405 هـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت لبنان) قال: أخبرنا أبو سعيد إسماعيل بن شبيب، حدثنا أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني، عن أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- في حاجته، وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي، واذكر حاجتك، ثم رُح حتى أرفع، فانطلق الرجل وصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فجاء البواب، فأخذ بيده فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطنفسة، فقال: انظر: ما كانت لك من حاجة، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلمته، فقال له عثمان بن حنيف: ما كلمته ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد جاءه رجل ضرير، .. وذكر الحديث". قال البيهقي قد رواه أحمد بن شبيب [بن] سعيد عن أبيه بطوله. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرج هذه القصة أيضاً الطبراني في المعجم الصغير 1/ 183 - 184 والكبير 9/ 17 وقال في الصغير: لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه (في الأصل أحمد بن أحمد) أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي. وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد وهو ثقة وتفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة والحديث صحيح. أ. هـ. وظن بعضهم أن تصحيح الطبراني للقصة، والصواب أنه للحديث المرفوع دون القصة، ويدل على ذلك أول كلامه "لم يروه عن روح ... " إشارة إلى توهين القصة. وعلل هذه القصة ما يلي: أولاً: تفرد شبيب بن سعيد بها كما قاله الطبراني وقد رواها عنه عبد الله بن وهب عند الطبراني، وأحمد وإسماعيل أبناء شبيب عند البيهقي، أما ابن وهب فقال ابن حجر في التقريب 1/ 411 رقم 2747 عن شبيب: لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه، لا من رواية ابن وهب. أ. هـ. وقال ابن حجر أيضاً في هدي الساري مقدمة فتح الباري ص 575: أخرج البخاري من رواية ابنه أحمد عن يونس أحاديث ولم يخرج من روايته عن غير يونس ولا من رواية ابن وهب عنه شيئاً. أ. هـ وقال ابن عدي في الكامل 4/ 31 رقم الترجمة 891 في ترجمة شبيب: حدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير ... ثم قال: وكان شبيباً إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب نسخة يونس عن الزهري إذا هي أحاديث مستقيمة، ليس هو شبيب بن سعيد الذي يحدث عنه ابن وهب بالمناكير الذي يرويها عنه، ولعل شبيباً بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه فيغلط ويهم، وأرجو أن لا يتعمد شبيب هذا الكذب. أ. هـ. فالطعن في شبيب قائم إذا كانت روايته عن غير يونس، ولو من رواية ابنه أحمد، وابن عدي أحال الغلط على شبيب لا على ابن وهب وهذا صحيح. انظر: قاعدة جليلة ص 194. فتبيّن أن رواية ابن وهب عن شبيب منكرة جميعاً ومنها هذا الحديث. وأما رواية ابنه أحمد فمشروطة بكونها عن يونس بن يزيد كما ذكره ابن عدي، وابن حجر عن فعل البخاري، وما يُشعر به كلام الطبراني بقوله: وهو الذي يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد. أ. هـ والقصة هنا من رواية شبيب عن روح بن القاسم. وأما إسماعيل بن شبيب فقال العلامة الألباني في التوسل ص 94: وأما إسماعيل فلا أعرفه، ولم أجد من ذكره، ولقد أغفلوه حتى لم يذكروه في الرواة عن أبيه. أ. هـ. ثانياً: هذه الرواية ليست بمحفوظة فإنه تارة تذكر القصة، وتارة تُهمل كما عند البيهقي 6/ 176 - 186 بالوجهين، وبدون القصة عند الحاكم 1/ 526، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص 170 رقم 628 (الطبعة الثانية 1358 هـ الناشر مطبعة دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن الهند)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة جليلة ص 190: ولم يروه =

أحدهما: أنه ليس هو استغاثة بل توجه به. والثاني: أنه إنما يتوجه بدعائه وشفاعته، فإنه طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = أحد من هؤلاء -لا الترمذي ولا النسائي ولا ابن ماجه- من تلك الطريق الغريبة التي فيها الزيادة، طريق شبيب عن القاسم. أ. هـ, وخلاصة القول: أن هذه القصة ضعيفة منكرة لأمور ثلاثة: 1 - ضعف المتفرد بها. 2 - الاختلاف عليه فيها. 3 - مخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث، وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة، فكيف بها مجتمعة؟. انظر: التوسل للألباني ص 96. ثالثاً: لم يصحح هذه أحد من أهل العلم، وتصحيح الطبراني للحديث المرفوع بدون القصة وهو كذلك, وتابعه على ذلك كثير من أهل العلم منهم المنذري في الترغيب والترهيب 1/ 476 قال: قال الطبراني بعد ذكر طرقه: والحديث صحيح. وكذلك الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 279، وقد ادعى الغماري كذباً وزوراً تصحيح المنذري والهيثمي لهذه القصة. انظر: كشف المتواري ص 35. وهناك زيادة يحتجون بها وهي: روى أبو بكر ابن خثيمة في تاريخه حديث حماد بن سلمة فقال " ... (بعد ذكر الحديث) وإن كانت لك حاجة فافعل مثل ذلك"، قال ابن أبي خيثمة: وأبو جعفر هذا -الذي حدث عنه حماد بن سلمة- اسمه عمير بن يزيد, وهو أبو جعفر, الذي يروي عنه شعبة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة جليلة ص 196: وقد يقال: إن هذه الزيادة توافق قول عثمان بن حنيف, لكن شعبة وروح بن القاسم أحفظ من حماد بن سلمة، واختلاف الألفاظ يدل على أن مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى، وقوله: "وإن كانت لك حاجه فافعل مثل ذلك"، قد يكون مدرجاً من كلام عثمان، لا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. أ. هـ. وبالجملة فهذه الزيادة لا تصح لشذوذها وعلى فرض ثبوتها لم تكن دليلاً على التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - لاحتمال أن يكون معنى قوله: "فافعل مثل ذلك" يعني من إتيانه - صلى الله عليه وسلم - حال حياته، وطلب الدعاء منه والتوسل به. التوسل للألباني ص 92 كما أن لفظ الحديث يناقض ذلك فإن في الحديث: "اللهم فشفعه في", وإنما يدعى بهذا إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - داعياً شافعاً، بخلاف من لم يكن كذلك. انظر قاعدة جليلة ص 197. وأخيراً هذه القصة والزيادة لا تثبت بها شريعة، كَسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة، في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات، إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه, وكان كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخالفه لا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها. انظر: قاعدة جليلة ص 199، الله أعلم. وللتوسع. انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 185 وما بعدها، والصواعق المرسلة الشهابية, تأليف سليمان سحمان ص 163 وما بعدها، وصيانة الإنسان ص 125 والتوسل للألباني ص 75 وما بعدها، وهذه مفاهيمنا ص 36 وغيرها.

رد احتجاج القبورية بحديث توسل آدم

الدعاء، وقال في آخره: "اللهم فشفعه في"، فعُلم أنه يشفع له فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء، كما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته. وهذا المحتج به بنى حجته على مقدمتين فاسدتين: على أنهم توجهوا بذاته، وأن ذلك يسمى استغاثة به، فلزم من ذلك جواز ذلك بعد موته، وفساد إحدى المقدمتين يبطل كلامه، فكيف إذا بطلتا، وما ذكره من توسل آدم (¬1) ¬

_ (¬1) توسل آدم: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم! وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؛ قال: يا رب لما خلقتني بيدك، ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك". أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 615 من طرق أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري: ثنا إسماعيل بن مسلمة: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر وقال: صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب. أ. هـ. وتعقبه الذهبي بقوله: بل موضوع وعبد الرحمن واه ... ثم قال: ورواه عبد الله بن مسلم الفهري ولا أدري من ذا؟ عن إسماعيل بن مسلمة عنه. أ. هـ. والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 489 وقال: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف. أ. هـ. والطبراني في المعجم الصغير 2/ 355 رقم 971، تقديم وضبط كمال يوسف الحوت (الطبعة الأولى 1406 هـ, الناشر مؤسسة الكتب الثقافية بيروت - لبنان) من طريق محمد داود بن أسلم الصدفي: ثنا أحمد بن سعيد المدني الفهري: ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 253): رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم. أ. هـ، وأخرجه أبو بكر الآجري في الشريعة، تحقيق محمد حامد الفقي ص 425، 427) الطبعة الأولى 1369 هـ, الناشر مطبعة السنة المحمدية) مرة موقوفاً. وقد ذهب أصحاب الهوى إلى تقليد الحاكم في تصحيحه، فتابع الحاكم في تصحيحه السبكي في: شفاء السقام في زيارة خير الأنام ص 162 (الطبعة الثانية 1978 م، الناشر دار الآفاق الجديدة بيروت - لبنان)، والمالكي في مفاهيم يجب أن تصحح ص 46 (طبعة 1405 هـ مصر) نقلاً عن هذه مفاهيمنا ص 20. وهذا الحديث موضوع لا يصح الاحتجاج به لما يلي: أولاً: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً، وضعفه أحمد بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حنبل، وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم. انظر: الكامل لابن عدي 4/ 269 رقم 1105، والجرج والتعديل لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي 5/ 233 الطبعة الأولى 1372 هـ، الناشر مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند، وقاعدة جليلة ص 168. قال أبو حاتم البستي في المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين تحقيق محمود إبراهيم زايد 2/ 57 (طبعة 1395 هـ، الناشر دار الوعي حلب - سوريا): كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك من روايته، من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك. أ. هـ , وقال الحاكم نفسه في المدخل إلى الصحيح تحقيق د. ربيع المدخلي 1/ 154 رقم 97 (الطبعة الأولى 1404 هـ الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان) عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه. أ. هـ. ونقل ابن عبد الهادي في الصارم المنكي ص 44 عن الحاكم قال في آخر هذا الكتاب (أي المدخل): فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا يثبت إلا ببيّنة فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح لا أستحله تقليداً، والذي اختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديثاً واحداً لهؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم داخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"، صحيح مسلم (المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين) ص 9. أ. هـ. وقد روى الحاكم أيضاً في المستدرك 3/ 332 لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ولم يصحح حديثه، وقال: الشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد. أ. هـ. ثانياً: أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال تحقيق علي البجاوي 2/ 504 رقم الترجمة 4604 (الطبعة الأولى 1382 هـ، الناشر دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه) روى عنه إسماعيل بن سلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً، فيه: يا آدم، لولا محمد ما خلقتك، رواه البيهقي في دلائل النبوة. أ. هـ. وزاد ابن حجر في لسان الميزان 3/ 441 رقم الترجمة 464/ 4815 (طبعة دار الفكر بيروت - لبنان) بقوله في الفهري هذا: لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته قلت: والذي قبله هو عبد الله بن مسلم بن رشيد، قال الحافظ ابن حجر فيه: ذكره ابن حبان متهم بوضع الحديث، وقال حدثنا به جماعة، يضع على ليث، ومالك وابن لهيعة، لا يحل كتب حديثه. أ. هـ. وأما حديث الطبراني فتقدم كلام الهيثمي، قال العلامة الألباني في التوسل ص 116 - 117: وهذا إعلال قاصر، يوهم من لا علم عنده أن ليس فيهم من هو معروف بالطعن، وليس كذلك فإن مداره على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال عن إسناد الطبراني: وهذا سند مظلم، فإن كل من دون عبد الرحمن لا يعرفون. أ. هـ. =

رد احتجاج القبورية بحكاية المنصور مع الإمام مالك

وحكاية المنصور (¬1) فجوابها من وجهين أحدهما: أن هذا لا أصل له، ولا تقوم به حجة ولا إسناد لذلك. ¬

_ = والخلاصة: أن في الحديث ثلاث علل، الأولى: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف جداً. الثانية: جهالة الإسناد إلى عبد الرحمن. الثالثة: اضطراب عبد الرحمن أو من دونه، فتارة يرفعه كما مضى وتارة يرويه موقوفاً عن عمر، لا يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في إحدى روايات الآجرى. ثالثاً: إن تضعيف ابن حجر لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم لا يفيد من تمسك به، فقد وصف الحافظ الذهبي الحديث بأنه خبر باطل وتابعه ابن حجر كما في اللسان، وهو حديث موضوع باطل. رابعاً: مثل هذا لا يجوز أن تبنى عليه الشريعة ولا يحتج به في الدين باتفاق المسلمين، وهو مخالف لما ثبت في الكتاب والسنة من توبة آدم -عليه السلام-، وما ثبت عن الصحابة -رضي الله عنهم- ومخالفته للعقائد في سبب خلق الخلق. وانظر: تلخيص الاستغاثة ص 5 وما بعدها. (¬1) حكاية المنصور قال ابن حميد: ناظر: أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله -تعالى- أدب قوماً فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]، ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} [الحجرات: 3]، وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} [الحجرات: 4]، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر فقال: يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو، أم استقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم -عليه السلام- إلى الله -تعالى- إلى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله، قال الله -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)} [النساء: 64]، ذكرها القاضي عياض عن شيوخه من طريق أبي العباس أحمد بن عمر بن دلهاث، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن فهر، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا ابن حُميد. انظر: الشفاء للقاضي عياض تحقيق علي البجاوي 2/ 595 طبعة دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. والجواب أولاً: هذه الحكاية منقطعة، فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي سنة 158 هـ، وتوفي الإمام مالك سنة 179 هـ، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة 248 هـ. ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه. انظر: قاعدة جليلة ص 122. =

رد احتجاج القبورية بفتح الكوة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -

والثاني: أنه لو دلَّ لدل على التوسل بذاته لا على الاستغاثة به، وأما فتح الكوة (¬1) لينزل المطر فهو أيضاً باطل كما تقدم التنبيه عليه. ¬

_ = ولم يذكره أحد في تلاميذ مالك، وقد قسم القاضي عياض في ترتيب المدارك الرواة عن مالك إلى طبقتين. كبرى وصغرى وعلى حسب البلدان، ولم يذكر فيهم ابن حميد. انظر: ترتيب المدارك تقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تحقيق د. أحمد بكير 1/ 254 - 545، طبعة دار مكتبة الحياة بيروت - لبنان، ودار الفكر طرابلس - ليبيا، وحاشية قاعدة جليلة 123. ثانياً: محمد بن حميد الرازي ضعيف عند أكثر أهل الحديث، قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب 2/ 69 رقم 5852: حافظ ضعيف. أ. هـ، وقال ابن حبان في المجروحين 2/ 303: كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات، ولا سيما إذا حدث عن شيوخ بلده، قال أبو زرعة وابن وارة -للإمام أحمد-: صحّ عندنا أنه يكذب، قال صالح بن الإمام أحمد: فرأيت أبي، بعد ذلك إذا ذُكر ابن حميد نفض يده. أ. هـ. ثالثاً: محمد بن حميد ضعيف في أحسن الأحوال كما تبيّن إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته، ولم يصرح في رواية هذه الحكاية بصيغة من صيغ التحديث، وإنما قال: ناظر مالك، فهي بهذا التعبير مرسلة. رابعاً: معظم رجال الإسناد من ابن دلهاث إلى يعقوب غير معروفين ولا يعرف حالهم. انظر: قاعدة جليلة ص 124، والصارم المنكي ص 262. خامساً: اتفق أصحاب مالك على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول في مسألة في الفقه، فكيف بحكاية ساقطة الإسناد وتناقض مذهبه. سادساً: الثابت عن مالك في هذه المسألة قوله: لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو، لكن يسلم ويمضي. أ. هـ، وقد سبق بيان هذه المسألة وما صح عن الإمام مالك فيها، وهذه الحكاية مخالفة أيضاً للكتاب والسنة وما ثبت عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأئمة الأربعة. والله أعلم. (¬1) أخرجه الدارمي في السنن قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجعلوا من كوى إلى السماء، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا فمطروا مطراً حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق. (المقدمة، باب ما أكرم الله -تعالى- نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعد موته) 1/ 43 رقم 93 من حديث أبي النعمان: ثنا سعيد بن زيد: ثنا عمرو بن مالك النكري، حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله. والكوة تفتح وتضم وهي الثقبة في الحائط وجمع المفتوح على لفظه كوّات. المصباح المنير ص 308 مادة كوى. وفي الحديث العلل التالية: أولها: إن سعيد بن زيد وهو ابن درهم الأزدي أخو حماد بن زيد صدوق وله أوهام. انظر: التقريب لابن حجر 1/ 353 رقم 2319، قال عنه الذهبي في الميزان 2/ 138 =

ومع هذا فليس من هذا، وكذلك استسقاؤهم بدعائه ليس من هذا الباب، وأما اشتكاء البعير (¬1) إليه فهذا كاشتكاء الآدمي إليه، وما زال الناس ¬

_ = رقم الترجمة 3185 تحقيق علي محمد البجاوي: علي عن يحيى بن سعيد ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره ليس بالقوي، وقال أحمد: ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد لا يستمرئه. أ. هـ. ثانياً: عمرو بن مالك النكري ضعيف، قال ابن عدي في الكامل 5/ 150 - 151 رقم 347/ 1315: منكر الحديث عن الثقات، ويسرق الحديث، وذكر بعض أحاديثه ثم قال ولعمرو غير ما ذكرت أحاديث مناكير بعضها سرقها عن قوم ثقات. أ. هـ. ثالثاً: إن أبا النعمان هو محمد بن الفضل يعرف بعارم، قال العلامة الألباني في التوسل ص 141: فد اختلط في آخر عمره، وقد أورده الحافظ برهان الدين الحلبي في المختلطين من كتابه المقدمة ص 391 (لم أقف على كتاب الحلبي) وهذا الأثر لا يدري هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أو بعده، فهو إذن غير مقبول، فلا يحتج به. أ. هـ. رابعاً: في تلخيص الاستغاثة ص 68 - 69 ما نصه: ما روى عن عائشة -رضي الله عنها- من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر فليس بصحيح ولا يثبت إسناده، وإنما نقل ذلك من هو معروف بالكذب، وما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان بعضه باقياً كما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد"، صحيح البخاري (كتاب مواقيت الصلاة، باب وقت صلاة العصر) 1/ 182 رقم 544, 545, 546. ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد .... وإلا فهي قبل ذلك كانت خارج المسجد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد موته. ثم إنه بُني حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف، وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بيّن، ولو صح ذلك لكان حجة دليلاً على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت ولا يسألون الله به، وإنما فتحوا على القبر لتنزل الرحمة عليه، ولم يكن هناك دعاء. أ. هـ. خامساً: لا يعرف في تاريخ المسلمين عام سمي بعام الفتق، كما أن الإبل لا تتفتق من الشحم بل إذا زاد قد يقتلها أو يكسر ظهرها، أما التفتق فلا يحصل لها، كما هو معلوم لدى أهلها. سادساً: لو سلمنا فرضاً بصحة الخبر فإنه موقوف على عائشة -رضي الله عنها- وليس بمرفوع. فليس فيه حجة لأنه يحتمل أن يكون من قبيل الآراء الاجتهادية لبعض الصحابة. انظر: التوسل للألباني ص 141. (¬1) يشير المؤلف إلى ما ورد عن جابر بن عبد الله، ويعلى بن مرة -رضي الله عنهما- عن شكوى =

الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وفيما يقدر عليه لا ينازع فيه أحد

يستغيثون به في حياته [كما] (¬1) يستغيثون به يوم القيامة. وقد قلنا: إنه إذا طُلب منه ما يليق بمنصبه فهذا لا نزاع فيه، والطلب منه في حياته والاستغاثة به في حياته فيما يقدر عليه لم ينازع فيه أحد، فما ذكره لا يدل [على] (¬2) مورد النزاع. ولكن هذا أخذ لفظ الاستغاثة ومعناها العام فجعل يتشبث به, وهذا إنما يليق بمن قال: لا يستغيث به أحد حياً ولا ميتاً في شيء من الأشياء. ومعلوم أن عاقلاً لا يقول هذا في آحاد العامة، فضلاً عن الصالحين فضلاً عن الأنبياء والمرسلين؛ فضلاً عن سيد الأولين والآخرين، فإنه ما من أحد إلا ويمكن أن يستغاث به في بعض الأشياء؛ فكيف بأفضل الخلق وأكرمهم على الله. ¬

_ = البعير للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اختلف العلماء هل هما حادثة واحدة، أم واقعتان؟ ففي خبر جابر ذكر أن شكوى الجمل سببها أن أهله أرادوا نحره، ويعلى بن مرة ذكر كثرة العمل وقلة العلف. والراجح أنهما واقعتان. عن يعلى بن مرة الثقفي قال: ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يُسنى عليه فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه، فوقف عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أين صاحب هذا البعير فجاءه، فقال: بعنيه، فقال: لا بل أهبه لك، فقال: لا، بعنيه، قال: لا بل نهبه لك، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، قال أما إذ ذكرت هذا من أمره فإنه شكى كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه ... ثم ذكر سلام الشجرة عليه - صلى الله عليه وسلم -، والصبي الذي به جنون". أخرجه البيهقي في دلائل، النبوة 6/ 22 - 26 وذكر روايات الخبر، وقال: ولما روينا في حديث يعلى بن مرة في أمر البعير الذي شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حاله بإسناد صحيح، وكأنه غير البعير الذي أرادوا نحره. أ. هـ، وأبو نعيم الأصبهاني في دلائله 2/ 382 رقم 283 وغيرهم. وقال ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 139 عن حديث يعلى بن مرة بعد أن ذكر طرقه: فهذه طرق جيدة متعددة تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين أن يعلى بن مرة حدث بهذه القصة في الجملة. أ. هـ. وليس في الحديث دلالة على ما ادعاه البكري ولذا حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يحكم للبشر. جرجر: أي ردد صوته في حنجرته. المصباح المنير ص 37 مادة جرر. والجران مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره، فإذا برك البعير ومد عنقه على الأرض قيل ألقى جرانه. المصباح المنير ص 38 مادة جرين. (¬1) كذا في (د) و (ف) و (ح) وفي الأصل (كا). (¬2) كذا في (ح) وسقط من الأصل و (ف) و (د).

المنفي الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الموت، أو فيما لا يقدر عليه إلا الله

ولكن النفي عاد إلى الشيئين: إلى الاستغاثة به بعد الموت، وإلى أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، فكيف إذا اجتمعا جميعاً؟ فإن من الناس من يستغيث بالموتى من الأنبياء والصالحين، ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله -تعالى-، فهذه الجمل الثلاث ملخص كلامه، وليس فيما ذكره ما يدل على مورد النزاع، ولا ما يناقض جواب المجيب، والحمد لله رب العالمين. فعلم أن منازعيه لم يخصوا الملائكة والرسول بنفي يفهم منه طرح رتبتهم، وعدم صلاحيتهم للأسباب. وأما قوله: (ولم يجعل الله لأحد تنقيص الرسل، وأجمع السلف والخلف على وجوب تعظيمهم في الاعتقاد والأقوال والأفعال). فيقال: هذا حق، لكنه كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "كلمة حق أريد بها باطل" (¬1)، وهو أن من سألهم ما لا يقدرون عليه أحياء وأمواتاً فقد آذاهم واعتدى عليهم؛ وهو مستحق للعقوبة التي يستحقها مثله. بل من سألهم ما لا يريدون فعله حتى فعلوا ما يكرهون فهو مستحق للذم والمقت. ومن ابتدع في دينهم ما لم يأذن به الله؛ [وما] (¬2) يخالف ما جاؤوا به؛ لزم أن يكون دينهم ناقصاً، وأنهم أتوا بالباطل، وهذا مناقض بلا ريب لما يجب من الإيمان بهم وتعزيرهم وتوقيرهم. ومن خالف ما جاؤوا به من توحيد الله وإفراده بالدعاء؛ فهو من أعظم المخالفين لهم اعتقاداً وقولاً وعملاً، فإن أعظم ما دعوا إليه التوحيد، فالمخالف له من أعظم الناس مخالفة لهم. وقد بيّنا في "الصارم المسلول" (¬3) أن التوحيد والإيمان بالرسل ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب (الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج) 2/ 749 رقم 1066 وأوله: عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الحرورية لما خرجت، وهو مع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قالوا: لا حكم إلا حكم الله. قال علي: كلمه ... الحديث. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ومن). (¬3) انظر: الصارم المسلول على شاتم الرسول ص 40.

متلازمان، وكل أمة لا تصدق الرسل فلا تكون إلا مشركة، وكل مشرك فإنه مكذب للرسل، فمن دخل في نوع من الشرك الذي نهت عنه الرسل فإنه مناقض لهم مخالف لموجب رسالتهم. وإذا كان كذلك فما قال هذا المفتري وأمثاله هو بدعة لم تشرعها الرسل؛ لو لم يرد ما يتضمن النهي عنها، فكيف إذا عُلم أنه نهى عنها؟. أما المقام الأول: فإنه لا يمكن أحد أن يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته أن يستغيثوا بميت لا نبي ولا غيره، لا في جلب منفعة ولا دفع مضرة، لا بهذا اللفظ ولا معناه. فلا يشرع لهم أن يدعوا ميتاً ولا يسألوه ولا يدعوا إليه ولا أن يستجيروا به، ولا يدعوه (لا رهبة ولا رغبة) (¬1)، ولا يقول أحد لميت: أنا في حسبك أو أنا في جوارك أو أنا أريد أن تفعل كذا وكذا، ولا أن يخطوا إلى قبر ميت خطوات وأن يتوجه إلى جهة قبره ويسأله، كما يفعل كثير من النصارى؛ وأشباه النصارى من ضلال هذه الأمة بكثير من شيوخهم وغير شيوخهم. ولا يشرع لأحد أن يقول لميت: سل الله لي، أو [ادع] (¬2) لي. ولا يشرع لهم أن يشكوا إلى ميت؛ فيقول أحدهم مشتكياً إليه علي دين، أو آذاني فلان، أو قد نزل بها العدو، أو أنا مريض، أو أنا خائف ونحو ذلك من الشكاوى، سواء كان هذا السائل عند قبر الميت، أو كان بعيداً منه، وسواء كان الميت نبياً أو غيره. بل ولا يشرع لأمته إذا كان لأحدهم حاجة أن يقصد قبر نبي، أو صالح فيدعو لنفسه ظاناً أن الدعاء عند قبره يجاب. بل ولا يشرع لأمته أن يقسموا على [الله بمخلوق] (¬3) من المخلوقات لا نبي ولا غيره؛ سواء أقسموا عليه بحاجة أو غير حاجة. ولا يشرع لأمته أن يتوسلوا إلى الله بذات ميت أصلاً؛ بل ولا بذات ¬

_ (¬1) في (ف) لا رغبة ولا رهبة. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (دع). (¬3) كذا في (ح)، وفي الأصل و (د) و (ف) (على مخلوق) سقط لفظ الجلالة (الله) والباء، وفي (ط) (عليه بمخلوق).

التوسل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو بالإيمان به وطاعته أو دعائه وشفاعته

حي، إلا أن يكون التوسل بما أمر الله به من الإيمان به وطاعته، أو بدعاء المتوسل به وشفاعته، فأما إذا لم يكن المتوسل يتوسل بما أمر الله به؛ ولا بدعاء الداعي له فليس هناك وسيلة شرعها الله ورسوله. فإذا كان النبي والرجل الصالح له عند الله من الجاه والقدر والحرمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا لا ينتفع المتوسل به إلا بأحد وجهين: (¬1) إما أن يتوسل المتوسل بما أمر الله به من الإيمان به ومحبته وطاعته وموالاته والصلاة عليه والسلام ونحو ذلك، فهذه هي الوسيلة التي أمر الله بها في قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]. فالوسيلة تجمعها طاعة الرسول؛ فكل وسيلة طاعة للرسول، وكل طاعة للرسول وسيلة، و {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2) [النساء: 80]، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]. الوجه الثاني: أن يدعو له الرسول، فهذه (¬3) أيضاً مما يتوسل به إلى الله -تعالى-، فإن دعاءه وشفاعته عند الله من أعظم الوسائل، فأما إذا لم يتوسل العبد بفعل واجب [ولا] (¬4) مستحب ولا الرسول دعا له؛ فليس في عظم قدر الرسول ما ينفعه. ولكن بعض الناس (¬5) الذين دخلوا في دين الصابئين (¬6) والمشركين؛ ¬

_ (¬1) هذا هو الوجه الأول. (¬2) في جميع النسخ لم يفصل بين الآيتين. (¬3) في (د) فهذا. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (أو). (¬5) (الناس) سقطت من (د). (¬6) الصابئة: ينقسمون إلى صابئة حنفاء، وصابئة مشركين وهم الأكثر، وبعض المؤلفين يقسمهم إلى: الصابئة المندائيين، وقد يكون أصل دينهم الحنيفية ولكن مالوا لغيرها، والصابئة الحرانيين وهم المشركون، ومنهم الفلاسفة، والمشركون منهم يعظمون الكواكب، ولم يبق من الصابئة اليوم إلا المندائيين، وهم في إيران والعراق وأكثرهم بالعراق "يعرفون بصابئة البطائح"، وهم مشركون تأثروا بالحرانيين في عبادة الكواكب =

الشفاعة عند الفلاسفة وأخذهم عن الصابئة

ظنوا شفاعة الرسرل لأمته لا يحتاج إلى دعاء منه، بل الرحمة التي تفيض على الرسول تفيض على المستشفع؛ من غير شعور من الرسول، ولا دعاء منه (¬1)، ومثَّلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره، فإن الشمس إذا وقعت على الماء أو مرآة؛ وانعكس شعاعها على حائط أو غيره حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة، قالوا: فهكذا الرحمة تفيض على النفوس الفاضلة كنفوس الأنبياء والصالحين، ثم تفيض بتوسطهم على نفوس المتعلقين بهم، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لا بد فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة و [جعل] (¬2) هؤلاء الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه. وقالوا: إن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها (¬3)، ¬

_ = وتعظيمها واعتقاد تأثيرها، وعبادة الشياطين والتقرب إليها والتلقي عنها. انظر: الفهرست تأليف ابن النديم، تحقيق رضا تجدد ص 382 - 392، الناشر مكتبة الأسدي ومكتبة الجعفري طهران - إيران، والملل والنحل 1/ 230 - 231، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، للندوة العالمية للشباب الإسلامي ص 317 - 326. (¬1) (منه) سقطت من (د). (¬2) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) (وجعلوا). (¬3) انظر: هذه الأقوال في كتاب: المضنون به على غير أهله، لأبي حامد الغزالي، ضبط رياض مصطفى العبد الله ط 1407 هـ، الناشر دار الحكمة دمشق، فقد تكلم على الشفاعة في ص 94 - 97، وعلى زيارة القبور في ص 121 - 126. وهذا الكتاب في نسبته لأبي حامد الغزالي خلاف، يقول المؤلف في مجموع الفتاوى 4/ 65: كان طائفة من العلماء يكذبون ثبوته عنه، أما أهل الخبرة به وبحاله فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمواد كلامه ومشابهة بعضه بعضاً، ولكن كان هو وأمثاله -كما قدمت- مضطربين لا يثبتون على قول ثابت، لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوقون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة. أ. هـ. وما ذكره الغزالي في كتاب المضنون به على غير أهله، ذكر نحوه في مشكاة الأنوار والأربعين ومعارج القدس وغيرها. انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/ 625، 636، والفلسفة النورانية القرآنية عند الغزالي، تأليف د. زكريا بشير إمام ص 102، الطبعة الأولى 1409 هـ, الناشر مكتبة الفلاح الكويت.

نقل من أخذ عن الفلاسفة كالغزالي مذهبهم في الشفاعة

و [هذه] (¬1) المعاني [ذكرها] (¬2) طائفة من الفلاسفة (¬3) ومن أخذ عنهم كابن سينا (¬4) وأبي حامد (¬5) وغيرهم. وهذه الأحوال هي من أصول الشرك وعبادة الأصنام، وهي من المقاييس (¬6) الفاسدة التي قال بعض السلف: "ما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس"، وهي من أقوال من يقول: إن الدعاء إنما تأثيره بكون النفس تتصرف في العالم، لا بكون الله يجيب الداعي (¬7)، وهي مبنية على أن الله ليس بفاعل مختار يحدث الحوادث بمشيئته واختياره. بل هؤلاء يقولون: إن الرب يوجب العالم بذاته، ويسمونه علة العلل، ¬

_ (¬1) كذا في (ط) وفي جميع النسخ (هي) وفي هامش (ح) لعله (هذه)، ولا يستقيم المعنى إلا بما أثبت أعلاه. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ذكر). (¬3) الفلاسفة هم من ينسبون إلى الفلسفة، والفلسفة كلمة يونانية مركبة من كلمتين هما: (فيلا) أي: محبة، و (سوفيا) أي: الحكمة، فمعناها محبة الحكمة، ومبدأ الفلسفة من الروم واليونان وغيرهم عيال عليهم. انظر: الملل والنحل 2/ 59، وعقائد الثلاث والسبعين 2/ 745. (¬4) هو أبو علي، الحسين بن عبد الله بن سينا، شرف الملك، الفيلسوف الوزير تقلد الوزارة في همدان، أخبر عن نفسه أنه ووالده من الباطنية، برز في الطب واشتهر، أشهر كتبه "القانون" في الطب. هلك سنة 428 هـ. انظر: السير 17/ 531 ترجمة رقم 356، والأعلام 2/ 241. (¬5) هو زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي الغزالي برع في الفقه، والكلام والجدل، درس في نظامية بغداد، ثم تصوف وتركها، أشهر كتبه "إحياء علوم الدين"، كانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله، قال عنه أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة، وأراد أن يتقيأها فما استطاع. أ. هـ توفي سنة 505 هـ. انظر: السير 19/ 322 ترجمة رقم 204، والأعلام 7/ 22. (¬6) في (د) مقائس. (¬7) انظر: مقاصد الفلاسفة لأبي حامد الغزالي ص 380 - 382 الطبعة الثانية، تحقيق د. سليمان دنيا، الناشر دار المعارف مصر، ونصه: الخاصة الأولى في قوة النفس في جوهرها، بحيث تؤثر في هيولى العالم بإزالة صورة وإيجاد صورة، بأن يؤثر في استحالة غيرها، ويؤثر في استحالة الهواء غيماً، ويحدث مطر كالطوفان، أو بقدر الحاجة للاستسقاء. أ. هـ. وذكر تصرف النفس والعين وقالوا مثل هذا يعبر عنه بالكرامة والمعجزة.

الفلاسفة يجيزون عبادة الكواكب والأصنام

ويقولون: إنه علة تامة (¬1)، وإذا كان كذلك فلابد للحوادث من سبب فجعلوا حدوثها بسبب حركة الفلك وما يحدث عنها من الأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية (¬2). ثم الإلهِيُّون منهم يقولون: إن الحركة سبب الاستعدادات من العالم السفلي (¬3) لأن يفيض عليها من العقل الفعال (¬4) الصور النوعية (¬5)، وأن يفيض على النفوس العلوم والأخلاق وغير ذلك. وهؤلاء يجيزون أن يعبد الإنسان الكواكب, لأنه بتوجهه إليها يفيض إليه منها أمور، وكذلك الأصنام لأنه بتوجهه إلى الصنم يكون متوجهاً إلى صاحبه فيفيض عليه أمور، والنفوس المفارقة (¬6) هي سعيدة؛ فإذا توجه المتوجه إلى تلك النفوس والقبر الذي دفن فيه بدنها فاضم [عليه] (¬7) منها ما يفيض، وقد بسطنا الكلام على هؤلاء، وبينَّا فساد قولهم بالعقل الصريح المطابق بالنقل الصحيح بما ليس هذا موضعه (¬8). ¬

_ (¬1) العلة التامة: هي ما يجب وجود المعلول عندها، وقيل العلة التامة: جملة ما يتوقف عليه وجود الشيء، وقيل: هي تمام ما يتوقف عليه وجود الشيء بمعنى أنه لا يكون وراءه شيء يتوقف عليه. التعريفات للجرجاني ص 154 حرف العين والمراد الأول. (¬2) في (ف) الملكوتية. (¬3) يقسم الفلاسفة العالم إلى العالم العلوي، أي عالم الأفلاك وما فيه من العقول والنفوس والأجرام، وعالم سفلي وهو عالم الكون والفساد، وهو ما تحت السماء. المعجم الفلسفي د. جميل صليبا 2/ 46 الناشر دار الكتاب اللبناني. (¬4) العقل الفعّال هو الذي تفيض عنه الصور على عالم الكون والفساد، وإذا أصبح العقل الإنساني شديد الاتصال بالعقل الفعال كأنه يعرف كل شيء من نفسه سمي بالعقل القدسي. المعجم الفلسفي تأليف د. جميل صليبا 2/ 86. (¬5) الصور النوعية: الصورة عند الفلاسفة مقابلة للمادة، ويفرقون بين الصور الجسمية والصور النوعية. ويعرّفون النوعية بأنها: جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه. والجسمية بأنها: جوهر بسيط متصل لا وجود لمحله دونه. انظر: التعريفات للجرجاني ص 135 - 136 باب الصاد، والمعجم الفلسفي د. جميل صليبا 1/ 724. (¬6) النفوس المفارقة، أي المفارقة للبدن. (¬7) في الأصل وجميع النسخ (عليها) ولا يستقيم المعنى. (¬8) قال المؤلف في درء التعارض 7/ 175: الفلاسفة القائلون بدعوة الكواكب فيهم =

تعظيم البكري وأمثاله للأنبياء تعظيم ربوبية، لا لكونهم رسل الله

والكلام [إذا] (¬1) كان في أحكام أفعال العباد لم يكن لأحد أن يتكلم إلا بدليل شرعي، لا (¬2) أن يدعو (¬3) إلى دينٍ غير دين الإسلام، ولا ريب أن هذه الأقوال ونحوها تدعو إلى غير دين الإسلام. وقول هذا المفتري وأمثاله يجر إلى مثل هذا؛ لكنهم لا يعرفون أصل قولهم ولوازمه؛ بل هم على عادة تعوَّدوها واتباع [أشياخ] (¬4) لهم، فيهم نوع من علم ودين، ليس لهم خبرة بحقيقة ما جاء به الرسول، وعندهم تعظيم للأنبياء (¬5) والصالحين من جنس تعظيم النصارى والمشركين، يعظمونهم تعظيم ربوبية من جهة ما يرجونه من حصول مطالبهم من جهتهم، لا يعظمونهم لكونهم رسل الله الذين أمروا بطاعتهم، فيجب أن يطاعوا فيما أمروا به؛ وأن يقتدى بهم فيما شرع التأسي بهم فيه، يعرضون عن بعض طاعتهم والتأسي بهم، ويقبلون على نوع من دعائهم وسؤالهم والإشراك بهم، وهؤلاء بالنصارى أشبه منهم بالصابئة الفلاسفة (¬6)، لكن الجميع فيهم شرك. ونحن في هذا الموضع ليس بنا حاجة إلى نفي تأثير هذه الأسباب فإنه ليس لكل سبب أثر يكون مشروعاً، بل الشارع ينهى عن أمور لها تأثير في طلب بعض المطالب؛ إذا كان ضررها راجحاً على نفعها، كما ينهى عن السحر ونحو ذلك، وإن كان قد يمكن أن يُقتل به كافر، ويُطّلَعُ بذلك على ¬

_ = المشرك، وفيهم المعطل، ونفي الصفات من أقوالهم، فمنهم من لا يثبت لهذا العالم المشهور رباً أبدعه، كما هو قول الدهرية الطبيعة منهم، ويجعلون العالم نفسه واجب الوجود بذاته، ومنهم من يثبت له مبدعاً واجباً بنفسه أبدعه، كما هو قول الدهرية الإلهية منهم. أ. هـ. وانظر: إغاثة اللهفان 1/ 337 - 338. (¬1) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل (إذ) وفي (ف) غير واضحة ويبدو أنها (إذا). (¬2) في (د) (إلا). (¬3) في جميع النسخ يدعوا بزيادة الف الجماعة. (¬4) كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) الشيوخ ولا يستقيم المعنى. (¬5) في (د) الأنبياء. (¬6) لأن النصارى تدعي الإلهية في الأنياء والصالحين، وأنهم قادرون على الضر والنفع، أما الفلاسفة فلا يعظمون الأنبياء بل يحطون من قدرهم حتى جعلوا الفيلسوف أعلى منهم درجة، وهؤلاء القبورية مثل النصارى في التعظيم.

مقارنة بين القدرية والفلاسفة

بعض أخبار أعداء الإسلام، وكذلك [عباد] (¬1) الكواكب قد تخاطبهم الشياطين وتحصل لهم بعض مطالبهم، ودعاء الغائبين والأموات من هذا الباب، فقد يحصل أحياناً [أن] (¬2) شيطاناً يتمثل للداعي, وقد يُحصل بعض مطالبه، لكن هذا كله منهي عنه لما ترتب عليه من الفساد ما يغمر ما يُظَنُّ فيه من المنفعة. وهذه التأثيرات قد تحصل عند بعض القائلين بقدم العالم والقائلين بحدوثه، بخلاف ما يقول: إن الأثر الحاصل لا يكون إلا فيضاً, فهذا لا يكون إلا على قول القائلين بالقدم، وقد بيّنا في غير هذا الموضع أن هؤلاء الذين يقولون بقدم العالم وصدوره عن موجب [بذاته] (¬3) هو علة تامة, [حقيقة] (¬4) قولهم: إن الحوادث تحدث بلا محدث أصلاً, وأن حركة الفلك الحادثة شيئاً بعد شيء ليس لها مُحدثِ أصلاً, ويقولون: إنه يتحرك حركة شوقية (¬5) بقولهم في حركته من جنس قول القدرية في حركة الحيوان, والقدرية أخرجوا فعل الحيوان [أن يكون] (¬6) مخلوقاً لله -عز وجل- , وأثبتوا حادثاً لا محدث له، وهؤلاء الصابئة والفلاسفة أخرجوا حركة الفلك وجميع الحادثات من أفعال الحيوان وغيرها عن أن تكون مخلوقة لله -سبحانه- وأثبتوا هذه الحوادث بلا محدث. والناس ردوا على القدرية، وقالوا: إرادة العبد حادثة بعد أن لم تكن فلا بد لها من محدث، وإذا قيل: العبد أحدث بلا إرادة لزم وقوع الحوادث من المختار بلا إرادة، وإن قيل: بإرادة فالقول فيها كالقول في الأولى. ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل عبادة. (¬2) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق، وهو في (ط) بين معقوفين، وليس في جميع النسخ. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (بذته) بدون الف. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (حقيقية) بزيادة ياء. (¬5) الحركة الشوقية هي: أي أن يكون الفلك متحركاً بطريق العشق، ولا يكون الرب -تعالى- فاعلاً للحركة بل تكون لأجل الحركة، من حيث كونه معشوقاً ومقصوداً يطلب التشبه به والاقتداء. انظر: مقاصد الفلاسفة، لأبي حامد الغزالي ص 280. (¬6) ما بين المعقوفتين من (د) و (ح) وفي (ف) (أنه يكون) وسقط من الأصل.

وهؤلاء القدرية قالوا: إرادة الرب يحدثها لا في محل بلا إرادة منه، كما قال ذلك البصريون من المعتزلة (¬1)، وقالوا: إرادة العبد يحدثها في نفسه بلا إرادة منه، وكلاهما ممتنع. ثم يقال لهم: حدوثها بعد أن لم تكن حادثة أمر حادث فلا بد له من محدث، وقد يقال: الإرادة أمر ممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام، والمحدث والمرجح إن كان من العبد فالقول في حدوثه كالقول في الأول، وذلك يستلزم التسلسل في أفعال العباد، وأفعال العباد لها أول فيمتنع التسلسل فيها، فلزم أن يكون المحدث المرجح لها خارجاً عن العبد، وكل ما يذكر سوى الرب -تعالى- مُنته إليه والمحدث والمرجح هو الله -تعالى-. وقول الصابئة والفلاسفة أفسد من قول القدرية، فإنه يقال: إذا كان الرب عندكم علة تامة موجباً بذاته في الأزل لم يزل ولا يزال هكذا، ومعلوله لازم لذاته لا يمكن تأخره عنه امتنع أيضاً [أن تصدر عنه حركة الفلك وغيرها من الحوادث، وامتنع] (¬2) أن يصدر عنه ما يستلزم الحوادث، والعالم مستلزم للحوادث، فيمتنع صدوره عن العلة التامة لأن الحوادث تحدث شيئاً بعد شيء؛ كما أن حركة الفلك تحدث شيئاً بعد شيء، والعلة التامة لا يحدث معلولها ولا شيء من معلولها شيئاً بعد شيء، بل جميع معلولها (¬3) مقارن لها أزلاً وأبداً لا يتأخر منه شيء عن الأول، وإذا كان كذلك (¬4) فالحوادث كأجزاء الحركة الفلكية يمتنع صدورها عن الموجب بذاته، وإذا قيل: إن الحركة سببها الشوق الذي في الفلك للتشبه بالأول، قيل: فتلك الإرادة والتصور الذي هو سر ما في الإرادة الذي هو سبب الحركة (المتجددة، التي تجدَّدُ الحركة) (¬5) بتجدده، هو أيضاً من الحوادث المتعاقبة وهو نوع حركة نفسانية؛ فلا بد لها من محدث، فإذا كانت العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها امتنع (صدور ذلك) (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/ 80، والمعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق ص 103. (¬2) ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل. (¬3) في (ف) معلومها. (¬4) (كذلك) سقطت من (د). (¬5) ما بين القوسين سقط من (د) و (ح). (¬6) ما بين القوسين في (د) صدورها.

مذهب أهل السنة في القدرة وعلاقتها بالمقدور

عنه، وإذا كان الفلك لا يخلو من الحوادث امتنع صدور [ها] (¬1) عنه, لأن [وجود] (¬2) الملزوم بدون اللازم ممتنع، ووجود (¬3) اللازم ممتنع, ولو قدر مقدر أن العالم لم يكن فيه حادث ثم تجددت الحوادث؛ لكان القول فيما ليس بمتجدد؛ كالقول في غيره، فإن التقدير أنه هناك فاعل لا علة تامة, والعلة التامة لا يتجدد عنها شيء بل معلولها مقارن لها. وهذا إذا تصوره العاقل علم بالضرورة بطلان قول هؤلاء الذين هم من أبعد الناس عن المعقول الصريح كبعدهم عن المنقول الصحيح, ثم هل تقوم بالرب الأمور الاختيارية التي يسمونها الحوادث؟ لهم في ذلك [قولان] (¬4) كما للمتكلمين قولان، وطائفة من الأساطين القدماء يجوزون ذلك وهو قول أبي البركات (¬5) صاحب "المعتبر" وغيرهم من متأخريهم, ومنهم من لا يجوِّزه كابن سينا وأمثاله، فمن لم يجوز ذلك ظهر فساد قوله بقدم العالم ظهوراً بيّناً, ومن جوزه أيضاً فيمتنع عليه أن يقول بقدم شيء من العالم, فإنه حينئذٍ إذا كان الرب يفعل شيئاً بعد شيء بأفعال [تقوم] (¬6) بذاته؛ لم يكن قط علة تامة لمفعولاته، بل كل ما يفعله ويحدثه هو فاعل له حين أحدثه وفعله, والمؤثر التام يستلزم أثره، كما أن الأثر يستلزم مؤثره التام. ولهذا كان مذهب أهل السنة أن القدرة لابد أن تكون مع مقدورها, ولا يجوز أن تكون معدومة عند (¬7) وجود المقدور, ولكن تنازعوا هل يكون وجودها قبل مع بقائها؟. ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) (صدوره) والضمير يعود على الحوادث. (¬2) كذا في (ف) و (ح) وفي الأصل و (د) (وجوده). (¬3) في (ف) غير واضحة. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل قولاً. (¬5) هو أبو البركات، هبة الله بن علي بن ملكا البلدي, كان يهودياً فأسلم في آخر عمره، الفيلسوف، الطبيب، خدم الخليفة المستنجد، له كتاب "المعتبر" مات نحو 560 هـ. انظر: السير 20/ 419 ترجمة رقم 275 والأعلام 8/ 74. وقد نقل عنه ابن تيمية قوله في مجموع الفتاوى 6/ 302, قال أبو البركات: لم يقل ذلك أحد من العقلاء. أ. هـ. (¬6) كذا في (ح) و (ط)، وفي جميع النسخ (يقوم) بالياء. (¬7) في (د) عن.

والصواب التفريق بين القدرة المصححة (¬1) التي يشترط في الفعل معها وجود الإرادة؛ وبين القدرة الموجبة (¬2) وهي مجموع ما يستلزم المقدور. وأما القدرية فقالوا: إن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل، وإذا كانت الحوادث يحدثها شيئاً بعد شيء بحسب حدوثها لزم أن تقوم به الأفعال الاختيارية، وإذا كانت كذلك بطل أصل قولهم الذي بنوا عليه قدم العالم، حيث قالوا هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار، وإذا كان كذلك قارنت موجبه، فإذا كان نفس الحوادث يستلزم أن يكون فاعلاً أفعالاً متعاقبة بطل كونه موجباً بذاته بمقارنة موجبه، فبطل التلازم الذي ذكروه وجاز أن يكون محدثاً للأفلاك. وإن كان قد أحدث قبلها شيئاً آخر كما أخبر الله -تعالى- أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، كذلك في التوراة أنه خلق السموات والأرض وكان الماء مستبحراً (¬3) غامراً الأرض والرياح تهب فوقه (¬4). وملخص ذلك أنه لو كان شيء من العالم قديماً لكان موجباً بذاته بمقارنة (¬5) موجبه لا يتأخر عنه، والثاني باطل لأنه لو كان كذلك لم يحدث في ¬

_ (¬1) القدرة المصححة: وهي السابقة للفعل، وهي الاستطاعة المشروطة في التكليف كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وهي صالحة للفعل والترك، ولم يعرف القدرية غيرها، كما لم يعرفها الجبرية. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/ 172 - 173. (¬2) القدرة الموجبة: وهي المقارنة للفعل، وهي المنفية عمن لم يفعل في مثل قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، ولم يعرف الجبرية كالأشاعرة وغيرهم غير هذه القدرة، ولم يعرفها القدرية. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18/ 173. (¬3) مستبحراً اسم مفعول للبحر، والبحر هو الماء الكثير ملحاً كان أو عذباً وهو خلاف البر. وإنما سُمي البحر بحراً لسعته وانبساطه، وقد غلب على الماء المالح حتى قل في العذب. انظر: لسان العرب لابن منظور 4/ 41، والقاموس المحيط ص 441 مادة بحر. (¬4) جاء في سفر التكوين الإصحاح الأول فقرة 2: وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمه وروح الله يرف على وجه المياه. انظر: الكتاب المقدس - التوراة طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط. (¬5) كذا في الأصل و (ح) وفي (ف) و (د) بقارنه.

العالم شيء؛ لأن العالم بجميع ما فيه موجب له فلو كان موجبه يقارنه (¬1) في الأزل [لزم أن لا] (¬2) يحدث في العالم شيء، ولو أوجب (¬3) العالم دون الحوادث لوجد الملزوم دون اللازم، ولحدثت الحوادث بعد ذلك عن الموجب (¬4) المستلزم لموجبه في الأزل، وكلاهما ممتنع. وكل خبر في العالم فهو مستلزم لمقارنة الحوادث؛ إذ يمكن أن تقوم به الحوادث، فلو كان صادراً عن موجب بالذات لامتنع حدوث الحوادث مقارنة له أو حادثة بعده، لأن صدورها عن موجب بالذات ممتنع؛ لا سيّما والذات التي من شأنها أن تقوم بها الأفعال المتعاقبة فيفعل شيئاً بعد شيء، لا يكون فعلٌ معين لازماً لذاتها، فلو كان في العالم شيء قديم تبين أنه إنما يلزمها نوع الأفعال لا فعل معين. وأيضاً فلزوم الفعل المعين لمفعول معين لذات تقوم بها الأفعال المتعاقبة وتفعل شيئاً بعد شيء غير معقول، فإنها متى كانت كذلك؛ امتنع أن يلازمها أزلاً وأبداً فعل (¬5) معين، فإن ملازمة المعين ينافي كون فعلها شيئاً بعد شيء. وإذا قيل: يلزمها فعل معين ولا يلزمها شيء من الأفعال، كانت أفعالها منقسمة إلى معين لازم لها؛ وإلى نوع يحدث شيئاً بعد شيء فهي للأول موجبة [بذاتها] (¬6) وللثاني (¬7) فاعلة باختيارها، فيكون موجبة بالذات لمفعول وفاعل بالاختيار لمفعولات، واجتماع هذين في الذات الواحدة تناقض، لأن كونها فاعلة بعد اختيارها شيئاً بعد شيء، يناقض اتصالها بالإيجاب بالذات، مع أن الفعل المعين الملازم للذات لا يعقل، ولا يعقل الفعل إلا الإحداث، وانما يعقل (¬8) فيما كان لازماً لها أن تكون صفة لها كالحياة، لا أن يكون مفعولاً ¬

_ (¬1) في (ف) بقارنه. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل. (¬3) في (ف) و (د) وجد وفي (ح) وجب. (¬4) في (د) الموجد. (¬5) في (ف) (افعل). (¬6) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل بذتها بدون ألف. (¬7) في (د) والثاني. (¬8) كذا في الأصل و (ح) وفي (ف) يفعل وفي (د) يقل.

مقارنة بين الموحدين والمشركين في الشفاعة

لها، فكونه مفعولاً يناقض كونه معه لازماً؛ لا سيما إذا كان الفاعل فاعلاً بالاختيار. والمقصود هنا أنه إذا لم يحصل من العبد فعلٌ أمره الله به في حق الرسول، ولم يحصل من الرسول شفاعة له، فلا يتصور أن ينتفع بجاه الرسول؛ منفعة أمر الله بها (¬1) في دين الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، لكن (على قول) (¬2) غير أهل التوحيد من المشركين القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه، فإن المشرك قد يدعو (¬3) إلهاً من دون الله فتخاطبه الشياطين وربما قضت له بعض الحاجات، وهذا معروف في عباد الكواكب وعباد الموتى من الصالحين وغير الصالحين. وأما على قول الصنف الثاني من المشركين الذين جمعوا في الحقيقة بين التعطيل والإشراك، فأنكروا أن يكون خالقاً للعالم بقدرته ومشيئته، وهم مشركون، فمن هؤلاء من يقول إنه قد يفيض عليه من الشفيع شيء بغير دعاء الرسول، لكن لا بد عند هؤلاء من توجه من العبد؛ ولا يشترطون التقرب بما شرعته الرسل، بل يمكن عندهم إذا سجد لتماثيله أو لقبره ودعاه من دون الله أن يحصل له ذلك، كما يحصل إذا توجه إلى الشمس من سخونة شعاعها ما يحصل. والفرق بين الموحدين والمشركين، أن الموحدين يقولون: إن ما أمرت به الرسل من العبادات إنما يتقرب [به] (¬4) إلى الله؛ والأجر فيه على الله، وإنما على الرسول البلاغ؛ ليس عليه حصول الثواب، ولا يشترط أن يكون واسطة في وجوده بل يخلق الله الثواب بغير واسطة الرسول، وأما شفاعة الرسول فهي دعاء لله -تبارك وتعالى-، وهؤلاء يقولون: لا يحصل إلا بتوسطهم وإن فاض عنهم بغير قصد، فهذا أصل ينبغي معرفته. ¬

_ (¬1) في الأصل و (ف) و (د) كلمة (ودينه) وليس لها معنى، وفي (ح) بياض بمقدار كلمة، وقد حذفت كلمة (ودينه) ليستقيم المعنى، ويظهر لي أنها زيادة. (¬2) ما بين القوسين سقط من (د) و (ح). (¬3) في الأصل و (د) زيادة ألف وهو خطأ. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل.

النهي عن اتخاذ القبور مساجد

فإن هذا الضال وأمثاله يجعلون الأنبياء والصالحين من جنس الذين يظنون أن النفع والضر يحصل لهم بتوسطهم؛ كما يجعل الشعاع والحرارة بتوسط الشمس. ونحن نقول: إن كل ما شرعه الله ورسوله فهو من أعظم الوسائل (إلى الله، لكن دعاؤهم بعد الموت لم يشرعه الله ورسوله فليس من الوسائل) (¬1)، وكذلك سؤال أحدهم ما لا يقدر عليه إلا الله ليس مشروعاً، وأصل الدين أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وما ذكره هؤلاء يتضمن عبادة غير الله بغير أمر الله. المقام الثاني: أن يقال هذا مما نهت عنه الرسل، فقد ثبت في الصحاح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اتخاذ القبور مساجد وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"؛ يحذر ما فعلوا (¬2)، وقال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها" (¬3). فلو كان الدعاء عند القبور أجوب منه في غير تلك البقعة لكان قصدها للدعاء عندها مشروعاً لم يُنه أن يتخذ مسجداً، فإن اتخاذ القبور [مساجد] (¬4) يدخل فيه الصلاة وغيرها؛ ويدخل فيه بناء المساجد عليها، وكلاهما منهي عنه، بل يحرم كما صرح به غير واحد من العلماء (¬5) فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل ذلك تحذيراً لأمته, وهذا يقتضي توكيد التحريم. فإن الدعاء في الصلاة أجوب منه في غيرها؛ كالدعاء في دبرها كما ¬

_ (¬1) ما بين القوسين سقط من (د). (¬2) أخرجه البخاري في (كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور) 1/ 395 رقم 1330 وأطرافه بالأرقام التالية: 435، 1390، 3453، 4443، 5815، ومسلم في (كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها) 1/ 377 رقم 532 وغيرهم من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬3) أخرجه مسلم في (كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه) رقم 972، 2/ 668 من حديث أبي مرثد الغنوي. (¬4) كذا في (ح) وفي الأصل (ولمساجد) وفي (ف) و (د) (لمساجد). (¬5) قال النووي في المجموع 5/ 285 ط مطبعة الإمام بمصر: اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهية بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهوراً بالصلاح أو غيره، لعموم الأحاديث، وقال الشافعي: وتكره الصلاة إلى القبور، سواء كان الميت صالحاً أو غيره. =

أحق البقاع بدعاء الله فيها المشاعر والمساجد

جاءت به السنة في الأدعية الشرعية؛ فإنها مشروعة في آخر الصلاة، و (¬1) كذلك الدعاء عقب الصلاة. وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة؛ وإنما يكون بعد صلاة الظهر والعصر، والوقوف بمزدلفة ودعاؤها بعد صلاة الفجر، والطواف يجري مجرى الصلاة؛ ولهذا يستحب الدعاء في آخره، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" (¬2)، والطواف تحية المسجد الحرام. وأما "منى" فعبادتها رمي الجمار، ولهذا يرمونها يوم النحر ثم ينحرون، كما يصلون في الأمصار ثم ينحرون، فليس بمنى صلاة عيد بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لغيرهم، وسائر الجمرات ترمى عقب الزوال قبل صلاة الظهر، وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله" (¬3). ¬

_ = وقال الحافظ أبو موسى قال الإمام أبو الحسن الزعفراني: ولا يصلى إلى القبر ولا عنده تبركاً به. أ. هـ. وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 10/ 380: قال علماؤنا: يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد. أ. هـ. واتفق العلماء في عصر الملك الظاهر بيبرس في القرن الثامن الهجري على لسان واحد أنه يجب على ولي الأمر أن يهدم القباب كلها وأن يكلف أصحابها برمي ترابها ولم يختلف منهم أحد. انظر: المدخل لابن الحاج 1/ 253 طبعة 1401 هـ الناشر دار الحديث. وأقوال العلماء في هذه المسألة كثيرة تركناها للاختصار. وانظر: أقوال العلماء من المذاهب الأربعة في كتاب النبذة الشريفة في الرد على القبوريين ص 132 وما بعدها فقد نقل أقوالهم بألفاظهم، فأفاد وأجاد في ذلك. (¬1) الواو سقطت من (ف) و (د). (¬2) أخرجه أبو داود في (كتاب المناسك، باب الدعاء في الطواف) رقم 1892، 2/ 449 واللفظ له، وأحمد في المسند 3/ 411، والحاكم في المستدرك 1/ 455 وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/ 354 رقم 1666، الطبعة الأولى 1409 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. (¬3) أخرجه الترمذي في (كتاب الحج، باب ما جاء كيف ترمى الجمار) رقم 902، 3/ 246 ولفظه: "إنما جعل رمي الجمار والسعي ... "، وأبو داود في (كتاب المناسك، باب في الرمل) رقم 1888، 2/ 446، قال العلامة ناصر الدين الألباني في حاشية مشكاة =

فلما كان هذا من شعائر الصلاة والطواف كان الدعاء عندها مشروعاً كما ثبت في الصحيح: "أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو (¬1) بين الجمرتين بقدر سورة البقرة" (¬2)، وأما جمرة العقبة فليس عندها وقوف ولا دعاء (¬3)؛ فإنها آخر منى، والداعي يريد أن يتأخر عن الجمرة وما بعدها ليس من منى، وكان الداعي في نفس عرفة ومزدلفة ومنى لا خارجاً عنها، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة (¬4)، ومزدلفة كلها موقف وارفعوا عن محسر، [ومنى كلها منحر] (¬5) " (¬6)، فلم يجعل الحدود الفاصلة بين المشاعر منها، وقد قال طائفة من السلف في قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قالوا: مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة ومنى، ومصلى أي مدعى (¬7)، وهذا لا ينافي عند كثير من العلماء ما ثبت في الصحيح: "من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما طاف صلى ¬

_ = المصابيح للخطيب التبريزي (الطبعة الثانية 1399 هـ, الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان) رقم 1381، 2/ 806: إسناده ضعيف. أ. هـ. (¬1) في الأصل و (ف) و (د) بزيادة ألف. (¬2) أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رمى الجمرة التي تلي مسجد منى يرميها بسبع حصيات، يكبّر كلما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها، فوقف مستقبل القبلة، رافعاً يديه يدعو، وكان يطيل الوقوف، ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات، يكبّر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار، مما يلي الوادي، فيقف مستقبل القبلة رافعاً يديه يدعو، ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة، فيرميها بسبع حصيات، يكبّر عند كل حصاة، ثم ينصرف ولا يقف عندها" (كتاب الحج، باب الدعاء عند الجمرتين) 1/ 517 رقم 1753، وقد وقع تفسير القيام الطويل فيما رواء ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عطاء "كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة". انظر: فتح الباري لابن حجر 3/ 745، ولم أجده في مصنف ابن أبي شيبة. (¬3) في (ف) (ولا دعى). (¬4) في (د) عرفة. (¬5) ما بين المعقوفتين من (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف). (¬6) أخرجه أبو داود في (كتاب المناسك، باب الصلاة بجمع) 3/ 478 رقم 1937، وابن ماجه في (أبواب المناسك، باب الموقف بعرفة) 2/ 179 رقم 3046، والإمام أحمد في المسند 4/ 82، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 115 جميعهم بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف، وأصله من مسلم (كتاب الحج، باب ما جاء في أن عرفة كلها موقف) 2/ 893 رقم 1218، وأخرجه الترمذي مطولاً في (كتاب الحج، باب ما جاء في أن عرفة كلها موقف) 3/ 232 رقم 885 وقال: حديث حسن صحيح. (¬7) انظر: تفسير ابن جرير الطبري 1/ 586 - 587.

النهي عن الذبح عند القبر

عند المقام وقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} " (¬1)، لأن الآية قد تتناول هذا وهذا عند كثير من أهل العلم. ففي الجملة أحق البقاع بدعاء الله فيها المساجد التي يصلى فيها، والمشاعر التي شرع الله فيها الدعاء والذكر، وأمر أن يكون الدين خالصاً له كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)} [الأنعام: 161 - 162]. فإذا كانت الصلاة والذكر لله وحده لم يكن ذلك مشروعاً عند قبر، وكما لا يذبح للميت ولا عند قبره؛ بل "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العقر عند القبر" (¬2)، وكره العلماء الأكل من تلك الذبيحة (¬3) فإنها شِبْهُ ما ذبح لغير الله، فلو كانت مقابر الأنبياء والصالحين مما يستحب الدعاء عندها لكانت إما من المساجد وإما من المشاعر التي يُحج إليها، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا وهذا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في (كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -) رقم 1218، 2/ 886 ولفظه: "ثم نفذ إلى مقام إبراهيم -عليه السلام- فقرأ ... "، والنسائي في (كتاب مناسك الحج، كيف يطوف أول ما يقدم) رقم 2937، 5/ 228 ثم أتى المقام فقال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، وأخرجه غيرهم. (¬2) أخرجه أبو داود في (كتاب الجنائز، باب كراهية الذبح عند القبر) 3/ 550 رقم 3222 من حديث أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عقر في الإسلام"، قال عبد الرزاق -صاحب المصنف-: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. أ. هـ. وقد أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 197، وعبد الرزاق في مصنفه 3/ 560 رقم 6690، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 57 باب كراهية الذبح عند القبر. قال النووي في المجموع 5/ 286: رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. أ. هـ , وقال العلامة الألباني: في أحكام الجنائز وبدعها ص 259 الطبعة الأولى 1412 هـ، الناشر مكتبة المعارف الرياض: إسناده صحيح على شرط الشيخين. أ. هـ. (¬3) قال بذلك الإمام أحمد، ومراده -رحمه الله- بالكراهة الحرمة. انظر: المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة جمع وتحقيق عبد الإله الأحمدي 2/ 129 الطبعة الأولى 1412 هـ، الناشر دار طيبة الرياض. وللتوسع. انظر: شرح مسلم للنووي 1/ 150 واقتضاء الصراط لابن تيمية 2/ 745 - 746 والزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي 1/ 211 طبعة 1402 هـ، الناشر دار المعرفة بيروت، والفتوى رقم 6208 من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، بالمملكة العربية السعودية.

لعن الذين يتخذون القبور مساجد

بل لعن الذين يتخذون القبور مساجد، وقال أيضاً في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: "لا تتخذوا قبري عيداً وصلّوا عليّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني"، فنهى أن يتخذ قبره عيداً؛ وهذا معنى المشاعر فإن المشاعر تتخذ أعياداً (¬1)، أي يجتمع الناس عندها في أوقات معتادة، والعيد اسم للوقت والمكان الذي يعتاد الاجتماع فيه، وقد يعبر به عن نفس الاجتماع المعتاد (¬2)، ولهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة عيداً وقال: "إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً" (¬3). وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه رأى قوماً ينتابون مكاناً يصلّون فيه، قال: ما هذا، قالوا: مكاناً صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد، إنما هلك من كان قبلكم بهذا من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض" (¬4)، فقد نهاهم عن اتخاذ آثار الأنبياء مساجد. وهذا لا ينافي قول عتبان بن مالك للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن السيول تحول بيني وبين قومي، فلو صليت في بيتي في مكان أتخذه مصلى، "فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى ركعتين" (¬5)، لأن عتبان كان مقصوده بناء مسجد لحاجته إليه وتبرك ¬

_ (¬1) من هنا يبدأ فراغ في السطر في (ف) لم يكتب فيه بمقدار ثلاث كلمات، وليس في الكلام سقط. (¬2) انظر: لسان العرب 3/ 319، والقاموس المحيط ص 386 مادة عود. (¬3) أخرجه ابن ماجه في (أبواب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة)؛ 1/ 197 رقم 1085، والطبراني في المعجم الصغير 1/ 149 رقم 350 طبعة كمال الحوت، وعبد الرزاق في المصنف مرسلاً 3/ 197 رقم 5301، وابن أبي شيبة في مصنفه 1/ 435 رقم 5016، قال الدوسري في النهج السديد ص 75 رقم 135: الحديث بهذه الطرق حسن لغيره. أ. هـ. (¬4) أخرج الأثر ابن أبي شيبة في مصنفه 2/ 151 رقم 7550، وسعيد بن منصور في سننه كما نقل المؤلف عنه في اقتضاء الصراط 2/ 751 - 752، وعبد الرزاق في مصنفه 2/ 118 - 119 رقم 2734، وابن وضاح في البدع والنهي عنها ص 41 - 42 (الطبعة الثانية 1402 هـ، الناشر دار الرائد العربي بيروت - لبنان) وصحح إسنادها المؤلف في قاعدة جليلة ص 203، وابن كثير في مسند الفاروق تحقيق د. عبد المعطي قلعجي ص 142 - 143 (الطبعة الأولى 1411 هـ, الناشر دار الوفاء المنصورة - مصر)، وقال العلامة الألباني في تحذير الساجد ص 93 صحيح على شرط الشيخين. أ. هـ وصححه غيرهم. (¬5) أخرجه البخاري في (كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت) 1/ 151 رقم =

بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيه أولاً، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - بنى مسجد قباء وبنى مسجده، والمسجد الذي يتخذه بناء أفضل من غيره، كما فُضل المسجد الحرام ومسجد سليمان [عليه السلام] (¬1)، بخلاف من لم يكن مقصوده إلا بناء مسجد لأجل ذلك الأثر. وأما ما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى في سفره النزول في مكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والصلاة في مصلاه (¬2)، فمن الناس من رخص في مثل ذلك، بخلاف ما إذا اجتمع على ذلك الناس؛ [ومن الناس] (¬3) من قال هذا أمر انفرد به ابن عمر -رضي الله عنه- (¬4). والخلفاء الراشدون [و] (¬5) الأكابر من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يكونوا يفعلون ذلك، وهم أعلم من ابن عمر وأعظم اتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان هذا مستحباً لفعله هؤلاء. ¬

_ = 425 بلفظ أطول من لفظ المؤلف. وقد شرح المؤلف -رحمه الله- هذا الحديث في مواضع أخرى. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 17/ 468. (¬1) ما بين المعقوفتين من (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف)، ومسجد سليمان هو مسجد بيت المقدس، فقد أخرج البخاري في (كتاب الأنبياء، لم يبوب) 2/ 1040 رقم 3366 عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى أربعون سنة. وكما هو معلوم أن الذي بنى المسجد الحرام هو إبراهيم -عليه السلام-، وبين إبراهيم وسليمان -عليه السلام- أكثر من ذلك، لذا اختلف العلماء على عدة أقوال، والراجح أن إبراهيم -عليه السلام- أسس المسجد الحرام، ويعقوب بن إسحاق -عليه السلام- أسس المسجد الأقصى بعد بناء إبراهيم الكعبة بأربعين سنة، وسليمان -عليه السلام- جدد بناء بيت المقدس. والله أعلم. انظر: تاريخ الطبري 1/ 286، وقصص الأنبياء لابن كثير 506، وفتح الباري لابن حجر 6/ 540 - 505، وخصائص الجزيرة العربية د. بكر أبو زيد ص 43 هـ. الثانية 1418 هـ الناشر دار ابن الجوزي. (¬2) أخرجه البخاري في (كتاب الصلاة، باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -) 1/ 167 رقم 483. (¬3) ما بين المعقوفتين من (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف)، وفي هامش الأصل لعله (ومن الناس). (¬4) أطال المؤلف في الكلام على هذه المسألة في اقتضاء الصراط 2/ 750 - 757. (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (من).

وأيضاً لما فتح المسلمون تستر (¬1) وجدوا فيها قبر دانيال وكان أهل البلد يستسقون به، فكتب في ذلك أبو موسى إلى عمر بن الخطاب (¬2)، فكتب إليه " [أن أحفر] (¬3) بالنهار ثلاثة عشر قبراً وادفنه بالليل في واحد منها لئلا [يفتتن به] (¬4) الناس فيستسقون به" (¬5). فهذه كانت (¬6) سنة الصحابة -رضوان الله عليهم- ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين لهم بإحسان على وجه الأرض في ديار الإسلام مسجد مبني على قبر، ولا مشهد يزار لا بالحجاز ولا اليمن ولا الشام ولا مصر ولا العراق ولا خراسان، وقد ذكر مالك -رحمه الله- أن وقوف الناس للدعاء عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون، [وقال: لا] (¬7) يصلح ¬

_ (¬1) تستر: بالضم ثم السكون، وفتح التاء الأخري وراء، وهي تعريب شوشتر ومعناه النزه والحسن والطيب واللطيف، من إقليم خوزستان فيه أنهار كثيرة أعظمها نهر تستر، ينسب إليها جماعة منهم سهل التستري، وفيها وجد دانيال الذي نحن بصدد ذكره. انظر: معجم البلدان 2/ 34 - 36 رقم 2517. (¬2) في (ف) -رضي الله عنه-، ومن هنا يبدأ فراغ في الأسطر مثل ما سبق. (¬3) ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (انحفر). (¬4) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) يعتريه، وما أثبت أعلاه يوافق لفظ الأثر في مصادره. (¬5) وردت عدة روايات في دفن دانيال -عليه السلام-، فذكر الطبري في تاريخه 2/ 505 الخبر ولم يذكر طريقة الدفن، وقال البلاذري في فتوح البلدان ص 386 (الطبعة الأولى بمطبعة الموسوعات القاهرة - مصر) إن أبا موسى دفنه في نهر وأجرى الماء عليه، وقال ابن كثير في قصص الأنبياء ص 529، وروى ابن أبي الدنيا هذا الخبر من غير وجه في، كتابه القبور وذكر إخفاء أبي موسى لقبره لكيلا يعلم به أحد. (ولم أقف على كتاب القبور لابن أبي الدنيا مطبوعاً أو مخطوطاً)، وروى ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 40، وفي قصص الأنبياء ص 528 عن أبي العالية. قال: حفرنا ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها، لنعميه عن الناس فلا ينبشونه، قلت: فما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطروا ... إلى آخره. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية. أ. هـ. (¬6) إلى هنا انتهى الفراغ في أسطر (ف). (¬7) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (قال ولا).

زيارة القبور للدعاء للميت

[آخر] (¬1) هذه الأمة إلا ما أصلح أولها (¬2). فأما ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور فإنما هو دعاء للميت كالدعاء في الصلاة على جنازته، والسنة في الدعاء التعميم كما في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بعلي وهو يدعو فقال: "يا علي عمّ فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض" (¬3)، ولهذا يقال في دعاء الجنازة: "اللهم اغفر لحيّنا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا" (¬4)، ولم يخص الميت بالدعاء. وكذلك يقال في السلام على الموتى: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية" (¬5)، كما يقال في الصلاة: "السلام ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف). (¬2) انظر: الشفاء للقاضي عياض 2/ 205 تحقيق محمد أمين فره وآخرين، الناشر مكتبة الفارابي ومؤسسة علوم القرآن دمشق. (¬3) أخرجه أبو داود في المراسيل، باب ما جاء في الدعاء، ص 101 عن عمرو بن شعيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقد خرج لصلاة الفجر، وعلي يقول: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم تب علّي، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على منكبه، وقال: "عم ففضلُ ما بين العموم والخصوص كما بين السماء والأرض"، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 130 في (كتاب الصلاة، باب ما على الإمام من تعميم الدعاء) بنحوه مرسلاً، وعزاه جمال الدين المزي في تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، تصحيح عبد الصمد شرف الدين 13/ 326 رقم 19171 (الطبعة الأولى 1403 هـ، الناشر الدار القيمة بمباي - الهند ومعه النكت الظراف لابن حجر) لأبي داود في المراسيل وذكره بلفظ المؤلف. (¬4) أخرجه أبو داود في (كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت) 3/ 539 رقم 3201، والترمذي في (كتاب الجنائز، باب ما يقول في الصلاة على الميت) 3/ 343 رقم 1024 واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في (كتاب الجنائز، باب الدعاء) 4/ 74 رقم 1984، وأحمد في المسند 8/ 305، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 33: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. أ. هـ. (¬5) أخرجه مسلم في (كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة) 1/ 218 رقم 249 وفي (كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور) 2/ 669 رقم 974، وأبو داود في (كتاب الجنائز، باب ما يقول إذا زار القبور أو مر بها) رقم 3237، 3/ 558، والنسائي في (كتاب الجنائز، باب الأمر بالاستغفار للمؤمنين) رقم 2035، 4/ 791، وابن ماجه في =

أقوال المفسرين في الوسيلة

علينا وعلى عباد الله الصالحين" (¬1)، وكما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا ذكر نبينا قال "يرحمنا الله وفلاناً" (¬2)، وكما يقول الخطيب وأستغفر الله لي ولكم. والمقصود [بالصلاة على] (¬3) الجنازة (¬4) الدعاء للميت وغيره يدخل تبعاً، بخلاف من يكون قصده أن يدعو لنفسه بالميت أو عند الميت وهذا كله من الدعاء عند القبور. وأما دعاء الميت وسؤاله بلفظ الاستغاثة وغيرها، كقول الداعي أطلب منك المغفرة أو الرحمة أو قضاء الدين أو النصر على العدو، فهذا مما نهى عنه القرآن، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 56]- 57]، في التفسير الصحيح عن مجاهد {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}، قال: عيسى ابن مريم وعزير والملائكة، وكذلك عن إبراهيم النخعي قال: كان ابن عباس يقول في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} هو عزير المسيح والشمس والقمر (¬5). وكذلك روى شعبة عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: ¬

_ = (أبواب الجنائز، باب ما يقال إذا دخل المقابر) 1/ 283 رقم 1546 جميعهم بألفاظ متقاربة، وقريبة من سياق المؤلف ولفظه. وقد أخرجه غيرهم. (¬1) أخرجه البخاري في (كتاب الأذان، باب التشهد في الآخرة) رقم 831، 1/ 253 من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وأوله: "كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث". (¬2) أخرجه الترمذي في (كتاب الدعاء، باب ما جاء أن الداعي يبدأ لنفسه) رقم 3385، 5/ 463 عن أبيّ بن كعب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه" وقال: حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه (أبواب الدعاء، باب إذا دعا أحدكم فليبدأ بنفسه) رقم 3897، 2/ 345 ولفظه: "يرحمنا الله وأخا عاد". (¬3) ما بين المعقوفين من (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف). (¬4) في الأصل و (ف) بالجنازة زيادة باء في أولها. (¬5) انظر: تفسير الطبري 8/ 96، وتفسير ابن كثير 3/ 47.

عيسى وأمه والعزير في هذه الآية (¬1): {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (¬2). وروى قتادة عن عبد الله بن معبد الزماني (¬3) عن ابن مسعود قال: كان قبائل من العرب يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن، ويقولون هم بنات الله، فأنزل الله -تبارك وتعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (¬4) , وفي رواية عن الزماني (¬5) عن عبد الله بن عتبة بن مسعود (عن عبد الله) (¬6) قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن، فأسلم الجنيون والأنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنزلت: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (¬7). وكذلك قال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: {الَّذِينَ يَدْعُونَ} الملائكة تبتغي إلى ربها الوسيلة {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}، قال: وهؤلاء الذين عبدوا الملائكة من (¬8) المشركين (¬9). وكذلك ذكر العوفي في تفسيره عن ابن عباس قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً (¬10). وثبت أيضاً في [صحيح البخاري] (¬11) عن ابن مسعود أنه قال: كان ناس ¬

_ (¬1) (الآية) سقطت من (د). (¬2) انظر: تفسير الطبري 8/ 96، وتفسير ابن كثير 3/ 47. (¬3) في (د) و (ح) الرماني بالراء، وما أُثبت أعلاه بالزاي هو الصواب. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر 1/ 537 رقم 3644. (¬4) انظر: تفسير الطبري 8/ 96. (¬5) في (د) و (ح) الرماني. (¬6) ما بين القوسين سقط من (د)، وهو عبد الله بن مسعود الصحابي -رضي الله عنه-. (¬7) أخرجه مسلم في كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 4/ 2321 رقم 3030. (¬8) من هنا يبدأ فراغ في أسطر (ف)، وليس فيه سقط في الكلام كما سبق إيضاحه. (¬9) انظر: تفسير الطبري 8/ 96. (¬10) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 46. (¬11) ما بين المعقوفين من (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (الصحيح للبخاري).

يعبدون قوماً من الجن فأسلم (¬1) الجن وبقي الإنس على كفرهم فأنزل الله -تعالى- {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (¬2) يعني الجن (¬3). وهذا معروف عن ابن مسعود من غير وجه, وهذه الأقوال كلها حق, فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابداً لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف -رضي الله عنهم- في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز؟ فيريه رغيفاً فيقول هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه. وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين, فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً, وهذا موجود في الملائكة والجن والإنس. وقد اختار [الطبري] (¬4) قول من فسرها بالملائكة أو الجن لأنهم كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتغون إلى ربهم الوسيلة, بخلاف المسيح والعزيز فإنهما لم يكونا [موجودين] (¬5) على عهده, فلم يكونا حينئذٍ ممن يبتغي الوسيلة, إذ ابتغاء الوسيلة العمل بطاعة الله والتقرب إليه بالصالح من الأعمال, فأما من كان لا سبيل له إلى العمل، فبم يبتغي إلى ربه الوسيلة, وهذا الذي قاله إن كان صواباً فهو أبلغ في النهي عن دعاء المسيح وعزير وغيرهما من الأموات من الأنبياء والصالحين، فإنه إذا كان الحي الذي يتقرب إلى ربه بالعمل لا يجوز دعاؤه, فدعاء الميت الذي لا يتقرب بالعمل أولى أن لا يجوز؛ وإن كانت الآية تعم هذا وهذا، فهي دالة على ذلك, فدلالتها ثابتة على كل تقدير. ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى الفراغ في أسطر (ف). (¬2) في (د) زاد {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}. (¬3) (كتاب التفسير، باب {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)} 3/ 1460 رقم 4714 بلفظ قريب جداً. (¬4) كذا في (ت) و (ط)، وفي الأصل و (ف) و (د) و (ح) الطبراني وهو تصحيف، لأن هذا الاختيار لابن جرير الطبري صاحب التفسير. انظر: 8/ 97، واختار ذلك أيضاً ابن كثير القرآن العظيم 3/ 47 وهو الصواب، والله أعلم. (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ماجودين).

والصحيح أنها تعم هؤلاء وهؤلاء، وذلك أن أولئك (¬1) كانوا في حياتهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وهو لم يقيد ذلك بزمن النزول بل أطلق، وإذا قال القائل: آدم ونوح وإبراهيم وموسى يعبدون الله ولا يشركون به، عُلم أن مراد هذا دينهم، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 44]، كان حكم [النبيون] بها قبل نزول الآية بدهر. والعرب تقول: مرض (¬2) حتى لا يرجونه، وشربت الإبل حتى يجيء البعير فيقول برأسه كذا، ومنه قراءة من قرأ: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] وهذا ماض (¬3)، وقد قال -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، وهذا قد مضى قبل نزول القرآن والفعل مضارع لأنه حكى حالهم في الماضي. ولهذا يقول النحاة: هذا حكاية حال (¬4)، كقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18]، فإن قيل: المعروف في مثل هذا أن يقال كانوا يفعلون (¬5)، كما قال -تعالى-: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]. قيل: لكن إذا كان في الكلام ما يبيّن المراد لم يحتج إلى ذلك، لا سيما إذا ذكر ماضٍ وحاضر عمهم الخطاب فهنا يتعين حذف كان، لأن المقصود الإخبار عن حال هؤلاء الحاضرين لا يخبر عنهم بكان، كما تقول: المؤمنون من الأولين والآخرين يعبدون الله لا يشركين به، (وإذا أفردت الماضي قلت: المؤمنون كانوا يعبدون الله لا يشركون به) (¬6). ¬

_ (¬1) في (د) و (ح) هؤلاء. (¬2) في (د) مض. (¬3) قرأ نافع بالرفع {حَتَّى يَقُولُ} والباقون بالنصب، والرفع على تأويله بالحال، والنصب على تأويله بالمستقبل، والاختيار بالنصب لأن جماعة القراء عليه. انظر: تفسير الطبري 2/ 354، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 34، وشرح التحفة الوردية لزين الدين أبي حفص الوردي، تحقيق د. عبد الله الشلال ص 372 طبعة 1409 هـ الناشر مكتبة الرشد الرياض. (¬4) في (د) و (ح) (هؤلاء) وهي زيادة. (¬5) في (د) يفعلونه. (¬6) ما بين القوسين سقط من (د).

إثبات صفة الساق للرب تعالى

والاَية هنا قُصد بها التعميم لكل ما يُدعى من دون الله، وكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها؛ فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن. ومعلوم أن هؤلاء كلهم يكونون وسائط فيما يُقدّره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى الله -تعالى- عن دعائهم، وبيّن أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله، لا يرفعونه (¬1) بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع أيضاً، فلا يرفعونه ولا يحولونه من حال إلى حال كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: {وَلَا تَحْوِيلًا}، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل، يقال: كشف البلاء، أي: أزاله ورفعه، ويقال: كشف عنه أي أظهره وبيّنه، فمن الأولى قوله: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} [النحل: 54]، وقوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون: 75]، وقوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)} (¬2) [الأعراف: 135]. ومن الثاني قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] لم يقل يوم يكشف الساق، وهذا يبيّن خطأ من قال المراد بهذه كشف الشدة، وأن الشدة تسمى ساقاً، فإنه لو أريد ذلك لقيل يوم يكشف [الساق] (¬3) أو يكشف الشدة، وأيضاً فيوم القيامة لا يكشف الشدة عن الكفار، والرواية في ذلك عن ابن عباس [ساقطة] (¬4) الإسناد (¬5). ¬

_ (¬1) في (د) و (ح) (ولا يعرفونه) بزيادة واو. (¬2) في جميع النسخ: "فلما كشفنا عنهم العذاب إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون". (¬3) بياض في جميع النسخ، وفي هامش الأصل (لعله الساق)، قلت: وهو الأقرب للصواب، وفي هامش (د) (عند الشدة). (¬4) كذا في (ح) وفي الأصل و (د) و (ف) ساقط. (¬5) لم يتنازع الصحابة -رضوان الله عليهم- في شيء من آيات الصفات، إلا في تفسير هذه الآية فرُوي عن ابن عباس وطائفة أن المراد به الشدة، وأن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/ 394، ومختصر الصواعق لابن قيم 1/ 25. والروايات عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجها الطبري في تفسيره 12/ 197. =

والاستغاثة هي طلب كشف الشدة، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين (أو دعا الملائكة) (¬1) أو دعا الجن، فقد دعا [من] (¬2) لا يغيثه، فلا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله. وقد قال -تعالى-: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: 6]، كان أحدهم إذا نزل بواد يقول: أعوذ بعظيم هذا ¬

_ = وضعَّف الروايات عن ابن عباس محمد بن موسى نصر في كتابه صفة الساق لله تعالى بين إثبات السلف وتعطيل الخلف ص 23 الطبعة الأولى 1413 هـ، الناشر مكتبة الغرباء الأثرية المدينة، ونقل تضعيفها عن سليم الهلالي في ص 26؛ كما ضعفها مشهور حسن في الردود ص 113، وقال ابن القيم في مختصر الصواعق المرسلة 1/ 25: إنما أثبتوا صفة الساق بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته وهو حديث الشفاعة الطويل (أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} 5/ 2321 رقم 7439 وفيه: "فيكشف عن ساقه"، ومن حمل الآية على ذلك قال في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيكشف عن ساقه" وتنكيره للتعظيم والتفخيم، كأنه قال يكشف عن ساق عظيمة. أ. هـ. قلت: وقد وردت أحاديث أخرى صحيحة في صفة الساق. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1/ 124 - 129 الطبعة الرابعة 1405 هـ، المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. وأيضاً يقال: إن ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه -سبحانه وتعالى-. أ. هـ. صفات الله -عز وجل- الواردة في الكتاب والسنة، تأليف علوي عبد القادر السقاف ط. الأولى 1414 هـ الناشر دار الهجرة ص 138. وبهذا فسر الآية ابن جرير الطبري في تفسيره 12/ 199، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم 4/ 407 مع ذكرهم للروايات السابقة وغيرها، وهذا هو الصواب، وإنما منع بعضهم حمل الآية على ذلك لإنكارهم صفة الساق أصلاً، وما علموا أنها ثابتة بالحديث الصحيح المتفق على صحته، وحمل معنى الآية على ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى من تفسير الصحابي وإن زعموا الصحة، أما الصحابة وسلف الأمة الذين فسروا الآية بالشدة فهم مثبتون لصفة الساق وليس من التأويل الذي هو صرف الآية عن ظاهرها، بل حكاية لقول أهل اللغة. وللتوسع. انظر: صفة الساق لله -تعالى- بين إثبات السلف وتعطيل الخلف، تأليف محمد موسى نصر ص 15 وما بعدها، والردود والتعقبات على ما وقع للإمام النووي، تصنيف مشهور بن حسن ص 111 - 121 الطبعة الثانية 1415 هـ دار الهجرة. (¬1) ما بين القوسين سقط من (د). (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ما).

الاستعاذة لا تصح بمخلوق وأدلة ذلك

الوادي من سفهائه، فقالت الجن: الإنس يستعيذوننا فزيدوهم رهقاً (¬1). وقد نص الأئمة (¬2) كأحمد وغيره على أنه لا يجوز [الاستعاذة] (¬3) بمخلوق (¬4)، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، كقوله: "أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق" (¬5)، "وأعوذ بكلمات الله التامات كلها من غضبه وعذابه (¬6) وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون" (¬7) "وأعوذ بكلمات الله التامات [التي] (¬8) لا يجاوزهن بر ولا فاجر، و (¬9) من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض و (من شر) (¬10) ما ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً بخير يا رحمن" (¬11). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن جرير الطبري 12/ 263، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/ 428 - 429. (¬2) في (د) الآية. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل الاستغاثة، وفي هامش الأصل: (لعل الاستعاذة صواب). (¬4) نقل ذلك عن الإمام أحمد الخطابي في معالم السنن 5/ 105 بهامش سنن أبي داود، طبعة 1401 هـ مطبعة المستشرقين، وقاله البخاري في خلق أفعال العباد ص 89. (¬5) أخرجه مسلم في (كتاب الذكر والدعاء، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره) 4/ 2080 رقم 2708 بدون قوله "كلها". (¬6) في (ف) (عقابه) وهي موافقة لرواية الترمذي وأحمد وغيرهما. (¬7) أخرجه الترمذي في (كتاب الدعوات، باب 93) رقم 3528، 5/ 541، وقال الترمذي. حديث حسن غريب، وأبو داود في (كتاب الطب، باب كيف الرقى) رقم 3893، 4/ 218 - 219، وأحمد في المسند 2/ 181 واللفظ للترمذي بدون قوله "كلها"، وقد أخرجه غيرهم. وفي الحديث عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، قال: بشير عيون في حاشية الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيم بتحقيقه، الطبعة الثالثة 1409 هـ، الناشر مكتبة المؤيد ص 212: ولكن له شاهد مرسل في الموطأ وابن السني. أ. هـ. (¬8) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (الذي). (¬9) سقطت الواو من (د). (¬10) ما بين القوسين سقط من (د) و (ح). (¬11) أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 419 من حديث عبد الرحمن بن خنبش =

قالوا: والاستعاذة لا تجوز بالمخلوق, وقول القائل أعوذ بالله معناه أستجير بالله، فإذا لم يجز أن يستغاث بمخلوق لا نبي ولا غيره, فإنه لا يجوز أن يقال له: "أنت خير معاذ يستغاث به" بطريق الأولى والأحرى. ولهذا قال بعض الشعراء لبعض الرؤساء الممدوحين: يا من ألوذُ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به فيما أُحاذره لا يجبر الناسُ عظماً أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنتَ جابره (¬1) فقول القائل لمن مات من الأنبياء أو غيرهم: بك أستجير من كذا وكذا، كقوله: بك أستعيذ، وقوله: بك أستغيث في معنى ذلك, إذا كان مطلوبه منع الشدة أو رفعها، والمستعيذ بطلب منع المستعاذ منه أو رفعه, فإذا كان مخوفاً (¬2) طلب منعه، كقوله: "أعوذ بالله من عذاب جهنم, ومن عذاب ¬

_ = واللفظ له، وابن السني في (عمل اليوم والليلة، باب من يخاف مردة الشياطين) رقم 642 ص 238، ومالك في الموطأ في (كتاب الشعر, باب ما يؤمر بالتعوذ منه) رقم 210/ 950 , وأبو يعلى في مسنده رقم 6844، 12/ 237، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 127: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجال إسنادي أحمد وأبي يعلى وبعض أسانيد الطبراني رجال الصحيح. أ. هـ. وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/ 518 رقم 840: والإسناد صحيح، ورجاله إلى ابن خنبش على شرط مسلم، وقد اختلفوا في صحبته، وقد اختار الحافظ ابن حجر في الإصابة قول من جزم بأن له صحبة، وهذا الحديث يشهد لذلك، فإنه قد صرح فيه أنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. أ. هـ. (¬1) البيتان لأبي الطيب المتنبي -الشاعر المشهور- في مدح جعفر بن كيغلغ من قصيدة مطلعها: حاشى الرقيب فخانته ضمائره ... وغيض الدمع فانهلت بوادره انظر: ديوان المتنبي طبعة 1403 هـ، الناشر دار بيروت - لبنان ص 41، وقد أسرف في المدح. قال ابن كثير في البداية والنهاية 11/ 275: بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه كان ينكر على المتنبي، هذه المبالغة في مخلوق، ولقول: إنما يصلح هذا لجناب الله -سبحانه وتعالى-، وقال ابن القيم: سمعت ابن تيمية يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود، أدعو الله بما تضمناه في الذل والخضوع. أ. هـ. وقال ابن القيم أيضاً في شفاء العليل في القضاء والقدر 2/ 191: ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله. أ. هـ. (¬2) في (د) و (ح) لخوف.

القبر" (¬1)، وإن كان حاضراً: طلب رفعه كقوله (¬2) في الحديث الصحيح: "أعوذ بعزة [الله] (¬3) وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (¬4)، فتعوَّذ بالله من شر الموجود وشر المحاذر. والداعي يطلب أحد شيئين: إما حصول منفعة أو دفع مضرة، فالاستعاذة والاستجارة والاستغاثة كلها من نوع الدعاء والطلب، وقول القائل لا [يستعاذ] (¬5) به ولا يستجار به ولا يستغاث (¬6) به ألفاظ متقاربة. ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يدعى ويذكر عنده؛ فإنه سبحان يستجار به ويستغاث به هناك، ويتمسك المتمسك (¬7) بأستار الكعبة كما يتعلق المتعلق بأذيال من يستجير به، ومنه قول عمرو (¬8) بن سعيد لأبي شريح: "إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة" (¬9)، وفي الحديث الصحيح: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في (كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة) 1/ 412 رقم 588 وأوله عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع. يقول: اللهم إني أعوذ بك ... الحديث". (¬2) في (د) كلمة غير واضحة. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل. (¬4) أخرجه مسلم في (كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء) رقم 2202، 4/ 1728 من حديث عثمان بن أبي العاص وأوله: "أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً ... ". (¬5) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل (يسغاث) وفي (ف) (يستغاث). (¬6) في (ف) ولا يستعاذ. (¬7) في (د) الممسك. (¬8) في (د) عمر، والصواب عمرو، وهو عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي يُعرف بالأشدق، قال عنه ابن حجر في فتح الباري 1/ 264: ليست له صحبة ولا كان من التابعين لهم بإحسان. أ. هـ. وأبو شريح اختلف في اسمه، والمشهور أنه خويلد بن عمرو، أسلم قبل الفتح وهو من خزاعة، حمل بعض ألوية قومه، له صحبة، توفي سنة 68 هـ بالمدينة. انظر: فتح الباري 4/ 51. (¬9) أخرجه البخاري في (كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب) 1/ 60 رقم 104، واللفظ له بسياق أطول من سياق المؤلف. و (لا تُعيذ) بضم المثناة أوله أي مكة لا تعصم العاصي عن إقامة الحد عليه. و (لا فاراً) بالفاء والراء المشددة أي: هارباً عليه دم يعتصم بمكة كيلاً يقتص منه. و (بخربة) بفتح المعجمة وإسكان الراء: يعني السرقة كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي، والخربة بالضم يعني: الفساد. انظر: فتح الباري لابن حجر 1/ 265.

الثناء على الله -عزوجل - شعرا

"يعوذ عائذ بهذا البيت" (¬1). ومنه قول القائل: ستور بيتك ذيلُ الأمن منك وقد ... عَلَّقْتُها مستجيراً أيها الباري وما أظنك لما أن عَلِقْتُ بها ... خوفاً من النار تدنيني من النارِ (¬2) ويسمى ذلك المكان المستجارة (¬3)، وقد كان من السلف من يدخل بين الكعبة وأستارها فيستعيذ ويستجير بالله ويدعوه ويتضرع إليه هناك. ويجوز مدح الله والثناء عليه بالنظم وكذلك دعاؤه، كما قال الأسود بن سريع للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما نظم شعراً في مدح الله -تعالى- فقال: إني حمدت ربي بمحامد، فقال: "إن ربك يحب الحمد" (¬4)، فلم ينكر عليه ذلك، لكن رُوي أنه قال ولم يستنشده، وروى أنه استنشده كما روى الإمام أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول الله إني مدحت ربي (¬5) بمدحه ومدحتك بأخرى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هات وابدأ بمدحة الله" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت) 4/ 2208 رقم 2882 من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- وأوله: "دخل الحارث بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان وأنا معهما -أي عبيد الله القطبية- على أم سلمة فسألها عن الجيش الذي يخسف به، وكان ذلك أيام الزبير فقالت: "يعوذ عائذ بالبيت ... " الحديث. (¬2) لم أعرف القائل. (¬3) في (ف) المستجار. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 435 والحاكم في المستدرك في كتاب معرفة الصحابة 3/ 614 وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، والطبراني، في المعجم الكبير 1/ 282 بالأرقام: 820، 821، 822، 823، 824، 825، والبخاري في الأدب المفرد باب من الشعر لحكمة ص 289 رقم 864 ط كمال الحوت، واللفظ لحاكم وحسنه العلامة ناصر الدين الألباني في صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري ص 320 رقم 660، الطبعة الثانية 1415 هـ، الناشر دار الصديق الجبيل - السعودية. (¬5) في (ف) و (د) و (ح) الله. (¬6) أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 435، 4/ 24، واللفظ له، والحاكم في المستدرك 3/ 615 كتاب معرفة الصحابة وقال: حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله: معمر له مناكير، اسمه معمر بن بكار السعدي. أ. هـ والطبراني في المعجم الكبير 1/ 282 رقم 819، والبخاري في الأدب المفرد باب من مدح في الشعر ص 125 رقم 343 =

ولكن ثبت عنه أنه كان يستنشد (¬1) الشريد بن السويد الثقفي شعر أمية بن أبي الصلت وهو يقول: هيه هيه (¬2). وذلك مثل قوله: مجّدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا [بالبناء] (¬3) الأعلى سبق الناس ... وسوَّى [فوق] (¬4) السماء سريرا شرجعاً ما يناله بصر العين ... ترى دونه الملائك صورا (¬5) وقوله: [زحل] (¬6) وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى ليث مرصد (¬7) ¬

_ = ترتيب كمال الحوت الطبعه الثانية 1405 هـ، الناشر عالم الكتب بيروت - لبنان، وقد ضعفه العلامة الألباني في ضعيف الأدب المفرد ص 45 رقم 55، الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار الصديق الجبيل، وقال: ضعيف بهذا التمام. أ. هـ والراجح -والله أعلم- أنه لم يستنشده. (¬1) في الأصل و (ف) زيادة (هاء). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الشعر ولم يبوب 4/ 1767 رقم 2255 ولفظه: "قال ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ قلت: نعم، قال: "هيه" فأنشدته بيتاً, فقال: "هيه"، ثم أنشدته بيتاً فقال: "هيه حتى أنشدته مائة بيت" وزاد في رواية: "إن كاد ليسلم". (¬3) كذا في (د) و (ح) وفي وصل و (ف) (فالبناء)، وما أثبت أعلاه هو الموافق لهذه الأبيات في مصادرها. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (قو) هكذا. (¬5) انظر: ديوان أمية بن أبي الصلت، جمع بشير يموت ص 33 - 34 (الطبعة الأولى 1934 م، الناشر المكتبة الأهلية بيروت - لبنان) وفيه البيت الثاني قبل الثالث: ذلك المنشئ الحجارة ... والموتى أحياهم وكان قديرا وذكر هذه الأبيات ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 233. والشرجع هو الطويل. انظر: لسان العرب 8/ 179، وقال ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 11: الشرجع هو العالي المنيف، ولا منافاة، فالشرجع وصف للسرير وهو العرش. أ. هـ. وصوراً جمع أصور وهو: المائل العنق لثقل حمله. لسان العرب 4/ 474 مادة صور. (¬6) في جميع النسخ (رجل)، وعند الدارمي وابن كثير في تاريخه وديوانه أمية بن أبي الصلت (زحل) وفي المسند (رجل) كما سيأتي، ونقل عن المسند ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 232، والهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 127 قوله (زحل) بالزاي وهو الصواب، ولعل ما في المسند خطأ طباعي. (¬7) أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 256، والدارمي في (كتاب الاستئذان، باب =

وغير ذلك. ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أخاكم لا يقول الرفث" (¬1) يعني ابن رواحة، وذلك كقوله الذي أنشده للنبي - صلى الله عليه وسلم -: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا (¬2) وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسوّمينا (¬3) [وقوله] (¬4): وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع [أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع] (¬5) يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع (¬6) ¬

_ = في الشعر) 5/ 602 رقم 2706، ولفظه عن ابن عباس قال: صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - أمية بن أبي الصلت في شيء من شعره فقال: زحل وثور ... (البيت) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدق ... " إلخ. وفي سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد عنعن، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 127: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجاله ثقات وفيه ابن إسحاق مدلس. أ. هـ. وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 2/ 232، وديوان أمية بن أبي الصلت، جمع بشير يموت ص 25. وزُحَلُ: اسم كوكب. انظر: لسان العرب 11/ 303 مادة زحل، وثور برج من بروج السماء على التشبيه. لسان العرب 4/ 112 مادة ثور، ونسر هو أحد كوكبين في السماء معروفين على التشبيه بالنسر الطائر. لسان العرب 5/ 204 مادة نسر. (¬1) أخرجه البخاري في (كتاب التهجد، باب فضل من تعارَّ في الليل فصلى) برقم 1155، 1/ 344 من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وطرفه رقم 6151. (¬2) في الأصل: (وقوله) حيث فصل البيت الثالث وهو مخالف لجميع النسخ. (¬3) أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية ص 46 رقم 82، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ص 343 جزء عبد الله بن جابر وعبد الله بن زيد، تحقيق د. شكرى فيصل وآخرين (طبعة مجمع اللغة العربية بدمشق - سوريا) واللفظ لابن عساكر، قال بدر البدر في تخريج الرد على الجهمية حاشية ص 47: وطرقه ضعيفة ضعفاً لا يقوي بعضها بعضاً ومتنه منكر. أ. هـ. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وتقدمت في الأصل قبل البيت الثالث. (¬5) كذا في (ح) وهو الموافق لما ورد في صحيح الإمام البخاري، وفي ديوان ابن رواحة -رضي الله عنه-، وفي الأصل و (ف) و (د) تأخر هذا البيت بعد الثالث. (¬6) هذه الأبيات جزء من حديث أبي هريرة المتقدم، أخرجه البخاري في =

ومن ذلك ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة يتمثلون به: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلنْ سكينة علينا ... وثَبِّت الأقدام إن لاقينا إن الأُولى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا (¬1) وهذا النظم فيه دعاء الله. فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا ومثل هذا البيت قولهم: اللهم، ويقال فيه لَاهُمَّ إن العيش، كما في قول عبد المطلب: لاهُمَّ إن المرء يمنع رحله ... (وحلاله) (¬2) فامنع حِلالك (¬3) ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن تغفر اللهم تغفر جمّاً ... وأي عبد لك لا (¬4) ألمّاً (¬5) ¬

_ = (كتاب التهجد، باب فضل من تعارَّ في الليل فصلى) 1/ 344 رقم 1155 وطرفه رقم 6151، وانظر: ديوان عبد الله بن رواحة ودراسة في سيرته وشعره جمع د. وليد القصاب ص 93، الطبعة الأولى 1402 هـ، الناشر دار العلوم. (¬1) أخرجه البخاري في (كتاب المغازي، باب غزوة الخندق) رقم 4107، 3/ 1252 - 1253 من حديث البراء بن عازب قال: لما كان يوم الخندق، وخندق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته ينقل من تراب الخندق، حتى وارى عني التراب بجلد بطنه -وكان كثير الشعر- فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التراب، فذكر الأبيات، قال: ثم يمد صوته بآخرها. وأطرافه رقم: 4105، 7236. (¬2) ما بين القوسين سقطت من (د). (¬3) هذا البيت لعبد المطلب بن هشام جد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قاله يستنصر بالله -عز وجل- على أبرهة حيث أراد هدم الكعبة، فقال وهو آخذ بحلقة باب الكعبة هذا البيت دون قوله (وحلاله) ويتلوه: لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك انظر: سيرة ابن هشام 1/ 51، وتاريخ الأمم والملوك للطبري 1/ 442، والبداية والنهاية لابن كثير 2/ 176. لاهُمَّ: يريد اللهم، حذفت الألف واللام. انظر: لسان العرب 12/ 555 مادة لهم، وسيرة ابن هشام 1/ 51، وحِلالك: بالكسر، القوم المقيمون المتجاورون، يريد بهم سكان الحرم. لسان العرب 11/ 165 مادة حلل. (¬4) في (د) ما. (¬5) أخرجه الترمذي في (كتاب تفسير القرآن، باب من سورة النجم) 5/ 396 رقم =

تمثل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشعر وجواز إنشاده

ومنه قول الصحابة: اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة (¬1) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل به، لكن رُوي أنه قال: "فاغفر للمهاجرين والأنصار" (¬2)، وهذا دعاء في الشعر وقد أقر الصحابة على قوله، فدل على جوازه. وإن كان هو - صلى الله عليه وسلم - لا يقول الشعر، فذلك من خصائصه كما قال -تعالى-: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ينظم الشعر ولكن هل تمثل به؟ أو لم يتمثل بشعر؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه (¬3). ¬

_ = 3284 عن ابن عباس في تفسيره قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر البيت -قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق، والحاكم في المستدرك في كتاب التفسير 2/ 470 وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وابن جرير الطبري في تفسيره 11/ 527 - 528 في تفسير سورة النجم الآية 32 عن مجاهد قال: وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون- وذكر البيت، وقال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 4/ 256 ساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل وفي صحته مرفوعاً نظر. أ. هـ. والراجح أن قائل هذا البيت هو أمية بن أبي الصلت كما نسبه إليه ابن منظور في لسان العرب 12/ 549 مادة لم، وابن كثير في تاريخه 2/ 230، وفضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد لفضل الله الجيلاني 2/ 318 الطبعة الثانية 1388 هـ الناشر المطبعة السلفية ومكتبتها القاهرة - مصر ويتلوه: إني إذا ما حدث ألما ... أقول ياللهم ياللهما (¬1) أخرجه البخاري في (كتاب المغازي، باب غزوة الخندق) 3/ 1250 رقم 4099 وطرفه 4100 من حديث أنس يقول: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: .... الحديث"، وهذا البيت ينسب لعبد الله بن رواحة، وتمثل به النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: فتح الباري لابن حجر 7/ 501. (¬2) أخرجه البخاري في الموضع السابق من صحيحه رقم 4098، قال ابن حجر في فتح الباري 7/ 501: قوله (فاغفر للمهاجرين والأنصار) وفي حديث أنس بعده: (فاغفر للأنصار والمهاجرة)، وكلاهما غير موزون، ولعله - صلى الله عليه وسلم - تعمد ذلك. أ. هـ. (¬3) والصحيح جواز تمثل، النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء من الشعر حاكياً عن غيره، لما ثبت عن المقداد بن شريح عن أبيه عن عائشة قال: قيل لها: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل بشعر ابن رواحة، ويتمثل ويقول: "ويأتيك بالأخبار من لم تزود". =

وليس كل الشعر مذموم بل منه ما هو مباح كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن من الشعر لحكمة" (¬1)، وقد قال -تعالى-: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} [الشعراء: 224 - 227]. فقد استثنى ممن ذمه [الله] (¬2) من الشعراء من ذكره، فدل ذلك على أنه ليس كل الشعراء مذمومين، وقد ثبت في الصحيح أنه كان ينصب لحسان بن ثابت منبراً ويأمره بهجاء المشركين ويقول: "اللهم أيده بروح القدس" (¬3)، وفي رواية: "إن روح القدس معك ما نافحت عن [الله و] (¬4) رسوله" (¬5). وقد سمع شعر خزاعة؛ لما قدموا عليه حين عدت بنو بكر على خزاعة وأنشدوه القصيدة المعروفة التي فيها: ¬

_ = أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/ 138، وغيره، وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/ 89 رقم 2057، ولا منافاة بين الحديث وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، فإن التمثل بالبيت وإصابة القافية من الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالماً بالشعر، ولا يسمى شاعراً باتفاق العلماء. وللتوسع. انظر: تفسير الطبري 10/ 461، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/ 51 - 53 وغاية السول في خصائص الرسول لأبي حفص عمر الأنصاري المشهور بابن الملقن، تحقيق عبد الله بحر الدين عبد الله ص 135 - 136، الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار البشائر الإسلامية بيروت - لبنان. (¬1) أخرجه البخاري في (كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه) برقم 6145، 4/ 1936 من حديث أبي بن كعب. (¬2) كذا في (د) و (ح) وزاد في (د) تعالى، وسقط لفظ الجلالة من الأصل و (ف). (¬3) أخرجه البخاري في (كتاب الصلاة، باب الشعر في المسجد) رقم 453، 1/ 159 وطرفاه رقم 3212، 6153. (¬4) ما بين المعقوفين من (ح)، وهو الموافق للفظ الحديث عند مسلم وأبي داود، وسقط من الأصل و (ف) و (د). (¬5) أخرجه مسلم في (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت) رقم 2490، 4/ 1935 وأبو داود في (كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر) رقم 5015، 5/ 280 واللفظ له.

صلاة القبورية إلى القبور وحجهم إليها وغلوهم في ذلك

إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا (¬1) إلى آخرها، وكذلك سمع قصيدة كعب بن زهير المشهورة التي أولها: بانت سعاد (¬2). إلى غير ذلك من الأدلة الشرعية التي تدل على أن من الشعر ما يجوز إنشاده (¬3) وإنشاؤه واستماعه، ومما يبيّن حكمة الشريعة وَعِظم قدرها؛ وأنها كما قيل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق (¬4). إذ الذين خرجوا عن المشروع زين لهم الشيطان أعمالهم حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلّون إلى الميت، ويدعو أحدهم الميت فيقول: اغفر لي وارحمني ونحو ذلك، ويسجد لقبره، ومنهم من يستقبل القبر ويصلّي إليه مستدبراً لكعبة، ويقول القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهداً، وهو شيخ متبوع، ولعله أمثل ¬

_ (¬1) هذا البيت من قصيدة عمرو بن سالم الخزاعي ومطلعها: يا رب إني ناشداً محمدا ... حلف أبيه وأبينا الأتلدا. انظر: السيرة لابن هشام 4/ 394، ومنح المدح أو شعراء الصحابة ممن مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي الفتح المشهور بابن سيد الناس، تحقيق عفت وصال حمزة ص 169 (الطبعة الأولى 1407 هـ الناشر دار الفكر دمشق - سوريا)، وسياق ابن هشام يخالف سياق المؤلف. (¬2) هذه القصيدة لكعب بن زهير بن أبي سلمى المازني من أهل نجد، اشتهر في الجاهلية، ولما ظهر الإسلام هجا النبي - صلى الله عليه وسلم - وشبب بنساء المسلمين، فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه، فضاقت عليه الأرض، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مستأمناً وقد أسلم، وأنشده لاميته المشهورة التي مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ ... متيم إثرها لم يفد مكبولُ فعفا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلع عليه بردته، ولذلك سميت البردة، توفي سنة 26 هـ. انظر: السيرة لابن هشام 4/ 503، والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 35، وقصيدة البردة لكعب بن زهير شرح أبي البركات ابن الأنباري، دراسة وتحقيق د. محمود زيني دحلان ص 790، الطبعة الأولى 1400 هـ الناشر مكتبة تهامة الرياض. (¬3) إنشادها سقطت من (د). (¬4) رويت هذه الحكمة عن مالك بن أنس -رحمه الله- إمام دار الهجرة. انظر: ذم الكلام وأهله للهروي 4/ 124 رقم 885 ت. الأنصاري هـ. الأولى 1419 هـ، الناشر مكتبة الغرباء المدينة النبوية.

أتباع شيخه، يقوله في شيخه (¬1). وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد؛ يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل، وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في [مساجد الله التي] (¬2) أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وآخرون يحجون إلى القبور، وطائفة صنفوا كتباً وسموها مناسك حج المشاهد، كما صنف، أبو عبد الله محمد بن النعمان (¬3) الملقب بالمفيد -أحد شيوح الإمامية- كتاباً في ذلك وذكر فيه من الحكايات المكذوبة عن أهل البيت ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ؛ وإن لم يسموا ذلك منسكاً وحجّاً فالمعنى واحد، ومن هؤلاء من يقول: وحق النبي الذي تحج إليه المطايا، ¬

_ (¬1) نقل أحمد أبو العباس المرسي عن شيخه الشاذلي قريباً من هذا قال: يقول الشاذلي: لو كان الحق سبحانه يرضيه خلاف السنة لكان التوجه في الصلاة للقطب الغوث أولى من التوجه للكعبة. أ. هـ انظر: الطبقات الكبرى للشعراني 2/ 13. ويقول شيخ الرافضة المجلسي: استقبال القبر للزائر بمنزلة استقبال القبلة وهو وجه الله أي جهته التي أمر الناس باستقبالها في تلك الحال. أ. هـ ورجح المجلسي أيضاً وجوب اتخاذ القبر قبلة في الصلاة. انظر: أصول مذهب الشيعة 2/ 473 - 474. (¬2) كذا في (ف) و (د) وفي الأصل (المساجد الذي) وفي (ح) (مساجد التي). (¬3) هو أبو عبد الله محمد بن النعمان العكبري، يلقب بالشيخ المفيد، رافضي من الإمامية، انتهت إليه رئاسة المذهب في زمانه، له نحو مائتي مصنف، كان يستأجر الصبيان الأذكياء، وبذلك كثر تلامذته، مات سنة 413 هـ. انظر: السير 17/ 344 ترجمة رقم 213 والأعلام 7/ 21. واسم كتابه كاملاً: "مناسك حج مشاهد الأبرار لمن عنى إليهم من المقيمين والزوار". انظر: التوضيح عن توحيد الخلاق ص 217، ولم أجد من ذكر هذا الكتاب. وكتب الرافضة الداعية لزيارة القبور كثيرة حتى قال أحد شيوخهم اليوم وهو آغا برزك الطهراني في كتابه "الذريعة إلى تصانيف الشيعة" 20/ 316 - 326: إن ما صنفه شيوخهم في المزار ومناسكه قد بلغ ستين كتاباً، نقلاً عن أصول مذهب الشيعة للدكتور ناصر القفاري 2/ 467.

فيجعل الحج إلى القبر لا إلى بيت الله -عز وجل-، وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا حج البيت. وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح صنف كتاباً سماه [الاستغاثة] (¬1) بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة والمنام (¬2)، وهذا الضال استعان بهذا الكتاب، وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة وكان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - منتهى قصده؛ ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وجعل هذا من مناقبه، فإن كان هذا مستحباً فينبغي [لمن يجب عليه حج البيت إذا حج أن يجعل المدينة منتهى قصده] (¬3) ولا يذهب إلى مكة؛ فإنه زيادة كلفة ومشقة مع ترك الأفضل، وهذا لا يفعله عاقل. وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس ممن يقصده الملوك والقضاة والعلماء والعامة، على طريقة ابن سبعين (¬4) قيل عنه أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: "مكة، وبيت المقدس، [والبندر] (¬5) الذي للمشركين بالهند"، وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود ودين النصارى حق، وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال له: أريد أن أسلم على يديك، قال: على دين اليهود والنصارى أو المسلمين، فقال له: اليهود والنصارى ليسوا كفاراً؟!! [قال] (¬6): لا تشدد عليهم، لكن دين الإسلام أفضل. ومن هؤلاء من يرجح الحج إلى المقابر على الحج إلى البيت، ومنهم ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل استغاثة. (¬2) يريد بذلك أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان المزالي المالكي، وسبق التعريف به وبكتابه. (¬3) ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل. (¬4) هو أبو محمد قطب الدين عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن سبعين الإشبيلي، من القائلين بوحدة الوجود، له "أسرار الحكمة المشرقية"، جاور في غار حراء بعض الأوقات يرتجي أن يأتيه الوحي، نقلت عنه عظائم من الأقوال والأفعال، هلك سنة 669 هـ. انظر: البداية والنهاية 13/ 29، والأعلام 3/ 280. وسيأتي ذكر بعض كتبه في دعاء الكواكب وعبادتها. (¬5) كذا في (د) وفي الأصل و (ف) البد. (¬6) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل سقطت اللام.

من يرجح الحج إلى البيت لكن قد يقول أحدهم: إنك إذا زرت قبر الشيخ مرتين أو ثلاثاً كان كحجة (¬1)، ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات يسافرون إليها وقت الموسم يعرّفون بها، كما يُعَرِّفُ المسلمون بعرفات، كما يُفعل هذا بالمشرق والمغرب (¬2). ومنهم من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه أفضل من الحج، ¬

_ (¬1) وهذا كثير عند الرافضة، وإليك مثال ذلك: يقول الخميني في كشف الأسرار ترجمه للعربية د. محمد البنداري، وعلق عليه سليم الهلالي، وقدم له د. محمد الخطيب ص 83 - 84 (الطبعة الثانية الناشر دار عمار عمان - الأردن): ينقل الشيخ الطوسي عن أبي عامر -واعظ أهل الحجاز- قوله: إنني ذهبت إلى الصادق -عليه السلام-، وسألته: ما هو أجر من يزور أمير المؤمنين ويبني قبره؟ فرد على سؤالي: يا أبا عامر! لقد روى أبي عن جده الحسين بن علي، بأن الرسول قال لأبي: ... (وذكر أن قبور الأئمة من بقاع الجنة وغير ذلك) ثم قال: إن من يبني قبوركم؛ ويأتي إلى زيارتها، يكون كمن شارك سليمان بن داود في بناء القدس، ومن يزور قبوركم يصيبه ثواب سبعين حجة غير حجة الإسلام، وتمحى خطاياه، ويصبح كمن ولدته أمه توّاً. أ. هـ. [كذا العبارة ركيكة في الأصل]، ثم أخذ الخميني في شرحها. وجاء في بعض كتبهم أن زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجة، وجاء في أخرى أنها تعدل ثلاثين حجة زاكية متقبلة مبرورة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزادت في روايات أخرى حتى وصلت سبعين حجة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثمانين حجة. انظر: أصول مذهب الشيعة 2/ 452 وما بعدها. (¬2) في (ف) (المشرق والمغرب) وفي (د) و (ح) (في المغرب والمشرق). والتعريف: هو اجتماع الناس يوم عرفة في غير عرفة في المساجد لذكر الله -تعالى- وهذا اختلف فيه، ففعله ابن عباس وعمرو بن حريث -رضي الله عنهما- من الصحابة وطائفة من التابعين، ورخص فيه الإمام أحمد ولم يستحبه، ونهى عنه وأنكره عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن المسيب وإبراهيم النخعي والإمام مالك وأبو حنيفة وغيرهم، قال أبو بكر الطرطوشي: فاعلموا رحمكم الله أن هؤلاء الأئمة علموا فضل الدعاء يوم عرفة، ولكن علموا أن ذلك بموطن عرفة لا غيرها، ولم يمنعوا من خلا، بنفسه فحضرته نية صادقة أن يدعو الله -تعالى-، وإنما كرهوا الحوادث في الدين، وأن يظن العوام أن من السنة يوم عرفة بسائر الآفاق الاجتماع للدعاء. أ. هـ. انظر: المصنف لابن شيبة 3/ 287، وكتاب الحادث والبدع، تأليف أبي بكر محمد بن الوليد الطرطوشي ص 126 - 127، والمغني لابن قدامة وبهامشه الشرح 2/ 259، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/ 643. هذا موقف أهل العلم المجيزين والمانعين، فكيف إذا كانت عند القبور وبذكر غير الله -تعالى-، وقد ورد النهي عن تعظيم القبور والدعاء عندها.

تخويف القبورية للموحدين

ويقول أحد المريدين للآخر وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع؟ فشاور الشيخ، فقال: لو بعت لكنت مغبوناً، ومنهم من يقول: من (¬1) طاف بقبر الشيخ سبعاً كان كحجة، ومنهم من يقول: زيارة المغارة الفلانية ثلاث مرات كحجة، ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال: كل خطوة إلى قبره كحجة؛ ويوم القيامة لا أبيع (¬2) بحجة، وأنكر بعض الناس ذلك فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ في منامه وزبره (¬3) على إنكاره ذلك. وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء، وليسوا من عمار المساجد الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 18]، فعُمَّار مساجد الله لا يخشون إلا الله، وعُمَّار مساجد المقابر يخشون غير الله ويرجون غير الله. حتى إن طائفة من أصحاب الكبائر الذين لا [يتحاشون] (¬4) فيما يفعلونه من القبائح؛ كان [إذا رأى] (¬5) قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة خشي من فعل [الفواحش] (¬6)، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال؛ ولا يخشون الذي خلق السموات والأرض وجعل أهِلَّةَ السماء مواقيت للناس والحج. وهؤلاء إذا نوظروا خوّفوا مناظرهم كما صنع المشركون بإبراهيم، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ ¬

_ (¬1) (من) سقطت من (د). (¬2) في (د) و (ح) أسع. (¬3) في هامش الأصل (صوابه وزجره)، قلت: بل هو تفسير لها، فالزّبْرُ: الزجر، وزَبَرَه: نهاه وانتهره. انظر: لسان العرب 4/ 315 مادة زبر. (¬4) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) يخشون. (¬5) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) بذى. (¬6) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (الواحش).

صد القبورية عن دين الله الحق الذي بعث به رسله

أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (¬1) (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 80 - 82]. وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت يطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، وكأنهم (¬2) قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلهاً، وعزلوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - عن أن يتخذوه رسولاً. وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام؛ أو التابع لهم الحسن الظن بهم أو غيره يطلب من الشيخ الميت؛ إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه أو غير ذلك، فيدخل ذلك (¬3) السادن فيقول: قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول: لله، والله قد بعث رسولاً إلى (¬4) السلطان فلان، فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى!! وفيه من الكذب والجهل ما لا يستجيزه كل مشرك ونصراني ولا يروج عليه!! ويأكلون من النذور وما يؤتى به إلى قبورهم ما يدخلون به في معنى قوله: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، فإنهم يأكلون أموال الناس بغير حق ويصدون عن سبيل الله، ويعوضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم، إذ التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه، فيمتنع بسبب ذلك عن الدين الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه. والله -تعالى- لم يذكر في كتابه المشاهد بل ذكر المساجد وأنها (¬5) خالصة له، قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ ¬

_ (¬1) في (ف) و (د) و (ح) قال الله تعالى. (¬2) في (د) و (ح) وكانوا. (¬3) في (ف) فراغ في وسط السطر، وليس فيه سقط في الكلام. (¬4) إلى هنا انتهى الفراع في وسط السطر في (ف). (¬5) في (د) فإنها.

مقارنة بين بيوت المقابر وبيوت الشرك

الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 17 - 18]، وقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} [الحج: 40]. ولم يذكر بيوت الشرك كبيوت الأصنام والمشاهد، ولا ذكر بيوت النار، لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب، فالممدوح من ذلك ما كان مبنياً قبل النسخ والتبديل، كما أثنى على اليهود والنصارى والصابئين الذين كانوا قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحاً. بخلاف [بيوت] (¬1) الأصنام وبيوت النار وبيوت الصابئة المشركين، كالذين يسمونه هيكل العلة الأولى، هيكل العقل، هيكل النفس، هيكل زحل، هيكل المشترى، هيكل المريخ، هيكل الشمس، هيكل عطارد، هيكل الزهرة، هيكل القمر (¬2)، فإن هذه البيوت ليس في أهلها مؤمن ولم يكن في أهلها عبادة أمر الله بها، فبيوت الأوثان (¬3) وبيوت النيران (¬4) وبيوت الكواكب وبيوت المقابر لم يمدح الله شيئاً منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]، فهؤلاء الذين اتخذوا على أهل الكهف مسجداً كانوا من النصارى (¬5)، الذين ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل. (¬2) هذه الهياكل للصابئة المشركين يجعلون لكل كوكب هيكلاً مخصوصاً، ولهذه الكواكب عبادات ودعوات مخصوصة، ويصورونها في تلك الهياكل، ويتخذون لها أصناماً تخصها، ويقربون لها القرابين. انظر: الملل والنحل 2/ 49 - 50، وإغاثة اللهفان 2/ 360. (¬3) بيوت الأوثان: هي بيوت للأصنام التي تعظم ويهدى لها، ولها سدنة وحجَّاب، ويطاف بها، وينحر عندها، مثل بيت مناة كان على ساحل البحر بين مكة والمدينة، وبيت اللات بالطائف، وبيت العزى وغيرها، ومن بيوت الأوثان بيت بمولتان وبيت سدوسان بالهند، وغيرها. انظر: الملل والنحل 2/ 243، وإغاثة اللهفان 2/ 308 - 315. (¬4) بيوت النيران للمجوس وهم يعظمون النار، وهي كثيرة من أهمها: بيت نار بطوس، وآخر في نواحي بخارى يدعى قباذان، وجدد زرادشت بيت نار بسابور، وفي بلاد الروم على أبواب القسطنطينة (استامبول اليوم) بيت نار اتخذه سابور بن أردشير فلم يزل كذلك إلى أيام المهدي وغيرها كثير. انظر: الملل والنحل 1/ 254. (¬5) انظر: تفسير ابن جرير الطبري 8/ 197، وتاريخ الأمم والملوك 1/ 372، =

لعن اليهود والنصارى لاتخاذهم القبور مساجد

لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وفي رواية، "والصالحين" (¬1). وفي الصحيحين عنه أنه لما ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذُكرَ حُسنها وتصاويرها، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شِرار الخلق عند الله يوم القيامة" (¬2)، فجمع بين التصاوير والمقابر، وفي الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: " [ألا أبعثك] (¬3) على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته" (¬4)، وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل الكعبة حتى أخرج ما فيها من التماثيل (¬5). وقد رُوي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها" (¬6). ¬

_ = والبداية والنهاية لابن كثير 2/ 114. (¬1) سبق تخريج هذا الحديث، وأما لفظ "الصالحين"، فأخرجه مسلم في (كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها (1/ 337 رقم 532 ولفظه: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ... " الحديث. (¬2) أخرجه البخاري في (كتاب الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مسجد) برقم 427، 1/ 152 وأطرافه 434، 1341، 3873، ومسلم في (كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور) رقم 528، 1/ 376، بألفاظ قريبة من لفظ المؤلف. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (لابعثك). (¬4) أخرجه مسلم في (كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر) 2/ 666 رقم 969. (¬5) أخرجه البخاري في (كتاب الحج، باب من كبر في نواحي الكعبة) برقم 1601، 1/ 477 من حديث ابن عباس ولفظه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل ... " الحديث، وطرفه 3352، 4288. (¬6) أخرجه البخاري تعليقاً في (كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة) 1/ 155، وعبد الرزاق في مصنفه 1/ 411 ورقم 1610، 1611 موصولاً عن أسلم مولى عمر حين قدم الشام صنع له رجل من النصارى طعاماً، وقال لعمر: إني أحب أن تجيئني، وتكرمني =

حكم الصلاة في الكنيسة

وقد تنازع الفقهاء في الصلاة في الكنيسة، وقال البخاري: قال ابن عباس: "لا بأس في الصلاة في الكنيسة" (¬1)، وقيل: يكره مطلقاً، وقيل: يرخص فيها، والصحيح أنه إن كان فيها تماثيل كانت بمنزلة المساجد المبنية على القبور، وبمنزلة دار الأصنام، فالمصلي فيها مشابه لمن يعبد غير الله، وإن كانت [نيته] (¬2) الصلاة لله، كما أن المصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها لما شابه من يعبد غير الله نُهي عن ذلك سداً للذريعة، وأيضاً فالملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، فكيف يصلّي فيه؟ ولهذا لم يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة حتى أزيلت الصور، بخلاف الكنيسة التي لا صور فيها، فإن قيل: تكره لكونها محل الكفر، قيل: الصلاة في محل الكفر بمنزلة فتح دار الكفر فجعلها دار إسلام؛ وبمنزلة صلاة المسلمين في دار الحرب، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثقيفاً أن يتخذوا. مسجدهم موضع بيت اللات (¬3) بعد هدم اللات، وكانوا يسمونها الربة. ¬

_ = أنت وأصحابك، وهو رجل من عظماء النصارى، فقال عمر: " ... الأثر"، ووصله ابن حجر في تغليق التعليق 2/ 232 تحقيق سعيد عبد الرحمن القزقي، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان، ودار عمار عمان - الأردن. (¬1) أخرجه البخاري في الموضع السابق 1/ 155، ولفظه: "وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل"، قال ابن حجر في فتح الباري 1/ 700: وصله البغوي في الجعديات وزاد فيه: فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر. ومذاهب العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب كما ذكر المؤلف أعلاه، وهي: المنع مطلقاً، وقال به الإمام مالك وبعض الشافعية، والإذن مطلقاً، وقال به ابن حزم في المحلى وبعض أصحاب الإمام أحمد، والثالث: المنع من الصلاة في الكنيسة أو البيعة إذا كان فيها صورٌ أو تماثيل، وقال به جمع من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ورجحه المؤلف، وهو الراجح، والله أعلم. انظر: المحلى، تأليف أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم 4/ 81 (طبعة المكتب التجاري بيروت - لبنان)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية 1/ 115 (الطبعة الأولى 1407 هـ الناشر دار القلم بيروت - لبنان)، وفتح الباري لابن حجر 1/ 699 - 700. (¬2) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) (نية). (¬3) أخرجه أبو داود في (كتاب الصلاة، باب في بناء المساجد) رقم 450، 1/ 311 من حديث عثمان بن العاص ولفظه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كان طواغيتهم"، وابن ماجه في (أبواب المساجد، باب أين يجوز بناء المساجد) رقم 728 =

مناظرة الشهرستاني للصابئة في الروحانيات وتقصيره فيها

ولهذا فضل ذاكر (¬1) الله في الغافلين، وقيل (¬2): إنه كالشجرة الخضراء بين الشجرة اليابس (¬3)، فالعابد بين أهل الكفر والغفلة أعظم أجراً من غيره، فإن (¬4) قيل الصلاة فيها غصب لهم، قيل له: الكنائس ليست ملكاً لأحد، وليس لهم أن يمنعوا من يعبد الله؛ لأنا صالحناهم على هذا، بل قد شرط عليهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يوسعوا أبوابها للمارة. ومن ذلك أن هؤلاء المشركين من الصابئة ونحوهم لما كانوا يعبدون الكواكب والملائكة؛ وربما سموها العقول والنفوس وجعلوها وسائط بين الله وبين خلقه، وأهل التوحيد لا يعبدون إلا الله، ويطيعون رسله الذين أمروا بعبادته وحده لا شريك له، فقالت الصابئة المشركون للحنفاء: نحن نتخذ الروحانيين وسائط، وأنتم تتخذون البشر وسائط؛ فديننا أفضل من دينكم، فأخذ يعارضهم طائفة من النظار [كالشهرستاني] (¬5) في كتابه المعروف بالملل والنحل (¬6) وغيره، ويذكرون أن توسط البشر أولى من توسط الروحانيات ¬

_ = 1/ 134، ضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه ص 58 رقم 159 (الطبعة الأولى 1408 هـ المكتب الإسلامي بيروت). (¬1) في (د) ذكر. (¬2) (وقيل) سقطت من (د). (¬3) هذا النص قطعة من حديث أخرجه الحسين بن عرفة في جزئه، تحقيق عبد الرحمن الفريوائي الطبعة الأولى 1406 هـ، الناشر مكتبة دار الأقصى الكويت ص 66 - 67 رقم 45 ولفظه: " .... وذاكر الله في الغافلين مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي تحات ورقه من الصريد"، الصريد: أي البرد. ومن طريقه أبي نعيم في الحلية 6/ 181، والبيهقي في شعب الإيمان (باب في محبة الله، فصل في إدامة ذكر الله) 1/ 334 بعناية عزيز بيك القادري النقشبندي، الطبعة الثانية سنة 1406 هـ بحيدر آباد الهند، ضعفه العلامة العراقي في تخريج الإحياء 1/ 241 رقم 919، والعلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/ 120 رقم 671، (الطبعة الرابعة 1408 هـ الناشر مكتبة المعارف الرياض). (¬4) في (ف) و (د) و (ح) وإن. (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (كالشهرساني). (¬6) انظر: الملل والنحل 2/ 6 - 48، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، تأليف فخر الدين محمد بن عمر الرازي، راجعه وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد ص 323 - 325 (الطبعة الأولى 1404 هـ الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان وبذيله تلخيص المحصل للطوسي)، فقد ذكر أدلة الفلاسفة على تفضيل =

رسائل أخوان الصفا فيها جمع بين الحنفية والصابئة

العلوية، وناظروهم مناظرة يعرف تقصيرهم فيها؛ لأنهم بنوها على أصل فاسد وهو مقايسة وسائط المشركين بوسائط الحنفاء، وهذا جهل بدين الحنفاء، فإن الحنفاء ليس بينهم وبين الله -تعالى- واسطة في العبادة والدعاء والاستعانة، بل يناجون ربهم ويدعونه ويعبدونه بلا واسطة، وإنما الرسل بلغتهم عن الله -عز وجل- ما أمر به وأحبه من العبادات وغيرها، وما نهى عنه فهم وسائط في التبليغ والدلالة، وهم مع المؤمنين كدليل الحاج مع [الحجاج] (¬1)، وكإمام الصلاة مع المصلين، فالرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- يعرّفون الناس طريق الله -تبارك وتعالى-؛ كما يعرف دليل الحاج طريق مكة -[شرّفها] (¬2) الله- ثم الناس يعبدون الله كما أن الحاج يقيمون مناسك الحج، والرسل أيضاً يقتدى بهم في الأفعال التي يتأسى بهم فيها، كما يقتدي المأموم بالإمام في الصلاة، وكل مصل يعبد ربه منه إليه (بلا واسطة) (¬3)، وأولئك الصابئة من الفلاسفة غاية سعادة النفوس أن تصل إلى العقل الفعال. وأصحاب [رسائل] (¬4) إخوان الصفا (¬5) صنفوا رسائلهم على أصول هؤلاء ممزوجة بما أخذوه من دين الحنفاء، وأرادوا بزعمهم أن [يجمعوا] (¬6) ¬

_ = الروحانيات ولم يرد عليها أو يذكر أدلة المسلمين، وعلق طه عبد الرؤوف سعد بقوله: في هذا الكلام خبط كثير وأخذ في الرد عليه. (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل الحاج. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل شرفه. (¬3) ما بين القوسين في (د) (بواسطة). (¬4) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) (وسائل). (¬5) إخوان الصفا: فرقة من فرق الباطنية، ومذهبهم مزيج من أقوال الفلاسفة، والباطنية، والمعتزلة، يتظاهرون بالتشيع، ولهم مذهب في الكواكب والأفلاك وأثرهما في عالم الكون والفساد، ويقولون بالفيض، وعدد رسائلهم اثنتان وخمسون جعلوها في أربعة أقسام، وقد كتموا أسماءهم، طبعت عدة طبعات. انظر: كتاب إخوان الصفا، تأليف عمر الدسوقي ص 48 وما بعدها (الطبعة الثالثة الناشر دار النهضة مصر - القاهرة)، ومقدمة رسائل إخوان الصفاء لبطرس البستاني 1/ 5 - 20 (طبعة 1376 الناشر دار صادر ودار ببروت - لبنان). (¬6) كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) يجمع.

بين الحنفية والصابئة، فضلوا وأضلوا، وأما الحنفاء فعندهم أنه ما من عبد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب وترجمان (¬1)، وعندهم أن الملائكة عباد الله يفعلون ما أمرهم الله به، ومن أثبت أن دون الله روحاً يكون مبدعاً للعالم فهو أكفر عند الحنفاء مشركي العرب، فإن مشركي العرب كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، لا يثبتون دونه شيئاً أبدع (¬2) العالم، ولما قال من قال منهم: إن الملائكة بنات الله؛ لم يجعلوا الملائكة مبدعة للعالم. وأما هؤلاء الفلاسفة [يقولون] (¬3): إن الصادر الأول عن العقل الأول؛ وأن كل مما سواه صادر عنه، فالعقل الأول هو رب كل ما سوى الله عندهم، وكذلك كل عقل هو مبدع ما سواه عندهم، حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر فهو عندهم مبدع ما تحت الفلك. ومعلوم أن المسلمين واليهود والنصارى ومشركي العرب وغيرهم لا يجعلون أحداً من دون الله أبدع كل ما تحت السماء، وهؤلاء يجعلون الملائكة التي أخبرت، بها الرسل هي العقول والنفوس التي زعموها، ومنهم من يجعل العقل الأول هو القلم؛ ويجعل النفس هي اللوح، ومنهم من يحتج بالحديث الموضوع: "أول ما خلق الله العقل" (¬4)، مع أنهم حرَّفوا ¬

_ (¬1) يشير إلى ما أخرجه البخاري في (كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل الرد) 1/ 42 رقم 1413 وأطرافه رقم 6539، 7443، 7512، ومسلم في (كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة؛ ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار: 2/ 703 رقم 1016 من حديث عدي بن حاتم. (¬2) في (د) (ابدأ) وفي (ح) ابدء. (¬3) كذا في (ف) و (د) وفي الأصل و (ح) (يقول). (¬4) روى الحديث بأسانيده ابن الجوزي في الموضوعات 1/ 174 - 176 ثم قال: وهذا لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى بسنده عن الدارقطني قال: كتاب العقل وضعه أربعة أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه داود بن المحبر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة، فسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر، ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر. أ. هـ. وقد بيّن وضع الحديث السخاوي في المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تصحيح عبد الله محمد الصديق وتقديم عبد الوهاب عبد اللطيف ص 118 رقم 233 (طبعة 1375 هـ، الناشر مكتبة الخانجي - مصر ومكتبة المثنى ببغداد - =

أبو حامد والرازي ممن أدخل في دين الحنفاء من دين المشركين

لفظه فرووه (¬1) "أولُ" [بالضم] (¬2)، وإنما لفظه: "أَوَّلَ ما خلق الله العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال: له أدبر فأدبر"، وفي لفظ (¬3): "لما خلق الله العقل قال له ذلك"، فالحديث حجة على نقيض مذهبهم، فكيف وهو موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وقد بسطت الكلام على هذه الأمور في مواضع آخر. وهذا قد يوجد في كلام أبي حامد [و] (¬4) كثير من [متأخري] (¬5) المتصوفة والمتكلمين، أدخلوا (¬6) في دين الحنفاء من دين المشركين، حتى صنف بعضهم تصنيفاً في ذلك مثل مصنف الرازي في "السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم" (¬7)، وآخرون صنفوا في الحروف وطبائعها والدعاء بأسماء ذكروها في أوقات (¬8)، كما صنف [بعضهم في ¬

_ = العراق)، وجلال الدين السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1/ 129 - 130 (الطبعة الثالثة 1401 هـ الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان)، والعلجوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث 1/ 236 - 237 رقم 723 (الطبعة الثانية 1351 هـ، الناشر دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان). (¬1) في (د) (فراوه). (¬2) في الأصل (بالظم). (¬3) في (د) لفظه. (¬4) كذا في (ح) وسقطت من الأصل و (ف) و (د). (¬5) كذا في (ف) و (د) وفي الأصل متأخر. (¬6) في (د) أدخلوه. (¬7) ذكر الرازي بعض مباحث هذا الكتاب في كتابه المطالب العالية من اتخاذ القرابين وتعظيم المزارات وسؤال الموتى. انظر: المطالب العالية ص 216، 219، 223، 243، نقلاً عن موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود 2/ 667. (¬8) ممن ألف في الحروف محيي الدين ابن عربي وادعى أن لها أسراراً مثل كتاب "السبعة"، و"كتاب البيان والحروف الثلاثة"، وله "رسالة الألف" و"رسالة الميم والواو والنون" وكتاب "الياء" ضمن رسائل ابن عربي طبعة حيدر آباد الهند. انظر: تاريخ فلاسفة الإسلام، تأليف محمد لطفي جمعة ص 259. وصنف ابن سبعين في علم الحروف والأسماء مثل كتاب "الدرج" و"لسان الفلك الناطقة عن وجه الحقائق"، "ولمحة الحروف" وغيرها. انظر: ابن، سبعين وفلسفته الصوفية تأليف د. أبو الوفا الغنيمي التفتازاني ص 140 - 143 الطبعة الأولى 1973 م، الناشر دار الكتاب اللبناني بيروت - لبنان. وقد ادعى الباطنية أيضاً أن للحروف أسراراً، ذكر اليمني في عقائد الثلاث وسبعين 2/ 532 - 535 طرفاً من أقوالهم فيها ورد عليهم.

متابعة طوائف من هذه الأمة للأمم السابقة ومنهم الصابئة المشركين

دعاء المقبور] (¬1)، ودعاء المقبور من أعظم الوسائل إلى ذلك. وقد قدم بعض شيوخ (¬2) المشرق وتكلم معي في هذا، فبينّت له فساد هذا، فقال: أليس قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" (¬3)، فقلت هذا مكذوب باتفاق أهل العلم لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ من علماء الحديث، وبسبب هذا وأمثاله ظهر مصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضَبٍّ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن" (¬4)، وفي الحديث الآخر الصحيح: "لتسلكن أمتي مسالك الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا هؤلاء" (¬5)؟ فاتخاذ القبور مساجد هو من فعل اليهود والنصارى، وأما ¬

_ (¬1) بياض في جميع النسخ بمقدار ثلاث كلمات، وفي هامش (ف) مكتوب بياض في الأصل، وما بين المعقوفين يقتضيه السياق، وقد صُنف في دعاء المقبور بعض المؤلفات، قال العلامة سليمان بن عبد الله في التوضيح عن توحيد الخلاق ص 217 - في الكلام على دعاء القبور-: وحتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً سماه مناسك حج مشاهد الأبرار لمن عني عليهم من المقيمين والزوار، وصنف بعضهم كتاباً سماه: "روضة الأبرار في دعوة الأولياء الأخيار في الشدائد المدلهمة الغزار". (¬2) في (د) الشيوخ. (¬3) هذا الحديث موضوع، ذكره العجلوني في كشف الخفاء 1/ 85 وعزاه لابن كمال باشا، وبيّن وضعه ابن القبم في إغاثة اللهفان 1/ 333، ومحمد نسيب الرفاعي في التوصل إلى حقيقة التوسل المشروع والممنوع ص 352، الطبعة الثالثة 1399 هـ وغيرهم. (¬4) أخرجه البخاري في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" 5/ 2285 رقم 7320، ومسلم في كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى 4/ 2054 رقم 2669، ولفظ الصحيحين: " ... شبراً بشبراً وذراعاً بذراع ... "، وأما لفظ: " ... حذو القذة بالقذة ... "، فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/ 125. والقذة: أي كل واحدة منهما على قدر صاحبتها. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير 4/ 28. (¬5) أخرجه البخاري في نفس الكتاب والباب 5/ 2285 رقم 7319، ولفظه: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي، بأخذ بالقرون قبلها .. "، ولفظ: "لتسلكن أمتي مسالك" لم أجده إلا في مستدرك الحاكم 1/ 129. ولفظه: "لتسلكن سنن من قبلكم".

الخروج عن الملة بالكلية إلى دعوى الكواكب واتخاذ العلويات وسائط في العبادة كمقالات الفلاسفة؛ فهذا ليس من دين اليهود والنصارى ولا فارس والروم المتنصرة، بل هو (¬1) من فعل الروم الصابئة والمشركين، كالفلاسفة الذين كانوا بمقدونية (¬2) وغيرها، وهؤلاء كانوا مشركين إلى أن دخل إليهم دين النصارى، وآخر ملوكهم هو بطليموس (¬3) صاحب "المجسطي" كان [بعد] (¬4) المسيح -عليه السلام- بمدة قليلة، وأما أرسطو (¬5) فإنه كان قبل المسيح بأكثر من [ثلاثمائة] (¬6)، فإنه كان في زمن الإسكندر بن [فيلبس] (¬7) " الذي تؤرخ به ¬

_ (¬1) في (ف) هي. (¬2) في (ف) سقط أول الاسم، ومقدونية هي: قطر في أوروبا واقع في شمال اليونان اشتهرت في زمن الإسكندر ومدت نفوذها على جميع بلاد اليونان وممالك شاسعة من آسيا، وهي الآن من اليونان. انظر: دائرة معارف القرن العشرين، تأليف محمد فريد وجدي 9/ 308 ط الرابعة 1386 هـ. (¬3) في (ف) بطلميوس، وهو بطليموس القلوذي صاحب "المجسطي" في الفلك، أصله يوناني، وعاش في الإسكندرية في القرن الثاني بعد الميلاد، وكتابه المجسطي يتكون من ثلاث عشرة مقالة، وأول من عني بتفسيره وأخرجه إلى العربية يحيى بن خالد بن برمك، وقد ذكر غير واحد من مؤرخي العرب أن بطليموس القلوذي صاحب كتاب المجسطي واحداً من ملوك البطالسة، وليس كذلك، فإن آخر ملوكهم يدعى قلوبطره (كيلوباترا). انظر: الفهرست لابن النديم ص 327 تحقيق رضا تجدد، وطبقات الأطباء والحكماء، تأليف ابن جلجل تحقيق فؤاد السيد ص 37 (طبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية)، وحاشية منهاج السنة لابن تيمية 1/ 318، تحقيق د. محمد رشاد سالم، ودائرة معارف القرن العشرين تأليف محمد فريد وجدي 28/ 238. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل يعبد. (¬5) يقال: أرسطاطليس، وأرسطوطاليس، وهو الأقرب إلى الأصل اليوناني، وهو ابن نيقوماخس، وهو أول من وضع التعاليم المنطقية، جعله فيلبس المقدوني أستاذاً لابنه الإسكندر، ولما ولي الإسكندر المملكة كان وزيره، مولده قبل ميلاد المسيح 384 ق. م وله كتب في المنطق والطبيعيات، والإلهيات والأخلاق. انظر: طبقات الأطباء والحكماء ص 25، وتاريخ الفلسفة اليونانية، تأليف يوسف كرم ص 112 وما بعدها الناشر دار القلم بيروت - لبنان، ودائرة المعارف الإسلامية 1/ 612. (¬6) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ثلاث مائة). (¬7) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (فيليس) بالياء، وهو: الإسكندر بن فيلبس المقدوني، وفي دائرة المعارف الإسلامية اسم أبوه فليب، ولد سنة 356 ق. م، تتلمذ على =

النصارى اليوم، وكان بين المسيح وبين نبينا - صلى الله عليه وسلم - ستمائة سنة شمسية وستمائة وعشرين قمرية، وكان هذا الإسكندر قبل المسيح بنحو من أربعمائة سنة. وكانت الصابئة من النبط الذين بالعراق والجزيرة (¬1)؛ كالبطائح (¬2) وحران وغيرهما، من الصابئة المشركين من أئمة الفلاسفة، وإبراهيم الخليل بعث إليهم، وفي مولده قولان قيل: بالعراق، وقيل: بحرَّان، وهذا قول أهل الكتاب، وكذلك هو في التوراة التي عندهم (¬3)، ويقال إن قبر أبيه بسور حران وبها آثار الصابئة، كالهياكل التي للعلة الأولى والعقل والنفس والكواكب، وما زال بها أكابرهم كثابت بن قرة (¬4) وأمثاله، وقد ذكر ¬

_ = أرسطو، تولى الملك وله من العمر 20 سنة، حارب الفرس وانتصر عليهم، وهو الذي بنى الإسكندرية بمصر، وإليه تنسب، ودفن فيها، وليس هو ذي القرنين المذكور في القرآن. انظر: تاريخ الطبري 1/ 338 - 340، وكتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المشهور بالخطط، تأليف تقي الدين أبي العباس المقريزي 1/ 150 طبعة مكتبة المثنى ببغداد سنة 1970 م مصورة عن طبعة بولاق سنة 1294 هـ، وطبقات الأطباء والحكماء ص 26، 28، ودائرة المعارف الإسلامية 2/ 126. (¬1) الجزيرة تقع بن دجلة والفرات مجاورة للشام من أهم مدنها حران والرها والرقة ونصبين وغيرها، فتحها عياض بن غنم سنة 17 هـ. انظر: معجم البلدان 2/ 156 - 157 رقم 3109. (¬2) البطائح جمع بطيحه بالفتح ثم الكسر سميت بطائح واسط لأن المياه تبطحت فيها أي سالت واتسعت في الأرض، وهي أرض واسعة بين واسط والبصرة، كانت قديماً قرى متصلة وأرضاً عامرة، فسال عليها الماء وطرد أهلها. انظر: معجم البلدان 1/ 534 رقم 1998. (¬3) اختلف في مولد إبراهيم -عليه السلام-، ففي التوراة إشارة إلى أنه ولد في أور الكلدانيين أي بالعراق. انظر: سفر التكوين الإصحاح 11 فقرة 29، وذكر الاختلاف في مولده ابن جرير في تاريخ الأمم والملوك 1/ 142 ولم يرجح، وقال ابن كثير في قصص الأنبياء ص 131: وعندهم -أي في التوراة- إن إبراهيم -عليه السلام- هو الأوسط، وأن هاران مات في حياة أبيه في أرضه التي ولد فيها، وهي أرض الكلدانيين، يعنون أرض بابل. وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار، وصحح ذلك الحافظ ابن عساكر. أ. هـ. (¬4) هو ثابت الحراني الفيلسوف، الصابئ، كان يتوقد ذكاء، قيل: إنه منجم المعتضد =

عبد اللطيف بن يوسف (¬1) أن (¬2) الفارابي (¬3) كان قد تعلق بالفلسفة في بلاده فلما دخل حران وجد بها من الصابئة من أحكمها عليه، وابن سينا إنما حذق (¬4) فيها بما وجده من كتب الفارابي. فهؤلاء وأتباعهم حقيقة قولهم هو قول الصابئة المشركين الذين هم شر من مشركي العرب، وهؤلاء عند من لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب؛ لا تؤخذ منهم الجزية؛ إلا أن يدخلوا في دين أهل الكتاب، والناس لهم في تفسير الصابئة وأحكامهم اضطراب كثير ليس هذا موضعه (¬5)، وسبب ذلك أنهم ¬

_ = -الخليفة العباسي- لم يكن في زمانه من يماثله في الطب والفلسفة. وحفيده ثابت: ابن سنان، ماتا على ضلالهم. حدثت له مع أهل مذهبه (الصابئة) أشياء أنكروها عليه في المذهب، فحرم عليه رئيسهم دخول الهيكل. من كتبه: "الذخيرة في علم الطب"، ترجم كثيراً من الكتب إلى العربية، هلك سنة 288 هـ. انظر: السير 13/ 485 ترجمة رقم 232 والأعلام 2/ 98. (¬1) هو موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف بن الفقيه يوسف بن محمد الموصلي ثم البغدادي الشافعي، نزل حلب، ويعرف قديماً بابن اللباد، وبابن نقطة، من الفلاسفة، غلب عليه علم الطب والأدب وبرع فيهما، وسمع الحديث والفقه، له "تهذيب كلام أفلاطون" وغيره، مات سنة 629 هـ. انظر: السير 22/ 320 ترجمة رقم 195 والأعلام 61/ 4. (¬2) (أن) سقطت من (د). (¬3) هو أبو نصر، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، التركي الفارابي، أخذ المنطق والفلسفة اليونانية وشرحهما لذا يُطلق عليه المعلم الثاني، له تصانيف مثل "آراء أهل المدينة الفاضلة" و"الموسيقى الكبير"، قال الذهبي: "من ابتغى الهدى منها، ضل وحار، ومنها تخرج ابن سينا، هلك سنة 339 هـ. انظر: السير 15/ 416 ترجمة رقم 231 والأعلام 7/ 20. (¬4) في (ف) حذف. (¬5) اختلف العلماء في أخذ الجزية من الصابئة، وذلك لاختلافهم في تعريف الصابئة، فمن جعلهم من أهل الكتاب قال بأخذ الجزية منهم، ومن جعلهم من غير أهل الكتاب لم يقبل منهم الجزية، وتردد بعض العلماء وجعل الفصل فيهم لأهل الكتاب فإن جعلوهم منهم أخذت منهم الجزية وإن كفروهم لم تؤخذ منهم. وقال آخرون هم أفضل حالاً من المجوس فتقبل منهم الجزية، وفرق آخرون؛ فقالوا: الصابئة فرق فمن كان فيه شبه من أهل الكتاب أخذت منه الجزية، ومن كان من عبدة الكواكب والأوثان لم تقبل منه. =

الفلاسفة مذاهب شتى، وهم جهال بالإلهيات

أنواع مختلفة؛ فكل طائفة تصف النوع الذي عرفته، والفلاسفة لا يجمعهم مذهب ولا يجتمعون على شيء، بل هم أجناس يختلفون كثيراً، ولكن هذه الفلسفة التي يسلكها الفارابي وابن سينا وابن رشد (¬1) [والسهروردي المقتول] (¬2) ونحوه فلسفة [المشائين] (¬3)، وهي المنقولة عن أرسطو الذين يسمونه المعلم الأول؛ فإن له كتباً متعددة في المنطق وأجزائه، وفي الطبيعيات مثل كتاب: "سمع الكيان" (¬4) والذي يتكلم فيه على الأجسام كلاماً كلياً، وكتاب "السماء [والعالم] " (¬5)، وكتاب "الآثار العلوية" وغير ذلك (¬6)، وأما ¬

_ = وقد سبق في تعريف الصابئة أنه لم يبق منهم إلا الصابئة المندائيين وهؤلاء فيهم شبه من أهل الكتاب حيث يدعون أن نبيهم يحيى -عليه السلام- وكتابهم الزبور، فتؤخذ منهم الجزية. انظر: المغني لابن قدامة 10/ 568 - 569 وبهامشه الشرح الكبير، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 434، والموسوعة الفقهية من إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت 26/ 294 - 299. (¬1) هو أبو الوليد، محمد بن أبي القاسم أحمد ابن شيخ المالكية أبي الوليد بن رشد القرطبي، يلقب بابن رشد الحفيد تميزاً عن جده، برع في الفقه ثم أقبل على علوم الأوائل وعني بكلام أرسطو، له "شرح أرجوزة ابن سينا" في الطب، وكتاب "جوامع كتب أرسطوطاليس"، وغيرها مات محبوساً بداره بمراكش لأجل الفلسفة في أواخر سنة 595 هـ. انظر: السير 21/ 309 ترجمة رقم 164، والأعلام 5/ 318. (¬2) كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) (السهروري المقبول) وفي (د) (السهروري المقتول)، وهو شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهرودي، الفيلسوف أفتى فقهاء حلب بكفره، قال: باكتساب النبوة، قال الذهبي: "كان أحمق طياشاً منحلاً"، له كتاب "التلويحات اللوحية والعرشية" و "هياكل النور" وغيرها، قتل على الزندقة في أوائل سنة 587 هـ. انظر: السير 21/ 207 ترجمه رقم 102، والأعلام 8/ 140. (¬3) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل، (المتابين) وفي (ف) (المثابين). والمشاؤون هم أتباع أرسطو، وسموا بذلك لأن أرسطو كان يعلم تلاميذه ماشياً، وهم يمشون. انظر: المعجم الفلسفي، تأليف جميل صليبا 2/ 373 باب الميم. (¬4) في (د) الكيسان وفي (ح) الكيسبان. (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل والمعالم. (¬6) كتب أرسطو المنطقية هي: "المقولات"، و"العبارة"، و"التحليلات الأولى أو القياس"، و"التحليلات الثانية أو البرهان"، و"الجدل"، و"الأغاليط". =

النقل عن أهل الكتاب، وأشهر النقلة

كلامه في [الإلهيات] (¬1) فقليل جداً وفيه خطأ كثير، وكانوا يسمون ذلك علم (ما بعد) (¬2) الطبيعة أو علم ما قبل الطبيعة، ويسمونه الفلسفة الأولى والحكمة العليا؛ لكونهم يتكلمون فيه على الأمور الكلية العامة؛ كالوجود وانقسامه إلى جوهر وعرض، وعلة ومعلول، وقديم وحادث، وواجب وممكن، وأما نفس معرفتهم بالله والملائكة وأنبيائه فبعيدة جداً، وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن ما دخل في هؤلاء من دين الحنفاء الذي بعث الله به (¬3) رسله فهو أقل مما دخل في الإسلام من دين اليهود والنصارى، ولهذا لم يكن على عهد الصحابة والتابعين من أدخل شيئاً من دين هؤلاء، بل كان يوجد من ينقل عن أهل الكتاب وعلمائهم مثل كعب (¬4) ووهب (¬5) ومالك بن دينار (¬6) ومحمد بن إسحاق (¬7)، ومثل ما ينقله عبد الله بن ¬

_ = وأما كتبه الطبيعية: هي "السماع الطبيعي" أو "سمع الكيان"، و"السماء" و"الكون والفساد"، و"الآثار العلوية". انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، تأليف يوسف كرم طبعة دار القلم بيروت ص 115. وقد نُسب إليه كتاب العالم وضم إلى كتاب السماء ولقبا بالسماء والعالم، أنه لا تصح نسبة كتاب العالم له. انظر: المرجع السابق ص 116. (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (الهيأة). (¬2) ما بين القوسين سقط من (د). (¬3) (به) سقطت من (د). (¬4) هو كعب بن ماتع الحميري اليماني، كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَدِم المدينة في أيام عمر -رضي الله عنه- فجالس الصحابة وأخذ عنهم السنن، وكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، توفي -رحمه الله- بحمص ذاهباً للغزو في أواخر خلافة عثمان، عن مائة وأربع سنين. انظر: السير 3/ 489 ترجمة رقم 111، والأعلام 5/ 228. (¬5) هو أبو عبد الله وهب بن منبه بن كامل بن سيح الأنباري، اليماني، أخذ عن بعض الصحابة، كابن عباس وغيره، وعلمه في الإسرائيليات، وقد امتحن، وحبس وضرب، لاتهامه بالقدر، ولي قضاء صنعاء، مات سنة 114 هـ، وقيل 113 هـ، انظر: السير 4/ 544 رقم 219، والأعلام 8/ 125. (¬6) هو أبو يحيى مالك بن دينار البصري، سمع من بعض الصحابة، كان أبوه من سبي سجستان، وهو من ثقات التابعين، توفي في البصرة سنة 127 هـ وقيل 130 هـ. انظر: السير 5/ 362 ترجمة رقم 306 والأعلام 5/ 260. (¬7) هو أبو بكر، محمد بن إسحاق بن يسار القرشي المطلبي، مولاهم المدني، =

[عمرو] (¬1) عن الكتب التي أصابها يوم اليرموك، وانما استجاز لهذا؛ لما رواه البخاري في الصحيح عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بلّغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار" (¬2)، فلما رخص في الحديث عن بني إسرائيل استجاز ذلك عبد الله بن [عمرو] (¬3) وعبد الله بن عباس وغيرهما؛ لكن لا يأخذون من ذلك ديناً؛ لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة ثم يفسرونها بالعربية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" (¬4)، (وفي لفظ) (¬5): "فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" (¬6)، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا لأنا قد أمرنا أن نؤمن ¬

_ = وقيل: أبو عبد الله، صاحب السيرة النبوية، كان جده يسار من سبي عين التمر، وهو أول من دوَّن العلم بالمدينة، كان بحراً في العلم، ولكنه ليس بالمجود كما ينبغي، يدلس في حديثه، فأما الصدق؛ فليس بمدفوع عنه، قال الذهبي: ولا ريب أنه حمل ألواناً عن الذمة أي أهل الكتاب. أ. هـ. توفي سنة 152 هـ أو 153 هـ. انظر: السير 7/ 33 ترجمة رقم 15 والأعلام 6/ 28. (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل عمر، والصواب ما أثبت أعلاه، فإن عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي المشهور قد اطلع على كتب أهل الكتاب فكان يحدث منها، وليس على إطلاقة، بل كان يحدث في حدود ما فهمه من الإذن كما ذكر المؤلف. انظر: تاريخ ابن جرير 3/ 340، والبداية والنهاية 8/ 259، والتفسير والمفسرون تأليف د. محمد حسين الذهبي، الطبعة الثانية 1396 هـ، الناشر دار الكتب الحديثة - القاهرة 1/ 174. (¬2) أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل) رقم 3461، 2/ 1076 بلفظه وزاد: " ... علي متعمداً"، والشطر الثاني من الحديث عند البخاري في (كتاب العلم، باب أثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -) رقم 107، 1/ 61 بدون لفظه "متعمداً". (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل عمر. (¬4) أخرجه البخاري في (كتاب التفسير باب {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} 3/ 1355 رقم 4485 وطرفه رقم 7362، 7542، والإمام أحمد 4/ 136 واللفظ له. (¬5) ما بين القوسين سقط من (ط) وجعل الروايتين حديثاً واحداً، ولم يفصل بينهما. (¬6) أخرجه البخاري في (كتاب الاعتصام، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تسألوا أهل =

العبيديون ملاحدة خلطوا مذاهب الفلاسفة والمجوس بأقوال الرافضة

بما أنزل إليهم، وقد أخبر الله أنهم يكذبون ويحرفون، فما حدثوا به إذا لم نعلم صدقهم فيه ولا كذبهم؛ لم نكذبه لجواز أن يكون مما أنزل، ولم نصدقه لجواز أن يكون مما كذبوه، ولما كانت تلك الأحاديث الإسرائيليات قد كثرت صار بعض الناس يدخل في بعض خصائصهم، ولم يكن قد ظهر في المسلمين شيء من آثار اليونان والهند، إلى أن عربت بعض كتب هؤلاء وهؤلاء حدث في الناس من التشبه بأولئك ما كان أعظم من التشبه بأهل الكتاب. حتى آل الأمر إلى دولة العُبيديين؛ وهم ملاحدة في الباطن أخذوا من مذاهب الفلاسفة والمجوس ما خلطوا به أقوال الرافضة، فصار خيار ما يظهرونه من الإسلام دين الرافضة، وأما في الباطن فملاحدة شر من اليهود والنصارى؛ وإلا من لم يصل منهم إلى منتهى دعوتهم فإنه يبقى رافضياً داخل الإسلام، ولهذا قال فيهم العلماء: "ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض" (¬1)، وهم من أشد الناس تعظيماً للمشاهد ودعوة الكواكب ونحو ذلك من دين المشركين، وأبعد الناس عن تعظيم المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وآثارهم في القاهرة تدل على ذلك (¬2). ولقد كنت لما رأيت آثارهم أبين للناس أصل ذلك وحقيقة دينهم، وأنهم من أبرأ الناس في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناً ونسباً، وقد صنف العلماء فيهم وفي أصولهم كتباً نظرية وخبرية (¬3). ¬

_ = الكتاب عن شيء) 5/ 2295 رقم 7362 وسبق ذكر أطرافه، قال ابن كثير في التفسير 3/ 416: "انفرد به البخاري"، وقال ابن حجر في الفتح 8/ 216: "زاد في الاعتصام {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}، وزاد الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن محمد بن المثنى عن عثمان بن عمر بهذا الإسناد، وما {أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. (¬1) قائل هذه العبارة هو أبو حامد الغزالي في فضائح الباطنية ص 25، الطبعة الأولى 1413 هـ، الناشر دار البشير عمان الأردن. (¬2) مثل مسجد الحسين المبني على رأس الحسين المزعوم في القاهرة، وسيأتي الكلام عليه. (¬3) من هذه الكتب: "كشف الأسرار في الرد على الباطنية" الباقلاني ت 403 هـ، =

غلاة الرافضة كالنصيرية والإسماعيلية أكفر من اليهود والنصارى

ومنهم الإسماعيلية من أصحاب دور الدعوة، وأما النصيرية (¬1) فهم من الغلاة الذين يعتقدون إلهية علي، والغلاة مع أنهم أكفر من اليهود والنصارى؛ فأولئك الإسماعيلية في الباطن أعظم كفراً وإلحاداً منهم، وهذا باب واسع ليس هذا موضعه (¬2). وإنما المقصود التنبيه على أنه [بسبب] (¬3) الخروج عن الشريعة في كثير ¬

_ = و"كشف أسرار الباطنية" تأليف إسماعيل بن علي بن أحمد البستي ت 420 هـ، و"كشف أسرار الباطنية"، تأليف محمد بن مالك بن أبي الفضائل اليماني ت 470 هـ، و"فضائح الباطنية" لأبي حامد الغزالي ت 505 هـ. وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/ 145 - 161، 35/ 128. وقال عبد القادر البغدادي في الفرق بين الفرق ص 294: "والذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة، يقولون بقدم العالم، وينكرون الرسل والشرائع كلها". وقد أجمع على كفرهم وضلالهم وكذب نسبهم أهل الإسلام في زمنهم وإلى هذا اليوم، ومن ذلك ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 11/ 370 - 371 في أحداث سنة ثنتين وأربعمائة، قال: "وفي ربيع الآخر كتب جماعة من العلماء والقضاة والأشراف، والصالحين والفقهاء والمحدثين محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين وهم ملوك مصر وليسوا كذلك ... وأن الحاكم وسلفه لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، ولا يتعلقون بسبب وأنه منزه عن باطلهم، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور ... وأن هذا الحاكم بمصر وسلفه كفار فساق فجار، ملحدون زنادقة، معطلون، للإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية الوثنية معتقدون، وقد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمر، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف. وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير منهم المرتضى والرضى العلويين" باختصار. وللتوسع. انظر: السير للذهبي 15/ 213، وتاريخ الخلفاء، تأليف جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ص 4 - 6 (الطبعة الثالثة 1383 هـ، الناشر مطبعة المدني القاهرة - مصر). (¬1) النصيرية: فرقة من غلاة الباطنية، وأرجح الآراء أنهم يُنسبون إلى ابن النصير مولى الحسن العسكري أو من أصحابه وهو من محمد بن نصير البصري النميري المتوفى سنة 260 هـ، وقيل 270 هـ، وعقائدهم كما ذكر المؤلف من تأليه علي واستحلال المحارم، والنصيرية توجد حالياً في شمال سوريا ولبنان وفي لواء أنطاكية واسكندرونة بتركيا، ويرفضون هذه التسمية ويطلقون على أنفسهم العلويين. انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 1/ 83، والملل والنحل 1881، وعقائد الثلاث وسبعين لليمني 2/ 488، ودراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين، تأليف د. أحمد جلى ص 311 - 314. (¬2) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/ 145 - 161. (¬3) كذا في (ف) و (ح) وفي الأصل و (د) (سبب).

تنقص غلاة المشركين للرسل عليهم السلام

من البدع الشركية أفضى الأمر بأقوام إلى أن خرجوا إلى دين المشركين؛ بل المشركين المعطلين، وكثير من الناس لا يعرف هذا؛ يحسب أن هذا هو دين الله لأجل لبس الحق بالباطل، وهذا مما نهى الله عنه وذم به أهل الكتاب؛ حيث قال: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة: 42]. الوجه الرابع: أن يقال: الغلاة المشركون هم في الحقيقة بخسوا الرسل ما يستحقونه من التعظيم؛ دون الأمة الوسط أهل التوحيد المتبعين لشريعة الرسل (¬1)، وبيان (¬2) ذلك بأمور: منها أن النصارى يقولون: إنهم يعظمون المسيح، وكذلك الغالية في علي والأئمة أو الشيوخ أو غيرهم، وهم في الحقيقة متنقصون (¬3) [لهم] (¬4)، فإن المسيح -عليه السلام- أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له؛ وأخبرهم أنه عبد الله، فهم إذا اتبعوه كان له من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء (¬5)، (كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص [من أجورهم] (¬6) شيئاً") (¬7)، [ويكونون] (¬8) سعداء أولياء لله من أهل الجنة (¬9)، وإذا غلوا فيه واتخذوه ربا انقطع العمل الصالح الذي كان يحصل بتوحيدهم وطاعتهم، وحصل لهم مع ذلك عذاب أليم، وإن كان هو سليماً من العذاب؛ لكن فَوَّتوه الأجر الذي كان يحصل له بتوحيدهم وطاعتهم. وأما أهل الاستقامة فهم إذا وحَّدوا الله وعبدوه كما شرعته لهم الرسل ¬

_ (¬1) في (ف) الرسول. (¬2) في (ف) (بين). (¬3) في (د) (منقصون). (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل. (¬5) في (ف) شيئاً من أجورهم، و (وشيء) سقطت من (د). (¬6) ما بين المعقوفين من (ف)، وفي (ح) (شيء من أجورهم) وسقط من الأصل. (¬7) ما بين القوسين سقط من (د)، والحديث أخرجه مسلم في (كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة) 4/ 2060 رقم 2674 واللفظ له. (¬8) كذا في (ف)، وفي الأصل و (د) و (ح) يكونوا. (¬9) في (ف) الجبة.

مقارنة بين موقف الموحدين والمشركين من الرسل عليهم السلام

وأطاعوهم صاروا أولياء لله مستيقنين لثوابه، وحصل للرسول بالذي دعاهم مثل أجورهم، وكان في هذا من التعظيم للرسل ما ليس في طريق الغلاة. الأمر الثاني: إن أهل التوحيد والسنة يدعون لهم دائماً فينتفعون بذلك الدعاء، وأهل الشرك والبدعة يكلفونهم حوائجهم، [وأين] (¬1) من يحصل بسعيه (¬2) منفعة لهم؟ إلى من يكلفهم ويؤذيهم بسؤاله؟ واعتبر هذا بحال الصديق الذي كان يعاون الرسول بماله ونفسه ولا يسأله شيئاً، أين منزلته من منزلة من يسأله ويكلفه ولا يعاونه؟. الأمر الثالث: إن أهل التوحيد والسنة يصدقونهم فيما أخبروا، ويطيعونهم فيما أمروا، ويحفظون ما قالوا؛ ويفهمونه ويعملون به؛ وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال [المبطلين] (¬3)؛ وتأويل الجاهلين؛ ويجاهدون من خالفهم؛ ويفعلون ذلك تقرباً إلى الله طلباً للجزاء منه لا منهم، وأهل الجهل والغلو لا يميزون بين ما أمروا به ونهوا عنه، ولا بين ما صح عنهم وما كُذِبَ عليهم، ولا يفهمون حقيقة مرادهم؛ ولا يتحرون طاعتهم ومتابعتهم، بل هم جهال بما أتوا به معظمون لأغراضهم؛ إما لينالوا (¬4) منهم منفعة، أو ليدفعوا بهم عن أنفسهم مضرة. فالسدنة الذين عند القبور ونحوهم غرضهم يأكلون أموال الناس بهم، وأتباعهم غرضهم تعظيم أنفسهم عند الناس وأخذ أموالهم لهم، والصادق المحض المتدين منهم غرضه (أنه إذا) (¬5) سألهم واستغاث بهم في دفع شدة أو طلب حاجة قضوها له، فأي الفريقين أشد تعظيماً أولئك أو هؤلاء؟. الأمر الرابع: أن أولئك الغلاة المشركين إذا حصل لأحدهم مطلوبه ولو من كافر لم يقبل على الرسول، بل يطلب حاجته من حيث ظن أنها تقضى؛ ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل ابن. (¬2) في (ف) (البسعيه). (¬3) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) المعطلين، وهذه الجملة مقتبسة من مقدمة كتاب الرد على الجهمية، للإمام أحمد بن حنبل ص 85، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة. (¬4) في (ف) ليسألوا. (¬5) ما بين القوسين غير واضح في (د).

تعذيب الباطنية في قبورهم واستنتاج المؤلف لذلك

فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح؛ أو يكون فيه قبر أو منافق، وتارة يعلم أنه كافر ومنافق ويذهب إليه، كما يذهب قوم إلى الكنيسة، وإلى مواضع يقال لهم إنها (¬1) تقبل النذر، فهذا يقع فيه عامتهم. وأما الأول فيقع فيه خاصتهم، حتى إن بعض أصحابنا المباشرين لقضاء القضاة لما بلغه أني أنهى عن ذلك صار عنده من ذلك شبهة ووسواس؛ لما يعتقده من الحق فيما أذكر؛ ولما عنده من المعارضة لذلك، قال لبعض أصحابنا سرّاً: أنا جربت (¬2) إجابة الدعاء عند قبر بالقرافة، فقال له ذلك الرجل: فأنا ذاهب معك إليه ليعرف (قبر من هو) (¬3)؟ فذهبا إليه، فوجدا مكتوباً عليه عبد علي، فعرفوا أنه إما رافضي وإما إسماعيلي. وكان بالبلد جماعة كثيرون يظنون بالعبيديين (¬4) أنهم أولياء لله صالحون، فلما [ذكرت] (¬5) لهم أن هؤلاء كانوا [منافقين] (¬6) زنادقة وخيار من فيهم الرافضة، جعلوا يتعجبون، ويقولون: نحن نذهب بالفرس التي بها مغل إلى قبورهم فتُشفى عند قبورهم، فقلت لهم: هذا من أعظم الأدلة على كفرهم، وطلبت طائفة من سياس الخيل، فقلت: أنتم بالشام ومصر إذا أصاب الخيل المغل أين تذهبون [بها] (¬7)؛ فقالوا: في الشام يذهب بها إلى قبور اليهود والنصارى، وإذا كنا في أرض الشمال يذهب بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية كالعليقة والمنيقة (¬8) ونحوهما، وأما في مصر فيذهب بها إلى دير ¬

_ (¬1) (أنها) تكررت في (د). (¬2) في (ف) اجرب. (¬3) ما بين القوسين في (ح) (من هو)، وفي (ف) (قبر منه) وفي (د) (ليعرف منه). (¬4) في (ف) و (د) و (ح) (في العبيدين). (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (ذكت). (¬6) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) منافقون، والصواب ما أثبت أعلاه لأنها خبر كان منصوب بالياء. (¬7) في جميع النسخ: بهم وهو تصحيف. (¬8) العليقة والمنيقة: من حصون الباطنية الإسماعيلية في شمال بلاد الشام من أعمال طرابلس، انتزعها منهم بيبرس المملوكي سنة 668 هـ، والعليقة سنة 669 هـ. انظر: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، تأليف أبي العباس أحمد بن علي القلقشندي، طبعة مصررة عن =

[هناك] (¬1) للنصارى، ونذهب بها إلى قبور هؤلاء الأشراف، وهم يظنون أن العبيديين شرفاء لما أظهروا أنهم من أهل البيت، فقلت: هل يذهبون بها إلى قبور صالحي المسلمين مثل قبر الليث بن سعد (¬2) والشافعي وابن القاسم (¬3) وغير هؤلاء؟ فقالوا: لا، فقلت لأولئك: اسمعوا، إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار والمنافقين، وبيّنت لهم سبب ذلك، قلت: لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم والبهائم تسمع أصواتهم، كما ثبت في ذلك في الحديث الصحيح (¬4)، فإذا سمعت ذلك فزعت، فبسبب الرعب الذي حصل لها تنحل بطونها فتروث؛ فإن الفزع يقتضي الإسهال، فيعجبون من ذلك، وهذا المعنى كثيراً ما كنت أذكره للناس، ولا (¬5) أعلم أن أحداً قاله، ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء (¬6). ¬

_ = الطبعة الأميرية 4/ 179 - 181، وغلاة الشيعة الباطنية في الشام، تأليف د. يوسف درويش غوانمه ص 33، الطبعة الأولى 1401 هـ، الناشر جمعية عمال المطابع التعاونية عمان - الأردن. (¬1) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) (هنا)، والمؤلف ألف آخر الكتاب بالشام بعد سنة 714 هـ. (¬2) هو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي، مولى خالد بن ثابت بن ظاعن، الإمام الحافظ، عالم الديار المصرية، تولى القضاء فيها، وكان ثقة، كثير الحديث، سخياً له ضيافة، مات سنة 175 هـ. انظر: السير 8/ 136 ترجمة رقم 12، والرحمة الغيثية بالترجمة الليثية للحافظ ابن حجر العسقلاني ص 235 - 265، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، إدارة الطباعة المنيرية سنة 1343 هـ، الناشر مكتبة طيبة الرياض. (¬3) هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العتقي، صاحب الإمام مالك، كان ذا مال ودنيا، فأنفقها في العلم وله قدم في الورع والتأله، له "المدونة" ستة عشر جزءاً، توفي سنة 191 هـ. انظر: السير 9/ 120 رقم الترجمة 39، والأعلام 3/ 323. (¬4) منه ما أخرجه البخاي في (كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر) رقم 1374، 1/ 408 عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم ... وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين". (¬5) في (ف) ولم. (¬6) ذكر المؤلف هذا المعنى في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/ 139 - 140.

كذب كثير من المشاهد مثل رأس الحسين بالقاهرة

والمقصود هنا أن كثيراً من الناس يعظم قبر من يكون في الباطن كافراً ومنافقاً؛ ويكون هذا عنده والرسول (¬1) من جنس واحد؛ لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته إذا كان رجلاً صالحاً، كلا هذين عنده من جنس من يستغيث به، وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل يقال إنه قبر كافر كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان الذي يقال له (¬2): إنه قبر نوح، [فإن أهل] (¬3) المعرفة يقولون: إنه قبر بعض العمالقة (¬4). وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة (¬5)؛ وقبر أبيّ بن كعب الذي ¬

_ (¬1) في (ف) والرسول عنده. (¬2) (له) سقطت من (ف). (¬3) ما بين المعقوفين من (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل فأهل. (¬4) قال ابن كثير في قصص الأنبياء ص 97: روى ابن جرير والأزرقي عن عبد الرحمن بن سابط أو غيره من التابعين مرسلاً أن قبر نوح -عليه السلام- بالمسجد الحرام، وهذا أقوى وأثبت من الذي يذكره كثير من المتأخرين، من أنه ببلدة بالبقاع تعرف اليوم "بكرك نوح"، وهناك جامع قد بني بسبب ذلك فيما ذكر. أ. هـ. وجزم بكذب هذا المشهد السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 481 (الطبعة الأولى 1399 هـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت)، وملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة" تحقيق د. محمد لطفي الصباغ ص 385 (الطبعة الثانية 1406 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان)، والزرقاني في "مختصر المقاصد الحسنة للسخاوي"، تحقيق د. محمد لطفي الصباغ طبعة 1401 هـ، الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج. (¬5) اختلف الناس في الموضع الذي دفن فيه رأس الحسين -رضي الله عنه- على ثلاثة أقوال: الأول: أن يزيد بن معاوية بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائبه بالمدينة فدفنه عند أمه أو أخيه الحسن بالبقيع -رضي الله عنهما-. الثاني: أن رأس الحسين لم يزل في خزانة يزيد حتى توفي فأُخذ من خزانته فكفن ودفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق. ومنهم من قال: كفنه وطيبه سليمان بن عبد الملك ودفنه في مقبرة المسلمين، فلما جاء العباسيون نبشوه وأخذوه معهم. الثالث: أنه دفن مع الجسد في كربلاء وهذا قول الرافضة، ولقال: إن موضع قبر جسد الحسين عُفي أثره حتى لم يطلع عليه أحد. وقد رجح الإمام القرطبي في التذكرة 2/ 739 القول الأول؛ فقال: "هذا أصح ما قيل في ذلك، ولذلك قال الزبير بن بكار: إن الرأس حُمل إلى المدينة، والزبير أعلم أهل النسب وأفضل العلماء"، وابن تيمية في كتابه مكان رأس الحسين ضمن مجموع الفتاوى 27/ 468 - 469، ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام البخاري في التاريخ أن الرأس حُمل إلى =

حضور الشياطين ومعاونتها للقبورية عند مشاهدهم

بدمشق (¬1)؛ اتفق العلماء على أنها كذب، ومنهم من قال: هما [قبران] (¬2) لنصرانيين، وكثير من المشاهد متنازع فيها وعندها شياطين تضل بسببها من تضل، ومنهم من يرى في المنام شخصاً يظن أنه المقبور ويكون ذلك شيطاناً تصور بصورته أو بغير صورته، كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين، وهذا كثير في زماننا وغيره، مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل التي بالبراني بديار مصر بإخميم (¬3) ¬

_ = المدينة. انظر: "ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية" ص 18 ولم أجده في مظانه في كتاب التاريخ الكبير والصغير للبخاري. وقد ذكر الخلاف في مشهد القاهرة السخاوي في المقاصد ص 481، وملا علي القاري في الأسرار المرفوعة ص 385، والزرقاني في مختصر المقاصد ص 222 ومالوا إلى تكذيب المشهد. وضعّف ابن كثير في البداية والنهاية 8/ 192 بعض رواة القول الثاني وقال: ولم يُنقل عن أحد من أهل العلم أن الرأس حُمل إلى عسقلان ومنه إلى القاهرة، بل أجمعوا على أن المشهد الذي بالقاهرة كذب مختلق، وأن العبيديين أيادوا أن يروجوا بالمشهد ما ادعوه من النسب الشريف. أ. هـ ونقل ابن تيمية في مجموع الفتاوى 27/ 459 عن طائفة من العلماء أن المشهد العسقلاني فيه قبر بعض الحواريين أو غيرهم من أتباع عيسى بن مريم. وللتوسع. انظر: التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للإمام القرطبي 2/ 734 - 740، تحقيق د. السيد الجميلي (الناشر دار ابن زيدون بيروت ومكتبة مدبولي القاهرة)، ومكان رأس الحسين لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى 17/ 451، 459، 483 - 486، والسير للذهبي 3/ 319، والبداية والنهاية لابن كثير 8/ 192 - 193، والأعلام 2/ 243. (¬1) في (ف) في دمشق. وقد اتفق أهل العلم على أن وفاة أبيّ بن كعب "كانت بالمدينة في آخر خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنهما-. انظر: السير 1/ 398، والأعلام 1/ 82 وزاد ابن تيمية في مكان رأس الحسين ضمن مجموع الفتاوى 27/ 460 أن أُبياً لم يقدم دمشق. أ. هـ. وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان 2/ 533 في التعريف بدمشق: وفي شرقي البلد قبر عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب، وهذه القبور هكذا يزعمون فيها، والأصح الأعرف الذي دلت عليه الأخبار أن أكثر هؤلاء بالمدينة مشهورة قبورهم هناك. أ. هـ. وبهذا جزم السخاوي في المقاصد الحسنة ص 481، والملا علي القاري في الأسرار المرفوعة ص 385، والزرقاني في مختصر المقاصد الحسنة ص 222. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (قبراني). (¬3) في معجم البلدان البرابي، وإخميم بالكسر ثم السكون، وكسر الميم، وياء ساكنة، وميم أخرى: بلد بالصعيد، وهو بلد قديم على شاطئ النيل بمصر، وفي غربيه جبل صغير، ومن أصغى إليه بإذنه سمع خرير الماء، ولغطاً شبيهاً بكلام الآدميين لا يدري ما =

وغيرها، يرصدون التماثيل (¬1) [مدة] (¬2) لا يتطهرون طهر المسلمين ولا يصلّون صلاة المسلمين ولا يقرأون؛ حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة فيراها تتحرك فيضع فيها [شمعة] (¬3) أو غيرها، فيرى شيطاناً قد خرج له فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه، وقد يمكّنه من فعل الفاحشة به حتى يقضي بعض حوائجه. ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك الكفار، [يسمونه] (¬4) البوى (¬5) وهو المخنث إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور؛ أرسلوا له من ينكحه؛ [وينصبون] (¬6) له حركات عالية في ليلة ظلماء؛ وقربوا له خبزاً وميتة؛ وغنوا غناء يناسبه، بشرط أن لا يكون عندهم من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله، ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في [الهواء] (¬7) ويرون الدف يطير في [الهواء] (¬8) ويضرب من مد يده إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني التي كانت تغنيها (¬9) آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب ذلك الطعام فيرونه وقد نُقل إلى بيت البوى (¬10)، وقد لا يغيب ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار، ويقضي بعض حوائجهم، ومثل هذا كثير جداً للمشركين. ¬

_ = هو؟، وبإخميم عجائب كثيرة قديمة منها البرابي (هكذا في المعجم) والبرابي أبنية عجيبة فيها تماثيل وصور، واختلف في بانيها، وفي جدران البرابي صور للآدميين وحيوان، منها ما يعرف، وما لا يعرف. انظر: معجم البلدان 1/ 150 - 151 رقم 331. (¬1) في (ف) التمثال. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (مذة) بالذال. (¬3) كذا في (ف)، وفي الأصل و (د) و (ح) سمعه. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (فيسمونه). (¬5) في (د) و (ح) البودي، وقد ذكره المؤلف في مجموع الفتاوى 35/ 112، فقال عن شيوخ الصوفية الذين لهم أحوال شيطانية: "يقال لأحدهم: "البوى" أي المخنث. أ. هـ. ثم ذكر ما ذكر عنه هنا. (¬6) كذا في (ف) وفي الأصل و (د) وينصبوا بحذف النون، والصواب بإثباتها. (¬7) كذا في (ح)، وفي الأصل و (ف) و (د) الهوى. (¬8) كذا في (ح)، وفي الأصل و (ف) و (د) الهوى. (¬9) في (د) و (ح) غنى. (¬10) في (د) و (ح) البودي.

فصل [4]

فالذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام، وكثير من المشاهد كذب وكثير منها مشكوك فيه؛ وسبب ذلك أن معرفة المشاهد ليس (¬1) من الدين الذي تكفّل الله بحفظه للأمة لعدم حاجتهم إلى معرفة ذلك. والمقصود أن هؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يسووا بين الأنبياء وغير الأنبياء، بل بين الأنبياء والكفار، ويطلبون من هذا ما (¬2) يطلبون من هذا، فأي الفريقين أشد تعظيماً للأنبياء؟ هؤلاء أو من يوجب تعظيمهم واتباع شريعتهم، ويفرق بين الحق الذي جاؤوا به وبين غيرهم؛ ولا ينزل أحداً منزلتهم، ولا يشبه بهم من ليس منهم. فصل قال: (وهذا الرجل المبتدع يأتي (بالألفاظ التي) (¬3) هي عين التنقيص بسوء فهمه، ويحتج لها جهلاً أو عناداً بألفاظ التنزيه تمويهاً منه أو جهلاً، فقول أبي يزيد (¬4): استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق الغريق -إن صح تنزيهه (¬5) للباري- على أن غير هذه العبارة خير منها، وإن كنا نعلم أن المراد بها هو المراد بقول القائل: لا يستغاث إلا بالله، ولا يفرج الكربة إلا الله). الجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: المبتدع من شرع ديناً لم يأذن به الله، لا من أمر بما أمر الله به ونهى عما نهى الله عنه، ومن أعظم المبتدعين من جوّز أن (¬6) يستغاث بالمخلوق الحي والميت في كل ما يستغاث فيه بالله -عز وجل- بل من جوز أن يسأل الميت ويدعي على أي وجه كان، بل من حمل ألفاظ الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -[على أن] (¬7) المراد بها التوسل به، ¬

_ (¬1) في (ف) ليست. (¬2) في (ف) من. (¬3) في (ف) (بألفاظ التي) وفي (د) و (ح) (بألفاظ). (¬4) مصححة في الأصل، وغير منقوطة في (ف) وهو أبو يزيد البسطامي سبق التعريف. (¬5) في (ف) تنزيه. (¬6) (أن) تكررت في الأصل. (¬7) ما بين المعقوفين من (ت)، وهو مما يقتضيه السياق، وفي هامش (ح) لعله (على أن)، وسقط من الأصل و (ف) و (د).

موافقة العلماء للمؤلف

وجعل توسل الصحابة هو توسلهم بذاته أو الإقسام به على الله -تعالى-؛ ولم يعلم أن المراد بها التوسل بشفاعته، ومن أعظم المبتدعين من جعل التوحيد كفراً والشرك إيماناً، وكفر من هم أحق بالإيمان من طائفته، ونفي الكفر عن طائفته الذين هم أحق بالكفر ممن كفروه. الثاني: أن يقال دعواه أن الألفاظ التي ذكرت [هي] (¬1) عين التنقيص، قد بُين أنه من أعظم الكذب، وأن التنقيص والشرك لما ذكره ألزم، وأن المدعي أن هذا تنقيص كذب (¬2) بإتفاق المسلمين، فإنه قد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن مثل هذا الكلام لا يحكم على صاحبه بالتنقيص [ولا بالكفر] (¬3) ولا بما هذا الكلام أحسن منه. الثالث: إن قول المجيب ليس (¬4) هو قوله وحده؛ بل [هو] (¬5) قول جميع أئمة الدين وعلماء المسلمين، فليس في علماء المسلمين من يقول: إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث الله فيه، ولا من يقول: إن الميت يستغاث به في كل ما يستغاث بالله فيه، بل قول القائل: إن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه، متفق عليه بين علماء المسلمين، وما علمت إلى ساعتي هذه أحداً من علماء المسلمين الذين يستحقون الإفتاء نازع في هذا، بل ثبت عندي عن عامة من بلغني كلامه من [العلماء] (¬6) الموافقة على هذا، وإنما عرف نزاع بعضهم في السؤال به، وأما الشيوخ الذين يسألون الميت فهؤلاء ليس فيهم أحد ممن يرجع المسلمون إلى فتياه، وإنما فعلوا نظيره، والفقيه قد يفعل شيئاً على ¬

_ (¬1) كذا في (د) وسقطت من الأصل و (ف) و (ح). (¬2) في (ف) كاذب. (¬3) بياض في جميع النسخ بمقدار كلمتين، وفي هامش الأصل و (ف) و (د) (بياض في الأصل) وما بين المعقوفين مما يقتضيه السياق وقد حكم بهما البكري للمؤلف. (¬4) سقطت من (ف). (¬5) كذا في (د) وسقطت من الأصل و (ف) و (ح). (¬6) كذا في (ح) وهامش الأصل، وفي الأصل و (د) علماء، وفي هامش (ف) (المسلمين)، وسبق نقل المؤلف لإجماع العلماء في مصر في عصره على موافقته.

فصل [5]

العادة، [وإذا] (¬1) قيل له: هذا من الدين لم يمكنه أن (¬2) يقول ذلك، ولهذا قال بعض السلف: "لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك". فصل قال: (وأما قول هذا المبتدع لا يستغات بالرسول فإنه كفر، لأنه لفظ يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله -تعالى- في طلب الإغاثة، وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال الثابت له - صلى الله عليه وسلم -. أرأيت رجلين قال أحدهما: لا ضار ولا نافع إلا الله يشير إلى التوحيد، وقال الآخر: إن الرسول لا يضر ولا ينفع، وقال الأول: إن الله السميع العليم إشارة للحقائق التي حصرها الرب -سبحانه- في نفسه بهذا الكلام، وقال الآخر: إن الرسول لا يسمع ولا يعلم، أكان يشك مسلم في أن الأول موحد والثاني كافر منقص ولا ينفعه تأويله). والجواب من وجوه أحدها: أن (¬3) ما ذكرته افتراء، فإن أحداً لم يخص الرسول بهذا النفي لا خطاباً ولا كتاباً، ولا نفي كل ما يسمى استغاثة، فلا النفي عام ولا المنفى عنه مخصوص، وأنت [ادعيت] (¬4) هذا وهذا على المجيب؛ وكلاهما (¬5) كذب، وجواب السؤال ينطق بخلاف هذين، وقد بيّن فيه أن (¬6) [ما لا يقدر عليه إلا الله فلا] (¬7) يطلب من مخلوق لا الرسول ولا غيره، وحينئذٍ فهذا التفصيل أبين من النفي المطلق الذي قاله أبو يزيد وغيره من المسلمين، فإذا كان ذلك سائغاً فهذا أولى. ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (فإذا). (¬2) في الأصل مكتوب فوقها لعل (إلا). (¬3) سقطت من (ف). (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل الدعيت. (¬5) في (ف) وكلامهما. (¬6) في (ف) تنطق. (¬7) بياض في جميع النسخ، بمقدار ثلاث كلمات في الأصل و (ف)، وأربع في (د)، وما بين المعقوفين من جواب شيخ الإسلام على سؤال الاستغاثة والذي سبق ذكره كاملاً، وهو ما يقتضيه السياق.

تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر تعظيم له

الثاني: [أنه تقدم] (¬1) أن المخصص بالذكر إذا كان لتحقيق (¬2) العموم كان ذلك تعظيماً للمخصوص بالذكر، فإذا قيل: لا يعبد إلا الله لا الأنبياء ولا غيرهم، ولا يستغاث بمخلوق لا الأنبياء ولا غيرهم ونحو ذلك، كان هذا تعظيماً للرسول وتبييناً أنه لا أحد أرفع منه من الخلق، وخصائص الرب -عز وجل- منتفية (¬3) عنه وعن غيره بطريق الأولى، وهذا كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذاً من أهل (¬4) الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله"، وفي رواية: "إني أبرأ إلى كل خليل من خلته" (¬5) فبيّن أن خلة المخلوقين منتفية (¬6) عن كل أحد حتى عن الصديق وهو أحق بها لو كانت ممكنة، ولو خص بالذكر لفظاً في سياق يفهم منه العموم كان حسناً كقوله [تعالى] (¬7): {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} (¬8) [آل عمران: 80]. وكذلك إذا كان سبب التخصيص حاجة المستمع إما لسؤاله عن ذلك؛ وإما لحاجته إليه، كقوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء: 172]، وكقوله (¬9): {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ} (¬10) [المائدة: 75]، فإن الحاجة داعية إلى ذكر المسيح لوقوع النزاع فيه. فلو تنازع اثنان هل يخص النبي بالحلف به دون سائر الأنبياء؟ فقال أحدهما: لا يحلف به، لم يكن هذا تنقيصاً؛ بل هذا هو قول الجمهور وهو الصواب، وكذلك إذا تنازع اثنان هل يخص بالاستغاثة به أو بالإقسام على الله ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين من (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) (أن يقدم)، وما أُثبت أعلاه هو الصواب لأنه تقدم ذكر ذلك. (¬2) في (د) التحقيق. (¬3) في (ف) منفية. (¬4) (أهل) سقطت من (ف). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد) 1/ 162 رقم 466، ومسلم في (كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر الصديق) 4/ 1855 رقم 2383 بروايات متعددة، واللفظ لمسلم. (¬6) في (ف) منفيه. (¬7) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف). (¬8) في (ف) تكملة الآية: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. (¬9) في (ف) قوله بدون كاف. (¬10) في (ف) تكملة الآية: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}.

الاستغاثة المطلقة لا تصح إلا بالله

به بعد موته؟ فقال أحدهما: لا يستغاث ولا يقسم به، فإن هذا ليس من خصائصه لكان من هذا الباب. الثالث: قوله عن أبي يزيد: غير هذه العبارة خير منها، قول باطل، فإن ما قال أبو يزيد -رحمة الله عليه- تلقاه الناس بالقبول، وقال (¬1) بعده أبو عبد الله القرشي قال: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون"، وهذا كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"، وقوله لطائفة من أصحابه: "لا تسألوا الناس شيئاً"، ومنه قوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8]، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في صفة السبعين ألفاً: "هم الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون"، فالاسترقاء طلب الرقية من المخلوق. وكأنه يقول: هذا فيه جعل المخلوقين كلهم مثل الغريق؛ ويدخل في ذلك الأنبياء وغيرهم، وفي الناس من يمكنه إغاثة غيره، فيقال: أبو يزيد أراد -والله أعلم- الاستغاثة المطلقة التي لا تصح إلا بالله، وهو أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله، كإزالة المرض والانتصار على العدو وهداية القلب، وهذا القدر يمكن المسؤول أن يتسبب فيه؛ أن يدعو الله له ويجيب الله دعاءه، كما أنه [قد] (¬2) يمكن بعض الغرقى أن يمسك غيره ويخلصه إذا كان فيه قوة على ذلك، وإن كان أراد كل ما يسمى استغاثة بحيث لا يُطلب من [المخلوق شيء] (¬3)، فهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يسترقون"، وقوله: "إذا سألت فاسأل الله". وحينئذٍ فالمسؤول كائن من كان لا يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله وقدرته، فهو أحوج إلى معونة [الله] (¬4) من الغريق إلى من يخلصه، فإن الغريق غايته أن يموت؛ وهذا إن لم يغثه الله لم يفعل شيئاً قط بل هلك، فافتقار الخلق إلى ¬

_ (¬1) في (ف) قاله. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل. (¬3) كذا في (ح)، وفي الأصل (المخلق شيئاً)، وفي (ف) و (د) (المخلوق شيئاً)، والصواب ما أثبت أعلاه لأن شيئاً نائب الفاعل. (¬4) كذا في (ح)، وسقطت من الأصل و (ف) و (د).

المنفي عن المخلوق هي الاستغاثة الكاملة

الخالق [أعظم] (¬1) من افتقار الغريق إلى المنقذ، والمسجون إلى من يرسله، ولهذا قيل: استغاثة المخلوق بالمخلوق أبلغ من هذا، كالاستغاثة بالمعدوم. الرابع: قوله: وإن كنا نعلم أن المراد بها، المراد بقول القائل: لا يستغاث إلا بالله، ولا يفرج الكربة إلا الله، فيقال: هذا يقتضي تصويب هذا النافي، وعلى قولك لا يكون هذا النفي صواباً؛ لأنك قلت: إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث فيه بالله، وحينئذٍ فهذا الإثبات يناقض ذلك السلب العام، وقد تقدم (أن دعواه أن المثبت) (¬2) هو عين المنفي في كلام الله ورسوله خطأ، بل ما نفاه الرب عن غيره لم يثبته له، والمنفي عن المخلوق ما اختص الرب به، وكذلك قول أبي يزيد وغيره. وأما على ما ادعاه فالاستغاثة بالمخلوق عامة في كل شيء؛ فلا يكون شيء من الأشياء [لا] (¬3) يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيه، فلا تنفى الاستغاثة عن (¬4) غير الله، إذا كانت ثابته للمخلوق في كل شيء؛ إلا أن يقال المنفي هو الاستغاثة الكاملة أو التي يستقل بها المغيث (¬5)، كما يقال: لا موجود إلا الله -تعالى-، فيقال: وهذه العبارة لا موجود إلا الله، ليست عبارة منقولة عن السلف والأئمة (¬6). والنافي إذا أراد بالنفي الكمال مع القرينة جاز ذلك، كما يقال: لا عالم إلا فلان، ولا حاكم إلا فلان، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} إلى قوله (¬7): {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]. وقد بيّنا في غير هذا الموضع (¬8) أن الله ورسوله لم [ينفيا] (¬9) اسماً من ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل. (¬2) ما بين القوسين سقط من (ف). (¬3) كذا في (ح) وسقطت من الأصل و (ف) و (د). (¬4) في (ف) من. (¬5) في (ف) المستغيث. (¬6) يجوز الإخبار بهذه العبارة عن الله -عز وجل-، ولا يسمى بها سبحانه. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 6/ 142؛ وبدائع الفوائد لابن القيم 1/ 76. (¬7) تكملة الآيات: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}. (¬8) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 22/ 530 - 532، 19/ 291 - 292. (¬9) كذا في (د) و (ف)، وفي الأصل (لم ينفوا)، وفي (ح) (يُنفى).

مسمًّى شرعي إلا لانتفاء بعض ما يجب فيه؛ لا [ينتفى] (¬1) (لانتفاء) (¬2) الكمال المتسحب، بل [و] (¬3) لا بانتفاء (¬4) الكمال الواجب، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]، ونظائرها في القرآن، وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بأم القرآن" (¬5)، وأما قوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" (¬6)، وقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا [في] (¬7) المسجد" (¬8)، ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د)، وفي الأصل (ينفوا) وفي (ح) (يُنفى). (¬2) في (ف) إلا بانتفاء. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت (الواو) من الأصل. (¬4) في (ف) (ينفي) وفي (د) (بنفي). (¬5) أخرجه البخاري في (كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها) 1/ 234 رقم 765، ومسلم في (كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة) ج 295 رقم 394، وأخرجه غيرهم، بلفظ قريب من لفظ المؤلف. (¬6) أخرجه أبو داود في (كتاب الطهارة، باب في التسمية على الوضوء) 1/ 60 رقم الحديث 101 (ط. عزت الدعاس)، والترمذي في (كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء) رقم 25، 1/ 37 قال أبو عيسى: قال أحمد بن حنبل: "لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد"، قال محمد بن إسماعيل: "أحسن شيء في هذا الباب حديث رباح بن عبد الرحمن -يعني هذا الحديث-"، وابن ماجه في (أبواب الطهارة، باب ما جاء في التسمية في الوضوء) رقم 413، 1/ 78، والدارمي في (كتاب الوضوء والصلاة، باب التسمية في الوضوء) رقم 697، 1/ 141 واللفظ له. (¬7) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (بالمسجد) بالباء. (¬8) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 246 وسكت عنه، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 497 رقم 1915، والبيهقي في السنن الكبرى 13/ 111 في (كتاب الصلاة، باب المأموم يصلي خارج المسجد) عن علي وأبي هريرة مرفوعاً، والدارقطني في السنن 1/ 420 (باب الحث لجار المسجد على الصلاة فيه) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وقد ضعف بعض طرق الحديث أبو الطيب محمد شمس الحق في التعليق المغني على الدارقطني بهامش سنن الدارقطني تصحيح عبد الله هاشم يماني المدني (طبعة دار المحاسن للطباعة القاهرة - مصر) 1/ 422، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 22/ 531 "وهذا اللفظ قد قيل: إنه لا يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر عبد الحق الإشبيلي: أنه رواه بإسناد كلهم ثقات (هكذا في الأصل)، وبكل حال فهو مأثور عن علي، ولكن نظيره في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من سمع ... "، وضعفه ابن حجر في فتح الباري 1/ 579، وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 217 رقم 183: الحديث ضعيف لا حجة فيه. أ. هـ.

وقوله: "من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له" (¬1)، فهذه الأحاديث قد اختلف في صحتها، واختلف في نفي الكمال بها في مذهب أحمد وغيره، فإن قيل: إنها صحيحة وجب العمل بموجبها، وكذلك قوله: "لا صيام لمن لم يبيِّت الصيام من الليل" (¬2)، قد اختلف في صحته، فليس شي هذا الباب حديث صحيح، اتفق العلماء على أن المراد به نفي الكمال المستحب. وقول القائل: لا يستغاث إلا بالله [ولا يسأل إلا الله] (¬3) ونحو ذلك فليس هو نفياً لمسمًّى شرعي؛ بل لغوي وهو نفيٌ معناه النهي، كقوله [لا يستعان] (¬4) إلا بالله، ولا [يسأل] (¬5) إلا الله ونحو ذلك، وهذا النهي عام في كل شيء؛ لكن النهي في أكثره نهي تحريم؛ وبعضه نهي تنزيه، [والأولى] (¬6) للإنسان أن لا يسأل أحداً إلا الله، كما وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة من أصحابه بذلك، وهو نهي تحريم فيما لا يقدر عليه إلا الله وغير ذلك، وهو أيضاً نهي تحريم إذا طلب من المخلوق تمام مطلوبه، فإن مطلوبه لا يقدر عليه إلا الله، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في (كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة) رقم 551، 1/ 374، وابن ماجه في (أبواب المساجد، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة) رقم 777، 1/ 142 ولفظه: " ... فلم يأته .... "، والحاكم في المستدرك 1/ 246 كتاب الصلاة واللفظ له، وصححه ووافقه الذهبي، قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 218 أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي وسند ابن ماجه صحيح، وقد صححه النووي والعسقلاني والذهبي ومن قبلهم الحاكم. أ. هـ. (¬2) أخرجه النسائي في (كتاب الصيام، باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة) 4/ 196 رقم 2329، 2330، والترمذي في (كتاب الصوم، باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل) 3/ 108 رقم 730، وأبو داود في (كتاب الصيام، باب النية في الصيام) 2/ 823 رقم 2454، وابن ماجه في (أبواب الصيام، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل) 1/ 331 رقم 1702، وأحمد في المسند 6/ 287، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 7/ 34: "قد رواه أهل السنن وقيل إن رفعه لم يصح، وإنما يصح موقوفاً على ابن عمر أو حفصة". (¬3) ما بين المعقوفين من (ح) وفي (د) (لا يسأل إلا بالله) بزيادة باء في لفظ الجلالة، وسقط من الأصل و (ف). (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (يستغاث). (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (سأل). (¬6) بياض في جميع النسخ بمقدار ثلاث كلمات في الأصل و (ف) و (د)، (ح) بمقدار كلمتين، وفي هامش (ف) و (د) بياض في الأصل، وما بين المعقوفين، يقتضيه السياق.

رد دعوى البكري في تكفير من نفى الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -

وإنما يقدر المخلوق على بعض أسباب مخلوقة، وبهذا وجب على العبد أن لا يتوكل إلا على الله، فإنه لا يقدر غير الله على حصول مطلوبه، إذ مطلوبه وإن كان له أسباب فالمخلوق المعين؛ إنما يقدر عليس بعض أسبابه، ثم ذلك المخلوق لا يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله وقدرته. الخامس: قوله: (وأما قول هذا المبتدع لا يستغاث بالرسول فإنه كفر .. إلى آخره). فيقال له أولاً: ليس هذا قوله، فإنه لا ينفي عنه أن يستغاث به فيما يليق بمنصبه، بل قد صرح بجواز ذلك أيضاً، فإنه لا يخصُّ الرسول لا بالذكر ولا [بالنفي] (¬1)، بل إنما قيل هذا على سبيل العموم؛ وهو أنه (¬2) لا يستغاث بميت أصلاً لا الرسول ولا غيره، ولا يستغاث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق. ويقال ثانياً: دعواك أن هذا التخصيص كفر، أحق بأن يكون كفراً؛ بل يقال لك: لا نسلم أنه باطل فضلاً عن أن يكون كفراً، وهذا عند [التخصيص] (¬3) إذا قال: لا يستغاث به بعد موته ونحو ذلك، بمنزلة أن يقال: لا يُسأل ولا يدعى بعد موته، أو لا يصلى على الرسول عند الذبح (¬4)، أو لا تجب الصلاة على الرسول في الصلاة (¬5) ونحو ذلك من العبارات النافية ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين. بياض في جميع النسخ بمقدار كلمه وفي هامش (ف) بياض في الأصل، وقد سبق معان قريبة من هذا. (¬2) في (ف) أن. (¬3) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل (المخصص)، وفي (ف) (المتخصص). (¬4) اختلف العلماء، فقال الجمهور: لا تشرع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الذبح، ومذهب الإمام مالك والمنصوص عن الإمام أحمد كراهته وأقوى أدلتهم أن هذا الموطن يفرد بذكر الله -تعالى-، كما ورد في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده في الذبح. وقال الإمام الشافعي: يستحب ذلك، واستأنس بقول الله -تعالى-: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشرح: 4]، أي لا أُذكر إلا ذكرت معي. والراجح قول الجمهور اتباعاً لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الذبح. المغني وبهامشه الشرح الكبير 11/ 5، وتفسير ابن كثير 3/ 515، وتلخيص الاستغاثة ص 151. (¬5) خلاف العلماء في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير على ثلاثة أقوال: الأول: ذهب بعض أهل العلم إلى أنها واجبة وهي ركن من أركان الصلاة، من لم =

الفهم الفاسد للمتكلم والمصنف لا يضره

[لبعض الأمور] (¬1) عن الرسول، وقد يكون اللفظ مطلقاً لتقييده بسؤال السائل، مثل أن يقال: هل يصلى عليه عند الذبح؟ فيقال: لا يصلى عليه، ويقال: هل يستغاث به بعد موته وفي (¬2) مغيبه؟ فيقال: لا يستغاث به. لكن إن كان المستمع يفهم من هذه العبارة أنه لا يسأل في حياته شيئاً ولا يستشفع به، بمعنى أنه ليس أهلاً لذلك، لم يجز إطلاق هذه العبارة إذا عنى بها المتكلم معنى صحيحاً وهو يعلم أن المستمع يفهم منها معنًى فاسداً؛ لم يكن له أن يطلقها لما فيه من التلبيس، إذ المقصود من الكلام البيان دون التلبيس، إلا حيث يجوز التعريض خاصة، وليس هذا موضع تعريض، ولو قدر أن مطلقاً أطلقها وكنى بها معنى صحيحاً، والمستمع فهم منها الكفر؛ لم يكفر المتكلم بذلك، لا سيما إذا لم يعلم أن المستمع يفهم المعنى الفاسد. وكلام الله ورسوله وكلام العلماء مملوء بما يفهم الناس منه معنًى فاسداً، فكان العيب في فهم الفاهم لا في كلام المتكلم الذي يخاطب جنس الناس، كالمصنف لكتاب أو الخطب (¬3) على المنبر ونحو هؤلاء، فإن هؤلاء لا يكلفون أن يأتوا بعبارة لا يفهم منها مستمع ما معنًى ناقصاً، فإن ذلك لا ¬

_ = يأت بها بطلت صلاته، وفرق بعض هؤلاء بين العمد والنسيان. الثاني: أنها واجبة ومن فروض الصلاة، وهو مذهب الشافعية، والصحيح في المذهب عند الحنابلة وغيرهم، واختلف هؤلاء في القدر الواجب، فقال طائفة: الواجب هو اللهم صل على محمد، والزيادة مندوبة، وذهب الآخرون إلى أن ذلك واجب إلى قوله: إنك حميد مجيد. الثالث: أنها مندوبة، وذهب إليه جماهير العلماء من السلف والخلف، حتى نقل الطبري والطحاوي الإجماع على ذلك، ولا تصح دعوى الإجماع. والراجح -والله أعلم- أن الواجب هو: اللهم صل على محمد، والزيادة مندوبة. انظر: المغني وبهامشه الشرح الكبير 1/ 577 - 578، والجامع لأحكام القرآن 14/ 235 - 236، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 508، وفتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة سابقاً، جمع وترتيب محمد بن عبد الرحمن بن قاسم 2/ 221 - 222، الطبعة الأولى 1399 هـ، بمطبعة الحكومة بمكة المكرمة. (¬1) بياض في جميع النسخ، بمقدار كلمتين في الأصل و (ف) و (د) وفي (ح) بمقدار كلمة، وفي هامش الأصل و (ف) و (د) بياض في الأصل، وما بين المعقوفين يقتضيه السياق. (¬2) (وفي) سقطت من (ف). (¬3) كذا في جمع النسخ، وفي (ط) الخطيب.

يكون إلا إذا علم مقدار فهم كل من يسمع كلامه ويقرأ كتابه، وهذا ليس في طاقة بشر، والله -تعالى- ما أرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبيّن لهم، فما (¬1) يمكن بيان الرسول إلا على طريقة اللغة المعروفة، وإن وقع خطأ في فهم بعض الناس، والله -تعالى- أنزل كتابه بلسان الرب، وهو لا بد أن ينزله بلسان من الألسنة، وأكمل الألسنة لسان العرب، وأكمل البلاغة بلاغة القرآن باتفاق أهل العلم بذلك. وقد غلط في كثير من فهم القرآن، من لا يحصيه إلا الله، حتى في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم طائفة من قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] أن المراد به الخيوط التي هي من جنس الحبال (¬2)، وفهم بعضهم من قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أن المراد دخولها والتعذيب فيها (¬3)، وفهم بعضهم من قوله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8] أنه قد يناقش العبد الحساب وينجو (¬4)، ومثل هذا كثير. ¬

_ (¬1) في (ف) فيما، وكذلك في الأصل، ولكنها مصححة في هامش الأصل. (¬2) يشير إلى ما أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ...} الآية 3/ 1364 رقم 4509 عن الشعبي عن عدي قال: أخذ عدي عقالاً أبيض وعقالاً أسود، حتى كان بعض الليل نظر، فلم يستبينا، فلما أصبح، قال: يا رسول الله جعلت تحت وسادتي، قال: "إن وسادك إذاً لعريض، أن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك" وطرفه رقم 4510، 4511. (¬3) يشير إلى ما أخرجه مسلم في (كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان) 4/ 1942 رقم 2496 عن أم مبشر، أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول عند حفصة: "لا يدخل النار -إن شاء الله- من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها"، فقالت: بلى يا رسول الله! فانتهرها، فقالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد قال الله -عز وجل-: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} ". وأخرجه ابن ماجه في (أبواب الزهد، باب ذكر البعث) 2/ 444 رقم 5335، ولفظه: " ... من شهد بدراً أو الحديبية ... " الحديث. (¬4) يشير إلى ما أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} 3/ 1584 رقم 4939 عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس أحد يحاسب إلا هلك"، قالت: قلت: يا رسول الله، جعلني الله فداك، أليس يقول الله -عز وجل-: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)}، قال: "ذاك العرض يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك".

النهي عن الاستغاثة الممنوعة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقتضي نقصا به - صلى الله عليه وسلم -

السادس: قوله: (لأنه (¬1) لفظ يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة، وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال). فيقال له: نفي الاستغاثة به في شيء مخصوص أو وقت مخصوص، لا يفهم أحد منها نفي التوسل به ولا نفي كونه سبباً، وإنما يفهم منها نفي الطلب منه لذلك الشيء أو في ذلك الحال، وما ذكرته فيما تقدم من أن المتوسل به مستغيث به، قول لم يقله أحد قبلك لا من العرب ولا من العجم، وليس لأحد أن يفسر اللفظ بمعنى لا يعرفه أحد. السابع: (إن قوله: يقتضي سلب صلاحيته الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله)، قول باطل، فإن قول القائل: لا يستغاث به نفي بكون هذا مشروعاً، ولا سيما إذا كان في سياق الإفتاء وبيان الأحكام الشرعية، والصيغة صيغة خبر، فإنه لم يرد نفي إمكان شرع، فضلاً عن أن يقتضي نفي الصلاحية، فإذا قيل: الرسول لا يسجد له، لم يقتضِ أن ذلك غير ممكن أن يشرعه الله، فقد أمر الملائكة بالسجود لآدم، وقد سجد ليوسف [أبواه] (¬2) وإخوته، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من آدم ويوسف؛ فكيف يفهم من هذا اللفظ أنه لا يصلح لما يصلح له آدم ويوسف -عليهم السلام-. وكذلك إذا قيل: النبي لا يورث؛ لم يكن هذا نفياً: لإمكان أن يبيح الله أن يورث، أو نفياً لاستحقاق شيئاً يمكن أن يورث عنه. وكذلك إذا قيل: كان الصحابة قد نهوا أن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء؛ لم يكن في هذا نفي لما يسأل عنه؛ ولا نفي لإمكان أن يشرعه الله ورسوله، كما أن (¬3) قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، لا يقتضي نقصاً (¬4) [بالمسئول] (¬5)، وقوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 108]، وقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ ¬

_ (¬1) في (د) و (ح) أنه. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل أبوه، وما أثبت أعلاه هو الصواب لأنه فاعل. (¬3) (أن) سقطت من (د). (¬4) في (ف) نقضا (بالضاد). (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (بالسؤال).

جهل البكري وظلمه

الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، فَنَهى الأمم أن تسأل الأنبياء هذه المسائل، (لا يقال إنه نفي لصلاحية الرسل أن يكونوا وسيلة في حصول المسؤول) (¬1)، [وذلك] (¬2) نفي لصفة الكمال؛ إذ ليس فيه إلا النهي عن السؤال، ليس فيه نفي لصلاحية (¬3) المسؤول أن يسأل؛ ولا نفي قدرته على حصول المسؤول، ولا شيء من هذا، بل قد يكون النهي عن السؤال لصلحة المنهي (¬4)، ولما في سؤاله من المفسدة. وقوله: لا يستغاث به هو مثل قوله: لا يسأل، هو نهي عن سؤاله وعن الاستغاثة [به] (¬5)، لما في ذلك من مصلحة المنهي ومن مصلحة الرسول ومن توحيد الرب، وأيضاً فقول القائل: لا يصلح أن يستغاث به، أو لا يصلح أن يكون وسيلة إلى الله في حصول الإغاثة، قد يريد: لا يصلح شرعاً بمعنى أن هذا لم يشرع، وقد يريد لا يصلح أي أن هذا غير ممكن في حقه، فلو قدر أن نفي الاستغاثة نفي للصلاحية (¬6) فالصلاحية لفظ مجمل. وبالجملة فكلام هذا الرجل كثير منه نزاع لفظي، مع كونه لفظياً فهو يعبر عن المعنى بلفظ لم يعبر به غيره، وينكر على غيره أن يعبر عن المعنى بالعبارة المستعملة فيه، ففيه جهل وظلم، جهل، بدلالة اللفظ في استعماله، واستعمال اللفظ فيما لم يستعمل فيه قط، وينكر على من يستعمله في معناه، ويريد أن يلزمهم بالقبيح الذي [ارتكبه] (¬7)، ويحمل كلامهم على المعنى الباطل؛ لظنه أن اللفظ يحتمله مع أنهم [قد] (¬8) صرحوا بنقيض ذلك المعنى بعبارة صريحة، فيدع (¬9) محكم (¬10) كلامهم وتمسك بمتشابهه الذي هو متشابه في ظنه؛ مبتغياً للفتنة بذلك، وليس مقصوده معرفة مراد المتكلم وتأويله، بل ¬

_ (¬1) ما بين القوسين سقط من (د). (¬2) في (ح) (وليس ذلك). (¬3) في (د) الصلاحية. (¬4) في (ف) النهي. (¬5) كذا في (ح) وسقط من الأصل و (ف) و (د). (¬6) في (د) الصلاحية. (¬7) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (رتكبه). (¬8) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل. (¬9) في (ف) و (د) و (ح) فبدع. (¬10) (محكم) سقطت من (د).

إثبات المؤلف لشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتوسل المشروع

غرضه ما يقوله الناس عنه من إرادة العلو في الأرض والفساد بالظلم. يبيّن هذا الجواب الثامن: وهو أنه قد ذكر المجيب في أول جوابه فقال: قد ثبت بالسنة المستفيضة بل المتواترة واتفاق الأمة؛ أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو الشافع المشفع، وأنه سيد ولد آدم، وأنه يشفع في الخلائق (¬1) يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به فيطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم فيشفع لهم، وفيه أيضاً تقرير ما كان أصحابه يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به، وفي الجواب: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم (¬2)، فإذا كانت هذه الألفاظ الصريحة فيه، فلو قدر أن فيه إطلاق نفي الاستغاثة، هل كان يقال إن فيه ما يقتضى نفى صلاحيته أن يكون وسيلة إلى الله في حصول الاستغاثة؟ وقد بيّن فيه (¬3) تقرير ما كان الصحابة [يفعلونه] (¬4) من التوسل به والاستشفاع به، وقرر فيه أن الناس يستشفعون به ويتوسلون بشفاعته في الدنيا والآخرة، وأنه يستغاث به بمعنى أنه يطلب منه كل ما هو اللائق بمنصبه، فإذا كان قد بيّن ثبوت هذه الأمور؛ هل يمكن أن ينفي معها صلاحيته لبعضها؟! ومعلوم أن حصول [الاستشفاع والتوسل به] (¬5) أبلغ من الصلاحية له، فإذا كانت هذه الأمور قد أُثبتت فكيف يُنفى معها الصلاحية لذلك؟ والألفاظ بإثباتها صريحة، واللفظ الذي توهم فيه نفي الصلاحية؛ غايته أن يكون محتملاً لذلك، ومعلوم أن مفسر كلام المتكلم يقضي على [مجمله] (¬6)، وصريحه يقدم على [كنايته] (¬7)، ومتى صدر لفظ صريح في معنى ولفظ مجمل نقيض ذلك المعنى و (¬8) غير نقيضه؛ لم يحمل ¬

_ (¬1) في (د) للخلائق. (¬2) سبق إيراد المؤلف لجزء كبير من الجواب. (¬3) في (ف) و (د) و (ح) من. (¬4) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) (يفعلون) وما أثبت أعلاه هو الصواب. (¬5) ما بين المعقوفتين بياض في جميع النسخ بمقدار كلمتين، وفي هامش (ف) و (د) بياض في الأصل، وما أثبته هو مما سبق ذكره قبل أربعة أسطر. (¬6) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) (محمله) بالحاء. (¬7) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) كتابته. (¬8) كذا في جميع النسخ، وفي (ط) (أو) وهو الأولى.

ما دليل القبورية على جعل الطالب من المخلوق طالبا من الله

على نقيضه جزماً حتى يترتب عليه الكفر؛ إلا من فرط الجهل والظلم. التاسع: أنه لو فرض أن معنى اللفظ ما ذكرته، فإذا كان [مطلق] (¬1) اللفظ لا يعرف معناه، إلا ما أراده (¬2) بنفسه لم يكن كافراً بإجماع المسلمين، وإن اعتقد أن ما نفاه هو مدلول اللفظ، وما نفاه منتفٍ عنه إجماعاً أو في قول سائغ؛ لم يكن هذا كافراً عند أحد من المسلمين. العاشر: قوله: (يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة) كلام مجمل، فيقال لك: ما تعني به؟ أتريد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والرجل الصالح وغيرهما لا يكون بعد موته وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة منه؟ (أو أنه لا يكون حياً ولا ميتاً وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة منه؟) (¬3) وقوله: لا يكون وسيلة، تريد به أن لا يتوسل به أي بذاته أو بدعائه وشفاعته أو غير ذلك؟ فإن أردت أن الميت نبياً كان أو غير نبي لا يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة، بمعنى أن يطلب منه [أن يكون] (¬4) وسيلة في طلب الغوث منه، قيل لك: هذا صحيح، ولم قلت إن الأمر بالعكس، ومن أين لك في الشرع أن يطلب من الميت وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة منه؟! بل وكذلك إن أردت أن الاستغاثة بالحي والميت [تكون] (¬5) وسيلة إلى الله في طلب الغوث منه، ومن أين لك أن الطالب من المخلوق يكون طالباً من الله -عز وجل-؟! ومن الذي قال: إن السائل بمخلوق [و] (¬6) الداعي له والمستغيث به نبياً كان المدعو أو غير نبي؛ يكون المخلوق المستغاث وسيلة إلى الله في [الطلب] (¬7) منه؟!!. وهذا أمر مخالف للعقل واللغة والشرع، فمن الذي جعل الطلب من هذا وسيلة في الطلب من هذا في كل شيء وعلى كل حال؟! بل من طلب من ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) المطلق. (¬2) في (د) ما أن أراده. (¬3) ما بين القوسين سقط من (ف). (¬4) ما بين المعقوفين من (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) (لا يكون). (¬5) كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) (يكون). (¬6) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقط من الأصل. (¬7) كذا في (ف) وفي الأصل و (د) (ح) (طلب).

حال القبورية في الاستغاثة بشيوخهم

الرسول أو غيره فإنما يطلب مقدوره، فيطلب منه الدعاء والشفاعة؛ ويكون دعاؤه وشفاعته وسيلة في حصول المطلوب، [لا أن] (¬1) ذلك يكون طلباً من الله، وأنت قد جعلت كل ما يطلب من [غير] (¬2) الله وسيلة من وسائل الله، فما هذه الوسائل التي يكون المتوسل بها طالباً من الله، فإن الطلب من الله معروف معلوم، فيقال: دعا الله وسأله واستعانه واستغاث به وطلب منه ورغب إليه واستجاره واستعاذه ونحو ذلك، وليس هنا (¬3) مخلوق يكون الاستغاثة به وسيلة في هذا الطلب، وكأن [هذا] (¬4) يجعل نفس الطلب من الصالح طلباً من الله. ويقول: إن الصالح لمنزلته عند الله من طلب منه شيئاً فإن الله تعالى يعطيه ذلك، كما إذا طلب من الله، وهذا حال كثير من (¬5) الجاهلين الضالين يستغيث أحدهم بشيخه في كل ما يهمه، فإذا خاف أحداً أو طلب حاجة استغاث بالشيخ [أو] (¬6) الغائب والميت، فيقول: يا شيخ فلان أنا في حسبك يا سيدي فلان ونحو ذلك من العبارات، ومنهم من يقول: هذا وقتك يا شيخ فلان، أو يقول: إن لم تحضر يا شيخ فلان وإلا فُعِلَ بنا وصُنِعَ، وقد يقول: إن كنت رجلاً صالحاً صاحب حال فأرني حالك، ويقول: إن كان لك جاه عند الله فهذا وقت جاهك، وقد يستغيث أحدهم بعدة مشايخ، فيقول: يا سيدي فلان وفلان وفلان، ثم من هؤلاء من يتصور له صورة إنسان يظنها الشيخ أو ملكاً تصور على صورته وسارّه وكالمه [أو قضى بعض حاجاته] (¬7) ونحو ذلك، ومنهم من [يتصور] (¬8) له ذلك في صورة طائر، ومنهم من يتصور ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق، وفي جميع النسخ (لأن). (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقط من الأصل. (¬3) في (د) هذا. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (هذ) سقطت الألف. (¬5) في (د) (أبي) وهي زيادة. (¬6) كذا في (د) وسقط من الأصل و (ف) و (ح). (¬7) ما بين المعقوفين بياض في جميع النسخ بمقدار كلمتين، وفي هامش (د) بياض في الأصل، ثبت أعلاه كرره المؤلف في مواضع من هذا الكتاب. (¬8) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (تتصور).

له في صورة حيوان آخر، وتكون تلك الشياطين تتصور بتلك الصور لأولئك المشركين الذين دعوا من دون الله آلهة أخرى وطلبوا منهم ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله، كما كان المشركون يطلبون من الأوثان ما يطلب من الله، وكما يطلب عباد الكواكب منها ما لا يطلب من الله، وكذلك عباد الأنبياء والملائكة، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 56 - 57]، وقال تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 80]، وهؤلاء لا (¬1) يتصور أن يقضى لهم جميع مطالبهم ولا أكثرها، كما أن ما تخبر به الشياطين من الأمور الغائبة لا يصدقون فيه كله ولا في أكثره، بل يصدقون في واحدة ويكذبون في أضعافها، ويقضون لهم حاجة واحدة ويمنعونهم أضعافها، ويكون فيما أخبروا به وأعانوا عليه إفساد حال الرجال في الدين والدنيا، وهذه الأمور لبسطها موضع [آخر] (¬2). والمقصود أن كثيراً من [الضالين] (¬3) الجاهلين يستغيثون بمن يحسنون به الظن من الأموات والغائبين في كل ما يستغاث الله فيه، ولا يتصور أن هؤلاء يسألونهم مطالبهم كلها ولا أكثرها، بل غاية ما يطلبونه منهم من جنس تحصيل المنافع ودفع المضار و (¬4) لا يحصل، بل قد يُحصّل بعض المطالب، كما يحصل لعباد الأصنام والكواكب وغيرهم من المشركين، ويكون ما يخبرون به ويفعلونه شبهة للمشركين، كما أن ما يخبر به الكاهن ونحوه من الأخبار فإنه يصدق في واحدة ويكذب في شيء كثير، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو آتوا بالأمر على وجهه لكان، ولكن يخلطون بالكلمة الواحدة مائة كذبة" (¬5). ¬

_ (¬1) (لا) سقطت من (د). (¬2) كذا في (د) و (ح)، وسقطت من الأصل و (ف). (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل الصالحين. (¬4) الواو سقطت من (ف). (¬5) أخرجه البخاري في (كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده) 2/ 1012 رقم 3210 وأطرافه: 3288، 5762، 6213، 7561، ومسلم في (كتاب السلام، باب تحريم =

قول البكري وأمثاله من القبورية هو من جنس قول النصارى

فهذا القول الذي يقوله هذا هو مطابق لأحوال هؤلاء المشركين الضالين، لكن هذا ليس يقوله مسلم ولا عاقل يتصور ما يقول، بل هو من جنس قول النصارى: (دعاء المسيح) (¬1) دعاء لله، لكن أولئك يقولون باعتبار الحلول والاتحاد، وأما بدون هذا (فهو كلام) (¬2) غير معقول، فإن الله -تعالى- أمر أن يدعى هو ويسأل هو، ولم يجعل دعاء أحد من المخلوقين دعاء له بل قد نهى الله عن دعائه، ولو كان هذا حقًّا لكان من دعا الملائكة والأنبياء دعا الله (¬3) ولا يكون مشركاً؛ والله قد جعلهم مشركين، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 56 - 57]، فإن هؤلاء الضالين جعلوا الصالحين مع الله -سبحانه وتعالى- كالوكيل مع موكله، فإذا طُلب من الوكيل الدعاء كانت المطالبة للموكل في المعنى؛ لكن هذا ليس من أقوال الموحدين، بل هو من أعظم شرك الملحدين. والرسول لم يضمن للخلق أن يرزقهم ويحاسبهم ولا يجيب دعاءهم، بل هذا كله أخبر أنه لله وحده، قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} [الرعد: 40]، وقال: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام: 50]، وقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} [التوبة: 59]، فبيّن تعالى أن التحسب بالله وحده والرغبة إلى الله وحده، وأما الإيتاء فلله والرسول لأن الحلال ما حلله الرسول والحرام ما حرمه الرسول؛ كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ¬

_ = الكهانة وإتيان الكهان) 4/ 1750 رقم 2228 وغيرهما بألفاظ متقاربة. (¬1) ما بين القوسين سقط من (د). (¬2) في (ف) فكلام. (¬3) في (ف) لله.

زعم القبورية أن شيوخهم يدبرون العالم بالخلق والرزق

فالله -تعالى- قد جعل الرسول مبلِّغاً لكلامه؛ الذي هو أمره ونهيه ووعده ووعيده. وهؤلاء يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والرزق وقضاء الحاجات وكشف الكربات (¬1)، وهذا ليس من دين المسلمين، بل النصارى تقول هذا في المسيح وحده بشبهة الاتحاد والحلول، ولهذا لم يقولوا ذلك في إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل، مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها موسى أعظم، ولو كان الحلول ممكناً لم يكن للمسيح خاصية توجب اختصاصه بذلك؛ بل موسى أحق بذلك، ولهذا خاطبت من خاطبته من علماء النصارى وكنت أتنزل معهم إلى أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية، فلم [يجدوا] (¬2) فرقاً، بل أُبيّن لهم أن ما جاء به موسى من الآيات أعظم؛ فإن كان هذا حجة في دعوى الإلهية فهو أحق، وأما ولادته من غير أب فهو يدل على قدرة الخالق لا على (¬3) أن المخلوق أفضل من غيره (¬4). وإن إراد بقوله: (يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة) أنه لا يتوسل بذاته فلا يقسم به على الله، ولا يقال أسألك برسولك أو أسألك بجاه رسولك. فيقال: أولاً: نفي الاستغاثة بهم لا يفهم أحد منها نفي السؤال به. ويقال: ثانياً: وهب (¬5) أنه أراد هذا؛ فما الدليل على جواز السؤال لله بذوات (¬6) المخلوقين أو مطلقاً وبعد موتهم؟! ولمن قال هذا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ والصحابة إنما كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته، ولهذا ¬

_ (¬1) ذكر ذلك كثيراً الشعراني في طبقاته في تراجم الصوفية. (¬2) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) (يجدون) بثبوت النون وهو خطأ. (¬3) (على) سقطت من (د). (¬4) إحدى هذه المناظرات كانت في قاعة الترسيم بالقاهرة، فلما أقام عليهم الحجة، احتجوا بما يفعله جهال الصوفية عند رأس الحسين، وقبر نفيسة وغيرهما، فلما أبان الشيخ ضلال هؤلاء وجهلهم؛ قالوا: الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه. انظر: ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم خادمه إبراهيم الغياني ص 24 - 25. (¬5) في (د) وهبوا. (¬6) في (د) و (ف) بذات.

الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وطاعته هو الوسيلة إلى سعادة الدنيا والآخرة

توسلوا بعده بالعباس ولو كان التوسل بذاته ممكناً بعد الموت لم يعدلوا إلى العباس، والأعمى إنما توجه بدعائه وشفاعته، وكذلك الصحابة في الاستغاثة، وكذلك الناس يوم القيامة يستغيثون به ليشفع لهم إلى الله، فهم يتوسلون بشفاعته، [أما] (¬1) بمجرد (¬2) الذات بعد الممات فلا دليل عليه ولا قاله أحد من السلف، بل المنقول عنهم يناقص ذلك، وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز؛ وإن نقل عن بعضهم جوازه، فقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. ويقال: ثالثاً: وهب أن قائل ذلك أخطأ في هذا النفي؛ لكن ليس كل مخطئ يكفر؛ لا سيما إذا قاله متأولاً باجتهاد أو تقليد. وإن أراد بقوله: لا يكون وسيلة أي لا يكون الإيمان به ومحبته وطاعته وموالاته، واتباع سنته والمجاهدة على دينه ونحو ذلك وسيلة إلى الله؛ فهذا لم ينفه أحد، ونفي الاستغاثة به لا ينفي هذه الوسائل، وهذه وسائل في حصول الثواب والقرب من الله وسعادة الدنيا والآخرة، لا في مجرد الاستغاثة، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو الوسيلة إلى سعادة الدنيا والآخرة بهذا الاعتبار، ومن نفى كونه وسيلة إلى الله بهذا الاعتبار فهو كافر حقًّا، فإنه نفى رسالته التي هي أصل الإيمان. الحادي عشر: قوله: (وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال الثابتة له - صلى الله عليه وسلم -). فيقال له: لا نسلم أن هذا نفي لشيء من صفات الكمال؛ بل ولا نفي لشيء موجود، بل هو نفي لشيء منتف في نفس الأمر. ويقال له: ثانياً: هذا الوصف عندك ثابت لآحاد الناس؛ بل (¬3) قولك يقتضي أنه ثابت لكل مخلوق، وما ثبت لآحاد الناس لم يكن من خصائص الرسل التي تعد من كمالاتهم، فلا يقول عاقل: إن ما شاركه (¬4) فيه عامة ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (لا). (¬2) في (د) مجرد. (¬3) في الأصل (قرد)، وفي (ف) (قود) ويظهر أنها زيادة، وليست في (د) و (ح). (¬4) في (د) شارك بدون (هاء).

ليس كل من نفى وصفا من أوصاف الكمال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكفر وأمثلة ذلك

الناس يكون من كمالات لرسل (¬1) التي يكون نفيها قدحاً في رسالته. ويقال: ثالثاً: لو قدر أنه وصف كمال؛ فليس كل من نفى وصفاً من أوصاف الكمال يكون كافراً، إذا كان متأولاً في ذلك، دع من نفى وصفاً من صفات كمال الرسول على سبيل التأويل. وقد قال طوائف من السلف [والخلف] (¬2): إنه يقعده معه على العرش وأنكر ذلك آخرون (¬3)، (وقال قوم: إنه كتب بيده عام الحديبية خرقاً للعادة ونفى ذلك آخرون (¬4)، وقال قوم: إنه كان يجوع ويربط الحجر على بطنه مع ¬

_ (¬1) في (ف) و (د) (الرسالة)، وزاد في الأصل بعد الرسل (له). (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح) وسقطت من الأصل. (¬3) قال المؤلف في درء تعارض العقل والنقل 5/ 237: وحديث قعود النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش، رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة، وهي كلها موضوعة، وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول. أ. هـ ونقل ابن القيم في بدائع الفوائد 3272 عن القاضي (أبي يعلى) أن المروزي (وهو أحمد بن علي بن سعيد المروزي ت 292 هـ) جمع فيه كتاباً وذكر طرقه وأنه قول أبو داود وأحمد وأصرم ... وذكر خلقاً من السلف. أ. هـ. والراجح: أن تفسير المقام المحمود بالقعود على العرش لا يصح، لا سيما وقد روي عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: أن المقام المحمود هو المقام الذي يشفع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وقد ذهب إلى هذا ابن عبد البر في التمهيد 19/ 64، 7/ 157 - 158، والواحدي كما نقل عنه شهاب الدين محمود الألوسي في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 15/ 131 (الطبعة دار التراث القاهرة - مصر) وللتوسع. انظر: العلو للذهبي 124 - 126. (¬4) ما بين القوسين تأخر في (د) إلى ما بعد الجملة التي بعده. وكتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية وردت فيها أحاديث، فقد أخرج البخاري في (كتاب المغازي، باب عمرة القضاء) 3/ 1288 رقم 4251 من حديث البراء ولفظه: " .... ثم قال -أي النبي صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "امح رسول الله" قال علي: لا والله لا أمحوك أبداً. فأخذ رسول الله الكتاب -وليس يحسن أن يكتب- فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، لا يدخل مكة ... " الحديث. ومسلم في (كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية) 3/ 1409 - 1411 رقم 1783. وقد اختلف الناس في هذه المسألة فأنكر كثير من فقهاء الأندلس وغيرهم الكتابة، وشنعوا على من قال به حتى نسبوه إلى الكفر والزندقة، وقال بجواز ذلك أبو ذر الهروي وأبو الوليد الباجي وصنف فيه كتاباً وحكاه عن السمناني، واختلف هؤلاء فقال بعضهم: =

قدرته على حصول ما يأكل، ونفى ذلك آخرون (¬1)، وقال ابن مسعود والجمهور: إنه خاطب الجن ورآهم، ونفى ذلك ابن عباس وآخرون (¬2)، وقال ابن عباس وطائفة: إنه رأى ربه، ونفى ذلك آخرون من الصحابة وغيرهم (¬3)، ¬

_ = إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى عرف الكتابة، وقال آخرون إنه - صلى الله عليه وسلم - كتب في الحديبية على سبيل الإعجاز، والراجح أنه لا يلزم من كتابة اسمه الشريف - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالماً بالكتاب ويخرج عن كونه أمياً، فإن كثيراً ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصور بعض الكلمات ويحسن وضعها خصوصاً الأسماء. وللتوسع. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/ 352، وشرح مسلم للنووي 12/ 379 - 380، وغاية السول في خصائص الرسول لابن الملقن ص 132 - 134، وفتح الباري لابن حجر 7/ 641 - 642. (¬1) وردت أخبار كثيرة في ربط النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر على بطنه من الجوع، مع أن الله -تعالى- عرض عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل له بطحاء مكة ذهباً، أو الجبال ذهباً، وقال بموجب هذه الأخبار جمهور العلماء، وردها وضعفها بعضهم كابن حبان وتمسكوا بأحاديث الوصال في الصوم، وأنه - صلى الله عليه وسلم - يطعمه ربه ويسقيه. وقد أكثر الناس الرد عليه بما ورد في صحيحه من ربط النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر على بطنه. والراجح مذهب الجمهور، ويمكن الجمع بأن الإطعام والسقيا في حال الوصال في الصوم، والجوع وربط الحجر على غير المواصلة. والله أعلم. انظر: صحيح البخاري (كتاب الصوم، باب الوصال) 2/ 583 الأحاديث رقم 1961، 1962، 1963، 1964 وغيرها، والبداية والنهاية 6/ 54، وفتح الباري 4/ 260 - 261، ورفع الخفا شرح ذات الشفا، تأليف محمد بن الحاج الكردي، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي وصابر الزيباري 2/ 78 - 81، الطبعة الأولى 1407 هـ، الناشر دار عالم الكتب بيروت - لبنان. (¬2) والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الجمهور وابن مسعود، فإن ابن مسعود أعلم بقصة الجن من عبد الله بن عباس لأنه حضرها وحفظها، وابن عباس كان إذ ذاك طفلاً، لأن قصة الجن كانت قبل الهجرة، والله أعلم. انظر: دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني 2/ 365 - 372، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 19/ 1 - 4، وآكام المرجان في أحكام الجان لبدر الدين الشبيلي الحنفي ص 55. (¬3) الخلاف في حصول الرؤية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصحابة مشهور، والمأثور عن عائشة -رضي الله عنها- الإنكار الشديد على من قال بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه -جلّ وعلا- بعينه، وتابعها بعض الصحابة كابن مسعود، وجاء عن ابن عباس في بعض الروايات التصريح بالرؤية مطلقاً وفي الأخرى التقيد بالرؤية القلبية. قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 6/ 509: وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك. أ. هـ. وقال =

بل نفس المعراج قال الجمهور: إنه كان ببدنه؛ وآخرون من السلف والخلف قالوا إنه كان بروحه فقط (¬1)، وقال طائفة من العلماء: إنه [كان] (¬2) يملك الفيء ونفى ذلك آخرون (¬3)، وقال أكبر المنتسبين إلى السنة: إنه والأنبياء أفضل من الملائكة، وآخرون قالوا: الملائكة أو بعضهم أفضل من الأنبياء (¬4)، وقال جمهور المسلمين: إنه أفضل الأنبياء وتوقف في ذلك بعض الحنفية ¬

_ = ابن حجر في الفتح 2/ 782: يجب حمل مطلقها على مقيدها ... فيمكن الجمع بأن يحمل نفي عائشة على رؤية البصر وإثبات ابن عباس على رؤية القلب. أ. هـ، وهذا هو الراجح والله أعلم، وللتوسع. انظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة 2/ 477، وشرح مسلم للنووي 3/ 7 - 9، وفتح الباري لابن حجر 6/ 782 - 783، والمسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة لعبد الإله الأحمدي 2/ 145 - 151. (¬1) والصواب أنه أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ببدنه يقظة لا مناماً، وبه قال أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، والآثار تدل عليه ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل ولا استحالة في حملها عليه. انظر: كتاب التوحيد لابن منده 1/ 124 وما بعدها، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10/ 205 - 210، وشرح مسلم للنووي 2/ 567 - 568. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفىِ الأصل (كا) بدون نون. (¬3) قال الشافعي وبعض أصحاب أحمد إن الفيء ملك للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، ورد عليهم جمهور العلماء بعدة أدلة منها ما أخرجه البخاري في (كتاب فرض الخمس، باب قول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} 2/ 959 رقم 3117 ولفظه: "ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت". والراجح أن الفيء يصرف في مصالح المسلمين وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد في أحد قوليه. والله أعلم. للتوسع. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 13 - 15، والمغني لابن قدامة 7/ 298، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/ 565، وفتح الباري 6/ 268 وكتاب الفيء والغنيمة ومصارفهما تأليف محمد الربيع ص 171 الطبعة الأولى 1413 هـ. (¬4) يقول بتفضيل الأنبياء وصالحي البشر على الملائكة أهل السنة، ويقول المعتزلة بتفضيل الملائكة، وللأشاعرة قولان منهم من يفضِّل الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع. وقالت الرافضة: إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة، وهذه المسألة لا يتوقف عليها أصل من أصول الاعتقاد، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كبير من المقاصد، وهي من فضول المسائل. ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول. انظر: شرح مسلم للنووي 15/ 43، وشرح العقيده الطحاوية لابن أبي العز ص 301 - 311.

وغيرهم (¬1)، وادعى بعض الناس أنه كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل به جبرائيل (¬2) -عليه السلام-[عليه] (¬3) ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم (¬4)، وقال قوم من هذا النمط إن جميع الأنبياء تلقوا العلم بالله منه وأنه كان موجوداً قبلهم ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم (¬5)، وقال بعضهم إنه كان لا يسهو في الصلاة وإنما كان يتعمد (¬6) ذلك، ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم، ¬

_ (¬1) توقف بعض العلماء في تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - على جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لورود أحاديث النهي عن التفضيل مثل ما أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)} 2/ 1060 رقم 3413، ولفظه: "ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى"، ونقل القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 3/ 362 عن شيخه قال: فلا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهي. أ. هـ، ونقل القرطبي أيضاً في الجامع 3/ 363 التوقف عن التفضيل عن ابن عطية. أ. هـ. والصواب تفضيل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - جمعاً بين أدلة القرآن والسنة، والنهي عن التفضيل إنما يكون لمن يقوله برأيه، أو من يقوله على وجه الفخر، أو على وجه الانتقاص بالمفضول، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى الخصومة والتنازع أو ما شابه ذلك. وللتوسع. انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 132، تحقيق محمد محيي الدين الأصفر، وشرح مسلم للنووي 15/ 42 - 43، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 362 - 364، وتفسير ابن كثير 1/ 304. (¬2) في (د) (جبريل). (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل وزاد في (د) - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) سبق التعليق على هذه المسألة في ص 207 وانظر: الكبريت الأحمر بهامش اليواقيت والجواهر ص 6. (¬5) لغلاة الصوفية في النبي - صلى الله عليه وسلم - مذاهب شتى، فمنهم من يرى أنه حقيقة الذات الإلهية، ومنهم من يرى أنه نور من نور الله وغير ذلك، ومراد شيخ الإسلام من يرى أنه - صلى الله عليه وسلم - حقيقة الذات الإلهية، يقول الدمرداش في معرفة الحقائق ص 7 نقلاً عن شبهات التصوف ص 77: حقيقة الحقائق هي المرتبة الإنسانية الكمالية الإلهية الجامعة لسائر المراتب كلها وهي المسماة بحضرة الجمع، وبأحدية الجمع، وبها تتم الدائرة، وهي أول مرتبة تعينت في غيب الذات وهي الحقيقة المحمدية. أ. هـ. ويقول الكمشخائلي في جامع الأصول ص 107 نقلاً عن شبهات التصوف ص 77: صور الحق هو محمد لتحققه بالحقيقة الأحدية والواحدية. أ. هـ. وانظر ضلالهم في هذه المسألة والرد عليهم في شبهات التصوف لأبي حفص عمر قريشي ص 76 وما بعدها. (¬6) قال بعصمة الأنبياء من السهو وغيره الرافضة، وتابعهم الصوفية وأنه - صلى الله عليه وسلم - تعمد السهو، والصواب جواز النسيان عليه الصلاة والسلام في أحكام الشرع وهذا مذهب =

الكمال المطلق الذي لا غاية فوقه لله تبارك وتعالى

وقال بعض الغلاة: إنه كان يعلم علم الله ويقدر قدرته وكفر المسلمون من قال ذلك، فضلاً عن تكفير النافي (¬1)، وتنازع المسلمون في جواز الصغائر على الأنبياء وجمهورهم يجوِّزون ذلك (¬2)، وهذا باب واسع. فما زال المسلمون يتنازعون في شيء من إثبات صفات الكمال، ولا يقول المثبت للنافي إنك كفرت، فإن الكمال الثابت ليس محدوداً يعلمه الناس كلهم، وما من كمال إلا وفوقه كمال آخر، والكمال المطلق الذي لا غاية فوقه لله -تبارك وتعالى-، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كمل من الرجال كثير [... إلى آخر الحديث] (¬3) " (¬4)، وهؤلاء الكاملون بعضهم أكمل من بعض، فإذا نُفي عن بعضهم [نوع] (¬5) من الكمال لم يلزم أن ينفى عنه الكمال، لو كان كذلك لكان من قال إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أفضل من يونس بن متى متنقصاً (¬6) بيونس فيكون كافراً؛ لأنه سلبه هذا الكمال. وأما قوله: (أرأيت رجلين قال أحدهما: لا ضار ولا نافع إلا الله يشير إلى التوحيد، وقال الآخر: إن الرسول لا يضر ولا ينفع، وقال الأول: ¬

_ = جمهور العلماء وهو ظاهر القرآن والحديث، واتفقوا على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقر عليه بل يعلمه الله تعالى به، وأجمع العلماء على استحالته عليه - صلى الله عليه وسلم - في الأقوال البلاغية واستدلوا بحديث ذي اليدين وسيأتي تخريجه. انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، تأليف القاضي عياض بن موسى اليحصبي، تحقيق علي بن محمد البجاوي 2/ 798، طبعة دار الكتاب العربي، وشرح مسلم للنووي 5/ 64 - 95، وفتح الباري لابن حجر 3/ 130. (¬1) في (د) الثاني، وقول المؤلف إشارة لما ذهب إليه البكري من تكفير من نفى ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن قال إنه - صلى الله عليه وسلم - هو حقيقة الذات الإلهية فهو يقول: إنه يقدر قدرة الله ويعلم علمه. وقال بذلك بعض الصوفية. (¬2) قال بعصمة الأنبياء من الصغائر الرافضة، وأجازها الجمهور وهو الراجح. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 308، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 319، والرسل والرسالات تأليف د. عمر سليمان الأشقر ص 107 وما بعدها، الطبعة الرابعة 1410 هـ، الناشر مكتبة الفلاح، ودار النفائس - الكويت. (¬3) ما بين المعقوفين من (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف). (¬4) أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ...} الآية رقم 3411، 2/ 1058 وطرفه: 3433 واللفظ له. (¬5) كذا في (د) و (ح) بالرفع وفي الأصل و (ف) نوعاً بالنصب. (¬6) كذا في الأصل و (ح)، وفي (ف) بياض وفي (د) (تنقيصاً).

إن الله هو السميع العليم إشارة إلى الحقائق التي [حصرها] (¬1) الرب -سبحانه- في نفسه بهذا الكمال، وقال الآخر: إن الرسول لا يسمع ولا يعلم (¬2)، أكان يشك مسلم في أن الأول موحد والثاني كافر متنقص [و] (¬3) لا ينفعه تأويله؟ فإن سوء العبارة في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفر وإن صح المقصود، كما دل عليه كلام الإمام وغيره، ألا ترى إلزام الله -عز وجل- للصحابة بتحسين الخطاب معه وإيراده بكيفية الأدب إلى آخره ...). فيقال: أما المثال الأول فهو وإن كان أقرب إلى المطابقة فجوابه من وجوه: أحدها: أنه إذا كان الكلام في سياق العموم بيان (¬4) أنه أفضل الخلق مثل أن يقول: لا يضر ولا ينفع إلا الله لا الرسول ولا من دونه؛ أو يقال: إذا كان الرسول الذي هو أفضل الخلق لا يضر ولا ينفع فكيف من دونه ونحو ذلك، فهذا مثل قوله: لا يضر ولا ينفع إلا الله، وأما إذا كان المراد أن الرسول لا يضر ولا ينفع وغيره يضر وينفع فهذا هو التنقيص، وهو نظير أن يقال: الرسول لا يستغاث (به، بل يستغاث) (¬5) بغيره فهذا تنقيص بلا ريب، فإنه يتضمن تنقيصه عمن الرسول أفضل منه، وهذا تنقيص عن درجته بلا ريب. ويقال ثانياً: لو قال لا يضر ولا ينفع من الذي قال إنه يكفر بذلك؛ إذا عنى بذلك معنى قوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]، فإذا كان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً وقد أمره الله أن يقول ذلك، فهو أحرى أن لا (¬6) يملك لغيره، وقد قال: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]، فأخبر أنه لا يملك من الله لا ضرهم ولا رشدهم، و [قد] (¬7) قال الله -تعالى-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، وثبت ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (حصر). (¬2) في (ف) لا يعلم ولا يسمع. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل. (¬4) هكذا في جميع النسخ، والأولى أن تكون هكذا (وبيان). (¬5) ما بين القوسين سقط من (د) و (ح). (¬6) (لا) سقطت من (ف). (¬7) كذا في (د)، وسقطت من الأصل و (ف) و (ح).

نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه الضر والنفع

عنه في الصحيحين أنه قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً". فهذا تخصيص له بنفي ذلك وهو من أصدق الرسل، ومن صدّق الرسول فيما قاله فهو مؤمن ليس، بكافر، فإذا قال القائل: الرسول لا يغني عن بنته ولا عمه ولا عمته من الله شيئاً فكيف من دونهم؟؛ كان هذا من أحسن الكلام وأصدقه. ويقال ثالثاً: قول القائل [عن] (¬1) مخلوق: إنه لا يضر ولا ينفع؛ تارة مُريد به نفي الاستقلال بذلك على سبيل توحيد الربوبية، بمعنى أن ما يجري على يديه من الضر والنفع فالله هو خالقه؛ وهو الذي يجعله فاعلاً بمشيئته، أو يريد أنه لا ينفع ولا يضر إلا بمشيئة الله وقدرته وإرادته (¬2)، كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] فهذا صحيح، فليس في المخلوقات بهذا الاعتبار شيء ينفع [ويضر] (¬3)، إذ ليس في المخلوقات ما يستقل (¬4) بإحداث ضرر غيره ونفعه؛ ولا يفعل شيء إلا بإذن الله، كما ليس فيها من يعطي ويمنع بهذا الاعتبار (¬5). كما [أن] (¬6) من أسمائه -تعالى- المعطي المانع الضار النافع، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دبر الصلاة، وفي غير هذا الموطن: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (¬7)، وكان يقول في ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) غير. (¬2) بياض في (ف). (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (ولا ضر). (¬4) في (ف) ما ينتقل. (¬5) كذا في (ف) و (ح)، وفي الأصل و (د) (ولا ينبغي بهذا الاعتبار) وهي زيادة. (¬6) كذا في (ح)، وسقطت، من الأصل و (ف) و (د). (¬7) أخرجه البخاري في (كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة) 1/ 256 رقم 844 من حديث المغيرة بن شعبة وأوله: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله ... " الحديث وطرفه 6330.

من زعم أنه ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء مستجاب ولا شفاعة مقبولة أن طاعته تنفع ومعصيته لا تضر فهذا كفر صريح

رقيته: "أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافى، لا شفاء إلا شفاك"، وفي رواية: "لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقماً" (¬1). وتارة يريد به أن الضر والنفع المعتاد مثل الصحة والمرض والغنى والفقر والأمن والخوف واليسر والعسر؛ لا يفعله رسول ولا غيره؛ لا في حياته ولا بعد موته، فهذا صحيح، بخلاف ما يظنه المشركون الغلاة من [النصارى] (¬2) وأشباههم، الذين يظنون أن الأنبياء والصالحين بعد موتهم أو في حياتهم ينزلون المطر ويدفعون العدو وينبتون النبات ويشفون المرضى ونحو ذلك من الحوادث. وتارة يرى أنه ليس له دعاء مستجاب ولا شفاعة مقبولة وأن طاعته لا تنفع ومعصيته لا تضر ونحو ذلك، فهذا كفر صريح من أراده حُكم بردته وكفره؛ لكن اللفظ المجمل إذا صدر ممن علم إيمانه لم يحمل على الكفر بلا قرينة ولا دلالة، فكيف إذا كانت القرينة تصرفه إلى المعنى الصحيح. وأما المثل الثاني فلا يشبه ما نحن فيه، فإن قوله تعالى: {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] إثبات لهذه (¬3) الصفة، ومن الناس من يقول: ليس في الآية حصر، (ومن قال: فيها حصر) (¬4)، قال: المحصور كمال الصفة وليس ذلك إلا لله، فإذا قال: إن الرسول لا يسمع ولا يعلم لم يفهم من هذا اللفظ نفي ما يختص به الرب؛ ولا عموم النفي عن الرسول وغيره، ومعلوم أن الملائكة والإنس والجن والبهائم تسمع وتعلم، فإن الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬5) [المائدة: 4]، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الكلب المعلم (¬6)، ومن أطلق ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في (كتاب السلام، باب استحباب رقية المريض) 4/ 1722 رقم 2191 واللفظ له، والرواية الثانية عند البخاري في (كتاب الطب، باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -) 4/ 1834 رقم 5742. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (النصار). (¬3) في (د) هذه. (¬4) ما بين القوسين سقط من (د). (¬5) زاد في (د) {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ...} الآية. (¬6) يشير إلى ما أخرجه البخاري عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: =

على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يسمع ولا يعلم، فظاهر هذا اللفظ نفي ذلك عنه وهو كذب ظاهر، ثم قد يكون في سياق نفي علمه بالدين وسمعه لما أوحى إليه وهو كفر صريح، وقد يكون في سياق أنه لا يسمع ولا يعلم إلا ما أسمعه الله إياه وأعلمه إياه، فإنه (¬1) [ليس] (¬2)، من تلقاء نفسه ليس له [علم بشيء] (¬3)، بل الله هو الذي أسمعه وأعلمه، كما قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]، وكما قال {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وكما قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} [يوسف: 3] وكما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} [الضحى: 7]، فهذا المعنى ليس بكفر بل هو صحيح. وقد يكون في سياق أن الله هو المختص بكمال السمع والعلم، وأن غيره لا يبلغ مبلغه في ذلك، فهذا أيضاً صحيح، وأما (¬4) إطلاق أنه لا يسمع ولا يعلم فهو كذب وكفر، بخلاف إطلاق أنه لا ينفع ولا يضر، ولهذا يقول المسلم: لا ينفعني ولا يضرني إلا الله، ولا يقول: لا يسمع ولا يعلم إلا الله؛ بل يقول: لا يعلم ما في نفسي إلا الله، أو لا يسمع كلام العباد كلهم إلا الله، أو لا يسمع سر القول إلا الله -تعالى- ونحو ذلك. ¬

_ = "إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل، وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسكه على نفسه"، قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلباً آخر؟ قال: "فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب آخر" (كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان) 1/ 81 رقم 175. (¬1) في (ف) وإنه. (¬2) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق، ولا توجد في جميع النسخ. (¬3) كذا في (د)، و (ح)، وفي الأصل و (ف) (شيء). (¬4) في (د) و (ف) و (ح) فأما.

فصل [6]

فصل قال: (فإن سوء العبارة في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفر وإن صح المقصود، كما دل كلام الإمام وغيره، ألا ترى إلزام الله للصحابة -رضوان الله عليهم- بتحسين الخطاب معه وإيراده بكيفية الأدب، حيث قال لهم: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]، وقال -عز وجل-: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} [الحجرات: 4]، وقد نبه في الأول على حبط العمل بسوء الأدب، ولا يحبط العمل كله إلا بالكفر بإجماع أهل السنة، وجعل الاستخفاف به كفراً، كما قال -عز وجل-: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]، ولا أعلم خلافاً بين النقلة أن الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب كلامهم، لم يكونوا تعرضوا لله بعبارتهم (¬1)، وإنما تنقصوا رسوله فجعل استخفافهم برسوله استهزاء به سبحانه [و] (¬2) بآياته وكفى بذلك تكفيراً). والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: لا نسلم أن ما فيه النزاع سوء عبارة، بل هو من أحسن العبارات كما تقدم بيانه. الثاني: أنه إن كان سوء العبارة في حق الرسول كفر؛ ففي حق الله أعظم كفراً، ومن قال: إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث فيه بالخالق؛ كانت هذه العبارة [أنه يطلب] (¬3) من المخلوق كل ما (¬4) يُطلبُ من الخالق، وهذا يُشعر أنه جعل المخلوق نداً للخالق؛ وما أفهم الشرك كان من أسوأ العبارات (¬5)؛ فيجب أن يكون كفراً؛ يلزم هذا القائل، وقد ¬

_ (¬1) في (د) بعبادتهم. (¬2) كذا في (د) و (ح)، وسقطت من الأصل و (ف). (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل. (¬4) في (د) و (ح) كما. (¬5) في (ف) و (د) و (ح) العبارة.

الإساءة الحقيقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - من البكري وأمثاله

قال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما شاء الله وشئت"، قال (¬1): "أجعلتني لله نداً!! بل ما شاء الله وحده"، وقال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد" (¬2)، يقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك". الثالث: أن سوء العبارة ما حصل به سوء (المعبر عنه) (¬3)، من جعل الرسول يطلب منه الناس ما يطلبونه من الله، فقد آذى الرسول وأساء في حقه، وسلط عليه العامة على اختلاف أغراضهم، هذا يطلب منه إنزال المطر، وهذا يطلب منه غفران الذنوب، وهذا يطلب منه النصر على الأعداء، وهذا يطلب من أن يتزوج، وهذا يطلب منه الولد، وهذا يطلب منه المعيشة، وهذا يطلب منه الملك، وهذا يطلب منه الولاية، (وهذا يطلب منه داراً) (¬4)، وهذا يطلب منه جارية حسناء، وهذا يطلب منه (¬5) قضاء دينه، وهذا يطلب منه [سكباجاً] (¬6)، وهذا يشتكي إليه ظهور البدع، وهذا يشتكي إليه ما يظن أنه من البدع. فنزّلوا المخلوق منزلة الإله، وطلبوا منه جلب المنافع ودفع المضار ما لا يقدر عليه إلا الله -تبارك وتعالى-، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من لا ¬

_ (¬1) في (ف) فقال. (¬2) أخرجه أبو داود في (كتاب الأدب، باب لا يقال خبثت نفسي) 5/ 259 رقم 4980، وابن ماجه في (أبواب الكفارات، باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت) 2/ 392 رقم 2131، والإمام أحمد في المسند 5/ 72، 384، 393، 398، والدارمي في (كتاب الاستئذان، باب في النهي عن أن يقال ما شاء الله وشاء فلان) 2/ 603 رقم 2702 واللفظ له، وأخرجه غيرهم. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 208 - 209: رواه أبو يعلي ورجاله ثقات. أ. هـ، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة 1/ 363: رجاله ثقات على شرط البخاري لكنه منقطع بين سفيان وبين عبد الملك. أ. هـ، وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 214 رقم 137 - في حديث أبي داود وأحمد-: وهذا سند صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن يسار وهو الجهني الكوفي وهو ثقة، وثقه النسائي وابن حبان. أ. هـ. (¬3) ما بين القوسين في (د) المعتبر. (¬4) ما بين القوسين سقط من (د). (¬5) (منه) سقطت من (ف). (¬6) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل كسباجاً وسبق تعريفه.

بيان التوحيد من أجل الأمور وأدلة ذلك

يسألنا أحب إلينا ممن سألنا"، وكانوا يسألونه ما يقدر عليه؛ فكيف إذا طلبوا منه ما لا يقدر عليه مخلوق؟! وفي الجملة فمطالب الناس لا تنضبط في خيرها وشرها وقلَّتها وكثرتها، فمن سلط الناس على الرسول يطلبون هذا كله منه فهو من أعظم الناس إساءة إليه، وإن كان لا يقصد ذلك لكن عبارته أفهمته؛ فهي من [أسوأ] (¬1) العبارات. الرابع: إن الكلام إذا كان في سياق توحيد الرب ونفي خصائصه عما سواه؛ لم يجز أن يقال هذا سوء عبارة في حق من دون الله من الأنبياء والملائكة، فإن المقام أجلّ من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد توحيده، والنبي (¬2) - صلى الله عليه وسلم - كان من أعظم الناس تقريراً لما يقال [على هذا] (¬3) الوجه، وإن كان نفسه المسلوب، وهذا كما في الصحيحين من حديث الإفك لما نزلت براءة عائشة من السماء وأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: "والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا إياكما، لقد سمعتم فلا أنكرتم ولا غيرتم، ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي" (¬4)، وفي رواية قالت: "نحمد الله لا نحمد أحداً"، وفي رواية: "نحمد الله لا نحمدك" (¬5)، فأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبوها على مثل هذا الكلام، الذي نفت فيه ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) سوء. (¬2) في (د) (ونبي الله). (¬3) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) (هذا على). (¬4) أخرج البخاري أول الحديث في (كتاب التفسير، باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} 3/ 1492 رقم 4757، والإمام أحمد في المسند 6/ 60 بلفظ قريب من لفظ المؤلف، وقوله: "ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي"، أخرجه مسلم في (كتاب التوبة، باب حديث الإفك، وقبول توبة القاذف) 4/ 2136 رقم 2070. (¬5) لم أقف على هاتين الروايتين بهذا اللفظ، وقد أخرج البخاري في (كتاب المغازي، باب حديث الإفك) 3/ 1265 رقم 4143 ولفظه: "بحمد الله لا بحمد أحد ولا أحمدك ... "، والإمام أحمد في المسند 6/ 367، 368، وانظر: ذكر الروايات في تفسير الطبري 5/ 279، وتفسير ابن كثير 3/ 271، وفتح الباري 38/ 611، وحاشية كتاب "كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس"، للدكتور عبد العزيز عبد الله الزايد ص 328، وأكثر الروايات: "بحمد الله لا بحمدك" بالباء.

أن يحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يحمد أحد إلا الله، لأن الله -تعالى- هو الذي أنزل براءتها بغير فعل أحد، ولم يقل أحد هذا سوء أدب عليه، وسوء الأدب عليه كفر. قال البيهقي: ثنا (¬1) أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت علي بن [حمشاذ العدل] (¬2)، سمعت أحمد بن مسلمة (¬3) يقول: سمعت محمد بن مسلم [بن واره] (¬4) يقول: سمعت حبان (¬5) صاحب ابن المبارك يقول: قلت لعبد الله بن لمبارك: قول عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت براءتها من السماء: (بحمد الله لا بحمدك) (¬6) إني لأستعظم هذا القول؟ فقال عبد الله: "ولت الحمد أهله" (¬7). وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، حدثنا محمد بن مصعب، ثنا (¬8) سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بأسير، فقال: اللهم إني (¬9) أتوب إليك ولا أتوب إلي محمد، ¬

_ (¬1) في (ف) و (د) حدثنا. (¬2) ما ببن المعقوقين في (د) الحمسا، وفي (ح) الحمساد العدل، وفي الأصل و (ف) حمساد لعدل؛ لم تنقط ورسمت الذال في حمشاذ قريبة من الواو، والصواب ما أثبت أعلاه فهو علي بن حمشاذ العدل أحد شيوخ الحاكم صاحب المستدرك ثقة الحافظ انظر: السير 15/ 398 - 399. (¬3) لم أجد من ذكره، ولعله أحمد بن سلمة بن عبد الله النيسابوري، حافظ حجة عدل رفيق مسلم في الرحلة. انظر السير 13/ 373 رقم الترجمة 174 وهو من تلاميذ ابن واره كما في تهذيب الكمال للمزي. (¬4) في الأصل و (ف) وارث بالثاء، وفي (د) ورات، قلت: ولعلها تصحيف، وسقطت من (ح)، وهو محمد بن مسلم بن واره، حافظ ثقة، يضرب به المثل في الحفظ. انظر: السير 13/ 28. (¬5) هو أبو محمد حبان بن موسى بن سوار السلمي المروزي ثقة. انظر: تقريب التهذيب 1/ 182 رقم 1080. (¬6) في (د) (نحمد الله لا نحمدك). (¬7) لم أجد هذا الأثر، وجميع رجال الإسناد ثقات، وقال الحافظ ابن العربي المالكي في عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (طبعة دار العلم - سوريا) 11/ 54 قالت العلماء: ولت الحمد أهله. أ. هـ. (¬8) في (د) حدثنا. (¬9) (إني) سقطت من (ف).

تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه تجريد التوحيد

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عرف الحق لأهله" (¬1)، [و] (¬2) رواه أبو عبيد في كتاب الأموال عن عبد الرحمن بن مهدي عن سلام. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلم أصحابه تجريد التوحيد (¬3)، فقال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد"، وقال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندّاً، بل (¬4) ما شاء الله وحده"، وما أحدثه الله -عز وجل- بغير فعل منه أضافه إلى الله وحده، كما في الصحيحين لما تاب الله على الثلاثة الذين خلفوا وآذن النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس بتوبتهم، فجاء كعب إليه فقال: "يا كعب أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك"، فقال: يا رسول الله أمن عند الله أم من عندك؟ قال: "بل من عند الله" (¬5)، ومعلوم أنه لو كان من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان من عند الله، بمعنى أن الله خلقه وأحدثه ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 435، والطبراني في المعجم الكبير 1/ 286 رقم 839، 840، والحاكم في المستدرك في كتاب التوبة والإنابة 4/ 255 وقال: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله: ابن مصعب ضعيف واسمه محمد بن مصعب القرقسائي. أ. هـ، وقال ابن حجر في تقريب التهذيب 2/ 134 رقم 6321 في محمد بن مصعب: صدوق كثير الغلط. أ. هـ، وفي الحديث علة أخرى وهي تدليس الحسن البصري. انظر: كتاب تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس لابن حجر ص 102 رقم 40، وقد أخرج الحديث أيضاً -كما ذكر المؤلف- أبو عبيد بن سلام في كتاب الأموال ص 149 رقم 366، تحقيق محمد خليل هراس (الطبعة الأولى 1406 هـ) مرسلاً عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر الأسود بن سريع. (¬2) كذا في (ف)، وسقطت الواو من الأصل و (د) و (ح). (¬3) انظر: كتاب التوحيد وقرة عيون الموحدين، تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن النجدي الحنبلي ص 118، باب ما جاء في حماية المصطفى جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك، وكتاب فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن أيضاً ص 431 نفس الباب (ولا يوجد معلومات عن الطبعة)، والقول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ محمد العثيمين عناية د. سليمان أبا الخيل ود. خالد المشيقح 3/ 276 نفس الباب (الطبعة الأولى 1415 هـ الناشر دار العاصمة الرياض). (¬4) (بل) سقطت من (ف). (¬5) أخرجه البخاري في (كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك) 3/ 1332 رقم 4418 وأطرافه: 4676، 4677 واللفظ له، ومسلم في (كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه) 4/ 2120 رقم 2769.

توعبد الله من جعل القرآن قول البشر

بتوسط فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجميع الحادثات من عنده بهذا الاعتبار، ولكن المقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصدر منه فعل في هذه التوبة، إلا أنه بلغ (¬1) رسالة الله -تعالى- بالتوبة، كما قال في مثل ذلك: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} [يونس: 15]. وما يتكلم به الإنسان من تلقاء نفسه وإن كان الله خالقه؛ هو من عند الله باعتبار خلقه وتقديره، فليس هذا المعنى هو ذاك، فإنه هناك مبلِّغ لكلام مرسله والله يجعله مبلغاً له لا يجعله قائلاً من تلقاء نفسه، ولهذا توعد الله من جعل القرآن قول البشر، بقوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26]، وقد قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)} [الحاقة: 40 - 42]، فجعله قول رسول من البشر، كما جعله قول رسول من الملائكة؛ في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)} 19 - 21]، [لأن] (¬2) لفظ الرسول يستلزم المرسل ويدل على أنه مبلغ له عن مرسله لا يتكلم به من تلقاء نفسه، بخلاف من جعله قولاً لمخلوق بشر (¬3) أو ملك أو جني، أو جعل شيئاً منه قوله، فإن هذا هو الذي توعده الله -عز وجل-. وأيما أبلغ قول عائشة -رضي الله عنها-: "لا أحمد الرسول ولا أحمد إلا الله"، وقول الأسير: "أتوب إلى الله لا إلى محمد"، وقول القائل: لا يستغاث بالرسول بل بالله، أو لا يدعى الرسول وإنما يدعى الله ونحو ذلك؟!! وهو - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ براءتها وكان يحبها ويحب براءتها، وقد خطب الناس قبل ذلك وقال: "من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا ¬

_ (¬1) (بلغ) سقطت من (د). (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (لا أن). (¬3) كذا في (ف) و (د)، وفي الأصل بشراً بالنصب وهو خطأ لأن "بشر" صفة لمخلوق مجرور مثله.

هل علم النبي - صلى الله عليه وسلم - براءة عائشة قبل نزول الوحي

خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً" (¬1)، لكن لما لم يجزم ببراءتها، ولم يلطف بها اللطف الذي كان يلطف بها قبل ذلك، لما حصل عنده من الريب، بل كان إذا دخل يقول: "كيف تيكم"؟، ولما خطب قال: "يا عائشة إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفر [ي] (¬2) الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب؛ تاب الله عليه" (¬3)، قالت: "أنتم ما برأتموني إنما برأني الله فهو الذي يستحق أن أحمده" (¬4). وقد تنازع الناس (¬5) في النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان يعلم براءة عائشة -رضي الله عنها- قبل نزول الوحي؟ (¬6)، مع اتفاقهم على أنه لم يجزم بالريبة، فمن الناس قال: يعلم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب قوله {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ} الآية) 3/ 1484 رقم 4750، ومسلم في (كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف) 4/ 2129 رقم 2770 واللفظ للبخاري. (¬2) كذا في (ف) و (ح) وسقط من الأصل و (د). (¬3) أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ...} الآية رقم 4750، 3/ 1484، ومسلم في (كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف) 4/ 2129 رقم 2770 واللفظ للبخاري. (¬4) لم أجد هذه اللفظة وقد سبق ذكر الروايات وهي قريبة منها. (¬5) في (د) ناس. (¬6) لعل مراد المؤلف -رحمه الله- من هذا الاستطراد الرد على من يغلو في النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصفه بصفات الرب -تعالى-؛ فهذه المسألة توضح وتبيّن أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب وأن الأمر كله لله -تعالى- وهذه المسألة مسألة دقيقة، ذهب الناس فيها مذاهب: الأول: منهم من قال: إنه - صلى الله عليه وسلم - يعلم براءتها لأن فجور الزوجة يقدح في النبوة، ولكن توقف عن إظهار ذلك، واختلفوا في التعليل. الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يحكم لنفسه إلا بعد نزول الوحي، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجزم في القصة بشيء قبل نزول الوحي، وأن التنقيب لإقامة الحجة وقطع شبه المخالفين، وذهب لذلك ابن حجر في الفتح 8/ 610، 616 وغيره. الثالث: منهم من قال: حصل له نوع شك وترجحت البراءة، وأجابوا على الفريق الأول أنه يجوز أن يقال: إنه لا يعد فجور الزوجة منفراً إلا إذا أمسكت بعد العلم به فلا يجوز أن يقع فيجب طلاقها، وإذا طلقت لا يتحقق المنفر المخل بالحكمة. الرابع: قال آخرون: إنه - صلى الله عليه وسلم - توقف في أمرها، وسأل عنها، وبحث واستشار، وهو أعرف بالله، وبمنزلته عنده وبما يليق به، لأن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله =

براءتها وكذلك علي؛ ولكن لخوض الناس فيها ورميها بالإفك توقف، قالوا: وذلك أن نساء الأنبياء ليس فيهن بغيّ، كما قال طائفة من السلف: "ما بغت امرأة نبي قط" (¬1)، لأن في ذلك من العار بالأنبياء ما يجب نفيه، وقال آخرون: بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حصل له نوع شك وترجحت عندة براءتها؛ ولما نزل الوحي حصل اليقين، قالوا: والدليل على ذلك أنه استشار في طلاقها [عليًّا] (¬2) وأسامة، فأسامة قال: "أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيراً"، وقال علي: "لا يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك"، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال (¬3): "ما علمت على عائشة أو ما رأيت؟ "فقالت: ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجن (¬4) فتأكله" (¬5). ¬

_ = هذه القصة سبباً لها، وابتلاء وامتحان لرسوله، ولجميع الأمة إلي يوم القيامة. ولما كان هو المقصود - صلى الله عليه وسلم - بالأذي فلم يليق به أن يشهد براءتها مع علمه، أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها، وعنده - صلى الله عليه وسلم - من القرائن التي تشهد ببراءة الصدّيقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبره وثباته وحسن ظنه بربه، وثقته به، وفّى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بربه حقه، حتي جاءه الوحي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا القول أولي الأقوال، وقد ذهب إليه ابن القيم وعبد الغني المقدسي والشايع وغيرهم. للتوسع انظر: حديث الإفك تأليف عبد الغني المقدسي تحقيق هشام السقا ص 43 وما بعدها، طبعة 1405 هـ، الناشر دار عالم الكتب الرياض، وزاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية 3/ 259، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط الطبعة الخامسة والعشرون 1412 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان ومكتبة المنار الإسلامية - الكويت، وفتح الباري لابن حجر 8/ 608 وما بعدها، وروح المعاني للعلامة الألوسي 18/ 122 وما بعدها، وطهارة بيت النبوة تأليف خالد الشايع الطبعة الأولى 1414 هـ، الناشر دار الجلالين ودار الجلالين ودار بلنسية الرياض - السعودية ص 15 وما بعدها. (¬1) روي هذا عن ابن عباس والضحاك وغيرهما. انظر: تفسير الطبري 12/ 161، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/ 202. (¬2) كذا في (ط) وهو الصواب لأنه مفعول به منصوب، وفي الأصل و (ف) و (د) و (ح) لعلي. (¬3) في (ف) فقالت. (¬4) الداجن: هي الحمام والشاة وغيرهما التي ألفت البيوت. القاموس المحيط ص 1542 فصل الدال. (¬5) أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ =

فسؤاله - صلى الله عليه وسلم - لبريرة واستشارته لعلي وأسامة دليل على حصول الشك فيها، وهو لما خطب ما جزمِ بالبراءة فقال فيما قال: "والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي"، ولو كان جازماً بالبراءة لقال: إنهم كذبوا على أهلي وافتروا، وإن أهلي لبريئة مما قيل ونحو ذلك، ونفي العلم ليس علماً بالعدم، لكن هذه العبارة تصلح لدفع المتكلم ونهيه وذمه على قبول القول، كما قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} [النور: 15]. والعدل الذي عُرفت عدالته إذا (¬1) لم يعلم فيه من له به خبرة ما ظنه (¬2) إلا الخير كان عدلاً عنده، فإذا جرحه جارح لم يعلم صدقه بل ترجح عنده كذبه لم يقدح في عدالته ولم يوجب الجزم ببراءته، قال صاحب هذا القول ولولا نزول براءتها من السماء لدام الشك في أمرها، وإن كان لم يثبت شيء، ففرق بين عدم الثبوت مع حد القاذف وبين البراءة المنزلة من السماء من الله -عز وجل-، ولهذا ذكر غير واحد من العلماء: اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله منه فقد كفر (¬3)؛ لأنه مكذب للقرآن، وأصحاب هذا القول يقولون: النبي - صلى الله عليه وسلم - تردد هل يطلقها أم لا؟ لما حصل الشك؛ لكون امرأة النبي لا تكون بغيًّا، وكان عزمه أن يطلقها -والعياذ بالله- لو كان ما ذكر صحيحاً؛ لكن تأنّى وانتظر أمر الله؛ حتى بيّن الله له الحق، ومن قال هذا يقول: المحفوظات هن اللواتي يبقين عند النبي ولا يطلقهن، وقد يقال (بل كل) (¬4) من تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = الْفَاحِشَةُ} الآية 3/ 1490 رقم 4757، ومسلم في (كتاب التوبة، باب حديث الإفك وقبول توبة القاذف) 4/ 2129 رقم 2770 اللفظ لمسلم. (¬1) في (د) إذ. (¬2) في (د) ما ظن به. (¬3) نقل ذلك عن الإمام مالك وغيره، ونقل النووي إجماع العلماء على ذلك، وحكاه أبو يعلى وغيرهم. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12/ 305، وشرح مسلم للنووي 17/ 122، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 276، والموسوعة الفقهية - الكويت 6/ 269. (¬4) في (ف) (بكل).

النزاع في دخول من طلقها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مات قبل الدخول بها في المؤمنين

[محفوظة] (¬1) وإن طلقها. وقد تنازع الناس فيمن تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلقها أو مات عنها قبل الدخول هل تكون من أمهات المؤمنين؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره (¬2)، قيل إنها تكون أمًّا؛ فإن حرمة الأمومة ثبتت بالعقد كما ثبت في أمهات الناس، وقيل: لا تكون من أمهات المؤمنين والصحيح الفرق بين من طلقها ومن مات عنها، فمن مات عنها فهي من أمهات المؤمنين ومن أزواجه في الآخرة، بخلاف من طلقها فإنها تباح لغيره أن يتزوجها، ولولا هذا لم يحصل لهن بالتخيير (فائدة، وقد قال تعالى في آية التخيير) (¬3): {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (محفظة). (¬2) هذه الأقوال هي: الأول: أنها ليست من أمهات المؤمنين. الثاني: أنها من أمهات المؤمنين. الثالث: التفريق بين المدخول به وغير المدخول بها. والراجح أن غير المدخول بها ليست من أمهات المؤمنين لما ذكره المؤلف أعلاه من زواج عكرمه. انظر: البداية والنهاية 5/ 286، وغاية السوال ص 225، والموسوعة الفقهية الكويتية 6/ 267. أما من دخل بها - صلى الله عليه وسلم - ثم طلقها في حياته - صلى الله عليه وسلم - فاختلف العلماء قولين: أحدهما: أنها ليست من أمهات المؤمنين ويجوز لها أن تتزوج واستدلوا بآية التخيير. والثاني: أنها من أمهات المؤمنين ولا يحل الزواج بها، وقبل الترجيح هنا مسألة مهمة: هل طلق النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة بعد أن دخل بها؟ الذي في حديث البخاري 3/ 1506 رقم 4786 في كتاب التفسير، باب {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ...} أن نساءه - صلى الله عليه وسلم - جميعهن اخترن الآخرة، وضعف روايات الطلاق ابن حجر في الفتح 8/ 670، وانظر: حاشية غاية السول ص 248. وقد رجح الأول المؤلف في مجموع الفتاوى 32/ 119، وقواه ابن كثير في تاريخه 5/ 286، ورجح الثاني الإمام الشافعي وابن الصلاح وجمع من علماء الشافعية. انظر: غاية السول في خصائص الرسول ص 225، وللتوسع. انظر: غاية السول لابن الملقن ص 223 وما بعدها، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - للإمام محمد يوسف الصالحي الدمشقي ص 235، تحقيق محمد نظام الدين، الطبعة الأولى 1413 هـ، الناشر دار ابن كثير دمشق، بيروت. (¬3) ما بين القوسين سقط من (د).

عدم إمكانية تحديد سوء العبارة

وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]، وقد تزوج عكرمة بن أبي جهل امرأة كان طلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقره الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- على ذلك (¬1). الخامس: أن يقال ما حد سوء العبارة التي تكون كفراً؟ فإن هذا كلام مجمل لم يحصل (¬2) قائله مراده به، فإن أراد أن كل صفة هي ثابتة في نفس الرسول له (¬3) إذا نفاها [عنه] (¬4) إنسان باجتهاده يكون مسيئاً في العبارة؛ لزم أن كل من أثبت له صفة يكفر من نفاها، فالقائلون بالعصمة يكفرون نفاتها وإن كانوا جمهور الأمة، كذلك من أوجب له حقاً كالصلاة عليه في الصلاة يكفر من نفى هذا الحق وإن كانوا جمهور الأمة. السادس: أن يقال لا نسلم أن المقصود [إذا] (¬5) صح يكفر المعبر بعبارة يقال إنها سيئة، وهذا قول لم يقله أحد من أئمة المسلمين (¬6)، بل ¬

_ (¬1) المرأة التي تزوج عكرمة هي قتيلة بنت الأشعث، وقد أخرج الحاكم في المستدرك 4/ 38 كتاب معرفة الصحابة قال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ثم تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم عليه وفد كندة قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس في سنة عشرة، ثم اشتكى في النصف من صفر ثم قبض يوم الاثنين ليومين مضيا من شهر ربيع الأول ولم تكن قدمت عليه ولا دخل بها، ووقت بعضهم وقت تزويجه إياها فزعم أنه تزوجها قبل وفاته بشهر، وزعم آخرون أنه تزوجها في مرضه، وزعم آخرون أنه أوصى أن تخير قتيلة إن مات فيضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وإن شاءت فلتنكح من شاءت، فاختارت النكاح فتزوجها عكرمة ابن أبي جهل بحضرموت فبلغ أبا بكر، فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما، فقال عمر بن الخطاب: ما هي من أمهات المؤمنين ولا دخل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ضرب عليها، وزعم بعضهم أنها ارتدت. أ. هـ. وللتوسع انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/ 168، وكتاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تأليف محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي ص 257، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 18/ 88 - 89، طبعة دار نهضة مصر - القاهرة. (¬2) في (ط) (يحصر). (¬3) (له) سقطت من (د). (¬4) كذا في (ف) وفي الأصل و (د) و (ح) عن. (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (إذ). (¬6) في (ف) المسلمون.

إجماع الأمةءمملى عدم تكفير المخطئ

هم مجمعون على نقيضه، وأن المسلم إذا عني معني صحيحاً في حق الله أو الرسول ولم يكن خبيراً بدلالة الألفاظ؛ (فأطلق لفظاً) (¬1) يظنه دالاً على ذلك المعنى وكان دالاً على غيره، أنه لا يكفر، ومن كفر مثل هذا كان أحق بالكفر؛ فإنه مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد قال تعالى: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104]، وهذه العبارة كانت مما يقصد به اليهود إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ والمسلمون لم يقصدوا ذلك فنهاهم الله عنها ولم يكفرهم بها، والمطلق لمثل هذا علي الله لا يكفر، فكيف علي الرسول!!. وقوله: (إن كلام الإمام (¬2) أو غيره دل علي [أن] (¬3) ذلك ممنوع)، فإن إمام الحرمين أجل من أن يقصد مثل هذا، وإن سُلم أنه قال ذلك؛ ولا ينفع هذا المحتج تسليم ذلك له، فالكلام مع من قال هذا لو كان مجتهداً؛ دع إذا كان القائل ممن ليس له وجه في مذهبه، ولا يجوز لأحد أن يقلده ولا يفتي بقوله فيما هو دون هذه المسألة، فكيف بمثل (¬4) هذه المسألة المتعلقة بالتكفير والدماء (¬5)، وجهل مثل هذا المفتي بالشرع وأدلته [يوقعه] (¬6) فيما لم يقله أحد من علماء المسلمين، ولهذا يقع في فتاويه من العجائب ما لا يقوله أحد، فإنه يحب أن يفتي بمجرد رأيه ونظره مع قلة علمه لمسالك الأحكام ومدارك الحلال والحرام وأقوال أئمة الإسلام. وأما قوله: (أترى (¬7) إلزام الله للصحابة بتحسين الخطاب معه وإيراده بكيفية الأدب حيث قال لهم: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، ¬

_ (¬1) ما ببن القوسين سقط من (ف). (¬2) هو إمام الحرمين أبو المعالي الجويني وقد سبق ترجمته. (¬3) ما بين المعقوفتين يقتضيه السياق ولم يرد في جميع النسخ. (¬4) في (ف) في مثل. (¬5) في (د) الدعاء (¬6) كذا في (ط)، وفي جميع النسخ (توقعه). (¬7) في ص 362 أورد المؤلف النص (ألا ترى).

الذين رفعوا أصواتهم فوقى صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكفروا

وقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]). فيقال له: هذه الآيات كلها حجة عليك، فإن الذين رفعوا أصواتهم فوق صوته نهوا عن ذلك وحرم ذلك عليهم، فكان ذلك سوء أدب ولم يكفروا بإجماع المسلمين، بل كانوا معذورين فيما فعلوا قبل النهي، فمن أطلق عبارة لها معنى صحيح ولم يعلم (¬1) أنها مكروهة كيف يكفر!! وهذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر كما ثبت ذلك في الصحيح (¬2)، ومن كفرهما فهو أحق بالكفر. وقد ثبت في الصحيح أن ثابت بن قيس بن شماس -وكان يرفع صوته- خاف لما نزلت هذه الآية أن يكون من أهل النار، فبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة (¬3)، وهو أحد المشهود لهم بالجنة كما شهد بها للعشرة وغيرهم، وكذلك دعاؤه باسمه لم يقل أحد من المسلمين: إنه كان كفراً ممن دعاه، وكذلك الذين نادوه من وراء الحجرات كانوا من جفاة الأعراب وقالوا: يا محمد أخرج إلينا فسموه باسمه، وإنما وصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون لم يقل إنهم مرتدون. وأما قوله: (فقد نبه في الأول على حبط العمل بسوء الأدب، ولا يحبط العمل كله إلا بالكفر بإجماع أهل السنة). فيقال: بل الآية دلت على نقيض هذا فإنه قال: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ ¬

_ (¬1) سقطت من (د). (¬2) يشير إلى ما أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...} الآية 3/ 1537 رقم 4845، قال ابن أبي مليكة: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-، رفعا أصواتهما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، قال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال: أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ}، قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر. (¬3) أخرجه البخاري في (كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحجرات) 3/ 1538 رقم 4846 من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- وأوله: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيس ... الحديث".

لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، أي خشية أن تحبط أعمالكم، فدلت علي أن العمل لم يحبط بما تقدم من سوء الأدب؛ ولكن يخاف إذا رفعوا أصواتهم أن يجرهم ذلك إلى كفر يحبط العمل وهم لا يشعرون، فالمحبط ما يخاف حصوله لا ما وقع منهم، وهذا كما يقال المعاصي بريد الكفر، فإن رفع الصوت عليه والجهر له كجهر بعضكم لبعض قد يفضي بصاحبه إلي الاستعلاء عليه ونحو ذلك مما هو كفر. ثم يقال: ما نحن فيه ليس من هذا الباب، فإن الرافع قد فعل ما يعلم أنه مذموم في حق الرسول، فإن رفع الإنسان صوته علي غيره يعلم كل أحد أنه قلة احترام له، وليس أنه كمن تكلم بعبارة لا يعلم بها بأساً؛ قصد بها معنًى صحيحاً، ألا ترى أن الصحابة لما كانوا يقولون راعنا؛ وهذه الكلمة قد يقصد بها معنًى فاسداً (¬1)، وهم لا [يقصدون] (¬2) ذلك لكن كان ذريعة لغيرهم نهوا (¬3) عنها، ولم يقل: إنكم كفرتم، ولا قيل فيها: أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون؛ بل فرق الله -تعالى- بين قولهم راعنا وبين رفع الصوت عليه، وسوء العبارة مع صحة القصد من باب قولهم: راعنا، وهذه الآية حجة علي بطلان ما فهمه من كلام الإمام وغيره. ومن الحكايات [المعروفة] (¬4) عن الشافعي أن ربيع (¬5) قال له في مرضه: يا أبا عبد الله قوى الله ضعفك، فقال: يا أبا محمد لو قوي ضعفي لهلكت، فقال له الربيع: لم أقصد إلا خيراً، فقال: لو شتمتني صريحاً لعلمت أنك لم تقصد إلا الخير، فقال الربيع: كيف أقول؟ قال: قل: برأ الله ضعفك، فإن الشافعي نظر إلى حقيقة اللفظ وهو نفس الضعف، والربيع قصد ¬

_ (¬1) في (د) و (ح) (فاسد) بالضم. (¬2) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) يقصدوا. (¬3) كذا في جميع النسخ والأولى فنهوا عنه. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (المعرفة). (¬5) هو أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي بالولاء، المؤذن، صاحب الإمام الشافعي، وراوي كتبه، توفي سنة 270 هـ، وهذه الحكاية أوردها السبكي في طبقات الشافعية 1/ 261. انظر: ترجمته في طبقات الشافعية الكبري 1/ 259، والأعلام 3/ 14.

فصل [7]

أن يسمي [الضعيف] (¬1) ضعفاً كما يسمى العادل عدلاً، ثم [لما] (¬2) علم الشافعي بحسن قصده أوجب أن يقول: لو سببتني صريحاً -أي صريحاً في اللغة- لعلمت أنك لم تقصد إلا خيراً (¬3)، فقدم عليه علمه بحسن قصده ولم يجعل سوء العبارة منقصاً، وقد يسبق اللسان بغير ما قصد القلب، كما يقول الداعي من الفرح: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" (¬4)؛ ولم يؤاخذه الله. فصل وأما قوله: (وجعل الاستخفاف به كفراً كما قال الله -عز وجل- {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66]، ولا أعلم خلافاً بين النقلة أن الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب كلامهم و (¬5) لم يكونوا تعرضوا لله بعبارتهم؛ وإنما تنقصوا رسوله، فجعل استخفافهم برسوله استهزاء به سبحانه وبآياته وكفى بذلك [كفراً] (¬6)، ثم ذكر ما نقله من الكتاب الذي صنفته المسمى: "بالصارم المسلول على شاتم الرسول"). فيقال: لا ريب أن الاستخفاف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كفر، والاحتجاج بهذه الآية يدل على أن الاستهزاء بالله كفر؛ وبآيات الله كفر، وبرسوله كفر، من جهة أن الاستهزاء كفر وحده بالضرورة، فلم يكن ذكر الاستهزاء بآياته وبرسوله [شرطاً] (¬7) [في ذلك] (¬8)، فعلم أن الاستهزاء بالرسول أيضاً كفر وإلا لم يكن في ذكره فائدة، ¬

_ (¬1) كذا في (ح) و (ط) وفي الأصل و (ف) و (د) (ضعف) ولا يستقيم المعنى. (¬2) كذا في (د) و (ح) وسقط من الأصل و (ف). (¬3) في (ف) الخير. (¬4) يشير إلى ما أخرجه مسلم في (كتاب التوبة، باب الحض على التوبة والفرح بها) 4/ 2105 رقم 2747، وأوله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه ... الحديث". (¬5) سقطت الواو من (ف). (¬6) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (كفر) بدون ألف، وفي ص 362 ذكر المؤلف الجملة ورسم هذه الكلمة: (تكفيراً). (¬7) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) شرط بدون ألف. (¬8) ما بين المعقوفتين من (ف) و (د) و (ح)، وسقط من الأصل.

القبورية أولى بالدخول في الأستهزاء بالله وآياته ورسوله

وكذلك الاستهزاء بالآيات، وأيضاً فإن الاستهزاء بهذه الأمور متلازم، فإن من استهزأ بآيات الله التي جاء بها الرسول فهو مستهزئ بالرسول ضرورة، ومن استهزأ بالرسول فهو مستهزئ برسالته حقيقة، ومن استهزأ بآيات الله ورسوله فهو مستهزئ به (¬1)، ومن استهزأ بالله فإنه مستهزئ بآياته ورسوله بطريق الأولي، وأما الذين نزلت فيهم هذه الآية فقد [نزلت في المنافقين في غزوة تبوك] (¬2). لكن هؤلاء الضالون أولى بالدخول في الاستهزاء بالله وبآياته ورسوله من منازعيهم، فإن كانت الآية تتناول المتأولين من أهل القبلة كانوا أحق بالدخول، وإن لم تتناول المتأولين كان منازعوهم أحق بالخروج منها لو كانوا مخطئين، وأما [مع] (¬3) كونهم مصيبين فلا وجه لتناول الآية لهم، وذلك أن هؤلاء الضالون مستخفون بتوحيد الله، يعظمون دعاء غيره من الأموات (¬4)، وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به، كما أخبر تعالى عن المشركين بقوله {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)} [الفرقان: 41 - 42]، فاستهزءوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك، وقال تعالى عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} [الصافات: 35، 36] قال (¬5) تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} [الصافات: 37]، وقال تعالى عن المشركين: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} [ص: 4 - 7]، وقالت عاد لهود -عليه السلام-: {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ ¬

_ (¬1) في (ف) زاد الناسخ حقيقة ثم شطبها. (¬2) بياض في جميع النسخ؛ في الأصل و (ف) بمقدار سبع كلمات؛ وفي (د) و (ح) بمقدار كلمتين، وما بين المعقوفتين هو ما يتطلبه السياق، وانظر: سبب نزول الآية في تفسير الطبري 5/ 409. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل. (¬4) في (د) الأمور. (¬5) في (ف) الله.

المشركون يسفهون الأنبياء وأتباعهم لأجل التوحيد

آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 53 - 56]. وما زال المشركون يسوؤون (¬1) الأنبياء (¬2) ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد؛ لما في أنفسهم من تعظيم الشرك، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (¬3) (62)} [الأعراف: 59 - 62]، (وقال كذلك) (¬4): {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (¬5) (71)} [الأعراف: 65 - 71]. فأعظم ما سفهوه لأجله وأنكروه هو التوحيد، وهكذا تجد من فيه شبه من هؤلاء من بعض الوجوه إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله وإخلاص الدين له؛ وأن لا يعبد الإنسان إلا الله ولا يتوكل إلا عليه؛ استهزأ بذلك لما عنده من الشرك، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ ¬

_ (¬1) في مجموع الفتاوى 15/ 48: يسبون. (¬2) في (د) بالأنبياء، وفي (ح) إلى الأنبياء. (¬3) الآية الأخيرة سقطت من الأصل و (ف)، وهي في (د) و (ح). (¬4) ما بين القوسين في (د) و (ح) (ثم قال تعالى). (¬5) في (د) ذكر الآيات إلى قوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} إلى قوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}.

الفرق بين الحب في الله والحب مع الله

كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] فمن أحب مخلوقاً مثل ما يحب الخالق فهو مشرك. ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، فالأول من تمام محبة الله وتوحيده، والثاني شرك، فالأول يكون الله هو المحبوب له بذاته، ويحب ما يحبه الرب -تعالى- تبعاً لمحبته، فيحب رسوله وكتابه وعباده المؤمنين، كما في الصحيحين عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في (¬1) الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" (¬2)، وأما الحب مع الله فهو الذي يحب محبوباً في قلبه لذاته لا لأجل الله، كحب المشركين أندادهم. وهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثاناً تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء حتي إن طوائف منهم يستخفون بحج البيت وبمن [يحج] (¬3) البيت، ويرون أن زيارة أئمتهم وشيوخهم أفضل من حج البيت، وهذا موجود في الشيعة وفي المنتسبين إلي السنة، وآخرون يستخفون بالمساجد وبالصلوات الخمس فيها، ويرون أن دعاء شيخهم أفضل من هذا، وهذا موجود في الشيعة المنتسبين إلي يونس القيسني (¬4) ¬

_ (¬1) في (د) (إلى). (¬2) أخرجه البخاري في (كتاب الأدب، باب الحب في الله) رقم 6041، 4/ 1908 ومسلم في (كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بها واجد حلاوة الإيمان) رقم 43، 1/ 66 واللفظ لمسلم، إلا أن المصنف جمع بين روايتي مسلم. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي وصل يحجج. (¬4) في الأصل و (ف) و (د) القيسني، وهي قريبة من القيني بدون السين، وفي (ط) و (ح) القيسي بالسين واضحة، واليونسية من فرق الشيعة ينسبون إلى يونس بن عبد الرحمن القمي، من القطعية، مفرط في التشبيه. انظر: المقالات 1/ 103، والفرق بين الفرق ص 270 والتبصير ص 40. وأما اليونسية الصوفية فينسبون إلى يونس بن مساعد المخارقي القيني، أهل شطح وخفة عقل، له شعر ملحون ينظمه على لسان الربوبية، وبعضه كأنه كذب عليه، توفي بالقنية نواحي ماردين سنة 619 هـ. انظر: السير للذهبي 22/ 178، وشذرات الذهب 5/ 87، ووفيات الأعيان لابن خلكان ت. د. حسان عباس 7/ 855، ومراد المؤلف هنا اليونسية الصوفية، فقد ذكر هذه الأقوال والأشعار ونسبهما لليونسية. انظر: مجموع الفتاوى 2/ 106 - 107. =

حتى ينشدون (¬1): تعالوا نخرب الجامع ... ونجعل فيه خماره ونكسر المنبر ... ونجعل منه طنباره ونخرق المصحف ... ونجعل منه زماره وننتف لحية القاضي ... ونجعل منه أوتاره (¬2) ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذباً؛ ولا يجترئ أن يحلف بشيخه اليمين الغموس كاذباً، ومنهم من يقول: كل رزق لا يرزقه إياه شيخه لا يريده، ومنهم من يذبح الشاة ويقول باسم سيدي، ومنهم من يقول إن شيخه أفضل من الأنبياء والمرسلين، ومنهم من يعتقد فيه الإلهية كما يعتقده النصارى في المسيح، وإذا ذكروا شيخهم (¬3) عظموه وادعوا فيه الإلهية، وأنشدوا على لسانه: موسى على الطور لما خرَّ لي ناجا ... وصاحب الترب ماجيتُه حتى جا ولهم أيضاً: وأنا صرخت في العرش حتى ضج ... وأنا حملت على علي حتى هج وأنا البحار السبعة من هيبتي ترتج (¬4) ويقولون: نحن غلمان الملك، ويسمون المسجد اصطبل البطالين، ويقرأون القرآن: "وما أرسلناك إلا رحمة للمدمنين"، وألوان من هذا الجنس ¬

_ = قال عنهم المؤلف في مجموع الفتاوى 13/ 217: ولما جاء قازان ... فظهر أن اليونسية كانوا قد ارتدوا وصاروا كفاراً مع الكفار، وحضر عندي بعض شيوخهم واعترف بالردة عن الإسلام، وحدثني بفصول كثيرة. أ. هـ. (¬1) كذا في جميع النسخ والأولى (ينشدوا). (¬2) تنسب الأبيات ليونس القيني. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 2/ 107، والإلحادية عقيدة ابن عربي الاتحادية، تأليف أبي إسلام مصطفى سلامة ص 37، الطبعة الأولى صفر 1413 هـ، الناشر دار التقوى ومكتبة خالد بن الوليد عمان - الأردن. (¬3) في (د) سيخهم (بالسين). (¬4) تنسب هذه الأبيات ليونس القيني. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 2/ 107، والإلحادية عقيدة ابن عربي لأبي إسلام ص 38، قال المؤلف في مجموع الفتاوى 2/ 107: ثم منهم من يقول هذا الشعر ليونس، ومنهم من يقول: مكذوب على يونس، لكن من المعلوم أنهم ينشدون الكفر، ويتواجدون عليه. أ. هـ.

الذي فيه استهزاء بالله وآياته ورسوله، مع تعظيم شيخهم وغلوهم فيه (¬1)، وكذلك النصيرية والإسماعيلية ونحوهم وكثير من طوائف متعددة، [يرى] (¬2) أحدهم أن استغاثته بالشيخ الميت إما عند قبره وإما عند قبر غيره أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السحر، ويستهزؤون بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد، ومن هؤلاء من يرى أن زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الحج إلى الكعبة، وأن دعاء النبي والاستغاثة به أفضل من الاستغاثة بالله ودعائه. وكثير من هؤلاء يخربون المساجد ويعمرون المشاهد، فتجد المسجد الذي بُني للصلوات الخمس معطلاً مخرباً ليس له كسوة إلا من الناس؛ وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي بني على الميت فعليه الستور؛ وزينة الذهب والفضة والرخام، والنذور تغدوا وتروح إليه، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله [وتعظيمهم] (¬3) للشرك!!. فإنهم اعتقدوا أن دعاء الميت الذي بني له المشهد والاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله والاستغاثة به في البيت الذي بُني لله -عز وجل-، ففضلوا البيت الذي بُني (¬4) لدعاء المخلوق على البيت الذي بُني لدعاء الخالق، وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف كان وقف الشرك أعظم عندهم مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)} [الأنعام: 136]، كما يجعلون لله زرعاً وماشية ولآلهتهم زرعاً وماشية؛ فإذا أصيب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه؛ ¬

_ (¬1) انظر: الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، تأليف محمود عبد الرؤوف القاسم ص 603 وما بعدها، الطبعة الثانية 1413 هـ، الناشر المكتبة الإسلامية عمان - الأردن، والمصادر العامة للتلقي عند الصوفية تأليف صادق سليم ص 232 وما بعدها الطبعة الأولى 1415 هـ، الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. (¬2) كذا في (ح) وفي الأصل و (ف) و (د) ترى. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل تعظيم. (¬4) (بنى) سقطت من (ف).

تعمير القبورية للمشاهد وتعطيل المساجد

وقالوا (¬1): الله غني وآلهتنا فقيرة (¬2)، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله، وهكذا (¬3) الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم (مما تبذل) (¬4) عندهم للمساجد ولعمارة المساجد وللجهاد في سبيل الله. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه يبكي عنده ويخضع ويدعو ويتضرع، ويحصل له من الرقة والتواضع والعبودية وحضور القلب، ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس والجمعة وقيام الليل وقراءة القرآن، فهل هذا (إلا من) (¬5) حال المشركين المبتدعين لا الموحدين المخلصين المتبعين لكتاب الله ورسوله!! ومثل هذا إذا سمع أحدهم سماع (¬6) الأبيات يحصل له من الخضوع والخشوع والبكاء ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله، فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين ولا يخشع عند سماع المخلصين المتقين، بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوا (¬7) بها وكرهوها واستهزؤوا بها وبمن يقرؤها، مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)} [التوبة: 65]. وإذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية كأنهم صم وعمي، واذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم وسكنت ألسنتهم وسكنت حركاتهم حتى لا يشرب العطشان منهم الماء (¬8). ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم فأذَّن المؤذن قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه، ومنهم من يقول: هذا في شغله وهذا في شغله، ومنهم من يقول: كنا في الحضرة فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا على الباب. وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال؟ فقلت: صدق كان في حضرة الشيطان فصار على باب الله، فإن البدع والضلالة فيها ¬

_ (¬1) في (ف) إن. (¬2) في (د) فقراء. (¬3) في الأصل و (ف) (هؤلاء) وهي زيادة ولا حاجة لها في المعنى. (¬4) ما بين القوسين في (د) مبذول. (¬5) ما بين القوسين في (د) الأمر إلا. (¬6) سقطت من (د) و (ح). (¬7) في (د) اشتغلوا. (¬8) انظر: وصف ابن القيم لحالهم في كتابه: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان 1/ 344 - 347.

خضوعهم عندا القبور وحضور قلوبهم، وغفلتهم في المساجد

من حضور الشيطان ما قد حصل في غير هذا الموضع، والذين يجعلون دعاء الموتى من الأنبياء والأئمة والشيوخ أفضل من دعائهم الله أنول متعددة: منهم من يقدم [دعاءهم] (¬1)، ومنهم من يحكي أنواعاً من الحكايات: حكاية أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه فاستغاث بشيخه فأغاثه، وحكاية أن بعض المأسورين في بلاد العدو دعا الله فلم يخرجه، فدعا بعض المشايخ الموتى فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وحكاية أن بعض الشيوخ قال لمريده: إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل بي، وآخر قال: قبر فلان الترياق المجرب، فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية الشركية على أدعية المخلصين لله مضاهاة لسائر المشركين، وهؤلاء تتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه فيظنه إياه أو ملكاً على صورته، وإنما هو شيطان أغواه كما قد بسط في موضعه (¬2). ومنهم من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمّه، فيتعسر أحدهم فيقول: يا فلان، وقد قال الله -تعالى- للموحدين {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب؛ ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق ولا يكذب، فيكون شيخه عنده أعظم في صدره من الله، وقد قال شعيب: {يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 92]، وقد قال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 13]، وقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية [البقرة: 165]. فإذا كان دعاء الموتى مثل الأنبياء والصالحين عندهم يتضمن مثل هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بالله وآياته ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح) وسقطت من الأصل و (ف). (¬2) انظر: "مصباح الظلال المستغيثين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة والمنام"، لابن النعمان المالكي، فهو مليء بمثل هذه القصص، وكتاب "شواهد الحق" للنبهاني ص 242، وكتاب إتحاف الأذكياء بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء، لعبد الله بن محمد الحسيني ص 40، وما بعدها الطبعة الثانية 1405 هـ وغيرها.

أدلة القبورية ذقل غير مصدق عن قائل غير معصوم

ورسوله!! من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له كما أمرت رسله، ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به، وأيضاً فإن هؤلاء الموحدين من أعظم الناس إيجاباً لرعاية جانب الرسول، تصديقاً له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، والتمييز بين ما روي عنه من الصحيح والضعيف والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه عملاً بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]. وأما أولئك الضُلال أشباه المشركين النصارى فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقوله، إما أن يكون كذباً عليه وإما أن يكون غلطاً منه، إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير (¬1) معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول حرفوا الكلم عن مواضعه وتمسكوا بمتشابهه وتركوا محكمه، كما (¬2) النصارى. وكما فعل هذا الضال أخذ لفظ الاستغاثة؛ وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي والميت؛ والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه وما لا يقدر عليه؛ فجعل حكم ذلك كله واحداً، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة أيضاً، ولم يكفه ذلك [حتى] (¬3) جعل الطالب منه إنما طلب من الله لا منه، فالمستغيث به مستغيث بالله، ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة، واحتج على هذه الدعوى العامة الكلية -التي أدخل فيها من الشرك والضلال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال- بقضية خاصة جزئية، كسؤال الناس للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة أن يدعو الله لهم؛ وتوجههم إلى الله بدعائه وشفاعته، ومعلوم أن هذا الذي جاءت به السنة حق لا ريب فيه، لكن لا يلزم من ذلك ثبوت جميع تلك الدعاوى العامة وإبطال نقيضها، إذ الدعوى الكلية لا تثبت بمثال جزئي لا سيما مع الاختلاف والتباين. ¬

_ (¬1) (غير) سقطت من (ف). (¬2) في (د) يضل. (¬3) كذا في (د) و (ح)، وسقط من الأصل و (ف).

فصل [8]

وهذا كمن يريد أن يثبت [حل جميع] (¬1) الملاهي لكل أحد؛ والتقرب بها إلي الله؛ بكون جاريتين غنتا عند عائشة -رضي الله عنها- في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) يوم عيد، مع كون وجهه كان مصروفاً إلى الحائط لا إليها (¬3). أو يحتج على اسستماع كل قول بقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18]، ولا يدري أن القول هنا هو القرآن، كما في قوله (¬4): {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} [المؤمنون: 68]، (وإلا فمسلم [أنه] (¬5) لا يسوغ) (¬6) استماع كل قول، وقد نهى الله -عز وجل- عن الجلوس جمع الخائضين في آياته، وخوضهم نوع من القول فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬7) [الأنعام: 68]، وقال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء: 140]، وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55]. فصل قال: (وقد أجمع العلماء كما حكاه من يرجع إليه، على أن كل مسلم ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (جميع حل). (¬2) في (ف) زاد (في). (¬3) يشير إلى حديث عائشة عند البخاري قالت: دخل أبو بكر، وعند جاريتان من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عبداً، وهذا عيدنا" (كتاب العيدين، باب سنة العيدين لأهل الإسلام) 1/ 286 رقم 952. (¬4) انظر: تفسير هذه الآية في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/ 244، وذكر المؤلف في مجموع الفتاوي 16/ 5: أنه قول سلف الأمة وأئمتها وأطال في تفسيرها. (¬5) كذا في (ح)، وفي (د) (أن)، وسقط من الأصل و (ف). (¬6) ما بين القوسين في (د) (ولا نسلم أن يسوغ). (¬7) في (د) {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ...} الآية.

إثبات المؤلف نقل البكري من كتابه "الصارم المسلول"

صدر عنه سب للرسول - صلى الله عليه وسلم - أو تنقيصه وجب قتله، ويحكم بكفره وردته عن دين الإسلام، على ذلك دلت نصوص السنة والكتاب، وحكم جماعة من المتقدمين بأنه (¬1) يقتل بغير (¬2) استتابة، كما نص العلماء أيضاً أن التعريض بسبه أو تنقيصه كالصريح). فيقال: هذا نقله من الكتاب الذي صنفته (¬3) في شاتم الرسول (¬4)، استعاره من بعض من كان عنده (¬5)، ولهذا صار الناس يعدون هذا من قلة الحياء، فإن ذلك الكتاب ذكرت فيه في مسألة السب من دلائل الكتاب والسنة وأقوال العلماء و (¬6) من تعظيم الرسول وتعزيره وتوقيره، واستنباط ما يتعلق بذلك من الكتاب والسنة ما يعرفه من تأمله. فصل قال: (ومن نفى عنه أن يستغاث به فقد تنقصه عن رتبته ولا ينفعه تأوله، لأن تأويله لا يخرجه عن كونه أساء الأدب على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعبير، على أن هذا الرجل لا يثبت على التأويل وإنما يذهب إليه عند الخوف، زندقة منه على ما علمته). فيقال له: قد تقدم الجواب (¬7)، وتبيّن أن الذي تنقصه هو الذي يؤذيه ويتعدى عليه، ويسلط السفهاء على أذاه ويكذب عليه ويبدل دينه الذي بعث به، لا من يأمر بما أمر الله به من تعزيره وتوقيره وتصديقه وطاعته ومحبته ورضاه وموالاته، وبما يزيده الله درجة ورفعة في الدنيا والآخرة من الصلاة والسلام عليه، وفعل التوحيد والطاعات التي يحصل (¬8) له مثل أجرها، وبيّن ¬

_ (¬1) في (د) (من أنه). (¬2) في (د) (من غير). (¬3) سقطت من (ف). (¬4) يشير ابن تيمية إلى كتابه: "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، وما نقله البكري عنه اختصاراً من مواضع مختلفة، انظر: ص 3، 254، 312، 313، وسيأتي نقل البكري من كتاب ابن تيمية بالنص. (¬5) في تلخيص الاستغاثة ص 4: وأعاره بعض الأمراء -كما أخبرني- كتابي. (¬6) (الواو) سقطت من (د). (¬7) انظر: ص 363. (¬8) في (ف) تحصل.

حديث الحجر الأسود

أيضاً أنه لم ينف عنه كل ما يسمي استغاثة، بل قد صرح بأنه يطلب منه كل ما يليق بمنصبه، وأنه يستشفع به ويتوسل به كما كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يفعلون، وكما يستشفع به يوم القيامة وأن المنفي هو دعاء الميت، أو أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق، وبين أيضاً أن ما ذكره هذا الرجل في مسمى لفظ الاستغاثة وإن نفي ذلك؛ يتضمن نفي كونه سبباً في حصول غوث الله؛ كلام باطل. وأما قوله: (و (¬1) لا ينفعه تأويله ... إلي آخره)، فإنما يصح لو فسر لفظ بما يخالف ظاهره، والمجيب قد بيّن مراده بألفاظ ناصّة (¬2) لا تحتمل معنيين، فأي تأويل هنا يُحتاج إليه!! فهذا من جملة افترائه، فإن التأويل إنما يحتاج إليه إذا أطلق المطلق لفظاً له ظاهر وأرد به غير ظاهره من غير بيان، وهذا لم يقع، فإن كان بعض الناس يظهر له من اللفظ ما لم يدل عليه فالتفريط منه. وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم (¬3) وقد [بيّنا] (¬4) في غير هذا الموضع (¬5) أن عامة ما يورد علي ألفاظ الكتاب والسنة ويُدَّعي أن ظاهرها ممتنع، إنما أُتي من سوء فهمه، لا من قصور في بيان الله ورسوله، بل [ممن] (¬6) تأول، مثل (¬7) طائفة في قوله: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه أو صافحه فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه" (¬8)، وهذا معروف عن ابن عباس، وقد روي مرفوعاً ولم يثبت ¬

_ (¬1) في (د) (فلا). (¬2) في (د) خاصه. (¬3) هذا البيت لأبي الطيب المتنبي من قصيدة له مطلعها: إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم انظر: ديوان المتنبي ص 232. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (وبين). (¬5) سقط من (د) (¬6) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل مما. (¬7) كذا في جميع النسخ؛ والأولي مثل قول طائفة. (¬8) لم أجده بهذا السياق، وقد أخرجه ابن عدي في الكامل 1/ 342 (تحقيق د. =

الرد على البكري في رميه للمؤلف بالزندقة

بهذا (¬1) اللفظ، قالت طائفة إنه يحتاج إلى تأويل وليس كما قالوا، فإنه قال فيه: "يمين الله في الأرض"، فقيل: الخطاب في الأرض لم يطلق فيه، وقال في إثباته فمن استلمه فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه، والمشبه غير المشبه به، ففي الحديث بيان أنه ليس بصفة الله، وإنما هو بمنزلة اليمين في الاستلام والتقبيل، والحديث لا يدل ولا يفهم منه غير هذا. وكذلك قوله سبحانه: "عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلو عدته وجدتني عنده"، فهذا صريح في أن الله لا يمرض؛ وإنما مرض عبده، ولا يحتاج إلى تأويل، وأمثال ذلك. وأما قوله: (إن المجيب لا يثبت على التأويل وإنما يذهب إليه عند الخوف زندقةً منه (¬2) على ما علمته). ¬

_ = سهيل زكار وتدقيق يحيى غزاوي الطبعة الثالثة)، والخطيب في تاريخ بغداد 6/ 328 (الطبعة الأولى 1349 هـ، الناشر مكتبة الخانجي القاهرة، والمكتبة العربية - بغداد) من طريق إسحاق بن بشر الكاهلي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض يصافح به عباده"، قال ابن عدي في الكاهلي عقب الحديث: هو في عداد من يضع الحديث. أ. هـ. وقد روى تكذيب ابن أبي شيبة للكاهلي. وقد أخرج ابن قتيبة في غريب الحديث 2/ 223 تحقيق د. عبد الله الجبوري (الطبعة الأولى 1397 هـ، الناشر وزارة الأوقاف بالجمهورية العراقية) عن ابن عباس موقوفاً عليه: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض يصافح بها عباده أو قال خلقه كما يصافح الناس بعضهم بعضاً"، قال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 257 رقم 223 في حديث ابن قتيبة: سنده ضعيف جداً. أ. هـ، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 6/ 397: -في هذا الحديث- روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس. أ. هـ، وقال العجلوني في كشف الخفاء ص 417 رقم 1109 في هذا الحديث ومثله مما لا مجال للرأي فيه وله شواهد، فالحديث حسن وإن كان ضعيفاً بحسب أصله كما قال بعضهم. أ. هـ، ولكن بعض المتقدمين أوردوا هذا الحديث وفسروه. ومما سبق يتضح أن الحديث موقوف على ابن عباس -رضي الله عنه- وقد سبق المؤلف في تفسير الحديث ابن قتيبة في غريب الحديث 2/ 237، والذهبي في السير 9/ 522، والعجلوني في كشف الخفاء ص 417 رقم 1109، والله أعلم. (¬1) في (ف) فهذا. (¬2) (منه) سقطت من (ف) و (د)، وفي الأصل فوقها ح.

جهود المؤلف في الذب عن الدين

فيقال له: لا ريب أن المجيب لم يذهب في كلامه إلى تأويل أحد، بل لفظه ظاهر في معناه، بل قد يكون نصاً، وقول القائل: إنه يذهب إلى التأويل زندقة (¬1) فهو جهل منه بمسمى (¬2) الزندقة، وكذبٌ ظاهر باتفاق الناس، وهو بالقائل أعلق؛ إما كونه جهلاً؛ فإن الزنديق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فمن كان مظهراً لقوله قد كتب بأجوبة من النسخ ما لا يحصيه إلا الله، وقد وافقه عليها علماء الإسلام ولم يذهب أحد إلى خلافها، وقد بيّن قوله في أعظم الأوقات خوفاً وتعصباً عليه وناظر عليه، وتبين للحاضرين حتى الأعداء سلامته من [هذه] (¬3) القوادح، وظهور الجهل والكذب والظلم من منازعيه، فكيف ينسب إليه إبطان خلاف ما يظهر!!. ولو قدر أن شخصاً أبطن خلاف ما يظهر من الأقوال لم يكن زنديقاً إلا إذا أبطن الكفر، وإلا (¬4) فمن أبطن قولاً [يعتقد أنه] (¬5) دين الإسلام ويناظر عليه لم يكن هذا زنديقاً عند الفقهاء، بل إن [كان] (¬6) مخطئاً فقد يكون مبتدعاً، وان كان مصيباً [وسكت] (¬7) خوف العدوان عليه لم يكن مبتدعاً، ولو دخل [مسلم] (¬8) دار الرافضة والخوارج فكتم حبه للصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكن زنديقاً، ولو عَرّض لم يأثم بذلك. وقد ثبت في الصحيح أن الخليل -صلوات الله وسلامه عليه- قال عن سارة: "إنها أختي" (¬9) عند الحاجة إلى التعريض، وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -حين سُئل عنه في الهجرة-: من هذا الرجل معك يا أبا ¬

_ (¬1) في (ف) وزندقة. (¬2) في (ف) و (د) يسمى. (¬3) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) هذا. (¬4) (وإلا) سقطت من (د). (¬5) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) يعتقده. (¬6) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي وصل كا (بدون نون). (¬7) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل كلمة غير واضحة. (¬8) كذا في (د) و (ف)، وفي الأصل و (ح) مسلماً بالنصب. (¬9) أخرجه البخاري، في كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} رقم 3358، 2/ 1034، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-وأوله: "لم يكذب إبراهيم -عليه السلام- إلا ثلاث كذبات ... الحديث".

موقف البكري مع السلطان وتعليق المؤلف

بكر، فيقول: "هذا رجل يهديني السبيل" (¬1)، فيحسب الحاسب أنه يريد الطريق، وإنما يريد سبل (¬2) الخير، وكذلك عين المشركين يوم بدر لما جيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: وسأله فقال: لا أخبركم حتى تخبروني من أين أنتم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أخبرتنا أخبرناك، فأخبرهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نحن من ماء" (¬3). [مع] (¬4) أن ما نحن فيه ليس من هذا الباب، فإنه لم يحصل كتمان ولا تعريض، بل صرح بالأمر على ما هو عليه، وإنما المقصود بيان جهل هؤلاء الضالين المعتدين. وأيضاً فيخاف من الناس من يجزع إذا أوذي، ويطلب الإقالة، ويستغيث بالحاضرين حتى يدفعوا عنه ما طلبه ولي الأمر من قطع لسانه، ومن نفي عن البلد فلا يدخله إلا سراً (¬5)، ودخل في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)} [البقرة: 114]. فإن هذا المفتري سعى في منع من يذكر ما أمر الله به في المسجد، فمنع من سكنى البلد الذي فيه المسجد وأخرج منه، فلم يكن يدخل المسجد إلا خائفاً، وحصل له من الخزي ما لا يعرف لأحد مثله في زمانه، وكأن له شبه في أبي عامر الراهب (¬6) الذي بني له مسجد الضرار، وكان قد قدح في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في (كتاب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة) 3/ 196 برقم 3911 من حديث أنس بن مالك وأوله: "أقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - شاب لا يعرف ... الحديث". (¬2) في (د) سبيل. (¬3) أخرجه ابن إسحاق في السيرة النبوية 2/ 616 من طريق محمد بن يحيى بن حبان، ومن طريقه أخرجه ابن جرير الطبري في تاريخ 2/ 141، وابن كثير في تاريخه أيضاً 3/ 300. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل كلمة غير واضحة. (¬5) يشير إلى قصة حصلت للبكري مع السلطان، انظر: ترجمة البكري في المقدمة. (¬6) هو أبو عامر عبد عمرو بن صيفي النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، ترهَّب في الجاهلية ولبس المسوح فسُمي الراهب، وقد فارق قومه الخزرج لما اجتمعوا على الإسلام، وذهب إلى مكة وقاتل مع كفار قريش في أحد، وخرج إلى هرقل الروم يستنصره على النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعده ومنَّاه؛ فكتب إلى جماعة من قومه من أهل النفاق أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه وقد مات =

نصر الله للمؤلف على خصومه القبورية

الرسول الداعي إلى الحنيفية ومال إلى النصرانية، وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما تدعو يا محمد، قال: إلى ملة إبراهيم، فقال إنك شبيه (¬1) بغيرها، فقال: ما شبيهاً بغيرها، فقال: بل شبيهاً بغيرها، فقال: الكاذب أماته الله طريداً شريداً وحيداً، فقال أبو عامر: آمين؛ فمات طريداً شريداً وحيداً (¬2). [فأي الفريقين أولى بذلك الشبه] (¬3)، من يقابل ولاة الأمر وغيرهم من الأكابر في أخذهم بالحق وإن كرهوه؟ ومن يطلبون منه (¬4) أن يسكت عن حق متعلق بالدين فلا يسكت؟ فيطلبون خروجه من الضيق فيأبى الخروج حتى يظهر الحق (¬5)، ومن يهين الحزب الجاهل الظالم، ويبيّن جهله، ومن كتب جوابه في هذه المسألة في أكثر الأمصار من لا يحصي عدده (¬6) إلا الله من ولاة الأمور وغيرهم. وأهل السنة إذا تقابلوا هم وأهل البدعة فلهم نصيب من تقابل المؤمنين والكفار، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} (¬7) [المائدة: 59 - 60]، وهؤلاء الذين يدعون الموتى ¬

_ = وحيداً شريداً طريداً كما دعا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر: سيرة ابن هشام 2/ 586، وتاريخ ابن جرير 2/ 64، 6/ 470 والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 255. (¬1) في (ف) و (د) شبيهاً. (¬2) انظر: سيرة ابن هشام 2/ 586، وتفسير الطبري 6/ 470، وتفسير ابن كثير 2/ 388. (¬3) بياض في جميع النسخ، بمقدار سبع كلمات في الأصل، وست في (ف)، وثلاث في (د)، وكلمتين في (ح)، وفي هوامش جميع النسخ بياض في الأصل، وما بين المعقوفتين يقتضيه السياق. (¬4) في (د) منهم. (¬5) لعله يشير إلى سجنه -رحمه الله- في الجب، حيث طلب منه الخروج من السجن بشروط، وطلبوا حضوره وتكرر الرسول عليه ست مرات، ليتكلموا معه، فامتنع من الحضور وصمم. انظر: تاريخ ابن كثير 14/ 46. (¬6) في (د) عددهم (¬7) في (د) لم يكتب الآية الثانية وقال: إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.

حكايات في مسخ بعض عباد القبور خنزيرا

من أهل البدع، فمنهم من مسخ خنزيراً من الرافضة، وقد تواترت بذلك الحكايات (¬1)، وفيهم من يعبد الطاغوت فيصور تماثيل يتوجهون إليها، ويدخلون في مداخل السحرة (¬2) كما هو معروف [عن] (¬3) غير واحد منهم، وأما غضب الله ولعنته بسبب كثرة كذبهم وظلمهم وفسقهم فأعظم من أن يذكر. فصل (¬4) قال: (ولقد بالغ السلف في الاحتياط بجنابه - صلى الله عليه وسلم -، حتى أفتى بعضهم بأن من سب (فاطمة أو عائشة) (¬5) أنه يقتل، وقال: على هذا مضت سيرة أهل العلم، وأفتى بعض الشافعية أن من سب أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً -رضي الله عنهم- فهو كافر، وأفتى طائفة بكفر الرافضة، ونقل عن أحمد أنه استفتي فيمن شتم عثمان فقال: هذا زندقة (¬6)، وروي عن أحمد رواية أخرى أنه قال: من سب واحداً من الصحابة فقد كفر (¬7)، وذكرت ذلك لتعلم عظم الوقوع في الجناب النبوي عند العلماء، وقد صح وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح دم من نقصه وسبه، ولم يختلف في ذلك الصحابة، ولقد (¬8) رووا أن ابن أبي سرح بعد وقيعته جاء به عثمان -رضي الله عنه- وكان أخاه من الرضاعة، وقال: بايعه يا رسول الله، فأعرض عنه، ثم (¬9) جاءه من الناحية الأخرى أيضاً، فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه؛ ثم بايعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرة الثالثة، وقال فيما روي: ما صمتُّ ¬

_ (¬1) ذكر بعض هذه القصص ابن النعمان المالكي في مصباح الظلام في المستغيثين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (خ) ص 71 (بترقيمي). (¬2) في (د) السحر. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل عند. (¬4) بياض في (ف). (¬5) في (د) (عائشة أو فاطمة). (¬6) السنة لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال، تحقيق د. عطية الزهراني، الطبعة الثانية 1415 هـ، الناشر دار الراية الرياض 3/ 493 رقم 781، وقال المحقق: إسناده صحيح. (¬7) السنة للخلال 3/ 493 رقم 779، وقال المحقق: إسناده صحيح، وكفر من سب أحداً من الصحابة أبو عبيد القاسم بن سلام. انظر: السنة للخلال 3/ 499 رقم 792، والفريابي. انظر: السنة للخلال 3/ 499 رقم 794. (¬8) في (ف) بياض. (¬9) (ثم) سقطت من (ف).

إثبات المؤلف أنه منقول من كتابه "الصارم المسلول"

إلا ليقوم إليه أحدكم فيقتله، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله ألا أومأت إلي فأقتله، فقال: "إن النبي لا يقتل بالاشارة" (¬1)، وكان ذلك لتحريم خائنة الأعين عليه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأباح قتل ابن خطل لأنه كان ينتقصه - صلى الله عليه وسلم -، وجاءه (¬3) رجل عام فتح مكة، وفقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه" فقتل (¬4)، مع أن الروايات إذا [استقرئت] (¬5) علم (أنها تقتضي) (¬6) أنهما جاءا مستسلمين منقادين؛ ولم يكن ذلك موجباً للعفو عنهما، ففيه دليل على أن الساب اليوم ولو أسلم يقتل حتماً، كما هو مذهب مالك وجماعة، ولا يلزم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عفى عن بعضهم أن يجوز أن [نعفوا] (¬7)، لأن القتل كان لحقه فله - صلى الله عليه وسلم - أن يترك حق نفسه). فيقال: هذا كله منقول من كلام المجيب من كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" (¬8) لكنه أزال بهجته، وحذف من محاسنه ما يبيّن حقيقته، فالمجيب هو المنافح عن الله ورسوله، وهذا كالمتشبع (¬9) بما لم يعط، ومن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في (كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام) 3/ 133 رقم 2683 وطرفه رقم 4359، والنسائي في (كتاب تحريم الدم، باب الحكم في المرتد) 7/ 106 رقم 4064، والحاكم في كتاب المغازي 3/ 45 وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال ابن تيمية الصارم المسلول ص 109: رواه أبو داود بإسناد صحيح. أ. هـ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 169 رواه أبو داود وغيره مختصراً وأبو يعلى والبزار ورجالهما ثقات. أ. هـ وألفاظهم قريبة من لفظ المؤلف. (¬2) انظر: غاية السول في خصائص الرسول ص 141 - 143. (¬3) في (ف) وجاء. (¬4) أخرجه البخاري في (كتاب جزاء الصيد، باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام) 1/ 458 رقم 1846 وأطرافه: 3044، 4286، 5808 من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-. (¬5) كذا في (ح)، في الأصل و (ف) و (د) استقربت. (¬6) ما بين القوسين سقط من (د) وفي (ف) أنهما تقتضي. (¬7) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) العفو. (¬8) انظر: ص 566 - 571، 135، 109، وانظر: أقوال الأئمة في الشفا للقاضي عياض 2/ 474 وما بعد، وشرح الشفا للملا علي القاري 2/ 471 وما بعدها، طبعة دار الكتب العلمية - بيروت. (¬9) في (د) كلام المتشبع.

وجوب الحجر على البكري وأمثاله في الفتوى

تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور (¬1)، وأما تقريره واستدلاله الذي لم ينقله عن غيره فمن جنس كلامه في مسألة الاستغاثة، وجوابه في قسم مال (¬2) بيت المال ونحو ذلك (¬3)، مما يخرج به عن إجماع المسلمين، ويضحك عليه العلماء الفاضلون، ويوجب لذي القضاء أن يحجروا عليه في الفتيا، كما وقع لهذا (¬4) المسكين؛ لما فيه من الجهل بمسالك الأحكام، مع فرط الجراءة والإقدام على الكلام بالهوى والجهل في دين الإسلام، بخلاف من منع خوفاً منه، إما لسياسة مملكته أو غير ذلك. فصل قال: (ومن هذا يُعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو نفى عن نفسه أنه ينفع أو يستغاث به أو نحو ذلك؛ يشير إلى التوحيد وإفراد الباري بالقدرة، لم يكن لنا نحن أن ننفي ذلك لوجهين: أحدهما: أن المقصد إذا صح كان وجوب بيان المقصود بعبارة موضوعة له حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فله تركه إذا عبر عن نفسه، وغيره إذا خالف موجب الأدب معه في العبارة كفرناه على ما سلف. والأمر الثاني: أنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - فالعبارة (¬5) التي توهم نفيها إذا صدرت منه - صلى الله عليه وسلم - علم المراد [بها] (¬6)؛ للدليل على عصمته وصحة تبليغه وعدم تناقض أفعاله وأقواله، وغيره ليس كذلك). فيقال له: هذا من الجهل في الاستدلال، فإن ما ينفيه الرسول عن نفسه ¬

_ (¬1) يشير إلى حديث عائشة -رضي الله عنها- أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المتشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور". أخرجه مسلم في (كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره، والتشبع بما لم يعط) رقم 2129، 3/ 1681. (¬2) سقطت من (ف) ومضافة فوق سطر في الأصل و (د). (¬3) لم أجد من ذكر هذه الفتوى. (¬4) في (د) هذا. (¬5) في (د) في العبارة. (¬6) كذا في (ف) وفي الأصل و (ف) و (ح) (ومنها)، وسيذكر المؤلف المقطع نفسه هكذا في جميع النسخ كما ص 398.

وجوب وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما وصف به نفسه

هو صادق فيه وفي جميع ما يقوله (¬1)؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - هو الصادق المصدوق، وهذا أخبر به، والخبر يكون إثباتاً ويكون نفياً، وهو صادق فيما يثبته لنفسه وفيما ينفيه عن نفسه، وعلينا أن نصدقه في ذلك. وليس [هذا] (¬2) من جنس عفوه عمن آذاه؛ فإن ذلك ليس بخبر منه، وإنما هو ترك استيفاء حق له، وبعد موته لا يمكن عفوه فيجب استيفاء حقه؛ لأن سبه فيه حق لله، وبعد موته لا مسقط له فيتعين استيفاؤه، وإذا انفرد بجواز العفو عن الساب دوننا لم يلزم أن ينفرد في إخباره؛ بأن يخبر بالأمر على خلاف ما هو عليه، وما قال أحد من المسلمين: إن ما أخبر به الرسول عن نفسه بنفي [أو] (¬3) إثبات ليس لنا أن نخبر بمثل خبره. بل إذا قال: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93]، نقول: ما كان إلا بشراً رسولاً، وإذا قال: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]؛ وإذا قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" (¬4)؛ قلنا نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، وإذا قال: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون" (¬5)؛ قلنا: إنما هو بشر ينسى كما ينسى البشر، وإذا قال: {لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] قلنا: لم يقل (¬6): [إن] (¬7) عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا نقول إنه ملك، وإذا قال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]، قلنا: لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، وإذا قال: "لن يدخل أحد ¬

_ (¬1) في (د) ما يقول. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل هذ. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (واو). (¬4) أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب قول الله -تعالى-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ} 2/ 1072 رقم 3445 وطرفه 6820. (¬5) أخرجه مسلم في (كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له) رقم 572، 1/ 400. (¬6) في (د) نقل. (¬7) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل.

مشابهة أقوال البكري لأقوال النصارى

منكم الجنة بعمله"، قيل: ولا أنت يا رسول الله، قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، قلنا: لن يدخل الجنة أحد بعمله، فإذا قيل لنا: ولا رسول الله؟ قلنا: ولا رسول الله إلا أن يتغمده الله برحمة منه وفضل، فنخبر بمثل ما أخبر به تصديقاً له؛ فإنه الصادق المصدوق، ومثل هذا كثير. وقول هذا الجاهل [شبيه ومثيل] (¬1) [دين النصارى] (¬2) فإن المسيح -عليه السلام- لما أخبر [عن] (¬3) نفسه أنه عبد الله؛ تقول النصارى: ليس لنا أن نقول في الأنبياء ما يقولونه في أنفسهم، وقد قال الله -تعالى-: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلى قوله {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 116 - 117]، وقال المسيح: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30]، فيقول النصراني من جنس قول شبيهه (¬4): هو يقول: ربي الله، وهم يقولون: هو الرب ليس له رب، ويقولون: وليس لنا أن نقول فيه ما يقول في نفسه. وهكذا الرافضي إذا احتججنا عليه بقول علي -رضي الله عنه- عن نفسه: يقول ليس لنا أن نقول فيه قوله في نفسه، وفي الجملة فبعض الناس قد [يقول] (¬5) على سبيل التواضع كلاماً فيه مبالغة، فيقال: ليس لغيره أن يقول فيه هذا. وأما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا ينطق إلا بحق، وكلامه معه إذا كان تواضعاً لله فهو أحق الخلق بالتواضع لربه -عز وجل-، وليس هذا كتواضع الرجل للرجل، ثم ما ذكره في عفوه عن الساب (¬6) لا يقتضي العلم بهذا؛ ولا هو دليل عليه. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بياض في جميع النسخ بمقدار كلمتين، وفي هامش الأصل و (ف) و (د) بياض في الأصل، وما ذكر أعلاه من تكرار المؤلف لنفس المعنى، وفي (ف) كلمة رسمت هكذا (نا ت و)، وفي (د) و (ح) (ما ت و). (¬2) هكذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقط من الأصل. (¬3) هكذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (عنهم). (¬4) في (د) شبهته. (¬5) هكذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (يكون). (¬6) في (د) السيئات، وكذلك في (ط)، وقد أدت لمعنى يصادم غرض الكتاب، =

تشبيه تكفير البكري للمؤلف بتكفير الرافضة لأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -

وأما قوله في الوجه الأول: (إن القصد (¬1) إذا صح كان وجوب بيان المقصود بعبارة موضوعة له حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فله تركه إذا عبر عن نفسه، وغيره إذا خالف موجب الأدب معه في العبارة كفرناه على ما سلف}. فيقال له: هذا من جهلك، فإن التعبير عن المعاني [بالألفاظ] (¬2) يتعلق باللغة، ليس هذا من الحقوق ولا له مدخل في هذا، بل الواجب أن يعبر عن المعنى باللفظ الذي يدل عليه، فإن كان اللفظ نصاً أو ظاهراً حصل المقصود، وإن كان اللفظ يحتمل معنيين أحدهما صحيح والآخر فاسد تبيّن أن المراد [هو الصحيح] (¬3)، وإن كان اللفظ يوهم بعض المستمعين معنًى [فاسداً] (¬4) لم يطلق إلا مع بيان ما يزيل المحذور، وإن كان اللفظ يوهم معنى فاسداً لم يخاطب بذلك اللفظ؛ إذا علم أنه يوهم معنًى فاسداً، لأن المقصود بالكلام البيان والإفهام، وأما إذا كان اللفظ دالاً على المراد وجهل بعض الناس معناه من غير تفريط من المتكلم، فالدرك على المستمع لا على المتكلم. وقوله: (إذا [خالف] (¬5) موجب الأدب كفرناه)، فيقال له: كلا المقدمتين باطلة، دعواك مخالفة موجب الأدب؛ ودعواك كفر، وأما إخبارك عن نفسك أنك تكفره بما تعتقده أنه مخالف للأدب؛ فأنت صادق في خبرك عن اعتقادك الباطل وجهلك المعروف، [كما] (¬6) يصدق الروافض إذا أخبروا عن أنفسهم بتكفيرهم لأبي بكر وعمر وعثمان، وكما يصدق الخوارج إذا ¬

_ = فكيف يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعفو عن السيئات. (¬1) كذا في جميع النسخ، وفي ص 394 ذكر المؤلف هذه الجملة بلفظها ورسم هذه الكلمة (المقصد). (¬2) هكذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (بألفاظ). (¬3) ما بين المعقوفتين بياض في (ح) بمقدار كلمة، وقد وضعته حسب ما يقتضيه السياق، وليس في الأصل، و (ف) و (د) إشارة للسقط. (¬4) كذا في (ح)، وفي الأصل و (ف) و (د) فاسد بالرفع، والصواب بالنصب. (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (خاف). (¬6) في جميع النسخ (مما) ولا يصح، وما أثبت أعلاه موافق للسياق كما في الجملة التي بعدها.

رد دعوى البكري في صدور عبارة موهمة من النبي - صلى الله عليه وسلم -

أخبروا عن أنفسهم بتكفيرهم لعثمان وعلي، وكما يصدق الكفار إذا أخبروا عن أنفسهم بأنهم يقولون عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كاهن ومجنون ومعلم ومفتري، فهذا صدق يضر قائله لا يضر المقول له، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [النور: 11]. لكن اعتقادك كفر من هم أعظم الناس إيماناً بالله ورسوله لا يضرهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" (¬1)، [لذلك] (¬2) كنت أحق بالكفر إلا أن تعتذر بالتأويل، وفي الصحيح أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يرمي رجل رجلاً بالكفر والفسق إلا رُدت عليه إذا لم يكن لذلك أهلاً" (¬3). وقوله في الوجه الثاني: (إنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للرسول؛ فالعبارة التي توهم نفيها إذا صدرت منه علم المراد بها للدليل على عصمته وصحة تبليغه، وعدم تناقض أقواله وأفعاله، وغيره ليس كذلك). فيقال له (¬4): هذا مبني على صدور عبارة موهمة وتقدم أن الجواب عبارة ظاهرة في معناها، بل نص لا يحتمل معنيين؛ فضلاً عن كونها توهم غير ما أريد بها، وأيضاً فغير الرسول إذا عبر بعبارة موهمة [مقرونة] (¬5) بما [يزيل] (¬6) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في (كتاب الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال) 6103، 4/ 1925، ومسلم في (كتاب الإيمان، باب بيان حال من قال لأخيه المسلم يا كافر) رقم 60، 1/ 79، والإمام مالك في الموطأ في (كتاب الكلام، باب ما يكره من الكلام) 2/ 984 واللفظ للإمام مالك. (¬2) ما بين المعقوفين بياض في (ف) و (د) و (ح) بمقدار كلمتين، وفي هامش (د) بياض في الأصل، وهو ما يقتضيه السياق. (¬3) أخرجه البخاري في (كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السباب واللعن) 4/ 1909 رقم 6045، والإمام أحمد في المسند 5/ 181 وغيرهم بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف. (¬4) سقطت من (ف). (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (مقرنة). (¬6) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (يزل).

الألفاظ التي تعلق عليها الأحكام هي ألفاظ الكتاب والسنة

الإيهام كان هذا سائغاً باتفاق أهل الإسلام، وأيضاً فالوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلم لم يكن على المتكلم بذلك بأس. ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم، (بل ما زال الناس [يتوهمون] (¬1) من أقوال الناس خلاف مرادهم) (¬2)؛ ولا يقدح ذلك في المتكلمين بالحق، ثم غاية هذا أن يكون بحثاً لفظياً، والبحوث اللفظية لا توجب خلافاً معنوياً فضلاً عن التكفير، اللهم إلا على قول هذا الجاهل: إن المتكلم إذا عنى معنًى صحيحاً بعبارة وتوهم منها بعض الناس نقصاً كان ذلك كفراً، وهذا لا يقوله إلا من انسلخ من العقل والدين، لا سيما إذا كان التقصير إنما هو من المستمع؛ لا تقصير من (¬3) عبارة المتكلم. ثم يقال: هذا كله ليس مما نحن فيه، فإن ما ذكره المجيب لا يحتاج لهذا، ولا يتوقف على نقل عبارته بعينها؛ بل تلك المعاني بائنة بالكتاب والسنة واجماع الأمة؛ سواء كان اللفظ بعينه منقولاً أو لم يكن؛ والتعبير عن تلك المعاني شائع بما يدل عليها دلالة بيّنة كالدلالة على سائر المعاني، ومما يجب معرفته أن الأسماء والألفاظ التي تُعلق بها الأحكام الشرعية من الأمر والنهي والتحليل والتحريم والاستحباب والكراهية والمدح والذم والثواب والعقاب والموالاة والمعاداة [هي] (¬4) الألفاظ الموجودة في كتاب الله وسنة رسوله ومعاني تلك الألفاظ، وذلك مثل لفظ الإيمان والإخلاص والعبادة (¬5) والكفر والشرك والهدى والضلال والرشاد والغي (¬6) والتوكل والشكر والصبر والنبوة والرسالة والتوكيل ونحو ذلك، فأما الألفاظ التي لم توجد في كتاب الله وسنة رسوله ولا تعلق بها بشيء من ذلك إلا إذا [تبيّن] (¬7) أن معانيها موافقة لمعاني ألفاظ الكتاب والسنة. ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل (تتوهمون). (¬2) ما بين القوسين سقط من (ف). (¬3) في (ف) في. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (وهي). (¬5) (والعبادة) سقطت من (ف). (¬6) في (ف) و (د) والعبادة. (¬7) كذا في (د)، وفي الأصل و (ف) و (ح) بين.

فصل [12]

والله -تعالى- في كتابه وسنة رسوله قد أوجب لنفسه حقاً لا يشركه فيه غيره، وأوجب حقاً له ولرسوله وللمؤمنين، فله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئاً وأن نخشاه ونتقيه (¬1). فصل قال: (وبالجملة فللأنبياء أنفسهم وفيما بينهم عبارات ومخاطبات ومعاملات لا يقاس بها (معهم من) (¬2) دونهم، ألا ترى ما في الحديث الصحيح في محاجة موسى لآدم، وذكر شيئاً في روايات ساقها مسلم؛ منها [قوله] (¬3): "أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ " (¬4)، ومنها قوله: "أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ... الحديث" (¬5)، وليس لواحد منا أن يقول في آدم -عليه السلام- ولا أحد من النبيين مثل ذلك القول ولا قريباً منه، وكيف لطم موسى عين ملك الموت (¬6) [عليه السلام] (¬7)، وأثبت بعض العلماء أنه لطم حقيقة. ¬

_ (¬1) في (ف) (أن تعبده ولا تشرك به شيئاً وأن تخشاه وتتقيه). (¬2) ما بين القوسين في (د) مع. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل كلمة غير واضحة. (¬4) أخرجه مسلم في (كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى -عليهم السلام-) رقم 2652 تابع 14، 4/ 2043 وأوله: "تحاجَّ آدم وموسى، فحجَّ آدم موسى، فقال له موسى: أنت آدم ... الحديث". وانظر: الروايات الأخرى في نفس الباب. (¬5) أخرجه البخاري في (كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله) رقم 6614، 5/ 2068 من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وأوله: "احتج آدم وموسى ... الحديث"، وأطرافه: 3409، 4736، 4738، 7515. (¬6) يشير إلى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جاء ملك الموت إلى موسى -عليه السلام- فقال له: أجب ربك، قال: فلطم موسى -عليه السلام- عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله -تعالى-؛ فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني ... الحديث"، أخرجه مسلم في (كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى - صلى الله عليه وسلم - رقم 2372، 4/ 1843، وقد أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب وفاة موسى، وذكره بعد) 2/ 1057 رقم 3407 ولفظ مسلم أقرب لمراد البكري. والصواب أنه لطم عين الملك حقيقة. انظر: شرح مسلم للنووي 15/ 138، وفتح الباري 6/ 546 - 547. (¬7) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) - صلى الله عليه وسلم -.

عدم دلالة كلام البكري على موضع النزاع

وروى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم يكذب إبراهيم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاث كذبات ... الحديث" (¬1)، مع أن الثلاث وجه المجاز فيها ظاهر صحيح، قوله: إنه سقيم، باعتبار الاستقبال؛ ولا بد لكل بشر أن يسقم غالباً ولو بمقدمات الموت؛ مع جواز اطلاعه على ذلك أو بتأويل القابلية (¬2)، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وجه المجاز أنه سبب للتكسير الذي وقع؛ لما فيه من التصوير المنكر، أو تهكم يؤيده قوله: {فَسْأَلُوهُمْ}، وأما الكلمة في سارة فقد صرح بالمعنى إذ قال لها: أخبرته أنك أختي فإنك أختي في [الإسلام] (¬3). وحديث المحاجة وإن احتمل أن لا يكون في دار التكليف، فنحن نعلم أنهم لا يقابلون بعضهم بعضاً بما يرونه خلاف الأدب منهم، وكل هذه الأمور لا ينقاس بها معهم من دونهم، فربما كان الشيء من المثيل أو المساوي أدباً أو أمراً محتملاً؛ ولا يكون ممن دونه كذلك، فليحفظ الناظر موقع الحكمة في أحكام المراتب في الأشخاص والأفعال والأقوال وسائر الأحوال). والجواب من وجوه، أحدها: أن يقال: هذا الكلام لا يدل على مورد النزاع، فإن أحداً لم يقل إن حكم النبي مع النبي أو مع الملك حكم من هو دونه؛ ولا حكم بعض الأنبياء حكم بعض بل ولا الملائكة، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]، وقال تعالى عن الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} [الصافات: 164]، وقال: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} [الإسراء: 20، 21]. ولكن ليس في ثبوت أفضليتهم على من دونهم وعدم مساواتهم لهم في كل شيء أنهم لا يشاركونهم في شيء من الأحكام؛ بل الأصل عند جماهير السلف والخلف أن ما ثبت في حق النبي من الأحكام ثبت في حق الأمة، ما لم يقم دليل على التخصيص، فما وجب عليه وجب عليهم وما حرم عليه حرم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء، باب من فضائل إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -) رقم 2371، 4/ 1840، واللفظ له من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وقد سبق تخريج بعض ألفاظه. انظر: ص 389. (¬2) (د) القائلية. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (إسلام).

أمثلة للأحكام التي خص الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم -

عليهم؛ وما أبيح له أبيح لهم، إلا أن يقوم دليل على التخصيص، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} (¬1) [الأحزاب: 37]، بيّن أن في تزويجه بامرأة دَعِيّه من الحكمة دفع الحرج عن المؤمنين في تزويجهم بنساء أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً، ولولا أن الإِحْلال له يستلزم الإِحْلال للأمة لم يرتفع الحرج عنهم لمجرد ذلك. ولهذا لما خصه بإحلال شيء قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50]، فجعل إباحة الواهبة نفسها له خالصة له من دون المؤمنين، ومن هذا ما ثبت عنه في الصحيح أنه لما (¬2) بلغه أن قوماً تنزهوا عن أشياء فعلها، فقال: "والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده" (¬3)، وفي حديث آخر أن رجلًا قال: ليتنا مثل رسول الله يحل الله له ما يشاء، فغضب من ذلك وقال: "إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده" (¬4)، لأن هذا ونظائره متعددة، وهذا الأصل متفق عليه بين أئمة المسلمين (¬5)، ولكن قد يقال نفس الخطاب له أو للواحد من الأمة خطاب ¬

_ (¬1) في (د) {... لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 37] الآية. (¬2) (لما) سقطت من (د). (¬3) لم أجده بهذا السياق، ولكن أخرج البخاري في (كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح) 4/ 1631 رقم 5063 ولفظه: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له"، وأبو داود في (كتاب الصوم، باب فيمن أصبح جنباً في شهر رمضان) 2/ 782 رقم 2389 ولفظه: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتبع"، والإمام أحمد في المسند 6/ 67 ولفظه: "والله إني لأرجو أن كون أخشاكم لله -عز وجل- وأعلمكم بما أتقي"، وأخرج غيرهم ألفاظ قريبة. (¬4) أخرجه الإمام مالك في (كتاب الصيام، باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم) 1/ 291 رقم 13، والإمام الشافعي في الرسالة ص 404 رقم 1109، والإمام أحمد في المسند 5/ 434 واللفظ لهما؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 166 - 167: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. أ. هـ. وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 583 رقم 329 في سند الإمام أحمد: وهذا سند صحيح متصل. أ. هـ. (¬5) في (ف) و (د) الإسلام.

وجوب الإخبار بما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه

عام للعادة الشرعية في ذلك، أو يثبت الاشتراك بالاعتبار بأدلة أخرى، أو وذلك معلوم بالاضطرار من الدين، هذا مما تنازع فيه أهل النظر، وإذا كان كذلك فما يثبت جوازه له من الأقوال يثبت جوازه لغيره ما لم يقم دليل المنع، وما ذكره من مطلق [التفضيل] (¬1) ليس دليلاً على المنع [باتفاق] (¬2) المسلمين. والوجه الثاني أن يقال: خبره عن نفسه وغيره سواء كان نفياً أو إثباتاً، وما أخبر به فهو صدق يجب تصديقه، ومن أخبر به كان صادقاً داخلًا فيمن جاء بالصدق وصدق به، ومن قسم إخباره إلى ما لنا أن نخبر به وما ليس لنا أن نخبر به، فقد قال قولاً مبتدعاً لا دليل له [عليه؛ بل] (¬3) هو معلوم البطلان، ثم إنه لا يمكنه [أن] (¬4) يذكر حداً فاصلاً بين ما يجوز موافقته فيه من الأخبار وما لا يجوز؛ بل لا يشاء كل جاهل وضال أن يقول -فيما أخبر به الرسول- هذا من الأخبار التي ليس لنا أن نخبر بها بحال يبديه إلا ادعى ذلك؛ حتى سد على الناس أن يخبروا بالأخبار الصادقة التي أخبر (¬5) بها، وقد يتعدى ذلك إلى الأمر فيقول ليس كل ما أمر به يؤمر به من غير تفصيل معلوم بدليل الشرع، وحينئذٍ فإذا لم يقم يخبر بخبره ويأمر بأمره كان ذلك ذريعة إلى إبطال كثير من رسالته ونبوته، وهذا فيه من الكفر به وإبطال دينه؛ ما هو من أعظم الردة عن دين الإسلام. وليس هذا بمنزلة سوء الأدب في الخطاب؛ بل هذا كفر صريح وردة عن الإسلام، وهذا لازم لهؤلاء الجهال، فإن قولهم يستلزم الردة عن الدين والكفر برب العالمين، ولا ريب أن أصل قول هؤلاء هو من باب الإشراك بالله؛ الذي هو الكفر الذي لا يغفره الله، فإن الله -تعالى- قال في كتابه: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} (¬6) [نوح: ¬

_ (¬1) كذا في (ح)، وفي الأصل و (ف) و (د) (التفصيل). (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (بالتفاق) بزيادة لام. (¬3) ما بين المعقوفين من (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) هل. (¬4) ما بين المعقوفين يتطلبه سياق الكلام، وليس في جميع النسخ، وهو في (ط) بين معقوفين. (¬5) في (د) أخبروا. (¬6) في (د) الآية.

إجماع الأمة على منع الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء بعد موتهم

23 - 24]، وقال غير واحد من السلف: هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلهم ثم عبدوهم، وقد ذكروا ذلك بعبارات متقاربة في كتب الحديث والتفسير وقصص الأنبياء، كما ذكره البخاري في صحيحه وجماعة من أهل الحديث، (وكما ذكره المفسرون كالطبري وغيره) (¬1)، وكما ذكره مصنفو القصص مثل وثيمة (¬2) وغيره. وقد أمر الله -تعالى- أن يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]، فيقول هذا الضال: هذا يقوله هو عن نفسه؛ وأما نحن فليس لنا أن نقول: هو بشر؛ بل نقول كما قال فلان وفلان: من زعم أن محمداً بشر كله فقد كفر، وهذا يقوله قوم منهم؛ وهو تشبه بقول النصارى في المسيح؛ يقولون: ليس هو بشر كله، بل المسيح عندهم يتناول اللاهوت والناسوت الإلهية والبشرية جميعاً، وهذا يقوله طائفة من غلاة الصوفية والشيعة؛ يقولون باتحاد اللاهوت والناسوت في الأنبياء والصالحين كما تقوله النصارى في المسيح (¬3). والوجه الثالث: أن يقال: مسألتنا ليست محتاجة إلى هذا، فإن ما نُفي عنه وعن غيره من الأنبياء والمؤمنين؛ [وهو] (¬4) أنهم لا يُطلب منهم بعد ¬

_ (¬1) ما بين القوسين سقط من (د)، وقد سبق ذكر هذا الخبر ص ... (¬2) هو أبو يزيد وثيمة بن موسى الفرات المعروف بالوشاء، الفارسي الفسوي نشأ في فارس، ورحل إلى مصر فالأندلس، ثم عاد إلى مصر فمات فيها، صنف كتاباً في "أخبار الردة" توفي سنة 237 هـ. انظر: وفيات الأعيان 6/ 12، والأعلام 8/ 110. (¬3) تأثر الصوفية بالنصارى في الألفاظ والأفعال واضح، وأول من استخدم لفظي اللاهوت والناسوت هو الحلّاج: الحسين بن منصور، والذي قتل وصلب في بغداد سنة 309، وقيل 311 هـ. وللتوسع انظر: المصادر العامة للتلقي عند الصوفية، تأليف صادق سليم صادق، الطبعة الأولى 1415 هـ ص 63 وما بعدها، ونظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام، تأليف سارة عبد المحسن الجلوي الطبعة الأولى 1411 هـ ص 325 وما بعدها، ومن قضايا التصوف في ضوء الكتاب والسنة، تأليف د. محمد السيد الجليند الطبعة الثالثة 1410 هـ ص 83 وما بعدها، والتصوف المنشأ والمصادر، تأليف إحسان إلهي ظهير الطبعة الأولى 1406 هـ ص 60 وما بعدها، ولا يخلو كتاب مؤلف عن الصوفية من ذكر الأثر النصراني في التصوف. (¬4) كذا في (د) و (ح) وفي الأصل و (ف) (ونهو).

ما يسوغ للأنبياء قد يسوغ لغيرهم

الموت شيء؛ ولا يطلب منهم في الغيبة شيء؛ لا بلفظ الاستغاثة ولا الاستعاذة ولا غير ذلك، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، حكم ثابت بالنص وإجماع علماء الأمة مع دلالة العقل على ذلك؛ فلا يحتاج إلى ذكر حديث فيه نفي ذلك عن نفسه كقوله: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله"، فإن هذا اللفظ هو بمنزلة أن يقال: لا يستعاذ به ولا غيره من المخلوقين وإنما يستعاذ بالله -عز وجل-، وهذا كله معلوم، وكذلك لفظ الاستجارة، وأما طلب ما يقدر عليه في حياته فهذا جائز سواء سُمي استغاثة أو استعاذة أو غير ذلك. الوجه الرابع: أنه ليس فيما ذكره حجة على أن ما يسوغ للأنبياء لا يسوغ لغيرهم، فإنه إنما ذكر [خطاب] (¬1) موسى لآدم ولطم عين الملك، فيقال له: أولًا: هل هذا سائغ لغير موسى من الأنبياء كمحمد والمسيح وغيرهما أم ليس سائغاً؟ وإن ساغ لهؤلاء فهل يسوغ هذا لداود وسليمان ويونس وغيرهم؟ فإن قال: نعم هذا سائغ لهؤلاء كلهم، طولب بدليل ذلك؛ ولا يمكنه على هذا التقدير منع جوازه لغيرهم؛ إلا أن يذكر دليلاً خاصًا على أن هذا من خصائص الأنبياء وليس له على ذلك دليل، وإن قال: لا يسوغ هذا لنبي آخر ولا يسوغ لنبي معيّن من الأنبياء، قيل: فحينئذٍ فلا حجة لك فيه على أنه (¬2) لا يقتدى بالأنبياء فيما يسوغ لهم، فإن هذا حينئذٍ ليس مما يسوغ لكل الأنبياء، وما خُصّ به بعض الأنبياء (لم [يتعد] (¬3) به) (¬4) غير الأنبياء بطريق الأولى، وحينئذٍ فلا يكون هذا من موارد الفرق بين الأنبياء وغير الأنبياء، بل من موارد الفرق بين نبي ونبي. ومن الناس من يقول: إن موسى -عليه السلام- كان يحتمل منه [ما لا] (¬5) يحتمل ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) (الخطاب). (¬2) في (د) أن. (¬3) ما بين المعقوفين في الأصل و (ف) (يعتد)، وسقط من (د) و (ح)، ولا يستقيم المعنى. (¬4) ما بين القوسين سقط من (د) و (ح)، والأولى (لم يتعد به). (¬5) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل و (ف) ما لم.

النزاع في جواز وقوع الذنب من الأنبياء

من مثل يونس؛ كجر رأس هارون ولحيته (¬1)؛ وإلقاء الألواح (¬2)؛ ولطم عين ملك الموت؛ ومعاتبة ربه ليلة المعراج في رفع محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3) ونحو ذلك، لما كان له من عظيم المجاهدة مع فرعون وقومه، ولما كان له من عظيم المنزلة عند ربه، وحينئذٍ فإذا كان هذا سائغاً لبعض الأنبياء لا يسوغ لهم كلهم، لم يكن مما نحن فيه. الوجه الخامس: أن يقال (¬4): الناس لهم في جواز وقوع الذنب من الأنبياء قولان، فالسلف والأكثرون يقولون بجواز ذلك، وإن كانوا معصومين عن الإقرار عليه، وكثير من الناس منع ذلك بالكلية، وكل من الفريقين يقول: إنه قد يخصّ بعض الأنبياء بأمر لا يشركه فيه جميع الأنبياء والمؤمنين، وحينئذٍ فقول موسى لآدم -عليه السلام- ما قال؛ إما أن يكون مما أقر عليه أو لا يكون مما أقر عليه، فإن قيل بالأول، وقيل: إنه مختص به أو بأمثاله من الرسل فلا كلام، وإن قيل: إنه سائغ لجميع الأنبياء فلا بد من دليل على أنه من خصائصهم، وإن قيل: إنه لم يقر عليه، وهو [الأظهر] (¬5) فإن آدم أجابه عن ذلك؛ وبيّن له أن هذا الذي جرى عليكم كان مقدوراً عليكم مكتوباً عليكم؛ فحج آدم وموسى، وإذا كان موسى محجوجاً، كان موسى قد عرف أنه لا حجة له على آدم، وأنه (¬6) لم يكن له أن يعاتبه على ذلك، فيكون موسى رجع عن هذا، وما رجع عنه النبي ولم يقر عليه لم يُقْتد به باتفاق المسلمين، كالمنسوخ وأولى. وكذلك لطمه لملك الموت إن كان مأذوناً له فيه أو معفوًا عنه؛ وهو من ¬

_ (¬1) يشير إلى قوله تعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)} [طه: 94] (¬2) يشير إلى قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150]. (¬3) يشير إلى ما أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 5/ 1344 رقم 7517 عنه- صلى الله عليه وسلم - لما علا فوق السماء السابعة قال موسى: "ربِّ لم أظن أن ترفع علي أحدًا ... الحديث". (¬4) في (د) هم (زيادة). (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (أظهر). (¬6) في (د) أن.

شرح بعض ألفاظ حديث محاجة آدم وموسى عليه السلام

خصائصه أو من خصائص الرسل فلا كلام فيه، وإن قيل: إن هذا سائغ للأنبياء كلهم فلا بد من دليل الاختصاص بالأنبياء، وأما إن قيل: إن موسى رجع عن تلك اللطمة لما اختار الموت وأجاب إلى ما طلب منه الملك من إجابة ربه؛ كان هذا مما رجع عنه موسى، ومثل ذلك ليس مما يقتدى فيه بالأنبياء، وذلك أن موسى لطمه بغضاً للموت؛ فلما رجع إليه وخيّره بين أن يضع يده على متن ثور فما وارته يده من شعره فإنه يعيش بها سنه وبين الموت؛ اختار الموت. الوجه السادس: إن قول موسى: إن آدم أغوى الناس وأخرجهم من الجنة، وإنه خيبهم وأخرجهم من الجنة، إما أن يقول: إنه صدق، وإما أن يقول: لم يكن كذلك، وإنما قاله (¬1) باجتهاد وتأويل، فإن [قال] (¬2): إنه صدق لا خطأ فيه، قيل: فمن الذي منع غير موسى أن يقول: الصدق الذي [لا خطأ] (¬3) فيه، وقول القائل ليس لواحد منا أن يقول: الصدق الذي لا خطأ فيه الذي قاله الأنبياء؛ دعوى مجردة لا يثبت بها حكم، لكن صاحب هذا الكلام يتكلم بحاله وما يخطر (¬4) له من غير اعتصام بالأدلة الشرعية. وإن قيل: إن موسى -عليه السلام-[قاله] (¬5) مجتهداً متأولاً ولم يكن الأمر كذلك، أو قال بحسب اعتقاده ولم يكن الأمر كذلك؛ كان كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لم أنس ولم تقصر الصلاة"؛ فإنه قال معتقداً أنه أتم الصلاة، فقال له ذو اليدين: بل قد نسيت، فقال: "أكما يقول ذو اليدين"، قالوا: نعم (¬6)، وكذلك ¬

_ (¬1) في (د) قال. (¬2) ما بين المعقوفتين زيادة اقتضاها السياق. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل أخطأ. (¬4) في الأصل (بنا) فوق السطر وهي زيادة. (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (قال). (¬6) أخرجه مسلم في (كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له) رقم 573، 1/ 403 والترمذي في (كتاب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر) رقم 399، 2/ 248 وأبو داود في (كتاب الصلاة، باب السهو في السجدتين) رقم 1008، 1/ 612 والنسائي في (كتاب السهو، باب ما يفعل من سلم من ركعتين ناسيًا وتكلم) رقم 1222، 3/ 20 وغيرهم، واللفظ للنسائي، وقد سبق تخريج قطعة من الحديث ص 395.

الكلام على المعاريض

لما قال في النخل: "ما أظنه يعني -التلقيح- يغني شيئًا"، ثم قال لهم: "إنما أخبركم عن ظني فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله"، وفي لفظ: "أنتم أعلم بأمر دنياكم، وأما ما كان من أمر دينكم فإلي" (¬1). وأما لطم موسى عين ملك الموت فليس هو إخباراً عن نبي وإنما هو فعل من الأفعال؛ فليس مما نحن فيه، وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لم يكذب إبراهيم -عليه السلام- إلا ثلاث كذبات"؛ فيقال له: أتقول إنه لا يجوز لنا أن نصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"، بالمعنى الذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - أي شيء كان أم ليس لنا ذلك؟ فإن قلت: لنا ذلك، بطلت حجتك، وإن قلت: ليس لنا أن نقول ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظًا ومعنى كان هذا ممنوعاً، وهو من جملة ما يرد عليك، وإن لم يذكر عن (¬2) ذلك حجة؛ بل ولا نقله هذا (¬3) عن إمام من أئمة المسلمين، ونحن قد ذكرنا دلالة الكتاب والسنة والإجماع على أن الأخبار الصادقة التي أخبرت بها الأنبياء نفياً وإثباتاً لنا أن نخبر بها كما أخبروا بها لفظًا ومعنى. الوجه السابع: أن يقال هذه الكلمات هي من باب المعاريض، والمعرَّض يقصد معنى ويفهم المستمع غيره، والكلام مبدؤه عناية (¬4) المتكلم (¬5) ومنتهاه إفهام المستمع، فالمعرض إذا عنى حقًا والمستمع فهم باطلًا كان الكلام صدقًا باعتبار [الغاية السائغة] (¬6) وكذباً باعتبار الإفهام، ولهذا لم يرخص في المعاريض فيما يجب بيانه؛ للخلل (¬7) في (¬8) البيع ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في (كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا) 4/ 1835 - 1836 رقم 2361، 2363، وابن ماجه في (أبواب الأحكام، باب تلقيح النخل 2/ 68 رقم 2495، 2496، والإمام أحمد في المسند 6/ 123 وغيرهم بألفاظ قريبة من لفظ المؤلف. (¬2) الأولى (على). (¬3) في (ف) هذه. (¬4) في (ف) غاية. (¬5) في (د) للمتكلم. (¬6) كذا في مجموع الفتاوى 28/ 223، وفي الأصل (العنائه) وتحتها كالخط، وفي (ف) العان (بدون نقط)، وبياض في أصل (د) وفي الهامش (المعينائه) وكذلك في أصل (ح). (¬7) في (ف) الخلل وفي (د) و (ح) للخل. (¬8) (في) سقطت من (ف) و (د) و (ح).

حكم المعاريض في الكلام

والشهادة والإفتاء ونحو ذلك باتفاق، ويجوز للمظلوم [التعريض] (¬1) في الأيمان وغيرها، وأما ما ليس بظالم ولا مظلوم ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: يجوز له التعريض، وقيل: لا يجوز مع اليمين ويجوز بدونها (¬2). فقول إبراهيم -عليه السلام-: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] قيل: أراد سقيم القلب من كفركم، وقوله: أختي، أراد أخته في الدين؛ كما جاء ذلك مصرحًا به في الحديث الصحيح؛ حيث قال: "فإنه ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك"، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، قيل: إنه قصد [تعليقه] (¬3) بالشرط وهو قوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)} (¬4) [الأنبياء: 63]. ومن هذا قول نائب يوسف: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]، فإن يوسف أمره بالنداء؛ لكن نداء يوسف: سارقون ليوسف من أبيه وهو صادق فيما عناه، وما ذكره هذا الذي يلبس الحق بالباطل كحاطب ليل من التأويلات ليس مما يبنى عليه مسألتنا، فإنه ليس في شيء من ذلك أنه لا يجوز أن يخبر بما أخبر به الرسول لفظًا ومعنى، والناس قد ذكروا هذه التأويلات وغيرها، فتأويل المتأول إني سقيم أي سأسقم، إما لأن الظاهر مرضه، أو لاطلاعه على ذلك هو تأويل؛ و (¬5) قول غيره: أريد سقيم القلب تأويل ثان؛ وهو أقرب من كون الصفة حاضرة؛ والأول أقرب من كون السقم أراد به سقم البدن، لكن يقال: استعمال السقم والمرض في سقم القلب ومرضه هو حقيقة، ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (التعرض). (¬2) التعريض لغة: ضد التصريح. القاموس المحيط ص 834، واصطلاحًا: هو أن تذكر كلاماً يحتمل مقصودك وغير مقصودك، إلا أن قرائن أحوالك تؤكد حمله على مقصودك. الكليات لأبي البقاء ص 762. وقد اختلف الفقهاء في حكمه على ثلاثة أقوال كما ذكر المؤلف، والراجح -والله أعلم- فمن ليس بظالمٍ ولا مظلوم أنه لا فرق بين التعريض بيمين أو دونها، فقد حلف بعض الصحابة معرضًا وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكثير من الفقهاء لا يفرقون في حكم التعريض بيمين أو دونها. انظر: المغني لابن قدامة 11/ 244، وروضة الطالبين للنووي 11/ 82 - 81، والمحلى لابن حزم 8/ 43 - 44، وفتح الباري 10/ 725 - 726، ونيل الأوطار 10/ 149 - 150. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل تعليله. (¬4) انظر: الجامع لأحكام القرآن 15/ 92، وفتح الباري 6/ 482. (¬5) سقطت الواو من (د).

العلم: نقل مصدق أو بحث محقق

بخلاف قوله إني سقيم بمعنى سأسقم فإن هذا لا يفهم إلا بقرينة، فيكون ذلك التأويل أولى, وأما التأويل الآخر بمعنى القابلية (¬1) فبعيد؛ فإن الموجود لا يوصف بكل ما يقبله من المعدومات، إذ لو كان كذلك لجاز أن يقال عن كل مخلوق: إنه معدوم، وعن كل مؤمن إنه كافر، وعن كل كافر إنه مؤمن، وعن كل غني إنه فقير، وعن كل عفيف إنه فاجر، وعن كل سليم إنه أشل وأقطع. والتأويلا [ن] (¬2) المذكوران في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} أن الإله (¬3) الأكبر سبب للتكسير تأويل فاسد، فإن السبب في كل صنم (¬4) ما قام به من التصوير، لا سيما قوله بل فعله كبيرهم يقتضي أنه لم يفعله إلا كبيرهم، فلا يكون السبب أنه التصوير الذي قام به؛ وهذا باطل قطعًا فإن التصوير القائم بكل صنم موجب لكسره؛ لا يحتاج إلى تصوير صنم أكبر منه، وأما التهكم فهو أحسن، وكذلك قوله: من قال إنه نوى التعليق بقوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}. وقوله: وحديث المحاجة وإن احتمل أن لا يكون في دار التكليف، فنحن نعلم أنهم لا يقابلون بعضهم بعضاً بما يرونه [خلافاً] (¬5) للأدب منهم، فهذا كلام متناقض، وهو كلام من نظر في كلام شارحي الحديث، ولم يميز بين حق ذلك وباطله؛ وأخذ من ذلك ما ظنه موافقًا لدعواه، فلا له تمييز في أقوال الناس بين حقها وباطلها، ولا له معرفة بطرق الاستدلال، فلا [ذاكر] (¬6) لكلام منقول ولا مبيّن لمعنى مقبول، ولا نقل ولا توجيه لا ذكر ولا أثر. والعلم شيئان إما نقل مصدق، وإما بحث محقق؛ وما سوى ذلك فهذيان [مسروق] (¬7)، وكثير من كلام هؤلاء هو من هذا القسم؛ من الهذيان، وما يوجد فيه من نقل فمنه ما لا يميز صحيحه عن فاسده؛ وفيه ما لا ينقله على وجهه؛ ومنه ما يضعه (¬8) في غير موضعه، وأما بحثه واستدلاله على مطلوبه ¬

_ (¬1) في (د) المقابلية. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل. (¬3) (الإله) سقطت من (د). (¬4) (صنم) سقطت من (د). (¬5) كذا في (د)، وفي الأصل و (ف) و (ح) (خلاف) بالرفع، والصواب ما أثبت أعلاه، لأنه منصوب. (¬6) كذا في (ف)، وفي الأصل (ذكرًا)، وفي (د) و (ح) (ذكر)، وما أثبت أعلاه يوافق ما بعده. (¬7) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (مسرق). (¬8) في (د) ما لا يضعه.

مقصود علم أصول الفقه

فمن العجائب، (فلا يتحقق) (¬1) (حسن الاستدلال بالأدلة) (¬2)، حتى يميز بين ما يدل وما لا يدل، ولا مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح إذا تعارض دليلان، ولهذا كان أصول الفقه مقصوده معرفة الأدلة الشرعية؛ جنس الدليل، وهذا فيه [آية] (¬3) (الخلاص من كناية) (¬4) [ترد] (¬5) الحق (¬6). وقد قيل: إنما يفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللسان، وهذا يفسد الأبدان، لا سيما إذا خاض هذا في مسألة لم يسبق إليها عالم ولا معه فيها نقل عن أحد، ولا هي من مسائل النزل بين العلماء فيختار أحد القولين، بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام المعلوم بالضرورة عن الرسول، فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بعيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين؛ لم يمكن (¬7) تكفيرهم بذلك حتى يتبيّن (¬8) لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه، ¬

_ (¬1) ما بين القوسين في (ف) (لا تحقق)، وفي (د) و (ح) (تحقق). (¬2) ما بين القوسين في (د) و (ف) و (ح) (جنس الأدلة)، وكذلك في متن الأصل، لكنها مصححة، جنس إلى حسن، بمسح نقطة الجيم، والنون التي قبل السين، وعلامة فوقها للهامش وفيه (الاستدلال) صح، و (الأدلة) فوقها (ب). (¬3) كذا في (ح)، وقبل الألف أثر كشط، وفي الأصل و (ف) و (د) (كناية)، ولا يستقيم المعنى. (¬4) ما بين القوسين سقط من (ف). (¬5) كذا في (ح)، وفي الأصل و (د) (تراد)، وفي (ف) (ترا). (¬6) (الحق) سقطت من (ف)، وفي الجملة تكرار، فزاد في الأصل و (د) و (ح) (أدنى إلى الخلاص كناية ترا)، وليس في (ف) هذا التكرار، والجملة فيها (وهذا فيه كناية ترا). (¬7) في (د) يكن. (¬8) في (ح) (يُبين)، وهذه الكلمة اختلف في رسمها بعض أهل السنة من أئمة الدعوة السلفية في نجد وبعض مناوئيهم، فقد ذكر صاحب "جلاء الغمة في تكفير هذه الأمة" أنها رسمت: "يتبين" بتقديم الياء المثناة من تحت على المثناة الفوقية ثم باء موحدة =

استغاثة القبورية بالقبور أثناء غزو التتار لدمشق

ولهذا ما بينّت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الدين إلا تفطن؛ وقال هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض الأكابر [من] (¬1) الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بيّنته لنا لعلمه بأنّ هذا أصل الدين. وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه أو الدعاء به أو الدعاء عند قبره (¬2)، بخلاف عبادتهم لله ودعائهم إياه [فإنهم] (¬3) يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام [لما] (¬4) قد دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء: يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر ¬

_ = بعدهما؛ من نسخة صحيحة على هوامشها خطه بيده (أي ابن تيمية) -رحمه الله-. أ. هـ. ورد عليه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في "مصباح الظلام" أنها رسمت: "يبين". انظر: "مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام" ص 323 - 325 ط. الشيخ إسماعيل بن عتيق. وفي سياق غير هذا السياق ذكر علوي الحداد في "مصباح الأنام وجلاء الظلام" أنها رسمت: "يتبين"، ورد عليه الشيخ سليمان بن سحمان في "الأسنة الحداد" بالتشكيك في نسبة الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم ذكر هذا الموضع، ورسم هذه الكلمة "يُبين"، ثم قال: فزاد هؤلاء المحرفون هذه الزيادة وكتبوها بالياء التحتية ثم المثناة الفوقية وحرفوا وتصرفوا. انظر: الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد ص 154، 157 ط. الثانية 1376 هـ بأمر الملك سعود. والأصل قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} [النساء: 115]. وانظر: أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية في قضية التكفير المواضع التالية من منهاج السنة 4/ 131 - 452، 5/ 87 - 157 - 158، 244، 6/ 115. (¬1) كذا في (د) و (ح)، وسقطت من الأصل و (ف). (¬2) في هامش الأصل: الأول شرك والثاني وسيلة إليه. أ. هـ. قلت: أي دعاء الميت شرك، والدعاء عند القبر وسيلة إلى الشرك. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (فإنه). (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (لم).

إخلاص الدين لله سبب للنصر على التتر

أو قال: عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكم من الضرر (¬1) فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة كانت لله -عز وجل- في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي؛ الذي أمر الله به ورسوله، [ولما] (¬2) يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة في القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة؛ لمن عرف هذا وهذا، وإن كان كثيراً من [المقاتلين] (¬3) الذين اعتقدوا هذا قتالاً شرعياً أجروا على نياتهم. فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرّب ولا نبي مرسل، كما قال تعالى يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]، ورُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوم بدر يقول: "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث" (¬4)، وفي لفظ: "أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ¬

_ (¬1) لم أجد قائل هذا البيت. وفي البداية والنهاية لابن كثير 14/ 33 ذكر تربة الشيخ أبي عمر بالسفح، ولعله: أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة ت 607 هـ, وقد نسج الناس حوله خرافات حتى جعلوه قطباً، وهو أخو الموفق صاحب المغني. انظر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية 1/ 458. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (ولَم). (¬3) كذا في (ح)، وفي الأصل و (ف) و (د) (القائلين). (¬4) أخرجه الترمذي في (كتاب الدعوات، باب 91) 5/ 539 رقم 3524، والحاكم في المستدرك في كتاب الدعاء 1/ 509 وقال: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بقوله: عبد الرحمن لم يسمع من أبيه، وعبد الرحمن ومن بعده ليسوا بحجة. أ. هـ , والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 397 رقم 611 وقال محققه د. فاروق حمادة: إسناده منقطع. أ. هـ, وابن السني في عمل اليوم والليلة ص 132 رقم 339، وأبو يعلى في مسنده 1/ 404 رقم 530، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 180 - 181: رواه الطبراني في الصغير والأوسط من طريق سلمة بن حرب بن زياد الكلابي عن أبي مدرك عن أنس، وقد ذكر الذهبي سلمة في الميزان فقال: مجهول كشيخه أبي مدرج، وقد وثق ابن حبان سلمة وبقية رجاله ثقات. =

الكلام على حديث حجاج آدم وموسى عليهما السلام

ولا إلى أحد من خلقك" (¬1). فلما أصلح الناس [أمورهم] (¬2)، وصدقوا في الاستغاثة بربهم؛ نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً؛ لم يتقدم نظيره، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلاً، لما صح من تحقيق توحيده طاعه رسوله ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله ينصر رسله (¬3) والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ونحن نتكلم على ما ذكره (¬4)؛ وإن لم يختص بمسألتنا، لما فيه من تمام الكلام على ما ذكره كله. أما حديث احتجاج آدم موسى -عليهم السلام- فإن هذا الحديث فهم منه كثير من الناس المتقدمين والمتأخرين أن آدم احتج بالقدر على فعل الذنب، فصاروا أحزاباً: حزب من أهل الكلام كذبوا الحديث كأبي علي الجبائي وغيره؛ وقالوا: نحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن سابق علم الله وكتابه لا يكون حجة لأحد في ترك مأمور أو فعل محظور؛ وهذا يناقض ذلك، فيكون كذباً على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحزب من الصوفية والعامة شر من هؤلاء جعلوا هذا الحديث حجة على دفع الذم والعقاب عن الكفار والفساق والعصاة وسموا هذا حقيقة، وهو حقيقة القدر، وقال منهم طائفة: من شهد القدر ارتفع عنه الملام؛ وقالوا: آدم كان شاهد القدر. ودخل في ذلك طائفة من أعيان الشيوخ والعلماء، فظنوا أن الخواص يرتفع عنهم الذم والعقاب بشهود القدر دون العامة، ومنهم من قال: هذا عين الجمع، وهو أن لا يرى الفاعل إلا واحد، ومنهم من جعل هذا من أفضل ¬

_ = أ. هـ. وجميعهم بألفاظ متقاربة وقريبة من لفظ المؤلف. (¬1) ذكره الديلمي في الفردوس 1/ 445 رقم 1815 عن أبي بكر بلفظه، وقد أخرجه أبو داود في (كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح) 5/ 534 رقم 5090 بلفظ قريب، وكذلك ابن حبان في صحيحه في (كتاب الرقائق، باب الأدعية 3/ 250 رقم 970 وقال محققه شعيب الأرنؤوط: إسناده محتمل للتحسين. أ. هـ , وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 137: رواه الطبراني وإسناده حسن. أ. هـ. وقد أخرجه غيرهم. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (أمرهم). (¬3) كذا في الأصل و (ح) وفي (ف) و (د) رسوله. (¬4) في (د) ما ذكر.

حكاية بين الجنيد وأصط به في الفرق الثاني

مقامات العارفين؛ ومن لوازم سلوك السالكين، ومنهم من جعل هذا منتهى سير العارفين، وسموا ملاحظة هذا فناء في توحيد الربوبية أو اصطلاماً ونحو ذلك، فالذين جعلوا هذا منتهى للوصول رفعوا استحسان الحسنات واستقباح القبائح، وقالوا: استحسان الحسنات واستقباح السيئات يكون لأصحاب البقاء والفرق؛ لا لأهل الجمع والاصطلام والفناء في التوحيد، وأما الذين جعلوه مقاماً أو لازمًا للسالك فقالوا: بعد هذا مقام أعلى منه وهو مشهد الفرق الثاني. وكان قد وقع بين الجنيد (¬1) وأبي الحسين [النوري] (¬2) وأصحابهما كلام في الفرق الثاني واضطربوا، كما ذكر ذلك أبو سعيد ابن الأعرابي (¬3) في "كتاب طبقات النساك"، وذكر أن كلامهم في الفناء والجمع لم يشتركوا فيه إلا في [العبارة] (¬4)، وأن هذا يشير إلى معنى غير المعنى الذي يشير إليه هذا، وأنه لم يحصل ما يعبر عنه بالفرق الثاني، وذكر أن أبا [الحسين النوري] (¬5) لما قدم بغداد بعد أن كان خرج عنها، وكان قد خرج هو وغيره في محنة ¬

_ (¬1) هو الجنيد بن محمد النهاوندي ثم البغدادي، يوافق السلف في الاعتقاد، وعنده تعبد وزهد على طريقة الصوفية، نسبت إليه رسائل مكذوبة. انظر: السير 14/ 66 ترجمة رقم 34، والأعلام 2/ 141. (¬2) في جميع النسخ النووي، وبعض المؤلفين يذكره هكذا، والصواب النوري بالراء كما في كتب التراجم، وكما ذكره المؤلف في كتاب الاستقامة 1/ 158، 179، 180، 251، 410، 2/ 15 - 16 وهو أبو الحسين أحمد بن محمد الخرساني الزاهد، من الصوفية بالعراق، فسد عقله، وجرت عليه محنة في بغداد، لما أمر الخليفة المعتمد في سنة 264 هـ بالقبض على الصوفية، لما نسبوا للزندقة، انقبض عن الصوفية وجفاهم، وغلبت عليه العلة، وعمي ولزم الصحارى، توفي قبل الجنيد سنه 295 هـ. انظر: السير 14/ 70 ترجمة رقم 35، والبداية والنهاية 11/ 113. (¬3) هو أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي البصري الصوفي، جمع وصنف، وتعبد وتأله، وحمل "السنن" عن أبي داود، لا يقبل شيئًا من اصطلاحات الصوفية إلا بحجة، توفي في سنة 340 هـ. انظر: السير 5/ 407 ترحمة رقم 229، والأعلام 1/ 208 ولم أقف على كتاب "طبقات النساك". (¬4) كذا في (ف) وفي الأصل و (د) و (ح) (العبادة) بالدال. (¬5) في جميع النسخ (أبا الحسن النووي) والصواب ما أثبت أعلاه.

محنة الصوفية سنة 275 هـ

الصوفية التي جرت لما قام عليهم غلام خليل (¬1) سنة بضع وستين ومائتين، وكتب منهم نحو سبعين نفساً، واتهمهم بالزندقة، فوضعوا منهم جماعة [في] (¬2) الحبس، وسافر بعضهم، واختبأ بعضهم، وكان فيهم من هو مظلوم؛ ومنهم من هو متعبد، وكان غلام خليل فيه عبادة وزهد وفيه نوع قلة معرفة (¬3) أيضاً، ولهذا يقال إنه كان يضع الأحاديث في الفضائل، وهذا قد بسطه أبو سعيد بن الأعرابي، وغيره ذكر ذلك مختصراً. وذكر أبو سعيد أن [النوري] (¬4) لما رجع مسألة أصحاب الجنيد عن الفرق الذي بعد الجمع ما علامته؟ وما الفرق بينه وبين الفرق الأول؟ قال: فسألوه عن هذا المعنى -لا أدري بهذا اللفظ أم بغيره إلا أني قد حفظت المعنى وأثبته-، قال: وكنت إذا مررت به بالرقة سنة سبعين (¬5)، قال لي: من بقي من أصحابنا فأخبرته، فسألني عن جماعة، ثم سألني عن الجنيد وما يتكلم فيه ومن يجتمع إليه، فأخبرته؛ وقلت: إنهم يشيرون إلى شيء يسمونه الفرق الثاني والصحو، فقال لي: اذكر لي شيئًا منه؛ فذكرت له بعض ما كنت أظنه؛ فضحك، ثم قال: أي شي يقول (¬6) في هذا ابن الجلحي (¬7)؟ فقلت: [ما يجالسهم] (¬8)، قال فأبو ¬

_ (¬1) هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن غالب الباهلي البصري، غلام خليل، سكن بغداد، له جلالة عجيبة، وأمر بالمعروف، وصحة معتقد، إلا أنه يروي الكذب الفاحش، اعترف بوضع الحديث، لم يزل يقص ويحذر من الصوفية، ويغري بهم السلطان والعامة، حتى أُمر المحتسب بطاعة خليل فطلب القوم، وبث الأعوان في طلبهم، وكتبوا، فكانوا نيفاً وسبعين نفساً، واختفى عامتهم، وحبس منهم جماعة، وهرب النوري إلى الرقة. مات سنة 275 هـ وحمل إلى البصرة. انظر: السير 13/ 282 ترجمة رقم 136، والبداية والنهاية 11/ 58. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (بالحبس). (¬3) في الأصل و (ف) و (د) (ومعرفة)، وسقطت الواو من (ح) وهو الصواب. (¬4) النووي في جميع النسخ والصواب النوري بالراء. (¬5) أي سبعين بعد المائتين كما في السير 14/ 75. (¬6) في (ف) تقول. (¬7) لم أجد له ترجمة، وفي السير للذهبي 14/ 75: الخلنجي. (¬8) كذا في السير للذهبي 14/ 75، وفي جميع النسخ ما أجالسهم، ولا يستقيم المعنى.

أحمد القلانسي (¬1)؟ فقلت: مرة يوافقهم، وربما خالفهم إلى معاني الجمع، فقال: أي شيء تقول أنت؟ فقلت: ما عسى أن أقول أنا، ولكن ما تقول في هذا يا أبا الحسين فإني أحب أن أسمع منك في هذا خاصة شيئًا؟ فقال: لا، أو تقول أنت، فحملني حرصي على أن أسمع منه أن قلت ما كان عندي في ذلك الوقت, قلت: أنا أحسب يا أبا الحسين أن هذا الذي يسمونه فرقاً ثانيًا هو عين من عيون الجمع، يتوهمون به أنهم قد خرجوا عن الجمع، وإنما هو أحد عيون الجمع، فقال: هو كذلك، وأنت [إنما] (¬2) سمعت هذا من أبي أحمد القلانسي، فأخبرته أني ما سمعته من أبي (¬3) أحمد، فلما قدمت بغداد حدثت (¬4) أبو أحمد بذلك، وكان أبو أحمد يعارض ذلك ولا يقطع به، وربما وافقهم فأعجبه قول أبي الحسين، وكذلك كان عند أبي الحسين، فأما أبو أحمد فقد كان (¬5) ربما قال: هو صحو وخروج عن الجمع؛ وربما قال: هو شيء من الجمع، ثم قال أبو الحسين ببغداد لما [شاهدهم] (¬6): ليس هو عيناً من عيون الجمع، ولا صحواً من الجمع وفرقاً ثانياً، ولكنهم رجعوا إلى ما يعرفون، وحملوا الشيء على عقولهم، فهم يسددون بجهلهم وليس معهم مما يذكرون إلا هذا العلم وهذا الوصف، وكأنهم قد اصطلحوا عليه، وكان يومئ إلى أنهم يتكلمون عن غير حقيقة، وإنما هو شيء يأخذه بعضهم عن بعض، فيزيد بعضهم من بعض بقدر فصاحتهم في العبارة دون الحقيقة، ولهذا كان قوله أول ما قدم بغداد (¬7). ¬

_ (¬1) هو أبو أحمد، مصعب بن أحمد البغدادي القلانسي، شيخ الصوفية كان مقدمًا على جميع مريدي بغداد، لما فيه من السخاء والأخلاق، مات سنة 270 بمكة. انظر: السير 13/ 170 الترجمة رقم 101. (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (ما). (¬3) في (د) أني. (¬4) كذا في السير 14/ 75، وفي جميع النسخ (حدث) ولا يستقيم المعنى. (¬5) (كان) سقطت من (د). (¬6) كذا في (ف) و (د) و (ح) والسير 14/ 75، وفي الأصل (شهدهم). (¬7) يقصد أبا الحسين النوري.

قال: أبو سعيد ثم باتوا معه ليلة لم أكن معهم كان ابن عطاء (¬1) ورويم (¬2)، فأقبل ابن عطاء يسأله فإذا أصابه بشيء عكسه عليه ابن عطاء، ثم يسأله عما ينشيه، فإذا أجابه؛ قال: هذا ضد الجواب الأول يا أبا الحسين قياسًا وتشبيهاً، فكان منه إليه كلام فيه جفاء، وكذلك فعل أيضاً، فقالوا: إنه يقول الشيء وضده ولا يعرف هذا [إلا قول] (¬3) سوفسطا (¬4) ومن قال بقوله، وكان بينهم وحشة بذلك، وكان يكثر منهم التعجب، وقالوا للجنيد ذلك، فأنكر عليهم حينئذٍ، وقال: لا تقولوا مثل هذا لأبي الحسين، ولكنه رجل به علة قد تغير دماغه، ثم إنه انقبض عن جميعهم بعد تلك الليلة، وأظهر لمن اتهمه منهم الجفاء، وترك مجالستهم، ثم غلبت العلة، وذهب بصره، ولزم الصحارى والجبانات والمقابر، وكانت له في ذلك أحوال طويلة كثيرة يطول شرحها وذكرها (¬5). قال: ولم أحضره عند موته، قال (¬6) جماعة من أصحابنا يقولون: من رأى أبا الحسين بعد قدومه الرقة؛ ولم يكن رآه قبل ذلك فكأنه لم يره لتغيره بعد قدومه، إلا أنه مات وهم عنده يتكلمون في شيء سكوتهم عنه أولى بهم، لأنه ليس شيئًا عندهم يعرفونه، وإنما يتوهمونه (¬7) فيتكهنون فيه ويتعسفون بظنونهم (¬8)، ¬

_ (¬1) هو أبو العباس، أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء البغدادي، كان زاهداً، عابداً، صحح حال الحلّاج، وامتحن بسببه حتى مات، فقد عقله ثمانية عشر عاماً، ثم ثاب إليه، مات سنة 309 هـ. انظر: السير 4/ 255 ترجمة رقم 160، والبداية والنهاية 11/ 154. (¬2) في (د) (دريم) وهو: أبو الحسن وقيل أبو محمد، رويم بن أحمد، وقيل: رويم بن محمد بن يزيد بن رويم البغدادي، وهو رويم الصغير، وجده رويم الكبير أيام المأمون، امتحن في بغداد أيام غلام خليل، وفر إلى الشام، مات ببغداد سنة 303 هـ. انظر: السير 14/ 234 ترجمة رقم 138، والأعلام 3/ 37. (¬3) ما بين المعقوفتين من السير 12/ 75، وفي جميع النسخ (القول). (¬4) في السير 14/ 75 ولا نعرف هذا إلا قول سوفسطاً. وهم السوفسطائيون: فرقة من فلاسفة اليونان كانوا مجادلين مغالطين في العلم، أنكروا المحسوسات والبدهيات. انظر: الفلسفة اليونانية تأليف يوسف كرم ص 45. (¬5) انظر: هذه الحكاية في السير للذهبي 14/ 74 - 75 بشيء من التفصيل. (¬6) كذا في جميع النسخ، وفي (ط) (كان). (¬7) في (د) (يتوهمون). (¬8) كذا في (ح)، وفي الأصل لم تنقط، وفي (ف) و (د) (بطولهم).

اضطراب الصوفية في الفرق الثاني

وقد كانوا عند غيره (¬1) ممن لا أُسميه كذلك. قال أبو سعيد: فإذا كان أولئك كذلك، فكيف بمن حدث بعدهم ممن أخذ عنهم؟ قال: ومنعني من الطبقة التي كانت بعد هؤلاء أشياء كثيرة، إلا [أن] (¬2) جملة ذلك وإن كانوا قوماً صالحين فاضلين فما يدرون ما كان يقول أولئك في هذه المعاني التي أشرنا إليها، ولا ما كانوا يشيرون إليه إلا بالتوهم والبلاغات وذكر كلامًا طويل (¬3). قلت: الصوفية بعد هؤلاء هم على هذا الاضطراب، منهم من قال بالفرق الثاني كالجنيد وأصحابه، وهؤلاء هم المصيبون المسددون، ومنهم من نفاه، ومنهم من تردد فيه، ومنهها من قال: إنه أكبر من [المتكلم] (¬4) فيه، وسبب ذلك أن الإنسان يشهد أولاً الفرق حسه وعقله وهواه؛ من غير نظر إلى أن الله خالق كل شيء وهذا هو الفرق الأول، فإذا توجه إلى الله رأى أن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، كل ما في الوجود بمشيئته وقدرته، وهذا شهود صحيح، بحيث يغيب عن نفسه وعن غيره، ويفنى بمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، فلا يبقى ناظراً إلا إلى توحيد الربوبية وهو أن الله خالق كل شيء. وهذا المشهد ليس فيه تفريق بين المأمور والمحظور، ولا بين المعروف والمنكر، ولا بين أوليائه وأعدائه، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين ما يلائم الإنسان وما يخالفه، وهذا لا يتصور أن يدوم بقاء العبد فيه، فإن نفسه لا بد أن تفرق بين ما يلائمها وبين ما يضرها، كما تفرق بين [الخبز ¬

_ (¬1) في (ف) و (ح) (غير قبره). (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (ن) سقطت الهمزة. (¬3) قال الذهبي في السير 15/ 409 - 410 عن الصوفية: والله دققوا وعمقوا، وخاضوا في أسرار عظيمة ما معهم على دعواهم فيها سوى ظن وخيال، ولا وجود لتلك الأحوال من الفناء والمحو والصحو والسكر؛ إلا مجرد خطرات ووساوس، ما تفوه بعباراتهم صديق، ولا صاحب، ولا إمام من التابعين، فإن طالبتهم بدعاويهم مقتوك، وقالوا: محجوب، وإن سلمت لهم قيادك تخبط ما معك من الإيمان، وهبط بك الحال على الحيرة والمحال، ورمقت العباد بعين المقت، وأهل القرآن والحديث بعين البعد، وقلت: مساكين محجوبون. فلا حول ولا قوة إلا بالله. أ. هـ. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (التكلم).

التفريق بين المأمور به والمنهي عنه فرض على كل مسلم

والتراب] (¬1) وبين الماء والبول. ولكن من قال بأن الفناء هو الغلبة، منهم من جعل ذلك نزولاً من العبد من عين الجمع إلى الفرق، ومنهم من يقول [بل] (¬2) القيام بالفرق هو [لصلاح] (¬3) العامة لا لنفسه، ومنهم من يسمي هذا تلبيساً، ويقول: هذا للأنبياء، وربما قال: الفرق لأجل المارستان يصلح به العامة الذين هم كالمجانين، [و] (¬4) قد يقول هؤلاء: الكمال أن يكون الجمع في قلبك مشهوداً، والفرق في لسانك موجوداً، وأن يكون (¬5) باطنك حقيقة وظاهرك شريعة، ومنهم من يقول: الفرق بين هذه الأشياء الضرورية التي لا بد منها للإنسان بخلاف غيرها، ومنهم من يقول: هذا الفناء والاصطلام ليس هو الغاية، بل هو مقام عال (¬6) لا بد للسالك من سلوكه إياه، و [من] (¬7) لم يقم فيه لم يصل إلى حقيقة المعرفة (¬8). (وهذا غلط، فإن هذا من عوارض الطريق لا من لوزامه، فإن حاصله عدم شهود الحقائق) (¬9) على ما هي عليه، وهذا نوع من نقص الشهود والعلم ورؤية الأمر على ما هو عليه، ولكن هذا (¬10) يعرض لبعض المتوجهين إذا رأى أن الله خالق كل شيء يجمع في رؤيته هذا ولم يشهد الفرق، فإنه سبحانه وان خلق الأشياء كلها بمشيئته وقدرته؛ فقد أمر بطاعته ونهى عن معصيته؛ وهو يحب ما أمر به ويبغض ما نهى عنه، وهذا هو الفرق الشرعي ليس هو الفرق [الطبيعي] (¬11). وهذا الفرق فرض على كل مسلم لا يكون مؤمناً إلا به، وصاحب هذا ¬

_ (¬1) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل (الخير والشر)، وفي (ف) (الخير والتراب). (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (باء) (بالقيام). (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (الصلاح). (¬4) كذا في (ح)، وسقط من الأصل و (ف) و (د). (¬5) في (د) يكون (بدون نقط الياء). (¬6) في (ف) و (د) عالي. (¬7) في (د) و (ح)، وسقطت من الأصل و (ف). (¬8) في (د) و (ح) معرفة الحقائق. (¬9) ما بين القوسين سقط من (د). (¬10) (هذا) سقطت من (د). (¬11) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (الطبيعي).

أصل الغلط عدم إثبات الإرادة الشرعية

يشهد أن لا إله إلا الله، فيعلم أن الله هو المعبود دون ما سواه، وأنه أرسل الرسل يأمرون الناس بطاعته وينهونهم عن معصيته، ومن لم يشهد هاتين الشهادتين لم يكن مسلماً، وأما مجرد رؤية الله خالق كل شيء فهذا كان (¬1) يقر به المشركون عباد الأصنام , فمن وقف في الجمع لا يفرق بين مأمور ومحظور لم يكن مسلمًا فضلًا عن أن يكون وليًّا لله -تبارك وتعالى-، لكن هؤلاء يقولون نحن نثبت الفرق العائد إلى حظ الإنسان، بأن فعل المأمور سبب للثواب وفعل المحظور (¬2) سبب للعقاب، والثواب والعقاب حظ للعبد، والكامل الخالي [عن] (¬3) حظوظه الذي لا يريد إلا ما يريد ربه هو صاحب الفناء، وهو الذي لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، فالفرق لا يعود إلى الله ولا إلى صاحب الفناء. وأصل غلط هؤلاء [أنهم] (¬4) لم يثبتوا لله إلا الإرادة العامة المتناولة لكل مقدور (¬5) ومعلوم أنه لو كان الأمر كذلك لكان الفرق سببًا بالنسبة إلى الله، لكن هذا غلط من المثبت لملة إبراهيم ودين الرسل، كما قد بسط في غير هذا الموضع. وكثير من هؤلاء قد التبس عليهم هذا الموضع وهم متناقضون فيه، فإن الجمع العام لا يتصور أن يقوم فيه أحد دائماً، بل لا بد إن كان مسلمًا أن يوجب ما أوجبه الله ورسوله؛ ويحرم ما حرمه الله ورسوله، وإلا لم يكن مسلماً، فلا بد من فرق بحسب دينه، وإذ لم يكن له دين فرق بحسب هواه وطبعه، فمن لم يفرق فرقاً رحمانياً فرق فرقاً نفسانياً وشيطانياً، ومن لم يفرق فرقاً شرعياً فرق فرقاً [طبعياً] (¬6)، وقول أبي سعيد ابن الأعرابي ومن وافقه: إن هذا الفرق عين من عيون الجمع يتوهمون به أنهم قد خرجوا عن الجمع، وإنما هو [أحد] (¬7) عيون الجمع، يعني به -والله أعلم- أن شاهد الفرق ما ¬

_ (¬1) في (ف) (لما كان)، وفي (د) ما كان. (¬2) كذا في الأصل و (ح)، وفي (ف) و (د) المحذور. (¬3) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (من). (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (لأنهم). (¬5) والإرادة نوعان: إرادة كونية قدرية، وإرادة شرعية، وقد سبق بيان هذه المسألة. (¬6) كذا في (د) و (ف) و (ح)، وفي الأصل (طبيعياً). (¬7) كذا في (د) و (ح) , وفي الأصل و (ف) (حد).

مذهب القدرية والجهمية والجبرية في الإرادة

أمر الله به ونهى عنه مع مشاهدته بذلك، وتوحيد الإلهية بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومحبته لما أمر الله به وبغضه لما نهى الله عنه، فهو يشهد أن الله رب ذلك كله، وأنه الذي جعل المسلم مسلماً، وجعل آل إبراهيم أئمة يدعون إلى الخير، وآل فرعون أئمة يدعون إلى النار، فهو في هذا الفرق؛ يشهد الجمع، ويشهد -مع ما قام بقلبه من الفرق بين المأمور والمحظور- أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه هو الذي جعله يعبده ويطيعه، وهو المَانّ عليه بذلك، لا يكون كمن يشهد الفرق بين الطاعة والمعصية، ولم يشهد أن الله هو الذي مَنّ عليه بالطاعة ويسَّرها عليه. فشهود الجمع [بلا] (¬1) فرق يورث تعطيل الأمر والنهي، حتى لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، وشهود الفرق بلا جمع يورث تعطيل التوكل والشكر، وبورث العجب وتعظيم النفس، [وكلا] (¬2) هما نقص عما تحت الجمع من عبودية الله -تعالى- ومن تحقق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فلا بد من الفرق في عين الجمع، [ومن الجمع] (¬3) في شهود الفرق، وأيضًا فإن الله -تعالى- مع خلقه لكل شيء بمشيئه وقدرته؛ فهو يحب ما أمر به ويرضاه ويبغض ما نهى عنه ويسخطه، فلا بد مع شهود المشيئة العامة من شهود المحبة والرضا الخاص. وكثير من الناس القدرية [و] (¬4) الجهمية الجبرية ومن دخل معهم في التصوف جعلوا الإرادة نوعاً واحداً، وجعلوها هي المحبة والرضا، قالت القدرية: والله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، فيكون في ملكه ما لا يشاء ولم يخلقه، وقالت الجهمية: بل كل ما وقع فهو بمشيئة الله، والمشيئة هي الإرادة وهي المحبة والرضا؛ فكل ما وقع فإنه يحبه ويرضاه، ولكن يريد ويحب ويرضى المأمور به مأموراً به دينًا يثيبْ (¬5) عليه، ويريد ويحب ويرضى المنهي ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (بل). (¬2) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (كل). (¬3) كذا في (ت) , وسقطت من جميع النسخ. (¬4) سقطت الواو من جميع النسخ، وهي في (ط)، وما بعدها يدل على أن المؤلف يتكلم عن فرقتين. (¬5) في (ف) بدون نقط.

عنه منهياً عنه معاقباً عليه، فالفرق بينهما يعود إلى أنه يريد ويحب ويرضى أن يُنعّم (¬1) هؤلاء، ويعذب هؤلاء، من غير فرق يعود إليه، ولا يحب بعض المخلوقات ويبغض بعضًا؛ كما لا يشاء بعضها دون بعض، فعنده لا يحب بعض المخلوقات دون بعض. والجهمية الجبرية والقدرية المعتزلة ومن وافقهم مشتركون في أنه ليس بين المأمور والمحظور فرق يعود إلى الرب -تبارك وتعالى-، والقائلون بالجمع من غير فرق يشاركون هؤلاء، ورأوا أنه لا فرق بالنسبة إلى الرب؛ ولكن الفرق يعود إلى العبد من حيث إن أحد العملين يقتضي حصول لذة له، والآخر يقتضي حصول ألمٍ له، وهذا من حظوظ العباد. ثم قال غلاة هؤلاء: وهذا الفرق من العبد نقص؛ لأنه فرق يعود إلى نفسه؛ [فالعبد] (¬2) له سعيٌ في حظ النفس، وأما الكمال فهو أن يفنى العبد بمراداته (¬3) جملة ولا يبقى له حظ، وأن لا يشهد إلا ربه، وإرادة الرب -عز وجل- عندهم هي المشيئة المتناولة لكل شيء، وهي المحبة والرضا عندهم، ولهذا قالوا: إنه حينئذٍ لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة. ومعلوم بالاضطرار من دين الرسل أن هذا ليس بمجرد ولا حال الأنبياء والأولياء؛ بل هم متفقون على استحسان ما أحبه الله واستقباح [ما] (¬4) نهى الله عنه؛ والحب في الله والبغض في الله؛ وذلك أوثق عرى الإيمان (¬5)، فصار العالم منهم بخلق الله وأمره وشرعه وقدره؛ الذين يفرقون بين مشيئة الله ومحبته ¬

_ (¬1) في (د) (ينغم). (¬2) كذا في (د)، وفي الأصل و (ف) و (ح) فالعمل. (¬3) في (د) لمراداته. (¬4) كذا في (ف) و (د) و (ح) وفي الأصل (من). (¬5) يشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أوثق عرى الايمان الحب في الله والبغض في الله"، وقد أخرجه الطيالسي في مسنده 3/ 101 رقم 747 (طبعة دار المعرفة بيروت، مكتبة المعارف الرياض) عن البراء بن عازب واللفظ له، والإمام أحمد في المسند 4/ 286. وقد أعلّ الهيثمي طرق الحديث في مجمع الزوائد 1/ 89 - 90، وكذلك الدوسري في المنهج السديد ص 180 رقم 368 وقال بعد ذكر طرقه: فالحديث بمجموع هذه الطرق إلا الأخيرة أي (طريق حنش عن عكرمة عن ابن عباس لأن فيها متروكًا) حسن لغيره بلا ريب. أ. هـ.

الذين لا يثبتون إلا المشيئة العامة لا يقولون بالفرق الثاني

ورضاه كالجنيد ونحوه؛ يقولون بالفرق الثاني، والذين لا يثبتون إلا المشيئة العامة لا يقولون بالفرق الثاني، وآخرون يترددون فتارة يشهدون المشيئة العامة فقط ولا يقولون بالفرق، وتارة يثبتون محبة الله ورضاه فيقولون بالفرق الثاني، والقول بهذا الفرق لا ينافي الجمع العام، فإن مشيئة الله متناولة لكل شيء؛ وما وجد شيء محبوب ومكروه فالمشيئة متناولة له، فلهذا صار منهم من يقول: إن هذا الفرق عين من عيون الجمع، وأن أحدًا لا يخرج من الجمع الذي هو المشيئة العامة؛ فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإنما يرى الخروج من هذا المعتزلة ونحوهم من المكذبين بالقدر، القائلين إنه يكون في ملكه ما لا يشاء، وأنه لا يقدر على هدي ضال ولا ضلال مهتدٍ ونحو ذلك، وهؤلاء ضلوا في مسألة القدر كما ضلت بها المعتزلة، [فالمعتزلة] (¬1) كذبوا بالقدر رعاية للأمر والنهي، وهؤلاء أبطلوا الأمر والنهي رعاية (¬2) للقدر. وهؤلاء يحتجون بقصة آدم وموسى -عليهم السلام-، واحتجاجهم عليه بالقدر؛ هو (¬3) حجة داحضة، فإن الله -تعالى- عاتب إبليس وأهبط آدم من الجنة وأهلك قوم نوح وعاداً وثموداً وغيرهم، ولو كان القدر عذرًا لم يعاقب كافراً، وآدم -عليه السلام- تاب من الذنب فلو كان محتجًا بالقدر لم يتب. وصار آخرون يتكلمون على حديث موسى -عليه السلام- بتأويلات فاسدة، كقول بعضهم إن هذا الاحتجاج كان في غير دار التكليف كما ذكره هذا الضال، فيقال لهؤلاء: الاحتجاج بالقدر لا يسوغ في دار التكليف ولا غيرها (¬4)، فإنه قول باطل، وقول الباطل لا يسوغ بحال، وأيضًا فموسى قد لام آدم فكيف يقع الملام في غير دار تكليف؟ [وتناظرا] (¬5) وتحاجَّا ودار السلام منزهة عن الحجاج والخصام، وقال بعضهم: إنه كان أباه فما كان ينبغي له لوم أبيه، وقال: بعضهم كان تائبًا والتائب لا يلام، وقال: بعضهم كان الذنب في شريعة واللوم في أخرى، وهذا كله باطل، فإن الحديث فيه أن آدم احتج بالقدر، وقال: "لم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق؟ فحج آدم موسى". ¬

_ (¬1) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وسقطت من الأصل. (¬2) في (د) غاية. (¬3) في (د) زاد (واو) وهو. (¬4) في (د) وغيره. (¬5) كذا في (ف) و (د) و (ح)، وفي الأصل (فتناظرا).

وسبب هذا الغلط أنهم فهموا من الحديث أن آدم جعل القدر حجة للمذنب وهو غلط قبيح على من هو دون آدم وموسى فكيف عليهما؟ وهذا آدم يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1) [الأعراف: 23]، وموسى يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]، قول: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} (¬2) [الأعراف: 155]، وكيف يجوز أن يظن بمثل هذين النبيين الكريمين أنهما يجوِّزان هذا؛ وعوام الناس يعرفون أن هذا باطل، إلا من كان مصطلماً قد سلب حقيقة العقل، والذي يظن أن الله يسوي بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض، وبين المتقين والفجار، وبين المسلمين والمجرمين، فإن الجمع و (¬3) توحيد الربوبية يتناول هؤلاء كلهم، فإن لم يحصل مع ذلك فرق فالجمع بين أهل البر والتقوى (¬4)، ويشهد القلب [إلهية] (¬5) الرب التي يستحق لأجلها أن يعبد دون ما سواه وأن تطاع رسله كان مسويّاً (¬6) بين هؤلاء. ولكن نكتة الحديث أن موسى لام آدم لأجل المصيبة التي لحقت الذرية من أجله، فإنه بسبب ذلك خرجوا من الجنة وصاروا في دار الشقاء، ولهذا قال: "لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة"؟ وكان لومه له لأجل المصيبة التي أصابتهم لا لمجرد الذنب من جهة حق الله، كما يقول الولد لوالده الذي أذهب ماله حتى افتقر هو وأولاده: أنت الذي أذهبت هذا المال حتى صرنا فقراء واحتجنا إلى الناس، وأنت نقلتنا إلى بلاد الغربة ونحو ذلك، فقال له آدم: هذه المصيبة كانت مكتوبة عليك مقدرة قبل أن أخلق، هي وسببها وهو الذنب، فإنه كان مكتوباً علي قبل أن أخلق بأربعين سنة (¬7). ¬

_ (¬1) في (د): {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ...} الآية. (¬2) في (د): {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ...} الآية. (¬3) في (د) (في). (¬4) في الجملة ركاكه، وفي (ح) بياض بمقدار كلمتين. (¬5) كذا في (د) و (ح)، وفي الأصل (الإلهية)، وفي (ف) الأهية. (¬6) في (د) (مستويًا). (¬7) وللتوسع في شرح الحديث. انظر: شرح مسلم للنووي 16/ 440، وفتح الباري لابن حجر 11/ 623 - 626، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8/ 107 - 109، وشفاء العليل =

وجوب التسليم لله عند المصائب

والعبد مأمور عند المصائب بالتسليم لله -تعالى-، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم (¬1)، لهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت [كذا] (¬2) لكان كذا كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن [لو] (¬3) تفتح عمل الشيطان" (¬4)، وفي السنن عنه- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر فقل: حسبي الله، ونعم الوكيل" (¬5) , وقد قال تعالى لنبيه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]، فأمره بالصبر على المصائب، والاستغفار من الخطيئات. وكان الجنيد أفقه القوم وأعلمهم بالدين فلهذا بيّن الفرق الثاني، وأمر باتباع الأمر ولزوم الشرع ورعاية العلم، بخلاف (¬6) من لم يحقق هذا (¬7) الفرقان؛ واختطفه قدر فإنه قد يتعدى فيه إما حالًا وإما مآلاً، مثل (¬8) كثير من الشيوخ الغالطين في هذا الباب، ثم انضم إلى ذلك أنه لم يفرق بين إرادة الله ¬

_ = لابن القيم 2/ 45 وما بعدها، والقضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة للمحمود 276 - 278. (¬1) انظر: تفسير ابن جرير الطبري 12/ 115، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/ 139. (¬2) كذا في (د)، وفي (ح) (كذا وكذا)، وسقطت من الأصل و (ف). (¬3) كذا في (د) و (ح) وصحيح مسلم، وفي الأصل و (ف) (اللو). (¬4) أخرجه مسلم في (كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله -عز وجل-) 4/ 2052 برقم 2664 من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- واللفظ له. (¬5) أخرجه أبو داود في (كتاب الأقضية، باب الرجل يحلف على حقه) 4/ 44 رقم 3627 واللفظ له، وأحمد في المسند 6/ 25، والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 403 رقم 626، قال المنذري: أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال. انظر: عون المعبود 10/ 55، وقال النسائي في عمل اليوم والليلة ص 403: سيف لا أعرفه، قال محققه د. فاروق حمادة: سيف هو سيف الشامي وثقه العجلي وباقي رواة الحديث رجال مسلم. أ. هـ , وضعفه جاسم الدوسري في المنهج السديد ص 192 رقم 389، ونقل تحسين الحافظ ابن حجر للحديث في تخريج الأذكار. (¬6) في الأصل كرر الناسخ هذه الكلمة. (¬7) كذا في الأصل و (ف) و (ح)، وفي هامش الأصل (ظ. هذان)، وفي (د) (هذان). (¬8) في (ف) سئل.

ومحبته ورضاه؛ بل يرى أن جميع الحوادث خيرها وشرها بالنسبة إليه سواء صادرة عن تلك الإرادة (¬1)، وأنه لا يحب الحسنات ولا يرضاها إلا بمعنى ينعم أهلها؛ ولا يبغض السيئات ويسخطها إلا بمعنى تعذيب أهلها، ورأى أن هذا فرق يعود إلى المخلوق لا إلى الخالق، فهذا رأى أن في كمال العبودية فناء عن إرادته؛ وأنه لا يريد إلا ما يريده الحق؛ وعنده ليس له إرادة إلا هذه، لزم من هذا أنه لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ما دام هذا الفناء، لكن دوامه فيه ممتنع لأن العبد مجبول على حب ما يلائمه وبغض ما ينافيه، فإن لم يشهد ما [يتصف] (¬2) به الرب من الحب والبغض والرضى والسخط، فيحب (¬3) ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه (¬4)، ويرضى ما يرضاه، ويسخط ما يسخطه الله، وإلا فرق باعتبار نفسه، فيحب ويبغض لمجرد ذوقه ووجده وحبه وبغضه؛ لا بحب الله وبغضه وأمره ونهيه، فإن هذه الحقيقة تخالف (¬5) الشريعة، ويجعلون القيام بها لأجل [الظاهرة] (¬6) والعامة، لا من حقيقة شهودها الخاصة ويسمون هذا تلبيساً؛ وهو مقام الأنبياء، وهذا من أغاليط كثير من الشيوخ، وهو في الحقيقة خروج عن ملة إبراهيم وغيره من الرسل، وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: شرح المقاصد للتفتازاني 4/ 274 - 278 حيث وضح مذهب الأشاعرة والمعتزلة. (¬2) كذا في (د) وفي الأصل و (ف) و (ح) (ينسب). (¬3) في (د) (فيجب) بالجيم. (¬4) سقط لفظ الجلالة من (ف) و (د). (¬5) في (د) يخالف. (¬6) كذا في (د) والأصل، لكن في الأصل شطب عليها، وصححت في الهامش (الخاصة)، وفي (ف) الخاصة. (¬7) انتهى الكتاب في جميع النسخ، وما بعده كلام الناسخ، وفي الأصل: وهذ آخر ما وجدت من "كتاب الاستغاثة" لابن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه- وكان الفراغ من نسخه عصر الخميس لأربعة عشر خلت من ربيع الثاني من شهور عام سنة 1284، بقلم الفقير إلى ربه القدير محمد بن عثمان بن يحيى -غفر الله له ولوالديه وإخوانه المؤمنين- والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وفي (ف): وهذا آخر ما وجدت من "كتاب الاستغاثة" لشيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه وأدخله الجنة بغير حساب-، وكان الفراغ من نسخه يوم الأربعاء خامس يوم من جماد أول سنة 1319، على يد الفقير إلى ربه المقر بالذنب والتقصير عبده بن عبده صالح بن موسى بن صالح بن موسى بن مرشد -غفر الله له ولوالديه ولإخوانه وذريته وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات آمين- وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. وفي (د): وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم سنة 1326.

الخاتمة

الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والرسل وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: فلقد أمضيت فترة من الزمن في تحقيق هذا الكتاب "كتاب الاستغاثة في الرد على البكري"، للإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، الذي رد به على أحد القبورية المعاصرين له. وفي نهاية هذا التحقيق لا بد من وقفة نعرض فيها لمعالم الكتاب في النقاط التالية: 1 - هذا الكتاب في بيان التوحيد؛ الذي جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ونفي الشرك عن الصمد المجيد. 2 - هو جزء من جهود شيخ الإسلام ابن تيمية العلمية والعملية في الرد على أهل البدع، والذب عن العقيدة الصحيحة، وهو أيضاً جزء من ردود علماء أهل السنة والجماعة. 3 - يرسم لنا هذا الكتاب منهجًا علمياً لردود أهل السنة على المبتدعة، والتي تتميز بالعدل والإنصاف، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإخلاص في النصح للخصم مهما كانت خصومته، بل ومحبة الخير والتوفيق والهداية له. 4 - ويقابل هذا المنهج منهج أهل البدعة، والذي يتميز بالكذب على المخالف، وطلب العلو في الأرض بغير الحق، وتكفير المخالف وإن كان محقاً. 5 - التوحيد الذي جاءت به الرسل هو توحيد الإلهية، وفيه كان النزل

بين الرسل وأممهم، وقد أخطأ من ظن أن توحيد الربوبية يكفي للنجاة من النار ودخول الجنة. 6 - التوحيد الذي يعرفه أهل الكلام ومن شايعهم من الصوفية وغيرهم هو توحيد الربوبية، أقرَّ به مشركو العرب في الجاهلية، وقد أدى هذا الفهم الخاطئ للتوحيد إلى وقوع كثير منهم في الشرك ووسائله. 7 - التكفير حق لله -تعالى-، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، فلا يحق لأحدٍ أن يكفر من كفره. 8 - بدع القبور والمشاهد لم تعرف في القرون الفاضلة، وقد ظهرت عند الرافضة في آخر القرن الثالث الهجري، ثم انتشرت عن طريق الطرق الصوفية، الذين نقلوا هذه البدع ودعاويها الباطلة من الرافضة وغيرهم، كما أثبت المؤلف في هذا الكتاب. 9 - هذا الكتاب ليس رداً على شخص البكري، بل هو رد على طوائف من الغلاة، كثير عددهم واسع انتشارهم، وهم عند كثير من الناس مشايخ الإسلام وسادة الأنام، وأهل التحقيق والتوحيد. 10 - القبورية أو عبَّاد القبور أو المقابرية، نسبة للقبور، وهم كل طائفة جاوزت الحد في تعظيم القبور، وهم في كثير من الأمم؛ فمقل ومستكثر، وسلفهم قوم نوح -عليه السلام-. 11 - القبورية من أخطر الطوائف على الإسلام وأهله، وقد جمعوا شرك الطوائف؛ فأشركوا في توحيد الأسماء والصفات وفي توحيد الربوبية والإلهية. وهم أشد وثنية من مشركي العرب، وأكثر خضوعاً للأموات من خالق البريات. 12 - خيانة القبورية للأمة الإسلامية في الشدائد والمحن، مثل موقفهم مع التتار فقد لاذوا بالقبور، بل إن منهم من عد التتار من أولياء الله، وكذلك فعل معاصروهم مع المحتلين للبلاد الإسلامية في العصر الحديث. 13 - تخويف القبورية لكل ناه لهم عن الشرك وآمر لهم بالتوحيد، كما فعل أسلافهم من الأمم المكذبة للرسل -عليهم السلام-، وكذلك فعلوا مع المؤلف وأجلبوا عليه بخيلهم ورَجِلِهم؛ ولكن الله رد كيدهم في نحورهم وجعل الدائرة عليهم.

14 - إن القبورية يسمون عقائدهم الفاسدة بأسماء برَّاقة، فسموا الشرك بالله -تعالى- تعظيمًا للأولياء والصالحين؛ والاستغاثة بغير الله توسلاً؛ وادعاء علم الغيب مكاشفة، إلى غير ذلك من الدعاوى الباطلة. 15 - القبورية أعظم الناس إيذاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتسليط العامة عليه لطلب الحاجات منه، وحاجاتهم لا تنضبط؛ ولا حد لها. 16 - بدع القبورية أُخذت من فلاسفة اليونان، وممن أخذ عنهم ممن سموا بفلاسفة الإسلام وأهل الكلام، فهم (أي فلاسفة اليونان) قبورية. وكذلك من الرافضة الذين أصل دينهم تقديس الأئمة وعبادتهم، ومن أهل الأديان السابقة، كتابيِّهم ووثنيِّهم. 17 - الاستغاثة بالأموات من أهم عقائد القبورية عندهم، وقد يسمونها -تلبيسًا على من لم يعرف حقيقة أمرهم- استمداداً أو توسلاً أو غير ذلك، وهذه التسميات لا تعرف في لغة العرب ولم يسبقهم أحد بهذه التسميات. 18 - جواز الاستغاثة بالإنسان الحي الحاضر فيما يقدر عليه، لا ينازع فيه أحد، أما الاستغاثة بالأموات أو بالقبور أو بالأحياء فيما هو من خصائص الرب تبارك وتعالى فهو شرك بالله -عز وجل-. 19 - تلاعب الشياطين بالقبورية، وإجابة بعض مطالبهم؛ لإضلالهم وفتنتهم؛ وما يحدث عند القبور هو من جنس ما يحدث عند الأصنام سواء بسواء. 20 - اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيان التوحيد، وحماية جنابه وسد ذرائع الشرك ووسائله، كما صحت بذلك الأخبار. 21 - معرفة أماكن القبور ليست من الدين الذي تكفل الله بحفظه، ولذا ثبت كذب كثير من، المشاهد التي يعظمها الجهلة، مثل مشهد رأس الحسين، وقبر نوح، وقبر أبيّ بن كعب وغيرها. 22 - إجماع العلماء في عصر المؤلف على موافقته في منع الاستغاثة بغير الله وهو الثقة فيما ينقل، وللعلماء من المذاهب الأربعة جهود طيبة في الرد على هذا الشرك. 23 - النهي عن الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لتحقيق العموم، وأن من دونه أولى

بالنهي، وليس فيها تنقص له - صلى الله عليه وسلم -، بل هو من أحسن الكلام. 24 - رواج الأحاديث الموضوعة والقصص المكذوبة عند القبورية والروافض وغيرهم من أهل البدع، وقد ذكر المؤلف طائفة منها. 25 - لا يجوز الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي عليه الجمهور عدم انعقاد اليمين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز الإقسام به على الله تعالى. 26 - البناء على القبور وتزيينها وتطييبها حدث في دول الرافضة كدولة العبيدين والدولة البويهية، بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وانتشرت بعد ذلك تلك البدع نتيجة الجهل بآثار الرسالة. 27 - أعظم وسيلة لمعالجة ضلال القبورية هو بيان السنة للمسلمين في كل مكان وبمختلف الوسائل، وبيان كذب الأحاديث التي يعتمدون عليها، والقصص المكذوبة التي يذكرونها، وبيان حقيقة دين القبورية ومخالفتهم لأصول الإسلام. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع - أ - 1 - الآيات البينات في عدم سماع الأموات، تأليف نعمان الألوسي، ت. الألباني، ط. الرابعة 1405 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 2 - أحكام الجنائز وبدعها للألباني، ط. الأولى 1412 هـ , الناشر مكتبة المعارف الرياض - السعودية. 3 - الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، تعليق عبد الرزاق عفيفي، ط. الثانية 1402 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 4 - الاختيار لتعليل المختار، تأليف عبد الله الموصلي الحنفي، تعليق محمود أبو دقيقة، ط. الثالثة 1395 هـ، الناشر دار المعرفة. 5 - أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، تأليف محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي، ت. محمد نظام الدين، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر دار ابن كثير دمشق، بيروت. 6 - أصول الفقه، تأليف د. محمود أبو النور زهير، ط. 1412 هـ الناشر المكتبة الأزهرية للتراث - القاهرة. 7 - أصول مذهب الشيعة الإمامية، تأليف د. ناصر القفاري، ط. الثانية 1415 هـ. 8 - الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، تأليف عمر بن علي البزار، ت. زهير الشاويش، ط. الثالثة 1400 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 9 - الأعلام، تأليف خير الدين الزركلي، ط. العاشرة 1992 م، الناشر دار العلم للملايين بيروت - لبنان. 10 - أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى ج 8. 11 - آكام المرجان في عجائب وغرائب الجان، تأليف بدر الدين الشبلي، ط. الأولى 1408 هـ، الناشر المكتبة العصرية بيروت - لبنان. 12 - الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي، ت. مصطفى عاشور، الناشر مكتبة القرآن - القاهرة. 13 - الأموال لأبي عبيد بن سلام، ت. محمد خليل هراس، ط. الأولى 1406 هـ. 14 - أهوال القبور في أحوال أهلها إلى النشور، لابن رجب، ط. 1357 هـ , مطبعة أم القرى مكة المكرمة.

15 - أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف محمد الشيباني، ط. الأولى 1409 هـ، الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة. 16 - أول واجب على المكلف، تأليف الشيخ عبد الله الغنيمان، ط. الأولى 1410 هـ, الناشر مكتبة لينة دمنهور - مصر. 17 - أولياء الله بين المفهوم الصوفي والمنهج السني السلفي، تأليف عبد الرحمن دمشقية، ط. الأولى 1413 هـ, الناشر الدار العالمية للكتاب الإسلامي الرياض - السعودية. 18 - الأولياء لابن أبي الدنيا، ت. مجدي السيد إبراهيم، الناشر مكتبة القرآن القاهرة ومكتبة الساعي الرياض - السعودية. 19 - إتحاف الأذكياء بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء، تأليف عبد الله بن محمد الحسيني، ط. الثانية 1405 هـ. 20 - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (صحيح ابن حبان)، لعلاء الدين علي بن بلبان، ت. شعيب الأرنؤوط، ط. الأولى 1412 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 21 - إرشاد السالك إلى أفعال المناسك لابن فرحون المالكي، ت. محمد الهادي، ط. الثلاثية الرابعة لسنة 1988 م، الناشر وزارة الثقافة والأعلام بتونس. 22 - إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل، تأليف سليمان بن سحمان الحنبلي، ت. عبد السلام بن برجس، النشرة الأولى 1409 هـ الناشر، دار العاصمة الرياض. 23 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية، ت. د. ناصر العقل، ط. الثالثة 1413 هـ , الناشر مكتبة الرشد - الرياض. 24 - الإلحادية لأبي إسلام مصطفى سلامة، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر دار التقوى ومكتبة خالد بن الوليد عمان - الأردن. 25 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل، تأليف علاء الدين علي بن سليمان المرداوي، ت. دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان. 26 - إيثار الحق على الخلق، لابن المرتضى اليماني، ط. مكتبة ابن تيمية القاهرة، ومكتبة العلم جدة. 27 - الابتهاج بأذكار المسافر والحاج للسخاوي، ت. رضوان محمد رضوان، ط. الأولى 1371 هـ , الناشر دار الكتاب - مصر. 28 - ابن تيمية السلفي، تأليف محمد خليل هراس، ط. الأولى 1404 هـ, الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 29 - ابن سبعين وفلسفته الصوفية، تأليف د. أبو الوفا الغنيمي التفتازانى، ط. الأولى 1973 م، الناشر دار الكتاب اللبناني بيروت - لبنان. 30 - إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، ط. 1356 هـ, لجنة نشر الثقافة الإسلامية وبذيله تخريج الإحياء.

31 - إخوان الصفا تأليف عمر الدسوقي، ط. الثالثة، الناشر دار النهضة القاهرة - مصر. 32 - الأدب المفرد، تأليف محمد بن إسماعيل البخاري، ترتيب كمال يوسف الحوت، ط. الثانية 1405 هـ , الناشر عالم الكتب بيروت - لبنان. 33 - الأذكار، تأليف محيي الدين يحيى بن شرف النووي، ت. عبد القادر الأرنؤوط، ط. الثانية 1409 هـ، الناشر دار الهدى الرياض. 34 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لأبي المعالي الجويني، ت. أسعد تميم، ط. الأولى 1405 هـ , الناشر مؤسسة الكتب الثقافية بيروت - لبنان. 35 - الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد، تأليف الشيخ سليمان بن سحمان، ط. الثانية 1376 هـ بأمر الملك سعود - رحمه الله -. 36 - الاستذكار لابن عبد البر، ت. علي ناصف النجدي، ط. إحياء التراث الإسلامي الجمهورية العربية المتحدة. 37 - الاستقامة لابن تيمية، ت. د. محمد رشاد سالم، ط. الثانية 1409 هـ الناشر مكتبة السنة القاهرة - مصر. 38 - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، تأليف نور الدين علي بن محمد بن سلطان المشهور ملا علي القاري، ت. د. محمد لطفي الصباغ، ط. الثانية 1406 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت. 39 - أسماء الله وصفاته في معتقد أهل السنة والجماعة، تأليف د. عمر بن سليمان الأشقر، ط. الثانية 1414 هـ , الناشر دار النفائس عمان الأردن. 40 - الأسماء والصفات لأبي بكر البيهقي، ت. عماد الدين أحمد حيدر، ط. الأولى 1415 هـ دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 41 - أسماء ومؤلفات ابن تيمية، تأليف ابن القيم، ت. د. صلاح المنجد، ط. الثالثة 1976 م. 42 - الإصابة في تمييز الصحابة، تأليف أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت. علي محمد البجاوي، مطبعة نهضة مصر الفجالة القاهرة. 43 - اصطلاحات الصوفية، تأليف كمال الدين عبد الرزاق الكاشي السمرقندي، ط. سلسلة إشاعة العلو - القاهرة. 44 - إصلاح المساجد من البدع والعوائد، تأليف محمد بن جمال الدين القاسمي تخريج وتعليق الألباني، ط. الرابعة 1403 هـ, الناشر المكتب الإسلامي بيروت. 45 - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، تأليف الإمام محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، ت. محمد عفيفي، ط. الثانية 1409 هـ, الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان، ومكتبة الخاني الرياض - السعودية. 46 - الإغاثة بأدلة الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، تأليف حسن علي السقاف، ط. الأولى 1410 هـ، الناشر مكتبة الإمام النووي عمان - الأردن. 47 - الإيضاح في المناسك للنووي، ط. الثانية 1406 هـ.

-ب-

- ب - 48 - الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة، ت. عادل عبد المنعم الناشر مكتبة الساعي - الرياض. 49 - بدائع الفوائد لابن القيم، ت. بشير عيون، ط. الأولى 1415 هـ , الناشر مكتبة المؤيد الرياض - السعودية. 50 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تأليف محمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد (الحفيد)، ط. مكتبة الرياض الحديثة الرياض - السعودية. 51 - البداية والنهاية، تأليف إسماعيل بن كثير، ت. أحمد فتيح، ط. الأولى 1413 هـ الناشر دار الحديث القاهرة - مصر. 52 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، تأليف محمد بن علي الشوكاني، ط. الأولى 1348 هـ , الناشر مطبعة السعادة - مصر. 53 - البدع والنهي عنها لابن وضاح، ط. الثانية 1402 هـ، الناشر دار الرائد العربي بيروت - لبنان. 54 - بيت الصديق، تأليف محمد بن توفيق البكري، ط. 1323 هـ، الناشر مكتبة المؤيد - القاهرة. - ت - 55 - تأويل مختلف الحديث لأبي محمد عبد الله مسلم بن قتيبة، ت. محمد محيي الدين الأصفر، ط. الأولى 1409 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت ودار الإشراق بيروت - لبنان. 56 - تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، تأليف محمد بن جرير الطبري، ط. الثالثة 1411 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 57 - تاريخ الجهمية والمعتزلة، تأليف جمال الدين القاسمي، ط. الثالثة 1405 هـ الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 58 - تاريخ الخلفاء، تأليف جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت. محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. الأولى 1383 هـ , الناشر مطبعة المدني القاهرة. 59 - تاريخ الفلسفة اليونانية، تأليف يوسف كرم، ط. دار القلم بيروت - لبنان. 60 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ط. الأولى 1409 هـ , الناشر مكتبة الخانجي القاهرة والمكتبة العربية بغداد. 61 - تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب، تأليف محمد لطفي جمعة، الناشر المكتبة العلمية. 62 - تاريخ مدينة دمشق، تأليف ابن عساكر، ت. د. شكري فيصل، سكينة الشهابي، ومطاع الطرابيشي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. 63 - التعريفات، تأليف علي الجرجاني، ط. الثالثة 1408 هـ, الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.

64 - تحفة الأحوذي للمباركفوري تصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، ط. الثانية 1384 هـ مطبعة الجفالة الجديدة - مصر. 65 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، تأليف جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي، صححه وعلق عليه عبد الصمد شرف الدين، ط. الأولى 1403 هـ الدار القيمة بومباي - الهند مع النكت الظراف على الأطراف لابن حجر. 66 - تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس، تأليف عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ ت. عبد السلام بن برجس، ط. الأولى 1408 هـ الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. 67 - التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية للشيخ فالح آل مهدي تصحيح د. عبد الرحمن المحمود، ط. الأولى 1414 هـ، الناشر دار الوطن الرياض - السعودية. 68 - تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد، تأليف فريح البهلال، ط. الأولى 1415 هـ , الناشر دار الأثر الرياض - السعودية. 69 - تذكرة الموضوعات، تأليف محمد طاهر بن علي الهندي 1399 هـ , ط. الناشر دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان وفي ذيلها قانون الموضوعات الضعفاء. 70 - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي، ت. د. السيد الجميلي، الناشر دار ابن زيدون بيروت - لبنان، ومكتبة مدبولي القاهرة - مصر. 71 - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض ت. أحمد بكير، ط. دار مكتبة الحياة بيروت - لبنان. - طبعة أخرى: ت. سعيد إعراب، ط. الأولى، مطبعة فضالة المحمدية بالمغرب. 72 - الترغيب والترهيب للمنذري، ضبط وتعليق مصطفى عمارة، ط. 1401 هـ، الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 73 - التصوف المنشأ والمصادر، تأليف إحسان إلهي ظهير، ط. الأولى 1406 هـ , الناشر إدارة ترجمان السنة لاهور - باكستان. 74 - التعرف لمذهب أهل التصوف، تأليف محمد بن إسحاق الكلاباذي، ضبط وتخريج أحمد شمس الدين، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 75 - تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس لابن حجر العسقلاني، ت. د. أحمد المباركي، ط. الثانية 1414 هـ. 76 - تغليق التعليق على صحيح البخاري، تأليف أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت. سعيد عبد الرحمن موسى القزفي، ط. الأولى 1405 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت - دمشق، ودار عمار عمان - الأردن. 77 - تفسير الفخر الرازي المشتهر بـ "التفسير الكبير ومفاتيح الغيب"، تأليف فخر الدين محمد بن عمر الرازي، ط. 1410 هـ , الناشر دار الفكر - بيروت. 78 - تفسير القرآن العظيم، تأليف ابن كثير، ط 1403 هـ، الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان.

-ج-

79 - تقريب التهذيب، تأليف ابن حجر العسقلاني، ت. مصطفى عبد القادر عطا، ط. الأولى 1413 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 80 - تقريب الوصول إلى علم الأصول لأبي القاسم محمد الغرناطي، ت. د. محمد المختار الشنقيطي، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة، ومكتبة العلم جدة. 81 - التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، لزين الدين العراقي، ت. عبد الرحمن محمد عثمان، ط. الأولى 1389 هـ , الناشر المكتبة السلفية المدينة المنورة - السعودية. 82 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر، ت. عبد الله صديق. 83 - تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدارسي والحلبى، تأليف أحمد بن عيسى، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر مكتبة لينه دمنهور - مصر. 84 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، تأليف الملطي ت. يمان المياديني، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر رمادي الدمام - السعودية. 85 - تهافت الفلاسفة للغزالي، ت. د. سليمان دنيا، ط. السادسة، الناشر دار المعارف القاهرة - مصر. 86 - التوحيد وإثبات صفات الرب - عز وجل - لابن خزيمة، ت. د. عبد العزيز الشهوان، ط. الثالثة 1414 هـ , الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. 87 - التوحيد ومعرفة أسماء الله - عز وجل - وصفاته على الاتفاق والتفرد لابن منده، ت. د. علي الفقيهي، ط. الثانية 1414 هـ , الناشر مكتبة الغرباء الأثرية المدينة المنورة - السعودية. 88 - التوسل أنواعه وأحكامه للألباني، تنسيق محمد عيد العباسي، ط. الخامسة 1406 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 89 - التوصل إلى حقيقة التوسل المشروع والممنوع، تأليف محمد نسيب الرفاعي، ط. الثالثة 1399 هـ. 90 - التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تأليف سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ط. الأولى 1404 هـ , الناشر دار طيبة الرياض - السعودبة. - ج - 91 - جامع البيان في تأويل القرآن (تفسير الطبري)، تأليف محمد بن جرير الطبري، ط. الأولى 1412 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 92 - جامع الترمذي، تأليف محمد بن عيسى الترمذي، عناية د. بدر الدين جنتن آر، ط. الثانية 1413 هـ الناشر دار سحنون - تونس. 93 - جامع العلوم والحكم، تأليف ابن رجب، ت. شعيب الأرنؤوط وإبراهيم باجس، ط. الثالثة 1412 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان.

-ح-

94 - الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي، ط. الثانية 1372 هـ (لم يذكر الناشر) تصحيح أحمد البردوني شاركه في التصحيح بعد المجلد الرابع إبراهيم طفيش وآخرون. 95 - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي، ط. الأولى 1372 هـ , الناشر مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - الهند. 96 - جزء في عقيدة ابن عربي وحياته من كتاب العقد الثمين لتقي الدين الفاسي، عناية علي حسن عبد الحميد، ط. الثانية 1413 هـ , الناشر دار ابن الجوزي الدمام - السعودية. 97 - جزء منتقى من حديث ولي الدين العراقي، ت. حمدي عبد المجيد السلفي - مجلة الحكمة العدد الخامس في شهر شوال 1415 هـ. 98 - جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، تأليف شمس الدين الأفغاني، ط. الأولى 1416 هـ , الناشر دار الصميعي الرياض. - ح - 99 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم، ت. علي الشربجي وقاسم نوري، ط. الأولى 1412 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 100 - حاشية الروض المربع شرح زاد المستنقع، جمع عبد الرحمن بن قاسم النجدي، ط. الثانية 1403 هـ. 101 - الحاوي للفتاوي، تأليف جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ط. دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 102 - الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة إملاء قوام السنة الأصبهاني، ت. محمد ربيع المدخلي، ط. الأولى 1411 هـ، الناشر دار الراية الرياض - السعودية. 103 - حديث الإفك، تأليف عبد الغني المقدسي، ت. هشام السقا، ط. 1405 هـ, الناشر دار عالم الكتب الرياض - السعودية. 104 - حسن المحاضرة، تأليف جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ت. محمد إبراهيم، ط. الأولى 1387 هـ , ط. عيسى البابي الحلبي. 105 - حقيقة الجن والشياطين، تأليف محمد علي السيدابي، ط. الأولى 1407 هـ , الناشر دار الحارث الخرطوم - السودان. 106 - الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، تأليف د. محمد ربيع المدخلي، ط. الأولى 1409 هـ , الناشر مكتبة لينة دمنهور. 107 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني، ط. الخامسة 1407 هـ دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 108 - الحوادث والبدع لأبي بكر الطرطوشي، ت. علي حسن عبد الحميد، ط. الأولى 1411 هـ، الناشر دار ابن الجوزي الدمام.

-خ-

109 - حياة الأنبياء بعد وفاتهم للبيهقي، ت. د. أحمد الغامدي، ط. الأولى 1414 هـ الناشر مكتبة العلوم والحكمة المدينة المنورة - السعودية. - خ - 110 - ختم الولاية، تأليف الحكيم الترمذي، ت. عثمان إسماعيل يحيى، ط. المطبعة الكاثوليكية بيروت - لبنان. 111 - الخضر وآثاره بين الحقيقة والخرافة، تأليف أحمد الحصين، ط. الأولى 1407 هـ , والناشر دار البخاري بريدة - السعودية. 112 - خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل، تأليف محمد بن إسماعيل البخاري، ط. الأولى 1404 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 113 - خوارق العادات، تأليف مجدي محمد الشهاوي، الناشر مكتبة الفرات القاهرة - مصر. - د - 114 - دائرة المعارف الإسلامية، تأليف مجموعة من المستشرقين، ترجمها للعربية أحمد الشنتناوي، إبراهيم خورشيد، عبد الحميد يونس راجعها د. محمد مهدي علام، الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان. 115 - دائرة معارف القرن العشرين، تأليف محمد فريد وجدي، ط. الثانية 341، مطبعة دائرة معارف القرن العشرين. 116 - دحض شبهات على التوحيد من الفهم لثلاثة أحاديث، تأليف عبد الله أبا بطين الحنبلي، ت. عبد السلام بن برجس، ط. الأولى 1406 هـ. 117 - الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد للإمام الشوكاني، ت. أبي عبد الله الحلبىِ، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر دار ابن خزيمة الرياض. 118 - الدر النضيد في تخريج كتاب التوحيد، تأليف صالح العصيمي، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر دار ابن خزيمة الرياض - السعودية. 119 - درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ت. د. محمد رشاد سالم، ط. دار الكنوز الأدبية. 120 - دراسات في التصوف، تأليف إحسان إلهي ظهير، ط. الأولى 1409 هـ الناشر إدارة ترجمان السنة لاهور - باكستان. 121 - دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين، تأليف د. أحمد جلي، ط. الثانية 1408 هـ الناشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الرياض - السعودية. 122 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني، ط. دار الجيل بيروت - لبنان. 123 - دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقد، تأليف عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، ط. الأولى 1412 هـ, الناشر دار العاصمة - الرياض.

-ذ-

124 - الدعوات الكبير لأبي بكر البيهقي، ت. بدر البدر، ط. الأولى 1409 هـ الناشر مركز المخطوطات والتراث والوثائق - الكويت. 125 - دعوة التوحيد، تأليف د. محمد خليل هراس، ط. الأولى 1406 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 126 - دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، ت. د. محمد رواس وعبد البر عباس، ط. الثالثة 1412 هـ, الناشر دار النفائس بيروت - لبنان. 127 - دلائل النبوة للبيهقي، ت. د. عبد المعطي قلعجي، ط. الأولى 1405 هـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 128 - ديوان أمية بن أبي الصلت جمع بشير يموت، ط. الأولى 1934 م، الناشر المكتبة الأهلية بيروت - لبنان. 129 - ديوان الأمير الصنعاني للإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني قدم له وأشرف على طبعه علي السيد صبح المدني، ط. الأولى 1384 هـ, مطبعة المدني القاهرة على نفقة الشيخ علي عبد الله آل ثاني. 130 - ديوان البوصيري، لأبي عبد الله محمد بن سعيد البوصيري: ت. محمد سيد كيلاني، ط. الأولى 1374 هـ , الناشر مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. 131 - ديوان المتنبي، ط. 1403 هـ، الناشر دار صادر بيروت. 132 - ديوان عبد الله بن رواحة ودراسة في سيرته وشعره، جمع د. وليد قصاب، ط. الأولى 1402 هـ دار العلوم. - ذ - 133 - ذيل طبقات الفقهاء الشافعيين للعبادي، ت. د. أحمد عمر هاشم ود. محمد زينهم، ط. المكتبة الثقافية الدينية بورسعيد - مصر. 134 - الذيل على طبقات الحنابلة، تأليف ابن رجب تصحيح محمد حامد الفقي، ط. 1372 هـ , مطبعة السنة المحمدية القاهرة. 135 - ذيول العبر في خبر من غبر، تأليف شمس الدين محمد الذهبي ت. أبي هاجر محمد السعيد زغلول، ط. الأولى 1405 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. - ر - 136 - رأس الحسين لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى ج 27. 137 - الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية لابن حجر العسقلاني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية تصحيح إدارة الطباعة المنيرية، ط. 1343 هـ , الناشر مكتبة طيبة الرياض. 138 - الرد على الأخناني لابن تيمية بهامش الرد على البكري، ط. 1346 هـ. 139 - الرد على الجهمية للإمام عثمان بن سعيد الدارمي، تخريج وتعليق بدر البدر، ط. الأولى 1405 هـ , الناشر الدار السلفية حولي - الكويت.

140 - الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد، ت. د. عبد الرحمن عميرة، ط. الثانية 1402 هـ , الناشر دار اللواء الرياض - السعودية. 141 - الرد على شبهات المستغيثين بغير الله، تأليف أحمد بن إبراهيم بن عيسى ضمن الجامع الفريد، ط. الثانية على نفقة عبد العزيز ومحمد الجميح. 142 - رسائل إخوان الصفا المقدمة لبطرس البستاني، ط. 1376 هـ , الناشر دار صادر بيروت - لبنان. 143 - الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي، ت. أحمد شاكر، ط. دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 144 - رسالة الشرك ومظاهره، تأليف مبارك محمد الميلي، ط. الأولى 1409 هـ الناشر مكتبة الإيمان الاسكندرية - مصر. 145 - الرسالة القشيرية، تأليف عبد الكريم القشيري، ت. د. عبد العليم محمود ومحمود الشريف. 146 - رسالة في وجوب التوحيد، تأليف محمد علي الشوكاني، ت. د. محمد ربيع مدخلي، ط. الأولى 1412 هـ الناشر دار المنار القاهرة - مصر. 147 - الرسل والرسالات، تأليف د. عمر بن سليمان الأشقر، ط. الرابعة 1410 هـ الناشر مكتبة الفلاح ودار النفائس الكويت. 148 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، تأليف الألوسي البغدادي، الناشر مكتبة دار التراث - القاهرة. 149 - الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية، تأليف الحسن بن عبد المحسن المشهور بأبي عذبة، ت. د. عبد الرحمن عميرة، ط. الأولى 1409 هـ الناشر عالم الكتب بيروت - لبنان. 150 - روضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي، أشرف على طبعه زهير الشاويش، ط. الثانية 1405 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 151 - روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد، تأليف موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي، ت. عبد الكريم النملة، ط. الأولى 1413 هـ. 152 - زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، ت. شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، ط. الخامسة والعشرون 1412 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة - بيروت ومكتبة المنار الكويت. 153 - الزهد الكبير للبيهقي، ت. د. تقي الدين الندوي، ط. الثانية 1403 هـ الناشر دار القلم الكويت. 154 - الزهر النضر في نبأ الخضر، تأليف ابن حجر العسقلاني ضمن مجموعة الرسائل المنبرية، ط. مكتبة طيبة الرياض - السعودية. 155 - الزواجر عن اقتراف الكبائر، ويليه كف الرعاع والإعلام بقواطع الإسلام، تأليف أبي العباس أحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي، الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان 1402 هـ.

-س-

- س - 156 - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها، تأليف محمد ناصر الدين الألباني، ج 1 وج 2 , ط. الرابعة 1405 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت، ج 5، ط. الأولى 1412 هـ الناشر مكتبة المعارف الرياض. 157 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، تأليف العلامة محمد ناصر الدين الألباني، ج 1, ط الخامسة 1405 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت، ج 2، ط. الرابعة 1408 هـ الناشر مكتبة المعارف الرياض. 158 - سنن أبي داود , تأليف سليمان بن الأشعث السجستاني، عناية د. بدر الدين جنتن آر, ط. الثانية 1413 هـ، الناشر دار سحنون - تونس. - طبعة أخرى ت. محمد عبد الحميد محيي الدين. 159 - سنن ابن ماجه , تأليف محمد بن يزيد بن ماجه، ت. د. محمد الأعظمي، ط. الأولى 1403 هـ , الناشر شركة الطباعة العربية السعودية - الرياض. 160 - سنن الدارقطني , تأليف علي بن عمر الدارقطني، تصحيح عبد الله هاشم يماني المدني , ط. دار المحاسن للطباعة القاهرة، وبذيله التعليق المغني على الدارقطني لأبي الطيب محمد شمس الحق آبادي. 161 - سنن الدارمي , تأليف عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عناية وتعليق د. بدر الدين جنتن آر , ط. الثانية 1413 هـ , الناشر دار سحنون - تونس. 162 - السنن الكبرى لأبي بكر أحمد البيهقي وبذيله الجوهر النقي لابن التركماني، ط. دار المعرفة بيروت ـ لبنان. 163 - سنن النسائي ,تأليف أحمد بن شعيب النسائي عناية د. بدر الدين جنتن آر، ط. الثالثة 1413 هـ , الناشر دار سحنون تونس. 164 - سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، أشرف على تحقيقه شعيب الأرنؤوط، ط. السادسة 1409 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 165 - سير الأولياء في القرن السابع، تأليف صفي الدين الحسين الأنصاري، ت. مأمون ياسين وعفت وصال , ط. الأولى الناشر دار العالم بيروت - لبنان. 166 - السيرة النبوية لابن هشام ت. مصطفى السقا وآخرين، الناشر المكتبة العلمية بيروت - لبنان. - ش - 167 - شبهات التصوف تأليف عمر قريشي، الناشر دار الهدى القاهرة - مصر. 168 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تأليف عبد الحي بن عماد الحنبلي، ط. الثانية 1399 هـ الناشر دار المسيرة بيروت - لبنان. 169 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم هبة الله اللالكائي ت. د. أحمد حمدان , ط. الثانية 1411 هـ الناشر دار طيبة الرياض.

170 - شرح الأصول الخمسة، تأليف القاضي عبد الجبار المعتزلي، تعليق أحمد بن الحسين، ت. د. عبد الكريم زيدان، ط. الثالثة رمضان 1408 هـ , الناشر مكتبة وهبة القاهرة. 171 - شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، ت. محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. الثانية، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي 1365 هـ. 172 - شرح التحفة الوردية لزين الدين عمر بن مظفر بن الوردي، ت. د. عبد الله الشلال، ط. 1409 هـ الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. 173 - شرح السنة، تأليف الحسين بن مسعود الفراء البغوي، ت. شعيب الأرنؤوط، ط. الأولى 1390 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 174 - شرح العقائد النسفية، تأليف سعد الدين التفتازاني، ت. د. أحمد حجازي السقا، ط. الأولى 1407 هـ الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - مصر. 175 - شرح العقيدة الطحاوية شرح ابن أبي العز الحنفي، خرج أحاديثها العلامة الألباني، ط. الثامنة 1404 هـ , الناشر المكتب الإسلامى بيروت - لبنان. 176 - شرح المقاصد، تأليف سعد الدين التفتازاني، ت. د. عبد الرحمن عميرة، ط. الأولى 1409 هـ , الناشر دار عالم الكتب بيروت - لبنان. 177 - شرح حديث عمران بن حصين لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى ج 18. 178 - شرح ذات الشفا، تأليف محمد بن الحاج الكردي، ت. حمدي عبد المجيد السلفي وصابر الزيباري، ط. الأولى 1407 هـ , الناشر دار عالم الكتب بيروت - لبنان. 179 - شرح صحيح مسلم، تأليف محيي الدين النووي، مراجعة خليل الميس، ط. الأولى 1407 هـ الناشر دار القلم بيروت - لبنان. 180 - شرح مسند الإمام أحمد شرح أحمد شاكر، ط. الرابعة 1373 هـ الناشر دار المعارف - مصر. 181 - شرح نخبة الفكر لابن حجر العسقلاني، تعليق محمد الصباغ، ط. الثانية 1410 هـ , الناشر مكتبة الغزالي دمشق. 182 - الشريعة للآجري، ت. محمد حامد الفقي، ط. الأولى 1369 هـ , الناشر مطبعة السنة المحمدية. 183 - شفاء السقام في زيارة خير الأنام للسبكي، ط. الثانية 1978 م، الناشر دار الآفاق الجديدة بيروت - لبنان. 184 - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، تأليف ابن قيم الجوزية، تخريج وتعليق مصطفى الشلبي، ط. الأولى 1412 هـ , الناشر مكتبة السوادي جدة - السعودية. 185 - الشفاء بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، ت. محمد أمين وآخرون، ط. مكتبة الفارابي ومؤسسة علوم القرآن دمشق. - طبعة أخرى؛ بتحقيق محمد البجاوي، ط. دار الكتاب العربي.

-ص-

186 - الشفاعة، تأليف عبد الرحمن بن مقبل بن هادي الوادعي، ط. الثانية 1403 هـ , الناشر مكتبة دار الأرقم - الكويت. 187 - الشهادة التركية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، تأليف مرعي الكرمي الحنبلي ت. نجم عبد الرحمن؛ ط. الأولى 1404 هـ الناشر دار الفرقان عمان - الأردن، ومؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 188 - شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، تأليف يوسف النبهاني، ط. الثانية 1374 هـ , الناشر مكتبة مصطفى البابي وأولاده - مصر. 189 - شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين جمع صلاح الدين المنجد، ط. الأولى 1967 م، الناشر دار الكتاب الجديد بيروت - لبنان. - ص - 190 - الصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي، ت. أبي عبد الرحمن السلفي، ط. الأولى 1412 هـ الناشر مؤسسة الرياض - بيروت. 191 - صبح الأعشى في صناعة الإنشا، لأبي العباس أحمد بن علي القلقشندي، مصورة عن ط. الأميرية، الناشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي. 192 - صحيح ابن خزيمة لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، ت. د. مصطفى الأعظمي، ط. الثانية 1401 هـ، شركة الطباعة العربية السعودية المحدودة. 193 - صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، للعلامة الألباني، ط. الثانية 1415 هـ الناشر دار الصديق الجبيل - السعودية. 194 - صحيح البخاري للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، ت. محمد علي قطب، ط. 1411 هـ، الناشر المكتبة العصرية بيروت - لبنان. 195 - صحيح الجامع الصغير وزيادته، تأليف العلامة محمد بن ناصر الدين الألباني، أشرف على طبعه زهير الشاويش، ط. الثانية 1406 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 196 - صحيح سنن أبي داود للألباني، ط. الأولى 1409 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 197 - صحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، عناية وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط. 1413 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 198 - صفات الله - عز وجل - الواردة في الكتاب والسنة، تأليف علوي عبد القادر السقاف، ط. الأولى 1414 هـ، الناشر دار الهجرة الرياض - السعودية. 199 - الصفات للدارقطني، تدقيق وتعليق عبد الله الغنيمان، ط. الأولى 1402 هـ، الناشر مكتبة الدار المدينة المنورة - السعودية. 200 - صفة الساق لله - تعالى - بين إثبات السلف وتعطيل الخلف لمحمد بن موسى نصر، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر مكتبة الغرباء الأثرية المدينة المنورة - السعودية.

-ض-

201 - الصفدية لابن تيمية، ت. د. محمد رشاد سالم، ط. الثانية 1406 هـ الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة. 202 - الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد للشوكاني، ت، محمد ربيع المدخلي، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر دار الحرير القاهرة - مصر. 203 - الصواعق المرسلة الشهابية، تأليف سليمان بن سحمان الحنجلي، ت. عبد السلام بن برجس، النشرة الأولى 1409 هـ , الناشر دار العاصمة - الرياض. 204 - الصوفية في نظر الإسلام، تأليف سميح عاطف زين، ط. الثالثة 1405 هـ , الناشر دار الكتاب اللبناني بيروت - لبنان، ودار الكتاب المصري القاهرة - مصر. 205 - صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان، تأليف محمد السهسواني الهندي، ط. الرابعة 1410 هـ , الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة، ومكتبة العلم بجدة. - ض - 206 - ضعيف الأدب المفرد للبخاري، للعلامة الألباني، ط. الأولى 1414 هـ الناشر دار الصديق الجبيل - السعودية. 207 - ضعيف الجامع الصغير وزياداته الفتح الكبير، تأليف محمد ناصر الدين الألباني، ط. الثانية المكتب الإسلامي 1399 هـ. 208 - ضعيف سنن أبي داود، تأليف محمد ناصر الدين الألباني وأشرف على استخراجه زهير الشاويش، ط. الأولى 1412 هـ المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 209 - ضعيف سنن ابن ماجه للألباني، أشرف على طبعه زهير الشاويش، ط. الأولى 1408 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. - ط - 210 - طبقات الأطباء والحكماء، تأليف سليمان بن حسان الأندلسي - ابن جلجل - , ط. المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية. 211 - طبقات الشافعية الكبرى، تأليف تاج الدين عبد الوهاب السبكي، ت. عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي، ط. الأولى، ط. عيسى البابي الحلبي. 212 - طبقات الشافعية، تأليف جمال الدين عبد الحليم الأسنوي، ت. عبد الله الجبوري، ط. 1401 هـ , دار العلوم. 213 - طبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير، ت. د. أحمد عمر هاشم ود. محمد زينهم، ط. مكتبة الثقافة الدينية بورسعيد - مصر. 214 - الطبقات الكبرى (لوامع الأنوار في طبقات الأخيار) للشعراني، ط. الأولى 1408 هـ الناشر دار الجيل بيروت. - أخرى: ط. الأولى 1343 هـ بالمطبعة الأزهرية، الناشر ورثة محمد عبد الخالق المهدي وبهامشه الأنوار القدسية. 215 - الطبقات الكبرى لابن سعد، ط. 1367، الناشر دار بيروت ودار صادر بيروت - لبنان.

-ع-

216 - طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم، ط. 1413 هـ على نفقة محمد بن صالح بن سلطان. 217 - طهارة بيت النبوة، تأليف خالد الشايع، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر دار الجلالين ودار بلنسية الرياض - السعودية. - ع - 218 - عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، تأليف ابن العربي المالكي، الناشر دار العلم - سوريا. 219 - عالم الجن والشياطين، تأليف عمر سليمان الأشقر، ط. الثانية، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 220 - عقائد الثلاث وسبعين فرقة، تأليف أبي محمد اليمني، ت. محمد عبد الله الغامدي، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة - السعودية. 221 - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، تأليف الإمام محمد بن أحمد بن عبد الهادي، ت. محمد حامد الفقي، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. - أخرى: مطبعة حجازي بالقاهرة 1356 هـ. 222 - العقيدة السلفية القسم الخامس مواقف السلف مالك بن أنس، تأليف محمد عبد الرحمن المغراوي، ط. الأولى 1412 هـ , الناشر دار المنار الرياض. 223 - العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات، تأليف محمد بن عبد الرحمن المغراوي، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر دار المنار الرياض. 224 - العقيدة السلفية في كلام رب البرية، تأليف عبد الله الجديع، ط. الثانية 1416 هـ , الناشر دار الإمام مالك ودار الصميعي الرياض - السعودية. 225 - العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد بن حنبل، رواية ابنه عبد الله ت. وصي الله عباس، ط. الأولى 1408 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 226 - العلم الشامخ في تفصيل الحق على الآباء والمشايخ للعلامة صالح المقبلي وبهامشه كتاب الأرواح النوافح له أيضاً، الناشر مكتبة دار البيان دمشق - سوريا. 227 - العلو للعلي الغفار للذهبي، تصحيح محمد رشيد رضا، ط. 1332 هـ , الناشر محمد أفندي نصيف. 228 - عمل اليوم والليلة لابن السني، ط. الثانية 1358 هـ , مطبعة دائرة المعارف العثمانية حيدر أباد الدكن - الهند. 229 - عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح ابن القيم الجوزية للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، ت. عبد الرحمن محمد عثمان، الناشر محمد عبد المحسن - المكتبة السلفية - المدينة المنورة، ط. الثانية 1388 هـ.

-غ-

- غ - 230 - غاية الأماني في الرد على النبهاني، تأليف محمود شكري الألوسي، ط. الثانية الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة. 231 - غاية السول في خصائص الرسول لابن الملقن، ت. عبد الله بحر الدين عبد الله، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر دار البشائر الإسلامية بيروت - لبنان. 232 - غريب الحديث، تأليف عبد الله بن مسلم بن قتيبة، ت. د. عبد الله الجبوري، ط. الأولى 1397 هـ , الناشر وزارة الأوقاف بالجمهورية العراقيهَ. 233 - غلاة الشيعة الباطنية في بلاد الشام، تأليف د. يوسف درويش غوانمة، ط. الأولى 1410 هـ، الناشر جمعية عمال المطابع التعاونية عمان - الأردن. - ف - 234 - الفتاوى الكبرى لابن تيمية، ط. الأولى 1407 هـ، الناشر دار القلم بيروت - لبنان. 235 - الفتاوى الهندية (الفتاوى العالمكيرية)، تأليف فخر الدين حسن بن منصور الهندي، ط. الثالثة 1400 هـ، الناشر دار إحباء التراث العربي بيروت، وبهامشها فتاوى قاضيخان البزازية. 236 - فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، جمع وترتيب محمد بن عبد الرحمن قاسم، ط. الأولى 1399 هـ بمطبعة الحكومة بمكة المكرمة. 237 - الفتاوى، تأليف عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الشافعي، خرّجها عبد الرحمن عبد الفتاح، ط. الأولى 1406 هـ دار المعرفة بيروت - لبنان. 238 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، تأليف ابن حجر العسقلاني رقم الأحاديث محمد فؤاد عبد الباقي، حقق المجلد الأول والثاني العلامة عبد العزيز بن باز، ط. الأولى 1410 هـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 239 - الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ترتيب أحمد عبد الرحمن البنا، ط. الثالثة 1404 هـ، الناشر دار الشهاب القاهرة - مصر. 240 - فتح القدير، تأليف كمال الدين محمد بن عبد الواحد، ط. دار إحياء التراث العربي بيروت وبهامشه شرح العناية على الهداية. 241 - فتوح البلدان، تأليف أحمد بن يحيى بن جابر البغدادي الشهير بالبلاذري، ط. الأولى مطبعة الموسوعات القاهرة. 242 - الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية، تأليف محمد بن علان الصديقي، ط. 1398 هـ، الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 243 - الفتوحات المكية، تأليف محيي الدين بن عربي، ت. د. عثمان يحيى ومراجعة إبراهيم مدكور، ط. 1392 هـ، الناشر وزارة الثقافة والإعلام بمصر - الهيئة المصرية العامة للكتاب. 244 - الفرج بعد الشدة، للقاضي أبي علي المحسن التنوخي، ط. مكتبة الخانجي - مصر، مكتبة المثنى ببغداد.

-ق-

245 - الفردوس بمأثور الخطاب لأبي شجاع الديلمي، ت. السعيد بسيوني زغلول، ط. الأولى 1406 هـ دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 246 - الفرق بين الفرق، تأليف، عبد القاهر البغدادي، ت. محمد محيي الدين عبد الحميد الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان. 247 - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية، ت. د. عبد الرحمن اليحيي، ط. الأولى 1414 هـ الناشر دار طويق الرياض - السعودية. 248 - الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهري ت. د. محمد إبراهيم نصر ود. عبد الرحمن عميرة، ط. 1405 هـ , الناشر دار الجيل بيروت - لبنان. 249 - فصوص الحكم، تأليف محيي الدين ابن عربي ت. أبي العلا عفيفي، ط. دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 250 - فضائل الصلاة على النبي، تأليف إسماعيل القاضي المالكي ت. الألباني، ط. الثالثة 1397 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 251 - فضائل المدينة لأبي سعيد المفضل المكي، ت. محمد الحافظ وغزوة بدير، ط. الأولى 1405 هـ , الناشر دار الفكر دمشق - سوريا. 252 - فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد لأبي عبد الله البخاري، تأليف فضل الله الجيلاني، ط. الثانية 1388 هـ , الناشر المطبعة السلفية ومكتبتها القاهرة. 253 - فضيلة الشكر للهّ على نعمته، لأبي بكر السامري المعروف بالخرائطي، ت. محمد مطيع، د. عبد الكريم اليافي، ط. الأولى 1402 هـ الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 254 - الفلسفة النورانية القرآنية عند الغزالي، تأليف د. زكريا بشير إمام، ط. الأولى 1409 هـ، الناشر مكتبة الفلاح الكويت. 255 - فهرس الفهارس والأثبات لعبد الحي عبد الكبير الكتاني، ت. د. إحسان عباس، ط. الثانية 1402 هـ، دار الغرب الإسلامي - بيروت. 256 - الفهرست لابن النديم، ت. رضا تجدد، الناشر مكتبة الأسدي ومكتبة الجعفري - طهران. 257 - فوائد حديثية، تأليف ابن القيم ت. مشهور بن حسن وإياد القيسي، ط. الأولى 1416 هـ , الناشر دار ابن الجوزي الدمام السعودية. 258 - الفيء والغنيمة ومصارفهما، تأليف محمد الربيع، ط. الأولى 1413 هـ. 259 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، تأليف عبد الرؤوف المناوي، ط. الأولى 1306 هـ , الناشر المكتبة التجارية مصر. - ق - 260 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية، ت. ربيع المدخلي، ط. الأولى 1412 هـ , الناشر مكتبة لينة دمنهور. 261 - القاموس المحيط للفيروز آبادي، ت. مكتب ت. التراث في مؤسسة الرسالة، ط. الثالثة 1413 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت.

-ك-

262 - قرة عيون الموحدين في ت. دعوة الأنبياء والمرسلين، تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن الحنبلي ت. بشير عيون، ط. الأولى 1411 هـ الناشر مكتبة المؤيد الطائف السعودية، ومكتبة دار البيان دمشق - سوريا. 263 - قصص الأنبياء لابن كثير، ط. الثامنة 1408 هـ الناشر دار القلم بيروت - لبنان. 264 - قصيدة البردة لكعب بن زهير شرح أبي البركات ابن الأنباري، ت. د. محمود حسن زيني دحلان، ط. الأولى 1400 هـ تهامة للنشر والتوزيع - الرياض. 265 - القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود، ط. الأولى 1414 هـ, الناشر دار النشر الدولي الرياض - السعودية. 266 - القضاء والقدر في الإسلام، تأليف د. فاروق الدسوقي، ط. الثانية 1406 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 267 - القناعة والتعفف لابن أبي الدنيا، ت. مجدي السيد إبراهيم، ط. مكتبة القرآن القاهرة - مصر. 268 - القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، تأليف شمس الدين عبد الرحمن السخاوي، ط. الثالثة 1397 الناشر المكتبة العلمية. 269 - القول الرشيد في حقيقة التوحيد، تأليف سليمان العلوان، ط. الأولى 1414 هـ، الناشر دار المنار الرياض - السعودية. 270 - القول المفيد على كتاب التوحيد، تأليف الشيخ محمد العثيمين عناية د. سليمان أبا الخيل ود. خالد المشيقح، ط. الأولى 1415 هـ ,الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. - ك - 271 - الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، تأليف موفق الدين بن قدامة المقدسي، ط. الثانية، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 272 - الكامل في ضعفاء الرجال، تأليف أحمد بن عدي ت. د. سهيل زكار تدقيق يحيى غزواي، ط. الثالثة 1409 هـ الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 273 - الكبريت الأحمر للشعراني، ط. 1378 هـ , الناشر شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بهامش اليواقيت والجواهر للشعراني أيضاً. 274 - الكتاب المقدس - التوراة -، ط. دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط. 275 - كشاف القناع عن متن الإقناع، تأليف منصور البهوتي راجعه هلال مصيلحي هلال، ط. 1402 هـ، الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 276 - كشف أسرار الباطنية، تأليف محمد بن مالك بن أبي الفضائل اليماني، ت. محمد عثمان الخشت، ط. مكتبة ابن سيناء القاهرة - مصر. 277 - كشف الأسرار، تأليف روح الله الخميني، ترجمة للعربية د. محمد البنداري وعلق عليه سليم الهلالي وقدم له د. محمد الخطيب، ط. الثانية، الناشر دار عمار عمان - الأردن.

-ل-

278 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث، تأليف إسماعيل بن محمد العجلوني، ط. الثانية 1351 هـ , الناشر دار إحياء التراث العربي - بيروت. 279 - كشف المتواري من تلبيسات الغماري، تأليف علي حسن عبد الحميد، ط. الأولى 1410 هـ , الناشر دار ابن الجوزي الدمام - السعودية. 280 - الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، تأليف محمود عبد الرؤوف قاسم، ط. الثانية 1415 هـ , الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. 281 - كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس، تأليف عبد الرحمن بن حسن، ت. عبد العزيز الزير آل حمد , النشرة الأولى 1409 هـ، الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. 282 - الكليات لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي مقابلة وطبع د. عدنان درويش ومحمد المصري، ط. الثانية 1413 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 283 - الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية، تأليف مرعي الكرمي الحنبلي ت. نجم عبد الرحمن، ط. الأولى 1406 هـ , الناشر دار الغرب الإسلامي بيروت - لبنان. - ل - 284 - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، تأليف جلال الدين السيوطي، ط. الثالثة 1401 هـ ,الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان. 285 - اللباب شرح الكتاب، تأليف عبد الغني الحنفي، ت. محمود أمين النواوي، ط. دار الحديث. 286 - اللباب في تهذيهب الأنساب، تأليف عز الدين أبي الحسن ابن الأثير، ط. 1357 هـ , الناشر مكتبة المقدسي القاهرة - مصر. 287 - لسان العرب لابن منظور، ط. الأولى 1410 هـ، الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 288 - لسان الميزان لابن حجر العسقلاني، ط. دار الفكر ببروت - لبنان. 289 - لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية، تأليف محمد السفاريني، ط. الثالثة 1411 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. - م - 290 - المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين لأبي حاتم البستي، ت. محمود إبراهيم زايد، ط. 1395 هـ , الناشر دار الوعي حلب - سوريا. 291 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تأليف نور الدين علي الهيثمي، ط. دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 292 - مجموع فتاوى شييخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن القاسم وابنه محمد، ط. 1412 هـ , الناشر دار عالم الكتب الرياض.

293 - المجموع للنووي، مطبعة الإمام بمصر. 294 - مجموع يشتمل على رسائل وفوائد كثيرة أصولية ومنظومة ومديح ومراثي، تأليف العلامة عبد الله أبا بطين وآخرون جمع عبد الله الربيعة، (مخطوط) محفوظ بقسم المخطوطات جامعة الملك سعود برقم 3422/ 9. 295 - محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، تأليف فخر الدين محمد بن عمر الرازي راجعه وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، ط. الأولى 1404 هـ، الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان، ومعه تلخيص المحصل للطوسي. 296 - المحلى لابن حزم الظاهري، ط. المكتب التجاري بيروت - لبنان. 297 - محيط المحيط، تأليف بطرس البستاني، ط. 1983 م، الناشر مكتبة بيروت - لبنان. 298 - مختصر العلو للذهبي اختصار العلامة الألباني، ط. الأولى 1401 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 299 - مختصر المقاصد الحسنة للسخاوي اختصار محمد عبد الباقي الزرقاني ت. د. محمد لطفي الصباغ، ط. 1401 هـ , الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج. 300 - مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري ومعالم السنن للخطابي وتهذيب ابن القيم، ت. أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي، ط. دار المعرفة بيروت - لبنان. 301 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن القيم، ط. الثانية 1408 هـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 302 - المدخل إلى الصحيح للحاكم، ت. د. ربيع مدخلي، ط. الأولى 1382 هـ الناشر دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه. 303 - المدخل لابن الحاج، ط. 1401 هـ الناشر دار الحديث. 304 - المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي، تأليف د. عبد الحليم محمود، ط. دار الكتب الحديثة القاهرة - مصر. 305 - المراسيل لأبي داود السجستاني، دراسة وت. عبد العزيز السيروان، ط. الأولى 1406 هـ , الناشر دار القلم بيروت - لبنان. 306 - مسألة في الكنائس، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية ت. علي الشبل، ط. الأولى 1416 هـ , الناشر مكتبة العبيكان الرياض - السعودية. 307 - مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى، ت. سعود الخلف، النشرة الأولى 1410 هـ , الناشر دار العاصمة - الرياض - السعودية. 308 - المسائل والرسائل المروية عن أحمد بن حنبل في العقيدة جمع وت. عبد الإله الأحمدي، ط. الأولى 1412 هـ الناشر دار طيبة الرياض - السعودية. 309 - المساجد بين الإتباع والابتداع، تأليف محمد القيسي، ط. الأولى 1409 هـ الناشر دار عمار عمان - الأردن. 310 - المستخرج تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، تأليف محمود محمد الحداد، ط. الأولى 1408 هـ , الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية.

311 - المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وبذيله التلخيص للذهبي، الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 312 - المستغيثين بالله - تعالى - عند المهمات والحاجات، المتضرعين إليه سبحانه بالرغبات والدعوات وما يسر الله - الكريم - لهم من الإجابات والكرامات، تأليف خلف عبد الملك بن مسعود بن بشكوال ضبط غنيم عباس غنيم، ط. الأولى الناشر دار المشكاة القاهرة - مصر. 313 - مسند الإمام أبي يعلى، لأبي يعلي الموصلي، ت. حسين سليم أسد، ط. الأولى 1412 هـ الناشر دار الثقافة العربية دمشق - سوريا. 314 - مسند الطيالسي، تأليف سليمان بن داود الجارود الفارسي الشهير بابن الطيالسي، ط. دار المعرفة بيروت - لبنان، ومكتبة المعارف الرياض - السعودية. 315 - مسند الفاروق لابن كثير، ت. د. عبد المعطي قلعجي، ط. الأولى 1411 هـ الناشر دار الوفاء المنصورة - مصر. 316 - المسند لأبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، ت. حبيب الرحمن الأعظمي، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 317 - المسند للإمام أحمد بن حنبل عناية د. بدر الدين جنتن آر، ط. الثانية 1413 هـ الناشر دار سحنون - تونس. 318 - مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي، ت. ناصر الدين الألباني، ط. الثانية 1399 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 319 - مشكل الآثار لأبي جعفر الطحاوي، ط. الأولى دار صادر بيروت مصورة من 1333 هـ. 320 - المصادر العامة للتلقي عند الصوفية، تأليف صادق سليم صادق، ط. الأولى 1415 هـ، الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. 321 - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، تأليف شهاب الدين البوصيري دراسة وتقديم كمال الحوت، ط. الأولى 1406 هـ الناشر دار الجنان. 322 - مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام، تأليف عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ مراجعة إسماعيل بن عتيق النشر على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز. 323 - مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام، تأليف محمد بن موسى بن النعمان المزالي، مخطوط بمكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مصور ابن مكتبة شستربتي رقم 3677. 324 - المصباح المنير، تأليف أحمد الفيومي المقرئ، ط. مكتبة لبنان بيروت - لبنان. 325 - المصنف، تأليف عبد الرزاق الصنعاني، ت. حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الأولى 1390 هـ , الناشر المجلس العلمي حيدر أباد. 326 - المضنون به على غير أهله لأبي حامد الغزالي، ت. رياض مصطفى العبد الله، ط. 1407 هـ دار الحكمة دمشق - سوريا.

327 - معارج القبول بشرح سُلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، تأليف الشيخ حافظ الحكمي ضبط وتعليق عمر بن محمود، ط. الثانية 1413 هـ الناشر دار ابن القيم الدمام - السعودية. 328 - معالم السنن للإمام أحمد الخطابي بهامش سنن أبي داود، ط. 1401 هـ , ط. المستشرقين. 329 - المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها، تأليف عواد المعتق النشرة الأولى 1409 هـ , الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. 330 - معجم البلدان تأليف ياقوت الحموي، ت. فريد عبد الرحمن الجندي، ط. الأولى 1413 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت. 331 - المعجم الصغير لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ت. عبد الرحمن محمد عثمان، الناشر المكتبة السلفية لصاحبها محمد الكتبي المدينة المنورة. - أخرى: تقديم وضبط كمال الحوت، ط. الأولى 1406 هـ , الناشر مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت. 332 - المعجم الفلسفي، تأليف د. جميل صليبا، الناشر دار الكتاب اللبناني. 333 - المعجم الكبير للطبراني، ت. حمدي عبد المجيد السلفي، ط. الأولى 1400 هـ. 334 - معجم المؤلفين، تأليف عمر رضا كحالة، ط. مطبعة الترقي 1387 هـ. 335 - معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، تأليف عمر رضا كحالة، ط. الثانية 1398 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 336 - معجم مصطلحات الصوفية، تأليف د. عبد المنعم الحنفي، ط. الأولى 1400 هـ , الناشر دار المسيرة بيروت - لبنان. 337 - المغني، تأليف موفق الدين ابن قدامة وبهامثه الشرح الكبير، ط. دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 338 - المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار (تخريج الإحياء)، تأليف زين الدين عبد الرحيم العراقي، عناية أشرف عبد المقصود، ط. الأولى 1415 هـ , الناشر مكتبة طبرية الرياض - السعودية. 339 - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تأليف محمد عبد الرحمن السخاوي، تصحيح عبد الله محمد الصديق وتقديم عبد الوهاب عبد اللطيف، ط. 1375 هـ , الناشر مكتبة الخانجي مصر ومكتبة المثنى بغداد. - طبعة أخرى: ط. الأولى 1399 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت (دون تصحيح أو ترقيم). 340 - مقاصد الفلاسفة لأبي حامد الغزالي، ت. د. سليمان دنيا، ط. الثانية الناشر دار المعارف - مصر. 341 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تأليف علي بن إسماعيل الأشعري ت. محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. الثانية 1389 هـ , الناشر مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة - السعودية.

342 - المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد لابن مفلح ت. د. عبد الرحمن العثيمين، ط. الأولى 1413 هـ الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. 343 - المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي لأبي بكر الهيثمي، ت. د. نايف هاشم الدعيس، ط. الأولى، الناشر تهامة 1402 هـ. 344 - الملل والنحل، تأليف محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، ت. محمد سيد كيلاني، ط. 1402 هـ , الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان. 345 - من قضايا التصوف في ضوء الكتاب والسنة، تأليف د. محمد السيد الجليند، ط. الثالثة 1410 هـ , الناشر دار اللواء الرياض - السعودية. 346 - منح المدح أو شعراء الصحابة ممن مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي الفتح ابن سيد الناس، ت. عفت وصال حمزة، ط. الأولى 1407 هـ الناشر دار الفكر دمشق - سوريا. 347 - المنخل لغربلة خرافات ابن الحاج في المدخل، تأليف د. محمد الخميس، ط. الأولى 1416 هـ، الناشر دار الصميعي الرياض - السعودية. 348 - منهاج السنة النبوية لابن تيمية، ت. د. محمد رشاد سالم، ط. الأولى الناشر مؤسسة قرطبة. 349 - منهج الإمام الشوكاني في العقيدة، تأليف د. عبد الله نومسوك، ط. الأولى 1414 هـ مكتبة دار القلم الرياض - السعودية. 350 - مهمات التعريف، تأليف عبد الروؤف المناوي ت. عبد الحميد حمدان، ط. الأولى 1400 هـ الناشر عالم الكتب القاهرة - مصر. 351 - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزية لتقي الدين المقريزي، ط. بالأوفست لمكتبة المثنى ببغداد سنة 1970، مصورة عن ط. بولاق سنة 1294 هـ. 352 - المواقف في علم الكلام، تأليف عضد الدين الإيجي، ط. عالم الكتب بيروت - لبنان. 353 - الموسوعة الفقهية من إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، ط. ذات السلاسل. 354 - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، إصدار الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ط. الثانية 1409 هـ الناشر الندوة. 355 - الموضوعات لابن الجوزي، ت. عبد الرحمن محمد عثمان، ط. الأولى 1386 هـ , الناشر المكتبة السلفية المدينة المنورة - السعودية. 356 - الموطأ، تأليف الإمام مالك بن أنس، ت. ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط. الثانية 1413 هـ , الناشر دار سحنون - تونس. 357 - موقف ابن تيمية من الأشاعرة تأليف د. عبد الرحمن المحمود، ط. الأولى 1415 هـ الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية.

-ن-

- ن - 358 - ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية بقلم خادمه أحمد الغياني، ت. محب الدين الخطيب، ط. 1368 هـ، الناشر المطبعة السلفية، ومكتبتها القاهرة - مصر. 359 - النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبورين، تأليف حمد بن ناصر بن معمر ت. عبد السلام بن برجس النشرة الأولى 1409 هـ، الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. 360 - النبوات لابن تيمية، ط. 1405 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت. 361 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، تأليف ابن تغرى بردي الأتابكي، ط. دار الكتب المصرية 1361 هـ. 362 - نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام، تأليف سارة بنت عبد المحسن آل سعود، ط. الأولى 1411 هـ , الناشر دار المنارة جدة - السعودية. 363 - نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب لأبي عباس القلقشندي، ت. إبراهيم الإبياري، ط. الأولى 1959 م الناشر الشركة العربية للطباعة القاهرة. 364 - نهاية الإقدام في علام الكلام، تأليف محمد عبد الكريم الشهرستاني حرره وصححه الفردجيوم، طبعة مصورة من مكتبة المثنى بغداد - العراق. 365 - نهاية السول في شرح منهاج الأصول للقاضي البيضاوي، تأليف جمال الدين الإسنوي ومعه حواشيه المسماة "سلم الوصول لشرح نهاية السول"، تأليف محمد بن بخيت مطيع، ط. دار عالم الكتب بيروت. 366 - النهاية في غريب الحديث والأثر، تأليف مجد الدين الجزري المعروف بابن الأثير، ت. طاهر الزاوي ومحمود الطناحي، ط. المكتبة العلمية بيروت - لبنان. 367 - النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد، تأليف جاسم الدوسري، ط. الأولى 1404 هـ , الناشر دار الخلفاء للكتاب الإسلامي - الكويت. 368 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني، ت. طه عبد الرؤوف، ومصطفى محمد الهواري، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة - مصر. - هـ - 369 - هداية المريد لتحصيل معاني كتاب تجريد التوحيد المفيد لتقي الدين المقريزي، تعليق وضبط أحمد طاحون، ط. 1414 هـ , الناشر مكتبة التراث الإسلامي القاهرة - مصر. 370 - هذه مفاهيمنا، تأليف الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، ط. الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض - السعودية. 371 - هذه هي الصوفية، تأليف عبد الرحمن الوكيل، ط. الرابعة 1984 م، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 372 - الهواتف لابن أبي الدنيا، ت. مجدي السيد إبراهيم، الناشر مكتبة الساعي الرياض - السعودية.

-و-

- و - 373 - الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيم، ت. بشير عيون، ط. الثالثة 1409 هـ. الناشر مكتبة المؤيد - الرياض. 374 - الوافي بالوفيات، تأليف صلاح الدين الصفدي عناية س ديدرنيغ، ط. الثانية. 375 - وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، لنور الدين السمهودي، ت. محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. الأولى 1374، الناشر مكتبة محمد المدني المدينة المنورة. 376 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تأليف شمس الدين أحمد بن خلكان، ت. د. حسان عبد القدوس، الناشر دار صادر - بيروت. - ي - 377 - اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر للشعراني، ط. 1378 هـ، الناشر شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وبهامشه الكبريت الأحمر.

§1/1