الاستغاثة في الرد على البكري
ابن تيمية
* قال الحافظ ابن كثير: "والمقصود أن الشيخ رد على البكري ونقض أقواله نقضاً أجاد فيه وأفاد، وبيَّن ما فيه من حق وباطل في مجلدة كبيرة، أبطل فيها أنواع الشرك الاعتقادي والعملي وما يتفرع منهما بالأدلة والبراهين القاطعة المقبولة؛ التي تسر أهل السنة وتقرّ أعينهم عند سماعها، وتسوِّد وجوه أهل الأهواء والبدع ويرهقها قتر وذلة، فرحم الله من قبل الحق ونصره، ورد الباطل وخذله وأهله". تلخيص الاستغاثة - لابن كثير (ص 5) هذا الكتاب في الأصل رسالة ماجستير تقدم بها المحقق إلى قسم الثقافة الإسلامية بكلية التربية بجامعة الملك سعود، ونوقشت في الثاني من شهر الله المحرم عام 1417 هـ وبتوفيق الله -تعالى- وفضله أجيزت الرسالة بتقدير ممتاز.
الاسْتغَاثَة في الرَّد عَلَىَ البَكْرِيّ
(ح) مكتبة دَار الْمِنْهَاج للنشر والتوزيع، 1425 هـ فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر ابْن تَيْمِية، أَحْمد بن عبد الْحَلِيم الاستغاثة فِي الرَّد على الْبكْرِيّ/ أَحْمد بن عبد الْحَلِيم ابْن تَيْمِية؛ عبد الله بن دجين السهلي - الرياض، 1425 هـ 510 ص؛ 17 × 24 سم ردمك: 5 - 4 - 9557 - 9960 1 - التَّوْحِيد 2 - الْبدع فِي الْإِسْلَام أ- السهلي، عبد الله بن دجين (مُحَقّق) ب- العنوان ديوي 240 ... 7260/ 1425 جَمِيع حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار الْمِنْهَاج بالرياض الطبعَة الأولى، 1426 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة 1426 هـ، لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطى من الناشر. مكتبة دَار الْمِنْهَاج للنشر والتوزيع المَملكَة العَربيَّة السّعُوديَّة. الرّيَاضِ المركز الرئيسي: طَريق الْملك فَهد/ شمَال الجَوازات هَاتِف 4065553 - فاكس 4083698 - ص ب 51929 الرياض 11553 الْفُرُوع: طَريق خَالِد بن الْوَلِيد (إنكاس سَابقاً) ت 2322095 مَكة المكَرمة - الشامية هَاتِف 5730980
مقدمة التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الثانية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الرسل والنبيين وعلى آله وصحبه، وبعد: فأحمد الله -تعالى- على ما منَّ به من نِعَمه العظيمة، وأعظمها نعمة الإسلام والتوحيد واتباع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهذه أكبر النِعَم التي لم يوفق لها طوائف من المسلمين، وهذه الطبعة الثانية من كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري"، لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وقد راجعت الكتاب على الأصول الخطية، وعلى المخطوطة الرابعة التي لم تكن كاملة في الطبعة الأولى، وهي مخطوطة المعهد العلمي بحائل، والتي أرمز لها بـ "ح"، وبفضل الله وحده، تم إصلاح بعض المواضع المشكلة، وتصحيح أخرى في هذه الطبعة، كما اختصرت التعليقات والتعريفات، وحذفت بعضها الآخر، ليسهل انتشار الكتاب، ويكون في مجلدة واحدة. وفّق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. د. عبد الله بن دجين السهلي 14/ 6/ 1425 هـ الرياض
مقدمة الطبعة الأولى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، ثم أما بعد: فإنه لا يشك مسلم في، أهمية التوحيد الخالص، وضرورته للبشرية أجمع، فما أرسل الله رسولاً إلا وأمره أن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده وينذرهم الشرك، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، فالشرك خطره عظيم، ومن تأمل القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وجدهما مصرِّحين، ببطلان دين المشركين وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسله، وأنهم أولياء الشيطان وعباده، وأنهم أهل النار الذين لا يخرجون منها، وهم الذين حلت بهم المثلات ونزلت بهم العقوبات. ولذا كانت وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وفي آخر لحظات عمره - صلى الله عليه وسلم -، التحذير من هذا الداء الوبيل، كما أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬1)، وفي رواية: "وصالحيهم"، ولقد كانت الأمة على هذه الوصية الشريفة فى القرون الثلاثة، حتى أصابها ما أصاب الأمم قبلها فظهرت بدعة القبورية (¬2)، أواخر القرن الثالث الهجري، ¬
حين ضعفت دولة بني العباس، لما تفرقت الأمة وكثر فيها الزنادقة، وقد شاعت بين الرافضة أولاً، لما صارت لهم دويلات، كدولة بني بويه، ودويلات الباطنية من العبيدية (¬1) والإسماعيلية (¬2) وغيرهم، حيث نشروا بدع المشاهد والقبور، والعبادة عندها، ودعاء المقبور وغير ذلك. ثم انتشرت في القرن الرابع والخامس وما بعدهما، وسارت الطرق الصوفية على سبيل الرافضة تنشر هذه البدع، وتروِّجها، حتى عمَّت البلوى في كثير من بلاد الإسلام. هذا من ناحية ... ومن ناحية أخرى: لما عُرّبت كتب اليونان الوثنية، عكف عليها من سُمُّوا بفلاسفة الإسلام كالفارابي (ت 339 هـ) (¬3) وابن سينا (ت 280 هـ) (¬4) وغيرهما، فتأثروا بها ونقلوها، وخالفوا طريقة المرسلين، وسايرهم كثير من المتكلمين؛ كالمعتزلة والأشاعرة وغيرهم، فاختلقوا قضايا موهومة؛ ومشاكل أوقعوا أنفسهم فيها، زعماً منهم أنهم دعاة للتوحيد، وحماة لعقائد المسلمين، وحقيقة حالهم لا للفلاسفة كسروا ولا للإسلام نصروا (¬5)، وكانوا سبب تسلط الفلاسفة عليهم وعلى الإسلام، فلم يعرفوا التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام. فمن هذه الطرق الرافضة والفلاسفة والمتكلمين والصوفية الخرافية تسربت البدع القبورية إلى بعض المسلمين وكان من أعظم هذه البدع، بل أمُّ هذه البدع الاستغاثة بالأموات، حتى وصل حال الأمة الإسلامية كما وصفها ¬
الإمام العلامة الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني (¬1) في قصيدته: أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث ووداً ليس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالواحد الصمد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أُهِلَّت لغير الله جهلاً على عمد وكم من طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن بالأيدي (¬2) نعم هذه حال بعض المنتسبين للإسلام -هداهم الله- يستغيثون بالمقبورين، ويدعونهم من دون الله، ويطوفون بالقبور، ويحجون إليها، ويرون أنهم قد أربوا في الربح على حجاج البيت الحرام. فعزمت أن يكون موضوع رسالتي للماجستير في هذا المجال، تحقيقاً أو موضوعاً. وخلال البحث وجدت أن أغلب من كتب في هذا ينقل أو يحيل إلى كتاب عظيم الفائدة غزير المعنى، قد استوفى المسألة بحثاً وتحقيقاً وتحريراً لإمام من أئمة المسلمين وعَلَم من أعلام السنة النبوية، وهو كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري" للإمام المجدد شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (ت 728 هـ) محيي السنة وقامع البدعة، وهو من أوفى الكتب في هذه المسألة (الاستغاثة بالأموات)، ومن أجلّ الكتب التي نافحت عن العقيدة الصحيحة، ودرأت الشبهات الشيطانية، رد فيه شيخ الإسلام على أحد دعاة القبورية في عصره، وهو علي بن يعقوب البكري (ت 724 هـ). ويمكن إيجاز أهمية الكتاب بما يلي: ¬
أولاً: إنه أول وأفضل كتاب في الرد على من استغاث بالمقبور، وقضية الاستغاثة بالأموات من أهم موضوعات الخلاف بين دعاة التوحيد ودعاة الشرك، بل هي الركيزة الأساسية في الخلاف، فهو كتاب مهم في موضوع هام. ثانياً: غالب من تكلم في قضية الاستغاثة يرجع إلى هذا الكتاب، ويبلغ النقل أحياناً عدة صفحات متتابعة، ولا يحسن العناية بهذه الكتب دون مصدرها الذي إليه تورد وعنه تصدر. ثالثاً: ندرة الكتاب في المكتبات، مطالبة كثير من أهل العلم بإخراجه مع سوء الطبعة السابقة وكثرة الأخطاء في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وكثرة السقط والتحريف والتصحيف، دون أي خدمة أو معالجة، يقابل ذلك كتب أهل البدعة، التي نراها منتشرة ومحققة، ومطبوعة طباعة فاخرة. رابعاً: على ما في طبعة الكتاب السابقة من تحريف وسقط، ففيها أخطاء علمية كبيرة، منها: عنونة الكتاب بـ "تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري"، وهذا غير صحيح، فكتاب "تلخيص الاستغاثة" غير "كتاب الرد على البكري"، فالثاني أصل، والأول تلخيص له، فكتاب تلخيص الاستغاثة لابن كثير، والرد على البكري لابن تيمية، فبينهما فرق. وهذا الخطأ أدى لأخطاء علمية أخرى، فنقل بعض الباحثين من تلخيص الاستغاثة، وجعل المرجع الرد على البكري (¬1). كما أن في التلخيص نصوصاً لابن كثير لم يذكرها ابن تيمية إطلاقاً، بل في الأصل ما يخالف أحدها، وقد بينت هذا في الكلام على التلخيص (¬2). خامساً: هذا الكتاب كما أنه وضّح أصل بدعة الاستغاثة بالمقبور وبداية وجودها في الأمة الإسلامية، فهو كذلك يعالج كثيراً من البدع المتعلقة بالقبور وغيرها. ¬
سادساً: إنه من مصنفات إمام له قدم راسخ في العلم والفهم، متحرر من ربقة التقليد والتعصب، وهو شيخ الإسلام بحق. لهذه الأسباب وغيرها، اخترت هذا الكتاب "كتاب الاستغاثة في الرد على البكري لشيخ الإسلام ابن تيمية" تحقيقاً ودراسة، وذلك في أطروحة الماجستير، وقد أيد هذا الاختيار أساتذتي في قسم الثقافة الإسلامية. وقد واجهتني بعض الصعوبات عند تسجيل الموضوع وعند العمل فيه، منها: أولاً: إن هذا الكتاب لم يحظ بما حظيت به كتب الشيخ الأخرى من الحفظ والعناية، فقد فُقد منه أوله، وقد بذلت كثيراً من الجهد والوقت في البحث عنه ولم أجد أي ذكر له، ولربما كان هذا سبباً في إعراض كثيرٍ من الباحثين المهتمين بتراث هذا الإمام عن تحقيقه، فأملي من القراء الكرام من وجد شيئاً من ذلك أن يرشدني إليه مشكوراً مأجوراً مجزيّاً من الله خيراً. ثانياً: عدم ذكر فهارس المخطوطات والمصادر العلمية لهذا الكتاب أو أي معلومات عنه إلا فيما ندر، ويدل على ذلك أن جميع النسخ الخطية التي اعتمدت عليها لم ترد في فهرسٍ متداول. ثالثاً: عدم تعاون بعض دور المخطوطات. رابعاً: مع كثرة ما استطعت جمعه من مخطوطات الكتاب إلا أنه وللأسف يوجد فيها سقط وتحريف وتصحيف، وقد أمضيت أوقاتاً طويلة محاولاً إكمال سقط أو إصلاح تحريف؛ أو تصحيف، كما قال بعضهم: "ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفاً، أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ، وشريف المعاني، أيسر عليه من إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام" (¬1). قلت: هذه الصعوبة على الكاتب نفسه، فكيف بغيره مع بُعد الزمن، وقصور الهمم، وقلة البضاعة. ¬
ومن أهم نتائج هذا البحث، إثبات المؤلف أن الاستغاثة بالأموات قضية مبتدعة لم تعرفها الأمة الإسلامية عدا الشيعة، إلا في نهاية القرن الثالث الهجري، وأن هذه البدعة الشركية بدأت في الأمة بذكر قصص من استغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم صارت إلى ما كان عليه البكري، ومع ذلك لم يستوعب جميع شبهات القبورية. فهذه القضية عند هؤلاء القوم في توسع مطرد. وعملي في الكتاب على قسمين: * القسم الأول: الدراسة: وبتكون من بابين: الباب الأول: ترجمة المؤلف وموقف البكري منه. الباب الثاني: دراسة للكتاب. * القسم الثاني: تحقيق الكتاب: وبين يدي التحقيق وصف للنسخ الخطية ومنهج التحقيق، وقد اعتمدت على أربع نسخ، واستفدت من النسخ الأخرى ثم أعقبت ذلك بالفهارس المختلفة. * منهج التحقيق: جعلت أقدم هذه النسخ وأفضلها هي الأصل، وهي المحفوظة بجامعة أم القرى، وقارنتها بثلاث نسخ أخرى، وهي نسخة المكتبة السعودية التابعة للإفتاء ورمزت لها بحرف "ف"، ونسخة دارة الملك عبد العزيز وأصلها في مكتبة جامعة الملك عبد العزيز بجدة ورمزت لها بحرف "د"، ونسخة المعهد العلمي بحائل ورمزت لها بحرف "ح". وقد عرَّفت بالفرق والمذاهب تعريفاً موجزاً، وترجمت لغير المشهورين من الأعلام، وعزوت الآيات والأحاديث وعلقت على بعض المواضع التي أرى أنها تحتاج إلى تعليق، كل ذلك بقدر الطاقة والاستطاعة مع الاختصار قدر الإمكان.
وبعد، فأشكر الله تعالى وأحمده على ما منّ به ووفَّق، فحقه تعالى أن يذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُعصى، ثم أشكر والديّ اللذين ربَّياني وأحاطاني بعنايتهما ورعايتهما، ثم أقدم الشكر الجزيل لكل من ساهم أو سأل أو ساعد في هذا البحث، وأخص أساتذتي سعادة الأستاذ الدكتور محمد أبو الغيط الفرت المشرف على الرسالة بوافر الشكر والامتنان، على ما بذله من وقت وجهد. وأشكر فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على تفضله وتكرمه بقبول مناقشة هذه الرسالة رغم انشغاله وضيق وقته، كما أشكر سعادة أستاذنا الدكتور رزق بن يوسف الشامي الذي أعطاني من وقته وجهده الكثير، وقد كان مع هذه الرسالة منذ كانت فكرة حتى أصبحت رسالة ليتفضل بمناقشتها، فلهم مني جميعاً وافر الشكر والتقدير، وأسأله تعالى أن يجعل العمل لوجهه خالصاً، وأن ينفع به يوم لا ينفع مال ولا بنون. وحسبي أني بذلت جهدي وطاقتي؛ فإن أصبت فذلك قصدت، والخير أردت، ورجائي ممن يجد ما يفيد الكتاب أن يبعث إليّ مشكوراً. وما أحسن ما قال الشاعر: وإن تجد عيباً فسد الخللا ... فجلَّ من لاعيب فيه وعلا فما كان من صواب فمن الله وحده، هو المانّ به، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله منه. والله وحده هو المعين والهادي إلى سواء السبيل، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد.
القسم الأول: الدراسة
القسم الأول: الدراسة وتتكون من ترجمة مختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية والبكري ودراسة للكتاب
الباب الأول: في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية وترجمة البكري
الباب الأول: في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية وترجمة البكري وفيه فصلان: الفصل الأول: ترجمة مختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية الفصل الثاني: ترجمة البكري وموقفه من ابن تيمية
الفصل الأول: ترجمة مختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية
الفصل الأول: ترجمة مختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من العلماء البارزين، بل لعل تاريخ الإسلام في عصوره الوسطى والأخيرة لم يشهد شخصية أشهر من ابن تيمية، اعترف لها بالفضل الصديق والخصم، وهو أشهر من أن يُعَرَّف به، وقد حظي بتراجم عديدة، مفردة وغير مفردة، كما أن كتبه ورسائله وفتاواه صارت مجالاً خصباً للتأليف والدراسة والنشر والتحقيق، ولم يغفل محققوها وناشروها الترجمة له. ولذلك يصعب حصر المصادر والمراجع التي تناولت حياته بالشرح والتفصيل فما بالك بالإحاطة بحياة هذا الإمام الفذ. لذا سأقتصر على ترجمة مختصرة. * ترجمة موجزة للمؤلف: اسمه ونسبه ومولده ونشأته: هو شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس، أحمد بن العلامة (شهاب الدين أبي المحاسن) عبد الحليم بن (مجد الدين أبي البركات) عبد السلام بن (أبي محمد) عبد الله بن (أبي القاسم) الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني الدمشقي. ولد يوم الاثنين العاشر أو الثاني عشر من ربيع الأول سنة (661 هـ) بحران (¬1)، ولما بلغ من العمر سبع سنين انتقل مع والده إلى دمشق، لسوء أحوال حران وما حولها بعد استيلاء التتار عليها. ¬
* مكانته ومنزلته
وقد نشأ في عائلة اشتهرت بالعلم والمكانة، فجده مجد الدين عبد السلام بن عبد الله من العلماء الأعلام، صاحب التصانيف النافعة التي منها: "المنتقى من أحاديث الأحكام"، "والمجرد في الفقه" وغيرهما. ووالده شهاب الدين أبو المحاسن شيخ حران وحاكمها وخطيبها بعد وفاة والده مجد الدين. وإخوته ثلاثة، وهم: بدر الدين أبو القاسم محمد بن خالد الحراني، وشقيقاه: زين الدين عبد الرحمن بن عبد الحليم، وشرف الدين عبد الله بن عبد الحليم، جميعهم اشتهروا بالعلم والفضل. ففي هذه البيئة العلمية الصالحة كانت نشأة ابن تيمية، وقد بدأ بطلب العلم أولاً على والده وعلماء دمشق، فحفظ القرآن وهو صغير، ودرس الحديث والفقه والأصول والتفسير، وعُرف بالذكاء وقوة الحفظ والنجابة منذ صغره، ثم توسع في دراسة العلوم وتبحر فيها حتى أفتى ودرَّس قبل بلوغ العشرين عاماً، وما لبث أن صار إماماً يعترف له الجهابذة بالعلم والفضل والإمامة، قبل بلوغ الثلاثين من عمره. * مكانته ومنزلته: لقد تبوأ شيخ الإسلام ابن تيمية مكانة عظيمة بين علماء عصره، لأسباب منها: 1 - العلم الغزير، فهو إن درّس أو خطب أو أفتى أو كتب رسالة أو كتاباً في أي فن من الفنون أتى بما يفوق علماء عصره، وما يبهر عقولهم. 2 - بُعده عن المناصب أو أخذ رواتب من الدولة، وكان ذلك عن عزم وتصميم، فلم يتول القضاء أو الإمارة أو غيرها، حتى وهو في السجن لم يأكل من الطعام الذي يُحضر له في السجن. 3 - جهاده في سبيل الله، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ¬
* جهاده وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
وفضحه أصحاب الحيل الشيطانية، ورده على أهل الأهواء والبدع. * جهاده وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: لقد تميزت حياة ابن تيمية -يرحمه الله- بهذه الميزة العظيمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، والكلام حول هذا الجانب يطول، ولكن نشير إلى مسائل مهمة تتعلق بموضوع هذا الكتاب، وهي التطبيق العملي له، فمن ذلك: 1 - كسره للأصنام والأماكن التي تعظّم من دون الله -تعالى-، قال ابن القيم: "وقد كان بدمشق كثير من الأنصاب، فيسَّر الله -سبحانه- كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين، كالعمود المخلق، والنصب الذي كان بمسجد التاريخ من المصلى يعبده الجهال، والنصب الذي كان تحت الطاحون، الذي عند مقابر النصارى، ينتابه الناس للتبرك به، وكان صورة صنم في نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به، وقطع الله النصب الذي كان عند الرحبة يسرج عنده، وبتبرك به المشركون وكان عموداً طويلاً على رأسه حجر كالكرة، وعند مسجد درب الحجر نصب قد بني عليه مسجد صغير يعبده المشركون يسر الله كسره" (¬1). وله مواقف عظيمة في جهاد التتار والنصارى، وطوائف من ضلَّال المسلمين من الفلاسفة والمتكلمين والرافضة والباطنية والصوفية وغيرهم. وقد فضح هذه الطوائف وبيّن ضلالها بقلمه ولسانه، وجاهدهم بيده. والمطلع على هذا الجانب من حياة الشيخ يكاد يجزم بأنه لم يبق له من وقته فُضلة، وقد حورب وأوذي وسجن مرات في سبيل الله، حتى وافته منيته مسجوناً. ولا تزال بحمد الله ردود الشيخ سلاحاً فعالاً ضد أعداء الحق ودعاة ¬
* محنته وسجونه
البدع، لأنها تستند على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدي السلف، مع قوة الاستنباط والاستدلال والاحتجاج بالشرع والعقل، مع إنصاف وعدل. وردود الشيخ كما كانت رداً شافياً وقوياً وتقويماً لضلال فرق عصره -رحمه الله- فهي رد على امتداد هذه الفرق في هذا العصر، ولذلك فإن كثيراً ممن قام بالرد على أي فرقة لا بد أنه استفاد من كتابات الشيخ وردوده. * محنته وسجونه: امتحن شيخ الإسلام ابن تيمية محناً عديدة، ما تكاد تنتهي محنة حتى تبدأ محنة جديدة، إلى أن لقي ربه وهو في سجن القلعة بدمشق. ولعل من أعظم أسباب هذه المحن عداء بعض العلماء والقضاة له؛ لمواقفه العظيمة؛ ووجاهته عند الناس؛ وتشرّب كثير منهم بالبدع: من بدع الفلاسفة وأهل الكلام أو القبورية والصوفية، وأول هذه المحن محنته بسبب الفتوى الحموية (¬1)، ثم محنته ومناظرته حول الفتوى الواسطية (¬2)، وهما في تقرير مذهب السلف في الصفات والرد على المتكلمين، لذا لم يكن للصوفية دور بارز فيهما، وإنما كان لبعض رجالاتهم سعي لدى السلطان؛ لامتحان الشيخ مرة بعد أخرى. ثم كان امتحان الشيخ وذهابه إلى مصر وسجنه بالجب ثمانية عشر شهراً، أما محنته مع الصوفية ففي مصر بعد خروجه من السجن وبقائه فيها، كان يتطرق إلى جوانب عقدية تمس أحوال الصوفية وبدعهم؛ فقام نصر ¬
المنبجي (¬1) وابن عطاء الله السكندري (¬2) -وللبكري دور فيها- بإثارة أتباعهم من المتصوفة، فاجتمع خلق كثير منهم؛ من أهل الخوانق والربط والزوايا واتفقوا أن يشكوا الشيخ إلى السلطان، فطلع منهم خلق كثير إلى القلعة وكانت لهم ضجة شديدة لفتت انتباه السلطان، واستعانوا عليه بالأمراء وغيرهم، وذلك في شوال سنة 707 هـ. فأمر السلطان أن يُعقد له مجلس، فَعُقِد له مجلس يوم الثلاثاء العاشر من شهر شوال سنة 707 هـ، وادعى عليه ابن عطاء بأشياء، فلم يثبت عليه منها شيء، لكنه قال: "لا يستغاث إلا بالله، لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبارة، ولكن يتوسل به، ويستشفع به إلى الله"، فبعض الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شيء، ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة (¬3) أن هذا فيه قلة أدب، فحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة، فقال القاضي: "قد قلت له ما يقال لمثله"، ثم جاء الأمر من الدولة أن يخيّر بين أن يسير إلى دمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس، فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزماً ما شرط، فأجاب أصحابه إلى ما اختاروا جبراً لخواطرهم، ثم لما سافر ليلة 18 شوال من السنة نفسها، رُد من الطريق وقيل: "إن الدولة ما ترضى إلا بالحبس"، فقال القاضي ابن جماعة: "وفيه ¬
مصلحة له"، واستناب ابن جماعة بعض القضاة أن يحكموا فيه بالحبس فامتنع أحدهم وتحير الآخر، فلما رأى الشيخ توقفهم في حبسه قال: "أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة"، فأرسل إلى حبس القضاة وأذن له بأن يكون معه من يخدمه، وكان ذلك كله بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولة، فإنه كان قد استحوذ على عقل الجاشنكير (¬1) الذي تسلطن فيما بعد. واستمر الشيخ في الحبس يستفتى؛ ويقصده الناس ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة، ثم عقد له مجلس بالصالحية بعد ذلك كله، ونزل الشيخ بالقاهرة وأكب الناس على الاجتماع به (¬2). فلما كثر اجتماع الناس بالشيخ وترددهم عليه ساء ذلك أعداءه وحصرت صدورهم؛ وصاحب ذلك تسلطن الجاشنكير تلميذ نصر المنبجي، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ينال من الجاشنكير؛ ومن شيخه نصر المنبجي، ويتكلم في ابن عربي وأتباعه. فقرروا أن يسيِّروه إلى الإسكندرية كهيئة المنفي؛ -في نهاية شهر صفر سنة 709 هـ- ومنعوا أن يذهب معه أحد من أصحابه رجاء أن يقتل، وأقام بثغر الإسكندرية في برج مليح واسع؛ يتردد عليه الناس وقد لحق به أصحابه، وبقي ثمانية أشهر، فلما رجع السلطان الناصر إلى الحكم وقدم مصر في يوم عيد الفطر 709 هـ؛ لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ ابن تيمية من الإسكندرية، فقدم إليه في الثامن من شهر شوال. وبقي الشيخ في القاهرة إلى سنة 712 هـ، حيث خرج لجهاد التتر صحبة ¬
* مؤلفاته ورسائله
الجيش المصري؛ وقدم دمشق أول ذي القعدة سنة 712 هـ (¬1)، ثم سجن الشيخ وامتحن بسبب فتواه في الطلاق باعتبار الثلاث بكلمة واحدة طلاقاً رجعياً، في الثاني والعشرين من شهر رجب سنة 719 هـ (¬2). ثم كانت أعظم المحن التي مرت على الشيخ وأتباعه، وهي محنته بسبب فتواه في شد الرحال إلى القبور، وقد كُذِبَ عليه فيها وحرِّفت، حتى جاء مرسوم السلطان بإقامته في القلعة في السادس من شهر شعبان سنة 726 هـ، وسجن جماعة من أتباعه وضيِّق عليهم، وعزر جماعة منهم على دواب، ونودي عليهم، ثم أطلقوا؛ سوى ابن القيم الذي حبس في القلعة، ثم أخرج ما عند الشيخ من الكتب بأمر السلطان، وصار يكتب رسائله بالفحم، فكان ذلك من أعظم المصائب عليه (¬3) حتى مات -يرحمه الله- في الحبس. ولا يخفى دور الصوفية والرافضة في هذه المحنة، وقد انتصر له كثير من العلماء: من علماء الشام وبغداد وغيرهم، وكتبوا بما يوافق قوله في المسألة (¬4)، وكان له -رحمه الله- دور إيجابي في هذه المحن، من الثبات على الحق وتحويل جو المحنة إلى خدمة المبدأ الذي يدعو إليه (¬5). * مؤلفاته ورسائله: كتب ابن تيمية ورسائله كثيرة جداً يصعب حصرها والإحاطة بها، وقد ضاع بعضها، وفقدت أجزاء من بعضها الآخر -مثل كتاب الاستغاثة-، لأن هذه المحن التي مر بها هو وأتباعه لا بد أن تنال كتبه ورسائله، وقد وصل الأمر إلى أن يخاف أتباعه أن يظهروا كتبه (¬6). ¬
ونقصر الكلام هنا على بعض مؤلفاته التي أفردها في الاستغاثة والتوسل وبدع القبور، منها: 1 - رسالة الاستغاثة: وهي جواب مختصر في حكم الاستغاثة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد طبعت عدة طبعات (¬1)، وهذه الرسالة هي الأساس لكتابنا الذي نحن بصدد دراسته وتحقيقه، فقد رد البكرى على هذه الرسالة فرد عليه ابن تيمية بهذا الكتاب. ونقل ابن تيمية غالب هذه الرسالة في كتابه قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (¬2)، وفي هذا الكتاب أيضاً (¬3)، وقد كتبها سنة 711 هـ في مصر قال: "وكنت وأنا بالديار المصرية في سنة 711 هـ قد استُفتيتُ عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ... " (¬4). 2 - رسالة أخرى: وهي جواب عن سؤال أطول من السؤال السابق، ويظهر أن السائل من تلاميذ ابن تيمية، ويشير إلى كلام البكري دون ذكر اسمه، ويذكر أقواله مثل: "تكفير من منع الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -"، وفي السؤال أيضاً بعض أقوال ابن تيمية من كتاب الرد على البكري. وقد أجاب الشيخ على السؤال أيضاً دون ذكر للبكري، ولكن يظهر من ألفاظ الجواب وكأنها مختصرة من هذا الكتاب، ولم يذكر لها عنواناً أو تاريخ تأليف، ولكن من المؤكد أنها بعد الرسالة السابقة وردِّ البكري عليها (¬5). ¬
3 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: وهذا الكتاب من أهم كتب شيخ الإسلام في هذه القضية، وغالبه عن التوسل: أنواعه، وحكم كل نوع وأدلته، ورد على أدلة المخالفين له، والفرق بين التوسل والاستغاثة والشفاعة والدعاء وما بين هذه الأنواع من الفروق، وغير ذلك، وكما سبق فقد ضمنه أجزاء من رسالة الاستغاثة. وقد ألفه بالشام بعد سنة 712 هـ لقوله: "وكنت وأنا بالديار المصرية في سنة 711 هـ" (¬1). ويلاحظ أن كثيراً من القضايا التي أوردها المؤلف في هذا الكتاب، أوردها في كتاب الاستغاثة في الرد على البكري مختصرة جداً (¬2)، وقد جائت في التلخيص أيضاً مخنصرة (¬3). 4 - كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري" وهو كتابنا الذي نحن بصدده. 5 - "قاعدة في التوسل": وهي، غير الكتاب السابق، محفوظة في المكتبة الظاهرية ضمن مجاميع في 16 ورقة، وله نسخة في الجامعة الإسلامية برقم 1052 (¬4). 6 - وكتاب "الرد على الأخنائي": وهو في الرد على القاضي تقي الدين المالكي، في مسألة شد الرحال، وقد طبع عدة مرات، وهو آخر كتبه التي ألفها (¬5). ¬
* وفاته
7 - وكتاب "الجواب الباهر في زوار المقابر": كتبه للسلطان في زيارة القبور وما كُذبَ عليه فيها، وهو مطبوع ضمن مجموع الفتاوى، وله طبعة مستقلة في مجلد. 8 - "ومختصر الأخنائية": وهو مختصر الرد على الأخنائي، وهو مطبوع ضمن مجموع الفتاوى. وله رسائل وأجوبة صغيرة أخرى في هذا الموضوع. * وفاته: توفي الشيخ -يرحمه الله- وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق ليلة الاثنين 20 من شهر ذي القعدة سنة 728 هـ، أثر مرض ألم به أياماً يسيرة. وقد اعتبر المؤرخون جنازة ابن تيمية من الجنائز المشهورة النادرة، فيشبهونها بجنازة الإمام أحمد بن حنبل. وقد هبَّ كل أهل دمشق ومن حولها للصلاة عليه وتشييع جنازته -رحمه الله- وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء (¬1). ¬
الفصل الثاني: ترجمة البكري وموقفه من شيخ الإسلام ابن تيمية
الفصل الثاني: ترجمة البكري وموقفه من شيخ الإسلام ابن تيمية تضن المصادر علينا بترجمة البكري، وأغلب من ترجم له ذكره باختصار شديد، حتى ذكره الذهبي والسيوطي في ثلاثة أسطر فقط (¬1)، ويظهر أنه كان ¬
1 - اسمه ونسبه ومولده
مغموراً لم يُعرف إلا بسبب رد شيخ الإسلام ابن تيمية عليه. وهذا مصداق ما ذكره السلف عن أهل البدع، قال: أبو بكر بن عياش -لما قيل له أن بالمسجد أقواماً يجلسون ويجلس إليهم الناس-، فقال: "من جلس للناس جُلس إليه، ولكن أهل السنة يموتون ويبقى ذكرهم، لأنهم أحيوا بعض ما جاء به الرسول فكان لهم نصيب من قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} [الشرح: 4]، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم، لأنهم شانوا بعض ما جاء به الرسول فبترهم الله فكان له نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} [الكوثر: 3] " (¬1) قلت: صدق والله، وترجمة البكري خير مثال على ذلك. 1 - اسمه ونسبه ومولده: هو أبو الحسن نور الدين علي بن يعقوب بن جبريل بن عبد المحسن البكري الشافعي المصري، ينتهي نسبه إلى عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ولد سنة 673 هـ. 2 - شيوخه وآثاره العلمية: قال مترجموه: "هو الإمام الفقيه الزاهد"، سمع مسند الشافعي على وزيرة بنت المنجا. ومن شيوخه ابن الجزري (¬2) الذي نهى تلميذه البكري وأنكر عليه رده على ابن تيمية، وقال له: "أنت لا تحسن الكلام"، وابن الرفعة (¬3) الذي أوصاه أن يكمل شرح الوسيط، والمسمى المطلب، ولم يتفق ¬
3 - مذهبه الفقهي
للبكري ذلك، لما كان يغلب عليه من التّجلي (¬1) والانقطاع، وله كتاب في "البيان" وآخر في "تفسير سورة الفاتحة" وكتاب "الأحكام"، لم أجد منها شيئاً سواء كان مخطوطاً أو مطبوعاً، وله فتوى في تكفير ابن عربي قبحه فيها ولعنه (¬2)، وابن عربي أهل للتقبيح والتكفير. ولم أجد من ذكر له تلاميذ، فلعله لم يجلس للتدريس أصلاً، فهو ليس أهلاً لذلك، وبجمع أقواله إلى بعضها يصدق قول شيخه فيه: "إنه لا يحسن الكلام"، ففيها ركاكة العبارة، وضعف الأسلوب، ولذلك فهو ليس من العلماء، بل لديه نوع مشاركة في بعض العلوم. ومن أثنى عليه فإنما نظر إلى جانب جميل في البكري وهو التديّن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشجاعة فيما يرى أنه الحق، ولكن يفسد عليه هذا كله، سوء الاعتقاد، ومصادمة أصول الإسلام العظام في الدعوة لعبادة القبور من دون الله -تعالى-. 3 - مذهبه الفقهي: البكري شافعي المذهب أورده السبكي والإسنوي في طبقات الشافعية، والعبادي في ذيل طبقات الفقهاء الشافعيين، إلا أنه لا يوجد له أي أثر في المذهب. 4 - عقيدة البكري: البكَري صوفي قبوري؛ كما هو واضح فيما نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، يدافع عن أقوال الصوفية ويعظمها، اتلدعو إلى تعظيم القبور ¬
5 - طريقة البكري الصوفية
ودعاء المقبورين من دون الله -تعالى-، بل يكفر ويرمي بالزندقة كل من يرد عليه ضلاله؛ كما فعل مع شيخ الإسلام ابن تيمية، ويرى مثل سلفه الأقدمين أن إنكار بدع القبورية مؤذن بالهلاك، كما قال تعالى عن سلفه قولهم لإبراهيم -عليه السلام- لما نهاهم عن الشرك: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} [الأنعام: 80 - 81]. فقد قال البكري: (لقد خشيت على كثير من أهل الإقليم بسبب تقاعدهم عن نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -) (¬1)، وهذه عادة عباد القبور في كل عصر ومصر، وقد برأه شيخ الإسلام ابن تيمية من القول بالحلول والاتحاد (¬2)، وهذا من عدله -رحمه الله- وإنصافه. ومع صوفيته وقبوريته فقد أغفله الشعراني في طبقاته، ولم أجد له ذكراً في المصادر الصوفية، ولعل تكفيره ابن عربي شيخ الصوفية الأكبر هو السبب في إغفاله. وأما اعتقاده في الأسماء والصفات والقدر فليس له كلام واضح فيها، ولكنه يرى بعض آراء الأشاعرة، فهو يرى أن التوحيد هو توحيد الربوبية فقط (¬3)، وينكر السببية (¬4)، ويقول بالجبر (¬5)، وغير ذلك. 5 - طريقة البكري الصوفية: ما وصلنا عن الرجل يظهر أنه لا ينتسب إلى طريقة معينة، وأما بعض الطرق الصوفية التي يطلق عليها اسم البكرية، فلم أجد من نسبه إلى أي منها، وهما: الأولى: "البكرية" وتنسب إلى عماد الدين عبد الرحمن بن محمد البكري ¬
6 - منهج البكري في التكفير
الصقلي (ت 380 هـ) (¬1) وقد رد عليه الإمام ابن أبي زيد القيرواني الأندلسي (¬2) (ت 386 هـ)، في كتابيه "كشف التلبيس في الرد على البكرية"، و"الاستظهار في الرد على البكرية"، ومما أنكر عليه ابن أبي زيد الغلو في كرامات الأولياء، مثل: قلب الأعيان، ورؤية الله في اليقظة. وقد ورد اسم هذه الطائفة في بعض المصادر "الفكرية" (¬3)؛ والصواب البكرية. الثانية: الطريقة البكرية الصوفية المعاصرة الموجودة في مصر وغيرها، وإن كان رؤساء الطريقة ينتسبون إلى أبي بكر - رضي الله عنه -، وأبو بكر بريء من ضلالهم وإفكهم كما ينتسب البكري، وقد ذكر رؤساء الطائفة ممن ينسب للصديق - رضي الله عنه - محمد توفيق البكري في كتابه "بيت الصديق" ولم يذكر علي بن يعقوب البكري (¬4). 6 - منهج البكري في التكفير: التكفير حق لله -تعالى- فلا يكفر إلا مَنْ كفره الله ورسوله، أما التكفير عند البكري فحاله كحال المبتدعة يبتدعون البدعة ويكفرون من خالفهم فيها، ¬
7 - مواقفه مع شيخ الإسلام ابن تيمية
وأقوال البكري في هذه المسألة تبنى على ما سبق ذكره في آثاره العلمية، فهو ليس من الراسخين في العلم، ولذلك نجده يكيل الكفر والزندقة والسب لشيخ الإسلام ابن تيمية كيلاً لا لسبب شرعي، كما نجده أيضاً يكفر ابن عربي محيي الدين ويلعنه، وابن عربي أهل لذلك، فهل تكفير البكري مبني على أسس شرعية؟ أم حسب الهوى؟ ومن خلال دراسة أقواله يظهر أنه يكفر من خالفه مهما كانت هذه المخالفة صواباً أو خطأ. 7 - مواقفه مع شيخ الإسلام ابن تيمية: آذى البكري شيخ الإسلام ابن تيمية بالقول والعمل، أما القول فقد رماه بالزندقة، قال: (إن المجيب -أي ابن تيمية- لا يثبت على تأويل، وإنما يذهب إليه عند الخوف زندقة منه على ما علمته)، وأحياناً يصل إلى حد التكفير (¬1). واستعدى السلطان في عصره على شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: (لقد خشيت على كثير من أهل الإقليم بسبب تقاعدهم عن نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإهلاكة وإهلاك أمثاله خصوصاً أهل الدولة وأصحاب الحكم) (¬2). ولكن جعل الله كيده في نحره وسلط الله السلطان عليه، وسلم الله أهل العلم والإيمان. وأما بالعمل فقد كان من أشد الصوفية على شيخ الإسلام ابن تيمية، ففي محنته معهم عام 707 هـ عندما ادعوا عليه أنه يمنع الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعض الحاضرين: [يعزر]، قال البكري: "لا معنى لهذا القول، فإنه إن كان تنقيصاً يقتل، وإن لم يكن تنقيصاً [لا يعزر] " (¬3). وفي رجب، وقيل شعبان سنة 711 هـ تعصب على شيخ الإسلام ابن تيمية جماعة من الغوغاء معهم البكري نور الدين وتفردوا به وضربوه، وقد استفرد البكري بالشيخ ووثب عليه، ونتش أطواقه (¬4) وقال: "احضر معي إلى ¬
8 - موقف البكري مع السلطان (الملك الناصر محمد بن قلاوون)
الشرع، فلي عليك دعوى"، فلما تكاثر الناس انملص، فطُلب -أي البكري- من جهة الدولة فهرب واختفى، وثار بسبب ذلك فتنة، وحضر جماعة كثيرة من الجند وغيرهم إلى الشيخ لأجل الانتصار له، فلم يجبهم، وقال: "أنا ما أنتصر لنفسي". وأكثروا عليه في القول حتى قال لهم: "إما أن يكون الحق لي، أو لكم أو لله، فإن كان الحق لي فهم في حل، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني فلا تستفتوني؛ وافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه كما يشاء ومتى شاء"، ولما طلبت الدولة البكري هرب واختفى عند شيخ الإسلام ابن تيمية لما كان مقيماً في مصر حتى شفع فيه عند السلطان وعفى عنه (¬1). فانظر نبل موقف ابن تيمية، وموقف البكري منه، قابل العفو والصفح بالظلم والعدوان، والشفاعة له باستعداء الدولة والسلطان. 8 - موقف البكري مع السلطان (الملك الناصر محمد بن قلاوون): في النصف من المحرم سنة 714 هـ بلغ البكري أن النصارى قد استعاروا من قناديل جامع عمرو بن العاص بمصر شيئاً؛ وعلقوه في كنيسة، فأخذ معه طائفة كبيرة من الناس وهجم على الكنيسة والنصارى في المجمع ونكل بهم؛ وبلغ منهم مبلغاً عظيماً، وعاد إلى الجامع وأهان قوّمته وأكثر الوقيعة في خطيب الجامع، فبلغ السلطان فأمر بإحضار القضاة وفيهم ابن الوكيل (¬2)؛ وأحضر البكري فتكلم ووعظ وذكر آيات من القرآن وأحاديث، واتفق أنه أغلظ في العبارة للسلطان، ثم قال: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" (¬3) ¬
فقال له السلطان -وقد اشتد غضبه-: أنا جائر؟ قال: "نعم، أنت سلطت الأقباط على المسلمين وقويت دينهم"، فلم يتمالك السلطان نفسه أن أخذ السيف وهمَّ بالقيام ليضربه، فبادر بعض الأمراء وأمسك يده، فالتفت إلى ابن مخلوف وقال: "يا قاضي يتجرأ علي هذا، ما الذى يجب عليه"، قال: "لم يقل شيئاً يوجب العقوبة"، فصاح السلطان بالبكري: اخرج عني، فقام وخرج، فقال ابن الوكيل: "ما كان ينبغي أن يغلظ ويتكلم برفق"، فأعجب السلطان، فقال ابن جماعة: "قد تجرأ وما بقي إلا أن يزاحم السلطان"، فانزعج السلطان وقال: "اقطعوا لسانه"، فبادر الأمراء ليفعلوا ذلك بالبكري، فارتعد وصاح واستغاث بالأمراء فرقّوا له؛ وألحوا على السلطان في السؤال في أمره؛ والشفاعة فيه حتى رق له، وأمر بنفيه ومنعه من الفتوى، ودخل ابن الوكيل على السلطان وهو يبكي وينتحب، فظن السلطان أنه أصابه شيء، فقال له: "خير خير"، فقال: "البكري عالم صالح (¬1) لكنه ناشف الدماغ"، قال: "صدقت" وسكن غضبه (¬2). وقال الذهبي: "وأراد قطع يده لفتاويه" (¬3). قلت: لعل الذهبي يقصد حادثة غير هذه الحادثة، فقد انتقد شيخ الإسلام ابن تيمية فتوى للبكري في بيت المال (¬4)، ولم أجد من ذكر هذه الفتوى. ¬
9 - وفاته وشعره
وقد كتب ابن تيمية في الرد على البكري ثم شغل عن إكمال الرد عليه؛ حتى حصل له هذا الموقف للبكري مع السلطان؛ يقول ابن تيمية: "كنت قد أجبت عن كلامه إلى هذا الموضع، واتفقت أمور شغلتني عن تمام ذلك حتى أنزل الله بأسه بهذا الجاهل الظالم وحزبه الجاهلين الظالمين، وكانوا في ذلك نظير المستفتحين من المشركين، وهذا الوعيد الذي ذكره في كلامه به وبأحزابه أليق؛ وهم به أحق، وهكذا فعل الله -تعالى- بهم حيث عاقبه وحزبه عقوبة المعتدين الظالمين، عقوبة لم يعاقب بها أحداً من أشكالهم" (¬1). من هذه المواقف يظهر جلياً أن البكري اتصف بالحدة والغلظة مع كل من خالفه، وبسط لسانه في الإنكار دون حكمة ودون روية، وصفه ابن حجر: "بأنه أكثر القلاقل" (¬2). ومع هذا فالبكري ديّنٌ متعفف طارح للتجمل. 9 - وفاته وشعره: تنقل بأعمال مصر حتى توفي يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر سنة 724 هـ، ودفن بالقرافة (¬3) قال ابن كثير: وكانت جنازته مشهورة غير مشهودة. * من شعره -عفا الله عنا وعنه-: كن يا علي على الطريق الأقوم ... واذعن لخلاق (الأنام) (¬4) وسلم ودع الهوى والنفس عنك بمعزل ... والوجه منك أقم لدين قيم (¬5) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الباب الثاني: دراسة الكتاب
الباب الثاني: دراسة الكتاب ويتكون من ستة فصول: الفصل الأول: الاستغاثة وأقسامها. الفصل الثاني: الكتب المؤلفة في موضوع الاستغاثة. الفصل الثالث: عنوان الكتاب ونسبته للمؤلف. الفصل الرابع: منهج المؤلف في الكتاب.
الفصل الأول: الاستغاثة أقسامها وحكمها
الفصل الأول: الاستغاثة أقسامها وحكمها الاستِغَاثةُ: مصدر، وعند النحاة من أنواع النداء، وتعريفها لغة: أن يطلب من المُنادى الإغاثة لغيره، وهي: طلب الغوث وهو كشف الشدة، كالاستنصار طلب النصر، وكالاستجارة والاستعاذة، فكلها من أنواع الطلب والدعاء لأن الفعل الثلاثي إذا تقدمه السين والتاء دل على طلب الشيء، والنداء والدعاء بمعنى واحد، وبين الاستغاثة والدعاء عموم وخصوص مطلق يجتمعان في مادة دعاء المستغيث، وينفرد الدعاء الذي هو مطلق الطلب أو السؤال من غير المستغيث، وينفرد الدعاء الذي هو مطلق الطلب أو السؤال من غير المستغيث. والمستغاث به هو المطلوب منه الغوث، والمستغيث هو الذي يطلب الإغاثة من غيره، ولفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما يستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به. والفرق بين الاستغاثة والتوسل، أنه في الاستغاثة لا يقال: استغثت إليك بفلان أن يفعل بي كذا، وإنما يقال: استغثت بفلان أن يفعل بي كذا، وفي التوسل يقال ذلك، كما أن من سأل بشيء أو توسل به لا يكون مخاطباً له ولا مستغيثاً به، لأن قول السائل المتوسل: أتوسل إليك يا إلهي بكذا، إنما هو خطاب لله، لا لذلك المتوسل به، بخلاف المستغاث به فإنه مخاطب مسؤول منه الغوث. أقسام الاستغاثة: وتنقسم الاستغاثة إلى: استغاثة مشروعة، واستغاثة ممنوعة، والاستغاثة المشروعة أنواع: أولها: الاستغاثة بالله -تعالى-، وهي الاستغاثة المأمور ما في الشرع، فلا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله -تعالى-، وكل غوث فهو من عنده.
قال تعالى إخباراً عن المؤمنين في استغاثتهم إياه ليلة بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9]، وقد أمر تعالى عباده أن يدعوه ويستغيثوه، فهو تعالى غياث المستغيثين: ومعناه المدرك لعباده في الشدائد، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60] عبادتي: أي دعائي. الثاني: الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يقدر عليه ويليق بمنصبه، وهذا لا يُنازع فيه مسلم، وهذا النوع جائز أيضاً في حق غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من عامة المؤمنين وخاصتهم، بل والفجار والكفار أيضاً، ومن هذا النوع ما وردت به النصوص من الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة. قال تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)} [القصص: 15]، فهذه الاستغاثة في ما يقدر عليه موسى -عليه السلام-، وهذا لا ينافي كمال التوحيد. وقد غلط بعض الغلاة فسوَّى بين حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وموته، وأثبتوا له بعد موته حياة حقيقية كحياته - صلى الله عليه وسلم - في الحياة الدنيا، وأن الشهداء أحياء في قبورهم وحياة الأنبياء أكمل، وبناء على هذا أجازوا الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حياً وميتاً. ولم يعلموا أن حياته - صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- حياة برزخية، وهذه الحياة البرزخية من الغيب الذي أخبرنا الله به، ولم نعلم حقيقتها وكنهها، فوجب علينا الإيمان بحياة الأنبياء على هذا الأساس مع الجزم باختلافها عن الحياة الدنيا، ولو أريد أن حياتهم كحياتهم في الدنيا لاقتضت جميع لوازمها من أعمال، وتكليف، وعبادة، ونطق، وغير ذلك (¬1). ¬
الاستغاثة الممنوعة
* وأما الاستغاثة الممنوعة فهي أقسام أيضاً: الأول: الاستغاثة بالنبي أو الرجل الصالح الحيين الشاهدين الحاضرين فيما لا يقدر عليه إلا الله -تعالى-؛ مثل غفران الذنوب وهداية القلوب، وشفاء المرض، والرزق والنصر على الأعداء، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله -تعالى-، وهذه الاستغاثة من الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة، وهذا شرك العرب في الجاهلية. إلا أن هؤلاء قد يزيدون على شرك العرب في الجاهلية، أنهم يشركون أيضاً في توحيد الربوبية الذي أقرّ به مشركو العرب، الذين أقروا بأن الله خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم، أما هؤلاء الغلاة فمنهم من لا يقبل الرزق إلا من شيوخهم. وأيضاً فإن مشركي العرب يخلصون لله في الشدائد، وهؤلاء الغلاة يزدادون شركاً في الشدائد، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الثاني: الاستغاثة بالميت سواء كان نبياً أو غير نبي، وحجتهم في ذلك تسويتهم بين حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومماته، كما سبق بيانه، واعتقاد بعضهم في شيوخهم أن لهم تصرفاً في الكون بعد الممات، واعتمدوا على حكايات مكذوبة لسدنة القبور ليأكلوا ما أموال الناس بالباطل. الثالث: الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والرجل الصالح في حال غيبته، وهذا أيضاً لا يجوز، فإنه لا يسمع الاستغاثة ولا يعلم الغيب، وعمدة القائلين بجوازها حكايات لا تصح، فضلاً عن أن تكون دليلاً في الدين، منها: أن أحدهم استغاث بالله فلم يغثه، فاستغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والشيخ الفلاني فأغاثه، وفرَّج كربته. وقد تتمثل الشياطين بالمستغاث به إمعاناً في إضلال المستغيثين بهم، وتُحْضِر لهم بعض مطالبهم، وحصول مطالبهم يجعل هذه الأسباب مباحة، فإنه ليس كل ما كان سبباً كونياً يجوز تعاطيه ولو كان نافعاً. فهذه أقسام الاستغاثة، عرف المسلمون الاستغاثة المشروعة، ولم يعرف القبورية إلا الاستغاثة الممنوعة، وجعلوها أصل دينهم.
الفصل الثاني: الكتب المؤلفة في موضوع الاستغاثة
الفصل الثاني: الكتب المؤلفة في موضوع الاستغاثة كلام الأئمة المتقدمين في مسألة الاستغاثة بالمخلوقين قليل، فهي مسألة واضحةٌ ناصعة لا لبس فيها، ولا تحتاج إلى بيان، "فإن آيات القرآن الكريم ناطقة بحظر دعاء كل أحد، لا من الأحياء، ولا من الأموات سواء كانوا أنبياء أو صالحين، أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة أو بغيرها، فإن الأمور غير المقدورة للعباد لا تطلب إلا من الله خالق القدر ومنشئ البشر" (¬1). "ومن المعلوم أيضاً أن الدعاء عبادة من أجلَّ العبادات، بل هو أكرمها على الله ... فإن لم يكن الإشراك فيه شركاً؛ فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك؛ فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركاً من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء هو أكبر شرك المشركين الذين بُعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). ولذلك كانت ترد هذه القضية عرضاً، في تفسير آية من الكتاب العزيز، أو نقل خبر عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أو عن الصحابة - رضي الله عنهم -، أو قصص من أخبار التابعين والسلف الصالح. ولذا قلما يفردونها في مصنف خاص، أو يتكلمون في حكمها وأنواعها وما لا يجوز صرفه لغير الله، وما يجوز الاستغاثة فيه بغير الله مما يقدر عليه البشر، لشدة وضوحها ومعرفة الناس ما. ¬
* القسم الأول: الكتب المؤلفة في الاستغاثة بالله -تعالى-
وقد شهد بهذا أحد القبورية وهو محمد بن موسى النعمان المالكي (ت 683 هـ) فقال: "أما بعد فإنه سبق جماعة من العلماء الأعلام إلى جمع أخبار من استغاث بالله -تعالى- فقصدت أن أذكر ما وقع لي ممن استغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولاذ به في شدته" (¬1). لهذا فالكتب التي تعرضت لموضوع الاستغاثة ثلاثة أقسام: القسم الأول: الكتب المؤلفة في الاستغاثة بالله -تعالى-، وهي ما كانت على الإسلام الصحيح الذي لم يعرف بدعة القبورية. والقسم الثاني: الانحراف في مسألة الاستغاثة بالمقبورين. والقسم الثالث: ردود أهل السنة والجماعة على هذا الانحراف وبيان حكم الاستغاثة بغير الله. وإليك هذه الأقسام بشيء من التفصيل. * القسم الأول: الكتب المؤلفة في الاستغاثة بالله -تعالى-: لم يصنف السلف هذه الكتب ليوضحوا القضية، أو يبينوا حكمها، أو يردوا بدعة القبورية، فهي قضية واضحة لا لبس فيها، أوضحها القرآن الكريم، وأبانها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم تعرف الأمة بعدُ بدعة القبورية حتى تردها، بل لعله لم يتوقع أحد منهم وقوع الاستغاثة بالأموات في هذه الأمة. فهذه المؤلفات لجمع الأخبار في هذا الباب، وكانت تحكي حال الأمة في اللجوء إلى الله تعالى عند الكرب والشدة، ورجائه ودعائه وحده، لا يلجأون لنبي ولا لملك من الملائكة ولا لرجل من الصالحين. قال القاضي التنوخي: "فإني لما رأيت أبناء الدنيا متقلبين فيها بين خير وشر، ونفع وضر، ولم أر لهم في أيام الرخاء أنفع من الشكر والثناء، ولا في أيام المحنة والبلاء أنجع من الصبر والدعاء، .... وجدت من أقوى ما يفزع إليه من أناخ الدهر بمكروهه عليه، قراءة الأخبار التي تنبئ عن تفضل الله -عز وجل- على من حصل قبله في محصله، ونزل به مثل بلائه ومعضله، بما أتاحه الله -تعالى- له من صنيع أسهل الأرزاق، ومعونة حل بها من الخناق، ... فإن ¬
* من المؤلفات في هذا القسم
معرفة الممتحن بذلك تشحذ بصيرته للصبر، وتقويه عزيمته على التسليم لله مالك كل أمر، والتفويض إلى من بيده ملك النواصي، وإذا علم الله -سبحانه وهو علام الغيوب- من عبده الممتحن المبتلى صدق اللجوء إليه، وانقطاع أمله إلا من عنده، لم يكله إلى سعيه وجهده، ولم يرض له باحتماله وطوقه، ولم يخله من عنايته ورفقه .... " (¬1). وهذه القصص التي ذكروها البعض منها في القرآن الكريم، والبعض الآخر في السنة النبوية، ومنها ما ورد عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم. * من المؤلفات في هذا القسم: 1 - " الفرج بعد الشدة والضيق"، لأبي الحسن علي بن محمد المدائني (ت 225 هـ). 2 - "الفرج بعد الشدة"، لأبي بكر بن أبي الدنيا (ت 281 هـ). 3 - "مجابو الدعوة"، لأبي بكر بن أبي الدنيا أيضاً. 4 - "الفرج بعد الشدة"، للقاضي أبي علي المحسن بن أبي القاسم التنوخي (ت 384 هـ)، وهذا الكتاب أجمع الكتب السابقة وأوسعها، وله مختصرات كثيرة منها: مختصر لطف الله بن حسن التوقاني. 5 - كتاب "المستصرخين بالله"، للقاضي (بهاء الدين أبي الوليد) يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث بن الصفار القرطبي (ت سنة 429 هـ)، وصف الذهبي كتبه: "بأنها نافعة" (¬2). 6 - كتاب "المستغيثين بالله -تعالى- عند المهمات والحاجات والمتضرعين إليه سبحانه بالرغبات والدعوات، وما يسر الله -الكريم- لهم من الإجابات والكرامات"، تأليف الإمام الحافظ (أبي القاسم) خلف بن ¬
* القسم الثاني: الانحراف في مسألة الاستغاثة
عبد الملك بن مسعود بن بشكوال (ت سنة 578 هـ)، وقد نقل في كتابه من مصنفات ابن أبي الدنيا مثل "الفرج بعد الشدة"، وكتاب "المستصرخين بالله" و"الدعاء" لابن أبي حاتم، و"الأخبار" للطحاوي، و"من عُرف بالإجابة" للقصري غيرها، جمعه بدون تمحيص وتدقيق، فجمع بين الغث والسمين (¬1). وقد ذكر فيه الآيات والآثار التي ورد فيها لفظ الاستغاثة، وبعض قصص من استغاثوا بالله فأغاثهم. 7 - "العدة للكرب والشدة"، جمع أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي (ت 643 هـ) (¬2). 8 - "الفرج بعد الشدة والضيقة"، تأليف الشريف إبراهيم بن عبد الله الحازمي. وأما ما ورد عرضاً فكثير جداً، فلا يكاد يخلو كتاب حديث أو تفسير من ذكر الاستغاثة بالله (¬3). * القسم الثاني: الانحراف في مسألة الاستغاثة: تعتبر الاستغاثة بالأموات من أهم عقائد القبورية، فهي الغاية التي لا ¬
غاية وراءها، والمقصد الأسمى، فهم يثبتون أن الأموات يعلمون الغيب؛ وأن لهم التصرف المطلق في الكائنات، وأنهم أحياء في قبورهم حياة كحياتنا؛ وأنهم يسمعون نداء المستغيثين بهم، كل ذلك ليجوِّزوا الاستغاثة بهم، ولذا قال بعض العلماء: "الاستغاثة بالأموات أُمُّ الشركيات" (¬1). لذلك اهتم القبورية بهذه المسألة، وأوْلوها عنايتهم، وألفوا فيها المؤلفات عرضاً ورداً، وحسب ما يصل إلينا، وحسب ادعاء ابن النعمان في كتابه "مصباح الظلام"، فهو يعتبر أول كتاب في هذا الانحراف، أي في القرن السابع الهجري. ومن المعلوم أن بدع القبور ظهرت في آخر القرن الثالث الهجري، في عهد الدولة البويهية الرافضية، فهذه البدعة بدأت متقدمة عند الرافضة، لأن أصل دينهم قائم على عبادة الأئمة، وقد تسربت فيما بعد إلى بعض المنتسبين إلى السنة. لذا لن أذكر كتب الرافضة في هذه المسألة لأنها كثيرة، وسأقتصر على كتب القبورية فقط: 1 - "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام"، تأليف (شمس الدين أبو عبد الله) محمد بن موسى بن النعمان المراكشي المزالي التلمساني الفاسي (ت سنة 683 هـ) (¬2). وحسب علمي لم يطبع، وقد حصلت على نسخة خطية منه من قسم ¬
المخطوطات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مصورة من مخطوط في مكتبة شستربتي رقم (3677)، وغاية كاتبه جمع أخبار من استغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولاذ به في شدته وتوسل إلى الله به (¬1)، وحسب ما وصل إلينا فهو أول كتاب يذكر الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من دون الله -عز وجل-، وإن كان أقل ضلالاً ممن جاء بعده. وقد ذكر أشياء صحيحة مثل أحاديث الشفاعة، وأحاديث معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - في تكثير الماء أو الطعام لكن في غير موضعها. وذكر أشياء معلوم بطلانها مثل قصة مالك مع المنصور، وقصة العتبي؛ يظن أنها صحيحة. وهو كما وصفه ابن تيمية: "وغاية ما ذكره نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم" (¬2). وهو قدوة لكل قبوري جاء بعده، فقد نقل منه البكري في رده على ابن تيمية (¬3)، ونقل منه النبهاني في "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق" (¬4). 2 - كتاب البكري (ت 724 هـ) في الرد على ابن تيمية ولم يصل إلينا سوى ما أورده ابن تيمية للرد عليه في كتابنا هذا، ولم تذكر لنا مصادر ترجمة البكري أي شيء عنه، وهو رد على فتوى في حكم الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لابن تيمية، قال ابن تيمية: "وقد ذهب إليه الجواب ووقف عليه، وزعم أنه يرد عليه، فافترى على المجيب" (¬5). وقد ذهب البكري في جوابه إلى جواز الاستغاثة بالنبي والرجل الصالح، بل كفَّر من أنكرها، وجعلها من صفات الكمال للنبي - صلى الله عليه وسلم - التي يكفر من أنكرها. 3 - "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق"، تأليف يوسف بن إسماعيل النبهاني (ت سنة 1350 هـ) (¬6)، حمل فيه على شيخ الإسلام ابن تيمية، وأجاز ¬
الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين والأولياء. وهو والله شواهد الضلال. 4 - "الإغاثة بأدلة الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -"، تأليف حسن بن علي السقاف -هداه الله- قال فيه بالاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وجعل عمدته أدلة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). 5 - "نفحات القرب والاتصال بإثبات التصرف للأولياء بعد الانتقال"، تأليف شهاب الدين أبي العباس الحموي الحنفي (ت 1098 هـ). 6 - "تحريض الأغبياء على الاستغاثة بالأنبياء والأولياء"، تأليف عبد الله بن إبراهيم الميرغني (ت 1207 هـ). 7 - "أنوار الانتباه بحِلِّ النداء بيا رسول الله"، تأليف أحمد رضا الأفغاني إمام البريلوية (ت 1340 هـ)، وله كتابان آخران هما: "بركات الاستمداد" و"حدائق بخشش" يعني حدائق الهبات، كله استغاثات بالأموات (¬2). وأما عقد القبورية الأبواب والفصول في كتبهم للاستغاثة بالأموات؛ فكثيرة (¬3). ¬
* القسم الثالث: ردود أهل السنة والجماعة
* القسم الثالث: ردود أهل السنة والجماعة: لما انتشر ضلال القبورية، انتدب للرد عليهم علماء السنة في كل زمان، وقد أفردوا هذه القضية في مؤلفات مثل: 1 - "الاستغاثة في الرد على البكري" لابن تيمية، وهو كتابنا هذا، وفيه رد ابن تيمية على البكري. 2 - "غاية الأماني في الرد على النبهاني"، للعلامة أبي المعالي محمود شكري الألوسي (ت 1342 هـ) ويقع في مجلدين، رد فيه على شواهد الحق للنبهاني، وطبع في عصر المؤلف ولم يذكر عليه اسم المؤلف الصريح خوفاً من كبار الصوفية المتنفذين في الدولة العثمانية، وطبع ثانية باسم المؤلف ولم يذكر تاريخ الطبعة (¬1). 3 - "الرد على شبهات المسشغيثين بغير الله"، تأليف الشيخ أحمد بن ¬
إبراهيم بن عيسى طبع ضمن الجامع الفريد (¬1)، وهو رد على صاحب كتاب "أنموذج الحقائق" في الاستغاثة وغيرها. 4 - "رسالة في حكم الله الواحد الصمد في حكم الطالب من الميت المدد"، تأليف الشيخ محمد بن سلطان المعصومي الحنفي (ت 1379 هـ) (¬2). وهي عبارة عن جواب عن سؤال من طلبة تركستان، أطال النقل فيها ممن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. 5 - "حكم من استغاث بغير الله"، تأليف العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية (¬3). وهي تعليق على أبيات نشرت في ذكرى المولد النبوي الشريف تضمنت الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما عقد أهل السنة الفصول والأبواب فى الرد على القبورية في استغاثتهم بالأموات فكثيرة جداً، لا يتيسر حصرها (¬4). ¬
الفصل الثالث: عنوان الكتاب ونسبته للمؤلف
الفصل الثالث: عنوان الكتاب ونسبته للمؤلف * عُرف الكتاب بعنوانين: أولهما: كتاب "الاستغاثة"، ويضيف بعضهم: المعروف "بالرد على البكري"، أو "في الرد على البكري". أ- سماه المؤلف بـ "الاستغاثة الكبير" (¬1)، وقال: الكبير، ليميز عن رسالة الاستغاثة له. ب- جاء هذا الاسم على طرة جميع النسخ التي حصلت عليها، وهي: ¬
نسخة جامعة أم القرى وقد جعلتها الأصل؛ ونسخة الإفتاء ورمزها (ف)، ومنها نسخة في مكتبة جامعة الملك سعود، ونصهما "كتاب الاستغاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية راداً به على ابن البكري"، ونسخة دارة الملك عبد العزيز بالرياض رقم 739 ورمزها (د) ونصها "كتاب الاستغاثة الشهير بالرد على البكري" وأصلها محفوظ بمكتبة الملك عبد العزيز بجدة برقم 2886، ونسخة المعهد العلمي بحائل رقم 39 ضمن مجموع ورمزها (ح) ونصها "كتاب الاستغاثة"، وفي قطعة من الكتاب المحفوظة في مكتبة الدولة ببرلين (قال أبو العباس رحمه الله في "كتاب الاستغاثة في الرد على البكري"). وبهذا الاسم ذكره الصفدي في "فوات الوفيات" (¬1) ونصه: "وكتاب في الاستغاثة"، والعلامة عبد الرحمن بن حسن في كتابه: "كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس" (¬2) ونصه: (وقال رحمه الله (أي شيخ الإسلام) في "كتاب الاستغاثة في الرد على البكري")، وسمَّاه بهذا الاسم أيضاً الشيخ أحمد بن عيسى في كتابه: "الرد على شبهات المستغيثين بغير الله" (¬3)، والعلامة محمود شكري الألوسي في غاية الأماني ونصه: "قال -رحمه الله- في "كتاب الاستغاثة الذي رد به على البكري" (¬4). وأيضاً سماه بهذا الاسم محمد الشيباني في كتابه "أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية" (¬5)، والدكتور عبد الرحمن المحمود في كتابه: "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (¬6) ونصه: "والرد على البكري المعروف بالاستغاثة"، والدكتور علي الشبل في "مقدمة مسألة في الكنائس لشيخ الإسلام ابن تيمية" (¬7) ونصه: "الاستغاثة والرد على البكري". العنوان الثاني: الرد على البكري في الاستغاثة. ¬
وقد ذكره بهذا الاسم ابن القيم في أسماء مؤلفات ابن تيمية (¬1) ونصه: "كتاب في الرد على البكري في الاستغاثة" في مجلد. وابن عبد الهادي في العقود الدرية (¬2) ونصه: "وكتاب الرد على البكري في الاستغاثة" مجلد. ولكن يظهر أن ابن القيم لم يجزم بهذا العنوان، وإنما ذكر موضوع الكتاب، فعلى سبيل المثال عندما جزم بعناوين كتب أخرى للشيخ قال مثلاً: كتاب الإيمان وكتاب الاستقامة، وقد ذكره بهذا العنوان أيضاً عبد العزيز الزير آل حمد في حاشية كتاب: "كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس"، للشيخ عبد الرحمن بن حسن (¬3). كما ورد هذا العنوان أو قريب منه على طرة مخطوطتين لا قيمة لهما وهما: الأولى بعنوان: خلاصة رد ابن تيمية على البكري في الاستغاثة والمحفوظة في خزانة المكتبة التيمورية برقم (281)، وهي مختصرة تصرف الناسخ في مواضع كثيرة. الثانية بعنوان: رد ابن تيمية على ما رد عليه ابن يعقوب البكري في مسألة الاستغاثة. والمحفوظة في خزانة المكتبة التيمورية أيضاً برقم (405) وهي قطعة من تلخيص الكتاب، وليس فيها من نص الكتاب شيء. مما سبق يتبين أنه قد جاء عنوانان للكتاب، وهما متفقان مضموناً. ويتبين أيضاً أن العنوان الأول وهو: "كتاب الاستغاثة" سمَّاه به المؤلف، وورد في جميع النسخ، الخطية وعند أكثر المترجمين لمؤلفه، غير أنهم أضافوا جملة "المعروف بالرد على البكري" أو "في الرد على البكري" تمييزاً للكتاب عن رسالة المؤلف المعروفة بالاسم نفسه، وتعريفاً بموضوع الكتاب، وقد عُرف الكتاب واشتهر بعنوان: "كتاب الاستغاثة في الرد على البكري". وللأسف الشديد فإن طبعة 1346 هـ فيها خطأ كبير في عنوان الكتاب كما سبقت الإشارة إليه. ¬
* نسبة الكتاب إلى المؤلف
* نسبة الكتاب إلى المؤلف: تثبت نسبة الكتاب إلى مؤلفه بأدلة كثيرة مشهورة، منها: أولاً: ذكر المؤلف له في كتابه قاعدة جليلة كما تقدم. ثانياً: ما جاء على النسخ الخطية للكتاب من نسبة الكتاب إلى مؤلفه شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية. ثالثاً: قد نص على نسبته إلى المؤلف الإمام ابن القيم في كتابه: أسماء مؤلفات ابن تيمية (¬1)، والصفدي في فوات الوفيات (¬2)، وابن عبد الهادي في العقود الدرية (¬3) وغيرهم ممن سبق ذكرهم. رابعاً: أحال ابن تيمية في هذا الكتاب إلى بعض كتبه الأخرى؛ مثل كتاب: "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، فقد أشار إليه في عدة مواضع وسماه باسمه، ونقل من الصارم ونقل منه البكري أيضاً (¬4). خامساً: ما جاء في آخر المخطوطات من قول النساخ: "هذا آخر ما وجدت من كتاب الاستغاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية" (¬5). سادساً: النقول الكثيرة من الكتاب، والتي نسبوا فيها الكتاب لمؤلفه. ¬
الفصل الرابع: منهج المؤلف في الكتاب
الفصل الرابع: منهج المؤلف في الكتاب لم يكن هذا الكتاب الرد الوحيد لشيخ الإسلام ابن تيمية، بل له كتب كثيرة في الرد على الخصوم، مثل: "منهاج السنة"، "والجواب الصحيح"، "وبيان تلبيس الجهمية وتأسيس بدعهم الكلامية"، والرد على الأخنائي" وغيرها. وقد سار في هذه الردود على منهج واحد، ولدراسة هذا المنهج نحتاج إلى رسائل لنعطيه حقه (¬1)، لذا نقتصر هنا على أهم ميزات منهج ابن تيمية في هذا الكتاب منها: 1 - الشمولية في الرد: قد يظن المطلع على الكتاب من أول وهلة أنه رد على شخص البكري، ولكن من معايشة الكتاب يتبين أنه رد على القبورية، وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية في وصف هذه الطائفة، فذكر اعتقاداتهم وأقوالهم وأشعارهم وما يحصل من بعضهم، ومناقشاته معهم، وما ذكره بعض الناس له عنهم، في مواضع متعددة. فيقول عن هذه الطائفة: "ويذكرون حكايات يظنينها صدقاً، منها أن أهل الصُّفَّة قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار لما انهزم" (¬2). وقد ساعد الشيخ على ذلك؛ سعة اطلاعه على تاريخ الفرق، وبدعهم وتاريخ نشوء كل بدعة، وكتبهم وبلدانهم، وكل ما يتعلق بهم. ¬
2 - وضوح الهدف والغاية
وكان هذا هو منهجه في ردوده الأخرى، لأن المقصود بالرد هم الطوائف لا الأعيان، فرد ابن تيمية على البكري على اعتبار أنه أحد القبورية. ويمثل الشمول أيضاً في الرد على كل ما ذكره البكري وإن لم يكن في موضوع الاستغاثة، يقول ابن تيمية: "ونحن نتكلم على ما ذكره وإن لم يختص بمسألتنا لما فيه من تمام الكلام على ما ذكره كله" (¬1). 2 - وضوح الهدف والغاية: يوضح شيخ الإسلام ابن تيمية الهدف من هذا الكتاب، فيقول: "ثم إن الأصحاب تقاضوني على كلام هذا الظالم الجاهل، لئلا يغتر بكلامه بعض الطغام (¬2)، حتى قال لي بعضهم: إن الكلام على هذه المسألة من أفضل الكلام، إذ فيها بيان التوحيد ونفي الشرك عن الصمد المجيد" (¬3). ويبين هدف أهل السنة والجماعة عموماً من الردود على المبتدعة فيقول: "وأهل العلم والإيمان؛ فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم ... ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء؛ بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا" (¬4). وفي مقابل ذلك يصف منهج أهل البدعة فيقول: "وهذه الطريقة التي سلكها هذا وأمثاله هي طريقة أهل البدع، الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة؛ مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم" (¬5). ¬
3 - ثبات المنهج والثقة به
لذلك نجد رد ابن تيمية خالٍ من التكفير والكذب والتوتر، بينما البكري كفر شيخ الإسلام ابن تيمية وسبه ولعن واتهم النيات، وحمّلَ الكلام ما لم يحتمل. 3 - ثبات المنهج والثقة به: وحدة منهج شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وثقته بما عنده من الحق المبني على الكتاب والسنة وأقوال السلف؛ بارزة في جميع ما كتب. وعلى هذا نجد هذا الكتاب على وتيرة واحدة، فهو يصف الخصم بالجهل والظلم ولا يكفره، وإن كان يشتد عليه، أحياناً، إلا أنه لا يخرج عن حدود الشرع، ويستدال على كل مسألة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف الصالح. بينما البكري يصف الشيخ مرة بالإلحاد (¬1)، ومرة بالزندقة والكفر (¬2)، ويستشهد بأقوال القبورية أمثاله. كما نجد هذا الكتاب مشبعاً بروح الثقة وبسلامة المنهج، وعدالة القضية، وموافقته للكتاب والسنة، ومخالفة خصمه لها، فيقول: "وقد طاف -أي البكري- بجوابه على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه" (¬3). وينقل ابن تيمية رد شيخ البكري عليه فيقول: "وقد كفانا شيخه وغيره من الناس، فبينوا ضلاله وجهله ما (¬4) ذكروه وذموه وعابوه وتنقصوه به" (¬5). ويرد على فهم البكري في الاستغاثة فيقول: "وهذا الكلام كذب باطل لم يسبقه إليه أحد" (¬6)، ويقول في إحدى المسائل: "وما علمت إلى ساعتى هذه أحداً من علماء المسلمين الذين يستحقون الإفتاء نازع في هذا" (¬7). ¬
4 - الأمانة العلمية والصدق
4 - الأمانة العلمية والصدق: ينقل شيخ الإسلام أقوال البكري بالنص ثم يقوم بالرد عليها، وهذا منهج رضيه لنفسه واتبعه ودعا إليه. وقد نعى على البكري كذبه وافتراءه عليه، فبعد أن ذكر كلام البكري الذي ادعى أنه لشيخ الإسلام بلفظه: "فيقال: في هذا الكلام من الكذب والافتراء والظلم والاعتداء والجهل والضلال ما يظهر عند التأمل" (¬1)، ثم ذكر نص جوابه الذي كذب عليه البكري فيه. أما البكري فعلى النقيض من ذلك، فلم يذكر ألفاظ ابن تيمية أو جوابه، بل يقول عنه: (إنه يخلط في الحقائق ويلحد في الآيات) (¬2). 5 - العدل والانصاف: نجد ابن تيمية يعتذر عن البكري، ويحكم عليه بعدل وإنصاف، يقول ابن تيمية بعد أن ذكر مشابهة قوله وأشباهه للنصارى: "وإن كانوا لا يعلمون لوازم قولهم" (¬3)، وأيضاً عند ذكره لمشابهة قوله للاتحادية؛ يقول: "لكن هذا الرجل -أي البكري- وأمثاله لم يصلوا إلى الاتحاد بل وقفوا عند القدر وهو شهود القيومية" (¬4)، ويقول: "وهذا الكلام باطل لم يسبقه إليه أحد، لا ريب أنه لجهله وهواه وقع في هذا، وإلا فما تعمد أن يقول ما يعلم أنه كذب" (¬5). ويحلل سبب خطأ البكري فيقول: "فدخل عليه الخطأ من وجوه: منها: أنه جعل المتوسل به بعد موته في الدعاء مستغيثاً به ... والثاني: ظنه أن توسل الصحابة به في حياته كان توسلاً بذاته لا بدعائه وشفاعته، فيكون التوسل به بعد موته كذلك" (¬6). كما نجده يقر البكري على الصواب؛ ويؤيده ويستدل عليه، فيقول: "ونحن نقول بموجب هذا الكلام وهو معناه الصحيح" (¬7). ¬
6 - المقارنة والتحليل
وعند كلامه عن تكفير البكري له يقول: "التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفر الله ورسوله" (¬1). 6 - المقارنة والتحليل: من أهداف الكتاب الرئيسة بيان الشرك الذي وقع فيه القبورية، وأن بعضهم وقع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، ولبيان هذا الضلال العظيم وتوضيح خطره يقارنه المؤلف بشرك العرب في الجاهلية، الذين نزل عليهم القرآن وقاتلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستباح أموالهم ودماءهم (¬2). ثم يبين من خلال هذه المقارنة أن شرك العرب أهون من شرك هؤلاء، فالعرب في الجاهلية مقرُّون بتوحيد الربوبية، وأن الله هو الخالق الرازق، بينما هؤلاء القبورية يعتقدون أن شيوخهم يرزقونهم ويحفظونهم، فهم أشركوا في توحيد العبادة وتوحيد الربوبية (¬3). ويقارن بين بيوت النيران وبيوت الكواكب والمقابر، وبين المشاهد التي على القبور ومشاهد الأصنام (¬4). ويقارن بين حال أهل التوحيد مع الأنبياء وتأدبهم معهم واتباعهم لهم، وحال أهل الشرك معهم الذين يخالفون أمرهم ويسلطون العامة والجهال عليهم، وأن أهل الشرك هم المنتقصون حقاً للرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- (¬5). بعد هذه المقارنات يبحث المؤلف عن مصدر هذا الشرك، فيوضح أن هذا الشرك انتقل إلى هؤلاء القبورية من الفلاسفة، الذين أخذوا دينهم عن الصابئة المشركين (¬6)، وأن متأخري المتكلمين والصوفية أدخلوا بعض ضلال الصابئة على المسلمين (¬7). ثم يعود للمقارنة مرة أخرى ليقارن بين شرك الصابئة وشرك العرب , ¬
7 - الاستطراد والتكرار
ليصل إلى أن شرك الصابئة المشركين -لأن الصابئة طوائف- شر من شرك العرب (¬1). فالمؤلف -رحمه الله- أراد بهذه المقارنات بيان خطورة ما وقعوا فيه من الشرك، وما هي مصادره، ليتيسر تجنبه وعلاجه. * * * وبعد، فهذه أبرز سمات منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الكتاب، وتركت غيرها للاختصار، وقد يدعي بعض الناس كثرة استطرادات الشيخ وتكرارها، فنقول وبالله التوفيق: 7 - الاستطراد والتكرار: يلاحظ على منهج ابن تيمية عموماً إطالة النفس مع الخصوم، حتى إن القارئ يجد صعوبة بالغة في ملاحقة الأفكار التي يناقشها، وهذا جزء من منهجه الذي ارتضاه؛ لأنه لا يمكن قطع دابر بعض الشبه إلا بملاحقة أصولها، ومناقشة تلك الأصول التي لا بد لردها من عرضها بوضوح ليتم نقضها بوضوح أيضاً. وفي كتابنا هذا بعض هذه الاستطرادات المفيدة جداً في توضيح بعض المسائل، فمثلاً أطال المؤلف في الكلام على سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس من الدنيا وأبان حكمها والآثار الواردة في النهي عنه في مواضع (¬2). وقد أراد بهذا الاستطراد الرد على دعوى البكري: أن من استغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد استغاث بالله، فيكون من سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد سأل الله، قياساً عليها. فيلزم من هذا حض الناس على سؤاله، والأمر عكس ذلك، فقد ورد ذم من سأله ومدح من لم يسأله، يقول -رحمه الله-: "فإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على زعم هذا قد جعل من استغاث به فإنما استغاث بالله، وقد حضه على ذلك، فمن سأله فإنما سأل الله، فيلزم أن يحض الناس على سؤاله، والأمر بالعكس، بل مدح من لم يسأله وذم كثيراً ممن سأله" (¬3). ¬
وفي استطراد آخر: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم براءة عائشة أم لا؟ فقد أراد بهذا الاستطراد أن يوضح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم الغيب وأنه بشر، والرد على من يغلو فيه - صلى الله عليه وسلم - ويرفعه إلى درجة الألوهية (¬1). ويعلل المؤلف الإطالة فيقول: "ونحن نتكلم على ما ذكره وإن لم يختص بمسألتنا، لما فيه من تمام الكلام على ما ذكره كله" (¬2)، ويقول أيضاً: "وبعض الناس يكون الطريق كلما كان أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان أنفع له، لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة، فإذا كان الدليل قليل المقدمات، أو كانت جلية، لم تفرح نفسه به" (¬3). ويكرر المؤلف ما يذكره في مواضع عديدة، فمثلاً وصف حال القبورية واستغاثتهم بشيوخهم، وإضلال الشياطين لهم، ذكر هذا عدة مرات بصيغ مختلفة، وقد أراد بذلك التأكيد على ضلالهم في هذه القضية، فهي قضية الكتاب الأساسية، وفي التكرار بطرح متجدد فائدة عظيمة لاختلاف أفهام الناس، ويعلل المؤلف ذلك بقوله: "ولولا أن أصحاب هذا القول كثروا، وظهروا وانتشروا وهم عند كثير من الناس سادات الأنام، ومشايخ الإسلام، وأهل التوحيد والتحقيق، وأفضل أهل الطريق، حتى فضلوهم على الأنبياء والمرسلين وأكابر مشايخ الدين، لم يكن بنا حاجة إلى بيان فساد هذه الأقوال، وإيضاح هذا الضلال، ولكن يعلم أن الضلال لا حد له، وأن العقول إذا فسدت لم يبق لضلالها حد معقول، فسبحان من فرق بين نوع الإنسان، فجعل منه من هو أفضل العالمين، وجعل منه من هو شر من الشياطين، ولكن تشبيه هؤلاء بالأنبياء والأولياء كتشبيه مسيلمة الكذاب بسيد أولي الألباب، هو الذي يوجب جهاد هؤلاء الملحدين، الذين يفسدون الدنيا والدين" (¬4). ولا يخفى أن الكتاب لم يؤلف مرة واحدة، بل على مرحلتين، بينهما فترة من الزمن، مما أدى إلى بُعد المؤلف عن أوله، وبالتالي تكرر طرح بعض ¬
القضايا التى ذكرها في أوله، ومع ذلك فهو يكرر كثيراً قوله: "هذا ليس مما نحن فيه" (¬1). وأيضاً فإنه -رحمه الله- يكتب كتبه من ذاكرته دون ترتيب للمعلومات أو تناول للمصادر. ¬
القسم الثاني: تحقيق الكتاب
القسم الثاني: تحقيق الكتاب
الباب الأول
الباب الأول ويتكون من فصلين: الفصل الأول: وصف النسخ الخطية ونماذج منها. الفصل الثاني: منهج التحقيق.
الفصل الأول: وصف النسخ الخطية للكتاب
الفصل الأول: وصف النسخ الخطية للكتاب بعد البحث والتدقيق حصلت بتوفيق الله على ست نسخ خطية، تم تحقيق الكتاب على أربع منها، واستفدت من الخامسة، وأعرضت عن السادسة لعدم صلاحيتها للمقابلة كما سيأتي. وقد اشتركت هذه المخطوطات في ملاحظتين: 1 - إن أول الكتاب سقط منها. 2 - جميعها متأخرة. وإليك وصف النسخ الخطية: * النسخة الأولى: وهي الأصل، الذي اعتمدت عليه في تحقيق الكتاب، حصلت على صورتها من قسم المخطوطات بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وهي مسجلة تحت رقم (1472) بمكتبة الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، وعلى طرتها ختم الجامعة - قسم المخطوطات، ورقمها، والعنوان؛ وهو: "كتاب الاستغاثة لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه- راداً على البكري". وقد رُقّمَتْ المخطوطة في أعلى الصفحات بترقيم جديد حيث بلغت 103 ورقة، وقد أخطأ واضع الترقيم في أوله؛ حيث رقم على أساس الصفحات في الأولى والثانية، ثم رقم على أساس الورقات فيما بعد، وأخطأ في العد في الورقة 101 حيث كرر الرقم مرتين. لذلك قصت بترقيمها على أساس عدد الصفحات في كل وجه صفحتان، وقد بلغت 206 صفحات، في كل صفحة 24 سطراً تقريباً، وفي كل سطر 12
* النسخة الثانية ورمزها (ف)
كلمة تقريباً وخطها جيد، فيه أغلاط إملائية، وعدم النقط أحياناً، والناسخ هو: "محمد بن عثمان بن يحيى"، كما جاء في آخر النسخة، وتاريخ النسخ (1284 هـ). وفي الهوامش تصحيح لبعض الكلمات، أو إكمال لسقط في الأصل، وفي أحيان قليلة أو نادرة التعليق على النص، قد تصل لثلاثة مواضع أو أربعة، والتعليق بخط الأصل نفسه. وفي الجانب الأعلى الأيسر وقف، نصه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يعلم الناظر إليه والواقف عليه؛ بأن فاضلة بنت سنان وقفت هذا الكتاب على طلبة العلم؛ بشرط الصيانة، وجعلت النظر لها مدة حياتها، فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم. كتبه شاهداً به (إبراهيم بن سعيد القويزاني) حُرِّر في سنة (1284 هـ). وتحت العنوان كلام حول التوكل واليقين لا علاقة له بالموضوع. * النسخة الثانية ورمزها (ف): وحصلت على صورتها من نسخة مصورة بالمكتبة السعودية بالرياض -التابعة لرئاسة البحوث العلمية والإفتاء، وهي مسجلة برقم (766)، وفي جامعة الملك سعود- قسم المخطوطات نسخة منها غير واضحة. وتقع في 190 صفحة؛ في كل صفحة 23 سطراً؛ وفي كل سطر عشر كلمات تقريباً، والمقاس 24 × 17 سم تقريباً. والناسخ هو الشيخ صالح بن عبد العزيز بن صالح بن مرشد، وتاريخ النسخ سنة (1319 هـ) وخطها جيد وواضح. وعلى طرة النسخة في الوسط العنوان، وهو: "كتاب الاستغاثة لشيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية -قدس الله روحه- راداً على ابن البكري جزى الله شيخ الإسلام عن الإسلام والمسلمين خيراً". وعلى الجانب الأيمن الأعلى في الصفحة الأولى وقف، ونصه: "يعلم من يراه بأن الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل سلمه الله وقف هذا الكتاب لوجه الله -تعالى- على طلبة العلم لا يباع ولا يورث ولا يحبس،
*النسخة الثالثة ورمزها (د)
فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إنه سميع عليم، وصلى الله على محمد سنة 1350 هـ" 22 ل (¬1). وهي أقرب النسخ إلى الأصل. * النسخة الثالثة ورمزها (د): وحصلت على صورتها من نسخة مصورة في دارة الملك عبد العزيز بالرياض، مسجلة برقم (739)، وأصلها في قسم المخطوطات بمكتبة جامعة الملك عبد العزيز بجدة في خزانة الشيخ محمد نصيف مسجلة برقم (2886)، وهي جزءان: الجزء الأول: تلخيص كتاب الاستغاثة ويقع 175 صفحة. الجزء الثاني: وهو نص الكتاب ويقع في 228 صفحة في كل صفحة 17 سطراً، وفي كل سطر عشر كلمات تقريباً، ومقسم على أربعة عشر كراساً، وتاريخ النسخ (1326 هـ) ولم يذكر اسم الناسخ. ومن هذه المخطوطة نشرت أول طبعة للكتاب سنة 1346 هـ، وفي أول المخطوط ذكر الناسخ أنها منقولة عن أصل لدى آل الشطي الحنابلة بدمشق. وهي نسخة جيدة، خطها كبير، مقابلة على نسخة أخرى، ويكثر الناسخ من ألفاظ الثناء بعد لفظ الجلالة؛ مثل: تعالى أو -سبحانه وتعالى- بعد لفظ الجلالة، وأيضاً يكثر الصلاة والسلام بعد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، زيادة على النسخ الأخرى، وأحياناً قليلة يبدل حروف العطف، الفاء بدل الواو، والواو بدل أو وغير ذلك، وأخطاء نحوية قليلة. وكل هذا لم أشر إليه، وقد أشرت إلى بعضه في الطبعة الأولى وعلى طرة النسخة في الوسط العنوان ونصه: "الجزء الثاني من كتاب الاستغاثة الشهير بالرد على ابن البكري، تأليف شيخ الإسلام علم الأعلام بحر العلوم العقلية والنقلية تاج السادة الحنبلية، الحافظ الناقد الورع الكامل أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الشهير بابن تيمية الحراني الحنبلي -قدس الله سره آمين- المتوفى سنة 728 هـ". وتحته تنبيه: "هذا الجزء نقل من قطعة هي من أصل كتاب الاستغاثة ¬
* النسخة الرابعة ورمزها (ح)
الكامل لمؤلفه شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وأما الجزء الذي قبله فإنما نسخ من تاريخ ابن كثير حيث اختصر هذا الكتاب فيه، فوصل الجزء الأول المختصر بهذا الثاني للفائدة الناجزة التي لا ينبغي أن يحرم قارؤه، ومتى ظفر بالأصل الكامل فيجب نسخه كله على حدة فليتنبه". (كتبه جمال الدين القاسمي). * النسخة الرابعة ورمزها (ح): وحصلت على صورتها من الأصل في مكتبة المعهد العلمي بحائل مسجلة برقم 13 ضمن مجموع، في مكتبة الشيخ علي العبد الله اليعقوب. وتقع في 148 صفحة وهي غير مرقمة، في كل صفحة 31 سطراً، وفي كل سطر خمس عشرة أو ست عشرة كلمة، وخطها متقن وجيد، قليلة الأخطاء. والناسخ هو عطية بن سليمان -أحد علماء حائل-، وتاريخ النسخ 1320 هـ. وعلى طرة المخطوطة العنوان وهو: "كتاب الاستغاثة، تأليف شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية في الرد على البكري". وتحته وقف في وسط الصفحة، نصه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فليعلم الناظر فيه والمطلع عليه، بأن هذا الكتاب وقف لوجه الله -تعالى- لا يباع ولا يوهب ولا يبدل، فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم، وهو بيد كاتب الأحرف طلال بن نايف مدة حياته، ثم من بعده لطلبة العلم المستحقين بشرط الحفظ والصيانة والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين سنة 1322 هـ" (ختم طلال بن نايف). وفي الطبعة الأولى ولم أحصل على نسخة واضحة منها، حيث صورت على آلة التصوير العادية، مما أدى لعدم وضوح بعض الكلمات التي بين الوجهين، لذا لم أُشِرْ إلى اختلافها أو ما لا يظهر في الصورة، إلا عند
الضرورة، واستفدت منها في الترجيح بين النسخ الثلاث الأخرى، ثم حصلت على نسخة واضحة وراجعت المواضع التي تحتاج إلى مراجعة في الطبعة الثانية. * * * وهناك نسخ أخرى ليس لها أهمية ولم أستفد منها في مقابلة النسخ، أذكرها باختصار وهي: 1 - نسخة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، والمخفوظة برقم 5053/ خ في قسم المخطوطات، وقد حصلت على نسخة منها، وليس عليها عنوان، وهي مجموع كبير غير مرقم ولا مرتب، أوله عن المحبة (مجهول المؤلف)، وآخره كتاب الاستغاثة، إلا أن أوراقه غير مرتبة، وفيها ما ليس من الكتاب , وتاريخ النسخ سنة 1274 هـ، وخطه جيد، وفيه سقط كلمات وأسطر وصفحات أحياناً. 2 - "خلاصة رد ابن تيمية على البكري في الاستغاثة"، والمحفوظة في خزانة المكتبة التيمورية برقم (281)، وعدد صفحاتها 270 صفحة، منها 138 تلخيص كتاب الاستغاثة، و 132 لصفحة نص كتاب الاستغاثة، والناسخ هو محب الدين الخطيب الدمشقي، وتاريخ النسخ صفر سنة 1319 هـ. وقد حصلت على نسخه منها، وهي كما في عنوانها خلاصة للرد، وليست نفس كتاب الاستغاثة، حيث تصرف الناسخ في نص الكتاب، ما بين حذف وإضافة، وتبديل للنص وتقديم وتأخير، لذا أعرضت عنها سوى مواطن قليلة، وأشير إليها بـ "ت". 3 - قطعة من كتاب الاستغاثة، حصلت عليها من الدكتور علي بن عبد العزيز الشبل، وأصلها محفوظ في مكتبة الدولة ببرلين بألمانيا، وهذه النسخنة عبارة عن مقتطفات من الكتاب في خمس عشرة صفحة. 4 - هذه النسخة ليست للكتاب، وعنوانها: "رد ابن تيمية على البكري في الاستغاثة"، وهي صفحات قليلة من تلخيص الاستغاثة، وفي فهرس خزانة المكتبة التيمورية ذكر أنها نسخة من الكتاب، وليست كذلك، وقد حصلت على نسخة منها وهي محفوظة في خزانة المكتبة التيمورية برقم (405).
* تاريخ تأليف الكتاب
* تاريخ تأليف الكتاب: رد البكري على ابن تيمية كان بعد تأليف ابن تيمية لرسالة الاستغاثة، والتي كتبها سنة 711 هـ، كما ذكر ذلك في قاعدة جليلة حيث يقول: "وكنت وأنا بالديار المصرية في سنة إحدى عشرة وسبعمائة قد استفتيت في التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ... " (¬1). وقد ألف ابن تيمية الكتاب على مرحلتين: الأولى: قبل 714 هـ، والثانية بعد ذلك. يقول -رحمه الله-: "كنت قد أجبت عن كلامه إلى هذا الموضع واتفقت أمور شغلت عن تمام ذلك، حتى أنزل الله بأسه بهذا الجاهل الظالم وحزبه الجاهلين الظالمين" (¬2). ومراده بقوله: "حتى نزل الله بأسه بهذا الجاهل الظالم"، يشير إلى ما حدث للبكري مع السلطان في شهر محرم عام 714 هـ (¬3). فعلى هذا، الجزء الأول من الكتاب أُلف ما بين عام 711 هـ إلى 714 هـ والجزء الثاني بعد 714 هـ، وقبل وفاة البكري 724 هـ، فظاهر كلام ابن تيمية أن البكري حي. ولعل تأليف الكتاب على مرحلتين كان سبباً في ضياع الجزء الأول منه. ولم يشر المؤلف هنا صراحة إلا إلى كتابه "الصارم المسلول"، ويُرجع إلى بحوثه الأخرى دون ذكر لها. ¬
الصفحة الأولى والأخيرة من المخطوط الأصل المحفوظ في جامعة أم القرى
الصفحة الأولى والأخيرة من مخطوطة (ف) المحفوظة بالمكتبة السعودية
الصفحة الأولى والأخيرة من مخطوطة (د) المحفوظة بدارة الملك عبد العزيز
الصفحة الأولى والأخيرة من مخطوطة (ح) المحفوظة في معهد حائل العلمي
الفصل الثاني: منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه
الفصل الثاني: منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه (1) تحقيق النص: سلكت في تحقيق النص أن جعلت أفضل النسخ أصلاً، وقارنتها بغيرها وهي نسخة أم القرى، فما سقط من الأصل أثبته من النسخ بين معقوفين []، وما كان من زيادة أو سقط من النسخ الأخرى بينته في الهامش، مع وضع النقص قوسين ()، وما سقط من نص الكتاب في جميع النسخ، حاولت إكماله من الكتاب نفسه إذا كان المؤلف كرر الكلام نفسه في موضع آخر، أو من كتبه الأخرى، أو مِمَنْ نقل عن هذا الكتاب، فإن لم أجد في ذلك، اجتهادت ووضعت ما أظنه يناسب المعنى، وهذا قليل جداً. وجعلت كلام البكري بين قوسين متميزين {}، وعزوت الآيات في المتن بين معقوفين صغيرين، وبينت مواضع بداية صفحة المخطوطة الأصل بخط مائل، يقابله رقم الصفحة في الجانب الأيسر. وقد أغفلت ألفاظ الثناء بعد لفظ الجلالة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في نسخة (د) لكونها زيادات من الناسخ. (2) عزو الأحاديث والآثار: في عزو الأحاديث حاولت -بقدر الإمكان- الاختصار، واقتصرت على القدر الضروري في عزو الحديث؛ تفادياً لإثقال الكتاب بالحواشي. فالأحاديث الموجودة في الصحيحين، أو أحدهما، فإني أكتفي في الغالب بعزوها لكل منهما أو أحدهما، لأن المقصود هو الاطمئنان على درجة الحديث، وذلك حاصل بعزوه للصحيحين أو أحدهما.
(3) توثيق الأقوال والمسائل والآراء الفقهية
واذا كان أصله في الصحيحين وليس اللفظ لهما فإني أعزوه لهما ولصاحب اللفظ، دون أن أطيل في التخريج. وإذا لم أجد اللفظ الذي ذكره المؤلف، فإني أذكر المصادر التي ألفاظها قريبة من لفظ المؤلف، ولا أذكر المصادر الأخرى. وأما الأحاديث التي ليست في الصحيحين، فإني أجتهد قدر استطاعتي في نقل أقوال العلماء المعتبرين في درجتها، وإذا كان بينهم اختلاف في درجته، بذلت الجهد في الترجيح. وإذا لم أجد في الحديت كلاماً لأحد الأئمة، أجتهد في دراسة سنده بنفسي، مع الاستعانة بأهل الاختصاص، ثم أذكر ما توصلت إليه وهذا قليل جداً. أما الآثار عن السلف التي ينقلها المؤلف، فإني أبذل جهدي في تخريجها من مصادرها؛ إذا لم أجد من تكلم على إسنادها، أتكلم عليه أو أنقل السند للقارئ؛ إذا لم أتمكن من نقده، وما لم أجد مصادره بينت ذلك. (3) توثيق الأقوال والمسائل والآراء الفقهية: حرصت على توثيق كل مسألة ذكرها المؤلف، وبيان مصدرها، وإذا لم يتيسر ذلك نقلت من المراجع التي نقلت من المصدر الأصلي. وقد أذكر بعض الأقوال والآراء التي تعضد رأي المؤلف من المتقدمين أو المتأخرين باختصار، حتى لا أثقل الكتاب. إلا أنه واجهني أن المؤلف نقل من بعض الكتب النادرة، ككتب الباطنية، وكتب غلاة الصوفية وغيرهم، وهذه لا تتوفر في هذه البلاد -حفظها الله بحفظه- وهي نادرة في كثير من البلاد، وفي كثير من المكتبات الكبيرة، ولذلك لم يتيسر توثيق هذه الأقوال، وقد وثقت ما وقع لي بمراجع مساعدة أو ناقلة عن المصادر الأصلية. كما خرّجت الشواهد الشعرية، ونسبتها إلى قائليها، وقليل منها لم أعرف قائله. ومع ذلك، فهناك مسائل وأقوال لم أجد لها مراجع، من نصوص
(4) التراجم والتعريفات
ونقول، أو آراء ونحوها، وحسبي أني بحثت وبذلت الجهد في البحث والاستقصاء، والله الموفق. (4) التراجم والتعريفات: عرَّفت بالأعلام غير المشهورين في أول مرة يذكرهم المؤلف، ولم أعرف بالمشهورين؛ لأن التعريف بهم غمط لشهرتهم، كمشاهير الصحابة، والأئمة الأربعة، واكتفيت بمرجعين أو ثلاثة للتعريف، في الغالب، أما القبائل والأماكن والكلمات فأعرف منها ما أرى أنه يحتاج إلى تعريف. (5) المصادر والمراجع: حرصت كل الحرص على أن أوحد النسخة والطبعة لكل مرجع، ليسهل على القارئ والباحث الرجوع إلى المراجع التي عزوت إليها عند الحاجة، وقد ذكرت كامل المعلومات عن المرجع في أول مرة أذكره. وفي حالات قليلة اضطررت للرجوع إلى طبعة أخرى، فأشير إلى الطبعة المغايرة في الهامش. (6) الرموز والمصطلحات: نظراً لكثرة الرجوع إلى بعض الكتب، حاولت اختصار أسمائها، فقد رمزت لكتاب سير أعلام النبلاء للذهبي بـ (السير). وأما رموز النسخ فهي كما يلي: الأصل: نسخة جامعة أم القرى. ف: نسخة الإفتاء. د: نسخة دارة الملك عبد العزيز، وأصلها بجامعة الملك عبد العزيز. ح: نسخة المعهد العلمي بحائل. ت: نسخة المكتبة التيمورية. ط: النسخة المطبوعة عام 1346 هـ.
الباب الثاني: كتاب تلخيص الاستغاثة لابن كثير
الباب الثاني: كتاب تلخيص الاستغاثة لابن كثير ويتكون من فصول: الفصل الأول: تعريف بالكتاب والملخص. الفصل الثاني: نسبة التلخيص لابن كثير. الفصل الثالث: منهج ابن كثير في التلخيص. الفصل الرابع: الموضوعات التي انفرد بها التلخيص. الفصل الخامس: الموضوعات التي سقطت من الكتاب الأصل أو جاءت مختصرة فيه.
الفصل الأول: كتاب تلخيص الاستغاثة
الفصل الأول: كتاب تلخيص الاستغاثة (¬1) حظيت كثير من المصنفات المفقودة؛ أو أجزاء منها؛ قبل فقدانها باهتمامات ودراسات نفيسة، حفظت لنا قطعاً من تلك الكتب المفقودة كالمنتخبات والمنتقيات والتهذيبات والمختصرات وغيرها (¬2). ومن هذه الكتب كتابنا موضوع الدراسة، كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري"، فقد لخصه ابن كثير في كتاب "تلخيص كتاب الاستغاثة". والتلخيص في اللغة هو: التبيين والشرح، يقال لخصت الشيء ولحصته، بالخاء والحاء، إذا استقصيت في بيانه وشرحه وتحبيره، ويطلق التلخيص أيضاً على: التقريب والاختصار. وقد جاء كتاب "تلخيص الاستغاثة" مطابقاً لمعناه، فقد لخص موضوعات الكتاب الأصل، وقرب مسائله، وشرح أخرى، وذكر ما فقد منه، واختصر مطوله وجمع مكرره. وقد طبع كتاب "تلخيص الاستغاثة" في مقدمة كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري" عام 1346 هـ في المطبعة السلفية - مصر، وجُعلا كتاباً واحداً، فعلى غلافه وضع عنوانه كما يلي: "تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري"، ففي هذا العنوان خطأ علمي أوقع بعض الباحثين في أخطاء علمية. ¬
وقد أُعيد طبعه عام 1405 هـ بالدار العلمية - الهند، دون أي تصحيح. ويقع التلخيص في 155 صفحة من القطع المتوسط. وبعد البحث حصلت على ثلاث نسخ خطية لكتاب تلخيص الاستغاثة وهي: * النسخة الأولى: جاءت في مقدمة نسخة دارة الملك عبد العزيز (د) والتي أصلها في مكتبة جامعة الملك عبد العزيز بجدة، في خزانة الشيخ محمد نصيف والمسجلة برقم (2886)، ويقع التلخيص في 175 صفحة، وفي آخره: "بلغ معارضة على أصل مخطوط جيد في دمشق الشام، وتمت المعارضة في 25 جمادى الثانية 1330"، وكتبه جمال الدين القاسمي عُفي عنه. وعلى هذه النسخة طبع الكتاب. * النسخة الثانية: جاءت أيضاً في مقدمة نسخة المكتبة التيمورية والتي عنوانها: "خلاصه رد ابن تيمية على البكري في الاستغاثة"، والمسجلة برقم (281)، ويقع التلخيص في 138 صفحة. والناسخ هو الشيخ محب الدين الخطيب الدمشقي، وتاريخ النسخ صفر 1319 هـ. * النسخة الثالثة: وهي قطعة من التلخيص، وليس فيها شيء من نص الكتاب، وعنوانها "رد ابن تيمية على البكري في الاستغاثة"، وهي محفوظة في خزانة المكتبة التيمورية برقم (405). وينسب التلخيص للإمام العلامة عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي (ت 773 هـ)، صاحب كتاب "تفسير القرآن العظيم" والبداية والنهاية" وغيرهما. وهو تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية مؤلف كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري"، وقد كان ابن كثير معجباً بشيخه ابن تيمية محباً له، حتى امتُحن بسبب ذلك، وأوذي وسُجن.
فهو قام بخدمة كتاب شيخه الذي خشي عليه من الضياع، بعد أن فقدت أجزاء منه كان قد اطلع عليها، وهو في نفس الوقت رد على من رد على شيخه ابن تيمية.
الفصل الثاني: نسبة التلخيص لابن كثير
الفصل الثاني: نسبة التلخيص لابن كثير ليس بالأمر الهين أن نؤمن بصحة نسبة أي كتاب كان إلى مؤلفه، ولا سيما الكتب غير المشهورة، ولا بد من التأكد من ذلك بالنظر في فهارس الكتب والمؤلفين، ودراسة مادة الكتاب نفسه. وهنا لا نجد مصادر مستقلة تنسب هذا التلخيص لابن كثير، أو تتكلم عن التلخيص أصلاً، فليس أمامنا سوى ما جاء على المخطوطات ودراسة مادة الكتاب ومقارنتها بمؤلفات المؤلف الأخرى، وإليك الأدلة التي تؤيد نسبة كتاب تلخيص الاستغاثة لابن كثير: أولاً: ورد في مقدمة التلخيص نسبته لابن كثير حيث كُتب في وسط الصفحة: "يعرف هذا الكتاب بالرد على البكري (كلمة غير واضحة) وجد في مجموع مخطوط في مكتبة الأفاضل بني الشطي شيوخ الحنابلة في دمشق الشام منقولاً من تاريخ ابن كثير -رحمه الله تعالى- وقد لخص أصل كتاب الشيخ -رضي الله عنه-" (¬1). ويؤكد العلامة جمال الدين القاسمي هذه النسبة فيقول في بداية الكتاب الأصل: "وأما الجزء الأول الذي قبله، فإنما نسخ من تاريخ ابن كثير حيث اختصر هذا الكتاب فيه" (¬2). ولم أجد في النسخ المطبوعة لتاريخ ابن كثير ذكر لهذا التلخيص، وهذا أمر مستبعد، فإن تلخيص الكتب أو الإطالة في ذكرها ليس من منهج ابن كثير في تاريخه، ولكن المحتمل أن يكون اختصره في الكتاب المفقود الذي أفرده لترجمة ابن تيمية (¬3). ¬
لعل ابن كثير لم يصرح في كتبه الأخرى بذكر هذا التلخيص خوفاً على نفسه، فقد أوذي لانتسابه لشيخ الإسلام، وقوله ببعض فتاويه. ثانياً: الملخِّص عالم بالرجال وبالجرح والتعديل، وبالحديث وعلله، فهو يطيل في نقد الرواة، ويوازن بين أقوال النقاد وعلماء الرجال، ويبين درجة الأحاديث، ويعزوها لمصادرها وبأسانيدها أحياناً. ثالثاً: وهو أيضاً من كبار تلاميذ الشيخ، واسع الاطلاع، فيصرح ببعض مصادر ابن تيمية التي نقل منها ولم يذكرها، وهذه الصفات تتوفر في ابن كثير. رابعاً: اهتمام ابن كثير بترجمة البكري في تاريخه، أكثر من خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية الآخرين، مع أنه من أقلهم شأناً، فقد يدل ذلك على أن له جهداً علمياً في هذا المجال. خامساً: موافقته لآراء ابن كثير: أ- عند ذكره لخبر دانيال (¬1)، قال: "وهذا قد رويناه في كتاب المغازي لابن إسحاق من رواية يونس بن بكير إلى أبي العالية"، وهذا السند ذكره ابن كثير في قصص الأنبياء (¬2). ب- وأيضاً حديث: "لا يستغاث بي"، ضعفه في التلخيص (¬3)، وفي التفسير قال: "هذا الحديث غريب جداً" (¬4). جـ- في تفسير قول الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1]، قال في التلخيص (¬5): "فجعل المشركين غير أهل الكتاب"، وهذا ¬
هو رأي ابن كثير في تفسير هذه الآية في كتابه تفسير القرآن العظيم (¬1). د- عند ذكره لذي القرنين في التلخيص (¬2) قال: "والصحيح أنه لم يكن نبياً"، وفى البداية والنهاية قرر ذلك فقال: "والصحيح أنه كان ملكاً من الملوك العادلين" (¬3)، وضعف الروايات التي ذكرت نبوته. فلهذه الأدلة وعدم المنازع في نسبته، فالراجح صحة نسبته إليه. ¬
الفصل الثالث: منهج ابن كثير في التلخيص
الفصل الثالث: منهج ابن كثير في التلخيص أولاً: حاول ابن كثير ذكر المفقود من الكتاب بلفظ الشيخ، فيورد أكثر هذه المواضع بقوله: "قال الشيخ", ثم يذكر رد الشيخ، وقد يستطرد أحياناً في الرد من عنده. فمن ذلك حديث الكوة، فقد أشار ابن تيمية (¬1) إلى تقدمه في أول الكتاب "المفقود"، ونجد ابن كثير يذكره بالنص. وهذا يؤكد أن الملخص وقف على الجزء المفقود. ثانياً: لم يتطرق لبعض الموضوعات الموجودة في آخر الكتاب، مثل حديث حجاج آدم وموسى. ثالثاً: لخص بعض الموضوعات الأخرى الموجودة في الكتاب الأصل، وجمع كلام المؤلف في موضع واحد رابعاً: كرر بعض الموضوعات مثل سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة والسلام عليه بعد وفاته، (¬2) وغيره. خامساً: في التلخيص مواضع ليست من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، مثل وصف ابن كثير لكتاب ابن تيمية الرد كلى البكري، وفي الغالب إذا قال الملخص: "والمقصود"، فما بعدها من كلامه. سادساً: ضعف الملخص، حديث: "لا يستغاث بي"، وابن تيمية لم يجزم بضعف الحديث أو صحته في موضعين من الأصل (¬3)، بل يرى ابن تيمية أن غالب أحاديث ابن لهيعة الصحة (¬4). ¬
الفصل الرابع: الموضوعات التي انفرد بها التلخيص أو أطال فيها
الفصل الرابع: الموضوعات التي انفرد بها التلخيص أو أطال فيها * أولاً: الموضوعات التي انفرد التلخيص بذكرها: أ- رأى ابن تيمية في البكري أنه لا يخاطب خطاب العلماء، ووجوب تعزيره التعزير البليغ، وأنه ليس له خبرة بالأدلة الشرعية، أو أقوال أهل العلم، ويشكك في سريرته ومراده، ثم يكله لله تعالى (¬1). ب- سبب تأليف هذا الرد، فإنه بطلب من أصحاب ابن تيمية حتى لا يضل الناس بكلام البكري، وأن الكلام في هذه المسألة من أفضل الكلام، إذ فيه بيان التوحيد ونفي الشرك عن الله تعالى (¬2). جـ- تأليب البكري للسلطة على ابن تيمية، فقد نقل عنه ابن تيمية قوله: (ولقد خشيت على كثير من أهل الإقليم بسبب تقاعدهم عن نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإهلاكه وإهلاك أمثاله، خصوصاً أهل الدولة وأصحاب الحكم)، وفي رد ابن تيمية أبان أنه رد عليه إلى هذا الحد ثم شغل عنه، حتى حصل موقف البكري مع السلطان ونفاه عن القاهرة ومنعه من الفتوى، فأكمل الرد عليه (¬3). د- دعوى البكري أن جماعة من الأنبياء توسلوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - منهم نوح وإدريس وأيوب -عليهم السلام-، ولم يذكر لها إسناداً أو يعزُها، وقد رد عليه ابن تيمية وبيَّن كذبه في هذه الدعوى (¬4). ¬
* ثانيا: الموضوعاث التي أطال الملخص فيها
* ثانياً: الموضوعاث التي أطال الملخص فيها: وردت بعض الموضوعات في أصل الكتاب مختصرة جداً، وأطال الملخص فيها وهي: أ- أدلة البكري في الاستغاثة وهي: * توسل آدم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأكل من الشجرة (¬1). * القصة المنسوبة للإمام مالك مع أبي جعفر المنصور (¬2). * حديث فتح الكوة على القبر الشريف (¬3). * حديث الأعمى في التوسل (¬4). ب- سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة والسلام عليه، وذكر الأحاديث الواردة في ذلك، وانتهى إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - يسمع القريب ويُبلغ سلام البعيد وصلاته, وإذا لم يسمع الصلاة والسلام من البعيد إلا بواسطة فمن باب أولى أن لا يسمع دعاء الغائب واستغاثته، وكرر هذا في موضعين (¬5). جـ- تضعيف حديث: "لا يستغاث بي" وذكر أن المؤلف أورده للاعتضاد به، وليس للاعتماد عليه، وأنه موجود في دواوين الإسلام من قرون متطاولة، ولم ينكر لفظه أحد من أهل العلم (¬6). ¬
الفصل الخامس: الموضوعات التي فقدت من الكتاب الأصل أو جاءت مختصرة فيه
الفصل الخامس: الموضوعات التي فقدت من الكتاب الأصل أو جاءت مختصرة فيه البحث عن نصوص كتاب مفقود يحتاج إلى بحث دقيق، في اختيار المصادر وانتقاء النصوص منها (¬1)، وحيث أن كتاب تلخيص الاستغاثة تلخيص "لكتاب الاستغاثة في الرد على البكري"، لذلك حفل بنصوص لم ترد في الأصل. فتتميماً للفائدة، قمت بجمع هذه النصوص والتي فقدت من كتاب "الاستغاثة في الرد على البكري" أو جاءت مختصرة فيه، واتبعت المنهج الحالي: * وضع عنوان لكل فقرة. * جمع كل موضوع في فقرة واحدة وإن جاء في التلخيص مكرراً أو متفرقاً، مع حذف المكرر. * المحافظة على نص التلخيص وعبارته ما أمكن إلى ذلك سبيلاً. * عزو الآيات والأحاديث باختصار شديد، والإحالة على كتاب التلخيص المحقق. * عدم التعريف بالأعلام أو الأماكن أو التعليق على القضايا. * إصلاح السقط، أو العبارة الركيكة من الأصول الخطية أو حسب ما يقتضيه السياق. ¬
1 - رأي ابن تيمية في البكري
1 - رأي ابن تيمية في البكري: قال ابن تيمية: رأيت أن مثل هذا لا يخاطب خطاب العلماء، وإنما يستحق التأديب البليغ، والنكال الوجيع الذي يليق بمثله من السفهاء، إذا سلم من التكفير فإنه لجهله ليس له خبرة بالأدلة الشرعية التي تتلقى منها الأحكام، ولا خبرة بأقوال أهل العلم الذين هم أئمة أهل الإسلام. بل يريد أن يتكلم بنوع مشاركة في فقه وأصول وتصوف، ومسائل كبار بلا معرفة ولا تعرُّف، والله أعلم بسريرته، هل هو طالب رياسة بالباطل، أو ضال يشبّه الحالي (¬1) بالعاطل، أو اجتمع فيه الأمران، وما هو من الظالمين ببعيد. 2 - وصف ابن تيمية لرد البكري عليه: قال: وكلامه في الاستغاثة بغير الله أتى فيه من الجهالات بالعجب العجاب. قال: فمجموع ما قاله ما علمت أنه سبقه إليه أحد من المسلمين، ومع هذا لم يجترئ على أن يكتب فيها شيئاً حتى نظر جوابي في الاستفتاء الذي كتبته، وأرسل به إليّ، فاستعان به على ما قاله، وأعاره بعض الأمراء -كما أخبرني (¬2) - كتابي الذي كنت صنفته من مدة وسمَّيته: "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، فإني ذكرت فيه ما يجب على من سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من العقوبات الشرعية، وذكرت فيه من أصول هذه المسألة وفروعها والدلائل الشرعية عليها، وكلام أئمة الإسلام فيه، ما يعرفه من وقف عليه. فأخذ هذا الكلام مما ذكرته في ذلك وجعلته صيانة لعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل النفاق والاعتداء، ما استعمله هذا الجاهل الظالم في حق أهل العلم والاهتداء. 3 - سبب رد ابن تيمية على البكري: قال شيخ الإسلام: ثم إن الأصحاب تقاضوني تعليقاً على كلام هذا ¬
4 - استدلال البكري بحديث آدم في الرد على ابن تيمية
الظالم الجاهل لئلا يضل بكلامه بعض الطغام، حتى قال بعضهم: إن الكلام على هذه المسألة من أفضل الكلام، إذ فيها بيان التوحيد ونفي الشرك عن الصمد المجيد، فإن أول ما نشأ الشرك وعبادة غير الله من القبور، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي الهياج الأسدي أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال له: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سوَّيته" (¬1)، فأمره بمحو الشرك وأصله الذي ينشأ منه. 4 - استدلال البكري بحديث آدم في الرد على ابن تيمية: مما استدل به البكري الحديث الذي يُروى أن آدمَ -عليه السلام- لما أكل من الشجرة وجرى ما جرى استشفع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله، فقال له: "يا آدم كيف عرفت محمداً ولم أخلقه بعد؟ "، قال له: "لما نفخت فيّ الروح رفعت رأسي فرأيت على قائم العرش لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، فقلت: إنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك"، فقال: "صدقت يا آدم إنه لأحب خلقي إليّ، وإذ سألتني به فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك وهو آخر الأنبياء من ذريتك" (¬2)، ذكره في رده مع نظائره من هذا الجنس الذي لا يستجيز الصبيان ذكره، فضلاً عن الجهال، فضلاً عمن شمَّ للعلم شة أو نشق له رائحة. قال (¬3): وقد رواه بصيغ مختلفة من المفسرين والمحدثين من لا أحصيهم كثرة ولم يروه من المرويات المنكرة. قال: وقد جاء أن نوحاً وإدريس وأيوب وموسى وجماعة من الأنيياء توسلوا به. * رد ابن تيمية (قال شيخ الإسلام ابن تيمية) في نقض كلامه وحل إبرامه: فيقال: أولاً: هذا الحديث وأمثاله لا يحتج به في إثبات حكم شرعي، لم يسبقه أحد من الأئمة إليه، وإثبات عبادة لم يقلها أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم؛ إلا من هو أجهل الناس بطرق الأحكام الشرعية وأضلهم في ¬
المسالك الدينية، فإن هذا الحديث لم ينقله أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بإسناد حسن ولا صحيح بل ولا ضعيف يستأنس به ويعتضد به، وإنما نقل هذا وأمثاله كما تنقل الإسرائيليات التي كانت في أهل الكتاب، وتنقل عن مثل كعب ووهب وابن إسحاق (¬1)، ونحوهم ممن أخذ ذلك عن مسلمة أهل الكتاب أو غير مسلمتهم أو عن كتبهم. كما روي أن عبد الله بن عمرو وقعت له صحف يوم اليرموك من الإسرائيليات فكان يحدث منها بأشياء. ويكفيك أن هذا الحديث ليس في شيء من دواوين، الحديث التي يعتمد عليها. وقد جمع غير واحد من الحفاظ قصة آدم (¬2)، ومن أجمعهم أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه الكبير"، فإنه روى عامة ما رواه الناس ولم يذكر هذا، وإنما ذكر هذا وأمثاله من يجمع الموضوعات الكثيرة والأكاذيب العظيمة. ومما يبين كذب هذا أن الله -سبحانه وتعالى- قال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 37 - 38]، فأخبر أنه تاب بالكلمات التي تلقاها منه وقد قال تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية، فأخبر أنه أمرهم بالهبوط عقب هذه الكلمات، وأخبر أنه تاب عليه عقب الكلمات وأمره بالهبوط، فكان أمره بالهبوط عقب الكلمات التي تلقاها منه وهي قولهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، أو كلمات تشبه هذه الكلمات ذكر ذلك طائفة كثيرة من المفسرين، ومن ذكر أن الكلمات التي تلقاها من ربه غير هذه لم يكن معه حجة في خلاف ظاهر القرآن. وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب "التوبة" في هذه الكلمات أشياء كثيرة كلها تدور على ما ذكره الله في كتابه من قول آدم وحواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وأيضاً فإن قولهما: {ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} يتضمن الإقرار والاستغفار، ومن هو دون آدم أقر بذنبه واستغفر منه غُفِرَ له، كما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: "إن كنتِ ألممتِ بذنب فاستغفري وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله ¬
5 - كذب البكري في تكثير رواة حديث توسل آدم
عليه" (¬1) وقال -تعالى-: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110]، وكذلك الآية التي في آل عمران، وإذا حصلت مغفرة بالتوبة حل المقصود لها لا بغيرها، وقد ثبت في الصحيح عن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله وأن التوبة تهدم ما كان قبلها" (¬2). وأيضاً فلو كان آدم قد قال هذا لكانت أمة محمد أحق به منه، بل كان الأنبياء من ذريته أحق، وقد علم كل عالم بالآثار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أمته به؛ ولا نقل عن أحد من الصحابة الأخيار؛ ولا نقله أحد من العلماء الأبرار، فعلم أنه من أكاذيب أهل الوضع والاختلاق الذين وضعوا من الكذب أكثر مما بأيدي المسلمين من الصحيح (¬3)، لكن الله فرق بين الحق والباطل بأهل النقد العارفين بالنقل علماء التعديل والتجريح. 5 - كذب البكري في تكثير رواة حديث توسل آدم: وأما قوله: (إن هذا قد رواه بصيغ مختلفة من المفسرين والمحدثين ... إلى آخره)، فما أدري من أيهما أعجب من تكثيره لمن رواه كأنهم من الحفاظ الكبار أو من سكوته عن مقابلتهم بالرد والإنكار، إذ مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن هو عارف بطرق الحديث مميز بين الصحيح والضعيف. 6 - الأحاديث الواردة في كتابة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقد روى أبو بكر الآجري وابن الجوزي آثاراً في أن اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مكتوباً على ساق العرش وعلى أبواب الجنة، وهذا ممكن، فإنه قد ثبت عن ميسرة قال: قلت يا رسول الله متى كنت نبياً، وفي رواية: متى كتبت نبياً؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" (¬4)، وفي مسند أحمد وغيره بإسناد حسن عن ¬
7 - الأحاديث الموضوعة
العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينه سأنبئكم بأول أمري، دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني كأنها خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" (¬1)، وفي حديث أبي هريرة سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: متى وجبت لك النبوة؟ قال: "بين خلق آدم ونفخ الروح فيه" (¬2)، رواه الترمذي وحسنه، فتبين من هذه الأحاديث أن الله كتب اسمه بعد خلق آدم وقبل نفخ الروح فيه. 7 - الأحاديث الموضوعة: وأما ما يرويه كثير من الجهال والاتحادية وغيرهم من أنه قال: "كنت نبياً وآدم بين الماء والطين، وآدم لا ماء ولا طين" (¬3)، فهذا مما لا أصل له لا من نقل ولا من عقل، فإن أحداً من المحدثين لم يذكره، ومعناه باطل فإن آدم -عليه السلام- لم يكن بين الماء والطين قط، فإن الطين ماء وتراب، وإنما كان بين الروح والجسد. ثم هؤلاء الضلال يتوهمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حينئذٍ موجوداً وأن ذاته خلقت قبل الذوات، ويستشهدون على ذلك بأحاديث مفتراة مثل حديثٍ فيه: "أنه كان نوراً حول العرش" فقال: "يا جبريل أنا كنت ذلك النور" (¬4)، ويدّعي ¬
8 - دعوى البكري في توسل الأنبياء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
أحدهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل. 8 - دعوى البكري في توسل الأنبياء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: وأعجب من هذا قوله: إن نوحاً وإدريس وأيوب وجماعة من الأنبياء توسلوا به، فمثل هذا [لا] (¬1) يجوز لمسلم أن يبني دينه الذي يكفر به من خالفه على مثل هذا النقل الذي لا يعتمد عليه من يدري ما يقول (¬2). ومعلوم أن ما جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - أضبط وأتم وأكمل، وهو علينا أوجب، وأمتنا به أعرف، ولو قال قائل في زماننا: قد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كذا وفعل كذا؛ محتجاً به من غير أن يعرف ما يستند إليه من العزو والإسناد لكان قائل ذلك من أصجهل الناس وأبعدهم عن طريق الرشاد، دع من يستدل على تكفير غيره مما يرويه عن أولئك الأنبياء الذين قد أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - إذا حدثنا أهل الكتاب عنهم أن لا نصدقهم ولا نكذبهم، بل مثل هذا إذا وجدناه في كتب أهل الكتاب أو في كتب المسلمين منقولاً، لم يجز لنا أن نصدقه، ومن صدقه فقد عصى الله ورسوله، ولو صح فغايته أن يكون شرع من قبلنا. 9 - أمثلة لما ورد عن أنبياء بني إسرائيل: وفي المأثور عن الأنبياء المتقدمين ما يدل على أن ذلك لم يكن مشروعاً لهم مثل ما ذكره الحافظ أبو نعيم في "كتاب الحلية" (¬3) في ترجمة أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا أبي، حدثنا [أحمد بن محمد بن عمر اللُّنَبانيُّ] (¬4)، حدثنا الحسين يعني أبا علي الحسين بن عبد الله بن شاكر السمرقندي: سمعت عبد الله بن ¬
الجلا (¬1) يقول: قال يوسف عليه السلام: "اللهم أني أتوجه إليك بصلاح آبائي إبراهيم خليلك وإسحاق ذبيحك (¬2) ويعقوب إسرائيلك"، فأوحى الله إليه يا يوسف: "تتوجه إليّ بنعمة أنا أنعمت بها عليهم"، قال أحمد (¬3): فقلت لأبي سليمان الداراني: كنت لبعض الأولياء قبل اليوم أشد حباً، فقال: إنما يتقرب إليه بحب أوليائه [أولاً] (¬4) ثم بعد منزلة سعد (¬5) القلب، وقد ذكر بعض الناس في هذا الأثر أن الله قال له: "وأي حق لآبائك علي" (¬6)، لأنه -سبحانه وتعالى- هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والنبوة كما قال تعالى بعد ذكره لهم وثنائه عليهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} [مريم: 58] الآية، وكذلك الآية، التي في النساء: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] الآية، وقال في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}. وأما ما استحقوه عليه فكقوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، {كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103]، فهو سبحانه أحقه على نفسه بحكم إحسانه وفضله ووعده، لا هم أحقوه عليه؛ كالحق الذي للإنسان على من له عنده يد، ولهذا ليس لأحد أن يُدِلَّ على الله بصلاح سلفه فإنه ليس صلاحهم من عمله الذي يستحق به الجزاء؛ كأهل الغار الثلاثة فإنهم لم يتوسلوا إليه بصلاح سلفهم وإنما توسلوا إلى الله بأعمالهم لما علموا أن الله -سبحانه وتعالى- يثيب العاملين على أعمالهم كما قال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وسعي غيره ليس له كما لا تزر وازرة وزر أخرى كما قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 36 - 39]، وإن ¬
10 - استدلال البكري بقصة الامام مالك مع أبي جعفر المنصور
كان المرء قد ينتفع بسعي غيره لكنه ليس له فلا [يمن] (¬1) ويدل بما ليس له (¬2). فإن كانت الإسرائيليات حجة فهذا فيه دليل، على أنه لا يسأل الله بحق الأنبياء. وإن لم تكن حجة لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليات، ثم إن توسل النبي المتقدم بالنبي الذي بعده يقتضي أن يكون أفضل منه، فيقتضي أن يتوسل نوح بإبراهيم، وداود بعيسى، وإسرائيل بموسى، ومثل هذا لو كان حقاً لكان أصلاً في العلم الصحيح، ولكن المتقدم من الأنبياء يبشر بمن يأتي بعده منهم، وليس هو مأموراً باتباع شريعة من يأتي بعده. بل إما أن يكون مأموراً باتباع شريعة توحى إليه أو شريعة رسول قبله، فهو مستغن عمن بعده متبع لمن قبله، فكيف يتوسل بالمتأخر؛ ولا يتوسل بالمتقدم الذي يجب عليه اتباعه؟. 10 - استدلال البكري بقصة الامام مالك مع أبي جعفر المنصور: قال الشيخ: (قال المعترض وقد رُوي أن أبا جعفر لما ناظر مالكاً في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله أدب قوماً فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2]، وذم آخرين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4]، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال له: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به) (¬3). * رد ابن تيمية - قال الشيخ: فيقال: (الجواب) عن هذا من وجهين: (أحدهما) المطالبة بصحة هذه الحكاية وليس معه ولا مع من ينقلها (¬4) ¬
إسناد صحيح ولا ضعيف، وإنما غايته أن يعزوها إلى "الشفا" أو إلى من نقلها منه، وكل عالم بالحديث يعلم أن في هذا الكتاب من الأحاديث والآثار ما ليس له أصل ولا يجوز الاعتماد عليه، فإذا قال القاضي عياض ذكره فلان في كتابه فهو الصادق في خطابه؛ وإذا لم يذكره من أين نقله لم نتهمه؛ ولكن نتهم من فوقه، وقد رأيناه ينقل من كتب فيها كذب كثير وهو صادق في نقله منها لكن [من] (¬1) فوقه لا يجوز الاعتماد عليهم. الوجه الثاني: أن يقال هذه الحكاية كذب بلا ريب من وجوه: منها أنها مخالفة لمذهب مالك ومذهب سائر الأئمة، فإنهم متفقون على أن من سلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أراد الدعاء فإنه يستقبل القبلة، كما روي ذلك عن الصحابة، وتنازعوا وقت السلام عليه هل يستقبل القبلة أو القبر؟ على قولين: قال أبو حنيفة: يستقبل "القبلة أيضاً". وقال: غيره: "يستقبل القبر وقت السلام عليه". وأما وقت الدعاء فما أعلم إماماً خالف في أنه يستقبل القبلة، بل الأئمة متفقون على أن قبلة المسلمين التي يستقبلونها في جميع أدعيتهم وأمكنتهم هي الكعبة، ويستحب لكل من دعا الله أن يستقبل الكعبة حيث كان، وأين كان، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستقبلها، فيستقبلها وقت الذكر والدعاء بعرفة ومزدلفة وبين الجمرات وعلى الصفا والمروة، وعقب الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغيره، وما جعل أحد من الأئمة قبر أحد من الأنبياء قبلة للدعاء، وإنما يستقبل قبورهم أهل الجهل عند عباداتهم، ومن هؤلاء الغلاة من يستقبل قبورهم ويصلي إليها، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" (¬2). (ومنها) أن مالك من قوة متابعته للسنة كره أن يقال زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مما لا يستريب أحد في ثبوته عنه، مع أن لفظ زيارة القبور في الجملة مما جاءت به السنة في غير قبره، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: "استأذنت ربي أن ¬
11 - استدلال البكري بحديث الكوة
أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن في، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" (¬1)، والأحاديث في ذلك كثيرة. ثم بسط الشيخ الكلام على ذلك. 11 - استدلال البكري بحديث الكوة: أما ذكره (أي البكري) من أن أهل المدينة شكوا إلى عائشة فأمرتهم أن يعملوا كوة إلى السقف حتى لا يكون بينه وبين السماء حائل، ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل وتفتقت شحماً فسمي عام الفتيق، فقد ذكر هذا فيما أظن محمد بن الحسن بن زبالة فيما صنفه في أخبار المدينة (¬2). * رد ابن تيمية وجوابه من وجهين: أحدهما: أن هذا محمد بن زبالة ضعيف لا يحتج به، والثابت عن الصحابة باتفاق أهل العلم أنهم كانوا إذا استسقوا دعوا الله؛ إما في المسجد وإما في الصحراء، وهذا الاستسقاء المشروع باتفاق أهل العلم، فإنهم اتفقوا على دعاء الله واستغفاره. واختلفوا هل يصلى للاستسقاء على قولين: وجمهورهم على أنه يصلى له، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فلم يعرف الصلاة في الاستسقاء، والجمهور عرفوا ذلك بما ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في الاستسقاء ركعتين، والصحابة في زمن عمر وغيره صلوا واستشفعوا بالعباس وغيره، ولم يكشفوا عن قبره، ولو كان مشروعاً لما عدلوا عنه. وهذا العلم العام المتفق عليه لا يعارض بما يرويه ابن زبالة وأمثاله؛ ممن لا يجوز الاحتجاج به، ولو قال عالم يستحب عند الاستسقاء أو غيره أن يكشف عن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء والصالحين لكان مبتدعاً بدعة مخالفة للسنة المشروعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن خلفائه. ¬
الثاني: أن هذا الفعل ليس حجة على محل النزاع سواء كان مشروعاً أو لم يكن، فإن هذا استنزال للغيث على قبره، والله -تعالى- ينزل رحمته على قبور أنبيائه وعباده الصالحين، وليس في ذلك سؤال لهم بعد موتهم ولا طلب ولا استغاثة بهم، والاستغاثة بالميت والغائب سواء كان نبياً أو ولياً ليس مشروعاً ولا هو من صالح الأعمال، إذ لو كان مشروعاً أو حسناً من العمل لكانوا به أعلم وإليه أسبق، ولم يصح عن أحد من السلف أنه فعل ذلك. ومما يبيّن كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان بعضه باقياً كما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد" (¬1). ولم تزل الحجر كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان نائبه على المدينة ابن عمه عمر بن عبد العزيز وكانت حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - شرقي المسجد وقبليَّه، فأمره أن يشتريها من ملاكها ورثة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتراها وأدخلها في المسجد، فزاد في قبلي المسجد وشرقيه، ومن حينئذٍ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، وإلا فهي قبل ذلك كانت خارجة عن المسجد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد موته، ثم إنه بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك من أجل كنس أو تنظيف. ولو صح ذلك لكان حجة ودليلاً على أن القوم لم يكونوا يُقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت ولا يسألون الله به، وإنما فتحوا على القبر لتنزل الرحمة عليه ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه، فأين هذا من هذا؟! والمخلوق إنما ينفع المخلوق بدعائه أو بعمله، فإن الله -تعالى- يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة السلام على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومحبته وطاعته وموالاته، فهذه الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه، وإن أريد أن نتوسل إليه بما تُحب ذاته وإن لم يكن هناك ما يحب الله أن نتوسل به من الإيمان والعمل الصالح فهذا باطل عقلاً وشرعاً، أما عقلاً فلأنه ليس في كون ¬
12 - استدلال القبورية بحديث الأعمى
الشخص المعين محبوباً له ما يوجب كون حاجتي تقضى بالتوسل بذاته، إذا لم يكن مني ولا منه سبب تقضى به حاجتي، فإن كان منه دعاءٌ لي؛ أو كان مني إيمان به وطاعة له، فلا ريب أن هذه وسيلة، وأما نفس ذاته المحبوبة فأي وسيلة في فيها، إذا لم يحصل في السبب الذي أمرت به فيها، ولهذا لو توسل به من كفر به مع محبته له لم ينفعه، والمؤمن به ينفعه الإيمان به وهو أعظم الوسائل. فتبين: أن الوسيلة بين العباد وبين ربهم -عز وجل- الإيمان بالرسل وطاعتهم {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69]، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]. وأما الشرع فيقال العبادات كلها مبناها على الاتباع لا على الابتداع، فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، فليس لأحد أن يصلي إلى قبره ويقول: وهو أحق بالصلاة إليه من الكعبة، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". 12 - استدلال القبورية بحديث الأعمى: حديث الأعمى رواه الترمذي والنسائي والإمام أحمد وصححه الترمذي ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علّم رجلاً فيقول: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي فشفّعه فيّ"، وروى النسائي نحوه. وفي الترمذي وابن ماجه عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضريراً أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: "إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك"، فقال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء، فذكر نحوه، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف ولفظه: أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله ادع الله أن يكشف لي عن بصري، قال: فانطلِق فتوضأ ثم صلي ركعتين ثم قل (¬1): "اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، ¬
يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري، اللهم فشفّعه فيّ"، فرجع وقد كشف الله بصره. وقال أحمد في مسنده: حدثنا روح، حدّثنا شعبة عن عمير بن يزيد الخطمي المديني قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضريراً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت أخّرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت لك"، قال: بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ وأن يدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي، اللهم فشفعني فيه وشفعه فيّ"، قال: ففعل الرجل فبرأ، فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء، فمن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقاً حياً وميتاً، وهذا يستدل به من توسل بذاته بعد موته وفي مغيبه، ويظنون أن توسل الأعمى والصحابة به في حياته كان بمعنى الإقسام به على ربه؛ أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته ولا يحتاج هو أن يدعو لهم ولا إلى أن يطيعوه، ويظنون أن كل من توسل بالرسول كما توسل به ذلك الأعمى مشروع له. وقول هؤلاء باطل شرعاً وقدَراً، فلا هم موافقون لشرع الله ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله، ومنهم من يقول هذه قضية عين فيثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم، لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها، والفرق ثابت شرعاً وقدراً بين من دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين من لم يدع له، فلا يجوز أن يجعل أحدهما كالآخر، وهذا الأعمى شفع له النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال في دعائه: "اللهم فشفعه فيّ" فعلم أنه شفع فيه، وكذلك قوله: "إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك"، فقال: ادع لي فدعا له، وقد أمره أن يصلي ويدعو لنفسه أيضاً، فحصل الدعاء من الجهتين، وكذلك قول عمر في استسقائه بالعباس. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - علَّم رجلاً أن يتوسل به في حياته؛ كما ذكر عمر أنهم يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه، فلو كان التوسل به حياً وميتاً سواء؛ والمتوسل به الذي دعا له الرسول كمن
13 - استدلال القبورية بسماع الميت
لم يدع له؛ لم يعدلوا عن التوسل به وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه وأقربهم وسيلة إليه، وكذلك لو كان كل أعمى توسل به وإن لم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، ولو أن كل أعمى دعا بدعاء ذلك الأعمى وفعل كما فعل من الوضوء والصلاة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زماننا هذا لم يوجد على وجه الأرض أعمى، فعدول عمر والصحابة عن هذا إلى هذا وما يشرع من الدعاء وينفع عما لا يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير الخير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن، دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه، ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه. وحديث الأعمى إنما ظهر بسبب كلامنا، ومن جهة أصحابنا اتصل علمه إلى هؤلاء المبتدعة، فإن الفقيه أبا محمد بن عبد السلام لم يقف على هذا الحديث ولم يعرف صحته، فإنه علق الجواب بجواز التوسل به - صلى الله عليه وسلم - على صحته فكأنه لم يصح عنده إما لعدم علمه بتصحيح الترمذي له أو أنه اطلع فيه على قادح معارض، ولولا الإطالة لتكلمنا على ذلك فنحن لا حاجة بنا إلى شيء من ذلك، فإنا بالحديث عاملون وله موافقون وبه عالمون، والحديث ليس فيه إلا أنه طلب من الله عز وجل ولم يطلبها من مخلوق، ونحن إلى الله -تعالى- نرغب وإياه نسأل، فهو المدعو المسؤول كما أنه المعبود المستعان، لا نشرك به شيئاً (¬1). 13 - استدلال القبورية بسماع الميت: لو قال القائل: سؤال الغائب حياً وميتاً كسؤال الشاهد، فإن الأنبياء والأولياء يسمعون خطاب الغائب البعيد ويسمع أحدهم خطاب الناس البعيدين عنه. قلنا: هذا محال في العادة المعروفة، وإذا وقع ذلك في بعض الصور كان من باب خرق العادة، والعادة قد تخرق بأن يسمع الأدنى خطاب الأعلى، كما ¬
سمع سارية خطاب عمر: "يا سارية الجبل، يا سارية الجبل"، ويجوز خرق العادة بالعكس، لكن إثبات هذا في حق معين لا يكون إلا بحجة تدل على وقوع ذلك في حقه. فإن قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع الخطاب البعيد والقريب، قيل: ليس في هذا الحديث المعروف ما يدل على التسوية بين القريب والبعيد في سمع خطابه بل الحديث يدل على نقيض ذلك، ففي السنن حديث أوس بن أوس الذي رواه أبو داود وغيره ورواه ابن حبان في صحيحه والدارقطني في سننه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، وفيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علّي، قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمت (قال: يقولون بليت)، قال: إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" (¬1). والحديث الذي رواه أحمد في مسنده وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، وصلّوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاكم تبلغني" (¬2)، والحديث الذي رواه النسائي وابن حبان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام" (¬3)، وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن موسى بن محمد بن حبان عن أبي بكر الحنفي حدثنا عبيد الله بن نافع، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن قال: سمعت الحسين بن علي يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلّوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ولا تتخذوا بيتي عيداً، صلوا عليّ وسلموا ¬
فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني أينما كنتم" (¬1). وروى الروياني في مسنده والبزار وغيرهما عن نعيم بن ضمضم عن عمران بن الحميري قال: قال لي عمار بن ياسر: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمار إن لله ملكاً أعطاه الله أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إذا مت إلى يوم القيامة فلا يصلي عليّ أحد صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه فقال: صلى عليك فلان كذا وكذا، فيصلي الرب على ذلك المصلي بكل واحدة عشراً" (¬2)، وقال أبو أحمد الزبيري: حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: "ليس أحد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يصلي عليه صلاة إلا وهي تبلغه يقول له الملك: فلان يصلي عليك كذا وكذا صلاة" (¬3). وقال ابن وهب: أخبرني عمرو بن [الحارث] (¬4) عن سعيد بن أبى هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحداً لا يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ"، قال: قلت: وبعد الموت؟ قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، فهذه الأحاديث تدل على أن الصلاة والسلام يعرضان عليه، وأن ذلك يصل حيثما كنا، وفي سنن ¬
14 - صور السؤال وحكم كل صورة
أبي داود عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام" (¬1)، وهذا الحديث هو الذي اعتمد عليه العلماء كأحمد وأبي داود وغيرهما في السلام عليه عند قبره وزيارة قبره، إذ لم يكن معهم سند يستندون إليه في زيارة قبره إلا هذا الحديث، والأحاديث التي رويت في زيارة قبره ضعيفة بل موضوعة، وأكثرها وضعت بعد الإمام أحمد وأمثاله. فهذه النصوص التي ذكرناها تدل على أنه يسمع سلام القريب ويبلَّغ سلام البعيد وصلاته، لا أنه يسمع ذلك المصلي والمسلِّم، وإذا لم يسمع الصلاة والسلام من البعيد إلا بواسطة فإنه لا يسمع دعاء الغائب واستغاثته بطريق الأولى والأحرى، والنص إنما يدل على أن الملائكة تبلغه الصلاة والسلام، ولم يدل على أنه يبلغه غير ذلك. والحديث الذي فيه: "ما من رجل يسلم عليّ إلا ردّ الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام"، فهمَ العلماء منه السلام عند قبره خاصة فلا يدل على البعيد، فإن السنة إذا زار الرجل القبور مطلقاً أن يسلم عليهم ويدعو لهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم. وقد بسط الشيخ الكلام في هذا الموضع بسطاً طويلاً ومقصوده توحيد الله سبحانه، وطلب الحوائج منه والذب عن حومة الإخلاص وأن لا يسأل إلا الله. 14 - صور السؤال وحكم كل صورة: قال الشيخ: فإن هنا أربعة معاني أحدها: أن يسأل الله تفريج الكربة بالمتوسل به، ولا يسأل المتوسل به شيئاً، كما يفعله كثير ممن يتوسل بالأموات. الثاني: أن يسأل الله ويسأل المتوسل به أن يدعو كما كان الصحابة يتوسلون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء، ثم من بعده بعمه العباس، وبيزيد بن الأسود الجرشي وغيرهما. والثالث: أن يسأل المتوسل به أن يسأل الله له تفريج الكربة ولا يسأل الله. ¬
والرابع: أن يسأل المستغاث به أن يفرج الكربة ولا يسأل الله. فأما الأول: فهو سائل لله وحده ومستغيث به، وليس مستغيثاً بالمتوسل به إلا أن يريد بالاستغاثة السؤال به. وأما الثاني: فهو استغاثة بالله في تفريج الكربة واستغاثة بالشفيع أن يسأل الله هو توسل به (أي بدعائه وشفاعته)، وهذا هو المشروع في الدنيا والآخرة في حياة الشفيع وسؤاله أو في حال مشاركة الشفيع له في السؤال لا في حال انفراده هو بالسؤال. وكذلك الثالث: إذا سأل المتوسل به أن يسأل الله كما يسأله الناس يوم القيامة: فهذا لا ريب في جوازه وإن سمي استغاثة به. وأما الرابع: وهو أن يسأل المستغاث به تفريج الكربة، فهذا استغاثة به ليس توسلاً به بل المستغاث به مطلوب منه الفعل فإن لم يكن قادراً عليه لم يجز أن يطلب منه ما لا يقدر عليه. فالأول: سؤال به وليس استغاثة أصلاً وبعض الناس يسميه توسلاً به. والثاني: فيه استغاثة به وتوسل به. والثالث: فيه استغاثة في سؤال الله وليس فيه سؤال به. والرابع: استغاثة في تفريج الكربة لكن لا يجوز ذلك من ميت ولا غائب ولا من حي حاضر إلا فيما يقدر عليه خاصة، وليس هذا هو التوسل به. والتوجه المشروع الذي كانت الصحابة تفعله إنما كان بدعائه وشفاعته، ولا ريب أن من سأل الله تفريج الكربة بواسطة سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته فقد استغاث به، وهذا جائز كما كان الناس يفعلونه في حياته وكما يفعلونه في الآخرة في حياته أيضاً. ولكن هذا ليس مشروعاً بعد موته ولم يفعله أحد من الصحابة بعد موته؛ بل عدلوا عن التوسل بدعائه وشفاعته إلى التوسل بدعاء غيره من الأخيار كالعباس ويزيد بن الأسود وغيرهما، فلا دين إلا ما شرعه الله ورسوله كما أنه لا حرام إلا ما حرمه. ومن ذهب إلى الاستغاثة بالموتى فقد شرع له ديناً لم يؤذن له به.
15 - أحاديث زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها موضوعة
15 - أحاديث زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها موضوعة: الأحاديث التي رويت في زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها ضعيفة بل موضوعة، وليس في السنن الأربعة منها حديث واحد فضلاً عن الصحيحين، ولا احتج الأئمة بشيء منها ولا رووا شيئاً منها لا مالك ولا الشافعي ولا أحمد ولا الثوري ولا الأوزاعي ولا الليث ولا أبو حنيفة ولا إسحاق بن راهويه ولا أحد من أئمة المسلمين وذلك مثل قوله: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي" (¬1)، ومثل ما يروون عنه أنه قال: "من زارني بعد مماتي وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة" (¬2). فهذه الأحاديث وما أشبهها كلها كذب موضوع على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يثبت عنه لفظ واحد في زيارة قبره، ولكن روى الأولان من قد يروي الموضوعات كالبزار والدارقطني كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، كيف يكون زائر قبره كالمهاجر إليه في حياته؟ فإن زيارته في حياته إنما شرعت لمن يأتي ويبايعه على الإسلام والجهاد، أو يهاجر إليه لطلب الآخرة أو يطلب منه العلم أو نحو ذلك من المقاصد المأمور بها في حياته التي لا يحصل شيء منها بزيارة قبره. 16 - مراتب بدعة سؤال الموتى: أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجة أو يستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس بكثير من الأموات وهو من جنس عبادة الأصنام. ولهذا تتمثل لهم الشياطين على صورة الميت أو الغائب كما كانت تتمثل لعباد الأصنام، بل أصل عبادة الأصنام إنما كانت من القبور كما قال ابن عباس وغيره، وقد يرى أحدهم القبر قد انشقّ وخرج الميت فعانقه أو صافحه أو كلّمه؛ ويكون ذلك شيطاناً تمثل على صورته، وهذا يوجد كثيراً عند قبور الصالحين، وأما السجود للميت أو للقبر فهو أعظم وكذلك تقبيله. ¬
17 - دعاء صفة من صفات الله
المرتبة الثانية: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، فيقصد زيارته لذلك أو للصلاة عنده؛ أو لأجل طلب حوائجه منه، فهذا أيضاً من المنكرات المبتدعة باتفاق أئمة المسلمين وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعاً بين أئمة الدين. المرتبة الثالثة: أن يسأل صاحب القبر أن يسأل الله له، وهذا بدعة باتفاق أئمة المسلمين. 17 - دعاء صفة من صفات الله: (في الرد على البكري) أن مسألة الله بأسمائه وصفاته وكلماته جائز مشروع كما جاءت به الأحاديث، وأما دعاء صفاته وكلماته فكفر باتفاق المسلمين، فهل يقول مسلم: يا كلام الله اغفر لي وارحمني وأغثني أو أعنِّي، أو: يا علم الله، أو: يا قدرة الله، أو: يا عزة الله، أو: يا عظمة الله ونحو ذلك؟ أو سمع من مسلم أو كافر أنه دعا ذلك من صفات الله وصفات غيره؟ أو يطلب من الصفة جلب منفعة أو دفع مضرة أو إعانة أو نصراً أو إغاثة أو غير ذلك؟ والنصارى وإن كانوا يقولون: المسيح هو الكلمة ويدعونه ويتخذونه إلهاً فهو عندهم عين قائمة بنفسها حاملة للصفات؟ ليس المسيح عندهم صفة قائمة بموصوف، ولكن مذهبهم متناقض حيث يجعلون الإله واحداً والأقانيم ثلاثة، ويدعون أن المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة، فإن فسروا الأقنوم بما يجري مجرى الصفة لزم أن تكون الصفة خالقة وهم لا يقولون ذلك، وإن فسره بما يجري مجرى الموصوف لزم أن تكون الذات الموصوفة وهي الآب هي المسيح وهم لا يقولون ذلك، فقولهم متناقض في نفسه باتفاق عقلاء بني آدم، ولم يقولوا إن مجرى الصفة القائمة بغيرها تدعى وتسأل. 18 - سبب ضلال القبورية وأصل شبهتهم: قال: وقوله: (من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربه أو استغاث به سواء كان ذلك بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيرهما مما هو في معناهما)، فهذا القول لم يقله أحد من الأمم بل هو مما اختلقه هذا المفتري، وإلا فلينقل ذلك عن أحد من الناس، وما زلت أتعجب من هذا القول وكيف يقوله عاقل،
والفرق واضح بين السؤال بالشخص والاستغاثة به. وأريد أن أعرف من أين دخل اللبس على هؤلاء الجهال؟ فإن معرفة المرض وسببه يعين على مداواته وعلاجه، ومن لم يعرف أسباب المقالات -وإن كانت باطلة- لم يتمكن من مداواة أصحابها وإزالة شبهاتهم، فوقع لي أن سبب هذا الضلال والاشتباه عليهم أنهم عرفوا أن يقال سألت الله بكذا كما في الحديث: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت المنان" (¬1)، ورأيي أن الاستغاثة تتعدي بنفسها كما يتعدى السؤال كقوله {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9]، وقوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، فظنوا أن قول القائل استغثت بفلان كقوله سألت بفلان والمتوسل إلى الله بغائب أو ميت تارة يقول: أتوسل إليك بفلان، وتارة يقول: أسألك بفلان، فإذا قيل ذلك بلفظ الاستغاثة فإما أن يقول أستغيثك بفلان، أو أستغيث إليك بفلان، ومعلوم أن كلا هذين القولين ليس من كلام العرب. وأصل الشبهة على هذا التقدير أنهم لم يفرقوا بين الباء في استغثت به التي يكون المضاف بها مستغاثاً مدعواً مسؤولاً مطلوباً منه، وبالاستغاثة المحضة من الإغاثة التي يكون المضاف بها مطلوباَّ به لا مطلوباً منه، فإذا قيل: توسلت به أو سألت به أو توجهت به فهي الاستغاثة كما تقول كتبت بالقلم، وهم يقولون أستغيثه وأستغث به من الإغاثة، كما يقولون: استغثت الله واستغثت به من الغوث، فالله في كلا الموضعين مسؤول مطلوب منه. وإذا قالوا لمخلوق: استغثته واستغثت به من الغوث كان المخلوق مسؤولاً مطلوباً منه، وأما إذا قالوا: استغثت به من الإغاثة فقد يكون مسؤولاً وقد لا يكون مسؤولاً، وكذلك استنصرته واستنصر به، فإن المستنصر يكون مسؤولاً مطلوباً؛ وأما المستنصر به فقد يكون مسؤولاً وقد لا يكون مسؤولاً. ¬
19 - أهمية التوحيد
فلفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به، وقول القائل استغثت فلاناً واستغثت به معنى طلبت منه الإغاثة لا بمعنى توسلت به، فلا يجوز للإنسان الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. 19 - أهمية التوحيد: التوحيد أصل كل خير وجماعه، والشرك أصل كل شر وجماعه. والموجبتان: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار" (¬1)، ولهذا لما جمع -سبحانه وتعالى- بين ما أمر به وبين ما حرمه في قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، ثم قال تعالي: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]، وأصل الكفر والشرك مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء الجهال فيهم من الشرك ومخالفة الرسول ما لا خفاء به على المؤمن العليم، وهم فيه درجات منهم من يأتي بالشرك البيّن، والإنكار البيّن لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهذا يستتاب باتفاق الأئمة، ومنهم من هو مخطئ في دقيق ذلك، ومنهم من هو بين هذا وهذا إما فاسق وإما عاص. 20 - استعداء البكري للدولة: وقوله: (لقد خشيت على كثير من أهل الإقليم بسبب تقاعدهم عن نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإهلاكه وإهلاك أمثاله خصوصاً أهل الدولة وأصحاب الحكم إلى آخره). جواب ابن تيمية: فيقال: كنت قد أجبت على كلامه إلي هذا الموضع واتفقت أمور شغلت عن تمام ذلك حتى أنزل الله بأسه بهذا الجاهل الظالم ¬
21 - مدح البكري لكتاب المؤلف الصارم المسلول
وحزبه الجاهليق الظالمين، وكانوا في ذلك نظير المستفتحين من المشركين، وهذا الوعيد الذي ذكره في كلامه به وبأحزابه أليق وهم به أحق، وهكذا فعل الله -تعالى- بهم حيث عاقبه وحزبه عقوبة المعتدين الظالمين، عقوبة لم يعاقب بها أحداً من أشكالهم، وهؤلاء مضاهون للمشركين الذين ناظروا إمام الحنفاء -إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه- كما قال تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} إلى قوله {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 78 - 83]، فإنهم خوَّفوا إبراهبم بما عبدوه من دون الله فقال لهم: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} فإنه ليس للمؤمن أن يخاف إلا الله، فلا يستحق ملك مقرب ولا نبي مرسل أن يُخشى ويُتقى، كما لا يستحق أن يصلى له ويصام، بل هذا كله لا يصلح إلا لله وحده لا إِله إلا هو، ثم قال الخليل: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} وهذا استثناء منقطع، أي: لكن إن شاء ربي شيئاً كان، فأنا أخاف ربي. ثم قال: وكيف أخاف ما أشركتم مكان المخلوقات؟ وأنتم لا تخافون إشراككم بالله ما لم ينزل به سلطاناً، يقولا: فكيف لا تخافون أنكم عبدتم غير الله بغير سلطان من الله، وهكذا يقول أتباع إبراهيم الخليل الذين هم على ملته لمن خرج عنها من أشباه النصارى وغيرهم: كيف نخاف ما أشركتموه ودعوتموه من دون الله كائناً من كان سواء كان ملكاً أو نبياً أو شيخاً أو غيره؟ وأنتم لا تخافون الله حيث دعوتم غيره بغير سلطان من الله، فإن هذا الذي تفعلونه بدعة لم يأمركم الله بها ولا رسوله وفيها من الشرك ما فيها!! ولو لم يكن فيها شرك فكيف يسوغ لكم أن تشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله؟ ومعلوم أن من شرع عبادة يتقرب بها إلى الله ويجعلها وسيلة له إلى الله يرجو عليها ثواب الله إما واجبة أو مستحبة؛ فلا بد أن يكون من الدين الذي شرعه الله وأمر به، وإلا كان حظ صاحبها الإبعاد والطرد، ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع. 21 - مدح البكري لكتاب المؤلف الصارم المسلول: وقد وقف هذا الرجل، (أي البكري) على الكتاب الذي صنفه المجيب في "سابِّ الرسول" واعترف أنه ما رأى في هذا الباب مثله، فكيف يسوغ له مع هذا أن ينسبه إلى نقيض ذلك؟ ولو قدر أن هذا في نفس الأمر تنقص فهو مما
22 - رد على البكري على استشهاد ابن تيمية بحديث لا يستغاث بي
تكلم فيه صاحبه بالاجتهاد، وقد أجمع المسلمون على أن مسائل الاجتهاد لا تدخل في السبِّ الذي يستحق صاحبه الوعيد. 22 - رد على البكري على استشهاد ابن تيمية بحديث لا يستغاث بي: قال البكري: (وأورد هذا الرجل حديثاً أن منافقاً كان يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله"، قال: والكلام على هذا الكافر الضال من وجوه، الأول: عدم تسليم صحة الحديث له إلى آخر كلامه) (¬1). * رد ابن تيمية قال الشيخ: والجواب عن هذا الكلام -مع ما فيه من الجهل والإلحاد والشرك في الدين والافتراء على الله والرسول وعباده المؤمنين- أن يقال: هذا الخبر لم يذكر للاعتماد عليه، بل ذكر في ضمن غيره ليتبين أن معناه موافق للمعاني المعلومة بالكتاب والسنة، كما أنه إذا ذكر حكم بدليل معلوم ذُكِرَ ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك من الاعتضاد والمعاونة، لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي. ولهذا كان العلماء متفقين على جواز الاعتضاد والترجيح بما لا يصلح أن يكون هو العمدة؛ من الأخبار التي تُكلم في بعض رواتها لسوء حفظ أو نحو ذلك، وبآثار الصحابة والتابعين، بل بأقوال المشايخ والإسرائيليات والمنامات مما يصلح للاعتضاد، فما يصلح للاعتضاد نوع وما يصلح للاعتماد نوع، وهذا الخبر من النوع الأول فإنه رواه الطبراني في معجمه من حديث ابن لهيعة، وقد قال أحمد: "قد كتبت حديث الرجل لأعتبر وأستشهد به مثل حديث ابن لهيعة"، فإن عبد الله بن لهيعة قاضي مصر كان من أهل العلم والدين باتفاق العلماء ولم يكن ممن يكذب باتفاقهم، ولكن قيل إن كتبه احترقت فوقع في بعض حديثه غلط، ولهذا فرقوا بين من حدَّث عنه قديماً و [بين من حدَّث عنه] حديثاً، وأهل السنن يروون له، والسياق الذي ذكر فيه ¬
هذا الحديث في جواب الفتيا (¬1) لفظه: فأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يطلب إلا من الله، لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم، إلى أن ذكر الحديث لأن فيه لفظ الاستغاثة التي كان فيها النزاع وهو في كتاب مشهور. وقد روى الناس هذا الحديث من أكثر من خمسمائة سنة إن كان ضعيفاً، وإلا فهو مروي من زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما زال العلماء يقرؤون ذلك ويسمعونه في المجالس الكبار والصغار ولم يقل أحد من المسلمين إن إطلاق القول: إنه لا يستغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كفر ولا حرام، وكان في إيراده بيان تقدم تكلم العلماء والسلف بهذا اللفظ، ولو كان عبد الله بن لهيعة ذاكراً لا آثراً لم ينكره المسلمون عليه؛ لكان في ذلك مستند لهذا الإطلاق، فإن الرجل قاضي مصر في ذلك الزمان وهو من أكبر العلماء المفتين ونظير لليث بن سعد، والغلط الذي وقع في حديثه لا يمنعه أن يكون من أهل الاجتهاد والفتيا. ¬
النص المحقق
سلسلة منشورات مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع بالرياض (15) الاستغاثة في الرد على البكري تأليف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله - (المتوفى 728 هـ) دراسة وتحقيق د. عبد الله بن دجين السهلي عضو هيئة التدريس بقسم الثقافة الإسلامية - جامعة الملك سعود
فصل [1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬1) [وأما ما ذكره من تأويل الحديث فهو من جنس دين النصارى لا من جنس دين المسلمين، وبيان ذلك من وجوه: الأول] (¬2) قوله: (إن الله -تعالى- لتشريف رسوله والمقربين عنده خاطبهم تارة بتنزيلهم منزلة نفسه في الأفعال، وتارة نزَّل نفسه منزلتهم في الأفعال والأوصاف، وكلاهما تشريف عظيم). فيقال: هذا كذب علي الله وشرك به، وهو من جنس أقوال أهل الحلول (¬3) ¬
والاتحاد (¬1) كالنصارى (¬2)، فليس في خطاب الله المطلق تنزيل أحد منزلة نفسه في الأفعال، ولا تنزيل نفسه في الأفعال والأوصاف منزلتهم، بل هو إله واحدٌ لا شريك له، وكل من في السموات والأرض آتيه عبداً {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 94 - 95]. ومن قال (¬3): إن الرب منزل (¬4) المخلوق منزلة نفسه في الأفعال، أو يَنْزِلَ هو منزلة المخلوق في الأفعال والأوصاف فقد زعم أن الله -سبحانه- يجعل له نداً، وأنه يقيم المخلوق مقامه في الخلق والرزق والإحياء والإماتة وإجابة الدعاء وكونه معبوداً، وأنه يقوم مقام العبد في الصلاة والصيام والطواف وغير ذلك من أفعال العباد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)} [النحل: 17]. ومن أخص أوصاف الرب تعالى القدرة على الخلق والاختراع، فليس ذلك ¬
متابعة الأشاعرة للجهمية في زعمهم أن العبد ليس بفاعل
لغيره أصلاً، حتى إن كثيراً من، النظار [المثبتين] (¬1) للقدر كالأشعري (¬2) وغيره جعلوا هذا هو أخص وصف الرب -تعالى-، كما جعل الجبائي (¬3) وغيره من المعتزلة (¬4) ¬
مذهب جمهور أهل السنة أن العبد فاعل حقيقة
أخص وصفه القدم (¬1)، ومقصود المعتزلة أن لا يثبتوا له صفة قديمة لامتناع المشاركة في أخص وصفه، ومقصود أولئك المثبتين أن لا يشركه غيره في الخلق، وقد يقولون: لا يشركه غيره في الفعل؛ وهو قول من يقول: العبد فاعل مجازاً لا حقيقة وهو كاسب حقيقة، كما هو قول الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وهو في الأصل قول جهم بن صفوان (¬2)، وهو أول من عُرِفَ في الإسلام أنه قال: إن العبد ليس بفاعل. لكن جمهور أهل السنة (¬3) من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم يقولون: إنه فاعل حقيقة؛ وجمهور هؤلاء يقولون: إن فعله مفعول للرب بناءً على أن الخلق غير المخلوق، كما هو قول الأكثرين وهو مذهب السلف وأهل الحديث والفقهاء. وأما من قال: إن الفعل هو المفعول وأن فعل العبد فعل الرب، ولم يفرق بين الفعل والمفعول (¬4) فيلزمه لوازم تبطل قوله كما قد بسط في غير ¬
هذا الموضع (¬1). ¬
أخص وصف للرب ليس هو صفة واحدة
وبيّن أن القدرة على الاختراع من خصائص الرب، وأخص وصف الرب ليس هو صفة واحدة، بل علمه بكل شيء من خصائصه، وقدرته على كل شيء من خصائصه، وخلقه لكل شيء من خصائصه، والمقصود هنا ما يتعلق بكلام (¬1) هذا الرجل الذي ضاهى المشركين الحلولية من النصارى (¬2) وغالية الشيعة (¬3) وجهال الصوفية (¬4). ¬
عودة لكلام البكري في منزلة المقربين
حيث قال: (إن الله تعالى ينزل المقربين منزلة نفسه تارة وينزل نفسه منزلتهم في الأفعال والأوصاف تارة)، فإن هذا كلام مخالف لدين المسلمين وسنبّين جهله وخطأه فيما تأوله على ذلك من القرآن والحديث. فنقول: أما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} [الفتح: 10]، فليس فيها أن نفس الفعل القائم بالرسول ومخاطبته لهم ومد يده لمبايعتهم هو نفس فعل الله ومخاطبته ومبايعته، بل فيها أن من بايع الرسول فقد بايع الله كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصّى الله ومن عصى أميري فقد عصاني" (¬1). فطاعة أميره طاعته، ومعصية أميره معصيته، لأنه أمر بطاعة (¬2) (أميره ونهى عن معصيته، وطاعته طاعة [لله] (¬3) لأن الله أمر بطاعته) (¬4) فمن أطاعه ¬
خلق الله للفاعل وفعله ليس فيه تشريف
فقد أطاع الله لأن الله أمر بامتثال ما أمر به (¬1) لا أن (¬2) نفس الفعل القائم بأميره نفس فعله ولا نفس فعله هو نفس فعل الرب -تعالى-. واعلم أن من قال من النظار: إن أفعال العباد كلها فعل الله، فلا فرق عندهم بين أفعال المؤمنين والكفار والبهائم وحركات الجمادات، فإن مرادهم أن كل ما سوى الله فهو فعله أي مفعوله، وعلى قول هؤلاء فلا فرق بين فعل الرسول وغيره، وليس في كون الله خالقاً لشيء تفضيلٌ لذلك المخلوق على غيره، فإن الله خالق كل شيء. كذلك على قول الجمهور الذين يقولون: إن أفعال العباد مفعولة له مخلوقة له ليست فعله؛ بل هي فعل الفاعلين، والله -تعالى- خالق الفاعل وفعله، فعلى القولين لا فضيلة في ذلك لمخلوق على مخلوق، فلا تظن أن في هذا تشريفاً لمقرب لا رسول ولا غيره. وهذه مما يبين به خطأ هؤلاء الجهال الذين لا يفرقون بين ما خلقه الله وقدّره وما أمر به وفرضه، فجعل الله -تعالى- مبايعة الرسول مبايعة لله وطاعة الرسول طاعة لله ليس (¬3) من جهة خلق الله أفعال العباد والقيومية (¬4) الشاملة للمخلوقات، فإن كونه خالقاً لكل شيء وكونها بمشيئته وقدرته، ليس فيها (¬5) تفضيل مخلوق على مخلوق، [إذ] (¬6) التفضيل إنما يكون بما به الاختصاص لا بما يشترك الجميع فيه. ومن جعل مبايعة الرسول مبايعة لله لأجل أن الله خالق كل شيء، نظراً منه إلى القيومية الشاملة لكل مخلوق؛ لزمه أن يكون من بايع الكفار والفساق مبايعاً لله، لأن الله خالق كل شيء، فيكون هؤلاء قد جعلوا مبايعة خاتم ¬
الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبلغ لأمر الله ونهيه ولا يقوم مقام الرب ولا يفعل فعله
الرسل - صلى الله عليه وسلم - كمبايعة فرعون وأمثاله من المشركين، وهذا يقع فيه كثير ممن يلحظ القيومية الشاملة العامة المتناولة لكل مخلوق، وهؤلاء من أكفر الخلق، ويجعلون هذا منافياً للأمر والنهي، وهم من جنس الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} إلى قوله: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (¬1) [الأنعام: 148]. فإن (¬2) هؤلاء إنما يتبعون أهواءهم ولا يتكلمون بعلم فإن قولهم في غاية المناقضة، فإن الواحد من هؤلاء إذا آذاه غيره أو ظلمه قابله وعاقبه ولا يمكنه أن يعذره بالقدر ومشاهدة القيومية، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع. وجهة تفضيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جهة كون الله -تعالى- أرسله مبلغاً لأمره ونهيه، مبيّناً لما يحبه ويرضاه وما يبغضه ويسخطه، فما أمر به الرسول فالله آمر به، وما نهى عنه فالله نهى عنه، ومن بايعه فعاهده وعاقده (¬3)؛ على أن يطيعه في الجهاد إذا أمر به، وعلى (¬4) أن [لا يفر] (¬5) و (¬6) على أن يقاتل حتى يموت كما بايعه المسلمون تحت الشجرة (¬7)، فهم معاهدون لله معاقدون له على طاعته فيما أطاعوا فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الذين بايعوه قبل ذلك ليلة العقبة لما بايعه الأنصار، ولهذا قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7]، فسمعهم وطاعتهم لما أمرهم ومعاهدتهم على ذلك هو سمع وطاعة لله -تعالى- ومعاهدة له، وعهد الله إلى خلقه هو (¬8) أمره ونهيه الذي بلغته رسله. ¬
[والتخصيص والتفضيل يظهر في الوفاء به ومتابعة الرسل، ولهذا] (¬1) قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، أي: أوفوا بأمري أوفِ بوعدكم الذي وعدتكم (¬2)، فإن المعاهدة والمبايعة (¬3)، تتضمن المعاوضة من الجانبين فهم إذا أوفوا بما عاهدوا الله عليه من الطاعة، وفى الله -تعالى- بما عاهد عليه من الأجر والثواب كما قالت الأنصار لما قالت (¬4) للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك، فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أبناءكم ونساءكم، ولأصحابي أن تواسوهم"، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: "لكم الجنة"، قالوا: أمدد يدك، فوالله لا نقيلك لا نستقيلك (¬5). فهم لما عاهدوه على هذا ليطيعوه فيه، قد عاهدوا ربه -عز وجل- الذي أمرهم بذلك، والله -تعالى- هو الذي يوفي بعهدهم فيدخلهم الجنة. وفي الحديث الصحيح عن شداد بن أوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سيد ¬
الاستدلال بتميز فعل الموكل عن فعل وكيله، على تميز فعل الخالق عن فعل خلقه
الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما [استطعت] (¬1)، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها حين يصبح موقناً بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها حين يمسي موقناً بها فمات من ليلته دخل الجنة" (¬2). فقوله: "وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت"، أي على ما عهدته إلينا من طاعتك (¬3)؛ وما وعدتنا به من ثوابك؛ أمتثل أمرك وأرجو وعدك. ومن المعلوم أن الإنسان لو استناب نائباً ووكل وكيلاً في عقودٍ كبيع وإجارة ومزارعة ونحو ذلك لكان المعاقد للوكيل معاقداً لموكله، بحيث إن وفّى للموكل (¬4) فقد وفّى للوكيل (¬5)، وإن غدر بالوكيل فقد غدر بالموكل، والموكل عليه أن يُوفِي بما عاقد عليه الوكيل، والوكيل (¬6) إذا سمى (¬7) موكله في العقد تعلقت حقوق العقد بالموكل، وهل يكون الوكيل ضامناً (¬8)، على قولين معروفين، هما روايتان عن أحمد، ومن قال إن حقوق العقد تتعلق بالوكيل كما يحكى عن أبي حنيفة يقول: إنها بعد ذلك تنتقل إلى الموكل، ¬
زعم الحلولية أن الله تعالى استخلف آدم في الأرض يقوم مقامه ورد المؤلف
ولهذا تنازعوا في المسلم إذا وكَّل ذمياً في شراء الخمر، فقال الجمهور: لا يصح لأن الملك يحصل للموكل، والمسلم ليس له أن يملك الخمر، وأبو حنيفة يقول: ملكها الذمي ابتداء ثم دخلت في ملك المسلم ضرورة كالميراث (¬1)، وعلى كل تقدير فمآل الأمر إلى الموكل. ومع هذا ففعل الوكيل متميز عن فعل موكله، وكلامه متميز عن كلامه، ليس أحدهم هو الآخر، ففعل المخلوق أشد مباينة لفعل الخالق من مباينة فعل مخلوق لمخلوق، فإذا (¬2) كان (¬3) مبايعة الوكيل مبايعة للموكل؛ مع تميز الفعلين، فالتمايز في الخالق أولى، ولو أرسل مُرسل رسولاً إلى شخص ليعاهده عقداً من العقود: [هدنة] (¬4)، أو نكاحاً أو غير ذلك؛ لكانت معاهدة الرسول معاهدة لمرسله مع تميز أحد الفعلين عن الآخر، ومِع كون المُرسل والرسول من جنس واحد، ومع أنه يمكن أن يقيم الموكل وكيله مقَامه في عامة أفعاله، لأن الوكيل يفعل مثلما يفعله موكله. وأما الرب -تعالى- فيمتنع أن يفعل أحد مثل فعله، ويمتنع أن يستخلف أحداً يقوم مقامه في فعله، فإنه سبحانه خالق فعل ذلك الشخص، وهو سبحانه شاهد لا يغيب. وهذا موضعٌ غلط فيه طائفة من الناس، فظنوا أن الله يستخلف أحداً عن نفسه؛ [وادعى] (¬5) بعضهم أن آدم خليفة عن الله في الأرض يقوم مقامه، وأنه جمع له حقائق (¬6) أسمائه الحسنى، قالوا: وهو معنى تعليمه الأسماء كلها، ¬
استخلاف المخلوق لمخلوق لعجزه وجهله، والله تعالى عليم قدير
وهذا قول أهل الحلول والاتحاد كابن عربي (¬1) صاحب الفصوص، وأمثاله من أهل الإلحاد. وهذا جهل وكفر، فإن الله -تعالى- هو الذي يخلق كل شيء؛ ويدبر أمر السماء والأرض، وهو خالق آدم، كما هو خالق سائر المخلوقات، وهو شاهد لا يغيب. والمخلوق يستخلف مخلوقاً عن نفسه لعجزه أو جهله أو مغيبه، وأفعال الخليفة عن غيره يفعلها بنفسه لا يحدثها الذي استخلفه. والله -تعالى- على كل شيء قدير وهو بكل شيء عليم، وهو شاهد لا يغيب، وهو الذي يخلق كل شيء، فالعبد يستخلف ربه كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا سافر: "اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا" (¬2)، فإن المقيم هو ¬
معاني الاستخلاف في نصوص من الكتاب والسنة
الذي (¬1) يدبر أمر بيته، فإذا سافر سأل الله -تعالى- أن يخلفه فيهم. وكما رُوي أنه سُمع يوم موت (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً يقول: "إن في الله عزاءً من كل هالك وعوضاً من كل مصيبة، وخلفاً من كل ما فات، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المصاب من حُرم الثواب" (¬3). وكذلك العبد يخلف العبد في أهله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من جهز غازياً فقد غزا ومن خَلَفَهُ في أهله بخير فقد غزا" (¬4). ¬
وقال - صلى الله عليه وسلم - في قصة ماعز: "أو (¬1) كلما نفرنا في الغزو خلف أحدهم له نبيب (¬2) كنبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة (¬3) من اللبن، إن الله أمكنني من أحدهم لأجعلّنه نكالاً" (¬4)، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، أي يخلف بعضكم بعضاً، وكما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]، وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} [يونس: 14]. وداود -عليه السلام- جعله الله خليفة عمن كان قبله كما جاءت بذلك الآثار، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)} [الزخرف: 60]، [وقد] (¬5) قيل إنَّ مِنْ هنا للبدل أي بدلاً منكم، كما قالوا في قوله: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء: 42]، أي: بدلاً من الرحمن، [وأنشدوا] (¬6): فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على [طهيان] (¬7) ¬
الرب تعالى يمتنع في حقه لص بحانه أن يقيم مقامه من يفعل مثل فعله
قالوا (¬1): معناه بدلاً من ماء زمزم، [وفي حديث أبي سعيد الذي رواه مسلم في صحيحه: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (¬2). والمقصود هنا أن المخلوق يمكن أن يقيم مقامه من يفعل مثل فعله. وأما الرب سبحانه وتعالى فهذا ممتنع في حقه، ممتنع لذاته أن يكون غير الله مماثلاً له في ذاته أو (¬3) صفاته أو أفعاله، فإن المثلين يجوز على أحدهما ما جاز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، والرب حي قيوم غني صمد واجب بنفسه قديم بنفسه (¬4)، مستحق لصفات الكمال بنفسه، ممتنع ¬
إبطال استشهاد البكري والحاولية بقوله تعالى: {وما رميت}
اتصافه بنقائضها، فإن كماله من لوازم ذاته الواجبة الوجود بنفسها التي يمتنع (¬1) عدمها أو عدم شيء من لوازمها، والمخلوق يجب أن يكون معدوماً محدثاً فقيراً، فلو تماثلا للزم أن يكون كلاً منهما واجب الوجود واجب العدم؛ قديماً محدثاً؛ غنياً بنفسه فقيراً بنفسه، وذلك جمع بين النقيضين، وإذا كان المخلوق الذي يرسل من يماثله لا يكون فعله هو فعله، فالخالق الذي يرسل بعض عباده أبعد أن يكون فعله هو فعله، حتى تكون نفس بيعة الرسول نفس بيعة المرسِل، وإذا كان خالقاً لذلك الفعل وغيره من المخلوقات؛ فهو بهذا (¬2) الاعتبار لا اختصاص له، والله -تعالى- قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]. فإن محمداً رسول الله، وبيعته عن مرسله ليست بيعة لنفسه (¬3) والجزاء على مرسله، ولهذا قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]. وأما استشهاده بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] فمن هذا الجنس، وهو قد سبقه إلى هذا المعنى الذي توهمه طائفة من الجهال (¬4)، وذلك أن الله لم يُضفِ الرمي هنا إلى نفسه؛ لمجرد كونه خالقاً لأفعال العباد، فإن هذا قدر مشترك ببن رمي النبي وسائر أفعاله غير الرمي، وبين رمي غيره من الناس وبين أفعالهم (¬5)، فأفعال العسكرين يوم بدر خلقها الله كما خلق سائر أفعال الحيوان، ولو جاز أن يقال: إن الله رمى؛ لكونه خلق حركة العبد، لقيل: إنه يكر ويفر ويركب ويعدو ويصوم ويطوف، [ونحو ذلك] (¬6)؛ لكونه يخلق ذلك. ¬
وقد رُوي أن المحاصرين لعثمان -رضي الله عنه- كانوا يرمونه بالحجارة، فقال: لِمَ ترموني بالحجارة (¬1)؟ فقالوا: لم نرمك، ولكن الله رماك، قال: كذبتم، لو رماني الله أصابني، وأنتم ترمونني ولا تصيبونني (¬2)، وهو صادق في ذلك، فإن الله لما رمى قوم لوط، وأصحاب الفيل أصابهم، ولكنهم هم رموا عثمان. والله -تعالى- قال (¬3): {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ حفنة من تراب و (¬4) غيّره، فرمى بها المشركين فأصابت عيونهم، وهزمهم الله بها، ولم يكن في قدرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، بل الله -تعالى- أوصل ذلك إليهم، والرمي له طرفان: حذف (¬5) بالمرمي، ووصول إلى العدو ونكاية فيهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - فعل الأول، والله فعل الثاني، والمعنى: ما أوصلت الرمي إذ حذفته (¬6)، ولكن الله أوصله وهزمهم به، فالذي أثبته الله لنبيه غير الذي نفاه عنه، وقد أثبت له رمياً؛ بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ}، ونفى عنه رمياً بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ} فكان (¬7) هذا غير هذا؛ لئلا يتناقض الكلام (¬8). ¬
ولو كان المراد كما ظنه هذا وأمثاله؛ ممن يحتج بهذه الآية، على أن الله [خالق] (¬1) أفعال العباد، ويضحك المعتزلة وغيرهم من القدرية (¬2) عليه إذا احتج بهذه الآية، [و] (¬3) لو كان هذا (¬4) المراد لساغ أن يقال مثل هذا في جميع أفعال العباد، فيقال: ما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب، (وما طفت إذ طفت ولكن الله طاف) (¬5)، وما أكلت إذ أكلت ولكن الله أكل، [و] (¬6) (لكان يقال لكل من رمى بقوس ما) (¬7) رميت إذ رميت ولكن الله رمى، ويقال للكفار إذا رموا المسلمين: ما رميتم ولكن الله رمى، وأشباه هذا مما لا يقوله مسلم، ولا عاقل. ثم إن الله -تعالى- ذكره هذه الآية لبيان نعمته على نبيه [وعلى] (¬8) ¬
اتفاق المسلمين على أفعال العباد لا تنفي عنهم، وتنسب للرب تعالى
المؤمنين يوم بدر، وما أيدهم به من النصر، فلو أريد كونه خالقاً لفعله؛ لكان هذا قدراً مشتركاً بين جميع الناس، بل لا بد أن يكون لرميه خاصة يعجز عنها الخلق، فعلها الله تأييداً لنبيه ونصراً له؛ وإنعاماً عليه وعلى المؤمنين. فتبين أن هذه الآية حجة عليه لا له كالأولى، وأن الله -تعالى- فرَّق بين فعل الخلق وفعل نفسه، ولم ينزل أحداً منزلة نفسه في الأفعال. ومما يبيّن ذلك أن أفعال العباد لا يجوز أن تُنفى عنهم باتفاق المسلمين، من قال إن الله خالقها، ومن قال إن الله لم يخلقها، لا يجوز أن يقال هذا ما أكل ولا شرب ولا قعد ولا ركب ولا طاف، ولا ركع ولا سجد ولا صام ولا سعى، ولكن الله هو الذي أكل وشرب وقعد وركب وطاف وركع وسجد وصام وسعى، وسواء كانت أفعالاً (¬1) محمودة أو مذمومة، وسواء كانت سبباً لخرق العادة أم لا؟ فلا يقال إن موسى ما ضرب بعصاه البحر ولا الحجر؛ ولكن الله ضرب، ولا يقال إن نوحاً ما ركب السفينة؛ ولكن الله ركب، ولا يقال إن المسيح ما ارتفع إلى السماء بل الله ارتفع، ولا يقال محمد - صلى الله عليه وسلم - ما ركب البراق (¬2) وأمثال هذا. فالفعل المختص بالمخلوق لا يضاف إلى الله -تعالى-؛ إلا على بيان أن الله خلقه، وجعل صاحبه فاعلاً، كقول الخليل -عليه السلام-: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40]، وكما قال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]، [وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} (¬3) [السجدة: 24]، (وقال تعالى) (¬4) {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41]. ولا يقال: إن الله يقيم الصلاة، ويدعو إلى النار، ولا أنه قد أسلم، ¬
وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} [المعارج: 19 - 21]، ولا يوصف الله بالهلع والجزع، وجماع الأمر أن الله لا يوصف بمخلوقاته، وهذه هي أدلة السلف وأهل السنة؛ على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه -سبحانه- لا يوصف بما خلقه في غيره، فإذا خلق في غيره حركة أو طعماً (¬1) أو ريحاً أو لوناً كالسواد والبياض؛ لم يوصف بأنه المتحرك بها، ولا بأنه متروح أو أبيض أو أسود، (وإذا خلق في غيره سمعاً وبصراً وحياة أو قدرة لم يوصف بذلك) (¬2)، وإذا خلق في غيره كلاماً لم يوصف بأنه هو المتكلم به، ويُعبرون عن ذلك بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل؛ ولم يعد على غيره، [واشتق] (¬3) لذلك المحل منه اسم ولم يشتق لغيره، فإذا خلق في محل حركة أو علماً أو قدرة كان ذلك المحل هو المتحرك العالم القادر لا الخالق لتلك الصفة فيه. وأورد المعتزلة نقضاً (¬4) على هذا صفات الأفعال، فقالوا: هو عادل بعدلٍ خَلَقَه في غيره. فأجاب أئمة السلف وجمهورهم بطرد الدليل بناء على أن الفعل غير المفعول، واستدل الإمام أحمد وغيره بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعوذ بكلمات الله التامات" (¬5)، قالوا: وهو لا يستعيذ بمخلوق، وطرد هذا قوله: "اللهم إني ¬
إجماع السلف على أن الخلق غير اليخلوق ونقل ذلك عنهم
أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك" (¬1)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه وبكلماته (¬2)، وهذا مذهب جمهور المسلمين، أن الخلق (¬3) غير المخلوق وهو المنقول عن السلف والأئمة، كما ذكره البخاري (¬4) في كتاب خلق الأفعال، وهو الذي ذكره البغوي (¬5) صاحب شرح السنة، وهو الذي ذكره الكلاباذي (¬6) أنه اعتقاد الصوفية، وهو قول ¬
الكرامية (¬1)، وكثير من المعتزلة، وأصحاب أبي حنيفة (¬2)، وجمهور أصحاب مالك والشافعي وأحمد، لا من وافق منهم الأشعري وغيره الذين يقولون: الخلق هو المخلوق، كما اختاره ابن عقيل (¬3) وغيره، وهو أول قول القاضي أبي يعلى (¬4) ثم رجع عنه، وهو اختيار [أبي] (¬5) المعالي الجويني (¬6) وغيره، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع (¬7). ¬
أصناف من يصفون الله ببعض المخلوقات وغلطهم
والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن الله لا يوصف بالمخلوقات، فلا يوصف بما خلقه في غيره من الصفات وإن كانت صفات كمال، فكيف يوصف بما خلقه في غيره من أفعال العباد، وتُجعل الأفعال القائمة بالمخلوقات صفات له؛ يشتق له منها (¬1) أسماء، فهذا مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول؛ مناقض للقواعد والأصول، ولكن بعض من ناظر القدرية في هذا المقام انحرف كما انحرفوا، وقابل باطلاً بباطل، ورد بدعة ببدعة. والذين يصفون الله ببعض المخلوقات صنفان: صنف غلطوا في الصفات، وصنف غلطوا في القدر، فالأول الجهمية (¬2) من المعتزلة وغيرهم (¬3) الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق؛ فوصفوه بما خلقه في غيره، وكذلك يقولون: رضاه وغضبه هو [ما يخلقُهُ] من الثواب والعقاب، وإرادته خلقها لا في محلّ؛ كما تقوله المعتزلة من البصريين (¬4) فيصفونه بمخلوقات بائنة عنه. ¬
الصنف الثاني: الجهمية الجبرية وغلطهم في القدر
والصنف الثاني: الجهمية الجبرية الذين قالوا: إن أفعال العباد نفس فعله، وفعله هو مفعوله، كما يقوله الجهم بن صفوان وأتباعه كالأشعري ومن وافقه، وهؤلاء لم يثبتوا له فعلاً قائماً بنفسه غير المخلوقات المباينة له، فإذا كان خالق أفعال العباد لزم أن تكون هي فعله ولا تكون فعلاً لغيره، وحينئذٍ فالصفات الفعليّة التي يصفون بها الربّ، مثل كونه خالقاً ورازقاً وعادلاً؛ إنما تتصف عندهم فيها بمخلوقاته؛ وتتصف أيضاً عندهم بأفعال العباد كلها، فالجهم بن صفوان أعظم الناس وصفاً له بمخلوقاته في كلامه وأفعال العباد وغير ذلك. والمعتزلة وافقوه في الكلام ونحوه من الصفات دون أفعال العباد، ووافقوه في فعله لغير أفعال العباد؛ لكون أفعال العباد عندهم ليست فعلاً له، فالجهمية والمعتزلة متفقون على أنه يوصف بمخلوقاته، لكن المعتزلة عندهم هو خلق كلامه ورضاه وغضبه وإراداته فيوصف بها، ولم يخلق أفعال العباد فلا يوصف بها. و [أما] (¬1) جهم فعنده أنه خلق الجميع فلزمه أن يوصف بالجميع، والأشعري وافق جهماً في المخلوقات من أفعال العباد وغيرها؛ دون الكلام والإرادة فإنهما عنده صفات تقوم بالله، لكنه وافقه على أن المخلوق هو الخلق، وهو يصفه بالصفات الفعلية فوافقه على اتصافه بالمخلوق من هذا الوجه، صار هو والمعتزلة متقابلين، هو ينكر عليه قولهم في الكلام والإرادة، وأصاب في إنكاره عليهم، وهم ينكرون عليه قوله في أن أفعال العباد فعله (¬2)، وهم وإن أصابوا في (¬3) هذا الإنكار؛ لكنهم ينكرون أن تكون مخلوقة لله (¬4)، وهذا منكر، والأشعري يثبت للعبد قدرة محدثة وكسباً (¬5)، ¬
مذهب سلف الأمة ومن وافقهم: أن الله لا يوصف بمخلوقاته
ولكن يقول قدرته لا تأثير لها في المقدور، وما أثبته من الكسب لا يتحقق الفرق بينه وبين الفعل، فكأن حقيقة قوله في أفعال العباد هو معنى قول جهم. وأما سلف وأئمة الفقهاء وأهل الحديث وجمهور المنتسبين إلى السنة وطوائف من أهل الكلام (¬1) من المرجئة (¬2) والكرامية وغيرهم؛ فسلموا من هذه الأقوال الفاسدة، ولم يصفوا الله بمخلوقاته، وإنما وصفوه بما يقوم به من صفاته وأفعاله. ¬
الحلولية يصفون الله تعالى ببعض أفعال العباد
وأما الحلولية الذين يصفونه ببعض أفعال المخلوقات، كما تقوله النصارى في المسيح والغالية في الأئمة والشيوخ والقائلون بالحلول العام -كقول ابن عربي-: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه (¬1) فهؤلاء فساد قولهم أظهر من هذا كله، وقول هذا المتخلف (¬2) يرجع إلى قول هؤلاء، وإن كان قد لا يلتزمه لو عرف أنه يلزمه. وأما الخبر الذي استشهد به من قوله: "استطعمتك"، فلفظه في الصحيح يقول الله -تعالى-: "عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: ربِّ كليف أطعمك وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: ربِّ كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلو عدته لوجدتني عنده" (¬3)، وهذا الخبر ليس فيه فعل للعبد، وإنما فيه جوعه ومرضه، ولكن ظن أن لفظة "استطعمتك" وأنه جعل استطعام العبد استطعام الرب، وأيضاً فالخبر مقيد لم يطلق الخطاب إطلاقًا، وإنما بيّنَ أن عبده هو الذي مرض، وهو الذي جاع، وقال: "لو أطعمته لوجدت ذلك عندي"، ولم يقل لوجدتني أكلته، وقال: "لو عدته لوجدتني عنده؛ ولم يقل لوجدتني إياه". والحديث خطاب مفسر مُبين أن الرب ليس هو العبد؛ ولا صفته صفته؛ ولا فعله فعله، أكثر ما فيه استعمال لفظ الجوع والمرض مقيدًا مبينًا للمراد، فلم يطلق الخطاب إطلاقًا، وأيضًا فقد عَلمَ المخاطب أن الرب لا يجوع ولا ¬
يمرض، فلم يكن تلبيس لا من جهة السمع؛ ولا من جهة العقل، بل المتكلم بيّن فيه مراده، والمستمع (¬1) لم يشتبه عليه، بخلاف ما إذا أضيف [الفعل] (¬2) إلى (¬3) العبد الذي يمكن منه الفعل؛ الفعل قد قام به، فإنه إذا جعل فعله فعل الرب لم يعقل هذا؛ إلا إذا أريد أنه خالقه، و [إذا] (¬4) أريد ذلك فالصواب أن يقال فعل العبد مخلوق للرب ومفعول له، لا يطلق أنه فعله لما فيه من التلبيس؛ ولما فيه من نفي فعل الرب؛ ولما فيه من نفي كون العبد فاعِلًا، ثم إنه لا فرق في ذلك [بين المقربين وغير المقربين بهذا الاعتبار] (¬5). بل قد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} [مريم: 83]، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1] ونوح محمود مقرب، والشياطين أعداء لله، وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} [الإسراء: 5]، كما قال تعالى: {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]، [وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}] (¬6) [النحل: 36]، كما أنه يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، فيخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، وقد خلق المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وخلق النبات والدواب كلها طيبها وخبيثها، فجهة الخلق عامة شاملة، فلو كان قوله: "يبايعونك" وقوله: "ولكن الله رمى" من الخلق الشامل والقيومية العامة؛ للزم أن يقال مثل ذلك في كل مبايعٍ ورامٍ، وإن كان من الكافرين، ولم يكن في ذلك خاصّة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولا فضل له على أحدٍ من المخلوقين. ¬
شرح حديث الأولياء
وأما حديث الأولياء فليس من هذا الباب بالكلية، وإنما فيه: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي" (¬1)، ولم يقل: أنا أسمع وأنا أبصر، ولا أنا أبطش ولا أنا أمشي، وقد [صرح] (¬2) بالفرق فيه بين الرب والعبد من وجوه متعددة، كقوله: "من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة" (¬3)، ففرق بين نفسه ووليه وعدوه ووليه، ثمّ قال: "ما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه" (¬4)، ففرق بين المتقرب والمتقرب إليه، ثم قال: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ... " إلى آخره (¬5)، فلم يقل كنت إياه، ولا فيه أن فعل أحدهما هو ¬
المثال العلمي
فعل الآخر، ولكن أخبر أن إحساس العبد وفعله يقع به، لأنّ العبد إذا صار لله فيما يحبه ويرضاه، ويحب ما يحب، ويبغض ما يبغض، ويرضى بما يرضى، ويأمر بما يأمر، وينهى بما ينهى صار الإيمان به ومعرفته وتوحيده في قلبه، فإحساسه وأفعاله [تقع] (¬1) به، وهذا فيما في القلب نظير قوله فيما للسان: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" (¬2)، فقال: تحركت بي؛ وإنما تتحرك باسمه، كذلك قوله: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي"، أي بما في قلبه من الإيمان بي، وقد يسمى هذا المثال العلّمي (¬3)، وهذا كثير في الكلام؛ كقول القائل: ¬
ساكن في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره (¬1) وقال آخر (¬2): ومن عجبي أني أحنُّ إليهم ... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي (¬3) وقد يسمى هذا حلولًا، لحلول معرفته ومحبته في العارف (¬4) المحب، وقد غلط بعض النَّاس فظن أن ذات المعلوم المحبوب محل، وهذا غلط، كما غلط من قال بحلول ذات الرب في بعض عبيده كالنصارى ومن ضاهاهم من غلاة الشيعة، وجهَّال الصوفية. الوجه الثّاني قوله: (فإذا غلب على المقرب شهود القيومية ورؤية ¬
الرد على كلام البكري في شهود القيومية (الربوبية)
التّوحيد، كما جاء في مقام الإحسان (¬1) "أن تعبد الله كأنك تراه" (¬2)، نطق برد الأشياء إلى خالقها وغلب ذلك على نطقه). فيقال: مشهد (¬3) القيومية يشهد فيه أن الله خالق كلّ شيء، وهذا الشهود العام يتناول ما دخل من إيمان وكفر، وأمّا الإحسان الّذي فيه "أن تعبد الله كأنك تراه"، فهذا مقام من يميز بين المأمور والمحظور، فإن العبد إذا قدّر (¬4) كأنّه يشاهد ربه فعل ما أُمر به وترك ما نُهي عنه، ووَالى أولياءه وعادى أعداءه، وهذا مشهد الإلهية (¬5) الّذي دعت إليه الرسل؛ حيث أمروا بعبادة الله وحده وطاعته، وليس هذا هو مشهد القيومية، ولكن من أكبر من هذا الرَّجل غلطوا في هذا، -فغلط مثل هذا لا يُنكر- لا سيما كثير من الشيوخ المعظمين عند هذا وأمثاله، فإنهم لا يفرقون بين هذا وهذا؛ بل ويُعدون نهاية العارفين الفناء (¬6) في توحيد الربوبية وشهود القيومية ¬
والاصطلام (¬1) في شهود القدر الجاري، ويقول أحدهم إنَّ مشاهدة العارف المنتهي في القربة لحكم الله -الّذي هو مشهد (¬2) مشيئته العامة- لم يدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة. وقد يقول أحدهم: هذا العارف يكون الجمع (¬3) في قلبه مشهودًا والفرق (¬4) على لسانه موجودًا ومرادهم بالجمع شهود القدر. ¬
غاية التحقيق عند البكري وأمثاله الإقرار بتوحيد الربوبية الذي أقر به عباد الأصنام
وهؤلاء غاية تحقيقهم شهود التّوحيد الّذي أقر به عبَّاد الأصنام (¬1) العرب، كانوا يُقرون بأن الله خالقُ كلّ شيء وربّه ومليكه؛ كما أخبر الله عنهم في القرآن في غير موضع، كقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} [المؤمنون: 84 - 89]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وقد أخبر الله تعالى عنهم أنّهم احتجوا في ذلك بقوله: {سَيَقُولُ} [الأنعام: 148]. وقد ظن طائفة من المثبتين للقدر أنّهم قالوا هذا على سبيل التكذيب بالقدر والاستهزاء به (¬2)، لقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148]، وبهذا أجابوا القدرية لما احتجت (¬3) عليهم بهذه الآية، وهذا غلط، فإن العرب كلهم كانوا يثبتون القدر، ويقرون أن الله خالق كلّ شيء وربه ومليكه فلم يكونوا مكذبين بذلك، ولا ذمهم الله -سبحانه- على التكذيب بالقدر؛ بل على الاحتجاج به على إبطال الأمر والنهي، وقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148]، أي كذبوا بالأمر والنهي الّذي جاءت به الرسل، فإن هذا هو تكذيب الذين من قبلهم؛ الذين ذكر الله في القرآن، ولهذا قال: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148]، أي: فإن المحتج ¬
ظن البكري وأمثاله أن من شهد الربوبية سقط عنه الملام مثل (الخضر)
بالقدر لا يحتج به إِلَّا إذا لم يكن عنده علم؛ بل يتبع هواه، فإنها حجة متناقضة، إذ لو احتج عليه بالقدر لما قبل هو ذلك منه (¬1)، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. فمن كان غاية توحيده شهود القيومية والربوبية العامة؛ كان قد شهد ما أقر به المشركون، ولم يكن قد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإنما يشهد ذلك من شهد الفرق بين المأمور والمحظور، وبين أولياء الله وأعدائه، وبين توحيده والإشراك به، وعَبَدَ الله كأنّه يراه، وهذا شهد الفرق في الجمع؛ فهو مع شهود القيومية؛ يشهد أنّه (¬2) الإله المستحق للعبادة دون سواه، ووجوب طاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، ويستعينه على فعل ما أمر وترك ما حظر، وشهوده أنّه خلق الملائكة والشياطين؛ (لا يحجبه عن أن يشهد أن الملائكة أولياؤه والشّياطين أعداؤه، وكذلك شهوده أنّه خالق أفعال العباد) (¬3)؛ لا يحجبه عن أن يشهد [أنّه يحب] (¬4) الإيمان والعمل الصالح، ويرضاه ويكرم أهله ويقربهم إليه، وينهى عن الكفر والفسوق والعصيان ويمقت أهله ويعاقبهم، فمن غلط هذا؛ ظن أن مجرد شهود القيومية هو شهود (¬5) المقربين، وظن أن هذا هو عبادة الرب، كأنّه يراه. ومن هؤلاء (من يظن) (¬6) أن من (¬7) شهد القيومية سقط عنه الملام، ومنهم من يقول إنَّ الخضر (¬8) سقط عنه الملام لشهوده القيومية، وهذا كله ¬
نهاية سلوكهم لا يحبون ما أحب الله، ولا يبغضون ما أبغضه
باطل، وطرد هذا القول يجر إلى شرٍّ من أقوال اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يميزون في الجملة بين أمور منكرة، كما يميزون بين الصدق والعدل وبين الكذب والظلم، وهؤلاء إذا شهدوا القيومية العامة؛ لم يميزوا بين المعروف والمنكر، ولا بين الصدق الكذب، والعدل والظلم، وهم في هذا النَّفْي لا يثبتون؛ بل يميزون تمييزًا طبعيًا لا شرعيًّا، فيفرق أحدهم بين ما يهواه وبين ما لا يهواه، فيطلب هذا وينفر عن هذا، ويمدح من وافق غرضه، ويذم من خالف غرضه، ولهذا كان هؤلاء نهاية سلوكهم هو الفناء والجمع والاصطلام، لا يحبون ما أحب الله، ولا يبغضون ما أبغض الله، فإن الإرادة والمحبة والرضا سواء عندهم (¬1)، كما تقول القدريّة من المعتزلة وغيرهم. ¬
لكن أولئك قالوا: هو (¬1) لا يحب الكَفر والفسوق والعصيان فلا يريده، فيكون ما يقع من ذلك بدون مشيئته وقدرته، فيكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون. وقال هؤلاء: هو أراد الكفر والفسوق والعصيان، فهو يحب ذلك ويرضاه، وإن كان لا يريده (¬2) دينًا، بل يريد تنعيم من أطاعه وتعذيب من عصاه. ثمّ قال هؤلاء: هذا الفرق يعود إلى حظوظ (¬3) أنفسهم، فالعارف الفاني عن حظوظه في شهود قيوميته لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة. ثمّ قالوا: والأنبياء والصديقون يقومون بالفرق لأجل العامة، رحمة بهم، وهذا عندهم من التلبيس الّذي أمرت به الخاصة، وهم يبطنون ما يظهرون، ¬
متابعتهم لشياطين الإنس والجن، والكفار
فإنّه يكون الجمع في قلوبهم مشهودًا، والفرق في ألسنتهم موجودًا، فالقائم بالفرق عندهم لا يكون إِلَّا واقفًا مع حظه أو ملبّسًا (¬1) بإيمانه لأجل غيره، إذ لا فرق بنسبة إلى الله عندهم. ومن عرف ما جاءت به الرسل من إثبات محبة الله ورضاه، وفرحه بتوبة التائبين وسخطه وغضبه ومقته لمن عصاه، وعرف أن الفرق ثابت بالنسبة إلى القدر مع شمول المشيئة لكلّ واقع؛ وصار على ملة إبراهيم الّذي اتخذه الله خليلًا، فأحب الله وأحب ما يحبه الله، كان متابعًا لما أمر الله به وأحبّه ورضيه، ولم يكن مع مجرد الإرادة. فإن هؤلاء دخلوا بإرادة أنفسهم فانتهوا إلى الإرادة الخلقية، ومن دخل بالإرادة الّتي هي أمر الله ونهيه مصدقًا لما أخبر الرسول من الفرق الثابت في كتاب الله وأفعاله، كان على دين الإسلام الّذي أرسل الله به رسله وأنزل كتبه، على ملة إبراهيم ودين محمّد - صلى الله عليه وسلم -؛ ومن لم يقل بالفرق في نفس الأمر فإنّه خارج عن حقيقة الإيمان كما أنّه خارج عن شريعة الإسلام، فليس معه حقيقة إيمانية، ولا شريعة إسلامية، وإنّما معه حقيقة خلقية قدرية أقر بها عبَّاد الأصنام الذين هم مشركون، وذلك أن شهود القيومية بلا جمع ممتنع طبعًا وشرعًا، فمن لم يشهد الفرق الشرعي الإلهي؛ وإلا كان مع الفرق الطبعي النفساني أو مع فرق آخر شيطاني. فمن لم يعبد الرّحمن عبد الشيطان، {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)} [الزخرف: 36 - 38]، وذكر الرّحمن يراد به الذكر الّذي أنزله الله، كما قال تعالى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه: 123 - 126]، فمن أعرض عن هدى الله الّذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه؛ فلم ¬
التوحيد المنجي: شهادة أن لا إله إلا الله
يفرق بين ما أمر الله به وما نهى عنه، كان معرضًا عن ذكره المنزّل، فيقيض له شيطانًا يصده عن سبيل الله؛ فيفرق بمجرد هواه، ومن أضل ممّن اتبع هواه بغير هدى من الله، ولو كان مثل هذا ذاكرًا لله ولم يشهد إِلَّا القيومية العامة، لم يشهد ما جاء به الكتاب المنزل من الفرق فإنّه يكون من أعظم أتباع الشّياطين. ولهذا يوجد الشيوخ العبَّاد (¬1) والزهَّاد من هؤلاء يتبعون شياطين الإنس والجن، فيكون أحدهم من خفراء الكفار وأعوانهم، ومنهم من يحسن الظن (¬2) بالكفار وأعوانهم ونظرائهم [فيحسبهم] (¬3) من أولياء الله المتقين؛ لا سيما إن رأى من الأحوال الشيطانية ما يغريه، مثل أن يخبره ببعض الغائبات، أو يحصل له نوع من التصرفات فيطير به الشيطان في [الهواء] (¬4)، ويحضر له طعامًا وغير ذلك، كما كان يحصل لعبَّاد الأصنام مع الشّياطين، وهذا التّوحيد توحيد الربوبية العامة، كان المشركون يقرون به فهو وحده لا ينجي من نار ولا يدخل الجنَّة (¬5). بل التّوحيد المنجي: شهادة أن لا إله إِلَّا الله وأن محمدًا رسول الله، بحيث يُقر بأن الله هو المستحق للعبادة دون ما سواه، وأن محمدًا رسوله، ¬
فمن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن عصى الرسول فقد عصى الله، فيحل ما حلله الله ورسوله، ويحرم ما حرمه الله ورسوله، ويأمر بما أمر الله به ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله (¬1). وهذا المقام غلط فيه كثير من السالكين، لم يميزوا بين الأوّل والثّاني (¬2) ولو طردوا قولهم لخرجوا من الدِّين كما تخرج الشعرة من العجين. وإنّما طرده حذاق الملحدين منهم الذين يقولون: المسالك يشهد أوَّلًا طاعة ومعصية، ثمّ ثانيًا يشهد طاعة بلا معصية؛ وهو شهود القيومية، ثم لا تبقى لا طاعة ولا معصية وهو مشهد الوحدة (¬3) عندهم، ولهذا يقول بعض ¬
أقوال لأهل وحدة الوجود
شيوخ لعؤلاء: أنا كافر برب يعصى، ويقول. لو قتلت سبعين نبيًا ما كنت مخطئًا. ويقول الآخر وهو ابن عربي: الربُّ حقٌ والعبدُ حقٌّ ... يا ليت شعري من المكلَّف إنَّ قلت عبدٌ فذاك ميْتٌ ... أو قلت ربٌّ أنَّى يكلّف (¬1) والكلام (على هذا) (¬2) مبسوط في غير هذا الموضع، وإنَّما الغرض التنبيه على موضع الغلط والاشتباه. الوجه الثّالث: قوله: (إنَّ المقرب إذا غلب عليه هذا، نطق برد الأشياء إلى خالقها وغلب ذلك على نطقه). فيقال: سيد المقربين محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الّذي قاتل الكفار وكان يأمر بقطع [يد] (¬3) السارق ورجم الزاني وجلد الشارب، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطَّيِّبات ويحرم الخبائث؛ فلو غلب عليه مشهد القيومية وأن الأشياء جميعها مخلوقة لله؛ ولم يشهد ما فيها من الفرق؛ لَمَا كان ينبغي أن يأمر أحدًا، ولا ينهى أحدًا، ولا يقتل أحدًا، ولكان ينبغي أن يردّ كفر الكافرين وفسق الفاسقين إلى الخالق، كما قال (¬4) [في] (¬5) قوله: "ولكن الله حملكم" (¬6)، وبيّن أن يقال -والعياذ بالله- ولكن الله كفر وزنا وسرق وشرب ¬
تفريق الأنبياء والرسل بل وعامة بني آدم بين المأمور به والمنهي عنه
الخّمْرِ، فهل يقول هذا مؤمن أو عاقل؟ وقوله - صلى الله عليه وسلم-: "ولكن الله حملكم" سنذكره إن شاء الله. وإلا مشهد القيومية شامل لجميع الفعل، وإن فرق بين خلق الله لحملهم وكلامهم ولفعلهم ولتكذيب (¬1) المكذبين. أفترى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان يشهد القيومية في بعض الأشياء، وهو أعلم الخلق بالله، ومشركو العرب كانوا مقرين بأن الله رب كلّ شيء، وهم يقرون بمشهد القيومية. الوجه الرّابع: أن يقال له: مَنْ مِن المقربين كان يقف عند مشهد القيومية، فيرد جميع الأفعال إلى [الخالق] (¬2) من غير أن يشهد أنّها أفعال لفاعليها يستحقون عليها المدح والذم، والثواب والعقاب. وهذا القرآن ينطق عن جميع الأنبياء والمرسلين -وهم سادات المقربين- بأنّهم كانوا يفرقون بين المعروف والمنكر، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، ويأمرون بعبادة الله وحده، وينهون عن عبادة ما سواه، ولو لم يشهدوا إِلَّا القيومية الّتي ترد فيها الأفعال إلى خالقها، لم يأمروا ولم ينهوا ولم يمدحوا ويذموا، فإن العبد لا يأمر الله ولا ينهاه ولا يذمه ولا يعاقبه. والأنبياء كلهم على شهود الفرق، ومدح المحسن وذم المسيء، وإن كانوا مقرين بأن الله خالق كلّ شيء وربه ومليكه، فشهود القيومية العامة لا يناقض؛ أن يفعلوا ما أُمروا به، وأن يأمروا الخلق بعبادة الله وحده، وينهونهم عن عبادة ما سواه. بل عامة بني آدم من المسلمين والكفار يقرون بالقدر وبهذه القيومية، وهم مع هذا يثبتون الفرق بين المطلوب والمرغوب، ويمدحون من فعل ما يوافق مرادهم، ويذمون من خالف ذلك، ولا يرون الإقرار بالقيومية مناقضًا لذلك. ¬
الرد على زعم البكري أن أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي أفعال الله في الحقيقة
الوجه الخامس: قوله: (فيكون المعنى حينئذٍ كما وردت الآية أن البيعة وإن كانت له في الصورة فهي مع ربه في المعنى، وكذا ما كان من الرّمي فكأنّه يقول: الاستغاثة وإن وقعت بي فإني لست المستغاث به في المعنى، إنّما المستغاث به الله -عَزَّ وجلَّ-). فيقال: قد تقدّم بيان فساد أصل (¬1) هذا الكلام، ثمّ نقول قوله: (هي مع ربّه في المعنى) أتريد به أن الله هو المرسل الّذي أمره أن يبايعهم على الجهاد، وأمرهم بالجهاد، وهو الّذي ثبتهم على الوفاء؟ أم تريد (¬2) أن الله هو الّذي خلق البيعة؟ فإنّه خالق كلّ شيء، والقيومية شاملة لكل شيء، أم تريد (¬3) به معنى ثالثًا؟ فإن أردت الأوّل فهو صحيح؛ لكن يناقض قولك، فإن هذا مختص بمن يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه، [و] (¬4) لم ينزل الله أحدًا منزلة نفسه في الأفعال، ولا جعل الله أفعال محمّد كصومه وصلاته وحجه واعتماره وجهاده ونكاحه وأكله وشربه ودعائه وتضرعه فعلًا له، ولا جعل نفس مبايعته للمؤمنين فعلًا له، بل جعل المُبايع له إنّما يُبايع مُرسِله والجزاء عليه، كما جعل من أطاعه فقد أطاع الله، فهذا فعل (¬5) خاص؛ ليس عامًا في كلّ أفعاله. وأيضًا فلم يجعل هذا الفعل فعل الله، بل أخبر أن محمدًا رسول الله يبايع عنه والمبايعةُ لمُرسِلِه في الأصل، كما (¬6) أن الطاعة طاعة لمرسله في الأصل، وكما أن معاملة الوكيل معاملة مع موكله، وليس في هذا إسقاط فعل الوكيل (¬7) عن أن يكود وكيلًا، وإنّما فيه إثبات النيابة له عن غيره، وإن أردت أن الله خالق بيعته فهذا المعنى صحيح عند أهل السننة المثبتة للقدر، الّذي هو خلق الله خلافًا لنُفاته. ولكن إذا فسرت الآية بهذا سوَّيت بين الأنبياء والشياطين، وبين آدم ¬
اللوازم التي تلزم البكري وأمثاله
وإبليس، وموسى وفرعون، وبين أولياء الله وأعدائه، ولزمك أن تقول كفر الكافرين لهم (¬1) في الصورة ولربهم في المعنى، ولعنه (¬2) للكفار هو للكفار في الصورة ولربهم في المعنى، وأيضًا فيقال لك: المبايعة فيها فعل من الرسول وفعل من الصّحابة؛ فعلى هذا التقدير يلزمك: (أن يكون الله بايع في المعنى، لأنّه خالق للأفعال كلها، وإلا فإذا جاز أن يقول البيعة له في الصورة ولربه في المعنى، لكون الله خالقه وخلق (¬3) فعله؛ لزمك) (¬4) أن تقول: بيعته لهم بيعة لله في المعنى، لأنّ الله خلقهم وخلق أفعالهم. ويلزمك على هذا التقدير أن تقول: إنَّ الذين بايعتهم إنّما بايعت الله، وطرده أن من قاتل شخصًا فإنّما قاتل الله، ومن بايعه فإنّما بايع الله، بل يلزمهم أقبح من هذا وهو أن من لامه أو جامعه أو ضاجعه فإنّما يفعل ذلك مع الله، فإن أصل هذا القول أن الله لما كان خالقًا لأفعال العباد، كان الفعل لهم في الصورة وله في المعنى، وهذا عام في كلّ الأفعال في الخير والشر، وان أردت معنى ثالثًا فبيّنه. الوجه السّادس قوله: (البيعة وإن كانت في الصورة له فهي مع ربه، إذا لم يردّ معنى الإرسال والتبليغ المختص بالأمر والنهي، كان مقتضاه أن الرسول لم يفعل شيئًا ولا بايع، ولكن الرب هو الّذي فعل ذلك في المعنى). وهذا أن أُريد به خلق الأفعال، فقد تقدّم بطلان إرادة ذلك هنا، ؤإن أريد (¬5) به الحلول بأن يكون الرب -سبحانه- هو المتكلم على لسان الرسول، كما أن الجنّي يتكلم على لسان المصروع، (فالكلام في الصورة للمصروع) (¬6) وفي الباطن للجني فهذا هو الكفر الصريح، وهذا مذهب النصارى، وهؤلاء يشبهون النصارى في كثير من أمورهم، ولهذا سُلط عليهم النصارى، يُهينونهم كما أهانوا أهل هذا الشخص وأمثاله. وكنت أقول لهم: إنَّ الله وعد بنصره المؤمنين على الكافرين، وأنتم مشابهون للنصارى، وفيهم من هو أكفر من النصارى وأعظم إلحادًا ونفاقًا من ¬
الرد على تفسير البكري لحديث "لا يستغاث بي"
النصارى، كثير مَنْ بُغْضُيهم للنصارى إنّما هو لهوى وحظ كونهم لهم في الدنيا رياسة ومال أكثر (¬1) منهم، لا يبغضونه لأجل كفرهم ودينهم، إذ كانوا مشاركين لهم في كثير منه (¬2)، وبعضهم أشد كفرًا ونفاقًا من النصارى، وبعض النصارى أكفر منهم، وطائفة من شيوخهم يميلون إلى النصارى أكثر من المسلمين، ويأمرونهم بالبقاء على دينهم، ويقولون إذا صرتم محققين على طريقتنا فلا حاجة بكم إلى الإسلام، بل دوموا على النصرانية. ثمّ إنَّ الآية يمتنع أن يراد بها الحلول فإنّه قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، ويد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كانت مع أيديهم لا فوقها، فلم تكن يده يدًا لله، ولأنّه قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]، ولم يقل فإنك تؤتيه، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 18]، ولم يقل أنك أنت علمت ما في قلوبهم، ولا أنزلت السكينة عليهم. الوجه السابع قوله: (فكأنّه يقول الاستغاثة وإن وقعت بي فإني لست المستغاث به في المعنى إنّما (¬3) المستغاث به الله). فيقال: إنّه لم يقل لم تستغيثوا بي؛ وإنَّما استغثتم بالله، ولكن قال: "إنه لا يستغاث بي وإنّما يستغاث بالله" (¬4)، وهذا نفي للمستقبل لا للماضي (¬5). الوجه الثّامن: أن يقال: هذا الرَّجل فسَّر الاستغاثة بالتوسل (¬6) ¬
به (¬1) كما تقدّم قوله: (إنَّ كلّ من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به، سواء كان (¬2) بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيره)، وقال: (قول القائل أتوسل إليك برسولك (¬3) (وأستغيث برسولك) (¬4) عندك أن تغفر لي، استغاث بالرسول حقيقة في لغة جميع (¬5) الأُمَّة). وهذا الكلام وإن كان باطلًا كما تقدّم (¬6)؛ فالمقصود هنا أنّه جعل الّذي يسأل الله به مستغيثًا به، وهنا قد جعل الاستغاثة بسؤاله فقد جعل المستغيث به مستغيثًا بالله في المعنى، وهذا (¬7) لا يصح إذا أريد به السؤال به (¬8)، فإن الله هو مسؤول لا مسؤول به. وحينئذٍ فما قال في الاستغاثة به هنا يناقض ما تقدّم؛ إِلَّا أن يجعل الاستغاثة تعم النوعين، ويلزمه أن يجعل كلّ من سأل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فإنّما سأل الله، ويلزمه ذلك في غيره، وحينئذٍ فيسأل المخلوق كما يسأل الخالق، وهذا لا يقوله عاقل فضلًا عن مسلم. الوجه التّاسع: أنّه لو صح (¬9) هذا النَّفْي والإثبات باعتبار القيومية، لقيل هذا لكل من كان كذلك، فيقال: لمن بايع النَّاس كلهم وواجرهم وشاركهم إنك ¬
ظن بعض شيوخ الصوفية أن الله تعالى مع التتار في غزوهم لبلاد المسلمين
إنّما بايعت الله وواجرت الله وشاركت الله، ويقال للذي استغاث بموسى الّذي قال الله فيه: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّه} [القصص: 15]، إنّه لم يستغث بموسى وإنَّما استغاث الله، ويقال لمن استنصر المؤمنين الذين (¬1) قال الله فيهم: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، إنّما استنصروا الله والنصر على الله، ويقال في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، [إنّما استعانوا الله] (¬2) والله يُعين، وقد خاطبني مرّة شيخ من شيوخ هؤلاء الضلال، لما قدم التتار (¬3) -آخر قدماتهم- وكنت أُحرض الناس على جهادهم، فقال لى هذا الشّيخ: أُقاتل الله، فقلت له: هؤلاء التتار هُم الله، وهم من شر الخلق؟ (¬4) إنّما هم عباد الله خارجون عن دين الله، وإن قدّر أنّهم كما يقولون فالذي يقاتلهم هو الله، ويكون الله يقاتل الله، وقول هذا الشّيخ لازم لهذا وأمثاله. الوجه العاشر: أن يقال إذا كان الأمر كما ذكرته من شهود القيوميّة فأي مدح في هذا للرسول - صلّى الله عليه وسلم -، وأي فائدة في هذا القول، أو ترى الصدّيق والصحابة ما كانوا يقرون بأن الله رب كلّ شيء ومليكه وأن العبد لا يمكنه أن يفعل شيئًا إِلَّا بمشيئة الله -تعالى- وقدرته. ¬
نفي فعل العبد لا يجوز حتى عند الجبرية
الوجه الحادي عشر: أن ما كان من هذا الباب لا يجوز فيه نفي الفعل عن العبد، فإنّه مكابرة للحس ولو على مذهب الجبرية، بل إذا أريد نفي فلا بد من قرينة تببين المراد والحديث مطلق ليس فيه قرينة. الوجه الثّاني عشر: أمّا حديث أبي موسى الأشعري وقوله: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم"، لم يُرد به النبي - صلى الله عليه وسلم - كون الله خالق أفعال العباد؛ فإن هذا يتناول هذا الفعل وغيره من الأفعال. ومعلوم أن الله لم يقل لم أركب ولكن الله ركب، ولم يقل ما جاهدت في سبيل الله ولكن الله جاهد، ولم أسافر (¬1) ولكن الله سافر، ونحو ذلك. بل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما سألوه أن يحملهم، قال: والله ما أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه، فلما ذهب أبو موسى، بُعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنهب (¬2) إبل فأمر فبعث إلينا بخمس ذود غُرّ الذرى (¬3)، فقلنا: تغفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينه لا نفلح أبدًا، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: "ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم"، فلما لم يكن منه لا قصد ولا قدرة، صح أن يقول ما حملتكم لأني لم يكن عندي ما أحملكم عليه، ولكن الله حملكم بما يسره من الحمولة الّتي أتى بها بغير فعل مني، فنفى الحمل عن نفسه وأضافه إلى الله، لأنّه أراد به تيسير الحمولة ولم يكن له في هذا فعل، ثمّ قال: "وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إِلَّا أتيت الّذي هو خير وتحللتها" (¬4) ¬
زعم البكري أن حديث "لا يستغاث بي" حث للاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
وقال لهم هذا لما قالوا: إنك حلفت أن لا تحملنا، وكان قد قال: "ما عندي ممّا أحملكم عليها، فبيّن لهم أني حلفت للعسرة والعجز، وأن الله يسر بالحمولة، فهو الّذي حملكم، ومع هذا فإني أحنث في يميني للمصلحة الراجحة، وأكفّر. هذا الكلام يتضمن (¬1) جوابين من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كلّ منهما مستقل، وأمّا الجواب بأحدهما كأنّه يقول: أنا ما حملتكم وإن كنت حملتكم أنا أكفِّر، وعلى الأوّل يقول: الحمل الّذي طلبتموه ما حصل مني بل من الله، والحمل الّذي حلفت عليه أكفّر عنه. الوجه الثّالث عشر: قوله: (فإن صح هذا الحديث (¬2) لا يكون كما قال، من جعل الصديق بتأويله مخطئًا من غير ضرورة، بل يكون الحديث حثًا على الاستغاثة به - صلى الله عليه وسلم -). فيقال: أنت الّذي جعلته مخطئًا، حيث قال: إنّه [يستغيث] (¬3) بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فنفى النّبيّ ما أثبته، وقال: ليس هذا استغاثة بي؛ بل بالله، بل قولكم يستلزم تخطئة الرسول حيث جعلتم (¬4) من طلب من مخلوق حاجة لم يطلبها منه، بل إنّما (¬5) يطلبها من الله، وهذا مكابرة للحس والشّرع والعقل، وعلى ما قاله يجوز أن يقال لمن سأل كافرًا حاجة واستغاث به ما سألته ولا استغثت به، ويكون من قال إنّه سأل كافرًا مخطئًا، وهذا كما أنّه تخطئة منهم للصدِّيق، ¬
المطلوب من النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة يقدر عليه، وتارة لا يقدر عليه
فهي تخطئة لجميع عقلاء بني آدم من المسلمين والكفار، وأيضًا فإنّه لا يلزم على ما ذكر المجيب تخطئة أبي بكر الصديق، فإن الصديق قد يعتقد عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في دفع ذلك المنافق بعض الأمور الّتي يقدر عليها البشر فبيّن له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه ليس عندي في دفعه حيلة، بل يستغاث الله في أمره، ومن المعلوم أن المطلوب من النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تارة يقدر عليه، وتارة لا يقدر عليه، وقد يظن السائل أنّه يقدر عليه، ولا يكون قادرًا، وكان نساؤه يسألنه النفقة أحيانًا وليس عنده ما ينفق عليهن (¬1). وسألته الإعراب حتّى اضطروه إلى سَمُرة (¬2) فخطفت رداءه فقال: "ردوا عليَّ ردائي، فوالذي نفسي بيده لو أن عندي عدد هذه العضاه نعمًا لقسمتها بينكم ثمّ لا تجدوني بخيلًا ولا جبانًا ولا كذابًا" (¬3). وحقيقة قوله: لا يستغاث بي، وإن كان مراده الاستغاثة الكلية (¬4)، كما يقال: لا يستغاث بي ولا يتوكل علي، ولا أُدعى ولا أُسأل ونحو ذلك، فمراده النّهي عن الطلب الّذي لا يفعله إِلَّا الله، كما نهى عن ¬
السجود له (¬1)، وكما نهى أن يقال: ما شاء الله وشاء محمّد، وقال لمن قال: ما شاء الله وشاء محمّد، ما روي عن ابن عبّاس قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم-: "ما شاء الله وشئت"، فقال: "أجعلتني لله ندًّا؟ قل ما شاء الله وحده" (¬2)، رواه النسائي وابن ماجه، ورواه الإمام أحمد ولفظه: "أجعلتني لله عدلاً، بل ما شاء الله وحده" (¬3). ¬
يلزم البكري أنه ينبغي سؤال الناس
الوجه الرّابع عشر: أنّه إذا كان هذا حثًا على الاستغاثة به، بناء على ما ذكرت من شهود (¬1) القيومية وتوحيد الربوبية، وهذا عام لكل المخلوقات، فينبغي أن يحث على سؤال المخلوقين والرغبة إليهم، لأنّ السائل لهم عنده لا يسألهم؛ إنّما يسأل الله، كما أن المستغيث بمخلوق لا يستغيث به؛ إنّما يستغيث بالله على زعمكم. وهذا كثيرًا ما يقع فيه هؤلاء الإسماعيلية الاتحادية (¬2)، وأعرف منهم شخصًا كان معظمًا؛ وكان له حاجة إلى نصراني، فذهب إليه وخضع له، وقبّل يده ورجله، وربما قبَّل نعله، حتّى قضى حاجته، ثمّ جعل يقول: ما رأيت إِلَّا الله، وما كان ذلك الخضوع والتقبيل إِلَّا لله. وهؤلاء يصرحون في كتبهم بأن عُبّاد العجل ما عبدوا إِلَّا الله، وعُبّاد الأصنام ما عبدوا إِلَّا الله، وعُبّاد المسيح ما عبدوا إِلَّا الله وعندهم من عبد كلّ معبود كان محققًا موحدًا، وإنّما المقصر [عندهم] (¬3) من عبد بعض [المظاهر] (¬4) دون بعض، كالنصارى وعُبّاد العجل واللات والعزى، وفي كلام ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله من هذا ألوان (¬5)، لكن هذا الرَّجل وأمثاله ¬
لم يصلوا إلى الاتحاد بل وقفوا عند القدر وهو شهيد القيومية (¬1)، ولكن إذا جعلوا من استغاث بمخلوق فإنّما استغاث بالله لأجل توحيد الربوبية وشهود القيومية؛ لزمهم أن من سجد لمخلوق لم يسجد إلا لله، ومن عبد مخلوقًا إنّما (¬2) عبد الله، ومن سأل مخلوقًا إنّما سأل الله. فإن قالوا: الأعمال بالنيات، قيل لهم: والذين قالوا: نستغيث بالنبي لم يذكروا أنّهم قصدوا غيره، وأنتم جعلتم ذلك بمجرده استغاثة بالله لشهود (¬3) القيومية، فيلزمكم أن يكون [الله] (¬4) ورسوله أمر بسؤال المخلوق، والاستغاثة بالمخلوق، وعبادة المخلوق؛ بالسجود للمخلوق (¬5)؛ والخوف من المخلوق ¬
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سؤال المخلوقين لغير ضرورة
لأجل القيومية، فيلزم أن يكون كلّ شرك حرمه الله ورسوله؛ قد أمر الله به ورسوله باعتبار القيومية، لأنّ كلّ ما عُبد من دون الله فالقيومية تتناوله، فإذا كان اعتبارًا مسّوغًا لأنّ يعامل المخلوق معاملة الخالق، لزم أن يعامل المخلوقات كلها معاملة الخالق، من دعاء وسؤال، و (¬1) يصلّي لها ويسجد لها ويعبد. الوجه الخامس عشر: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن سؤال المخلوقين لغير ضرورة، ومدح من لم يسأل النَّاس شيئًا، فقال: "من سأل، النَّاس شيئًا (¬2) وله ما يغنيه جاءت مسألته كدوشًا أو خدوشًا في وجهه يوم القيامة (¬3) " (¬4)، (وقال: "لا تزال المسألةُ بأحدكم (¬5) حتّى يأتي يوم القيامة) (¬6) ليس في وجهه مزعة ¬
لحم" (¬1)، وقال: "لا تحل المسألة إِلَّا لذي غرم مفظع أو دم موجع أو فقر مدقع" (¬2)، وقال (¬3) أيضاً في حديث قبيصة بن مخارق: "إنَّ المسألة لا تحل إِلَّا لثلاثة (¬4): الغارم، والّذي أصابته جائحة اجتاحت ماله، والذي أصابته فاقة حتّى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلان فاقة" (¬5). وقال في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنَّة بغير حساب: "هم الذين لا يَسْتَرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" (¬6)، وحديثهم في الصحيحين فمَدَحهم على ترك الاسترقاء، وقد دوي في بعض ألفاظه لا ¬
مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن لا يسأله
يرقون، ولم يذكره البخاريّ فإنّه لا يثبت وإن رواه مسلم، ومعلوم أن المسترقي يقول لغيره: ارقني، فيطلب من غيره الرقية، فإن (¬1) كان مشهد (¬2) القيومية معتبرًا في سؤال الخلق، وجب أن يكون المسترقي إنّما سأل الله، وكان يكون مأمورًا بالاستغاثة بالخلق باعتبار مشهد القيومية. وقد قال الله -تعالى-: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7، 8]، فإن كان مشهد القيومية معتبرًا في هذا الباب: كان كلّ من سأل مخلوقًا فإنّما رغب إلى الله فلا يُنهى عن ذلك، بل يؤمر بالرغبة إلى الخلق. والله -تعالى- قد وصف الفقراء الممدوحين بأنّهم لا يسألون النَّاس إلحافًا، وسواء كان المعنى أنّهم لا يسألون النَّاس؛ أو يسألون النَّاس ولا يلحفون، فإن كان مشهد القيومية معتبرًا هنا، وجب أن يؤمر بسؤال الخلق والإلحاح في مسألتهم، فإنهم إنّما يلحفون في مسألة الله -تعالى- والله يحب الملحفين في الدُّعاء وهذا باب واسع. الوجه السّادس عشر: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد مدح من لا يسأله، وفضله على من سأله، بل ذم كثيرًا ممّن [سأله] (¬3)، فقال: "من سألنا أعطيناه ومن لم يسألنا فهو أحب إلينا" (¬4)، وقال: "يسألني أحدهم المسألةُ ويخرج بها يتأبطها نارًا. ¬
قالوا: يا رسول الله فلم تعطهم؟ فقال: يأبون إِلَّا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل" (¬1) وقال: "والذي نفسي بيده ما من أحد يسألني شيئًا فتخرج له المسألةُ ما لم أكن أريد (¬2) أعطيه فيبارك له فيه" (¬3)، أو كما قال لحكيم بن حزام في الحديث الصحيح الذي أخرجاه في الصحيحين قال: سألت رسول الله فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني ثمّ قال: "يا حكيم ما أنكر (¬4) مسألتك إنَّ هذا المال خضرة حلوة، فمن أخفي بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع"، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتّى أفارق الدنيا. هذا لفظ رواية البخاري، وفي رواية: "ولا تكون يد أحد من العرب فوق يدي"، فكان أبو بكر وعمر يعطيانه حقه من بيت المال فلا يأخذه (¬5). ¬
شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة
فإن كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على زعم هذا قد جعل من استغاث به فإنّما استغاث بالله، وقد حضه على ذلك، (فمن سأله فإنّما) (¬1) سأل الله، فليلزم أن يحض النَّاس على سؤاله، والأمر بالعكس، بل مدح من لم يسأله وذم كثيرًا ممّن سأله. وأمّا الوجه الثّالث: قوله: (إنّه يصح أن يراد أنّه لا يستغاث بي على وجه التأثير والاقتدار، وإنّما ذلك لله، وفائدة التنبيه على ذلك أن لا يتعلّق به [أحد] (¬2) في الانتصار به من جهة السببية الظاهرة، كما يتعلّق النَّاس بالأسباب على الغفلة، بل يكون تعلّقهم للنظر إلى جانب الربوبية فيه، ومكانته عند ربه، فيكون ذلك كما قال: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس ... الخبر (¬3) ". فالجواب عنه من وجوه: أحدها: أن هذا الّذي ذكره موافق (¬4) في المعنى لما ذكره المجيب، فإنّه لا ريب أنّه يجوز أن يُسأل النّبيّ أمورًا؛ ويستغات به في أشياء، بل يجوز هذا في غير حق النبي، وقد قال في أول الجواب: أجمع المسلمون على أن النبيَّ يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله النَّاس ذلك وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة (¬5). ¬
استغاثة الصحابة وتوسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وحضوره فيما يقدر عليه
ثمّ أهل السُّنَّة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصّحابة واستفاضت به السنن من أنّه يشفع لأهل، الكبائر من أمته (¬1)، ويشفع أيضاً لعموم الخلق، وأجمعوا على أن الصحابة كانوا يستغيثون به ويتوسلون به في حياته بحضرته كما في حديث عمر: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك (¬2) بنبينا فتسقينا" (¬3)، والذي ¬
الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ليست من الأسباب المشروعة
ذكره عمر قد جاء مفسرًا في سائر أحاديث الاستسقاء، وهو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدُّعاء والشفاعة، ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته فينا، وأن يقدم بين أيدينا شافعًا وسائلًا بأبي هو وأمي، فقد بين أنّه يجوز سفاله والطلب منه وهو الاستغاثة. ومعلوم أن هذا من جملة الأسباب الّتي تفعل على جهة التسبب مع التوكل على الله -عز وجل-، لا يطلب من مخلوق شيء على جهة أنّه مستقل بالقدرة والتأثير، فإن الاستقلال (¬1) من خصائص الرب -تعالى-. وإذا كان هذا الوجه متفقًا عليه فَحَمْلُ الحديث عليه لا يضر، وحينئذٍ فالمطلوب منه إمّا أن يكون قادرًا عليه، واما أن لا يكون قادرًا، فإن كان قادرًا طُلب على هذا الوجه، وإن لم يكن قادرًا عليه طُلب من الله، ولا منافاة بين المعنيين، لكن ظاهر لفظ الحديث -إن صح (¬2) - يقتضي أنّه لم يكن قادرًا على دفع ضرر ذلك المنافق، وأنّه أمرهم أن يستغيثوا فيه بالله -تعالى-. الوجه الثاني: أن يقال: الأسباب المخلوقة والمشروعة لا تنكر، والأسباب المشروعة تفعل مع التوكل على الله، لكن لما قلتم: إنَّ الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إِلَّا الخالق هو من الأسباب المشروعة، والكلام إنّما هو في هذا، وهذا هو الّذي نهى عنه. فالجواب حيث قيل: فأمّا ما لا يقدر عليه إِلَّا الله فلا يجوز أن يطلب إِلَّا من الله، لا يطلب ذلك من الملائكة ولا من غيرهم، فلا يجوز أن يقال لغير الله: اغفر لنا، واسقنا الغيث، وانصرنا على القوم الكافرين، أو اهد قلوبنا ونحو ذلك، ثمّ ذكر الحديث المذكور فبين أن المنهي عنه أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إِلَّا الخالق، والطالب من النّبيّ قد يظن (¬3) أن يقدر على قضاء حاجته ولا يكون كذلك، كما كان يسأله الناس؛ إمّا نساؤه إما ¬
أمثلة المطالب ليست عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حياته
غيرهن ما ليس عنده، وكما كان يأتونه في غزوة تبوك (¬1) ليحملهم فلا يجد ما يحملهم عليه، قال تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} [التوبة: 92]، وكما سأله أبو موسى الأشعري وأصحابه الأشعريون (¬2) أن يحملهم فقال: "والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه"، وكان هؤلاء الأشعريون من خيار الصّحابة؛ ظنوه قادرًا على حاجتهم ولم يكن كذلك. وفي الصحيحين أن فاطمة ابنته جاءت تسأله خادمًا فأتاها بعد أن نامت هي وعلي -رضي الله عنهما- فعلَّمها أن تُسبح وتُحمد وتُكبّر، وقال: "ذلك خير لكِ من خادم"، ولم يعطها الخادم (¬3). وقد قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ ¬
تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)} [الإسراء: 26 - 28]، فأمره (¬1) تعالى إذا لم يجد ما يعطي السائل أن يقول له قولًا ميسورًا، وفي صفته أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آتاه طالب حاجة لم يرده إِلَّا بها أو بميسور من القول (¬2)، وقد قال -تعالى-: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263]، وقال -تعالى-: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)} [الضحى: 9، 10]. ولما قدم عليه وفد هوازن مسلمين سألوه أن يردّ عليهم السبي والمال، فقال: "أحب الحديث إليَّ أصدقه ومعي من ترون، فاختاروا إحدى الطائفتين: إمّا السبي وإما المال" (¬3)، فهو تارة يسأل ما يقدر عليه، وتارة ما لا يقدر عليه. فهذا الحديث -إنَّ كان صحيحًا- فقد سأله بعض أصحابه أن يدفع عنهم ضرر ذلك المنافق، فأخبرهم أنّه لا يقدر عليه بل يطلب ذلك من الله، كما أن عمر بن الخطّاب (¬4) كتب إليه أبو عبيدة بن الجراح عام اليرموك يستنصره على الكفار، ويخبره أنّه قد نزل بهم جموع لا طاقة لهم بها، فلما وصل كتابه بكى النَّاس، (وكان من أشدهم عبد الرّحمن بن عوف وأشار على عمر أن يخرج بالناس) (¬5)، فرأى عمر أن ذلك لا يمكن، وكتب إليه (¬6): "مهما ينزل بامرئ مسلم من شدة فينزلها بالله يجعل الله (¬7) له فرجًا ومخرجًا، فإذا ¬
فهم الصحابة - رضي الله عنهم - لحديث "لا يستغاث بي"
جاءك كتابي هذا فاستعن بالله وقاتلهم" (¬1)، فأخبره أنّه لا يمكنه أن يعاونه في هذه القضية، وأمره أن يستعين بالله، وإن كان يمكنه أن يعينه. الوجه الثّالث (¬2): أنّه لو أريد هذا المعنى لقيل ما يدلُّ على هذا المعنى مثل أن يقال: توكلوا عليّ وأنا أغيثكم (¬3)، ولم يقل إنّه لا يستغاث بي، وإنَّما يستغاث بالله، فإنّه قد نفى وأثبت بكلام مطلق، وليس في الباب ما يدلُّ على ما ذكر. ويظهر هذا بالوجه الرّابع: وهو أن أبا بكر وغيره من الصّحابة أعلم بالله من أن يظنوا أنّه يستقل بالإبداع والاختراع، فمن حمل الحديث على هذا فقد نسب الصديق إلى غاية الضلال، أين من ينزه الصديق من الخطأ وينسبه إلى هذا؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - نفى وأثبت؛ وإن كان ما نفاه لم يخطر بقلوبهم فأي حاجة إلى نفيه؟ وإن قيل: إنهم ظنوه فذلك بهتان عظيم، بخلاف ظنهم أنّه يقدر على دفع المكروه، فإن هذا الظن قد كان يقع منهم كثيرًا، أو قد يكون الأمر كما يظنه الظّان، فليس فيه قدح لا في الصّحابة ولا في الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف من يقول: لا تعتقدوا فيّ أني مثل الله؛ أقدر وأستقل بالتأثير كما يفعل الله، فإن هذا المعنى لا يظنه به من هو دون الصّحابة، فكيف يظنونه هم، ومن أراد أن يأمر غيره بالتوكل مع السبب المأمور به، لا ينهاه عن السبب، بل يقول له كما قال: "اعقلها وتوكل" (¬4)، وكَما قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح "احرص ¬
رد احتجاج البكري بحديث "من نزلت به فاقة"
على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز" (¬1) وكما قال -تعالى-: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، وكما كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول لمن يبعثه في السرايا: "ادعهم إلى الإسلام ثمّ الهجرة وإلا فالجزية، فإن أجابوك وإلا فاستعن بالله وقاتلهم" (¬2)، لا يقال في مثل هذه لا تقاتل ولا تحرص على ما ينفعك. الوجه الخامس: أن الحديث الّذي ذكره حجة عليه، وهو حديث ابن مسعود عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من [نزلت] (¬3) به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أو شك له بالغنى، إمّا بموت عاجل، أو غنى عاجل" (¬4) رواه أبو داود والترمذي وصححه. فإنزال الفاقة بالناس أن يشكو إليهم ويترك الشكوى إلى الله، فلو كانت ¬
الاستغاثة بالمخلوق جائزة لجاز إنزالها بالناس، وقد قال يعقوب -عليه السلام-: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7، 8]، وقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله (¬1)، وإذا استعنت فاستعن بالله" (¬2)، ورأى الفضيل بن عياض (¬3) رجلًا يشكو إلى رجل فقال: يا هذا أتشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك، وقال بعضهم: ذكر الله الصبر الجميل والهجر الجميل (والصفح (¬4) الجميل، فالصبر الجميل الّذي ليس فيه شكوى إلى المخلوق) (¬5)، والهجر الجميل الّذي ليس فيه أذى، والصفح الجميل الذي ليس فيه عتاب. وأما قوله: (المراد بالخبر التنبيه على (¬6) الرجوع إلى الله -تعالى- بالقلب لا ترك السبب، بل [أن] (¬7) يذكر الله في ذلك السبب). فيقال: الأسباب نوعان: سبب مأمور به، فهذا طاعة وعبادة لله، كطلب ¬
الخلاف بين العلماء في سؤال الناس عند الضرورة
الرزق؛ بالصناعة والتجارة، وكدفع العدو بالقتال، والأكل عند الجوع، واللباس عند البرد، فهذا ليس فيه إنزال الفاقة بهم ولا شكوى إليهم، وأمّا نفس سؤال النَّاس؛ فسؤالهم في الأصل محرم بالنصوص المحرمة له، وإنّما يباح عند الضّرورة (¬1). وتنازع العلماء هل يجب سؤالهم عند الضّرورة؟ فالمنصوص عن أحمد أنّه لا يجب سؤال الخلق (¬2)، مع إيجابه مع غيره من الأئمة الأربعة وغيرهم الأكل من الميِّتة عند الضّرورة (¬3)، فإن الله لم يوجب سؤال الخلق، بل قد وصى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - طائفة من أصحابه أن لا يسألوا النَّاس شيئًا، فكان (¬4) أحدهم إذا سقط سوطه لا يقول لأحد ناولني إياه، منهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- (¬5). ¬
وصاحب الفاقة إذا (¬1) سأل الله -تعالى- (¬2) [أنزلها بالغني العليّ العلّيم القدير] (¬3). وقيل: يجب السؤال (¬4)، وهذا منقول عن الثّوري (¬5) وهو اختيار أبي الفرج ابن الجوزي (¬6)، وعلى هذا قال قائل: يسأل النَّاس ما يجب عليهم أن يعطوه إياه؛ إمّا من الزَّكاة وإما من غيرها، فإن إطعام الجائع فرض على الكفاية من النَّاس كما ثبت في، الصحيح عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: عودوا المريض وأطعموا البائع وفكوا العاني" (¬7)، وقد جاء في الحديث: "لو صدق السائل ما أفلح من رده" (¬8). ¬
ونقل المروذي (¬1) عن أحمد أنّه إذا عَلم صدق السائل وجب أن يعطيه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج: 24، 25]، واذا كان يسألهم ما أوجب الله عليهم كان بمنزلة أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه الّذي جعل الله له في المال، وسؤال ذي السلطان جائز (¬2)، كمن سأل ¬
المودع أن يردّ عليه وديعته، وأن يعطيه حقه من الميراث والمغنم ونحو ذلك. وعلى هذا فليس للسائل أن يسأل من لا فضل عنده، وليس له أن يتعدى في السؤال على الناس، وليس له أن يجزع ويعدل عن الصبر الجميل، وعليه أن يرغب إلي الله ويتوكل عليه بها وحينئذٍ فلا يكون قد أنزلها بالناس، مع أن القول الأوّل وهو عدم وجوب السؤال أظهر، فإن النصوص تقتضي أن ترك سؤال الخلق أفضل مطلقًا (¬1)، ولهذا قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في صفة السبعين ألفًا: "هم الذين لا يسترقون"، والمسترقي يطلب الدُّعاء (¬2) من الراقي، وقد قال - تعالى-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3]، فقد بين أنّه كافي من توكل عليه، وأنّه لا بد أن يرزق المتقي، من حيث لا يحتسب (¬3)، والميِّتة رزق ساقه الله إليه عند الضّرورة فليس له أن يمتنع من أكله فيعين على قتل نفسه، ولو أتاه مال من غير مسألة ولا إشراف نفس أخذه (¬4)، وهذا كله يدلُّ على أن سؤال الخلق والاستغاثنة بهم حرام في الأصل؛ لا يباح إِلَّا لضرورة، وهو في الأظهر أشد تحريمًا من الميِّتة. ¬
السبب المشروع لا ينافي التوكل
فكيف يقال إنّه مأمور به فيما لا يقدر عليه الخلق؟ وهل قال أحد: إنَّ سؤال المخلوق والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله -تعالى- مأمور به أو مباح. ومن هنا يظهر الوجه السّادس: قوله (والمراد به التنبيه على الرجوع إلى الله -تعالى- بالقلب لا بترك السبب، بل أن يذكر الله في ذلك السبب). فيقال له: هذا إنّما يصح إذا كان السبب مشروعًا، فإن السبب المشروع لا ينافي التوكل، والكلام هنا في من يستغيث بالخلق فيما لا يقدر عليه إِلَّا الله، كما قيل في الجواب، فأمّا ما لا يقدر عليه إِلَّا الله فلا يجوز أن يطلب إِلَّا من الله، لا يطلب ذلك من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم. ومعلوم أن سؤال الخلق (¬1) مثل هذا باطل شرعًا وعقلًا، فمن الذي جعل هذا من الأسباب الشرعية؟ ومن قال إنَّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يكن عنده شيء يعطيه فينبغي للإنسان أن يسأله ويستغيث به؟ وإذا لم يمكنه دفع العدو ينبغي للإنسان أن يسأله ويستغيث به في ذلك؟ وقد تقدمت النصوص عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأنّه كان يمدح من لا يسأله مطلقًا، ويذمّ من يسأله ما لا يحب أن يعطيه، ويذمّ من يسأله ما لا يقدر عليه. فسؤاله والاستغاثة به (¬2) في ذلك أذى وعدوان عليه، يحرم فعله معه - صلى الله عليه وسلم -، أعظم ممّا يحرم أذى غيره والعدوان عليه، مع ما فيه من الشرك والجزع، وقد كان الصّحابة -رضوان الله عليهم- نُهوا أن يسألوه كما ثبت في الصحيح عن أنس -رضي الله عنه- قال: "نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يعجبنا أن يجيء الرَّجل من أهل البادية -العاقل- فيسأله ونحن نسمع" (¬3)، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، هذا وإن كان في سؤال العلم أحيانًا، فسؤال الدنيا أولى. وقد ذُم من كان يسأل الرسل الآيات، قال تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 108]، وقال تعالى: {يَسْأَلُكَ ¬
فصل [2]
أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، ولو كان يجوز السؤال له (¬1) والاستغاثة به في كلّ ما يُسأل الله ويستغاث به فيه، -كما قال هؤلاء المفترون: إنّه تجوز الاستغاثة به وبغيره من الصالحين في كلّ ما يستغاث الله فيه-، لم يحرم من مسألته إِلَّا ما يحرم من مسألة الله، والعبد يجوز أن يسأل الله الرزق والعافية والنصر على الأعداء والهداية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز أن يسأله أحد كلّ ما (¬2) يقدر، فضلًا عن أن يسأله ما لا يقدر عليه؛ لما في ذلك من الأذى والعدوان عليه، وهو أحق بالتعزير والتوقير من غيره، فإذا كان يحرم أذى غيره بذلك؛ فأذاه أولى (¬3) بالتحريم، بل أذاه كفر، وأذى المؤمنين ذنب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 57، 58]. فصل قال: (وكثيرًا ما تنفى الأشياء في النصوص الشرعية إشارة إلى التّوحيد، ويثبتها الباري -سبحانه- في مواضع أخر اعتبارًا بالأسباب، وإثباتًا لبساط الحكمة، فيأتي هذا المبتدع (¬4) فيخلط في الحقائق ويلحد في الآيات، كما قال في الإغاثة والنصرة وغيرهم أنّها لا تصح في الخلق ولا يسألونها ولا تضاف إليهم، وأخطأ في ذلك، فإن هذه الحقائق تبتت للمخلوقات حقيقة لغوية بإجماع العلّماء ونصوص الكتاب والسُّنَّة اعتبارًا بالسبب والحكمة، وتنفى عن الخلق إشارة للتوحيد وانفراد الباري بخلقها، كما انفرد بخلق غيرها، كما قال سبحانه من بساط التّوحيد: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، وقال -عز وجل-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬5) [القصص: 56]، وقال: ¬
بيان كذب البكري وظلمه وجهله
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، ثمّ قال لنبيه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] (¬1)، وفي الصحيح: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" (¬2)، وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وفي الصحيح: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (¬3) و"أعنّي على نفسك بكثرة (¬4) السجود" (¬5)، وجمع الوجهين في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. فيقال: في هذا الكلام من الكذب والافتراء الظلم والاعتداء والجهل والضلال ما يظهر عند التأمل، وجوابه من وجوه: الأوّل: أن لفظ المذكور جواب المسألة التي سألها، واعترض بعد جوابه، [وصورة السؤال: المسؤول من السادة العلماء أئمة الدِّين، أن يبينّوا ما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين. وصورة الجواب] (¬6): قد ثبت بالسُّنَّة المستفيضة [بل] (¬7) ¬
شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة وإذكار بعض الفرق لها
المتواترة واتفاق (¬1) الأُمَّة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - الشافِع المشفع، وأنّه يشفع في الخلائق يوم القيامة، وأن النَّاس يستشفعون به، ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم -عز وجل- وأنّه يشفع لهم، ثمّ اتفق أهل السُّنَّة والجماعة أنّه يشفع في أهل الكبائر وأنّه لا يخلد في النّار من أهل التّوحيد أحد. وأمّا الخوارج (¬2) والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين؛ إِلَّا ما يحكى عن طائفة قليلة منهم وهؤلاء مبتدعة ضلال وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل، ومن أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة عليه. وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمّه، وكذلك من أقر بشفاعته في الآخرَة؛ وأنكر ما كان الصّحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به؛ كما رواه البخاريّ في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعباس بن عبد المطلب (¬3) وقال: "اللَّهُمَّ إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا فيسقون" (¬4)، وفي سنن أبي داود ¬
توسل واستشفاع الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وحضوره فيما يقدر عليه
وغيره أن أعرابيًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، فسبَّح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى عُرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: "ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك" (¬1)، وذكر تمام الحديث. فأنكر قوله: "نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: "نستشفع بك على الله" بل أقره عليه فعُلم جوازه، فمن أنكر هذا فهو مخطئ ضال مبتدع؛ وفي كفره نزل وتفصيل. وأمّا من أقر بما ثبت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع من شفاغته والتوسل به ونحو ذلك، ولكن قال: إنّه لا يدعي إِلَّا الله وأن الأمور الّتي لا يقدر عليها ¬
إِلَّا الله فلا تطلب إلا منه، مثل: غفران الذنوب؛ وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات ونحو ذلك، فهذا مصيب في ذلك، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضاً، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} [القصص: 56] وكما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3]، وكما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، وقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. فالمعاني الثابتة بالكتاب والسُّنَّة يجب إثباتها، والمعاني المنفية بالكتاب والسُّنَّة يجب نفيها، والعبارة الداالة على المعاني نفيًا وإثباتًا، إنَّ وجدت في كلام (¬1) الله (¬2) ورسوله وجب إقرارها، كان وجدت في كلام أحد فظهر مراده من ذلك؛ رتب عليه حكمه؛ وإِلَّا رجع إليه فيه، وقد يكون في كلام الله ورسوله عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض النَّاس يفهم من تلك العبارة (¬3) غير مراد الله ورسوله، فهذا يُرد عليه فهمه، كما روى الطبراني في معجمه الكبير أنّه كان في زمن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منافق [يؤذي] (¬4) المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إنّه لا يستغاث بي؛ إنما يستغاث بالله" (¬5)، فهذا إنّما أراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - المعنى ¬
الثّاني، وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إِلَّا الله، وإلا فالصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يطلبون منه الدُّعاء ويستسقون به كما في صحيح البخاريّ عن ابن عمر قال: "ربما ذكرت قول الشاعر، [وأنا] (¬1) أنظر إلى وجه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يستسقي فما ينزل حتّى يجيش له الميزاب. وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ... ثِمَال اليتامى عصمة للأرامل وهو قول أبي طالب" (¬2)، ولهذا قال المصنفون في أسماء الله -تعالى-: يجب على كلّ مكلّف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إِلَّا الله، وإن كلّ غوث فمن عنده، وإن كان جعل ذلك على يد غيره؛ فالحقيقة له سبحانه (¬3)، ولغيره مجازًا، قالوا: ومن أسمائه المغيث والغياث، وجاء ذكر ¬
إطلاق اسم المغيث على الرب تعالى
المغيث في حديث أبي هريرة (¬1)، قالوا: وأجمعت الأمة على ذلك، وقال أبو عبد الله الحليمي (¬2): الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال غياث المستغيثين، ومعناه المدرك عبادة في الشدائد إذا دعوه، ومريحهم (¬3) ومخلصهم، وفي خبر الاستسقاء في الصحيحين: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا" (¬4) يقال: أغاثه إغاثة ¬
الاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يقدر عليه في حياته وحضوره لا ينكرها إلا ضال
وغياثًا وغوثًا، وهذا الاسم في هذا المعنى [المجيب] (¬1) والمستجيب، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]، إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر، قالوا: والفرق بين المستغيث والداعي، أن المستغيث ينادي بالغوث، والداعي ينادي بالمدعو، وقد تقدم حكاية هذا إلى آخره فليس هذا موضع استقصائه (¬2). وفيه: والاستغاثة بالرسول بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، كما أنه يستغاث بغيره بمعنى أن يطلب منه ما يليق به، ومن نازع في هذا المعنى فهو [إما] (¬3) كافر إن أنكر ما يكفر به؛ وإما مخطئ ضال، وأما بالمعنى الذي نفاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهي (¬4) أيضاً مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة [التي] (¬5) يكفر تاركها. ومن هذا الباب قول أبي يزيد البسطامي (¬6): استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشيخ أبي عبد الله القرشي (¬7) -الشيخ ¬
الاستغاثة والاستنصار منها ما لا يصلح إلا بالله، ومنها ما يصلح للمخلوق
المشهور بالديار المصرية وغيرها-: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون". وفي دعاء موسى -عليه السلام-: "اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله" (¬1)، ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق، صح إطلاق نفيها عما سوى الله -عز وجل-، ولهذا لا يُعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوّز مطلق الاستغاثة بغير الله، ولا أنكر على من نفى مطلق الاستغاثة عن غير الله. وكذلك [الاستعانة] (¬2) أيضاً منها ما لا يصلح إلا لله وهي المشار إليها بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فإنه لا يعين على ¬
رمي البكري للمؤلف بالإلحاد
العبادة الإعانة المطلقة إلا الله، وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. وكذلك الاستنصار، قال (¬1) تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] والنصر المطلق؛ وهو خلق ما به يغلب العدو لا يقدر عليه إلا الله (¬2)، فهذه ألفاظ جواب السؤال الذي طلب جوابه؛ كما تقدم ذكر سؤاله (¬3) والجواب. وقد ذهب إليه الجواب ووقف عليه، وزعم أنه يرد عليه فافترى على المجيب بقوله: (إنه يخلط في الحقائق ويلحد في الآيات كما قال في الإغاثة والنصرة وغيرهما، أنها لا تصح من الخلق ولا يُسألونها؛ ولا تضاف إليهم، وأخطأ في ذلك فإن هذه الحقائق ثبتت للمخلوقات حقيقة لغوية بإجماع العلماء، ونصوص الكتاب والسنة، اعتبارًا بالسبب والحكمة، وتنفى عن الخلق إشارة إلى التوحيد، وانفراد الباري -عز وجل- بخلقها، كما انفرد بخلق غيرها، كما قال تعالى من بساط التوحيد: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]). فيقال (¬4): المجيب لم ينفها عن الخلق مطلقًا كما ذكرت، بل قال: وقد [يستعان] (¬5) بالمخلوق فيما يقدر عليه كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ¬
تنزيه كلام الله تعالى عن التناقض
وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وكذلك الاستنصار قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، فقد ذكر هاتين الآيتين قبلك وفرق بين (¬1) [ما يضاف إلى المخلوق وما يضاف إلى الخالق؛ من النصر والإعانة كما فرق بين] (¬2)، هذا وهذا في الإغاثة، فنقلك عنه النفي العام كذب بيّن، ولكن هو فصّل فجعل ما يخص به الله الذي لا يضاف إلى غيره وهو المطلق، وإنما يضاف إلى المخلوق ما يليق به، وأنت تريد أن تجعل المخلوق عدل الخالق، يضاف إليه جميع ما يضاف إلى الرب -عز وجل- مضاهاة للحلولية والنصارى والمشركين، الذين أنت وأمثالك من طلائع جيوشهم، وأبواب مدائنهم، وهم دعاة إلى مذهبهم في الحقيقة، وإن كانوا لا يعلمون لوازم قولهم، وهذا بيّن يكشف ضلال هؤلاء. ونقول في الوجه الثاني: قوله: (وكثيرًا ما تنفي الأشياء في النصوص الشرعية إشارة إلى التوحيد، [و] (¬3) يثبتها الباري -سبحانه- في مواضع أخر اعتبارًا بالأسباب وإثباتًا لبساط الحكمة). هو كلام باطل فإن الله -سبحانه- لا ينفي شيئًا ويثبته، إذ الجمع بين نفيه وإثباته تناقض، وكلام الله منزه عن التناقض، قال الله -تعالى-: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، ولكن المنفي غير المثبت، فالذي ينفيه في موضع ليس هو الذي يثبته في موضع آخر، ولكن هؤلاء الضلال يجعلون المنفي عين المثبت، فيكون ما يضاف إلى الرب بطريق التوحيد؛ يضاف إلى غيره بطريق السبب والحكمة، ولهذا قالوا: إن كل ما يطلب من الله؛ يُطلب من غيره (بهذا الطريق) (¬4). فأشركوا في ربوبية الله، وفي دعاء الله وعبادته، حيث جعلوا ما يضاف ¬
إلى المخلوق يضاف إليه تعالى، فصار حقيقة قولهم أن المخلوق تضاف إليه مفعولات الله كلها، ويطلب منه مقدورات الرب كلها؛ لما في الخلق من السبب والحكمة، ولم يعلم هؤلاء الجهال أن السبب لا يستقل بالتأثير، بل تأثيره متوقف على سبب آخر وله موانع؛ وحينئذٍ فلا يجوز تخصيصه بالإضافة إليه، وإن كان سببًا، وأيضًا فالأسباب التي نعرفها مضبوطة، وأكثر ما فعله الله ويفعله لا نعرف نحن أسبابه، وأيضًا أثبتوا أسبابًا في خلقه وأمره ونهيه ما أنزل الله بها من سلطان، بل إثباتها مخالف للشرع والعقل، فضلوا في إثبات أسباب لا حقيقة لها، وفي [الإضافة] (¬1) إليها، وفي تعليق الحوادث كلها [بسبب] (¬2) واحد (¬3). ¬
بعض مقولات الغلاة في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي شيوخهم
وقد حدثني بعض الثقات عن هذا الشخص (¬1) أنه كان يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم مفاتيح الغيب التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2): "خمس لا يعلمها إلا الله: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت" (¬3)، وأظنه ذكر عنه أنه قال: "علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله". وآخر من جنسه يباشر التدريس ويُنسب إليه الفتيا كان يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما يعلمه الله (¬4)، ويقدر علي ما يقدر عليه الله، وأن السر انتقل بعده إلى ¬
الحسن ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي (¬1) وقالوا هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع (¬2). وكان شيخ آخر معظّم عند أتباعه يدّعي هذه المنزلة؛ ويقول: إنه المهدي الذي بشّر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه يزوج عيسى بابنته، وأن نواصي الملوك والأولياء بيده، يولي من يشاء ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائمًا، وأنه هو الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر، وقد عزرته تعزيرًا بليغًا في يوم مشهود بحضرة من أهل المسجد الجامع يوم الجمعة بالقاهرة، فعرفه الناس وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة. ¬
ومن هؤلاء من يقول في قوله تعالي: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)} (¬1) [الفتح: 8، 9]: إن الرسول هو الذي يُسبح بكرة وأصيلًا (¬2)، ومنهم من يقول: أسقط الربوبية وقل في الرسول ما شئت: دع ما ادعَتْهُ النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم فإن فضلَ رسول الله ليس له ... حدٌّ فيعربُ عنه ناطقٌ بفم (¬3) وانسبْ إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلي قدره ما شئت من عظم لو ناسبت قدره آياته عِظَمًا ... أحيا اسمُه حين يُدعي دارسَ الرمم (¬4) ¬
النصر المنقى ليس هو النصر المثبت
ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله فيجعلون الرسول معبودًا. ومنهم من يأتي قبر الميت الرجل أو المرأة -الذي يحسن به الظن لنفسه- فيقول: اغفر لي وارحمني، ولا [توقعني] (¬1) على زلة، [ولا توقفني على خطيئة] (¬2)، ونحو هذا الكلام يرد إلى أمثال هذه الأمور التي تتخذ (المخلوق إلهًا) (¬3)، ولما استقر في نفوس عامتهم تجد أحدهم إذا سئل عمن (¬4) ينهاهم عن هذا: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان عنده ما ثَمَّ إلا الله لِمَا استقر في نفوسهم، (أنهم يجعلون معه آلهة أخرى) (¬5)، وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، (وآخر يقول هذا معظّمًا لمن ينهى عن هذه الأمور حيث إنه عنده ما ثم إلا الله) (¬6)، وآخر يقول معظّمًا لمن يدعو إلى التوحيد، قد جعل الآلهة إلهًا واحدًا. والمقصود هنا أن نبيّن خطأه فيما ذكر عن الله -تعالى- من أنه ينفي الأشياء إشارة إلى التوحيد، ويثبتها اعتبارًا بالأسباب، ونبين أنه سبحانه لا ينفي ما يثبته ولا يثبت ما نفاه. أما قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] فهذا النصر المنفي في هذه الآية عن غير الله لم يثبته الله لغيره قط، والذي ذكره في قوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] ليس هذا هو ذاك، يبيّن هذا أنه قال: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} (¬7) [آل عمران: 124 - 126]، وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ ¬
أقوال الناس في الأعمال المتولدة
الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1) [الأنفال: 9، 10]، فهو سبحانه قد أمدهم بالملائكة، ومعلوم أن نصر الملائكة لهم أعظم من [النصر] (¬2) الذي أُمروا به في قوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، فإن هؤلاء غاية ما يفعلونه دون ما تفعله الملائكة، ثم بيّن أنه وإن نزلت الملائكة وقاتلت؛ فالنصر لا يحصل بمجرد هذا؛ إن لم يحدث الله ما به ينتصر المؤمنون؛ وذلك لأن المقاتل من الملائكة والبشر غاية قدرته نفسه، وأما ما يتولد عن ذلك فهو لا يستقل به. والناس متنازعون في هذا، فكثير من النظّار المثبتين للقدر يقولون: إن جميع المتولدات فعل الله، ليست فعلًا للعباد، مثل الشبع والري وانقطاع العضو، وخروج السهم من القوس (¬3). وأما القدرية فيقول أكثرهم: إنها مفعول [فاعل] (¬4) السبب، ويقسمون الأفعال إلى مباشر ومتولد؛ لكنهم مع هذا يعلمون أن الفعل لا يتم بمجرد قدرة العبد، بل بأمور خارجة عن قدرته (¬5). ¬
النصر الذي لا يقدر عليه إلا الله
وقالت الطائفة الثالثة: إن هذه المتولدات حادثة بفعل العبد وبالأسباب الأخرى، فالعبد مشارك فيها؛ لم ينفوا أثره كما نفاه الأولون، ولا جعلوه فاعلًا كالآخرين، بل جعلوه مشاركًا فيها، وهذا أعدل الأقوال (¬1)، ولهذا فرَّق الله -تعالى- بين الأعمال المباشرة والمتولدة في قوله -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} الآية، ثم قال: {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 121]، فلما كان الإنفاق والسير عملًا مباشرًا قال فيه: {كُتِبَ لَهُم}، وتلك الأمور من النصب والجوع وغيظ الكفار والنيل من العدو [ليس] (¬2) مباشرًا، بل هو مما يسمى متولدًا، فلهذا قال فيه: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} لأنهم مشاركون في حصول هذه الآثار، وحصول هذه الآثار لا بد فيه من الأسباب التي يخلقها الله، ومن دفع الموانع، فلا تجوز أن تجعل مفعولة لسبب معين، بل هي مفعولة لله -تعالى-، وانتصار المؤمنين على الكفار هو أعظم من النيل الذي ينال من العدو، فإذا لم يكن هذا مفعولًا لمخلوق فكيف يكون النصر؟. وهب أن الملائكة نزلت بقذف الرعب في قلوب الكفار كما قال -تعالى-: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12]، وأيضًا فهب أن الملائكة حضروا فمن الذي يخلق القدرة فيهم وفي المؤمنين، والقدرة التي بها يكون الفعل أكثر؛ لا [تكون] (¬3) إلا مع الفعل، وهب أن القدرة حصلت فمن يخلق الأسباب الخارجة؛ كقبول الجلود للجرح، وحصول الزهوق بعد الجرح والهزيمة المستمرة إذ يمكن أن الكفار يفرون ويكرون، ويمكن أنهم ¬
المؤثر التام وعلاقته بالأثر
يقاتلون حتى يقتلوا؛ فلا يقتل منهم واحد حتى يقتل غيره. فالنصر الذي قال الله -تعالى- فيه {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]، لا يقدر عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يقدر عليه إلا الله، ليس في الموجودات سبب يحصل به هذا النصر ولا موجب له إلا مشيئة الله، فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، فإن كل ما يكون لسبب فلا بد من حصول سبب آخر، ومن رفع موانع ثم خلق الأسباب. ورفع الموانع لا بد أن يُحدِثَ هو سبحانه ذلك الأثر بفعل منه، على أصح قوليّ الجمهور الذين يقولون: إن الخلق غير المخلوق، فإن هؤلاء لهم قولان: [هل] (¬1) يخلق بفعل واحد قديم يوجد جميع الموجودات؟ أم هو يوجد به المفعولات بأفعال متعاقبة، كما قال -تعالى-: {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] على قولين، ومن قال بالثاني قال: إن المؤثر التام يستلزم الأثر التام، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح فإن الفاعل إذا كان قبل حدوث المفعول وحين حدوثه على حال واحدة؛ كان تخصيص أحد الحالين بحدوث المفعول ترجيحًا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح، وهذا ممتنع في صريح العقل (¬2). فالأثر لا يوجد إلا إذا حصل مؤثره التام، فإنه بدون تمامه لا يكون مؤثرًا، فلا يحصل الأثر، وإذا تم وجب حصول الأثر، إذ لو لم يجب لأمكن وجوده؛ وأمكن عدمه، فكان (¬3) يتوقف على حدوث شيء آخر فلا يكون المؤثر تامًا، وهؤلاء يقولون: [إن] (¬4) القدرة مع الفعل، [وكذلك الإرادة، وسائر ما يتوقف عليه الفعل] (¬5) , وإن كان بعض ذلك قد يتقدم عليه ويبقى إلى ¬
الهداية المثبتة ليست هي الهداية المنفية
حين حصوله، لكن لا بد من وجوده معه؛ وهذا الفعل [الذي هو] (¬1) تكوين الرب، خارج عن جميع الأسباب المخلوقة. وأما قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، مع قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فقد اتفق المسلمون على أن تلك الهداية المنفية ليست هي الهداية المثبتة له، لا نزل في هذا بين أهل السنة والقدرية. وأما الهداية الثابتة (¬2) فهي الدعوة والبيان، وهذا (¬3) يشترك فيه من يحبه ومن لا يحبه، فإن عليه البلاغ المبين، وقد بلّغ - صلى الله عليه وسلم - البلاغ المبين، وقال في آخر عمره في حجة الوداع: "اللهم هل بلغت"؟ قالوا: نعم، قال: "اللهم اشهد" (¬4)، ونظير هذا قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17]، وقوله: {فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6]، وقال تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، والهداية (¬5) هي الدلالة والإرشاد، بكلامه وبعلمه وأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه، وأما حصول الهدى في القلب فهذا لا يقدر عليه [إلا الله]، (¬6) باتفاق المسلمين سنيّهم وقدريّهم (¬7). أما أهل السنة فيقولون: إن الاهتداء الذي في القلب لا يقدر عليه إلا الله، ¬
العلم الحاصل في القلب وعلاقته بالاستدلال والنظر
ولكن العبد يقدر علي أسبابه وهو المطلوب منه بقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]، وهو المنفي [عن] (¬1) الرسول بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، وقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]، وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]. وأما القدرية فيقولون: إن ذلك مقدور للعبد (¬2). ولهذا تنازعوا في العلم الحاصل في القلب عقب الاستدلال، فقالت القدرية: هو فعل العبد، وقالت المثبتة: هو مفعول الله كسب للعبد (¬3). وتنازعوا في النظر هل هو متضمن له مستلزم له أو مقترن اقترانًا عاديًا؟ على قولين مشهورين، والتحقيق أنه من جملة الأمور التي تسمى المتولدات كالشبع والري والرؤية في العين والسمع في الأذن، فهي حاصلة بفعل العبد المقدور له (¬4)، وبأسباب خارجة عن قدرته، ولهذا يثاب عليه لما له في حصوله من التسبب والاكتساب. ¬
بيان الفرق بين المثبت والمنفي في بعض النصوص
وكذلك قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فإن هذه الاستعانة (¬1) التي يختص بها الله- تبارك وتعالى- لم يثبتها لغيره أبدًا، كما أن العبادة له لم يثبتها لغيره أبدًا، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ليس ذلك التعاون هو هذه الإعانة المطلوبة من الله، فإن إعانة الله لعبده على عبادته تكون بأمور لا يقدر عليها غيره، مثل جعل العلم والهدى في القلب، وجعل الإرادة والطلب في القلب، وخلق القوى الباطنة والظاهرة (¬2)، موضع (¬3) بناء الأسباب المنفصلة التي [بها] (¬4) تحصل العبادة. ومعونة الإنسان لغيره إنما هي بفعله القائم في محل قدرته، وهي شيء لا يخرج [عنه، وما خرج] (¬5) عن محل قدرته فقد تقدم الكلام فيه، وغايته أن يكون له فيه شرك. والمقصود أن ما أمر الخلق به وجعله فعلًا هو الذي نفاه عن غيره، وبيّن أنه يختص به. وأما قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]، فقد تقدم الكلام عليها، وبينّا غلط من ظن أن الرمي المنفي عن الرسول هو [عين] (¬6) المثبت له، وبينّا أن المنفي هو وصول الرمي إلى الكفار وتأثيره فيهم، والمثبت الحذف الذي يقدر (¬7) عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "انصر أخاك [ظالمًا أو مظلومًا] (¬8) "، هو من جنس قوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وأما قوله تعالى: ¬
رد احتجاج البكري باللغة
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] فالمستعان به فعل يفعله العبد، والمعنى اصبروا وصلّوا فإن ذلك يعينكم على المطلوب. والأعمال الصالحة بينها تصادق وتلازم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا (¬1)، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا" (¬2)، أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، وهداية الصدق مثل إعانة الصبر والصلاة، وليس ذلك هو [ما] (¬3) أثبته الله لنفسه ونفاه عن غيره، -سبحانه وتعالى- أن يكون تأثيره مثل تأثير الأعراض. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -" [و] (¬4) الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، هو من جنس قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، فقد تبيّن أن جميع ما ذكره من النصوص ليس فيه أن ما نفاه عن غيره أثبته لغيره في موضع آخر، بل الذي أثبته لغيره غير الذي نفاه عن غيره. الوجه الثالث: قوله: (إن هذه الحقائق تثبت للمخلوقين حقيقة لغوية بإجماع العلماء) غايته أن قول العرب مات زيد وتحركت الشجرة وهبت الرياح ونحو ذلك، يسمى في لغتهم حقيقة، وهذا لا ينفعه لأن المضاف إلى المخلوق ليس هو الذي نفاه الرب عن غيره، فإنه يقال: أماته الله، والإماتة التي اختص الله بها لا تثبت لغيره، وإن قيل: إن فلانًا أماته، فالمراد أنه فعل فعلًا خلق الله الموت فيه مع أسباب أُخر هو من جملتها، وهو المضاف إلى ¬
نفي الجهم للأسباب والحكمة ومتابعة الأشاعرة له
العبد، وليس هو الذي نفاه الرب عن غيره، فما يضاف إلى السبب لم ينفه الله عن غيره، وما نفاه لا يضاف إلى السبب، وأيضًا فهب أن هذه حقيقة لغوية أي قاعدة في هذا، والكلام (¬1) هنا في الحقائق العقلية والأحكام الشرعية، لا في استعمال الألفاظ، وليس كل من أضيف إليه الفعل لغة يترتب على ذلك الأحكام الشرعية التي للفاعلين (¬2). الوجه الرابع: قوله: (اعتبارًا بالأسباب وإثباتًا لبساط الحكمة)، ماذا تعني به؟ فإن الناس يتنازعون في ذلك فمنهم يقول ليس في الوجود سبب له تأثير وحكمة يُفعل لأجلها، بل (¬3) محض مشيئة الرب قرنت بين الشيئين قرانًا عاديًا، فإن تقدم سمي سببًا، وإن تأخر سمي حكمة، من غير أن يكون للمتقدم تأثير في اقتضاء الفعل، ولا للفعل تأثير في اقتضاء الحكمة، وليس عند هؤلاء في القرآن لام تعليل في فعل الله، هذا قول الجهم (¬4) بن صفوان ¬
نزاع الناس في الأسباب والحكمة
وكثير من النظار المنتسبين إلى القدر كالأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد (¬1)، ولا يقولون: إن هذا الشخص ينسب إليهم، فعلى قولهم: لا سيب ولا حكمة (¬2). ومن الناس من أثبت حكمة منفصلة عن الرب يفعل لأجلها، وهو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية، ثم القدرية من هؤلاء يثبتون التأثير لأفعال الحيوان، ولا يثبتون تأثيرًا لغير ذلك (¬3). وأما الفقهاء وأهل الحديث والصوفية (وكثير من) (¬4) أهل الكلام كالكرَّامية وغيرهم فإنهم يثبتون السبب والحكمة، لكن كثير من هؤلاء يتناقض، فيتكلم في الفقه بلون، وفي أصول الفقه بلون، وفي أصول الدين بألوان، ففي الفقه يُثبت الأسباب والحِكَم، وفي أصول الفقه يسمي العلل الشرعية أمارات (¬5)، خلاف ما يقوله في الفقه، وفي أصول الدين ينفي الحكمة والتعليل بالكلية، لظنه أن قول القدرية لا يمكن إبطاله إلا بذلك، والقليل من هؤلاء هو الذي يحقق الحكمة ويُبّين رجوعها إلى الفاعل الحكيم؛ مع حصول موجبها في مخلوقاته (¬6). ¬
البكري لم يتصور صحيحا، ولا عبر فصيحا
وهذه المسائل من أشرف العلم، وقد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع (¬1). والمقصود هنا أن (¬2) ما ذكره هذا الشخص (¬3) من النصوص ليس، فيه إثبات الأسباب والحكم لأفعال الرب التي نفاها عن غيره، وبيان ذلك أن الأسباب عند من يقول بإثباتها هي من جملة الحوادث (¬4)؛ التي يكون الرب -عز وجل- فاعلًا لها، فالقول في إحداثه للسبب والحكمة كالقول في إحداثه ما بينهما، يمتنع أن يكون شيء من ذلك محدثًا لغيره، بل هو مُحدث جميع (¬5) المحدثات، وليس في ذلك ما يوجب كون الأسباب محدثة، وأيضًا فهذه الآيات التي ذكر ليس فيها إثبات حكم شيء من المحدثات كقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} (¬6) [الأنفال: 72] , بل ولا فيها إثبات نسبة الفعل إلى الرب، بل فيها إثبات بعض أفعال العباد؛ كهدايته وإعانته، وأفعال العباد لا تختص بكونها أسبابًا دون غيرها من الحوادث، فكلام هذا الرجل كلام من لم يتصور صحيحًا ولا عبر فصيحًا. ¬
الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ليست من الأسباب والحكمة
الوجه الخامس: أن يقال: نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببًا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر نبيًا كان أو غير نبي كان ذلك سببًا في حصول الرزق والنصر والهدى وغير ذي مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرّع ذلك وأمر به؟ ومن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان [إلى يوم الدين] (¬1)؟. فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين أحدهما: أن هذه أسباب (¬2) لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله. والثانية: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سببًا كونيًا يجوز تعاطيه، فإن قتل المسافر قد يكون سببًا لأخذ ماله؛ وكلاهما محرم، والدخول في دين النصارى قد يكون سببًا لمال يعطونه؛ وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سببًا لما يؤخذ من المشهود له؛ وهو حرام، وكثير من الفواحش والظلم قد يكون سببًا لنيل مطالب؛ وهو محرم، والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب؛ وهو محرم، وكذلك الشرك مثل دعوة الكواكب والشياطين، وعبادة البشر قد يكون سببًا لبعض المطالب وهو محرم، فإن الله -تعالى- حرم من الأسباب ما كانت مفسدته راجحة على مصلحته، وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحيانًا، وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقًا وأمرًا، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتًا أو غائبًا, أو (¬3) يستغيثوا به، سواء كان ذلك عند قبره أو لم يكن عند قبره (¬4)، وهم لا يقدرون على ذلك. بل نقول في الوجه السادس: سؤال الميت والغائب نبيًا كان أو غيره من المحرمات المنكرة؛ باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحسنه أحد من أئمة ¬
كراهة العلماء لدعاء الرجل لنفسه عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين (¬1)، فإن أحدًا منهم ما كان يقول -إذا نزلت به تِرة (¬2) أو عرضت له حاجة- لميت يا: سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي!!، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته؛ ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها!! [وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال، ويشتد البأس بهم ويظنون الظنون، ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين] (¬3)، بل ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلًا، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها. وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف (¬4). ¬
أمثلة من الأقوال الباطلة في الاستغاثة بغير الله تعالى
وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف (¬1) الترياق المجرب، وقال بعضهم: فلان يدعى عند قبره، وقول بعض الشيوخ [لمريده] (¬2): إذا كانت لك حاجة إلى الله (¬3)، فاستغث بي أو قال: استغث عند قبري ونحو ذلك، فإن هذا وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم، وكثير من هؤلاء إذا ¬
إحداث المشاهد والسفر إليها بعد القرون الثلاثة
استغاث بالشيخ رأى صورته؛ وربما قضى بعض حاجته فيظن أنه الشيخ نفسه، أو أنه ملك تصور على صورته؛ أو أن (¬1) هذا من كراماته، [فيزداد به شركًا ومغالاة] (¬2)، ولا يعلم أن هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعُبّاد الأوثان، حيث تتراءى أحيانًا لمن تعبدها، وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وتقضي لهم بعض الطلبات، ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة. وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن بُني من ذلك [شيء] (¬3) في القرون الثلاثة المفضلة (¬4). بل ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذّر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يُتخذ مسجدًا (¬5)، وثبت في الصحيح عنه أنه قال -قبل إن ¬
توسل الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان بدعائه، وهذا تعذر بعد موته - صلى الله عليه وسلم -
يموت بخمس-: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" (¬1)، وقد تقدم في الجواب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما أجدبوا استسقى بالعباس وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون" (¬2)، فلم يذهبوا إلي القبور ولا توسَّلوا بميت ولا غائب، بل توسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - , وكان توسلهم بدعائه كالإمام مع المأموم, وهذا تعذر بموته. فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء والصالحين: اللهم إني أسألك بفلان أو بجاه فلان أو بحرمة فلان، فهذا لم يُنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز، ونُقل عن بعضهم جوازه (¬3)، فكيف يقول القائل للميت: أنا أستغيث بك، وأستجير ¬
إيذاء الميت بسؤاله
بك، أو أنا (¬1) في حسبك، أو سل لي الله، ونحو ذلك، فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة؛ ولو (¬2) قُدّر أن (¬3) له تأثيرًا، فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح بل مفسدته راجحة على مصلحته كأمثاله من دعاء غير الله. وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو (¬4) ميت تتمثل له الشياطين، وربما كانت على صورة ذلك الغائب، وربما كلمته، وربما قضت له أحيانًا بعض حوائجه، كما تفعل شياطين الأصنام، وهذا مما قد جري لغير واحد فينبغي أن يُعرف. ومن هؤلاء من يؤذي الميت بسؤاله إياه؛ أعظم مما يؤذيه لو كان حيًّا، وربما قضيت حاجته مع ذم يلحقه، كما كان الرجل يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا (¬5) فيعطيه ويقول: "إن أحدكم (¬6) يسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها نارًا", ومن هذا، الحكاية المذكورة في الذي جاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه سكباجًا (¬7)؛ فأتاه بعض أهل المدينة فأطعمه سكباجًا وأمره بالخروج من المدينة، وقال: إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يطعمه وأن يخرجه، وقال: من ¬
يقيم بالمدينة لا يتمنى ذلك (¬1) أو كما قال ولا ريب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ومن هو دونه حيّ يسمع كلام الناس، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد -عليه السلام- " (¬2)، و ["ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه" (¬3)، ¬
مفاسد سؤال الميت
رواه ابن عبد البر وصححه] (¬1). لكن في مسألتهم أنواع من المفاسد منها إيذاؤهم له بالسؤال، ومنها إفضاء ذلك إلى الشرك، وهذه المفسدة توجد مع الموت دون الحياة، فإن أحدًا من الأنبياء والصالحين لم يُعبد في حياته، إذ هو ينهى عن ذلك، وأما بعد الموت فهو لا ينهى، فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثنًا يعبد، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتخذوا قبري عيدًا" (¬2)، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا ¬
يعبد" (¬1)، وقال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} [نوح: 23]: إن هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم (¬2)، ولهذا المعنى لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وأما النبي والصالح إذا (¬3) بنى له مسجدًا في ¬
فصل [3]
حياته يصلي فيه معه فهذا من أفضل الأعمال، فحكم الحياة يفارق حكم الممات، وذلك كما جاءت السنة بذلك. فصل قال: (ثم اعلم أنه من نفى الحقائق نفيًا عامًا يفهم به الإشارة للتوحيد وإفراد الباري بالقدرة عددناه من المنزهين، ولم نجعل ذلك إبطالًا للحكمة إذ الألفاظ يعتبر حكمها بما تفهم العقول منها بمقتضى الأوضاع والقرائن، ومن خص الرسول أو (¬1) الملائكة بنفي خاص، يُفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب فقد نقصهم بعبارته؛ وإن نوى معاني التوحيد، ولم يجعل الله لأحد تنقيص الرسول، وأجمع الخلف والسلف على وجوب تعظيمهم في الاعتقاد والأقوال والأفعال). والجواب من وجوه: أحدها: أن الجواب المذكور ليس فيه تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر بل قد صرح فيه بالعموم، وقيل فيه: من قال: لا يدعى إلا الله، وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله فلا تطلب إلا منه، مثل غفران الذنوب، وهداية القلوب وإنزال المطر، وإنبات النبات ونحو ذلك، فهذا مصيب، ولذلك حيث ذكر هذا فلم يُذكر (¬2) إلا على وجه التعميم، فدعوى المدعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والملائكة خصوا بالذكر كذب لا يحتاج إلى جواب. الوجه الثاني: أن يقال التحقيق في هذا الباب؛ أنه إذا كان المنفي (¬3) لا يصلح لمخلوف؛ فذكرت الأنبياء والملائكة على سبيل تحقيق النفي العام، كان هذا من أحسن الكلام، وكان هذا من باب التنبيه، كما يقال لا تجوز العبادة إلا لله -تعالى- لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، فينبه بنفيها عن الأعلى على انتفائها عمن هو دونهم بطريق الأولى، وكذلك إذا كان المخصوص بالذكر ممن قد حصل فيه غلو، كما يقال ليس في الصحابة معصوم، لا عليّ ولا غيره، وليس في النبيين إله لا المسيح ولا غيره، فهذا أحسن. ¬
ذكر الملائكة والأنبياء لتحقيق العموم وأمثلة ذلك في الكتاب والسنة
فالمخصص إذا كان فيه فائدة مطلوبة كان حسنًا، ومنه قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} [النجم: 19 - 26]، فنفى سبحانه أن تغني شفاعة الملائكة الذين في السماء إلا من بعد إذنه، تنبيهًا بذلك على [أن] (¬1) من دونهم أولى أن لا تغني شفاعتهم، فإن المشركين كانوا يقولون عن الأصنام إنها تشفع لهم، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} [يونس: 18] , ولا يجوز أن يكون الكلام تنقيصًا بالملائكة، ولذلك قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)} [النساء: 171، 172]، فإنه لما كان الكلام في إثبات توحيد الله -تعالى- والنهي عن الغلو في الدين الذي فيه تشبيه المخلوق بالخالق، قال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}، بعد أن قال: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} وقال في الآية الأخري: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، فنسبه إلى أمه وهذا قد جرى في القرآن في غير موضع، فنسبه إلى أمه لينفي نسبته إلى غيرها، فلا ينسب إلى الله أنه ابنه؛ ولا إلى أب من البشر؛ لا كما زعمت ¬
من غلا في طائفة ذكر له من هو أعلى منها وأمثلة ذلك
النصارى الغالية فيه، ولا كما زعمت اليهود الكافرة به (¬1). وأبلغ من هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17]، فذكر أهل الأرض جميعًا؛ وخص المسيح وأمه بالذكر؛ من أنه إن أراد إهلاكهم لن يملك أحد لهم منه شيئًا، لأن المسيح وأمه اتُخِذَا إلهين كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، فكان التخصيص بالذكر لنفي هذا الشرك والغلو الذي وقع في المسيح وأمه، ولم يكن ذلك من باب التنقيص بالمسيح وأمه، بل كان التخصيص لأجل أن الكلام وقع في ذلك المعين. فالتخصيص للحاجة إلى ذكر المخصوص والعلم به؛ أو لأجل التنبيه به على ما سواه، ولهذا لا يكون التخصيص في هذا (¬2) مفهومه مخالفة، بنفي نقيض الحكم عن ما سواه، وهو الذي يسمى دليل الخطاب للتخصيص (¬3)، لم يكن للاختصاص بالحكم، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ ¬
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 79، 80] فتخصيص الملائكة والنبيين بالذكر تنبيه على [من] (¬1) دونهم، فإنه (¬2) لا يأمر باتخاذ الصالحين أربابًا بطريق الأولى. ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل" (¬3)، فكان تخصيصه بالذكر لتحقيق العموم، وأن هذا النفي يتناول أفضل الخلق، فلا يظن أحدٌ غيره أنه يدخل الجنة بعمله. وكذلك قوله في الحديث الصحيح: "ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّلَ به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن"، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم" (¬4). ومنه قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)} [الأنبياء: 26 - 29]، فذكر هذا الوعيد في الملائكة، وخصهم بالذكر، تنبيهًا على أن دعوى الإلهية لا تجوز لأحدٍ من المخلوقين لا ملك ولا غيره، وإنه لو قدر وقوع ذلك من ملك من الملائكة لكان جزاؤه جهنم، فكيف من دونهم! وهذا (¬5) ¬
تخصيص إفراد الله بالآلهية، ومنه قوله تعالى في الأنبياء: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} [الأنعام: 87، 88]، والأنبياء معصومون من الشرك والكفر (¬1)، ولكن المقصود بيان أن الشرك لو صدر من أفضل الخلق لأحبط عمله، فكيف بغيره؟. وكذلك قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} [الزمر: 65] مع أن الشرك منه ممتنع، لكن بيّن بذلك أنه إذا قدر وجوده كان مستلزمًا لحبوط عمل المشرك وخسرانه كائنًا من كان، وخوطب بذلك أفضل الخلق لبيان عظم هذا الذنب، لا لنقص (¬2) قدر المخاطب كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة: 44 - 47]، ليبيّن سبحانه أنه ينتقم ممن يكذب في الرسالة كائنًا من كان، وأنه لو قدر أنه غيّر الرسالة لانتقم منه، والمقصود نفي هذا التقدير (¬3) لانتفاء لازمه. وكذلك قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] (ثم قال:) (¬4) {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24]، وفي الحديث المعروف: "إن الله لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم" (¬5)، فهذا من بيان عدل الرب وإحسانه وتقصير الخلق عن واجب ¬
حقه؛ حتى الملائكة والأنبياء وغيرهم، وأنه لو عذبهم لم يكن ظالمًا لهم، فكيف بمن دونهم؟ وهذا باب واسع. فمن غلا في طائفة من الناس؛ فإنه يُذكر له من هو أعلى منه ويبيّن أنه لا يجوز هذا الغلو فيه، فكيف يجوز الغلو في الأدنى؟ كما قال بعض الشيعة لبعض شيوخ أهل (¬1) السنة: تقول (¬2) إن مولانا أمير المؤمنين عليًا كان معصومًا، فقال: أبو بكر وعمر عندنا أفضل منه وما كانا معصومين. وكما يقال لمن يعظّم شيخه أو أميره بأنه يطاع في كل شيء، وأنه لا تنبغي مخالفته، [فيقال] (¬3) له: أبو بكر أفضل منه، وقد قال: "أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوِّموني" (¬4)، وكما ظن الغالي أن الصالحين لا يؤذيهم عدوهم، [ولا يجرحون] (¬5) لاعتقاده أن ذلك نقص فيهم، وأنهم (¬6) قادرون علي دفع كل أذى، فيقال: أفضل الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أوذي وقد جرح يوم أحد (¬7)، وذلك كرامة من الله -تعالى- ليعظم أجره ويزيده (¬8) رفعة بالصبر على الأذى في الله. ¬
[وكذلك] (¬1) لو حلف حالف بشيخه، فقيل له: لا تحلف بغير الله؛ فمن حلف بغير الله فقد أشرك (¬2)، وكذلك إذا اعتقد معتقد بشيخه أنه يشفع لمريديه (¬3)، وأن له راية في الآخرة يُدْخِلُ تحتها مريديه (¬4) الجنة، فيقال له: المرسلون أفضل منه، وسيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء يشفع يسجد بين يدي الله -عز وجل-، ويحمد ربه بمحامد، فيقال له: "ارفع رأسك وقل يسمع (¬5) وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي، فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة" (¬6). فهو - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع إلا بعد يؤذن له، بل يبدأ (¬7) بالسجود لله والثناء عليه، ثم إذا أذن له في الشفاعة وشفع، حد له، حدًا يدخلهم الجنة، فليست الشفاعة مطلقة (¬8) في حقه، ولا يشفع إلا بإذن الله، فكيف يكون الشيخ إن كانت له شفاعة؟. وكذلك إذا قيل عن بعض الشيوخ: إن قبره ترياق مجرب (¬9)، قيل له: إذا كانت قبور الأنبياء عليهم السلام ليست ترياقًا مجربًا فكيف تكون قبور الشيوخ؟. وكذلك إذا قيل: إن الشيخ الميت يستسقى عند قبره، ويقسم به على الله، ويعرّف عنده عشية عرفة (¬10) ونحو ذلك، قيل له: إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
سيد الخلق لم تستسقِ الصحابة -رضوان الله عليهم- عند قبره، ولا أقسموا به على الله، ولا عرّفوا عند قبره، فكيف غيره؟. وكذلك إذا قيل: إنه يسجد لقبر الشيخ أو يُستلم ويُقبّل، قيل: إذا كان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسجد له ولا يستلم ولا يقبّل باتفاق الأئمة (¬1)، فكيف بقبر غيره؟. وكذلك إذا قيل: الموضع الذي كان الشيخ يصلي فيه لا يصلي فيه غيره احترامًا له، قيل له (¬2): إذا كان الصحابة صلوا في الموضع الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيه، فكيف لا يصلي في موضع مصلى غيره؟ وهو أحق بالاحترام من كل أحد. وكذلك إذا قيل: إن الشيخ الميت يدعى ويسأل ويستغاث به، قيل له (¬3): إذا كان الأنبياء بعد موتهم لا يدعون ولا يسألون ولا يستغاث بهم، فكيف [بمن دونهم] (¬4)؟. وإذا قيل: يُطلب من الشيخ كل شيء، فقيل: ما لا يقدر عليه إلا الله؛ لا يطلب من الأنبياء، فكيف يطلب ممن دونهم؟. وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول (¬5): لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك (¬6)، لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة، فيقول: يا رسول الله: أغثني، فأقول: لا ¬
أملك لك شيئًا قد أبلغتك (¬1) " (¬2)، أخرجاه. فقد أخبر أنه يستغيث به أهل الغلول يوم القيامة فلا يغيثهم، بل يقول: [قد أبلغتكم] (¬3) لا أملك لكم من الله شيئًا. كما قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا (¬4) " (¬5). وهذا النوع من الكلام يقال على وجه [العموم] (¬6)، (تارة يقال: السجود لا يصلح إلا لله لا لنبي ولا لغيره) (¬7)، وتارة يقال: السجود لا يصلح للأنبياء، فكيف بمن دونهم، وتارة يقول السائل: هل أسجد للشيخ؟ فيقال له: الرسول لا يسجد له، فكيف يسجد للشيخ؟ فتارة يذكر الاسم العام ويخص الأفضل بالذكر تحقيقًا للعموم؛ وأنه لا يستثنى من هذا العموم أحدٌ؛ وإن كان أفضل. كما يقال: مات الناس حتى الأنبياء، وتارة يذكر الأفضل ويعطف عليه غيره تحقيقًا للعموم، وتارة يختص الأفضل بالذكر تنبيهًا على من سواه، فهذا النمط من الكلام حيث ذكر الأفضل فيه فإنه لا يراد اختصاصه بالحكم، بل يراد به العموم؛ وتحقيق العموم، وأن هذا الحكم ثابت في حق الأفضل، فكيف من (¬8) دونه؟. ¬
الاستغاثة المنفية نوعان: بالميت، وفيما لا يقدر عليه إلا الله
وحينئذٍ فإذا قدر أن سائلًا سأل هل يستغاث بميت من الأنبياء والصالحين؟ فقيل له: لا [تستغث] (¬1) بأحد منهم لا نبي ولا غيره، أو قيل: لا يستغاث بالنبي فكيف بمن دونه!! أو قيل: أفضل الخلق لا يستغاث به، أو نحو ذلك من العبارات التي يفهم منها عموم النفي، وأنه ذُكر الأفضل تحقيقًا للعموم، كان هذا من أحسن الكلام كما تقدم. كما إذا قيل: لا يُسجد لقبره ولا يتمسح به ولا يقبل، ولا يتخذ وثنًا يعبد ونحو ذلك. وكذلك لو كان الخطاب ابتداءً في سياق التوحيد ونفي خصائص الرب عن العبد، فقيل: ما لا يقدر عليه إلا الله لا يطلب إلا منه لا من نبي ولا غيره، أو قيل: لا يستغاث فيه بالنبي، فكيف من دونه أو نحو هذا الكلام كان حسنًا. فالاستغاثة المنفية نوعان: أحدهما: الاستغاثة بالميت مطلقًا في كل شيء. والثاني (¬2): الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق. فليس لأحد أن يسأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله لا نبيًا ولا غيره، ولا يستغيث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق، وليس لأحد أن يسأل ميتًا؛ أو يستغيت به في شيء من الأشياء؛ سواء كان نبيًا أو غيره، وإذا كان كذلك فجميع ما وقع هو من هذا الباب، ولم يفهم أحد من الخلق شيئًا إلا هذا. الوجه الثالث: قوله: (من نفى الحقائق نفيًا عامًا يفهم به الإشارة للتوحيد، وإفراد الباري بالقدرة، عددناه من المنزهين؛ ولم (¬3) يجعل ذلك إبطالًا للحكمة، ومن خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص، يفهم من طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب، فقد نقصهم بعبارته وإن نوى معاني التوحيد). يقال له: أولًا قولك: عددناه من المنزهين، عبارة في غير موضعها، بل حقه أن يقال: من الموحدين، فإن التنزيه نفي النقائص عن الله -عز وجل- , وأما (¬4) الإشارة إلي التوحيد وإفراده بالقدرة فيسمى توحيدًا. ¬
نفي الربوبية عن المخلوق ليس فيه تنقص له
ويقال له: قولك: (خصهم بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب) كلام مجمل؛ فماذا تريد به؟ أتريد به عدم صلاحيتهم للأسباب التي أثبتها الله -تعالى- لهم، مثل عدم صلاحية الملائكة للنزول بالوحي والعذاب وتدبير (¬1) العالم، وعدم صلاحية الرسول لتبليغ رسالة (¬2) الله ونحو ذلك، مما أثبته الله لهم، أو عدم صلاحيتهم لما اختص الرب -تبارك وتعالى-[به] (¬3) مثل أن يطلب منهم الأمور التي لا يقدر عليها غيره، وعدم صلاحيتهم لكونهم يُسألون ويدعون بعد موتهم، أو يطلب منهم كما يطلب من الله. فإن عنيت الأول فقائله أعظم جرمًا من أن يقال: نقصهم بعبارته، إذ قد يكون كافرًا، مثل أن يتضمن نفيه جحد رسالة الرسول، أو جحد نزول الملائكة عليه بالوحي، أو جحد ما يدخل في الإيمان من الإيمان بالملائكة، ولكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب. وإن أردت الثاني فليس في نفي خصائص الربوبية عن المخلوق نقص له يجب تنزيهه عنه، فضلًا [عن] (¬4) أن يجب نفيه عنه، فمن قال: لا إله إلا الله لم يكن قد نقص الملائكة والأنبياء بنفي الآلهية عنهم، (ومن قال: إن الملائكة والأنبياء) (¬5) ليسوا أربابًا ولا آلهة ولا يعبدون ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، كان (¬6) قد نفى عنهم ما يختص به الرب -تبارك وتعالى- ولم ينف عنهم (ما هم أسباب فيه) (¬7)، وإنما يكون نافيًا للأسباب إذا قال: لا شفاعة لهم ولا يشفعون لأحد ولا يدعون لأحد، أو دعاؤهم لا ينفع أحدًا، فهذا (¬8) باطل بل كفر، أو قال إنه لا يتوسل إلى الله بالإيمان بهم ومحبتهم ¬
تجويز البكري الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين في كل ما يستغاث بالله فيه
وطاعتهم، أو لا يتوسل إليه بدعائهم وشفاعتهم فهذا باطل بل كفر. وهذا المفتري لما قال إنه يجوز أن يستغاث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل، ما يستغاث بالله فيه؛ وأن ذلك صحيح في حق النبي والصالحين، وقال: (إن كل من توسل إلى الله بنبيه في تفريج كربة؛ فقد استغاث به سواء كان حيًا أو ميتًا، وإن من سأله وطلب منه فقد استغات به، فاقتضى ذلك أنه يطلب منه حيًا وميتًا كل شيء، كما (¬1) يطلب من الله (¬2)، (ويطلب بالتوسل به حيًا وميتًا كل (¬3) ما يطلب من الله، وأن ذلك ثابت للصالحين أيضاً)، اقتضى كلامه أنه يطلب من المخلوق حيًا وميتًا كل ما يطلب من الخالق -سبحانه وتعالى-) (¬4). ومعلوم (¬5) أن هذا الذي قاله لو كان حقًا لم يجز نفي الاستغاثة به بوجه من الوجوه، كما لا يجوز نفي شفاعته التي أثبتها الله، ونفي استشفاع الناس به يوم القيامة كما نطقت به (¬6) النصوص، ونفي توسل الصحابة بشفاعته ودعائه في الدنيا. فمن قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع لأحد ولا يستشفع به، وإنه لم تكن الصحابة يستشفعون به فهو مفتر كذاب؛ بل هو كافر بعد قيام الحجة عليه. وأما من قال: إنه لا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، أو قال إنه لا يسأل بعد موته كما كان يسأل في حياته فهذا قد أصاب؛ فأين هذا من هذا!!. وأما من قال: إنه لا يقسم على الله بمخلوق ولا يتوسل بميت ولا يُسأل بذات مخلوق، فإن الصحابة إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، ولما مات لم (¬7) يتوسلوا بدعائه ولشفاعته ولم يتوسلوا بذاته، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه توسل إلى الله بميت [في دعائه] (¬8)، ولا أقسم به عليه. ¬
تحريم العلماء السؤال بحق الأنبياء
وهكذا قد قال أبو حنيفة وأبو يوسف (¬1) وغيرهما: إنه لا يجوز أن يقال: أسألك بحق الأنبياء، وكذلك قال أبو محمد ابن عبد السلام (¬2): إنه لا يقسم عليه بحق الأنبياء وتوقف في نبينا - صلى الله عليه وسلم - لظنه أن ذلك خبر (¬3) يخصه، وليس كذلك. فهذا وإن كان مصيبًا ففيه نزاع؛ فقد نقل عن بعض العلماء أنه لا يجوز أن يتوسل إلى الله به بعد موته، ونُقل ذلك (¬4) في منسك الحج الذي نقله المروذي (¬5) عن الإمام أحمد. وقد تنازع العلماء في القسم به، هل ينعقد به على قولين أشهرهما: أنه لا ينعقد اليمين به، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة [وأحد] (¬6) القولين في مذهب أحمد، والثاني تنعقد به اليمين وهو الرواية الأخرى عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه، وعلى هذه الرواية فهل الحلف يختص به؛ أو يُحلف بسائر الأنبياء؟ على وجهين أشهرهما الأول، والثاني ذكره ابن عقيل وغيره. ¬
مذهب الجمهور أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق
فقد يقال: إن التوسل به والإقسام على الله به [هو] (¬1) من جنس الحلف به، فيكون النزاع في هذا كالنزاع في هذا (¬2). والصواب ما عليه الجمهور من أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق لا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره (¬3). ولكن لم يسم (¬4) أحد من الأمم هذا استغاثة، فإن الاستغاثة به (¬5) طلب منه لا طلب به، وهذا اعتقد جواز هذا بالإجماع وسماه استغاثة، فلزم جواز الاستغاثة به بعد موته بالإجماع (¬6)، فإذا (¬7) جاز أن يتوسل به في كل شيء جاز أن يستغاث به في كل شيء، ثم إنه لم يجعل هذا وحده معنى الاستغاثة؛ بل جعل الاستغاثة الطلب منه أيضاً، وكان لا يميز (¬8) بين هذا المعنى وهذا المعنى، بل يجوز عنده أن يستغيث به في كل ما يستغاث الله فيه؛ على معنى أنه وسيلة من وسائل الله في طلب الغوث، وهذا عنده ثابت للصالحين. ¬
سبب خطأ البكري في الاستغاثة
والاستغاثة طلب الغوث [كالاستعانة] (¬1) والانتصار، وذلك ثابت في حياته، وهو ثابت عند هذا الضال بعد موته (¬2) بثبوتها في حياته، لأنه عند الله في مزيد دائم لا ينقص جاهه، فدخل عليه الخطأ من وجوه (¬3): منها: أنه جعل المتَوسِّل به بعد موته في الدعاء مستغيثًا به، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازًا؛ مع دعواه الإجماع على ذلك، وأن المستغاث به هو المسؤول المطلوب منه لا المسؤول به. والثاني: ظنه أن توسل الصحابة به في حياته كان توسلًا بذاته لا بدعائه وشفاعته؛ فيكون التوسل به بعد موته كذلك، وهذا غلط يوافقه عليه طائفة من الناس؛ بخلاف الأول فإني ما علمت أحدًا وافقه عليه. الثالث: أنه أدرج سؤاله أيضاً في الاستغاثة وهذا صحيح جائز في حياته، وهو قد سوى في ذلك بين محياه ومماته، وهنا أصاب في لفظ الاستغاثة؛ لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته ينقل عن أحد (¬4) من العلماء؛ لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري (¬5)، ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن ¬
بعض حكايات غلاة الصوفية في الاستغاثة بشيوخهم
النعمان (¬1) كان له كتاب: "المستغيثين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة والمنام"، وهذا الرجل قد نقل [منه] (¬2) فيما يغلب على ظني، وهؤلاء لهم صلاح ودين؛ لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام؛ الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام ومعرفة الحلال والحرام، وليس معهم دليل شرعي؛ ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه. وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد؛ إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر (¬3) خطوات معدودة واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس وأكبر منه، [ومنهم] (¬4) من يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه، [ويدعو به] (¬5) ويدعون (¬6) عنده، وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أو سنة أو قول عن الصحابة والأئمة، وهؤلاء ليس عندهم إلا قول طائفة من الشيوخ: إذا كانت لكم حاجة فاستغيثوا [بي] (¬7)، وتعالوا إلي قبري ونحو ذلك؛ مما فيه تصويبه لأصحابه بالاستغاثة به حيًا وميتًا، ومعهم قول طائفة ¬
أخرى: قبر معروف أو غيره ترياق مجرب، والدعاء عند قبر الشيخ (¬1) مجاب ونحو ذلك، ومعهم أن طائفة من الناس استغاثوا بحي أو ميت فرأوه قد أتى في الهواء وقضى بعض تلك الحوائج وأخبر ببعض ما سئل عنه. وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة والأنبياء أو (¬2) الصالحين أو (¬3) الكواكب والأوثان، فإن الشياطين كثيرًا ما تتمثل لهم فيرونها قد تخاطب أحدهم ولا يراها. ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال (¬4) المقام، وكلما كان القوم أعظم جهلًا وضلالًا كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر، وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو طعام أو لباس أو غير ذلك، وهو لا يرى أحدًا أتاه به، فيحسب ذلك كرامة؛ وإنما هي من الشيطان، وسببه شركه بالله وخروجه عن طاعة الله ورسوله إلى طاعة [الشياطين] (¬5)، فأضلتهم الشياطين (¬6) بذلك كما كانت تضل عُباد الأصنام، ومثل هذه الأحوال لا تكون من كرامات أولياء الله المتقين. ثم انقسموا حزبين: حزبًا رأوا فيمن (¬7) يفعلها من الكفر والفسوق والعصيان ما يخرجه عن كونه من أولياء الله المتقين، (وكذبوا بما ينقل عنه من ذلك، وحزبًا رأوا ذلك منه أو يثبت بالنقل المتواتر عن واحد أو عدد من ذلك ما يوجب حصول مثل ذلك لهؤلاء، فيظنون أنهم من أولياء الله المتقين) (¬8). ثم من هؤلاء من يقول: من أولياء الله من له طريق إلى الله غير مبايعة الرسل، ومن هؤلاء من يفضل كثيرًا من الأولياء على الأنبياء، ومنهم من يقول: هؤلاء يتصرفون بالقدر (¬9) والمشيئة تصرفًا خرجوا به عن حكم وجوب ¬
حكايات كفرية يزعمون أنها من حقائق العارفين وأسرار أولياء الله
طاعة الأنبياء عليهم، وصاروا غير مكلفين بأمر الأنبياء ونهيهم. ويذكرون حكايات يظنونها صدقًا، منها أن أهل الصفة قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار لما [انهزم] (¬1) بعض أصحابه يوم أحد وحنين، فقال لهم: يا أصحابي أين تذهبون وتدعوني؟ فقالوا: نحن مع الله، من كان الله معه كنا معه. ومرادهم أن كل من معه القدر كانوا معه؛ وإن كان كافرًا أو فاسقًا؛ من غير نظر في العاقبة ولا في وعد الله ووعيده. ويذكرون ما هو أعظم كفرًا من هذه الحكاية، وهو أن الله -تعالى- أطلع رسوله على سر (¬2) ليلة المعراج وأمره أن لا يخبر به أحدًا، وأنه رأى أهل الصفة يتكلمون به، فقال لهم: من أين لكم هذا؟ فقالوا: أخبرنا الله به، فقال: يا رب ألم تأمرني أن أكتم هذا السر؟ فقال: أنا أمرتك أن تكتمه، وأنا أخبرهم به. وقد ذكر لي هذه الأمور غير واحد من كبار شيوخ هؤلاء عن غير واحد من شيوخهم (¬3)؛ فبيّنت لهم كذب هذا، حتى قلت لبعضهم: الصفة إنما كانت بالمدينة، والمعراج كان بمكة فلم يكن ليلة المعراج أحد يُذكر أنه من أهل الصفة (¬4). وأعظم من هذا كفرًا ما يذكره بعضهم أن الله أمر نبيه بزيارة أهل الصفة، وأنه ذهب ليزورهم فلم يفتحوا له الباب، وقالو له: اذهب إلى من أرسلت إليه فإنه لاحاجة لنا بك، وأنه عاد إلى ربه فأمره أن يذهب إليهم ويتأدب معهم؛ ويقول: خادمكم محمد جاء ليزوركم (¬5)، ونحو هذه الكفريات التي لا يقولها إلا من هو أبعد الناس عن الإيمان بالله ورسوله. ¬
إجماع علماء مصر على موافقة ابن تيمية في رسالة الاستغاثة
ومع هذا فهي أصحابها من حقائق العارفين وأسرار أولياء الله المصطفين خواص الرب، الذين هم أفضل من الأنبياء والمرسلين عند أصحابهم هؤلاء الكفار، الذين هم أكفر من اليهود والنصارى. فهذه حكايات في آثار حصلت لبعض من استغاث ببعض المخلوقين الميتين والغائبين، وعندهم عادات وجدوا عليها سلفهم [ممن] (¬1) كان له نوع من العلم والعبادة والزهد، فليس معهم بذلك حديث يروى، ولا نقل عن [صحابي] (¬2) ولا تابعي ولا قول إمام مرضي. ولهذا لما نُبه من نُبه من فضلائهم على ذلك تنبهوا وعلموا أنّ ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام؛ بل هو مشابهة لعباد الأصنام. لكن هؤلاء كلهم ما فيهم من يَعُدُّ نفي هذا والنهي عنه كفر؛ إلا مثل هذا الأحمق الضال، الذي حاق به وبيل النكال فإنه من غلاة أهل البدع الذين يبتدعون القول ويكفرون من خالفهم فيه، كالخوارج والروافض والجهمية، فإن هذا القول الذي قالوه لم يوافقهم عليه أحد من علماء المسلمين الأولين والآخرين. وقد طاف بجوابه علي علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه، وقد كان بعض الناس يوافقه على جواز التوسل بالنبي الميت؛ لكنهم لم يوافقوه على تسميته استغاثة، ولا على كفر من أنكر الاستغاثة به (¬3)، ولا جعلوا هذا السبب، بل عامتهم وافقوا على منع الاستغاثة به؛ بمعنى أن يطلب منه ما لا يقدر عليه. ¬
مناظرة المؤلف للمبتدعة وانتصار الحق
وما علمت عالمًا نازع في أن الاستغاثة بالنبي وغيره من المخلوقين بهذا المعنى لا تجوز، مع أن قومًا كان لهم غرض (¬1) وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قيامًا عظيمًا، واستعانوا بمن كان له غرض من ذوي السلطان، وجمعوا الناس؛ وعقدوا مجلسًا عظيمًا ضل فيه سعيهم، وظهر فيه جهلهم، وخاب فيهم قصدهم، وظهر فيه الحق لمن كان يعاونهم من الأعيان؛ وتمنوا أن ما فعلوه ما كان، لأنه كان سببًا لظهور الحق مع الذي عادوه وقاموا عليه وسببًا لانقلاب [الخلق] (¬2) إليه، وكانوا كالحافر (¬3) حتفه بظلفه، والجادع مارن (¬4) أنفه بكفه، مع فرط [عصبيتهم] (¬5) وكثرة جمعهم وقوة سلطانهم ومكايدة شيطانهم. وهذه الطريقة التي سلكها هذا وأمثاله هي لطريقة أهل البدع؛ الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة ويكفّرُون من خالفهم في بدعتهم، كالخوارج المارقين الذين ابتدعوا ترك العمل بالسنة المخالفة في زعمهم للقرآن، وابتدعوا التكفير بالذنوب، وكفّروا من خالفهم حتى كفّروا عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومن والاهما من المهاجرين والأنصار وسائر المؤمنين. نقل الأشعري في كتاب المقالات أن الخوارج مجمعة على تكفير علي -رضي الله عنه- (¬6). وكذلك الرافضة ابتدعوا تفضيل علي على الثلاثة وتقديمه في الإمامة والنص عليه، ودعوى (¬7) العصمة له، وكفّروا من خالفهم، وهم جمهور ¬
الصحابة وجمهور المؤمنين حتى كفّروا أبا بكر وعمر وعثمان ومن تولاهم (¬1)، هذا الذي عليه أئمتهم (¬2). وكذلك الجهمية ابتدعت نفي الصفات المتضمن في الحقيقة لنفي الخالق ونفي صفاته وأفعاله وأسمائه؛ وأظهرت القول بأنه لا يرى؛ وأن كلامه مخلوق خلقه في غيره لم يتكلم هو بنفسه وغير ذلك، ثم إنهم امتحنوا الناس فدعوهم إلى هذا وجعلوا يكفّرون من لم يوافقهم على ذلك. وكذلك القدرية ابتدعت التكذيب بالقدر؛ وأنكرت مشيئة الله النافذة وقدرته التامة وخلقه لكل شيء، وكفّروا أو [منهم] (¬3) من كفّر من خالفه. وكذلك الحلولية والمعطلة [للذات] (¬4) والصفات يُكفر [كثير] (¬5) منهم من خالفهم، فالذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان منهم من يكفّر من خالفه، والذين يقولون: إنه لا مباين للمخلوقات ولا حال (¬6) فيها فمنهم من يكفّر من خالفه (¬7). والذين يقولون ليس كلامه إلا معنًى واحد قائمًا بذاته، ومعنى التوراة والإنجيل (والقرآن واحد) (¬8)، والقرآن العزيز ليس هو كلامه؛ بل كلام جبرائيل (¬9) أو غيره، فمنهم من يُكفّر من خالفه. ¬
طريقة أهل السنة والجماعة العلم والعدل والرحمة
والذين يقولون بقدم بعض أحوال العبد، كالذين يقولون بقدم صوته بالقرآن أو قدم بعض أفعاله أو صفاته، وقدم أشكال المداد، فمنهم من يكفّر من خالفه (¬1). بل والذين يقولون بقدم روح العبد أو بقدم كلامه مطلقاً أو قدم أفعاله الصالحة أو (¬2) أفعاله مطلقاً، فمنهم من يكفّر من خالفه. والذين يقولون إن الله يُرى بالأعين في الدنيا (¬3)، منهم من يُكفّر من خالفه. والذين يُهينون المصحف وربما كتبوه بالنجاسة فمنهم من يُكفّر من خالفه، ونظائر هذا متعددة. وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان؛ فيهم العلم والعدل والرحمة؛ فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة: 8]، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء؛ بل إذا عاقبوهم وبيَّنوا خطأهم وجهلهم وظلمهم؛ كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله وأن تكين كلمة الله هي العليا. فالمؤمنون أهل السنة هم يقاتلون في سبيل الله ومن قاتلهم يقاتل في ¬
شرطا قبول العمل: الإخلاص والمتابعة
سبيل الطاغوت، كالصديق أهل الردة، وكعلي بن أبي طالب مع الخوارج المارقين ومع الغلاة والسبائية (¬1)، فأعمالهم خالصة لله -تعالى- موافقة للسنة، وأعمال مخالفيهم لا خالصة ولا صواباً؛ بل بدعة واتباع هوى، ولهذا يسمون أهل البدع وأهل الأهواء. قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة (¬2). فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك؛ ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله. وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأيضاً فإن تكفير الشخص المعيّن وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئاً من الدين يُكفر. ولهذا لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين كقدامة بن مظعون (¬3) ¬
موقف المؤلف من تكفير الجهمية من الحلولية والنفاة
وأصحابه شرب الخمر؛ وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحاً على ما فهموه من آية المائدة؛ اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة التي عرضت [لهم] (¬1) حتى يتبيّن لهم الحق، فإن أصروا على الجحود كفروا. وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله: "إذا أنا مت فاسحقوني ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، فأمر الله البَرَّ فرد ما أخذ، وأمر البحر فرد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما فعلت، قال خشيتك يا رب فغفر له" (¬2)، فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته، وأنه لا يعيده أو جوز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلاً لم يتبيّن له الحق فغفر له. ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون (¬3) الله -تعالى- فوق العرش لما وقعت محنتهم، أن لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم (¬4). ¬
عدم مقابلة المؤلف للبكري بمثل جهله وتكفيره
وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، فكان هذا خطابنا. فلهذا لم يقابل جهله وافتراؤه بالتكفير بمثله، كما لو شهد شخص بالزور على شخص، أو قذفه بالفاحشة كذباً عليه لم يكن له أن يشهد عليه بالزور ولا أن يقذفه بالفاحشة. وقد كفانا ذلك شيخه وغيره من الناس، فبيّنوا من ضلاله وجهله ما (¬1) ذكروه وذموه وعابوه وتنقصوه (¬2) به كما هو معروف عن شيخه الجزري وغيره من أهل العلم. والمقصود هنا أن قوله: (ومن خص الرسول أو الملائكة بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم فقد تنقصهم (¬3) بعبارته) فهي كلمة حق أريد بها باطل (¬4). ونحن نقول بموجب هذا الكلام وهو معناه الصحيح فإن من نفى ما يستحقونه من [الرتبة] (¬5) وما يصلحون له من الأسباب فهو مفتر كذاب، لكن الشأن [ليس] (¬6) المنفي هو من هذا الباب، ولو لم تقابل دعواه إلا بالمنع ¬
الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه قد تكون سببا وقد لا تكون
لكفانا، فإنه يقال له: لا نسلم أن الاستغاثة بهم مشروعة في كل ما يستغاث فيه بالله، ولا أنها وسيلة من وسائل الله في ذلك كله، بل سلمنا أن الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه قد نكون سبباً وقد لا تكون، فإن الناس يستغيثون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة في الشفاعة فيشفع لهم، ويستغيث به من أنذره في دفع الذنوب فيقول: "لا أملك لك من الله شيئاً" كما في الحديث الصحيح، "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك (¬1) شيئاً قد أبلغتك". وليس كل من طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يقدر عليه يعطيه إياه؛ إذ قد يكون ذلك غير جائز، كما في الصحيح أنه سأله الفضل بن عباس وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أن يوليهما على الصدقات فلم يجبهما وقال: "إنها أوساخ الناس، وإن الصدقة لا تحل لمحمد و [لا] (¬2) لآل محمد" (¬3). وكذلك سأله وفد هوازن السبي والمال فبذل لهم إحدى الطائفتين، وسألته أم حبيبة أن يتزوج أختها فقال: "إنها لا تحل لي" (¬4). بل يقال: لا نسلم أن التوسل، بذاتهم مشروعة بحال في الحياة والممات، وليس في شيء مما ذكر دليل على مورد النزاع، فإن مضمون ما ذكره جُملٌ: أحدها: أن الاستغاثة طلب الإغاثة والتخلص من الكربة والشدة، وأن ¬
جهل البكري وهواه أوقعه في الكذب
الإغاثة تضاف إلى المخلوق كما يُضاف إليه الإطعام والاستعانة والإعانة والهداية والتعليم، وهذا صحيح، وليس فيه أن الميت يستغاث به، كما أنه ليس فيه أن (¬1) يستطعم ويستسقى ويستهدى ويستنصر ويستغاث به، ولا فيه أن ما كان من هذا الباب لا يقدر عليه إلا الله فإنه يطلب من غيره. والجملة الثانية التي من كلامه: أن من توسل إلى الله -تعالى- بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به؛ سواء كان بلفظ الاستغاثة أو التوسل أو غيرهما مما [في] (¬2) معناهما، وقول القائل: أتوسل إليك يا إلهي برسولك عندك أن تغفري لي، استغاثة بالرسول حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم. وهذا الكلام كذب باطل لم يسبقه إليه أحد، ولا ريب أنه لجهله وهواه وقع في هذا، وإلا فما تعمد أن يقول ما يعلم أنه كذب، ولم يقل أحد قط أستغيث برسولك عندك، ولا هذا عند أحد، لا العرب ولا غيرهم، وهو ظن أن الباب في التوسل كالباب في الاستغاثة وليس كذلك، فإنه يقال: استغاثه واستغاث به، كما يقال (¬3): استعانه واستعان به، فالمستغاث به هو المسؤول، وأما المتوسل به فهو الذي يتسبب به إلى المسؤول. الجملة الثالثة: قوله: (إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته؛ لأنه عند الله في مزيد دائم (¬4) لا ينقص جاهه)، وهذا لفظ صحيح لو كان معنى الاستغاثة: الإقسام به والتوسل بذاته، فإن ذاته بعد الموت لم تنقص، بل هي في مزيد دائم من ربه -عز وجل- بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -، لكن هذه المقدمة باطلة كما قد عرف، فأما إذا كان معنى الاستغاثة هو الطلب منه، فما الدليل على أن الطلب منه ميتاً كالطلب منه حياً؟ وعلو درجته بعد الموت لا يقتضي أن يسأل، كما لا يقتضي أن يستفتى، ولا يمكن أحداً أن يذكر دليلاً شرعياً على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع، بل الأدلة الدالة على تحريم ذلك كثيرة. حتى إذا قُدر أن الله وكَّلهم (¬5) بأعمال يعملونها بعد الموت؛ لم يلزم من ¬
رد احتجاج القبورية بحديث الأعمى
ذلك جواز دعائهم، كما لا يجوز دعاء الملائكة؛ وإن كان الله وكلهم بأعمال يعملونها لما في ذلك من الشرك والذريعة إلى الشرك. وهو قد احتج بحديث الأعمى الذي قال: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة" (¬1) وهذا الحديث لا حجة فيه لوجهين. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
أحدهما: أنه ليس هو استغاثة بل توجه به. والثاني: أنه إنما يتوجه بدعائه وشفاعته، فإنه طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
رد احتجاج القبورية بحديث توسل آدم
الدعاء، وقال في آخره: "اللهم فشفعه في"، فعُلم أنه يشفع له فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء، كما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته. وهذا المحتج به بنى حجته على مقدمتين فاسدتين: على أنهم توجهوا بذاته، وأن ذلك يسمى استغاثة به، فلزم من ذلك جواز ذلك بعد موته، وفساد إحدى المقدمتين يبطل كلامه، فكيف إذا بطلتا، وما ذكره من توسل آدم (¬1) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
رد احتجاج القبورية بحكاية المنصور مع الإمام مالك
وحكاية المنصور (¬1) فجوابها من وجهين أحدهما: أن هذا لا أصل له، ولا تقوم به حجة ولا إسناد لذلك. ¬
رد احتجاج القبورية بفتح الكوة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
والثاني: أنه لو دلَّ لدل على التوسل بذاته لا على الاستغاثة به، وأما فتح الكوة (¬1) لينزل المطر فهو أيضاً باطل كما تقدم التنبيه عليه. ¬
ومع هذا فليس من هذا، وكذلك استسقاؤهم بدعائه ليس من هذا الباب، وأما اشتكاء البعير (¬1) إليه فهذا كاشتكاء الآدمي إليه، وما زال الناس ¬
الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وفيما يقدر عليه لا ينازع فيه أحد
يستغيثون به في حياته [كما] (¬1) يستغيثون به يوم القيامة. وقد قلنا: إنه إذا طُلب منه ما يليق بمنصبه فهذا لا نزاع فيه، والطلب منه في حياته والاستغاثة به في حياته فيما يقدر عليه لم ينازع فيه أحد، فما ذكره لا يدل [على] (¬2) مورد النزاع. ولكن هذا أخذ لفظ الاستغاثة ومعناها العام فجعل يتشبث به, وهذا إنما يليق بمن قال: لا يستغيث به أحد حياً ولا ميتاً في شيء من الأشياء. ومعلوم أن عاقلاً لا يقول هذا في آحاد العامة، فضلاً عن الصالحين فضلاً عن الأنبياء والمرسلين؛ فضلاً عن سيد الأولين والآخرين، فإنه ما من أحد إلا ويمكن أن يستغاث به في بعض الأشياء؛ فكيف بأفضل الخلق وأكرمهم على الله. ¬
المنفي الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الموت، أو فيما لا يقدر عليه إلا الله
ولكن النفي عاد إلى الشيئين: إلى الاستغاثة به بعد الموت، وإلى أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، فكيف إذا اجتمعا جميعاً؟ فإن من الناس من يستغيث بالموتى من الأنبياء والصالحين، ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله -تعالى-، فهذه الجمل الثلاث ملخص كلامه، وليس فيما ذكره ما يدل على مورد النزاع، ولا ما يناقض جواب المجيب، والحمد لله رب العالمين. فعلم أن منازعيه لم يخصوا الملائكة والرسول بنفي يفهم منه طرح رتبتهم، وعدم صلاحيتهم للأسباب. وأما قوله: (ولم يجعل الله لأحد تنقيص الرسل، وأجمع السلف والخلف على وجوب تعظيمهم في الاعتقاد والأقوال والأفعال). فيقال: هذا حق، لكنه كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "كلمة حق أريد بها باطل" (¬1)، وهو أن من سألهم ما لا يقدرون عليه أحياء وأمواتاً فقد آذاهم واعتدى عليهم؛ وهو مستحق للعقوبة التي يستحقها مثله. بل من سألهم ما لا يريدون فعله حتى فعلوا ما يكرهون فهو مستحق للذم والمقت. ومن ابتدع في دينهم ما لم يأذن به الله؛ [وما] (¬2) يخالف ما جاؤوا به؛ لزم أن يكون دينهم ناقصاً، وأنهم أتوا بالباطل، وهذا مناقض بلا ريب لما يجب من الإيمان بهم وتعزيرهم وتوقيرهم. ومن خالف ما جاؤوا به من توحيد الله وإفراده بالدعاء؛ فهو من أعظم المخالفين لهم اعتقاداً وقولاً وعملاً، فإن أعظم ما دعوا إليه التوحيد، فالمخالف له من أعظم الناس مخالفة لهم. وقد بيّنا في "الصارم المسلول" (¬3) أن التوحيد والإيمان بالرسل ¬
متلازمان، وكل أمة لا تصدق الرسل فلا تكون إلا مشركة، وكل مشرك فإنه مكذب للرسل، فمن دخل في نوع من الشرك الذي نهت عنه الرسل فإنه مناقض لهم مخالف لموجب رسالتهم. وإذا كان كذلك فما قال هذا المفتري وأمثاله هو بدعة لم تشرعها الرسل؛ لو لم يرد ما يتضمن النهي عنها، فكيف إذا عُلم أنه نهى عنها؟. أما المقام الأول: فإنه لا يمكن أحد أن يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته أن يستغيثوا بميت لا نبي ولا غيره، لا في جلب منفعة ولا دفع مضرة، لا بهذا اللفظ ولا معناه. فلا يشرع لهم أن يدعوا ميتاً ولا يسألوه ولا يدعوا إليه ولا أن يستجيروا به، ولا يدعوه (لا رهبة ولا رغبة) (¬1)، ولا يقول أحد لميت: أنا في حسبك أو أنا في جوارك أو أنا أريد أن تفعل كذا وكذا، ولا أن يخطوا إلى قبر ميت خطوات وأن يتوجه إلى جهة قبره ويسأله، كما يفعل كثير من النصارى؛ وأشباه النصارى من ضلال هذه الأمة بكثير من شيوخهم وغير شيوخهم. ولا يشرع لأحد أن يقول لميت: سل الله لي، أو [ادع] (¬2) لي. ولا يشرع لهم أن يشكوا إلى ميت؛ فيقول أحدهم مشتكياً إليه علي دين، أو آذاني فلان، أو قد نزل بها العدو، أو أنا مريض، أو أنا خائف ونحو ذلك من الشكاوى، سواء كان هذا السائل عند قبر الميت، أو كان بعيداً منه، وسواء كان الميت نبياً أو غيره. بل ولا يشرع لأمته إذا كان لأحدهم حاجة أن يقصد قبر نبي، أو صالح فيدعو لنفسه ظاناً أن الدعاء عند قبره يجاب. بل ولا يشرع لأمته أن يقسموا على [الله بمخلوق] (¬3) من المخلوقات لا نبي ولا غيره؛ سواء أقسموا عليه بحاجة أو غير حاجة. ولا يشرع لأمته أن يتوسلوا إلى الله بذات ميت أصلاً؛ بل ولا بذات ¬
التوسل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو بالإيمان به وطاعته أو دعائه وشفاعته
حي، إلا أن يكون التوسل بما أمر الله به من الإيمان به وطاعته، أو بدعاء المتوسل به وشفاعته، فأما إذا لم يكن المتوسل يتوسل بما أمر الله به؛ ولا بدعاء الداعي له فليس هناك وسيلة شرعها الله ورسوله. فإذا كان النبي والرجل الصالح له عند الله من الجاه والقدر والحرمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا لا ينتفع المتوسل به إلا بأحد وجهين: (¬1) إما أن يتوسل المتوسل بما أمر الله به من الإيمان به ومحبته وطاعته وموالاته والصلاة عليه والسلام ونحو ذلك، فهذه هي الوسيلة التي أمر الله بها في قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]. فالوسيلة تجمعها طاعة الرسول؛ فكل وسيلة طاعة للرسول، وكل طاعة للرسول وسيلة، و {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2) [النساء: 80]، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النساء: 69]. الوجه الثاني: أن يدعو له الرسول، فهذه (¬3) أيضاً مما يتوسل به إلى الله -تعالى-، فإن دعاءه وشفاعته عند الله من أعظم الوسائل، فأما إذا لم يتوسل العبد بفعل واجب [ولا] (¬4) مستحب ولا الرسول دعا له؛ فليس في عظم قدر الرسول ما ينفعه. ولكن بعض الناس (¬5) الذين دخلوا في دين الصابئين (¬6) والمشركين؛ ¬
الشفاعة عند الفلاسفة وأخذهم عن الصابئة
ظنوا شفاعة الرسرل لأمته لا يحتاج إلى دعاء منه، بل الرحمة التي تفيض على الرسول تفيض على المستشفع؛ من غير شعور من الرسول، ولا دعاء منه (¬1)، ومثَّلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره، فإن الشمس إذا وقعت على الماء أو مرآة؛ وانعكس شعاعها على حائط أو غيره حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة، قالوا: فهكذا الرحمة تفيض على النفوس الفاضلة كنفوس الأنبياء والصالحين، ثم تفيض بتوسطهم على نفوس المتعلقين بهم، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لا بد فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة و [جعل] (¬2) هؤلاء الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه. وقالوا: إن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها (¬3)، ¬
نقل من أخذ عن الفلاسفة كالغزالي مذهبهم في الشفاعة
و [هذه] (¬1) المعاني [ذكرها] (¬2) طائفة من الفلاسفة (¬3) ومن أخذ عنهم كابن سينا (¬4) وأبي حامد (¬5) وغيرهم. وهذه الأحوال هي من أصول الشرك وعبادة الأصنام، وهي من المقاييس (¬6) الفاسدة التي قال بعض السلف: "ما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس"، وهي من أقوال من يقول: إن الدعاء إنما تأثيره بكون النفس تتصرف في العالم، لا بكون الله يجيب الداعي (¬7)، وهي مبنية على أن الله ليس بفاعل مختار يحدث الحوادث بمشيئته واختياره. بل هؤلاء يقولون: إن الرب يوجب العالم بذاته، ويسمونه علة العلل، ¬
الفلاسفة يجيزون عبادة الكواكب والأصنام
ويقولون: إنه علة تامة (¬1)، وإذا كان كذلك فلابد للحوادث من سبب فجعلوا حدوثها بسبب حركة الفلك وما يحدث عنها من الأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية (¬2). ثم الإلهِيُّون منهم يقولون: إن الحركة سبب الاستعدادات من العالم السفلي (¬3) لأن يفيض عليها من العقل الفعال (¬4) الصور النوعية (¬5)، وأن يفيض على النفوس العلوم والأخلاق وغير ذلك. وهؤلاء يجيزون أن يعبد الإنسان الكواكب, لأنه بتوجهه إليها يفيض إليه منها أمور، وكذلك الأصنام لأنه بتوجهه إلى الصنم يكون متوجهاً إلى صاحبه فيفيض عليه أمور، والنفوس المفارقة (¬6) هي سعيدة؛ فإذا توجه المتوجه إلى تلك النفوس والقبر الذي دفن فيه بدنها فاضم [عليه] (¬7) منها ما يفيض، وقد بسطنا الكلام على هؤلاء، وبينَّا فساد قولهم بالعقل الصريح المطابق بالنقل الصحيح بما ليس هذا موضعه (¬8). ¬
تعظيم البكري وأمثاله للأنبياء تعظيم ربوبية، لا لكونهم رسل الله
والكلام [إذا] (¬1) كان في أحكام أفعال العباد لم يكن لأحد أن يتكلم إلا بدليل شرعي، لا (¬2) أن يدعو (¬3) إلى دينٍ غير دين الإسلام، ولا ريب أن هذه الأقوال ونحوها تدعو إلى غير دين الإسلام. وقول هذا المفتري وأمثاله يجر إلى مثل هذا؛ لكنهم لا يعرفون أصل قولهم ولوازمه؛ بل هم على عادة تعوَّدوها واتباع [أشياخ] (¬4) لهم، فيهم نوع من علم ودين، ليس لهم خبرة بحقيقة ما جاء به الرسول، وعندهم تعظيم للأنبياء (¬5) والصالحين من جنس تعظيم النصارى والمشركين، يعظمونهم تعظيم ربوبية من جهة ما يرجونه من حصول مطالبهم من جهتهم، لا يعظمونهم لكونهم رسل الله الذين أمروا بطاعتهم، فيجب أن يطاعوا فيما أمروا به؛ وأن يقتدى بهم فيما شرع التأسي بهم فيه، يعرضون عن بعض طاعتهم والتأسي بهم، ويقبلون على نوع من دعائهم وسؤالهم والإشراك بهم، وهؤلاء بالنصارى أشبه منهم بالصابئة الفلاسفة (¬6)، لكن الجميع فيهم شرك. ونحن في هذا الموضع ليس بنا حاجة إلى نفي تأثير هذه الأسباب فإنه ليس لكل سبب أثر يكون مشروعاً، بل الشارع ينهى عن أمور لها تأثير في طلب بعض المطالب؛ إذا كان ضررها راجحاً على نفعها، كما ينهى عن السحر ونحو ذلك، وإن كان قد يمكن أن يُقتل به كافر، ويُطّلَعُ بذلك على ¬
مقارنة بين القدرية والفلاسفة
بعض أخبار أعداء الإسلام، وكذلك [عباد] (¬1) الكواكب قد تخاطبهم الشياطين وتحصل لهم بعض مطالبهم، ودعاء الغائبين والأموات من هذا الباب، فقد يحصل أحياناً [أن] (¬2) شيطاناً يتمثل للداعي, وقد يُحصل بعض مطالبه، لكن هذا كله منهي عنه لما ترتب عليه من الفساد ما يغمر ما يُظَنُّ فيه من المنفعة. وهذه التأثيرات قد تحصل عند بعض القائلين بقدم العالم والقائلين بحدوثه، بخلاف ما يقول: إن الأثر الحاصل لا يكون إلا فيضاً, فهذا لا يكون إلا على قول القائلين بالقدم، وقد بيّنا في غير هذا الموضع أن هؤلاء الذين يقولون بقدم العالم وصدوره عن موجب [بذاته] (¬3) هو علة تامة, [حقيقة] (¬4) قولهم: إن الحوادث تحدث بلا محدث أصلاً, وأن حركة الفلك الحادثة شيئاً بعد شيء ليس لها مُحدثِ أصلاً, ويقولون: إنه يتحرك حركة شوقية (¬5) بقولهم في حركته من جنس قول القدرية في حركة الحيوان, والقدرية أخرجوا فعل الحيوان [أن يكون] (¬6) مخلوقاً لله -عز وجل- , وأثبتوا حادثاً لا محدث له، وهؤلاء الصابئة والفلاسفة أخرجوا حركة الفلك وجميع الحادثات من أفعال الحيوان وغيرها عن أن تكون مخلوقة لله -سبحانه- وأثبتوا هذه الحوادث بلا محدث. والناس ردوا على القدرية، وقالوا: إرادة العبد حادثة بعد أن لم تكن فلا بد لها من محدث، وإذا قيل: العبد أحدث بلا إرادة لزم وقوع الحوادث من المختار بلا إرادة، وإن قيل: بإرادة فالقول فيها كالقول في الأولى. ¬
وهؤلاء القدرية قالوا: إرادة الرب يحدثها لا في محل بلا إرادة منه، كما قال ذلك البصريون من المعتزلة (¬1)، وقالوا: إرادة العبد يحدثها في نفسه بلا إرادة منه، وكلاهما ممتنع. ثم يقال لهم: حدوثها بعد أن لم تكن حادثة أمر حادث فلا بد له من محدث، وقد يقال: الإرادة أمر ممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام، والمحدث والمرجح إن كان من العبد فالقول في حدوثه كالقول في الأول، وذلك يستلزم التسلسل في أفعال العباد، وأفعال العباد لها أول فيمتنع التسلسل فيها، فلزم أن يكون المحدث المرجح لها خارجاً عن العبد، وكل ما يذكر سوى الرب -تعالى- مُنته إليه والمحدث والمرجح هو الله -تعالى-. وقول الصابئة والفلاسفة أفسد من قول القدرية، فإنه يقال: إذا كان الرب عندكم علة تامة موجباً بذاته في الأزل لم يزل ولا يزال هكذا، ومعلوله لازم لذاته لا يمكن تأخره عنه امتنع أيضاً [أن تصدر عنه حركة الفلك وغيرها من الحوادث، وامتنع] (¬2) أن يصدر عنه ما يستلزم الحوادث، والعالم مستلزم للحوادث، فيمتنع صدوره عن العلة التامة لأن الحوادث تحدث شيئاً بعد شيء؛ كما أن حركة الفلك تحدث شيئاً بعد شيء، والعلة التامة لا يحدث معلولها ولا شيء من معلولها شيئاً بعد شيء، بل جميع معلولها (¬3) مقارن لها أزلاً وأبداً لا يتأخر منه شيء عن الأول، وإذا كان كذلك (¬4) فالحوادث كأجزاء الحركة الفلكية يمتنع صدورها عن الموجب بذاته، وإذا قيل: إن الحركة سببها الشوق الذي في الفلك للتشبه بالأول، قيل: فتلك الإرادة والتصور الذي هو سر ما في الإرادة الذي هو سبب الحركة (المتجددة، التي تجدَّدُ الحركة) (¬5) بتجدده، هو أيضاً من الحوادث المتعاقبة وهو نوع حركة نفسانية؛ فلا بد لها من محدث، فإذا كانت العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها امتنع (صدور ذلك) (¬6) ¬
مذهب أهل السنة في القدرة وعلاقتها بالمقدور
عنه، وإذا كان الفلك لا يخلو من الحوادث امتنع صدور [ها] (¬1) عنه, لأن [وجود] (¬2) الملزوم بدون اللازم ممتنع، ووجود (¬3) اللازم ممتنع, ولو قدر مقدر أن العالم لم يكن فيه حادث ثم تجددت الحوادث؛ لكان القول فيما ليس بمتجدد؛ كالقول في غيره، فإن التقدير أنه هناك فاعل لا علة تامة, والعلة التامة لا يتجدد عنها شيء بل معلولها مقارن لها. وهذا إذا تصوره العاقل علم بالضرورة بطلان قول هؤلاء الذين هم من أبعد الناس عن المعقول الصريح كبعدهم عن المنقول الصحيح, ثم هل تقوم بالرب الأمور الاختيارية التي يسمونها الحوادث؟ لهم في ذلك [قولان] (¬4) كما للمتكلمين قولان، وطائفة من الأساطين القدماء يجوزون ذلك وهو قول أبي البركات (¬5) صاحب "المعتبر" وغيرهم من متأخريهم, ومنهم من لا يجوِّزه كابن سينا وأمثاله، فمن لم يجوز ذلك ظهر فساد قوله بقدم العالم ظهوراً بيّناً, ومن جوزه أيضاً فيمتنع عليه أن يقول بقدم شيء من العالم, فإنه حينئذٍ إذا كان الرب يفعل شيئاً بعد شيء بأفعال [تقوم] (¬6) بذاته؛ لم يكن قط علة تامة لمفعولاته، بل كل ما يفعله ويحدثه هو فاعل له حين أحدثه وفعله, والمؤثر التام يستلزم أثره، كما أن الأثر يستلزم مؤثره التام. ولهذا كان مذهب أهل السنة أن القدرة لابد أن تكون مع مقدورها, ولا يجوز أن تكون معدومة عند (¬7) وجود المقدور, ولكن تنازعوا هل يكون وجودها قبل مع بقائها؟. ¬
والصواب التفريق بين القدرة المصححة (¬1) التي يشترط في الفعل معها وجود الإرادة؛ وبين القدرة الموجبة (¬2) وهي مجموع ما يستلزم المقدور. وأما القدرية فقالوا: إن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل، وإذا كانت الحوادث يحدثها شيئاً بعد شيء بحسب حدوثها لزم أن تقوم به الأفعال الاختيارية، وإذا كانت كذلك بطل أصل قولهم الذي بنوا عليه قدم العالم، حيث قالوا هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار، وإذا كان كذلك قارنت موجبه، فإذا كان نفس الحوادث يستلزم أن يكون فاعلاً أفعالاً متعاقبة بطل كونه موجباً بذاته بمقارنة موجبه، فبطل التلازم الذي ذكروه وجاز أن يكون محدثاً للأفلاك. وإن كان قد أحدث قبلها شيئاً آخر كما أخبر الله -تعالى- أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، كذلك في التوراة أنه خلق السموات والأرض وكان الماء مستبحراً (¬3) غامراً الأرض والرياح تهب فوقه (¬4). وملخص ذلك أنه لو كان شيء من العالم قديماً لكان موجباً بذاته بمقارنة (¬5) موجبه لا يتأخر عنه، والثاني باطل لأنه لو كان كذلك لم يحدث في ¬
العالم شيء؛ لأن العالم بجميع ما فيه موجب له فلو كان موجبه يقارنه (¬1) في الأزل [لزم أن لا] (¬2) يحدث في العالم شيء، ولو أوجب (¬3) العالم دون الحوادث لوجد الملزوم دون اللازم، ولحدثت الحوادث بعد ذلك عن الموجب (¬4) المستلزم لموجبه في الأزل، وكلاهما ممتنع. وكل خبر في العالم فهو مستلزم لمقارنة الحوادث؛ إذ يمكن أن تقوم به الحوادث، فلو كان صادراً عن موجب بالذات لامتنع حدوث الحوادث مقارنة له أو حادثة بعده، لأن صدورها عن موجب بالذات ممتنع؛ لا سيّما والذات التي من شأنها أن تقوم بها الأفعال المتعاقبة فيفعل شيئاً بعد شيء، لا يكون فعلٌ معين لازماً لذاتها، فلو كان في العالم شيء قديم تبين أنه إنما يلزمها نوع الأفعال لا فعل معين. وأيضاً فلزوم الفعل المعين لمفعول معين لذات تقوم بها الأفعال المتعاقبة وتفعل شيئاً بعد شيء غير معقول، فإنها متى كانت كذلك؛ امتنع أن يلازمها أزلاً وأبداً فعل (¬5) معين، فإن ملازمة المعين ينافي كون فعلها شيئاً بعد شيء. وإذا قيل: يلزمها فعل معين ولا يلزمها شيء من الأفعال، كانت أفعالها منقسمة إلى معين لازم لها؛ وإلى نوع يحدث شيئاً بعد شيء فهي للأول موجبة [بذاتها] (¬6) وللثاني (¬7) فاعلة باختيارها، فيكون موجبة بالذات لمفعول وفاعل بالاختيار لمفعولات، واجتماع هذين في الذات الواحدة تناقض، لأن كونها فاعلة بعد اختيارها شيئاً بعد شيء، يناقض اتصالها بالإيجاب بالذات، مع أن الفعل المعين الملازم للذات لا يعقل، ولا يعقل الفعل إلا الإحداث، وانما يعقل (¬8) فيما كان لازماً لها أن تكون صفة لها كالحياة، لا أن يكون مفعولاً ¬
مقارنة بين الموحدين والمشركين في الشفاعة
لها، فكونه مفعولاً يناقض كونه معه لازماً؛ لا سيما إذا كان الفاعل فاعلاً بالاختيار. والمقصود هنا أنه إذا لم يحصل من العبد فعلٌ أمره الله به في حق الرسول، ولم يحصل من الرسول شفاعة له، فلا يتصور أن ينتفع بجاه الرسول؛ منفعة أمر الله بها (¬1) في دين الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، لكن (على قول) (¬2) غير أهل التوحيد من المشركين القائلين بحدوث العالم والقائلين بقدمه، فإن المشرك قد يدعو (¬3) إلهاً من دون الله فتخاطبه الشياطين وربما قضت له بعض الحاجات، وهذا معروف في عباد الكواكب وعباد الموتى من الصالحين وغير الصالحين. وأما على قول الصنف الثاني من المشركين الذين جمعوا في الحقيقة بين التعطيل والإشراك، فأنكروا أن يكون خالقاً للعالم بقدرته ومشيئته، وهم مشركون، فمن هؤلاء من يقول إنه قد يفيض عليه من الشفيع شيء بغير دعاء الرسول، لكن لا بد عند هؤلاء من توجه من العبد؛ ولا يشترطون التقرب بما شرعته الرسل، بل يمكن عندهم إذا سجد لتماثيله أو لقبره ودعاه من دون الله أن يحصل له ذلك، كما يحصل إذا توجه إلى الشمس من سخونة شعاعها ما يحصل. والفرق بين الموحدين والمشركين، أن الموحدين يقولون: إن ما أمرت به الرسل من العبادات إنما يتقرب [به] (¬4) إلى الله؛ والأجر فيه على الله، وإنما على الرسول البلاغ؛ ليس عليه حصول الثواب، ولا يشترط أن يكون واسطة في وجوده بل يخلق الله الثواب بغير واسطة الرسول، وأما شفاعة الرسول فهي دعاء لله -تبارك وتعالى-، وهؤلاء يقولون: لا يحصل إلا بتوسطهم وإن فاض عنهم بغير قصد، فهذا أصل ينبغي معرفته. ¬
النهي عن اتخاذ القبور مساجد
فإن هذا الضال وأمثاله يجعلون الأنبياء والصالحين من جنس الذين يظنون أن النفع والضر يحصل لهم بتوسطهم؛ كما يجعل الشعاع والحرارة بتوسط الشمس. ونحن نقول: إن كل ما شرعه الله ورسوله فهو من أعظم الوسائل (إلى الله، لكن دعاؤهم بعد الموت لم يشرعه الله ورسوله فليس من الوسائل) (¬1)، وكذلك سؤال أحدهم ما لا يقدر عليه إلا الله ليس مشروعاً، وأصل الدين أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وما ذكره هؤلاء يتضمن عبادة غير الله بغير أمر الله. المقام الثاني: أن يقال هذا مما نهت عنه الرسل، فقد ثبت في الصحاح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اتخاذ القبور مساجد وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"؛ يحذر ما فعلوا (¬2)، وقال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها" (¬3). فلو كان الدعاء عند القبور أجوب منه في غير تلك البقعة لكان قصدها للدعاء عندها مشروعاً لم يُنه أن يتخذ مسجداً، فإن اتخاذ القبور [مساجد] (¬4) يدخل فيه الصلاة وغيرها؛ ويدخل فيه بناء المساجد عليها، وكلاهما منهي عنه، بل يحرم كما صرح به غير واحد من العلماء (¬5) فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل ذلك تحذيراً لأمته, وهذا يقتضي توكيد التحريم. فإن الدعاء في الصلاة أجوب منه في غيرها؛ كالدعاء في دبرها كما ¬
أحق البقاع بدعاء الله فيها المشاعر والمساجد
جاءت به السنة في الأدعية الشرعية؛ فإنها مشروعة في آخر الصلاة، و (¬1) كذلك الدعاء عقب الصلاة. وأفضل الدعاء دعاء يوم عرفة؛ وإنما يكون بعد صلاة الظهر والعصر، والوقوف بمزدلفة ودعاؤها بعد صلاة الفجر، والطواف يجري مجرى الصلاة؛ ولهذا يستحب الدعاء في آخره، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" (¬2)، والطواف تحية المسجد الحرام. وأما "منى" فعبادتها رمي الجمار، ولهذا يرمونها يوم النحر ثم ينحرون، كما يصلون في الأمصار ثم ينحرون، فليس بمنى صلاة عيد بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لغيرهم، وسائر الجمرات ترمى عقب الزوال قبل صلاة الظهر، وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله" (¬3). ¬
فلما كان هذا من شعائر الصلاة والطواف كان الدعاء عندها مشروعاً كما ثبت في الصحيح: "أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يدعو (¬1) بين الجمرتين بقدر سورة البقرة" (¬2)، وأما جمرة العقبة فليس عندها وقوف ولا دعاء (¬3)؛ فإنها آخر منى، والداعي يريد أن يتأخر عن الجمرة وما بعدها ليس من منى، وكان الداعي في نفس عرفة ومزدلفة ومنى لا خارجاً عنها، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنة (¬4)، ومزدلفة كلها موقف وارفعوا عن محسر، [ومنى كلها منحر] (¬5) " (¬6)، فلم يجعل الحدود الفاصلة بين المشاعر منها، وقد قال طائفة من السلف في قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قالوا: مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة ومنى، ومصلى أي مدعى (¬7)، وهذا لا ينافي عند كثير من العلماء ما ثبت في الصحيح: "من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما طاف صلى ¬
النهي عن الذبح عند القبر
عند المقام وقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} " (¬1)، لأن الآية قد تتناول هذا وهذا عند كثير من أهل العلم. ففي الجملة أحق البقاع بدعاء الله فيها المساجد التي يصلى فيها، والمشاعر التي شرع الله فيها الدعاء والذكر، وأمر أن يكون الدين خالصاً له كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)} [الأنعام: 161 - 162]. فإذا كانت الصلاة والذكر لله وحده لم يكن ذلك مشروعاً عند قبر، وكما لا يذبح للميت ولا عند قبره؛ بل "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن العقر عند القبر" (¬2)، وكره العلماء الأكل من تلك الذبيحة (¬3) فإنها شِبْهُ ما ذبح لغير الله، فلو كانت مقابر الأنبياء والصالحين مما يستحب الدعاء عندها لكانت إما من المساجد وإما من المشاعر التي يُحج إليها، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا وهذا. ¬
لعن الذين يتخذون القبور مساجد
بل لعن الذين يتخذون القبور مساجد، وقال أيضاً في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: "لا تتخذوا قبري عيداً وصلّوا عليّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني"، فنهى أن يتخذ قبره عيداً؛ وهذا معنى المشاعر فإن المشاعر تتخذ أعياداً (¬1)، أي يجتمع الناس عندها في أوقات معتادة، والعيد اسم للوقت والمكان الذي يعتاد الاجتماع فيه، وقد يعبر به عن نفس الاجتماع المعتاد (¬2)، ولهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة عيداً وقال: "إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً" (¬3). وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه رأى قوماً ينتابون مكاناً يصلّون فيه، قال: ما هذا، قالوا: مكاناً صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد، إنما هلك من كان قبلكم بهذا من أدركته فيه الصلاة فليصل وإلا فليمض" (¬4)، فقد نهاهم عن اتخاذ آثار الأنبياء مساجد. وهذا لا ينافي قول عتبان بن مالك للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن السيول تحول بيني وبين قومي، فلو صليت في بيتي في مكان أتخذه مصلى، "فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى ركعتين" (¬5)، لأن عتبان كان مقصوده بناء مسجد لحاجته إليه وتبرك ¬
بكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيه أولاً، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - بنى مسجد قباء وبنى مسجده، والمسجد الذي يتخذه بناء أفضل من غيره، كما فُضل المسجد الحرام ومسجد سليمان [عليه السلام] (¬1)، بخلاف من لم يكن مقصوده إلا بناء مسجد لأجل ذلك الأثر. وأما ما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى في سفره النزول في مكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والصلاة في مصلاه (¬2)، فمن الناس من رخص في مثل ذلك، بخلاف ما إذا اجتمع على ذلك الناس؛ [ومن الناس] (¬3) من قال هذا أمر انفرد به ابن عمر -رضي الله عنه- (¬4). والخلفاء الراشدون [و] (¬5) الأكابر من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يكونوا يفعلون ذلك، وهم أعلم من ابن عمر وأعظم اتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان هذا مستحباً لفعله هؤلاء. ¬
وأيضاً لما فتح المسلمون تستر (¬1) وجدوا فيها قبر دانيال وكان أهل البلد يستسقون به، فكتب في ذلك أبو موسى إلى عمر بن الخطاب (¬2)، فكتب إليه " [أن أحفر] (¬3) بالنهار ثلاثة عشر قبراً وادفنه بالليل في واحد منها لئلا [يفتتن به] (¬4) الناس فيستسقون به" (¬5). فهذه كانت (¬6) سنة الصحابة -رضوان الله عليهم- ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين لهم بإحسان على وجه الأرض في ديار الإسلام مسجد مبني على قبر، ولا مشهد يزار لا بالحجاز ولا اليمن ولا الشام ولا مصر ولا العراق ولا خراسان، وقد ذكر مالك -رحمه الله- أن وقوف الناس للدعاء عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعة لم يفعلها الصحابة ولا التابعون، [وقال: لا] (¬7) يصلح ¬
زيارة القبور للدعاء للميت
[آخر] (¬1) هذه الأمة إلا ما أصلح أولها (¬2). فأما ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور فإنما هو دعاء للميت كالدعاء في الصلاة على جنازته، والسنة في الدعاء التعميم كما في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بعلي وهو يدعو فقال: "يا علي عمّ فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض" (¬3)، ولهذا يقال في دعاء الجنازة: "اللهم اغفر لحيّنا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا" (¬4)، ولم يخص الميت بالدعاء. وكذلك يقال في السلام على الموتى: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية" (¬5)، كما يقال في الصلاة: "السلام ¬
أقوال المفسرين في الوسيلة
علينا وعلى عباد الله الصالحين" (¬1)، وكما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا ذكر نبينا قال "يرحمنا الله وفلاناً" (¬2)، وكما يقول الخطيب وأستغفر الله لي ولكم. والمقصود [بالصلاة على] (¬3) الجنازة (¬4) الدعاء للميت وغيره يدخل تبعاً، بخلاف من يكون قصده أن يدعو لنفسه بالميت أو عند الميت وهذا كله من الدعاء عند القبور. وأما دعاء الميت وسؤاله بلفظ الاستغاثة وغيرها، كقول الداعي أطلب منك المغفرة أو الرحمة أو قضاء الدين أو النصر على العدو، فهذا مما نهى عنه القرآن، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 56]- 57]، في التفسير الصحيح عن مجاهد {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}، قال: عيسى ابن مريم وعزير والملائكة، وكذلك عن إبراهيم النخعي قال: كان ابن عباس يقول في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} هو عزير المسيح والشمس والقمر (¬5). وكذلك روى شعبة عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: ¬
عيسى وأمه والعزير في هذه الآية (¬1): {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (¬2). وروى قتادة عن عبد الله بن معبد الزماني (¬3) عن ابن مسعود قال: كان قبائل من العرب يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن، ويقولون هم بنات الله، فأنزل الله -تبارك وتعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (¬4) , وفي رواية عن الزماني (¬5) عن عبد الله بن عتبة بن مسعود (عن عبد الله) (¬6) قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن، فأسلم الجنيون والأنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنزلت: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (¬7). وكذلك قال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: {الَّذِينَ يَدْعُونَ} الملائكة تبتغي إلى ربها الوسيلة {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}، قال: وهؤلاء الذين عبدوا الملائكة من (¬8) المشركين (¬9). وكذلك ذكر العوفي في تفسيره عن ابن عباس قال: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً (¬10). وثبت أيضاً في [صحيح البخاري] (¬11) عن ابن مسعود أنه قال: كان ناس ¬
يعبدون قوماً من الجن فأسلم (¬1) الجن وبقي الإنس على كفرهم فأنزل الله -تعالى- {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (¬2) يعني الجن (¬3). وهذا معروف عن ابن مسعود من غير وجه, وهذه الأقوال كلها حق, فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابداً لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف -رضي الله عنهم- في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز؟ فيريه رغيفاً فيقول هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه. وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية للنوعين, فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً, وهذا موجود في الملائكة والجن والإنس. وقد اختار [الطبري] (¬4) قول من فسرها بالملائكة أو الجن لأنهم كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتغون إلى ربهم الوسيلة, بخلاف المسيح والعزيز فإنهما لم يكونا [موجودين] (¬5) على عهده, فلم يكونا حينئذٍ ممن يبتغي الوسيلة, إذ ابتغاء الوسيلة العمل بطاعة الله والتقرب إليه بالصالح من الأعمال, فأما من كان لا سبيل له إلى العمل، فبم يبتغي إلى ربه الوسيلة, وهذا الذي قاله إن كان صواباً فهو أبلغ في النهي عن دعاء المسيح وعزير وغيرهما من الأموات من الأنبياء والصالحين، فإنه إذا كان الحي الذي يتقرب إلى ربه بالعمل لا يجوز دعاؤه, فدعاء الميت الذي لا يتقرب بالعمل أولى أن لا يجوز؛ وإن كانت الآية تعم هذا وهذا، فهي دالة على ذلك, فدلالتها ثابتة على كل تقدير. ¬
والصحيح أنها تعم هؤلاء وهؤلاء، وذلك أن أولئك (¬1) كانوا في حياتهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وهو لم يقيد ذلك بزمن النزول بل أطلق، وإذا قال القائل: آدم ونوح وإبراهيم وموسى يعبدون الله ولا يشركون به، عُلم أن مراد هذا دينهم، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 44]، كان حكم [النبيون] بها قبل نزول الآية بدهر. والعرب تقول: مرض (¬2) حتى لا يرجونه، وشربت الإبل حتى يجيء البعير فيقول برأسه كذا، ومنه قراءة من قرأ: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] وهذا ماض (¬3)، وقد قال -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، وهذا قد مضى قبل نزول القرآن والفعل مضارع لأنه حكى حالهم في الماضي. ولهذا يقول النحاة: هذا حكاية حال (¬4)، كقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18]، فإن قيل: المعروف في مثل هذا أن يقال كانوا يفعلون (¬5)، كما قال -تعالى-: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]. قيل: لكن إذا كان في الكلام ما يبيّن المراد لم يحتج إلى ذلك، لا سيما إذا ذكر ماضٍ وحاضر عمهم الخطاب فهنا يتعين حذف كان، لأن المقصود الإخبار عن حال هؤلاء الحاضرين لا يخبر عنهم بكان، كما تقول: المؤمنون من الأولين والآخرين يعبدون الله لا يشركين به، (وإذا أفردت الماضي قلت: المؤمنون كانوا يعبدون الله لا يشركون به) (¬6). ¬
إثبات صفة الساق للرب تعالى
والاَية هنا قُصد بها التعميم لكل ما يُدعى من دون الله، وكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها؛ فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن. ومعلوم أن هؤلاء كلهم يكونون وسائط فيما يُقدّره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى الله -تعالى- عن دعائهم، وبيّن أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله، لا يرفعونه (¬1) بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع أيضاً، فلا يرفعونه ولا يحولونه من حال إلى حال كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: {وَلَا تَحْوِيلًا}، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل، يقال: كشف البلاء، أي: أزاله ورفعه، ويقال: كشف عنه أي أظهره وبيّنه، فمن الأولى قوله: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)} [النحل: 54]، وقوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون: 75]، وقوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)} (¬2) [الأعراف: 135]. ومن الثاني قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] لم يقل يوم يكشف الساق، وهذا يبيّن خطأ من قال المراد بهذه كشف الشدة، وأن الشدة تسمى ساقاً، فإنه لو أريد ذلك لقيل يوم يكشف [الساق] (¬3) أو يكشف الشدة، وأيضاً فيوم القيامة لا يكشف الشدة عن الكفار، والرواية في ذلك عن ابن عباس [ساقطة] (¬4) الإسناد (¬5). ¬
والاستغاثة هي طلب كشف الشدة، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين (أو دعا الملائكة) (¬1) أو دعا الجن، فقد دعا [من] (¬2) لا يغيثه، فلا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله. وقد قال -تعالى-: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} [الجن: 6]، كان أحدهم إذا نزل بواد يقول: أعوذ بعظيم هذا ¬
الاستعاذة لا تصح بمخلوق وأدلة ذلك
الوادي من سفهائه، فقالت الجن: الإنس يستعيذوننا فزيدوهم رهقاً (¬1). وقد نص الأئمة (¬2) كأحمد وغيره على أنه لا يجوز [الاستعاذة] (¬3) بمخلوق (¬4)، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، كقوله: "أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق" (¬5)، "وأعوذ بكلمات الله التامات كلها من غضبه وعذابه (¬6) وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون" (¬7) "وأعوذ بكلمات الله التامات [التي] (¬8) لا يجاوزهن بر ولا فاجر، و (¬9) من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض و (من شر) (¬10) ما ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقاً بخير يا رحمن" (¬11). ¬
قالوا: والاستعاذة لا تجوز بالمخلوق, وقول القائل أعوذ بالله معناه أستجير بالله، فإذا لم يجز أن يستغاث بمخلوق لا نبي ولا غيره, فإنه لا يجوز أن يقال له: "أنت خير معاذ يستغاث به" بطريق الأولى والأحرى. ولهذا قال بعض الشعراء لبعض الرؤساء الممدوحين: يا من ألوذُ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به فيما أُحاذره لا يجبر الناسُ عظماً أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنتَ جابره (¬1) فقول القائل لمن مات من الأنبياء أو غيرهم: بك أستجير من كذا وكذا، كقوله: بك أستعيذ، وقوله: بك أستغيث في معنى ذلك, إذا كان مطلوبه منع الشدة أو رفعها، والمستعيذ بطلب منع المستعاذ منه أو رفعه, فإذا كان مخوفاً (¬2) طلب منعه، كقوله: "أعوذ بالله من عذاب جهنم, ومن عذاب ¬
القبر" (¬1)، وإن كان حاضراً: طلب رفعه كقوله (¬2) في الحديث الصحيح: "أعوذ بعزة [الله] (¬3) وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (¬4)، فتعوَّذ بالله من شر الموجود وشر المحاذر. والداعي يطلب أحد شيئين: إما حصول منفعة أو دفع مضرة، فالاستعاذة والاستجارة والاستغاثة كلها من نوع الدعاء والطلب، وقول القائل لا [يستعاذ] (¬5) به ولا يستجار به ولا يستغاث (¬6) به ألفاظ متقاربة. ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يدعى ويذكر عنده؛ فإنه سبحان يستجار به ويستغاث به هناك، ويتمسك المتمسك (¬7) بأستار الكعبة كما يتعلق المتعلق بأذيال من يستجير به، ومنه قول عمرو (¬8) بن سعيد لأبي شريح: "إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة" (¬9)، وفي الحديث الصحيح: ¬
الثناء على الله -عزوجل - شعرا
"يعوذ عائذ بهذا البيت" (¬1). ومنه قول القائل: ستور بيتك ذيلُ الأمن منك وقد ... عَلَّقْتُها مستجيراً أيها الباري وما أظنك لما أن عَلِقْتُ بها ... خوفاً من النار تدنيني من النارِ (¬2) ويسمى ذلك المكان المستجارة (¬3)، وقد كان من السلف من يدخل بين الكعبة وأستارها فيستعيذ ويستجير بالله ويدعوه ويتضرع إليه هناك. ويجوز مدح الله والثناء عليه بالنظم وكذلك دعاؤه، كما قال الأسود بن سريع للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما نظم شعراً في مدح الله -تعالى- فقال: إني حمدت ربي بمحامد، فقال: "إن ربك يحب الحمد" (¬4)، فلم ينكر عليه ذلك، لكن رُوي أنه قال ولم يستنشده، وروى أنه استنشده كما روى الإمام أحمد في مسنده عن الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول الله إني مدحت ربي (¬5) بمدحه ومدحتك بأخرى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هات وابدأ بمدحة الله" (¬6). ¬
ولكن ثبت عنه أنه كان يستنشد (¬1) الشريد بن السويد الثقفي شعر أمية بن أبي الصلت وهو يقول: هيه هيه (¬2). وذلك مثل قوله: مجّدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا [بالبناء] (¬3) الأعلى سبق الناس ... وسوَّى [فوق] (¬4) السماء سريرا شرجعاً ما يناله بصر العين ... ترى دونه الملائك صورا (¬5) وقوله: [زحل] (¬6) وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى ليث مرصد (¬7) ¬
وغير ذلك. ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أخاكم لا يقول الرفث" (¬1) يعني ابن رواحة، وذلك كقوله الذي أنشده للنبي - صلى الله عليه وسلم -: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا (¬2) وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسوّمينا (¬3) [وقوله] (¬4): وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع [أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع] (¬5) يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع (¬6) ¬
ومن ذلك ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة يتمثلون به: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلنْ سكينة علينا ... وثَبِّت الأقدام إن لاقينا إن الأُولى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا (¬1) وهذا النظم فيه دعاء الله. فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا ومثل هذا البيت قولهم: اللهم، ويقال فيه لَاهُمَّ إن العيش، كما في قول عبد المطلب: لاهُمَّ إن المرء يمنع رحله ... (وحلاله) (¬2) فامنع حِلالك (¬3) ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن تغفر اللهم تغفر جمّاً ... وأي عبد لك لا (¬4) ألمّاً (¬5) ¬
تمثل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشعر وجواز إنشاده
ومنه قول الصحابة: اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة (¬1) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل به، لكن رُوي أنه قال: "فاغفر للمهاجرين والأنصار" (¬2)، وهذا دعاء في الشعر وقد أقر الصحابة على قوله، فدل على جوازه. وإن كان هو - صلى الله عليه وسلم - لا يقول الشعر، فذلك من خصائصه كما قال -تعالى-: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ينظم الشعر ولكن هل تمثل به؟ أو لم يتمثل بشعر؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه (¬3). ¬
وليس كل الشعر مذموم بل منه ما هو مباح كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن من الشعر لحكمة" (¬1)، وقد قال -تعالى-: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} [الشعراء: 224 - 227]. فقد استثنى ممن ذمه [الله] (¬2) من الشعراء من ذكره، فدل ذلك على أنه ليس كل الشعراء مذمومين، وقد ثبت في الصحيح أنه كان ينصب لحسان بن ثابت منبراً ويأمره بهجاء المشركين ويقول: "اللهم أيده بروح القدس" (¬3)، وفي رواية: "إن روح القدس معك ما نافحت عن [الله و] (¬4) رسوله" (¬5). وقد سمع شعر خزاعة؛ لما قدموا عليه حين عدت بنو بكر على خزاعة وأنشدوه القصيدة المعروفة التي فيها: ¬
صلاة القبورية إلى القبور وحجهم إليها وغلوهم في ذلك
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا (¬1) إلى آخرها، وكذلك سمع قصيدة كعب بن زهير المشهورة التي أولها: بانت سعاد (¬2). إلى غير ذلك من الأدلة الشرعية التي تدل على أن من الشعر ما يجوز إنشاده (¬3) وإنشاؤه واستماعه، ومما يبيّن حكمة الشريعة وَعِظم قدرها؛ وأنها كما قيل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق (¬4). إذ الذين خرجوا عن المشروع زين لهم الشيطان أعمالهم حتى خرجوا إلى الشرك، فطائفة من هؤلاء يصلّون إلى الميت، ويدعو أحدهم الميت فيقول: اغفر لي وارحمني ونحو ذلك، ويسجد لقبره، ومنهم من يستقبل القبر ويصلّي إليه مستدبراً لكعبة، ويقول القبر قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهداً، وهو شيخ متبوع، ولعله أمثل ¬
أتباع شيخه، يقوله في شيخه (¬1). وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد؛ يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل، وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع والدعاء وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في [مساجد الله التي] (¬2) أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. وآخرون يحجون إلى القبور، وطائفة صنفوا كتباً وسموها مناسك حج المشاهد، كما صنف، أبو عبد الله محمد بن النعمان (¬3) الملقب بالمفيد -أحد شيوح الإمامية- كتاباً في ذلك وذكر فيه من الحكايات المكذوبة عن أهل البيت ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ؛ وإن لم يسموا ذلك منسكاً وحجّاً فالمعنى واحد، ومن هؤلاء من يقول: وحق النبي الذي تحج إليه المطايا، ¬
فيجعل الحج إلى القبر لا إلى بيت الله -عز وجل-، وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصد قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا حج البيت. وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح صنف كتاباً سماه [الاستغاثة] (¬1) بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة والمنام (¬2)، وهذا الضال استعان بهذا الكتاب، وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة وكان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - منتهى قصده؛ ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وجعل هذا من مناقبه، فإن كان هذا مستحباً فينبغي [لمن يجب عليه حج البيت إذا حج أن يجعل المدينة منتهى قصده] (¬3) ولا يذهب إلى مكة؛ فإنه زيادة كلفة ومشقة مع ترك الأفضل، وهذا لا يفعله عاقل. وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس ممن يقصده الملوك والقضاة والعلماء والعامة، على طريقة ابن سبعين (¬4) قيل عنه أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: "مكة، وبيت المقدس، [والبندر] (¬5) الذي للمشركين بالهند"، وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود ودين النصارى حق، وجاء بعض إخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال له: أريد أن أسلم على يديك، قال: على دين اليهود والنصارى أو المسلمين، فقال له: اليهود والنصارى ليسوا كفاراً؟!! [قال] (¬6): لا تشدد عليهم، لكن دين الإسلام أفضل. ومن هؤلاء من يرجح الحج إلى المقابر على الحج إلى البيت، ومنهم ¬
من يرجح الحج إلى البيت لكن قد يقول أحدهم: إنك إذا زرت قبر الشيخ مرتين أو ثلاثاً كان كحجة (¬1)، ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنزلة عرفات يسافرون إليها وقت الموسم يعرّفون بها، كما يُعَرِّفُ المسلمون بعرفات، كما يُفعل هذا بالمشرق والمغرب (¬2). ومنهم من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه أفضل من الحج، ¬
تخويف القبورية للموحدين
ويقول أحد المريدين للآخر وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع؟ فشاور الشيخ، فقال: لو بعت لكنت مغبوناً، ومنهم من يقول: من (¬1) طاف بقبر الشيخ سبعاً كان كحجة، ومنهم من يقول: زيارة المغارة الفلانية ثلاث مرات كحجة، ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت أنه قال: كل خطوة إلى قبره كحجة؛ ويوم القيامة لا أبيع (¬2) بحجة، وأنكر بعض الناس ذلك فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ في منامه وزبره (¬3) على إنكاره ذلك. وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء، وليسوا من عمار المساجد الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 18]، فعُمَّار مساجد الله لا يخشون إلا الله، وعُمَّار مساجد المقابر يخشون غير الله ويرجون غير الله. حتى إن طائفة من أصحاب الكبائر الذين لا [يتحاشون] (¬4) فيما يفعلونه من القبائح؛ كان [إذا رأى] (¬5) قبة الميت أو الهلال الذي على رأس القبة خشي من فعل [الفواحش] (¬6)، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال؛ ولا يخشون الذي خلق السموات والأرض وجعل أهِلَّةَ السماء مواقيت للناس والحج. وهؤلاء إذا نوظروا خوّفوا مناظرهم كما صنع المشركون بإبراهيم، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ ¬
صد القبورية عن دين الله الحق الذي بعث به رسله
أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (¬1) (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 80 - 82]. وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت يطلب قضاء الحاجات وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، وكأنهم (¬2) قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلهاً، وعزلوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - عن أن يتخذوه رسولاً. وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام؛ أو التابع لهم الحسن الظن بهم أو غيره يطلب من الشيخ الميت؛ إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه أو غير ذلك، فيدخل ذلك (¬3) السادن فيقول: قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول: لله، والله قد بعث رسولاً إلى (¬4) السلطان فلان، فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى!! وفيه من الكذب والجهل ما لا يستجيزه كل مشرك ونصراني ولا يروج عليه!! ويأكلون من النذور وما يؤتى به إلى قبورهم ما يدخلون به في معنى قوله: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]، فإنهم يأكلون أموال الناس بغير حق ويصدون عن سبيل الله، ويعوضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم، إذ التابع لهم يعتقد أن هذا هو سبيل الله ودينه، فيمتنع بسبب ذلك عن الدين الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه. والله -تعالى- لم يذكر في كتابه المشاهد بل ذكر المساجد وأنها (¬5) خالصة له، قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ ¬
مقارنة بين بيوت المقابر وبيوت الشرك
الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 17 - 18]، وقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ} [الحج: 40]. ولم يذكر بيوت الشرك كبيوت الأصنام والمشاهد، ولا ذكر بيوت النار، لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب، فالممدوح من ذلك ما كان مبنياً قبل النسخ والتبديل، كما أثنى على اليهود والنصارى والصابئين الذين كانوا قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحاً. بخلاف [بيوت] (¬1) الأصنام وبيوت النار وبيوت الصابئة المشركين، كالذين يسمونه هيكل العلة الأولى، هيكل العقل، هيكل النفس، هيكل زحل، هيكل المشترى، هيكل المريخ، هيكل الشمس، هيكل عطارد، هيكل الزهرة، هيكل القمر (¬2)، فإن هذه البيوت ليس في أهلها مؤمن ولم يكن في أهلها عبادة أمر الله بها، فبيوت الأوثان (¬3) وبيوت النيران (¬4) وبيوت الكواكب وبيوت المقابر لم يمدح الله شيئاً منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21]، فهؤلاء الذين اتخذوا على أهل الكهف مسجداً كانوا من النصارى (¬5)، الذين ¬
لعن اليهود والنصارى لاتخاذهم القبور مساجد
لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وفي رواية، "والصالحين" (¬1). وفي الصحيحين عنه أنه لما ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذُكرَ حُسنها وتصاويرها، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شِرار الخلق عند الله يوم القيامة" (¬2)، فجمع بين التصاوير والمقابر، وفي الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: " [ألا أبعثك] (¬3) على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته" (¬4)، وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل الكعبة حتى أخرج ما فيها من التماثيل (¬5). وقد رُوي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها" (¬6). ¬
حكم الصلاة في الكنيسة
وقد تنازع الفقهاء في الصلاة في الكنيسة، وقال البخاري: قال ابن عباس: "لا بأس في الصلاة في الكنيسة" (¬1)، وقيل: يكره مطلقاً، وقيل: يرخص فيها، والصحيح أنه إن كان فيها تماثيل كانت بمنزلة المساجد المبنية على القبور، وبمنزلة دار الأصنام، فالمصلي فيها مشابه لمن يعبد غير الله، وإن كانت [نيته] (¬2) الصلاة لله، كما أن المصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها لما شابه من يعبد غير الله نُهي عن ذلك سداً للذريعة، وأيضاً فالملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، فكيف يصلّي فيه؟ ولهذا لم يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة حتى أزيلت الصور، بخلاف الكنيسة التي لا صور فيها، فإن قيل: تكره لكونها محل الكفر، قيل: الصلاة في محل الكفر بمنزلة فتح دار الكفر فجعلها دار إسلام؛ وبمنزلة صلاة المسلمين في دار الحرب، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثقيفاً أن يتخذوا. مسجدهم موضع بيت اللات (¬3) بعد هدم اللات، وكانوا يسمونها الربة. ¬
مناظرة الشهرستاني للصابئة في الروحانيات وتقصيره فيها
ولهذا فضل ذاكر (¬1) الله في الغافلين، وقيل (¬2): إنه كالشجرة الخضراء بين الشجرة اليابس (¬3)، فالعابد بين أهل الكفر والغفلة أعظم أجراً من غيره، فإن (¬4) قيل الصلاة فيها غصب لهم، قيل له: الكنائس ليست ملكاً لأحد، وليس لهم أن يمنعوا من يعبد الله؛ لأنا صالحناهم على هذا، بل قد شرط عليهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يوسعوا أبوابها للمارة. ومن ذلك أن هؤلاء المشركين من الصابئة ونحوهم لما كانوا يعبدون الكواكب والملائكة؛ وربما سموها العقول والنفوس وجعلوها وسائط بين الله وبين خلقه، وأهل التوحيد لا يعبدون إلا الله، ويطيعون رسله الذين أمروا بعبادته وحده لا شريك له، فقالت الصابئة المشركون للحنفاء: نحن نتخذ الروحانيين وسائط، وأنتم تتخذون البشر وسائط؛ فديننا أفضل من دينكم، فأخذ يعارضهم طائفة من النظار [كالشهرستاني] (¬5) في كتابه المعروف بالملل والنحل (¬6) وغيره، ويذكرون أن توسط البشر أولى من توسط الروحانيات ¬
رسائل أخوان الصفا فيها جمع بين الحنفية والصابئة
العلوية، وناظروهم مناظرة يعرف تقصيرهم فيها؛ لأنهم بنوها على أصل فاسد وهو مقايسة وسائط المشركين بوسائط الحنفاء، وهذا جهل بدين الحنفاء، فإن الحنفاء ليس بينهم وبين الله -تعالى- واسطة في العبادة والدعاء والاستعانة، بل يناجون ربهم ويدعونه ويعبدونه بلا واسطة، وإنما الرسل بلغتهم عن الله -عز وجل- ما أمر به وأحبه من العبادات وغيرها، وما نهى عنه فهم وسائط في التبليغ والدلالة، وهم مع المؤمنين كدليل الحاج مع [الحجاج] (¬1)، وكإمام الصلاة مع المصلين، فالرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- يعرّفون الناس طريق الله -تبارك وتعالى-؛ كما يعرف دليل الحاج طريق مكة -[شرّفها] (¬2) الله- ثم الناس يعبدون الله كما أن الحاج يقيمون مناسك الحج، والرسل أيضاً يقتدى بهم في الأفعال التي يتأسى بهم فيها، كما يقتدي المأموم بالإمام في الصلاة، وكل مصل يعبد ربه منه إليه (بلا واسطة) (¬3)، وأولئك الصابئة من الفلاسفة غاية سعادة النفوس أن تصل إلى العقل الفعال. وأصحاب [رسائل] (¬4) إخوان الصفا (¬5) صنفوا رسائلهم على أصول هؤلاء ممزوجة بما أخذوه من دين الحنفاء، وأرادوا بزعمهم أن [يجمعوا] (¬6) ¬
بين الحنفية والصابئة، فضلوا وأضلوا، وأما الحنفاء فعندهم أنه ما من عبد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب وترجمان (¬1)، وعندهم أن الملائكة عباد الله يفعلون ما أمرهم الله به، ومن أثبت أن دون الله روحاً يكون مبدعاً للعالم فهو أكفر عند الحنفاء مشركي العرب، فإن مشركي العرب كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، لا يثبتون دونه شيئاً أبدع (¬2) العالم، ولما قال من قال منهم: إن الملائكة بنات الله؛ لم يجعلوا الملائكة مبدعة للعالم. وأما هؤلاء الفلاسفة [يقولون] (¬3): إن الصادر الأول عن العقل الأول؛ وأن كل مما سواه صادر عنه، فالعقل الأول هو رب كل ما سوى الله عندهم، وكذلك كل عقل هو مبدع ما سواه عندهم، حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر فهو عندهم مبدع ما تحت الفلك. ومعلوم أن المسلمين واليهود والنصارى ومشركي العرب وغيرهم لا يجعلون أحداً من دون الله أبدع كل ما تحت السماء، وهؤلاء يجعلون الملائكة التي أخبرت، بها الرسل هي العقول والنفوس التي زعموها، ومنهم من يجعل العقل الأول هو القلم؛ ويجعل النفس هي اللوح، ومنهم من يحتج بالحديث الموضوع: "أول ما خلق الله العقل" (¬4)، مع أنهم حرَّفوا ¬
أبو حامد والرازي ممن أدخل في دين الحنفاء من دين المشركين
لفظه فرووه (¬1) "أولُ" [بالضم] (¬2)، وإنما لفظه: "أَوَّلَ ما خلق الله العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال: له أدبر فأدبر"، وفي لفظ (¬3): "لما خلق الله العقل قال له ذلك"، فالحديث حجة على نقيض مذهبهم، فكيف وهو موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وقد بسطت الكلام على هذه الأمور في مواضع آخر. وهذا قد يوجد في كلام أبي حامد [و] (¬4) كثير من [متأخري] (¬5) المتصوفة والمتكلمين، أدخلوا (¬6) في دين الحنفاء من دين المشركين، حتى صنف بعضهم تصنيفاً في ذلك مثل مصنف الرازي في "السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم" (¬7)، وآخرون صنفوا في الحروف وطبائعها والدعاء بأسماء ذكروها في أوقات (¬8)، كما صنف [بعضهم في ¬
متابعة طوائف من هذه الأمة للأمم السابقة ومنهم الصابئة المشركين
دعاء المقبور] (¬1)، ودعاء المقبور من أعظم الوسائل إلى ذلك. وقد قدم بعض شيوخ (¬2) المشرق وتكلم معي في هذا، فبينّت له فساد هذا، فقال: أليس قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" (¬3)، فقلت هذا مكذوب باتفاق أهل العلم لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ من علماء الحديث، وبسبب هذا وأمثاله ظهر مصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضَبٍّ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن" (¬4)، وفي الحديث الآخر الصحيح: "لتسلكن أمتي مسالك الأمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا هؤلاء" (¬5)؟ فاتخاذ القبور مساجد هو من فعل اليهود والنصارى، وأما ¬
الخروج عن الملة بالكلية إلى دعوى الكواكب واتخاذ العلويات وسائط في العبادة كمقالات الفلاسفة؛ فهذا ليس من دين اليهود والنصارى ولا فارس والروم المتنصرة، بل هو (¬1) من فعل الروم الصابئة والمشركين، كالفلاسفة الذين كانوا بمقدونية (¬2) وغيرها، وهؤلاء كانوا مشركين إلى أن دخل إليهم دين النصارى، وآخر ملوكهم هو بطليموس (¬3) صاحب "المجسطي" كان [بعد] (¬4) المسيح -عليه السلام- بمدة قليلة، وأما أرسطو (¬5) فإنه كان قبل المسيح بأكثر من [ثلاثمائة] (¬6)، فإنه كان في زمن الإسكندر بن [فيلبس] (¬7) " الذي تؤرخ به ¬
النصارى اليوم، وكان بين المسيح وبين نبينا - صلى الله عليه وسلم - ستمائة سنة شمسية وستمائة وعشرين قمرية، وكان هذا الإسكندر قبل المسيح بنحو من أربعمائة سنة. وكانت الصابئة من النبط الذين بالعراق والجزيرة (¬1)؛ كالبطائح (¬2) وحران وغيرهما، من الصابئة المشركين من أئمة الفلاسفة، وإبراهيم الخليل بعث إليهم، وفي مولده قولان قيل: بالعراق، وقيل: بحرَّان، وهذا قول أهل الكتاب، وكذلك هو في التوراة التي عندهم (¬3)، ويقال إن قبر أبيه بسور حران وبها آثار الصابئة، كالهياكل التي للعلة الأولى والعقل والنفس والكواكب، وما زال بها أكابرهم كثابت بن قرة (¬4) وأمثاله، وقد ذكر ¬
عبد اللطيف بن يوسف (¬1) أن (¬2) الفارابي (¬3) كان قد تعلق بالفلسفة في بلاده فلما دخل حران وجد بها من الصابئة من أحكمها عليه، وابن سينا إنما حذق (¬4) فيها بما وجده من كتب الفارابي. فهؤلاء وأتباعهم حقيقة قولهم هو قول الصابئة المشركين الذين هم شر من مشركي العرب، وهؤلاء عند من لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب؛ لا تؤخذ منهم الجزية؛ إلا أن يدخلوا في دين أهل الكتاب، والناس لهم في تفسير الصابئة وأحكامهم اضطراب كثير ليس هذا موضعه (¬5)، وسبب ذلك أنهم ¬
الفلاسفة مذاهب شتى، وهم جهال بالإلهيات
أنواع مختلفة؛ فكل طائفة تصف النوع الذي عرفته، والفلاسفة لا يجمعهم مذهب ولا يجتمعون على شيء، بل هم أجناس يختلفون كثيراً، ولكن هذه الفلسفة التي يسلكها الفارابي وابن سينا وابن رشد (¬1) [والسهروردي المقتول] (¬2) ونحوه فلسفة [المشائين] (¬3)، وهي المنقولة عن أرسطو الذين يسمونه المعلم الأول؛ فإن له كتباً متعددة في المنطق وأجزائه، وفي الطبيعيات مثل كتاب: "سمع الكيان" (¬4) والذي يتكلم فيه على الأجسام كلاماً كلياً، وكتاب "السماء [والعالم] " (¬5)، وكتاب "الآثار العلوية" وغير ذلك (¬6)، وأما ¬
النقل عن أهل الكتاب، وأشهر النقلة
كلامه في [الإلهيات] (¬1) فقليل جداً وفيه خطأ كثير، وكانوا يسمون ذلك علم (ما بعد) (¬2) الطبيعة أو علم ما قبل الطبيعة، ويسمونه الفلسفة الأولى والحكمة العليا؛ لكونهم يتكلمون فيه على الأمور الكلية العامة؛ كالوجود وانقسامه إلى جوهر وعرض، وعلة ومعلول، وقديم وحادث، وواجب وممكن، وأما نفس معرفتهم بالله والملائكة وأنبيائه فبعيدة جداً، وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن ما دخل في هؤلاء من دين الحنفاء الذي بعث الله به (¬3) رسله فهو أقل مما دخل في الإسلام من دين اليهود والنصارى، ولهذا لم يكن على عهد الصحابة والتابعين من أدخل شيئاً من دين هؤلاء، بل كان يوجد من ينقل عن أهل الكتاب وعلمائهم مثل كعب (¬4) ووهب (¬5) ومالك بن دينار (¬6) ومحمد بن إسحاق (¬7)، ومثل ما ينقله عبد الله بن ¬
[عمرو] (¬1) عن الكتب التي أصابها يوم اليرموك، وانما استجاز لهذا؛ لما رواه البخاري في الصحيح عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بلّغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار" (¬2)، فلما رخص في الحديث عن بني إسرائيل استجاز ذلك عبد الله بن [عمرو] (¬3) وعبد الله بن عباس وغيرهما؛ لكن لا يأخذون من ذلك ديناً؛ لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة ثم يفسرونها بالعربية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" (¬4)، (وفي لفظ) (¬5): "فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" (¬6)، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا لأنا قد أمرنا أن نؤمن ¬
العبيديون ملاحدة خلطوا مذاهب الفلاسفة والمجوس بأقوال الرافضة
بما أنزل إليهم، وقد أخبر الله أنهم يكذبون ويحرفون، فما حدثوا به إذا لم نعلم صدقهم فيه ولا كذبهم؛ لم نكذبه لجواز أن يكون مما أنزل، ولم نصدقه لجواز أن يكون مما كذبوه، ولما كانت تلك الأحاديث الإسرائيليات قد كثرت صار بعض الناس يدخل في بعض خصائصهم، ولم يكن قد ظهر في المسلمين شيء من آثار اليونان والهند، إلى أن عربت بعض كتب هؤلاء وهؤلاء حدث في الناس من التشبه بأولئك ما كان أعظم من التشبه بأهل الكتاب. حتى آل الأمر إلى دولة العُبيديين؛ وهم ملاحدة في الباطن أخذوا من مذاهب الفلاسفة والمجوس ما خلطوا به أقوال الرافضة، فصار خيار ما يظهرونه من الإسلام دين الرافضة، وأما في الباطن فملاحدة شر من اليهود والنصارى؛ وإلا من لم يصل منهم إلى منتهى دعوتهم فإنه يبقى رافضياً داخل الإسلام، ولهذا قال فيهم العلماء: "ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض" (¬1)، وهم من أشد الناس تعظيماً للمشاهد ودعوة الكواكب ونحو ذلك من دين المشركين، وأبعد الناس عن تعظيم المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وآثارهم في القاهرة تدل على ذلك (¬2). ولقد كنت لما رأيت آثارهم أبين للناس أصل ذلك وحقيقة دينهم، وأنهم من أبرأ الناس في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناً ونسباً، وقد صنف العلماء فيهم وفي أصولهم كتباً نظرية وخبرية (¬3). ¬
غلاة الرافضة كالنصيرية والإسماعيلية أكفر من اليهود والنصارى
ومنهم الإسماعيلية من أصحاب دور الدعوة، وأما النصيرية (¬1) فهم من الغلاة الذين يعتقدون إلهية علي، والغلاة مع أنهم أكفر من اليهود والنصارى؛ فأولئك الإسماعيلية في الباطن أعظم كفراً وإلحاداً منهم، وهذا باب واسع ليس هذا موضعه (¬2). وإنما المقصود التنبيه على أنه [بسبب] (¬3) الخروج عن الشريعة في كثير ¬
تنقص غلاة المشركين للرسل عليهم السلام
من البدع الشركية أفضى الأمر بأقوام إلى أن خرجوا إلى دين المشركين؛ بل المشركين المعطلين، وكثير من الناس لا يعرف هذا؛ يحسب أن هذا هو دين الله لأجل لبس الحق بالباطل، وهذا مما نهى الله عنه وذم به أهل الكتاب؛ حيث قال: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة: 42]. الوجه الرابع: أن يقال: الغلاة المشركون هم في الحقيقة بخسوا الرسل ما يستحقونه من التعظيم؛ دون الأمة الوسط أهل التوحيد المتبعين لشريعة الرسل (¬1)، وبيان (¬2) ذلك بأمور: منها أن النصارى يقولون: إنهم يعظمون المسيح، وكذلك الغالية في علي والأئمة أو الشيوخ أو غيرهم، وهم في الحقيقة متنقصون (¬3) [لهم] (¬4)، فإن المسيح -عليه السلام- أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له؛ وأخبرهم أنه عبد الله، فهم إذا اتبعوه كان له من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء (¬5)، (كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص [من أجورهم] (¬6) شيئاً") (¬7)، [ويكونون] (¬8) سعداء أولياء لله من أهل الجنة (¬9)، وإذا غلوا فيه واتخذوه ربا انقطع العمل الصالح الذي كان يحصل بتوحيدهم وطاعتهم، وحصل لهم مع ذلك عذاب أليم، وإن كان هو سليماً من العذاب؛ لكن فَوَّتوه الأجر الذي كان يحصل له بتوحيدهم وطاعتهم. وأما أهل الاستقامة فهم إذا وحَّدوا الله وعبدوه كما شرعته لهم الرسل ¬
مقارنة بين موقف الموحدين والمشركين من الرسل عليهم السلام
وأطاعوهم صاروا أولياء لله مستيقنين لثوابه، وحصل للرسول بالذي دعاهم مثل أجورهم، وكان في هذا من التعظيم للرسل ما ليس في طريق الغلاة. الأمر الثاني: إن أهل التوحيد والسنة يدعون لهم دائماً فينتفعون بذلك الدعاء، وأهل الشرك والبدعة يكلفونهم حوائجهم، [وأين] (¬1) من يحصل بسعيه (¬2) منفعة لهم؟ إلى من يكلفهم ويؤذيهم بسؤاله؟ واعتبر هذا بحال الصديق الذي كان يعاون الرسول بماله ونفسه ولا يسأله شيئاً، أين منزلته من منزلة من يسأله ويكلفه ولا يعاونه؟. الأمر الثالث: إن أهل التوحيد والسنة يصدقونهم فيما أخبروا، ويطيعونهم فيما أمروا، ويحفظون ما قالوا؛ ويفهمونه ويعملون به؛ وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال [المبطلين] (¬3)؛ وتأويل الجاهلين؛ ويجاهدون من خالفهم؛ ويفعلون ذلك تقرباً إلى الله طلباً للجزاء منه لا منهم، وأهل الجهل والغلو لا يميزون بين ما أمروا به ونهوا عنه، ولا بين ما صح عنهم وما كُذِبَ عليهم، ولا يفهمون حقيقة مرادهم؛ ولا يتحرون طاعتهم ومتابعتهم، بل هم جهال بما أتوا به معظمون لأغراضهم؛ إما لينالوا (¬4) منهم منفعة، أو ليدفعوا بهم عن أنفسهم مضرة. فالسدنة الذين عند القبور ونحوهم غرضهم يأكلون أموال الناس بهم، وأتباعهم غرضهم تعظيم أنفسهم عند الناس وأخذ أموالهم لهم، والصادق المحض المتدين منهم غرضه (أنه إذا) (¬5) سألهم واستغاث بهم في دفع شدة أو طلب حاجة قضوها له، فأي الفريقين أشد تعظيماً أولئك أو هؤلاء؟. الأمر الرابع: أن أولئك الغلاة المشركين إذا حصل لأحدهم مطلوبه ولو من كافر لم يقبل على الرسول، بل يطلب حاجته من حيث ظن أنها تقضى؛ ¬
تعذيب الباطنية في قبورهم واستنتاج المؤلف لذلك
فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح؛ أو يكون فيه قبر أو منافق، وتارة يعلم أنه كافر ومنافق ويذهب إليه، كما يذهب قوم إلى الكنيسة، وإلى مواضع يقال لهم إنها (¬1) تقبل النذر، فهذا يقع فيه عامتهم. وأما الأول فيقع فيه خاصتهم، حتى إن بعض أصحابنا المباشرين لقضاء القضاة لما بلغه أني أنهى عن ذلك صار عنده من ذلك شبهة ووسواس؛ لما يعتقده من الحق فيما أذكر؛ ولما عنده من المعارضة لذلك، قال لبعض أصحابنا سرّاً: أنا جربت (¬2) إجابة الدعاء عند قبر بالقرافة، فقال له ذلك الرجل: فأنا ذاهب معك إليه ليعرف (قبر من هو) (¬3)؟ فذهبا إليه، فوجدا مكتوباً عليه عبد علي، فعرفوا أنه إما رافضي وإما إسماعيلي. وكان بالبلد جماعة كثيرون يظنون بالعبيديين (¬4) أنهم أولياء لله صالحون، فلما [ذكرت] (¬5) لهم أن هؤلاء كانوا [منافقين] (¬6) زنادقة وخيار من فيهم الرافضة، جعلوا يتعجبون، ويقولون: نحن نذهب بالفرس التي بها مغل إلى قبورهم فتُشفى عند قبورهم، فقلت لهم: هذا من أعظم الأدلة على كفرهم، وطلبت طائفة من سياس الخيل، فقلت: أنتم بالشام ومصر إذا أصاب الخيل المغل أين تذهبون [بها] (¬7)؛ فقالوا: في الشام يذهب بها إلى قبور اليهود والنصارى، وإذا كنا في أرض الشمال يذهب بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية كالعليقة والمنيقة (¬8) ونحوهما، وأما في مصر فيذهب بها إلى دير ¬
[هناك] (¬1) للنصارى، ونذهب بها إلى قبور هؤلاء الأشراف، وهم يظنون أن العبيديين شرفاء لما أظهروا أنهم من أهل البيت، فقلت: هل يذهبون بها إلى قبور صالحي المسلمين مثل قبر الليث بن سعد (¬2) والشافعي وابن القاسم (¬3) وغير هؤلاء؟ فقالوا: لا، فقلت لأولئك: اسمعوا، إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار والمنافقين، وبيّنت لهم سبب ذلك، قلت: لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم والبهائم تسمع أصواتهم، كما ثبت في ذلك في الحديث الصحيح (¬4)، فإذا سمعت ذلك فزعت، فبسبب الرعب الذي حصل لها تنحل بطونها فتروث؛ فإن الفزع يقتضي الإسهال، فيعجبون من ذلك، وهذا المعنى كثيراً ما كنت أذكره للناس، ولا (¬5) أعلم أن أحداً قاله، ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء (¬6). ¬
كذب كثير من المشاهد مثل رأس الحسين بالقاهرة
والمقصود هنا أن كثيراً من الناس يعظم قبر من يكون في الباطن كافراً ومنافقاً؛ ويكون هذا عنده والرسول (¬1) من جنس واحد؛ لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته إذا كان رجلاً صالحاً، كلا هذين عنده من جنس من يستغيث به، وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل يقال إنه قبر كافر كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان الذي يقال له (¬2): إنه قبر نوح، [فإن أهل] (¬3) المعرفة يقولون: إنه قبر بعض العمالقة (¬4). وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة (¬5)؛ وقبر أبيّ بن كعب الذي ¬
حضور الشياطين ومعاونتها للقبورية عند مشاهدهم
بدمشق (¬1)؛ اتفق العلماء على أنها كذب، ومنهم من قال: هما [قبران] (¬2) لنصرانيين، وكثير من المشاهد متنازع فيها وعندها شياطين تضل بسببها من تضل، ومنهم من يرى في المنام شخصاً يظن أنه المقبور ويكون ذلك شيطاناً تصور بصورته أو بغير صورته، كالشياطين الذين يكونون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين، وهذا كثير في زماننا وغيره، مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل التي بالبراني بديار مصر بإخميم (¬3) ¬
وغيرها، يرصدون التماثيل (¬1) [مدة] (¬2) لا يتطهرون طهر المسلمين ولا يصلّون صلاة المسلمين ولا يقرأون؛ حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة فيراها تتحرك فيضع فيها [شمعة] (¬3) أو غيرها، فيرى شيطاناً قد خرج له فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه، وقد يمكّنه من فعل الفاحشة به حتى يقضي بعض حوائجه. ومثل هؤلاء كثير في شيوخ الترك الكفار، [يسمونه] (¬4) البوى (¬5) وهو المخنث إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور؛ أرسلوا له من ينكحه؛ [وينصبون] (¬6) له حركات عالية في ليلة ظلماء؛ وقربوا له خبزاً وميتة؛ وغنوا غناء يناسبه، بشرط أن لا يكون عندهم من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله، ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في [الهواء] (¬7) ويرون الدف يطير في [الهواء] (¬8) ويضرب من مد يده إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني التي كانت تغنيها (¬9) آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب ذلك الطعام فيرونه وقد نُقل إلى بيت البوى (¬10)، وقد لا يغيب ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار، ويقضي بعض حوائجهم، ومثل هذا كثير جداً للمشركين. ¬
فصل [4]
فالذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام، وكثير من المشاهد كذب وكثير منها مشكوك فيه؛ وسبب ذلك أن معرفة المشاهد ليس (¬1) من الدين الذي تكفّل الله بحفظه للأمة لعدم حاجتهم إلى معرفة ذلك. والمقصود أن هؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يسووا بين الأنبياء وغير الأنبياء، بل بين الأنبياء والكفار، ويطلبون من هذا ما (¬2) يطلبون من هذا، فأي الفريقين أشد تعظيماً للأنبياء؟ هؤلاء أو من يوجب تعظيمهم واتباع شريعتهم، ويفرق بين الحق الذي جاؤوا به وبين غيرهم؛ ولا ينزل أحداً منزلتهم، ولا يشبه بهم من ليس منهم. فصل قال: (وهذا الرجل المبتدع يأتي (بالألفاظ التي) (¬3) هي عين التنقيص بسوء فهمه، ويحتج لها جهلاً أو عناداً بألفاظ التنزيه تمويهاً منه أو جهلاً، فقول أبي يزيد (¬4): استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق الغريق -إن صح تنزيهه (¬5) للباري- على أن غير هذه العبارة خير منها، وإن كنا نعلم أن المراد بها هو المراد بقول القائل: لا يستغاث إلا بالله، ولا يفرج الكربة إلا الله). الجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: المبتدع من شرع ديناً لم يأذن به الله، لا من أمر بما أمر الله به ونهى عما نهى الله عنه، ومن أعظم المبتدعين من جوّز أن (¬6) يستغاث بالمخلوق الحي والميت في كل ما يستغاث فيه بالله -عز وجل- بل من جوز أن يسأل الميت ويدعي على أي وجه كان، بل من حمل ألفاظ الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -[على أن] (¬7) المراد بها التوسل به، ¬
موافقة العلماء للمؤلف
وجعل توسل الصحابة هو توسلهم بذاته أو الإقسام به على الله -تعالى-؛ ولم يعلم أن المراد بها التوسل بشفاعته، ومن أعظم المبتدعين من جعل التوحيد كفراً والشرك إيماناً، وكفر من هم أحق بالإيمان من طائفته، ونفي الكفر عن طائفته الذين هم أحق بالكفر ممن كفروه. الثاني: أن يقال دعواه أن الألفاظ التي ذكرت [هي] (¬1) عين التنقيص، قد بُين أنه من أعظم الكذب، وأن التنقيص والشرك لما ذكره ألزم، وأن المدعي أن هذا تنقيص كذب (¬2) بإتفاق المسلمين، فإنه قد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن مثل هذا الكلام لا يحكم على صاحبه بالتنقيص [ولا بالكفر] (¬3) ولا بما هذا الكلام أحسن منه. الثالث: إن قول المجيب ليس (¬4) هو قوله وحده؛ بل [هو] (¬5) قول جميع أئمة الدين وعلماء المسلمين، فليس في علماء المسلمين من يقول: إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث الله فيه، ولا من يقول: إن الميت يستغاث به في كل ما يستغاث بالله فيه، بل قول القائل: إن الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله لا تطلب إلا منه، متفق عليه بين علماء المسلمين، وما علمت إلى ساعتي هذه أحداً من علماء المسلمين الذين يستحقون الإفتاء نازع في هذا، بل ثبت عندي عن عامة من بلغني كلامه من [العلماء] (¬6) الموافقة على هذا، وإنما عرف نزاع بعضهم في السؤال به، وأما الشيوخ الذين يسألون الميت فهؤلاء ليس فيهم أحد ممن يرجع المسلمون إلى فتياه، وإنما فعلوا نظيره، والفقيه قد يفعل شيئاً على ¬
فصل [5]
العادة، [وإذا] (¬1) قيل له: هذا من الدين لم يمكنه أن (¬2) يقول ذلك، ولهذا قال بعض السلف: "لا تنظر إلى عمل الفقيه ولكن سله يصدقك". فصل قال: (وأما قول هذا المبتدع لا يستغات بالرسول فإنه كفر، لأنه لفظ يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله -تعالى- في طلب الإغاثة، وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال الثابت له - صلى الله عليه وسلم -. أرأيت رجلين قال أحدهما: لا ضار ولا نافع إلا الله يشير إلى التوحيد، وقال الآخر: إن الرسول لا يضر ولا ينفع، وقال الأول: إن الله السميع العليم إشارة للحقائق التي حصرها الرب -سبحانه- في نفسه بهذا الكلام، وقال الآخر: إن الرسول لا يسمع ولا يعلم، أكان يشك مسلم في أن الأول موحد والثاني كافر منقص ولا ينفعه تأويله). والجواب من وجوه أحدها: أن (¬3) ما ذكرته افتراء، فإن أحداً لم يخص الرسول بهذا النفي لا خطاباً ولا كتاباً، ولا نفي كل ما يسمى استغاثة، فلا النفي عام ولا المنفى عنه مخصوص، وأنت [ادعيت] (¬4) هذا وهذا على المجيب؛ وكلاهما (¬5) كذب، وجواب السؤال ينطق بخلاف هذين، وقد بيّن فيه أن (¬6) [ما لا يقدر عليه إلا الله فلا] (¬7) يطلب من مخلوق لا الرسول ولا غيره، وحينئذٍ فهذا التفصيل أبين من النفي المطلق الذي قاله أبو يزيد وغيره من المسلمين، فإذا كان ذلك سائغاً فهذا أولى. ¬
تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر تعظيم له
الثاني: [أنه تقدم] (¬1) أن المخصص بالذكر إذا كان لتحقيق (¬2) العموم كان ذلك تعظيماً للمخصوص بالذكر، فإذا قيل: لا يعبد إلا الله لا الأنبياء ولا غيرهم، ولا يستغاث بمخلوق لا الأنبياء ولا غيرهم ونحو ذلك، كان هذا تعظيماً للرسول وتبييناً أنه لا أحد أرفع منه من الخلق، وخصائص الرب -عز وجل- منتفية (¬3) عنه وعن غيره بطريق الأولى، وهذا كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذاً من أهل (¬4) الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله"، وفي رواية: "إني أبرأ إلى كل خليل من خلته" (¬5) فبيّن أن خلة المخلوقين منتفية (¬6) عن كل أحد حتى عن الصديق وهو أحق بها لو كانت ممكنة، ولو خص بالذكر لفظاً في سياق يفهم منه العموم كان حسناً كقوله [تعالى] (¬7): {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا} (¬8) [آل عمران: 80]. وكذلك إذا كان سبب التخصيص حاجة المستمع إما لسؤاله عن ذلك؛ وإما لحاجته إليه، كقوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء: 172]، وكقوله (¬9): {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ} (¬10) [المائدة: 75]، فإن الحاجة داعية إلى ذكر المسيح لوقوع النزاع فيه. فلو تنازع اثنان هل يخص النبي بالحلف به دون سائر الأنبياء؟ فقال أحدهما: لا يحلف به، لم يكن هذا تنقيصاً؛ بل هذا هو قول الجمهور وهو الصواب، وكذلك إذا تنازع اثنان هل يخص بالاستغاثة به أو بالإقسام على الله ¬
الاستغاثة المطلقة لا تصح إلا بالله
به بعد موته؟ فقال أحدهما: لا يستغاث ولا يقسم به، فإن هذا ليس من خصائصه لكان من هذا الباب. الثالث: قوله عن أبي يزيد: غير هذه العبارة خير منها، قول باطل، فإن ما قال أبو يزيد -رحمة الله عليه- تلقاه الناس بالقبول، وقال (¬1) بعده أبو عبد الله القرشي قال: "استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون"، وهذا كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"، وقوله لطائفة من أصحابه: "لا تسألوا الناس شيئاً"، ومنه قوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8]، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في صفة السبعين ألفاً: "هم الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون"، فالاسترقاء طلب الرقية من المخلوق. وكأنه يقول: هذا فيه جعل المخلوقين كلهم مثل الغريق؛ ويدخل في ذلك الأنبياء وغيرهم، وفي الناس من يمكنه إغاثة غيره، فيقال: أبو يزيد أراد -والله أعلم- الاستغاثة المطلقة التي لا تصح إلا بالله، وهو أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله، كإزالة المرض والانتصار على العدو وهداية القلب، وهذا القدر يمكن المسؤول أن يتسبب فيه؛ أن يدعو الله له ويجيب الله دعاءه، كما أنه [قد] (¬2) يمكن بعض الغرقى أن يمسك غيره ويخلصه إذا كان فيه قوة على ذلك، وإن كان أراد كل ما يسمى استغاثة بحيث لا يُطلب من [المخلوق شيء] (¬3)، فهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يسترقون"، وقوله: "إذا سألت فاسأل الله". وحينئذٍ فالمسؤول كائن من كان لا يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله وقدرته، فهو أحوج إلى معونة [الله] (¬4) من الغريق إلى من يخلصه، فإن الغريق غايته أن يموت؛ وهذا إن لم يغثه الله لم يفعل شيئاً قط بل هلك، فافتقار الخلق إلى ¬
المنفي عن المخلوق هي الاستغاثة الكاملة
الخالق [أعظم] (¬1) من افتقار الغريق إلى المنقذ، والمسجون إلى من يرسله، ولهذا قيل: استغاثة المخلوق بالمخلوق أبلغ من هذا، كالاستغاثة بالمعدوم. الرابع: قوله: وإن كنا نعلم أن المراد بها، المراد بقول القائل: لا يستغاث إلا بالله، ولا يفرج الكربة إلا الله، فيقال: هذا يقتضي تصويب هذا النافي، وعلى قولك لا يكون هذا النفي صواباً؛ لأنك قلت: إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث فيه بالله، وحينئذٍ فهذا الإثبات يناقض ذلك السلب العام، وقد تقدم (أن دعواه أن المثبت) (¬2) هو عين المنفي في كلام الله ورسوله خطأ، بل ما نفاه الرب عن غيره لم يثبته له، والمنفي عن المخلوق ما اختص الرب به، وكذلك قول أبي يزيد وغيره. وأما على ما ادعاه فالاستغاثة بالمخلوق عامة في كل شيء؛ فلا يكون شيء من الأشياء [لا] (¬3) يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيه، فلا تنفى الاستغاثة عن (¬4) غير الله، إذا كانت ثابته للمخلوق في كل شيء؛ إلا أن يقال المنفي هو الاستغاثة الكاملة أو التي يستقل بها المغيث (¬5)، كما يقال: لا موجود إلا الله -تعالى-، فيقال: وهذه العبارة لا موجود إلا الله، ليست عبارة منقولة عن السلف والأئمة (¬6). والنافي إذا أراد بالنفي الكمال مع القرينة جاز ذلك، كما يقال: لا عالم إلا فلان، ولا حاكم إلا فلان، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} إلى قوله (¬7): {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]. وقد بيّنا في غير هذا الموضع (¬8) أن الله ورسوله لم [ينفيا] (¬9) اسماً من ¬
مسمًّى شرعي إلا لانتفاء بعض ما يجب فيه؛ لا [ينتفى] (¬1) (لانتفاء) (¬2) الكمال المتسحب، بل [و] (¬3) لا بانتفاء (¬4) الكمال الواجب، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]، ونظائرها في القرآن، وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بأم القرآن" (¬5)، وأما قوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" (¬6)، وقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا [في] (¬7) المسجد" (¬8)، ¬
وقوله: "من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له" (¬1)، فهذه الأحاديث قد اختلف في صحتها، واختلف في نفي الكمال بها في مذهب أحمد وغيره، فإن قيل: إنها صحيحة وجب العمل بموجبها، وكذلك قوله: "لا صيام لمن لم يبيِّت الصيام من الليل" (¬2)، قد اختلف في صحته، فليس شي هذا الباب حديث صحيح، اتفق العلماء على أن المراد به نفي الكمال المستحب. وقول القائل: لا يستغاث إلا بالله [ولا يسأل إلا الله] (¬3) ونحو ذلك فليس هو نفياً لمسمًّى شرعي؛ بل لغوي وهو نفيٌ معناه النهي، كقوله [لا يستعان] (¬4) إلا بالله، ولا [يسأل] (¬5) إلا الله ونحو ذلك، وهذا النهي عام في كل شيء؛ لكن النهي في أكثره نهي تحريم؛ وبعضه نهي تنزيه، [والأولى] (¬6) للإنسان أن لا يسأل أحداً إلا الله، كما وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة من أصحابه بذلك، وهو نهي تحريم فيما لا يقدر عليه إلا الله وغير ذلك، وهو أيضاً نهي تحريم إذا طلب من المخلوق تمام مطلوبه، فإن مطلوبه لا يقدر عليه إلا الله، ¬
رد دعوى البكري في تكفير من نفى الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
وإنما يقدر المخلوق على بعض أسباب مخلوقة، وبهذا وجب على العبد أن لا يتوكل إلا على الله، فإنه لا يقدر غير الله على حصول مطلوبه، إذ مطلوبه وإن كان له أسباب فالمخلوق المعين؛ إنما يقدر عليس بعض أسبابه، ثم ذلك المخلوق لا يفعل شيئاً إلا بمشيئة الله وقدرته. الخامس: قوله: (وأما قول هذا المبتدع لا يستغاث بالرسول فإنه كفر .. إلى آخره). فيقال له أولاً: ليس هذا قوله، فإنه لا ينفي عنه أن يستغاث به فيما يليق بمنصبه، بل قد صرح بجواز ذلك أيضاً، فإنه لا يخصُّ الرسول لا بالذكر ولا [بالنفي] (¬1)، بل إنما قيل هذا على سبيل العموم؛ وهو أنه (¬2) لا يستغاث بميت أصلاً لا الرسول ولا غيره، ولا يستغاث بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق. ويقال ثانياً: دعواك أن هذا التخصيص كفر، أحق بأن يكون كفراً؛ بل يقال لك: لا نسلم أنه باطل فضلاً عن أن يكون كفراً، وهذا عند [التخصيص] (¬3) إذا قال: لا يستغاث به بعد موته ونحو ذلك، بمنزلة أن يقال: لا يُسأل ولا يدعى بعد موته، أو لا يصلى على الرسول عند الذبح (¬4)، أو لا تجب الصلاة على الرسول في الصلاة (¬5) ونحو ذلك من العبارات النافية ¬
الفهم الفاسد للمتكلم والمصنف لا يضره
[لبعض الأمور] (¬1) عن الرسول، وقد يكون اللفظ مطلقاً لتقييده بسؤال السائل، مثل أن يقال: هل يصلى عليه عند الذبح؟ فيقال: لا يصلى عليه، ويقال: هل يستغاث به بعد موته وفي (¬2) مغيبه؟ فيقال: لا يستغاث به. لكن إن كان المستمع يفهم من هذه العبارة أنه لا يسأل في حياته شيئاً ولا يستشفع به، بمعنى أنه ليس أهلاً لذلك، لم يجز إطلاق هذه العبارة إذا عنى بها المتكلم معنى صحيحاً وهو يعلم أن المستمع يفهم منها معنًى فاسداً؛ لم يكن له أن يطلقها لما فيه من التلبيس، إذ المقصود من الكلام البيان دون التلبيس، إلا حيث يجوز التعريض خاصة، وليس هذا موضع تعريض، ولو قدر أن مطلقاً أطلقها وكنى بها معنى صحيحاً، والمستمع فهم منها الكفر؛ لم يكفر المتكلم بذلك، لا سيما إذا لم يعلم أن المستمع يفهم المعنى الفاسد. وكلام الله ورسوله وكلام العلماء مملوء بما يفهم الناس منه معنًى فاسداً، فكان العيب في فهم الفاهم لا في كلام المتكلم الذي يخاطب جنس الناس، كالمصنف لكتاب أو الخطب (¬3) على المنبر ونحو هؤلاء، فإن هؤلاء لا يكلفون أن يأتوا بعبارة لا يفهم منها مستمع ما معنًى ناقصاً، فإن ذلك لا ¬
يكون إلا إذا علم مقدار فهم كل من يسمع كلامه ويقرأ كتابه، وهذا ليس في طاقة بشر، والله -تعالى- ما أرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبيّن لهم، فما (¬1) يمكن بيان الرسول إلا على طريقة اللغة المعروفة، وإن وقع خطأ في فهم بعض الناس، والله -تعالى- أنزل كتابه بلسان الرب، وهو لا بد أن ينزله بلسان من الألسنة، وأكمل الألسنة لسان العرب، وأكمل البلاغة بلاغة القرآن باتفاق أهل العلم بذلك. وقد غلط في كثير من فهم القرآن، من لا يحصيه إلا الله، حتى في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم طائفة من قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] أن المراد به الخيوط التي هي من جنس الحبال (¬2)، وفهم بعضهم من قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] أن المراد دخولها والتعذيب فيها (¬3)، وفهم بعضهم من قوله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8] أنه قد يناقش العبد الحساب وينجو (¬4)، ومثل هذا كثير. ¬
النهي عن الاستغاثة الممنوعة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقتضي نقصا به - صلى الله عليه وسلم -
السادس: قوله: (لأنه (¬1) لفظ يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة، وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال). فيقال له: نفي الاستغاثة به في شيء مخصوص أو وقت مخصوص، لا يفهم أحد منها نفي التوسل به ولا نفي كونه سبباً، وإنما يفهم منها نفي الطلب منه لذلك الشيء أو في ذلك الحال، وما ذكرته فيما تقدم من أن المتوسل به مستغيث به، قول لم يقله أحد قبلك لا من العرب ولا من العجم، وليس لأحد أن يفسر اللفظ بمعنى لا يعرفه أحد. السابع: (إن قوله: يقتضي سلب صلاحيته الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله)، قول باطل، فإن قول القائل: لا يستغاث به نفي بكون هذا مشروعاً، ولا سيما إذا كان في سياق الإفتاء وبيان الأحكام الشرعية، والصيغة صيغة خبر، فإنه لم يرد نفي إمكان شرع، فضلاً عن أن يقتضي نفي الصلاحية، فإذا قيل: الرسول لا يسجد له، لم يقتضِ أن ذلك غير ممكن أن يشرعه الله، فقد أمر الملائكة بالسجود لآدم، وقد سجد ليوسف [أبواه] (¬2) وإخوته، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من آدم ويوسف؛ فكيف يفهم من هذا اللفظ أنه لا يصلح لما يصلح له آدم ويوسف -عليهم السلام-. وكذلك إذا قيل: النبي لا يورث؛ لم يكن هذا نفياً: لإمكان أن يبيح الله أن يورث، أو نفياً لاستحقاق شيئاً يمكن أن يورث عنه. وكذلك إذا قيل: كان الصحابة قد نهوا أن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء؛ لم يكن في هذا نفي لما يسأل عنه؛ ولا نفي لإمكان أن يشرعه الله ورسوله، كما أن (¬3) قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، لا يقتضي نقصاً (¬4) [بالمسئول] (¬5)، وقوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 108]، وقوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ ¬
جهل البكري وظلمه
الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، فَنَهى الأمم أن تسأل الأنبياء هذه المسائل، (لا يقال إنه نفي لصلاحية الرسل أن يكونوا وسيلة في حصول المسؤول) (¬1)، [وذلك] (¬2) نفي لصفة الكمال؛ إذ ليس فيه إلا النهي عن السؤال، ليس فيه نفي لصلاحية (¬3) المسؤول أن يسأل؛ ولا نفي قدرته على حصول المسؤول، ولا شيء من هذا، بل قد يكون النهي عن السؤال لصلحة المنهي (¬4)، ولما في سؤاله من المفسدة. وقوله: لا يستغاث به هو مثل قوله: لا يسأل، هو نهي عن سؤاله وعن الاستغاثة [به] (¬5)، لما في ذلك من مصلحة المنهي ومن مصلحة الرسول ومن توحيد الرب، وأيضاً فقول القائل: لا يصلح أن يستغاث به، أو لا يصلح أن يكون وسيلة إلى الله في حصول الإغاثة، قد يريد: لا يصلح شرعاً بمعنى أن هذا لم يشرع، وقد يريد لا يصلح أي أن هذا غير ممكن في حقه، فلو قدر أن نفي الاستغاثة نفي للصلاحية (¬6) فالصلاحية لفظ مجمل. وبالجملة فكلام هذا الرجل كثير منه نزاع لفظي، مع كونه لفظياً فهو يعبر عن المعنى بلفظ لم يعبر به غيره، وينكر على غيره أن يعبر عن المعنى بالعبارة المستعملة فيه، ففيه جهل وظلم، جهل، بدلالة اللفظ في استعماله، واستعمال اللفظ فيما لم يستعمل فيه قط، وينكر على من يستعمله في معناه، ويريد أن يلزمهم بالقبيح الذي [ارتكبه] (¬7)، ويحمل كلامهم على المعنى الباطل؛ لظنه أن اللفظ يحتمله مع أنهم [قد] (¬8) صرحوا بنقيض ذلك المعنى بعبارة صريحة، فيدع (¬9) محكم (¬10) كلامهم وتمسك بمتشابهه الذي هو متشابه في ظنه؛ مبتغياً للفتنة بذلك، وليس مقصوده معرفة مراد المتكلم وتأويله، بل ¬
إثبات المؤلف لشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتوسل المشروع
غرضه ما يقوله الناس عنه من إرادة العلو في الأرض والفساد بالظلم. يبيّن هذا الجواب الثامن: وهو أنه قد ذكر المجيب في أول جوابه فقال: قد ثبت بالسنة المستفيضة بل المتواترة واتفاق الأمة؛ أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو الشافع المشفع، وأنه سيد ولد آدم، وأنه يشفع في الخلائق (¬1) يوم القيامة، وأن الناس يستشفعون به فيطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم فيشفع لهم، وفيه أيضاً تقرير ما كان أصحابه يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به، وفي الجواب: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم (¬2)، فإذا كانت هذه الألفاظ الصريحة فيه، فلو قدر أن فيه إطلاق نفي الاستغاثة، هل كان يقال إن فيه ما يقتضى نفى صلاحيته أن يكون وسيلة إلى الله في حصول الاستغاثة؟ وقد بيّن فيه (¬3) تقرير ما كان الصحابة [يفعلونه] (¬4) من التوسل به والاستشفاع به، وقرر فيه أن الناس يستشفعون به ويتوسلون بشفاعته في الدنيا والآخرة، وأنه يستغاث به بمعنى أنه يطلب منه كل ما هو اللائق بمنصبه، فإذا كان قد بيّن ثبوت هذه الأمور؛ هل يمكن أن ينفي معها صلاحيته لبعضها؟! ومعلوم أن حصول [الاستشفاع والتوسل به] (¬5) أبلغ من الصلاحية له، فإذا كانت هذه الأمور قد أُثبتت فكيف يُنفى معها الصلاحية لذلك؟ والألفاظ بإثباتها صريحة، واللفظ الذي توهم فيه نفي الصلاحية؛ غايته أن يكون محتملاً لذلك، ومعلوم أن مفسر كلام المتكلم يقضي على [مجمله] (¬6)، وصريحه يقدم على [كنايته] (¬7)، ومتى صدر لفظ صريح في معنى ولفظ مجمل نقيض ذلك المعنى و (¬8) غير نقيضه؛ لم يحمل ¬
ما دليل القبورية على جعل الطالب من المخلوق طالبا من الله
على نقيضه جزماً حتى يترتب عليه الكفر؛ إلا من فرط الجهل والظلم. التاسع: أنه لو فرض أن معنى اللفظ ما ذكرته، فإذا كان [مطلق] (¬1) اللفظ لا يعرف معناه، إلا ما أراده (¬2) بنفسه لم يكن كافراً بإجماع المسلمين، وإن اعتقد أن ما نفاه هو مدلول اللفظ، وما نفاه منتفٍ عنه إجماعاً أو في قول سائغ؛ لم يكن هذا كافراً عند أحد من المسلمين. العاشر: قوله: (يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة) كلام مجمل، فيقال لك: ما تعني به؟ أتريد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والرجل الصالح وغيرهما لا يكون بعد موته وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة منه؟ (أو أنه لا يكون حياً ولا ميتاً وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة منه؟) (¬3) وقوله: لا يكون وسيلة، تريد به أن لا يتوسل به أي بذاته أو بدعائه وشفاعته أو غير ذلك؟ فإن أردت أن الميت نبياً كان أو غير نبي لا يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة، بمعنى أن يطلب منه [أن يكون] (¬4) وسيلة في طلب الغوث منه، قيل لك: هذا صحيح، ولم قلت إن الأمر بالعكس، ومن أين لك في الشرع أن يطلب من الميت وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة منه؟! بل وكذلك إن أردت أن الاستغاثة بالحي والميت [تكون] (¬5) وسيلة إلى الله في طلب الغوث منه، ومن أين لك أن الطالب من المخلوق يكون طالباً من الله -عز وجل-؟! ومن الذي قال: إن السائل بمخلوق [و] (¬6) الداعي له والمستغيث به نبياً كان المدعو أو غير نبي؛ يكون المخلوق المستغاث وسيلة إلى الله في [الطلب] (¬7) منه؟!!. وهذا أمر مخالف للعقل واللغة والشرع، فمن الذي جعل الطلب من هذا وسيلة في الطلب من هذا في كل شيء وعلى كل حال؟! بل من طلب من ¬
حال القبورية في الاستغاثة بشيوخهم
الرسول أو غيره فإنما يطلب مقدوره، فيطلب منه الدعاء والشفاعة؛ ويكون دعاؤه وشفاعته وسيلة في حصول المطلوب، [لا أن] (¬1) ذلك يكون طلباً من الله، وأنت قد جعلت كل ما يطلب من [غير] (¬2) الله وسيلة من وسائل الله، فما هذه الوسائل التي يكون المتوسل بها طالباً من الله، فإن الطلب من الله معروف معلوم، فيقال: دعا الله وسأله واستعانه واستغاث به وطلب منه ورغب إليه واستجاره واستعاذه ونحو ذلك، وليس هنا (¬3) مخلوق يكون الاستغاثة به وسيلة في هذا الطلب، وكأن [هذا] (¬4) يجعل نفس الطلب من الصالح طلباً من الله. ويقول: إن الصالح لمنزلته عند الله من طلب منه شيئاً فإن الله تعالى يعطيه ذلك، كما إذا طلب من الله، وهذا حال كثير من (¬5) الجاهلين الضالين يستغيث أحدهم بشيخه في كل ما يهمه، فإذا خاف أحداً أو طلب حاجة استغاث بالشيخ [أو] (¬6) الغائب والميت، فيقول: يا شيخ فلان أنا في حسبك يا سيدي فلان ونحو ذلك من العبارات، ومنهم من يقول: هذا وقتك يا شيخ فلان، أو يقول: إن لم تحضر يا شيخ فلان وإلا فُعِلَ بنا وصُنِعَ، وقد يقول: إن كنت رجلاً صالحاً صاحب حال فأرني حالك، ويقول: إن كان لك جاه عند الله فهذا وقت جاهك، وقد يستغيث أحدهم بعدة مشايخ، فيقول: يا سيدي فلان وفلان وفلان، ثم من هؤلاء من يتصور له صورة إنسان يظنها الشيخ أو ملكاً تصور على صورته وسارّه وكالمه [أو قضى بعض حاجاته] (¬7) ونحو ذلك، ومنهم من [يتصور] (¬8) له ذلك في صورة طائر، ومنهم من يتصور ¬
له في صورة حيوان آخر، وتكون تلك الشياطين تتصور بتلك الصور لأولئك المشركين الذين دعوا من دون الله آلهة أخرى وطلبوا منهم ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله، كما كان المشركون يطلبون من الأوثان ما يطلب من الله، وكما يطلب عباد الكواكب منها ما لا يطلب من الله، وكذلك عباد الأنبياء والملائكة، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 56 - 57]، وقال تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 80]، وهؤلاء لا (¬1) يتصور أن يقضى لهم جميع مطالبهم ولا أكثرها، كما أن ما تخبر به الشياطين من الأمور الغائبة لا يصدقون فيه كله ولا في أكثره، بل يصدقون في واحدة ويكذبون في أضعافها، ويقضون لهم حاجة واحدة ويمنعونهم أضعافها، ويكون فيما أخبروا به وأعانوا عليه إفساد حال الرجال في الدين والدنيا، وهذه الأمور لبسطها موضع [آخر] (¬2). والمقصود أن كثيراً من [الضالين] (¬3) الجاهلين يستغيثون بمن يحسنون به الظن من الأموات والغائبين في كل ما يستغاث الله فيه، ولا يتصور أن هؤلاء يسألونهم مطالبهم كلها ولا أكثرها، بل غاية ما يطلبونه منهم من جنس تحصيل المنافع ودفع المضار و (¬4) لا يحصل، بل قد يُحصّل بعض المطالب، كما يحصل لعباد الأصنام والكواكب وغيرهم من المشركين، ويكون ما يخبرون به ويفعلونه شبهة للمشركين، كما أن ما يخبر به الكاهن ونحوه من الأخبار فإنه يصدق في واحدة ويكذب في شيء كثير، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو آتوا بالأمر على وجهه لكان، ولكن يخلطون بالكلمة الواحدة مائة كذبة" (¬5). ¬
قول البكري وأمثاله من القبورية هو من جنس قول النصارى
فهذا القول الذي يقوله هذا هو مطابق لأحوال هؤلاء المشركين الضالين، لكن هذا ليس يقوله مسلم ولا عاقل يتصور ما يقول، بل هو من جنس قول النصارى: (دعاء المسيح) (¬1) دعاء لله، لكن أولئك يقولون باعتبار الحلول والاتحاد، وأما بدون هذا (فهو كلام) (¬2) غير معقول، فإن الله -تعالى- أمر أن يدعى هو ويسأل هو، ولم يجعل دعاء أحد من المخلوقين دعاء له بل قد نهى الله عن دعائه، ولو كان هذا حقًّا لكان من دعا الملائكة والأنبياء دعا الله (¬3) ولا يكون مشركاً؛ والله قد جعلهم مشركين، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} [الإسراء: 56 - 57]، فإن هؤلاء الضالين جعلوا الصالحين مع الله -سبحانه وتعالى- كالوكيل مع موكله، فإذا طُلب من الوكيل الدعاء كانت المطالبة للموكل في المعنى؛ لكن هذا ليس من أقوال الموحدين، بل هو من أعظم شرك الملحدين. والرسول لم يضمن للخلق أن يرزقهم ويحاسبهم ولا يجيب دعاءهم، بل هذا كله أخبر أنه لله وحده، قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)} [الرعد: 40]، وقال: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام: 50]، وقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} [التوبة: 59]، فبيّن تعالى أن التحسب بالله وحده والرغبة إلى الله وحده، وأما الإيتاء فلله والرسول لأن الحلال ما حلله الرسول والحرام ما حرمه الرسول؛ كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ¬
زعم القبورية أن شيوخهم يدبرون العالم بالخلق والرزق
فالله -تعالى- قد جعل الرسول مبلِّغاً لكلامه؛ الذي هو أمره ونهيه ووعده ووعيده. وهؤلاء يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والرزق وقضاء الحاجات وكشف الكربات (¬1)، وهذا ليس من دين المسلمين، بل النصارى تقول هذا في المسيح وحده بشبهة الاتحاد والحلول، ولهذا لم يقولوا ذلك في إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل، مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها موسى أعظم، ولو كان الحلول ممكناً لم يكن للمسيح خاصية توجب اختصاصه بذلك؛ بل موسى أحق بذلك، ولهذا خاطبت من خاطبته من علماء النصارى وكنت أتنزل معهم إلى أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية، فلم [يجدوا] (¬2) فرقاً، بل أُبيّن لهم أن ما جاء به موسى من الآيات أعظم؛ فإن كان هذا حجة في دعوى الإلهية فهو أحق، وأما ولادته من غير أب فهو يدل على قدرة الخالق لا على (¬3) أن المخلوق أفضل من غيره (¬4). وإن إراد بقوله: (يقتضي سلب صلاحية الرسول لأن يكون وسيلة إلى الله في طلب الإغاثة) أنه لا يتوسل بذاته فلا يقسم به على الله، ولا يقال أسألك برسولك أو أسألك بجاه رسولك. فيقال: أولاً: نفي الاستغاثة بهم لا يفهم أحد منها نفي السؤال به. ويقال: ثانياً: وهب (¬5) أنه أراد هذا؛ فما الدليل على جواز السؤال لله بذوات (¬6) المخلوقين أو مطلقاً وبعد موتهم؟! ولمن قال هذا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ والصحابة إنما كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته، ولهذا ¬
الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وطاعته هو الوسيلة إلى سعادة الدنيا والآخرة
توسلوا بعده بالعباس ولو كان التوسل بذاته ممكناً بعد الموت لم يعدلوا إلى العباس، والأعمى إنما توجه بدعائه وشفاعته، وكذلك الصحابة في الاستغاثة، وكذلك الناس يوم القيامة يستغيثون به ليشفع لهم إلى الله، فهم يتوسلون بشفاعته، [أما] (¬1) بمجرد (¬2) الذات بعد الممات فلا دليل عليه ولا قاله أحد من السلف، بل المنقول عنهم يناقص ذلك، وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز؛ وإن نقل عن بعضهم جوازه، فقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. ويقال: ثالثاً: وهب أن قائل ذلك أخطأ في هذا النفي؛ لكن ليس كل مخطئ يكفر؛ لا سيما إذا قاله متأولاً باجتهاد أو تقليد. وإن أراد بقوله: لا يكون وسيلة أي لا يكون الإيمان به ومحبته وطاعته وموالاته، واتباع سنته والمجاهدة على دينه ونحو ذلك وسيلة إلى الله؛ فهذا لم ينفه أحد، ونفي الاستغاثة به لا ينفي هذه الوسائل، وهذه وسائل في حصول الثواب والقرب من الله وسعادة الدنيا والآخرة، لا في مجرد الاستغاثة، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو الوسيلة إلى سعادة الدنيا والآخرة بهذا الاعتبار، ومن نفى كونه وسيلة إلى الله بهذا الاعتبار فهو كافر حقًّا، فإنه نفى رسالته التي هي أصل الإيمان. الحادي عشر: قوله: (وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال الثابتة له - صلى الله عليه وسلم -). فيقال له: لا نسلم أن هذا نفي لشيء من صفات الكمال؛ بل ولا نفي لشيء موجود، بل هو نفي لشيء منتف في نفس الأمر. ويقال له: ثانياً: هذا الوصف عندك ثابت لآحاد الناس؛ بل (¬3) قولك يقتضي أنه ثابت لكل مخلوق، وما ثبت لآحاد الناس لم يكن من خصائص الرسل التي تعد من كمالاتهم، فلا يقول عاقل: إن ما شاركه (¬4) فيه عامة ¬
ليس كل من نفى وصفا من أوصاف الكمال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكفر وأمثلة ذلك
الناس يكون من كمالات لرسل (¬1) التي يكون نفيها قدحاً في رسالته. ويقال: ثالثاً: لو قدر أنه وصف كمال؛ فليس كل من نفى وصفاً من أوصاف الكمال يكون كافراً، إذا كان متأولاً في ذلك، دع من نفى وصفاً من صفات كمال الرسول على سبيل التأويل. وقد قال طوائف من السلف [والخلف] (¬2): إنه يقعده معه على العرش وأنكر ذلك آخرون (¬3)، (وقال قوم: إنه كتب بيده عام الحديبية خرقاً للعادة ونفى ذلك آخرون (¬4)، وقال قوم: إنه كان يجوع ويربط الحجر على بطنه مع ¬
قدرته على حصول ما يأكل، ونفى ذلك آخرون (¬1)، وقال ابن مسعود والجمهور: إنه خاطب الجن ورآهم، ونفى ذلك ابن عباس وآخرون (¬2)، وقال ابن عباس وطائفة: إنه رأى ربه، ونفى ذلك آخرون من الصحابة وغيرهم (¬3)، ¬
بل نفس المعراج قال الجمهور: إنه كان ببدنه؛ وآخرون من السلف والخلف قالوا إنه كان بروحه فقط (¬1)، وقال طائفة من العلماء: إنه [كان] (¬2) يملك الفيء ونفى ذلك آخرون (¬3)، وقال أكبر المنتسبين إلى السنة: إنه والأنبياء أفضل من الملائكة، وآخرون قالوا: الملائكة أو بعضهم أفضل من الأنبياء (¬4)، وقال جمهور المسلمين: إنه أفضل الأنبياء وتوقف في ذلك بعض الحنفية ¬
وغيرهم (¬1)، وادعى بعض الناس أنه كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل به جبرائيل (¬2) -عليه السلام-[عليه] (¬3) ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم (¬4)، وقال قوم من هذا النمط إن جميع الأنبياء تلقوا العلم بالله منه وأنه كان موجوداً قبلهم ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم (¬5)، وقال بعضهم إنه كان لا يسهو في الصلاة وإنما كان يتعمد (¬6) ذلك، ورد ذلك جمهور المسلمين وعلماؤهم، ¬
الكمال المطلق الذي لا غاية فوقه لله تبارك وتعالى
وقال بعض الغلاة: إنه كان يعلم علم الله ويقدر قدرته وكفر المسلمون من قال ذلك، فضلاً عن تكفير النافي (¬1)، وتنازع المسلمون في جواز الصغائر على الأنبياء وجمهورهم يجوِّزون ذلك (¬2)، وهذا باب واسع. فما زال المسلمون يتنازعون في شيء من إثبات صفات الكمال، ولا يقول المثبت للنافي إنك كفرت، فإن الكمال الثابت ليس محدوداً يعلمه الناس كلهم، وما من كمال إلا وفوقه كمال آخر، والكمال المطلق الذي لا غاية فوقه لله -تبارك وتعالى-، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كمل من الرجال كثير [... إلى آخر الحديث] (¬3) " (¬4)، وهؤلاء الكاملون بعضهم أكمل من بعض، فإذا نُفي عن بعضهم [نوع] (¬5) من الكمال لم يلزم أن ينفى عنه الكمال، لو كان كذلك لكان من قال إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أفضل من يونس بن متى متنقصاً (¬6) بيونس فيكون كافراً؛ لأنه سلبه هذا الكمال. وأما قوله: (أرأيت رجلين قال أحدهما: لا ضار ولا نافع إلا الله يشير إلى التوحيد، وقال الآخر: إن الرسول لا يضر ولا ينفع، وقال الأول: ¬
إن الله هو السميع العليم إشارة إلى الحقائق التي [حصرها] (¬1) الرب -سبحانه- في نفسه بهذا الكمال، وقال الآخر: إن الرسول لا يسمع ولا يعلم (¬2)، أكان يشك مسلم في أن الأول موحد والثاني كافر متنقص [و] (¬3) لا ينفعه تأويله؟ فإن سوء العبارة في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفر وإن صح المقصود، كما دل عليه كلام الإمام وغيره، ألا ترى إلزام الله -عز وجل- للصحابة بتحسين الخطاب معه وإيراده بكيفية الأدب إلى آخره ...). فيقال: أما المثال الأول فهو وإن كان أقرب إلى المطابقة فجوابه من وجوه: أحدها: أنه إذا كان الكلام في سياق العموم بيان (¬4) أنه أفضل الخلق مثل أن يقول: لا يضر ولا ينفع إلا الله لا الرسول ولا من دونه؛ أو يقال: إذا كان الرسول الذي هو أفضل الخلق لا يضر ولا ينفع فكيف من دونه ونحو ذلك، فهذا مثل قوله: لا يضر ولا ينفع إلا الله، وأما إذا كان المراد أن الرسول لا يضر ولا ينفع وغيره يضر وينفع فهذا هو التنقيص، وهو نظير أن يقال: الرسول لا يستغاث (به، بل يستغاث) (¬5) بغيره فهذا تنقيص بلا ريب، فإنه يتضمن تنقيصه عمن الرسول أفضل منه، وهذا تنقيص عن درجته بلا ريب. ويقال ثانياً: لو قال لا يضر ولا ينفع من الذي قال إنه يكفر بذلك؛ إذا عنى بذلك معنى قوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]، فإذا كان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً وقد أمره الله أن يقول ذلك، فهو أحرى أن لا (¬6) يملك لغيره، وقد قال: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21]، فأخبر أنه لا يملك من الله لا ضرهم ولا رشدهم، و [قد] (¬7) قال الله -تعالى-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، وثبت ¬
نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه الضر والنفع
عنه في الصحيحين أنه قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً". فهذا تخصيص له بنفي ذلك وهو من أصدق الرسل، ومن صدّق الرسول فيما قاله فهو مؤمن ليس، بكافر، فإذا قال القائل: الرسول لا يغني عن بنته ولا عمه ولا عمته من الله شيئاً فكيف من دونهم؟؛ كان هذا من أحسن الكلام وأصدقه. ويقال ثالثاً: قول القائل [عن] (¬1) مخلوق: إنه لا يضر ولا ينفع؛ تارة مُريد به نفي الاستقلال بذلك على سبيل توحيد الربوبية، بمعنى أن ما يجري على يديه من الضر والنفع فالله هو خالقه؛ وهو الذي يجعله فاعلاً بمشيئته، أو يريد أنه لا ينفع ولا يضر إلا بمشيئة الله وقدرته وإرادته (¬2)، كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] فهذا صحيح، فليس في المخلوقات بهذا الاعتبار شيء ينفع [ويضر] (¬3)، إذ ليس في المخلوقات ما يستقل (¬4) بإحداث ضرر غيره ونفعه؛ ولا يفعل شيء إلا بإذن الله، كما ليس فيها من يعطي ويمنع بهذا الاعتبار (¬5). كما [أن] (¬6) من أسمائه -تعالى- المعطي المانع الضار النافع، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دبر الصلاة، وفي غير هذا الموطن: "اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (¬7)، وكان يقول في ¬
من زعم أنه ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء مستجاب ولا شفاعة مقبولة أن طاعته تنفع ومعصيته لا تضر فهذا كفر صريح
رقيته: "أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافى، لا شفاء إلا شفاك"، وفي رواية: "لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقماً" (¬1). وتارة يريد به أن الضر والنفع المعتاد مثل الصحة والمرض والغنى والفقر والأمن والخوف واليسر والعسر؛ لا يفعله رسول ولا غيره؛ لا في حياته ولا بعد موته، فهذا صحيح، بخلاف ما يظنه المشركون الغلاة من [النصارى] (¬2) وأشباههم، الذين يظنون أن الأنبياء والصالحين بعد موتهم أو في حياتهم ينزلون المطر ويدفعون العدو وينبتون النبات ويشفون المرضى ونحو ذلك من الحوادث. وتارة يرى أنه ليس له دعاء مستجاب ولا شفاعة مقبولة وأن طاعته لا تنفع ومعصيته لا تضر ونحو ذلك، فهذا كفر صريح من أراده حُكم بردته وكفره؛ لكن اللفظ المجمل إذا صدر ممن علم إيمانه لم يحمل على الكفر بلا قرينة ولا دلالة، فكيف إذا كانت القرينة تصرفه إلى المعنى الصحيح. وأما المثل الثاني فلا يشبه ما نحن فيه، فإن قوله تعالى: {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] إثبات لهذه (¬3) الصفة، ومن الناس من يقول: ليس في الآية حصر، (ومن قال: فيها حصر) (¬4)، قال: المحصور كمال الصفة وليس ذلك إلا لله، فإذا قال: إن الرسول لا يسمع ولا يعلم لم يفهم من هذا اللفظ نفي ما يختص به الرب؛ ولا عموم النفي عن الرسول وغيره، ومعلوم أن الملائكة والإنس والجن والبهائم تسمع وتعلم، فإن الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬5) [المائدة: 4]، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الكلب المعلم (¬6)، ومن أطلق ¬
على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يسمع ولا يعلم، فظاهر هذا اللفظ نفي ذلك عنه وهو كذب ظاهر، ثم قد يكون في سياق نفي علمه بالدين وسمعه لما أوحى إليه وهو كفر صريح، وقد يكون في سياق أنه لا يسمع ولا يعلم إلا ما أسمعه الله إياه وأعلمه إياه، فإنه (¬1) [ليس] (¬2)، من تلقاء نفسه ليس له [علم بشيء] (¬3)، بل الله هو الذي أسمعه وأعلمه، كما قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]، وكما قال {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وكما قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} [يوسف: 3] وكما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} [الضحى: 7]، فهذا المعنى ليس بكفر بل هو صحيح. وقد يكون في سياق أن الله هو المختص بكمال السمع والعلم، وأن غيره لا يبلغ مبلغه في ذلك، فهذا أيضاً صحيح، وأما (¬4) إطلاق أنه لا يسمع ولا يعلم فهو كذب وكفر، بخلاف إطلاق أنه لا ينفع ولا يضر، ولهذا يقول المسلم: لا ينفعني ولا يضرني إلا الله، ولا يقول: لا يسمع ولا يعلم إلا الله؛ بل يقول: لا يعلم ما في نفسي إلا الله، أو لا يسمع كلام العباد كلهم إلا الله، أو لا يسمع سر القول إلا الله -تعالى- ونحو ذلك. ¬
فصل [6]
فصل قال: (فإن سوء العبارة في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفر وإن صح المقصود، كما دل كلام الإمام وغيره، ألا ترى إلزام الله للصحابة -رضوان الله عليهم- بتحسين الخطاب معه وإيراده بكيفية الأدب، حيث قال لهم: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]، وقال -عز وجل-: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} [الحجرات: 4]، وقد نبه في الأول على حبط العمل بسوء الأدب، ولا يحبط العمل كله إلا بالكفر بإجماع أهل السنة، وجعل الاستخفاف به كفراً، كما قال -عز وجل-: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]، ولا أعلم خلافاً بين النقلة أن الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب كلامهم، لم يكونوا تعرضوا لله بعبارتهم (¬1)، وإنما تنقصوا رسوله فجعل استخفافهم برسوله استهزاء به سبحانه [و] (¬2) بآياته وكفى بذلك تكفيراً). والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: لا نسلم أن ما فيه النزاع سوء عبارة، بل هو من أحسن العبارات كما تقدم بيانه. الثاني: أنه إن كان سوء العبارة في حق الرسول كفر؛ ففي حق الله أعظم كفراً، ومن قال: إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث فيه بالخالق؛ كانت هذه العبارة [أنه يطلب] (¬3) من المخلوق كل ما (¬4) يُطلبُ من الخالق، وهذا يُشعر أنه جعل المخلوق نداً للخالق؛ وما أفهم الشرك كان من أسوأ العبارات (¬5)؛ فيجب أن يكون كفراً؛ يلزم هذا القائل، وقد ¬
الإساءة الحقيقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - من البكري وأمثاله
قال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما شاء الله وشئت"، قال (¬1): "أجعلتني لله نداً!! بل ما شاء الله وحده"، وقال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد" (¬2)، يقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك". الثالث: أن سوء العبارة ما حصل به سوء (المعبر عنه) (¬3)، من جعل الرسول يطلب منه الناس ما يطلبونه من الله، فقد آذى الرسول وأساء في حقه، وسلط عليه العامة على اختلاف أغراضهم، هذا يطلب منه إنزال المطر، وهذا يطلب منه غفران الذنوب، وهذا يطلب منه النصر على الأعداء، وهذا يطلب من أن يتزوج، وهذا يطلب منه الولد، وهذا يطلب منه المعيشة، وهذا يطلب منه الملك، وهذا يطلب منه الولاية، (وهذا يطلب منه داراً) (¬4)، وهذا يطلب منه جارية حسناء، وهذا يطلب منه (¬5) قضاء دينه، وهذا يطلب منه [سكباجاً] (¬6)، وهذا يشتكي إليه ظهور البدع، وهذا يشتكي إليه ما يظن أنه من البدع. فنزّلوا المخلوق منزلة الإله، وطلبوا منه جلب المنافع ودفع المضار ما لا يقدر عليه إلا الله -تبارك وتعالى-، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من لا ¬
بيان التوحيد من أجل الأمور وأدلة ذلك
يسألنا أحب إلينا ممن سألنا"، وكانوا يسألونه ما يقدر عليه؛ فكيف إذا طلبوا منه ما لا يقدر عليه مخلوق؟! وفي الجملة فمطالب الناس لا تنضبط في خيرها وشرها وقلَّتها وكثرتها، فمن سلط الناس على الرسول يطلبون هذا كله منه فهو من أعظم الناس إساءة إليه، وإن كان لا يقصد ذلك لكن عبارته أفهمته؛ فهي من [أسوأ] (¬1) العبارات. الرابع: إن الكلام إذا كان في سياق توحيد الرب ونفي خصائصه عما سواه؛ لم يجز أن يقال هذا سوء عبارة في حق من دون الله من الأنبياء والملائكة، فإن المقام أجلّ من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد توحيده، والنبي (¬2) - صلى الله عليه وسلم - كان من أعظم الناس تقريراً لما يقال [على هذا] (¬3) الوجه، وإن كان نفسه المسلوب، وهذا كما في الصحيحين من حديث الإفك لما نزلت براءة عائشة من السماء وأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: "والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا إياكما، لقد سمعتم فلا أنكرتم ولا غيرتم، ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي" (¬4)، وفي رواية قالت: "نحمد الله لا نحمد أحداً"، وفي رواية: "نحمد الله لا نحمدك" (¬5)، فأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبوها على مثل هذا الكلام، الذي نفت فيه ¬
أن يحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يحمد أحد إلا الله، لأن الله -تعالى- هو الذي أنزل براءتها بغير فعل أحد، ولم يقل أحد هذا سوء أدب عليه، وسوء الأدب عليه كفر. قال البيهقي: ثنا (¬1) أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت علي بن [حمشاذ العدل] (¬2)، سمعت أحمد بن مسلمة (¬3) يقول: سمعت محمد بن مسلم [بن واره] (¬4) يقول: سمعت حبان (¬5) صاحب ابن المبارك يقول: قلت لعبد الله بن لمبارك: قول عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت براءتها من السماء: (بحمد الله لا بحمدك) (¬6) إني لأستعظم هذا القول؟ فقال عبد الله: "ولت الحمد أهله" (¬7). وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، حدثنا محمد بن مصعب، ثنا (¬8) سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بأسير، فقال: اللهم إني (¬9) أتوب إليك ولا أتوب إلي محمد، ¬
تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه تجريد التوحيد
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عرف الحق لأهله" (¬1)، [و] (¬2) رواه أبو عبيد في كتاب الأموال عن عبد الرحمن بن مهدي عن سلام. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلم أصحابه تجريد التوحيد (¬3)، فقال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد"، وقال له رجل: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندّاً، بل (¬4) ما شاء الله وحده"، وما أحدثه الله -عز وجل- بغير فعل منه أضافه إلى الله وحده، كما في الصحيحين لما تاب الله على الثلاثة الذين خلفوا وآذن النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس بتوبتهم، فجاء كعب إليه فقال: "يا كعب أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك"، فقال: يا رسول الله أمن عند الله أم من عندك؟ قال: "بل من عند الله" (¬5)، ومعلوم أنه لو كان من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان من عند الله، بمعنى أن الله خلقه وأحدثه ¬
توعبد الله من جعل القرآن قول البشر
بتوسط فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجميع الحادثات من عنده بهذا الاعتبار، ولكن المقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصدر منه فعل في هذه التوبة، إلا أنه بلغ (¬1) رسالة الله -تعالى- بالتوبة، كما قال في مثل ذلك: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} [يونس: 15]. وما يتكلم به الإنسان من تلقاء نفسه وإن كان الله خالقه؛ هو من عند الله باعتبار خلقه وتقديره، فليس هذا المعنى هو ذاك، فإنه هناك مبلِّغ لكلام مرسله والله يجعله مبلغاً له لا يجعله قائلاً من تلقاء نفسه، ولهذا توعد الله من جعل القرآن قول البشر، بقوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26]، وقد قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)} [الحاقة: 40 - 42]، فجعله قول رسول من البشر، كما جعله قول رسول من الملائكة؛ في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)} 19 - 21]، [لأن] (¬2) لفظ الرسول يستلزم المرسل ويدل على أنه مبلغ له عن مرسله لا يتكلم به من تلقاء نفسه، بخلاف من جعله قولاً لمخلوق بشر (¬3) أو ملك أو جني، أو جعل شيئاً منه قوله، فإن هذا هو الذي توعده الله -عز وجل-. وأيما أبلغ قول عائشة -رضي الله عنها-: "لا أحمد الرسول ولا أحمد إلا الله"، وقول الأسير: "أتوب إلى الله لا إلى محمد"، وقول القائل: لا يستغاث بالرسول بل بالله، أو لا يدعى الرسول وإنما يدعى الله ونحو ذلك؟!! وهو - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ براءتها وكان يحبها ويحب براءتها، وقد خطب الناس قبل ذلك وقال: "من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا ¬
هل علم النبي - صلى الله عليه وسلم - براءة عائشة قبل نزول الوحي
خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً" (¬1)، لكن لما لم يجزم ببراءتها، ولم يلطف بها اللطف الذي كان يلطف بها قبل ذلك، لما حصل عنده من الريب، بل كان إذا دخل يقول: "كيف تيكم"؟، ولما خطب قال: "يا عائشة إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفر [ي] (¬2) الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب؛ تاب الله عليه" (¬3)، قالت: "أنتم ما برأتموني إنما برأني الله فهو الذي يستحق أن أحمده" (¬4). وقد تنازع الناس (¬5) في النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان يعلم براءة عائشة -رضي الله عنها- قبل نزول الوحي؟ (¬6)، مع اتفاقهم على أنه لم يجزم بالريبة، فمن الناس قال: يعلم ¬
براءتها وكذلك علي؛ ولكن لخوض الناس فيها ورميها بالإفك توقف، قالوا: وذلك أن نساء الأنبياء ليس فيهن بغيّ، كما قال طائفة من السلف: "ما بغت امرأة نبي قط" (¬1)، لأن في ذلك من العار بالأنبياء ما يجب نفيه، وقال آخرون: بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حصل له نوع شك وترجحت عندة براءتها؛ ولما نزل الوحي حصل اليقين، قالوا: والدليل على ذلك أنه استشار في طلاقها [عليًّا] (¬2) وأسامة، فأسامة قال: "أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيراً"، وقال علي: "لا يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك"، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال (¬3): "ما علمت على عائشة أو ما رأيت؟ "فقالت: ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجن (¬4) فتأكله" (¬5). ¬
فسؤاله - صلى الله عليه وسلم - لبريرة واستشارته لعلي وأسامة دليل على حصول الشك فيها، وهو لما خطب ما جزمِ بالبراءة فقال فيما قال: "والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي"، ولو كان جازماً بالبراءة لقال: إنهم كذبوا على أهلي وافتروا، وإن أهلي لبريئة مما قيل ونحو ذلك، ونفي العلم ليس علماً بالعدم، لكن هذه العبارة تصلح لدفع المتكلم ونهيه وذمه على قبول القول، كما قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)} [النور: 15]. والعدل الذي عُرفت عدالته إذا (¬1) لم يعلم فيه من له به خبرة ما ظنه (¬2) إلا الخير كان عدلاً عنده، فإذا جرحه جارح لم يعلم صدقه بل ترجح عنده كذبه لم يقدح في عدالته ولم يوجب الجزم ببراءته، قال صاحب هذا القول ولولا نزول براءتها من السماء لدام الشك في أمرها، وإن كان لم يثبت شيء، ففرق بين عدم الثبوت مع حد القاذف وبين البراءة المنزلة من السماء من الله -عز وجل-، ولهذا ذكر غير واحد من العلماء: اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله منه فقد كفر (¬3)؛ لأنه مكذب للقرآن، وأصحاب هذا القول يقولون: النبي - صلى الله عليه وسلم - تردد هل يطلقها أم لا؟ لما حصل الشك؛ لكون امرأة النبي لا تكون بغيًّا، وكان عزمه أن يطلقها -والعياذ بالله- لو كان ما ذكر صحيحاً؛ لكن تأنّى وانتظر أمر الله؛ حتى بيّن الله له الحق، ومن قال هذا يقول: المحفوظات هن اللواتي يبقين عند النبي ولا يطلقهن، وقد يقال (بل كل) (¬4) من تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬
النزاع في دخول من طلقها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مات قبل الدخول بها في المؤمنين
[محفوظة] (¬1) وإن طلقها. وقد تنازع الناس فيمن تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلقها أو مات عنها قبل الدخول هل تكون من أمهات المؤمنين؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره (¬2)، قيل إنها تكون أمًّا؛ فإن حرمة الأمومة ثبتت بالعقد كما ثبت في أمهات الناس، وقيل: لا تكون من أمهات المؤمنين والصحيح الفرق بين من طلقها ومن مات عنها، فمن مات عنها فهي من أمهات المؤمنين ومن أزواجه في الآخرة، بخلاف من طلقها فإنها تباح لغيره أن يتزوجها، ولولا هذا لم يحصل لهن بالتخيير (فائدة، وقد قال تعالى في آية التخيير) (¬3): {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ¬
عدم إمكانية تحديد سوء العبارة
وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]، وقد تزوج عكرمة بن أبي جهل امرأة كان طلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقره الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- على ذلك (¬1). الخامس: أن يقال ما حد سوء العبارة التي تكون كفراً؟ فإن هذا كلام مجمل لم يحصل (¬2) قائله مراده به، فإن أراد أن كل صفة هي ثابتة في نفس الرسول له (¬3) إذا نفاها [عنه] (¬4) إنسان باجتهاده يكون مسيئاً في العبارة؛ لزم أن كل من أثبت له صفة يكفر من نفاها، فالقائلون بالعصمة يكفرون نفاتها وإن كانوا جمهور الأمة، كذلك من أوجب له حقاً كالصلاة عليه في الصلاة يكفر من نفى هذا الحق وإن كانوا جمهور الأمة. السادس: أن يقال لا نسلم أن المقصود [إذا] (¬5) صح يكفر المعبر بعبارة يقال إنها سيئة، وهذا قول لم يقله أحد من أئمة المسلمين (¬6)، بل ¬
إجماع الأمةءمملى عدم تكفير المخطئ
هم مجمعون على نقيضه، وأن المسلم إذا عني معني صحيحاً في حق الله أو الرسول ولم يكن خبيراً بدلالة الألفاظ؛ (فأطلق لفظاً) (¬1) يظنه دالاً على ذلك المعنى وكان دالاً على غيره، أنه لا يكفر، ومن كفر مثل هذا كان أحق بالكفر؛ فإنه مخالف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد قال تعالى: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104]، وهذه العبارة كانت مما يقصد به اليهود إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ والمسلمون لم يقصدوا ذلك فنهاهم الله عنها ولم يكفرهم بها، والمطلق لمثل هذا علي الله لا يكفر، فكيف علي الرسول!!. وقوله: (إن كلام الإمام (¬2) أو غيره دل علي [أن] (¬3) ذلك ممنوع)، فإن إمام الحرمين أجل من أن يقصد مثل هذا، وإن سُلم أنه قال ذلك؛ ولا ينفع هذا المحتج تسليم ذلك له، فالكلام مع من قال هذا لو كان مجتهداً؛ دع إذا كان القائل ممن ليس له وجه في مذهبه، ولا يجوز لأحد أن يقلده ولا يفتي بقوله فيما هو دون هذه المسألة، فكيف بمثل (¬4) هذه المسألة المتعلقة بالتكفير والدماء (¬5)، وجهل مثل هذا المفتي بالشرع وأدلته [يوقعه] (¬6) فيما لم يقله أحد من علماء المسلمين، ولهذا يقع في فتاويه من العجائب ما لا يقوله أحد، فإنه يحب أن يفتي بمجرد رأيه ونظره مع قلة علمه لمسالك الأحكام ومدارك الحلال والحرام وأقوال أئمة الإسلام. وأما قوله: (أترى (¬7) إلزام الله للصحابة بتحسين الخطاب معه وإيراده بكيفية الأدب حيث قال لهم: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، ¬
الذين رفعوا أصواتهم فوقى صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكفروا
وقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]). فيقال له: هذه الآيات كلها حجة عليك، فإن الذين رفعوا أصواتهم فوق صوته نهوا عن ذلك وحرم ذلك عليهم، فكان ذلك سوء أدب ولم يكفروا بإجماع المسلمين، بل كانوا معذورين فيما فعلوا قبل النهي، فمن أطلق عبارة لها معنى صحيح ولم يعلم (¬1) أنها مكروهة كيف يكفر!! وهذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر كما ثبت ذلك في الصحيح (¬2)، ومن كفرهما فهو أحق بالكفر. وقد ثبت في الصحيح أن ثابت بن قيس بن شماس -وكان يرفع صوته- خاف لما نزلت هذه الآية أن يكون من أهل النار، فبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة (¬3)، وهو أحد المشهود لهم بالجنة كما شهد بها للعشرة وغيرهم، وكذلك دعاؤه باسمه لم يقل أحد من المسلمين: إنه كان كفراً ممن دعاه، وكذلك الذين نادوه من وراء الحجرات كانوا من جفاة الأعراب وقالوا: يا محمد أخرج إلينا فسموه باسمه، وإنما وصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون لم يقل إنهم مرتدون. وأما قوله: (فقد نبه في الأول على حبط العمل بسوء الأدب، ولا يحبط العمل كله إلا بالكفر بإجماع أهل السنة). فيقال: بل الآية دلت على نقيض هذا فإنه قال: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ ¬
لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، أي خشية أن تحبط أعمالكم، فدلت علي أن العمل لم يحبط بما تقدم من سوء الأدب؛ ولكن يخاف إذا رفعوا أصواتهم أن يجرهم ذلك إلى كفر يحبط العمل وهم لا يشعرون، فالمحبط ما يخاف حصوله لا ما وقع منهم، وهذا كما يقال المعاصي بريد الكفر، فإن رفع الصوت عليه والجهر له كجهر بعضكم لبعض قد يفضي بصاحبه إلي الاستعلاء عليه ونحو ذلك مما هو كفر. ثم يقال: ما نحن فيه ليس من هذا الباب، فإن الرافع قد فعل ما يعلم أنه مذموم في حق الرسول، فإن رفع الإنسان صوته علي غيره يعلم كل أحد أنه قلة احترام له، وليس أنه كمن تكلم بعبارة لا يعلم بها بأساً؛ قصد بها معنًى صحيحاً، ألا ترى أن الصحابة لما كانوا يقولون راعنا؛ وهذه الكلمة قد يقصد بها معنًى فاسداً (¬1)، وهم لا [يقصدون] (¬2) ذلك لكن كان ذريعة لغيرهم نهوا (¬3) عنها، ولم يقل: إنكم كفرتم، ولا قيل فيها: أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون؛ بل فرق الله -تعالى- بين قولهم راعنا وبين رفع الصوت عليه، وسوء العبارة مع صحة القصد من باب قولهم: راعنا، وهذه الآية حجة علي بطلان ما فهمه من كلام الإمام وغيره. ومن الحكايات [المعروفة] (¬4) عن الشافعي أن ربيع (¬5) قال له في مرضه: يا أبا عبد الله قوى الله ضعفك، فقال: يا أبا محمد لو قوي ضعفي لهلكت، فقال له الربيع: لم أقصد إلا خيراً، فقال: لو شتمتني صريحاً لعلمت أنك لم تقصد إلا الخير، فقال الربيع: كيف أقول؟ قال: قل: برأ الله ضعفك، فإن الشافعي نظر إلى حقيقة اللفظ وهو نفس الضعف، والربيع قصد ¬
فصل [7]
أن يسمي [الضعيف] (¬1) ضعفاً كما يسمى العادل عدلاً، ثم [لما] (¬2) علم الشافعي بحسن قصده أوجب أن يقول: لو سببتني صريحاً -أي صريحاً في اللغة- لعلمت أنك لم تقصد إلا خيراً (¬3)، فقدم عليه علمه بحسن قصده ولم يجعل سوء العبارة منقصاً، وقد يسبق اللسان بغير ما قصد القلب، كما يقول الداعي من الفرح: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" (¬4)؛ ولم يؤاخذه الله. فصل وأما قوله: (وجعل الاستخفاف به كفراً كما قال الله -عز وجل- {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66]، ولا أعلم خلافاً بين النقلة أن الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب كلامهم و (¬5) لم يكونوا تعرضوا لله بعبارتهم؛ وإنما تنقصوا رسوله، فجعل استخفافهم برسوله استهزاء به سبحانه وبآياته وكفى بذلك [كفراً] (¬6)، ثم ذكر ما نقله من الكتاب الذي صنفته المسمى: "بالصارم المسلول على شاتم الرسول"). فيقال: لا ريب أن الاستخفاف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كفر، والاحتجاج بهذه الآية يدل على أن الاستهزاء بالله كفر؛ وبآيات الله كفر، وبرسوله كفر، من جهة أن الاستهزاء كفر وحده بالضرورة، فلم يكن ذكر الاستهزاء بآياته وبرسوله [شرطاً] (¬7) [في ذلك] (¬8)، فعلم أن الاستهزاء بالرسول أيضاً كفر وإلا لم يكن في ذكره فائدة، ¬
القبورية أولى بالدخول في الأستهزاء بالله وآياته ورسوله
وكذلك الاستهزاء بالآيات، وأيضاً فإن الاستهزاء بهذه الأمور متلازم، فإن من استهزأ بآيات الله التي جاء بها الرسول فهو مستهزئ بالرسول ضرورة، ومن استهزأ بالرسول فهو مستهزئ برسالته حقيقة، ومن استهزأ بآيات الله ورسوله فهو مستهزئ به (¬1)، ومن استهزأ بالله فإنه مستهزئ بآياته ورسوله بطريق الأولي، وأما الذين نزلت فيهم هذه الآية فقد [نزلت في المنافقين في غزوة تبوك] (¬2). لكن هؤلاء الضالون أولى بالدخول في الاستهزاء بالله وبآياته ورسوله من منازعيهم، فإن كانت الآية تتناول المتأولين من أهل القبلة كانوا أحق بالدخول، وإن لم تتناول المتأولين كان منازعوهم أحق بالخروج منها لو كانوا مخطئين، وأما [مع] (¬3) كونهم مصيبين فلا وجه لتناول الآية لهم، وذلك أن هؤلاء الضالون مستخفون بتوحيد الله، يعظمون دعاء غيره من الأموات (¬4)، وإذا أمروا بالتوحيد ونهوا عن الشرك استخفوا به، كما أخبر تعالى عن المشركين بقوله {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)} [الفرقان: 41 - 42]، فاستهزءوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك، وقال تعالى عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} [الصافات: 35، 36] قال (¬5) تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} [الصافات: 37]، وقال تعالى عن المشركين: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} [ص: 4 - 7]، وقالت عاد لهود -عليه السلام-: {يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ ¬
المشركون يسفهون الأنبياء وأتباعهم لأجل التوحيد
آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 53 - 56]. وما زال المشركون يسوؤون (¬1) الأنبياء (¬2) ويصفونهم بالسفاهة والضلال والجنون إذا دعوهم إلى التوحيد؛ لما في أنفسهم من تعظيم الشرك، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (¬3) (62)} [الأعراف: 59 - 62]، (وقال كذلك) (¬4): {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (¬5) (71)} [الأعراف: 65 - 71]. فأعظم ما سفهوه لأجله وأنكروه هو التوحيد، وهكذا تجد من فيه شبه من هؤلاء من بعض الوجوه إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله وإخلاص الدين له؛ وأن لا يعبد الإنسان إلا الله ولا يتوكل إلا عليه؛ استهزأ بذلك لما عنده من الشرك، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ ¬
الفرق بين الحب في الله والحب مع الله
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] فمن أحب مخلوقاً مثل ما يحب الخالق فهو مشرك. ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله، فالأول من تمام محبة الله وتوحيده، والثاني شرك، فالأول يكون الله هو المحبوب له بذاته، ويحب ما يحبه الرب -تعالى- تبعاً لمحبته، فيحب رسوله وكتابه وعباده المؤمنين، كما في الصحيحين عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في (¬1) الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار" (¬2)، وأما الحب مع الله فهو الذي يحب محبوباً في قلبه لذاته لا لأجل الله، كحب المشركين أندادهم. وهؤلاء الذين اتخذوا القبور أوثاناً تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد الله وعبادته، ويعظمون ما اتخذوه من دون الله شفعاء حتي إن طوائف منهم يستخفون بحج البيت وبمن [يحج] (¬3) البيت، ويرون أن زيارة أئمتهم وشيوخهم أفضل من حج البيت، وهذا موجود في الشيعة وفي المنتسبين إلي السنة، وآخرون يستخفون بالمساجد وبالصلوات الخمس فيها، ويرون أن دعاء شيخهم أفضل من هذا، وهذا موجود في الشيعة المنتسبين إلي يونس القيسني (¬4) ¬
حتى ينشدون (¬1): تعالوا نخرب الجامع ... ونجعل فيه خماره ونكسر المنبر ... ونجعل منه طنباره ونخرق المصحف ... ونجعل منه زماره وننتف لحية القاضي ... ونجعل منه أوتاره (¬2) ويحلف أحدهم اليمين الغموس كاذباً؛ ولا يجترئ أن يحلف بشيخه اليمين الغموس كاذباً، ومنهم من يقول: كل رزق لا يرزقه إياه شيخه لا يريده، ومنهم من يذبح الشاة ويقول باسم سيدي، ومنهم من يقول إن شيخه أفضل من الأنبياء والمرسلين، ومنهم من يعتقد فيه الإلهية كما يعتقده النصارى في المسيح، وإذا ذكروا شيخهم (¬3) عظموه وادعوا فيه الإلهية، وأنشدوا على لسانه: موسى على الطور لما خرَّ لي ناجا ... وصاحب الترب ماجيتُه حتى جا ولهم أيضاً: وأنا صرخت في العرش حتى ضج ... وأنا حملت على علي حتى هج وأنا البحار السبعة من هيبتي ترتج (¬4) ويقولون: نحن غلمان الملك، ويسمون المسجد اصطبل البطالين، ويقرأون القرآن: "وما أرسلناك إلا رحمة للمدمنين"، وألوان من هذا الجنس ¬
الذي فيه استهزاء بالله وآياته ورسوله، مع تعظيم شيخهم وغلوهم فيه (¬1)، وكذلك النصيرية والإسماعيلية ونحوهم وكثير من طوائف متعددة، [يرى] (¬2) أحدهم أن استغاثته بالشيخ الميت إما عند قبره وإما عند قبر غيره أنفع له من أن يدعو الله في المسجد عند السحر، ويستهزؤون بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد، ومن هؤلاء من يرى أن زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الحج إلى الكعبة، وأن دعاء النبي والاستغاثة به أفضل من الاستغاثة بالله ودعائه. وكثير من هؤلاء يخربون المساجد ويعمرون المشاهد، فتجد المسجد الذي بُني للصلوات الخمس معطلاً مخرباً ليس له كسوة إلا من الناس؛ وكأنه خان من الخانات، والمشهد الذي بني على الميت فعليه الستور؛ وزينة الذهب والفضة والرخام، والنذور تغدوا وتروح إليه، فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وبآياته ورسوله [وتعظيمهم] (¬3) للشرك!!. فإنهم اعتقدوا أن دعاء الميت الذي بني له المشهد والاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله والاستغاثة به في البيت الذي بُني لله -عز وجل-، ففضلوا البيت الذي بُني (¬4) لدعاء المخلوق على البيت الذي بُني لدعاء الخالق، وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف كان وقف الشرك أعظم عندهم مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)} [الأنعام: 136]، كما يجعلون لله زرعاً وماشية ولآلهتهم زرعاً وماشية؛ فإذا أصيب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه؛ ¬
تعمير القبورية للمشاهد وتعطيل المساجد
وقالوا (¬1): الله غني وآلهتنا فقيرة (¬2)، فيفضلون ما يجعل لغير الله على ما يجعل لله، وهكذا (¬3) الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم (مما تبذل) (¬4) عندهم للمساجد ولعمارة المساجد وللجهاد في سبيل الله. وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه يبكي عنده ويخضع ويدعو ويتضرع، ويحصل له من الرقة والتواضع والعبودية وحضور القلب، ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس والجمعة وقيام الليل وقراءة القرآن، فهل هذا (إلا من) (¬5) حال المشركين المبتدعين لا الموحدين المخلصين المتبعين لكتاب الله ورسوله!! ومثل هذا إذا سمع أحدهم سماع (¬6) الأبيات يحصل له من الخضوع والخشوع والبكاء ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله، فيخشع عند سماع المبتدعين المشركين ولا يخشع عند سماع المخلصين المتقين، بل إذا سمعوا آيات الله استثقلوا (¬7) بها وكرهوها واستهزؤوا بها وبمن يقرؤها، مما يحصل لهم به أعظم نصيب من قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)} [التوبة: 65]. وإذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية كأنهم صم وعمي، واذا سمعوا الأبيات حضرت قلوبهم وسكنت ألسنتهم وسكنت حركاتهم حتى لا يشرب العطشان منهم الماء (¬8). ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم فأذَّن المؤذن قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه، ومنهم من يقول: هذا في شغله وهذا في شغله، ومنهم من يقول: كنا في الحضرة فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا على الباب. وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ الضلال؟ فقلت: صدق كان في حضرة الشيطان فصار على باب الله، فإن البدع والضلالة فيها ¬
خضوعهم عندا القبور وحضور قلوبهم، وغفلتهم في المساجد
من حضور الشيطان ما قد حصل في غير هذا الموضع، والذين يجعلون دعاء الموتى من الأنبياء والأئمة والشيوخ أفضل من دعائهم الله أنول متعددة: منهم من يقدم [دعاءهم] (¬1)، ومنهم من يحكي أنواعاً من الحكايات: حكاية أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه فاستغاث بشيخه فأغاثه، وحكاية أن بعض المأسورين في بلاد العدو دعا الله فلم يخرجه، فدعا بعض المشايخ الموتى فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وحكاية أن بعض الشيوخ قال لمريده: إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل بي، وآخر قال: قبر فلان الترياق المجرب، فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية الشركية على أدعية المخلصين لله مضاهاة لسائر المشركين، وهؤلاء تتمثل لكثير منهم صورة شيخه الذي يدعوه فيظنه إياه أو ملكاً على صورته، وإنما هو شيطان أغواه كما قد بسط في موضعه (¬2). ومنهم من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمّه، فيتعسر أحدهم فيقول: يا فلان، وقد قال الله -تعالى- للموحدين {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]. ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب؛ ويحلف بشيخه وإمامه فيصدق ولا يكذب، فيكون شيخه عنده أعظم في صدره من الله، وقد قال شعيب: {يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 92]، وقد قال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 13]، وقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية [البقرة: 165]. فإذا كان دعاء الموتى مثل الأنبياء والصالحين عندهم يتضمن مثل هذا الاستهزاء بالله وآياته ورسوله فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بالله وآياته ¬
أدلة القبورية ذقل غير مصدق عن قائل غير معصوم
ورسوله!! من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له كما أمرت رسله، ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء به، وأيضاً فإن هؤلاء الموحدين من أعظم الناس إيجاباً لرعاية جانب الرسول، تصديقاً له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، والتمييز بين ما روي عنه من الصحيح والضعيف والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه عملاً بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]. وأما أولئك الضُلال أشباه المشركين النصارى فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقوله، إما أن يكون كذباً عليه وإما أن يكون غلطاً منه، إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير (¬1) معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول حرفوا الكلم عن مواضعه وتمسكوا بمتشابهه وتركوا محكمه، كما (¬2) النصارى. وكما فعل هذا الضال أخذ لفظ الاستغاثة؛ وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي والميت؛ والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه وما لا يقدر عليه؛ فجعل حكم ذلك كله واحداً، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة أيضاً، ولم يكفه ذلك [حتى] (¬3) جعل الطالب منه إنما طلب من الله لا منه، فالمستغيث به مستغيث بالله، ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح جائزة، واحتج على هذه الدعوى العامة الكلية -التي أدخل فيها من الشرك والضلال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال- بقضية خاصة جزئية، كسؤال الناس للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة أن يدعو الله لهم؛ وتوجههم إلى الله بدعائه وشفاعته، ومعلوم أن هذا الذي جاءت به السنة حق لا ريب فيه، لكن لا يلزم من ذلك ثبوت جميع تلك الدعاوى العامة وإبطال نقيضها، إذ الدعوى الكلية لا تثبت بمثال جزئي لا سيما مع الاختلاف والتباين. ¬
فصل [8]
وهذا كمن يريد أن يثبت [حل جميع] (¬1) الملاهي لكل أحد؛ والتقرب بها إلي الله؛ بكون جاريتين غنتا عند عائشة -رضي الله عنها- في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) يوم عيد، مع كون وجهه كان مصروفاً إلى الحائط لا إليها (¬3). أو يحتج على اسستماع كل قول بقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18]، ولا يدري أن القول هنا هو القرآن، كما في قوله (¬4): {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)} [المؤمنون: 68]، (وإلا فمسلم [أنه] (¬5) لا يسوغ) (¬6) استماع كل قول، وقد نهى الله -عز وجل- عن الجلوس جمع الخائضين في آياته، وخوضهم نوع من القول فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬7) [الأنعام: 68]، وقال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء: 140]، وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55]. فصل قال: (وقد أجمع العلماء كما حكاه من يرجع إليه، على أن كل مسلم ¬
إثبات المؤلف نقل البكري من كتابه "الصارم المسلول"
صدر عنه سب للرسول - صلى الله عليه وسلم - أو تنقيصه وجب قتله، ويحكم بكفره وردته عن دين الإسلام، على ذلك دلت نصوص السنة والكتاب، وحكم جماعة من المتقدمين بأنه (¬1) يقتل بغير (¬2) استتابة، كما نص العلماء أيضاً أن التعريض بسبه أو تنقيصه كالصريح). فيقال: هذا نقله من الكتاب الذي صنفته (¬3) في شاتم الرسول (¬4)، استعاره من بعض من كان عنده (¬5)، ولهذا صار الناس يعدون هذا من قلة الحياء، فإن ذلك الكتاب ذكرت فيه في مسألة السب من دلائل الكتاب والسنة وأقوال العلماء و (¬6) من تعظيم الرسول وتعزيره وتوقيره، واستنباط ما يتعلق بذلك من الكتاب والسنة ما يعرفه من تأمله. فصل قال: (ومن نفى عنه أن يستغاث به فقد تنقصه عن رتبته ولا ينفعه تأوله، لأن تأويله لا يخرجه عن كونه أساء الأدب على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعبير، على أن هذا الرجل لا يثبت على التأويل وإنما يذهب إليه عند الخوف، زندقة منه على ما علمته). فيقال له: قد تقدم الجواب (¬7)، وتبيّن أن الذي تنقصه هو الذي يؤذيه ويتعدى عليه، ويسلط السفهاء على أذاه ويكذب عليه ويبدل دينه الذي بعث به، لا من يأمر بما أمر الله به من تعزيره وتوقيره وتصديقه وطاعته ومحبته ورضاه وموالاته، وبما يزيده الله درجة ورفعة في الدنيا والآخرة من الصلاة والسلام عليه، وفعل التوحيد والطاعات التي يحصل (¬8) له مثل أجرها، وبيّن ¬
حديث الحجر الأسود
أيضاً أنه لم ينف عنه كل ما يسمي استغاثة، بل قد صرح بأنه يطلب منه كل ما يليق بمنصبه، وأنه يستشفع به ويتوسل به كما كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يفعلون، وكما يستشفع به يوم القيامة وأن المنفي هو دعاء الميت، أو أن يطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق، وبين أيضاً أن ما ذكره هذا الرجل في مسمى لفظ الاستغاثة وإن نفي ذلك؛ يتضمن نفي كونه سبباً في حصول غوث الله؛ كلام باطل. وأما قوله: (و (¬1) لا ينفعه تأويله ... إلي آخره)، فإنما يصح لو فسر لفظ بما يخالف ظاهره، والمجيب قد بيّن مراده بألفاظ ناصّة (¬2) لا تحتمل معنيين، فأي تأويل هنا يُحتاج إليه!! فهذا من جملة افترائه، فإن التأويل إنما يحتاج إليه إذا أطلق المطلق لفظاً له ظاهر وأرد به غير ظاهره من غير بيان، وهذا لم يقع، فإن كان بعض الناس يظهر له من اللفظ ما لم يدل عليه فالتفريط منه. وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم (¬3) وقد [بيّنا] (¬4) في غير هذا الموضع (¬5) أن عامة ما يورد علي ألفاظ الكتاب والسنة ويُدَّعي أن ظاهرها ممتنع، إنما أُتي من سوء فهمه، لا من قصور في بيان الله ورسوله، بل [ممن] (¬6) تأول، مثل (¬7) طائفة في قوله: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه أو صافحه فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه" (¬8)، وهذا معروف عن ابن عباس، وقد روي مرفوعاً ولم يثبت ¬
الرد على البكري في رميه للمؤلف بالزندقة
بهذا (¬1) اللفظ، قالت طائفة إنه يحتاج إلى تأويل وليس كما قالوا، فإنه قال فيه: "يمين الله في الأرض"، فقيل: الخطاب في الأرض لم يطلق فيه، وقال في إثباته فمن استلمه فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه، والمشبه غير المشبه به، ففي الحديث بيان أنه ليس بصفة الله، وإنما هو بمنزلة اليمين في الاستلام والتقبيل، والحديث لا يدل ولا يفهم منه غير هذا. وكذلك قوله سبحانه: "عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلو عدته وجدتني عنده"، فهذا صريح في أن الله لا يمرض؛ وإنما مرض عبده، ولا يحتاج إلى تأويل، وأمثال ذلك. وأما قوله: (إن المجيب لا يثبت على التأويل وإنما يذهب إليه عند الخوف زندقةً منه (¬2) على ما علمته). ¬
جهود المؤلف في الذب عن الدين
فيقال له: لا ريب أن المجيب لم يذهب في كلامه إلى تأويل أحد، بل لفظه ظاهر في معناه، بل قد يكون نصاً، وقول القائل: إنه يذهب إلى التأويل زندقة (¬1) فهو جهل منه بمسمى (¬2) الزندقة، وكذبٌ ظاهر باتفاق الناس، وهو بالقائل أعلق؛ إما كونه جهلاً؛ فإن الزنديق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فمن كان مظهراً لقوله قد كتب بأجوبة من النسخ ما لا يحصيه إلا الله، وقد وافقه عليها علماء الإسلام ولم يذهب أحد إلى خلافها، وقد بيّن قوله في أعظم الأوقات خوفاً وتعصباً عليه وناظر عليه، وتبين للحاضرين حتى الأعداء سلامته من [هذه] (¬3) القوادح، وظهور الجهل والكذب والظلم من منازعيه، فكيف ينسب إليه إبطان خلاف ما يظهر!!. ولو قدر أن شخصاً أبطن خلاف ما يظهر من الأقوال لم يكن زنديقاً إلا إذا أبطن الكفر، وإلا (¬4) فمن أبطن قولاً [يعتقد أنه] (¬5) دين الإسلام ويناظر عليه لم يكن هذا زنديقاً عند الفقهاء، بل إن [كان] (¬6) مخطئاً فقد يكون مبتدعاً، وان كان مصيباً [وسكت] (¬7) خوف العدوان عليه لم يكن مبتدعاً، ولو دخل [مسلم] (¬8) دار الرافضة والخوارج فكتم حبه للصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكن زنديقاً، ولو عَرّض لم يأثم بذلك. وقد ثبت في الصحيح أن الخليل -صلوات الله وسلامه عليه- قال عن سارة: "إنها أختي" (¬9) عند الحاجة إلى التعريض، وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -حين سُئل عنه في الهجرة-: من هذا الرجل معك يا أبا ¬
موقف البكري مع السلطان وتعليق المؤلف
بكر، فيقول: "هذا رجل يهديني السبيل" (¬1)، فيحسب الحاسب أنه يريد الطريق، وإنما يريد سبل (¬2) الخير، وكذلك عين المشركين يوم بدر لما جيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: وسأله فقال: لا أخبركم حتى تخبروني من أين أنتم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أخبرتنا أخبرناك، فأخبرهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نحن من ماء" (¬3). [مع] (¬4) أن ما نحن فيه ليس من هذا الباب، فإنه لم يحصل كتمان ولا تعريض، بل صرح بالأمر على ما هو عليه، وإنما المقصود بيان جهل هؤلاء الضالين المعتدين. وأيضاً فيخاف من الناس من يجزع إذا أوذي، ويطلب الإقالة، ويستغيث بالحاضرين حتى يدفعوا عنه ما طلبه ولي الأمر من قطع لسانه، ومن نفي عن البلد فلا يدخله إلا سراً (¬5)، ودخل في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)} [البقرة: 114]. فإن هذا المفتري سعى في منع من يذكر ما أمر الله به في المسجد، فمنع من سكنى البلد الذي فيه المسجد وأخرج منه، فلم يكن يدخل المسجد إلا خائفاً، وحصل له من الخزي ما لا يعرف لأحد مثله في زمانه، وكأن له شبه في أبي عامر الراهب (¬6) الذي بني له مسجد الضرار، وكان قد قدح في ¬
نصر الله للمؤلف على خصومه القبورية
الرسول الداعي إلى الحنيفية ومال إلى النصرانية، وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما تدعو يا محمد، قال: إلى ملة إبراهيم، فقال إنك شبيه (¬1) بغيرها، فقال: ما شبيهاً بغيرها، فقال: بل شبيهاً بغيرها، فقال: الكاذب أماته الله طريداً شريداً وحيداً، فقال أبو عامر: آمين؛ فمات طريداً شريداً وحيداً (¬2). [فأي الفريقين أولى بذلك الشبه] (¬3)، من يقابل ولاة الأمر وغيرهم من الأكابر في أخذهم بالحق وإن كرهوه؟ ومن يطلبون منه (¬4) أن يسكت عن حق متعلق بالدين فلا يسكت؟ فيطلبون خروجه من الضيق فيأبى الخروج حتى يظهر الحق (¬5)، ومن يهين الحزب الجاهل الظالم، ويبيّن جهله، ومن كتب جوابه في هذه المسألة في أكثر الأمصار من لا يحصي عدده (¬6) إلا الله من ولاة الأمور وغيرهم. وأهل السنة إذا تقابلوا هم وأهل البدعة فلهم نصيب من تقابل المؤمنين والكفار، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} (¬7) [المائدة: 59 - 60]، وهؤلاء الذين يدعون الموتى ¬
حكايات في مسخ بعض عباد القبور خنزيرا
من أهل البدع، فمنهم من مسخ خنزيراً من الرافضة، وقد تواترت بذلك الحكايات (¬1)، وفيهم من يعبد الطاغوت فيصور تماثيل يتوجهون إليها، ويدخلون في مداخل السحرة (¬2) كما هو معروف [عن] (¬3) غير واحد منهم، وأما غضب الله ولعنته بسبب كثرة كذبهم وظلمهم وفسقهم فأعظم من أن يذكر. فصل (¬4) قال: (ولقد بالغ السلف في الاحتياط بجنابه - صلى الله عليه وسلم -، حتى أفتى بعضهم بأن من سب (فاطمة أو عائشة) (¬5) أنه يقتل، وقال: على هذا مضت سيرة أهل العلم، وأفتى بعض الشافعية أن من سب أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً -رضي الله عنهم- فهو كافر، وأفتى طائفة بكفر الرافضة، ونقل عن أحمد أنه استفتي فيمن شتم عثمان فقال: هذا زندقة (¬6)، وروي عن أحمد رواية أخرى أنه قال: من سب واحداً من الصحابة فقد كفر (¬7)، وذكرت ذلك لتعلم عظم الوقوع في الجناب النبوي عند العلماء، وقد صح وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح دم من نقصه وسبه، ولم يختلف في ذلك الصحابة، ولقد (¬8) رووا أن ابن أبي سرح بعد وقيعته جاء به عثمان -رضي الله عنه- وكان أخاه من الرضاعة، وقال: بايعه يا رسول الله، فأعرض عنه، ثم (¬9) جاءه من الناحية الأخرى أيضاً، فقال: بايعه يا رسول الله فأعرض عنه؛ ثم بايعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرة الثالثة، وقال فيما روي: ما صمتُّ ¬
إثبات المؤلف أنه منقول من كتابه "الصارم المسلول"
إلا ليقوم إليه أحدكم فيقتله، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله ألا أومأت إلي فأقتله، فقال: "إن النبي لا يقتل بالاشارة" (¬1)، وكان ذلك لتحريم خائنة الأعين عليه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأباح قتل ابن خطل لأنه كان ينتقصه - صلى الله عليه وسلم -، وجاءه (¬3) رجل عام فتح مكة، وفقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه" فقتل (¬4)، مع أن الروايات إذا [استقرئت] (¬5) علم (أنها تقتضي) (¬6) أنهما جاءا مستسلمين منقادين؛ ولم يكن ذلك موجباً للعفو عنهما، ففيه دليل على أن الساب اليوم ولو أسلم يقتل حتماً، كما هو مذهب مالك وجماعة، ولا يلزم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عفى عن بعضهم أن يجوز أن [نعفوا] (¬7)، لأن القتل كان لحقه فله - صلى الله عليه وسلم - أن يترك حق نفسه). فيقال: هذا كله منقول من كلام المجيب من كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول" (¬8) لكنه أزال بهجته، وحذف من محاسنه ما يبيّن حقيقته، فالمجيب هو المنافح عن الله ورسوله، وهذا كالمتشبع (¬9) بما لم يعط، ومن ¬
وجوب الحجر على البكري وأمثاله في الفتوى
تشبع بما لم يعط فهو كلابس ثوبي زور (¬1)، وأما تقريره واستدلاله الذي لم ينقله عن غيره فمن جنس كلامه في مسألة الاستغاثة، وجوابه في قسم مال (¬2) بيت المال ونحو ذلك (¬3)، مما يخرج به عن إجماع المسلمين، ويضحك عليه العلماء الفاضلون، ويوجب لذي القضاء أن يحجروا عليه في الفتيا، كما وقع لهذا (¬4) المسكين؛ لما فيه من الجهل بمسالك الأحكام، مع فرط الجراءة والإقدام على الكلام بالهوى والجهل في دين الإسلام، بخلاف من منع خوفاً منه، إما لسياسة مملكته أو غير ذلك. فصل قال: (ومن هذا يُعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو نفى عن نفسه أنه ينفع أو يستغاث به أو نحو ذلك؛ يشير إلى التوحيد وإفراد الباري بالقدرة، لم يكن لنا نحن أن ننفي ذلك لوجهين: أحدهما: أن المقصد إذا صح كان وجوب بيان المقصود بعبارة موضوعة له حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فله تركه إذا عبر عن نفسه، وغيره إذا خالف موجب الأدب معه في العبارة كفرناه على ما سلف. والأمر الثاني: أنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - فالعبارة (¬5) التي توهم نفيها إذا صدرت منه - صلى الله عليه وسلم - علم المراد [بها] (¬6)؛ للدليل على عصمته وصحة تبليغه وعدم تناقض أفعاله وأقواله، وغيره ليس كذلك). فيقال له: هذا من الجهل في الاستدلال، فإن ما ينفيه الرسول عن نفسه ¬
وجوب وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما وصف به نفسه
هو صادق فيه وفي جميع ما يقوله (¬1)؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - هو الصادق المصدوق، وهذا أخبر به، والخبر يكون إثباتاً ويكون نفياً، وهو صادق فيما يثبته لنفسه وفيما ينفيه عن نفسه، وعلينا أن نصدقه في ذلك. وليس [هذا] (¬2) من جنس عفوه عمن آذاه؛ فإن ذلك ليس بخبر منه، وإنما هو ترك استيفاء حق له، وبعد موته لا يمكن عفوه فيجب استيفاء حقه؛ لأن سبه فيه حق لله، وبعد موته لا مسقط له فيتعين استيفاؤه، وإذا انفرد بجواز العفو عن الساب دوننا لم يلزم أن ينفرد في إخباره؛ بأن يخبر بالأمر على خلاف ما هو عليه، وما قال أحد من المسلمين: إن ما أخبر به الرسول عن نفسه بنفي [أو] (¬3) إثبات ليس لنا أن نخبر بمثل خبره. بل إذا قال: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93]، نقول: ما كان إلا بشراً رسولاً، وإذا قال: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]؛ وإذا قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" (¬4)؛ قلنا نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، وإذا قال: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون" (¬5)؛ قلنا: إنما هو بشر ينسى كما ينسى البشر، وإذا قال: {لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] قلنا: لم يقل (¬6): [إن] (¬7) عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا نقول إنه ملك، وإذا قال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188]، قلنا: لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، وإذا قال: "لن يدخل أحد ¬
مشابهة أقوال البكري لأقوال النصارى
منكم الجنة بعمله"، قيل: ولا أنت يا رسول الله، قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، قلنا: لن يدخل الجنة أحد بعمله، فإذا قيل لنا: ولا رسول الله؟ قلنا: ولا رسول الله إلا أن يتغمده الله برحمة منه وفضل، فنخبر بمثل ما أخبر به تصديقاً له؛ فإنه الصادق المصدوق، ومثل هذا كثير. وقول هذا الجاهل [شبيه ومثيل] (¬1) [دين النصارى] (¬2) فإن المسيح -عليه السلام- لما أخبر [عن] (¬3) نفسه أنه عبد الله؛ تقول النصارى: ليس لنا أن نقول في الأنبياء ما يقولونه في أنفسهم، وقد قال الله -تعالى-: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} إلى قوله {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 116 - 117]، وقال المسيح: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30]، فيقول النصراني من جنس قول شبيهه (¬4): هو يقول: ربي الله، وهم يقولون: هو الرب ليس له رب، ويقولون: وليس لنا أن نقول فيه ما يقول في نفسه. وهكذا الرافضي إذا احتججنا عليه بقول علي -رضي الله عنه- عن نفسه: يقول ليس لنا أن نقول فيه قوله في نفسه، وفي الجملة فبعض الناس قد [يقول] (¬5) على سبيل التواضع كلاماً فيه مبالغة، فيقال: ليس لغيره أن يقول فيه هذا. وأما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا ينطق إلا بحق، وكلامه معه إذا كان تواضعاً لله فهو أحق الخلق بالتواضع لربه -عز وجل-، وليس هذا كتواضع الرجل للرجل، ثم ما ذكره في عفوه عن الساب (¬6) لا يقتضي العلم بهذا؛ ولا هو دليل عليه. ¬
تشبيه تكفير البكري للمؤلف بتكفير الرافضة لأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -
وأما قوله في الوجه الأول: (إن القصد (¬1) إذا صح كان وجوب بيان المقصود بعبارة موضوعة له حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فله تركه إذا عبر عن نفسه، وغيره إذا خالف موجب الأدب معه في العبارة كفرناه على ما سلف}. فيقال له: هذا من جهلك، فإن التعبير عن المعاني [بالألفاظ] (¬2) يتعلق باللغة، ليس هذا من الحقوق ولا له مدخل في هذا، بل الواجب أن يعبر عن المعنى باللفظ الذي يدل عليه، فإن كان اللفظ نصاً أو ظاهراً حصل المقصود، وإن كان اللفظ يحتمل معنيين أحدهما صحيح والآخر فاسد تبيّن أن المراد [هو الصحيح] (¬3)، وإن كان اللفظ يوهم بعض المستمعين معنًى [فاسداً] (¬4) لم يطلق إلا مع بيان ما يزيل المحذور، وإن كان اللفظ يوهم معنى فاسداً لم يخاطب بذلك اللفظ؛ إذا علم أنه يوهم معنًى فاسداً، لأن المقصود بالكلام البيان والإفهام، وأما إذا كان اللفظ دالاً على المراد وجهل بعض الناس معناه من غير تفريط من المتكلم، فالدرك على المستمع لا على المتكلم. وقوله: (إذا [خالف] (¬5) موجب الأدب كفرناه)، فيقال له: كلا المقدمتين باطلة، دعواك مخالفة موجب الأدب؛ ودعواك كفر، وأما إخبارك عن نفسك أنك تكفره بما تعتقده أنه مخالف للأدب؛ فأنت صادق في خبرك عن اعتقادك الباطل وجهلك المعروف، [كما] (¬6) يصدق الروافض إذا أخبروا عن أنفسهم بتكفيرهم لأبي بكر وعمر وعثمان، وكما يصدق الخوارج إذا ¬
رد دعوى البكري في صدور عبارة موهمة من النبي - صلى الله عليه وسلم -
أخبروا عن أنفسهم بتكفيرهم لعثمان وعلي، وكما يصدق الكفار إذا أخبروا عن أنفسهم بأنهم يقولون عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كاهن ومجنون ومعلم ومفتري، فهذا صدق يضر قائله لا يضر المقول له، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [النور: 11]. لكن اعتقادك كفر من هم أعظم الناس إيماناً بالله ورسوله لا يضرهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" (¬1)، [لذلك] (¬2) كنت أحق بالكفر إلا أن تعتذر بالتأويل، وفي الصحيح أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يرمي رجل رجلاً بالكفر والفسق إلا رُدت عليه إذا لم يكن لذلك أهلاً" (¬3). وقوله في الوجه الثاني: (إنه إذا علم بالقواعد ثبوت رتبة للرسول؛ فالعبارة التي توهم نفيها إذا صدرت منه علم المراد بها للدليل على عصمته وصحة تبليغه، وعدم تناقض أقواله وأفعاله، وغيره ليس كذلك). فيقال له (¬4): هذا مبني على صدور عبارة موهمة وتقدم أن الجواب عبارة ظاهرة في معناها، بل نص لا يحتمل معنيين؛ فضلاً عن كونها توهم غير ما أريد بها، وأيضاً فغير الرسول إذا عبر بعبارة موهمة [مقرونة] (¬5) بما [يزيل] (¬6) ¬
الألفاظ التي تعلق عليها الأحكام هي ألفاظ الكتاب والسنة
الإيهام كان هذا سائغاً باتفاق أهل الإسلام، وأيضاً فالوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلم لم يكن على المتكلم بذلك بأس. ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم، (بل ما زال الناس [يتوهمون] (¬1) من أقوال الناس خلاف مرادهم) (¬2)؛ ولا يقدح ذلك في المتكلمين بالحق، ثم غاية هذا أن يكون بحثاً لفظياً، والبحوث اللفظية لا توجب خلافاً معنوياً فضلاً عن التكفير، اللهم إلا على قول هذا الجاهل: إن المتكلم إذا عنى معنًى صحيحاً بعبارة وتوهم منها بعض الناس نقصاً كان ذلك كفراً، وهذا لا يقوله إلا من انسلخ من العقل والدين، لا سيما إذا كان التقصير إنما هو من المستمع؛ لا تقصير من (¬3) عبارة المتكلم. ثم يقال: هذا كله ليس مما نحن فيه، فإن ما ذكره المجيب لا يحتاج لهذا، ولا يتوقف على نقل عبارته بعينها؛ بل تلك المعاني بائنة بالكتاب والسنة واجماع الأمة؛ سواء كان اللفظ بعينه منقولاً أو لم يكن؛ والتعبير عن تلك المعاني شائع بما يدل عليها دلالة بيّنة كالدلالة على سائر المعاني، ومما يجب معرفته أن الأسماء والألفاظ التي تُعلق بها الأحكام الشرعية من الأمر والنهي والتحليل والتحريم والاستحباب والكراهية والمدح والذم والثواب والعقاب والموالاة والمعاداة [هي] (¬4) الألفاظ الموجودة في كتاب الله وسنة رسوله ومعاني تلك الألفاظ، وذلك مثل لفظ الإيمان والإخلاص والعبادة (¬5) والكفر والشرك والهدى والضلال والرشاد والغي (¬6) والتوكل والشكر والصبر والنبوة والرسالة والتوكيل ونحو ذلك، فأما الألفاظ التي لم توجد في كتاب الله وسنة رسوله ولا تعلق بها بشيء من ذلك إلا إذا [تبيّن] (¬7) أن معانيها موافقة لمعاني ألفاظ الكتاب والسنة. ¬
فصل [12]
والله -تعالى- في كتابه وسنة رسوله قد أوجب لنفسه حقاً لا يشركه فيه غيره، وأوجب حقاً له ولرسوله وللمؤمنين، فله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئاً وأن نخشاه ونتقيه (¬1). فصل قال: (وبالجملة فللأنبياء أنفسهم وفيما بينهم عبارات ومخاطبات ومعاملات لا يقاس بها (معهم من) (¬2) دونهم، ألا ترى ما في الحديث الصحيح في محاجة موسى لآدم، وذكر شيئاً في روايات ساقها مسلم؛ منها [قوله] (¬3): "أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ " (¬4)، ومنها قوله: "أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ... الحديث" (¬5)، وليس لواحد منا أن يقول في آدم -عليه السلام- ولا أحد من النبيين مثل ذلك القول ولا قريباً منه، وكيف لطم موسى عين ملك الموت (¬6) [عليه السلام] (¬7)، وأثبت بعض العلماء أنه لطم حقيقة. ¬
عدم دلالة كلام البكري على موضع النزاع
وروى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم يكذب إبراهيم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاث كذبات ... الحديث" (¬1)، مع أن الثلاث وجه المجاز فيها ظاهر صحيح، قوله: إنه سقيم، باعتبار الاستقبال؛ ولا بد لكل بشر أن يسقم غالباً ولو بمقدمات الموت؛ مع جواز اطلاعه على ذلك أو بتأويل القابلية (¬2)، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وجه المجاز أنه سبب للتكسير الذي وقع؛ لما فيه من التصوير المنكر، أو تهكم يؤيده قوله: {فَسْأَلُوهُمْ}، وأما الكلمة في سارة فقد صرح بالمعنى إذ قال لها: أخبرته أنك أختي فإنك أختي في [الإسلام] (¬3). وحديث المحاجة وإن احتمل أن لا يكون في دار التكليف، فنحن نعلم أنهم لا يقابلون بعضهم بعضاً بما يرونه خلاف الأدب منهم، وكل هذه الأمور لا ينقاس بها معهم من دونهم، فربما كان الشيء من المثيل أو المساوي أدباً أو أمراً محتملاً؛ ولا يكون ممن دونه كذلك، فليحفظ الناظر موقع الحكمة في أحكام المراتب في الأشخاص والأفعال والأقوال وسائر الأحوال). والجواب من وجوه، أحدها: أن يقال: هذا الكلام لا يدل على مورد النزاع، فإن أحداً لم يقل إن حكم النبي مع النبي أو مع الملك حكم من هو دونه؛ ولا حكم بعض الأنبياء حكم بعض بل ولا الملائكة، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]، وقال تعالى عن الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} [الصافات: 164]، وقال: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} [الإسراء: 20، 21]. ولكن ليس في ثبوت أفضليتهم على من دونهم وعدم مساواتهم لهم في كل شيء أنهم لا يشاركونهم في شيء من الأحكام؛ بل الأصل عند جماهير السلف والخلف أن ما ثبت في حق النبي من الأحكام ثبت في حق الأمة، ما لم يقم دليل على التخصيص، فما وجب عليه وجب عليهم وما حرم عليه حرم ¬
أمثلة للأحكام التي خص الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم -
عليهم؛ وما أبيح له أبيح لهم، إلا أن يقوم دليل على التخصيص، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} (¬1) [الأحزاب: 37]، بيّن أن في تزويجه بامرأة دَعِيّه من الحكمة دفع الحرج عن المؤمنين في تزويجهم بنساء أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً، ولولا أن الإِحْلال له يستلزم الإِحْلال للأمة لم يرتفع الحرج عنهم لمجرد ذلك. ولهذا لما خصه بإحلال شيء قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50]، فجعل إباحة الواهبة نفسها له خالصة له من دون المؤمنين، ومن هذا ما ثبت عنه في الصحيح أنه لما (¬2) بلغه أن قوماً تنزهوا عن أشياء فعلها، فقال: "والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده" (¬3)، وفي حديث آخر أن رجلًا قال: ليتنا مثل رسول الله يحل الله له ما يشاء، فغضب من ذلك وقال: "إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده" (¬4)، لأن هذا ونظائره متعددة، وهذا الأصل متفق عليه بين أئمة المسلمين (¬5)، ولكن قد يقال نفس الخطاب له أو للواحد من الأمة خطاب ¬
وجوب الإخبار بما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه
عام للعادة الشرعية في ذلك، أو يثبت الاشتراك بالاعتبار بأدلة أخرى، أو وذلك معلوم بالاضطرار من الدين، هذا مما تنازع فيه أهل النظر، وإذا كان كذلك فما يثبت جوازه له من الأقوال يثبت جوازه لغيره ما لم يقم دليل المنع، وما ذكره من مطلق [التفضيل] (¬1) ليس دليلاً على المنع [باتفاق] (¬2) المسلمين. والوجه الثاني أن يقال: خبره عن نفسه وغيره سواء كان نفياً أو إثباتاً، وما أخبر به فهو صدق يجب تصديقه، ومن أخبر به كان صادقاً داخلًا فيمن جاء بالصدق وصدق به، ومن قسم إخباره إلى ما لنا أن نخبر به وما ليس لنا أن نخبر به، فقد قال قولاً مبتدعاً لا دليل له [عليه؛ بل] (¬3) هو معلوم البطلان، ثم إنه لا يمكنه [أن] (¬4) يذكر حداً فاصلاً بين ما يجوز موافقته فيه من الأخبار وما لا يجوز؛ بل لا يشاء كل جاهل وضال أن يقول -فيما أخبر به الرسول- هذا من الأخبار التي ليس لنا أن نخبر بها بحال يبديه إلا ادعى ذلك؛ حتى سد على الناس أن يخبروا بالأخبار الصادقة التي أخبر (¬5) بها، وقد يتعدى ذلك إلى الأمر فيقول ليس كل ما أمر به يؤمر به من غير تفصيل معلوم بدليل الشرع، وحينئذٍ فإذا لم يقم يخبر بخبره ويأمر بأمره كان ذلك ذريعة إلى إبطال كثير من رسالته ونبوته، وهذا فيه من الكفر به وإبطال دينه؛ ما هو من أعظم الردة عن دين الإسلام. وليس هذا بمنزلة سوء الأدب في الخطاب؛ بل هذا كفر صريح وردة عن الإسلام، وهذا لازم لهؤلاء الجهال، فإن قولهم يستلزم الردة عن الدين والكفر برب العالمين، ولا ريب أن أصل قول هؤلاء هو من باب الإشراك بالله؛ الذي هو الكفر الذي لا يغفره الله، فإن الله -تعالى- قال في كتابه: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} (¬6) [نوح: ¬
إجماع الأمة على منع الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء بعد موتهم
23 - 24]، وقال غير واحد من السلف: هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا تماثيلهم ثم عبدوهم، وقد ذكروا ذلك بعبارات متقاربة في كتب الحديث والتفسير وقصص الأنبياء، كما ذكره البخاري في صحيحه وجماعة من أهل الحديث، (وكما ذكره المفسرون كالطبري وغيره) (¬1)، وكما ذكره مصنفو القصص مثل وثيمة (¬2) وغيره. وقد أمر الله -تعالى- أن يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]، فيقول هذا الضال: هذا يقوله هو عن نفسه؛ وأما نحن فليس لنا أن نقول: هو بشر؛ بل نقول كما قال فلان وفلان: من زعم أن محمداً بشر كله فقد كفر، وهذا يقوله قوم منهم؛ وهو تشبه بقول النصارى في المسيح؛ يقولون: ليس هو بشر كله، بل المسيح عندهم يتناول اللاهوت والناسوت الإلهية والبشرية جميعاً، وهذا يقوله طائفة من غلاة الصوفية والشيعة؛ يقولون باتحاد اللاهوت والناسوت في الأنبياء والصالحين كما تقوله النصارى في المسيح (¬3). والوجه الثالث: أن يقال: مسألتنا ليست محتاجة إلى هذا، فإن ما نُفي عنه وعن غيره من الأنبياء والمؤمنين؛ [وهو] (¬4) أنهم لا يُطلب منهم بعد ¬
ما يسوغ للأنبياء قد يسوغ لغيرهم
الموت شيء؛ ولا يطلب منهم في الغيبة شيء؛ لا بلفظ الاستغاثة ولا الاستعاذة ولا غير ذلك، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، حكم ثابت بالنص وإجماع علماء الأمة مع دلالة العقل على ذلك؛ فلا يحتاج إلى ذكر حديث فيه نفي ذلك عن نفسه كقوله: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله"، فإن هذا اللفظ هو بمنزلة أن يقال: لا يستعاذ به ولا غيره من المخلوقين وإنما يستعاذ بالله -عز وجل-، وهذا كله معلوم، وكذلك لفظ الاستجارة، وأما طلب ما يقدر عليه في حياته فهذا جائز سواء سُمي استغاثة أو استعاذة أو غير ذلك. الوجه الرابع: أنه ليس فيما ذكره حجة على أن ما يسوغ للأنبياء لا يسوغ لغيرهم، فإنه إنما ذكر [خطاب] (¬1) موسى لآدم ولطم عين الملك، فيقال له: أولًا: هل هذا سائغ لغير موسى من الأنبياء كمحمد والمسيح وغيرهما أم ليس سائغاً؟ وإن ساغ لهؤلاء فهل يسوغ هذا لداود وسليمان ويونس وغيرهم؟ فإن قال: نعم هذا سائغ لهؤلاء كلهم، طولب بدليل ذلك؛ ولا يمكنه على هذا التقدير منع جوازه لغيرهم؛ إلا أن يذكر دليلاً خاصًا على أن هذا من خصائص الأنبياء وليس له على ذلك دليل، وإن قال: لا يسوغ هذا لنبي آخر ولا يسوغ لنبي معيّن من الأنبياء، قيل: فحينئذٍ فلا حجة لك فيه على أنه (¬2) لا يقتدى بالأنبياء فيما يسوغ لهم، فإن هذا حينئذٍ ليس مما يسوغ لكل الأنبياء، وما خُصّ به بعض الأنبياء (لم [يتعد] (¬3) به) (¬4) غير الأنبياء بطريق الأولى، وحينئذٍ فلا يكون هذا من موارد الفرق بين الأنبياء وغير الأنبياء، بل من موارد الفرق بين نبي ونبي. ومن الناس من يقول: إن موسى -عليه السلام- كان يحتمل منه [ما لا] (¬5) يحتمل ¬
النزاع في جواز وقوع الذنب من الأنبياء
من مثل يونس؛ كجر رأس هارون ولحيته (¬1)؛ وإلقاء الألواح (¬2)؛ ولطم عين ملك الموت؛ ومعاتبة ربه ليلة المعراج في رفع محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3) ونحو ذلك، لما كان له من عظيم المجاهدة مع فرعون وقومه، ولما كان له من عظيم المنزلة عند ربه، وحينئذٍ فإذا كان هذا سائغاً لبعض الأنبياء لا يسوغ لهم كلهم، لم يكن مما نحن فيه. الوجه الخامس: أن يقال (¬4): الناس لهم في جواز وقوع الذنب من الأنبياء قولان، فالسلف والأكثرون يقولون بجواز ذلك، وإن كانوا معصومين عن الإقرار عليه، وكثير من الناس منع ذلك بالكلية، وكل من الفريقين يقول: إنه قد يخصّ بعض الأنبياء بأمر لا يشركه فيه جميع الأنبياء والمؤمنين، وحينئذٍ فقول موسى لآدم -عليه السلام- ما قال؛ إما أن يكون مما أقر عليه أو لا يكون مما أقر عليه، فإن قيل بالأول، وقيل: إنه مختص به أو بأمثاله من الرسل فلا كلام، وإن قيل: إنه سائغ لجميع الأنبياء فلا بد من دليل على أنه من خصائصهم، وإن قيل: إنه لم يقر عليه، وهو [الأظهر] (¬5) فإن آدم أجابه عن ذلك؛ وبيّن له أن هذا الذي جرى عليكم كان مقدوراً عليكم مكتوباً عليكم؛ فحج آدم وموسى، وإذا كان موسى محجوجاً، كان موسى قد عرف أنه لا حجة له على آدم، وأنه (¬6) لم يكن له أن يعاتبه على ذلك، فيكون موسى رجع عن هذا، وما رجع عنه النبي ولم يقر عليه لم يُقْتد به باتفاق المسلمين، كالمنسوخ وأولى. وكذلك لطمه لملك الموت إن كان مأذوناً له فيه أو معفوًا عنه؛ وهو من ¬
شرح بعض ألفاظ حديث محاجة آدم وموسى عليه السلام
خصائصه أو من خصائص الرسل فلا كلام فيه، وإن قيل: إن هذا سائغ للأنبياء كلهم فلا بد من دليل الاختصاص بالأنبياء، وأما إن قيل: إن موسى رجع عن تلك اللطمة لما اختار الموت وأجاب إلى ما طلب منه الملك من إجابة ربه؛ كان هذا مما رجع عنه موسى، ومثل ذلك ليس مما يقتدى فيه بالأنبياء، وذلك أن موسى لطمه بغضاً للموت؛ فلما رجع إليه وخيّره بين أن يضع يده على متن ثور فما وارته يده من شعره فإنه يعيش بها سنه وبين الموت؛ اختار الموت. الوجه السادس: إن قول موسى: إن آدم أغوى الناس وأخرجهم من الجنة، وإنه خيبهم وأخرجهم من الجنة، إما أن يقول: إنه صدق، وإما أن يقول: لم يكن كذلك، وإنما قاله (¬1) باجتهاد وتأويل، فإن [قال] (¬2): إنه صدق لا خطأ فيه، قيل: فمن الذي منع غير موسى أن يقول: الصدق الذي [لا خطأ] (¬3) فيه، وقول القائل ليس لواحد منا أن يقول: الصدق الذي لا خطأ فيه الذي قاله الأنبياء؛ دعوى مجردة لا يثبت بها حكم، لكن صاحب هذا الكلام يتكلم بحاله وما يخطر (¬4) له من غير اعتصام بالأدلة الشرعية. وإن قيل: إن موسى -عليه السلام-[قاله] (¬5) مجتهداً متأولاً ولم يكن الأمر كذلك، أو قال بحسب اعتقاده ولم يكن الأمر كذلك؛ كان كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لم أنس ولم تقصر الصلاة"؛ فإنه قال معتقداً أنه أتم الصلاة، فقال له ذو اليدين: بل قد نسيت، فقال: "أكما يقول ذو اليدين"، قالوا: نعم (¬6)، وكذلك ¬
الكلام على المعاريض
لما قال في النخل: "ما أظنه يعني -التلقيح- يغني شيئًا"، ثم قال لهم: "إنما أخبركم عن ظني فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله"، وفي لفظ: "أنتم أعلم بأمر دنياكم، وأما ما كان من أمر دينكم فإلي" (¬1). وأما لطم موسى عين ملك الموت فليس هو إخباراً عن نبي وإنما هو فعل من الأفعال؛ فليس مما نحن فيه، وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لم يكذب إبراهيم -عليه السلام- إلا ثلاث كذبات"؛ فيقال له: أتقول إنه لا يجوز لنا أن نصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"، بالمعنى الذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - أي شيء كان أم ليس لنا ذلك؟ فإن قلت: لنا ذلك، بطلت حجتك، وإن قلت: ليس لنا أن نقول ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظًا ومعنى كان هذا ممنوعاً، وهو من جملة ما يرد عليك، وإن لم يذكر عن (¬2) ذلك حجة؛ بل ولا نقله هذا (¬3) عن إمام من أئمة المسلمين، ونحن قد ذكرنا دلالة الكتاب والسنة والإجماع على أن الأخبار الصادقة التي أخبرت بها الأنبياء نفياً وإثباتاً لنا أن نخبر بها كما أخبروا بها لفظًا ومعنى. الوجه السابع: أن يقال هذه الكلمات هي من باب المعاريض، والمعرَّض يقصد معنى ويفهم المستمع غيره، والكلام مبدؤه عناية (¬4) المتكلم (¬5) ومنتهاه إفهام المستمع، فالمعرض إذا عنى حقًا والمستمع فهم باطلًا كان الكلام صدقًا باعتبار [الغاية السائغة] (¬6) وكذباً باعتبار الإفهام، ولهذا لم يرخص في المعاريض فيما يجب بيانه؛ للخلل (¬7) في (¬8) البيع ¬
حكم المعاريض في الكلام
والشهادة والإفتاء ونحو ذلك باتفاق، ويجوز للمظلوم [التعريض] (¬1) في الأيمان وغيرها، وأما ما ليس بظالم ولا مظلوم ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، قيل: يجوز له التعريض، وقيل: لا يجوز مع اليمين ويجوز بدونها (¬2). فقول إبراهيم -عليه السلام-: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] قيل: أراد سقيم القلب من كفركم، وقوله: أختي، أراد أخته في الدين؛ كما جاء ذلك مصرحًا به في الحديث الصحيح؛ حيث قال: "فإنه ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك"، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، قيل: إنه قصد [تعليقه] (¬3) بالشرط وهو قوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)} (¬4) [الأنبياء: 63]. ومن هذا قول نائب يوسف: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]، فإن يوسف أمره بالنداء؛ لكن نداء يوسف: سارقون ليوسف من أبيه وهو صادق فيما عناه، وما ذكره هذا الذي يلبس الحق بالباطل كحاطب ليل من التأويلات ليس مما يبنى عليه مسألتنا، فإنه ليس في شيء من ذلك أنه لا يجوز أن يخبر بما أخبر به الرسول لفظًا ومعنى، والناس قد ذكروا هذه التأويلات وغيرها، فتأويل المتأول إني سقيم أي سأسقم، إما لأن الظاهر مرضه، أو لاطلاعه على ذلك هو تأويل؛ و (¬5) قول غيره: أريد سقيم القلب تأويل ثان؛ وهو أقرب من كون الصفة حاضرة؛ والأول أقرب من كون السقم أراد به سقم البدن، لكن يقال: استعمال السقم والمرض في سقم القلب ومرضه هو حقيقة، ¬
العلم: نقل مصدق أو بحث محقق
بخلاف قوله إني سقيم بمعنى سأسقم فإن هذا لا يفهم إلا بقرينة، فيكون ذلك التأويل أولى, وأما التأويل الآخر بمعنى القابلية (¬1) فبعيد؛ فإن الموجود لا يوصف بكل ما يقبله من المعدومات، إذ لو كان كذلك لجاز أن يقال عن كل مخلوق: إنه معدوم، وعن كل مؤمن إنه كافر، وعن كل كافر إنه مؤمن، وعن كل غني إنه فقير، وعن كل عفيف إنه فاجر، وعن كل سليم إنه أشل وأقطع. والتأويلا [ن] (¬2) المذكوران في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} أن الإله (¬3) الأكبر سبب للتكسير تأويل فاسد، فإن السبب في كل صنم (¬4) ما قام به من التصوير، لا سيما قوله بل فعله كبيرهم يقتضي أنه لم يفعله إلا كبيرهم، فلا يكون السبب أنه التصوير الذي قام به؛ وهذا باطل قطعًا فإن التصوير القائم بكل صنم موجب لكسره؛ لا يحتاج إلى تصوير صنم أكبر منه، وأما التهكم فهو أحسن، وكذلك قوله: من قال إنه نوى التعليق بقوله: {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}. وقوله: وحديث المحاجة وإن احتمل أن لا يكون في دار التكليف، فنحن نعلم أنهم لا يقابلون بعضهم بعضاً بما يرونه [خلافاً] (¬5) للأدب منهم، فهذا كلام متناقض، وهو كلام من نظر في كلام شارحي الحديث، ولم يميز بين حق ذلك وباطله؛ وأخذ من ذلك ما ظنه موافقًا لدعواه، فلا له تمييز في أقوال الناس بين حقها وباطلها، ولا له معرفة بطرق الاستدلال، فلا [ذاكر] (¬6) لكلام منقول ولا مبيّن لمعنى مقبول، ولا نقل ولا توجيه لا ذكر ولا أثر. والعلم شيئان إما نقل مصدق، وإما بحث محقق؛ وما سوى ذلك فهذيان [مسروق] (¬7)، وكثير من كلام هؤلاء هو من هذا القسم؛ من الهذيان، وما يوجد فيه من نقل فمنه ما لا يميز صحيحه عن فاسده؛ وفيه ما لا ينقله على وجهه؛ ومنه ما يضعه (¬8) في غير موضعه، وأما بحثه واستدلاله على مطلوبه ¬
مقصود علم أصول الفقه
فمن العجائب، (فلا يتحقق) (¬1) (حسن الاستدلال بالأدلة) (¬2)، حتى يميز بين ما يدل وما لا يدل، ولا مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح إذا تعارض دليلان، ولهذا كان أصول الفقه مقصوده معرفة الأدلة الشرعية؛ جنس الدليل، وهذا فيه [آية] (¬3) (الخلاص من كناية) (¬4) [ترد] (¬5) الحق (¬6). وقد قيل: إنما يفسد الناس نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللسان، وهذا يفسد الأبدان، لا سيما إذا خاض هذا في مسألة لم يسبق إليها عالم ولا معه فيها نقل عن أحد، ولا هي من مسائل النزل بين العلماء فيختار أحد القولين، بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام المعلوم بالضرورة عن الرسول، فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بعيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين؛ لم يمكن (¬7) تكفيرهم بذلك حتى يتبيّن (¬8) لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه، ¬
استغاثة القبورية بالقبور أثناء غزو التتار لدمشق
ولهذا ما بينّت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الدين إلا تفطن؛ وقال هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض الأكابر [من] (¬1) الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بيّنته لنا لعلمه بأنّ هذا أصل الدين. وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات، ويسألونهم ويستجيرون بهم، ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه أو الدعاء به أو الدعاء عند قبره (¬2)، بخلاف عبادتهم لله ودعائهم إياه [فإنهم] (¬3) يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام [لما] (¬4) قد دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء: يا خائفين من التتر ... لوذوا بقبر أبي عمر ¬
إخلاص الدين لله سبب للنصر على التتر
أو قال: عوذوا بقبر أبي عمر ... ينجيكم من الضرر (¬1) فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة كانت لله -عز وجل- في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي؛ الذي أمر الله به ورسوله، [ولما] (¬2) يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة في القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة؛ لمن عرف هذا وهذا، وإن كان كثيراً من [المقاتلين] (¬3) الذين اعتقدوا هذا قتالاً شرعياً أجروا على نياتهم. فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرّب ولا نبي مرسل، كما قال تعالى يوم بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]، ورُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوم بدر يقول: "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث" (¬4)، وفي لفظ: "أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ¬
الكلام على حديث حجاج آدم وموسى عليهما السلام
ولا إلى أحد من خلقك" (¬1). فلما أصلح الناس [أمورهم] (¬2)، وصدقوا في الاستغاثة بربهم؛ نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً؛ لم يتقدم نظيره، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلاً، لما صح من تحقيق توحيده طاعه رسوله ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله ينصر رسله (¬3) والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ونحن نتكلم على ما ذكره (¬4)؛ وإن لم يختص بمسألتنا، لما فيه من تمام الكلام على ما ذكره كله. أما حديث احتجاج آدم موسى -عليهم السلام- فإن هذا الحديث فهم منه كثير من الناس المتقدمين والمتأخرين أن آدم احتج بالقدر على فعل الذنب، فصاروا أحزاباً: حزب من أهل الكلام كذبوا الحديث كأبي علي الجبائي وغيره؛ وقالوا: نحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن سابق علم الله وكتابه لا يكون حجة لأحد في ترك مأمور أو فعل محظور؛ وهذا يناقض ذلك، فيكون كذباً على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحزب من الصوفية والعامة شر من هؤلاء جعلوا هذا الحديث حجة على دفع الذم والعقاب عن الكفار والفساق والعصاة وسموا هذا حقيقة، وهو حقيقة القدر، وقال منهم طائفة: من شهد القدر ارتفع عنه الملام؛ وقالوا: آدم كان شاهد القدر. ودخل في ذلك طائفة من أعيان الشيوخ والعلماء، فظنوا أن الخواص يرتفع عنهم الذم والعقاب بشهود القدر دون العامة، ومنهم من قال: هذا عين الجمع، وهو أن لا يرى الفاعل إلا واحد، ومنهم من جعل هذا من أفضل ¬
حكاية بين الجنيد وأصط به في الفرق الثاني
مقامات العارفين؛ ومن لوازم سلوك السالكين، ومنهم من جعل هذا منتهى سير العارفين، وسموا ملاحظة هذا فناء في توحيد الربوبية أو اصطلاماً ونحو ذلك، فالذين جعلوا هذا منتهى للوصول رفعوا استحسان الحسنات واستقباح القبائح، وقالوا: استحسان الحسنات واستقباح السيئات يكون لأصحاب البقاء والفرق؛ لا لأهل الجمع والاصطلام والفناء في التوحيد، وأما الذين جعلوه مقاماً أو لازمًا للسالك فقالوا: بعد هذا مقام أعلى منه وهو مشهد الفرق الثاني. وكان قد وقع بين الجنيد (¬1) وأبي الحسين [النوري] (¬2) وأصحابهما كلام في الفرق الثاني واضطربوا، كما ذكر ذلك أبو سعيد ابن الأعرابي (¬3) في "كتاب طبقات النساك"، وذكر أن كلامهم في الفناء والجمع لم يشتركوا فيه إلا في [العبارة] (¬4)، وأن هذا يشير إلى معنى غير المعنى الذي يشير إليه هذا، وأنه لم يحصل ما يعبر عنه بالفرق الثاني، وذكر أن أبا [الحسين النوري] (¬5) لما قدم بغداد بعد أن كان خرج عنها، وكان قد خرج هو وغيره في محنة ¬
محنة الصوفية سنة 275 هـ
الصوفية التي جرت لما قام عليهم غلام خليل (¬1) سنة بضع وستين ومائتين، وكتب منهم نحو سبعين نفساً، واتهمهم بالزندقة، فوضعوا منهم جماعة [في] (¬2) الحبس، وسافر بعضهم، واختبأ بعضهم، وكان فيهم من هو مظلوم؛ ومنهم من هو متعبد، وكان غلام خليل فيه عبادة وزهد وفيه نوع قلة معرفة (¬3) أيضاً، ولهذا يقال إنه كان يضع الأحاديث في الفضائل، وهذا قد بسطه أبو سعيد بن الأعرابي، وغيره ذكر ذلك مختصراً. وذكر أبو سعيد أن [النوري] (¬4) لما رجع مسألة أصحاب الجنيد عن الفرق الذي بعد الجمع ما علامته؟ وما الفرق بينه وبين الفرق الأول؟ قال: فسألوه عن هذا المعنى -لا أدري بهذا اللفظ أم بغيره إلا أني قد حفظت المعنى وأثبته-، قال: وكنت إذا مررت به بالرقة سنة سبعين (¬5)، قال لي: من بقي من أصحابنا فأخبرته، فسألني عن جماعة، ثم سألني عن الجنيد وما يتكلم فيه ومن يجتمع إليه، فأخبرته؛ وقلت: إنهم يشيرون إلى شيء يسمونه الفرق الثاني والصحو، فقال لي: اذكر لي شيئًا منه؛ فذكرت له بعض ما كنت أظنه؛ فضحك، ثم قال: أي شي يقول (¬6) في هذا ابن الجلحي (¬7)؟ فقلت: [ما يجالسهم] (¬8)، قال فأبو ¬
أحمد القلانسي (¬1)؟ فقلت: مرة يوافقهم، وربما خالفهم إلى معاني الجمع، فقال: أي شيء تقول أنت؟ فقلت: ما عسى أن أقول أنا، ولكن ما تقول في هذا يا أبا الحسين فإني أحب أن أسمع منك في هذا خاصة شيئًا؟ فقال: لا، أو تقول أنت، فحملني حرصي على أن أسمع منه أن قلت ما كان عندي في ذلك الوقت, قلت: أنا أحسب يا أبا الحسين أن هذا الذي يسمونه فرقاً ثانيًا هو عين من عيون الجمع، يتوهمون به أنهم قد خرجوا عن الجمع، وإنما هو أحد عيون الجمع، فقال: هو كذلك، وأنت [إنما] (¬2) سمعت هذا من أبي أحمد القلانسي، فأخبرته أني ما سمعته من أبي (¬3) أحمد، فلما قدمت بغداد حدثت (¬4) أبو أحمد بذلك، وكان أبو أحمد يعارض ذلك ولا يقطع به، وربما وافقهم فأعجبه قول أبي الحسين، وكذلك كان عند أبي الحسين، فأما أبو أحمد فقد كان (¬5) ربما قال: هو صحو وخروج عن الجمع؛ وربما قال: هو شيء من الجمع، ثم قال أبو الحسين ببغداد لما [شاهدهم] (¬6): ليس هو عيناً من عيون الجمع، ولا صحواً من الجمع وفرقاً ثانياً، ولكنهم رجعوا إلى ما يعرفون، وحملوا الشيء على عقولهم، فهم يسددون بجهلهم وليس معهم مما يذكرون إلا هذا العلم وهذا الوصف، وكأنهم قد اصطلحوا عليه، وكان يومئ إلى أنهم يتكلمون عن غير حقيقة، وإنما هو شيء يأخذه بعضهم عن بعض، فيزيد بعضهم من بعض بقدر فصاحتهم في العبارة دون الحقيقة، ولهذا كان قوله أول ما قدم بغداد (¬7). ¬
قال: أبو سعيد ثم باتوا معه ليلة لم أكن معهم كان ابن عطاء (¬1) ورويم (¬2)، فأقبل ابن عطاء يسأله فإذا أصابه بشيء عكسه عليه ابن عطاء، ثم يسأله عما ينشيه، فإذا أجابه؛ قال: هذا ضد الجواب الأول يا أبا الحسين قياسًا وتشبيهاً، فكان منه إليه كلام فيه جفاء، وكذلك فعل أيضاً، فقالوا: إنه يقول الشيء وضده ولا يعرف هذا [إلا قول] (¬3) سوفسطا (¬4) ومن قال بقوله، وكان بينهم وحشة بذلك، وكان يكثر منهم التعجب، وقالوا للجنيد ذلك، فأنكر عليهم حينئذٍ، وقال: لا تقولوا مثل هذا لأبي الحسين، ولكنه رجل به علة قد تغير دماغه، ثم إنه انقبض عن جميعهم بعد تلك الليلة، وأظهر لمن اتهمه منهم الجفاء، وترك مجالستهم، ثم غلبت العلة، وذهب بصره، ولزم الصحارى والجبانات والمقابر، وكانت له في ذلك أحوال طويلة كثيرة يطول شرحها وذكرها (¬5). قال: ولم أحضره عند موته، قال (¬6) جماعة من أصحابنا يقولون: من رأى أبا الحسين بعد قدومه الرقة؛ ولم يكن رآه قبل ذلك فكأنه لم يره لتغيره بعد قدومه، إلا أنه مات وهم عنده يتكلمون في شيء سكوتهم عنه أولى بهم، لأنه ليس شيئًا عندهم يعرفونه، وإنما يتوهمونه (¬7) فيتكهنون فيه ويتعسفون بظنونهم (¬8)، ¬
اضطراب الصوفية في الفرق الثاني
وقد كانوا عند غيره (¬1) ممن لا أُسميه كذلك. قال أبو سعيد: فإذا كان أولئك كذلك، فكيف بمن حدث بعدهم ممن أخذ عنهم؟ قال: ومنعني من الطبقة التي كانت بعد هؤلاء أشياء كثيرة، إلا [أن] (¬2) جملة ذلك وإن كانوا قوماً صالحين فاضلين فما يدرون ما كان يقول أولئك في هذه المعاني التي أشرنا إليها، ولا ما كانوا يشيرون إليه إلا بالتوهم والبلاغات وذكر كلامًا طويل (¬3). قلت: الصوفية بعد هؤلاء هم على هذا الاضطراب، منهم من قال بالفرق الثاني كالجنيد وأصحابه، وهؤلاء هم المصيبون المسددون، ومنهم من نفاه، ومنهم من تردد فيه، ومنهها من قال: إنه أكبر من [المتكلم] (¬4) فيه، وسبب ذلك أن الإنسان يشهد أولاً الفرق حسه وعقله وهواه؛ من غير نظر إلى أن الله خالق كل شيء وهذا هو الفرق الأول، فإذا توجه إلى الله رأى أن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، كل ما في الوجود بمشيئته وقدرته، وهذا شهود صحيح، بحيث يغيب عن نفسه وعن غيره، ويفنى بمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، فلا يبقى ناظراً إلا إلى توحيد الربوبية وهو أن الله خالق كل شيء. وهذا المشهد ليس فيه تفريق بين المأمور والمحظور، ولا بين المعروف والمنكر، ولا بين أوليائه وأعدائه، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين ما يلائم الإنسان وما يخالفه، وهذا لا يتصور أن يدوم بقاء العبد فيه، فإن نفسه لا بد أن تفرق بين ما يلائمها وبين ما يضرها، كما تفرق بين [الخبز ¬
التفريق بين المأمور به والمنهي عنه فرض على كل مسلم
والتراب] (¬1) وبين الماء والبول. ولكن من قال بأن الفناء هو الغلبة، منهم من جعل ذلك نزولاً من العبد من عين الجمع إلى الفرق، ومنهم من يقول [بل] (¬2) القيام بالفرق هو [لصلاح] (¬3) العامة لا لنفسه، ومنهم من يسمي هذا تلبيساً، ويقول: هذا للأنبياء، وربما قال: الفرق لأجل المارستان يصلح به العامة الذين هم كالمجانين، [و] (¬4) قد يقول هؤلاء: الكمال أن يكون الجمع في قلبك مشهوداً، والفرق في لسانك موجوداً، وأن يكون (¬5) باطنك حقيقة وظاهرك شريعة، ومنهم من يقول: الفرق بين هذه الأشياء الضرورية التي لا بد منها للإنسان بخلاف غيرها، ومنهم من يقول: هذا الفناء والاصطلام ليس هو الغاية، بل هو مقام عال (¬6) لا بد للسالك من سلوكه إياه، و [من] (¬7) لم يقم فيه لم يصل إلى حقيقة المعرفة (¬8). (وهذا غلط، فإن هذا من عوارض الطريق لا من لوزامه، فإن حاصله عدم شهود الحقائق) (¬9) على ما هي عليه، وهذا نوع من نقص الشهود والعلم ورؤية الأمر على ما هو عليه، ولكن هذا (¬10) يعرض لبعض المتوجهين إذا رأى أن الله خالق كل شيء يجمع في رؤيته هذا ولم يشهد الفرق، فإنه سبحانه وان خلق الأشياء كلها بمشيئته وقدرته؛ فقد أمر بطاعته ونهى عن معصيته؛ وهو يحب ما أمر به ويبغض ما نهى عنه، وهذا هو الفرق الشرعي ليس هو الفرق [الطبيعي] (¬11). وهذا الفرق فرض على كل مسلم لا يكون مؤمناً إلا به، وصاحب هذا ¬
أصل الغلط عدم إثبات الإرادة الشرعية
يشهد أن لا إله إلا الله، فيعلم أن الله هو المعبود دون ما سواه، وأنه أرسل الرسل يأمرون الناس بطاعته وينهونهم عن معصيته، ومن لم يشهد هاتين الشهادتين لم يكن مسلماً، وأما مجرد رؤية الله خالق كل شيء فهذا كان (¬1) يقر به المشركون عباد الأصنام , فمن وقف في الجمع لا يفرق بين مأمور ومحظور لم يكن مسلمًا فضلًا عن أن يكون وليًّا لله -تبارك وتعالى-، لكن هؤلاء يقولون نحن نثبت الفرق العائد إلى حظ الإنسان، بأن فعل المأمور سبب للثواب وفعل المحظور (¬2) سبب للعقاب، والثواب والعقاب حظ للعبد، والكامل الخالي [عن] (¬3) حظوظه الذي لا يريد إلا ما يريد ربه هو صاحب الفناء، وهو الذي لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، فالفرق لا يعود إلى الله ولا إلى صاحب الفناء. وأصل غلط هؤلاء [أنهم] (¬4) لم يثبتوا لله إلا الإرادة العامة المتناولة لكل مقدور (¬5) ومعلوم أنه لو كان الأمر كذلك لكان الفرق سببًا بالنسبة إلى الله، لكن هذا غلط من المثبت لملة إبراهيم ودين الرسل، كما قد بسط في غير هذا الموضع. وكثير من هؤلاء قد التبس عليهم هذا الموضع وهم متناقضون فيه، فإن الجمع العام لا يتصور أن يقوم فيه أحد دائماً، بل لا بد إن كان مسلمًا أن يوجب ما أوجبه الله ورسوله؛ ويحرم ما حرمه الله ورسوله، وإلا لم يكن مسلماً، فلا بد من فرق بحسب دينه، وإذ لم يكن له دين فرق بحسب هواه وطبعه، فمن لم يفرق فرقاً رحمانياً فرق فرقاً نفسانياً وشيطانياً، ومن لم يفرق فرقاً شرعياً فرق فرقاً [طبعياً] (¬6)، وقول أبي سعيد ابن الأعرابي ومن وافقه: إن هذا الفرق عين من عيون الجمع يتوهمون به أنهم قد خرجوا عن الجمع، وإنما هو [أحد] (¬7) عيون الجمع، يعني به -والله أعلم- أن شاهد الفرق ما ¬
مذهب القدرية والجهمية والجبرية في الإرادة
أمر الله به ونهى عنه مع مشاهدته بذلك، وتوحيد الإلهية بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومحبته لما أمر الله به وبغضه لما نهى الله عنه، فهو يشهد أن الله رب ذلك كله، وأنه الذي جعل المسلم مسلماً، وجعل آل إبراهيم أئمة يدعون إلى الخير، وآل فرعون أئمة يدعون إلى النار، فهو في هذا الفرق؛ يشهد الجمع، ويشهد -مع ما قام بقلبه من الفرق بين المأمور والمحظور- أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه هو الذي جعله يعبده ويطيعه، وهو المَانّ عليه بذلك، لا يكون كمن يشهد الفرق بين الطاعة والمعصية، ولم يشهد أن الله هو الذي مَنّ عليه بالطاعة ويسَّرها عليه. فشهود الجمع [بلا] (¬1) فرق يورث تعطيل الأمر والنهي، حتى لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة، وشهود الفرق بلا جمع يورث تعطيل التوكل والشكر، وبورث العجب وتعظيم النفس، [وكلا] (¬2) هما نقص عما تحت الجمع من عبودية الله -تعالى- ومن تحقق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، فلا بد من الفرق في عين الجمع، [ومن الجمع] (¬3) في شهود الفرق، وأيضًا فإن الله -تعالى- مع خلقه لكل شيء بمشيئه وقدرته؛ فهو يحب ما أمر به ويرضاه ويبغض ما نهى عنه ويسخطه، فلا بد مع شهود المشيئة العامة من شهود المحبة والرضا الخاص. وكثير من الناس القدرية [و] (¬4) الجهمية الجبرية ومن دخل معهم في التصوف جعلوا الإرادة نوعاً واحداً، وجعلوها هي المحبة والرضا، قالت القدرية: والله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، فيكون في ملكه ما لا يشاء ولم يخلقه، وقالت الجهمية: بل كل ما وقع فهو بمشيئة الله، والمشيئة هي الإرادة وهي المحبة والرضا؛ فكل ما وقع فإنه يحبه ويرضاه، ولكن يريد ويحب ويرضى المأمور به مأموراً به دينًا يثيبْ (¬5) عليه، ويريد ويحب ويرضى المنهي ¬
عنه منهياً عنه معاقباً عليه، فالفرق بينهما يعود إلى أنه يريد ويحب ويرضى أن يُنعّم (¬1) هؤلاء، ويعذب هؤلاء، من غير فرق يعود إليه، ولا يحب بعض المخلوقات ويبغض بعضًا؛ كما لا يشاء بعضها دون بعض، فعنده لا يحب بعض المخلوقات دون بعض. والجهمية الجبرية والقدرية المعتزلة ومن وافقهم مشتركون في أنه ليس بين المأمور والمحظور فرق يعود إلى الرب -تبارك وتعالى-، والقائلون بالجمع من غير فرق يشاركون هؤلاء، ورأوا أنه لا فرق بالنسبة إلى الرب؛ ولكن الفرق يعود إلى العبد من حيث إن أحد العملين يقتضي حصول لذة له، والآخر يقتضي حصول ألمٍ له، وهذا من حظوظ العباد. ثم قال غلاة هؤلاء: وهذا الفرق من العبد نقص؛ لأنه فرق يعود إلى نفسه؛ [فالعبد] (¬2) له سعيٌ في حظ النفس، وأما الكمال فهو أن يفنى العبد بمراداته (¬3) جملة ولا يبقى له حظ، وأن لا يشهد إلا ربه، وإرادة الرب -عز وجل- عندهم هي المشيئة المتناولة لكل شيء، وهي المحبة والرضا عندهم، ولهذا قالوا: إنه حينئذٍ لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة. ومعلوم بالاضطرار من دين الرسل أن هذا ليس بمجرد ولا حال الأنبياء والأولياء؛ بل هم متفقون على استحسان ما أحبه الله واستقباح [ما] (¬4) نهى الله عنه؛ والحب في الله والبغض في الله؛ وذلك أوثق عرى الإيمان (¬5)، فصار العالم منهم بخلق الله وأمره وشرعه وقدره؛ الذين يفرقون بين مشيئة الله ومحبته ¬
الذين لا يثبتون إلا المشيئة العامة لا يقولون بالفرق الثاني
ورضاه كالجنيد ونحوه؛ يقولون بالفرق الثاني، والذين لا يثبتون إلا المشيئة العامة لا يقولون بالفرق الثاني، وآخرون يترددون فتارة يشهدون المشيئة العامة فقط ولا يقولون بالفرق، وتارة يثبتون محبة الله ورضاه فيقولون بالفرق الثاني، والقول بهذا الفرق لا ينافي الجمع العام، فإن مشيئة الله متناولة لكل شيء؛ وما وجد شيء محبوب ومكروه فالمشيئة متناولة له، فلهذا صار منهم من يقول: إن هذا الفرق عين من عيون الجمع، وأن أحدًا لا يخرج من الجمع الذي هو المشيئة العامة؛ فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإنما يرى الخروج من هذا المعتزلة ونحوهم من المكذبين بالقدر، القائلين إنه يكون في ملكه ما لا يشاء، وأنه لا يقدر على هدي ضال ولا ضلال مهتدٍ ونحو ذلك، وهؤلاء ضلوا في مسألة القدر كما ضلت بها المعتزلة، [فالمعتزلة] (¬1) كذبوا بالقدر رعاية للأمر والنهي، وهؤلاء أبطلوا الأمر والنهي رعاية (¬2) للقدر. وهؤلاء يحتجون بقصة آدم وموسى -عليهم السلام-، واحتجاجهم عليه بالقدر؛ هو (¬3) حجة داحضة، فإن الله -تعالى- عاتب إبليس وأهبط آدم من الجنة وأهلك قوم نوح وعاداً وثموداً وغيرهم، ولو كان القدر عذرًا لم يعاقب كافراً، وآدم -عليه السلام- تاب من الذنب فلو كان محتجًا بالقدر لم يتب. وصار آخرون يتكلمون على حديث موسى -عليه السلام- بتأويلات فاسدة، كقول بعضهم إن هذا الاحتجاج كان في غير دار التكليف كما ذكره هذا الضال، فيقال لهؤلاء: الاحتجاج بالقدر لا يسوغ في دار التكليف ولا غيرها (¬4)، فإنه قول باطل، وقول الباطل لا يسوغ بحال، وأيضًا فموسى قد لام آدم فكيف يقع الملام في غير دار تكليف؟ [وتناظرا] (¬5) وتحاجَّا ودار السلام منزهة عن الحجاج والخصام، وقال بعضهم: إنه كان أباه فما كان ينبغي له لوم أبيه، وقال: بعضهم كان تائبًا والتائب لا يلام، وقال: بعضهم كان الذنب في شريعة واللوم في أخرى، وهذا كله باطل، فإن الحديث فيه أن آدم احتج بالقدر، وقال: "لم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق؟ فحج آدم موسى". ¬
وسبب هذا الغلط أنهم فهموا من الحديث أن آدم جعل القدر حجة للمذنب وهو غلط قبيح على من هو دون آدم وموسى فكيف عليهما؟ وهذا آدم يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1) [الأعراف: 23]، وموسى يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]، قول: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} (¬2) [الأعراف: 155]، وكيف يجوز أن يظن بمثل هذين النبيين الكريمين أنهما يجوِّزان هذا؛ وعوام الناس يعرفون أن هذا باطل، إلا من كان مصطلماً قد سلب حقيقة العقل، والذي يظن أن الله يسوي بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض، وبين المتقين والفجار، وبين المسلمين والمجرمين، فإن الجمع و (¬3) توحيد الربوبية يتناول هؤلاء كلهم، فإن لم يحصل مع ذلك فرق فالجمع بين أهل البر والتقوى (¬4)، ويشهد القلب [إلهية] (¬5) الرب التي يستحق لأجلها أن يعبد دون ما سواه وأن تطاع رسله كان مسويّاً (¬6) بين هؤلاء. ولكن نكتة الحديث أن موسى لام آدم لأجل المصيبة التي لحقت الذرية من أجله، فإنه بسبب ذلك خرجوا من الجنة وصاروا في دار الشقاء، ولهذا قال: "لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة"؟ وكان لومه له لأجل المصيبة التي أصابتهم لا لمجرد الذنب من جهة حق الله، كما يقول الولد لوالده الذي أذهب ماله حتى افتقر هو وأولاده: أنت الذي أذهبت هذا المال حتى صرنا فقراء واحتجنا إلى الناس، وأنت نقلتنا إلى بلاد الغربة ونحو ذلك، فقال له آدم: هذه المصيبة كانت مكتوبة عليك مقدرة قبل أن أخلق، هي وسببها وهو الذنب، فإنه كان مكتوباً علي قبل أن أخلق بأربعين سنة (¬7). ¬
وجوب التسليم لله عند المصائب
والعبد مأمور عند المصائب بالتسليم لله -تعالى-، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم (¬1)، لهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت [كذا] (¬2) لكان كذا كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن [لو] (¬3) تفتح عمل الشيطان" (¬4)، وفي السنن عنه- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر فقل: حسبي الله، ونعم الوكيل" (¬5) , وقد قال تعالى لنبيه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]، فأمره بالصبر على المصائب، والاستغفار من الخطيئات. وكان الجنيد أفقه القوم وأعلمهم بالدين فلهذا بيّن الفرق الثاني، وأمر باتباع الأمر ولزوم الشرع ورعاية العلم، بخلاف (¬6) من لم يحقق هذا (¬7) الفرقان؛ واختطفه قدر فإنه قد يتعدى فيه إما حالًا وإما مآلاً، مثل (¬8) كثير من الشيوخ الغالطين في هذا الباب، ثم انضم إلى ذلك أنه لم يفرق بين إرادة الله ¬
ومحبته ورضاه؛ بل يرى أن جميع الحوادث خيرها وشرها بالنسبة إليه سواء صادرة عن تلك الإرادة (¬1)، وأنه لا يحب الحسنات ولا يرضاها إلا بمعنى ينعم أهلها؛ ولا يبغض السيئات ويسخطها إلا بمعنى تعذيب أهلها، ورأى أن هذا فرق يعود إلى المخلوق لا إلى الخالق، فهذا رأى أن في كمال العبودية فناء عن إرادته؛ وأنه لا يريد إلا ما يريده الحق؛ وعنده ليس له إرادة إلا هذه، لزم من هذا أنه لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ما دام هذا الفناء، لكن دوامه فيه ممتنع لأن العبد مجبول على حب ما يلائمه وبغض ما ينافيه، فإن لم يشهد ما [يتصف] (¬2) به الرب من الحب والبغض والرضى والسخط، فيحب (¬3) ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه (¬4)، ويرضى ما يرضاه، ويسخط ما يسخطه الله، وإلا فرق باعتبار نفسه، فيحب ويبغض لمجرد ذوقه ووجده وحبه وبغضه؛ لا بحب الله وبغضه وأمره ونهيه، فإن هذه الحقيقة تخالف (¬5) الشريعة، ويجعلون القيام بها لأجل [الظاهرة] (¬6) والعامة، لا من حقيقة شهودها الخاصة ويسمون هذا تلبيساً؛ وهو مقام الأنبياء، وهذا من أغاليط كثير من الشيوخ، وهو في الحقيقة خروج عن ملة إبراهيم وغيره من الرسل، وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل (¬7). ¬
الخاتمة
الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والرسل وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: فلقد أمضيت فترة من الزمن في تحقيق هذا الكتاب "كتاب الاستغاثة في الرد على البكري"، للإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، الذي رد به على أحد القبورية المعاصرين له. وفي نهاية هذا التحقيق لا بد من وقفة نعرض فيها لمعالم الكتاب في النقاط التالية: 1 - هذا الكتاب في بيان التوحيد؛ الذي جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ونفي الشرك عن الصمد المجيد. 2 - هو جزء من جهود شيخ الإسلام ابن تيمية العلمية والعملية في الرد على أهل البدع، والذب عن العقيدة الصحيحة، وهو أيضاً جزء من ردود علماء أهل السنة والجماعة. 3 - يرسم لنا هذا الكتاب منهجًا علمياً لردود أهل السنة على المبتدعة، والتي تتميز بالعدل والإنصاف، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإخلاص في النصح للخصم مهما كانت خصومته، بل ومحبة الخير والتوفيق والهداية له. 4 - ويقابل هذا المنهج منهج أهل البدعة، والذي يتميز بالكذب على المخالف، وطلب العلو في الأرض بغير الحق، وتكفير المخالف وإن كان محقاً. 5 - التوحيد الذي جاءت به الرسل هو توحيد الإلهية، وفيه كان النزل
بين الرسل وأممهم، وقد أخطأ من ظن أن توحيد الربوبية يكفي للنجاة من النار ودخول الجنة. 6 - التوحيد الذي يعرفه أهل الكلام ومن شايعهم من الصوفية وغيرهم هو توحيد الربوبية، أقرَّ به مشركو العرب في الجاهلية، وقد أدى هذا الفهم الخاطئ للتوحيد إلى وقوع كثير منهم في الشرك ووسائله. 7 - التكفير حق لله -تعالى-، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، فلا يحق لأحدٍ أن يكفر من كفره. 8 - بدع القبور والمشاهد لم تعرف في القرون الفاضلة، وقد ظهرت عند الرافضة في آخر القرن الثالث الهجري، ثم انتشرت عن طريق الطرق الصوفية، الذين نقلوا هذه البدع ودعاويها الباطلة من الرافضة وغيرهم، كما أثبت المؤلف في هذا الكتاب. 9 - هذا الكتاب ليس رداً على شخص البكري، بل هو رد على طوائف من الغلاة، كثير عددهم واسع انتشارهم، وهم عند كثير من الناس مشايخ الإسلام وسادة الأنام، وأهل التحقيق والتوحيد. 10 - القبورية أو عبَّاد القبور أو المقابرية، نسبة للقبور، وهم كل طائفة جاوزت الحد في تعظيم القبور، وهم في كثير من الأمم؛ فمقل ومستكثر، وسلفهم قوم نوح -عليه السلام-. 11 - القبورية من أخطر الطوائف على الإسلام وأهله، وقد جمعوا شرك الطوائف؛ فأشركوا في توحيد الأسماء والصفات وفي توحيد الربوبية والإلهية. وهم أشد وثنية من مشركي العرب، وأكثر خضوعاً للأموات من خالق البريات. 12 - خيانة القبورية للأمة الإسلامية في الشدائد والمحن، مثل موقفهم مع التتار فقد لاذوا بالقبور، بل إن منهم من عد التتار من أولياء الله، وكذلك فعل معاصروهم مع المحتلين للبلاد الإسلامية في العصر الحديث. 13 - تخويف القبورية لكل ناه لهم عن الشرك وآمر لهم بالتوحيد، كما فعل أسلافهم من الأمم المكذبة للرسل -عليهم السلام-، وكذلك فعلوا مع المؤلف وأجلبوا عليه بخيلهم ورَجِلِهم؛ ولكن الله رد كيدهم في نحورهم وجعل الدائرة عليهم.
14 - إن القبورية يسمون عقائدهم الفاسدة بأسماء برَّاقة، فسموا الشرك بالله -تعالى- تعظيمًا للأولياء والصالحين؛ والاستغاثة بغير الله توسلاً؛ وادعاء علم الغيب مكاشفة، إلى غير ذلك من الدعاوى الباطلة. 15 - القبورية أعظم الناس إيذاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - بتسليط العامة عليه لطلب الحاجات منه، وحاجاتهم لا تنضبط؛ ولا حد لها. 16 - بدع القبورية أُخذت من فلاسفة اليونان، وممن أخذ عنهم ممن سموا بفلاسفة الإسلام وأهل الكلام، فهم (أي فلاسفة اليونان) قبورية. وكذلك من الرافضة الذين أصل دينهم تقديس الأئمة وعبادتهم، ومن أهل الأديان السابقة، كتابيِّهم ووثنيِّهم. 17 - الاستغاثة بالأموات من أهم عقائد القبورية عندهم، وقد يسمونها -تلبيسًا على من لم يعرف حقيقة أمرهم- استمداداً أو توسلاً أو غير ذلك، وهذه التسميات لا تعرف في لغة العرب ولم يسبقهم أحد بهذه التسميات. 18 - جواز الاستغاثة بالإنسان الحي الحاضر فيما يقدر عليه، لا ينازع فيه أحد، أما الاستغاثة بالأموات أو بالقبور أو بالأحياء فيما هو من خصائص الرب تبارك وتعالى فهو شرك بالله -عز وجل-. 19 - تلاعب الشياطين بالقبورية، وإجابة بعض مطالبهم؛ لإضلالهم وفتنتهم؛ وما يحدث عند القبور هو من جنس ما يحدث عند الأصنام سواء بسواء. 20 - اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيان التوحيد، وحماية جنابه وسد ذرائع الشرك ووسائله، كما صحت بذلك الأخبار. 21 - معرفة أماكن القبور ليست من الدين الذي تكفل الله بحفظه، ولذا ثبت كذب كثير من، المشاهد التي يعظمها الجهلة، مثل مشهد رأس الحسين، وقبر نوح، وقبر أبيّ بن كعب وغيرها. 22 - إجماع العلماء في عصر المؤلف على موافقته في منع الاستغاثة بغير الله وهو الثقة فيما ينقل، وللعلماء من المذاهب الأربعة جهود طيبة في الرد على هذا الشرك. 23 - النهي عن الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لتحقيق العموم، وأن من دونه أولى
بالنهي، وليس فيها تنقص له - صلى الله عليه وسلم -، بل هو من أحسن الكلام. 24 - رواج الأحاديث الموضوعة والقصص المكذوبة عند القبورية والروافض وغيرهم من أهل البدع، وقد ذكر المؤلف طائفة منها. 25 - لا يجوز الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي عليه الجمهور عدم انعقاد اليمين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز الإقسام به على الله تعالى. 26 - البناء على القبور وتزيينها وتطييبها حدث في دول الرافضة كدولة العبيدين والدولة البويهية، بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وانتشرت بعد ذلك تلك البدع نتيجة الجهل بآثار الرسالة. 27 - أعظم وسيلة لمعالجة ضلال القبورية هو بيان السنة للمسلمين في كل مكان وبمختلف الوسائل، وبيان كذب الأحاديث التي يعتمدون عليها، والقصص المكذوبة التي يذكرونها، وبيان حقيقة دين القبورية ومخالفتهم لأصول الإسلام. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
فهرس المصادر والمراجع
فهرس المصادر والمراجع - أ - 1 - الآيات البينات في عدم سماع الأموات، تأليف نعمان الألوسي، ت. الألباني، ط. الرابعة 1405 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 2 - أحكام الجنائز وبدعها للألباني، ط. الأولى 1412 هـ , الناشر مكتبة المعارف الرياض - السعودية. 3 - الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، تعليق عبد الرزاق عفيفي، ط. الثانية 1402 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 4 - الاختيار لتعليل المختار، تأليف عبد الله الموصلي الحنفي، تعليق محمود أبو دقيقة، ط. الثالثة 1395 هـ، الناشر دار المعرفة. 5 - أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، تأليف محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي، ت. محمد نظام الدين، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر دار ابن كثير دمشق، بيروت. 6 - أصول الفقه، تأليف د. محمود أبو النور زهير، ط. 1412 هـ الناشر المكتبة الأزهرية للتراث - القاهرة. 7 - أصول مذهب الشيعة الإمامية، تأليف د. ناصر القفاري، ط. الثانية 1415 هـ. 8 - الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، تأليف عمر بن علي البزار، ت. زهير الشاويش، ط. الثالثة 1400 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 9 - الأعلام، تأليف خير الدين الزركلي، ط. العاشرة 1992 م، الناشر دار العلم للملايين بيروت - لبنان. 10 - أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى ج 8. 11 - آكام المرجان في عجائب وغرائب الجان، تأليف بدر الدين الشبلي، ط. الأولى 1408 هـ، الناشر المكتبة العصرية بيروت - لبنان. 12 - الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي، ت. مصطفى عاشور، الناشر مكتبة القرآن - القاهرة. 13 - الأموال لأبي عبيد بن سلام، ت. محمد خليل هراس، ط. الأولى 1406 هـ. 14 - أهوال القبور في أحوال أهلها إلى النشور، لابن رجب، ط. 1357 هـ , مطبعة أم القرى مكة المكرمة.
15 - أوراق مجموعة من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، تأليف محمد الشيباني، ط. الأولى 1409 هـ، الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة. 16 - أول واجب على المكلف، تأليف الشيخ عبد الله الغنيمان، ط. الأولى 1410 هـ, الناشر مكتبة لينة دمنهور - مصر. 17 - أولياء الله بين المفهوم الصوفي والمنهج السني السلفي، تأليف عبد الرحمن دمشقية، ط. الأولى 1413 هـ, الناشر الدار العالمية للكتاب الإسلامي الرياض - السعودية. 18 - الأولياء لابن أبي الدنيا، ت. مجدي السيد إبراهيم، الناشر مكتبة القرآن القاهرة ومكتبة الساعي الرياض - السعودية. 19 - إتحاف الأذكياء بجواز التوسل بالأنبياء والأولياء، تأليف عبد الله بن محمد الحسيني، ط. الثانية 1405 هـ. 20 - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (صحيح ابن حبان)، لعلاء الدين علي بن بلبان، ت. شعيب الأرنؤوط، ط. الأولى 1412 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 21 - إرشاد السالك إلى أفعال المناسك لابن فرحون المالكي، ت. محمد الهادي، ط. الثلاثية الرابعة لسنة 1988 م، الناشر وزارة الثقافة والأعلام بتونس. 22 - إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل، تأليف سليمان بن سحمان الحنبلي، ت. عبد السلام بن برجس، النشرة الأولى 1409 هـ الناشر، دار العاصمة الرياض. 23 - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية، ت. د. ناصر العقل، ط. الثالثة 1413 هـ , الناشر مكتبة الرشد - الرياض. 24 - الإلحادية لأبي إسلام مصطفى سلامة، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر دار التقوى ومكتبة خالد بن الوليد عمان - الأردن. 25 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل، تأليف علاء الدين علي بن سليمان المرداوي، ت. دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان. 26 - إيثار الحق على الخلق، لابن المرتضى اليماني، ط. مكتبة ابن تيمية القاهرة، ومكتبة العلم جدة. 27 - الابتهاج بأذكار المسافر والحاج للسخاوي، ت. رضوان محمد رضوان، ط. الأولى 1371 هـ , الناشر دار الكتاب - مصر. 28 - ابن تيمية السلفي، تأليف محمد خليل هراس، ط. الأولى 1404 هـ, الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 29 - ابن سبعين وفلسفته الصوفية، تأليف د. أبو الوفا الغنيمي التفتازانى، ط. الأولى 1973 م، الناشر دار الكتاب اللبناني بيروت - لبنان. 30 - إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، ط. 1356 هـ, لجنة نشر الثقافة الإسلامية وبذيله تخريج الإحياء.
31 - إخوان الصفا تأليف عمر الدسوقي، ط. الثالثة، الناشر دار النهضة القاهرة - مصر. 32 - الأدب المفرد، تأليف محمد بن إسماعيل البخاري، ترتيب كمال يوسف الحوت، ط. الثانية 1405 هـ , الناشر عالم الكتب بيروت - لبنان. 33 - الأذكار، تأليف محيي الدين يحيى بن شرف النووي، ت. عبد القادر الأرنؤوط، ط. الثانية 1409 هـ، الناشر دار الهدى الرياض. 34 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لأبي المعالي الجويني، ت. أسعد تميم، ط. الأولى 1405 هـ , الناشر مؤسسة الكتب الثقافية بيروت - لبنان. 35 - الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد، تأليف الشيخ سليمان بن سحمان، ط. الثانية 1376 هـ بأمر الملك سعود - رحمه الله -. 36 - الاستذكار لابن عبد البر، ت. علي ناصف النجدي، ط. إحياء التراث الإسلامي الجمهورية العربية المتحدة. 37 - الاستقامة لابن تيمية، ت. د. محمد رشاد سالم، ط. الثانية 1409 هـ الناشر مكتبة السنة القاهرة - مصر. 38 - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، تأليف نور الدين علي بن محمد بن سلطان المشهور ملا علي القاري، ت. د. محمد لطفي الصباغ، ط. الثانية 1406 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت. 39 - أسماء الله وصفاته في معتقد أهل السنة والجماعة، تأليف د. عمر بن سليمان الأشقر، ط. الثانية 1414 هـ , الناشر دار النفائس عمان الأردن. 40 - الأسماء والصفات لأبي بكر البيهقي، ت. عماد الدين أحمد حيدر، ط. الأولى 1415 هـ دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 41 - أسماء ومؤلفات ابن تيمية، تأليف ابن القيم، ت. د. صلاح المنجد، ط. الثالثة 1976 م. 42 - الإصابة في تمييز الصحابة، تأليف أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت. علي محمد البجاوي، مطبعة نهضة مصر الفجالة القاهرة. 43 - اصطلاحات الصوفية، تأليف كمال الدين عبد الرزاق الكاشي السمرقندي، ط. سلسلة إشاعة العلو - القاهرة. 44 - إصلاح المساجد من البدع والعوائد، تأليف محمد بن جمال الدين القاسمي تخريج وتعليق الألباني، ط. الرابعة 1403 هـ, الناشر المكتب الإسلامي بيروت. 45 - إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، تأليف الإمام محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، ت. محمد عفيفي، ط. الثانية 1409 هـ, الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان، ومكتبة الخاني الرياض - السعودية. 46 - الإغاثة بأدلة الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، تأليف حسن علي السقاف، ط. الأولى 1410 هـ، الناشر مكتبة الإمام النووي عمان - الأردن. 47 - الإيضاح في المناسك للنووي، ط. الثانية 1406 هـ.
-ب-
- ب - 48 - الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة، ت. عادل عبد المنعم الناشر مكتبة الساعي - الرياض. 49 - بدائع الفوائد لابن القيم، ت. بشير عيون، ط. الأولى 1415 هـ , الناشر مكتبة المؤيد الرياض - السعودية. 50 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تأليف محمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد (الحفيد)، ط. مكتبة الرياض الحديثة الرياض - السعودية. 51 - البداية والنهاية، تأليف إسماعيل بن كثير، ت. أحمد فتيح، ط. الأولى 1413 هـ الناشر دار الحديث القاهرة - مصر. 52 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، تأليف محمد بن علي الشوكاني، ط. الأولى 1348 هـ , الناشر مطبعة السعادة - مصر. 53 - البدع والنهي عنها لابن وضاح، ط. الثانية 1402 هـ، الناشر دار الرائد العربي بيروت - لبنان. 54 - بيت الصديق، تأليف محمد بن توفيق البكري، ط. 1323 هـ، الناشر مكتبة المؤيد - القاهرة. - ت - 55 - تأويل مختلف الحديث لأبي محمد عبد الله مسلم بن قتيبة، ت. محمد محيي الدين الأصفر، ط. الأولى 1409 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت ودار الإشراق بيروت - لبنان. 56 - تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، تأليف محمد بن جرير الطبري، ط. الثالثة 1411 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 57 - تاريخ الجهمية والمعتزلة، تأليف جمال الدين القاسمي، ط. الثالثة 1405 هـ الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 58 - تاريخ الخلفاء، تأليف جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت. محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. الأولى 1383 هـ , الناشر مطبعة المدني القاهرة. 59 - تاريخ الفلسفة اليونانية، تأليف يوسف كرم، ط. دار القلم بيروت - لبنان. 60 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ط. الأولى 1409 هـ , الناشر مكتبة الخانجي القاهرة والمكتبة العربية بغداد. 61 - تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب، تأليف محمد لطفي جمعة، الناشر المكتبة العلمية. 62 - تاريخ مدينة دمشق، تأليف ابن عساكر، ت. د. شكري فيصل، سكينة الشهابي، ومطاع الطرابيشي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. 63 - التعريفات، تأليف علي الجرجاني، ط. الثالثة 1408 هـ, الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.
64 - تحفة الأحوذي للمباركفوري تصحيح عبد الرحمن محمد عثمان، ط. الثانية 1384 هـ مطبعة الجفالة الجديدة - مصر. 65 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، تأليف جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي، صححه وعلق عليه عبد الصمد شرف الدين، ط. الأولى 1403 هـ الدار القيمة بومباي - الهند مع النكت الظراف على الأطراف لابن حجر. 66 - تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس، تأليف عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ ت. عبد السلام بن برجس، ط. الأولى 1408 هـ الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. 67 - التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية للشيخ فالح آل مهدي تصحيح د. عبد الرحمن المحمود، ط. الأولى 1414 هـ، الناشر دار الوطن الرياض - السعودية. 68 - تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد، تأليف فريح البهلال، ط. الأولى 1415 هـ , الناشر دار الأثر الرياض - السعودية. 69 - تذكرة الموضوعات، تأليف محمد طاهر بن علي الهندي 1399 هـ , ط. الناشر دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان وفي ذيلها قانون الموضوعات الضعفاء. 70 - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي، ت. د. السيد الجميلي، الناشر دار ابن زيدون بيروت - لبنان، ومكتبة مدبولي القاهرة - مصر. 71 - ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض ت. أحمد بكير، ط. دار مكتبة الحياة بيروت - لبنان. - طبعة أخرى: ت. سعيد إعراب، ط. الأولى، مطبعة فضالة المحمدية بالمغرب. 72 - الترغيب والترهيب للمنذري، ضبط وتعليق مصطفى عمارة، ط. 1401 هـ، الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 73 - التصوف المنشأ والمصادر، تأليف إحسان إلهي ظهير، ط. الأولى 1406 هـ , الناشر إدارة ترجمان السنة لاهور - باكستان. 74 - التعرف لمذهب أهل التصوف، تأليف محمد بن إسحاق الكلاباذي، ضبط وتخريج أحمد شمس الدين، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 75 - تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس لابن حجر العسقلاني، ت. د. أحمد المباركي، ط. الثانية 1414 هـ. 76 - تغليق التعليق على صحيح البخاري، تأليف أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت. سعيد عبد الرحمن موسى القزفي، ط. الأولى 1405 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت - دمشق، ودار عمار عمان - الأردن. 77 - تفسير الفخر الرازي المشتهر بـ "التفسير الكبير ومفاتيح الغيب"، تأليف فخر الدين محمد بن عمر الرازي، ط. 1410 هـ , الناشر دار الفكر - بيروت. 78 - تفسير القرآن العظيم، تأليف ابن كثير، ط 1403 هـ، الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان.
-ج-
79 - تقريب التهذيب، تأليف ابن حجر العسقلاني، ت. مصطفى عبد القادر عطا، ط. الأولى 1413 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 80 - تقريب الوصول إلى علم الأصول لأبي القاسم محمد الغرناطي، ت. د. محمد المختار الشنقيطي، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة، ومكتبة العلم جدة. 81 - التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، لزين الدين العراقي، ت. عبد الرحمن محمد عثمان، ط. الأولى 1389 هـ , الناشر المكتبة السلفية المدينة المنورة - السعودية. 82 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر، ت. عبد الله صديق. 83 - تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدارسي والحلبى، تأليف أحمد بن عيسى، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر مكتبة لينه دمنهور - مصر. 84 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، تأليف الملطي ت. يمان المياديني، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر رمادي الدمام - السعودية. 85 - تهافت الفلاسفة للغزالي، ت. د. سليمان دنيا، ط. السادسة، الناشر دار المعارف القاهرة - مصر. 86 - التوحيد وإثبات صفات الرب - عز وجل - لابن خزيمة، ت. د. عبد العزيز الشهوان، ط. الثالثة 1414 هـ , الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. 87 - التوحيد ومعرفة أسماء الله - عز وجل - وصفاته على الاتفاق والتفرد لابن منده، ت. د. علي الفقيهي، ط. الثانية 1414 هـ , الناشر مكتبة الغرباء الأثرية المدينة المنورة - السعودية. 88 - التوسل أنواعه وأحكامه للألباني، تنسيق محمد عيد العباسي، ط. الخامسة 1406 هـ، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 89 - التوصل إلى حقيقة التوسل المشروع والممنوع، تأليف محمد نسيب الرفاعي، ط. الثالثة 1399 هـ. 90 - التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تأليف سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ط. الأولى 1404 هـ , الناشر دار طيبة الرياض - السعودبة. - ج - 91 - جامع البيان في تأويل القرآن (تفسير الطبري)، تأليف محمد بن جرير الطبري، ط. الأولى 1412 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 92 - جامع الترمذي، تأليف محمد بن عيسى الترمذي، عناية د. بدر الدين جنتن آر، ط. الثانية 1413 هـ الناشر دار سحنون - تونس. 93 - جامع العلوم والحكم، تأليف ابن رجب، ت. شعيب الأرنؤوط وإبراهيم باجس، ط. الثالثة 1412 هـ، الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان.
-ح-
94 - الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي، ط. الثانية 1372 هـ (لم يذكر الناشر) تصحيح أحمد البردوني شاركه في التصحيح بعد المجلد الرابع إبراهيم طفيش وآخرون. 95 - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي، ط. الأولى 1372 هـ , الناشر مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - الهند. 96 - جزء في عقيدة ابن عربي وحياته من كتاب العقد الثمين لتقي الدين الفاسي، عناية علي حسن عبد الحميد، ط. الثانية 1413 هـ , الناشر دار ابن الجوزي الدمام - السعودية. 97 - جزء منتقى من حديث ولي الدين العراقي، ت. حمدي عبد المجيد السلفي - مجلة الحكمة العدد الخامس في شهر شوال 1415 هـ. 98 - جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، تأليف شمس الدين الأفغاني، ط. الأولى 1416 هـ , الناشر دار الصميعي الرياض. - ح - 99 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم، ت. علي الشربجي وقاسم نوري، ط. الأولى 1412 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 100 - حاشية الروض المربع شرح زاد المستنقع، جمع عبد الرحمن بن قاسم النجدي، ط. الثانية 1403 هـ. 101 - الحاوي للفتاوي، تأليف جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ط. دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 102 - الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة إملاء قوام السنة الأصبهاني، ت. محمد ربيع المدخلي، ط. الأولى 1411 هـ، الناشر دار الراية الرياض - السعودية. 103 - حديث الإفك، تأليف عبد الغني المقدسي، ت. هشام السقا، ط. 1405 هـ, الناشر دار عالم الكتب الرياض - السعودية. 104 - حسن المحاضرة، تأليف جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ت. محمد إبراهيم، ط. الأولى 1387 هـ , ط. عيسى البابي الحلبي. 105 - حقيقة الجن والشياطين، تأليف محمد علي السيدابي، ط. الأولى 1407 هـ , الناشر دار الحارث الخرطوم - السودان. 106 - الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، تأليف د. محمد ربيع المدخلي، ط. الأولى 1409 هـ , الناشر مكتبة لينة دمنهور. 107 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني، ط. الخامسة 1407 هـ دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 108 - الحوادث والبدع لأبي بكر الطرطوشي، ت. علي حسن عبد الحميد، ط. الأولى 1411 هـ، الناشر دار ابن الجوزي الدمام.
-خ-
109 - حياة الأنبياء بعد وفاتهم للبيهقي، ت. د. أحمد الغامدي، ط. الأولى 1414 هـ الناشر مكتبة العلوم والحكمة المدينة المنورة - السعودية. - خ - 110 - ختم الولاية، تأليف الحكيم الترمذي، ت. عثمان إسماعيل يحيى، ط. المطبعة الكاثوليكية بيروت - لبنان. 111 - الخضر وآثاره بين الحقيقة والخرافة، تأليف أحمد الحصين، ط. الأولى 1407 هـ , والناشر دار البخاري بريدة - السعودية. 112 - خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل، تأليف محمد بن إسماعيل البخاري، ط. الأولى 1404 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 113 - خوارق العادات، تأليف مجدي محمد الشهاوي، الناشر مكتبة الفرات القاهرة - مصر. - د - 114 - دائرة المعارف الإسلامية، تأليف مجموعة من المستشرقين، ترجمها للعربية أحمد الشنتناوي، إبراهيم خورشيد، عبد الحميد يونس راجعها د. محمد مهدي علام، الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان. 115 - دائرة معارف القرن العشرين، تأليف محمد فريد وجدي، ط. الثانية 341، مطبعة دائرة معارف القرن العشرين. 116 - دحض شبهات على التوحيد من الفهم لثلاثة أحاديث، تأليف عبد الله أبا بطين الحنبلي، ت. عبد السلام بن برجس، ط. الأولى 1406 هـ. 117 - الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد للإمام الشوكاني، ت. أبي عبد الله الحلبىِ، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر دار ابن خزيمة الرياض. 118 - الدر النضيد في تخريج كتاب التوحيد، تأليف صالح العصيمي، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر دار ابن خزيمة الرياض - السعودية. 119 - درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، ت. د. محمد رشاد سالم، ط. دار الكنوز الأدبية. 120 - دراسات في التصوف، تأليف إحسان إلهي ظهير، ط. الأولى 1409 هـ الناشر إدارة ترجمان السنة لاهور - باكستان. 121 - دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين، تأليف د. أحمد جلي، ط. الثانية 1408 هـ الناشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية الرياض - السعودية. 122 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني، ط. دار الجيل بيروت - لبنان. 123 - دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقد، تأليف عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، ط. الأولى 1412 هـ, الناشر دار العاصمة - الرياض.
-ذ-
124 - الدعوات الكبير لأبي بكر البيهقي، ت. بدر البدر، ط. الأولى 1409 هـ الناشر مركز المخطوطات والتراث والوثائق - الكويت. 125 - دعوة التوحيد، تأليف د. محمد خليل هراس، ط. الأولى 1406 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 126 - دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، ت. د. محمد رواس وعبد البر عباس، ط. الثالثة 1412 هـ, الناشر دار النفائس بيروت - لبنان. 127 - دلائل النبوة للبيهقي، ت. د. عبد المعطي قلعجي، ط. الأولى 1405 هـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 128 - ديوان أمية بن أبي الصلت جمع بشير يموت، ط. الأولى 1934 م، الناشر المكتبة الأهلية بيروت - لبنان. 129 - ديوان الأمير الصنعاني للإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني قدم له وأشرف على طبعه علي السيد صبح المدني، ط. الأولى 1384 هـ, مطبعة المدني القاهرة على نفقة الشيخ علي عبد الله آل ثاني. 130 - ديوان البوصيري، لأبي عبد الله محمد بن سعيد البوصيري: ت. محمد سيد كيلاني، ط. الأولى 1374 هـ , الناشر مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. 131 - ديوان المتنبي، ط. 1403 هـ، الناشر دار صادر بيروت. 132 - ديوان عبد الله بن رواحة ودراسة في سيرته وشعره، جمع د. وليد قصاب، ط. الأولى 1402 هـ دار العلوم. - ذ - 133 - ذيل طبقات الفقهاء الشافعيين للعبادي، ت. د. أحمد عمر هاشم ود. محمد زينهم، ط. المكتبة الثقافية الدينية بورسعيد - مصر. 134 - الذيل على طبقات الحنابلة، تأليف ابن رجب تصحيح محمد حامد الفقي، ط. 1372 هـ , مطبعة السنة المحمدية القاهرة. 135 - ذيول العبر في خبر من غبر، تأليف شمس الدين محمد الذهبي ت. أبي هاجر محمد السعيد زغلول، ط. الأولى 1405 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. - ر - 136 - رأس الحسين لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى ج 27. 137 - الرحمة الغيثية بالترجمة الليثية لابن حجر العسقلاني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية تصحيح إدارة الطباعة المنيرية، ط. 1343 هـ , الناشر مكتبة طيبة الرياض. 138 - الرد على الأخناني لابن تيمية بهامش الرد على البكري، ط. 1346 هـ. 139 - الرد على الجهمية للإمام عثمان بن سعيد الدارمي، تخريج وتعليق بدر البدر، ط. الأولى 1405 هـ , الناشر الدار السلفية حولي - الكويت.
140 - الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد، ت. د. عبد الرحمن عميرة، ط. الثانية 1402 هـ , الناشر دار اللواء الرياض - السعودية. 141 - الرد على شبهات المستغيثين بغير الله، تأليف أحمد بن إبراهيم بن عيسى ضمن الجامع الفريد، ط. الثانية على نفقة عبد العزيز ومحمد الجميح. 142 - رسائل إخوان الصفا المقدمة لبطرس البستاني، ط. 1376 هـ , الناشر دار صادر بيروت - لبنان. 143 - الرسالة للإمام محمد بن إدريس الشافعي، ت. أحمد شاكر، ط. دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 144 - رسالة الشرك ومظاهره، تأليف مبارك محمد الميلي، ط. الأولى 1409 هـ الناشر مكتبة الإيمان الاسكندرية - مصر. 145 - الرسالة القشيرية، تأليف عبد الكريم القشيري، ت. د. عبد العليم محمود ومحمود الشريف. 146 - رسالة في وجوب التوحيد، تأليف محمد علي الشوكاني، ت. د. محمد ربيع مدخلي، ط. الأولى 1412 هـ الناشر دار المنار القاهرة - مصر. 147 - الرسل والرسالات، تأليف د. عمر بن سليمان الأشقر، ط. الرابعة 1410 هـ الناشر مكتبة الفلاح ودار النفائس الكويت. 148 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، تأليف الألوسي البغدادي، الناشر مكتبة دار التراث - القاهرة. 149 - الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والماتريدية، تأليف الحسن بن عبد المحسن المشهور بأبي عذبة، ت. د. عبد الرحمن عميرة، ط. الأولى 1409 هـ الناشر عالم الكتب بيروت - لبنان. 150 - روضة الطالبين وعمدة المفتين للإمام النووي، أشرف على طبعه زهير الشاويش، ط. الثانية 1405 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 151 - روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد، تأليف موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي، ت. عبد الكريم النملة، ط. الأولى 1413 هـ. 152 - زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، ت. شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، ط. الخامسة والعشرون 1412 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة - بيروت ومكتبة المنار الكويت. 153 - الزهد الكبير للبيهقي، ت. د. تقي الدين الندوي، ط. الثانية 1403 هـ الناشر دار القلم الكويت. 154 - الزهر النضر في نبأ الخضر، تأليف ابن حجر العسقلاني ضمن مجموعة الرسائل المنبرية، ط. مكتبة طيبة الرياض - السعودية. 155 - الزواجر عن اقتراف الكبائر، ويليه كف الرعاع والإعلام بقواطع الإسلام، تأليف أبي العباس أحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي، الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان 1402 هـ.
-س-
- س - 156 - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها، تأليف محمد ناصر الدين الألباني، ج 1 وج 2 , ط. الرابعة 1405 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت، ج 5، ط. الأولى 1412 هـ الناشر مكتبة المعارف الرياض. 157 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، تأليف العلامة محمد ناصر الدين الألباني، ج 1, ط الخامسة 1405 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت، ج 2، ط. الرابعة 1408 هـ الناشر مكتبة المعارف الرياض. 158 - سنن أبي داود , تأليف سليمان بن الأشعث السجستاني، عناية د. بدر الدين جنتن آر, ط. الثانية 1413 هـ، الناشر دار سحنون - تونس. - طبعة أخرى ت. محمد عبد الحميد محيي الدين. 159 - سنن ابن ماجه , تأليف محمد بن يزيد بن ماجه، ت. د. محمد الأعظمي، ط. الأولى 1403 هـ , الناشر شركة الطباعة العربية السعودية - الرياض. 160 - سنن الدارقطني , تأليف علي بن عمر الدارقطني، تصحيح عبد الله هاشم يماني المدني , ط. دار المحاسن للطباعة القاهرة، وبذيله التعليق المغني على الدارقطني لأبي الطيب محمد شمس الحق آبادي. 161 - سنن الدارمي , تأليف عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عناية وتعليق د. بدر الدين جنتن آر , ط. الثانية 1413 هـ , الناشر دار سحنون - تونس. 162 - السنن الكبرى لأبي بكر أحمد البيهقي وبذيله الجوهر النقي لابن التركماني، ط. دار المعرفة بيروت ـ لبنان. 163 - سنن النسائي ,تأليف أحمد بن شعيب النسائي عناية د. بدر الدين جنتن آر، ط. الثالثة 1413 هـ , الناشر دار سحنون تونس. 164 - سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، أشرف على تحقيقه شعيب الأرنؤوط، ط. السادسة 1409 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 165 - سير الأولياء في القرن السابع، تأليف صفي الدين الحسين الأنصاري، ت. مأمون ياسين وعفت وصال , ط. الأولى الناشر دار العالم بيروت - لبنان. 166 - السيرة النبوية لابن هشام ت. مصطفى السقا وآخرين، الناشر المكتبة العلمية بيروت - لبنان. - ش - 167 - شبهات التصوف تأليف عمر قريشي، الناشر دار الهدى القاهرة - مصر. 168 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تأليف عبد الحي بن عماد الحنبلي، ط. الثانية 1399 هـ الناشر دار المسيرة بيروت - لبنان. 169 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم هبة الله اللالكائي ت. د. أحمد حمدان , ط. الثانية 1411 هـ الناشر دار طيبة الرياض.
170 - شرح الأصول الخمسة، تأليف القاضي عبد الجبار المعتزلي، تعليق أحمد بن الحسين، ت. د. عبد الكريم زيدان، ط. الثالثة رمضان 1408 هـ , الناشر مكتبة وهبة القاهرة. 171 - شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، ت. محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. الثانية، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي 1365 هـ. 172 - شرح التحفة الوردية لزين الدين عمر بن مظفر بن الوردي، ت. د. عبد الله الشلال، ط. 1409 هـ الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. 173 - شرح السنة، تأليف الحسين بن مسعود الفراء البغوي، ت. شعيب الأرنؤوط، ط. الأولى 1390 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 174 - شرح العقائد النسفية، تأليف سعد الدين التفتازاني، ت. د. أحمد حجازي السقا، ط. الأولى 1407 هـ الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - مصر. 175 - شرح العقيدة الطحاوية شرح ابن أبي العز الحنفي، خرج أحاديثها العلامة الألباني، ط. الثامنة 1404 هـ , الناشر المكتب الإسلامى بيروت - لبنان. 176 - شرح المقاصد، تأليف سعد الدين التفتازاني، ت. د. عبد الرحمن عميرة، ط. الأولى 1409 هـ , الناشر دار عالم الكتب بيروت - لبنان. 177 - شرح حديث عمران بن حصين لابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى ج 18. 178 - شرح ذات الشفا، تأليف محمد بن الحاج الكردي، ت. حمدي عبد المجيد السلفي وصابر الزيباري، ط. الأولى 1407 هـ , الناشر دار عالم الكتب بيروت - لبنان. 179 - شرح صحيح مسلم، تأليف محيي الدين النووي، مراجعة خليل الميس، ط. الأولى 1407 هـ الناشر دار القلم بيروت - لبنان. 180 - شرح مسند الإمام أحمد شرح أحمد شاكر، ط. الرابعة 1373 هـ الناشر دار المعارف - مصر. 181 - شرح نخبة الفكر لابن حجر العسقلاني، تعليق محمد الصباغ، ط. الثانية 1410 هـ , الناشر مكتبة الغزالي دمشق. 182 - الشريعة للآجري، ت. محمد حامد الفقي، ط. الأولى 1369 هـ , الناشر مطبعة السنة المحمدية. 183 - شفاء السقام في زيارة خير الأنام للسبكي، ط. الثانية 1978 م، الناشر دار الآفاق الجديدة بيروت - لبنان. 184 - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، تأليف ابن قيم الجوزية، تخريج وتعليق مصطفى الشلبي، ط. الأولى 1412 هـ , الناشر مكتبة السوادي جدة - السعودية. 185 - الشفاء بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، ت. محمد أمين وآخرون، ط. مكتبة الفارابي ومؤسسة علوم القرآن دمشق. - طبعة أخرى؛ بتحقيق محمد البجاوي، ط. دار الكتاب العربي.
-ص-
186 - الشفاعة، تأليف عبد الرحمن بن مقبل بن هادي الوادعي، ط. الثانية 1403 هـ , الناشر مكتبة دار الأرقم - الكويت. 187 - الشهادة التركية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، تأليف مرعي الكرمي الحنبلي ت. نجم عبد الرحمن؛ ط. الأولى 1404 هـ الناشر دار الفرقان عمان - الأردن، ومؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 188 - شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، تأليف يوسف النبهاني، ط. الثانية 1374 هـ , الناشر مكتبة مصطفى البابي وأولاده - مصر. 189 - شيخ الإسلام ابن تيمية سيرته وأخباره عند المؤرخين جمع صلاح الدين المنجد، ط. الأولى 1967 م، الناشر دار الكتاب الجديد بيروت - لبنان. - ص - 190 - الصارم المنكي في الرد على السبكي، لابن عبد الهادي، ت. أبي عبد الرحمن السلفي، ط. الأولى 1412 هـ الناشر مؤسسة الرياض - بيروت. 191 - صبح الأعشى في صناعة الإنشا، لأبي العباس أحمد بن علي القلقشندي، مصورة عن ط. الأميرية، الناشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي. 192 - صحيح ابن خزيمة لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، ت. د. مصطفى الأعظمي، ط. الثانية 1401 هـ، شركة الطباعة العربية السعودية المحدودة. 193 - صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، للعلامة الألباني، ط. الثانية 1415 هـ الناشر دار الصديق الجبيل - السعودية. 194 - صحيح البخاري للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، ت. محمد علي قطب، ط. 1411 هـ، الناشر المكتبة العصرية بيروت - لبنان. 195 - صحيح الجامع الصغير وزيادته، تأليف العلامة محمد بن ناصر الدين الألباني، أشرف على طبعه زهير الشاويش، ط. الثانية 1406 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 196 - صحيح سنن أبي داود للألباني، ط. الأولى 1409 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 197 - صحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، عناية وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط. 1413 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 198 - صفات الله - عز وجل - الواردة في الكتاب والسنة، تأليف علوي عبد القادر السقاف، ط. الأولى 1414 هـ، الناشر دار الهجرة الرياض - السعودية. 199 - الصفات للدارقطني، تدقيق وتعليق عبد الله الغنيمان، ط. الأولى 1402 هـ، الناشر مكتبة الدار المدينة المنورة - السعودية. 200 - صفة الساق لله - تعالى - بين إثبات السلف وتعطيل الخلف لمحمد بن موسى نصر، ط. الأولى 1413 هـ , الناشر مكتبة الغرباء الأثرية المدينة المنورة - السعودية.
-ض-
201 - الصفدية لابن تيمية، ت. د. محمد رشاد سالم، ط. الثانية 1406 هـ الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة. 202 - الصوارم الحداد القاطعة لعلائق مقالات أرباب الاتحاد للشوكاني، ت، محمد ربيع المدخلي، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر دار الحرير القاهرة - مصر. 203 - الصواعق المرسلة الشهابية، تأليف سليمان بن سحمان الحنجلي، ت. عبد السلام بن برجس، النشرة الأولى 1409 هـ , الناشر دار العاصمة - الرياض. 204 - الصوفية في نظر الإسلام، تأليف سميح عاطف زين، ط. الثالثة 1405 هـ , الناشر دار الكتاب اللبناني بيروت - لبنان، ودار الكتاب المصري القاهرة - مصر. 205 - صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان، تأليف محمد السهسواني الهندي، ط. الرابعة 1410 هـ , الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة، ومكتبة العلم بجدة. - ض - 206 - ضعيف الأدب المفرد للبخاري، للعلامة الألباني، ط. الأولى 1414 هـ الناشر دار الصديق الجبيل - السعودية. 207 - ضعيف الجامع الصغير وزياداته الفتح الكبير، تأليف محمد ناصر الدين الألباني، ط. الثانية المكتب الإسلامي 1399 هـ. 208 - ضعيف سنن أبي داود، تأليف محمد ناصر الدين الألباني وأشرف على استخراجه زهير الشاويش، ط. الأولى 1412 هـ المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 209 - ضعيف سنن ابن ماجه للألباني، أشرف على طبعه زهير الشاويش، ط. الأولى 1408 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. - ط - 210 - طبقات الأطباء والحكماء، تأليف سليمان بن حسان الأندلسي - ابن جلجل - , ط. المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية. 211 - طبقات الشافعية الكبرى، تأليف تاج الدين عبد الوهاب السبكي، ت. عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي، ط. الأولى، ط. عيسى البابي الحلبي. 212 - طبقات الشافعية، تأليف جمال الدين عبد الحليم الأسنوي، ت. عبد الله الجبوري، ط. 1401 هـ , دار العلوم. 213 - طبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير، ت. د. أحمد عمر هاشم ود. محمد زينهم، ط. مكتبة الثقافة الدينية بورسعيد - مصر. 214 - الطبقات الكبرى (لوامع الأنوار في طبقات الأخيار) للشعراني، ط. الأولى 1408 هـ الناشر دار الجيل بيروت. - أخرى: ط. الأولى 1343 هـ بالمطبعة الأزهرية، الناشر ورثة محمد عبد الخالق المهدي وبهامشه الأنوار القدسية. 215 - الطبقات الكبرى لابن سعد، ط. 1367، الناشر دار بيروت ودار صادر بيروت - لبنان.
-ع-
216 - طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم، ط. 1413 هـ على نفقة محمد بن صالح بن سلطان. 217 - طهارة بيت النبوة، تأليف خالد الشايع، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر دار الجلالين ودار بلنسية الرياض - السعودية. - ع - 218 - عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، تأليف ابن العربي المالكي، الناشر دار العلم - سوريا. 219 - عالم الجن والشياطين، تأليف عمر سليمان الأشقر، ط. الثانية، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 220 - عقائد الثلاث وسبعين فرقة، تأليف أبي محمد اليمني، ت. محمد عبد الله الغامدي، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة - السعودية. 221 - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، تأليف الإمام محمد بن أحمد بن عبد الهادي، ت. محمد حامد الفقي، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. - أخرى: مطبعة حجازي بالقاهرة 1356 هـ. 222 - العقيدة السلفية القسم الخامس مواقف السلف مالك بن أنس، تأليف محمد عبد الرحمن المغراوي، ط. الأولى 1412 هـ , الناشر دار المنار الرياض. 223 - العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات، تأليف محمد بن عبد الرحمن المغراوي، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر دار المنار الرياض. 224 - العقيدة السلفية في كلام رب البرية، تأليف عبد الله الجديع، ط. الثانية 1416 هـ , الناشر دار الإمام مالك ودار الصميعي الرياض - السعودية. 225 - العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد بن حنبل، رواية ابنه عبد الله ت. وصي الله عباس، ط. الأولى 1408 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 226 - العلم الشامخ في تفصيل الحق على الآباء والمشايخ للعلامة صالح المقبلي وبهامشه كتاب الأرواح النوافح له أيضاً، الناشر مكتبة دار البيان دمشق - سوريا. 227 - العلو للعلي الغفار للذهبي، تصحيح محمد رشيد رضا، ط. 1332 هـ , الناشر محمد أفندي نصيف. 228 - عمل اليوم والليلة لابن السني، ط. الثانية 1358 هـ , مطبعة دائرة المعارف العثمانية حيدر أباد الدكن - الهند. 229 - عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح ابن القيم الجوزية للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، ت. عبد الرحمن محمد عثمان، الناشر محمد عبد المحسن - المكتبة السلفية - المدينة المنورة، ط. الثانية 1388 هـ.
-غ-
- غ - 230 - غاية الأماني في الرد على النبهاني، تأليف محمود شكري الألوسي، ط. الثانية الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة. 231 - غاية السول في خصائص الرسول لابن الملقن، ت. عبد الله بحر الدين عبد الله، ط. الأولى 1414 هـ , الناشر دار البشائر الإسلامية بيروت - لبنان. 232 - غريب الحديث، تأليف عبد الله بن مسلم بن قتيبة، ت. د. عبد الله الجبوري، ط. الأولى 1397 هـ , الناشر وزارة الأوقاف بالجمهورية العراقيهَ. 233 - غلاة الشيعة الباطنية في بلاد الشام، تأليف د. يوسف درويش غوانمة، ط. الأولى 1410 هـ، الناشر جمعية عمال المطابع التعاونية عمان - الأردن. - ف - 234 - الفتاوى الكبرى لابن تيمية، ط. الأولى 1407 هـ، الناشر دار القلم بيروت - لبنان. 235 - الفتاوى الهندية (الفتاوى العالمكيرية)، تأليف فخر الدين حسن بن منصور الهندي، ط. الثالثة 1400 هـ، الناشر دار إحباء التراث العربي بيروت، وبهامشها فتاوى قاضيخان البزازية. 236 - فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، جمع وترتيب محمد بن عبد الرحمن قاسم، ط. الأولى 1399 هـ بمطبعة الحكومة بمكة المكرمة. 237 - الفتاوى، تأليف عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الشافعي، خرّجها عبد الرحمن عبد الفتاح، ط. الأولى 1406 هـ دار المعرفة بيروت - لبنان. 238 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، تأليف ابن حجر العسقلاني رقم الأحاديث محمد فؤاد عبد الباقي، حقق المجلد الأول والثاني العلامة عبد العزيز بن باز، ط. الأولى 1410 هـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 239 - الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ترتيب أحمد عبد الرحمن البنا، ط. الثالثة 1404 هـ، الناشر دار الشهاب القاهرة - مصر. 240 - فتح القدير، تأليف كمال الدين محمد بن عبد الواحد، ط. دار إحياء التراث العربي بيروت وبهامشه شرح العناية على الهداية. 241 - فتوح البلدان، تأليف أحمد بن يحيى بن جابر البغدادي الشهير بالبلاذري، ط. الأولى مطبعة الموسوعات القاهرة. 242 - الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية، تأليف محمد بن علان الصديقي، ط. 1398 هـ، الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 243 - الفتوحات المكية، تأليف محيي الدين بن عربي، ت. د. عثمان يحيى ومراجعة إبراهيم مدكور، ط. 1392 هـ، الناشر وزارة الثقافة والإعلام بمصر - الهيئة المصرية العامة للكتاب. 244 - الفرج بعد الشدة، للقاضي أبي علي المحسن التنوخي، ط. مكتبة الخانجي - مصر، مكتبة المثنى ببغداد.
-ق-
245 - الفردوس بمأثور الخطاب لأبي شجاع الديلمي، ت. السعيد بسيوني زغلول، ط. الأولى 1406 هـ دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 246 - الفرق بين الفرق، تأليف، عبد القاهر البغدادي، ت. محمد محيي الدين عبد الحميد الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان. 247 - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية، ت. د. عبد الرحمن اليحيي، ط. الأولى 1414 هـ الناشر دار طويق الرياض - السعودية. 248 - الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهري ت. د. محمد إبراهيم نصر ود. عبد الرحمن عميرة، ط. 1405 هـ , الناشر دار الجيل بيروت - لبنان. 249 - فصوص الحكم، تأليف محيي الدين ابن عربي ت. أبي العلا عفيفي، ط. دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 250 - فضائل الصلاة على النبي، تأليف إسماعيل القاضي المالكي ت. الألباني، ط. الثالثة 1397 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 251 - فضائل المدينة لأبي سعيد المفضل المكي، ت. محمد الحافظ وغزوة بدير، ط. الأولى 1405 هـ , الناشر دار الفكر دمشق - سوريا. 252 - فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد لأبي عبد الله البخاري، تأليف فضل الله الجيلاني، ط. الثانية 1388 هـ , الناشر المطبعة السلفية ومكتبتها القاهرة. 253 - فضيلة الشكر للهّ على نعمته، لأبي بكر السامري المعروف بالخرائطي، ت. محمد مطيع، د. عبد الكريم اليافي، ط. الأولى 1402 هـ الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 254 - الفلسفة النورانية القرآنية عند الغزالي، تأليف د. زكريا بشير إمام، ط. الأولى 1409 هـ، الناشر مكتبة الفلاح الكويت. 255 - فهرس الفهارس والأثبات لعبد الحي عبد الكبير الكتاني، ت. د. إحسان عباس، ط. الثانية 1402 هـ، دار الغرب الإسلامي - بيروت. 256 - الفهرست لابن النديم، ت. رضا تجدد، الناشر مكتبة الأسدي ومكتبة الجعفري - طهران. 257 - فوائد حديثية، تأليف ابن القيم ت. مشهور بن حسن وإياد القيسي، ط. الأولى 1416 هـ , الناشر دار ابن الجوزي الدمام السعودية. 258 - الفيء والغنيمة ومصارفهما، تأليف محمد الربيع، ط. الأولى 1413 هـ. 259 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، تأليف عبد الرؤوف المناوي، ط. الأولى 1306 هـ , الناشر المكتبة التجارية مصر. - ق - 260 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية، ت. ربيع المدخلي، ط. الأولى 1412 هـ , الناشر مكتبة لينة دمنهور. 261 - القاموس المحيط للفيروز آبادي، ت. مكتب ت. التراث في مؤسسة الرسالة، ط. الثالثة 1413 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت.
-ك-
262 - قرة عيون الموحدين في ت. دعوة الأنبياء والمرسلين، تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن الحنبلي ت. بشير عيون، ط. الأولى 1411 هـ الناشر مكتبة المؤيد الطائف السعودية، ومكتبة دار البيان دمشق - سوريا. 263 - قصص الأنبياء لابن كثير، ط. الثامنة 1408 هـ الناشر دار القلم بيروت - لبنان. 264 - قصيدة البردة لكعب بن زهير شرح أبي البركات ابن الأنباري، ت. د. محمود حسن زيني دحلان، ط. الأولى 1400 هـ تهامة للنشر والتوزيع - الرياض. 265 - القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود، ط. الأولى 1414 هـ, الناشر دار النشر الدولي الرياض - السعودية. 266 - القضاء والقدر في الإسلام، تأليف د. فاروق الدسوقي، ط. الثانية 1406 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 267 - القناعة والتعفف لابن أبي الدنيا، ت. مجدي السيد إبراهيم، ط. مكتبة القرآن القاهرة - مصر. 268 - القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع، تأليف شمس الدين عبد الرحمن السخاوي، ط. الثالثة 1397 الناشر المكتبة العلمية. 269 - القول الرشيد في حقيقة التوحيد، تأليف سليمان العلوان، ط. الأولى 1414 هـ، الناشر دار المنار الرياض - السعودية. 270 - القول المفيد على كتاب التوحيد، تأليف الشيخ محمد العثيمين عناية د. سليمان أبا الخيل ود. خالد المشيقح، ط. الأولى 1415 هـ ,الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. - ك - 271 - الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، تأليف موفق الدين بن قدامة المقدسي، ط. الثانية، الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 272 - الكامل في ضعفاء الرجال، تأليف أحمد بن عدي ت. د. سهيل زكار تدقيق يحيى غزواي، ط. الثالثة 1409 هـ الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 273 - الكبريت الأحمر للشعراني، ط. 1378 هـ , الناشر شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بهامش اليواقيت والجواهر للشعراني أيضاً. 274 - الكتاب المقدس - التوراة -، ط. دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط. 275 - كشاف القناع عن متن الإقناع، تأليف منصور البهوتي راجعه هلال مصيلحي هلال، ط. 1402 هـ، الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 276 - كشف أسرار الباطنية، تأليف محمد بن مالك بن أبي الفضائل اليماني، ت. محمد عثمان الخشت، ط. مكتبة ابن سيناء القاهرة - مصر. 277 - كشف الأسرار، تأليف روح الله الخميني، ترجمة للعربية د. محمد البنداري وعلق عليه سليم الهلالي وقدم له د. محمد الخطيب، ط. الثانية، الناشر دار عمار عمان - الأردن.
-ل-
278 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث، تأليف إسماعيل بن محمد العجلوني، ط. الثانية 1351 هـ , الناشر دار إحياء التراث العربي - بيروت. 279 - كشف المتواري من تلبيسات الغماري، تأليف علي حسن عبد الحميد، ط. الأولى 1410 هـ , الناشر دار ابن الجوزي الدمام - السعودية. 280 - الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ، تأليف محمود عبد الرؤوف قاسم، ط. الثانية 1415 هـ , الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. 281 - كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس، تأليف عبد الرحمن بن حسن، ت. عبد العزيز الزير آل حمد , النشرة الأولى 1409 هـ، الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. 282 - الكليات لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي مقابلة وطبع د. عدنان درويش ومحمد المصري، ط. الثانية 1413 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 283 - الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية، تأليف مرعي الكرمي الحنبلي ت. نجم عبد الرحمن، ط. الأولى 1406 هـ , الناشر دار الغرب الإسلامي بيروت - لبنان. - ل - 284 - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، تأليف جلال الدين السيوطي، ط. الثالثة 1401 هـ ,الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان. 285 - اللباب شرح الكتاب، تأليف عبد الغني الحنفي، ت. محمود أمين النواوي، ط. دار الحديث. 286 - اللباب في تهذيهب الأنساب، تأليف عز الدين أبي الحسن ابن الأثير، ط. 1357 هـ , الناشر مكتبة المقدسي القاهرة - مصر. 287 - لسان العرب لابن منظور، ط. الأولى 1410 هـ، الناشر دار الفكر بيروت - لبنان. 288 - لسان الميزان لابن حجر العسقلاني، ط. دار الفكر ببروت - لبنان. 289 - لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية، تأليف محمد السفاريني، ط. الثالثة 1411 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. - م - 290 - المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين لأبي حاتم البستي، ت. محمود إبراهيم زايد، ط. 1395 هـ , الناشر دار الوعي حلب - سوريا. 291 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تأليف نور الدين علي الهيثمي، ط. دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 292 - مجموع فتاوى شييخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن القاسم وابنه محمد، ط. 1412 هـ , الناشر دار عالم الكتب الرياض.
293 - المجموع للنووي، مطبعة الإمام بمصر. 294 - مجموع يشتمل على رسائل وفوائد كثيرة أصولية ومنظومة ومديح ومراثي، تأليف العلامة عبد الله أبا بطين وآخرون جمع عبد الله الربيعة، (مخطوط) محفوظ بقسم المخطوطات جامعة الملك سعود برقم 3422/ 9. 295 - محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، تأليف فخر الدين محمد بن عمر الرازي راجعه وعلق عليه طه عبد الرؤوف سعد، ط. الأولى 1404 هـ، الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان، ومعه تلخيص المحصل للطوسي. 296 - المحلى لابن حزم الظاهري، ط. المكتب التجاري بيروت - لبنان. 297 - محيط المحيط، تأليف بطرس البستاني، ط. 1983 م، الناشر مكتبة بيروت - لبنان. 298 - مختصر العلو للذهبي اختصار العلامة الألباني، ط. الأولى 1401 هـ , الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 299 - مختصر المقاصد الحسنة للسخاوي اختصار محمد عبد الباقي الزرقاني ت. د. محمد لطفي الصباغ، ط. 1401 هـ , الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج. 300 - مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري ومعالم السنن للخطابي وتهذيب ابن القيم، ت. أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي، ط. دار المعرفة بيروت - لبنان. 301 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لابن القيم، ط. الثانية 1408 هـ الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 302 - المدخل إلى الصحيح للحاكم، ت. د. ربيع مدخلي، ط. الأولى 1382 هـ الناشر دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه. 303 - المدخل لابن الحاج، ط. 1401 هـ الناشر دار الحديث. 304 - المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي، تأليف د. عبد الحليم محمود، ط. دار الكتب الحديثة القاهرة - مصر. 305 - المراسيل لأبي داود السجستاني، دراسة وت. عبد العزيز السيروان، ط. الأولى 1406 هـ , الناشر دار القلم بيروت - لبنان. 306 - مسألة في الكنائس، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية ت. علي الشبل، ط. الأولى 1416 هـ , الناشر مكتبة العبيكان الرياض - السعودية. 307 - مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى، ت. سعود الخلف، النشرة الأولى 1410 هـ , الناشر دار العاصمة - الرياض - السعودية. 308 - المسائل والرسائل المروية عن أحمد بن حنبل في العقيدة جمع وت. عبد الإله الأحمدي، ط. الأولى 1412 هـ الناشر دار طيبة الرياض - السعودية. 309 - المساجد بين الإتباع والابتداع، تأليف محمد القيسي، ط. الأولى 1409 هـ الناشر دار عمار عمان - الأردن. 310 - المستخرج تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، تأليف محمود محمد الحداد، ط. الأولى 1408 هـ , الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية.
311 - المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وبذيله التلخيص للذهبي، الناشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 312 - المستغيثين بالله - تعالى - عند المهمات والحاجات، المتضرعين إليه سبحانه بالرغبات والدعوات وما يسر الله - الكريم - لهم من الإجابات والكرامات، تأليف خلف عبد الملك بن مسعود بن بشكوال ضبط غنيم عباس غنيم، ط. الأولى الناشر دار المشكاة القاهرة - مصر. 313 - مسند الإمام أبي يعلى، لأبي يعلي الموصلي، ت. حسين سليم أسد، ط. الأولى 1412 هـ الناشر دار الثقافة العربية دمشق - سوريا. 314 - مسند الطيالسي، تأليف سليمان بن داود الجارود الفارسي الشهير بابن الطيالسي، ط. دار المعرفة بيروت - لبنان، ومكتبة المعارف الرياض - السعودية. 315 - مسند الفاروق لابن كثير، ت. د. عبد المعطي قلعجي، ط. الأولى 1411 هـ الناشر دار الوفاء المنصورة - مصر. 316 - المسند لأبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، ت. حبيب الرحمن الأعظمي، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 317 - المسند للإمام أحمد بن حنبل عناية د. بدر الدين جنتن آر، ط. الثانية 1413 هـ الناشر دار سحنون - تونس. 318 - مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي، ت. ناصر الدين الألباني، ط. الثانية 1399 هـ الناشر المكتب الإسلامي بيروت - لبنان. 319 - مشكل الآثار لأبي جعفر الطحاوي، ط. الأولى دار صادر بيروت مصورة من 1333 هـ. 320 - المصادر العامة للتلقي عند الصوفية، تأليف صادق سليم صادق، ط. الأولى 1415 هـ، الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. 321 - مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، تأليف شهاب الدين البوصيري دراسة وتقديم كمال الحوت، ط. الأولى 1406 هـ الناشر دار الجنان. 322 - مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام، تأليف عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ مراجعة إسماعيل بن عتيق النشر على نفقة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز. 323 - مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام، تأليف محمد بن موسى بن النعمان المزالي، مخطوط بمكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية مصور ابن مكتبة شستربتي رقم 3677. 324 - المصباح المنير، تأليف أحمد الفيومي المقرئ، ط. مكتبة لبنان بيروت - لبنان. 325 - المصنف، تأليف عبد الرزاق الصنعاني، ت. حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الأولى 1390 هـ , الناشر المجلس العلمي حيدر أباد. 326 - المضنون به على غير أهله لأبي حامد الغزالي، ت. رياض مصطفى العبد الله، ط. 1407 هـ دار الحكمة دمشق - سوريا.
327 - معارج القبول بشرح سُلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد، تأليف الشيخ حافظ الحكمي ضبط وتعليق عمر بن محمود، ط. الثانية 1413 هـ الناشر دار ابن القيم الدمام - السعودية. 328 - معالم السنن للإمام أحمد الخطابي بهامش سنن أبي داود، ط. 1401 هـ , ط. المستشرقين. 329 - المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها، تأليف عواد المعتق النشرة الأولى 1409 هـ , الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. 330 - معجم البلدان تأليف ياقوت الحموي، ت. فريد عبد الرحمن الجندي، ط. الأولى 1413 هـ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت. 331 - المعجم الصغير لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ت. عبد الرحمن محمد عثمان، الناشر المكتبة السلفية لصاحبها محمد الكتبي المدينة المنورة. - أخرى: تقديم وضبط كمال الحوت، ط. الأولى 1406 هـ , الناشر مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت. 332 - المعجم الفلسفي، تأليف د. جميل صليبا، الناشر دار الكتاب اللبناني. 333 - المعجم الكبير للطبراني، ت. حمدي عبد المجيد السلفي، ط. الأولى 1400 هـ. 334 - معجم المؤلفين، تأليف عمر رضا كحالة، ط. مطبعة الترقي 1387 هـ. 335 - معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، تأليف عمر رضا كحالة، ط. الثانية 1398 هـ , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان. 336 - معجم مصطلحات الصوفية، تأليف د. عبد المنعم الحنفي، ط. الأولى 1400 هـ , الناشر دار المسيرة بيروت - لبنان. 337 - المغني، تأليف موفق الدين ابن قدامة وبهامثه الشرح الكبير، ط. دار الكتاب العربي بيروت - لبنان. 338 - المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار (تخريج الإحياء)، تأليف زين الدين عبد الرحيم العراقي، عناية أشرف عبد المقصود، ط. الأولى 1415 هـ , الناشر مكتبة طبرية الرياض - السعودية. 339 - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تأليف محمد عبد الرحمن السخاوي، تصحيح عبد الله محمد الصديق وتقديم عبد الوهاب عبد اللطيف، ط. 1375 هـ , الناشر مكتبة الخانجي مصر ومكتبة المثنى بغداد. - طبعة أخرى: ط. الأولى 1399 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت (دون تصحيح أو ترقيم). 340 - مقاصد الفلاسفة لأبي حامد الغزالي، ت. د. سليمان دنيا، ط. الثانية الناشر دار المعارف - مصر. 341 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تأليف علي بن إسماعيل الأشعري ت. محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. الثانية 1389 هـ , الناشر مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة - السعودية.
342 - المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد لابن مفلح ت. د. عبد الرحمن العثيمين، ط. الأولى 1413 هـ الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية. 343 - المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي لأبي بكر الهيثمي، ت. د. نايف هاشم الدعيس، ط. الأولى، الناشر تهامة 1402 هـ. 344 - الملل والنحل، تأليف محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، ت. محمد سيد كيلاني، ط. 1402 هـ , الناشر دار المعرفة بيروت - لبنان. 345 - من قضايا التصوف في ضوء الكتاب والسنة، تأليف د. محمد السيد الجليند، ط. الثالثة 1410 هـ , الناشر دار اللواء الرياض - السعودية. 346 - منح المدح أو شعراء الصحابة ممن مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي الفتح ابن سيد الناس، ت. عفت وصال حمزة، ط. الأولى 1407 هـ الناشر دار الفكر دمشق - سوريا. 347 - المنخل لغربلة خرافات ابن الحاج في المدخل، تأليف د. محمد الخميس، ط. الأولى 1416 هـ، الناشر دار الصميعي الرياض - السعودية. 348 - منهاج السنة النبوية لابن تيمية، ت. د. محمد رشاد سالم، ط. الأولى الناشر مؤسسة قرطبة. 349 - منهج الإمام الشوكاني في العقيدة، تأليف د. عبد الله نومسوك، ط. الأولى 1414 هـ مكتبة دار القلم الرياض - السعودية. 350 - مهمات التعريف، تأليف عبد الروؤف المناوي ت. عبد الحميد حمدان، ط. الأولى 1400 هـ الناشر عالم الكتب القاهرة - مصر. 351 - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزية لتقي الدين المقريزي، ط. بالأوفست لمكتبة المثنى ببغداد سنة 1970، مصورة عن ط. بولاق سنة 1294 هـ. 352 - المواقف في علم الكلام، تأليف عضد الدين الإيجي، ط. عالم الكتب بيروت - لبنان. 353 - الموسوعة الفقهية من إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، ط. ذات السلاسل. 354 - الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، إصدار الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ط. الثانية 1409 هـ الناشر الندوة. 355 - الموضوعات لابن الجوزي، ت. عبد الرحمن محمد عثمان، ط. الأولى 1386 هـ , الناشر المكتبة السلفية المدينة المنورة - السعودية. 356 - الموطأ، تأليف الإمام مالك بن أنس، ت. ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط. الثانية 1413 هـ , الناشر دار سحنون - تونس. 357 - موقف ابن تيمية من الأشاعرة تأليف د. عبد الرحمن المحمود، ط. الأولى 1415 هـ الناشر مكتبة الرشد الرياض - السعودية.
-ن-
- ن - 358 - ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية بقلم خادمه أحمد الغياني، ت. محب الدين الخطيب، ط. 1368 هـ، الناشر المطبعة السلفية، ومكتبتها القاهرة - مصر. 359 - النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبورين، تأليف حمد بن ناصر بن معمر ت. عبد السلام بن برجس النشرة الأولى 1409 هـ، الناشر دار العاصمة الرياض - السعودية. 360 - النبوات لابن تيمية، ط. 1405 هـ , الناشر دار الكتب العلمية بيروت. 361 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، تأليف ابن تغرى بردي الأتابكي، ط. دار الكتب المصرية 1361 هـ. 362 - نظرية الاتصال عند الصوفية في ضوء الإسلام، تأليف سارة بنت عبد المحسن آل سعود، ط. الأولى 1411 هـ , الناشر دار المنارة جدة - السعودية. 363 - نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب لأبي عباس القلقشندي، ت. إبراهيم الإبياري، ط. الأولى 1959 م الناشر الشركة العربية للطباعة القاهرة. 364 - نهاية الإقدام في علام الكلام، تأليف محمد عبد الكريم الشهرستاني حرره وصححه الفردجيوم، طبعة مصورة من مكتبة المثنى بغداد - العراق. 365 - نهاية السول في شرح منهاج الأصول للقاضي البيضاوي، تأليف جمال الدين الإسنوي ومعه حواشيه المسماة "سلم الوصول لشرح نهاية السول"، تأليف محمد بن بخيت مطيع، ط. دار عالم الكتب بيروت. 366 - النهاية في غريب الحديث والأثر، تأليف مجد الدين الجزري المعروف بابن الأثير، ت. طاهر الزاوي ومحمود الطناحي، ط. المكتبة العلمية بيروت - لبنان. 367 - النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد، تأليف جاسم الدوسري، ط. الأولى 1404 هـ , الناشر دار الخلفاء للكتاب الإسلامي - الكويت. 368 - نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني، ت. طه عبد الرؤوف، ومصطفى محمد الهواري، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة - مصر. - هـ - 369 - هداية المريد لتحصيل معاني كتاب تجريد التوحيد المفيد لتقي الدين المقريزي، تعليق وضبط أحمد طاحون، ط. 1414 هـ , الناشر مكتبة التراث الإسلامي القاهرة - مصر. 370 - هذه مفاهيمنا، تأليف الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، ط. الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض - السعودية. 371 - هذه هي الصوفية، تأليف عبد الرحمن الوكيل، ط. الرابعة 1984 م، الناشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. 372 - الهواتف لابن أبي الدنيا، ت. مجدي السيد إبراهيم، الناشر مكتبة الساعي الرياض - السعودية.
-و-
- و - 373 - الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيم، ت. بشير عيون، ط. الثالثة 1409 هـ. الناشر مكتبة المؤيد - الرياض. 374 - الوافي بالوفيات، تأليف صلاح الدين الصفدي عناية س ديدرنيغ، ط. الثانية. 375 - وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، لنور الدين السمهودي، ت. محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. الأولى 1374، الناشر مكتبة محمد المدني المدينة المنورة. 376 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تأليف شمس الدين أحمد بن خلكان، ت. د. حسان عبد القدوس، الناشر دار صادر - بيروت. - ي - 377 - اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر للشعراني، ط. 1378 هـ، الناشر شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وبهامشه الكبريت الأحمر.