الاستضعاف وأحكامه في الفقه الإسلامي

زياد بن عابد المشوخي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أصل هذا الكتاب رسالة تقدم بها الباحث إلى كلية الشريعة والقانون ضمن تخصص الفقه المقارن لنيل درجة الدكتوراه، في جامعة أم درمان الإِسلامية، السودان، بتاريخ 22/ 9 / 1432 هـ الموافق 22/ 8 / 2011 م. وقد تشكلت لجنة المناقشة من: 1) فضيلة الأستاذ الدكتور/ حسن محمد الأمين (عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة أم درمان الإِسلامية سابقا، ومدير معهد البحوث والدراسات الإستراتيجية) .... (مشرفًا). 2) فضيلة الأستاذ الدكتور/ موسى محمد عثمان (رئيس قسم الفقه المقارن) .... (مناقشًا). 3) فضيلة الأستاذ الدكتور/ الطاهر عبد الكريم ساتي - عميد كلية الشريعة بجامعة القرآن الكريم .... (مناقشًا).

مقدمة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر

مقدمة كتاب الاستضعاف وأحكامه في الفقه الإسلامي الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فإن وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بدولة قطر -وقد وفقها اللَّه لأن تضرب بسهم في نشر الكتب النافعة للأمة- لَتحمد اللَّه -سبحانه وتعالى- على أن ما أصدرته قد نال الرضا والقبول من أهل العلم. والمتابع لحركة النشر العلمي لا يخفى عليه جهود دولة قطر في خدمة العلوم الشرعية، ورفد المكتبة الإِسلامية بنفائس الكتب القديمة والمعاصرة؛ وذلك منذ تسعة عقود، عندما وجَّه الشيخ عبد اللَّه بن قاسم آل ثاني -حاكم قطر آنذاك- بطباعة كتابي (الفروع) و (تصحيح الفروع)، سنة 1345 هـ، وكان المؤسس الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني -رحمه اللَّه تعالى- قد سنَّ تلك السنة من قبل. وقد جاء مشروع إحياء التراث الإِسلامي والنشر العلمي الذي بدأته الوزارة في السنوات الأخيرة امتدادًا لتلك الجهود، وسيرًا على تلك المحجة التي عُرفت بها دولة قطر. ومنذ انطلاقة هذا المشروع المبارك يسَّر اللَّه جلَّ وعلا للوزارة إخراج مجموعة من أمهات كتب العلم والدراسات المعاصرة المتميزة في فنون مختلفة، تُطبع لأول مرة، نذكر منها: في التفسير وعلوم القرآن: - أصدرت الوزارة عدة كتب منها: (فتح الرحمن في تفسير القرآن) للعُليمي، و (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) لابن عطية في طبعته الثانية. - وفي علم رسم المصحف أصدرت الوزارة: كتاب (مرسوم المصحف) للعُقيلي، و (الدرة الصقيلة في شرح أبيات العقيلة) لأبي بكر اللبيب.

- وفي علم القراءات أصدرت الوزارة كتاب: (البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة) لأبي حفص النشار، و (معاني الأحرف السبعة) لأبي الفضل الرازي. وفي السنة النبوية وشروحها: أصدرت الوزارة عدة كتب، منها: (التقاسيم والأنواع) لابن حبان، و (مطالع الأنوار) لابن قرقول، و (التوضيح شرح الجامع الصحيح) لابن الملقن، و (حاشية مسند الإِمام أحمد) للسندي، وشرحان لموطأ الإمام مالك؛ لكُلٍّ من (القنازعي)، و (البوني)، و (المخلصيات) لأبي طاهر المخلص، و (شرح مسند الإِمام الشافعي) للرافعي، و (نخب الأفكار شرح معاني الآثار) للعيني، و (مصابيح الجامع) للدَّمَاميني. ومما تشرفت الوزارة باصداره في تحقيق جديد متقن: (صحيح ابن خزيمة)، و (السنن الكبرى) للإمام النسائي، والمحقَّقان على عدة نسخ خطية، و (جامع الأصول في أحاديث الرسول)، و (النهاية في غريب الحديث) لابن الأثير. وفي الفقه وما يتصل به: أصدرت الوزارة عدة كتب في المذاهب الأربعة، منها: كتاب: (الأصل) لمحمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) كاملًا محققًا على أصول عدة، و (التبصرة) للخمي، و (نهاية المطلب في دراية المذهب) للإمام الجويني بتحقيقه المتقن للأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب -رحمه اللَّه تعالى- عضو لجنة إحياء التراث الإِسلامي، و (حاشية الخلوتي). كما أصدرت الوزارة: (الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف) للإمام ابن المنذر بمراجعة دقيقة للشيخ الدكتور عبد اللَّه الفقيه عضو لجنة إحياء التراث الإِسلامي، و (بغية المتتبع لحل ألفاظ روض المربع) للعوفي الصالحي، و (منحة السلوك في شرح تحفة الملوك) للعيني.

وفي السيرة النبوية: أصدرت الوزارة الموسوعة الإسنادية: (جامع الآثار في السير ومولد المختار) لابن ناصر الدين الدمشقي، وغيرها. وفي العقيدة والتوحيد: أصدرت الوزارة كتابًا نفيسًا لطيفًا هو: (الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد) لابن العطار تلميذ الإِمام النووي رحمهما اللَّه تعالى، كما أعادت نشر كتاب (الرد على الجهمية) للإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى، وغيرها من كتب عقيدة أهل السنة والجماعة. وفي مجال الدراسات المعاصرة المتميزة: أصدرت: (القيمة الاقتصادية للزمن)، و (نوازل الإنجاب)، و (مجموعة القره داغي الاقتصادية)، و (التعامل مع غير المسلمين في العهد النبوي)، و (صكوك الإجارة)، و (الأحكام الفقهية المتعلقة بالتدخين)، و (التورق المصرفي)، و (حاجة العلوم الإِسلامية إلى اللغة العربية)، و (روايات الجامع الصحيح ونسخه دراسة نظرية تطبيقية)، وغيرها. كما قامت الوزارة بشراء وتوزيع أجود الطبعات من بعض الكتب المطبوعة لما لها من أهمية، مثل: (مسند الإِمام أحمد)، و (صحيح الإِمام مسلم)، و (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي، و (الجامع لشعب الإيمان) للبيهقي، و (تاريخ الخلفاء) للسيوطي، و (التاريخ الأندلسي) لعبد الرحمن علي الحجي، و (الإقناع في مسائل الإجماع) لابن القطان الفاسي، و (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي، و (قواعد الأحكام في إصلاح الأنام) للعز بن عبد السلام. ومثل (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) لأبي الحسن الندوي، و (الرسالة المحمدية) لسليمان الندوي، وغيرها. واليوم يسرنا أن تقدم لإصدار جديد هو كتاب: (الاستضعاف وأحكامه في الفقه الإِسلامي) لمؤلفه د. زياد بن عابد المشوخي، وهو أطروحة نال بها الباحث درجة

الدكتوراه، تناول فيها حالات الاستضعاف التي مرَّت بالأمة عبر عصورها، وكيفية تعامل علماء الأمة معها، وتأتي أهمية الكتاب في محاولة تتبع حالات الاستضعاف ومظاهره، ودراسة مسائله دراسة فقهية، وبيان أحكامها. وقد قام الباحث بتعريف الاستضعاف ومظاهره، والفرق بينه وبين المصطلحات المشابهة، ثم ذكر الأحكام الخاصة به وضوابطها، ثم تعرض للموقف الشرعي تجاه ما يعرض للأمة في مرحلة الاستضعاف، متبعًا في ذلك المنهج الاستقرائي الوصفي، ومستعينًا بالمنهج التحليلي الاستنباطي. ونرى أن هذا الكتاب مما تحتاجه الأمة في هذا الزمن الذي يحاول فيه مخلصوها النهوض بها من الكبوة، والخروج بها من الأزمة. والحمد للَّه على توفيقه ونسأله المزيد من فضله. وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين إدارة الشؤون الإِسلامية

تقريظ

تقريظ الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول اللَّه، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد أطلعني الأخ الدكتور/ زياد بن عابد المَشوخي/ على مسودة كتابه: (الاستضعاف وأحكامه في الفقه الإِسلامي)، الذي أصله رسالة علمية، نال بها درجة الدكتوراه في الفقه الإِسلامي، فسررتُ لذلك العنوان والموضوع؛ لما أعهده في المؤلف الفاضل أثناء تدريسي له من همة عالية، وفكر متفتح، وثقافة واسعة، وجدية ظاهرة في استيعاب ما يقوم به من جهد علمي، واعتدال في المنهج. وقد اشتمل هذا الكتاب على جهد واضح، ومنهج علمي سليم، وعناوين رئيسة وجانبية، واضحة ومعبِّرة، ومسائل وقضايا وموضوعات كثيرة قديمة ومعاصرة، تكرر حدوثها في حياة المسلمين، في الديار الإِسلامية، وفي خارجها، على صعيد الأفراد، والجماعات، والدول، وكثر السؤال عن أحكامها الشرعية. فجاء هذا الكتاب القَيِّم ليُفردها بالجمع، والبحث، والتحليل، والدراسة، والمقارنة مع حالات الاستضعاف التي مرت بالمسلمين السابقين في العهد المكي، وفي غيره من الفترات، لاستثنائية التي مرت بالمسلمين، أفرادًا، وجماعات، ودولًا. فبين أحكام ذلك كله، استنادًا إلى نصوص الكتاب والسنة، واجتهادات الفقهاء الأثبات الأتقياء من سلف هذه الأمة، ومن تبعهم بإحسان، ووازن بين تلك الأقوال، واختار ما هو الأنسب لحال المسلمين المستضعفين، من غير شذوذ ولا إغراب في الاختيار، ولا خضوع للمؤثرات والضغوط التي حلت بالمسلمين، ولا خروج على نصوص الشريعة ومقاصدها.

كما جاء هذا الكتاب بأسلوب علمي رصين، وعبارات واضحة سهلة، وتوثيق ممتاز، لا تخلو فيه كل صفحة من مراجع عديدة معتبرة، بلغ عددها في الفهرس المخصص لها حوالي (400) مرجع، من شتى أصناف العلوم والفنون والمعارف والثقافات. يضاف إلى هذا شيء آخر على جانب من الأهمية، وهو ما اتصف به المؤلف من وعي وتبصُّر في فهم النصوص الشرعية ومقاصدها، وفي أحوال المسلمين المستضعفين، مع صدق في السريرة، وحماس ظاهر لهذا الدين الحق، وإيمان مطلق، بأن الاستضعاف في حياة المسلمين هو حالة استثنائية، لا ينبغي أن تؤثِّر فيهم، أو توهن من عزائمهم، بل عليهم أن يشخِّصوا أسباب الاستضعاف الداخلية والخارجية، ويعالجوها بموضوعية، وصدق، وجدية؛ لينهضوا من كبوتهم، كما نهض المسلمون السابقون في حالات الاستضعاف التي نزلت بهم، فالمستقبل للإسلام كما وعد بذلك ربنا سبحانه في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وفي قوله أيضًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. وأخيرًا: لا بد من القول: إن هذا الكتاب يستحق القراءة بإمعان وتدبر، من بدايته إلى نهايته، وسيكون -إن شاء اللَّه- مرجعًا في بابه. . . أسأل اللَّه تعالى أن ينفع بهذا الجهد، ويثيب المؤلف على ما بذل، ويوفقه إلى مزيد من العطاء العلمي. والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. . . أ. د. حسن عبد الغني أبو غدة أستاذ الفقه المقارن والسياسة الشرعية كلية التربية. جامعه الملك سعود

المقدمة

المقدمة إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). وقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). . . أما بعد: لقد شاء اللَّه عز وجل وقدر أن يكون الصراع بين الحق والباطل قائمًا، وأن تكون الغلبة للباطل أحيانًا وإن كانت العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (¬4)، وقال سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬5). والمتأمل في السيرة النبوية يجد الفرق واضحًا بين الأحكام في المرحلة المكية والأحكام في المرحلة المدنية، ولقد شاءت حكمة اللَّه عز وجل أن تمر الدولة الإِسلامية الأولى ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية [102]. (¬2) سورة النساء، الآية [1]. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتان [70 - 71]. (¬4) سورة آل عمران، الآية [140]. (¬5) سورة المجادلة، الآية [21].

بظروف متنوعة لتستلهم الأجيال منها العبر والدروس وكذلك الأحكام، بحسب اختلاف تلك الظروف والأحوال. ولم يغفل الفقهاء -رحمهم اللَّه- في كتبهم دراسة أحكام مرحلة الاستضعاف، وإن كان بحثهم لمسائل وأحكام استضعاف الأفراد أكثر استفاضة من أحكام استضعاف الأمة والدولة الإِسلامية، وذلك تحت مباحث عوارض الأهلية ومنها: الإكراه والإلجاء. والأمة الإِسلامية تمر بمرحلة الاستضعاف، وقد تكون أسباب الاستضعاف من الخارج أو الداخل، وربما تجتمع عليها لتكون من الخارج ومن الداخل، لذا فإن هذا الموضوع بحاجة إلى الدراسة وجمع مسائله وأقوال الفقهاء فيه مع بيان أدلتها وتحليلها وموازنتها والتخريج عليها، مع يقيننا بتغير الأحوال مستقبلًا وعودة الأمة الإِسلامية لقيادة البشرية وانقاذها من جحيم وويلات البعد عن شريعة اللَّه عز وجل. والبشائر بعودة المسلمين للريادة والقيادة ظاهرة ولله الحمد، ولكن التمكين لهذه الأمة لن يكون دون ثمن وتضحية وتمحيص في مرحلة الاستضعاف، قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬1). فمن رحم الظلام يولد الصباح، وتكون مرحلة التمكين بإذن اللَّه {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (¬2)، فمرحلة الاستضعاف هي مقدمة لمرحلة التمكين للأمة بإذن اللَّه. ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت، الآيات [1 - 3]. (¬2) سورة الروم، الآيتان [4 - 5].

أهمية البحث: تظهر أهمية البحث من خلال النقاط التالية: 1 - إيضاح مفهوم الاستضعاف ومظاهره وكيفية التعامل معه. 2 - الحاجة إلى جمع المسائل وبيان الأحكام المتصلة بهذا الموضوع. 3 - ارتباط الموضوع بالحياة العملية للشعوب الإِسلامية في مناطق شتى. 4 - ارتباط هذا الموضع بالعلاقات الدولية بين الدولة الإِسلامية والدول غير الإسلامية. 5 - وجود نوازل معاصرة مرتبطة بالموضوع مما يتطلب بحثها ودراستها. أهداف البحث: يهدف هذا البحث إلى أمور منها: 1 - محاولة حصر حالات الاستضعاف ومظاهرها. 2 - دراسة مسائل استضعاف الأمة الإِسلامية دراسة فقهية مفردة وبيان أحكامها. 3 - وضع الضوابط التي تحدد مواقف وتصرفات الأمة الإِسلامية وولاة أمرها في مرحلة الاستضعاف. 4 - الاستفادة من تجربة الدولة الإِسلامية الأولى وتنزيل أحكامها على بعض القضايا المعاصرة، مع مراعاة المتغيرات. 5 - الاستفادة من مبادىء سد الذرائع والمصالح المرسلة ونحوها تجاه ما يمر به المسلمون حاليًا. أسئلة البحث: يجيب البحث عن عدد من الأسئلة ومنها: 1. ما مفهوم الاستضعاف؟ وما مظاهره؟

2. ما الفرق بين الاستضعاف وغيره من المصطلحات المشابهة له؟ 3. هل هناك أحكام خاصة بمرحلة الاستضعاف؟ وما ضوابطها؟ 4. ما الموقف الشرعي تجاه ما يعرض من مشكلات للأمة في مرحلة الاستضعاف؟ الدراسات السابقة: إن موضوع استضعاف الأمة لم تتم دراسته دراسة فقهية مفردة فيما اطلعت عليه في المكتبات والمراكز البحثية، وبعد عرض الفكرة على عدد من الأساتذة والباحثين واستشارتهم أشاروا إلى جدته وعدم وجوده في دراسة فقهية مستقلة وحبذوا دراسته والبحث فيه. وينبغي الإشارة هنا إلى وجود عناوين عديدة لمؤلفات أو مقالات تتعلق بمواضيع ذات صلة بمرحلة الاستضعاف، أو بدراسة بعض حالات الاستضعاف، كحالة استضعاف الفرد الذي غالبًا ما يتم علاجه وبحثه تحت مسمى الإكراه، وبعض هذه الدراسات والمقالات يغلب عليها الطابع الفكري لا الفقهي أو التأصيلي (¬1). وهناك العديد من الكتب والأبحاث والمقالات التي عالجت جانبًا من جوانب الاستضعاف وتطرقت لبعض حالاتة وذلك في الكتابات والدراسات التي عُنيت بفقه ¬

_ (¬1) منها على سبيل المثال: (أ) من وسائل دفع الغربة، سلمان بن فهد العودة، المملكة العربية السعودية: دار ابن الجوزي، ط 1، 1412 هـ. وهو ضمن سلسلة رسائل الغرباء. (ب) الإكراه وأثره في الأحكام الشرعية، عبد الفتاح حسيني الشيخ، د. م: د. ن، ط 1، 1399 هـ. (جـ) نظرية الإكراه المدني بين الشريعة والقانون، هائل حزام العامري، القاهرة: المكتب الجامعي الحديث، ط 1، 2005 م.

الأقليات، وكذلك تلك التي عُنيت بأحكام الأسرى (¬1). لذلك عزمت على البحث في هذا الموضوع لأهميته والحاجة إليه في الحياة العملية للشعوب والدول الإِسلامية. منهج الدراسة: اتبعت في دراسة هذا الموضوع المنهج الاستقرائي الوصفي عبر الرجوع ما أمكنني إلى كتب التفسير والحديث والفقه والسيرة النبوية وكتب السياسة الشرعية والمقاصد مقارنًا ذلك بالمنهج التحليلي الاستنباطي، حيث أقف على النصوص وأحاول أن أسبر أغوارها وأقارن بينها واختار منها ما أرى وجاهة دليله من الأقوال. حدود الدراسة: اقتصرت هذه الدراسة على أقوال المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وربما أذكر أقوال فقهاء آخرين. كما وضعت قواعد وضوابط للأحكام من خلال دراسة أبرز الأمثلة على تلك الحالات المتنوعة للاستضعاف وخاصة المتصلة بالفقه السياسي. إجراءات الدراسة: 1 - عزوت الآيات بذكر اسم السورة ورقم الآية. ¬

_ (¬1) منها على سبيل المثال: (أ) فقه الأقليات المسلمة، خالد عبد القادر، لبنان: دار الإيمان, ط 1، 1419 هـ. (ب) الأقليات المسلمة في العالم، مؤتمر الندوة العالمية السادس، المملكة العربية السعودية: دار الندوة العالمية، ط 1، 1420 هـ. (ب) أحكام الأصل في الفقه الإِسلامي والقانون الوضعي، علي أحمد جواد، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1426 هـ.

2 - قمت بتخريج الأحاديث والآثار من مصادرها، وبيان درجتها من الصحة أو الضعف بحسب كلام العلماء، وما كان في الصحيحين أو أحدهما فاكتفيت بالعزو إليه. 3 - عزوت أقوال المذاهب إلى أصحابها من المصادر الأصلية المعتمدة. 4 - رجعت إلى كتب فقهاء المذاهب الأربعة، وجمعت أدلتهم وناقشتها، واخترت القول الراجح مع ذكر سبب الترجيح، واستفدت مما كتبه المعاصرون من حيث الأفكار والتبويب والتقسيم والترتيب. 5 - ذكرت عنوان المرجع والموضع -الصفحة والجزء إن وجد- دون اسم المؤلف، إلا في حالة تكرار العنوان لمؤلف آخر فإني أذكر اسم المؤلف. 6 - أتبعت قول كل فريق بأدلته من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو المعقول أو غيرها من الأدلة مع بيان وجه الاستدلال. 7 - أتبعت أدلة كل قول بما وجه إليه من مناقشة أو اعتراض من قبل الفريق الآخر، أو من عندي إن ظهر لي ضعف الاستدلال، فإن كان ما وجه إلى الدليل منصوصًا عليه فإني أُحيل إلى المرجع. 8 - أنهيت كل مسألة بذكر ما يترجح لدي من أقوال العلماء ذاكرًا سبب الترجيح، وخلاصة ما بعثت فيها. 9 - رجعت إلى كتب التفسير وشروح الأحاديث ومواضع السيرة النبوية ذات الصلة بالموضوع. 10 - ترجمت للأعلام الواردة في البحث باختصار ما عدا المشهورين منهم. 11 - قمت بشرح الألفاظ الغريبة والمصطلحات العلمية الواردة في البحث. 12 - وضعت خاتمة للبحث متضمنة أهم النتائج والتوصيات.

وضعت فهارس للآيات والأحاديث النبوية والتراجم والمراجع والموضوعات. وإني إذ أكتب عن أحكام الاستضعاف، فما هذا إلا للانطلاق نحو التمكين بإذن اللَّه، وليس المراد التأصيل للاستثناء بل للحث على العودة إلى الأصل. هذا، وأحمد اللَّه عز وجل على عونه وتوفيقه وتيسيره ومنه وفضله وكرمه، وأسأله التوفيق لشكره، وأن يجعل ما كتبت من العلم الذي ينتفع به، وأن يتقبله بقبول حسن، وأن ينصر المسلمين المستضعفين في كل مكان، وأن يمكن لهم في الأرض.

الشكر والتقدير: يطيب لي أن أتقدم بالشكر والتقدير لوالدي الكريمين اللذين شجعاني على طلب العلم منذ طفولتي، وزوجتي التي وقفت إلى جانبي وهيئت لي أسباب البحث، وكذلك كل من ساهم معي في هذا البحث برأي أو نصيحة أو مراجعة من مشايخي وزملائي، فجزاهم اللَّه خير الجزاء وكتب لهم الأجر والثواب. * * *

الباب الأول تعريف الاستضعاف وأنواعه ومظاهره

الباب الأول تعريف الاستضعاف وأنواعه ومظاهره وفيه فصلان الفصل الأول: تعريف الاستضعاف. الفصل الثاني: أنواع الاستضعاف ومظاهره.

الفصل الأول: تعريف الاستضعاف

الفصل الأول: تعريف الاستضعاف وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: تعريف الاستضعاف. المبحث الثاني: الاستضعاف في القرآن الكريم. المبحث الثالث: الاستضعاف في الأحاديث النبوية. المبحث الرابع: بيان الألفاظ ذات الصلة. المبحث الخامس: المقارنة بين الاستضعاف والألفاظ ذات الصلة.

المبحث الأول: تعريف الاستضعاف

المبحث الأول: تعريف الاستضعاف وفيه مطلبان: المطلب الأول: تعريف الاستضعاف لغة الضعف مصدر ضعف: (الضاد والعين والفاء) أصلان متباينان، يدل أحدُهما على خلاف القوة وهو المراد هنا، ويدل الآخر على أن يزاد الشيءُ مثله. فالأول: الضَّعف والضُّعف، وهو خلاف القوة، يقال: ضَعُفَ يضعُف، ورجل ضعيف وقوم ضُعفاءُ وضِعافٌ (¬1). ويُقال: أضعفت فلانًا، أي: وجدته ضعيفًا، وضعفته، أي: صيرته ضعيفًا، واسْتَضْعَفَه وتَضَعَّفَه: وجده ضعيفًا فركبه بسُوء، واسْتَضْعَفَهُ: أي عدَّه ضعيفًا (¬2). ونخلص مما سبق أن كلمة الاستضعاف مأخوذة من الضَّعف وهو ضد القوة، إلا أن الاستضعاف نتيجة فعل واقع من الغير على الشخص الضعيف أو الذي اعتبر ضعيفًا، وهو يقع على الفرد كما يقع على الجماعة. * * * المطلب الثاني: تعريف الاستضعاف اصطلاحًا لم يتطرق الفقهاء للاستضعاف بشكل خاص، وإنما بحثوا مسائله في أبواب متفرقة، كما اعتنوا بوضع القواعد العامة والضوابط التي تحكم مرحلة الاستضعاف عند تطرقهم لمسائل الضرورة والحاجة والإكراه. ¬

_ (¬1) انظر: معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة: اتحاد الكتاب العرب، ط 1، 1423 هـ، مادة: (ضعف). (¬2) انظر: تهذيب اللغة، محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق: إبراهيم الأبياري، القاهرة: دار الكتاب العربي، ط 1، 1967 م، ولسان العرب، أبو الفضل محمد الإفريقي، بيروت، ط 1، 1978 م، ومختار الصحاح، محمد الرازي، بيروت: دار القلم، ط 1، 1979 م، مادة: (ضعف).

وقد أشار بعض الباحثين لمراحل تأسيس الدولة الإِسلامية على عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكر أنها مرت بمرحلتين: الأولى: الاستضعاف. والثانية: التمكين، والتي كانت وفق مراحل زمنية متعددة (¬1). كما عبر عنها البعض بحالة الضعف، ووصفها بأنها: الحالة التي لا يقدر المسلمون فيها على إظهار دينهم وإقامة شعائرهم خوفًا من بطش عدوهم (¬2). ولم أعثر على تعريف للاستضعاف فيما اطلعت عليه من الكتب الفقهية والأصولية، وقد عرَّفت مرحلة الاستضعاف عند بعض المعاصرين بأنها: "المرحلة التي تمرُّ بها الدعوة الإِسلامية في ظل صراع مع منهج غير إسلامي، يقوم على الظلم والعدوان ومصادرة الحقوق، يتزامن -مع ذلك- عمل المسلمين الجاد للخُروج من قيد الاستضعاف إلى التمكين" (¬3). والتعريف السابق اقتصر على الدعوة الإِسلامية، كما أنه لم يشر إلى استضعاف الأفراد، ولعله ومن خلال ما مضى يمكننا القول بأن الاستضعاف هو: "الحالة التي يكون فيها الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة ضعفاء، بحيث لا يقدرون على إظهار الإِسلام وشعائره أو تطبيقها كلها أو بعضها بسبب عدو أو سطان جائر". * * * ¬

_ (¬1) انظر: الفقه السياسي للوثائق النبوية، خالد سليمان الفهداوي، الأردن: دار عمار، ط 1، 1419 هـ، ص 32 - 33. (¬2) انظر: التعامل مع غير المسلمين في العهد النبوي، ناصر محمدي جاد، الرياض - القاهرة: دار الميمان للنشر والتوزيع، ط 1، 1430 هـ، ص 105. (¬3) الفقه السياسي، د. خالد سليمان الفهداوي، دار الأوائل: دمشق، ط 1، 2005 م، ص 211.

المبحث الثاني: مفهوم الاستضعاف في القرآن الكريم

المبحث الثاني: مفهوم الاستضعاف في القرآن الكريم ورد الاستضعاف في القرآن الكريم (¬1) بلفظ اسْتُضْعِفُوا، ومُسْتَضْعَفِينَ، ومُسْتَضْعَفُونَ، واستضعفوني، ويستضعف، وكذلك المسْتَضْعَفِينَ، وذلك في ثلاث عشرة آية وفي خمس سور هي كالتالي: 1 - قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬2). {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي}: استذلوني وعدوني ضعيفًا، وكادوا أي: قاربوا يقتلونني" (¬3)، ودلت الآية: "على أن لمن خشي القتل عند تغيير المنكر أن يسكت عنه" (¬4). ولقد حاول هارون عليه السلام منع بني إسرائيل من اتخاذ العجل وعبادته، قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} (¬5)، ¬

_ (¬1) وقد ورد الاستضعاف في القرآن الكريم بالفأظ أخرى ومن ذلك قوله تعالى في قصة لوط عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، سورة هود، الآية [80]، وفي قصة شعب عليه السلام: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} سورة هود، الآية [91] , وغيرها. (¬2) سورة الأعراف، الآية [150]. (¬3) الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني، القاهرة: دار الشعب، ط 2، 1372 هـ، 7/ 290. (¬4) أَحْكَام القُرآن لابن الْعَرَبِي، محمد بن عبد اللَّه ابن العربي، تحقيق: محمَّد عبد القادر عطا، لبنان: دار الفكر، ط 1، د. ت، 2/ 325. (¬5) سورة طه، الآية [90].

فرد القوم عليه بقولهم: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (¬1) أي: لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه، وخالفوا هارون في ذلك وحاربوه وكادوا أن يقتلوه، ولما رجع موسى عليه السلام غضب على هارون عليه السلام، وقال له: هلا قاتلتهم وقد علمت أني لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم، وقيل: أن لا تتبعني، أي ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إياهم تقريعا وزجرا لهم عما أتوه، فاعتذر هارون عليه السلام بأنه خشي لو أنكر عليهم أن يصيروا حزبين يقتل بعضهم بعضا، فتقول أنت فرقت بين بني إسرائيل ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك اخلفني في قومي وأصلح أي: ارفق بهم، وكان الإصلاح في حفظ الدماء والمدارة لهم (¬2)، قال تعالى {قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (¬3). 2 - قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (¬4). " {إِنَّ فِرْعَوْنَ}: استكبر وتجبر وتعظم، {فِي الْأَرْضِ}: أرض مصر، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}: فرقا وأصنافا في ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية [91]. (¬2) انظر: تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، الرياض: دار طيبة، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، 3/ 164، ومعالم التنزيل، الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: خالد العك، بيروت: دار المعرفة، ط 1، د. ت، 3/ 229، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاوي)، عبد اللَّه البيضاوي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت، 4/ 67. (¬3) سورة طه، الآيات [92 - 94]. (¬4) سورة القصص، الآية [4].

الخدمة والتسخير، {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}: أراد بالطائفة: بني إسرائيل، ثم فسر الاستضعاف فقال: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}: سمى هذا استضعافا لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم" (¬1). "وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في أخس الأعمال ويكُدُّهُم ليلًا ونهارًا في أشغاله وأشغال رعيته، ويقتل مع هذا أبناءهم ويستحيي نساءهم إهانة لهم واحتقارًا، وخوفًا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته من أن يوجد منهم غلام يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه" (¬2). 3 - قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (¬3) أي: قال الجماعة الذين استكبروا من قوم صالح من الأشراف والقادة للذين استضعفوا يعني لأهل المسكنة من أتباع صالح والمؤمنين به منهم دون ذوي شرفهم وأهل السؤدد منهم (¬4). "والاستفهام في قوله جل شأنه: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ}: للاستهزاء؛ لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر كما حكى سبحانه عنهم بقوله: {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ}: فإن الجواب الموافق لسؤالهم نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى" (¬5). ¬

_ (¬1) معالم التنزيل، 6/ 185. (¬2) تفسير القرآن العظيم: 6/ 221. (¬3) سورة الأعرف، الآية [75]. (¬4) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، محمد بن جرير الطبري، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1405 هـ، 8/ 232، ومعالم التنزيل، 3/ 247. (¬5) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، محمود الألوسي، بيروت: دار إحياء التراث، ط 4، 1405 هـ، 8/ 164.

"وكون المؤمنين مستضعفين معناه: أن غيرهم يستضعفهم ويستحقرهم، وهذا ليس فعلًا صادرًا عنهم، بل عن غيرهم، فهو لا يكون صفة ذم في حقهم، بل الذم عائد إلى الذين يستحقرونهم ويستضعفونهم" (¬1). 4 - قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (¬2)، "أي: ننعم على الذين استضعفوا وهم بنو إسرائيل، ونجعلهم أئمة يُقتدى بهم في الخير، وقال قتادة: ولاة وملوكا ونجعلهم الوارثين لملك فرعون بعد غرقه" (¬3) , "وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره" (¬4). 5 - قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (¬5). 6 - وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} (¬6). 7 - وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي ¬

_ (¬1) مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، محمد عمر الرازى الشافعي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421 هـ، 7/ 175. (¬2) سورة القصص، الآية [15]. (¬3) زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن علي الجوزي، بيروت: المكتب الإِسلامي، ط 3، 1404 هـ, 6/ 201. (¬4) زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 3، 1416 هـ، 1/ 75. (¬5) سورة سبأ، الآية [31]. (¬6) سورة سبأ، الآية [32].

أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1)، وفي هذه الآيات وصف لحال الأشراف والقادة مع الأتباع يوم القيامة، وفيه تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سببا للعداوة في الآخرة (¬2). فلم يقبل اللَّه عز وجل عذر المستضعفين في إتباعهم للمستكبرين، بل وصفهم سبحانه بذات الوصف وهو الظلم، أما المستكبرين أنفسهم فقد وصفوا أتباعهم من المستضعفين بأنهم مجرمين. 8 - قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (¬3)، أخبر تعالى أنه أورث بني إسرائيل الذين كان يستضعفهم فرعون وملأه مشارق الأرض ومغاربها (¬4). قال ابن كثير رحمه اللَّه: "فإن اللَّه تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها" (¬5). 9 - قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬6)، ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقداهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات، واستشكرهم فأطاعوه، وامتثلوا جميع ما أمرهم. وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين ¬

_ (¬1) سورة سبأ، الآية [33]. (¬2) انظر: زاد المسير، 6/ 457. (¬3) سورة الأعراف، الآية [137]. (¬4) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 17/ 105. (¬5) تفسير القرآن العظيم، 4/ 294. (¬6) سورة الأنفال، الآية [26].

مستخفين مضطهدين يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد اللَّه، من مشرك ومجوسي ورومي، كلهم أعداء لهم لقلتهم وعدم قوتهم، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن اللَّه لهم في الهجرة إلى المدينة، فآواهم إليها، وقيض لهم أهلها، آووا ونصروا يوم بدر وغيره وواسوا بأموالهم، وبذلوا مهجهم في طاعة اللَّه وطاعة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وصيغة الأمر في الآية: {اذْكُرُوا} تدل على تحتم ذكر النعمة بذلك، وإذًا فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم الرمل (¬2) هي تذكر نعمة اللَّه بالقوة بعد الضعف، والكثرة بعد القلة، ومما يؤيده أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة (¬3). 10 - قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (¬4)، أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء الضعفاء المساكين حتى يسلم اللَّه هؤلاء ودينهم، قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: (وهم ناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا، والقرية: مكة في قول الجماعة) (¬5)، وذكر ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم، 4/ 40. (¬2) يُقال: رمل يرمل رملا ورملانا إذا أسرع في المشي وهز منكبيه، فالرمل وثب في المشي ليس بالشديد مع هزة المنكبين، انظر: النهاية في غريب الأثر، المبارك بن محمد الجزري، تحقيق: طاهر الزاوي، ومحمود الطناحي، بيروت: المكتبة العلمية، 1399 هـ، مادة: رمل، 2/ 265، ومشارق الأنوار، للقاضي عياض اليحصبي المالكي، تونس، عمر: المكتبة العتيقة ودار التراث، ط 1، د. ت، مادة: رمل، 1/ 291. (¬3) انظر: أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1415 هـ، 4/ 392. (¬4) سورة النساء، الآية [75]. (¬5) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/ 168، وزاد المسير، 2/ 132.

الولدان في الآية يشير إلى ظلم قريش للمستضعفين، حتى بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين؛ إرغاما لآبائهم وأمهاتهم (¬1). والآية فيها حث من اللَّه لعباده المؤمنين وتهييج لهم على القتال في سبيله، وأن ذلك قد تعين عليهم، لتخليص المستضعفين، بل وتوجه اللوم العظيم عليهم بترك نصرتهم، وقد استجاب اللَّه دعاء المستضعفين بأن يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة، ويسر لبعضهم الخروج مع أبي بصير (¬2) وأبي جندل (¬3) -رضي اللَّه عنهما- بعد صلح الحديبية، وجعل لمن بقي منهم ¬

_ (¬1) انظر: مفاتيح الغيب، 5/ 284. (¬2) هو عتبة بن أسيد بن جارية بن أسيد بن عبد اللَّه بن غِيَرة بن عوف بن ثقيف حليف بني زهرة، مشهور بكنيته أبو بصير، فر من قريش وانضم إليه جماعة من المستضعفين بمكة وكان أميرهم ويؤمهم بالصلاة، وكان يكثر أن يقول: الحمد للَّه العلي الأكبر ... من ينصر اللَّه فسوف ينصر وكتب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- له لكي يقدم بمن معه -بعد مناشدة قريش له وقف الهجمات على قوافلها- فورد الكتاب وهو يموت فمات وكتاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيده فدفنه أبو جندل وصلى عليه. انظر ترجمته: الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر، اعتنى به: حسان عبد المنان، الأردن: بيت الأفكار الدولية، ط 1، 2002 م، ص 880. (¬3) اسمه أبو جندل بن سهيل بن عمرو القرشي العامري واسمه العاص. أسلم بمكة فطرحه أبوه في حديد فلما كان يوم الحديبية جاء يرسف في الحديد وكان أبو سهيل قد كتب في كتاب الصلح: إن من جاءك منا ترده علينا فخلاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لذلك، ثم إنه أفلت بعد ذلك فلحق بأبي بصير وكان معه في سبعين رجلًا من المسلمين بالعيص يقطعون على من مر بهم من عير قريش وتجارتهم فكتبوا فيهم إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يضمهم إليه فضمهم إليه فقدم أبو جندل ومن معه للمدينة فلم يزل يغزو مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى قبض فخرج إلى الشام في أول من خرج إليها من المسلمين فلم يزل يغزو في سبيل اللَّه حتى مات بالشام في طاعون عمواس بالأردن سنة ثمان عشرة في خلافة عمر ولم يترك أبو جندل عقبا. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 433، وسير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1405 هـ، 1/ 192.

خير ولي وناصر بفتح مكة على نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتولاهم ونصرهم ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد -رضي اللَّه عنه- (¬1) فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها (¬2). 11 - قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} (¬3)، المستضعفين من الولدان! الذين لا أب لهم، أكد اللَّه سبحانه أمرهم كما أكد أمر اليتامى، ويحتمل أن يريد بالمستضعفين من كان هو وأبوه ضعيفًا، واليتيم المنفرد بالضعف، ويحتمل أن يريد بالمستضعفين من رماه أهله ودفعه أبوه عن نفسه لعجزه عن ¬

_ (¬1) هو عتاب بالشديد ابن أسيد بفتح أوله ابن أبي العيص ابن أمية بن محمد شمس الأموي أبو محمد الرحمن ويقال: أبو محمد، أسلم يوم الفتح، واستعمله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على مكة لما صار إلى حنين واستمر، وكان عمره حين استعمل نيفا وعشرين سنة، وأقره أبو بكر على مكة إلى أن مات، ولما أراد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ألا يتزوج علي -رضي اللَّه عنه- بنت أبي جهل على فاطمة بادر عتاب فتزوجها فولدت له ابنه عبد الرحمن، وكان شديدا على المريب لينا على المؤمنين، قيل: أنه مات في نفس يوم وفاة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنهما-. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 429 - 430، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر، تحقيق: علي البجاوي، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1412 هـ، 3/ 1023 - 1024، والطبقات "الكبرى" محمد بن سعد البصري، تحقيق: إحسان عباس، بيروت: دار صادر، ط 1، د. ت، 5/ 446. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي، تحقيق: عبد الرحمن اللويحق، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1420 هـ - 2000 م، 1/ 187، وتفسير البيضاوي، 2/ 219. (¬3) سورة النساء، الآية [127].

أمره (¬1)، ولقد كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات (¬2). 12 - قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬3)، قال ابن كثير: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم أي بترك الهجرة قالوا: فيم كنتم؟ أي: لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة، قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، أي: لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض" (¬4). 13 - قال تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (¬5)، قال الطبري (¬6): "حيلة في المال والسبيل الطريق" (¬7)، وقال ¬

_ (¬1) انظر: أَحْكَام القُرْآن لابن العَرَبِي، 1/ 634. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 9/ 266، وتفسير القرآن العظيم، 2/ 425. (¬3) سورة النساء، الآية [97]. (¬4) تفسير القرآن العظيم: 2/ 389. (¬5) سورة النساء، الآية [98]. (¬6) محمد بن جرير بن يزيد الطبري، ولد في آمل طبرستان سنة 224 هـ الإِمام المؤرخ الفقيه المجتهد شيخ المفسرين، قال عنه الذهبي: "كان من أفراد الدَّهر علمًا، وذكاءً، وكثرةَ تصانيف، قلَّ أن ترى العيونُ مثلَه". استوطن بغداد وتوفيها سنة 310 هـ، من مآثره: أخبار الرسل والملوك، وجامع البيان في تفسير القرآن، واختلاف الفقهاء وغيرها، انظر ترجمته: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أحمد بن محمد بن خلّكان، تحقيق: يوسف علي طويل، مريم قاسم طويل، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1419 هـ، 4/ 43، وسير أعلام النبلاء، 14/ 267 - 282، والأعلام قاموس تراجم، خير الدين الزِرِكلي، بيروت: دار العلم للملايين، ط 6، 1984 م، 6/ 69. (¬7) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 5/ 235.

القرطبي (¬1): "الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص، والسبيل سبيل المدينة" (¬2). والآيات الكريمة السابقة دلت على الكثير من الأحكام، ولكي نصل إلى تعريف الاستضعاف نقتصر على بيان جزء من دلالاتها، فيما يلي: 1 - وقوع الاستضعاف على الأنبياء وأتباعهم. 2 - أن المستضعف يرخص له في بعض الأمور لا سيما إن هدد بالقتل كما جرى مع هارون عليه السلام. 3 - مقابلة الاستضعاف في القرآن الكريم بالاستكبار والإفساد، والظلم والعلو. 4 - أن الاستضعاف الواقع على المؤمنين لا يكون صفة ذم في حقهم، وإنما الذم يعود إلى المستكبرين. 5 - من وسائل استضعاف الجماعة التفريق بينها. 6 - الاستضعاف يعتبر من الأعذار الشرعية إذا تحققت الشروط. 7 - عدم قبول عذر الاستضعاف على إطلاقه سواء في الدنيا أو الآخرة. 8 - من وصايا القرآن للمستضعفين الصبر وأن التمكين يأتي بعد الاستضعاف. 9 - من صفات المستضعفين القلة والخوف. 10 - وجوب نصرة المستضعفين والقتال من أجلهم. ¬

_ (¬1) محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبو عبد اللَّه، من كبار المفسرين من أهل قرطبة رحل إلى الرق واستقر بمنية شمال أسيوط بمصر، وتوفي رحمه اللَّه بها سنة 671 هـ، من مآثره: التذكرة بأحوال الموتى وأحوال الأخرة، انظر ترجمته: سير أعلام النبلاء، 4/ 563 - 588، والأعلام، 5/ 322. (¬2) الجامع لأحكام القرآن، 5/ 347.

11 - أن الاستضعاف يقع على الفرد كما في قصة هارون عليه السلام، ويقع على الجماعة كما في قصة بني إسرائيل مع فرعون. 12 - من وسائل دفع الاستضعاف الهجرة في سبيل اللَّه. 13 - من وسائل دفع الاستضعاف الجهاد في سبيل اللَّه. 14 - من صفات المستضعفين قلة الحيلة وعدم معرفة السبيل. * * *

المبحث الثالث: مفهوم الاستضعاف في الأحاديث النبوية

المبحث الثالث: مفهوم الاستضعاف في الأحاديث النبوية ورد ذكر الاستضعاف والمستضعفين في أحاديث، نذكر منها ما يلي: 1 - عن عبيد اللَّه قال سمعت ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: (كنت أنا وأمي (¬1) من المستضعفين)، وفي روايةٍ قال: تلا ابنُ عباسِ: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}، فقال: (كنت أنا وأمي ممَّن عَذَرَ اللَّهُ، أنا من الولدان، وأمي من النساء) (¬2). 2 - عن أني هريرة -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول. (اللهم أَنْجِ سَلَمَةَ بن هشام (¬3)، اللهم أَنْجِ الوليد بن الوليد (¬4)، اللهم أَنْجِ عَيَّاشَ بن ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (8/ 255): "واسم أمه لبابة بنت الحارث الهلالية أم الفضل أخت ميمونة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬2) صحيح البخاري (الجامع الصحيح)، محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، ط 3، 1407 هـ، كتاب تفسير القرآن، باب: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} [النساء: 75]، رقم: 4311. (¬3) سلمة بن هشام بن المغيرة بن عبد اللَّه المخزومي أخو أبي جهل والحارث، يكنى أبا هاشم، من السابقين للإسلام هاجر إلى الحبشة ثم رجع إلى مكة فحبسه أبو جهل وضربه وأجاعه وأعطشه، فدعا له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولما مات رسول اللَّه خرج إلى الشام، واستشهد -رضي اللَّه عنه- في معركة أجنادين سنة 14 هـ. انظر: الأعلام، 3/ 113، والإصابة في تمييز الصحابة، 3/ 155، والطبقات الكبرى، 4/ 130. (¬4) الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه المخزومي، خرج مع المشركين يوم بدر فأسر يومئذ، ففداه أخواه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة، وخرجا معه حتى بلغا به ذا الحليفة أسلم فحبساه بمكة مع نفر من بني مخزوم كانوا أقدم إسلاما منه: عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام، وكانا من مهاجرة الحبشة، فدعا لهما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل بدر ودعا بعد بدر للوليد بن الوليد معهما، فدعا ثلاث سنين لهؤلاء الثلاثة جميعًا، وهربوا من مكة، فخرج خالد بن الوليد معه نفر من قومه حتى بلغوا عسفان فلم يصيبوا أثرا ولا خبرا عنهم، لكونهم سلكوا طريق البحر حتى خرجوا على أمج؛ طريق هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما كانوا بظهر الحرة قطعت إصبع الوليد بن الوليد فدميت فقال: =

أبي رَبِيعَةَ (¬1)، اللهم أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ من المؤمنين، اللهم اشْدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ (¬2)، اللهم سِنينَ كسني يُوسُفَ) (¬3). وقد صرح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأسماء هؤلاء الصحابة -رضي اللَّه عنهم- في القنوت ¬

_ = هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل اللَّه ما لقيت وانقطع فؤاده فمات بالمدينة، وقيل: مات ببئر أبي عتبة قبل أن يدخل المدينة، ويقال: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما اعتمر خرج خالد من مكة حتى لا يرى المسلمين دخلوا مكة فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للوليد بن الوليد: (لو أتانا خالد لأكرمناه)، فكتب الوليد بذلك إلى خالد فكان ذلك سبب هجرته. انظر: الأعلام، 8/ 122، والإصابة في تمييز الصحابة 3/ 248، والطبقات الكبرى، 4/ 131 - 134. (¬1) عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر المخزومي واسمه عمرو ويلقب ذا الرمحين، أخو أبو جهل لأمه، ابن عم خالد بن الوليد، كان من السابقين الأولين للإسلام، هاجر الهجرتين ثم خدعه أبو جهل إلى أن رجعوا من المدينة إلى مكة فحبسوه، ثم قدم للمدينة فلم يزل بها إلى أن مات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم خرج إلى الشام فجاهد في سبيل اللَّه، ثم رجع إلى مكة فأقام بها إلى أن مات بها سنة 15 هـ، وقيل: مات بالشام في خلافة عمر، وقيل: استشهد باليمامة، وقيل: باليرموك. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 750، والطبقات الكبرى، 5/ 443 - 444. (¬2) قال ابن حجر في الفتح 11/ 194: (والمراد بِمُضَرَ القبيلة المشهورة التي منها جميع بُطُون قَيْس وقريش وغيرهم، وهو على حذف مضاف، أي: كفار مُضَر"، "فتتابع القحط عليهم سبع سنين حتى أكلوا النقد والعظام"، تأويل مختلف الحديث، عبد اللَّه بن مسلم بن قتية الدينوري، تحقيق: محمد زهري النجار، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1393 هـ، 1/ 213، وجاء في الشفا بتعريف حقوق المصطفى، عياض اليحصبي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1409 هـ، ص 323: "ودعا على مضر فأقحطوا، حتى استعطفته قريش، فدعا لهم فسقوا". (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، رقم: 961، وصحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، رقم: 675.

لاشتهار خبرهم، ودعا للمستضعفين في مكة فشمل دعاؤه عليه السلام الأسرى وكذلك من كان يكتم إيمانه ولم تعرف قريش أمر إسلامه. 3 - وفي حديث الحديبية (¬1) قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (يا أبا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ من المُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إنا قد عَقَدْنَا بَيْنَنَا وبين الْقَوْمِ صُلْحًا فَأَعْطَيْنَاهمْ على ذلك وَأَعْطَوْنَا عليه عَهْدًا وَإنَّا لن نَغْدِرَ بهم) (¬2). وقد جعل اللَّه عز وجل له وللمستضعفين معه فرجًا ومخرجًا بانحيازهم لأبي بصير -رضي اللَّه عنه-، فصار بإمكان المستضعفين التأثير على العدو أكثر من الدولة الإِسلامية القائمة في المدينة؛ لعدم دخولهم في الهدنة مع قريش، فكلما سمعوا بقافلة لقريش هاجموها, ولم يكن بإمكان قريش مهاجمتهم لعدم استقرارهم وسرعة تنقلهم، حتى ناشدت قريش النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلغاء شرط رد من يسلم إليها (¬3). ¬

_ (¬1) الحُدَيْبِية: بضم الحاء وفتح الدال وياء ساكنة وباء موحدة مكسورة وياء مخففة، اختلفوا فيها فمنهم من شددها ومنهم من خففها فروي عن الشافعي رحمه اللَّه أنه قال: الصواب تشديد الحديبية، وهي قرية متوسطة ليست بالكبيرة، تقع غربي مكة قريبة منها، سميت ببئر فيها، وقيل: بشجرة حدباء. انظر: معجم البلدان، ياقوت بن عبد اللَّه الحموي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت، 2/ 229. (¬2) أخرجه أحمد، 4/ 325، رقم: 18930، قال شعيب الأرنؤوط: "إسناده حسن، محمد بن إسحاق وإن كان مدلسًا وقد عنعن، إلا أنه قد صرح بالتحديث في بعض فقرات هذا الحديث فانتفت شبهة تدليسه"، والبيهقي في السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكة المكرمة: مكتبة دار الباز، ط 1، 1414 هـ، 9/ 227، رقم: 18611. (¬3) ففي حديث صلح الحديبية: (فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فواللَّه ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تناشده باللَّه والرحم لما أرسل فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .)، أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم: 2581.

4 - عن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (أَلَا أُخْبِرُكَ عَنْ مُلُوكِ الجنَّةِ) قُلْتُ: بَلَى، قال: (رَجُلٌ ضَعِيفٌ مُسْتَضْعَفٌ ذُو طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ له لو أَقْسَمَ على اللَّهِ لأَبَرَّهُ) (¬1)، "والمراد بالمستضعَف بفتح العين على المشهور، أي: يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجبرون عليه لضعفه ولفقره ورثاثته وخموله، وفي رواية بكسر العين، أي: نفسه كمال لتواضعه وضعف حاله في الدنيا، ذو طمرين بكسر فسكون إزار ورداء خلقين، لا يؤبه له، أي: لا يحتفل به" (¬2). 5 - وفي الصحيحين: (ألا أُخْبِرُكُمْ بأهل الجنة كل ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ على اللَّه لَأبَرَّهُ، ألا أُخْبِرُكُمْ بأهل النار كُلُّ عُتُلٍّ جوَّاظٍ (¬3) مُسْتكْبِرٍ) (¬4). ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد أبو عبد اللَّه القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت، كتاب الزهد، باب من لا يؤبه له، رقم: 4115. جاء في السلسلة الصحيحة, محمد ناصر الدين الألباني، الرياض: مكتبة المعارف، ط 1، د. ت، 4/ 240: إسناد رجاله ثقات غير سويد بن عبد العزيز فإنه ضعيف، وقال الحافظ: لين الحديث. (¬2) فيض القدير شرح الجامع الصغير, عبد الرؤوف المناوي، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، ط 1، 1356 هـ، 3/ 100. (¬3) الجواظ بتشديد الواو وفتح الجيم وآخره ظاء معجمة، هو الفظ الغليظ، أو المجموع المنوع، وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته أي بسبب التنعم، انظر: مشارق الأنوار، 1/ 165، وفتح الباري، لابن حجر، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1379 هـ، 8/ 663، والديباج على صحيح مسلم بن الحجاج، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: أبي إسحاق الحويني، الخبر: دار ابن عفان، ط 1، 1416 هـ، 6/ 193، والتيسير بشرح الجامع الصغير، زين الدين عبد الرؤوف المناوي، الرياض: مكتبة الإِمام الشافعي، ط 3، 1408 هـ، 1/ 395. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب عتل بعد ذلك زنيم، رقم: 4633، وفي رواية "متضاعف"، ومسلم، كتاب الجنة، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، رقم: 2853.

قال ابن الأثير رحمه اللَّه (¬1): "يُقال: تَضعَّفَتْهُ واسْتَضْعَفْتُه بمعنى، كما يقال: تَيَقَّنَ واسْتَيْقَنَ، يريد الذي يَتَضعَّفَهُ الناس ويَتَجَبَّرون عليه في الدُّنيا للفَقْر ورَثاثَةِ الحال" (¬2). وقال النووي رحمه اللَّه (¬3): "كل ضَعِيف مُتَضَعِّف إنه الخَاضِع للَّه تعالى المُذِلّ نَفْسه له سبحانه وتعالى ضد المُتَجَبِّر المُسْتَكْبِر" (¬4)، قال ابن حجر رحمه اللَّه: "وفي رواية الإسماعيلي: مستضعف، والمراد بالضعيف من نفسه كمال لتواضعه وضعف حاله في الدنيا، والمستضعف المحتقر لخموله في الدنيا" (¬5). ¬

_ (¬1) المبارك بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري، أبو السعادات، مجد الدين، المحدث اللغوي الأصولي الشافعي، ولد سنة 544 هـ، وانتقل إلى الموصل، مرض وبطلت حركة يديه ورجليه فمنعه مرضه من الكتابة ولازمه إلى أن توفي رحمه اللَّه سنة 606 هـ، قيل: إن تصانيفه كلها ألفها زمن مرضه إملاءً على طلبته، وهو أخو ابن الأثير المؤرخ، وابن الأثير الكاتب رحمهم اللَّه، انظر: وفيات الأعيان، 4/ 7، وطبقات الشافعية، 5/ 153، والأعلام، 5/ 272. (¬2) النهاية في غريب الأثر، 3/ 88. (¬3) محيي الدين أبو زكريا ير بن شرف الحوراني الشافعي النووي -نسبة إلى نوى وهي قرية من قرى حَوْران في سورية، ولد 631 هـ، كان إمامًا بارعًا حافظًا وحصورًا، أتقن علومًا شتى، وقَدِمَ مع أبيه إلى دمشق لاستكمال طلب العلم، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية، أفردت ترجمته في رسائل عديدة، من أشهر مؤلفاته: تهذيب الأسماء واللغات، والمنهاج في شرح مسلم، الأذكار؛ رياض الصالحين، المجموع شرح المهذب؛ الأربعون النووية، توفي بنوى سنة 676 هـ. انظر: معجم المؤلفين، عمر رضا كحاله، دمشق: المكتبة العربية، ط 1، 1961 م، 13/ 202، وطبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين بن علي السبكي، تحقيق: د. محمود الطناحي، ود. عبد الفتاح الحلو، القاهرة: دار هجر، ط 2، 1413 هـ، 8/ 225، وطبقات الشافعية، أحمد بن محمد بن عمر بن قاضي شهبة، تحقيق: د. الحافظ عبد العليم خان، بيروت: عالم الكتب، ط 1، 1407 هـ، 2/ 153 - 154. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، يحيى بن شرف بن مري النووي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 2، 1392 هـ، 17/ 181. (¬5) فتح الباري، 8/ 663.

وهذا الحديث نص في تفضيل الضعيف على القوي، وقد ورد عكسه كما في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (المؤمن القوي خير وأحب إلى اللَّه من المؤمن الضعيف وفي كل خير. . .) (¬1)، وهو نص في تفضيل القوي على الضعيف، وقد جمع الإِمام النووي رحمه اللَّه بين الحديثين فقال: "والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والْقَرِيحَة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات اللَّه تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبًا لها، ومحافظة عليها ونحو ذلك" (¬2)، وأما مدح الضعيف "فمن حيث رقة القلوب ولينها واستكانتها لربها وضراعتها إليه" (¬3)، كما يحمل مدح الضعف في حال التعامل مع المسلمين كما قال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. . .} (¬4). 6 - قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إنما ينصر اللَّه المسلمين بدعاء المستضعفين) (¬5)، وقال عليه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة باللَّه، رقم: 2664. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 9/ 19. (¬3) فيض القدير، 3/ 100. (¬4) سورة الفتح، من الآية [29]. (¬5) المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: طارق الحسيني، القاهرة: دار الحرمين، ط 1، 1415 هـ، 4/ 263، وجاء في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، القاهرة، بيروت: دار الريان للتراث، ودار الكتاب العربي، ط 1، 1457 هـ، 5/ 329: "فيه علي بن سعيد الرازي، قال الدارقطني: ليس بذاك، وقال يونس: كان يحفظ ويفهم وبقية رجاله ثقات". قال الحافظ في الفتح، 6/ 89: "أخرجه أبو نعيم في ترجمته في الحلية من رواية عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن عمرو بن مرة، وقال: غريب من حديث عمرو تفرد به عبد السلام".

الصلاة والسلام: (ابْغُوني الضُّعَفَاءَ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ) (¬1). 7 - عن أوس بن حذيفة قال قدمنا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في وفد ثقيف فنزلوا الأحلاف (¬2) على المغيرة بن شعبة وأنزل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بني مالك في قبة له فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء فيحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش ويقول: (وَلا سَوَاءٌ، كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ مُسْتَذَلِّينَ، فَلَمَّا خَرَجْنَا إِلَى المَدِينَةِ كَانَتْ سِجَالُ الْحَرْبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُم، ¬

_ (¬1) سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت، كتاب الجهاد، باب في الانْتِصَارِ بِرَذْلِ الْخَيْلِ وَالضَّعَفَةِ، رقم: 2594، وسنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي السلمي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، بيروت: دار إحياه التراث العربي، ط 1، د. ت، كتاب الجهاد، باب ما جاء في الاستفتاح بصعاليك المسلمين، رقم: 1702، وقال: حسن صحيح، وسنن النسائي، أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، حلب: مكتب المطبوعات الإِسلامية، ط 2، 1406 هـ، كتاب الجهاد، باب الاستنصار بالضعيف، رقم: 4388، ومسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، عمر: مؤسسة قرطبة، د. ت، 5/ 198، رقم: 21779، والمستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد اللَّه الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1411 هـ، 2/ 116، رقم: 2509 وقال: صحيح الإسناد، قال في صحيح سنن أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض: مكتبة المعارف، ط 2، 1421 هـ، 4/ 96: "صحيح". (¬2) جاء في عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1415 هـ، 4/ 189: "جمع حليف، ولفظ أبي داود الطيالسي، فنزل الأحلافيون على المغيرة بن شبة، قال في المصباح: الحليف المعاهد، يقال: منه تحالفا إذا تحالفا، وتعاقدا على أن يكون أمرهما واحدا في النصرة والحماية".

نُدَالُ عَلَيْهِمْ وَيُدَالُونَ عَلَيْنَا) (¬1)، "أي ما كان بيننا وبينهم مساواة بل أنهم كانوا أولا أعز ثم أذلهم اللَّه تعالى" (¬2). ومن فوائد هذه الأحاديث: 1. بيان أصناف المستضعفين الذين عذرهم اللَّه لعجزهم عن الهجرة. 2. دعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للمستضعفين بالنجاة، ومشروعية الدعاء على من يستضعفهم. 3. وصية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للمستضعفين بالصبر والاحتساب. 4. وصية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للمستضعفين بالبحث عن مخارج تخلصهم من الظلم الواقع عليهم، وحثهم على التعاون فيما بينهم. 5. مقابلة الاستضعاف بالاستكبار، وارتباط الاستضعاف بالذل والقهر والغلبة والقلة. 6. أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عد الخروج إلى المدينة والهجرة إليها انتهاءً لمرحلة الاستضعاف التي كانت في مكة. 7. أن اللَّه عز وجل عظم من شأن المستضعفين وجعل صبرهم وجهادهم من أسباب انتصار الأمة. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب تحزيب القرآن، رقم: 1393، وأخرجه ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في كم يستحب يختم القرآن، رقم: 1345، سكت عنه، وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح، قال الألباني في ضعيف سنن أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف: الرياض، ط 2، 1421 هـ، 3/ 393: "ضعيف". (¬2) عون المعبود، 4/ 189.

المبحث الرابع: بيان الألفاظ ذات الصلة

المبحث الرابع: بيان الألفاظ ذات الصلة تطرق الفقهاء لمصطلحات متعددة لها صلة بالاستضعاف ومنها: الإكراه والإلجاء، والاضطهاد، والإجبار، الاضطرار، ولكل كلمة دلالاتها الخاصة في اللغة، وفي استعمالات الفقهاء (¬1)، ولعل التعريف بكل واحد من هذه المصطلحات يظهر لنا وجه الشبه أو الفرق فيما بينها وبين الاستضعاف، وذلك من خلال المطالب التالية: المطلب الأول: تعريف الإكراه وفيه ثلاثة فروع: الفرع الأول: تعريف الإكراه لغة: عرف الإكراه لغة بأنه: خلاف الرضا والمحبة، يقال: كرهت الشيء أكرهه كرها، والكره الاسم. ويقال: بل الكُره: المشقة، والكَره: أن تكلف الشيء فتعمله كارها، وأكرهه على الأمر: قهره عليه، وكره إليه الأمر، صيره كريهًا إليه، والمكره: ما يكرهه الإنسان ويشق عليه، وجمعه مكاره (¬2). "الكره المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه، والكُره بالضم ما يناله من ذاته وهي ما يعافه، وذلك إما من حيث العقل أو الشرع، ولهذا يقول الإنسان في ¬

_ (¬1) ويُعد الإكراه ومسائله من أكثر هذه المصطلحات ورودًا في كلام الفقهاء، بالرغم من أنهم لم يخصصوا للإكراه ومسائله بابًا جامعًا، سوى فقهاء المذهب الحنفي حيث خصصوا كتابًا مستقلًا لمسائل الإكراه كغيره من كتب الفقه، ويليهم المذهب الظاهري، انظر: الإكراه وأثره في التصرفات، د. عيسى زكي شقرة، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1407 هـ، ص 6. (¬2) انظر: مقاييس اللغة، والمعجم الوسيط، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر: مجمع اللغة العربية، ط 2، 1970 م، والمصباح المنير، أحمد محمد الفيومي، بيروت: المكتبة العلمية، ط 1، د. ت، مادة: (كره).

الفرع الثاني: تعريف الإكراه اصطلاحا

شيء واحد: أريده وأكرهه بمعنى أريده من حيث الطبع، وأكرهه من حيث العقل أو الشرع" (¬1). فنلاحظ مما سبق، أن معاني الإكراه في اللغة تدور حول المشقة والقهر والإجبار، ومنافاة الرضا والمحبة والاختيار. الفرع الثاني: تعريف الإكراه اصطلاحًا: وأما اصطلاحًا فقد عد فقهاء الحنفية الإكراه من عوارض الأهلية، وهي: أحوال تطرأ على الإنسان بعد كمال أهلية الأداء، مما يؤثر فيها بإزالتها أو نقصانها، وفي الأحكام المترتبة عليها بالتغيير أو النقص (¬2). وتنقسم عوارض الأهلية إلى قسمين هما: القسم الأول: عوارض سماوية أي: ليس للعبد فيها اختيار، ولذلك نسبت إلى السماء وهي: الجنون، والعته، والنسيان، والنوم، والغماء، والمرض، والرق، والحيض، والنفاس، والموت. القسم الثاني: عوارض مكتسبة وهي: التي يكون لكسب العباد مدخل فيها بمباشرة الأسباب، وهي نوعان إما مكتسبة (¬3) من نفسه كالجهل، والسكر، والهزل، والسفه، ¬

_ (¬1) التوقيف على مهمات التعاريف، محمد عبد الرؤوف المناوي، بيروت - دمشق: دار الفكر المعاصر ودار الفكر، ط 1، 1410 هـ، 1/ 603. (¬2) انظر: الإكراه وأثره في التصرفات، ص 27، والموسوعة الفقهية الكويتية، الكويت: وزارة الأوقاف والشئون الإِسلامية، ط 2، 1408 هـ، 7/ 162. (¬3) وسميت مكتسبة؛ لأن سبب حصولها يرجع سببه إلى ذات المكلف، ومنها ما يرجع سببه إلى قوة وقدرة من خارج نفسه لا دخل له في حصولها ولا إرادة له في وقوعها وذلك كالإكراه، انظر: عوارض الأهلية عند الأصوليين، د. حسين خلف الجبوري، مكة المكرمة: مركز بحوث الدراسات الإِسلامية بجامعة أم القرى، ط 1، 1408 هـ، ص 332.

والإفلاس، والسفر، والخطأ. أو من غيره وهو الإكراه (¬1)، وهو الذي يعنينا من هذه العوارض. وبالنظر إلى هذه العوارض نجد أنها لا تختلف عما ذكره الفقهاء في قواعدهم الكلية كقاعدة: "المشقة تجلب التيسير" من أسباب التخفيفات، ورفع الحرج، إلا أن الفرق أنهم لما كتبوا في قاعدة المشقة ذكروا أسباب التخفيف العائدة إلى المأمور وهو ما بحث في العوارض، وبين ما هو عائد إلى المأمور به كالعسر وعموم البلوى مثلا (¬2)، بل صرح الأصوليون أن مسائل العوارض مبنية على رفع الحرج، قال الأنصاري رحمه اللَّه (¬3): "هذا ولما كانت مسائل الإكراه بل سائر العوارض مبنية على انتفاء الحرج في الدين أورد مسألته عقيب الإكراه متخللة بين العوارض" (¬4). عرف الفقهاء الإكراه بتعريفات متنوعة واختلفت بحسب شروطهم في الإكراه ومن تلك التعريفات: (حَملُ الغَيْرِ على أَمرٍ يَكْرَهُهُ ولا يُرِيدُ مُباشَرَتَهُ لولا الحَمْل عليه" (¬5). وقال ¬

_ (¬1) انظر: شرح التلويح على التوضيح، عبيد اللَّه بن مسعود التفتازاني، عمر: مكتبة صبيح، ط 1، د. ت، 2/ 334 - 391، والتقرير والتحبير في شرح التحرير، محمد ابن أمير الحاج، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1417 هـ، 2/ 173 - 207. (¬2) انظر: رفع الحرج في الشريعة الإِسلامية، يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين، الرياض: مكتبة الرشد، ط 1، 1411 هـ، ص 233. (¬3) عبد العلي بن محمد بن نظام الدين اللكنوى الأنصاري الملقب ببحر العلوم من علماء الهند فقبه حنفي أصولي منطقي من علماء الهند، من مؤلفاته: تنوير المنار وهو شرح على منار الأنوار للنسفى، توفي سنة 1180 هـ. انظر: الأعلام، 7/ 71. (¬4) فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، عمر: المطبعة الأميرية ببولاق، ط 1، 1322 هـ، 1/ 168. (¬5) كشف الأسرار، عبد العزيز بن أحمد البخاري، القاهرة: دار الكتاب الإِسلامي، ط 1، د. ت، 4/ 383.

السرخسي رحمه اللَّه (¬1): "اسم لفعل يفعله المرء بغيره، فينتفي به رضاه، أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به الأهلية في حق المكره أو يسقط عنه الخطاب؛ لأن المكره مبتلى، والابتلاء يقرر الخطاب" (¬2). كما عرف بأنه "حمل الغير على ما لا يرضاه" (¬3). وعرف أيضًا بأنه: "إجبار أحد على أن يعمل عملا بغير حق من دون رضاه بالإخافة" (¬4). كما عرف الإكراه بأنه: "الإجبار وهو العمل على فعل الشيء كارها" (¬5). قال الشافعي رحمه اللَّه: "والإكراه أن يصير الرجل في يدي من لا يقدر على الامتناع منه من سلطان أو لص أو متغلب على واحد من هؤلاء، ويكون المكره يخاف خوفا عليه دلالة أنه إن امتنع من قول ما أمر به يبلغ به الضرب المؤلم أو أكثر منه أو إتلاف نفسه" (¬6). قال ابن حجر رحمه اللَّه: "الإكراه إلزام الغير بما لا يريده" (¬7)، وقال ابن حزم رحمه اللَّه: ¬

_ (¬1) محمد بن أحمد بن سهل، أبو بكر، السرخسي نسبة إلى سرخس في خراسان، شمس الأئمة، قاض من كبار علماء الأحناف، سجن بسبب كلمة نصح بها الخاقان وألف أكثر كتبه وهو سجين ومنها المبسوط، ثم سكن فرغانة وتوفي رحمه اللَّه سنة 483 هـ، انظر ترجمته: الفوائد البهية في تراجم الحنفية، محمد عبد الحي اللكنوي، مصر: د. ن، ط 1، 1324 هـ، ص 158، والفتح المبين في طبقات الأصوليين، عبد اللَّه مصطفى المراغي، مصر: مطبعة عبد الحميد حنفي، ط 1، د. ت، 1/ 264، والأعلام، 5/ 315. (¬2) المبسوط، محمد بن أحمد السرخسي، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1993 م، 24/ 38 - 39، وانظر: الْبَحْر الرَّائِق شَرْح كَنْز الدَّقَائِق، زين الدين ابن نجيم، بيروت: دار المعرفة، ط 2، د. ت، 8/ 80. (¬3) البحر الرائق، 4/ 249. (¬4) درر الحكام في شرح مجلة الأحكام، علي حيدر، بيروت: دار الجبل، ط 1، د. ت، 2/ 659. (¬5) طلبة الطلبة، عمر بن محمد النسفي، تحقيق: خالد العك، عمان: دار النفائس، ط 1، 1416 هـ، ص 162. (¬6) الأم، محمد بن إدريس الشافعي، بيروت: دار المعرفة، ط 2، 1393 هـ، 3/ 236. (¬7) فتح الباري، 12/ 311.

الفرع الثالث: استخدام الفقهاء لكلمة الإكراه

"هو كل ما سمي في اللغة إكراها، وعرف بالحس أنه إكراه" (¬1). ومما مضى يمكن تعريف الإكراه بأنه: "دفع الشخص بغير حق على فعل أمر لا يرضاه. وتجدر الإشارة إلى أن الإكراه لا تأثير له في المباح، وكذلك على ترك الحرام والمكروه والمندوب، وإنما أثره في ترك الواجب وفي فعل الحرام" (¬2). أما فقهاء القانون المدني فعرفوا الإكراه بأنه: ضغط غير مشروع على إرادة شخص يدفعه إلى التعاقد، أو هو إجبار شخص على أن يبرم عقدًا دون رضاه (¬3)، أما الإكراه الأدبي أو المعنوي: "هو ضغط غير مادي على الإرادة يلجىء الشخص إلى ارتكاب فعل مضر" (¬4). الفرع الثالث: استخدام الفقهاء لكلمة الإكراه: كما تطرق الفقهاء لمصطلحات أخرى في مسائل متعددة وعرفوها بأنها الإكراه، ومن ذلك ما جاء عند فقهاء المالكية من مسألة بيع المضغوط وفسروه بأنه المكره (¬5)، ومن تلك المسائل الإغلاق وفسروه بأنه الإكراه: "لأن المكره مغلق عليه في أمره مضيق عليه في تصرفه كمن أغلق عليه باب" (¬6). وكذلك من الألفاظ التي لها صلة بالاستضعاف وبالإكراه الإجبار، وقد عرف لغة بأنه: القهر والإكراه. يقال: أجبر ته على كذا حملته عليه قهرا، وغلبته فهو مجبر. ¬

_ (¬1) المحلى بالآثار، علي بن أحمد بن حزم، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت، 7/ 204. (¬2) انظر: المنثور في القواعد الفقهية، بدر الدين بن محمد بن بهادر الزركشي، الكويت: وزارة الأوقاف الكويتية، ط 2، 1985 م، 1/ 197. (¬3) معجم القانون، القاهرة: مجمع اللغة العربية، ط 1، 1420 هـ، ص 54، وأصول الالتزام، د. حسن علي الدنون، بغداد: مطبعة المعارف، ط 1، 1970 م، ص 94. (¬4) معجم القانون، ص 55. (¬5) مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، محمد الحطاب، بيروت: دار الفكر، ط 2، 1398 هـ، 4/ 249، وجاء فيه: "ويعبر أهل المذهب عن هذه المسألة بمسألة بيع المضغوط، وهو المكره". (¬6) شرح منتهى الإرادات، منصور بن يونس البهوتي، بيروت: دار عالم الكتب، ط 2، 1996 م، 3/ 77.

أما اصطلاحًا: فقد قال النووي: "وأما (المجْبُور) فهو المُكْرَه، يقال: أجبرته فهو مُجْبَر، هذه اللغة المشهورة" (¬1)، وقال الجصاص (¬2): "الإجبار على الأمر وهو الإكراه عليه" (¬3)، وإن كان يفهم من كلام بعض الفقهاء أنهم خصوا الإجبار في الإكراه بحق وممن له ولاية شرعية في حمل الغير على فعل مشروع، وبالإلزام للحكم القضائي؛ إذ استخدموا هذا المصطلح في مسائل القضاء وولاية النكاح وغيرها من المسائل (¬4)، بل صرح بعضهم بأن الإجبار بحق لا يُعد إكراهًا، "الإِجْبَارِي الذي بحق لا يعد إكراها" (¬5). أما الإكراه فيكون من ذي قوة أو سلطان على تنفيذ ما توعد به وفي حمل الغير على فعل غير مشروع (¬6). ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 18/ 7. (¬2) أحمد بن علي المكني باب بكر الرازي الجصاص، ولد سنة 305 هـ، والرازي نسبة إلى الري، والجصاص نسبة إلى العمل بالجص، كان زاهدًا ورعًا جمع إلى العلم الصلاح والتقوى وخوطب في أن يلي القضاء فامتنع، وكان جادًا في طلب العلم، حتى صار إمام الحنفية في عصره سكن بغداد ومات فيها 370 هـ، وانتهت إليه رئاسة الحنفية، من مؤلفاته: الفصول في الأصول الشهير بأصول الجصاص، أحكام القرآن، شرح مختصر الكرخي، شرح مختصر الطحاوي. انظر: الأعلام، 1/ 171. (¬3) أحكام القرآن للجصاص، أحمد بن علي الجصاص، تحقيق: محمد قمحاوي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1405 هـ، 4/ 43. (¬4) جاء في مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، عبد الرحمن بن محمد شيخي زاده، دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت، 2/ 243: " (ويجبر) أي: الحاكم (المولى على القبض)، ومعنى الإجبار فيه: تنزيل الحاكم أو المولى منزلة القابض بالتخلية، ويحكم بعتق العبد قبض أو لا، لا ما هو المفهوم من الإجبار عند الناس من الإكراه بالضرب وغيره". وجاء في أسنى المطالب شرح روض الطالب، زكريا بن محمد الأنصاري، بيروت: دار الكتاب الإِسلامي، ط 1، د. ت، 4/ 486: "الفقه أن القاضي يتخير بين إجباره على القبض والقبض كما في الإكراه بحق". وانظر: حاشيتا قليوبي وعميرة، أحمد بن سلامة القليوبي، وأحمد البرلسي عميرة، مصر: دار إحياء الكتب العربية، ط 1، د. ت، 3/ 241. (¬5) درر الحكام، 2/ 761. (¬6) انظر: الموسوعة الفقهية، 1/ 312.

المطلب الثاني: تعريف الاضطرار

المطلب الثاني: تعريف الاضطرار وفيه فرعان: الفرع الأول: تعريف الاضطرار لغة: وهو افتعال من الضرورة وتقديره: أنه نالته الضرورة فطاوعها، والمضطر مفتعل من الضر، وأصله مضترر فأدغمت الراء وقلبت التاء طاء لأجل الضاد، والضَّرُّ ضد النفع، ورجل ذو ضَرُورةٍ أي: ذو حاجة، وقد اضْطرَّ إلى الشيء أي: أُلجىء إليه، والاضطِرارُ: الاحتياج إِلى الشيء (¬1)، ومنه قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (¬2)، قال ابن عباس: (هو ذو الضرورة المجهود). وقال السدي: "الذي لا حول له ولا قوة" (¬3). الفرع الثاني: تعريف الاضطرار اصطلاحًا: تنوعت عبارات الفقهاء في تعريف المضطر، فمنهم من عرفه بشديد الاحْتِيَاجِ وأنه أَخَصُّ من الفقير (¬4)؛ لكون الغِنَى لا يُنافي الاضْطِرَارَ إذ قد لا يتمكن من ماله حالة اضطراره (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، ومختار الصحاح، مادة: (ضرر). (¬2) سورة النمل، الآية [62]. (¬3) الجامع لأحكام القرآن، 13/ 223. (¬4) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عوفة الدسوقي، مصر: دار إحياء الكتب العربية، ط 1، د. ت، 1/ 6، ومنح الجليل شرح مختصر خليل، محمد أمين بن عمر، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت، 1/ 12. (¬5) انظر: تحفة المحتاج في شَرْح المِنْهَاج، أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت، 39/ 413.

ومنهم من عرف الاضطرار بأنه: "الضرر الذي يصيب الإنسان من جوع أو غيره ولا يمكنه الامتناع منه" (¬1). "واضطره بمعنى ألجأه إليه وليس له منه بد، والضرورة اسم من الاضطرار" (¬2)، فالاضطرار هو الوقوع في الضرورة. ومن الفقهاء من عرف المضطر بأنه المكره (¬3)، أو المكلف بالشيء، الملجأ إليه المكره عليه (¬4)، ويوضح ابن رشد رحمه اللَّه (¬5) سبب هذا بقوله: وذلك أن المكره يشبه من جهة المختار، ويشبه من جهة المضطر المغلوب (¬6). جاء في شرح مجلة الأحكام: "معنى الاضطرار هنا الإجبار على فعل الممنوع، والاضطرار على قسمين: أحدهما: ينشأ عن سبب داخلي، يقال له: (سماوي) كالجوع مثلا. ¬

_ (¬1) أحكام القرآن للجصاص، 2/ 442 (¬2) المصباح المنير، ص 361. (¬3) قال ابن حزم في المحلى: "أَمَّا المُكْرَهُ - فَإِنَّهُ مُضْطَرٌّ"، 11/ 372، وقال في عون المعبود: "وَالمُرَاد مِنْ المُضْطَرّ: المُكْرَه", 9/ 168. (¬4) لباب التأويل في معاني التنزيل (تفسير الخازن)، علي محمد البغدادي المعروف بالخازن، ضبطه: عبد السلام محمد شاهين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1415 هـ، 1/ 135. (¬5) محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي القرطبي، أبو الوليد، ولد سنة 520 هـ قبل موت جده بشهر، العلامة الفيلسوف عني بكلام أرسطو وترجمه إلى العربية، صنف نحو خمسين كتابًا، منها: التحصيل، والحيوان، وتهافت التهافت، يلقب بابن رشد الحفيد تمييزًا له عن جده، توفي جده رحمه اللَّه سنة 595 هـ، انظر ترجمته: سير أعلام النبلاء، 21/ 307 - 310، والأعلام، 5/ 318. (¬6) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت، 2/ 297.

أما القسم الثاني: هو الاضطرار الناشىء عن سبب خارجي ويقال له: (اضطراري غير سماوي) وهو نوعان الإكراه الملجىء والإكراه غير الملجىء" (¬1). كما يتضح أن حالة الإكراه تتفق مع حالة الاضطرار في الحكم، ولكنهما تختلفان في سبب الفعل، ففي الإكراه يدفع المكره إلى إتيان الفعل المحرّم شخصٌ آخر ويجبره على العمل، أمّا في حالة الاضطرار فقد يكون الاضطرار بسبب الإكراه أو من داخل الإنسان كالجوع والمرض، فيوجد الفاعل في ظروفٍ تقتضي الخروج منها، أن يرتكب الفعل المحرّم ليدفع الضرر عن نفسه (¬2). كما أن حالة الضرورة تعتبر أعم وأشد من حالة الإكراه، فالإكراه صورة من صور الضرورة، فإذا ثبتت الإباحة في حال الإكراه دل هذا على تحقق الاضطرار (¬3)؛ ولذلك فإن المكره يقاس على المضطر في جواز أكل الميتة للضرورة؛ لأنه في معنى المضطر إلى التغذي بها بجامع استبقاء النفس (¬4). يتضح مما سبق أن المضطر هو من وقعت عليه الضرورة، والضرورة اسم مصدر لاضطره، والفقهاء يستعملون الضرورة والاضطرار بمعنى واحد (¬5). ¬

_ (¬1) درر الحكام، 1/ 43 - 44. (¬2) الموسوعة الفقهية، 5/ 216 - 217، ونظرية الضرورة حدودها وضوابطها، جميل محمد مبارك، المنصورة: دار الوفاء، ط 1، 1408 هـ، ص 22. (¬3) انظر: كشف الأسرار، 4/ 387، والإكراه وأثره في التصرفات ص 35. (¬4) المدخل، عبد القادر بن بدران الدمشقي، تحقيق: د. عبد اللَّه التركي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1401 هـ، 1/ 315. (¬5) انظر: نظرية الضرورة، ص 22 - 23.

المطلب الثالث: الفرق بين الضرورة والحاجة

المطلب الثالث: الفرق بين الضرورة والحاجة عرَّف الفقهاء الضرورة ببعفض صورها وأمثلتها (¬1)، وعرفها الشاطبي رحمه اللَّه (¬2) تعريفًا شاملًا، فقال: "الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين" (¬3). ¬

_ (¬1) من ذلك قولهم الضرورة هي: "خوف الضرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل", أحكام القرآن للجصاص، 1/ 159، وعُرفت بأنها: "الخوف على النفس من الهلاك علمًا أو ظنًا"، الشرح الكبير، سيدي أحمد الدردير، تحقيق: محمد عليش، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت، 2/ 115، أو هي: "بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك إذا قاربه، وهذا يبيح تناول الحرام"، غمز عيون البصائر، أحمد بن محمد الحموي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت، 1/ 277، قال الشافعي رحمه اللَّه: "والمضطر الرجل يكون بالموضع لا طعام فيه معه، ولا شيء يسد فورة جوعه، من لبن وما أشبهه، ويبلغه الجوع ما يخاف منه الموت أو المرض، وإن لم يخف الموت أو يضعفه ويضره أو يعتل أو يكون ماشيا فيضعف عن بلوغ حيث يريد أو راكبًا فيضعف عن ركوب دابته، أو ما في هذا المعنى من الضرر البين"، الأم، 2/ 252، كما عُرفت بأنها: "العذر الذي يجوز بسببه إجراء الشيء الممنوع. . . الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعا"، درر الحكام، 1/ 33. (¬2) إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي، الغرناطي، المالكي الشهير بالشاطبي، كنيته أبو اسحاق، محدث وفقيه وأصولي ولغوي ومفسر، مات سنة 790 هـ، من مؤلفاته: عنوان التعريف بأسرار التكليف في الأصول، شرح على الخلاصة في النحو، والاعتصام، انظر ترجمته: معجم المؤلفين، 1/ 118. (¬3) الموافقات في أصول الفقه، إبراهيم بن موسى الشاطبي، بيروت: دار المعرفة، تحقيق: عبد اللَّه دراز، ط 1، د. ت، 2/ 8، وقال: "مجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة" 2/ 10.

أما الحاجة فعُرفت بأنها: "دفع الضرار واستمرار الناس على ما يقيم قواهم" (¬1)، كما عُرفت بأنها: "حالة جهد ومشقة فهي دون الضرورة، ولا يتأتى معها الهلاك، فلذا لا يستباح بها الممنوع شرعًا" (¬2)، قال الشاطبي رحمه اللَّه: "الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة" (¬3). يتضح من هذه التعريفات أن الضرورة والحاجة يدلان على ما يُفتقر إليه مع تفاوت درجة الافتقار، وأن الحاجة أدنى رتبة من الضرورة (¬4)، والذي يراعى في حق الأفراد حقيقة الضرورة، أما فيما يعم الكافة فلا تراعى الضرورة بل يُكتفى بالحاجة الظاهرة (¬5)، وأن الضرورة هي الأصل، والحاجة مكملة لها، إلا أن المحافظة على الحاجة وسيلة لحفظ الضرورة، وتركها يؤدي في النهاية إلى ترك الضرورة، كما أن استمرار الحاجة يؤدي إلى الضرورة، فإطلاق الفقهاء الحاجة على الضرورة من هذا الباب باعتبار المآل (¬6)، فاستعمال ¬

_ (¬1) غياث الأمم في التياث الظُّلَم، أبو المعالي الجويني، بيروت: المكتبة العصرية، ط 1، 2006 م، ص 346. (¬2) درر الحكام، 1/ 34. (¬3) الموافقات، 2/ 10 - 11. (¬4) "لأن الضَّرُورَةَ أَقْوَى من الحاجة؛ لأنها شِدَّةُ الاحْتِيَاجِ، وهو الاضْطِرَارُ"، حاشية البجيرمي على المنهج، سليمان بن محمد البجيرمي، القاهرة: دار الفكر العربي، ط 1، د. ت، 8/ 481. (¬5) انظر: غِياث الأُمم، ص 224. (¬6) ومن الأمثلة على ذلك: "وقد يكون المضطر المحتاج، ولكن الملجأ مضطر حقيقة والمحتاج مضطر مجازًا"، أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 1/ 81، "وندب إيثار المضطر، أي: المحتاج على غيره"، الشرح الكبير، 1/ 498.

المطلب الرابع: تعريف الاضطهاد

الحاجة بالمعنى الأعم يشمل الضرورة، وإطلاق الضرورة على الحاجة لا يضر لوجود المشقة والضرر فيهما، وإنما المحظور هو الحكم بمقتضى الضرورة في موضع الحاجة (¬1). والحاجة أعم من الضرورة (¬2)، وهي تُعد ميزانًا لقدر ما يُباح لأجل الضرورة (¬3)؛ والأحكام الثابتة بالضرورة أحكام مؤقتة تزول بزوالها، وكذلك الحاجة الخاصة، وبالتالي لا بد من تحققها في كل شخص، أما الحاجة العامة فأحكامها مستمرة، ولا يؤثر فيها بقاء الحاجة أو زوالها، ولا يشترط تحققها في كل شخص (¬4). * * * المطلب الرابع: تعريف الاضطهاد ومن الألفاظ ذات الصلة بالاستضعاف الاضطهاد، والمضطهد مفتعل من الضرورة، يقال ضهد ضَهَدَه يَضْهَدُه ضَهْدًا واضْطَهَدَه ظَلَمه وقَهرَه وأَضْهَدَ به جارَ عليه، وأَكْرَهه كأَضْهَدَهُ واضْطهَدَه، ويقال: اضْطَهَدَ، فلانٌ فلانًا، إِذا اضْطَعَفَه وقَسَرَه، وهي الضُّهْدَة، يقال: رجلٌ مَضْهُودٌ ومُضْطَهَد مَقْهُور ذليل مضطر (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: نظرية الضرورة، ص 28 - 29. (¬2) "لا يَخْفَى أَنَّ الضَّرُورَةَ أَخَصُّ مِنْ الْحَاجَةِ"، شرح مختصر خليل، محمد بن عبد اللَّه الخرشي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت، 2/ 228. (¬3) قال السرخسي رحمه اللَّه: "لأن الضرورة تبيح التناول من مال الغير بقدر الحاجة"، المبسوط، 9/ 140، وانظر: الحاجة وأثرها في الأحكام، د. أحمد الرشيد، الرياض: كنوز إشبيليا، ط 1، 1429 هـ، 1/ 85. (¬4) قال ابن قدامة رحمه اللَّه: "الحاجة العامة إذا وجدت أثبتت الحكم في حق من ليست له حاجة"، المغني، عبد اللَّه بن أحمد بن قدامة المقدسي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1405 هـ، 2/ 59. (¬5) تاج العروس، السيد محمد مرتضى الزبيدي، بنغازي: دار ليبيا، ط 1، د. ت، 1/ 2089، مادة: ضهد.

إذن فمعاني الاضطهاد في اللغة تدور حول: القهر والظلم والجور والغلبة والاضطرار، والمعنى الاصطلاحي لا يخرج عن هذه الدلالات اللغوية. وفي حديث ابن سيرين عن شريح (¬1)، قال: (سمعته يقول في رجل يضع من حقه طائفة ثم يرجع فيه، سمعته يقول للذي ترك له الحق: بينتك أنه تركه وهو يقدر على أن يأخذه، ولا يجيز الاضطهاد، ولا الضغطة) (¬2). والضغطة العَصْرَةُ من الغريم، والمراد: أن يَمْطُل الغَريم بما عليه من الدَّين حتى يُضْجرِ صاحِبَ الحقِّ ثم يقول له: أَتَدَعُ منه كذا وتأخذ الباقِي مُعجَّلا؟ فيرْضى بذلك (¬3)، وهذا ¬

_ (¬1) شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية، من كبار التابعين وهو ممن أسلم في حياة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وانتقل من اليمن زمن الصديق، وهو من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام، أصله من اليمن، ولي قضاء الكوفة، في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، واستعفى في أيام الحجاج، فأعفاه سنة 77 هـ، وكان ثقة في الحديث، مأمونا في القضاء، له باع في الأدب والشعر. وعمر طويلا فعاش مئة وثمان سنين، ومات بالكوفة سنة ثمان وسبعين. انظر: الأعلام، 3/ 161، وسير أعلام النبلاء، 4/ 100، ووفيات الأعيان، 2/ 460، وابن سيرين هو التابعي محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء كان أبوه مولى لأنس بن مالك، كنيته أبو بكر، ولد سنة 33 هـ إمام وقته في علوم الدين بالبصرة، كان لا يرى الرواية بالمعنى، واشتهر بالورع وتعبير الرؤيا، كان قد جعل على نفسه كلما اغتاب أحدا أن يتصدق بدينار، توفي رحمه اللَّه سنة 110 هـ، انظر: تهذيب التهذيب، 9/ 214، الاعلام، 6/ 154. (¬2) مصنف عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: المكتب الإسلامي، ط 2، 1403 هـ، باب الرجل يضع من حقه ثم يعود فيه وبيع المكره، رقم: 14311، 8/ 61. (¬3) غريب الحديث، عبد الرحمن، ابن الجوزي، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1985 م، 2/ 12.

المطل إكراه وظلمُ وقهر، لا يجيز البَيع واليمين وغيرهما (¬1). قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: (ليس لِسَكْرَان ولا لِمُضْطَهَدِ طلاق) (¬2). قال ابن حجر رحمه اللَّه المُضْطَهَد: "هو المغلوب المقهور، وقوله: ليس بجائز، أي: بواقع؛ إذ لا يُعقل للسكران المغلوب على عقله، ولا اختيار لِلْمُسْتكْرَهِ" (¬3). وقد بين ابن القيم أن المضطهد هو من يدفع عن حقه حتى يسقط حقًا آخر، ولا يُعد هذا من الإكراه (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر: النهاية في غريب الأثر، 3/ 230. (¬2) تغليق التعليق، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق سعيد عبد الرحمن القزقي، بيروت، عمان: المكتب الإسلامي، دار عمار، ط 1، 1405 هـ، 4/ 455، وفي السنن، سعيد بن منصور الخرساني، الهند: الدار السلفية، 1982 م، ط 1، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، باب ما جاء في طلاق المكره، 1/ 317، ومصنف ابن أبي شيبة، باب من لم ير طلاق المكره، 4/ 82 بلفظ: (ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق). (¬3) فتح الباري، 9/ 392. (¬4) إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، تحقيق: طه عبد الرءوف، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1973 م، 4/ 31.

المبحث الخامس: المقارنة بين الاستضعاف والألفاظ ذات الصلة

المبحث الخامس: المقارنة بين الاستضعاف والألفاظ ذات الصلة المباحث السابقة تظهر الفروق بين الاستضعاف والإكراه والاضطرار والإجبار والاضطهاد، ومن أبرزها: 1. أن الاستضعاف هو نتيجة للضعف، أما الإكراه والاضطرار فقد يقع على القوي وكذلك الإجبار. 2. أن الاستضعاف يقع من الآخرين، ولا يقع بفعل سماوي، بخلاف الاضطرار فقد يقع بفعل سماوي. 3. أن الإجبار يقع على أمر مشروع، أما الاستضعاف فيقع على أمر غير مشروع. 4. أن الإكراه والاضطرار يقع غالبًا على أمر محدد، بينما الاستضعاف يقع على أمور عامة ومتعددة. ويشترك الاستضعاف مع الإكراه والاضطرار بوجود الضرورة والغلبة والقهر، وأن الاستضعاف له أنواع وحالات وصور متنوعة، وكذلك الإكراه، وقد ذكر بعض الباحثين أن الاستضعاف هو أحد أنواع الإكراه (¬1)، والذي يظهر من خلال ما مضى من تعريفات الفقهاء للإكراه، واستعراض لمفهوم الاستضعاف في القرآن والسنة، أن الاستضعاف أعم من الإكراه، بل ويمكننا القول: إن الإكراه أحد صور ومظاهر الاستضعاف وليس العكس، قال البخاري رحمه اللَّه: "والمُكْرَهُ لا يَكُونُ إلَّا مُسْتَضْعَفًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ مِنْ فِعْلِ ما أُمِر بِهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) الولاء والبراء في الإسلام، محمد سعيد القحطاني، دار طيبة: الرياض، ط 1، 1411 هـ، ص 375 - 377، حيث ذكر أن أنواع الإكراه هي: الإلجاء، التهديد، الاستضعاف. (¬2) صحيح البخاري، 6/ 2545.

وخلاصة ما سبق: أن من صور الاستضعاف الإكراه والاضطرار، وأن مفهوم الاستضعاف عام، كما أن بعض صور الإكراه والاضطرار ليس له علاقة بالاستضعاف؛ إذ أن سببها قد يكون سماويًا، ومعلوم أن سبب الاستضعاف فعل واقع من الغير. وننبه في نهاية هذا المبحث إلى أن إطلاق الفقهاء لكلمة الإكراه أو الاضطرار ينبغي أن يحمل في سياقه الوارد فيه، ليعلم المراد منه تحديدًا، ويعلم مرادهم أي نوع من أنواع الإكراه أو أنواع الاضطرار (¬1). * * * ¬

_ (¬1) قال الغزالي رحمه اللَّه عند تعرضه لشروط النقيض. وذكر أول هذه الشروط: "أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحدًا بالذات لا بمجرد اللفظ، فإن اتحد اللفظ دون المعنى لم يتناقضا، ومثل لهذا بقول الفقهاء: المضطر مختار، المضطر ليس بمختار، وقولهم: المضطر آثم، المضطر ليس بآثم؛ إذ قد يُعبر بالمضطر عن المرتعد والمحمول المطروح على غيره، وقد يُعبر عن المدعو بالسيف إلى الفعل. الثاني: أن يكون الحكم واحدًا والاسم مختلف، كقولهم: المُكرَهُ مختار، المكره ليس بمختار؛ لأن المختار عبارة عن معنيين مختلفين". المستصفى في علم الأصول، محمد بن محمد الغزالي، تحقيق محمد الشافي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1413 هـ، 1/ 30.

الفصل الثاني: أنواع الاستضعاف ومظاهره

الفصل الثاني: أنواع الاستضعاف ومظاهره وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: أنواع الاستضعاف. المبحث الثاني: العلاقة بين مرحلة الاستضعاف والمرحلة المكية. المبحث الثالث: مظاهر الاستضعاف. المبحث الرابع: استحكام الاستضعاف فى الأرض.

المبحث الأول: أنواع الاستضعاف

المبحث الأول: أنواع الاستضعاف وفيه ثلاثة مطالب المطلب الأول: تقسيم الاستضعاف باعتبار درجته وهو نوعان: النوع الأول: الاستضعاف الجزئي: وهو الذي لا يمكن معه تطبيق بعض الأحكام الشرعية، وقد يكون لدى المستضعفين قوة إلا أنها غير كافية. ويمكن أن نمثل لهذا النوع بما وقع للمسلمين يوم الأحزاب من حصار شديد وصفه اللَّه عز وجل بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (¬1) , حتى هم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يصالح غطفان على شطر ثمار المدينة (¬2) , ولم نصفه بأنه كلي بالرغم من عمومه؛ لإمكان ممارسة الشعائر. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب, الآيات [9 - 11]. (¬2) أخرجه البزار والطبراني بإسنادين كلاهما حسن، انظر: كشف الأستار في زوائد البزار، علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1984 م، 2/ 131 - 132، والمصنف لعبد الرزاق، 5/ 367 - 368، والمصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق: كمال يوسف الحوت، عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، الرياض: مكتبة الرشد، ط 1، 1409 هـ، 7/ 378، والأموال، القاسم بن سلام، تحقيق: محمد عمارة، بيروت: دار الشروق، ط 1، 1409 هـ، ص 252 - 253، والسيرة النبوية لابن كثير، إسماعيل بن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، ط 1، 1396 هـ، 3/ 310 - 311، وتاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري أبو جعفر، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1407 هـ، 2/ 94 - 95، والطبقات الكبرى، 2/ 73، قال في مجمع الزوائد، 6/ 133: "ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات"، ولفظه: (جاء الحارث بن عوف وعيينة بن حصن فقالا لرسول اللَّه عليه الصلاة والسلام عام الخندق: نكف عنك غطفان على أن تعطينا ثمار المدينة. .).

كما يمكن أن نمثل للاستضعاف الجزئي بحال المسلمين في أرض الحبشة، ويدل على هذا ما في الصحيحين عن أبي موسى -رضي اللَّه عنه- في قصة خروجه من اليمن ولحاقه بجعفر -رضي اللَّه عنه- بالحبشة ثم العودة إلى المدينة قال: (فوافقنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين افْتَتَحَ خيبر وكان أُنَاسٌ من الناس يقولون لنا -يعني لأهل السفينة-: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عُمَيْسِ (¬1) وهي ممن قَدِمَ معنا على حفصة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زَائِرَةً، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء من هذه؟ قالت: أسماء بنت عُمَيْسٍ، قال عمر: الْحَبَشِيَّةُ هذه الْبَحْرِيَّةُ هذه (¬2)، قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَغَضِبَتْ وقالت: كلا واللَّه، كنتم مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُطعم جائعكم، ويَعِظُ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض الْبُعَدَاءِ الْبُغَضَاءِ (¬3) بالحبشة؛ وذلك في اللَّه وفي رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وَايْمُ اللَّه لا أَطْعَمُ طعامًا ولا ¬

_ (¬1) أسماء بنت عميس بن معد بن تيم الخثعمية، أسلمت قبل دخول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم بمكة وبايعت، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فولدت له هناك عبد اللَّه وعونًا ومحمدًا، فلما استشهد بمؤتة تزوجها أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- فولدت له محمدًا. ثم توفي عنها فتزوجها علي بن أبي طالب فولدت له يحيى وعونًا وفي رواية ومحمدًا، فهي تدعى أم المحمدين. وكانت تخدم فاطمة إلى أن توفيت، وهي أخت ميمونة أم المؤمنين لأمها، وابن أختها عبد اللَّه بن عباس، كان عمر يسألها عن تعبير الرؤيا، توفيت سنة 38 هـ، وقيل: بعد الستين. انظر: الطبقات الكبرى، 8/ 280 - 285، وتهذيب التهذيب، أحمد بن حجر العسقلاني، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1404 هـ، 12/ 427، والأعلام، 1/ 306. (¬2) قال ابن حجر رحمه اللَّه: "ونسبها إلى الحبشة لِسُكْنَاهَا فيهم، وإلى البحر لِرُكُوبِهَا إياه". (¬3) قال النووي رحمه اللَّه: "قال العلماء: الْبُعَدَاء في النسب، الْبُغَضَاء في الدين؛ لأنهم كفار إلا النجاشي، وكان يستخفي بإسلامه عن قومه، وَيَرْوِي لهم"، شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 65.

أشرب شرابًا حتى أَذْكُرَ ما قلت لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونحن كُنَّا نُؤْذَى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأسأله واللَّه لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قالت: يا نبي اللَّه إن عمر قال كذا وكذا، قال: (فما قلت له؟) قالت: قلت له كذا وكذا، قال: (ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان)، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يَأْتُونِي أرسَالًا يسألوني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال أبو بردة قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني) (¬1). وهذا الحديث يكشف لنا جانبًا من حال الصحابة رضوان اللَّه عليهم في الحبشة، فأسماء بنت عميس -رضي اللَّه عنها- وصفت أهل الحبشة بالبعداء والبغضاء، وبينت لعمر -رضي اللَّه عنه- أنهم كانوا يتعرضون للإيذاء والخوف، فهم هاجروا من مكة حيث الاستضعاف الكلي إلى الحبشة حيث الاستضعاف الجزئي. وقد يبدو ما ذكرته أسماء -رضي اللَّه عنها- معارضًا لما قاله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل اللَّه لكم فرجا) (¬2)، وكذلك لحديث أم سلمة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين قالت: (لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا اللَّه لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه)، ثم ذكرت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم: 3990، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس، رقم: 2503. (¬2) قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من اللَّه ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: (لو خرجتم إلى أرض. . .)، السيرة النبوية لابن هشام، عبد الملك بن هشام الحميري المعافري، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1411 هـ، ص 322 - 333.

خبر وفد قريش والحوار الذي دار معه في مجلس النجاشي ثم قالت: (فتناخرت (¬1) بطارقته حوله حين قال ما قال -جعفر- فقال: وإن نخرتم، واللَّه اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي والسيوم الآمنون، من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبرا ذهبا وأني آذيت رجلا منكم والدبر بلسان الحبشة الجبل، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها، فواللَّه ما أخذ اللَّه مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به (¬2)، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، قالت: فواللَّه إنا على ذلك إذ نزل به يعني من ينازعه في ملكه، قالت: فواللَّه ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه، قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل، قالت: فقال أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر، قالت: فقال الزبير بن العوام أنا، قالت: وكان من أحدث القوم سنا، قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا اللَّه للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة (¬3) فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو بمكة) (¬4). ¬

_ (¬1) قال ابن منظور: "النَّخِير: صوت الأَنف، يقال: نَخَرَ الإِنسانُ والحمار والفرس بأَنفه، يَنْخِرُ ويَنْخُرُ نَخِيرًا: مدّ الصوت والنفسَ في خَياشِيمه"، لسان العرب، مادة: نخر. (¬2) أي: عبد اللَّه بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، اللذان بعثتهما قريش. (¬3) أي: "اجْتَمَعُوا على طاعَتِه واسْتَقَرّ المُلْكُ فيه"، النهاية في غريب الأثر، 5/ 401. (¬4) أخرجه أحمد، 1/ 201 - 202، رقم: 1740.

وقيل إن الحبشة اجتمعت وقالت للنجاشي: (إنك فارقت ديننا، وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا، وقال: اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإذا هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا، ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه هو يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمد عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى ابن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد، قال: فما تقولون أنتم في عيسى، قالوا: نقول هو ابن اللَّه، فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه هو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا شيئا، وإنما يعني ما كتب فرضوا وانصرفوا) (¬1). ويبدو أن تلك الحرب كانت قصيرة جدًا (¬2). ولقد ذكرت أم سلمة -رضي اللَّه عنها- أن النجاشي -رضي اللَّه عنه- كان يعرف حقهم، وأنه لما جاء وفد قريش وقالوا ما قالوا، وأجابهم جعفر -رضي اللَّه عنه-، فقبِل كلام جعفر إلا أن البطارقة لم يرضوا واحتجوا ونخروا حوله، كما ذكرت ما جرى من محاولة للانقلاب عليه ومنازعته الملك، وهذه الأحداث كلها تؤدي إلى الخوف والأذى، وهو بلا شك دون الخوف والأذى الذي كانوا يلاقونه من قريش في مكة، بل إن النجاشي صرح بعدم قدرته على الهجرة للنبي ¬

_ (¬1) انظر: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول اللَّه، سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي، تحقيق: د. محمد كمال الدين، بيروت: دار عالم الكتب، ط 1، 1417 هـ، 1/ 249، والسيرة النبوية لابن هشام، 2/ 185، والبداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير، بيروت: مكتبة المعارف، ط 1، د. ت، 3/ 77، وتاريخ الإسلام، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: د. عمر تدمرى، لبنان: دار الكتاب العربي، ط 1، 1407 هـ، 2/ 135 - 136، وسير أعلام النبلاء، 1/ 440. (¬2) انظر: الهجرة إلى الحبشة - دراسة مقارنة للروايات، د. محمد الجميل، الرياض: جامعة الملك سعود، ط 1، 1419 هـ، ص 51.

-صلى اللَّه عليه وسلم- لعدم استقرار ملكه، حتى إن النجاشي قال للصحابة رضوان اللَّه عليهم: (أشهد أنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه) (¬1). وخبر محاولة الحبشة الخروج على النجاشي لإسلامه يكشف عن إسلام بعض أهل الحبشة وهم الذين صفوا معه في الميدان، كما يكشف عن الجهد الدعوي الذي كان يقوم به الصحابة رضوان اللَّه عليهم، إذ لا يعقل أن يمكث عدد من صحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مدة تزيد على أربعة عشر عامًا دون أن يتركوا أثرًا أو يكون لهم صحب، وإن لم تتحدث كتب السير والتاريخ عن هذا الأمر (¬2)، وإن كان ابن إسحاق قد ذكر أن النجاشي بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة فإذا كانوا في وسط من البحر غرقت بهم سفينتهم فهلكوا (¬3). إذًا فأسماء بنت عميس -رضي اللَّه عنها- قارنت حال المسلمين بالحبشة بحالهم في المدينة، وأما أم سلمة -رضي اللَّه عنها- فقد قارنت حال المسلمين بمكة قبل الهجرة بحالهم في الحبشة، وبهذا يمكن الجمع بين الحديثين، واللَّه أعلم. ويتضح مما تقدم أنه في حالة الاستضعاف الجزئي لا يطلب من المستضعفين ترك كل شعائر الإسلام، إنما قد يطلب منهم التنازل عن بعض مبادئه، أو لا يمكنهم تطبيق بعض تشريعاته. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب في الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك، رقم: 3205، 3/ 212، قال الألباني في ضعيف سنن أبي داود، 7/ 205: ضعيف الإسناد، وأخرجه الحاكم في المستدرك، رقم: 3208، 2/ 338، وأحمد، رقم: 4400، 1/ 461. (¬2) مع الهجرة إلى الحبشة، محمود شاكر، بيروت: المكتب الاصلامي، ط 1، 1407 هـ، ص 81. (¬3) انظر: تاريخ الأمم والملوك، 2/ 132، والمنتظم، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، بيروت: دار صادر، ط 1، 1358 هـ، 3/ 288.

النوع الثانى: الاستضعاف الكلي: وهو الذي لا يمكن معه إظهار الإسلام وشعائره وتطبيقها، إما كلها أو معظمها. ومن أمثلة الاستضعاف الكلي حال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة رضوان اللَّه عليهم في مكة لاسيما في المرحلة السرية من الدعوة، ويصف تلك المرحلة عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- بقوله: (واللَّه ما استطعنا أن نصلي عند الكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر) (¬1)، وعنه -رضي اللَّه عنه- قال: (إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، واللَّه ما استطعنا أن نصلي عند الكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر) (¬2)، وفي رواية: (مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ) (¬3) "أي: لما كان فيه من الجلد والقوة في أمر اللَّه" (¬4)، فقد كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي مختفيا هو ومن أسلم معه في دار الأرقم (¬5)، حتى أسلم عمر -رضي اللَّه عنه- فأصبح المسلمين يصلون جهارًا ¬

_ (¬1) المستدرك على الصحيحين، باب من مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، رقم: 4487، 3/ 90، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعلق الذهبي في التلخيص: صحيح. (¬2) المعجم الكبير، سليمان بن أحمد أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد، الموصل: مكتبة العلوم والحكم، ط 2، 1404 هـ، 9/ 162. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، رقم: 3481. (¬4) فتح الباري، 7/ 48. (¬5) الأرقم بن أبي الأرقم اسمه عبد مناف ابن أسد بن عبد اللَّه بن عمر المخزومي يكنى أبا عبد اللَّه، من السابقين الأولين، روى الحاكم في المستدرك أنه أسلم سابع سبعة، استخفى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة في داره عند الصفا، فلما تكاملوا أربعين رجلا خرجوا وكان آخرهم إسلاما عمر، شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلّها، كان من عقلاء قريش، أعطاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم بدر سيفًا، واستعمله على الصدقة، وأقطعه دارًا بالمدينة، توفي بالمدينة في خلافة معاوية -رضي اللَّه عنهما- سنة خمس وخمسن وعمره خمس وثمانون سنة" انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 1/ 43 - 44، والطبقات الكبرى، 3/ 242 - 243، وسير أعلام النبلاء، 2/ 479.

عند الكعبة، وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الحبشة (¬1). ومعلوم أن إسلام عمر -رضي اللَّه عنه- كان بعد المُبْعَث بست أو بسبع سنين (¬2)، ومع ذلك فقد بقيت حالة الاستضعاف بشكله الكلي قائمة في مكة حتى الفتح، قال عز وجل: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬3)، أي: لولا وجود المسلمين بين أظهر الكفار ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خشية على أنفسهم من قومهم، لكنا سَلَّطناكم عليهم فقتلتموهم، ولكن اللَّه أخر عقوبة الكفار؛ ليخلص المؤمنين من بين أظهرهم؛ ولعله يدخل كثير منهم في الإسلام، ولكي لا يصيبكم حرج أو إثم، ولو تميز المسلمين من الكفار لسلطناكم عليهم (¬4). ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن كثير، 2/ 32. (¬2) انظر: فتح الباري، 7/ 178، ولم يسلم عمر -رضي اللَّه عنه- من الأذى بعد أن رد جوار خاله، وقد روى القصة الإمام أحمد في فضائل الصحابة، 1/ 288، ومسند البزار، أحمد بن عمرو البزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين اللَّه، بيروت: مؤسسة علوم القرآن، ط 1، 1409 هـ، 1/ 403: ". . . فكنت لا أشاءُ أن أَرَى أحدًا من المسلمين يضرب إلا رأيته، فقلت: ما هذا بشيء، إن الناس يضربون وأنا لا أضرب! ولا يقال لي شيء! فلما جلس الناس في الحجر جئت إلى خالي فقلت: اسمع جوارك عليك رد، قال: لا تفعل، فال: فأبيت فما زلت أضرب وأضرب حتى أظهر اللَّه الإسلام"، قال في مجمع الزوائد، 9/ 64: "فيه أسامة بن زيد بن أسلم وهو ضعيف". (¬3) سورة الفتح، الآية [25]. (¬4) انظر: تفسير القرآن العظيم، 7/ 344.

وإن وجود بعض الأوقات والمواقف التي كان فيها مظهر من مظاهر القوة لم يخرج المرحلة المكية عن كونها مرحلة استضعاف كلي. ويمكن أن نمثل لهذا النوع بحال بني إسرائيل مع فرعون، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (¬1)، فقد جعل فرعون بني إسرائيل فرقًا وأصنافًا في الخدمة والتسخير، واستعبدهم وجعلهم في الأعمال القذرة والصعبة، وجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح فلا يكبر صغير، واستبقى النساء للاستذلال والخدمة (¬2)، ولقد امتن اللَّه عز وجل على بني إسرائيل بالنجاة من فرعون، وذكرهم بحالهم قبل النجاة مع موسى عليه السلام، فقال تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (¬3). ولقد مر المسلمون بمراحل متعددة وفي أماكن مختلفة، كانت أحوالهم فيها استضعافًا جزئيًا وامتد ذلك الاستضعاف حتى أصبح كليًا، ومن ذلك أحوال المسلمين بالأندلس فمنذ نهاية القرن الخامس الهجري نشأت الممالك النصرانية، وتوسعت مع سقوط بعض المدن الإسلامية، وسيادة روح حرب "الاسترداد" لدى الصليبيين، ومع مرور الأيام زاد عدد الرعايا المسلمين تحت حكم النصارى، وأطلق عليهم اسم "المدجنون" (¬4) أي: الذين ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية [4]. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 19/ 517، والدر المنثور في التفسير بالمأثور، عبد الرحمن ابن الكمال جلال الدين السيوطي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1993 م، 6/ 390، ومعالم التنزيل، 6/ 185. وزاد المسير، 5/ 40. (¬3) سورة البقرة، الآية [49]. (¬4) الدجن والدجنة بالضم الظلمة، وليلة مدجان مظلمة، والمداجنة كالمداهنة، انظر: لسان العرب، وتاج العروس، ومختار الصحاح، مادة: دجن.

آثروا التدجن والبقاء تحت سلطان النصارى إما لعدم قدرتهم على الهجرة، أو لاختيارهم البقاء لوجود نوع من التسامح النسبي والسماح لهم بممارسة الشعائر الإسلامية؛ لكونهم صفوة المجتمع في العلوم والفنون والمهن والتجارة والزراعة مما اضطر النصارى لتشجيعهم على البقاء للاستفادة فنهم، لم يدم هذا الأمر طويلًا فسرعان ما اشتعلت النزعة الصليبية ضد المسلمين (¬1)، لتأتي المرحلة الثانية في التعامل مع المسلمين، وذلك عندما قضي على الحكم الإسلامي في آخر معاقله بغرناطة سنة 897 هـ / 1492 م عندما استسلم أبو عبد اللَّه (¬2) ووافق على تسليم البلاد للنصارى، ولو أن المعاهدة التي وقعها معهم طبقت لأمكننا أن نصف حال المسلمين بالأندلس بأنه استضعاف جزئي -بناء على شروط المعاهدة التي تضمنت حفظ الكثير من حقوقهم وضمان بقاء شعائرهم ومساجدهم ¬

_ (¬1) انظر: موقف الدولة العثمانية تجاه مأساة المسلمين في الأندلس، د. عبد اللطيف محمد الحميد، ط 1، د. ن، 1414 هـ، ص 23 - 24. (¬2) محمد (أبو عبد اللَّه) بن علي (أبى الحسن) من بني الأحمر، الأنصاري الخزرجي آخر ملوك الأندلس، ويسميه الأسبان " Boabdil" بو أبدل، ولد بغرناطة، وحضر بعض الوقائع ضد الأسبان فأسروه سنة 888 هـ، وعمي أبوه فضعف عن إدارة الملك، فخلع نفسه وقدم أخا له اسمه محمد يعرف بالزغل سنة 890 هـ فلما وجد الأسبان بالزغل قوة أفرجوا عن ابن أخيه (أبي عبد اللَّه) وتحالفوا معه فدخل غرناطة وبايعه أهلها وقاتل عمه مستعينًا بالأسبان، وانتهى أمر الزغل بعد حروبه مع الأسبان بأن صالحهم وخدمهم، ثم ركب البحر واستقر في تلمسان، ثم طلب الأسبان من أبي عبد اللَّه أن يقيموا لهم قوة في الحمراء (بغرناطة) فرفض، فنقضوا الصلح معه، وقاتلوه سنين، وحاصروا غرناطة فجاع أهلها وقد أنهكتهم الغارات، فاجتمع زعماؤها عنده وأشاروا بالصلح، فعقده من 67 مادة، ولم يلبث الأسبان أن نقضوا الصلح وأمروه بالرحيل فركب البحر واستوطن بمدينة فاس وتوفي سنة 940 هـ/ 1533 م، قال المقري: و"عقب هذا السلطان بفاس إلى الآن، وعهدي بهم يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين ويعدون من جملة الشحاذين"، انظر: الأعلام، 6/ 290.

ومحاكمهم وغيرها من الأمور (¬1) - إلا أن ما جرى من غدر وبطش وإجرام لاحقًا جعلهم يعيشون في حالة الاستضعاف الكلي، وسرعان ما صدر الأمر بإحراق مليون وخمسمائة ألف كتاب ديني، وتم أخذ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 5 - 12 سنة لتربيتهم بالمعاهد والنصرانية والكنائس، ليكونوا أداة تجسس على أهلهم، وأخذ بعضهم للعمل والخدمة في الكنائس، حتى وصل الأمر بأن فرض على المسلمين أن يتنصروا بالتعذيب ومحاكم التفتيش أو الإغراء، وخلال المدة من 1499 - 1501 م تم تنصير أكثر من خمسين ألف مسلم بغرناطة، ومع هذا ثبت القوم وتمسكوا بدينهم إن لم يتمكنوا من ذلك في العلن ففي السر، وعرفوا في المجتمع المسيحي باسم "المورسِكيُّين"، و"المورسكي" (KI Morisco) تصغير لكلمة "المورو" (El Moro) يعني المسلم الصغير الحقير، وساهمت المرأة المسلمة بدور كبير في نقل تعاليم الإسلام للأطفال من السن الثالثة عشر خشية زلة اللسان، ومر هذا الشعب بمراحل مختلفة حتى تقرر القضاء عليه وإخراجه إخراجًا كاملًا من الأندلس في المدة من 1609 - 1614 م بعد انتهاء الحكم الإسلامي بنحو مائة وعشرين سنة (¬2). ¬

_ (¬1) للاطلاع على بنود المعاهدة، انظر: التنصير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملكين الكاثوليكيين، د. محمد حتامله، عمان: الجامعة الأردنية، ط 1، 1405 هـ، ص 30 - 38، وموقف الدولة العثمانية تجاه مأساة المسلمين في الأندلس، ص 23 - 24. (¬2) انظر: المسلمون المنصرون (المورسِكيُّون الأندلسيون)، د. عبد اللَّه جمال الدين، القاهرة: دار الصحوة، ط 1، 1991 م، ص 3 - 11، وجهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس واسترداده في مطلع العمر الحديث، د. نبيل رضوان، مكة المكرمة: مكتبة الطالب الجامعي، ط 1، 1408 هـ، ص 65 - 85، والتنصير القسري لمسلمي الأندلس، ص 60 - 112. ويمكن القول بأن هجرة المسلمين من الأندلس مرت بمراحل، المرحلة الأولى: الهجرات الاختيارية: والتي كانت سنة 633 هـ مع سقوط قرطبة، وتلتها سنة 646 هـ مع سقوط أشبيلية، ثم كانت سنة 898 هـ مع سقوط غرناطة، بعد ذلك قامت حركة تمرد على الظلم والغدر الصليبي في حي "البيازين" بغرناطة سنة 905 هـ، والذي كان يضم أكثر من عشرة آلاف مسلم قضي عليها بالقتل والبطش وفر من استطاع إلى الجبال بمنطقة البشرات جنوب غرناطة تمكنوا في تلك المدة من الاستقلال الجزئي حتى سنة 977 هـ، حيث قضي تمامًا على الوجود العلني للمسلمين وتم نفيهم نفيًا كاملًا من الأندلس، وتمت خلال تلك المدة ما يمكننا وصفه بعمليات مقاومة ضد الصليبيين، انظر: التنصير القسري لمسلمي الأندلس، ص 41 - 42، وص 75 - 86، والمسلمون المنصرون، 81 - 118.

كما يمكننا أن نمثل لهذا النوع من الاستضعاف بواقع المسلمين في روسيا "الاتحاد السوفيتي" سابقًا، فقد تبنت الحكومة الروسية سياسة تسامح نسبي مع المؤسسات الإسلامية وتجنبت مواجهتهم في البداية، حتى جاء عام 1924 م فألغيت المحاكم الشرعية، وفي عام 1928 م أغلقت جميع المدارس الإسلامية، وفي عام 1930 م صودرت آخر ممتلكات الأوقاف، وامتد الهجوم المباشر على المسلمين، ومن الأمثلة على ذلك ما جرى سنة 1921 - 1922 م حيث مات مليون مسلم قازاخي بسبب المجاعة بعد طردهم من مزارعهم ومراعيهم ومصادرة أموالهم، وفي المدة الممتدة من سنة 1926 إلى 1939 م مات مليون آخر بمجاعة أخرى، وهذا ما يعادل ثلث الشعب. وعندما بدأت الحرب العالمية الثانية، اضطرت الحكومة أن تظهر التسامح مع المسلمين أثناء الحرب للاستفادة منهم في القتال، وكان لوسائل الإعلام دور كبير في التحريض على المسلمين ويكفي أن نعلم أنه منذ عام 1954 إلى 1964 م تم نشر 920 مؤلفًا ضد الإسلام بلغات مختلفة (¬1)، وهكذا أوضحت النماذج السابقة أن الاستضعاف الجزئي امتد حتى وصل إلى الاستضعاف الكلي. * * * ¬

_ (¬1) انظر: المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفيتي، ألكسندر بينيغس، وثانتال لوميرييه كيلكجاي، ترجمة: عبد القادر ضللي، بيروت: دار الفكر المعاصر، ط 1، 1409 هـ، ص 155 - 160، المسلمون في الاتحاد السوفيتي عبر التاريخ، محمد علي البار، جدة: دار الشروق، ط 1، 1983 م، 1/ 323.

المطلب الثاني: تقسيم الاستضعاف باعتبار من يقع عليه

المطلب الثاني: تقسيم الاستضعاف باعتبار من يقع عليه وهو نوعان: استضعاف الفرد: وهو الذي يقع على فرد من الأفراد، فقد يقع عليهم الاستضعاف حتى في حال قوة الدولة الإسلامية عند بُعدهم عنها، أو عدم قدرتها على نصرتهم، كأن يقع الفرد في الأسر، أو لوجود عهد، أو لا يتمكن من الهجرة إلى الدولة الإسلامية، وتختلف النظرة إلى هذا الفرد بحسب مكانته ومنزلته، فليس العالم كباقي أفراد المسلمين، وليس الأسير كغيره. ومن أمثلة استضعاف الأفراد استضعاف ما جرى مع نبي اللَّه هارون عليه السلام , وذكر اللَّه عز وجل ما اعتذر به نبي اللَّه هارون عليه السلام لأخيه موسى عليه السلام، قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬1). أي: استذلوني وعدوني ضعيفا، وكادوا أي: قاربوا (¬2)، فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين، أن يقول له موسى: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (¬3)، وكان له هائبًا مطيعًا (¬4)، وبيَّن ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، من الآية [150]. (¬2) الجامع لأحكام القرآن، 7/ 290. (¬3) سورة طه، الآية [94]. (¬4) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 2/ 67، وتفسير القرآن العظيم، 5/ 312.

اللَّه عز وجل براءته بقوله: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (¬1)، فرد عبدة العجل من قوم موسى على هارون عليه السلام: لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه. وخالفوا هارون في ذلك واستضعفوه وتمردوا عليه وحاربوه وكادوا أن يقتلوه (¬2). ومن أمثلة استضعاف الأفراد مؤمن آل فرعون، والذي رجح المفسرون أنه ابن عم فرعون (¬3)، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (¬4)، وهذا المؤمن يكتم إيمانه وقال ما قال وهو لم يصرح بأنه على دين موسى، بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه، إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي ترك قتل موسى، والأولى أن يؤخر قتله وأن يمنع من إظهار دينه، ثم أكد ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}، فأوهم فرعون أنه أراد بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} أنه يريد موسى وهو إنما كان يقصد ¬

_ (¬1) سورة طه، الآيتان: [90 - 91]. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 358، وتفسير القرآن العظيم، 5/ 312، وأضواء البيان، 4/ 158. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 21/ 376، وقال: "وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي القول الذي قاله السديّ من أن الرجل المؤمن كان من آل فرعون، قد أصغى لكلامه، واستمع منه ما قاله، وتوقف عن قتل موسى عند نهيه عن قتله"، وابن تفسير القرآن العظيم، 7/ 140. (¬4) سورة غافر، الآية [28].

به فرعون، ولعله كان يكتم إيمانه أولًا، فلما قال فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى، وشافه فرعون بالحق (¬1). ومن أمثلة استضعاف الأفراد ما وقع لأبي بصير وأبو جندل، فقد أخرج البخاري قصة توقيع صلح الحديبية وفيه: (فجاء أبو بصير فقال: يا نبي اللَّه قد واللَّه أوفى اللَّه ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني اللَّه منهم، قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وَيَنْفَلِتُ منهم أبو جندل ابن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة. فواللَّه ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تُنَاشِدُهُ بِاللَّه وَالرَّحِمِ لمَّا أَرْسَلَ فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إليهم -رضي اللَّه عنهم-) (¬2)، "وقصة أبي بصير وأبي جندل وإخوانها لها دلالة مثيرة، فهي قصة المكافحة في لؤمٍ من الأعداء ووحشةٍ من الأصحاب! (¬3)، فأبو بصير خرج من المدينة وما معه سوى كف من التمر فأكلها ثلاثة أيام ثم أصبح يأتي الساحل فيصيب حيتانًا ألقاها البحر فيأكلها، وعمر -رضي اللَّه عنه- كتب للمستضعفين في مكة قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي بصير: (وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان معه رجال)، وأخبرهم أنه بالساحل على طريق عير قريش، فلما جاءهم كتابه جعلوا يتسللون رجلًا رجلًا عند أبي بصير (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: مفاتيح الغيب، 13/ 329. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان، رقم: 2551، ومسلم، كتاب الجهاد والسِّيَرِ، بَاب صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ في الحُدَيْبِيَةِ، رقم: 1783. (¬3) فقه السيرة، محمد الغزالي، تخريج: محمد ناصر الدين الألباني، دمشق: دار القلم، ط 6، 1416 هـ، ص 337. (¬4) انظر: المغازي للواقدي، محمد عمر الواقدي، تحقيق: مارسدن جونس، بيروت: دار عالم الكتب، ط 1، د. ت، ص 627.

وأبو جندل بعودته مع المشركين إلى مكة عاد إلى حالة استضعاف الجماعة، وانضم إلى المستضعفين الذين أخبر عنهم اللَّه عز وجل بقوله: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ. .} (¬1)، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "فهؤلاء كانوا يكتمون إيمانهم في قومهم، ولا يتمكنون من إظهاره، ومن هؤلاء مؤمن آل فرعون، كان يكتم إيمانه، ومن هؤلاء النجاشي الذي صلى عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنه كان ملك النصارى بالحبشة، وكان في الباطن مؤمنًا" (¬2). ومن أمثلة استضعاف الأفراد ما جرى مع أصحاب الكهف التي وردت قصتهم في القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (¬3)، "أي إن علموا بمكانكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم -يعنون أصحاب دقيانوس (¬4) - يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة" (¬5). تنبيه: مما مضى يتبين أنه ليس من شرط تحقق الاستضعاف وقوع المستضعف في عذاب بل يكفي أن يغلب على ظنه وقوعه تحت العذاب ممن يقدر عليه، بل إن النجاشي كان ملكًا ومع هذا لم يقدر على الجهر بإسلامه في أول الأمر، ولا شك أن مجرد عدم إظهار الإسلام ¬

_ (¬1) سورة الفتح، الآية [25]. (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، عمد بن أبي بكر الدمشقي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1404 هـ، 1/ 16. (¬3) سورة الكهف، الآية [20]. (¬4) وهو الملك الجبار الذي كان يدعوا إلى عبادة الأوثان، وبطش بالمؤمنين في زمان أصحاب الكهف، انظر: المنتظم 2/ 152،والبداية والنهاية، 2/ 114. (¬5) تفسير القرآن العظيم، 3/ 78.

وشعائره فيه عذاب معنوي للمستضعف، وإن سلم من العذاب الحسي، والظاهر أن النجاشي قد كتم إسلامه عن الحبشة حتى لا يعزلوه، واستطاع بذلك أن يحمي المسلمين، وأن يشجع نشر الإسلام بين الحبشة تدريجيًا دون استخدام للعنف أو القهر، ولكن اللَّه تعالى لم يمهله حتى يتم ذلك الأمر (¬1)، ولذا فقد قال لمبعوث الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: (ولكن أعواني من الحبشة قليل فأنظرني حتى أكثر الأعوان والين القلوب) (¬2)، حتى أنه خفي على بعض المسلمين إسلام النجاشي، ولهذا لما مات -رضي اللَّه عنه- نعاه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ودعا الناس إلى المصلى للصلاة عليه، فعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: (أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نَعَى النَّجَاشِيَّ في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المُصلى فصف بهم وكبر أربعًا) (¬3)، وعن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: قال -صلى اللَّه عليه وسلم- حين مات النَّجَاشِيُّ: (مات اليوم رجل صالحٌ فقوموا فصلوا على أخيكم أَصْحَمَةَ (¬4)) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: إسلام نجاشي الحبشة ودوره في صدر الدعوة الإسلامية، د. سامية منيسى، القاهرة: دار الفكر العربي، ط 1، 1421 هـ، ص 96. (¬2) السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1400 هـ، 3/ 294. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، رقم: 1188، ومسلم، كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة، رقم: 951. (¬4) قال النووي رحمه اللَّه: "قوله: (صلى على أَصْحَمَة النَّجَاشِيّ) هو بفتح الهمزة وإسكان الصاد وفتح الحاء المُهْمَلَتَيْنِ. . قال ابن قُتَيْبَة وغيره: ومعناه بالعربية: عَطِيَّة. قال العلماء: والنجاشي لقب لكل من ملك الحبشة، وأما أَصْحَمَة فهو اسم عَلَم لهذا الملك الصالح الذي كان في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال المُطَرِّز وابن خالَوَيْهِ وآخرون من الأئمة كلامًا متداخلًا حاصله: أن كل مَن مَلَكَ المسلمين يُقال له: أمير المؤمنين، ومن ملك الحبشة: النجاشي، ومن ملك الروم: قيصر، ومن ملك الفرس: كسرى، ومن ملك الترك: خاقَان، ومن ملك الْقِبْط: فِرعَون، ومن ملك مصر: العزيز، ومن ملك اليمن: تُبَّع، ومن ملك حِمْيَر: الْقَيْل. بفتح القاف، وقيل: الْقَيْل أقل درجة من المَلِك"، شرح النووي على صحيح مسلم، 7/ 23. (¬5) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب موت النجاشي، رقم: 3664.

قال ابن حجر رحمه اللَّه: "الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى؛ لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه؛ ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يُدْرِكُونَهُ أسلم. . . عن أنس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما صلى على النجاشي، قال بعض أصحابه: صَلَّى على عِلْج من الحبشة، فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} (¬1) الآية، وله شاهد في معجم الطبراني الكبير من حديث وحشي بن حرب وآخر عنده في الأوسط من حديث أبي سعيد وزاد فيه أن الذي طعن بذلك فيه كان منافقا" (¬2). النوع الثاني: استضعاف الجماعة (¬3) والدولة: وهو الذي يقع على طائفة من المسلمين، أو جماعة منهم سواءً أكان لتلك الجماعة دولة أو كانوا أقلية، وقد يكون استضعافًا كليًا أو جزئيًا، ويقع الاستضعاف على تلك الجماعة المسلمة مع وجود قوة للمسلمين في مكان آخر بغض النظر عن الموانع أو الأمور التي تحول دونهم ودون نصرتهم. ومن أمثلة استضعاف الجماعة ما جرى للمسلمين في مكة قبل الهجرة، فالمرحلة المكية تعد نموذجًا لاستضعاف الجماعة، وللاستضعاف الكلي، كما أن المرحلة المدنية في بعض مراحلها تعد نموذجًا لاستضعاف الجماعة ولكن ذلك الاستضعاف كان جزئيًا وليس كليًا. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية [199]. (¬2) فتح الباري، 3/ 188. (¬3) الجماعة مأخوذة من جمع، يقال: جَمَعَ الشيءَ عن تَفْرِقة، يَجْمَعُه جَمْعًا وجَمَّعَه وأَجْمَعَه فاجتَمع، وكذلك تجمَّع واسْتجمع، والجَمْع اسم لجماعة الناس والجَمْعُ مصدر، والجماعة وهي العدد الكثير من الناس، أو طائفة من الناس يجمعها غرض واحد. انظر: لسان العرب، تاج العروس، والمعجم الوسيط، مادة: جمع.

المطلب الثالث: تقسيم الاستضعاف باعتبار الاعتذار به

ومن أمثلة استضعاف الجماعة أو الطائفة ما جرى لبني إسرائيل على يد فرعون، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (¬1)، فقد استعبد فرعون الجبار الطاغية بني إسرائيل وكانوا في ذلك الزمان خيار أهل الأرض وجعلهم فرقًا، واستعملهم في الأعمال الشاقة والقذرة، ليلا ونهارا، ومع هذا كله يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم إهانة لهم واحتقارا وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه أن يوجد منهم غلام يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه (¬2). * * * المطلب الثالث: تقسيم الاستضعاف باعتبار الاعتذار به وهو نوعان: النوع الأول: استضعاف مقبول شرعًا. النوع الثاني: استضعاف غير مقبول شرعًا. ودل على هذا التقسيم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا ¬

_ (¬1) سورة القصص، الآية [4]. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 1/ 273، وتفسير القرآن العظيم، 6/ 220، والدر المنثور، 6/ 390.

غَفُورًا} (¬1)، "فهذا الاستضعاف المعفو عمن اتصف به، غير الاستضعاف المعتذر به في أول الآية وصدرها، وهو قول الظالمي أنفسهم: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}، فإن اللَّه تعالى لم يقبل قولهم في الاعتذار به، فدل على أنهم كانوا قادرين على الهجرة من وجه ما، وعفا عن الاستضعاف الذي لا يستطاع معه حيلة ولا يهتدى به سبيل" (¬2)، كما يمكن تقسيمه إلى استضعاف حقيقي، واستضعاف متوهم. كما يمكن تقسيم الاستضعاف باعتبار مجاله، مثل: استضعاف سياسي، استضعاف اقتصادي، استضعاف ديني، والحاصل أنها لا تخرج عن كونها استضعافًا كليًا أو استضعافًا جزئيًا، ومتى ما وقع الاستضعاف الديني فإن الاستضعاف السياسي والاقتصادي يتبعه، وتلك الأمور في حقيقتها وسائل للاستضعاف. * * * ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآيات [97 - 99]. (¬2) أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، أحمد بن يحيى التلمساني الونشرسي، تحقيق: د. حسين مؤنس، مكتبة الثقافة الدينية: مصر، ط 1، 1406 هـ، 1/ 26.

المبحث الثاني: العلاقة بين مرحلة الاستضعاف والمرحلة المكية

المبحث الثاني: العلاقة بين مرحلة الاستضعاف والمرحلة المكية إن تقسيم مراحل الدعوة الإسلامية إلى مرحلة سرية ومرحلة جهرية، ومن ثم مرحلة مكية ومرحلة مدنية، أو مرحلة التبين، ومرحلة التكوين، ومرحلة التمكين، أو مرحلتي الكتمان والإعلان، أو مرحلة الاستضعاف ومرحلة الاستخلاف وغيرها من التقسيمات كمرحلة النبوة، ثم إنذار عشيرته الأقربين، ثم إنذار قومه، ثم إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة، ثم إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر (¬1)، إنما هو وصف لواقع الدعوة وأحوال المسلمين وبيان لمقتضيات تلك المدة والمرحلة ويترتب على ذلك من أحكام وفوائد منها: تمييز الناسخ من المنسوخ، ومعرفة تاريخ التشريع وتدرجه الحكيم بوجه عام، وذلك يترتب عليه الإيمان بسمو السياسة الإسلامية في تربية الشعوب والأفراد، وكذلك معرفة أساليب الدعوة إلى اللَّه ومراعاة مقتضى الحال (¬2)، قال القرطبي رحمه اللَّه: "وينبغي له -أي صاحب القرآن- أن يعرف المكي من المدني؛ ليفرق بذلك بين ما خاطب اللَّه به عباده في أول الإسلام، وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض اللَّه في أول الإسلام، وما زاد عليه من الفرائض في آخره، فالمدني هو الناسخ للمكي في أكثر القرآن، ولا يمكن أن ينسخ المكي المدني؛ لأن المنسوخ هو المتقدم في النزول قبل الناسخ له" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق، عبد اللَّه الزبير عبد الرحمن، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، 1997 م، ص 143 - 144، وزاد المعاد، 1/ 86. (¬2) انظر: مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1416 هـ، 1/ 137، والغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، د. عبد الرحمن اللويحق، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 3، 1416 هـ، ص 516 - 517. (¬3) الجامع لأحكام القرآن، 1/ 21.

ولعله يحسن التنبيه إلى أنه لا يلزم من وجود هذا التقسيم في العهد الأول للدولة الإسلامية وجوده في العصر الحديث أو في كل عصر، بمعنى أنه يجب التقيد بتلك المراحل بمداها الزمني الذي مرت به حياة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحابته الكرام -رضي اللَّه عنهم-؛ لأن المدى الزمني لتلك المراحل كان تقديرًا ربانيًا ولا نص فيه يدعونا إلى الاقتداء به، ولا نحجر واسعًا، وليس المهم حساب الزمن، إنما المهم الحصيلة العملية للمستضعفين وقدرتهم على مواجهة المجتمع القائم من خلال الأشخاص أو المؤسسات (¬1)، كما أننا لسنا متعبدين بالمضي وفقًا لذلك المدى الزمني، وإلا لأدى هذا إلى جمود وقصور في التعامل مع الواقع، الأمر الذي يخالف طبيعة الإسلام ومرونته ويضيق مساحة الاجتهاد والعمل والتعاطي مع الأحداث والمستجدات والنوازل. كما أن العلم بالمكي والمدني لا يعني أن نأخذ أحكام العهد المكي ونسقطها كاملة على مرحلة الاستضعاف، وذلك لأن استنباط الأحكام الشرعية يكون من الأدلة وليس بمقارنة العهدين المكي والمدني ثم القياس على النظير من جميع الوجوه، وكلا العهدين المكي والمدني عهد تشريع، "وإذا رأيت في المدنيات أصلًا كليًا فتأمله تجده جزئيًا بالنسبة إلى ما هو أعم منه أو تكميلًا لأصل كلي. . . ليفرع عن ذلك كل ما جاء مفصلًا في المدني، فالأصل وارد في المكي" (¬2)، ولو جعلت المرحلية أصلًا من أصول الأحكام لأدى ذلك إلى تضييع فرائض الدين والقول بعدم وجوبها، فالصلاة مثلًا لم تفرض إلا في أواخر العهد ¬

_ (¬1) انظر: عثرات وسقطات في كتاب المنهج الحركي للسيرة النبوية، زهير سالم، دار عمار: الاردن، ط 1، 1408 هـ، ص 20، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق اللَّه، مركز الملك فيصل: الرياض، ط 1، 1412 هـ، ص 154 - 155. (¬2) الموافقات، 3/ 46 - 49.

المكي، كما يؤدي هذا الأمر إلى ارتكاب الكبائر واستحلالها تحت عذر المرحلية، فالخمر مثلًا إنما حرمت في المدينة (¬1). والحديث عن المراحل لا يعني الركون لها، أو التعامل معها على أنها أصل، وبالتالي تُخفى الشعائر والعبادات، بل إن الأصل في الإسلام هو الإظهار والإعلان كما سيأتي بيانه، ولذا شرع الآذان والعبادات الجماعية كصلاة الجماعة، والحج، وصوم رمضان، والزكاة، والأعياد وغيرها، ولا يمكن التعاطي مع العهد المكي على أنه الأصل لوحده أو مع العهد المدني على أنه الأصل لوحده، فكلاهما أصل ومكمل للآخر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية مفسرًا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (¬2) أي: "بالحجة والبيان، وباليد واللسان هذا إلى يوم القيامة، لكن الجهاد المكي بالعلم والبيان، والجهاد المدني مع المكي باليد والحديد، قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (¬3) وسورة الفرقان مكية، وإنما جاهدهم باللسان والبيان، ولكن يكف عن الباطل وإنما قد بين في المكية: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (¬4) " (¬5). قال الشاطبي رحمه اللَّه: "المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنزيل، وإلا لم يصح، والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن ¬

_ (¬1) انظر: الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، ص 517 - 518. (¬2) سورة التوبة، الآية [33]. (¬3) سورة الفرقان، الآية [52]. (¬4) سورة محمد، الآية [31]. (¬5) الفتاوى، شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، مجمع الملك فهد: المدينة المنورة، ط 1، 1416 هـ، 28/ 38.

المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمة، دل على ذلك الاستقراء، وذلك إنما يكون بيان مجمل، أو تخصيص عموم، أو تقييد مطلق، أو تفصيل ما لم يفصل، أو تكميل ما لم يظهر تكميله" (¬1). لقد كانت المرحلة المكية تأسيسًا ومنطلقًا لما بعدها، وكان لتلك المرحلة أهميتها في الإسلام، حتى أنه كان يؤرخ للصحابة -رضي اللَّه عنهم- بتلك المرحلة (¬2). إن "كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها. . فهو -أي الإسلام- لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة" (¬3). مما مضى يمكن القول بأن المرحلة المكية كانت تمثل حالة الاستضعاف الكلي، ولا يلزم حالة وقوع استضعاف كلي في أي زمن من الأزمان في مكان ما تطبيق كل ما كان قائمًا من أحكام في المرحلة المكية، إذ لكل زمان ظروفه، كما أن لكل مكان طبيعته الخاصة به، كما أن فقه الاستضعاف لا يعني بأي حال من الأحوال العودة للمرحلة المكية بكل أحكامها وآثارها. * * * ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 406. (¬2) ومن الأمثلة على ذلك: "وأسلم حاطب بن عمرو قبل دخول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم"، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1/ 92. وفي خبر إسلام حمزة -رضي اللَّه عنه-: "أسلم في السنة الثانية من البعث، وقيل: بل كان إسلام حمزة بعد دخول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم، في السنة السادسة من مبعثه"، المرجع السابق، 1/ 109. وفي خبر إسلام عمر -رضي اللَّه عنه-: "أسلم عمر بعد دخول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم، بعد أربعين رجلًا أو نيف وأربعين من رجال ونساء"، تهذيب الأسماء واللغات، محيى الدين بن شرف النووي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1996 م، 1/ 489. (¬3) معالم في الطريق، سيد قطب، الكويت: الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، ط 1، 1978 م، ص 57.

المبحث الثالث: مظاهر الاستضعاف

المبحث الثالث: مظاهر الاستضعاف المراد بمظاهر الاستضعاف الصورة التي يبدو عليها (¬1)، وهذه المظاهر تختلف بحسب أحوال المستضعفين، وبحسب نوع الاستضعاف الواقع عليهم، ومن أبرز هذه المظاهر ما يلي: المظهر الأول: وقوع القتل والتعذيب والسجن والإبعاد على المستضعفين: وهذا ما كان عليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة -رضي اللَّه عنهم- بمكة، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} (¬2)، وقال عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬3)، {لِيُثْبِتُوكَ} ليحبسوك ويسجنوك ويوثقوك (¬4)، إن الطرد والإبعاد سياسة ماضية مارسها أعداء الأنبياء والرسل، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (¬5)، ¬

_ (¬1) الظاء والهاء والراء أصلٌ صحيحٌ واحدٌ يدلُّ على قوّةٍ وبروز. والظَّهْرُ من الأرض ما غَلُظَ وارْتَفَعَ، والظُّهُوْرُ: بُدُوُّ الشيء الخَفيِّ إذا ظَهَرَ. يقال: ظَهَرَ الشيءُ يظهرُ ظهورًا فهو ظاهر، إذا انكشفَ وبرزَ. ولذلك سمِّيَ وقت الظُّهرِ والظَّهيرة، وهو أظهر أوقات النّهار وأَضْوَؤُها. والأصل فيه كلّه ظهر الإنسان، وهو خلافُ بطنه، وهو يجمع البُروزَ والقوّة. انظر: مقاييس اللغة، والقاموس المحيط، مجد الدين بن محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، بيروت: المؤسسة العربية للطباعة، ط 1، د. ت، مادة: ظهر، والمعجم الوسيط، 2/ 60. (¬2) سورة محمد، الآية [13]. (¬3) سورة الأنفال، الآية [30]. (¬4) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 13/ 491 - 492، وتفسير القرآن العظيم، 4/ 43، ومعالم التنزيل، 3/ 350. (¬5) سورة إبراهيم، الآية [13].

فقد أخبر اللَّه "تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم، من الإخراج من أرضهم، والنفي من بين أظهرهم" (¬1)، فـ "هم لا يقبلون من الرسل والذين آمنوا معهم، أن يتميزوا وينفصلوا بعقيدتهم وبقيادتهم وبتجمعهم الخاص. إنما يطلبون إليهم أن يعودوا في ملتهم، ويندمجوا في تجمعهم، ويذوبوا في هذا التجمع. أو أن يطردوهم بعيدًا وينفوهم من أرضهم. . ولم يقبل الرسل الكرام أن يندمجوا في التجمع الجاهلي، ولا أن يذوبوا فيه، ولا أن يفقدوا شخصية تجمعهم الخاص. . هذا التجمع الذي يقوم على قاعدة أخرى غير القاعدة التي يقوم عليها التجمع الجاهلي" (¬2). وفي قصة شعيب عليه السلام، قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} (¬3)، "وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة" (¬4). وفي قصة لوط عليه السلام، قال عز وجل: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (¬5)، وأخبر سبحانه عما جرى للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬6) "وكان من صنعه تعالى: أنه أظهر رسوله ونصره، وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصارًا وأعوانًا وجندا، يقاتلون في سبيل اللَّه، ولم يزل يرقيه اللَّه تعالى من شيء إلى ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم، 4/ 483. (¬2) في ظلال القرآن، سيد قطب، بيروت: دار الشروق، ط 7، 1978 م، 4/ 2101. (¬3) سورة الأعراف، الآية [88]. (¬4) تفسير القرآن العظيم، 3/ 448. (¬5) سورة النمل، الآية [56]. (¬6) سورة الإسراء، الآية [76].

شيء، حتى فتح له مكة التي أخرجته، ومكن له فيها، وأرغم آناف أعدائه منهم، ومن سائر أهل الأرض، حتى دخل الناس في دين اللَّه أفواجا، وظهرت كلمة اللَّه ودينه على سائر الأديان، في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان؛ ولهذا قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (¬1) " (¬2). ولهذا لما انطلقت خديجة -رضي اللَّه عنها- برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ورقة بن نوفل (¬3) أدرك في الحال ما الذي سيقع للرسول الكريم، فقال: (هذا الناموس الذي نزله اللَّه به على موسى يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (أو مخرجي هم!). قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي) (¬4)، وإن الخروج من الديار ليس بالأمر الهين ولهذا فقد قارنه اللَّه عز وجل بقتل النفس فقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم، الآيتان [13 - 14]. (¬2) تفسير القرآن العظيم، 4/ 483. (¬3) ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي ابن عم خديجة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ذكره الطبري والبغوي وابن قانع وابن السكن وغيرهم في الصحابة، قال ابن حجر رحمه اللَّه: "وفي إثبات الصحبة له نظر"، كان حكيمًا وممن اعتزل الأوثان قبل الإسلام، وامتنع من أكل ذبائحها، وتنصر وقرأ كتب الأديان، وكان يكتب اللغة العربية بالحرف العبراني. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 6/ 607 - 609، والأعلام، 8/ 114. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، رقم: 3، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، رقم: 160. (¬5) سورة النساء، الآية [66].

المظهر الثانى: إخفاء المسلمين للشعائر التى أصلها الإظهار: وذلك كالآذان والصلاة والجمع والأعياد والأضاحي ونحوها، بل وحتى أصل الإيمان كحال مؤمن آل فرعون، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (¬1). وكحال الصحابة -رضي اللَّه عنهم- بمكة التي أخبر اللَّه عز وجل عنهم بقوله سبحانه: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬2)، "أي: بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم" (¬3). ولقد اقتضت المرحلة المكية لاسيما في بداية الدعوة السرية إخفاء الشعائر والعبادات، ولذا فقد اجتهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى دعوة ألصق الناس به، وألا يدعو إلا من غلب على ظنه أنه سيدخل في الإسلام ويكتم أمره، وهذا من باب السياسة الشرعية وما تقتضيه مصلحة الإسلام والمسلمين في تلك الفترة، فكان بيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المحضن الأول للدعوة، وأما المحضن الثاني فبيوت الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وفي مقدمتها بيت الأرقم ابن أبي الأرقم، ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآية [28]. (¬2) سورة الفتح، الآية [25]. (¬3) تفسير القرآن العظيم، 7/ 344.

والمحضن الثالث شعاب مكة (¬1)، وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صلوا، ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم (¬2). ولقد كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- في حالة من الانضباط الأمني حتى لا يعلم بعضهم من أسلم أو كم عدد المسلمين يومئذ، ولم يكن الأمر مقتصرًا على الانضباط الأمني والسرية بل حتى الانضباط الاجتماعي، وهو جانب مهم من الانضباط الذي كانت الدعوة تنتهجه كإجراء وقائي يوفر لها بعض الحماية اللازمة للاستمرار في عملية بناء قدراتها الذاتية، بعيدًا عن أجواء القهر والملاحقات المرهقة، فكانوا ملتزمين بدرجة من الانضباط الاجتماعي، بحيث يصعب ملاحظة مظاهر الخروج عن المقررات والعادات والضوابط الاجتماعية التي درج المجتمع المكي عليها، فمصلحة الدعوة يومئذ اقتضت ذلك الانضباط الذي جنبهم الدخول في مواجهات جدالية سافرة، تضرهم ولا تنفعهم في تلك الفترة (¬3). وهذا الانضباط الاجتماعي استمر حتى فترة متقدمة من مسيرة الإسلام قال ابن حجر رحمه اللَّه معلقًا على تسمية صلح الحديبية فتحًا: "ولما كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح ¬

_ (¬1) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد، القاهرة: المكتبة التوفيقية، ط 1، 1421 هـ، ص 68، والسيرة الحلبية، 1/ 437، ومنهج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في حماية الدعوة والمحافظة على منجزاتها خلال الفترة المكية، الطيب برغوث، الولايات المتحدة الأمريكية: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 1، 1416 هـ، ص 301 - 302. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام، 1/ 263. وانظر: السيرة النبوية لابن كثير، 1/ 454، والاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول اللَّه، 1/ 161. (¬3) انظر: منهج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في حماية الدعوة، ص 310 - 312، وقراءة لجوانب الحذر والحماية، إبراهيم علي محمد أحمد، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، 1996 م.

سميت فتحا. . . فإن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقا حتى فتحه اللَّه، وكان فتحه صد المسلمين عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيمًا للمسلمين وفي الصورة الباطنة عِزًّا لهم، فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض مِنْ غَيْر نكير وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية، وظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وَأُقْهِرُوا من حيث أرادوا الغلبة" (¬1). المظهر الثالث: عدم القدرة على تطبيق الأحكام الشرعية: سواءً كلها أو بعضها، كالحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، وإن كانت أحوال المستضعفين تمنعهم من إظهار الشعائر فإنه من باب أولى أن تمنعهم من تطبيق الأحكام الشرعية، ففي "طوال العهد المكي لم يتنزل حكم شرعي تنفيذي -وإن تنزلت الأوامر والنواهي عن أشياء وأعمال- ولكن الأحكام التنفيذية كالحدود والتعازير والكفارات لم تتنزل إلا بعد قيام الدولة المسلمة التي تتولى تنفيذ هذه الأحكام" (¬2). ومن المعلوم أن أول حد أقيم في الإسلام كان في المدينة، قال عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-: (لقد علمت أول حد كان في الإسلام امرأة سرقت فقطعت يدها فتغير لذلك وجه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تغيرًا شديدًا ثم قال: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3)) (¬4). ¬

_ (¬1) فتح الباري، 5/ 348. (¬2) في ظلال القرآن، 2/ 444. (¬3) سورة النور، من الآية [22]. (¬4) أخرجه أحمد، 1/ 391، قال في مجمع الزوائد 6/ 275: "رواه كله أحمد، وأبو يعلى باختصار المرأة، وأبو ماجد الحنفي ضعيف".

لم يكن المسلمون في المرحلة المكية أمة منفصلة عن المجتمع المكي، ولم تكن لهم أرض يمارسون عليها سيادتهم، أو يقيموا حكومة ترعى مصالحهم وتدافع عنهم وتنفذ شريعتهم، كما لم يكن لهم سلطان وقوة، وإنما كان الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يسعى لجمع الناس على الدين تمهيدًا لإقامة الدولة الإسلامية لاحقًا، ولذا لم ينزل اللَّه عز وجل في تلك الفترة تنظيمات وشرائع، وإنما عقيدة وخلقًا منبثقًا عنها، فلما أن صارت لهم الدولة بالمدينة، تنزلت الشرائع (¬1). وقد يتسنى للمستضعفين إظهار الشعائر من الآذان والصلاة وبناء المساجد ولبس الحجاب ونحوها، إلا أنهم لا يقدرون أن يقيموا الحدود لعدم وجود القوة والسلطة الإسلامية كحال الكثير من الأقليات الإسلامية في الدول الغربية اليوم، وقد يتسنى لهم إقامة محاكم إسلامية في قضايا محددة كالزواج والطلاق دون غيرها من القضايا. المظهر الرابع: عدم القدرة على الهجرة: وهذا أمر ظاهر فقد أخبر اللَّه عز وجل عن حال المستضعفين في مكة، ووصف لنا أحوال المعذورين منهم، بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (¬2)، فالاستضعاف المعفو عمن اتصف به غير الاستضعاف المعتذر به في أول الآية ¬

_ (¬1) انظر: الدولة الإسلامية بين التراث والمعاصرة، د. توفيق الواعي، بيروت: دار ابن حزم، ط 1، 1416 هـ، ص 27، ومعالم على الطريق، ص 34. (¬2) سورة النساء، الآيات [97 - 99].

وصدرها، فإن اللَّه تعالى لم يقبل قولهم في الاعتذار به، فدل على أنهم كانوا قادرين على الهجرة من وجه ما، وعفا عن الاستضعاف الذي لا يستطاع معه حيلة ولا يهتدى به سبيل، فالمستضعف المعاقب في صدر الآية هو القادر من وجه، والمستضعف المعفو عنه في عجزها هو العاجز من كل وجه (¬1). قال القرطبي رحمه اللَّه: "الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص. والسبيل سبيل المدينة، فيما ذكر مجاهد والسدى وغيرهما، والصواب أنه عام في جميع السبل" (¬2). و" {حِيلَةً} من الحيل فإنها نكرة في سياق النفي فتعم جميع أنواع الحيل" (¬3). المظهر الخامس: قلة العدد: قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ. .} (¬4)، أي: يستقلون، أو يستذلون (¬5)، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬6)، ولهذا فإن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- لما قاتل المشركين في مكة قال لهم: (يا أعداء اللَّه! واللَّه لو قد بلغنا بثلاث مائة، لقد أخرجناكم منها) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: أسنى المتاجر، 1/ 26. (¬2) الجامع لأحكام القرآن، 5/ 347. (¬3) الفتاوى، 5/ 575. (¬4) سورة الأعراف، الآية [137]. (¬5) النكت والعيون (تفسير الماوردي)، علي بن محمد بن حبيب الماوردي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت، 2/ 12. (¬6) سورة الأنفال، الآية [26]. (¬7) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب معرفة الصحابة، باب عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، رقم: 4493، 3/ 91، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.

وإن كان قلة العدد ليس شرطًا لوقوع الاستضعاف فقد يقع الاستضعاف والهزيمة مع الكثرة، والكثرة لا تغني شيئًا مع الفرقة والخذلان، قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (¬1)، ولذلك جاء في الصحيح عن حذيفة -رضي اللَّه عنه- قال: (كنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: (حصوا لي كم يلفظ الإسلام؟) قال: فقلنا: يا رسول اللَّه، أتخاف علينا ونحن ما بين الست مئة إلى السبع مئة؟! قال: (إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا) قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرًّا) (¬2). قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه: "يشبه أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع في أواخر خلافة عثمان -رضي اللَّه عنه- من ولاية بعض أمراء الكوفة؛ كالوليد بن عقبة؛ حيث كان يؤخر الصلاة أو لا يقيمها على وجهها، وكان بعض الورعين يصلي وحده سرًا، ثم يصلي معه خشية من وقوع الفتنة. وقيل: كان ذلك حين أتم عثمان الصلاة في السفر، وكان بعضهم يقصر سرًا وحده خشية الإنكار عليه. ووهم من قال: إن ذلك كان أيام قتل عثمان؛ لأن حذيفة لم يحضر ذلك. وفي ذلك علم من أعلام النبوة؛ لما فيه من الإخبار بالشيء قبل وقوعه، وقد وقع أشد من ذلك بعد حذيفة في زمن الحجاج وغيره" (¬3). قال النووي رحمه اللَّه: "فلعله كان في بعض الفتن التي جرت بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فكان بعضهم يخفي نفسه ويصلي سرًا مخافة من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب، واللَّه أعلم" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية [25]. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب كتابة الإمام الناس، رقم: 2895، وفيه: (ونحن ألف وخمس مئة)، وفي رواية: (ما بين ست مئة إلى سبع مئة). ومسلم، كتاب الإيمان، باب الاستسرار بالإيمان للخائف، رقم: 149، واللفظ له. (¬3) فتح الباري، 6/ 178. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 2/ 179 - 180.

وقد أخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الصحابة الكرام -رضي اللَّه عنهم- عن تداعي الأمم فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال ثوبان: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (لا، بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن اللَّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن اللَّه في قلوبكم الوهن)، قالوا: وما الوهن يا رسول اللَّه؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)، وفي رواية: (وكراهية القتال) (¬1). والمراد أن الكفار وأمم الضلالة تقرب أن يدعو بعضهم بعضًا إلى الاجتماع لقتال المسلمين وكسر شوكتهم ليغلبوا على ما ملكوه من الديار، وحالهم كحال الفئة الآكِلَة عندما تتداعى إلى قصعة الطعام للأكل من غير مانع فيأكلونها صفوًا من غير تعب، ونفى عليه الصلاة والسلام أن يكون هذا التداعي بسبب قلة العدد، بل بين أن السبب هو الغثاء الذي يصيب الأمة، والغثاء هو ما يحمله السيل من زبد ووسخ وشبههم به لقلة الشجاعة ودناءة القدر، والوهن هو الضعف (¬2). ففي الحديث: "التحذير من الكثرة التي سببت فشل الأمة الإسلامية وجرأة أعدائها عليها، ليس لمجرد الكثرة بل لكراهية كل فرد الموت، باندماج الأعداء والمرجفين فيهم، واتحادهم مع الجبناء، فيصعب التحري، ويتكل كل فاقد العزيمة على غيره لتسلم له حياة قصيرة وإن كانت تعسة، فنزع اللَّه من قلوب العدو المهابة من المسلمين، وهي أقوى دواعي النصر وسبب سرعة انتشار الدين في بادىء أمره" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، رقم: 4297، وأحمد، 2/ 278، وابن أبي شبية، 7/ 463، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 7/ 563: "رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه وإسناد أحمد جيد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة"، 2/ 647. (¬2) انظر: عون المعبود، 11/ 273 - 274. (¬3) سر انحلال الأمة العربية ووهن المسلمين، محمد سعيد العرفي، دمشق: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1966 م، ص 152.

وخلاصة هذا المبحث أن للاستضعاف مظاهر من أبرزها: وقوع القتل والتعذيب والسجن والإبعاد على المستضعفين، وعدم القدرة على إظهار الشعار كلها أو بعضها، وعدم القدرة على تطبيق الحدود والأحكام الشرعية، وعدم القدرة على الهجرة وترك البلد الذي يقع فيه الاستضعاف، وقلة العدد. * * *

المبحث الرابع: استحكام الاستضعاف فى الأرض

المبحث الرابع: استحكام الاستضعاف فى الأرض تلك هي أبرز مظاهر الاستضعاف، وهي تختلف من زمان لآخر، ومن مكان لآخر، وقد يشتد الاستضعاف حتى لا يستطيع المسلمين إظهار الشعائر كلها في بعض الأماكن، وقد تقل شدته فيتمكن المسلمون من إظهار بعض الشعائر، وهنا تساؤل حول إمكانية استحكام الاستضعاف في الأرض كلها، وهل يمكن أن يقع هذا أم لا؟ والجواب: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر عن غربة الإسلام، بقوله: (بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء) (¬1). وهذه الغربة تكون في بعض شرائعه، وقد يكون في بعض الأمكنة والأزمنة، كما كان في أول الأمر غريبا ثم ظهر، أو أنها تكون في آخر الدنيا، وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة، وحينئذ يبعث اللَّه ريحا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم القيامة، فأما بقاء الإسلام غريبا ذليلا في الأرض كلها قبل الساعة فلا يكون هذا، بل لا بد أن يبقي اللَّه من المؤمنين من هو ظاهر إلى قيام الساعة، فإذا مات كل مؤمن فقد جاءت الساعة (¬2). ولا تقتضي غربة الإسلام جواز تركه، كما لا تقتضي أن يكون المتمسك به في شر، بل هو أسعد الناس، فطوبى من الطيب، فالمسلم المتبع للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- اللَّه تعالى حسبه وكافيه، وهو وليه حيث كان، ومتى كان، فإنه لا بد أن يحصل للناس في الدنيا شر، واللَّه على عباده نعم، لكن الشر الذي يصيب المسلم أقل، وسرعان ما يعوض عنه عاجلًا من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، رقم: 145. (¬2) انظر: الفتاوى، 18/ 296 - 303.

الإيمان ولذته ما يحتمل به الأذى، والنعم التي تصل إليه أكثر، والذي يحصل للكفار من الهلاك أعظم بكثير، من غير عوض لا آجلًا ولا عاجلًا (¬1). إذًا فالغربة المستحكمة المطبقة على الأرض كلها، بحيث يغدو الدين غريبًا في زمن من الأزمنة، في بقاع الأرض كلها، كا حدث قبل بعثة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، لا يكون في أمته صلى اللَّه عليه وسلم إلا بعد عهد عيسى عليه السلام، وقبل الساعة (¬2)، وكذلك الاستضعاف الكلي لكل الأمة في الأرض كلها لا يمكن أن يقع، بل دلت الآيات والأحاديث على خلاف هذا. ومن جملة هذه الأدلة قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (¬3)، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (¬4)، "أى: عامة المؤمنين بعد إجلاء الكفار وهذا وعد منه تعالى بإظهار الدين وإعزاز أهله" (¬5). عن أبي بن كعب -رضي اللَّه عنه- قال: لما قدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، كانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: (ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا اللَّه؟ فنزلت: {وَعَدَ ¬

_ (¬1) انظر: الفتاوى، 18/ 291 - 296. (¬2) انظر: الغرباء الأولون، سلمان بن فهد العودة، المملكة العربية السعودية: دار ابن الجوزي، ط 1، 1412 هـ، ص 28. (¬3) سورة غافر، الآية [51]. (¬4) سورة الأنبياء، الآية [105]. (¬5) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (تفسير أبي السعود)، محمد بن محمد العمادي، دار إحياء التراث العربي: بيروت، ط 1، د. ت، 6/ 88.

اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1)) (¬2). وقد قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- في تفسير هذه الآية: (يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان) (¬3)، "ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذه الأُمّة: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: ليجعلنهم خلفاء الأرض، الذين لهم السيطرة فيها، ونفوذ الكلمة، والآيات تدلّ على أن طاعة اللَّه بالإيمان به، والعلم الصالح سبب للقوّة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة" (¬4). وعن ثوبان -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إن اللَّه زَوَى (¬5) لي الأرض فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وإن أمتي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لي منها، وَأُعْطِيتُ الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سَأَلْتُ رَبِّى لأمتي أَن لا يُهلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ (¬6)، وأن لا يُسَلِّطَ عليهم عَدُوًّا ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية [55]. (¬2) أخرجه الحاكم، وقال: (صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وقال الذهبي في التلخيص: "صحيح". (¬3) معالم التنزيل، 3/ 354. (¬4) أضواء البيان، 5/ 553. (¬5) زوى لي "أي: جمعها لي جمعًا أمكنه الإشراف على ما زوي له منها والنظر إليه والمعرفة به"، تفسير غريب ما في الصحيحين البخارى ومسلم، محمد بن أبي نصر فتوح الأزدي الحميدي، تحقيق: د. زبيدة محمد، القاهرة: مكتبة السنة، ط 1، 1415 هـ، 1/ 234. (¬6) قال النووي رحمه اللَّه: "أى: لا أهلكهم بقحط يعمهم، بل إن وقع قحط فيكون في ناحية يسيرة بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام، فلله الحمد والشكر على جميع نعمه"، شرح النووي على صحيح مسلم، 18/ 14.

من سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ (¬1)، وإن رَبِّى قَالَ: يَا محمد إني إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فإنه لا يُرَدُّ وإني أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أن لا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وأن لا أُسَلِّطَ عليهم عَدُوًّا من سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عليهم من بِأَقْطَارِهَا -أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِى بَعْضُهُمْ بَعْضًا) (¬2)، وفي رواية: (سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بما هلك به الأمم قبلها فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يظهر عليها عدوا من غيرها فأعطانيها، وسألت ربما أن لا يلبسها شيعا فمنعنيها) (¬3). "وفي هذا الحديث دليل واضح على أن دين محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يزال إلى أن تقوم الساعة، ولا يهلك أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- عدو يستأصلها أبدًا، وأنها في أكثر أقطار الأرض والحمد للَّه كثيرا" (¬4)، قال ابن حجر رحمه اللَّه: "المراد أن ذلك لا يقع لجميعهم، وإن وقع لأفراد منهم غير مقيد بزمان. . . فإن الغرق والجوع قد يقع لبعض دون بعض لكن الذي حصل منه الأمان أن يقع عاما" (¬5)، فدل هذا الحديث على أن "تسليط العدو الكافر قد يقع على بعض المؤمنين، لكنه لا يقع عمومًا فكذلك الخسف والقذف" (¬6). ¬

_ (¬1) قوله: (فَيَسْتَبِيح بَيْضَتهمْ) أَيْ: جَمَاعَتهمْ وَأَصْلهمْ، وبيضة الدار معظمها ووسطها"، انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم، 1/ 234. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، رقم: 2890. (¬3) مسند الشاميين، سليمان بن أحمد الطبراني، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1405 هـ، 3/ 71. (¬4) التمهيد، يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر النمري، تحقيق: مصطفى العلوي، ومحمد البكري، المغرب: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، 1387 هـ، 19/ 197 - 198. (¬5) فتح الباري، 8/ 293 (¬6) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، محمد عبد الرحمن المباركفوري، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت، 8/ 349.

وقد أخبرنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ببقاء الطائفة المنصورة فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر اللَّه وهم ظاهرون) (¬1)، "ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجد ما وعدهم اللَّه، وإنما يسلط اللَّه عليهم الكفار والمنافقين ويديلهم في بعض الأحيان بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح" (¬2). وقد أخبرنا المولى عز وجل بأنه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا فقال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬3)، فمن دلالات هذه الآية أنه سبحانه لا يجعل لهم على المؤمنين سبيلًا يمحو به دولة المسلمين ويستأصلهم ويستبيح بيضتهم، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض المؤمنين فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة (¬4)، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (¬5)، "ولكن حكمة اللَّه عادلة فإنها اقتضت أن من تمسك بالدين نصره اللَّه النصر المبين وأن من ترك أمره ونهيه ونبذ شرعه وتجرأ على معاصيه أن يعاقبه ويسلط عليه الأعداء واللَّه عزيز حكيم" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين)، رقم: 6881، ومسلم، كتاب الإمارة، باب قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، رقم: 1920. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 1/ 573. (¬3) سورة النساء، الآية [141]. (¬4) انظر: تفسير القرآن العظيم، 1/ 568، وأَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 1/ 640، وأضواء البيان، 1/ 319. (¬5) سورة غافر، الآية [51]. (¬6) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 1/ 130.

إن التمكين في الأرض باطنا وظاهرا ليس مستلزما لولاية اللَّه تعالى، بل قد يكون ولي اللَّه متمكنا ذا سلطان، وقد يكون مستضعفا إلى أن ينصره اللَّه، وأما الغلبة فإن اللَّه تعالى قد يُديل الكافرين على المؤمنين تارة، كما يديل المؤمنين على الكافرين، كما وقع للصحابة رضوان اللَّه عليهم مع عدوهم لكن العاقبة للمتقين، وإذا كان في المسلمين ضعفٌ، وكان عدوهم مستظهرا عليهم، كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنا وظاهرا، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنا وظاهرا (¬1). ومن الأحاديث الدالة على التمكين للإسلام وأهله في الأرض، قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله اللَّه كلمة الإسلام، بعز عزيز، أو ذل ذليل، إما يعزهم اللَّه عز وجل فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم فيدينون لها) (¬2). وقد بشرنا الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بالتمكين في الأرض فقال: (بَشِّرْ هذه الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ والدين (¬3) وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ في الأَرْضِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ في الآخِرَةِ نَصِيبٌ) (¬4). ولعل فيما مضى من الأدلة ما يكفي للدلالة على استحالة وعدم إمكانية وقوع الاستضعاف الكلي للأمة الإسلامية كلها في الأرض. ¬

_ (¬1) انظر: الفتاوى، 11/ 644 - 645. (¬2) أخرجه أحمد، 6/ 4، برقم: 23865، وأخرجه الحاكم في المستدرك، رقم: 8324، وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، 4/ 476، والإيمان، محمد بن إسحاق بن منده، تحقيق د. علي الفقيهي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1406 هـ، 2/ 981، وقال: "إسناده حسن"، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 14: "أخرجه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح". (¬3) "بالسناء: بالفتح والمدّ ارتفاع المنزلة والقدر، والدين أي: التمكن فيه، والرفعة أي: العلو في الدارين"، التيسير بشرح الجامع الصغير، 1/ 433. (¬4) أخرجه أحمد، رقم: 21258، 5/ 134، والحاكم في المستدرك، رقم: 7862، 4/ 346، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

الباب الثاني أسباب الاستضعاف ووسائل دفعه وضوابطها

الباب الثاني أسباب الاستضعاف ووسائل دفعه وضوابطها وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: أسباب الاستضعاف. الفصل الثاني: وسائل دفع الاستضعاف. الفصل الثالث: الأمور والضوابط التي ينبغي على المستضعفين مراعاتها والأخذ بها.

الفصل الأول أسباب الاستضعاف

الفصل الأول أسباب الاستضعاف وفيه تمهيد ومبحثان: المبحث الأول: أسباب الاستضعاف الداخلية. المبحث الثاني: أسباب الاستضعاف الخارجية.

تمهيد

تمهيد إن التعرف على أسباب الاستضعاف هو الخطوة الأولى في طريق الخلاص منه، وهو مما يُعين على معرفة وسائل دفعه، كما أن تلك الوسائل متنوعة وتختلف بحسب الزمان والمكان وحال المستضعف سواءً أكان فردًا أم جماعة، ولذا فإن من وسائل دفع الاستضعاف ما لا يمكن للمكلف الأخذ بها، ومنها ما يقدر المكلف على الأخذ بها، بل ويأثم على تركها كما سيأتي بيانه، ومنها ما لا يُمكن للفرد النهوض بها لوحده، ومنها ما لا يُمكن للجماعة أن تقوم بها، كما أن هنالك ضوابط وقواعد عامة وضعها الفقهاء ينبغي مراعاتها عند الأخذ بتلك الوسائل. إن بُعد المسلمين عن تعاليم دينهم وعدم تمسكهم بكتاب اللَّه وسنة نبيهم صلى اللَّه عليه وسلم من أبرز وأهم أسباب ضعفهم، وهنالك أسباب وعوامل أخرى هي في حقيقة الأمر تبع ونتيجة لهذا السبب الرئيس، وكلها أدت إلى وقوع المسلمين تحت استضعاف الأعداء، وقد تجتمع بعض هذه الأسباب والعوامل في بعض الأماكن، ولا تجتمع في أماكن أخرى، أو تجتمع في بعض الأزمنة، ولا تجتمع في غيرها، وقد يقوى أحد هذه الأسباب في زمان ويظهر دون غيره، وسواءً أكانت هذه الأسباب هي من الابتلاء أو من صنع أيدينا فإني أجملها في الأسباب التالية، والتي يمكن تقسيمها إلى مبحثين: المبحث الأول: أسباب الاستضعاف الداخلية. المبحث الثاني: أسباب الاستضعاف الخارجية.

المبحث الأول أسباب الاستضعاف الداخلية

المبحث الأول أسباب الاستضعاف الداخلية الأسباب الداخلية التي أدت إلى استضعاف المسلمين متعددة ونعرض في هذا المبحث لأبرز الأسباب من خلال المطالب التالية: المطلب الأول انشقاق المسلمين وتفرقهم لقد أخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بافتراق الأمة إلى فرق محذرًا منه، كما أخبر أن افتراق هذه الأمة سيكون أعظم من افتراق الأمم التي قبلها من أهل الكتابين (اليهود والنصارى)، بل وأخبر عليه الصلاة والسلام بما هو أعظم من الافتراق، وهو الاحتذاء بالأمم الكافرة فيما وقعوا فيه من موبقات وكبائر، ومنبع ذلك التفرق في الدين هو اتباع الهوى، عن أبي سعيد -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا: يا رسول اللَّه اليهود والنصارى؟ قال: فمن!) (¬1). وعن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول اللَّه؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) (¬2)، "والمراد الموافقة في المعاصي والمخالفات لا في الكفر، وفي هذا معجزة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم: 3269، ومسلم، كتاب العلم، باب إتباع سنن اليهود والنصارى، رقم: 2669. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق الأمة، رقم: 2641، وقال: "حديث حسن غريب"، والحاكم في المستدرك، رقم: 444، 1/ 218. قال المناوي إسناده صحيح.

ظاهرة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقد وقع ما أخبر به" (¬1). وهذه الأحاديث خرجت منه عليه الصلاة والسلام مخرج الخبر عن وقوع ذلك الافتراق، وعلى سبيل الذم لمن يفعله، وليست على سبيل الإقرار به (¬2). وفي الوصايا العشر التي أمر اللَّه بها كل الأمم حذَّر سبحانه من التفرق في الدين، فقال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. .} (¬3)، "وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد" (¬4). لقد كان لحب الدنيا والرئاسة والأثرة آثارها في تفرق المسلمين، بل وصل الحال ببعضهم إلى خيانة دينهم ووطنهم ومساندهم للأعداء سرًا وعلانيةً، مما أدى إلى استضعاف الأمة، وإلى إطالة عمر الاحتلال وتقويته، بل وتشجيعه على البقاء في ديار المسلمين والاستيلاء على المزيد، وإن خلا البلد من الاحتلال فإن وجود أمثال هؤلاء يؤدي إلى فرض الهيمنة والشروط السياسية وغيرها والتي تفوق في ضررها الاحتلال العسكري، فالموت إما أن يكون لأجل الحياة، وهو ما حث عليه القرآن من الجهاد لرد العدوان، وإما أن يكون لأجل استمرار الموت، وهو الموت في خدمة الاحتلال (¬5)، كما نجحت القوى الحاقدة على الإسلام، في شق ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 220. (¬2) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية: القاهرة، ط 2، 1369 هـ، 1/ 44. (¬3) سورة الأنعام، الآية [153]. (¬4) الجامع لأحكام القرآن، 7/ 138. (¬5) انظر: لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟، الأمير شكيب أرسلان، دار البشير: القاهرة، ط 1، د. ت، ص 60 - 61.

المطلب الثانى العصبية والعنصرية بين المسلمين

المسلمين وصدعهم، فظهرت فرق الخوارج وفرق الشيعة والباطنية بأنواعها، فأدى ذلك إلى تبديد طاقة المسلمين المادية والعسكرية والفكرية بتوجيهها إلى داخلهم في صراعات دامية وطويلة، كما ظهرت فرق أخرى استمرت مدارسها حتى اليوم كالمرجئة والمعتزلة وغيرها (¬1). وإن كان هذا العامل دينيًا (عقديًا) في الأصل إلا أنه سرعان ما تحول إلى عامل سياسي وغلف بالغلاف العقدي لتذكية ناره واستمرارها. * * * المطلب الثانى العصبية والعنصرية بين المسلمين لم تقتصر الفرقة بين المسلمين على تلك الفرق، بل إن الفرقة امتدت لجوانب كثيرة في حياة المسلمين اليوم، فهنالك الفرقة بسبب الانتماء للبلد بحسب التقسيم الحدودي بين الدول الإسلامية، وهنالك الفرقة داخل البلد الواحد بسبب الانتماء لمناطق معينة في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب، أو حتى بحسب المدن أو القرى، وهنالك الفرقة داخل القبيلة الواحدة وهكذا. وأصبح حال معظم المسلمين اليوم -إلا من رحم اللَّه- أشبه بحال أهل الجاهلية الذين كانوا يعاملون الناس بحسب ما لديهم من جاه أو أموال لا تقوى أو علم، وأشار القرآن الكريم في كثير من آياته إلى أولئك الذين اختصوا أنفسهم بامتيازات، وترفعوا على الناس، بل حتى على دعوات الرسل عليهم السلام، وفي السيرة النبوية الكثير من المواقف والأحداث التي تظهر هذا الواقع الطبقي الجاهلي (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، د. جميل عبد اللَّه المصري، مكتبة العبيكان: الرياض، ط 1، 1427 هـ، ص 43، وسر انحلال الأمة العربية ووهن المسلمين، ص 37 - 39. (¬2) انظر: العصبية القبلية من المنظور الإسلامي، د. خالد الجريسي، مؤسسة الجريسي: الرياض، ط 1، 1427 هـ، ص 37 - 38، والإسلام والعروبة مناقشة لآراء التيار الأصولي، مجدي رياض، مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر: القاهرة، ط 1، 1989 م، ص 96 - 97.

ولأن العصبية الجاهلية كانت من أهم أسباب الفرقة والتقاتل بين الناس، فقد ركز الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على إزالتها بل "وحاربها بكل قوة، ودون هوادة، وحذر منها، وسد منافذها؛ لأنه لا بقاء للدين العالمي، ولا بقاء للأمة الواحدة مع هذه العصبيات، ومصادر الشريعة الإسلامية زاخرة بإنكارها، وتشنيعها، وما أكثر النصوص في ذلك" (¬1)، ومن ذلك قوله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬2)، "يريد بذلك تعالى ذكره وتمسكوا بدين اللَّه الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر اللَّه" (¬3). وعندما سئل عليه الصلاة والسلام: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: (لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم) (¬4)، والمراد بالعصبية "هي المحاماة والمدافعة، والعصبي هو الذي يغضب لعصبته أي: أقاربه ويحامي عنهم" (¬5). ¬

_ (¬1) ردة ولا أبا بكر لها، لأبي الحسن الندوي، المختار الإسلامي: القاهرة، ط 1 , د. ت، ص 12. (¬2) سورة آل عمران، الآية [103]. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 4/ 30. (¬4) أخرجه أبو داود، 4/ 331، باب في العصبية، رقم: 5119، وابن ماجه، 2/ 1302، باب العصبية، رقم: 3949، قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه، 8/ 449: ضعيف، والإمام أحمد، 4/ 107، رقم: 17030. (¬5) شرح سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزوينى، بيروت: دار الجيل، ط 1، د. ت، 1/ 189، وانظر: عون المعبود، 14/ 17.

وقال عليه السلام: (من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه) (¬1). والمراد أن من نصر قومه على باطل أو مشكوك فقد وقع في الإثم وهلك، فحاله كالبعير الذي سقط في البئر، ويخرج ويرفع بذنبه من ورائه ولا يقدر على الخلاص (¬2). وعن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: (غَزَوْنَا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ من المهاجرين حتى كَثُرُوا، وكان من المهاجرين رجل لَعَّابٌ، فكَسَعَ (¬3) أنصاريا، فَغَضِبَ الأنصاري غضبا شديدا حتى تَدَاعَوْا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: (ما بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الجاهِلِيَّةِ)، ثم قال: (ما شَأْنُهُمْ؟) فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ المهاجري الأنصاري، قال فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (دعوهما فإنها خَبِيثَةٌ)، وقال عبد اللَّه ابن أبي بن سلول: أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا، لئن رجعنا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فقال عمر: ألا نقتل يا رسول اللَّه هذا الْخَبِيثَ لعبد اللَّه، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لا يتحدث الناس أنه كان يَقْتُلُ أصحابه)) (¬4). فأمرهم عليه الصلاة والسلام بترك دعوى الجاهلية؛ لأنها خبيثة منتنة، ودعوى الجاهلية في الأصل الاستغاثة عند إرادة الحرب كانوا يقولون: يا آل فلان فيجتمعون ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، 4/ 331، باب في العصبية، رقم: 5117، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 11/ 117: صحيح موقوفًا مرفوعًا، وأخرجه أحمد في المسند، 1/ 393، رقم: 3726. (¬2) انظر: عون المعبود، 14/ 18. (¬3) قال ابن حجر رحمه اللَّه: "قوله غزونا هذه الغزوة هي غزوة المريسيع، قوله: ثاب معه بمثلثة وموحدة، أي: اجتمع، قوله: رجل لعاب، أي: بطال، وقيل: كان يلعب بالحراب كما تصنع الحبشة، وهذا الرجل هو جهجاه بن قيس الغفاري، وكان أجير عمر بن الخطاب، والأنصاري هو سنان بن وبرة حليف بني سالم الخزرجي، فكَسع بفتح الكاف والمهملتين، أي: ضربه على دبره"، فتح الباري، 6/ 547. (¬4) صحيح البخاري، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية، 3330، ومسلم، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، رقم: 2584.

المطلب الثالث عدم الأخذ بأسباب القوة

فينصرون القائل ولو كان ظالما، فجاء الإسلام بالنهي عن ذلك، على الرغم من أن اسم المهاجرين والأنصار اسمان شريفان سماهم اللَّه بهما في كتابه فنهاهم عن ذلك وأرشدهم إلى أن يتداعوا بالمسلمين والمؤمنين وعباد اللَّه وهي الدعوى الجامعة بخلاف المفرقة كالفلانية والفلانية (¬1). "وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية" (¬2). لقد استبدل الإسلام التعصب الذي كان قائمًا عند أهل الجاهلية بالنصرة على الحق، والتعاون عليه، والحب في اللَّه، والبغض في اللَّه، وأي رابطة أو شعار أو دعوى تجمع الناس على الظلم والعدوان والإثم، فقد حاربها الإسلام، بل وأمر باستبدالها برابطة الاخوة الإسلامية. * * * المطلب الثالث عدم الأخذ بأسباب القوة ومن يتأمل في سيرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يجد أنه أخذ بأسباب القوة، ولجأ إلى الوسائل التي تحمي المسلمين وتقويهم، كأمره بالهجرة، ومن ثم بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية، وبعد ذلك بناء الدولة الإسلامية بالمدينة، وعقد التحالفات والعهود التي من شأنها تحييد الأعداء من اليهود حتى تقوى الدولة الإسلامية وتستقر شؤونها. ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري، 6/ 546 - 547، وتحفة الأحوذي، 9/ 154، ومدارج السالكين، محمد بن أبي بكر الزرعي ابن القيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي: بيروت، ط 2، 1393 هـ، 2/ 370. (¬2) الفتاوى، 28/ 328.

وليس المراد بالقوة الإعداد العسكري فحسب، بل إن من القوة إعداد من يحمل السلاح، بترسيخ الإيمان في قلوبهم؛ ليكونوا قادرين على مواجهة الأعداء، وتحمل الأعباء التي قد تواجههم، والقوة في كل أمر بحسبه، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، فإن الحرب خدعة وإلى القدرة على أنواع القتال من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك. . . والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام" (¬1). وقد أمرنا اللَّه عز وجل بالإعداد وهو من الأخذ بأسباب القوة، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (¬2)، و"الإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة" (¬3)، والقوة "كل ما يتقوى به على حرب العدو من آلة الجهاد" (¬4)، وقد فسرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالرمي، فقال عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر: ({وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي) (¬5). وفسر عليه الصلاة والسلام القوة بالرمي؛ لأنها أقوى أنواعها، وإن كانت تشمل الرمي وغيره (¬6)، قال القرطبي: "إنما فسر القوة بالرمي ¬

_ (¬1) الفتاوى، 28/ 253. (¬2) سورة الأنفال، الآية [60]. (¬3) معالم التنزيل، 2/ 258. (¬4) زاد المسير، 3/ 375. (¬5) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه، رقم: 1917، 3/ 1522. (¬6) انظر: تحفة الأحوذي، 5/ 278.

وإن كانت القوة تظهر بإعداد غيره من آلات الحرب؛ لكون الرمي أشد نكاية في العدو، وأسهل مؤنة؛ لأنه قد يرمي رأس الكتيبة فيصاب فينهزم من خلفه" (¬1). والآية أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة، ولو بلغت القوة من التطور ما بلغت، فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية، وعدم الجمود على الحالات الأول إذا طرأ تطور جديد، ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين، وقد أمر اللَّه المجاهدين بصلاة الخوف مما يدل على لزوم الجمع بين مكافحة العدو وبين القيام بما شرعه اللَّه جلَّ وعلا من دينه (¬2). وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: (المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى اللَّه منَ المؤمِن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما يَنفعك واستعن باللَّه ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قُل: قدر اللَّه، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) (¬3). قال النووي رحمه اللَّه: "والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداما على العدو في الجهاد، وأسرع خروجا إليه وذهابا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك واحتمال المشاق في ذات اللَّه تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبا لها، ومحافظة عليها ونحو ذلك، وأما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (وفي كل خير) فمعناه: في كل من القوي والضعيف خير؛ لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضعيف من العبادات" (¬4). ولا شك أن من أهم أسباب القوة الجهاد في سبيل اللَّه والإعداد له، والآيات والأحاديث الواردة في فضل الجهاد والحث عليه والتحذير من تركه وعواقب ذلك كثيرة ¬

_ (¬1) فتح الباري، 6/ 91. (¬2) انظر: أضواء البيان، 3/ 38. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة، رقم: 2664، 4/ 2052. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 215.

جدا، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬1)، قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: (ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل اللَّه، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل اللَّه) (¬2). عن أسلم أبي عمران قال: "غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه لا إله إلا اللَّه يلقي بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر اللَّه نبيه، وأظهر الإسلام، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل اللَّه عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل اللَّه حتى دفن بالقسطنطينية" (¬3). فترك الجهاد إلقاء بالنفس إلى التهلكة، كما أن تركه عند تعينه بأن دخل الحربيون دار الإسلام، أو أخذوا مسلما وأمكن تخليصه منهم، وترك الناس الجهاد من أصله، وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين يعد من الكبائر (¬4). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية [195]. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 3/ 584. (¬3) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، رقم: 2512، 3/ 12، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، رقم: 2972، 5/ 212، وقال: "حديث حسن صحيح غريب"، والحاكم، رقم: 2434، 2/ 94، وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وصحيح ابن حبان، محمد بن حبان التميمي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1414 هـ، رقم: 4711، 11/ 9. (¬4) انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر، أحمد بن حجر الهيثمى، لبنان: المطبعة العصرية، ط 2، 1420 هـ، 3/ 147.

وقد حذرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من ترك الجهاد والانشغال عنه وبين لنا أن عاقبة ذلك وهو الذل، فقال: (إذا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّه عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حتى تَرْجِعُوا إلى دِينِكُمْ) (¬1). والحديث فيه تحذير ووعيد شديد عن الاشتغال بالزرع في زمن يتعين فيه الجهاد، وإهمال القيام بوظائف العبادات، وترك الجهاد في سبيل اللَّه المتعين فعله، وعاقبة ذلك الذُل والهوان والضعف، ولا يرفع إلا بالرجوع إلى الدين، فجعل هذه الخصال من غير الدين ومرتكبها تارك للدين للمزيد من الزجر والتهويل والتقريع لفاعلها (¬2). كما بين لنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عاقبة ترك الجهاد، بقوله: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال ثوبان: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (لا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن اللَّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن اللَّه في قلوبكم الوهن)، قالوا: وما الوهن يا رسول اللَّه؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)، وفي رواية: (وكراهية القتال) (¬3). و"أصل الوهن والضعف عن الجهاد ومكافحة العدو هو حب الدنيا، وكراهية بذل النفوس للَّه، وبذل مهجها للقتل في سبيل اللَّه، ألا ترى إلى حال الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وقلتهم في ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب في النهي عن العينة، رقم: 3462، 3/ 274، وأحمد، رقم: 5562، 2/ 84، وقال الزيلعي: "صحيح ورجاله ثقات"، نصب الراية لأحاديث الهداية، عبد اللَّه بن يوسف الحنفي الزيلعي، تحقيق: محمد البنوري، مصر: دار الحديث، ط 1، 1357 هـ، 4/ 16. (¬2) انظر: عون المعبود، 9/ 242، وفيض القدير، 1/ 397. (¬3) أخرجه أبو داود، كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، رقم: 4297، وأحمد، 2/ 359، وابن أبي شيبة، 7/ 463، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 7/ 563: "رواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه وإسناد أحمد جيد".

صدر الإسلام وكيف فتح اللَّه بهم البلاد، ودان لدينهم العباد، لما بذلو للَّه أنفسهم في الجهاد، وحالنا اليوم كما ترى عدد أهل الإسلام كثير، ونكايتهم في الكفار نزر يسير، فهل هذا الزمان إلا زماننا بعينه، وتأمل حال ملوكنا إنما همتهم جمع المال من حرام وحلال وإعراضهم عن أمر الجهاد، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون على مصاب الإسلام" (¬1). والوهن أن يفعل الإنسان فعل الضعيف، ولهذا فقد نهى اللَّه عنه بقوله سبحانه: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬2)، أي: لا تفعلوا أفعال الضعفاء وأنتم أقوياء، فالوهن انكسار الجسد بالخوف وغيره، وأما الضعف نقصان القوة (¬3)، قال القرطبي: "عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل فقال: {وَلَا تَهِنُوا} "أي: لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم" (¬4)، "فإن وَهَن القلب مستدع لوَهَن البدن، وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء" (¬5). وقد قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬6). ¬

_ (¬1) الجواهر الحسان في تفسير القرآن (تفسير الثعالبي)، عبد الرحمن بن محمد الثعالبي، بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 1، د. ت، 1/ 318 - 319. (¬2) سورة آل عمران، الآية [139]. (¬3) انظر: الفروق اللغوية، الحسن بن عبد اللَّه العسكري، بيروت: الدار العربية للكتاب، ط 1، 1983 م، 1/ 330 - 331. (¬4) الجامع لأحكام القرآن، 4/ 216 - 217. (¬5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 1/ 199. (¬6) سورة النساء، الآية [104].

والوهن أدى إلى الهزيمة النفسية والضعف المعنوي، والعوامل التي أدت إلى هذا الضعف المعنوي لدى المسلمين متعددة من أهمها: ضعف الالتزام بمبادىء الدين وأحكامه، وانعدام الوحدة السياسية، وتخلي كثير من المسلمين عن الجهاد في سبيل اللَّه، والعصبية القبلية (¬1)، وهذا يظهر لنا تداخل أسباب الاستضعاف وارتباط بعضها ببعض. إن المسلمين بحاجة للأخذ بأسباب القوة في شتى المجالات سواءً العسكرية منها أو التعليمية والصناعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. * * * ¬

_ (¬1) انظر: الضعف المعنوي وأثره في سقوط الأمم - عصر ملوك الطوائف في الأندلس أنموذجا، د. حمد صالح السحيباني، الرياض: مجلة البيان، ط 1، 1423 هـ.

المبحث الثاني أسباب الاستضعاف الخارجية

المبحث الثاني أسباب الاستضعاف الخارجية الأسباب الخارجية التي أدت إلى استضعاف المسلمين متعددة ونعرض فى هذا المبحث لأبرز الأسباب من خلال المطالب التالية: المطلب الأول الاحتلال والاستعمار وما خلفه من آثار لقد تسابقت الدول الأوروبية إلى احتلال العالم الإسلامي أثناء وبعد سقوط الخلافة العثمانية، ومن أبرز هذه القوى الاستعمارية بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، فاستولت بريطانيا على مناطق، وفرنسا على أخرى، وإيطاليا على ثالثة، وروسيا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وأسبانيا والبرتغال على مناطق أخرى، وكان من أخطر نتائج هذا الاحتلال تفتيت العالم الإسلامي إلى دويلات (¬1). ولم تقتصر آثار الاستعمار على تقسيم العالم الإسلامي بل امتدت مخططاته للهدم لتطال كل شيء، وأول تلك الأمور العقيدة الإسلامية، فهو دائب على تخريج أجيال ملحدة، بإشاعة المنكر والفحشاء، وغايته القضاء على الإسلام في أوطانه، لقد التقت لديه الأحقاد الدينية مع الأطماع الدنيوية، وإن قسوة الاستعمار في الأماكن التي سيطر عليها كانت منسجمة مع قسوة الغربيين وجلافتهم وقرب عهدهم بالهمجية والتخلف، كما أن عقيدة الفداء ما تحدثه من آثار سلبية تزيد هذه الوحشية ضراوة عند النصارى عن غيرهم؛ لكونها تمنحهم الاعتقاد بالنجاة على الرغم من جرائمهم، إذ يكفي الإيمان بالمسيح لينجوا أو حتى الحصول على صك غفران، وعليه فهو لا يبالي بالوحشية والقسوة التي يتعامل بها مع الشعوب المستضعفة، ومع فقد النصرانية لوسائل الإقناع وعجز رجال الكنيسة عن ¬

_ (¬1) حاضر العالم الإسلامي الواقع والتحديات، د. عفاف سيد صبرة، د. مصطفى محمد الحناوي، الرياض: مكتبة الرشد، ط 1، 1424 هـ، ص 127 - 151.

شرح العقائد النصرانية في ضوء المعطيات العقلية، فإن الاستعمار ومنطق القوة هو الوسيلة لنشر النصرانية (¬1). عمل المستعمرون في البلاد التي احتلوها على فصل الدين عن الدولة وإلغاء الحكم الإسلامي، وإخضاع نظم البلاد للقوانين الوضعية، وإلغاء القضاء الإسلامي، والقضاء على اللغة العربية، ونشر لغة المستعمر والتعليم العلماني والضغط على التعليم الإسلامي، وإفساد أخلاق الشعوب المسلمة ونشر الإباحية، واستغلال خيرات البلاد الإسلامية، وربط الاقتصاديات والنقد بدولة الاستعمار، والسيطرة على وسائل الإعلام لتوجيه الرأي العام، والقضاء على حركات الجهاد الإسلامي، وتربية أجيال موالية للدول الاستعمارية (¬2). وكان من أبرز نتائج الاحتلال والاستعمار إقامة الكيان الصهيوني في وسط العالم الإسلامي لتلتقي النصرانية مع اليهودية على محاربة الإسلام وأهله، ولا زال الغرب يمده بكل ما يحتاجه ليكون الأقوى في المنطقة في كل الجوانب، كما أوجد الفرق الضالة ورعاها، كالقاديانية والبهائية وغيرها، ولم يحل الاستعمار في بلد إلا وأثار الفتن الداخلية فيه والدعوات الشعوبية أو القبلية أو المذهبية بغية تمزيق الأمة وإضعاف وحدة الشعوب المغلوبة، ولتحقيق أكبر المكاسب الممكنة فإنه لا يخرج إلا وقد شكل الحكومات التي تخلفه ممن أعدهم في جامعاته أو في كنائسه لأنهم وحدهم موضع الثقة ومناط الكفاية بل ومصدر التشريع لديه، حتى أصبح الاستقلال أسوأ من الاستعمار وأشد وطأة منه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الاستعمار أحقاد وأطماع، د. محمد الغزالي، القاهرة: نهضة مصر، ط 2، د. ت، ص 11 - 18. (¬2) انظر: أجنحة المكر الثلاثة، عبد الرحمن حبنكة الميداني، دمشق: دار القلم، ط 5، 1407 هـ، ص 176 - 179. (¬3) انظر: الاستعمار أحقاد وأطماع، ص 58 - 59، وأجنحة المكر الثلاثة، ص 273 - 280، والفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار، محمد البهي، القاهرة: مكتبة وهبه، ط 11، 1985 م، 41 - 42، 49، 63 - 65، الغزو الثقافي - الأجنبي للأمة العربية ماضيه وحاضره، حسين عبد اللَّه بانبيلة، الرياض: الرئاسة العامة لرعاية الشباب، ط 1، 1409 هـ، 133 - 168.

لم يكتف الاستعمار بتقسيم العالم الإسلامي بل حرص على تقسيم كل بلد تقسيمًا داخليًا، وأضاف إلى تلك التقسيمات تقسيم العالم إلى دول كبرى وعظمى تملك حق النقض (¬1) وغيره من الامتيازات، ودول نامية أو دول العالم الثالث، مع أن تلك الدول الكبرى تعتمد في كل شؤونها عما تصدره لها ما سُميت بالدول النامية من خيراتها الطبيعية، وتلك السياسة مارسها الكفار مع الأنبياء عليهم السلام، ومارسها المشركون مع المسلمين كما في حصار الشعب، واستخدمها اليهود للتفريق بين المسلمين في المدينة وكذلك المنافقين، الأمر ذاته لا زال قائمًا اليوم من خلال تقسيم العالم الإسلامي، حيث عمل الاحتلال على صنع مشاكل حدودية بين بعض البلدان والبعض الآخر قبل انسحابه منها لتجزئة العالم الإسلامي وتقسيمه، وأدرك الاحتلال خطورة وحدة الأمة عليه، لذا فقد ركز على قضية رسم الحدود بين الدول الإسلامية، وجعل من تراب الأرض فاصلًا بين أبناء الإسلام (¬2). إن الخلافات السياسية بين الدول الإسلامية هي نتيجة من نتائج الاحتلال والاستعمار، إلا أن هذا لا يُعفي الأمة من مسؤولياتها وواجباتها، إذ أن العوامل السياسية لا تنفك عن العوامل الدينية، فالدين بمفهومه الشمولي يتضمن الجانب السياسي حتى يقف الدارس أمام العوامل المؤثرة في موقف سياسي فيحسبها عوامل دينية والعكس بالعكس، لأن السياسة جزء من الإسلام لا ينفك عنه، ولا يفهم الإسلام بعمومه إلا بهذا الجزء (¬3). ¬

_ (¬1) "حق الاعتراض (فيتو) veto حق يتقرر لدولة أو دول معينة في أحد أجهزة (فروع) منظمة دولية يخولها الحق في الحيلولة دون صدور قرار لا توافق عليه، ومثاله الحق المقرر للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن" - معجم القانون، ص 625. (¬2) انظر: حاضر العالم الاسلامي الواقع والتحديات، ص 151 - 161. (¬3) انظر: أسباب الضعف في الأمة الإسلامية، د. محمد السيد الوكيل، مصر: دار الأرقم، ط 1، 1409 هـ، ص 27.

المطلب الثانى الغزو الفكري والثقافي

المطلب الثانى الغزو الفكري والثقافي (¬1) إن الغزو الثقافي الذي يجتاح الأمة الإسلامية صنو للغزو العسكري الذي جاس خلال ديارها من بضعة قرون، وألحق بالأمة خسائر مادية ومعنوية فادحة (¬2) وإن ركائز الغزو الفكري وأدواته هي: الصهيونية، والتنصير، والاستعمار، والنظريات والمبادىء المعادية للإسلام كالديمقراطية والرأسمالية والشيوعية والاشتراكية وما يتفرع عنها من نظم وفلسفات هدامة (¬3). لقد نجح الغزو الثقافي في بلوغ غايته، منذ أن قدر على إسقاط دولة الخلافة، وإقامة سبعين جنسية على أنقاضها، وأخذ يصرف الناس رويدًا رويدًا عن رباط العقيدة وندائها، ويشغلهم داخل حدودهم الوطنية بأزمات الرغيف، أو برغبات الجنس وشهوات أخرى. وهناك سماسرة مكرة موظفون في ميادين إعلامية وسياسية لحراسة هذا التمزيق واستدامته (¬4). ¬

_ (¬1) عرف الغزو الفكري بأنه: "استعمار الناس عقلًا وقلبًا وإرادة، والسيطرة عليهم لإبعادهم عن عقيدتهم ورسالتهم في الحياة بشتى الوسائل والأساليب المختلفة. فهو يمثل الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية، وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام مما يتعلق بالعقيدة وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك"، واقعنا المعاصر، محمد قطب، جدة: مؤسسة المدينة للصحافة، ط 1، 1457 هـ، ص 195. (¬2) انظر: الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، د. محمد الغزالي، مصر: دار الشروق، ط 1، د. ت، ص 32. (¬3) انظر: الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام بحوث مؤتمر الفقه الإسلامي، د. علي عبد الحليم محمود، الرياض: جامعة الامام محمد بن سعود الإسلامية، ط 1، 1401 هـ، ص 131 - 173، ومجتمعنا المعاصر أسباب ضعفه ووسائل علاجه، د. عبد اللَّه المشوخي، الأردن: مكتبة المنار، ط 1، 1407 هـ، ص 309 - 319. (¬4) الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، ص 58.

إن الحروب الصليبية مستمرة بأساليب أكثر ذكاء، وأعمق تأثيرًا، وأوسع انتشارًا (¬1) إن الغزو الفكري يهدف إلى تشويه صورة الإسلام بمحاولة تشويه القرآن الكريم، والسنة النبوية، بل وشخص النبي الكريم -صلى اللَّه عليه وسلم-، والتاريخ الإسلامي، ونظام الحياة الإسلامية والتراث الإسلامي، ونشر الإلحاد، والتشكيك في تاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها، وتذويب شخصية الأمة، وإحلال عناصر ثقافية جديدة، وذلك باستخدام وسائل مباشرة كالاستعمار، والاستشراق، والتنصير، والتغريب، والعلمانية، ووسائل غير مباشرة بالسيطرة على أجهزة التشريع واتخاذ القرار، والتغلغل إلى أجهزة التعليم، وتوجيه الإعلام، وتشويه القيادات الدينية والاجتماعية، وصناعة قيادات مزيفة، وغزو الحياة الاجتماعية (¬2). إنها معركة طويلة أدت لاستضعاف المسلمين ووقوعهم تحت هزائم داخلية معنوية واقتصادية وتعليمية وثقافية قبل الهزيمة العسكرية أمام أعدائها من الخارج، أخبرنا اللَّه عز وجل عنها وعن أسبابها، فقال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬3)، كما أخبر سبحانه عن استمرارها، فقال عز وجل: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ ¬

_ (¬1) وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي، د. حسان محمد حسان، مطبوعات مكة المكرمة: رابطة العالم الإسلامي، ط 1، د. ت، ص 28. (¬2) انظر: وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي، ص 50 - 78. والغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام، بحوث مؤتمر الفقه الاسلامي، ص 25 - 103. (¬3) سورة البقرة، الآية [109].

المطلب الثالث الحصار بمختلف أشكاله وصوره

أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1)، وحذرنا اللَّه عز وجل من طاعة الكفار، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (¬2)، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (¬3). * * * المطلب الثالث الحصار بمختلف أشكاله وصوره لقد كانت الصورة القديمة للحصار هي اجتماع الجيوش حول المدينة أو القلعة حتى ينفذ طعامها ومؤونتها وتستسلم أو يمل المحاصرين وينسحبوا، أما اليوم فإن الحصار أخذ أشكالًا أخرى متعددة مع بقاء هذه الصورة التقليدية، فأصبحنا نسمع ونرى الحصار الاقتصادي والتجاري، والحصار التقني والصناعي، بل حتى الطبي والعلمي كصورة من صور الحصار. وفي زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقع الحصار على المسلمين مرتين: المرة الأولى سنة سبع من البعثة في شعب أبي طالب بعدما رأت قريش ازدياد أعداد المسلمين فأجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني عبد المطلب وبني عبد مناف أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يسلموا إليهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكتبوا بذلك صحيفة (¬4) وعلقوها في سقف ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية [217]. (¬2) سورة آل عمران، الآية [100]. (¬3) سورة آل عمران، الآية [149]. (¬4) قال ابن القيم: "يقال كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال النضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فشلت يده"، زاد المعاد، 3/ 30.

الكعبة وانحاز بنو هاشم وبنو المطلب كلهم: كافرهم ومؤمنهم، فصاروا في شعب أبي طالب محصورين، حاشا أبا لهب وولده، فإنهم صاروا مع قريش على قومهم، وآذوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه -صلى اللَّه عليه وسلم- أذى شديدًا وضربوهم في كل طريق وحصروهم في شعبهم وقطعوا عنهم المادة من الأسواق فلم يدعوا أحدا من الناس يدخل عليهم طعاما ولا شيئا مما يرفق بهم حتى بلغهم الجهد وسمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب فبقوا كذلك ثلاث سنين (¬1). "إن أعداء اللَّه في كل زمان ومكان يلجؤون إلى استخدام سلاح محاربة الدعاة في أرزاقهم، ليستكينوا ويرجعوا عما يدعون إليه. وهو أسلوب يتفق عليه المشركون والمنافقون. ولو كان المسلمون الأوائل موظفين أو مستخدمين في دولة تخالفهم فيما يدعون إليه، للجأت تلك الدولة إلى فصلهم من أعمالهم كوسيلة من وسائل الحرب التي تتخذها ضدهم. ولكن الوسيلة المتاحة في ذلك الوقت في هذا الميدان كانت المقاطعة" (¬2). وأما الحصار الثاني الذي وقع على المسلمين في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو يوم الأحزاب (الخندق) في العام الخامس من الهجرة، وهي الغزوة التي ابتلى اللَّه تعالى فيها المؤمنين وثبت الإيمان في قلوبهم وأظهر ما كان يبطنه أهل النفاق واليهود (¬3)، وقد كانت من أحرج ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الأمم والملوك، 1/ 552 - 553، والكامل في التاريخ، ابن الأثير، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1978 م، 1/ 604 - 606، والبداية والنهاية، 3/ 85 - 97، وجوامع السيرة، علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي الظاهري، تحقيق: إحسان عباس، مصر: دار المعارف، ط 1، 1900 م، 1/ 64 - 65، والمبتدأ والمبعث والمغازي (سيرة ابن إسحاق)، محمد بن إسحاق بن يسار، تحقيق: محمد حميد اللَّه, ط 1، 1396 هـ، 2/ 140، وزاد المعاد، 3/ 29 - 30. (¬2) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص 221. (¬3) انظر: زاد المعاد، 3/ 269 - 271، والسيرة الحلبية، 2/ 628.

المواقف التي واجهها المسلمون، وقد وصفها اللَّه عز وجل بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (¬1)، وعن عائشة -رضي اللَّه عنها-: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (¬2) قالت: (كان ذاك يوم الخندق) (¬3)، وأثنى سبحانه وتعالى على المؤمنين ليقينهم وثباتهم وتسليمهم لأمره عز وجل، ورزقهم بذلك النصر والظفر على الأعداء فقال سبحانه: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬4). ووقوع الحصار ليس عذرًا لبقاء الاستضعاف والاستكانة للأعداء والخضوع لهم ولشروطهم التي يريدون فرضها، ولقد رفض الرعيل الأول تبعات الحصار بالرغم من شدة الحصار وتكالب الأحزاب وذلك عندما أراد عليه الصلاة والسلام أن يكسر شوكة المشركين بأن يصالح غطفان على شطر ثمار المدينة واستشار السعدين سعد بن معاذ وسعد ابن عبادة -رضي اللَّه عنهما- في ذلك فقالا له: (يا رسول اللَّه: أوحى من السماء فالتسليم لأمر اللَّه، أو ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآيات [9 - 12]. (¬2) سورة الأحزاب، من الآية [10]. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، رقم: 3877، ومسلم، كتاب التفسير، رقم: 3020. (¬4) سورة الأحزاب، الآية [22].

عن رأيك أو هواك؟ فرأينا تبع هواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا، فواللَّه لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا ثمرة إلا شراء أو قرى) (¬1). وعندما أخبر رسولنا -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الطائفة المنصورة ذكر من صفاتهم وقوع الحصار عليهم، فعن أبي أمامة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر اللَّه وهم كذلك)، قالوا يا رسول اللَّه: وأين هم؟ قال: (ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس) (¬2)، قال الطبري رحمه اللَّه: "يعني النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باللأواء الشدة، إما في المعيشة من جدب وقحط، أو حصار، وإما في الأبدان من الأمراض والعلل، أو الجراح، يقال من ذلك: أصابت القوم لأواء" (¬3). ولهذا فقد وصف اللَّه عز وجل ما كان عليه أتباع الأنبياء عليهم السلام من إيمان راسخ وإرادة وعزيمة ومدحهم؛ لكي نتأسى بهم، فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (¬4) أي: "فما عجزوا لما نالهم من ألم الجراح الذي نالهم في سبيل اللَّه، ولا لقتل من قُتل منهم، عن حرب أعداء اللَّه، ولا نكلوا عن جهادهم، {وَمَا ضَعُفُوا} يقول: وما ضعفت قواهم ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 61. (¬2) أخرجه أحمد، 5/ 269، رقم: 22374، قال الألباني في السلسلة الصحيحة، 4/ 456: فالصواب أن يقال: "وفيه من لم يوثق، إلا من ابن حبان، فإنه وثق أحدهم". (¬3) تهذيب الآثار مسند علي، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمود شاكر، القاهرة: مطبعة المدني، ط 1، د. ت، 2/ 835. (¬4) سورة آل عمران، الآية [146].

لقتل نبيهم، {وَمَا اسْتَكَانُوا} يعني: وما ذلوا فيتخشَّعوا لعدوّهم بالدخول في دينهم ومداهنتهم فيه خيفة منهم، ولكن مضوا قُدُمًا على بصائرهم ومنهاج نبيِّهم، صبرًا على أمر اللَّه وأمر نبيهم، وطاعة للَّه واتباعًا لتنزيله ووحيه" (¬1). وإن للحصار أشكالًا متعددة كما مضت الإشارة لذلك، ومن صور الحصار المعاصرة تغييب الاقتصاد الإسلامي عن واقع حياة المسلمين، ولقد نجم عن إغفال تطبيق نظام الاقتصاد الإسلامي تغلغل المؤسسات الربوية في العالم الإسلامي وسيطرتها الكاملة على السيولة النقدية، والتخلف الاقتصادي والصناعي بالرغم من وفرة الثروات والموارد وتنوعها، كما بقيت الدول الإسلامية ضمن دائرة التبعية الاقتصادية الشرقية أو الغربية، ناهيك عن تفاقم مشكلات الفقر والبطالة، والانغماس في الاستهلاك، وزيادة مديونية العالم الإسلامي، وفوضى التخطيط وعدم إفساح المجال للاقتصاد الإسلامي، فحالت كل هذه الأوضاع دون قيام التنمية الشاملة أو استثمار الموارد، بل أصبحت الدول الإسلامية مرتعًا للنظم الاقتصادية الأجنبية وتبعًا لها، مع استمرار استنزاف خيرات العالم الإسلامي بصور شتى وبمسميات تتنوع بما يتناسب مع كل عصر (¬2). إن واقع اقتصاد العالم الإسلامي اليوم في أكثر البلاد الإسلامية أليم، فالدخل القومي يضع الفرد المسلم في المستوى الأدنى، والخيرات تؤخذ من العالم الإسلامي لتعاد وتباع بأضعاف سعر الشراء، وأما الإنتاج والصناعة فهي محدودة لا ترقى إلى الصناعات الثقيلة، وأكثر الدول الإسلامية تستورد أكثر مما تصدر، أما الابتعاد عن النظام الاقتصادي الإسلامي فقد زاد من تفاقم المشكلات الاقتصادية (¬3)، وهذا الانهيار الاقتصادي ¬

_ (¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 7/ 269. (¬2) انظر: حاضر العالم الإسلامي الواقع والتحديات، ص 256 - 257. (¬3) انظر: حاضر العالم الإسلامي، د. علي جريشة، القاهرة: مكتبة وهبة، ط 4، 1991 م، ص 79 - 80.

والاجتماعي عاد على الأمة بأفدح الخسارة على عقيدتها وشريعتها، وأفقدها احترام العدو والصديق. أما كلمة الجهاد فتصبح والحالة هذه لغوًا، فأي جهاد يرتقب من اعزل فارغ اليد؟ فكيف إذا ضم إلى ذلك فراغ القلب والعقل؟ إن الأمة التي تنحدر إلى هذا الدرك تتعرض يقينًا للاغتصاب والمهانة (¬1). ومجمل القول فيما سبق أن أبرز أسباب الاستضعاف هي: انشقاق المسلمين إلى فرق، والعصبية والعنصرية بين المسلمين، وعدم الأخذ بأسباب القوة، والاحتلال والاستعمار وما خلفه من آثار، والحصار بمختلف أشكاله وصوره، والغزو الفكري والثقافي، ونلحظ التداخل والترابط بين هذه الأسباب، أما وسائل دفع الاستضعاف فهي ما سيتناولها الفصل التالي. * * * ¬

_ (¬1) انظر: الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، ص 49.

الفصل الثاني وسائل دفع الاستضعاف

الفصل الثاني وسائل دفع الاستضعاف وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: الأخذ بأسباب القوة. المبحث الثاني: الوحدة الإسلامية. المبحث الثالث: الدخول في الجوار. المبحث الرابع: المعاهدات والتحالفات. المبحث الخامس: الجهاد. المبحث السادس: الهجرة.

تمهيد

تمهيد وردت النصوص الشرعية في بيان بعض الوسائل التي من شأنها أن تدفع الاستضعاف، كالهجرة، والدخول في الجوار، والمعاهدات والتحالفات، والأمر بالأخذ بأسباب القوة، وهي ما سوف يستعرضه هذا الفصل من خلال ستة مباحث، وهي: المبحث الأول الأخد بأسباب القوة أمرنا اللَّه عز وجل بالإعداد والأخذ بأسباب القوة، وحذرنا سبحانه من الترف والركون إلى الكفار، كما أمرنا الرسول صلى اللَّه عليه وسلم بالأخذ بأسباب القوة في شتى المجالات، إلا أن هنالك مجالات لا يمكن إهمالها، وإلا فلن يدفع الاستضعاف، ولن تتغير الأحوال، وهذه المجالات ستتطرق لها المطالب التالية: المطلب الأول قوة العقيدة إن كانت الوحدة من أهم أسباب قوة المسلمين، فإنها لا يمكن أن تتم بلا رابطة العقيدة، فهي رابطة التجمع الأساسية في المجتمع الإسلامي، والذي تعتبر فيه العقيدة هي الجنسية (¬1)، وهي سر الثبات والصبر ومنبع القوة المعنوية رغم الضعف المادي، وعندما كان بنو مخزوم يعذبون عمار بن ياسر وأبوه وأمه، ما كان يملك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا أن يقول لهم: (صبرا يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة) (¬2)، وعن خباب ابن الأرت -رضي اللَّه عنه- قال: شكونا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر ¬

_ (¬1) انظر: معالم في الطريق، ص 109. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك، 3/ 432، رقم: 5646، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وقال في مجمع الزوائد 9/ 293: "رواه الطبراني ورجاله ثقات".

لنا ألا تدعو اللَّه لنا، فاحمر لونه أو تغير، فقال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، واللَّه ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا اللَّه أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون) (¬1). ولما توعّد فرعون بني إسرائيل جزعوا وتضجّروا فسكنهم موسى عليه السلام وأمرهم (بالاستعانة باللَّه وبالصبر وسلاهم ووعدهم النصر وذكرهم بوعد اللَّه لهم بإهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم) (¬2)، قال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3)، فكانت العاقبة كما قال سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (¬4). إن العقيدة هي الأساس والمنطلق لدعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبقدر قوتها يكون عطاء المسلم وبذله وتضحيته وصبره، والإيمان باللَّه عز وجل يكسب قوة الإرادة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، رقم: 3416، وابن حبان، 7/ 156، رقم: 2897، والإمام أحمد في مسنده، 5/ 109، رقم: 21095. (¬2) انظر: البحر المحيط، محمد بن يوسف أبو حيان الأندلسي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1422 هـ، 4/ 367. (¬3) سورة الأعراف، الآية [128]. (¬4) سورة الأعراف، الآية [137].

المطلب الثانى القوة العسكرية

والعزيمة بالإضافة إلى القوة المادية، قال تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (¬1)، وإن الانحراف في جانب العقيدة أدى إلى إيمان لا تأثير له في المجتمعات، ولا يتجاوز الترديد دون العمل بالمقتضيات، بالإضافة لانتشار الشرك الخرافات والسحر والشعوذة والتعلق بالأضرحة والاستغاثة بالمخلوقات، وغيرها من الضلالات، إن النهوض بالأمة وتخلصها من الاستضعاف لا يكون إلا بعقيدة راسخة قوية، ولذا كانت المرحلة المكية مرحلة بناء للعقيدة، وهذا لا يعني التركيز عليها وحدها، بل لا بد أن يتبعها العمل في مختلف المجالات، فإن الإيمان قول وعمل (¬2). * * * المطلب الثانى القوة العسكرية قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (¬3) أمر اللَّه تعالى المؤمنين بإعداد السلاح قبل وقت القتال إرهابا للعدو (¬4)، "فالأمر في الآية للوجوب لأن التهيؤ لجهاد العدو ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية [52]. (¬2) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، علي بن أبي العز الدمشقي، تحقيق د. عبد اللَّه التركي، وشعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسسة الرصالة، ط 2، 1413 هـ، 474 - 478، فقه الأولويات - دراسة في الضوابط، محمد الوكيلي، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 1، 1997 م، ص 95 - 97. (¬3) سورة الأنفال، الآية [60]. (¬4) انظر: أحكام القرآن للجصاص، 4/ 252.

والاستعداد لملاقاته بدخول جيشنا إلى داره كل سنة أو بعمارة الثغور ونحوها حتى لا يبقى له سبيل إلى دخول دارنا واجب على الكفاية" (¬1)، وذم سبحانه المنافقين على ترك الاستعداد للجهاد والتقدم (¬2)، {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} (¬3)، ولم يأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جهدًا لتقوية المسلمين، إلا أن رحمة اللَّه اقتضت ألا يحمل المسلمين واجب القتال، حتى توجد لهم دار إسلام، وحتى يتربوا التربية التي تؤهلهم للجهاد (¬4)، ولما كان هذا الأمر متعذرًا في المرحلة المكية فإن المسلمين امتنعوا بأقوامهم وعشائرهم وبالجوار، ومن لم يقدر على ذلك ولم يكن له عشيرة تمنعه فقد أمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالهجرة إلى الحبشة، ولما جاءت بيعة العقبة الثانية كانت الفرصة قد حانت لهذا الإعداد، لذا: "فقد كانت البيعة الأولى لبث النظم الإسلامية التي يقوم عليها بناء الدولة القويم. . . والبيعة الثانية كانت لتكوين الدولة بالذود عن حياضها" (¬5)، وليس المراد هنا بحث مراحل الجهاد وأطواره في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو بيان فضله وفضل الرباط، وإنما المراد التأكيد على أن الإعداد والجهاد في سبيل اللَّه من وسائل دفع الاستضعاف. * * * ¬

_ (¬1) الفتاوى الفقهية الكبرى، أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت، 4/ 262. (¬2) انظر: أحكام القرآن للجصاص، 4/ 253. (¬3) سورة التوبة، الآية [46]. (¬4) انظر: فقه السيرة النبوية، د. محمد البوطي، دمشق: دار الفكر، ط 7، 1398 هـ، ص 133، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، 256، ومعالم على الطريق، ص 68 - 72. (¬5) الوحدة الإسلامية، د. محمد أبو زهرة، بيروت: دار الرائد العربي، ط 1، 1978 م، ص 54.

المطلب الثالث القوة الاقتصادية

المطلب الثالث القوة الاقتصادية ومن الأخذ بأسباب القوة تقوية الجانب الاقتصادي والصناعي للأمة، فاللَّه عز وجل أمرنا بعمارة الأرض، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (¬1)، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (¬2)، والإنتاج جزء من تلك العمارة، والأمة المنتجة تسد حاجاتها وتستغني عن غيرها، كما حد الإسلام من إنتاج سلع الرفاه والترف حفاظًا على موارد المجتمع وطاقاته وتوجيهها الوجهة الصحيحة (¬3). كما جاءت التوجيهات النبوية الكريمة في الحث على عمارة الأرض واستغلالها بما يعود بالنفع على الفرد والأمة، ومن ذلك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة) (¬4). وحث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على العمل، فقال: (ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي اللَّه داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) (¬5). بل وحذر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الاكتفاء ببعض مقومات الاقتصاد، وإهمال البعض الآخر، مثل الاكتفاء ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية [10]. (¬2) سورة الملك، الآية [15]. (¬3) انظر: أصول الاقتصاد الإسلامي، د. رفيق المصري، دمشق: دار القلم، ط 4، 1426 هـ، ص 85 - 124، والأسس النظرية للاقتصاد الإسلامي، د. خالد المقرن، د. ن، ط 1 , 1424 هـ، ص 95 - 97، ومدخل للفكر الاقتصادي في الإسلام، د. سعيد مرطان، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1417 هـ، ص 77. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، رقم: 2195، ومسلم، كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع، رقم: 1552. (¬5) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، رقم: 1966.

المطلب الرايع القوة السياسية

بالزراعة دون الصناعة وغيرها، مما يعرض الأمة للخطر (¬1)، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّه عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حتى تَرْجِعُوا إلى دِينِكُمْ) (¬2). إن القوة الاقتصادية عصب الحياة الدنيا وقوامها، وهي عامل من عوامل قوة الدعوة الإسلامية وانتشارها، ووسيلة من وسائل حمايتها والحفاظ على مكتسباتها، ولهذا ينبغي السعي الجاد لإيجاد منظومة متكاملة للاقتصاد الإسلامي بين الدول الإسلامية؛ لكي يقودنا هذا إلى الوحدة السياسية كما تسعى لذلك الدول غير الإسلامية مثل دول الاتحاد الأوروبي وغيرها (¬3)، لذا ينبغي للمستضعفين السعي للاكتفاء الاقتصادي الذاتي بالإنتاج الزراعي والصناعي والتقني وفقًا للقدرات والإمكانات المتاحة، وعلى الدول الإسلامية ذات القوة الاقتصادية أن تسخر هذه القوة في حماية المستضعفين من المسلمين بربط المصالح الاقتصادية بمنح المستضعفين حقوقهم ورفع الظلم عنهم. * * * المطلب الرايع القوة السياسية مهما كانت الأمة قوية في الجانب العسكري إلا أنها ستفقد كل مكتسباتها إن لم يكن لديها قوة في الجانب السياسي، فإدراك الأمة لواقع القوى من حولها من الأعداء أو الحلفاء، يتيح لها التعامل الإيجابي مع تلك القوى، والاستفادة من التحالفات والمتغيرات، وأن تحافظ على مكتسباتها، لقد كان الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يدرك ما يدور حوله، فأمر بالهجرة إلى ¬

_ (¬1) انظر: فقه الجهاد، د. يوسف القرضاوي، القاهرة: مكتبة وهبة، ط 1، 2009 م، ص 219. (¬2) سبق تخريجه، ص 117. (¬3) انظر: تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، د. علي الصلابي، الإسكندرية: دار الإيمان، ط 1، 2002 م، ص 338 - 343.

الحبشة؛ لأن فيها ملكًا لا يظلم عنده أحد، ولما وصل إلى المدينة كتب الصحيفة بينه وبين يهود المدينة، وعقد المعاهدات مع القبائل من حول المدينة لعزل قريش، ومن ذلك: المعاهدة مع قبيلة بني ضمرة، وقبيلة خزاعة، وبنو غفار، وقبيلة جهينة، كما راسل الملوك والرؤساء خارج الجزيرة العربية في الفترة من هدنة الحديبية 6 هـ وغزوة تبوك 9 هـ (¬1)، قال ابن القيم رحمه اللَّه: "لما رجع من الحديبية كتب إلى ملوك الأرض وأرسل إليهم رسله، فكتب إلى ملك الروم، فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا إذا كان مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقش عليه ثلاثة أسطر، محمد سطر، ورسول سطر، واللَّه سطر، وختم به الكتب إلى الملوك، وبعث ستة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع" (¬2)، ثم ذكر بقية الرسل الذين بعثهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. إن القوة السياسية تقتضي معرفة المستضعفين للجوانب التي يمكن من خلالها حماية أنفسهم، سواء بمعرفتهم للأنظمة والقوانين، أو للعادات والتقاليد، قال السعدي رحمه اللَّه: " {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} أي: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي: والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير" (¬3). ¬

_ (¬1) للمزيد انظر: الفقه السياسي للوثائق النبوية، ص 117 - 181. (¬2) زاد المعاد، 1/ 119 - 120. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 1/ 324.

المطلب الخامس القوة الإعلامية

المطلب الخامس القوة الإعلامية أقسم اللَّه عز وجل بالقلم فقال سبحانه: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (¬1)، وهو القلم المعروف عند الناس على أحد أوجه التفسير، وأقسم اللَّه به لما فيه من المنافع والحكم (¬2)، وإن الجهاد يكون بالسنان وكذلك بالبيان، عن أنس -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) (¬3). قال ابن تيمية: "من المعلوم أن القتال إنما شرع للضرورة ولو أن الناس آمنوا بالبرهان والآيات لما احتيج إلى القتال فبيان آيات الإسلام وبراهينه واجب مطلقا وجوبا أصليًا، وأما الجهاد فمشروع للضرورة. . . ومعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره باليد والقتال، فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين فآمنت به المهاجرون والأنصار طوعًا واختيارًا بغير سيف، لما بان لهم من الآيات البينات والبراهين والمعجزات، ثم أظهره بالسيف، فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعًا فلأن يجب علينا بيان الإسلام وإعلامه ابتداء ودفعًا لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأحرى، فإن وجوب هذا قبل وجوب ذاك ومنفعته قبل منفعته، ومعلوم أنه يحتاج كل وقت إلى السيف، فكذلك هو محتاج إلى العلم والبيان ¬

_ (¬1) سورة القلم، الآية [1]. (¬2) انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، محمد بن أحمد الغرناطي الكلبي، لبنان: دار الكتاب العربي، ط 4، 1403 هـ، 4/ 137. (¬3) أخرجه أبو داود، كتاب، باب كراهية ترك الغزو، رقم: 2502، والنسائي، رقم: 3096، مسند الإمام أحمد، 3/ 124، رقم: 12268، والحاكم في المستدرك، 2/ 91 , رقم: 2427، وقال: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي.

وإظهاره بالعلم والبيان من جنس إظهاره بالسيف" (¬1)، وقال أيضًا: "الجهاد المكي بالعلم والبيان، والجهاد المدني مع المكي باليد والحديد، قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (¬2)، وسورة الفرقان مكية، وإنما جاهدهم باللسان والبيان" (¬3). وقال ابن القيم رحمه اللَّه: "الدعوة إلى اللَّه ورسوله جهاد بالقلب وباللسان، وقد يكون أفضل من الجهاد باليد" (¬4)، "فلا ينبغي أن يقتصر على جهاد أعداء اللَّه بالسنان، بل يُضم إليه الجهاد باللسان" (¬5)، وهذه النصوص تظهر أهمية الإعلام وأنه من الجهاد في سبيل اللَّه. كما أن من وسائل الجهاد باللسان الشعر، ولأهميته في المعركة مع الكفار أثنى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على حسان بن ثابت وأمره بهجائهم، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يضع لحسان منبرا في المسجد فيقوم عليه يهجو من قال في رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إن روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) (¬6)، لقد كان ¬

_ (¬1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: د. علي ناصر، د. عبد العزيز العسكر، د. حمدان محمد، الرياض: دار العاصمة، ط 1، 1414 هـ، 1/ 238 - 239. (¬2) سورة الفرقان، الآية [52]. (¬3) الفتاوى، 28/ 38. (¬4) أحكام أهل الذمة، محمد بن أبي بكر ابن القيم، تحقيق: يوسف أحمد البكري، شاكر توفيق العاروري، الدمام، بيروت: رمادى للنشر، دار ابن حزم، ط 1، 1418 هـ - 1997 م، 3/ 1254. (¬5) فيض القدير، 2/ 387. (¬6) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب ما جاء في الشعر، رقم: 5015. وفي رواية مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان بن ثابت، رقم: 2490، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول لحسان: (إن روح الْقُدُسِ لا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ ما نَافَحْتَ عن اللَّه ورسوله)، وقالت: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: (هَجَاهُمْ حسان فَشَفَى وَاشْتَفَى).

الشعر جزءًا مما يسمى اليوم الحرب الإعلامية، ولكل عصر وسائله ومزاياه، ونحن نرى اليوم قدرة وسائل الإعلام وتأثيرها على القرار السياسي وعلى الرأي العام، لقدرتها على نقل الصورة وما يشكله ذلك من أهمية وتأثير، ولذا أخبرنا الرسول الكريم بأن السماع ليس كالمشاهدة والرؤية، بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لَيْسَ الخُبَرُ كَالمُعَايَنَةِ إن اللَّه عز وجل أَخْبَرَ مُوسَى بِمَا صَنَعَ قَوْمُهُ في الْعِجْلِ فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ فَلَمَّا عَايَنَ مَا صَنَعُوا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فَانْكَسَرَتْ) (¬1)، ومن فوائد هذا الحديث الإشارة إلى أثر الرؤية والمشاهدة على الإنسان وعلى تصرفاته، وقد قيل: إن بين الحق والباطل أربعة أصابع، إشارة إلى المسافة بين العين والأذن، وقد وقع لرسولنا -صلى اللَّه عليه وسلم- مثل ما وقع مع أخيه موسى عليه السلام، فعن أسامة بن زيد -رضي اللَّه عنهما- قال: (أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرِىءُ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: (إِنَّ للَّه مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ)، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ، قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ: (كَأَنَّهَا شَنٌّ)، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّه مَا هَذَا؟ فَقَالَ: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّه فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّه مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) (¬2)، فحبيبنا -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يبك عندما أرسلت له ابنته زينب -رضي اللَّه عنها- أن ابنها يحتضر، ولكنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سرعان ما فاضت عيناه بالدمع وبكى لما رآه، فليس من سمع كمن رأى. ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك، 2/ 351، رقم: 3250، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وصحيح ابن حبان، 14/ 96، رقم: 6213، والإمام أحمد في مسنده، 1/ 271، رقم: 2447، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 153: "رجاله رجال الصحيح". (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (يعذب اللَّه)، رقم: 1224، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، رقم: 923.

المطلب السادس القوة المعنوية

مما تقدم يتبين لنا أهمية وسائل الإعلام -من صحف ومجلات وإذاعات وفضائيات ومواقع على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) - ودورها في كشف ممارسات الظلمة والطغاة ضد المستضعفين وفضحهم، مما يؤدي إلى إزالة الظلم عن المستضعفين ورفعه جزئيًا أو كليًا، وما كان حصار المستضعفين في شعب أبي طالب إلا دعاية إعلامية للمسلمين يراها كل زائر لمكة، وإظهارًا لقسوة وظلم وطغيان قريش وخروجها عن القيم والأخلاق الفاضلة. * * * المطلب السادس القوة المعنوية لقد كانت السرايا التي أرسلها الرسول صلى اللَّه عليه وسلم قبل غزوة بدر مقتصرة على المهاجرين، وكان من فوائد هذا أن يتجرأ المستضعفون من المهاجرين على الذين استكبروا من طواغيت مكة فما عاد لهم وزن في نفوسهم، فأصبحوا على أهبة الاستعداد النفسي والفني لقتال الكفار في أي معركة حاسمة والانتصار عليهم (¬1). إن "المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوي قلبه قوي بدنه، وأما الفاجر فإنه وإن كان قوي البدن فهو أضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته عند أحوج ما يكون إلى نفسه، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانهم عند أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: المدرسة النبوية العسكرية، د. محمد أبو فارس، الأردن: دار الفرقان، ط 1، 1413 هـ، ص 114 - 115. قال ابن سعد في الطبقات الكبرى، 2/ 6: "والمجتمع عليه أنهم كانوا جميعا من المهاجرين ولم يبعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحد من الأنصار مبعثا حتى غزا بهم بدرًا وذلك أنهم شرطوا له أنهم يمنعونه في دارهم وهذا الثبت عندنا". (¬2) الجواب الكافي، محمد بن أبي بكر الزرعي ابن القيم الجوزية، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت، 1/ 35 - 36.

وعلينا أن نعلم أن "الأمة المستضعفة، ولو بلغت في الضعف ما بلغت، لا ينبغي لها أن يستولي عليها الكسل عن طلب حقها، ولا الإياس من ارتقائها إلى أعلى الأمور، خصوصًا إذا كانوا مظلومين، كما استنقذ اللَّه أمة بني إسرائيل، الأمة الضعيفة، من أسر فرعون وملئه، ومكنهم في الأرض، وملكهم بلادهم. ومنها: أن الأمة ما دامت ذليلة مقهورة لا تأخذ حقها ولا تتكلم به، لا يقوم لها أمر دينها ولا دنياها ولا يكون لها إمامة فيه" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 1/ 618.

المبحث الثانى الوحدة الإسلامية

المبحث الثانى الوحدة الإسلامية إن من أهم وسائل دفع الاستضعاف الوحدة الإسلامية، فالفرقة من أسباب الاستضعاف وطمع الأعداء وتسلطهم، وقد نهى اللَّه عز وجل عن التنازع والفرقة وحذر منه، وأخبرنا أنه سبب ذهاب القوة، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬1)، فأمر اللَّه تعالى بطاعته وطاعة رسوله، ونهى عن الفرقة والتنازع، وأخبر أن الفرقة والتنازع يؤدي إلى الفشل، وهو ضعف القلب من فزع يلحقه، ويؤدي كذلك إلى ذهاب الدولة (¬2). وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬3)، وقد ورد في تفسير حبل اللَّه بأنه الجماعة (¬4)، قال القرطبي رحمه اللَّه: "فإن اللَّه تعالى يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة" (¬5). ولم يزل وصف الإخوة على المؤمنين حتى حال تقاتلهم، "فقد بين اللَّه تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل" (¬6)، قال ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية 46. (¬2) انظر: أحكام القرآن للجصاص، 3/ 101. (¬3) سورة آل عمران، الآية 103. (¬4) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 4/ 30، والدر المنثور، 2/ 285. (¬5) الجامع لأحكام القرآن، 4/ 159. (¬6) الفتاوى، 3/ 284.

تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬1)، والآية تضمنت النهي عن أن يبغي بعضهم على بعض وأن يقتل بعضهم بعضًا، كما تضمنت أمرًا للمؤمنين بالإصلاح بينهم، والإصلاح يكون بحملهم على حكم اللَّه وحكم رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، قال جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (¬3)، وقال اللَّه عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬4)، هذه الأخوة التي أثبت اللَّه جل وعلا هي أخوة الدين لا النسب، وفي الآية دليل على أن النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية لا يجوز ولا شك أنه ممنوع بإجماع المسلمين (¬5). وقال عليه الصلاة والسلام: (إن اللَّه يَرْضَى لكم ثلاثًا، ويسخط لكم ثلاثًا، يَرْضَى لكم أن تَعْبُدُوهُ ولا تُشْرِكُوا به شَيْئًا، وأن تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، وأن تناصحوا من ولاه اللَّه أمركم، ويسخط لكم قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَة الْمَالِ) (¬6)، والحديث فيه أمر بلزوم جماعة المسلمين، وبالتمسك بعهده وإتباع القرآن الكريم (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، الآية [9]. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 26/ 130. (¬3) سورة الأنفال، الآية [1]. (¬4) سورة الحجرات، الآية [10]. (¬5) انظر: أضواء البيان، 3/ 42، و 7/ 412. (¬6) أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب النهى عن كثرة المسائل من غير حاجة، رقم: 1715، 3/ 1340، وابن حبان في صحيحه، 8/ 182، رقم: 3388، واللفظ له. (¬7) انظر: الديباج على مسلم، 4/ 318.

لقد كانت المؤاخاة والموالاة مسلكًا من مسالك الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في بناء المجتمع الإسلامي الأول (¬1)، وكانت سببًا من أسباب قوته بالرغم من الأخطار التي كانت تحيط به من الداخل والخارج. وقد أمرنا الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بالوحدة فقال عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك أصابعه) (¬2)، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي ترَاحُمِهِم وَتَوَادِّهِم وَتَعَاطُفِهِم كَمَثَلِ الجَسَدِ إِذا اشْتكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى) (¬3)، ولفظ الحديث: "خبر ومعناه أمر، أي كما أن الرجل إذا تألم بعض جسده سرى ذلك الألم إلى جميع جسده فكذا المؤمنون ليكونوا كنفس واحدة إذا أصاب أحدهم مصيبة يغتم جميعهم ويقصدوا إزالتها، وفي هذا التشبيه تقريب للفهم وإظهار المعاني في الصور المرئية" (¬4)، والحديث: "صريح في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثهم على التراحم والملاطفة والتعاضد في غير إثم ولا مكروه" (¬5). يقول الشيخ ابن باز رحمه اللَّه: "وما يقال بالنسبة للأفراد يقال بالنسبة للأمم المسلمة؛ إذ يجب على الأمة القوية في مالها أو رجالها أو سلاحها أو علومها، أن تمد الأمة المستضعفة، ¬

_ (¬1) انظر: تطور مفهوم الدولة في المجتمع الإسلامي الأول، د. مخلص طه الصيادي، الشارقة: دار الثقافة والإعلام، ط 1، 2002 م، ص 81 - 87. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، رقم: 467، أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: 2585 (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: 5665، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المسلمين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم: 2586. (¬4) فيض القدير، 5/ 515. (¬5) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 139 - 140.

وأن تعينها على الحفاظ على نفسها ودينها، وتمنع عنها الذئاب من حولها المتسلطة عليها، وأن تؤتيها من مال اللَّه الذي آتاها، فهذا هو مقتضى الأخوة الإسلامية التي عقدها الرب سبحانه بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها" (¬1). إن الوحدة الإسلامية لا يمكن أن تقوم إلا على أساس الدين، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬2) "أي: تمسكوا بدين اللَّه الذي أمركم به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر اللَّه" (¬3)، وقال عز وجل: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬4)، فكل الاتفاقيات والمعاهدات والمشاريع والمصالح المشتركة لا يمكنها أن تجمع المسلمين كما يمكن أن تجمعهم العقيدة، ومتى ما غاب شعور الإخوة الإسلامية والجسد الواحد، غابت الألفة والمحبة والخير والقوة والتعاون والعدل، وحلت الفرقة والخلاف والنزاع والعصبية والضعف والظلم. ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإسلامية، السعودية: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، د. ت، 21/ 496. (¬2) سورة آل عمران، الآية [103]. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 4/ 30. (¬4) سورة الأنفال، الآيات [62 - 63].

إن من مقتضيات الوحدة بين المسلمين ألا يكون إقليم إسلامي حربًا على إقليم آخر أيًا كانت أساليب تلك الحرب، سواءً بالاقتصاد أو بالتحالف على المسلمين، وأن ينصر المسلمين بعضهم بعضًا، لا أن يكونوا أداة من أدوات الاستضعاف وجزءًا منه، إن من مقتضيات الوحدة الاتحاد في كافة المجالات ومن بينها الوحدة الاقتصادية والتي تقتضي أن يكون أهل الخبرة منا ينظمون اقتصادنا، ورءوس الأموال منا، وأن يكون النقد موحدًا، وأن نحقق الاكتفاء الذاتي، فلا جمارك بين المسلمين، ولا ربا (¬1)، ويجب على الدول الإسلامية بقادتها وعلمائها ومفكريها والهيئات الرسمية فيها والشعبية السعي لتحقيق الوحدة الإسلامية في كل مجال من المجالات، سواءً العسكرية أو الاقتصادية والتجارية أو الإعلامية، وصولًا إلى وحدة الدولة؛ لتعود للأمة الإسلامية هيبتها ومكانتها وسيادتها، ولا ينفرد بها الأعداء واحدة تلو الأخرى. * * * ¬

_ (¬1) انظر: الوحدة الإسلامية، ص 237 - 306.

المبحث الثالث الدخول في الجوار

المبحث الثالث الدخول في الجوار يُعد الدخول في الجوار من الوسائل المهمة في دفع الاستضعاف، وقد أدرك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أهمية حماية الدعوة لا سيما في المرحلة المكية، فقبل الجوار، بل وطلبه، كما أقر قبول بعض الصحابة -رضي اللَّه عنهم- للجوار، ويعد اللجوء في هذا العصر صورة من صور الهجرة والدخول في الجوار، وهو ما يوضحه هذا المبحث من خلال المطلبين التاليين: المطلب الأول تعريف الجوار لغة واصطلاحًا والجار هو الذي يجير غيره، أي: يؤمنه مما يخاف منه، والجار المستجير أيضًا، وهو الذي يطلب الأمان، يُقال: جار جورًا، أي: طلب أو سأل أن يُجار، ويُقال: أجاره، أي: حماه وأنقذه، ويُقال: أجار الرجل إجارة، واستجاره، أي: سأله أن يُجيره، قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1)، كما يُقال: استجار بفلان، أي: استغاث به والتجأ إليه، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2) (¬3). أما اصطلاحًا: فلا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي، فهو الحماية والتأمين، وهو نتيجة الهجرة واللجوء، وإن كان الفرق بين الهجرة والجوار أن الهجرة تتضمن الإجارة في الدار التي انتقل إليها، أما الجوار فقد يقع في نفس داره التي يُؤذى ويخاف فيها أو في الدار التي هاجر ولجأ إليها، فالهجرة يقع معها الانتقال، أما الجوار فقد يقع معه الانتقال وقد لا يقع. ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون، الآية [88]. (¬2) سورة التوبة، الآية [6]. (¬3) انظر: لسان العرب، مادة: جور، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، مادة: جار.

المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الجوار

المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الجوار وقد دل القرآن الكريم على مشروعية الجوار، وإن لم يرد بذات اللفظ فتارة بلفظ "الإيواء" (¬1)، تقول العرب أوى فلان إلى منزله يأوي أويا، وأويت فلانا إذا أنزلته بك، من ذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2)، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬3)، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬4). وتارة بلفظ "الهجرة" ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، مادة: أوا. (¬2) سورة الأنفال، الآية [26]. (¬3) سورة الأنفال، الآية [72]. تقول العرب: أَويت فلانًا إذا أنزلته بك، والمأوى مكان كل شيء يأوي إليه ليلا أو نهارا، انظر: تهذيب اللغة، مقاييس اللغة، مادة: أوى. (¬4) سووة الأنفال، الآية [74]. (¬5) سورة الحشر، الآية [9].

كما تستخدم لفظة "الملجأ" للدلالة على الجوار، يقال: التجأ إليه أي: اعتصم به، وألجأت أمري إلى اللَّه أسندت، والتلجئة الإكراه وألجأه إلى الشيء اضطره إليه وألجأه عصمه (¬1)، كقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} (¬2)، وقوله سبحانه: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬3). وقد دلت السنة النبوية على جواز دخول المسلم في جوار الكفار، بل وعلى جواز طلب الجوار منهم، فعن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعرض نفسه على الناس في الموقف، فقال: (ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي) (¬4)، كما دخل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في جوار المُطعم بن عَدِي عندما رجع من الطائف (¬5)، حتى ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، ومختار الصحاح، مادة: لجأ، والمصباح المنير، 2/ 550، وحق اللجوء بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، أ. د. أحمد أبو الوفا، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ط 1، 2009 م، ص 26 - 29. (¬2) سورة الشورى، الآية [47]. (¬3) سورة التوبة، الآية [118]. (¬4) أخرجه: أبو داود، كتاب السنة، باب في القرآن، رقم: 4734، وابن ماجه، رقم: 201، والترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء كيف كانت قراءة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، رقم: 2925، وأحمد في المسند، 3/ 390، رقم: 15229، وقال الهيثمي: "رجاله ثقات"، مجمع الزوائد، 6/ 35، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام، 2/ 270. (¬5) انظر: فتح الباري، 7/ 324، والتمهيد 9/ 150، وقيل: إنما قال ذلك مكافأة له لقيامه في شأن نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم وبني المطلب، انظر: الجامع لأحكام القرآن، 8/ 13، وكانت وفاة المطعم بن عدي في صفر سنة ثنتين من الهجرة قبل بدر بنحو سبعة أشهر، انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1/ 233.

قال -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم بدر في أسرى المشركين وفاء له: (لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ) (¬1). لقد استفاد من نظام الجوار الذي كان معروفًا لدى العرب، جماعة ممن أسلم من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وامتنعوا بعشائرهم من أذى المشركين، وبقي قوم مستضعفون في أيدي المشركين يعذبونهم بأنواع العذاب (¬2)، فأجار بن الدغنة (¬3) وهو سيد القارة، أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، وأنفذت قريش جواره، ورضي أبو بكر، وأقره الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، باب ما من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الأسارى، رقم: 2970. (¬2) انظر: سيرة النبي المختار، محمد بن عمر الحضرمي الشافعي، تحقيق: محمد غسان نصوح، بيروت: دار الحاوي، ط 1، 1998 م، 1/ 183. (¬3) بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة وفتح النون المخففة على مثال الكلمة، ويقال: بضم الدال والغين وتشديد النون، ويقال: بفتح الدال وسكون الغين، ويقال: ابن الدثنة أيضا وتسكن الثاء أيضا، والدغنة اسم أمه، ومعناه لغة: الغيم الممطر، والدثنة: الكثيرة اللحم المسترخية، واسمه ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة، وهو سيد القارة وهي قبيلة موصوفة بجودة الرمي؛ شهد حنينا وقتل دريد بن الصمة، وقدم على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بني تميم، انظر: الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل الصفدي، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، بيروت: دار إحياء التراث، ط 1، 1420 هـ، 14/ 61، وعمدة القاري، محمود بن أحمد العيني، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت، 12/ 123 - 124. (¬4) انظر: فتح الباري، 4/ 476. جاء في شرح صحيح البخاري، علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، ضبط وتعليق: ياسر إبراهيم، مكتبة الرشد: الرياض، ط 1، 1420 هـ، 11/ 446: "الجوار كان معروفًا بين العرب، وكان وجوه العرب يجيرون من لجأ إليهم واستجار بهم، وقد أجار أبو طالب النبي عليه السلام ولا يكون الجوار إلا من الظلم والعداء، ففي هذا من الفقه أنه إذا خشي المؤمن على نفسه من ظالم أنه مباح له وجائز أن يستجير بمن يمنعه ويحميه من الظلم، وإن كان مجيره كافرًا، إن أراد الأخذ بالرخصة، وإن أراد الأخذ بالشدة على نفسه فله ذلك كما رد أبو بكر الصديق على ابن الدغنة جواره، ورضي بجوار اللَّه وجوار رسوله عليه السلام وأبو بكر يومئذ من المستضعفين، فآثر الصبر على ما يناله من أذى المشركين محتسبا على اللَّه وواثقا به، فوفى اللَّه له ما وثق به فيه، ولم ينله مكروه حتى أذن اللَّه لنبيه في الهجرة".

كما أقر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دخول نُعيم -رضي اللَّه عنه- بجوار قومه في مكة، حيث كان إسلامه قبل عمر -رضي اللَّه عنه- وكان يكتم إسلامه، ولكنه لم يهاجر إلا قبيل فتح مكة؛ لكونه لما أراد أن يهاجر تعلق به قومه وقالوا له: أقم ودن بأي دين شئت؛ لأنه كان يُنفق على أرامل بني عدي وأيتامهم، حتى كانت سنة ست فقدم مهاجرًا إلى المدينة ومعه أربعون من أهله، فاعتنقه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال له: (يا نعيم إن قومك كانوا خيرًا لك من قومي)، قال: بل قومك خير يا رسول اللَّه، قال: (إن قومي أخرجوني، وإن قومك أقروك)، فقال نعيم: يا رسول اللَّه إن قومك أخرجوك إلى الهجرة, وإن قومي حبسوني عنها (¬1). * * * ¬

_ (¬1) واسمه: نعيم بن عبد اللَّه بن أسيد بن عدي بن كعب القرشي المعروف بالنحام، والنحمة بفتح النون وإسكان المهملة الصوت، وقيل: السعلة، وقيل: النحنحة، وكانت هجرته عام خيبر، وقيل: بل هاجر في أيام الحديبية، وقيل: إنه أقام بمكة حتى كان قبل الفتح، واستشهد -رضي اللَّه عنه- في فتوح الشام زمن أبي بكر أو عمر، قيل: بأجنادين، وقيل: باليرموك، انظر: فتح الباري، 5/ 166، والإصابة في تمييز الصحابة، 6/ 458 - 459، والطبقات الكبرى، 4/ 138، المستدرك، 3/ 290، والاستيعاب، 4/ 1508.

المبحث الرابع المعاهدات والتحالفات

المبحث الرابع المعاهدات والتحالفات إن دخول المستضعفين ضمن معاهدة أو حلف يحفظ حقوقهم، أو يعيدها لهم، أو يحميهم، وهو من الوسائل الهامة التي ينبغي لهم الاستفادة منها، سواءً أكانت تلك المعاهدات أو التحالفات مع مسلمين أو مع كافرين، وفقًا للشروط والضوابط التي حددها الفقهاء لجواز المعاهدات أو التحالفات، وهو ما ستتناوله المطالب التالية: المطلب الأول تعريف المعاهدة والحلف وفيه فروع: الفرع الأول: تعريف المعاهدات لغة: مفردها معاهدة من العَهْد وهو كل ما عُوهِدَ اللَّه عليه، وكلُّ ما بين العبادِ من المواثِيقِ، والعهد: أصله الاحتفاظ بالشيء وإحداثُ العهدِ به، والعهد جمع العهدة وهو الميثاق واليمين التي تستوثق به ممن يعاهدك (¬1). فهذه الألفاظ يختلف مفهومها اللغوي وتتوارد على معنى واحد بنوع من التخصيص، فالعهد: ما يتفق فريقان على التزامه، فإن أكداه بالحلف سمي حلفًا (¬2). فالتحالف مأخوذ من الحِلْف والحَلِف: القَسَمُ لغتان، حَلَفَ أَي: أَقْسَم يَحْلِفُ حَلْفًا وحِلْفًا وحَلِفًا ومَحْلُوفًا، والحِلْفُ بالكسر العَهْد يكون بين القوم، يقال: حالَفَه، أي: عاهَدَه وتحالفُوا أي تعاهَدُوا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة، مادة: (عهد). (¬2) انظر: تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، محمد رشيد رضا، دار المعرفة: بيروت، ط 2، د. ت، 10/ 185. (¬3) انظر: لسان العرب، مادة: حلف.

الفرع الثاني: تعريف المعاهدات اصطلاحا

الفرع الثاني: تعريف المعاهدات اصطلاحًا: الفقهاء يُعدون المعاهدة بأنها من العقود، فهي عقد على وقف القتال، ويُضيف كُل فقيه بعض الشروط المشترطة في المذهب (¬1)، كما يعبر الفقهاء عن المعاهدة أحيانًا بالموادعة والمهادنة والصلح وعقد الذمة (¬2) والمتاركة والمسالمة (¬3) وعقد الأمان (¬4)، وأما الحلف فهو: "المعاهدة على التعاضد، والتساعد، والاتفاق" (¬5). ¬

_ (¬1) عرفها الحنفية بأنها: "الموادعة وهي المعاهدة والصلح على ترك القتال، يقال: توادع الفريقان، أي: تعاهدا على أن لا يغزو كل واحد منهما صاحبه"، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، أبو بكر مسعود ابن أحمد الكاساني، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 7/ 108. وعند المالكية: "عقد المسلم مع الحربي على المسالمة مدة ليس هو فيها تحت حكم الإسلام"، مواهب الجليل، 3/ 360. وعند الشافعية: "مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة مجانًا أو بعوض لا على سبيل الجزية"، حاشية إعانة الطالبين، 4/ 206. وعند الحنابلة: "أن يَعقِدَ لأَهل الحرب عقدًا على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض"، المغني، 13/ 154. (¬2) انظر: بدائع الصنائع، 7/ 108، والكافي في فقه أهل المدينة، يوسف بن عبد البر القرطبي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1407 هـ، 1/ 210، والأم، 4/ 186، والبيان في مذهب الإمام الشافعي، يحيى سالم العمراني الشافعي، جدة: دار المنهاج، ط 1، د. ت، 12/ 301، والمغني، 13/ 154، وزاد المعاد، 3/ 132. (¬3) الفواكه الدواني، أحمد بن غنيم النفراوي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت، 1/ 397. (¬4) انظر: مواهب الجليل، 3/ 360، وإن كان بعضهم يرى أن الأمان ليس معاهدة أو عقدًا وإنما هو تصرف من تصرفات الإرادة المنفردة، انظر: أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية، د. محمد طلعت الغنيمي، الإسكندرية: منشأة المعارف، ط 1، د. ت، ص 48 - 49. (¬5) القاموس الفقهي، سعدي أبو جيب، دمشق: دار الفكر، ط 2، 1408 هـ، 1/ 98.

المطلب الثانى الأدلة على مشروعية المعاهدات والتحالفات

وأما في القانون الدولي فعرفت المعاهدة بأنها: اتفاق بين دولتين أو أكثر لتنظيم علاقات قانونية ودولية وتحديد القواعد التي تخضع لها (¬1). وعرف الحلف السياسي بأنه: "عمل تحالفي بين دول أو أحزاب أو أشخاص سياسيين يتعاقدون فيها بينهم على تنفيذ التزام معين، يتفقون عليه لتحقيق أهداف محددة ومتفق عليها" (¬2). * * * المطلب الثانى الأدلة على مشروعية المعاهدات والتحالفات وردت مشروعية عقد المعاهدات في الكتاب والسنة وإجماع الصحابة -رضي اللَّه عنهم- والمعقول، وهي على النحو التالي: أولًا: الأدلة من القرآن الكريم: وردت آيات صريحة على مشروعية المعاهدات، كقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬3)، وقوله سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ¬

_ (¬1) انظر: القاموس السياسي، أحمد عطية اللَّه، القاهرة: دار النهضة العربية، ط 3، 1968 م، ص 1187، وموسوعة السياسة، د. عبد الوهاب الكيالي وآخرون، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 1981 م، 6/ 235، والعلاقات الدولية في القرآن والسنة، محمد علي الحسن، عمان - الأردن: مكتبة النهضة الحديثة، ط 2، 1402 هـ، ص 323، والإسلام والعلاقات الدولية في السلم والحرب، خديجة أحمد أبو أتله، القاهرة: دار المعارف، ط 1، 1983 م، ص 153. (¬2) وغالبًا ما يقتصر استعمال القانون الدولي لكلمة حلف (Alliance) للدلالة على اتفاق يجمع عدة دول تحقيقًا لمصلحة مشتركة، وللأحلاف في أغلب الأحيان هدف محدد، فقد تكون أحلافًا دفاعية أو هجومية، أو دفاعية وهجومية في آن معًا. انظر: موسوعة السياسة، 2/ 575 - 576. (¬3) سورة التوبة، الآية [1].

وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1)، فهذه الآية والتي قبلها تدلان على مشروعية المصالحة مع المشركين (¬2). ثانيًا: الأدلة من السنة النبوية: دلت السنة العملية والقولية على مشروعية المعاهدات ومن ذلك: صلحه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع اليهود في المدينة وما حولها (¬3)، وكذلك صلح الحديبية مع قريش، فعن البراء ابن عازب -رضي اللَّه عنه- قال: (كتب علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- الصلح بين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وبين المشركين يوم الحديبية) (¬4). ثالثًا: إجماع الصحابة رضوان اللَّه عليهم: ففي عهد الخلفاء الراشدين عقدت عدة معاهدات مع الأعداء، حيث بلغت ما يقرب من خمس وثلاثين معاهدة (¬5) وهو إجماع منهم على جوازها. رابعًا: الأدلة من المعقول: وذلك لأن الفتال ليس غاية في الإسلام، بل هو وسيلة للدعوة ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فإن أمكن تحقيق هذه الغاية بوسيلة أخرى سلمية دون ضرر ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية [61]. (¬2) انظر: فتح الباري 6/ 275. (¬3) ومن ذلك صلحه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع يهود خيبر، أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب الصلح مع المشركين، رقم: 2555، ومسلم، كتاب القَسَامَةِ والمُحَارِبِينَ والقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ، باب القسامة، 1669. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان، رقم: 2551، ومسلم، كتاب الجهاد والسِّيَرِ، بَاب صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ في الْحُدَيْبِيَةِ، رقم: 1783. (¬5) انظر: المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، محمود إبراهيم الديك، الأردن: دار الفرقان، ط 2، 1418 هـ، ص 64، منها: معاهدة الحيرة التي عقدها مع أهلها خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه-، المعاهدة التي عقدها عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه- مع أهل مصر وغيرها، انظر: سنن البيهقي الكبرى، 9/ 134، والكامل في التاريخ، 2/ 39، 2/ 261.

بالمسلمين وجب العمل بها، وقد يتحقق بالصلح مصالح لا يمكن تحقيقها بالجهاد ويدل على هذا صلح الحديبية الذي سماه اللَّه عز وجل (فتحا)، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (¬1). وبالتالي فإن دخول المسلمين في أي معاهدة مع غير المسلمين تحفظ حقوق اللاجئين مثلًا سواءً أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، أمر مشروع سواء في حال قوة الدولة الإسلامية أو في حال ضعفها وعدم قدرتها على حمايتهم منفردة، أو فرض الحماية لهم ومنع الاعتداء عليهم لوحدها، فإن مثل هذه المعاهدات والاتفاقيات من باب التعاون على البر والمعروف والخير الذي أمر اللَّه سبحانه وتعالي به في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الفتح، الآية [1]، قال ابن حجر رحمه اللَّه: "قال الزهري: فما فُتِحَ في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية إنما كان القتال حيث الْتَقَى الناس، ولما كانت الهدنة ووضعت الحرب وَأَمِنَ الناس كَلَّمَ بعضهم بعضًا وَالْتَقَوْا وَتَفَاوَضُوا في الحديث وَالمُنَازَعَة ولم يُكَلَّم أحد بالإسلام يَعْقِل شيئًا في تلك المدة إلا دخل فيه، ولقد دخل في تَيْنِك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر، يعني من صناديد قريش. . . وكانت الهدنة مفتاحًا لذلك ولما كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح سميت فتحًا. . . فإن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقًا حتى فتحه اللَّه، وكان فتحه صد المسلمين عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيمًا للمسلمين وفي الصورة الباطنة عِزًّا لهم، فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض مِنْ غَيْر نكير وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية وظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وَأُقْهِرُوا من حيث أرادوا الغلبة". فتح الباري، 5/ 348. (¬2) سورة المائدة، من الآية [2].

المطلب الثالث الحلف في الإسلام

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: "والمصلحة في ذلك تتنوع فتارة تكون المصلحة الشرعية القتال وتارة تكون المصلحة المهادنة وتارة تكون المصلحة الإمساك والاستعداد بلا مهادنة" (¬1). ولقد نفذ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مبدأ التعاون الدولي من خلال صحيفة المدينة، فعقد حلفًا أساسه التعاون على البر وحماية الفضيلة ومنع الأذى، فنقض اليهود كعادتهم ذلك الحلف (¬2). * * * المطلب الثالث الحلف في الإسلام كان للأحلاف شأنها ومكانتها وأهميتها في حياة الجاهليين، وهي كانت إما التزامًا من طرف واحد بحماية من لجأ إليه ممن ترك عشيرته، أو لا عشيرة له، دون التزام من قبل الضعيف بالنصرة أو العقل، وقد يكون الالتزام من الطرفين بأن ينصر كل منهما الآخر ويرثه ويعقل عنه (¬3). وقد وردت أدلة بجواز الحلف، كما وردت أدلة بنفيه في الإسلام، وظاهر هذه الأدلة التعارض، ومن أدلة الجواز، عموم الأدلة الواردة في الأمر بالوفاء بالعهد والوعد، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) الفتاوى، 15/ 174. (¬2) انظر: العلاقات الدولية في الإسلام، د. محمد أبو زهرة، القاهرة: دار الفكر العربي، ط 1، د. ت، ص 24. (¬3) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، 18/ 88. (¬4) سورة النحل، الآية [91].

قيل بأنها في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء به (¬1). وكذلك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّه بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلَامِ لأَجَبْتُ) (¬2)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (شَهِدْتُ حِلْفَ المُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلَامٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ) (¬3). وهذا الحلف يُعد "مأثرة لقريش من مآثرها الكرام، وآثارها العظام، نالتهم فيه بركة حضور رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهو وإن كان فعلا جاهليا دعتهم السياسة إليه فقد صار لحضور رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- له، وما قاله بعد النبوة فيه وأكده من أمره حكما شرعيا وفعلا نبويا" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: الجامع لأحكام القرآن، 10/ 169. (¬2) سنن البيهقي الكبرى، 6/ 367. وكان سبب الحلف أن قريشًا كانت تتظالم بالحرم فقام عبد اللَّه بن جدعان والزبير بن عبد المطلب فدعوهم إلى التحالف على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم فأجابهما بنو هاشم وبعض القبائل من قريش وجعلوا طيبًا في جفنة وغمسوا أيديهم فيه فسموا المطيبين، وأما تسميته بحلف الفضول تشبيها له بحلف كان بمكة أيام جرهم على التناصف والأخذ للضعيف من القوي وللغريب من القاطن قام به رجال من جرهم يقال لهم الفضل بن الحارث والفضل بن وداعة والفضل بن فضالة، فقيل حلف الفضول جمعا لأسماء هؤلاء، وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به في العرب. انظر: معرفة السنن والآثار، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: سيد كسروي حسن، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت، 5/ 175، والتيسير بشرح الجامع الصغير، 2/ 78، والروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، عبد الرحمن بن عبد اللَّه الخثعمي السهيلي، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1398 هـ، 1/ 242. (¬3) مسند أحمد، 1/ 190، رقم: 1655، والحاكم في المستدرك، 2/ 239، رقم: 2870، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وصحيح ابن حبان، 10/ 216، رقم: 4373. (¬4) الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول اللَّه، 1/ 74.

أما الأدلة على نفي الحلف في الإسلام فمنها قوله عليه الصلاة والسلام في خطبته: (أوفوا بحلف الجاهلية، فإِنَّهُ لا يَزِيدُهُ -يعني: الإِسلامَ- إِلا شِدَّة-، ولا تُحْدِثُوا حِلفا في الإِسلام) (¬1)، والمراد بحلف الجَاهليَّة: العُهُود التِي وقعت فِيهَا على الخير كصلة الأرحام ونصرة المظلوم (¬2)، والوفاء بها مقيد بما لا يُخالِفُ الشَّرع، لقوله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬3). والمراد بنفي الحلف في الإسلام هو نفيه على الوجه الذي كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية، لكونه يتضمن النصرة على الحق والباطل، والشريعة إنما أوجبت معونة المظلوم على الظالم، وأن لا يلتفت إلى قرابة ولا غيرها، أو أن المراد نفي التوارث بالحلف دون ذوي الأرحام، أما حكم الحلف في العقل والنصرة فباق ثابت (¬4). أو يكون المراد أن الإسلام قد استغنى عن الحلف بما أوجب اللَّه تعالى على المسلمين بعضهم من نصرة وعون (¬5)، فالإِسلام أَقوَى من الحلف، فمن استَمسَكَ بِالعَاصِمِ القَوِيِّ استَغنَى به عن العَاصِمِ الضَّعِيف (¬6)، فالتوارث بالهجرة نسخ، وبقي المؤاخاة في الإسلام، والمحالفة على طاعة اللَّه تعالى، والتناصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في الحِلفِ، رقم: 1585، وقال: "حديث حسن صحيح"، وقال في صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض: مكتبة المعارف، ط 1، 1420 هـ، 2/ 203: "حسن". (¬2) انظر: عون المعبود، 8/ 100. (¬3) سورة المائدة، من الآية [2]. (¬4) أحكام القرآن للجصاص، 3/ 147، 3/ 197، وعون المعبود، 8/ 102. (¬5) نواسخ القرآن، عبد الرحمن بن علي، ابن الجوزي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1405 هـ، 1/ 128. (¬6) انظر: تحفة الأحوذي، 5/ 174.

المطلب الرابع التقاء مصالح المستضعفين مع الكفار

فهذا باق لم ينسخ، كما قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: (إلا النصر والنصيحة والرفادة ويوصى له) (¬1)، ويدل على بقاء الحلف في الإسلام قول أنس -رضي اللَّه عنه- لما قيل له إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (لا حلف في الإسلام)، فرد قائلًا: (قد حالف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين قريش والأنصار في داري) (¬2)، وفي رواية: (بين المهاجرين والأنصار في دارنا مرتين أو ثلاثا). وبهذا يتضح لنا أن أصل الحِلْف المُعاقَدةُ والمعاهدة على التَّعاضُد والتَّساعُد فما كان منه في الجاهلية على القتال والغارات فذلك أبطله الشرع، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام فهو الذي لم يزده الإسلام إلا شدة كحلْف المُطَيَّبين وبذلك يجتمع الحديثان (¬3). * * * المطلب الرابع التقاء مصالح المستضعفين مع الكفار إن الإسلام عندما منع النداء بالروابط العصبية والأواصر النسبية، لم ينكر انتفاع المسلم -لاسيما المستضعف- من تلك الروابط النسبية والتي لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما نفع اللَّه نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعمه أبي طالب، فكان من آثار تلك العصبية النسبية حماية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما نفع اللَّه بتلك العصبية بعض الصحابة رضوان اللَّه عليهم، وهو ما جرى مع ¬

_ (¬1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 82، وفتح الباري، 4/ 473، والديباج على مسلم، 5/ 478. (¬2) أخرجه البخاري، رقم: 2172، ومسلم، 2529 وفي رواية عند أحمد في المسند، 3/ 281، رقم: 14018: "سمعت أنسا وقال له قائل: بلغك أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (لا حلف في الإسلام)، قال: فغضب، ثم قال: بلى، بلى قد حالف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين قريش والأنصار في داره". (¬3) انظر: كشف المشكل، عبد الرحمن ابن الجوزي، تحقيق: د. علي البواب، الرياض: دار الوطن، ط 1، 1418 هـ، 4/ 48، والنهاية في غريب الأثر، 1/ 1031.

شعيب عليه السلام، كما قال تعالى عن قومه: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} (¬1)، وكذلك كان شأن صالح عليه السلام: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (¬2)، فقد دلت الآية على أنهم يخافون من أولياء صالح ولم يفكروا أن يفعلوا به سوءً إلا ليلًا وخفية، أما لوط عليه السلام فلم تكن له عصبة في قومه حتى قال: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (¬3)، فيلزم الناظر في هذه المسألة أن يفرق بين الأمرين ويعلم أن النداء بروابط القوميات لا يجوز على كل حال، ولاسيما إذا طغى على رابطة الإسلام، كما أن منع النداء بروابط القوميات لا ينافي أنه ربما انتفع المسلم بنصرة قريبه الكافر بسبب العواطف النسبية والأواصر العصبية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولكن تلك القرابات النسبية لا يجوز أن تجعل هي الرابطة بين المجتمع؛ لأنها تشمل المسلم والكافر ومعلوم أن المسلم عدو الكافر (¬4). وعليه فإن المستضعفين ينبغي لهم الاستفادة من التحالفات أو العادات أو القوانين والأنظمة المعمول بها في البلدان التي يعيشون فيها، ولا تخلو تلك المجتمعات من وجود أشخاص أو جماعات أو منظمات حقوقية تعنى بحقوق الإنسان وتطالب بها، وتنصف المظلومين، وتدافع عن الحرية الدينية، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: (. . . وإن اللَّه ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية [91]. (¬2) سورة النمل، الآية [49]. (¬3) سورة هود، الآية [80]. (¬4) انظر: أضواء البيان، 3/ 45 - 46. (¬5) أخرجه البخاري، كتاب، باب إن اللَّه يؤيد الدين بالرجل الفاجر، رقم: 2897، ومسلم، كتاب، باب، رقم: 111.

وإن لم يكن بيد المستضعفين توقيع اتفاقيات أو تحالفات لعدم الاعتراف بهم أو لوقعهم تحت القهر والظلم والعدوان، فإن إخوانهم المسلمين ينبغي عليهم نصرتهم مباشرة، فإن لم يتسنى ذلك فمن خلال تضمين المعاهدات شروط الإفراج عن الأسرى أو منح المستضعفين بعض الحقوق، مما يخفف من الظلم الواقع عليهم، ويمنحهم الحق في ممارسة شعائرهم وعبادتهم للَّه عز وجل، بل ويتيح لهم الفرصة لنشر الإسلام والدعوة إليه (¬1). وفي واقعنا المعاصر نجد أن تضارب مصالح الكفار فيما بينهم، أدى إلى وقوفهم مع المسلمين أحيانًا أو المطالبة بحقوقهم، لضرب مصلحة الفريق الآخر، وهذه الحالة لا تعني أن يطمئن المسلمون إلى هذه المواقف ويركنوا إليها، بل تعني الاستفادة منها مع الحذر، إذ سرعان ما ينقلب الموقف وتتبدل السياسة. وكذلك الحال عندما يسود الفكر الديمقراطي في بلد ما، ويتاح المجال للمسلمين للدعوة إلى اللَّه، فلا مانع من الاستفادة من ذلك كله مع اليقظة والحذر من تقلب الأحوال والسياسات، وعدم تقديم التنازلات فيما يتصل بالثوابت والعقائد (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ومن الأمثلة على ذلك ما أسهمت به مصر في عهد المماليك البحرية من خلال تضمين معاهداتهم مع ملوك قطلونية وأرغون نصًا بضمان حرية المسلمين في القيام بشعائرهم الدينية وعدم ظلمهم حيث كانوا وأين كانوا، كما تم الإفراج عن الأسرى بموجب أول معاهدة وقعت مع الفونسو الثالث (689 هـ - 1290 م)، وأسهم بنفس الدور ملوك أفريقية من الأسرة الحفصية، وكذلك سلاطين بني الأحمر لإنقاذ المسلمين "المدجنين" من مملكة قطلونية وأرغون وتأمين وصولهم إلى مملكة غرناطة. انظر: جُزر الأندلس المنسية (التاريخ الإسلامي لجزر البِليَار)، د. عصام سيسالم، بيروت: دار العلم للملايين، ط 1، 1984 م، ص 460. (¬2) انظر: المنهج الحركي للسيرة النبوية، منير الغضبان، الأردن: مكتبة المنار، ط 1، د. ت، ص 112.

المبحث الخامس الجهاد

المبحث الخامس الجهاد إن الآيات والأحاديث الواردة في الحث على الجهاد والأمر به وذكر فضائله متواترة، ولقد أمر اللَّه عز وجل المؤمنين بالجهاد لإنقاذ المستضعفين، فقال سبحانه: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (¬1)، والآية "حضت على الجهاد، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب، ويفتنونهم عن الدين فأوجب تعالى الجهاد؛ لإعلاء كلمته، وإظهار دينه، واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس" (¬2)، فإن لم يتمكن المستضعفون من الجهاد فإن على بقية المسلمين نجدتهم وتخليصهم، قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬3)، "يريد إن دعوا من أرض الحرب عونكم بنفير أو مال لاستنقاذهم فأعينوهم، فذلك عليكم فرض، إلا على قوم بينكم وبينهم عهد فلا تقاتلوهم عليهم، يريد حتى يتم العهد أو ينبذ على سواء" (¬4). إن الجهاد من أهم وسائل دفع الاستضعاف، وإن عدم فرض القتال في المرحلة المكية لا يعني أن كُل مستضعف يلزمه الكف والإعراض عن الكفار، ولا يُباح له الجهاد في سبيل اللَّه، بل متى ما أمكن القيام بالجهاد واقتضت المصلحة القيام به، وغلب على الظن ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية [75]. (¬2) الجامع لأحكام القرآن، 5/ 279. (¬3) سورة الأنفال، الآية [72]. (¬4) أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 2/ 439.

ألا يترتب على ذلك مفاسد أعظم من مفسدة تركه، شُرع للمستضعفين الأخذ به، وهذا ما قام به المستضعفون في مكة بعد هربهم مع أبي بصير -رضي اللَّه عنهم-. إن قيام المستضعفين ببعض العمليات المسلحة ضد الأعداء لردعهم عن التمادي في العدوان والبطش والظلم أمر لا مفر منه، بل قد يجب عند تحقق المصلحة، إن المدافعة سنة من سنن اللَّه الكونية، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} (¬1)، "أي لولا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة" (¬2)، قال ابن عباس: (ولولا دفع اللَّه العدو بجنود المسلمين لغلب المشركون فقتلوا المؤمنين وخربوا البلاد والمساجد) (¬3)، ولا يردع الأعداء إلا الجهاد، ولا يزول الاستضعاف إلا بالجهاد. وقد وقعت في المرحلة المكية -كنموذج للاستضعاف الكلي- بعض الأحداث التي تدل على مشروعية الإضرار بالكفار، ومشروعية رد العدوان إما باللسان أو باليد، ولما اجتمع أشراف قريش بالحجر وكان الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يطوف بالبيت فغمزوه ثلاث مرات، ثم قال مهددًا لهم: (أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح) (¬4). ومن ذلك ما رواه علي -رضي اللَّه عنه- قال: (انطلقت أنا والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (اجلس وصعد على منكبي)، فذهبت لأنهض به، فرأى منى ضعفًا ¬

_ (¬1) سورة الحج، من الآية [40]. (¬2) الجامع لأحكام القرآن، 12/ 70. (¬3) الجامع لأحكام القرآن، 3/ 260. (¬4) أخرجه أحمد، 2/ 218، وابن حبان في صحيحه، 14/ 526، وانظر: تغليق التعليق، 4/ 86.

فنزل وجلس لي نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: (اصعد على منكبي)، قال: فصعدت على منكبيه، قال: فنهض بي، قال: فإنه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنت منه، قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (اقذف به)، فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس) (¬1)، وفي هذا الموقف نجد أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُرد مواجهة قريش، أو أن تعلم قريش من الفاعل، وهو يشبه ما جرى مع أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام عندما هدم الأصنام، ولم تنقل لنا كتب السيرة ردة فعل قريش على ذلك الأمر. وفي موقف آخر اضطر الصحابة لقتال المشركين، فقد (كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة يستخفون بصلاتهم فبينا سعد (¬2) في شعب من شعاب مكة في نفر من الصحابة إذ ظهر عليهم المشركون فنافروهم وعابوا عليهم دينهم حتى قاتلوهم فضرب سعد رجلًا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، 1/ 84، قال في مجمع الزوائد، 6/ 23: "رواه احمد وابنه وأبو يعلى والبزار وزاد بعد قوله: حتى استترنا بالبيوت، فلم يوضع عليها بعد، يعني شيئًا من تلك الأصنام، ورجال الجميع ثقات". (¬2) سعد بن مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري أبو إسحاق بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة وآخرهم موتا، وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بنت عم أبي سفيان، وروى عنه بنوه إبراهيم وعامر ومصعب وعمر ومحمد وعائشة، ومن الصحابة عائشة وابن عباس وابن عمر وجابر بن سمرة، وهو أول من رمى بسهم في سبيل اللَّه، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: (هذا خالي فليرني امرؤ خاله)، وهو أحد الستة أهل الشورى، وكان رأس من فتح العراق، وولي الكوفة لعمر وهو الذي بناها، ثم عزل ووليها لعثمان وكان مجاب الدعوة مشهورا بذلك، اعتزل الفتنة، ومات سنة ست وخمسين. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 3/ 73 - 75.

من المشركين بلحى جمل (¬1) فشجه فكان أول دم أريق في الإسلام) (¬2)، والظاهر أن هذا القتال إنما كان بالأيادي لا بالسلاح. وعن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: (قاتل عمر المشركين في مسجد مكة، فلم يزل يقاتلهم منذ غدوة حتى صارت الشمس حيال رأسه، قال: وأعيي وقعد، فدخل عليه رجل عليه برد أحمر وقميص قومسي حسن الوجه، فجاء حتى أفرجهم، فقال: ما تريدون من هذا الرجل، قالوا: لا واللَّه إلا أنه صبأ، قال: فنعم، رجل اختار لنفسه دينًا، فدعوه وما اختار لنفسه، ترون بني عدي ترضى أن يقتل عمر، لا واللَّه لا ترضى بنو عدي، قال وقال عمر يومئذ: يا أعداء اللَّه، واللَّه لو قد بلغنا بثلاث مائة لقد أخرجناكم منها، قلت لأبي بعد: من ذلك الرجل الذي ردهم عنك يومئذ؟ قال: ذاك العاص بن وائل أبو عمرو بن العاص) (¬3). ولا شك أن مفهوم الجهاد هو أوسع من مفهوم القتال، فإن عجز المستضعفون عن القتال فلن يعجزوا عن الجهاد. * * * ¬

_ (¬1) اللحيان: حائطا الفم، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كل ذي لحي. انظر: لسان العرب، مادة: لحى. (¬2) الإصابة في تمييز الصحابة، 3/ 74. (¬3) سبق تخريجه، ص 92.

المبحث السادس الهجرة

المبحث السادس الهجرة وفيه خمسة مطالب المطلب الأول تعريف الهجرة لغة واصطلاحًا وفيه فرعان: الفرع الأول: تعريف الهجرة في اللغة: الهجر ضد الوصل، يقال: هجره يهجره هجرا وهجرانا صرمه، وهما يهتجران ويتهاجران، والاسم الهجرة، والهجرة الخروج من أرض إلى أرض (¬1). الفرع الثاني: تعرف الهجرة اصطلاحًا: الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام (¬2)، إلا أنه عند التأمل نجد أن المعول عليه ليس مجرد الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام وإن كان هذا الأصل، فهجرة المسلمين إلى الحبشة لم تكن قطعًا إلى دار إسلام، ولكنها كانت من القرية الظالم أهلها إلى دار عدل، قال ابن حجر رحمه اللَّه: "وقد وقعت في الإسلام على وجهين، الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة. الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، ومختار الصحاح، مادة: هجر. (¬2) انظر: المغني، 9/ 237، وأَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 3/ 592، وأوجبها بعض الفقهاء من بلد بغاة أو بدعة كرفض واعتزال، انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علي بن سليمان بن أحمد المرداوي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت، 4/ 122، والفروع، محمد بن مفلح المقدسي، مصر: دار عالم الكتب، ط 1، د. ت، 6/ 198، والفتاوى الفقهية الكبرى، 4/ 298. (¬3) فتح الباري، 1/ 16.

المطلب الثانى الأدلة على مشروعية الهجرة

يتضح مما مضى أن الأولى أن تعرف الهجرة بأنها: الخروج من دار الظلم إلى دار العدل أو خروج المسلم من بلد الفتنة إلى بلد الأمن فرارًا بدينه (¬1). وينبغي التنبيه إلى أن الهجرة تعادل في مصطلحات القانون الدولي المعاصر، كلمة: اللجوء الإقليمي (¬2). * * * المطلب الثانى الأدلة على مشروعية الهجرة تعد الهجرة من أهم وسائل دفع الاستضعاف، يدل على هذا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (¬3). وقد دل على مشروعية الهجرة الآيات والأحاديث وأقوال الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وكذلك تحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان، ومن الأدلة في كتاب اللَّه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬4)، وقوله سبحانه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الشعراوي، محمد متولى الشعراوى، مصر: دار أخبار اليوم، ط 1، د. ت، 4/ 2583، والمعجم الوسيط، 2/ 784. (¬2) انظر: حق اللجوء بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي للاجئين، ص 242. (¬3) سورة النساء، الآيتان [97 - 98]. (¬4) سورة النحل، الآية [141].

المطلب الثالث أهمية الهجرة ومكانتها وبقائها

عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (¬1)، وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). وقد تواترت الأخبار أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما مات عمه أبو طالب لقي هو والمسلمون أذى من المشركين فقال لهم النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- حين ابتلوا وشطت بهم عشائرهم: " (تفرقوا)، وأشار قبل أرض الحبشة، وكانت أرضًا ترحل إليها قريش رحلة الشتاء، فكانت أولى الهجرة في الإسلام، وإنما أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه بالخروج إلى النجاشي لعدله" (¬3). * * * المطلب الثالث أهمية الهجرة ومكانتها وبقائها للهجرة أهميتها في الإسلام وهي من أنواع الجهاد قال الشافعي رحمه اللَّه: "كان المسلمون مستضعفين بمكة زمانًا لم يؤذن لهم فيه بالهجرة منها، ثم أذن اللَّه عز وجل لهم بالهجرة، وجعل لهم مخرجًا، أذن لهم بأحد الجهادين، بالهجرة قبل أن يؤذن لهم بأن يبتدئوا مشركًا بقتال" (¬4)، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة إلى المدينة (¬5)، وأحوال المسلمين قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها، لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين ويعقبه النصر والظفر والفتح (¬6). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية [195]. (¬2) سورة البقرة، الآية [218]. (¬3) المستدرك على الصحيحين، 2/ 678، رقم: 4242. (¬4) الأم، 4/ 169. (¬5) انظر: أحكام القرآن للجصاص، 1/ 319، والجامع لأحكام القرآن، 2/ 347، وفتح الباري، 6/ 37. (¬6) انظر: فتح الباري، 1/ 10.

ولما أراد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يذكر مناقب الصديق أبي بكر -رضي اللَّه عنه- ذكر أمر الهجرة، فقال: (رحم اللَّه أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة) (¬1). وعندما استشار الفاروق عمر -رضي اللَّه عنه- الصحابة -رضي اللَّه عنهم- بوضع التاريخ اختار الهجرة وقال: (فإن مهاجر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فرق بين الحق والباطل) (¬2). ولقد كانت الهجرة إلى المدينة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم، بل من شروط صحة الإسلام قبل فتح مكة؛ وسبب ذلك عدة أمور منها: (أ) قلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع ومن ثم إقامة الدولة. (ب) حاجة المسلمين إلى تعلم أحكام الدين من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مباشرة ثم نشرها. (جـ) أن يسلم المسلم من أذى قومه من الكفار. (د) نصرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ودولة الإسلام الناشئة. وبعد أن فتح اللَّه مكة ودخل الناس في دين اللَّه أفواجًا سقط فرض الهجرة إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبقي الجهاد والنية (¬3). ¬

_ (¬1) المستدرك على الصحيحين، 3/ 76، رقم: 4441، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". (¬2) مصنف ابن أبي شيبة، 7/ 26، رقم: 33952، قال ابن الأثير: "والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب أمر بوضع التاريخ"، الكامل في التاريخ، 1/ 12، قال ابن كثير: "وروى محمد بن إسحاق عن الزهري وعن محمد بن صالح عن الشعبي أنهما قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرخوا من الفيل، ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة"، البداية والنهاية، 3/ 207. (¬3) انظر: المبسوط، 10/ 7، الفواكه الدواني، 1/ 398، وحاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، علي الصعيدي العدوي، تحقيق: يوسف محمد البقاعي، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1412 هـ، 2/ 7، وفتح الباري، 6/ 37 - 38، وتحفة الأحوذي، 5/ 178.

وقد دلت الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال الصحابة الكرام -رضي اللَّه عنهم- على انقطاع الهجرة من مكة وكذلك انقطاع الهجرة إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن تلك الأدلة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1)، "فإن ذلك عام في النصرة والميراث، فإن من كان مقيمًا بمكة على إيمانه لم يكن ذلك معتدًا له به ولا مثابًا عليه حتى يهاجر، ثم نسخ اللَّه ذلك بفتح مكة والميراث بالقرابة، سواء كان الوارث في دار الحرب أو في دار الإسلام، لسقوط اعتبار الهجرة بالسنة، إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة بالبدن، بألا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد درهم كذلك. قال مالك وجميع العلماء: فإنا للَّه وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال وفضول الأحوال والعدة والعدد والقوة والجلد" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآيات [72 - 75]. (¬2) أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 2/ 440، وانظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/ 194، زاد المسير، 3/ 412، وأحكام القرآن للجصاص، 4/ 261.

عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: ({وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا}، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} فكان الأعرابي لا يرث المهاجر ولا يرثه المهاجر فنسختها، فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}) (¬1)، لقد كان التوارث في الجاهلية ثم في ابتداء الإسلام بالحلف والنصرة وكان الرجل يقول للرجل: دمي دمك، ومالي مالك، تنصرني وأنصرك، وترثني وأرثك، فيتعاقدان الحلف بينهما على ذلك. فيتوارثان به دون القرابة، وذلك قول اللَّه عز وجل: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}، نسخ ذلك وصار التوارث بالإسلام والهجرة، فإذا كان له ولد ولم يهاجر ورثه المهاجرون دونه، بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة مع وجود النسب، ثم نسخ بالرحم والقرابة، بقول اللَّه تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬2). ومن الأدلة ما رواه ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا) (¬3). قال ابن حجر رحمه اللَّه: "أي: ¬

_ (¬1) سنن أبي داود، كتاب الفرائض، باب نسخ ميراث العقد بميراث الرحم، رقم: 2924، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 6/ 424: حسن صحيح، والبيهقي في السنن الكبرى، 6/ 262، رقم: 12307. (¬2) انظر: المبسوط، 27/ 133، وحاشية ابن عابدين، (رد المحتار على الدر المختار)، محمد أمين عمر ابن عابدين، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 6/ 768، والاستذكار، يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر الأندلسي، تخريج: عبد المعطي أمين قلعجي، دار قتيبة: دمشق - بيروت، دار الوعي: حلب - القاهرة، ط 1، 1414 هـ، 5/ 366، والمغني، 6/ 205، والفروع، 5/ 35، والمحلى، 11/ 203، الأموال، 1/ 275. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، رقم: 2631، ومسلم، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، رقم: 1353.

فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك حكمها، فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون" (¬1)، والمراد بالحديث ما يلي: 1 - لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها صارت دار إسلام، وهي بشرى من رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام بأنها تبقى دار الإسلام. 2 - لا هجرة فضلها كفضلها قبل الفتح وهو ما اختاره الإمام النووي رحمه اللَّه. 3 - لا هجرة إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذنه عليه الصلاة والسلام. وبهذا يمكن الجمع بين الأدلة الواردة بانقطاع الهجرة والأدلة الواردة ببقائها، فالذي انقطع الهجرة إلى المدينة حيث الرسول عليه الصلاة والسلام، والهجرة من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام، والذي بقي الهجرة للفرار بالدين، وأما الجهاد ونية الخير في كل شيء فهو طريق لتحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة (¬2)، ولهذا لما جاء مُجَاشِعٍ بأخيه مجالد بن مسعود (¬3) إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: (هذا مجالد يبايعك على الهجرة)، فقال: (لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الإسلام) (¬4)، وفي رواية: (مَضَتْ الهجرة لأهلها)، فقلت: ¬

_ (¬1) فتح الباري، 6/ 190. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 9/ 123، و 13/ 8، فتح الباري، 7/ 229، و 4/ 47. (¬3) مجاشع بن مسعود السلمي صحابي جليل، قيل: بأنه غزا كابل ودخل بيت الأصنام وأخذ جوهرة من عين الصنم، وقال: لم آخذها إلا لتعلموا أنه لا يضر ولا ينفع، وكان يوم الجمل، مع عائشة -رضي اللَّه عنها- أميرًا على بني سليم، فقتل فيه، قبل الوقعة ودفن بداره في "بني سدوس" بالبصرة. انظر: الإصابة، 5/ 767، والطبقات الكبرى، 7/ 30، والاعلام، 5/ 277. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب لا هجرة بعد الفتح، رقم: 2913

عَلَامَ تُبَايِعُنَا؟ قال: (على الإسلام والجهاد)، وفي رواية عند مسلم: (على الإسلام والجهاد والخير) (¬1). قالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: (لا هجرة اليوم كان المؤمنون يَفِرُّ أحدهم بِدِينِهِ إلى اللَّه تعالى وإلى رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- مَخَافَةَ أن يُفْتَنَ عليه، فأما اليوم فقد أظهر اللَّه الإسلام والمؤمن يعبد ربه حيث شاء ولكن جهاد وَنِيَّةٌ) (¬2). "أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة اللَّه في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلا وجبت" (¬3). بل إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أعاد من قدم إليه بنية الهجرة بعد فتح مكة بعدما قويت شوكة المسلمين، وكانت المصلحة تقتضي ذلك، فعن عبد اللَّه بن عَمْرِو بن الْعَاصِ قال: أَقْبَلَ رَجُلٌ إلى نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: أُبَايِعُكَ على الهجرة والجهاد، أَبْتَغِي الأجر من اللَّه، قال: (فهل من وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟) قال: نعم، بل كِلَاهُمَا، قال: (فَتَبْتَغِي الأجر من اللَّه)، قال: نعم، قال: (فَارْجِعْ إلى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا) (¬4). وعن أبي سعيد الْخُدْرِيُّ أن أَعْرَابِيًّا سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الهجرة فقال: (وَيْحَكَ إن شَأْنَ الهجرة لَشَدِيدٌ، فهل لك مِنْ إبلٍ؟) قال: نعم، قال: (فهل تُؤْتِي صَدَقَتَهَا)، قال: نعم، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب البيعة في الحرب أن لا يفروا، رقم: 2802، صحيح مسلم، 3/ 1487، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد، رقم: 1863. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه، رقم: 3687. (¬3) فتح الباري، 7/ 229. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين، رقم: 2802، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به، رقم: 1863.

قال: (فَاعْمَلْ من وراء الْبِحَارِ، فإن اللَّه لن يَتِرَكَ من عملك شَيْئًا) (¬1)، فالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يحذره شدة الهجرة ومفارقة الأهل والوطن، ثم سأله عن الزكاة ولم يسأل عن غيرها من الأعمال؛ لأن حرص النفوس على المال أشد من حرصها على الأعمال البدنية، ثم قال له: اعمل من وراء البحار مبالغة في إعلامه بأن عمله لا يضيع في أي موضع كان (¬2). كما دل على بقاء مشروعية الهجرة إلى غير مكة المكرمة أدلة منها: ما رواه معاوية -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: (لا تَنْقَطِعُ الهجرة حتى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ ولا تَنْقَطِع التَّوْبَةُ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبِهَا) (¬3). وعن عبد اللَّه بن السعدي قال وفدنا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فدخل أصحابي فقضى حاجتهم وكنت آخرهم دخولا، فقال: حاجتك، فقلت: يا رسول اللَّه متى تنقطع الهجرة؟ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار)، وفي رواية عند أحمد: (لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل) (¬4). كما يمكن أن يستدل على بقاء مشروعية الهجرة الأحاديث الواردة في الحث على الهجرة إلى الشام، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه، رقم: 5813، ومسلم، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد، رقم: 1865. (¬2) انظر: فتح الباري، 7/ 259، وعمدة القاري، 22/ 195. (¬3) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الهجرة هل انقطعت، رقم: 2479، وأحمد، 4/ 99، رقم: 16952. (¬4) أخرجه النسائي، كتاب البيعة، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، رقم: 7796، وأحمد، 1/ 192، رقم: 1671، وصحيح ابن حبان، 11/ 207، رقم: 4866، قال مجمع الزوائد، 5/ 251: "رواه النسائي باختصار رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".

إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفِظهم أرَضوهم، تقذَرهم نَفْسُ اللَّه (¬1)، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير) (¬2). وإن كان موضوع هذا المطلب هو الهجرة الظاهرة أو الحسية، إلا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أشار إلى أهمية الهجرة الباطنة أو المعنوية وهي واجبة على كل مسلم بترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان (¬3)، بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (المُسْلِمُ من سَلِمَ المُسْلِمُونَ من لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالمُهَاجِرُ من هَجَرَ مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ) (¬4)، و"قيل خص المهاجر بالذكر تطييبا لقلب من لم يهاجر من المسلمين لفوات ذلك بفتح مكة، فأعلمهم أن من هجر ما نهى اللَّه عنه كان هو المهاجر الكامل، ويحتمل أن يكون ذلك تنبيها للمهاجرين أن لا يتكلوا على الهجرة فيقصروا في العمل" (¬5)، كما أن الحديث يتضمن تنبيه من عجز عن الهجرة الحسية من المستضعفين بضرورة الهجرة المعنوية حتى يتسنى له الهجرة الحسية. ¬

_ (¬1) قال القاري رحمه اللَّه: "من التمثيلات المركبة التي لا تطلب لمفرداته ممثلًا ومُمثلًا به، مثل: شابت لمة الليل، وقامت الحرب على ساق، ثم اعلم أن قوله: تقذرهم بفتح الذال المعجمة من قذرت الشيء بالكسر، أي: كرهته، ونفس اللَّه بسكون الفاء، أي: ذاته"، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي سلطان القاري، تحقيق: جمال عيتاني، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 11/ 407. (¬2) أخرجه أحمد، 2/ 84، رقم: 5562، وأبو داود، باب في سكنى الشام، رقم: 2482، والحاكم في المستدرك، 4/ 556، رقم: 8558، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه فقد اتفقا جميعا على أحاديث موسى بن علي بن رباح اللخمي ولم يخرجاه". (¬3) انظر: فتح الباري، 1/ 54. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، رقم: 10. (¬5) فتح الباري، 11/ 319.

ولا بد من التنبيه إلى أن الهجرة إلى الحبشة كانت فرارًا من العذاب، والعيش تحت ظل سلطان عادل وغير مسلم، أما الهجرة إلى المدينة فكانت لبناء الدولة، وإيذانًا بانتقال المسلمين من مرحلة الكف والدفاع إلى مرحلة الهجوم (¬1)، إذًا فالهجرة من أهم وسائل دفع الاستضعاف مؤقتًا، وهي مرحلة للانطلاق والعمل من جديد لرفع الاستضعاف كليًا، وأنها كانت فرضًا على من أسلم، وانتهى ذلك الفرض بفتح مكة، وبقي الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة وفقًا لأحكام الهجرة. وخلاصة ما سبق: أن الهجرة من أهم وسائل دفع الاستضعاف وكذا الدخول في الجوار، والمعاهدات، والتحالفات، والوحدة الإسلامية، والأخذ بأسباب القوة بكافة أنواعها، وكذلك الجهاد في سبيل اللَّه. * * * ¬

_ (¬1) انظر: تطور مفهوم الدولة في المجتمع الإسلامي الأول، ص 40 - 41.

الفصل الثالث الأمور والضوابط التي ينبغي على المستضعفين الأخذ بها ومراعاتها

الفصل الثالث الأمور والضوابط التي ينبغي على المستضعفين الأخذ بها ومراعاتها وفيه تمهيد وثمانية مباحث: المبحث الأول: تفاوت قدرات المستضعفين. المبحث الثاني: التفريق بين استضعاف العالم واستضعاف غيره. المبحث الثالث: تقدير الضرورة والحاجة يكون بالرجوع إلى أهل العلم. المبحث الرابع: عدم الركون للاستضعاف. المبحث الخامس: الأخذ بضوابط العمل بالضرورة والحاجة. المبحث السادس: العمل بشروط الإكراه المعتبر. المبحث السابع: مراعاة الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين. المبحث الثامن: العمل بآيات الصبر والصفح والعفو.

تمهيد

تمهيد إن مسائل الاستضعاف وأحكامه لم يبحثها الفقهاء في أبواب مستقلة، وإنما جاءت ضمن مباحث متنوعة متفرقة في أبواب الفقه، ولا يمكن حصر مسائل الاستضعاف، أو وضع ضوابط تنطبق على كل حالات الاستضعاف أو على كل المستضعفين، أو على جميع أحوالهم، إذ أن فقه الاستضعاف يخضع لفقه السياسة الشرعية، الذي يعتمد على فقه المقاصد (¬1) والمصالح والمفاسد، وفقه المآلات (¬2)، وفقه الأولويات (¬3)، وكذلك فقه ¬

_ (¬1) المراد بمقاصد الشريعة: الغايات والحكم التي وضعت الشريعة لتحقيقها في جميع أحوال التشريع أو معظمها لتحقيق مصلحة العباد، انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، تحقيق: محمد الميساوي، دار النفائس: الأردن، ط 1، 1420 هـ، ص 183، ونظرية المقاصد عند الشاطبي، أحمد الريسوني، المعهد العالمي للفكر الإسلامي: الدار العالمية للكتاب الإسلامي بالسعودية، ط 4، 1416 هـ، ص 19. (¬2) قال الشاطبي رحمه اللَّه: "تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعا لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة، أو ممنوعا لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع، والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها، فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع، ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها"، الموافقات، 4/ 198، وجاء موضع آخر: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة، أو مخالفة"، 4/ 552. (¬3) المراد بفقه الأولويات: "وضع كل شيء في مرتبته. فلا يُؤخر ما حقه التقديم أو يُقدم ما حقه التأخير، ولا يَصغُر الأمر الكبير، ولا يَكبُر الأمر الصغير"، أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة: مصر، ط 1، 1411 هـ، ص 34، كما عُرف بأنه: "العلم بالأحكام الشرعية التي لها حق التقديم على غيرها، بناء على العلم بمراتبها وبالواقع الذي يتطلبها"، فقه الأولويات - دراسة في الضوابط، ص 16.

الموازنات (¬1)، إلا أن الأمور التي لم يحدد ضابطها في الشرع لا يجوز تعطيلها، بل الواجب التقريب، فمسائل الاستضعاف تخضع بالجملة للضوابط التي وضعها الفقهاء لمسائل الضرورة والحاجة والإكراه، وهي موضوعة على وجه التقريب بالجملة (¬2). ولتجنب الاجتهاد التسويغي، أو الاعتماد على الضرورات الوهمية، أو على المصلحة الملغاة عند النظر في مسائل الاستضعاف فيمكن وضع بعض الضوابط التي ينبغي الأخذ بها عند الوقوع في الاستضعاف، وهو ما ستتناوله المباحث الثمانية التالية: ¬

_ (¬1) المراد بفقه الموازنات: "مجموعة الأسس والمعايير التي تضبط عملية الموازنة بين المصالح المتعارضة أو المفاسد المتعارضة مع المصالح، ليتبين بذلك أيُّ المصلحتين أرجح فتقدم على غيرها، وأيُّ المفسدتين أعظم خطرًا فيقدم درءُها"، فقه الموازنات في الشريعة الاسلامية، د. عبد المجيد محمد السوسوة، دار القلم: دبي، ط 1، 1425 هـ، ص 13. وهو أخص من فقه الأولويات لكونه للترجيح بين المتعارضات، أما الأولويات فهو للترتيب بين المصالح، وهذا الترتيب قد ينبني على فقه الموازنات عند التعارض، انظر: أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، ص 35. (¬2) قال العز بن عبد السلام رحمه اللَّه: "فكيف تعرف المشاق المتوسطة المبيحة التي لا ضابط لها، مع أن الشرع قد ربط التخفيفات بالشديد والأشد والشاق والأشق، مع أن معرفة الشديد والشاق متعذرة؛ لعدم الضابط. قلنا: لا وجه لضبط هذا وأمثاله إلا بالتقريب، فإن ما لا يحد ضابطه، لا يجوز تعطيله ويجب تقريبه"، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عز الدين بن عبد العزيز بن عبد السلام، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 2/ 12.

المبحث الأول تفاوت قدرات المستضعفين

المبحث الأول تفاوت قدرات المستضعفين ينبغي أن ندرك بأن قدرات المستضعفين تختلف من إنسان لآخر، ومن جماعة إلى أخرى، قال الشاطبي رحمه اللَّه: "إن الرخصة إضافية لا أصلية، بمعنى أن كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه، ما لم يحد فيها حد شرعي فيوقف عنده" (¬1)، وبين سبب ذلك وهو اختلاف القوة والضعف، بحسب الأحوال، وقوة العزيمة وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال، وبحسب الطبائع كالصبر والجبن والشجاعة، فلا يمكن وضع ضابط يطرد في جميع الناس، بل كل مخاطب فقيه نفسه، "والشجاعة ليست هي قوة البدن، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته" (¬2)، كما أن المشاق تختلف بالنسب والإضافات؛ وذلك يقضى بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات (¬3)، وقال في موضع آخر: ¬

_ (¬1) الموافقات، 1/ 314. (¬2) الفتاوى، 28/ 158. (¬3) المرجع السابق، 1/ 314 - 316، وبقية عبارة الشاطبي: ". . . وبيان ذلك من أوجه: أحدها: أن سبب الرخصة المشقة والمشاق تختلف بالقوة والضعف، وبحسب الأحوال وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان، وبحسب الأعمال. . . وكذلك في الصبر على الجوع والعطش، ويختلف أيضا باختلاف الجبن والشجاعة وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر على ضبطها، وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها، وإذا كان كذلك فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة فاعتبر السفر؛ لأنه أقرب مظان وجود المشقة وترك كل مكلف على ما يجد، أي إن كان قصر أو فطر ففي السفر وترك كثيرا منها موكولا إلى الاجتهاد كالمرض، وكثير من الناس يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الرجلين دون الآخر، وهذا لا مرية فيه، فإذا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي ولا ضابطا مأخوذ باليد بل هو إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب في نفسه، فمن كان من المضطرين معتادا للصبر على الجوع ولا تختل حاله بسببه كما كانت العرب وكما ذكر عن الأولياء فليست إباحة الميتة له على وزان من كان بخلاف ذلك هذا وجه.

"المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت، منها أنه لا يستمر إطلاق القول بأن الأصل في المنافع الأذن، وفي المضار المنع، كما قرره الفخر الرازي (¬1)؛ إذ لا يكاد يوجد انتفاع حقيقي، ولا ضرر حقيقي، وإنما عامتها أن تكون إضافية" (¬2). ¬

_ = والثاني: أنه قد يكون للعامل المكلف حامل على العمل حتى يخف عليه ما يثقل على غيره من الناس، وحسبك من ذلك أخبار المحبين الذين صابروا الشدائد وحملوا أعباء المشقات من تلقاء أنفسهم من إتلاف مهجهم إلى ما دون ذلك، وطالت عليهم الآماد وهم على أول أعمالهم حرصا عليها واغتناما لها، طمعا في رضى المحبوبين واعترفوا بأن تلك الشدائد والمشاق سهلة عليهم، بل لذة لهم ونعيم، وذلك بالنسبة إلى غيرهم عذاب شديد وألم أليم، فهذا من أوضح الأدلة على المشاق تختلف بالنسب والإضافات وذلك يقضى بأن الحكم المبني عليها يختلف بالنسب والإضافات. والثالث: ما يدل على هذا من الشرع، كالذي جاء في وصال الصيام وقطع الأزمان في العبادات، فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد، ثم فعله من بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- علمًا بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حقهم، ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا يصدهم ذلك عن حوائجهم ولا يقطعهم عن سلوك طريقهم فلا حرج في حقهم وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج حتى يصده عن ضروراته وحاجاته، وهذا معنى كون سبب الرخصة إضافيًا، ويلزم منه أن تكون الرخصة كذلك لكن هذا الوجه استدلال بجنس المشقة على نوع من أنواعها وهو غير منتهض إلا أن يجعله منضما إلى ما قبله فالاستدلال بالمجموع صحيح"، وقد ورد عن أئمة الفقه ما يؤيد هذا الرأي في أمر المشقة، وإسناد تقديرها إلى المكلف. (¬1) محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري القرشي، الإمام المفسر، أصله من طبرستان، ومولده في الري سنة 544 هـ، وإليها نسبته، وكان يحسن الفارسية، توفي رحمه اللَّه سنة 606 هـ. انظر: طبقات الشافعية، 4/ 90، وفيات الأعيان، 1/ 486، والاعلام، 6/ 313. (¬2) الموافقات، 2/ 39 - 40.

ومن الأمثلة على تفاوت قدرات المستضعفين وتقديراتهم مسألة الهجرة؛ لكون "المستضعف قد يكون قادرًا على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة، وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك، ولاسيما في الهجرة عن الوطن؛ فإنها شاقة على النفس؛ وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزًا مع أنه لا يكون كذلك، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام" (¬1). فالهجرة مثال من أمثلة كثيرة تختلف فيها معايير الضرورة باختلاف الأشخاص، وقدراتهم البدنية، والمالية، ومكانتهم السياسية، والاجتماعية، فلا يمكن أن توزن كافة الضرورات بمقياس واحد، إن سماحة الشريعة الإسلامية لم تغفل مراعاة الحالات الخاصة، والطارئة، عندما يكون التشريع عامًا ومطردًا، وهذه هي واقعية التشريع الإسلامي التي لا تتجاهل اختلاف القدرات والطبائع والأحوال لدى المكلفين (¬2). وقد نقلت لنا كتب السيرة ما جرى للصحابة رضوان اللَّه عليهم، وهم لم يكونوا على درجة واحدة من التحمل والصبر على الأذى، ولهذا لما وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، وحبسوهم وعذبوهم بالضرب والجوع والعطش، ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه اللَّه منهم (¬3). ¬

_ (¬1) مفاتيح الغيب، 11/ 12. (¬2) انظر: فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة، د. عبد الوهاب أبو سليمان، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب: جدة، ط 2، 2003 م، ص 61 - 62. (¬3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، 2/ 159، والسيرة الحلبية، 1/ 478.

كما أن الفقهاء عند عرضهم لمسائل الإكراه صرحوا بمراعاة هذا الأمر، وأن الحكم يختلف بحسب حال المُكره، وبحسب الشيء الذي يُكره عليه، فهي من النوع الذي يتعلق بفقه الحال، قال السرخسي رحمه اللَّه في معرض حديثه عن الإكراه بالضرب: ". . ولكنا نقول نصب المقدار بالرأي لا يكون، ولا نص في التقدير هنا، وأحوال الناس تختلف باختلاف تحمل أبدانهم للضرب وخلافه، فلا طريق سوى رجوع المكره إلى غالب رأيه، فإن وقع في غالب رأيه أنه لا تتلف به نفسه ولا عضو من أعضائه لا يصير ملجأ، وإن خاف على نفسه التلف منه يصير ملجأ، وإن كان التهديد بعشرة أسواط وهكذا" (¬1)، جاء في شرح مجلة الأحكام: "إذا هُدِّدَ بالحبس والقيد وكان الرجل ذَا مُرُوءَةٍ ويشق عليه ذلك، بحيث يقع في قلبه أنه لو لم يفعله يموت بسبب الحبس والقيد، أو يذهب عضو منه فهو إكراه معتبرٌ شرعًا، كما أنه لو تَوَعَّدَهُ بالحبس في مكان مُظلم بحيث ذَهَاب الْبَصَرِ لِطُولِ مُقَامِهِ فيه فهو إكراه مُعْتَبَرٌ شرعًا. . . قال بعض المشايخ: أما الحبس الذي أَحْدَثُوهُ في زماننا فإنه من الإكراه المُلْجِىءِ" (¬2). إن مراعاة حال المستضعف وقدرته هو ثمرة تحقيق المناط الخاص، وذلك لأن "التكليف الشرعي يدور مع القدرة والإمكان وجودًا وعدمًا وقدرًا. وإذا كان الميسور لا يسقط بالمعسور، فإن المعسور لا يلحق بالميسور. وتمييز ما هو مقدور مما ليس بمقدور، وما هو معسور مما هو ميسور يحتاج إلى دراية بالواقع وأهله" (¬3). ¬

_ (¬1) المبسوط، 24/ 49. (¬2) درر الحكام، 2/ 589، وانظر: لسان الحكام، إبراهيم بن أبي اليمن محمد الحنفي، البابي الحلبي: القاهرة، ط 2، 1393 هـ، 1/ 311. (¬3) الاجتهاد بين النص والمصلحة والواقع، أحمد الريسوني، دار الفكر: دمشق، ط 1، 2000 م، ص 64.

ونخلص من هذا المطلب إلى أن المستضعف فقيه نفسه وفقًا للشروط التالية: 1 - أن يكون ذلك في مسائل استضعاف الأفراد. 2 - أن يكون ذلك في المسائل التي لا نص فيها ولا إجماع. 3 - أن يكون ذلك في حال الضرورة (¬1)، قال ابن القيم رحمه اللَّه: "ما تبيحه الضرورة يجوز الاجتهاد فيه حال الاشتباه، وما لا تبيحه الضرورة فلا" (¬2)، ويلحق بها الحاجة الشديدة، والحاجة القريبة من الضرورة، قال العز بن عبد السلام رحمه اللَّه: "ولا شك أن هذه المصالح التي خولفت القواعد لأجلها منها ما هو ضروري لا بد منه، ومنها ما تمس إليه الحاجة المتأكدة" (¬3)، وبالتالي فهي خاضعة للضوابط التي وضعها العلماء للأخذ بأحكام الضرورة والحاجة. 4 - أن يدرك المستضعف أنه مؤتمن على هذا الأمر، فلا يحل له الإقدام عليه لمجرد التوهم، بل لا بد من اليقين أو غلبة الظن (¬4). 5 - عدم القدرة للرجوع إلى أهل العلم، إما لضيق الوقت أو عدم وجودهم. ¬

_ (¬1) وهذا ما يفهم من الأمثلة التي ساقها الشاطبي رحمه اللَّه، قال ابن القيم رحمه اللَّه: "الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة، تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار، وهذا إنما هو في مسألة لا نص فيها ولا إجماع"، إعلام الموقعين، 4/ 157. (¬2) بدائع الفوائد، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، تحقيق: هشام عطا، عادل العدوي، أشرف أحمد، مكتبة نزار مصطفى الباز: مكة المكرمة، ط 1، 1416 هـ، 4/ 831. (¬3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/ 130، وانظر: الغرر البهية في شرح البهجة الوردية، زكريا بن محمد الأنصاري، المطبعة الميمنية: القاهرة، ط 1 , د. ت، 2/ 44. (¬4) انظر: الاستذكار، 3/ 338.

6 - ألا يخالف الفعل أصلًا من أصول الشريعة الإسلامية ومبادئها العامة (¬1). ¬

_ (¬1) قال الشاطبي رحمه اللَّه: "إنما عنى الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارىء العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل اللَّه وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل اللَّه إلى ما حرم، فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة، حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن مقاربته ويمنعونهم عن مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم تارة بالشدة، وتارة باللين، فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء، وإياه تحروا. وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلًا وتركًا، فلم يفصلوا القول فيه؛ لأنه غير محتاج إلى التفصيل، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه، فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده؛ إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه، وقد تشبه فيه أمور، ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل، فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان إغراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر. . . فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة، وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء، واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه"، الموافقات، 4/ 236 - 238.

المبحث الثانى التفريق بين استضعاف العالم واستضعاف غيره

المبحث الثانى التفريق بين استضعاف العَالِم واستضعاف غيره إن للعلماء منزلتهم ومكانتهم العظيمة والعالية في الإسلام فهم ورثة الأنبياء، والآيات والأحاديث الواردة في فضل العلم وأهله لا تكاد تحصى، ومن أجل هذه المنزلة والمكانة، ولكونهم محل اقتداء للناس، فإن أقوالهم وأفعالهم لها آثارها ولا يمكن أن تكون كأقوال وأفعال غيرهم، وإن تساهل بعض المنتسبين للعلم، وتهربهم من المسؤولية، واحتجاجهم بالضرورة أو الإكراه أو المصلحة وغيرها من الأعذار، أدى إلى المزيد من الضعف في الأمة (¬1). قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "فالمرصدون للعلم عليهم للأمة حفظ علم الدين وتبليغه، فإذا لم يبلغوهم علم الدين أو ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين. . . وكذلك كذبهم في العلم من أعظم الظلم، وكذلك إظهارهم للمعاصي والبدع التي تمنع الثقة بأقوالهم وتصرف القلوب عن إتباعهم وتقتضى متابعة الناس لهم فيها هي من أعظم الظلم، ويستحقون من الذم والعقوبة عليها ما لا يستحقه من أظهر الكذب والمعاصي والبدع من غيرهم؛ لأن أظهار غير العالم وإن كان فيه نوع ضرر فليس هو مثل العالم في الضرر الذي يمنع ظهور الحق ويوجب ظهور الباطل. . . فترك أهل العلم لتبليغ الدين كترك أهل القتال للجهاد، وترك أهل القتال للقتال الواجب عليهم كترك أهل العلم للتبليغ الواجب عليهم، كلاهما ذنب عظيم. . . وما يظهرونه من البدع والمعاصي التي تمنع ¬

_ (¬1) انظر: الإسلام بين العلماء والحكام، عبد العزيز البدري، المكتبة العلمية: المدينة المنورة، ط 1، د. ت، ص 64 - 65، ومناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاروق عبد المجيد السامرائي، مكتبة دار الوفاء: جدة، ط 1، د. ت، ص 60 - 61.

قبول قولهم وتدعو النفوس إلى موافقتهم وتمنعهم وغيرهم من إظهار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أشد ضررًا للأمة وضررًا عليهم من إظهار غيرهم لذلك" (¬1). ولذا وجب التنبيه على ذلك الأمر، ولا يعني هذا أنهم معصومون من الخطأ والزلل أو أنهم لا يباح لهم الترخص عند الاضطرار، أو أنهم لا يقع عليهم الاستضعاف، إنما المراد التفريق بين حالة العالم المستضعف وبين غيره من عوام الناس، خاصة عندما يتعلق استضعافه بالأمور التي تتعدى إلى غيره، وذلك لتأثيره الكبير، ويقاس على العالم في هذا الأمر تحديدًا كل من كان قدوةً أو متبوعًا كالأمير والقائد ونحوه، "إذ بهم تزل الأقدام، فالعالم يُقتدى به، والإمام تعتقد العامة وجوب طاعته، حتى في غير طاعة، والمتعبد يعظم الاعتقاد فيه" (¬2)، ولهذا فقد رجح الكثير من أهل العلم أن المراد بأولي الأمر في قوله تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬3)، الأمراء والعلماء (¬4)، وإن كان الأمراء إنما يُطاعون إذا أمروا ¬

_ (¬1) الفتاوى، 28/ 187 - 188. (¬2) فيض القدير، 1/ 52. (¬3) سورة النساء، الآية [59]. (¬4) انظر: تفسير القرآن العظيم، 2/ 345، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن، 10/ 341، وإعلام الموقعين، 2/ 240، وقال ابن كثير في تفسيره، 4/ 138: "فإن الناس عالة على العلماء، وعلى العُبَّاد، وعلى أرباب الأموال، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس". قال الشاطبي في الموافقات، 1/ 140: "زلة العالم في علمه أو عمله إذا لم تتعد لغيره في حكم زلة غير العالم فلم يزد فيها على غيره، فإن تعدت إلى غيره اختلف حكمها، وما ذلك إلا لكونها جزئية إذا اختصت به ولم تتعد إلى غيره، فإن تعدت صارت كلية بسبب الاقتداء والاتباع على ذلك الفعل أو على مقتضى القول، فصارت عند الاتباع عظيمة جدا، ولم تكن كذلك على فرض اختصاصها به، ويجري مجراه كل من علم عملا فاقتدى به فيه".

بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، وهي تبع لطاعتهم للَّه عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام. كما رجح بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1)، بأنهم العلماء على وجه الخصوص (¬2). ولا شك أن وقوع العالم في الاستضعاف إن كان ظاهرًا للناس، كأن يقع في الأسر أو السجن أو نحوه، فإن فتنة الناس فيما يصدر عنه أقل من فتنتهم بما يصدر عنه إن لم يكن استضعافه ظاهرًا لهم، وذلك لأن "دلالة الأحوال يختلف بها دلالة الأقوال في قبول دعوى ما يُوافقها، ورد ما يُخالفها، ويترتب عليها الأحكام بمجردها، ويتخرج عليه مسائل منها. . . لو تلفظ الأسير بكلمة الكفر، ثم ادعى أنه كان كُرهًا، فالقول قوله؛ لأن الأسر دليل الإكراه والتقية" (¬3)، فإن عُرف أن العالم مُستضعف فينبغي التعاطي بحذر مع ما يصدر عنه، وعدم قبوله على إطلاقه، خاصة إن خالف أقواله واجتهاداته وأفعاله السابقة لاستضعافه. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية [104]. (¬2) انظر: تفسير أبو السعود، 2/ 67، ومفاتيح الغيب، 8/ 146، وقال: "هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديًا فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء ولا شك أنهم بعض الأمة". (¬3) القواعد لابن رجب، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، مكتبة نزار الباز: مكة المكرمة، ط 2، 1999 م، 1/ 370.

ومن المقرر أنه "لا يُتبع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة قائم بحُجتها حاكم بأحكامها جملة وتفصيلًا، وأنه من وجد متوجها غير تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات، أو فرع من الفروع، لم يكن حاكما، ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة" (¬1)، فطاعة العلماء ومكانتهم ليست لذاتهم بل لما قام فيهم من العلم والفهم عن اللَّه عز وجل ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وحال العالم ليس كغيره، لاسيما إن تعلق الأمر بإعزاز دين اللَّه، وذلك لأن "كل أمر فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة، قال أحمد بن حنبل، وقد قيل له: إن عرضت على السيف تجيب، قال: لا، وقال: إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل، فمتى يتبين الحق؟!. والذي نقل إلينا خلفًا عن سلف أن الصحابة وتابعيهم بذلوا أنفسهم في ذات اللَّه، وأنهم لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، ولا سطوة جبار ظالم" (¬3). إلا أن العالم المستضعف إن خَشي أن يعود إنكاره بالضرر على المسلمين فلا يُنكر، أما إن خشي على نفسه فله الإنكار بل يُندب إليه؛ لأن المخاطرة بالنفوس في إعزاز الدين مأمور بها، وعندما سُئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أَيُّ الجهاد أفضل؟ قال: (كلمة حق عند سلطان جَائِرٍ) (¬4)، ¬

_ (¬1) الاعتصام، إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي، المكتبة التجارية الكبرى: مصر، ط 1، د. ت، 2/ 343، وانظر: الموافقات، 1/ 93. (¬2) انظر: قواعد في التعامل مع العُلماء، د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف: الرياض، ط 2، 1427 هـ، ص 63. (¬3) البحر المحيط، 2/ 443. (¬4) أخرجه النسائي، باب فضل من تكلم بالحق عند إمام جائر، رقم: 4209. مسند أحمد بن حنبل، 4/ 315، رقم: 18850، قال في تحفة الأحوذي، 6/ 330: "قال المنذري في الترغيب إسناده صحيح".

إلا أنه لا يجب عليه الإنكار، قال العز ابن عبد السلام: "التقرير على المعاصي كلها مفسدة؛ لكن يجوز التقرير عليها عند العجز عن إنكارها باليد واللسان، ومن قدر على إنكارها مع الخوف على نفسه كان إنكاره مندوبًا إليه ومحثوثًا عليه؛ لأن المخاطرة بالنفوس في إعزاز الدين مأمور بها. . . كلمة حق عند سلطان جائر جعلها أفضل الجهاد؛ لأن قائلها قد جاد بنفسه كل الجود، بخلاف من يلاقي قرنه من القتال، فإنه يجوز أن يقهره ويقتله، فلا يكون بذله نفسه مع تجويز سلامتها كبذل المنكر مع يأسه من السلامة" (¬1). قال ابن القيم رحمه اللَّه: "فمن سئل عن علم فكتمه ألجمة اللَّه يوم القيامة بلجام من نار، هذا إذا أمن المفتي غائلة الفتوى، فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها أمسك عنها، ترجيحًا لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما" (¬2). قال الطحاوي: "ولذلك يحسن أن يستخار في النهي عن المنكر في شخص متمرد يُخشى بنهيه حصول ضرر عظيم عام أو خاص وإن جاء في الحديث أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر لكن إن خشي ضررا عاما للمسلمين فلا ينكر وإن خشي على نفسه فله الإنكار ولكن يسقط الوجوب" (¬3). لذا فإن أهل العلم قالوا: إن وجوب إنكار المنكر يكون بشرط أن لا يترتب عليه ضرر عام بالمسلمين، وألا يلحق المنكر بلاء لا قبل له به من قتل ونحوه، فإن أطاق هذا البلاء ولم يلحق الضرر بغيره فله الأخذ بالعزيمة (¬4)، لقوله عليه الصلاة والسلام عندما سئل أي ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 94 - 95. (¬2) إعلام الموقعين، 4/ 157 - 158. (¬3) حاشية الطحاوي على مراقي الفلاح، أحمد بن محمد الطحاوي، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق: مصر، ط 3، 1318 هـ، 1/ 263. (¬4) انظر: فتح البارى، 13/ 53، وحاشية الطحاوي على مراقي الفلاح، 1/ 263.

الجهاد أفضل؟ قال: (كلمة حق عند سلطان جائر) (¬1)، وإنما كان هذا من أفضل الجهاد "ليأسه من حياته، وأما النهي عن المنكر بين ظهور المسلمين، وإظهار شعائر الإسلام، فإن ذلك شاق على المتأخرين؛ لعدم المعين، وكثرة المنكر فيهم" (¬2). ويشهد لعدم الوجوب في حال الخشية من الضرر حديث حذيفة -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: (قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه)، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يطيقه) (¬3)، ومع القول بعدم وجوب الإنكار في تلك الحال إلا أنه لا بد من الإنكار بالقلب (¬4)، لحديث أم سلمة -رضي اللَّه عنها- مرفوعًا، قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)، قالوا: يا رسول اللَّه، ألا نقاتلهم، قال: (لا ما صلوا)، أي: من كره بقلبه وأنكر بقلبه) (¬5). إن الفرق بين استضعاف العالم وغيره، هو من جهة الاقتداء، ولولاه لما كان هنالك فرق بين استضعافه أو استضعاف غيره، قال الشاطبي رحمه اللَّه: "تستعظم شرعًا زلة العالم وتصير صغيرته كبيرة، من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء؛ فإذا زل حُملت زلته عنه قولًا كانت أو فعلًا؛ لأنه موضوع منارًا يُهتدى به، فإن عُلم كون زلته زلة صغُرت في أعين الناس، وجسر عليها الناس تأسيًا به، وتوهموا فيها رخصة علم ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، ص 194. (¬2) عون المعبود، 11/ 333. (¬3) أخرجه ابن ماجه, رقم: 4016، والترمذي، رقم: 2254، وقال: "حسن غريب"، قال في مجمع الزوائد، 7/ 274: "ورجاله رجال الصحيح". (¬4) انظر: فتح الباري، 13/ 53. (¬5) أخرجه مسلم، رقم: 1854.

بها، ولم يعلموها هم تحسينًا للظن به، وإن جهل كونها زلة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع، وذلك كله راجع عليه" (¬1). وقد ذكر بعض العلماء أن هناك حالات لا يؤخذ بالرخص فيها، ومنها: أن يكون المكره على الكفر من يقتدي به العوام ويتبعونه في تصرفاته وأقواله، إذ قد يؤدي تصرفه ذلك إلى فتنتهم في عقيدتهم، لاسيما من ذوي الجهالة ممن لا يُمَيِّزُ حَالَ عُذْرِهِ من غَيْرِهِ، فالحكم أنه يحرم عليه الأخذ بحكم الرخصة دفعًا للفساد، والمآل الذي يؤول إليه أمر العوام (¬2). * * * ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 317، وانظر: إعلام الموقعين، 2/ 192. (¬2) انظر: فتح الباري، 4/ 280، والأحكام السلطانية، محمد بن علي الماوردي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 2/ 1، وعوراض الأهلية عند الأصوليين، ص 495.

المبحث الثالث تقدير الضرورة والحاجة يكون بالرجوع إلى أهل العلم

المبحث الثالث تقدير الضرورة والحاجة يكون بالرجوع إلى أهل العلم سبق بيان تفاوت قدرات المستضعفين، وأن المستضعف فقيه نفسه فيما يعرض له من مسائل لم يرد فيها دليل أو حد في الشرع، إلا أن هذا الأمر ليس على إطلاقه بل هو مقيد عند تعذر الرجوع لأهل العلم لا سيما في القضايا العامة. ونظرًا لكون الاستضعاف قد لا يكون أمرًا مقتصرًا على المستضعف، بل قد يكون واقعًا على الجماعة أو الدولة، لذا فينبغي التفريق بين المسائل المتصلة بأمور الجماعة أو الدولة وبين المسائل المتصلة بالأفراد فقط ولا تتعدى إلى سواهم، فتلك المسائل هي مسؤولية ولي الأمر، وتقديرها موكل إليه، بخلاف مسائل الأفراد فتقديرها يوكل إلى ديانتهم وقدرتهم على الصبر وعزيمتهم فيها (¬1). وحتى مسائل الجماعة أو الدولة فإن تقدير تلك الضرورات أو الحاجيات والإفتاء فيها بما يناسبها من التصرفات لا يكون لأي أحد، بل مرد ذلك إلى أهل العلم، للبحث في تلك المسائل بالرجوع لنصوص الشريعة، وقواعد وأصول الفقه، ومقاصد الشريعة حتى تنضبط الأمور، ويظل ارتباط المسلمين قويًا بدينهم وكتابهم وسنة نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم-. كما أن اتخاذ القرارات المؤثرة على مجموع الناس لا ينبغي أن يتولاها الأفراد إلا إن تم نصبهم لذلك الغرض من قبل الجماعة، كأن يكون مندوبًا أو ممثلًا عن الجالية الإسلامية، وعليه حينئذ الرجوع لأهل العلم لتقدير المصالح والمفاسد، وتقدير الضرورة أو الحاجة، ¬

_ (¬1) انظر: فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة، ص 62 - 63، والحاجة وأثرها في الأحكام، 1/ 197.

ومعرفة البدائل الشرعية، وحجم الضرورة أو الحاجة ونحوها من القضايا التي لا يتوصل إليها إلا العلماء (¬1). وهنا تظهر أهمية الاجتهاد الجماعي من خلال مجالس وهيئات وممثليات تنظر في قضايا المستضعفين التي تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي والفتوى، قال ابن القيم رحمه اللَّه: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات؛ حتى يحيط به علمًا. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم اللَّه الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم اللَّه ورسوله" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) قال الجويني رحمه اللَّه: "وقد قال العلماء: لو خلى الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنُهى وذوي العقول الحِجى من يلتزمون امتثال إشارته وأوامره وينتهون عن مناهيه ومزاجره، فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات" غِياث الأُمم، ص 185. (¬2) إعلام الموقعين، 1/ 87 - 88.

المبحث الرابع عدم الركون للاستضعاف

المبحث الرابع عدم الركون للاستضعاف إن وقوع الإنسان في الاستضعاف لا يعني الركون إلى تلك الحالة، والتوسع في الأخذ بالرخصة بدعوى المشقة، وتعاطي المحظور بدعوى الضرورة والحاجة، ولهذا لم يقبل اللَّه -عز وجل- اعتذار القادرين على الهجرة بأنهم كانوا مستضعفين، بل وصفهم بأنهم ظالموا أنفسهم، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬1)، إن الأمة المستضعفة مهما بلغ ضعفها، فلا ينبغي لها أن يستولي عليها اليأس أو الكسل عن طلب حقها، ولقد استنقذ اللَّه أمة بني إسرائيل الضعيفة، من أسر فرعون وملئه، ومكنهم في الأرض، بل وملكهم بلادهم، وما دامت الأمة ذليلة مقهورة لا تأخذ حقها ولا تتكلم به، لا يقوم لها أمر دينها ولا دنياها ولا يكون لها إمامة فيه (¬2). إن حالة الاستضعاف ومسائلها تُعد استثناء، وإن التساهل في التعاطي مع الاستثناء حتى يغدو كأنه أصل لا تبيحه الشريعة الإسلامية، ولهذا فقد ختمت النصوص القرآنية التي تناولت الضرورة بنفي الإثم والمغفرة والرحمة والعفو، وهي كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3)، وقوله سبحانه: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4)، وقوله عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية [97]. (¬2) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 1/ 618. (¬3) سورة البقرة، من الآية [173]. (¬4) سورة المائدة، من الآية [3].

رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1)، وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2)، وقوله تعالى في شأن هجرة المستضعفين: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (¬3)، "ذكر بكلمة الإطماع ولفظ العفو؛ إيذانا بأن ترك الهجرة أمر خطير، حتى إن المضطر من حقه أن لا يأمن ويترصد الفرصة، ويعلق بها قلبه" (¬4). كما جاءت القواعد الفقهية المقيدة للعمل بقاعدة الضرورة والتي هي حالة من حالات الاستضعاف، ومن تلك القواعد: "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" (¬5)، و"ما أبيح بشرط الضرورة فهو عدم عند عدمها" (¬6)، و"الضرورة إذا رفعت حرام ما وراءها" (¬7). إذًا حالة الاستضعاف تُعد من حالات الضرورة والحاجة، ومما مضى يستنبط ما يلي: 1 - أن إزالة تلك الضرورة مصلحة مؤقتة، وليست دائمة. 2 - أن وجود هذا الاعتقاد لدى المستضعف يدفعه للسعي للخروج من حالة الاستثناء، والعودة إلى الأصل (¬8). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، من الآية [145]. (¬2) سورة النحل، من الآية [115]. (¬3) سورة النساء، الآية [99]. (¬4) تفسير البيضاوي، 2/ 243. (¬5) الأشباه والنظائر، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 1/ 84. (¬6) بدائع الفوائد، 4/ 832. (¬7) المرجع السابق، 4/ 906. (¬8) قال الكاساني في بدائع الصنائع، 1/ 216: "لأن مواضع الضرورة مُسْتَثْنَاةٌ من قواعد الشرع"، وانظر: كشف الأسرار، 3/ 50، وفتح القدير، كمال الدين بن عبد الواحد ابن الهمام، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 10/ 504.

3 - أن رفع الحرج عن المستضعف حال الضرورة لا يعني الإباحة بمعنى التخيير بين الترك أو الفعل. ومتى ما وجد المستضعف أو المستضعفون فرصة للخلاص من حالة الاستضعاف أو وسيلة لذلك، وجب عليهم الأخذ بها، متى ما تحققت الشروط، وانتفت الموانع، كما ينبغي عليهم السعي الحثيث للبحث عن البدائل، ولقد خرج عبد اللَّه بن سهيل بن عمرو -رضي اللَّه عنه- إلى بدر يكتم إيمانه، بعدما حبسه أبوه حتى ظن أنه رجع عن دينه، فلما التقى الجمعان، هرب إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقاتل مع المسلمين، وعد بدريًا -رضي اللَّه عنه- (¬1)، وقد أقره الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على فعله، وكان يتربص الفرصه للانحياز للمسلمين ولم يركن -رضي اللَّه عنه- إلى حكم الاستضعاف. * * * ¬

_ (¬1) وهو أخو أبي جندل، وقد شهد بدرًا وهو ابن سبع وعشرين سنة فغاظ ذلك أباه سهيل بن عمرو غيظًا شديدًا، وشهد المشاهد كلها، واستشهد يوم اليمامة، وله ثمان وثلاثون سنة، انظر: جوامع السيرة، 1/ 67، والروض الأنف، 4/ 52، والطبقات الكبرى، 3/ 406، وسير أعلام النبلاء، 1/ 193.

المبحث الخامس الأخذ بضوابط العمل بالضرورة والحاجة

المبحث الخامس الأخذ بضوابط العمل بالضرورة والحاجة إن فقه الاستضعاف ليس هو فقه الضرورة والحاجة، وذلك لأن المستضعف قد يكون واقعًا تحت الضرورة والحاجة، كحالة الاستضعاف الكلي، وقد لا يكون واقعًا تحت الضرورة في كل شؤونه كحالة الاستضعاف الجزئي. كما أن فقه الاستضعاف ليس هو فقه الأقليات، فهو أوسع من فقه الأقليات إذ يشمل فقه الأقليات حالة استضعافها، ويشمل غيرها، أما في حالة قوة الأقليات فلا يشملها فقه الاستضعاف. ولا يخلو عصر من العصور من وجود ذوي الأهواء من المفتين المتساهلين أو الموجَّهين ممن يقدمون مصالحهم الشخصية ويحفظونها ابتغاء متاع الدنيا، أو يسير في ركب الحكام طمعًا بما لديهم من مناصب أو أموال، لذا فقد استنبط الفقهاء ضوابط وشروط من النصوص الشرعية لمن أراد الترخص بسبب الضرورة أو الحاجة، تكون عونًا لطالب الحق، ومنعًا للعابثين، وقطعًا للطريق عمن جعل من الضرورة أو المصلحة سترًا يتستر به بلا قيد أو حد (¬1)، ومن هذه الشروط: 1 - تحقق وقوع الضرر (الاضطرار) بالمستضعف: لأن الرخصة إنما تكون عند تحقق الضرورة، وتحقق وجود الاستضعاف يكون بتحقق وقوع الضرورة والحاجة والإكراه، وفقًا للشروط التي ذكرها الفقهاء، قال ابن قدامة رحمه اللَّه: "الضرورة أمر معتبر بوجود حقيقته لا يكتفى فيه المظنة، بل متى وجدت الضرورة أباحت سواء وجدت المظنة أو لم توجد، ومتى انتفت لم يبح الأكل لوجود مظنتها" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة، ص 64، ونظرية الضرورة، ص 206. (¬2) المغني، 9/ 331.

أما فيما يتعلق بالجماعة فإنه يكتفى بالحاجة، وقد نبه على هذا إمام الحرمين رحمه اللَّه عند حديثه عن الكسب الحرام حالة إطباق الحرام، ولم يجد الناس لطلب الحلال سبيلًا، فقال: "فلهم أن يأخذوا منه قدر الحاجة، ولا تشترط الضرورة التي نرعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر لو صابر ضرورته، ولم يتعاط الميتة لهلك، لو صابر الناس حاجاتهم، وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبة، ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدي الضرورة في حق الآحاد" إذ "لا يراعى فيما يعم الكافة الضرورة بل يكتفى بحاجة ظاهرة" (¬1). 2 - أن تكون جارية على أصول الشرع وقواعده ومقاصده: فلا بد أن يشهد للضرورة أصل شرعي بالاعتبار، وهذا ما دلت عليه القاعدة الفقهية: "إنما تعتبر الضرورة فيما لا يكون فيه نص بخلافه" (¬2). "فعلى كل ناظر ألا يتبع رأيه المحض، حتى يربطه بأصول الشريعة، ومن أعمل الرأي المجرد، أحل وحرم على خلاف الشريعة فلا حجة إذًا في قوله" (¬3). ¬

_ (¬1) غياث الأمم، ص 221 - 222. (¬2) العناية شرح الهداية، محمد بن محمد البابرتي، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 3/ 104. (¬3) البرهان في أصول الفقه، عبد الملك بن عبد اللَّه الجويني، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، دار الوفاء: المنصورة، ط 4، 1418 هـ، 2/ 505، وانظر: والفروق، 2/ 184، جاء في المدخل لابن بدران، 1/ 295: "ولا يجوز للمجتهد التمسك بمجرد هذين القسمين المذكورين، وهما: التحسيني، والحاجي، بل لا بد له من شاهد من جنسها يشهد له باعتبار أحكامهما؛ لئلا يكون ذلك وضعا للشرع بالرأي؛ ولأن اعتبارهما بدون شاهد، يؤدي إلى الاستغناء عن بعث الرسل، ويجر الناس إلى دين البراهمة القائلين: لا حاجة لنا إلى الرسل؛ لأن العقل كاف لنا في التأديب ومعرفة الأحكام، إذا ما حسنه العقل أتيناه، وما قبحه اجتنبناه، وما لم يقض فيه بحسن ولا قبح فعلنا منه الضروري، وتركنا الباقي احتياطا، والتمسك بهذين القسمين من المصالح من غير شاهد لهما بالاعتبار يؤدي إلى مثل ذلك ونحوه فيكون باطلا".

قال الغزالي رحمه اللَّه: "الواقع في الرتبتين الأخيرتين -أي: الحاجي والتحسيني- لا يجوز الحكم بمجرده، إن لم يعتضد بشهادة أصل، إلا أنه يجري مجرى وضع الضرورات، فلا يبعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد الشرع بالرأي، فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل، فذاك قياس وسيأتي، أما الواقع في رتبة الضرورات فلا يبعد في أن يؤدي إليه اجتهاد، وإن لم يشهد له أصل معين، ومثاله إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين" (¬1). ولذلك نجد من الفقهاء من يُعبر عن هذه الضرورة بالضرورة الشرعية (¬2)، وألحق الفقهاء بالضرورة الحاجة الماسة والشديدة (¬3)، كما يلحق بالضرورة الحاجة العامة، قال العز بن عبد السلام رحمه اللَّه: "إذا عم الحرام بحيث لا يوجد حلال فلا يجب على الناس الصبر إلى تحقق الضرورة لما يؤدي إليه من الضرر العام" (¬4). قال ابن القيم رحمه اللَّه: "الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى ¬

_ (¬1) المستصفى، 1/ 175، وقال ابن قدامة رحمه اللَّه: "فهذان الضربان -أي: الحاجي والتحسيني- لا نعلم خلافا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل، فإنه لو جاز ذلك كان وضعا للشرع بالرأي، ولما احتجنا إلى بعثة الرسل ولكان العامي يساوي العالم في ذلك فإن كل أحد يعرف مصلحة نفسه"، روضة الناظر، عبد اللَّه بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد العزيز السعيد، جامعة الإمام محمد ابن سعود: الرياض، ط 2، 1399 هـ، 1/ 170. (¬2) انظر: المدخل، لابن الحاج، محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1401 هـ، 4/ 134. (¬3) انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/ 130. (¬4) المرجع السابق، 2/ 37.

الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فلسيت من الشريعة" (¬1). 3 - أن يكون ارتكاب المستضعف للمحظور أقل ضررًا من الأخذ بالعزيمة: ويعرف ذلك بالأخذ بقاعدة المصالح والمفاسد، وبالنظر لأخفهما وأغلظهما (¬2)، ويسبق هذا ألا يكون هنالك من سبيل لدرء المفسدة إلا الوقوع في المحظور، ومن القواعد التي قررها أهل العلم: "درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فإذا تعارض مفسدة ومصلحة، قدم دفع المفسدة غالبًا؛ لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات" (¬3)، ومن صيغ هذه القاعدة: "المحرم إذا عارضه الواجب قدم على الواجب؛ لأن رعاية درء المفاسد أولى من رعاية حصول المصالح" (¬4)، والسبب في هذا لأن المصالح لم تشرع في الحقيقة إلا لدفع الضرر أيضًا (¬5). وأما إن اجتمعت المفاسد على المستضعف "فإن أمكن درؤها درأنا، وإن تعذر درء الجميع درأنا الأفسد فالأفسد" (¬6)، ومثلها قاعدة: "درء المفسدة العليا أولى من درء غيرها" (¬7)، ومثلها قاعدة: "تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة" (¬8)، وأيضًا ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، 3/ 3. (¬2) انظر: المنثور، 2/ 321. (¬3) الأشباه والنظائر، 1/ 87، وانظر: شرح القواعد الفقهية، أحمد بن محمد الزرقا، دار القلم: دمشق، ط 2، 1409 هـ، 1/ 206، ودرر الحكام، 1/ 37. (¬4) الفروق، 4/ 370. (¬5) شرح القواعد الفقهية، 1/ 165. (¬6) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 79. (¬7) المدخل لابن بدران، 1/ 298. (¬8) فتح الباري، 1/ 172.

قاعدة: "تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة أو البعيدة" (¬1). فمن المقرر عند أهل العلم: أن "الضرورات لا تبيح كل المحظورات، بل يجب أن تكون المحظورات دون الضرورات، أما إذا كانت الممنوعات أو المحظورات أكثر من الضرورات فلا يجوز إجراؤها ولا تصبح مباحة" (¬2)، ومن هنا جاءت القواعد الفقهية المقيدة لقاعدة الضرورة، ومنها: الضرر لا يزول بضرر آخر، ومن باب أولى ألا يزال بأكثر منه، إذ يشترط بأن يزال الضرر بلا إضرار بالغير إن أمكن، وإلا فبأخف منه (¬3). فـ "الضروريات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها" (¬4)؛ لكون الضرورة في حقيقتها هي تعارض مصلحتين ومفسدتين على أمر واحد، فنرجح المصلحة الأكبر، وندفع المفسدة الأشد، فإن كانت مصلحة الالتزام بالحكم الأصلي أولى من مصلحة إزالة الضرورة، فلا يعتد بتلك الضرورة، ولا اعتبار لها، كمن أكره على قتل غيره (¬5). ومما يدخل في هذا أيضًا تقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد (¬6)، فإن المفسدة الواقعة على الفرد هي الأدنى، والمفسدة الواقعة على الجماعة هي الأعلى. ¬

_ (¬1) أضواء البيان، 7/ 497، ومثل لها بقوله: "أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة، قدمت على المفسدة المرجوحة، التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسارى". (¬2) درر الحكام، 1/ 34. (¬3) انظر: المدخل لابن بدران، 1/ 298، والأشباه والنظائر، 1/ 86، ودرر الحكام، 1/ 35، وشرح القواعد الفقهية، 1/ 195. (¬4) الأشباه والنظائر، 1/ 84. (¬5) انظر: نظرية الضرورة، ص 204 - 205. (¬6) انظر: سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام، محمد بن إسماعيل الصنعاني، تحقيق: محمد الخولي، دار إحياء التراث العربي: بيروت، ط 4، 1379 هـ، 3/ 22، والموافقات، 2/ 367.

وكذلك إذا تعارضت مصلحة دينية مع مصلحة دنيوية "فالأول مقدم؛ لأن ثمرة الدينية هي السعادة الأبدية التي لا يعادلها شيء" (¬1)، ومما يستدل به على هذه القاعدة قصة وفد بني عامر بن صعصعة وكان فيهم عامر بن الطفيل والذي خَيَّرَ النبي عليه الصلاة والسلام بين ثَلاثِ خِصَالٍ فَقال: (يكون لك أهْلُ السَّهْلِ ولِي أهْلُ المَدَر أوْ أكُونُ خَلِيفَتَكَ أوْ أغْزُوكَ بأهْلِ غَطَفَانَ بألْف وألْفٍ) (¬2)، فرد عليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (ليس ذلك لك، ولا لقومك، ولكن لك أعنة الخيل)، قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، اجعل لي الوبر، ولك المدر، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لا)، فلما قفا من عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال عامر: أما واللَّه لأملأنها عليك خيلًا ورجالًا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (يمنعك اللَّه) (¬3)، وهذا ما جرى له فقد طعن في بيت امرأة، ونزل به الطاعون فهلك. إن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض عرض عامر ولم يفرط في حق الأمة في تحديد من يحكمها بالرغم من التهديد الشديد، وبهذا ندرك أن القواعد الاعتقادية والتشريعية لا يجوز للمسلمين التنازل عنها أو التحاور حولها بل تصان بكل وسيلة، سواء أكانت بالمال، وإن لزم الأمر بالنفس، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يوافق على هذه المصلحة والتي ¬

_ (¬1) التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، عبد الرحيم الأسنوي، تحقيق: د. محمد هيتو، مؤسسة الرسالة: بيروت، ط 1، 1400 هـ، 1/ 515. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب المُغَازِي، باب غزوة الرجيع، رقم: 3864، وبقية الحديث: (فَطُعِنَ عامِرٌ في بَيْتِ أُمِّ فُلانٍ، فَقال: غُدَّةٌ كغدةِ البَكْرِ في بَيْتِ امْرَأةٍ مِنْ آلِ فُلانٍ ائْتُونِي بِفَرَسِي فَمَاتَ علَى ظَهْرِ فرَسِهِ). (¬3) رواه الطبراني في المعجم الكبير، 10/ 312، رقم: 10760، ومصنف عبد الرزاق، 11/ 51، رقم: 19884، وقال في مجمع الزوائد، 7/ 42: "وفي إسنادهما عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف".

تبدو دنيوية؛ لكونها منفعة مؤقتة ومشكوك في نتائجها، وعارضت مصلحة دائمة ومرتبطة بأصول الإسلام، وهو أن يكون الحكم للَّه تعالى ووفق شريعته (¬1). 4 - مراعاة مراتب الضروريات: فهي تتفاوت بحسب تفاوت المصلحة المطلوب العناية بها، وبحسب المفسدة المترتبة عن الإخلال بها، وتظهر ثمرة هذا عند تعارض ضروريين، كتعارض ضروري الدين مع ضروري النفس فيقدم الأول، "والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق؛ إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة، فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع فكان باطلًا" (¬2). ومن أجل هذا شرع الجهاد، بل تركه سيؤدي في النهاية إلى ضياع النفس وبقية الضرورات، بينما القيام به وإن أدى إلى ضياع بعض الأنفس، إلا أن ما حفظها من الأنفس أكثر مما لو ترك القيام به، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬3)، قال الشاطبي رحمه اللَّه: "وجدنا الدين أعظم الأشياء، ولذلك يُهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما، ثم النفس ولذلك يُهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل والمال" (¬4)، وقال أيضًا: "الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه، ¬

_ (¬1) انظر: رؤية معاصرة لمواقف من السيرة، د. محمد بن عبد اللَّه الشباني، دار عالم الكتب: الرياض، ط 1، 1412 هـ، ص 33 - 37. (¬2) الموافقات، 2/ 387، وتقديم الضرورة الدينية على الدنيوية قول الرازي والآمدي، وحكى ابن الحاجب تقديم الدنيوية،؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة، انظر: البحر المحيط في أصول الفقه، محمد بن بهادر الزركشي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1421 هـ، 4/ 481. (¬3) سورة البقرة، الآية [216]. (¬4) الموافقات، 2/ 299.

فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين، وليس تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين، فيبيح الكفر الدم، والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين، ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس، ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص، فالقتل بخلاف العقل والمال، وكذلك سائر ما بقى وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب فليس قطع العضو كالذبح، ولا الخدش كقطع العضو، وهذا كله محل بيانه الأصول" (¬1). إن الإخلال بالدين إخلال بأول الضروريات، كما أن أركان الدين الخمسة متفاوتة في الترتيب فيما بينها، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان وكذلك سائرها (¬2). قال ابن رجب رحمه اللَّه: "إذا اجتمع للمضطر محرمان كل منهما لا يباح بدون الضرورة، وجب تقديم أخفهما مفسدة، وأقلهما ضررا؛ لأن الزيادة لا ضرورة إليها فلا يباح" (¬3)، ومن القواعد الدالة على هذا المعنى: "الضرورة متى أمكن دفعها بأيسر الأمرين لا يصار إلى أعلاهما" (¬4)، وقاعدة: "اتباع خير الخيرين مطلوب واجتناب شر الشرين فيه مرغوب" (¬5). ومن الأمثلة على مراعاة مراتب الضروريات، لو أُكره المستضعف على شرب الخمر، فيجوز له شربها؛ لأن حفظ النفوس والأطراف أولى من حفظ العقول في زمن قليل؛ ولأن فوات النفوس والأطراف دائم، وزوال العقول يرتفع عن قريب بالصحو (¬6). ¬

_ (¬1) الاعتصام، 2/ 38. (¬2) المرجع السابق، 2/ 57 - 58. (¬3) القواعد، ص 247. (¬4) التقرير والتحبير، 1/ 137، (¬5) المنثور، 3/ 395. (¬6) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 176.

5 - مراعاة الترتيب بين الضروريات والحاجيات والتكميلات: فإذا تعارضت هذه الأقسام رجحت بحسب قوة المصلحة، فترجح المقاصد الخمسة الضرورية التي هي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، على ما سواها من المقاصد الحاجية، ونرجح الحاجية على التحسينية، والسبب قوة المصلحة الضرورية، ولذا لم تخل شريعة من مراعاتها (¬1). فإن كان الأخذ بالحاجية سيؤدي لنقض الضرورة لم يجز الأخذ به، لكونها مُكَمِّلة للضرورية؛ ولأن إبطال الأصل إبطال للتكملة؛ لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف، وكالكلي مع الجزئي، وعلى فرض أنه يمكن تحصيل المصلحة التكميلية مع فوات المصلحة الأصلية، فإن تحصيل الأصلية أولى، لأن مفسدة فقد الأصل أعظم (¬2)، وهذا ما دلت عليه القاعدة: "المُكَمِّلِ إذا عاد على الأصل بالنقض سقط اعتبارها" (¬3)، و"كل تكمِلة أدت الى انخرام الأصل المُكَمِّلَ غير معتبرة" (¬4)، "يقدم ما اشتدت الضرورة إليه على ما مست الحاجة إليه" (¬5). قال القرافي رحمه اللَّه (¬6): "المعاصي منها صغائر، ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات، فإن ما كانت في الضروريات أعظم الكبائر، ¬

_ (¬1) انظر: التقرير والتحبير، 3/ 307، والاعتصام، 2/ 38. (¬2) انظر: أنوار البروق في أنواع الفروق، أحمد بن إدريس القرافي، دار عالم الكتب: بيروت، ط 1، د. ت، 8/ 240. (¬3) الموافقات، 1/ 182. (¬4) المرجع السابق، 4/ 255. (¬5) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/ 61. (¬6) أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن القرافي شهاب الدين، من علماء المالكية مصري المولد والمنشأ والوفاة، من مآثره: الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام، وبرع في عمل التماثيل المتحركة في الآلات الفلكية وغيرها، توفي سنة 684 هـ، انظر ترجمته: الأعلام، 1/ 94 - 95.

وما كانت في التحسينات فأدنى رتبة بلا إشكال، وما وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين، ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل، ولا يمكن أن يكون في رتبة المكمل، فإن المكمل مع المكمل في نسبة الوسيلة مع المقصد، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد، وأيضا الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه" (¬1). وربما يحسن التنبيه إلى أن هذا التقسيم للمقاصد لا يعني أن الشريعة لا تعتني بالتحسيني أو الحاجي، لكنه عند التزاحم يقدم الضروري، ثم الحاجي، ثم التحسيني، إذ أن اختلال التحسيني، يؤدي إلى اختلال الحاجي، واختلال الحاجي يؤدي إلى اختلال الضروري (¬2). 6 - الاقتصار على قدر حاجة المستضعف: فلا يتجاوز الحد الذي يرفع الضرورة، قال الشاطبي رحمه اللَّه: "الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا تُرضى شرعًا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج" (¬3)، وقد جاءت القواعد الفقهية الموضحة لهذا الشرط، منها: "ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها" (¬4)، ما أبيح للضرورة يختص بمحلها (¬5)، و"الثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة؛ لأن علة ثبوتها الضرورة والحكم لا يزيد على قدر العلة" (¬6)، و"الثابت بالضرورة يتقدر بقدر ¬

_ (¬1) الفروق، 4/ 355 - 356. (¬2) انظر: الموافقات، 2/ 16 - 17. (¬3) المرجع السابق، 4/ 210. (¬4) الأشباه والنظائر، 1/ 84. (¬5) انظر: بدائع الصنائع، 1/ 245، وفتح القدير، 1/ 87، والمجموع شرح المهذب للشيرازي، يحيى بن شرف النووي، مطبعة المنيرية: القاهرة، ط 1، د. ت، 2/ 280. (¬6) بدائع الصنائع، 5/ 125.

الضرورة، ويتجدد بتجددها" (¬1)، ويزول بزوالها، و"الثابت بالضرورة يثبت بأدنى ما يندفع به الضرورة" (¬2)، و"الأمر إذا ضاق اتسع، وإذا اتسع ضاق" (¬3)، والمراد: "أن ما تدعو إليه الضرورة من المحظورات، إنما يرخص منه القدر الذي تندفع به الضرورة فحسب، فإذا اضطر الإنسان لمحظور فليس له أن يتوسع في المحظور، بل يقتصر منه على قدر ما تندفع به الضرورة فقط" (¬4)، ومن باب أولى أن يقتصر الأمر على المستضعف المضطر ولا يتعدى إلى غيره (¬5)، ومما يلحق بهذه القواعد قاعدة: "الأمور الضرورية لا يقاس عليها ما ليس في محلها من تلك الضرورة" (¬6). 7 - انتهاء الرخصة عند انتهاء حاجة المستضعف لها: ومن القواعد الفقهية الدالة على هذا الشرط: "ما أبيح بشرط الضرورة فهو عدم عند عدمها" (¬7)، و"الضرورة إذا رفعت حرام ما وراءها" (¬8)، و"ما جاز لعذر بطل ¬

_ (¬1) المبسوط، 2/ 128، وانظر: بدائع الصنائع، 3/ 104، وتبيين الحقائق شَرْح كَنْز الدَّقَائِق، عثمان بن علي الزيلعي، دار الكتاب الإسلامي: القاهرة، ط 1، د. ت، 5/ 93. (¬2) فتح القدير، 8/ 496. (¬3) قواعد الفقه، محمد عميم الإحسان البركتي، الصدف ببلشرز: كراتشي، ط 1، 1407 هـ، 1/ 62، ومما جاء في شرحها، أي: "إذا دعت الضرورة والمشقة إلى اتساع الأمر، فإنه يتسع إلى غاية اندفاع الضرورة والمشقة، فإذا اندفعت وزالت الضرورة الداعية عاد الأمر إلى ما كان عليه قبل نزوله"، شرح القواعد الفقهية، 1/ 163. (¬4) شرح القواعد الفقهية، 1/ 187. (¬5) انظر: المدخل، لابن الحاج، 4/ 214. (¬6) فتح القدير، 4/ 489. (¬7) بدائع الفوائد، 4/ 832. (¬8) المرجع السابق، 4/ 906.

بزواله" (¬1)، و"ما أحل إلا لضرورة أو حاجة، يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَيُزَالُ بِزَوَالِهَا" (¬2). 8 - أن لا يكون الاستضعاف مبطلًا لحق الغير: وهي من القواعد المقررة لدى الفقهاء، ومن صيغها: الاضطرار لا يبطل حق الغير (¬3)، والإباحة للاضطرار لا تُنَافِي الضَّمَانَ (¬4)، و"الضرورة إلى مال الغير لا تُسقط الضمان" (¬5)، و"يُباح أخذ مال الغير عند الضرورة بشرط الضمان" (¬6). وهذا الضمان لحق الغير لا يقتصر على المال. * * * ¬

_ (¬1) انظر: الأشباه والنظائر، 1/ 85، ودرر الحكام، 1/ 35، شرح القواعد الفقهية، 1/ 189، والمجموع شرح المهذب، 2/ 365. (¬2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/ 166. (¬3) انظر: درر الحكام، 1/ 38، وقواعد الفقه، 1/ 60. (¬4) انظر: حاشية ابن عابدين، 6/ 338، تاج العروس، السيد محمد مرتضى الزبيدي، دار ليبيا: بنغازي، ط 1، د. ت، 5/ 250، والكافي، 1/ 188، ومطالب أولى النهى مطالب أولى النهى، مصطفى السيوطي الرحيبانى، المكتب الإسلامي: دمشق، ط 1، 1961 م، 6/ 320. (¬5) الاستذكار، 7/ 213. (¬6) الْجَوْهَرَة النَّيِّرَة شرح مختصر القدوري، محمد بن علي الحدادي، المطبعة الخيرية: القاهرة، ط 1، 1322 هـ، 1/ 177.

المبحث السادس العمل بشروط الإكراه المعتبر

المبحث السادس العمل بشروط الإكراه المعتبر تقدم ذكر الشروط التي وضعها الفقهاء لاعتبار الضرورة والأخذ بها، وللمستضعف حالات، فتارة يكون واقعًا تحت تأثير الضرورة، وتارة تحت تأثير الحاجة الماسة أو الشديدة، أما الإكراه فيُعد سببًا من أسباب الضرورة، ومن المواضع التي تعمل فيها قاعدة الضرورة (¬1)، وقد اشترط الفقهاء شروطًا خاصة لاعتبار الإكراه، وينبغي على المستضعف في حال تعرضه للإكراه ألا يقدم على ما أُكره عليه مباشرة، إذ أن الإكراه منه المعتبر، ومنه ما لا اعتبار له، ويمكن تقسيم هذه الشروط بحسب متعلقها إلى أربعة أقسام: أولا: الشروط المتعلقة بالمكره (بالكسر): 1. أن يكون المكره قادرا على إنفاذ ما هدد به؛ لأن الضرورة لا تتحقق إلا عند القدرة على الايقاع. ثانيًا: الشروط المتعلقة بالمستضعف، أى: المكرَه (بالفتح): 1. أن يغلب على ظن المستضعف أنه إذا امتنع سينفذ المكرِه وعيده. 2. أن يكون المستضعف عاجزًا عن دفع الإكراه إما بالمقاومة أو الفرار ونحوه. 3. ألا يظهر من المستضعف ما يدل على اختياره، ولهذا أكد الفقهاء على أهمية أن يتأول المكرَه. ثالثًا: الشروط المتعلقة بالمكرَه به: 1. أن يقع الإكراه بما يسبب الهلاك للمستضعف، أو يدخل عليه ضررًا كبيرًا (¬2)، بنفسه أو ماله أو عرضه أو إخوانه المؤمنين أو دينه، كالقتل، والضرب الشديد، والحبس والقيد الطويلين، وأخذ المال الكثير، والإخراج من الديار. ¬

_ (¬1) انظر: نظرية الضرورة حدودها وضوابطها، ص 85، ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية، 442 - 443. (¬2) قال المرداوي رحمه اللَّه: "أما الضرب اليسير، إن كان في ذوي المروءات، فهو كالضرب الكثير في حق غيره، أما السب والشتم فلا يكون إكراهًا". الإنصاف، 8/ 441.

2. أن يكون الإكراه بشيء حال فوري، ويستثنى ما إذا ذكر زمنًا قريبًا جدًا (¬1). رابعًا: الشروط المتعلقة بالإكراه نفسه: 1. أن يكون الإكراه على أمر غير مشروع. 2. أن يكون الإتيان به منجيا من الضرر، أي يحصل من إتيان المستضعف للمكره عليه الخلاص من الشر المتوعد به (¬2). 3. أن يكون محلّ الفعل المكره عليه متعيّنًا. ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور، ويستثنى من الفعل ما هو محرم على التأبيد كقتل النفس بغير حق بالإجماع (¬3)، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "إذا كَانَ المُكْرَهُ على الْقِتَالِ في الْفِتْنَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ، بَلْ عَلَيْهِ إفْسَادُ سِلاحِهِ، وَأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يُقْتَلَ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ بِالمُكْرَهِ عَلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ مَعَ الطَّائِفَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ: كَمَانِعِي الزَّكَاةِ، وَالمُرْتَدِّينَ، وَنَحْوِهِمْ، فَلا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْحُضُورِ أَنْ لا يُقَاتِلَ وَإِنْ قَتَلَهُ المُسْلِمُونَ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ على حُضُورِ صَفِّهِمْ لِيُقَاتِلَ المُسْلِمِينَ، وَكَمَا لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ مَعْصُومٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ حِفْظُ نَفْسِهِ بِقَتْلِ ذَلِكَ المَعْصُومِ" (¬4). ¬

_ (¬1) وذهب جماهير الشّافعيّة إلى أنّ الإكراه لا يتحقّق مع التّأجيل، ولو إلى الغد. (¬2) انظر: أسنى المطالب، 1/ 573. (¬3) وهذه الشروط مبسوطة في كتب الفقه، وللمزيد انظر: المبسوط، 24/ 39 - 89، وتبيين الحقائق، 5/ 181، ولسان الحكام، 1/ 311، والمهذب في فقه الإمام الشافعي، إبراهيم بن علي بن يوسف. الشيرازي، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 2/ 78، وفتح الباري، 12/ 311، والإنصاف، 8/ 439 - 440. (¬4) الفتاوى، 28/ 539.

ولا يمكن وضع حد منضبط للإكراه؛ لكونه يختلف باختلاف النظر في حال المستضعف وقدرته وصبره ومكانته، وبحسب حال المستكبر الذي وقع منه الإكراه، وكذلك الأمر المكره عليه، فليس الإكراه على الكفر كالإكراه على المعصية، وليس الإكراه على مجرد القول كالإكراه على القول والفعل أو مجرد الفعل وهكذا (¬1). وربما يحسن بعد ذكر هذه الشروط والضوابط التأكيد على الأمور التالية: 1 - أن الضرورة لا تخالف النص أو الإجماع، بل هي حكم بخلاف الدليل لدليل شرعي خاص أو عام، وهي مخالفة مستندة إلى أدلة شرعية أخرى (¬2)؛ كما أن المستضعف أو المستضعفين تختلف أحوالهم، فقد يقع في حالة من الاضطرار لا يتأتى معها مثل هذا التأمل والنظر، لاسيما مع ضيق الوقت للنجاة أو اتخاذ القرار، فليس له حينئذ إلا الرجوع لما ذكر سابقًا، وهو أن المستضعف فقيه نفسه، وذلك وفقًا للشروط المذكورة. قال ابن القيم رحمه اللَّه: "كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط والوجوب، إنما هو في حال القدرة والسعة، لا في حال الضرورة والعجز؛ فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع، ولا قول الأئمة، وغاية المفتي بها أنه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها، ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم، فالمفتي بها موافق لأصول الشرع وقواعده، ولقواعد الأئمة" (¬3). 2 - أهمية مراعاة الضوابط المذكورة، وضرورة التقيد بها قدر المستطاع، ومن المهم أن يكون الحرص عظيمًا على الالتزام بالأصل، والعودة إلى حكمه، وعدم الركون للاستثناء، ¬

_ (¬1) انظر: الفتاوى الكبرى، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 5/ 489. (¬2) انظر: الحاجة وأثرها في الأحكام، 1/ 347 - 348. (¬3) إعلام الموقعين، 3/ 31 - 32.

أو التوسع في مثل هذه المسائل بما لا تقتضيه الضرورات والحاجات الحقيقية، والرجوع لأهل العلم ما أمكن ذلك. 3 - لا يمكن قصر حالات الضرورة على الجوع والإكراه، بل كل حالة تطرأ على المستضعف بحيث لو لم تراع لضاعت مصالحه الضرورية أو غلب على ظنه ضياعها فإن المحظورات تباح له (¬1). ومما يؤيد هذا أدلة القاعدة التي لم تقتصر على تلك المعاني، بل بينت أن حالة الضرورة تتجاوز حالة الغذاء، وكذلك حالة الإكراه، ومن ذلك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في شأن إباحة الدفاع عن النفس أو المال أو العرض: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) (¬2)، وفي رواية أخرى: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد) (¬3). ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬4)، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬5)، ولا شك أن المضار لا تقتصر على الغذاء أو الإكراه (¬6). * * * ¬

_ (¬1) انظر: رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، ص 444 - 445. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب من قاتل دون ماله، رقم: 2348، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه، رقم: 141. (¬3) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في قتال اللصوص، رقم: 4772. (¬4) سورة البقرة، الآية [195]. (¬5) سورة النساء، الآية [29]. (¬6) إعلام الموقعين، 3/ 31 - 32.

المبحث السابع مراعاة الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين

المبحث السابع مراعاة الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين إن الناظر في الأدلة الشرعية من القرآن الكريم، أو السنة النبوية المطهرة والسيرة، يجد الفرق جليًا بين ما شُرع في حال القوة، وما شُرع في حال الضعف، وإن مراعاة الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين تقتضي النظر في الأحوال التي اقترنت بالأدلة الشرعية، سواءً ما تعلق بالزمان أو المكان، أو المخاطب به، أو المناسبة، وليس كُل أحد يُدرك هذا الأمر، ولهذا كان بيان الصحابة رضوان اللَّه عليهم مما يعتمد عليه لمعرفتهم باللسان العربي وكذلك لـ"مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة، فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك" (¬1)، ومن الأمور المعينة على إدراك هذا الفرق بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين معرفة أسباب النزول، وأسباب ورود الحديث، ولأهميتها جعلها العلماء شرطًا من شروط المجتهد (¬2)، وهو علم لا يستغني عنه المجتهد أو الفقيه، قال الشاطبي رحمه اللَّه: "معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران: أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يُعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلًا عن معرفة مقاصد كلام العرب؛ إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب، من جهة نفس الخطاب، أو المُخَاطِب، أو المُخَاطب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك. . . ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 338. (¬2) انظر: أصول السرخسي، محمد بن أحمد السرخسي، دار المعرفة: بيروت، ط 1، د. ت، 2/ 108، والمحصول، محمد بن عمر الرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، جامعة الإمام محمد بن سعود: الرياض، ط 1، 1450 هـ، 6/ 35، وقواطع الأدلة في الأصول، منصور بن محمد السمعاني، تحقيق: محمد حسن، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1418 هـ، 2/ 306، والمدخل لابن بدران، 1/ 371.

وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال يُنقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال، وينشأ عن هذا الوجه الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه، والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال، حتى يقع الاختلاف وذلك مظنة وقوع النزاع" (¬1). وبهذا يتبين لنا أهمية الإلمام بأسباب النزول وأسباب الورود، وأنها ليست تاريخًا للنزول فحسب، بل إنها جزء من النظر والاستنباط الفقهي، كما أنها تعين على معرفة الحكمة من التشريع والوقوف على المعنى، وأن الشريعة قامت على رعاية مصالح الإنسان لا على الاستبداد والتحكم (¬2)، قال الغزالي رحمه اللَّه: "إنه لو لم يكن للسبب مدخل لما نقله الراوي؛ إذ لا فائدة فيه، قلنا: فائدته معرفة أسباب التنزيل، والسير والقصص واتساع علم الشريعة، وأيضا امتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد" (¬3)، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. . . وقولهم نزلت هذه الآية في كذا، يُراد به تارة أنه سبب النزول، ويُراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول عُني بهذه الآية كذا" (¬4). ¬

_ (¬1) الموافقات، 3/ 347. (¬2) انظر: شرح التلويح على التوضيح، 1/ 115، والبرهان في علوم القرآن، محمد بن بهادر الزركشي، تحقيق: محمد أبو الفضل، دار المعرفة: بيروت، ط 1، 1391 هـ، 1/ 22، ومناهل العرفان في علوم القرآن، 1/ 78. (¬3) المستصفى، 1/ 236. (¬4) الفتاوى، 13/ 339.

إن الناظر في الأدلة الشرعية مجردة عن أسبابها، سواءً سبب النزول -فيما يتعلق بالآيات- أو سبب الورود -فيما يتعلق بالحديث، قلما يهتدي للمراد من الأدلة، ولربما فهمت على عكس المراد بها، وقد تقدم الحديث عن المرحلة المكية وصلتها بالاستضعاف، والمراد هنا التأكيد على أهمية دراسة أحوال النص لئلا ننزل أحكام التمكين على حالة الاستضعاف، أو أحكام الاستضعاف على حالة التمكين، ومن الأمثلة على هذا الفرق يمكننا المقارنة بين حادثة مقتل سمية -رضي اللَّه عنها- (¬1) في مكة (¬2)، وبين حادثة المرأة المسلمة التي كُشفت عورتها في سوق بني قينقاع (¬3)، ورد فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والمسلمين في كلا الحادثتين. * * * ¬

_ (¬1) سُمَيَّةُ بنت خباط بمعجمة مضمومة وموحدة ثقيلة مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، والدة عمار بن ياسر، وكان ياسر حليفا لأبي حذيفة فزوجه سمية فولدت عمارا فأعتقه، كانت سابعة سبعة في الإسلام، عذبها أبو جهل وطعنها في قبلها فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام، ولما قتل أبو جهل يوم بدر قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم لعمار: قتل اللَّه قاتل أمك. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 7/ 712، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 4/ 1864، والطبقات الكبرى، 3/ 233. (¬2) "عن مجاهد قال: أول شهيد استشهد في الإسلام أم عمار طعنها أبو جهل بحربة في قُبلها"، أخرجه ابن أبي شيبة، 7/ 250، وذكره الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه- في فتح الباري، 7/ 91. (¬3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، 3/ 314.

المبحث الثامن العمل بآيات الصبر والصفح والعفو

المبحث الثامن العمل بآيات الصبر والصفح والعفو لقد أمر اللَّه عز وجل نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالصبر والصفح والكف والإعراض عن المشركين، ومن ذلك قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} (¬1)، وقوله سبحانه: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (¬2)، وقوله عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (¬3)، وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬4)، ونزلت معظم هذه الآيات في العهد المكي، ولما نزلت الآيات في الأمر بالقتال والجهاد في سبيل اللَّه في العهد المدني كقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬5)، وقوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬6)، وقوله عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية [109]. (¬2) سورة الأنعام، الآية [106]. (¬3) سورة الحجر، الآية [94]. (¬4) سورة الجاثية، الآية [14]. (¬5) سورة التوبة، الآية [5]. (¬6) سورة التوبة، الآية [29].

فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬1)، قال بعض المفسرين أن تلك الآيات المدنية تُعد ناسخة للآيات المكية، إلا أن دعوى النسخ هذه لا دليل عليها، ولهذا ذهب العديد من المحققين إلى عدم صحة دعوى النسخ، وقيل: هو قول الجمهور (¬2)، لاسيما مع إمكانية الجمع، ونجد هذا الأمر ظاهرًا في كتب التفسير وغيرها عند الإشارة لآية السيف وآيات الإعراض والعهود، بل إنا نجد أن هنالك من قال بأن آية السيف منسوخة، بل واختلف المفسرون في تحديدها (¬3)، مع التنبيه إلى أن المتقدمين من أهل العلم توسعوا في إطلاق النسخ، فأطلقوه على التخصيص والاستثناء (¬4). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية [36]. (¬2) جاء في الإنجَاد في أبواب الجهاد، محمد بن عيسى بن أصبغ المعروف بابن المناصِف، تحقيق: قاسم عزيز الوزّاني، دار الغرب الإسلامي: بيروت، ط 1، 2003 م، ص 95: "وقال الجمهور: بل كان فرضُ القِتال على الكِفاية من أول الإسلام، وحَملوا ما وقع في ذلك من التشديد والتعميم على أحوال، وذلك إذا احتيجَ إلى الجميع لِقلةِ المسلمين كما كان ذلك في أولِ الإسلام أو لما عسى أن يَعرض أو يكون ذلك خاصًا بأهل النفير الذين يعيِّنهم الإمام في الاستنفار، وإذا لم يكن شيءٌ من ذلك فهو على أصلِ الكفاية ولا نسخ على هذا من شيء من الآيات، بل هو راجعٌ إلى الأحوال وما يجب في مُقاومةِ الكفار، وهذا الأرجح واللَّه أعلم؛ لأن النسخ لا يُصار إليه إلا بتوقيف أو اضطرار لا يمكن معه الجمع بين الأمرين". (¬3) قال ابن كثير رحمه اللَّه: "ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه، فقال الضحاك والسدي: هي منسوخة بقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، وقال قتادة: بالعكس" تفسير القرآن العظيم، 2/ 338. (¬4) انظر: التسهيل لعلوم التنزيل، 1/ 11، ومناهل العرفان في علوم القرآن، 2/ 132، وأحكام القرآن للجصاص، 2/ 72، وفتح الباري، 8/ 496، والجامع لأحكام القرآن، 2/ 65: "والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخا توسعا ومجازا".

قال ابن جرير رحمه اللَّه: "فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن هذه الآية منسوخة فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل، وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفي حكم المنسوخ من كل وجه فأما ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخا" (¬1)، والسيوطي نقل في إتقانه عن العلامة ابن الحصار -رحمهما اللَّه- قوله: "إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت كذا، قال: وقد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به، من علم التاريخ ليعرف المتقدم والمتأخر، قال: ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بينة؛ لأن النسخ يتضمن رفع حكم، وإثبات حكم تقرر في عهده -صلى اللَّه عليه وسلم- والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد، قال: والناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن متساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب خلاف قولهما، انتهى" (¬2). وقال في موضع آخر: "ما أُمر به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر حين الضعف والقِلة بالصبر والصفح ثم نسخ بإيجاب القتال، وهذا في الحقيقة ليس نسخًا، بل هو من قسم المُنسأ كما قال تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا}، فالمُنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبهذا يضعف ما لهج به كثيرون من أن الآية في ذلك منسوخة بآية السيف وليس كذلك، بل هي من المنسأ بمعنى: أن كل ¬

_ (¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 10/ 34. (¬2) الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، تحقيق: سعيد المندوب، دار الفكر: لبنان، ط 1، 1416 هـ، 3/ 65 - 66.

أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعله يقتضي ذلك الحكم ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله" (¬1). وكل دعاوى النسخ إن لم تستند لدليل فهي محل نظر، خاصة مع إمكان الجمع؛ لأن شرط النسخ التعارض مع تعذر الجمع، ومن المقرر عند أهل العلم أنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع (¬2)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: "فإن من الناس من يقول آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة، وهذا غلط فإن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضا للحكم المنسوخ" (¬3). وقال في موضع آخر بعد أن أشار إلى الآيات الواردة في الأمر بالكف والعفو الصفح ثم آيات الأمر بالقتال والجهاد: "فكان ذلك -أي: التمكين- عاقبة الصبر والتقوى الذين أمر اللَّه بهما في أول الأمر، وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية، وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر اللَّه ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه، وصارت آية الصغار على المعاهدين في حق كل مؤمن قوي يقدر على نصر اللَّه ورسوله بيده أو لسانه، وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى عهده خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة، لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون اللَّه ورسوله النصر التام، فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 3/ 57. (¬2) انظر: المغني، 9/ 75، وفتح الباري، 2/ 62، وأضواء البيان، 8/ 93. (¬3) الجواب الصحيح، 1/ 218.

وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي اللَّه ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (¬1). وإن مرحلة الاستضعاف تقتضي مثل هذا العمل بآيات الصفح والعفو والمغفرة والإعراض عن الأعداء، وعدم الانجرار أو الدخول في صراع جانبي يستهلك الطاقة، ويضعف القوة، ويؤلب الأعداء، ويفرق الأنصار، إن الإخلاص والتضحية والشجاعة والإقدام لا تكفي لتبرير التصرفات المندفعة والمجردة عن الفقه الشرعي وفهم الواقع والتقدير الحقيقي للقدرات والإمكانات، وعلى المستضعفين الحذر من أن تكون تصرفاتهم مجردة عن فقه المآلات، وفقه الأولويات، ودون النظر في المصالح والمفاسد، وعليهم الحذر من أن يتم استدراجهم لأمور وتصرفات انفعالية نتيجة للضغوط المحيطة بهم وبأمتهم، وبالمقابل فإن على المستضعفين الأخذ بالأسباب والعمل والسعي الجاد للتمكين في الأرض، وألا يجعلوا من الواقع حجة وعذرًا للبقاء في حالة الاستثناء (¬2). ولقد عمل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على ضبط سلوك أتباعه بما يحول دون حصول مواجهة مع كفار قريش في المرحلة المكية، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن عبد الرحمن بن عوف، وأصحابًا له أتوا ¬

_ (¬1) الصارم المسلول على شاتم الرسول، أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق: محمد الحلواني، محمد شودري، دار ابن حزم: بيروت، ط 1، 1417 هـ، 2/ 413. (¬2) انظر: دلالة القرآن على سماحة الإسلام ويسره، د. عبد الرحمن الزنيدي، ضمن بحوث ندوة أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد: السعودية، ط 2، 1425 هـ، 1/ 160 - 166، والغرباء الأولون، ص 259، والأعمال السياسية السلمية للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والأحكام المستنبطة منها، مصطفى العزاوي، دار الدرر: الأردن، ط 1، 1428 هـ، ص 43.

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة، فقالوا: يا رسول اللَّه، إنا كنا في عز، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال: (إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا، فلما حوّلنا اللَّه إلى المدينة، أمرنا بالقتال، فكفوا، فأنزل اللَّه عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬1)) (¬2). * * * ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية [77]. (¬2) أخرجه النسائي، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد، رقم: 3086، والحاكم في المستدرك، 2/ 76، رقم: 2377، وقال: "صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.

الباب الثالث أحكام الاستضعاف

الباب الثالث أحكام الاستضعاف وفيه فصلان الفصل الأول: المسائل المتعلقة بالاستضعاف. الفصل الثاني: ما يرخص به حال الاستضعاف.

الفصل الأول المسائل المتعلقة بالاستضعاف

الفصل الأول المسائل المتعلقة بالاستضعاف وفيه تسعة مباحث: المبحث الأول: الاستعانة بالكفار في القتال حال الاستضعاف. المبحث الثاني: دفع المال للكفار حال الاستضعاف. المبحث الثالث: تعطيل الحدود في حال الاستضعاف. المبحث الرابع: الاعتراف بالاحتلال حال الاستضعاف. المبحث الخامس: بيع الأراضي للاحتلال حال الاستضعاف. المبحث السادس: تسليم المطلوبين المسلمين ونحوهم (الذميين) في حال الاستضعاف المبحث السابع: التجنس بجنسية دولة غير إسلامية حال الاستضعاف. المبحث الثامن: المشاركة في الحكم الكافر أو الجائر حال الاستضعاف. المبحث التاسع: نزع الحجاب حال الاستضعاف.

المبحث الأول الاستعانة بالكفار في القتال حال الاستضعاف

المبحث الأول الاستعانة بالكفار في القتال حال الاستضعاف تمهيد الشريعة الإسلامية كما اعتبرت أحوال الأفراد وراعت ضروراتهم وحاجاتهم فهي كذلك اعتبرت ضرورات الجماعة والدولة المسلمة وما تقتضيه سلامتها واستقرار كيانها وملكها والحفاظ على سيادتها. قد تقع الدولة الإسلامية في ظروف تقتضي منها الاستعانة بالكفار، فهل يجوز للمسلمين حينئذ الاستعانة بالكفار في حالة الاستضعاف أو يحرم عليهم ذلك؟ ومتى تكون الاستعانة جائزة؟ ومتى تكون محرمة؟ وما شروط الجواز؟ هذا ما سوف يعرض له هذا المبحث من خلال المطالب التالية: المطلب الأول تعريف الاستعانة الاستعانة في اللغة هي مصدر استعان، وهي: طلب العون، من أعان يعين إعانة، فهو مُعين، وعَوين ومِعوان، يُقال: تعاونَ القوم، إذا أعانَ بعضُهم بعضًا، والاسم: العَون، والمَعُونة والعون: الظهير على الأمر، يقال: استعنت بفلان فأعانني وعاونني (¬1). وأما تعريف الاستعانة اصطلاحًا فلم يخرج الفقهاء بالمعنى الاصطلاحي للاستعانة عن المعنى اللغوي، فكل فعل لا يقوم به الإنسان على وجه الاستقلال ويطلب العون فيه من غيره يكون استعانة، فهي طلب العون من الغير. * * * ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، مادة: عون، والمعجم الوسيط، 2/ 638.

المطلب الثاني حكم الاستعانة بالكفار

المطلب الثاني حكم الاستعانة بالكفار اتفق الفقهاء على جواز الاستعانة بالكفار في القتال وذلك في أعمال الخدمة والرمي والحفر ونحوها مما لا يخرجون فيه عن الصغار، ونقل ابن حزم -رحمه اللَّه- الإجماع على ذلك (¬1)، واختلف الفقهاء في حكم الاستعانة بهم في مباشرة القتال مع المسلمين ضد الكفار، وضد البغاة، على النحو التالي: الفرع الأول: حكم الاستعانة بالكفار على الكفار: القول الأول: عدم جواز الاستعانة بالكفار في القتال، وجواز الاستعانة مقتصر على الأعمال والصنائع والخدمة كحفر أو هدم أو رمي بمنجنيق، وهو قول المالكية والظاهرية؛ وذلك لأن معنى الجهاد أن يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه، والمشرك لا يقاتل لأجل هذا الغرض (¬2). واستدلوا بعموم النصوص الواردة في كتاب اللَّه عز وجل في التحذير من موالاة الكافرين، والركون إليهم، واتخاذهم بطانة، ومن تلك النصوص قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (¬3)، "تضمنت المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك" (¬4)، "وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز ¬

_ (¬1) "صح الإجماع على جواز الاستعانة به -أي: المشرك- فيه كخدمة الدابة أو الاستئجار أو قضاء الحاجة ونحو ذلك مما لا يخرجون فيه عن الصغار، والمشرك اسم يقع على الذمي والحربي"، المحلى، 11/ 113. (¬2) انظر: المدونة الكبرى، مالك بن أنس الأصبحي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 3/ 40، والمنتقى شرح الموطأ، سليمان بن خلف الباجي، دار الكتاب الإسلامي: القاهرة، ط 2، د. ت، 3/ 180، وحاشية الدسوقي، 2/ 178، ومنح الجليل، 3/ 151، والمحلى، 11/ 113. (¬3) سورة آل عمران، الآية [118]. (¬4) الجامع لأحكام القرآن، 6/ 224.

الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة، ولهذا قال أحمد: لا يستعين الإمام بأهل الذمة على قتال أهل الحرب" (¬1). ومن الأدلة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (¬2)، "واقتضت الآية النهي عن الاستنصار بالكفار والاستعانة بهم والركون إليهم والثقة بهم، وهو يدل على أن الكافر لا يستحق الولاية على المسلم بوجه ولدًا كان أو غيره، ويدل على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في الأمور التي يتعلق بها التصرف والولاية" (¬3). واستدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة النبوية منها: ما روته عائشة -رضي اللَّه عنها- زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قالت: خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قِبَلَ بدر فلما كان بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قد كان يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين رَأَوْهُ فلما أَدْرَكَهُ قال لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ، قال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (تُؤْمِنُ باللَّه ورسوله)، قال: لا، قال: (فَارْجعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ) (¬4)، ¬

_ (¬1) زاد المسير، 1/ 447. (¬2) سورة النساء، الآية [144]. (¬3) أحكام القرآن للجصاص، 3/ 280. (¬4) قال ابن حزم رحمه اللَّه في شرحه للمراد بالمشرك: "والمشرك اسم يقع على الذمي والحربي"، المحلى، 11/ 113، وقال الخرشي في شرح مختصر خليل، 3/ 115: "والمراد بالمشرك الكافر، أي: مطلق الكافر لا من أشرك مع اللَّه غيره خاصة"، وخالف في ذلك الطحاوي رحمه اللَّه فقال: "المشركين الذين قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الآثار الأول: إنه لا يستعين بهم أولئك عبدة الأوثان، وهؤلاء أهل الكتاب الذين ذكرنا مباينة ما هم عليه وما عبدة الأوثان عليه"، شرح مشكل الآثار، أحمد بن محمد الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة: لبنان، ط 1، 1408 هـ، 6/ 416، والأول أظهر وهو ما تدل عليه عموم النصوص في القرآن الكريم والسنة المطهرة.

قالت ثم مَضَى حتى إذا كنا بالشجرة أَدْرَكَهُ الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كما قال أول مرة، قال: (فارجع فلن أستعين بمشرك)، قال ثم رجع فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فقال له كما قال أول مرة، (تؤمن باللَّه ورسوله؟) قال: نعم، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (فَانْطَلِقْ) (¬1). عن أبي حميد الساعدي -رضي اللَّه عنه- (¬2) قال: خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أحُدٍ حتى إذا خَلَّفَ ثنَّيةَ الوَداع نظر خلفه فإذا كتيبة حسناء، قال: (من هؤلاء؟) قالوا: بنو قينقاع وهو رهط عبد اللَّه بن سلام، قال: (وأسلموا!) قالوا: لا، بل هم على دينهم، قال: (قل لهم فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين) (¬3). القول الثاني: جواز الاستعانة بالكفار في القتال بشروط، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة، وحمل أصحاب هذا القول الآيات التي استدل جمها أصحاب القول الأول بأن المراد بها عدم جواز الاستعانة بالكفار إذ كانوا متى غلبوا لهم الغلبة والظهور وكان حكم الكفر هو الغالب، أما إذا كانوا متى غلبوا كان حكم الإسلام هو الجاري عليهم دون حكم الكفر فتجوز الاستعانة (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر، رقم: 1817. (¬2) أبو حميد الساعدي الخزرجي الأنصاري الصحابي المشهور اسمه عبد الرحمن بن سعد، ويقال: عبد الرحمن ابن عمرو بن سعد، وقيل: المنذر بن سعد بن المنذر، ويقال إنه عم سهل بن سعد، شهد أحدا وما بعده، روى عنه من الصحابة جابر بن عبد اللَّه، توفي في آخر خلافة معاوية أو أول خلافة يزيد بن معاوية، انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 7/ 94، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 4/ 1633. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك، 2/ 133، رقم: 2564، وابن أبي شيبة في المصنف، 6/ 487، وفي آخر: "فإنا لا نستعين بالكفار على المشركين"، وقال ابن حجر رحمه اللَّه: "هذا إسناد حسن"، المطالب العالية، 17/ 356. (¬4) انظر: أحكام القرآن للجصاص، 3/ 276.

كما استدلوا بالنصوص الواردة في السنة النبوية والتي دلت على جواز الاستعانة، ومنها: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلحًا آمِنًا وَتَغزُونَ أَنتُم وَهُم عَدُوًّا من وَرَائِكُم) (¬1)، وبما ما روي: (أن سعد بن مالك بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- غزا بقوم من اليهود فَرَضَخ (¬2) لهم) (¬3). عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: (شهدنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خيبر، فقال لرجل ممن يَدَّعِي الإسلام: (هذا من أهل النار)، فلما حضر القتال، قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابته جراحة، فقيل يا رسول اللَّه: الذي قلت إنه من أهل النار، فإنه قد قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إلى النار)، قال: فكاد بعض الناس أن يَرْتَابَ، فبينما هم على ذلك، إذ قيل: إنه لم يمت ولكن به جراحا شديدا، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فَأُخْبِرَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك، فقال: (اللَّه أكبر أشهد أني عبد اللَّه ورسوله)، ثم أمر بلالا فنادى بالناس: (إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وَإِنَّ اللَّه لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ (¬4)) (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في صلح العدو، رقم: 2767، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 176: صحيح، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب الملاحم، رقم: 4089. (¬2) "الرضخ: العطية القليلة"، النهاية في غريب الأثر، 2/ 228، ولسان العرب، مادة: رضخ. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، 6/ 488، وسنن البيهقي الكبرى، 9/ 37، قال ابن حزم رحمه اللَّه وهو يوافق المالكية في عدم جواز الاستعانة -: "عن جابر قال: سألت الشعبي عن المسلمين يغزون بأهل الكتاب؟ فقال الشعبي: أدركت الأئمة الفقيه منهم وغير الفقيه يغزون بأهل الذمة فيقسمون لهم، ويضعون عنهم من جزيتهم؛ فذلك لهم نفل حسن- والشعبي ولد في أول أيام علي وأدرك من بعده من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. . . لا نعلم لسعد مخالفا في ذلك من الصحابة وكان سلمان بن ربيعة يستعين بالمشركين على المشركين"، 5/ 399 - 400. (¬4) "أي: المنافق أو الفاسق ممن يعمل رياء أو يخلط به معصية"، مرقاة المفاتيح، 11/ 31. (¬5) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب إن اللَّه يؤيد الدين بالرجل الفاجر، رقم: 2897.

كما استدلوا بما وقع في غزوة حنين عندما قال عليه السلام لصفوان بن أمية (¬1): (يا صفوان هل عندك من سلاح؟) قال: عارية أم غصبا؟ قال: (لا، بل عارية)، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا، وغزا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حُنَيْنًا فلما هُزِمَ المشركون جُمِعَتْ دُرُوعُ صَفْوَانَ فَفَقَدَ منها أَدْرَاعًا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لصفوان: (إنا قد فَقَدْنَا من أَدْرَاعِكَ أَدْرَاعًا فهل نَغْرَمُ، فهل نغرم لك؟) قال: لا يا رسول اللَّه؛ لأن في قلبي اليوم ما لم يكن يومئذ (¬2). ¬

_ (¬1) صفوان بن أمية بن خلف بن وهب الجمحي، قُتل أبوه يوم بدر كافرا، وحكى الزبير أنه كان إليه أمر الأزلام في الجاهلية، هرب يوم فتح مكة وأسلمت امرأته وهي ناجية بنت الوليد بن المغيرة، فأحضر له ابن عمه عمير بن وهب أمانا من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فحفر وحضر وقعة حنين قبل أن يسلم ثم أسلم، وكان استعار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منه سلاحه لما خرج إلي حنين، وهو القائل يوم حنين: لأن يَرُبني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن، وأعطاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الغنائم فأكثر، فقال: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي فأسلم، أقام بمكة حتى مات بها قبل عثمان، وقيل: عاش إلى زمن علي، ويقال: إنه شهد اليرموك. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 3/ 432 - 433. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب البيوع، باب بَاب فِي تَضْمِينِ الْعَوَرِ، رقم: 3563، وقال: "وكان أعاره قبل أن يسلم ثم أسلم"، وروى القصة الحاكم في المستدرك، 2/ 54، رقم: 2301، وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، قال ابن حجر رحمه اللَّه عن شهود: "صفوان بن أمية حنينا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو مشرك بأنها مشهورة في المغازي"، انظر: فتح الباري، 6/ 179، وجاء في عمدة القاري، 13/ 183، قوله: "وأما حديث صفوان بن أمية فهو مضطرب سندًا ومتنًا وجميع وجوهه لا يخلو عن نظر، ولهذا قال صاحب التمهيد الاضطراب فيه كثير"، وفي التمهيد، 12/ 40 - 41: "هذا اختلف فيه على عبد العزيز بن رفيع اختلافا يطول ذكره فبعضهم يذكر فيه الضمان وبعضهم لا يذكره. . . والاضطراب فيه كثير، ولا يجب عندي بحديث صفوان هذا حجة في تضمين العارية"، ويشهد أن للقصة أصلًا ما أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، رقم: 2313، (عن بن شهاب قال غزا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غزوة الفتح فتح مكة ثم خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين فنصر اللَّه دينه والمسلمين وأعطى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة قال بن شهاب حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال: واللَّه لقد أعطاني رسول اللَّه ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي).

وأجابوا عن استدلال أصحاب القول الأول بحديث: (لن أستعين بمشرك)، بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما قال ذلك لعلمه أن الرجلين يُسلمان إذا أبى ذلك عليهما، أو لأنه يخاف الغدر منهما لضعف كان بالمسلمين يوم بدر (¬1) كما قال اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (¬2). وقال الامام الشافعي رحمه اللَّه: "فليس واحد من الحديثين مخالفًا للآخر، وإن كان رده؛ لأنه لم ير أن يستعين بمشرك فقد نسخه ما بعده من استعانته بمشركين، فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا خرجوا طوعًا" (¬3)، ويفهم من هذا اشتراط كونهم تابعين للمسلمين وتحت قيادتهم. واشترط الحنفية الشافعية والحنابلة للجواز شروطًا وهي: 1 - أن تدعوا الحاجة لذلك (¬4). 2 - أن يعرف الإمام حسن رأيهم في المسلمين (¬5). 3 - أن يأمن الإمام خيانتهم (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: المبسوط، 10/ 23. (¬2) سورة آل عمران، الآية [123]. (¬3) الأم، 4/ 261. (¬4) جاء في حاشية قليوبي، 4/ 218 قوله: "وسواء احتيج إليهم أو لا". (¬5) قال ابن القيم رحمه اللَّه: "الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن عينه الخزاعي كان كافرا إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم"، زاد المعاد، 3/ 301. (¬6) قال ابن قدامة رحمه اللَّه: "لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل: المخذل والمرجف فالكافر أولى"، المغني، 9/ 207.

4 - أن يخالفوا معتقد العدو كاليهود مع النصارى، وقيل: لا يشترط ذلك وهو المعتمد عند الشافعية. 5 - أن يكون حكم الإسلام هو الغالب، بأن يقاتلوا تحت راية المسلمين، وأن يخرجوا وفقًا لشروط المسلمين (¬1). وقالوا إن للإمام أن ينظر في مصلحة المسلمين فإن رأى المصلحة في تميزهم ليعلم نكايتهم أفردهم في جانب الجيش، وإن خشي أن تقوى شوكتهم خلطهم بالجيش وفرقهم بين المسلمين، ومتى ما خاف الإمام خيانتهم فلا ينبغي له أن يستعين بهم، أو أن يمكنهم من الاختلاط بالمسلمين (¬2). ويحسن التنبيه إلى أن الصحيح من مذهب الحنابلة أنه يحرم الاستعانة بالكفار إلا عند الضرورة، وكذلك إن كان الكفار أكثر عددا أو يُخاف منهم (¬3). ¬

_ (¬1) قال السرخسي رحمه اللَّه: "إنما يستعين بهم إذا كانوا يقاتلون تحت راية المسلمين، فأما إذا انفردوا براية أنفسهم فلا يستعان بهم"، المبسوط، 10/ 24، قال الألوسي رحمه اللَّه: "بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز، وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها"، روح المعاني، 3/ 120. (¬2) انظر: المبسوط، 10/ 23 - 24، والبحر الرائق، 5/ 97، جاء في بدائع الصنائع، 7/ 101: "ولا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بالكفار على قتال الكفار؛ لأنه لا يؤمن غدرهم، إذ العداوة الدينية تحملهم عليه إلا إذا اضطروا إليهم"، وروضة الطالبين وعمدة المفتين، يحيى بن شرف النووي، المكتب الإسلامي: بيروت، ط 2، 1405 هـ، 10/ 239، أسنى المطالب، 4/ 189، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، محمد بن شهاب الدين الرملي، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 8/ 62. (¬3) انظر: الإنصاف، 4/ 143، وكشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس البهوتي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 3/ 63.

ومما يستنبط من أقوال الفقهاء في المسألة ومما مضى من الأدلة ما يلي: 1 - اتفاق الفقهاء على أن الأصل عدم جواز الاستعانة بالكفار، ومن أجاز منهم ذلك فقد قصره على الحاجة أو الضرورة وحدد له شروطًا وجعله في أضيق النطاق، قال ابن حزم رحمه اللَّه: "فإن علم المسلم واحدا كان أو جماعة أن من استنصر به من أهل الحرب أو الذمة يؤذون مسلمًا أو ذميًا فيما لا يحل، فحرام عليه أن يستعين بهما وإن هلك، لكن يصبر لأمر اللَّه تعالى، وإن تلفت نفسه وأهله وماله، أو يقاتل حتى يموت شهيدًا كريمًا، فالموت لا بد منه ولا يتعدى أحدٌ أجله، برهان هذا أنه لا يحل لأحد أن يدفع ظلما عن نفسه بظلم يوصله إلى غيره، هذا ما لا خلاف فيه" (¬1). 2 - التفريق بين مشاركة أهل الذمة وآحاد المشركين في القتال وبين مشاركة الدول الكافرة؛ لكون أهل الذمة من مواطني الدولة الإسلامية، ولذا شرط الفقهاء للجواز غلبة حكم الإسلام، وهذا قد يتأتى في الآحاد وأهل الذمة، إلا أنه يصعب تحققه في حال الاستعانة بالدول الكافرة حتى وإن كانت معاهدة لاطلاعهم على أسرار المسلمين ومعرفة مواطن ضعفهم وقوتهم، كما أن اشتراكهم مع المسلمين سيحول الجهاد إلى حرب شرسة خالية من المعاني السامية للجهاد وأهدافه وآدابه وضوابطه (¬2)، وقد تنسب جرائمهم للمسلمين فيفقد الجهاد الهدف المراد منه وهو الدعوة للإسلام. 3 - أن أدلة المانعين صحيحة وصريحة، وأما أدلة المجيزين فليست صريحة بل إن حديث المصالحة مع الروم قد يحمل على أنه تحالف عسكري، وهو خبر، بل قد تضمن الإخبار بغدرهم بعد التحالف، ونصه: "ستصالحون الروم صلحا آمنا فتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم فتنصرون وتغنمون وتسلمون ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول ¬

_ (¬1) المحلى، 11/ 113. (¬2) انظر: التعامل مع غير المسلمين، ص 359.

فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب فيقول: غلب الصليب فيغضب رجل من المسلمين فيدقه فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة" (¬1). 4 - أنه لا ينبغي القول بالنسخ طالما أمكن الجمع بين النصوص، فالنصوص المانعة تحمل على حالات، فحديث عائشة -رضي اللَّه عنها- حمله العلماء على: (أ) خشية الغدر وعدم الحاجة إلى الاستعانة بالكافر (¬2). (ب) أنه عليه الصلاة والسلام تفرس في الذي قال له: لا أستعين بمشرك، الرغبة في الإسلام فرده، وأجيب بـ "أنها نكرة في سياق النفي فيحتاج مدعى التخصيص" (¬3). (جـ) أن النهي كان في وقت خاص وهو بدر (¬4). أما حديث أبو حميد الساعدي -رضي اللَّه عنه- يمكن حمله على: (أ) قوة جيش الكفار وكثرته. (ب) الخشية من الخيانة (¬5). والذي أرجحه في هذه المسألة هو عدم جواز الاستعانة بالكفار في القتال ضد الكفار إلا في حال الضرورة والحاجة، وذلك وفقًا لما تقتضيه مصلحة المسلمين، ويقدره الإمام والعلماء، فالمسألة لا تخرج عن كونها من مسائل الضرورة والحاجة فينبغي أن يطبق عليها ضوابط العمل والأخذ بالضرورة والحاجة، وكذلك الضوابط الخاصة التي وضعها الفقهاء للجواز، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 237، وقول النصراني (غلب الصليب) أي: انتصرنا ببركة الصليب، (فيغضب رجل من المسلمين) حيث نسبت الغلبة للصليب (فيدقه) أي: يكسر الصليب، انظر: مرقاة المفاتيح، 10/ 63. (¬2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 199: المبسوط، 10/ 23. (¬3) فتح الباري، 6/ 180. (¬4) انظر: منح الجليل، 3/ 151. (¬5) انظر: التعامل مع غير المسلمين، ص 307.

الفرع الثانى: حكم الاستعانة بالكفار على البغاة من المسلمين

الفرع الثانى: حكم الاستعانة بالكفار على البغاة من المسلمين: البغاة لغة: جمع مفرده باغٍ، والبغي أصله الحسد، ثم سُمي الظلم بغيًا؛ لأن الحاسد يظلم المحسود، والفئة الباغية هم البغاة، وأهل البغي والفساد (¬1). وأما اصطلاحًا: فهم الخَارِجُون من المسلمين عن طاعة الإمام الحق بتأويل سائغ ولهم قوة ومنعة (¬2). وقد اختلف الفقهاء في حكم الاستعانة بالكفار على قتال أهل البغي على قولين: القول الأول: عدم جواز الاستعانة بالكفار على قتال البغاة مطلقًا وهو قول جمهور أهل العلم من المالكية (¬3) والشافعية (¬4) والحنابلة (¬5) والظاهرية (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، والقاموس المحيط، مادة: بغا، وأساس البلاغة، محمود عمر الزمخشري، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1399 هـ، مادة: بغي. (¬2) انظر: الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار في فروع الفقه الحنفي، محمد بن علي الحنفي الحصكفي، دار الفكر: بيروت، ط 2، 1386 هـ، 4/ 261، وروضة الطالبين، 10/ 50، والتَّاج وَالْإِكْلِيل لِمُخْتَصَرِ خَلِيل، محمد بن يوسف الحطاب المواق، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 6/ 276، والمغني، 9/ 5، والمحلى، 11/ 97، والموسوعة الفقهية الكويتية، 8/ 131. (¬3) انظر: التاج والإكليل، 6/ 278، وحاشية الدسوقي، 4/ 299، وبُلغة السالك لأقرب المسالك (حاشية الصاوي)، أحمد ابن محمد الصاوي، دار المعارف: بيروت، ط 1، د. ت، 4/ 222، ومنح الجليل، 9/ 200. (¬4) انظر: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، محمد الشربيني الخطيب، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1415 هـ، 2/ 549، وحواشي الشرواني، عبد الحميد المكي الشرواني، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 9/ 73، وروضة الطالبين، 10/ 60، ومغني المحتاج، محمد الخطيب الشربيني، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 4/ 128. (¬5) انظر: المعني، 9/ 7، والكافي، 4/ 149، وشرح منتهى الإرادات، 3/ 390. (¬6) انظر: المحلى، 11/ 113.

واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬1)، وفي الاستعانة بالكفار تسليط لهم على المسلمين. إلا أن المالكية رأوا أن المنع من الاستعانة بهم حتى في حال الضرورة، بينما أجازه أكثر الفقهاء عند الضرورة، ووضعوا شروطًا لذلك منها: أن تكون فيهم جرأة وحسن إقدام، وأن يتمكن الإمام من منعهم قتل أهل البغي بعد هزيمتهم (¬2)؛ وذلك لأن قتال البغاة أحكامه الخاصة والتي تختلف عن قتال الكفار، ومن تلك الأحكام عدم جواز رميهم بما يعم كنار ومنجنيق، ويُقاس عليه الأسلحة الحديثة كالطيران والمدفعية ونحوها، ولكن عند كثرتهم وإحاطتهم بالفئة العادلة يجوز ذلك للضرورة (¬3)، فإن لم يكن ذلك كافيًا أجاز الفقهاء حينئذ الاستعانة بالكفار؛ لأن "الضرر يدفع بقدر الإمكان" (¬4)، واستعمال ما يعم من السلاح ضد البغاة أقل ضررًا من الاستعانة بالكفار عليهم لأنهم يرون قتلهم مدبرين. كما يمكن الاستدلال على منع الاستعانة بالكفار في القتال ضد البغاة بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬5)، فهو سبحانه "قدم الإصلاح على القتال وهذا يقتضي أن يبدأ في ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية [141]. (¬2) انظر: الأم، 4/ 219، روضة الطالبين، 10/ 60. (¬3) انظر: الإقناع، 2/ 549. (¬4) درر الحكام، 1/ 37. (¬5) سورة الحجرات، الآية [9].

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقيًا إلى الأغلظ فالأغلظ" (¬1)، وأمر سبحانه المؤمنين بالقتال في حال بغي إحدى الطائفتين، كما جعل غاية القتال رجوع الفئة الباغية للحق (¬2) وفي حال الاستعانة بالكفار فإنه يصعب وقف القتال تمامًا عند تلك الغاية حتى إن شرط عليهم الإمام ذلك. القول الثاني: جواز الاستعانة بالكفار على قتال البغاة وهو قول الحنفية (¬3)، واشترطوا لذلك أن يكون حكم الإسلام هو الظاهر، وإلا فلا يجوز، وعللوا ذلك؛ "لأنهم يقاتلون لإعزاز الدين، والاستعانة عليهم بقوم منهم أو من أهل الذمة كالاستعانة عليهم بالكلاب" (¬4). وأجيب: بأن عزة الدين تتحقق بدون الاستعانة بالكفار، بل إن في الاستعانة بالكفار إذلال للمسلمين من أهل البغي. يتضح مما مضى من أدلة الفريقين قوة أدلة الفريق الأول، ولذا فإن الراجح -واللَّه أعلم- عدم جواز الاستعانة بالكفار في قتال الفئة الباغية، وإن اضطر المسلمون في حال الاستضعاف ودعت الضرورة لذلك فيكتفى باستعمال ما يعم من السلاح، أو الاستعانة بسلاح الكفار، وقد دل على هذا قاعدة: "يُحتارُ أهون الشرين" (¬5)، وكذلك: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما" (¬6)، بل قال ¬

_ (¬1) مفاتيح الغيب، 8/ 147. (¬2) الجامع لأحكام القرآن، 16/ 316، ومعالم التنزيل، 4/ 213. (¬3) انظر: المبسوط، 10/ 134، والبحر الرائق، 5/ 154، وشرح فتح القدير، محمد بن عبد الواحد السيواسي، دار الفكر: بيروت، ط 2، د. ت، 6/ 109. (¬4) المبسوط، 10/ 134. (¬5) درر الحكام، 1/ 37. (¬6) شرح القواعد الفقهية، 1/ 201.

المطلب الثالث حكم الاستعانة بأهل البدع

الآمدي رحمه اللَّه (¬1): "ارتكاب أدنى الضررين يصير واجبا نظرا إلى رفع أعلاهما" (¬2). المطلب الثالث حكم الاستعانة بأهل البدع وفيه فرعان: الفرع الأول: تعريف البدعة لغة واصطلاحًا: البدعة في اللغة: ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال سابق، يقال: أبدعت الشيء قولًا أو فعلًا، إذا ابتدأته لا عن سابق مثال (¬3). أما في الاصطلاح: فهي: "ما لم يشرعه اللَّه ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية، فهو من الدين الذي شرعه اللَّه" (¬4)، كا عُرفت بأنها: "ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا وإن كان بدعة لغة" (¬5)، وعرفها الشاطبي رحمه اللَّه بأنها: "طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية" (¬6). ¬

_ (¬1) علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي سيف الدين الآمدي الشافعي شيخ المتكلمين في زمانه، ولد بآمد ورحل إلى بغداد، ثم مصر ووقع التعصب عليه فخرج منها مستخفيًا وقدم إلى حماة فأقام بها ثم قدم دمشق وتوفي بها سنة 631 هـ، وله نحو من عشرين مصنفا، انظر: طبقات الشافعية، 2/ 79، وطبقات الشافعية الكبرى، 8/ 306. (¬2) الإحكام، 1/ 181. (¬3) انظر: لسان العرب، ومقاييس اللغة، مادة: بدع. (¬4) الفتاوى، 4/ 107 - 108. (¬5) جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة: بيروت، ط 7، 1417 هـ، 1/ 266. (¬6) الاعتصام، 1/ 37.

الفرع الثاني: أقوال الفقهاء في حكم الاستعانة بأهل البدع

الفرع الثاني: أقوال الفقهاء في حكم الاستعانة بأهل البدع: ورد عن الإمام أحمد رحمه اللَّه نهيه عن الاستعانة بأهل الأهواء (¬1)، وعلل ذلك بأنهم يدعون إلى مذهبهم، ويغتر بهم الناس، وهذا هو مذهب الحنابلة (¬2)، وهذا النهي محمول على الكراهة؛ لأن غاية ما يكون عليه أهل البدع والأهواء أن يكونوا كفارًا بتلك البدع، والاستعانة بالكافر كما مضى جائزة عند الضرورة وفقًا لما ذكره الفقهاء من شروط. ومتى ما اضطر المسلمون إلى الاستعانة بأهل البدع فلهم ذلك، على أن يضيق نطاق الاستعانة بما يفي بالغرض، كأن تكون الاستعانة بالسلاح، أو بالخبراء أو التدريب، لاسيما إن عُرف غشهم للمسلمين وعدم نصحهم، كما مضى بيانه من قاعدة اختيار أخف الضررين وأهون الشرين، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: "فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرًا من العكس، ولهذا ¬

_ (¬1) "روى البيهقي في مناقب أحمد عن محمد بن أحمد بن منصور المروذي أنه استأذن على أحمد بن حنبل فأذن فجاء أربعة رسل للمتوكل يسألونه فقالوا: الجهمية يستعان بهم على أمور السلطان قليلها وكثيرها أولى أم اليهود والنصارى؟ فقال أحمد: أما الجهمية فلا يستعان بهم على أمور السلطان قليلها وكثيرها، وأما اليهود والنصارى فلا بأس أن يستعان بهم في بعض الأمور التي لا يسلطون فيها على المسلمين؛ حتى لا يكونوا تحت أيديهم، قد استعان بهم السلف، قال محمد بن أحمد المروذي: أيستعان باليهود والنصارى وهما مشركان ولا يستعان بالجهمي؟! قال يا بني: يغتر بهم المسلمون وأولئك لا يغتر بهم المسلمون"، الآداب الشرعية، عبد اللَّه بن محمد ابن مُفلح المقدسي، تحقيق: شُعيب الأرنؤوط، وعمر القيَّام، مؤسسة الرسالة: بيروت، ط 3، 1419 هـ، 1/ 275. (¬2) انظر: كشاف القناع، 3/ 139، وقال في مطالب أولي النهى، 2/ 533: "وتحرم إعانتهم -أي: أهل الأهواء والكفار- على عدوهم من جنسهم، فإن كان عدوهم منا، فنجتمع على قتالهم، وإن كان عدو أهل الأهواء كافرا حربيا، فلا تحرم إعانتهم عليه لإسلامهم إلا خوفا من شرهم".

كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل، وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسئول حاله، أو خرج خطابا لمعين، قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول إنما يثبت حكمها في نظيرها" (¬1). وسئل ابن تيمية رحمه اللَّه عن رجل يفضل اليهود والنصارى على الرافضة فأجاب: "الحمد للَّه كل من كان مؤمنًا بما جاء به محمد فهو خير من كل من كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة سواءً كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم؛ فإن اليهود والنصارى كفارٌ كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول لا مخالف له لم يكن كافرًا به، ولو قدر أنه يكفر فليس كفره مثل كفر من كذب الرسول" (¬2)، وقد قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا. .} (¬3)، وهذه الآية نص في "أن اليهود في غاية العدواة مع المسلمين، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العداوة، بل نبه على أنهم أشد في العداوة من المشركين من جهة أنه قدم ذكرهم على ذكر المشركين" (¬4). ¬

_ (¬1) الفتاوى، 28/ 212 - 213، قال ابن تيمية في موضع آخر من الفتاوى، 35/ 156 - 157: "وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من الكبائر وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة. . . فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم، فلا يتركون مجتمعين، ولا يمكنون من حمل السلاح، ولا أن يكونوا من المقاتلة، ويلزمون شرائع الإسلام من الصلوات الخمس وقراءة القرآن، ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام، ويُحال بينهم وبين معلمهم". (¬2) الفتاوى، 35/ 201. (¬3) سورة المائدة، من الآية [82]. (¬4) مفاتيح الغيب، 12/ 55.

المطلب الرابع حكم الاستعانة بالكفار في الجوانب الأخرى

وخلاصة هذه المسألة: جواز استعانة المستضعفين بأهل البدع والأهواء عند الضرورة، وينبغي أن يشترط عليهم ألا يدعوا لبدعتهم أو يظهرونها، وإن أمكن اقتصار الاستعانة على السلاح والاستشارة والتدريب ونحوه فهو الأولى، ولا بأس به على أن يتم تعليم المسلمين الذين سيتم تدريبهم حقيقة ذلك المذهب وكيفية الرد على الشبهات وتحصينهم علميًا وفكريًا. * * * المطلب الرابع حكم الاستعانة بالكفار في الجوانب الأخرى قد يضطر المستضعفون إلى الاستعانة بجمعيات وهيئات ومؤسسات حقوقية ذات أهداف إنسانية، إما للمطالبة بالحق وبيانه، أو لكشف حقيقة وإزالة الغموض عنها، أو لملاحقة الجاني والمجرم ومعاقبته والتضييق عليه وغيرها من الأهداف، فهل يجوز للمستضعفين التعاون مع هذه الجهات والاستفادة منها ومن اختصاصاتها. يمكن القول بأن مثل هذا النوع من التعاون لا دليل على تحريمه إن لم يكونوا محاربين للمسلمين، والأصل في هذا قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬1)، فالكفار في الآية إما مسالم لم يقاتل المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم فلم ينه اللَّه المسلمين عن برهم والإقساط إليهم، ورخص في صلتهم، أو غير مسالم ويقاتل المسلمين ويخرجهم من ديارهم ويظاهر على ذلك، وفرق بين الإذن بالبر والقسط وبين النهي عن الموالاة والمودة (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة، الآية [8 - 9]. (¬2) انظر: أضواء البيان، 8/ 90 - 91، ومفاتيح الغيب، 7/ 67.

قال ابن جرير رحمه اللَّه: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُني بذلك: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم، إن اللَّه عز وجل عم بقوله الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح" (¬1). وفي نهاية هذا المطلب أشير إلى بعض الأمور والمسائل وهي: 1 - هذه الاستعانة لا تعدو أن تكون من الحلف أو الدخول في الجوار الذي سبق بيان جوازه وشروط ذلك في الفصل الثاني. 2 - ينبغي عند الاستعانة بتلك الجهات أن يغلب على الظن تحقيق المصالح ودرء المفاسد من خلال هذه الاستعانة، أما إن كانت ستؤدي إلى ضياع الحقوق فيحرم ذلك. 3 - ينبغي ألا يترتب على هذه الاستعانة إذلال وصغار للمسلمين أو مداهنة أو تنازل عن العقيدة لمجاراة أو مجاملة هذه الأطراف أو الجهات، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (¬2)، والآية تنهى عن الاعتزاز بالكفار (¬3)، وإنما يكون الاعتزاز بالكفار في حال ذل المسلمين لهم، أما مجرد المطالبة والتعاون على ما فيه مصلحة الإنسانية، كقضايا حقوق الأسرى، وحقوق ¬

_ (¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 28/ 66. (¬2) سورة النساء، الآية [139]. (¬3) انظر: أحكام القرآن للجصاص، 3/ 277.

الإنسان، وحقوق اللاجئين، وحقوق الأطفال ورفع الظلم ونحوها من المصالح المشتركة فهو أمر مطلوب شرعًا وعقلًا، ومما يدل على ذلك عموم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1). 4 - من مقتضيات هذا التعاون البر والقسط، فلا مانع من مدحهم بما فيهم من خصال حسنة كما مدح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- النجاشي على عدله قبل إسلامه، مع الحذر من أن يمتد هذا الثناء إلى الثناء على عقائدهم، بل وينبغي الوفاء معهم كما فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مع المطعم بن عدي الذي مات على الشرك. قال ابن حجر رحمه اللَّه: "وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن بني هاشم في الجاهلية كانوا تحالفوا مع خزاعة، فاستمروا على ذلك في الإسلام، وفيه جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة، إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهارا على غيرهم، ولا يُعد ذلك من موالاة الكفار ولا موادة أعداء اللَّه، بل من قبيل استخدامهم، وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية [2]. (¬2) فتح الباري، 5/ 337 - 338.

المبحث الثاني دفع المال للكفار حال الاستضعاف

المبحث الثاني دفع المال للكفار حال الاستضعاف بحث الفقهاء مسألة اشتراط أهل الحرب على المسلمين دفع المال لهم، واتفقوا على عدم الجواز في حالة قدرة المسلمين وقوتهم (¬1)، واستدلوا على ذلك بما يلي: الدليل الأول: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2)، قال العمراني (¬3): "وأما عقد الهدنة على مال يُؤخذَ من المسلمين، فإن لم يكن هناك ضرورة لكن كان الإمام محتاجًا إلى ذلك بأن بلغه سير العدو وخافهم، أو كانوا قد ساروا ولم يلتقوا، أو التقوا ولم يظهروا على المسلمين. . . فلا يجوز بذل العوض لهم، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى}، قال الشافعي رحمه اللَّه: "فأخبر اللَّه تعالى أن المؤمنين إذا قَتلوا أو قُتلوا استحقوا الجنة فاستوى الحالتانِ في الثواب فلم يجز دفع العِوَضِ لدفع الثواب؛ ولأن في ذلك إلحاق الصغار بالمسلمين فلم يجز من غير ضرورة" (¬4). الدليل الثاني: النصوص الواردة في النهي عن الهوان والذلة، ومنها: قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬5)، وفي اشتراط دفع المال للكفار إهانة ¬

_ (¬1) انظر: المبسوط، 10/ 87، ومنح الجليل، 3/ 229، ومغني المحتاج، 6/ 88، والإنصاف، 4/ 211. (¬2) سورة التوبة، الآية [111]. (¬3) يحيى بن أبي الخير سالم العمراني اليماني، ولد سنة 489 هـ باليمن، وكان شيخ الشافعية فيها، توفي سنة 558 هـ، انظر ترجمته: طبقات الشافعية، 2/ 327 - 328، والأعلام، 8/ 146. (¬4) البيان، 12/ 307، وعبارة الإمام الشافعي رحمه اللَّه في كتابه الأم، 4/ 199: "وقد اختصرها العمراني". (¬5) سورة آل عمران، الآية [139].

لا يقبلها الإسلام (¬1)، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬2)، ومن المعلوم أن دفع المال للكفار بدون ضرورة ذلة لا عزة. الدليل الثالث: أن إعطاء المال للكفار في حال عدم الضرورة عكس مصلحة الشرع؛ لأن اللَّه عز وجل شرع أخذ الجزية منهم، وفي إعطائها وأشباهها لهم إلحاق الصغار والذل بالمسلمين (¬3). فهذه الأدلة السابقة وغيرها تدل على عدم جواز دفع المال إلى الكفار في حال قوة المسلمين، أما في حال استضعاف الدولة الإسلامية واضطرارها إلى دفع المال إلى الكفار، فهل يجوز حينئذ ذلك. والجواب يتضح ببيان ما بحثه الفقهاء في مسألة اشتراط أهل الحرب على المسلمين دفع المال لهم في حال الضرورة والخوف واتفقوا على الجواز، بل ذهب بعضهم إلى الوجوب حال الضرورة بأن كانوا يعذبون الأسرى ففديناهم، أو حالة الحصار وخوف الاصْطِلام (¬4). واستدلوا لذلك بما يلي: الدليل الأول: فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الأحزاب فقد شاور أصحابه في أن يصالح غَطفان على شطر ثمار المدينة، ليكفوا عن المدينة ويفرق الأحزاب وكتب بذلك صحيفة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: مغني المحتاج، 6/ 88، وشرح صحيح البخاري، 5/ 355. (¬2) سورة المنافقون، من الآية [8]. (¬3) انظر: التاج والإكليل، 4/ 604، ومنح الجليل، 3/ 229، وأسنى المطالب، 1/ 524. (¬4) انظر: المبسوط، 10/ 87، والعناية شرح الهداية، 5/ 459 - 460، ومنح الجليل، 3/ 229، والذخيرة في فروع المالكية، أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: أحمد عبد الرحمن، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1422 هـ، 3/ 449، ومغني المحتاج، 6/ 88، والأشباه والنظائر، ص 491، والإنصاف، 4/ 211، والمغني، 9/ 239، والكافي، 4/ 340، والمراد بالاصْطِلام: الاسْتِئْصالُ، واصْطُلِمَ القوم: أُبيدوا، لسان العرب، مادة: (صَلَمَ). (¬5) سبق تخريجه ص 61.

فدل هذا على جواز الموادعة مع الكفار ولو بدفع مال لهم عند الضعف، وأما عند القوة فلا تجوز؛ لأنه لما قالت الأنصار ما قالت، عَلِمَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- منهم القوة فشق الصحيفة، ودل على أن دفع المال للكفار فيه معنى الاستذلال، ولأجله كرهت الأنصار دفع بعض الثمار، والاستذلال لا يجوز أن يرضى به المسلمون إلا عند تحقق الضرورة (¬1). الدليل الثاني: أن في دفع المال للكفار في حال الاستضعاف وتحقق الضرورة دفعًا لشر الكفرة الحال، وفرصة للاستعداد لمواجهتهم في المستقبل، فيكون دفعًا لأعلى المفسدتين (¬2)، وفي هذا إعمال لقاعدة: "الضرر الأشدُ يُزال بالضرر الأخف" (¬3). قال ابن العربي رحمه اللَّه (¬4): "قال علماؤنا: أوجب اللَّه سبحانه في هذه الآية (¬5) القتال؛ لاستنقاذ الأسرى من يد العدو مع ما في القتال من تلف النفس، فكان بذل المال في فدائهم أوجب، لكونه دون النفس وأهون منها" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: شرح السير الكبير، محمد بن أحمد السرخسي، الشركة الشرقية للإعلانات: لبنان، ط 1، د. ت، 5/ 1695. (¬2) انظر: بدائع الصنائع، 7/ 109، وروضة الطالبين، 10/ 335. (¬3) انظر: قواعد لأحكام في مصالح الأنام، 1/ 98، وغمز عيون البصائر، 1/ 286، ودرر الحكام، 1/ 40، وشرح القواعد الفقهية، ص 313 - 317. (¬4) محمد بن عبد اللَّه بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، أبو بكر القاضي من حفاظ الحديث، ولد في إشبيلية سنة 468 هـ وولي قضائها، ورحل إلى المشرق وصنف في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ، توفي قرب فاس ودفن بها سنة 543 هـ، من مآثره: أحكام القرآن، والقبس في شرح موطأ ابن أنس، وعارضة الأحوذي في شرح الترمذي، والعواصم من القواصم، انظر ترجمته: الديباج، ص 281، ووفيات الأعيان، 4/ 116 - 117، والأعلام، 6/ 230. (¬5) أي قوله عز وجل: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}، [سورة النساء، الآية 75]. (¬6) أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 1/ 584.

فإن قيل: إن في دفع المال للكفار إعانة لهم على المعصية. أجيب: بأنه: "قد يجوز الإعانة على المعصية لا لكونها معصيةً، بل لكونها وسيلةً إلى تَحصيل المصلحة الراجحة، وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحةٌ تَرْبُو على مصلحة تفويتِ المفسدة كما تُبْذَلُ الأموال في فِدَى الأسرى الأحرار المسلمين من أيدي الكفرة والفجرة" (¬1). فإن قيل: إن في دفع المال لهم صغار وذل للمسلمين. أجيب: بأن بذل "المال إن كان فيه صغار فإنه يجوز تحمله؛ لدفع صغار أعظم منه، وهو القتل والأسر وسبي الذرية الذين يفضي سبيهم إلى كفرهم" (¬2). وخلاصة هذه المسألة: جواز دفع المال للدولة الكافرة عند اضطرار المستضعفين لذلك، ورأى الإمام أن هذا الصلح خير للمسلمين فحينئذ لا بأس بأن يفعله (¬3)، وبعض الفقهاء اشترط خشية الإبادة ولم يكتف بالضرورة، قال الجويني رحمه اللَّه (¬4): "فأي مقدار للأموال في هجوم أمثال هذه الأهوال لو مست إليها الحاجة، وأموال الدنيا لو قوبلت بقطرة دم لم تعدلها ولم توازها. . فالأموال في هذا المقام من المستحقرات. . وأموال العالمين ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 87. (¬2) المغني، 9/ 239. (¬3) انظر: المبسوط، 10/ 87. (¬4) عبد الملك بن عبد اللَّه بن يوسف الجُويني، أبو المعالي، المعروف بإمام الحرمين، ولد في جوين من نواحي نيسابور سنة 419 هـ، أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي، صنف في كل فن، توفي بنيسابور سنة 478 هـ، من مآثره: الإرشاد والورقات، انظر ترجمته: وفيات الأعيان، 3/ 141 - 144، وسير أعلام النبلاء، 18/ 468، والأعلام، 4/ 160.

لا تقابل وطأة الكفار في قرية من قرى الديار، وفيها سفك دم المسلمين وامتداد يد إلى الحرم" (¬1). إلا أن الواجب أن تدفع الأموال للإعداد قبل أن تمتد الأخطار ثم تدفع الأموال للكفار، كما أن الواجب "أن يكون الخطر واقعًا محققًا وليس فرضيًا ومحتملًا، كما يجب أن يكون تقدير القوى لدى المسلمين والكفار قريبًا من الواقع إلى أقصى حد وليس تقديرًا مبنيًا على المبالغة والتهويل" (¬2)، والأمة الإسلامية موعودة بالنصر والتمكين إن أخذت الأسباب، والأعداء لا تقف مطالبهم عند حد. * * * ¬

_ (¬1) غِياث الأُمم، ص 129 - 130. (¬2) المعاهدات الدولية في الشريعة الإسلامية، إياد هلال، دار النهضة الإسلامية: الأردن، ط 1، 1421 هـ، ص 160.

المبحث الثالث تعطيل الحدود فى حال الاستضعاف

المبحث الثالث تعطيل (¬1) الحدود فى حال الاستضعاف قد تتعرض الدولة الإسلامية -كما هو حاصل في واقعنا المعاصر في كثير من الدول الإسلامية والعربية- إلى ضغوط بسبب إقامتها للحدود الشرعية أو لمنعها من إقامة الحدود وتطبيق الشريعة الإسلامية، وقد تمتد هذه الضغوط لتشمل عقوبات اقتصادية كقطع المساعدات ووقف القروض، أو مقاطعة سياسية، بل ولربما تعرضت الدولة الإسلامية للحصار أو الحرب أو إسقاط النظام فيها عبر وسائل متعددة كافتعال الأزمات وغيرها (¬2)، فهل يجوز للدولة الإسلامية المستضعفة أن تتوقف عن إقامة الحدود أو تسقط العمل بها، هذا ما سوف يناقشه هذا المبحث، من خلال المطالب التالية: المطلب الأول تعريف الحدود وفيه فرعان: الفرع الأول: تعريف الحدود لغة: الحدود جمع حد وهو: الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر وجمعه حدود، ومن معانيه المنع، يقال: حد الرجل عن الشر يَحُدُّه إذا منعه وحبسه عنه، ومنه الحدود المقدرة في الشرع لأنها تمنع من الإقدام (¬3). ¬

_ (¬1) عطل الشيء: تركه خاليًا أو أهمله، يقال: عطلوا ديارهم تركوها خالية، وتعطيل البئر أن لا تورد، وكل ما ترك ضائعا فقد عطل كتعطيل الحدود والثغور، يقال: عطل الشريعة أهملها، انظر: أساس البلاغة، والمعجم الوسيط، مادة: عطل، قال ابن منظور: "تعطيل الحدود أن لا تقام على من وجبت عليه"، لسان العرب، 11/ 454، مادة: عطل. (¬2) انظر: تطبيق الشريعة الإسلاية في دولة الكويت، د. عبد الرزاق الشايجي، دار النفائس: الكويت، ط 1، 1414 هـ، ص 76 - 83. (¬3) انظر: لسان العرب، مادة: حدد، والمصباح المنير، 1/ 125، مادة: حدت.

الفرع الثاني: تعريف الحدود اصطلاحا

الفرع الثاني: تعريف الحدود اصطلاحًا: تنوعت عبارات الفقهاء في تعريف الحد، ولكنها كلها تدور حول العقوبات المقدرة والواجبة لحق اللَّه تعالى، وبالتالي يمكن تعريف الحد اصطلاحًا بأنه: عقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا للَّهِ تَعَالَى (¬1). * * * المطلب الثاني الحكمة من الحدود وأهميتها إن الشريعة الإسلامية جاءت بالعقائد والمبادىء والقيم والأخلاق والأحكام التي تنظم المجتمع المسلم في كافة شؤونه وجوانبه وتعاملاته، ثم جاءت بعد ذلك بالحدود والعقوبات كسياج يحمي ذلك المجتمع ويحافظ على مكتسباته في كافة الجوانب، وإن لم تطبق تلك الحدود فإن المكتسبات سوف تضيع وتتلاشى شيئًا فشيئًا، لذا احتاج الأمر إلى الحزم وعدم الرأفة وهو في هذا الموضع رحمة للجاني، ورحمة للمجتمع، فإقامة الحدود "يحصل بها النجاة لمن أقامها وأقيمت عليه وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها" (¬2)، فليست الغاية من إقامة الحدود التشفي والانتقام وفرض السلطة والنظام، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "فإن إقامة الحد من العبادات، كالجهاد في سبيل اللَّه، فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من اللَّه بعباده، فيكون الوالي شديدًا في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين اللَّه فيعطله، ويكون ¬

_ (¬1) انظر: البحر الرائق، 5/ 2، والدر المختار، 4/ 3، وبدائع الصنائع، 7/ 33، وإعانة الطالبين، 4/ 142، ومغني المحتاج، 4/ 155، وشرح منتهى الإرادات، 3/ 335، والفرق بين الحد والتعزير، أن الحد عقوبة مقدرة حقًا للَّه تعالى، وأما التعزير فهو غير مقدر، والحد إنما شرع زجرًا فلا تجوز الشفاعة فيه، وأما القصاص فإنه وإن كان عقوبة مقدرة، لكنه يجب حقا للعبد حتى يجري فيه العفو والصلح. (¬2) فتح الباري، 5/ 296.

قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا شفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق، بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحًا لحاله، مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب، فهكذا شرعت الحدود، وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها فإنه متى كان قصده صلاح الرعية، والنهى عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم، وابتغى بذلك وجه اللَّه تعالى وطاعة أمره، ألان اللَّه له القلوب، وتيسرت له أسباب الخير، وكفاه العقوبة البشرية، وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد، وأما إذا كان غرضه العلو عليهم، وإقامة رياسته ليعظموه، أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده" (¬1). والحدود إنما سميت بذلك لأنها تمنع من ارتكاب الفواحش، وتحفظ الضرورات الخمس (¬2)، قال ابن القيم رحمه اللَّه: "فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه، المتضمنة لمصلحة الردع والزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع" (¬3)، ليس هذا فحسب بل إن الحدود كفارة للجاني، قال الشاطبي رحمه اللَّه: "إن المصلحة ليست الازدجار فقط، بل ثم أمر آخر، وهو كونها كفارة؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، وإن كانت زجرًا أيضا على إيقاع ¬

_ (¬1) الفتاوى، 28/ 329. (¬2) انظر: إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين، أبي بكر ابن السيد محمد شطا الدمياطي، دار الفكر: بيروت، ط 1، د. ت، 4/ 142، والمبدع، إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي، المكتب الإسلامي: بيروت، ط 1، 1400 هـ، 9/ 43. (¬3) إعلام الموقعين، 2/ 114.

المفاسد" (¬1)، وإنما أجاز فقهاء الشافعية للسيد أن يقيم الحد على العبد بناء على أن إقامة الحدود من باب الإصلاح لا من باب الولاية (¬2)، والذي يظهر أنها من باب الولاية والإصلاح معًا، وقد أجمعت الأمة على أنه ليس لآحاد الرعية إقامة الحدود على الجناة، بل أجمعوا على أنه لا يجوز إقامة الحدود على الأحرار الجناة إلا للإمام؛ لأن إقامة الحدود شأنها عظيم فلو تولاها غير الإمام لوقع النزاع (¬3). وقد أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى أهمية إقامة الحدود، بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إِقَامَةُ حَدٍّ من حُدُودِ اللَّه خَيْرٌ من مَطَرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً في بِلَادِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ) (¬4)؛ وذلك "لأن في إقامتها زجرًا للخلق عن المعاصي، وسببا لفتح أبواب السموات للمطر، وفي العفو عنها والتهاون بها انهماكًا لهم في الإثم، وسببا لأخذهم بالجدب والسنين، ولأن إقامتها عدل، والعدل خير من المطر، أو المطر يحيي الأرض، والعدل يحيي أهلها، ولأن دوام المطر قد يفسد وإقامتها صلاح محقق" (¬5). قال ابن القيم رحمه اللَّه: "اللَّه سبحانه وتعالى أوجب إقامة الحدود؛ سدًا للذريعة إلى الجرائم، إذا لم يكن عليها وازع طبيعي، وجعل مقادير عقوباتها وأجناسها وصفاتها ¬

_ (¬1) الموافقات، 2/ 54. (¬2) انظر: روضة الطالبين، 10/ 104، وأسنى المطالب، 4/ 134، وحاشية الجمل، سليمان بن منصور العجيلي المصري الجمل، دار إحياء التراث العربي: بيروت، ط 1، د. ت، 5/ 136، وحاشية البجيرمي، 4/ 214. (¬3) انظر: بدائع الصنائع، 7/ 132، وحاشية العدوي، 1/ 150، وبداية المجتهد، 2/ 333، ونهاية المحتاج، 7/ 301، ومغني المحتاج، 4/ 41، وروضة الطالبين، 10/ 99، ومفاتيح الغيب، 11/ 180. (¬4) أخرجه ابن ماجه، كتاب الحدود، باب إقامة الحدود، رقم: 2537. (¬5) فيض القدير، 2/ 56.

المطلب الثالث التمهيد إقامة الحدود

بحسب مفاسدها في نفسها، وقوة الداعي إليها وتقاضي الطباع لها" (¬1). هذه بعض الحكم من إقامة الحدود، ولهذا فإن إقامتها فرض على السلطان، قال الشافعي رحمه اللَّه: "فإن الحد فرض على السلطان أن يقوم به، وإن تركه كان عاصيًا للَّه بتركه. والأدب أمر لم يبح له إلا بالرأي، وحلال له تركه، ألا ترى أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد ظهر على قوم أنهم قد غلوا في سبيل اللَّه فلم يعاقبهم؛ ولو كانت العقوبة تلزم لزوم الحد ما تركهم" (¬2). * * * المطلب الثالث التمهيد إقامة الحدود إن مطالبة البعض بالتمهيد وتهيئة المجتمع لإقامة الحدود لكي تعطي ثمارها والنتائج المرجوة منها، وذلك بإصلاح الحكومات، وبتعيين الصالحين، وإصلاح المجتمع، وإعادة النظر في المناهج التعليمية، والاستفادة من وسائل الإعلام، وتنشئة الأفراد تنشئة صالحة بالتربية الإسلامية (¬3)، مطلب واقعي ومنطقي، إلا أنه ينبغي التأكيد على ما يلي: ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، دار المعرفة: بيروت، ط 2، 1395 هـ، 1/ 369 - 370. (¬2) الأم، 6/ 176، وانظر: الجامع لأحكام القرآن، 2/ 245، وفيه: "لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك". (¬3) انظر: كيفية تنفيذ الشريعة الإسلامية وطريقة تطبيقها، بحوث مؤتمر الفقه لعام 1396 هـ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: الرياض، ط 1، 1396 هـ، ص 175 - 176 , أثر إقامة الحدود في استقرار المجتمع، د. محمد حسين الذهبي، دار الهجرة: دمشق، ط 2، 1408 هـ، ص 78، والضرورة المرحلية في تطبيق القانون الجنائي الإسلامي، فتحي بن الطيب الخماسي، دار قتيبه، ط 1، 2001 م، ص 168 - 171، حيث ذهب إلى أن التعطيل لا يقره الشرع الإسلامي إلا عند قيام ضرورة إلى ذلك، وأهم هذه الضرورات في عصرنا الجاهلية، وأن الحل الوحيد للخروج من هذا الواقع التعطيل على حد تعبيره.

1 - أن ليس كل من يُطالب بهذا المطلب ينطلق من منطلق شرعي، بل إن البعض قد يُطالب بذلك لجهله بالأحكام الشرعية والحدود والعقوبات في الشريعة الإسلامية ومزاياها وآثارها الإيجابية، وهنا يبرز دور علماء الأمة والدعاة وطلبة العلم والمفكرين في البيان والتوضيح والتواصل مع هؤلاء. 2 - أن هذا المطلب قد يتناسب مع تلك المجتمعات التي تم تغييب الأحكام الشرعية عنها منذ سنين، إلا أنه لا ينطبق على المجتمعات التي تحكم بالشريعة الإسلامية. 3 - أن المجتمعات الإسلامية بعامة مُهيأة لقبول الأحكام الشرعية، وهذا هو الأصل والعمل بالقوانين الوضعية هو الأمر الطارىء والدخيل، بل إن تطبيق الأحكام الشرعية هو ما تُطالب به الشعوب، وبالتالي فإن مدة التمهيد هذه -إن كان المجتمع بحاجة لها- لا ينبغي أن تطول، ولا أن تؤدي إلى إسقاط حقوق الأفراد وضياعها تحت ستار التمهيد. 4 - أن عهد التدرج في التشريع قد انتهى، قال تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1)، فإن "الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان" (¬2)، "ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه أهل الشرع إما بالنص على كل فرد فرد، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة" (¬3)، فإن كان عهد التدرج في التشريع قد انتهى إلا أن التدرج ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية [3]. (¬2) الاعتصام، 1/ 48. (¬3) إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، تحقيق: محمد البدري، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1412 هـ، 1/ 344.

باق في تطبيق هذا التشريع وهو من باب تقديم الأهم على المهم، والبدء بالأيسر فالأيسر وهو ما يشهد له الأدلة الشرعية ومنها: ما رواه ابْنِ عَبَّاسٍ أَنّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: (إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِذَا عَرَفُوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ تُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كِرَامَ أَمْوَالِهمْ) (¬1). ومنها: ما روته عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: (بَايَعْنَا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَرَأَ عَلَيْنَا: {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا}، وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا، فَقَالَتْ: فُلانَةُ أَسْعَدَتْنِي (¬2)، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ) (¬3). ووجه الدلالة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل منها تأخير المبايعة وارتكابها هذا المحرم وهو دفع الأجرة على النياحة لتأليف قلبها، وقلب المرأة الأخرى، وهذا هو التدرج في التطبيق. 5 - إن على الدولة الإسلامية في حال الاستضعاف التدرج في تطبيق الأحكام بعد تهيئة المجتمع وتحصين الجبهة الداخلية أولًا، مما يعينها على الصمود ومواجهة الضغوط الخارجية. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كِتَاب الْجُمُعَةِ، باب الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ، رقم: 1314، ومسلم، كِتَاب الإِيمَانِ، بَاب الدُّعَاءِ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ، رقم: 30. (¬2) قال ابن حجر رحمه اللَّه: "والإسعاد قيام المرأة مع الأخرى في النياحة تراسلها، وهو خاص بهذا المعنى، ولا يستعمل إلا في البكاء والمساعدة عليه، ويقال: إن أصل المساعدة وضع الرجل يده على ساعد الرجل صاحبه عند التعاون على ذلك"، فتح الباري، 8/ 637. (¬3) أخرجه البخاري، كِتَاب الْأَحْكَامِ، بَاب بَيْعَةِ النِّسَاءِ، رقم: 6704.

فإن قيل: هل لهذا التفريق بين المجتمعات التي يُحكم فيها بالإسلام وتطبق فيها الحدود والأحكام الشرعية كلها أو بعضها، وتلك التي لا علاقة لها بالإسلام ولا معرفة لها به، أو التي غُيب عنها الحكم بالأحكام الشرعية حتى غدت كأنها مجتمعات جديدة الدخول في الإسلام، هل لهذا التفريق أصل شرعي أو دليل؟ والجواب على هذا بما ورد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن وفد ثَقِيفٍ لما قَدِمُوا عليه أنزلهم المسجد؛ ليكون أرَقَّ لقلوبهم، فَاشْتَرَطُوا عليه أن لا يُحْشَرُوا، ولا يُعْشَرُوا، ولا يُجَبَّوْا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لكم أن لا تُحْشَرُوا، ولا تُعْشَرُوا، ولا خير في دين ليس فيه ركوع) (¬1). وقد أنزلهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المسجد ليكون أكثر إلانة لقلوبهم بسبب رؤيتهم المسلمين وخشوعهم واجتماعهم وعبادتهم للخالق عز وجل، ولكنهم شرطوا ألا يحشروا أي: ألا يندبون إلى الغزو والجهاد، كما شرطوا ألا يُعشَرُوا أي: لا يؤخذ عشر أموالهم، فوافقهم النبي على ذلك، وشرطوا ألا يجبوا -بالجيم وشد الموحدة- أي: أن يركعوا، وأرادوا أن لا يصلوا فلم يجبهم على ذلك. وإنما سمح لهم بترك الجهاد وترك الصدقة؛ لأنهما لم يكونا واجبين في العاجل، بل بحضور العدو أو بحول الحول، بخلاف الصلاة فهي واجبة في كل يوم وليلة فلم يجز أن يشترطوا تركها (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر الطائف، رقم: 3026، والبيهقي في السنن الكبرى، 2/ 444، باب المشرك يدخل المسجد غير المسجد الحرام، رقم: 4131، ومصنف ابن أبي شيبة، 2/ 416، من قال ليس على المسلمين عشور، رقم: 10579، والمنتقى لابن الجارود، عبد اللَّه بن علي بن الجارود النيسابوري، تحقيق: عبد اللَّه البارودي، مؤسسة الكتاب الثقافية: بيروت، ط 1، 1408 هـ، 1/ 101، رقم: 373، جاء في نصب الراية، 4/ 270: "قيل إن الحسن البصري لم يسمع من عثمان بن أبي العاص انتهى، ورواه أبو داود في مراسيله عن الحسن". (¬2) انظر: عون المعبود، 8/ 185 - 186.

المطلب الرابع استبدال الحدود

وقد أشكلت هذه الشروط على بعض التابعين فسأل جابر -رضي اللَّه عنه- عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا صدقة عليها، ولا جهاد، وأنه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد ذلك يقول: (سَيَتَصَدَّقُونَ وَيُجَاهِدُونَ إِذَا أَسْلَمُوا) (¬1)، وفي هذا الحديث دليل على جواز مبايعة الكافر وقبول الإسلام منه، وإن شرط شرطًا باطلًا (¬2)، وقد قبل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا التدرج في حال قوة الإسلام، فالحاجة إلى التدرج في حال الاستضعاف أولى، وإن كان هذا الاشتراط مقبولًا ممن دخل في الإسلام حديثًا، ويُرجى منه صلاح حاله وتعرفه على شرائعه، فإنه مع هذا لم يقبل منهم ترك الصلاة، ومثل هذا الاشتراط لا يصح من المسلمين، ولهذا قاتل الصحابة -رضي اللَّه عنهم- المرتدين على ترك الزكاة، ودل على الحديث على جواز التفريق بين المجتمعات التي دخلها الإسلام حديثًا وتلك التي تطبق الأحكام الشرعية. * * * المطلب الرابع استبدال الحدود عند وقوع الاستضعاف قد يُطالب البعض استبدال الحدود بوسائل أخرى من العقوبات وذلك بحسب الزمان والمكان، ولربما استدل هؤلاء لرأيهم بالمصلحة أو غيرها، وقد رد الجويني رحمه اللَّه على ذلك بقوله: "لسنا نرى أولًا إقامة السياط مقام الأحجار، فإن الحدود لا تتغير كيفياتها ولا تبدل آلاتها" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر الطائف، رقم: 3025، قال في عون المعبود، 8/ 185: "سكت عنه المنذري". (¬2) نيل الأوطار، محمد بن علي الشوكاني، دار الحديث: مصر، ط 1، د. ت، 8/ 13. (¬3) غِياث الأُمم، ص 240.

قال ابن القيم رحمه اللَّه: "الأحكام نوعان: نوع: لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير، ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة، فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة، وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة، لولا ما منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية، وعزر بحرمان النصيب المستحق من السلب، وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله" (¬1). وقال ابن تيمية رحمه اللَّه: "وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر؛ لعلم الشارع بما جُبلت عليه النفوس، وبما يخفي على الناس من خفى هداها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة، فمن تحذلق على الشارع واعتقد في بعض المحرمات أنه إنما حرم لعلة كذا وتلك العلة مقصودة فيه فاستباحه بهذا التأويل، فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه، وهو إن نجا من الكفر لم ينج غالبا من بدعة أو فسق أو قلة فقه في الدين وعدم بصيرة، أما شواهد هذه القاعدة فأكثر من أن تحصر. . . إن اللَّه سبحانه أوجب إقامة الحدود سدا للتذرع إلى المعاصي، إذا لم يكن عليها زاجر، وإن كانت العقوبات من جنس الشر، ولهذا لم تشرع الحدود إلا في معصية تتقاضاها الطباع، كالزنا والشرب والسرقة والقذف، دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك، فإنه اكتفى فيه بالتعزير، ثم إنه أوجب على السلطان إقامة الحدود إذا رُفعت إليه الجريمة وإن تاب العاصي عند ذلك وإن ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان، 1/ 330 - 331.

غلب على ظنه أنه لا يعود إليها؛ لئلا يُفضي ترك الحد بهذا السبب إلى تعطيل الحدود مع العلم بأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (¬1). ولهذا فإن مثل هذا الاستبدال في الحدود أو المطالبة به مع اعتقاد عدم صلاحية أحكام اللَّه عز وجل ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لكل زمان قد يخرج صاحبه من الملة، وإن تأجيل إقامة الحد أقل ضررًا من التحاكم إلى الطاغوت، "فكل من خرج عن سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وشريعته فقد أقسم اللَّه بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول اللَّه في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه، ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة، وبذلك جاءت سنة رسول اللَّه وسنة خلفائه الراشدين" (¬2)، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3)، "وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام. . قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬4)، وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر اللَّه أو أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم" (¬5). ¬

_ (¬1) الفتاوى الكبرى، 3/ 258 - 263. (¬2) الفتاوى، 28/ 471. (¬3) سورة النساء، الآية [65]. (¬4) سورة النور، من الآية [63]. (¬5) مفاتيح الغيب، 10/ 124.

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2)، "فعلى جميع الخلق أن يحكموا رسول اللَّه خاتم النبيين وأفضل المرسلين وأكرم الخلق على اللَّه، ليس لأحد أن يخرج عن حكمه في شيء سواء كان من العلماء أو الملوك أو الشيوخ أو غيرهم" (¬3). فإن قيل: إن الحدود تدرأ بالشبهات (¬4) وذلك في حال القوة، فالقول باستبدالها في حال الضعف أيسر من درئها. والجواب عن هذا بأنه قياس فاسد؛ لأن درء الحدود بالشبهات مما جاءت به الشريعة، فهو جزء من تطبيق الشريعة وأحكامها، أما تعطيل الحدود فقد منعت منه الشريعة، كما أن الدرء ليس كاستبدال الحدود بأحكام جديدة بعد اكتمال الدين، كما أنه ليس كإضعاف الغرم الذي قال به الفقهاء، قال الإمام أحمد رحمه اللَّه: "وكل من درأنا عنه الحد والقود، أضعفنا عليه الغرم" (¬5). ودرء الحدود بالشبهات مما خُولف فيه الدليل بالتأويل، أما استبدال الحد فهو مخالفة للدليل بلا تأويل سائغ شرعًا (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، من الآية [36]. (¬2) سورة النور، الآية [51]. (¬3) الفتاوى، 35/ 363. (¬4) والشبهة هي: "ما يشبه الثابت وليس بثابت"، البحر الرائق، 5/ 12، أو "الشُّبْهَةُ التَّعَارُضُ بَيْنَ أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ"، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/ 162، والمراد بدرء العقوبات أو الحدود: دفعها وعدم تطبيقها على الجاني لوجود اللبس لدى الجاني أو الشك في الفعل في كونه جريمة أصلًا, أو في كونه حدًا كاملًا، أو حتى في وقوعه. (¬5) إعلام الموقعين، 3/ 11. (¬6) انظر: الفروق، 1/ 303.

كما أن درء الحدود بالشبهات على فرض صحته، لا يثبت به مثل هذا الأمر العظيم الذي يفضي إلى التحاكم لغير حكم اللَّه عز وجل (¬1)، وليس هذا مجال العمل به. وليست كل الشبهات تدرأ الحد، بل "الشبهة إذا كانت محتملة فهي التي توجب ذلك، أما لو لم تكن محتملة فليست شبهة، بل هي دلسة وقع بها التذرع إلى إسقاط ما شرعه اللَّه من الحدود" (¬2). قال ابن القيم رحمه اللَّه: "الحدود جعلها اللَّه تعالى زواجر للنفوس وعقوبة ونكالًا وتطهيرًا، فشرعها من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، ومعلوم ما في التحيل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله، وتسليط النفوس الشريرة على تلك الجنايات، إذا علمت أن لها طريقًا إلى إبطال عقوباتها فيها، وأنها تسقط تلك العقوبات بأدنى الحيل، فإنه لا فرق عندها البتة بين أن تعلم أنه لا عقوبة عليها فيها وبين أن تعلم أن لها عقوبة وأن لها إسقاطها بأدنى الحيل" (¬3). وإن استبدال الحدود والعقوبات الشرعية بأي عقوبات وضعية لن يحقق المراد، ولن يفي بالغرض، وإنما سيؤدي إلى نتائج عكسية، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "وقد أجمع المسلمون على أن تعطيل الحد بمال يؤخذ أو غيره لا يجوز، وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني والسارق والشارب والمحارب وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد مال سحت خبيث كثير مما يوجد من فساد أمور الناس، إنما هو لتعطيل الحد بمال أو جاه، وهذا من ¬

_ (¬1) انظر: نيل الأوطار، 7/ 273. (¬2) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1405 هـ، 4/ 336. (¬3) إعلام الموقعين، 3/ 184 - 185.

المطلب الخامس الفرق بين تعطيل الحدود وتعطيل التعازير

أكبر الأسباب التي هي فساد أهل البوادي والقرى والأمصار من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وأهل الأهواء كقيس ويمن وأهل الحاضرة من رؤساء الناس وأغنيائهم وفقرائهم وأمراء الناس ومقدميهم وجندهم، وهو سبب سقوط حرمة المتولي، وسقوط قدره من القلوب وانحلال أمره" (¬1). وخلاصة ما سبق عدم جواز استبدال الحدود، وأن درء الحدود بالشبهات أمر مختلف عن استبدال الحدود، وكذلك التدرج في التطبيق مختلف عن الاستبدال. * * * المطلب الخامس الفرق بين تعطيل الحدود وتعطيل التعازير إن للحدود الشرعية خصوصيتها فهي ليست كسائر العقوبات، ويتضح الفرق بكون العقوبات والتعازير يحق للإمام تعطيلها إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك، بخلاف الحدود، وهذه جملة من نصوص الفقهاء تبين هذا الفرق بينهما. قال الإمام الشافعي رحمه اللَّه: "إن العقوبات غير الحدود، فأما الحدود فلا تعطل بحال، وأما العقوبات فللإمام تركها على الاجتهاد" (¬2). وقال القرافي رحمه اللَّه: "الحد مُقدر شرعًا، والتعزير غير مقدر شرعًا، بل قد اتفقوا على عدم تحديد أقله، واختلفوا في تحديد أكثره، فعندنا هو غير محدود، بل بحسب الجناية والجاني والمجني عليه" (¬3). ¬

_ (¬1) الفتاوى، 28/ 303. (¬2) الأم، 4/ 250. (¬3) الفروق، 4/ 319، وقد أورد القرافي رحمه اللَّه الفروق بينهما، تحت عنوان: "الفرق السادس والأربعون والمائتان بين قاعدة الحدود وقاعدة التعازير من وجوه".

ويوضح السرخسي سبب التفريق بينهما بقوله: "لأن الحدود زواجر، والزواجر مشروعة حقًا للَّه تعالى، فأما ما يكون حقًا للعبد فهو في الأصل جائز، فما أوجب من العقوبات حقًا للعبد وجب باسم القصاص الذي ينبىء عن المساواة؛ ليكون إشارة إلى معنى الجبر، وما أوجب باسم الحد فهو حق اللَّه تعالى، وفي هذا الاسم إشارة إلى معنى الزجر" (¬1). وقال ابن حزم رحمه اللَّه: "إن الحدود ليست موكولة إلى اختيار أحد إن شاء أقامها وإن شاء عطلها، بل هي واجبة للَّه تعالى وحده، لا خيار فيها لأحد، ولا حكم، وأما الدماء فهي موكولة إلى اختيار الولي إن شاء استقاد، وإن شاء عفا، فبطل أن تكون من الحدود وصح أنها من حقوق الناس" (¬2). قال ابن قدامة رحمه اللَّه: "القتل لو وجب لحق اللَّه تعالى لم يخير الإمام فيه كقطع السارق وكما لو انفرد بأخذ المال، ولأن الحدود للَّه تعالى إذا كان فيها قتل سقط ما دونه كما لو سرق وزنى وهو محصن" (¬3). قال الجصاص رحمه اللَّه: "لا يجوز تعطيل الحدود بعد ثبوتها عند من يقيمها، وقد يجوز ترك التعزير على حسب ما يرى الإمام فيه من المصلحة" (¬4). ولعل في هذه العبارات ما يكفي لإيضاح الفرق بين العقوبات والحدود من جهة التعطيل أو عدمه. وخلاصة هذا المطلب أن الدولة الإسلامية إذا وقعت في حالة استضعاف -وفق الشروط المعتبرة لذلك- جاز للحاكم تعطيل العقوبات والتعازير. ¬

_ (¬1) المبسوط، 9/ 109. (¬2) المحلى، 11/ 77. (¬3) المغني، 9/ 126. (¬4) أحكام القرآن للجصاص، 5/ 133.

المطلب السادس الحدود عام الرمادة

المطلب السادس الحدود عام الرمادة والمراد بالرمادة أي: الهلاك، ويقال: رمد القوم رمدًا هلكوا، وسُميت الرمادة بذلك؛ لأن الأرض كانت قد اغبرت من شدة الجدب، واسودت من قلة المطر حتى عاد لونها شبيها بالرماد، وكان الغبار يرتفع بين السماء والأرض كالرماد، واستمرت مدة ست سنين، وذلك في سنة ثمان عشرة (¬1). وقد ورد عن عمر -رضي اللَّه عنه- قوله: (لا يُقطع في عذق ولا في عام سنة) (¬2)، كما ورد عنه إسقاط الحد لوجود شبهة الاضطرار، وذلك لما سرق عبيد لعبد الرحمن بن حاطب (¬3) بعيرًا فانتحروه فوجد عندهم جلده ورأسه، فرفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فأمر بقطعهم فمكثوا ساعة -وما نرى إلا أن قد فرغ من قطعهم- ثم قال عمر: (علي بهم، ثم قال لعبد الرحمن: واللَّه إني لأراك تستعملهم، ثم تجيعهم، وتسيء إليهم، حتى لو وجدوا ما ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، مادة: رمد، والاستذكار، 8/ 380، والمدونة الكبرى، 3/ 29، والبداية والنهاية، 7/ 57، 7/ 90، والجامع لأحكام القرآن، 18/ 15. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 5/ 521، رقم: 28586، وعبد الرزاق في المصنف، 10/ 242، باب القطع في عام سنة، رقم: 18989. العذق: العنقود من العنب، والعذق: النخلة بحملها، والمراد في عذق، أي: معلق في شجرتها معلقة لما تصرم؛ لأنه ما دام معلقا في الشجرة فليس في حرز. وعام سنة، أي: عام جدب، وشدة ومجاعة، انظر: الفائق، محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق: علي البجاوي، ومحمد أبو الفضل، دار المعرفة: لبنان، ط 2، د. ت، 2/ 405، والنهاية في غريب الأثر، 3/ 199، 2/ 414، والعين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي السامرائي، دار ومكتبة الهلال، ط 1، د. ت، 1/ 148. (¬3) عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة اللخمي كنيته أبو يحيى، ذكره جماعة في الصحابة وهو ما صححه ابن حجر، وذكره البخاري ومسلم وابن سعد والجمهور في التابعين، وذكره بن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة، وقال: كان ثقة قليل الحديث، مات 68 هـ. انظر ترجمته: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 296، 5/ 30، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 2/ 827، والطبقات الكبرى، 5/ 64.

حرم اللَّه عليهم لحل لهم، ثم قال لصاحب البعير: كم كنت تعطى لبعيرك؟ قال: أربع مئة درهم، قال لعبد الرحمن: قم فاغرم لهم ثمان مئة درهم) (¬1). ولما جاء عبد اللَّه بن عمرو بن الحضرمي (¬2) لعمر -رضي اللَّه عنه- بغلام له ليقطع يده، قال: وما له؟ قال: سرق مرآة لامرأتي خير من ستين درهمًا، قال عمر: (غلامكم سرق متاعكم) (¬3). ومثل هذا الفعل من عمر يُحمل على تعارض مصلحة حفظ الحياة مع مصلحة حفظ المال، فقدم الأولى على الثانية (¬4)، أو للاشتباه بين من يسرق عدوانًا، وبين من يسرق اضطرارًا، والحدود تدرأ بالشبهات، فالحد لم يجب أصلًا لوجود الشبهة (¬5). قال ابن القيم رحمه اللَّه في معرض حديثه عن فعل الفاروق -رضي اللَّه عنه-: "وهذا محض القياس ومقتضي قواعد الشرع، فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه" (¬6). والفاروق -رضي اللَّه عنه- بعمله بهذه السياسة، إنما هو يعمل بوصية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين قال: (ادْفَعُوا الحُدُودَ ما وَجَدْتُمْ لهَا مَدْفَعًا) (¬7)، "وعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أعمل فقه الواقع ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق المصنف، 10/ 239، رقم: 18978. (¬2) حليف بني أمية وهو ابن أخي العلاء بن الحضرمي، قتل أبوه في السنة الأولى من الهجرة النبوية كافرًا، ولد على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، انظر ترجمته: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 190، والطبقات الكبرى، 5/ 64. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 5/ 519، رقم: 28568. (¬4) انظر: عمر بن الخطاب قاضيًا ومجتهدًا، محمد عارف ملهي، مكتبة النور: ليبيا، ط 1، د. ت، ص 130. (¬5) انظر: المحاورة، مساجلة فكرية حول قضية تطبيق الشريعة، د. صلاح الصاوي، دار الإعلام الدولي، ط 2، 1413 هـ، ص 96. (¬6) إعلام الموقعين، 3/ 11. (¬7) أخرجه ابن ماجه، كتاب الحدود، باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات، رقم: 2545.

ببعديه هنا، فقه واقع النص، وفقه واقع التطبيق بالنظر إلى الظروف المحتفة بالواقعة، وحاجة الناس إلى الطعام، مما أورث شبهة أسقطت الحد" (¬1). وعن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (ادرؤا الحدود ما استطعتم عن المسلمين، فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فخلوا سبيله؛ فإن الإمام لأن يخطىء في العفو خير له من أن يخطىء في العقوبة) (¬2). ¬

_ (¬1) فقه الواقع وأثره في الاجتهاد، ماهر حسين حصوة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي: الولايات المتحدة الأمريكية، ط 1، 1430 هـ، ص 59. (¬2) سنن الدارقطني، علي بن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي، تحقيق: السيد عبد اللَّه هاشم يماني، دار المعرفة: بيروت، ط 1، 1966 م، 3/ 84، والبيهقي في السنن الكبرى، 8/ 238، رقم: 16834، وقال: "ورواه وكيع عن يزيد بن زياد موقوفا على عائشة. . . تفرد به يزيد بن زياد الشامي عن الزهري وفيه ضعف، ورواية وكيع أقرب إلى الصواب واللَّه أعلم، ورواه رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري مرفوعا ورشدين ضعيف". جاء في تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني، تحقيق: السيد عبد اللَّه هاشم اليماني المدني، المدينة المنورة، ط 1، 1384 هـ، 4/ 56: "في إسناده يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، ورواه وكيع عنه موقوفا وهو أصح، قاله الترمذي، قال: وقد روي عن غير واحد من الصحابة أنهم قالوا ذلك". . . إلخ. قال ابن حزم رحمه اللَّه: "فإن ذكروا ادرءوا الحدود بالشبهات، قلنا: هذا باطل ما صح قط عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا فرق بين الحدود وغيرها في أن يحكم في كل ذلك بالحق"، المحل، 9/ 428، وقال في موضع آخر في المحلى، 8/ 253: "وأما ادرؤوا الحدود بالشبهات فما جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قط من طريق فيها خير، ولا نعلمه أيضا جاء عنه عليه السلام أيضا لا مسندًا ولا مرسلًا، وإنما هو قول روي عن ابن مسعود وعمر فقط"، قال الشوكاني رحمه اللَّه: "وفي إسناده يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف وقد روي الدرء بالشبهات من غير هاتين الطريقتين مرفوعا وموقوفا والجميع يصلح للاحتجاج به لا سيما والأصل في الدماء ونحوها العصمة فلا تستباح مع وجود ما يدل على سقوط الحد"، السيل الجرار، 4/ 316.

المطلب السابع حالات جواز تعطيل الحدود

وروي عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- قوله: (لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات) (¬1). وحديث درء الشبهات وإن كان ضعيفًا إلا أن العلماء تلقته بالقبول وبالتالي يجوز التخصيص به (¬2)، وهذه النصوص وغيرها تبين أن على الأئمة أن يدفعوا الحدود بكل عذر ممكن، وشبهة معتبرة يمكن أن يدفع بها الحد، كما وقع منه عليه الصلاة والسلام لماعز وغيره من تلقين الأعذار (¬3). وخلاصة هذا المطلب أن عمر -رضي اللَّه عنه- لم يعطل الحدود، وأن درء الحدود بالشبهات ليس كتعطيلها سواءً لعدم القدرة على تطبيقها لوجود الاستضعاف أو لغيره من الأسباب. * * * المطلب السابع حالات جواز تعطيل الحدود لقد جاءت النصوص في التحذير من تعطيل الحدود، ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬5)، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، 5/ 511، رقم: 28493. (¬2) انظر: كشف الأسرار، 1/ 451، قال القرافي رحمه اللَّه: "وحديث ادرءوا الحدود بالشبهات الذي يستدل به الفقهاء على هذه الأحكام وإن لم يصح إلا أن معتمدنا فيها ما قاله بعض الفضلاء من أنه حيث أجمعنا على إقامة الحد كان سالمًا عن الشبهة، وما قصر عن محل الإجماع لا يلحق به عملًا بالأصل حتى يدل بدليل على إقامة الحد في صور الشبهات"، الفروق، 4/ 316. (¬3) انظر: تحفة الأحوذي، 4/ 573. (¬4) سورة المائدة، من الآية [44]. (¬5) سورة المائدة، من الآية [45]. (¬6) سورة المائدة، من الآية [47].

كما أن الفقهاء "أجمعوا على أنه إذا بلغ الإمام لم تجز الشفاعة فيه؛ لأن ذلك إسقاط حق وجب للَّه تعالى" (¬1). ولأهمية إقامة الحدود فإن الفقهاء اتفقوا على مشروعية إقامتها حتى في حال غلبة أهل البغي، وأن أحكامهم لا تنقض، إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع، كما ينقض من أحكام أهل العدل والسنة (¬2)، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود على من خرج من شريعة اللَّه، ويجب على أولي الأمر وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها أن يقوموا على عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر" (¬3). وبالرغم من أهمية إقامة الحدود، والنتائج السلبية والمخاطر المترتبة على تعطيلها أو تأجيلها، إلا أن العلماء ذكروا بعض الحالات التي يجوز معها تأجيل الحد، بل نقل ابن العربي رحمه اللَّه وغيره اتفاق الأمة على جواز تأخير القصاص إذا أدت إقامته إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة. واستدلوا لهذا الحكم بأدلة منها: فعل النبي عليه الصلاة والسلام إذ لم يحد عبد اللَّه بن أبي وقد كان رأس أصحاب الإفك، ومع هذا ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته (¬4). كما استدلوا بالخلاف الذي وقع بين الصحابة رضوان اللَّه عليهم في زمن خلافة علي -رضي اللَّه عنه-، فقال رحمه اللَّه: "لما بُويع له -أي: لعلي -رضي اللَّه عنه- طلب أهل الشام في شرط البيعة ¬

_ (¬1) المغني، 9/ 120. (¬2) انظر: المبسوط، 10/ 130، والكافي، 1/ 222، والأم، 4/ 220، والمغني، 9/ 12. (¬3) الفتاوى، 3/ 422. (¬4) انظر: طرح التثريب، 8/ 63، وفتح القدير للشوكاني، 4/ 13، وزاد المعاد، 3/ 229، والجامع لأحكام القرآن، 12/ 202، وفيه: "قال علماؤنا وإنما لم يحد عبد اللَّه بن أُبي؛ لأن اللَّه تعالى قد أعد له في الآخرة عذابًا عظيمًا. . . ويحتمل أن يُقال: إنما ترك حد بن أبي استئلافًا لقومه واحترامًا لابنه وإطفاءً لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك".

التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم، فقال لهم علي -رضي اللَّه عنه-: (ادخلوا في البيعة، واطلبوا الحق تصلوا إليه، فقالوا: لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك، تراهم صباحا ومساء)، فكان علي في ذلك أشد رأيًا وأصوب قولًا؛ لأن عليًا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل، وصارت حربًا ثالثة، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر، وتنعقد البيعة العامة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم، فيجري القضاء بالحق، ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص، إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة" (¬1). قال ابن حجر رحمه اللَّه: "إن أحدًا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليًا في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على علي منعه من قتل قتلة عثمان، وترك الاقتصاص منهم، وكان علي ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه، فاختلفوا بحسب ذلك، وخشي من نسب إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم إلى أن كان ما كان" (¬2). ففي حالة عدم استقرار الحكم لا يمكن إقامة الحدود، قال ابن تيمية رحمه اللَّه واصفًا حالة الحكم في زمن علي -رضي اللَّه عنه-: "ولم يكن ممكنا من أن يعمل كل ما يُريده من إقامة الحدود ونحو ذلك؛ لكون الناس مختلفين عليه، وعسكره وأمراء عسكره غير مطيعين له في كل ما كان يأمرهم به، فإن التفرق والاختلاف يقوم فيه من أسباب الشر والفساد وتعطيل الأحكام ما يعلمه من يكون من أهل العلم العارفين بما جاء من النصوص في فضل الجماعة والإسلام" (¬3)، فلم يكن تأجيل القصاص من قتلة عثمان -رضي اللَّه عنه- إلا من باب درء المفاسد بالرغم من مصلحة تنفيذ القصاص (¬4). ¬

_ (¬1) أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 4/ 150، وانظر: الجامع لأحكام القرآن، 16/ 318. (¬2) فتح الباري، 13/ 56. (¬3) الفتاوى، 27/ 477. (¬4) انظر: البداية والنهاية، 7/ 238.

ويذكر ابن قدامة رحمه اللَّه حالات أخرى لجواز تأخير إقامة الحد، وهي: "إنْ كَانَ بِالمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَى الْمَحْدُودِ، أَوْ قُوَّةٌ بِهِ، أَوْ شُغْلٌ عَنْهُ، أُخِّرَ" (¬1)، فعند الحاجة إلى هذا الشخص الذي وقع عليه الحد يعطل الحد، لمصلحة الجماعة، وكذلك إن كان به قوة تحول بين الدولة وبين تطبيق الحد عليه، أو انشغال المسلمين عنه بأمر أهم كهجوم عدو أو وقوع كارثة. ومما وقع فيه الخلط هنا: "أن معظم العاملين في الحقل الإسلامي -وبخاصة المتحمسين منهم- أعطوا عناية كبرى لقضية. . . "تطبيق الشريعة الإسلامية" يعنون الجانب القانوني من الشريعة ولا سيما في العقوبات أي الحدود والقصاص والتعازير. وهذا الجانب جزء من الإسلام ولا ريب، ولا يجوز إغفاله أو الإعراض عنه، ولكن المبالغة في المطالبة به، والحديث عنه واعتباره رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، كان له آثار سيئة على التفكير الإسلامي والعمل الإسلامي، وآثار أخرى على أفكار الناس العاديين، واستغل ذلك خصوم الإسلام وشريعته ودعوته. وطالما قلت: إن القوانين وحدها لا تصنع المجتمعات، ولا تبني الأمم، إنما تصنع المجتمعات والأمم: التربية والثقافة ثم تأتي القوانين سياجًا وحماية. . فالواجب إذن أن تعطى هذه القضية حجمها الحقيقي من الفكر والعمل، وأن تعطى مساحات مناسبة للاشتغال والإعداد والمطالبة بـ"تربية إسلامية متكاملة معاصرة"" (¬2). وإن كان هذا رأي بعض المعاصرين فإن ابن تيمية رحمه اللَّه تطرق لهذه المسألة بقوله: "والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة؛ لكان يجب على ¬

_ (¬1) المغني، 9/ 248. (¬2) في فقه الأولويات، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة: مصر، ط 3، 1419 هـ، ص 194 - 195، وانظر: التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية، محمد الشريف، الكويت، ط 1، 1996 م، ص 42 وما بعدها.

كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق، ولهذا قال العلماء إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة، وصاروا أحزابا، لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة، فإن ذلك أيضا إذا اسقط عنه إلزامهم بذلك، لم يسقط عنهم القيام بذلك، بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق أو إضاعته لذلك لكان ذلك الفرض على القادر عليه، وقول من قال لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل كما يقول الفقهاء الأمر إلى الحاكم إنما هو العادل القادر، فإذا كان مضيعا لأموال اليتامى أو عاجزا عنها لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه، وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه، والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه واللَّه اعلم" (¬1). إذًا فالحدود من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالتالي إن ترتب على هذا الأمر بالمعروف منكر، أو ترتب على النهي عن المنكر منكر أعظم منه، فلا ينبغي الإقدام عليه. وخلاصة هذه المسألة: جواز تعطيل الحدود في حالة الاستضعاف، بشرط اتصال الاستضعاف بإقامة الحدود، بمعنى أن تكون إقامة الحدود سببًا من أسباب وقوع ¬

_ (¬1) الفتاوى، 34/ 175 - 176.

الاستضعاف، ويشهد لصحة هذا أن النجاشي رحمه اللَّه لم يقم الحدود في الحبشة، بل لم يكن بإمكانه القيام بذلك لعدم وجود القوة الكافية للمسلمين، وعدم تمكنه من الملك، ولم يقدح هذا في إيمانه، إلا أنه ينبغي التأكيد على ما يلي: 1 - أن على الحاكم إقامة الحد متى ما كانت الفرصة مناسبة ليخرج من حالة الاستثناء ويعود إلى الأصل. 2 - إن أمكن إقامة بعض الحدود دون بعض، وجب إقامة المقدور عليه منها؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. .} (¬1)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (... دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ من كان قَبْلكُمْ بِسُؤَالِهمْ وَاخْتِلَافِهِمْ على أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (¬2)، وكما هو معلوم فإن المقدور لا يسقط بالمعذور (¬3). 3 - إن أمكن إقامة بعض الحدود بطريقة لا تتسبب بالضرر على الدولة الإسلامية أو تأليب الأعداء عليها، فينبغي إقامة الحد، كأن تتم إقامته بحضور عدد محصور، ودون ¬

_ (¬1) سورة التغابن، من الآية [16]. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام، رقم: 6858، ومسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، رقم: 1337. قال الحافظ في فتح الباري، 13/ 261: "الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي؛ أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي، فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار". (¬3) انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 187، وفتح الباري، 13/ 261، ومن صيغها: الميسور لا يسقط بالمعسور، والميسور لا يسقط بالمعجوز عنه، انظر: إعانة الطالبين، 1/ 2، والمنثور، 1/ 230، و 1/ 422، وغير المستطاع لا يسقط به المستطاع، حاشية السندي، نور الدين بن عبد الهادي السندي، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية: حلب، ط 2، 1406 هـ، 1/ 172.

الإعلان عنه في وسائل الإعلام، بل يُكتفى بإخبار الخصوم ونحوهم ممن يرى الحاكم المصلحة في حضوره أو إخباره. فإن قيل: إن اللَّه عز وجل أمر بالإعلان عند إقامة الحد، فقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، كما أن في الإعلان والشهود من الفوائد والحكم ما لا تتحقق بإقامته سرًا وبحضور العدد القليل من الناس، "والنص وإن ورد في حد الزنا لكن النص الوارد فيه يكون واردًا في سائر الحدود دلالة؛ لأن المقصود من الحدود كلها واحد وهو زجر العامة، وذلك لا يحصل إلا وأن تكون الإقامة على رأس العامة؛ لأن الحضور ينزجرون بأنفسهم بالمعاينة، وَالْغُيَّبَ يَنْزَجِرُون بإخبار الحضور فيحصل الزجر للكل، وكذا فيه منع الجلاد من المجاوزة عن الحد الذي جعل له؛ لأنه لو جاوز لمنعه الناس عن المجاوزة، وفيه أيضا دفع التهمة والميل فلا يتهمه الناس أن يقيم الحد عليه بلا جرم سبق منه" (¬2). والجواب على هذا من عدة أوجه: أولًا: لا ننكر تحقق هذه المصالح من شهود الناس لتنفيذ الحكم وإعلانه، إلا أن هذه المصالح التي تتحقق بالإعلان عن إقامة الحد لا يُمكن مقابلتها بالمفاسد التي تقع على الدولة الإسلامية في حال الاستضعاف، ومن المقرر أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ثانيًا: أن المقصود بالطائفة يتحقق بالواحد فصاعدًا على الصحيح، وإن كان الأفضل والأولى في الأحوال العادية حضور وشهود العدد الكبير، وقد تنوعت أقوال المفسرين ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية [2]. (¬2) بدائع الصنائع، 7/ 60 - 61.

والفقهاء في عدد الطائفة من الواحد فصاعدًا، أو أربعة قياسًا على شهود الزنا (¬1)، قال ابن جرير رحمه اللَّه بعد أن أورد الاقوال في عدد الطائفة: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أقل ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين الواحد فصاعدا؛ وذلك أن اللَّه عم بقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} (¬2)، والطائفة قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا" (¬3)، قال ابن حزم رحمه اللَّه: "فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك فوجدنا جميع الأقوال لا يُحتج بها، إلا قول مجاهد وابن عباس وهو أن الطائفة واحد فصاعدا، فوجدناه قولًا يوجبه البرهان من القرآن والإجماع واللغة، فأما القرآن فإن اللَّه تعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} (¬4) فبين تعالى نصًا جليًا أنه أراد بالطائفتين هنا الاثنين فصاعدًا بقوله في أول الآية: {اقْتَتَلُوا}، وبقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى}، وبقوله تعالى في آخر الآية: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (¬5)، وبرهان آخر وهو أن اللَّه تعالى قال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬6) " (¬7)، وبالتالي فإن حضور العدد القليل يفي بالغرض، ويقي الدولة الإسلامية من تبعات الاعلان عن هذا الأمر وعواقبه في حال ضعفها. ¬

_ (¬1) انظر: أحكام القرآن للجصاص، 5/ 106، ومفاتيح الغيب، 23/ 130، والدر المنثور، 6/ 126، وتفسير القرآن العظيم، 3/ 263، والجامع لأحكام القرآن، 12/ 166، ومواهب الجليل، 6/ 295، والمجموع، 4/ 363، والمغني، 9/ 46. (¬2) سورة النور، من الآية [2]. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 70. (¬4) سورة الحجرات، من الآية [9]. (¬5) سورة الحجرات، من الآية [10]. (¬6) سورة النور، من الآية [2]. (¬7) المحلى، 11/ 264.

4 - التدرج في تطبيق الحدود الشرعية إنما يكون في بداية التطبيق، وهو لا يعني التراجع بل المراد منه استكمال الأسباب والظروف لبدء التطبيق (¬1). 5 - إنما يأثم الحكام في حال القدرة على إقامة الحدود، أما في حال الاستضعاف والخشية على الدولة الإسلامية فلا يأثم الحكام، وليس هذا من إقرار الحكم بغير ما أنزل اللَّه أو ترك العمل بأحكام الشريعة الإسلامية، بل هو من باب التأجيل لحين التمكن من العمل؛ فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبًا في الأصل واللَّه أعلم (¬2)، إلا أنه يجب التنبيه على خطورة وأضرار تساهل الحكام في التعاطي مع هذه المسألة العظيمة وإعمالهم للقوانين الوضعية وتعطيلهم للشريعة، وتذرعهم لمثل هذا التعطيل بأبسط الضغوط أو لمجرد الانتقادات من الجمعيات التي تدعي المطالبة بحقوق الإنسان، وهذا الأمر لن يزيد ملكهم إلا ضعفًا، ولن يزيدهم إلا وهنًا، ولن يحفظ لهم ولا للبلاد والعباد الأمن والأمان. * * * ¬

_ (¬1) انظر: قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي، د. سامي السويلم، دار كنوز اشبيليا: الرياض، ط 1، 1430 هـ. (¬2) انظر: الفتاوى، 20/ 59 - 62.

المبحث الرابع الاعتراف بالاحتلال حال الاستضعاف

المبحث الرابع الاعتراف بالاحتلال حال الاستضعاف وفي الواقع المعاصر أثيرت مسألة الاعتراف ببعض الدول، وأخذت بُعدًا سياسيًا ودوليًا، ومن أبرز هذه الدول الكيان الصهيوني في فلسطين (¬1)، وقد ناقش بعض الفقهاء المعاصرين مسألة الاعتراف بهذا الكيان، ويقاس عليه الاعتراف بالاحتلال في أي بلد إسلامي آخر، وهذه المسألة تمثل صورة من صور الاستضعاف. فما المراد بالاعتراف؟ وما الأمور المترتبة عليه؟ وهل يجوز الاعتراف بالاحتلال في حالة الاستضعاف؟ هذا ما سيجيب عليه هذا المبحث من خلال المطالب الخمسة التالية: المطلب الأول تعريف الاعتراف وأشكاله الفرع الأول: الاعتراف في اللغة: الإقرار بالشيء عن مَعْرفِة، والعُرْفُ الاسم من الاعْتِرافِ (¬2). وأما الاعتراف (reconnaissance) اصطلاحًا هو: "عمل قانوني يصدر عن الدولة تسلم بموجبه بنشوء واقع دولي جديد، كالاعتراف بدولة أو حكومة أو موقف أو معاهدة. . إلخ، وينطوي على التسليم باستعداد الدولة للدخول في روابط وعلاقات قانونية على هذا الأساس" (¬3). ¬

_ (¬1) "كان الاعتراف بالحركة الصهيونية، ثم بالدولة اليهودية في فلسطين، هاجسًا لا يفارق مخيلة الصهيونيين، وقد كرسوا في البداية جهودهم ومساعيهم لانتزاع الاعتراف بشرعية وجودهم من الدول الكبرى والأسرة الدولية، حتى إذا ما نالوا مأربهم توجهوا إلى العرب لإقناعهم، بمختلف الوسائل بوجوب التسليم بحق اليهود في إقامة دولتهم في فلسطين"، الاعتراف بإسرائيل من خلال التسوية، ص 11. (¬2) انظر: المغرب في ترتيب المعرب، أبو الفتح ناصر الدين بن المطرز، تحقيق: محمود فاخوري وعبد الحميد مختار، مكتبة أسامة بن زيد: حلب، ط 1، 1979 م، ولسان العرب، مادة: عرف. (¬3) معجم القانون، ص 597. أما عدم الاعتراف (non reconnaissance) فهو "رفض صريح أو ضمني من جانب دولة أو منظمة دولية قبول التعامل القانوني مع واقعة ما في علاقاتها الدولية على أساس أنها تفتقر إلى المشروعية أو الفعالية"، معجم القانون، ص 642.

الفرع الثانى: الاعتراف اصطلاحا

الفرع الثانى: الاعتراف اصطلاحًا: وهو: "عمل يصدر عن دولة أو مجموعة من الدول أو منظمة دولية تعلن بموجبه صراحة قبولها جماعة سياسية بوصفها دولة مع كل ما يرتبه هذا الوصف القانوني من حقوق وواجبات" (¬1). كما عرَّف مجمع القانون الدولي الاعتراف بالدولة بأنه: "التصرف الحر الذي يصدر عن دولة واحدة أو عدة دول للإقرار بوجود جماعة بشرية فوق إقليم معين، تتمتع بتنظيم سياسي واستقلال كامل، وتقدر على الوفاء بالتزاماتها الدولية" (¬2)، وبالتالي فإن الاعتراف يعتبر عمل سياسي وقانوني (¬3). وليس للاعتراف شكل محدد فقد يتم الاعتراف فرديًا بأن تقوم به كل دولة على حدة، أو جماعيًا باعتراف عدة دول سواءً عن طريق مؤتمر دولي أو معاهدة دولية، وهذا الشكل يكون أكثر فعالية وقوة، ويكون الاعتراف صريحًا أو ضمنيًا، والقانون الدولي يمنح لكل دولة مطلق الحرية في الاعتراف أو عدمه (¬4). * * * المطلب الثاني آثار الاعتراف ونتائجه تنشأ الدولة المعاصرة من الناحيتين السياسية والاجتماعية، باستكمال عناصرها الثلاثة: الشعب والإقليم والسلطة السياسية، ولكنها تحتاج إلى اعتراف الدول الأخرى بها، لكي تستطيع الانضمام إلى الأسرة الدولية، والتمتع بالشخصية الدولية، وممارسة جميع الحقوق، ولا تقتصر نتائج وفوائد الاعتراف على مجرد هذه الأمور، بل يتضمن شرعية النظام القائم ¬

_ (¬1) معجم القانون، ص 598. (¬2) انظر: الاعتراف بإسرائيل من خلال التسوية، ص 62. (¬3) انظر: القانون الدولي العام، د. إبراهيم العناني، دار الفكر العربي، مصر، ط 1، 1984 م، ص 134. (¬4) انظر: الاعتراف بإسرائيل من خلال التسوية، ص 62 - 63.

والأسس التي قام عليها، ومسألة الاعتراف مرتبطة بتطور العلاقات الدولية، وتطور فكرة الدولة، وبقيت هذه المسألة حتى منتصف القرن السابع عشر الميلادي تقريبًا، غريبة على فقه القانون الدولي العام، غير أن أهميتها أخذت ابتداء من هذه الفترة وبسبب ظهور الدول الحديثة تتضاعف عاما بعد عام (¬1). ويتضح من تعريف مصطلح الاعتراف السابق أنه ليس أمرًا شكليًا فحسب، بل يترتب عليه تَبِعات في مخُتلف المجالات سواءً على الصعيد القانوني أو السياسي، ومن شأنها التأثير في حقوق وواجبات وامتيازات الدولة المُعترف بها، وذلك في نطاق القانون الدولي وكذلك القانون الداخلي، ومن أبرز تلك الآثار: 1 - تمتع الدولة الجديدة بالحق في التقاضي أمام المحاكم الوطنية للدولة المعترف بها. 2 - الاعتراف بما يصدر عن الهيئات القضائية والتنفيذية للدولة الجديدة أمام المحاكم، وكذلك غيرها من السلطات الداخلية. 3 - تمتع الدولة الجديدة بالحصانة القضائية والدبلوماسية بالنسبة لممثليها وأموالها في مواجهة الدولة المعترف بها. 4 - حق الدولة الجديدة في المطالبة بأموالها وحقوقها الموجودة في أراضي الدولة المعترف بها، بالإضافة إلى حقها في هذه الأموال والتصرف فيها. ¬

_ (¬1) انظر: القانون الدولي العام في وقت السلم، د. حامد سلطان، دار النهضة العربية: القاهرة، ط 1، 1962 م، ص 114، والقانون الدولي العام دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، عبد الباقي نعمة عبد اللَّه، دار الأضواء: بيروت، ط 1، 1410 هـ، ص 151 - 152، والاعتراف بإسرائيل من خلال التسوية، د. محمد المجذوب، معهد الإنماء العرب: بيروت، ط 1، 1978 م، ص 62 - 65.

المطلب الثالث حكم الاعتراف بالاحتلال (الاحتلال الصهيونى نموذجا)

5 - حق الدولة الجديدة بكافة الحقوق والامتيازات التي تتمتع بها الدول الأعضاء في المجتمع الدولي. 6 - حق الدولة في أن تكون لها جنسية خاصة بها، إلى غيرها من الآثار والنتائج (¬1). * * * المطلب الثالث حكم الاعتراف بالاحتلال (الاحتلال الصهيونى نموذجًا) إن الآثار السلبية والأضرار التي تترتب على الاعتراف بالاحتلال متحققة سواءً أكان الاحتلال في فلسطين أو غيرها، وبالتالي فإن هذا المطلب سيعرض لمسألة الاعتراف بالاحتلال الصهيوني نموذجًا ويقاس عليه الاعتراف بالاحتلال الواقع على أي بلد إسلامي، وإن كنا نؤمن بخصوصية فلسطين من حيث المكانة والمنزلة والتي دلت عليها الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ومن حيث العدو الجاثم على أرضها اليوم وعداوته التي أخبرنا بها العليم الخبير بقوله سبحانه وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا. .} (¬2). لقد غدت مسألة الاعتراف بدولة الاحتلال الصهيوني "إسرائيل" من أبرز القضايا السياسية التي أُثيرت في الواقع المعاصر، وقد تطرق لها عدد من الفقهاء والكتاب المعاصرين، ويمكننا القول بأن الفقهاء اتفقوا على تحريم الاعتراف بـ"إسرائيل"؛ لكونها قامت على غصب أرض إسلامية، بعد سلسلة من الجرائم والمجازر التي لا تُعد ولا تُحصى ولا تزال ممتدة، وترتب عليها القتل والتهجير القسري للمسلمين من تلك الأرض ¬

_ (¬1) انظر: القانون الدولي العام، د. أبو الخير أحمد عطية عمر، أكاديمية شرطة دبي: الإمارات، ط 1، 1427 هـ، ص 428. (¬2) سورة المائدة، من الآية [82].

المباركة، وإنما خالف د. أحمد الريسوني (¬1) في مسألة جواز الاعتراف في حال الضرورة، وبهذا تكون الأقوال في المسألة كما يلي: القول الأول: جواز الاعتراف بالاحتلال الصهيوني حال الضرورة للفلسطينيين خاصة (¬2). وقد خص هذا القول الفلسطينيين بالجواز إذا قدروه وقرروه بصفة شورية للضرورة، أما غيرهم من المسلمين وحكامهم فإنه لا يجوز ولا يُقبل بحال من الأحوال لا الصلح ولا الاعتراف ولا التطبيع؛ لأنهم لا ضرورة لهم ولا حاجة عندهم لشيء من ذلك، وإنما هو تخاذل وخذلان وذل وهوان. كما أكد د. الريسوني على أن جرائم الكيان الصهيوني لا تسقط بالتقادم، كما أن حقوق المسلمين لا تسقط بالتقادم (¬3)، وهو ما نص عليه الفقهاء، ومثلها قاعدة: "الضرر لا يكون قديما" (¬4)، و"المعنى أن الضرر قديمه كحديثه في الحكم، فلا يُراعى قدمه ولا يُعتبر بل يزال" (¬5)، واعتبر أن الكيان ليس مجرد ضرر يزال، بل هو ضرر وخطر وفساد وشر ¬

_ (¬1) ولد سنة 1953 م بالمغرب، حصل على الإجازة في الشريعة من جامعة القرويين بفاس سنة 1978 م، ودكتوراه الدولة سنة 1992 م، وهو عضو مؤسس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعضو سابق بمجلس أمنائه، وعضو المجلس التنفيذي للملتقى العالمي للعلماء المسلمين، برابطة العالم الإسلامي، من أبرز مؤلفاته: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، انظر: الموقع الرسمي: = http://www.widesoft.ma/raissouni/def.asp?codelangue= 6 &po (¬2) انظر: مقال د. الريسوني، بعنوان: فلسطين اليوم. . رؤية فقهية سياسية، نشر في عدة مواقع على الانترنت 2006 م. (¬3) انظر: شرح القواعد الفقهية، 1/ 483. (¬4) انظر: قواعد الفقه، 1/ 88. (¬5) شرح القواعد الفقهية، 1/ 101.

وهلاك، وجاء رأيه بعد بدء الحصار على الحكومة الفلسطينية المنتخبة في انتخابات 2006 م بدعوى عدم اعترافها بـ"إسرائيل" (¬1). وأدلة هذا القول تتلخص فيما يلي: الدليل الأول: الصعوبات التي يواجهها الشعب الفلسطيني وحده، واعتبر أن هذه الصعوبات والحصار تمثل حالة الضرورة التي تبيح المحظورات. ويمكن مناقشة هذا الدليل: بعدم تحقق الضرورة، وعلى فرض تحققها فإن الفقهاء وضعوا ضوابط للأخذ بالضرورة ومنها ما سبق بيانه وهو أن يكون ارتكاب المستضعف للمحظور أقل ضررًا من الأخذ بالعزيمة، والضرر المترتب على الاعتراف أكبر قدرًا من ضرر عدم الاعتراف، كما أن مفسدة الاعتراف آكد من مفسدة عدم الاعتراف. الدليل الثاني: قياس الاعتراف على الهدنة طويلة الأمد التي عقدها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مع قريش في صلح الحديبية. ونوقش: بأن القياس فاسد؛ لأن صلح الحديبية لم يترتب عليه اعتراف بشرعية قريش، بل كان اعترافًا من قريش بالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحبه، كما أن مكة كانت في الأصل بأيدي قريش وهم أهلها، ولم يتنازل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلح الحديبية عن أي أرض، بل لم يتنازل عن حق المسلمين في العمرة إن أجلها ولم يحرم المسلمين منها. كما أن أرض فلسطين أرض إسلامية، وفيها القبلة الأولى للمسلمين، واليهود جاؤوا غاصبين، والاعتراف بدولتهم ليس من باب الصلح لا المؤقت ولا المطلق. الدليل الثالث: أن العقود التي تتم تحت القهر والإكراه والاضطرار لا مشروعية لها ولا قانونية، وهي قابلة للنقض والإلغاء في أي وقت، وستكون هنالك مداخل ومخارج ¬

_ (¬1) كان من نتائج الانتخابات الفلسطينية فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بـ 76 مقعدا من مقاعد المجلس التشريعي البالغة 132 مقعدا.

متعددة للأجيال اللاحقة من الفلسطينيين ومن المسلمين لإحقاق الحق وإزهاق الباطل متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ويمكن مناقشة هذا الدليل: بأن الاعتراف سيتم تدويله ليصبح مستندًا قانونيًا دوليًا، ومن يضمن نقض مثل هذا الاعتراف، وما الفائدة من التنازل اليوم ومن ثم السعي لنقضه من جديد، ومن المقرر أن "حفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود، ودفع الضرر أولى من جلب النفع" (¬1)، وأن "الدفع أهون من الرفع" (¬2)، واستعادة الحق بلا اعتراف أيسر من استعادته بعد الاعتراف. الدليل الرابع: قياس الاعتراف على جواز دفع شيء من الأموال والممتلكات للبغاة وقطاع الطرق لأجل تخليص الباقي وحفظه إذا لم يكن بد من ذلك، ودل على جوازه ما هم أن يفعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الخندق بمصالحة غطفان على شطر ثمار المدينة (¬3). ونوقش بأنه قياس فاسد؛ لأن التنازل عن ثمار المدينة أو المال أمر يمكن تعويضه، ولا يتضمن تنازلًا عن أرض، بل هو حفظ للأرض وللناس، وإن صح تسميته تنازلًا فهو تنازل عن ناتج الأرض مع الاحتفاظ بالأصل وهو أمر مؤقت. ومما يجدر التنبيه إليه هو أن تخصيص الفلسطينيين بالجواز يظهر ضعف هذا القول؛ لأن تنازل أصحاب الأرض والحق يكون مسوغًا ومبررًا لغيرهم للاعتراف. القول الثاني: عدم جواز الاعتراف بالاحتلال الصهيوني: وهو قول معظم الفقهاء المعاصرين، وقد رد عدد من أصحاب هذا القول على رأي الدكتور/ الريسوني الذي سبق ¬

_ (¬1) انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 81. (¬2) غِياث الأُمم، ص 130. (¬3) سبق تخريجه ص 61.

ذكره، ومن أبرزهم الأستاذ الدكتور/ علي محيي الدين القره داغي (¬1). ومن أدلة هذا القول ما يلي (¬2): الدليل الأول: عدم تحقق الضرورة التي يجوز معها الاعتراف بالكيان، كما أن تقدير هذه الضرورة يعود إلى علماء فلسطين، ولم يقل أحد من علماء فلسطين المعتبرين بجواز الاعتراف بالكيان الصهيوني (¬3). الدليل الثاني: وهو على فرض تحقق الضرورة مع الحصار والحرب وغيرها من وسائل الاستضعاف فإن شروط الأخذ بالضرورة لم تتحقق، ومن بين هذه الشروط أن لا يكون الاستضعاف مبطلًا لحق الغير، ودل على هذا قاعدة: "الاضطرار لا يُبطل حق الغير" (¬4). ¬

_ (¬1) ولد عام 1949 م بمنطقة القره داغ، بمحافظة السليمانية في كوردستان العراق، ونشأ في أسرة معروفة بالعلم، وحصل على الدكتوراه في الشريعة والقانون بجامعة الأزهر الشريف، عمل (سابقًا) رئيسًا لقسم الفقه والأصول بكلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وعمل في عدد من هيئات الفتوى والرقابة لعدد من البنوك الإسلامية، وشركات التأمين الإسلامي. انظر: الموقع الرسمي: http://www.qaradaghi.com/portal/index.php (¬2) انظر: مقال بعنوان: القياس الفاسد وفتاوى العلماء الثقات: www.qaradaghi.com/portal/index.php?option=comcontent&view=article&id= 11 : 2009 - 04 - 11 - 21 - 03 - 31 &catid= 9 : 200 - 04 - 11 - 15 - 09 - 29 &itemid= 7 (¬3) بل جاء في الفتوى الصادرة عن رابطة علماء فلسطين بتاريخ 28/ 6 / 2008 م: "إن الاعتراف والتطبيع بكل أشكالهما سياسيًا كان أم عسكريًا أم أمنيًا أم اقتصاديًا أم ثقافيًا مع اليهود الغاصبين لفلسطين حرام شرعًا، وهو من الكبائر، وهو كذلك شكل من أشكال موالاة أعداء اللَّه الذين اغتصبوا أرض المسلمين وطردوهم منها، وانتهكوا أعراضهم وسفكوا دماءهم ونهبوا أموالهم وعبثوا بالتخريب والتدنيس بمقدساتهم"، انظر: موقع الرابطة: www.rapeta.org/fawadetaihs.asp?ID= 116 . (¬4) انظر: درر الحكام، 1/ 38، وقواعد الفقه، 1/ 60، وشرح القواعد الفقهية، 1/ 213، وحاشية ابن عابدين، 3/ 391.

فإن قيل: إنه إبطال لحق النفس لا الغير، قيل: بل هو إبطال لحق النفس والغير، فالاعتراف يترتب عليه إبطال حق المسلمين في الماضي، والحاضر، والمستقبل، حتى يغدو الاعتراف مستندًا لليهود وغيرهم في عدم أحقية المسلمين في المستقبل لهذه الأرض وما فيها من مقدسات. الدليل الثالث: أن المفسدة المترتبة على الاعتراف أعظم من المفسدة المترتبة على عدم الاعتراف، بل إن مفسدة الاعتراف محققة؛ لأنها إقرار للعدو على ما ارتكبه من مجازر وجرائم، وما اغتصبه من حقوق ومقدسات، كما أن من الشروط التي وضعها الفقهاء للإتيان بالفعل المكره عليه، أن يكون الإتيان به مُنجيًا من الضرر، ونحن نعلم من أحوال اليهود وأخبارهم وأخلاقهم التي أخبرنا بها الحكيم الخبير، والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، أنهم لا يفوا بالعهود والمواثيق، كما أن واقعهم المعاصر خير شاهد على بقاء وتأصل هذا الأمر فيهم حتى اليوم. ومن جملة المفاسد المترتبة على الاعتراف بالكيان الصهيوني إسقاط حق المسلمين في المقدسات أو حتى المطالبة بها، بل وإسقاط حق المسلمين في الجهاد والمقاومة، بل وعدم مشروعيتها ومحاكمة المجاهدين وملاحقتهم. الدليل الرابع: القرآن يشهد والواقع يؤكد أن الصهاينة لا يلتزمون بالوعود والمواثيق، قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬1)، وقد جرب التفاوض والاعتراف والتنازل تحت شعار الواقعية مع الكيان الصهيوني، وتورطت بسببه منظمة التحرير فتنازلت عن مبادئها، فما الذي جنته من وراء ذلك؟ حتى الدول العربية التي طبعت مع الكيان واعترفت به، ما الذي جنته طوال تلك السنين؟. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية [100].

الدليل الخامس: أن من نتائج الاعتراف التنازل عن الأرض، وقد اتفق جميع العلماء منذ القرن الماضي إلى الآن بعدم جواز التنازل عن شبر من أرض فلسطين، ومن هذه الفتاوى: 1 - فتوى مؤتمر علماء فلسطين الأول في القدس الشريف بتاريخ 26/ 1 / 1935 م، والتي اعتمدت على فتاوى علماء المسلمين في العراق ومصر والهند والمغرب وسوريا وفلسطين والأقطار الإسلامية الأخرى، والتي أجمعت على تحريم بيع الأرض في فلسطين لليهود، وتحريم السمسرة على هذا البيع والتوسط فيه وتسهيل أمره بأي شكل وصورة، وتحريم الرضا بذلك كله والسكوت عنه، ومن فعل هذا وهو عالم بالحكم وعالم بنتيجته ومستحل له، فإن فعله هذا يستلزم الكفر والارتداد عن دين الإسلام، ولا يُصلى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين ويجب نبذه ومقاطعته واحتقار شأنه وعدم التودد إليه والتقرب منه، ولو كانوا آباء أو أبناء أو إخوانا أو أزواجا. 2 - فتوى علماء العراق، وفتوى علماء نجد في عام 1937 م، فتوى رئيس جمعية العلماء المركزية في الهند فتوى علماء باكستان. 3 - فتوى الأزهر الشريف عام 1956، وفتوى مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، وفتاوى شيوخه، ومما جاء في فتوى لجنة الفتوى بالأزهر 1375 هـ: "أن الصلح مع (إسرائيل) كما يُريده الداعون إليه لا يجوز شرعًا؛ لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه، والاعتراف بحقية يده على ما اغتصبه، وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: موسوعة الأسئلة الفلسطينية، مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية: نابلس، ط 1، 1423 هـ، ص 220 - 269، و http://www.rapeta.org/fatwadetails.asp?ID= 112 .

4 - وكل هذه الفتاوى تؤكد على حرمة الاعتراف بالكيان والصلح الدائم معه. ومن الشبهات التي قد يطرحها من يُطالب بالاعتراف بالكيان الصهيوني إمكانية سحب الاعتراف. ويُجاب عن هذه الشبهة: بأن جميع تصرفات الدولة في القانون الدولي تصدر في الأصل عن إرادة كاملة ورضى عدا التصرفات التي تفرضها الظروف الاستثنائية مثل: القوة أو الهزيمة في الحرب وما يتبعها من تنازلات، ومتى ما صدر الاعتراف فإنه يُصبح حُجة على الدولة، وقد أجمع فقهاء القانون أن الاعتراف مع بقاء كل المقومات اللازمة لوجود الدولة يمنع سحبه باعتباره تصرفًا لا يقبل النقض. ومن الشبهات إمكانية الاعتراف المشروط. ويجاب عن هذه الشبهة: بأن القانون الدولي قد استقر على أن الإخلال بالشروط التي قيد بها الاعتراف أو بأحدها لا يترتب عليه بطلان الاعتراف، وأقصى ما يمكن اتخاذه مقابل هذا الإخلال هو قطع العلاقات الدبلوماسية (¬1). إن النظر في النتائج المترتبة على الاعتراف في القانون الدولي وتنزيلها على الواقع في فلسطين تظهر أن جملة من الآثار والنتائج المحرمة المترتبة على الاعتراف بالكيان الصهيوني ومنها: ¬

_ (¬1) انظر: الاعتراف بالدولة الجديدة بين النظرية والممارسة، د. منى محمود مصطفى، دار النهضة العربية: القاهرة، ط 1، 1989 م، ص 133 - 136. وقد ذهب مجمع القانون الدولي في دورته التي عقدت في بروكسل عام 1936 م إلى أن عدم وفاء الدولة الجديدة بالشرط المصاحب للاعتراف لا يترتب عليه إبطال الاعتراف أو سحبه، بل يترتب عليه خرقها لالتزام دولي، انظر: القانون الدولي العام، أبو الخير، 427.

1 - إسقاط حق المسلمين في المسجد الأقصى المبارك ومدينة القدس وفلسطين. 2 - إسقاط حق عودة اللاجئين. 3 - إسقاط حق الفلسطينيين في الأراضي التي اغتصبت منهم. 4 - الإقرار بالحق التاريخي المزعوم لليهود في فلسطين. 5 - الإقرار بشرعية المجازر التي ارتكبها الكيان فهي ستغدو عملًا مشروعًا للحصول على الاستقلال وإقامة الكيان. 6 - نفاذ القرارات والأحكام القضائية والقوانين الصهيونية التي ألغت الحقوق وصادرتها ولا يزال يكتوي بها المسلمون في فلسطين. 7 - قبول الإقرار بيهودية الدولة وبالتالي عدم أحقية أي مسلم بالوجود فيها إلا على سبيل الزيارة أو الإقامة المؤقتة. 8 - أحقية اليهود في المطالبة بحقوقهم وأماكن أجدادهم في الدول التي تعترف بدولتهم. 9 - التزام الدول المعترفة بالكيان بإقامة علاقات دبلوماسية وتجارية وغيرها. هذه بعض المفاسد والآثار المترتبة على الاعتراف والتي لا تتوقف عند تلك النتائج، إن الكيان الصهيوني يمكن تشبيهه بأنه طفل لقيط يبحث عن شهادة ميلاد تتمثل في الاعتراف به، وسيبقى هذا الكيان بلا شرعية قانونية حتى في نظر اليهود أنفسهم إلى حين حصولهم على الاعتراف من أصحاب الحق. ومما مضى من أدلة يتضح قوة القول الثاني وأدلته وهو عدم جواز الاعتراف بالاحتلال، وضعف القول الأول بل وخطورة الأخذ به والعمل بمقتضاه. * * *

المطلب الرابع بدائل الاعتراف بالكيان الصهيونى

المطلب الرابع بدائل الاعتراف بالكيان الصهيونى إن ترجيح القول بعدم جواز الاعتراف بالكيان الصهيوني يطرح التساؤل حول كيفية التعامل مع هذا الكيان، لاسيما إخواننا الفلسطينيين المستضعفين الذين يعيشون في داخل فلسطين، أو المضطرين للتعامل مع الاحتلال في مختلف التعاملات، وكيف يمكن دفع الحاجة القائمة؟ وكيف يتعامل أهل فلسطين مع هذا الكيان القائم؟ والجواب على هذا التساؤل: يتضح ببيان أنواع الاعتراف في القانون الدولي العام فهو ينقسم إلى نوعين: اعتراف ضمني بـ (الواقع)، واعتراف صريح وقانوني، وما مضى من أقوال وأدلتها ومناقشتها فهو محمول على الاعتراف الصريح والقانوني، أما الاعتراف الفعلي أو الواقعي فهو: "تعبير يستخدم في العمل الدولي لوصف الاعتراف الذي قد يصدر مصحوبا بتحفظ بشأن شرعية الموقف الذي يجري الاعتراف به أو بهدف تحديد آثار الاعتراف سواء من حيث مدته أو مداه" (¬1)، فهو يتم عن طريق الدخول في العلاقات مع الدولة الجديدة دون التعرض بصفة رسمية وعلى نحو صريح لموضوع الوجود القانوني للدولة (¬2). ويتضح من هذا أن الاعتراف الواقعي مؤقت وأساسه الأمر الواقع، فهو اعتراف بالوجود الفعلي للدولة أو الحكومة، ويمكن إلغاؤه، أما الاعتراف القانوني فهو اعتراف كامل نهائي، ولا يمكن إلغاؤه، ويفيد ثبوت الشخصية الدولية الكاملة (¬3). وإن كان من ضوابط العمل بالضرورة الاقتصار على قدر حاجة المستضعف فإن قدر الحاجة هنا تدفع بالاعتراف الواقعي. ¬

_ (¬1) معجم القانون، ص 598. (¬2) القانون الدولي العام، أبو الخير، ص 422. (¬3) انظر: القانون الدولي العام دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، ص 157.

المطلب الخامس الاعتراف الواقعي فى الفقه الإسلامي

المطلب الخامس الاعتراف الواقعي فى الفقه الإسلامي عند التأمل في سيرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نجد أن ما عقده من معاهدات مع اليهود في المدينة، وصلح الحديبية مع قريش لا يمكن اعتباره اعترافًا كاملًا، والظاهر أنه اعتراف واقعي، ولم تتضمن تلك المعاهدات أمورًا دائمة بل أمور مؤقتة ومشروطة ومحددة بخلاف مفهوم الاعتراف القانوني المعاصر. وفي الفقه الإسلامي نجد بعض التطبيقات التي يمكن مقارنتها بالاعتراف الواقعي ومن ذلك: عقد الذمة، قال الزركشي رحمه اللَّه (¬1): "وفرق بين قولنا: لا يُمنعون، وبين قولنا: لهم ذلك، لأن عدم المنع أعم من الإذن، والإذن حكم شرعي بالإباحة ولم يرد، وقد استنكر عبارة "المنهاج" فيما إذا صولحوا على أن الأرض لهم أن لهم إحداث الكنائس فإنها تقتضي أنه حق لهم ولم يقل به أحد. وقد ذكر القاضي أبو الطيب في باب الغصب من تعليقه: أنا لا نطلق في حق أهل الذمة فيما يخالفون فيه الشرع لفظ التقرير لا على الكفر ولا على شيء من عقائدهم الخبيثة وإنما جاء الشرع بترك التعرض لهم وفاء بالعقد وحفظا لعقد الأمان الذي جرى بيننا وبينهم. فإن قيل: هذا هو التقرير؟ قلنا: لا؛ لأن التقرير يوجب فَوَاتَ الدَّعْوَى، وترك التعرض لا يوجب فواتها، وإنما هو مجرد تأخير المعاقبة إلى الآخرة ويجوز أن تكون الحجة لازمة ¬

_ (¬1) محمد بن بهادر بن عبد اللَّه الزركشي، أبو عبد اللَّه، بدر الدين، تركي الأصل، مصري المولد والوفاة، ولد سنة 745 هـ، عالم بفقه الشافعية والأصول، له تصانيف كثيرة في عدة فنون، منها: الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، والبحر في أصول الفقه، توفي رحمه اللَّه سنة 794 هـ، انظر: طبقات الشافعية، 1/ 183، والاعلام، 6/ 60، ومعجم المؤلفين، 9/ 121.

وَالدَّعْوَةُ قَائِمَةً، وَتُؤَخَّرُ المُعَاقَبَةُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِتَقْرِيرِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْفِي لُزُومَ الْحُجَّةِ وَتَوَجُّهَ الدَّعْوَةِ" (¬1). وخلاصة هذا المبحث هو عدم جواز اعتراف المستضعفين بالكيان الصهيوني أو الاحتلال لأي بلد إسلامي، ونؤكد أن وجود المقاومة ضد الغاصب يكفي في القانون الدولي للاعتراف بها كسلطة شرعية وتظل سيادتها قائمة من الناحية القانونية كما أن وجودها يمنع استقرار سلطة الغاصب (¬2). كما أن القانون الدولي المعاصر لا يفرض على الدول التزامات قانونية بضرورة الاعتراف بدولة جديدة اكتملت لها عناصر وجودها، بل يترك للدولة السلطة التقديرية المطلقة في هذا المجال، لكي تقرر بحرية كاملة في ضوء مصالحها الذاتية والظروف التي عاصرت نشأة الدولة الجديدة (¬3)، وأشير في نهاية هذا المبحث إلى نظرية (STIMSON) نسبة إلى صاحبها وزير الخارجية الأمريكي والتي تنص على عدم تقبل شرعية أي وضع ينشأ عن فرض بطريق سياسة الأمر الواقع، كما لا يعترف بأي أثر ناجم عن مثل تلك ¬

_ (¬1) المنثور، 3/ 98 - 99. قال القرافي رحمه اللَّه: "الفرق التاسع عشر والمائة بين قاعدة بر أهل الذمة وبين قاعدة التودد لهم. . . ذمة اللَّه تعالى وذمة رسوله صلى اللَّه عليه وسلم وذمة دين الإسلام تُعين علينا أن نبرهم بكل أمر لا يؤدي إلى أحد الأمرين، أحدهما: ما يدل ظاهره على مودات القلوب، وثانيهما: ما يدل ظاهره على تعظيم شعائر الكفر"، الفروق، 3/ 29. (¬2) انظر: الاعتراف بالدولة الجديدة، ص 80. وقد وصفت الأمم المتحدة بقرارها الصادر في 10 نوفمبر 1975 م الحركة الصهيونية في فلسطين بأنها حركة عنصرية، بمعنى أنها لا تتفق ومبادىء الأمم المتحدة وبالتالي فمحاربتها واجبة. (¬3) انظر: القانون الدولي العام، أ. د/ علي صادق أبو هيف، منشأة المعارف: الإسكندرية، ط 1، 1975 م، ص 176، والقانون الدولي العام، أبو الخير، ص 421.

الأوضاع التي تمس سيادة واستقلال الدول، وقد تم تأكيد هذه النظرية بتوصية من جمعية عصبة الأمم 1932 م (¬1). وبالتالي فإن على المستضعفين الاستفادة من مثل هذه الأنظمة والقوانين الدولية التي تحمي حقوقهم والمطالبة بتطبيقها مع التأكيد على أنها لا تكفي لإعادة الحقوق، وإنما تعالج ظرفًا استثنائيًا مرتبطًا بحالة الاستضعاف. * * * ¬

_ (¬1) انظر: عدم الاعتراف بالأوضاع الإقليمية غير المشروعة، د. محمد السعيد الدقاق، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، ط 1، 1984 م، ص 22 - 23.

المبحث الخامس بيع الأراضي للاحتلال حال الاستضعاف

المبحث الخامس بيع الأراضي للاحتلال حال الاستضعاف الأصل في التعامل مع الكافر في البيع أو الشراء هو الحل والإباحة، إلا أنه عندما تتعرض دولة إسلامية للاحتلال، فإن قاعدة سد الذرائع تقتضي تحريم المباح إذا أفضى إلى حرام، فهل يجوز للمسلمين بيع الأراضي أو العقارات أو تأجيرها على الكافر المحارب؟ إن عموم الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول تدل بوضوح على حرمة التعامل مع الاحتلال في أي أمر من شأنه أن يزيدهم قوة وتسلطًا على المسلمين، ويُطيل من أمد بقائهم في ديار الإسلام، ومن جملة هذه الأدلة ما يلي: 1 - قال تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1)، وفي بيع الأرض أو تأجير العقار للكافر المحارب فردًا أو جماعة إعانة لهم على العدوان ومحاربة المسلمين. 2 - قال تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬2)، قال ابن القيم رحمه اللَّه: "ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرًا" (¬3)، فإن من يملك الأرض ملك كل شيء. 3 - قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬4)، إن بيع الأرض أو العقارات وتأجيرها للمحاربين فيه خيانة عظيمة للمسلمين. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية [2]. (¬2) سورة النساء، من الآية [141]. (¬3) أحكام أهل الذمة، 1/ 593. (¬4) سورة الأنفال، الآيتان [27 - 28].

4 - حرم الفقهاء بيع السلاح للكفار المحاربين وكل ما يُستعان به في القتال ضد المسلمين (¬1)، ونقل النووي رحمه اللَّه الإجماع على ذلك، فقال: "وأما بيع السلاح لأهل الحرب فحرام بالإجماع" (¬2)، كما ذهب الفقهاء إلى تحريم بيع الطعام، أو بيع الدار أو تأجيرها لمن يتخذنها كنيسة أو معبدًا أو من يجعل فيها الخمر (¬3)، وبيع الأرض للكافر المحارب عون له على القتال ضد المسلمين، بل هو أعظم من بيع السلاح له، فهو إنما يشتري السلاح ليحتل الأرض، وببيعها له فإن يحصل على مراده دون الحاجة إلى السلاح. 5 - قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: (المُسْلِمُ أَخو المُسْلِمِ لا يظلمه ولا يُسْلِمُهُ) (¬4)، وفي بيع السلاح للكافر المحارب خذلان للمسلم وإسلام وظلم له. 6 - عن علي -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (لعن اللَّه من لعن والده، ولعن اللَّه من ذبح لغير اللَّه، ولعن اللَّه من آوى مُحدِثًا، ولعن اللَّه من غيَّرَ منار الأرض (¬5)) (¬6). ¬

_ (¬1) فتح الباري، 4/ 410، ومرقاة المفاتيح، 6/ 93، والبحر الرائق، 5/ 86، والوسيط، محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: أحمد محمود، دار السلام: القاهرة، ط 1، 1417 هـ، 3/ 69. (¬2) المجموع، 9/ 335. (¬3) انظر: مواهب الجليل، 4/ 254، والفروع، 2/ 336. (¬4) أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، رقم: 2310، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم: 2580. (¬5) منار الأرض: "بفتح الميم: علامات حدودها، جمع منارة، وهي العلامة التي تجعل بين حدين للجارين، وتغييرها أن يدخلها في أرضه فيكون في معنى الغاصب"، فيض القدير، 5/ 275. (¬6) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب حرم المدينة، رقم: 1771، ومسلم، باب تحريم الذبح لغير اللَّه تعالى ولعن فاعله، رقم: 1978.

والمراد بالمحدث هو من يأتي بفساد في الأرض بفعل جناية أو معصية توجب الْحَدَّ أو بدعة في الدين أو ظلم (¬1)، "ومن أَعظَمِ الحَدَثِ تَعطِيلُ كتابِ اللَّه وسُنَّةِ رسُولهِ، وإِحدَاثُ ما خَالفَهُمَا، وَنَصرُ من أَحدَثَ ذلك والذَّبُّ عنه" (¬2)، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "ومن آوَى مُحَارِبًا، أَو سَارِقًا، أَو قَاتِلًا ونَحْوَهُم، ممَّن وجب عَلَيْهِ حَدٌّ أَو حَقٌّ للَّه تَعَالَى أَو لآدَمِيَّ، ومَنَعَهُ مِمَّن يَسْتَوْفِي منْهُ الوَاجِبَ بِلا عُدْوَانٍ، فَهُوَ شَرِيكُهُ في الجُرْمِ. ولقد لَعَنَهُ اللَّه ورَسُولُهُ" (¬3)، فمن آوى المحاربين فقد شاركهم في الإثم فاستحق اللعنة، وكذلك من غير منار الأرض وتلاعب بعلاماتها، ولا شك أن من باع الأرض للكافر المحارب أو أجرها له يكون أشد إثمًا، وأعظم ضررًا على المسلمين، فمن غير منار أرض سرق أمتارًا أو أقل له ولذريته وهو مسلم، أما من باعها للمحتل فقد سرق أرض الأمة، وأجيال المسلمين وتنازل عن تضحيات من حفظها وفتحها، وباع حق القادم من أبنائها، ولا عذر له بالاضطرار، لأن الاضطرار لا يسقط حق الغير كما هو مقرر لدى الفقهاء (¬4). ¬

_ (¬1) والمحدث: "بضم أوله وسكون الحاء المهملة وبعد الدال مثلثة، أي" أحدث المعصية"، فتح الباري، 13/ 281، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 13/ 141، وتبيين الحقائق، 4/ 135، وفتح الباري، 13/ 281، والمفهم لما أشكَل من تَلخِيصِ كتاب مُسلم، أحمد بن عمر القرطبي، تحقيق: محيي الدين ديب، ويوسف بديوي، وأحمد السيد، ومحمود بزال، دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب: دمشق - بيروت، ط 1، 1417 هـ، 3/ 487. (¬2) إعلام الموقعين، 4/ 405. (¬3) السياسة الشرعية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد: المملكة العربية السعودية، ط 1، 1419 هـ، ص 119. (¬4) انظر: درر الحكام، 1/ 38، وقواعد الفقه، 1/ 60، وشرح القواعد الفقهية، 1/ 213، وحاشية ابن عابدين، 3/ 391.

7 - أنه عليه الصلاة والسلام هم أن يُصالح غَطفان على شطر ثمار المدينة ليكفوا عن المدينة ويفرق الأحزاب وكتب بذلك صحيفة (¬1). ووجه الدلالة: أن أقصى ما أراد أن يفعله الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في حال الضرورة (¬2) هو أن يعطي الكفار جزءًا من الثمار، ومع هذا رفض الصحابة -رضي اللَّه عنهم- هذا الأمر، فدل هذا على عدم جواز بيعهم الأرض حال الضرورة. 8 - ما رواه عمران بن حصين (¬3) موقوفًا: (نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع السلاح في الفتنة) (¬4)، وهذا النهي مرتبط بالزمان، وإن كان الأصل جواز بيع السلاح للمسلمين، فإن منع بيع الأرض للمحتل أو لمن يبيعها له أشد ضررًا وخطرًا من بيع السلاح حال الفتنة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 61. (¬2) انظر: شرح السير الكبير، 5/ 1695. (¬3) عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن كعب بن عمرو الخزاعي، يكنى أبا نجيد بابنه نجيد، وكان إسلامه هو وأبو هريرة عام خيبر وغزا عدة غزوات، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح، وقال الطبراني أسلم قديما هو وأبوه وأخته، وكان ينزل ببلاد قومه ثم بعثه عمر -رضي اللَّه عنه- إلى البصرة ليفقه أهلها، اعتزل الفتنة فلم يقاتل فيها، مات بالبصرة سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية -رضي اللَّه عنهما-، انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 705، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 3/ 1208. (¬4) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 5/ 327، رقم: 10561، ومسند البزار، 9/ 63، رقم: 3589، قال في شرح فتح القدير، 5/ 461: "وأخرجه ابن عدي في الكامل عن محمد بن مصعب القرقساني، وقد اختلف فيه، ضعفه ابن معين، وقال ابن عدي: وهو عندي لا بأس به، ونقل عن أحمد نحو ذلك"، وفى نصب الراية، 3/ 391: "والصواب موقوف"، وفي مجمع الزوائد، 4/ 87: "فيه بحر بن كنيز السقاء، وهو متروك"، وفي تلخيص الحبير، 3/ 18: "رواه بن عدي والبزار والبيهقي مرفوعًا وهو ضعيف، والصواب وقفه وكذلك ذكره البخاري تعليقًا".

9 - ومن المعقول أن بيع الأراضي للاحتلال قد يؤدي إلى تحول الدار من دار إسلام إلى دار حرب مع مرور السنين، وقد منع الفقهاء المسلم في حال قدرته على الامتناع في دار الحرب أن يهاجر منها لئلا يصير موضعه دار حرب، قال النووي رحمه اللَّه: "إن قدر -أي: المسلم- على الامتناع في دار الحرب والاعتزال، وجب عليه المقام بها؛ لأن موضعه دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب، فيحرم ذلك" (¬1)، وبالتالي فإن بيع الأرض للكافر المحارب أشد حرمة وضررًا؛ "لأن حفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود، ودفع الضرر أولى من جلب النفع" (¬2). 10 - إن من أركان الدولة الأساسية في النظم الوضعية المعاصرة هي: السكان (الشعب)، الأرض، السلطة الحاكمة (¬3)، فإن تم بيع الأرض للمحتل تبعه مع مرور الوقت خروج السكان، لاسيما مع فرض الاحتلال للقوانين التي ترتبط بتملك الأرض والعقار، واستغلاله للقوانين والأنظمة حتى إذا تمكن من الأرض وضيق على السكان وأخرجهم، تذرع بالاستفتاء أو الانتخابات ونحوها من الأنظمة لاكتساب القانونية وإضفاء الشرعية على وجوده. 11 - ذهب الحنابلة إلى عدم جواز الشفعة للذمي على المسلم خلافًا للجمهور (¬4)، واستدلوا لهذا المنع بأن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض فلا حق للذمي ¬

_ (¬1) روضة الطالبين، 10/ 282. (¬2) انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 81. (¬3) انظر: مبادىء القانون الدولي العام، محمد حافظ غانم، مطبعة النهضة الجديدة: القاهرة، ط 1، 1967 م، ص 146، ومعالم الدولة الإسلامية، محمد سلام مدكور، مكتبة الفلاح: الكويت، ط 1، 1983 م، ص 57، والدولة الإسلامية المعاصرة الفكرة والتطبيق، جمال الدين محمد محمود، دار الكتاب المصري: القاهرة، ودار الكتاب اللبناني: بيروت، ط 1، 1413 هـ، ص 19. (¬4) انظر: المبسوط للسرخسي، 14/ 93، والأم، 4/ 213، ومواهب الجليل، 5/ 311.

فيها، وبالأمر الوارد باضطرارهم إلى أضيق الطريق (¬1)، ولم يجعل لهم حقًا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين، فكيف يجعل لهم حقًا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرًا، بل هذا تنبيه على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحق الكافر لنفي ضرر الشركة عنه، وضرر الشركة على الكافر أهون عند اللَّه من تسليطه على إزالة ملك المسلم عنه قهرًا، ولأن حق الشفعة للذمي يتضمن مع إضراره بالمسلم إضرارًا بالدين، وتملك دار المسلمين منهم قهرًا وشغلها بما يُسخط اللَّه بدل ما يرضيه وهذا خلاف قواعد الشرع، كما أن الذمي تبع لنا في الدار وليس بأصل من أهل الدار، وتملكه فيها من باب الضرورة (¬2). فإن كان هذا الأمر في شأن الذمي الذي هو من رعايا الدولة الإسلامية وتبع لها ويدفع الجزية مع الصغار، واختلاف الفقهاء في مسألة حق الشفعة للذمي فيه إشارة لعدالة الإسلام معهم، وذلك الخلاف في حال الأمن من شرهم وخضوعهم لأحكام المسلمين، فكيف الحال ببيع الأرض أو الدار للكافر المحارب؟. ¬

_ (¬1) لما رواه أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه)، أخرجه الترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في التسليم على أهل الذمة، رقم: 2700، وقال: "حديث حسن صحيح"، وابن حبان في صحيحه، 2/ 253، رقم: 500، قال ابن حجر رحمه اللَّه في فتح الباري، 11/ 40: "معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراما لهم واحتراما، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم؛ لأن ذلك أذى لهم وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب". (¬2) انظر: اقتضاء الصراط، 1/ 242 - 243، وأحكام أهل الذمة، 1/ 591 - 593، والمغني، 5/ 224.

وخلاصة هذه المسألة: عدم جواز بيع الأرض أو تأجيرها على الكافر المحارب، وقد أصدر مؤتمر علماء فلسطين الأول في 25 يناير 1935 م فتوى بالإجماع تحرِّم بيع أي شبر من أراضي فلسطين لليهود، ويعدُّ البائع والسمسار والوسيط المستحل للبيع مارقين من الدين، خارجين من زمرة المسلمين، وحرمانهم من الدفن في مقابر المسلمين، ومقاطعتهم في كل شيء والتشهير بهم (¬1)، وإن كان لفلسطين خصوصية وأهمية، إلا أن الأدلة التي وردت كفيلة للدلالة على أن هذا الحكم يشمل كل بلاد الإسلام. * * * ¬

_ (¬1) انظر: موسوعة الأسئلة الفلسطينية، ص 220 - 269.

المبحث السادس تسليم المطلوبين المسلمين ونحوهم (الذميين) فى حال الاستضعاف

المبحث السادس تسليم المطلوبين المسلمين ونحوهم (الذميين) فى حال الاستضعاف هل يجوز للدولة الإسلامية في حال الاستضعاف أن تسلم أحد رعاياها للدولة الكافرة، هذا ما سوف يناقشه هذا المبحث من خلال المطالب التالية: المطلب الأول تعريف تسليم المطلوبين (¬1) تسليم المطلوبين مصطلح حديث نسبيًا، ويعبر عنه أحيانًا بالاسترداد (¬2)، وعرف في النظم الوضعية بعدة تعريفات منها: أنه: "الإجراء الذي تسلم به دولة -استنادًا إلى معاهدة أو تأسيسًا على المعاملة بالمثل عادة- إلى دولة أخرى شخصًا تطلبه الدولة الأخيرة لاتهامه أو لأنه محكوم عليه بعقوبة جنائية" (¬3)، كما عُرف بأنه: "عمل تقوم به سلطات دولة ما بناء على طلب رسمي من دولة أخرى تضع بموجبه شخصًا معينًا في يد سلطات هذه الدولة الأخيرة التي تطالب بتسليمه إليها لمحاكمته عن جريمة جنائية ارتكبها فوق إقليمها أو ينعقد الاختصاص بنظرها لقضائها الجنائي" (¬4). ¬

_ (¬1) وللمزيد حول هذه المسألة انظر: تسليم المطلوبين بين الدول وأحكامه في الفقه الإسلامي، زياد بن عابد المشوخي، الرياض: دار كنوز إشبيليا، ط 1، 2006 م. (¬2) انظر: النظرية العامة لتسليم المجرمين دراسة تحليلية تأصيلية، عبد الفتاح محمد سراج، د. ن، ط 1، د. ت، ص 60. (¬3) الوسيط في قانون السلام، محمد طلعت الغنيمي، منشأة المعارف: الإسكندرية، ط 1، 1982 م، ص 435. (¬4) معجم القانون، ص 611.

المطلب الثانى أقوال الفقهاء في مسألة رد المسلم

أما الفقهاء فلم يعبروا في كُتبهم عن هذا المعنى تحديدًا أي (تسليم المطلوبين) ولم يتعرضوا لمثل هذه المسألة، وإنما تعرضوا لمسألة أخرى مشابهة لهذه المسألة وهي مسألة اشتراط رد المسلم. * * * المطلب الثانى أقوال الفقهاء في مسألة رد المسلم أولًا: اتفق الفقهاء على عدم جواز رد المسلمة لدولة كافرة وألحقوا بها من في حكمها كالصبي (¬1)؛ مستدلين بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬2). ثانيًا: اختلف الفقهاء في مسألة رد الرجل المسلم لدولة كافرة على أربعة أقوال: القول الأول: جواز شرط رد الرجل المسلم وتضمينه المعاهدة مع الكفار، بشرط شدة الحاجة لذلك، وتعين المصلحة فيه، وقالوا: إن للمسلمين أن يأمروه سرًا بقتالهم والفرار منهم، وهو قول الحنابلة (¬3)، واستدلوا بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شرط ذلك في صلح الحديبية، ووفى لهم به (¬4). القول الثاني: جواز شرط رد الرجل المسلم وتضمينه المعاهدة مع الكفار، إن طلبته عشيرته لا غيرها؛ لأنها تذب عنه وتحميه مع قوته في نفسه، فإن كان لا عشيرة له أو له عشيرة لا تحميه؛ فلا يرد لئلا يفتنوه، ويرد المطلوب إلى غير عشيرته إن كان يقدر على قهر ¬

_ (¬1) انظر: فتح القدير، 5/ 460، والأم، 4/ 202، والبيان، 12/ 324، وأسنى المطالب، 4/ 226، ونهاية المحتاج، 8/ 109، والمغني، 9/ 242، والإنصاف، 4/ 213. (¬2) سورة الممتحنة، من الآية [10]. (¬3) انظر: الإنصاف، 4/ 214، والفروع، 6/ 256. (¬4) المغني، 9/ 241.

الطالب والهرب منه، ولم يشترط بعضهم العشيرة بل جعل الضابط: الأمن على دمه فإن كانوا مأمونين على دمه رد إليهم وإلا لم يرد (¬1)، قالوا: وللمطلوب أن يقتل الطالب، وللمسلمين التعريض له بالقتل لا التصريح وهذا قول الشافعية (¬2). القول الثالث: جواز شرط رد الرجل المسلم وتضمينه المعاهدة مع الكفار، ولا يجوز شرط فاسد كإبقاء مسلم عندهم، إلا لخوف أعظم من ذلك (¬3)، وهو قول المالكية (¬4). القول الرابع: عدم جواز شرط رد الرجل المسلم، وهو شرط باطل لا يجب الوفاء به، وهو قول الحنفية، وابن حزم رحمه اللَّه (¬5). واستدلوا بما يلي: الدليل الأول: أن حكم الرد منسوخ بقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي ¬

_ (¬1) انظر: حاشيتا قليوبي وعميرة، 4/ 240، والأحكام السلطانية، 1/ 63، والحاوي الكبير في فقه الشافعي، علي بن محمد بن حبيب الماوردي، تحقيق: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، د. ت، 14/ 360. (¬2) انظر: الأم، 4/ 202، حاشيتا قليوبي وعميرة، 4/ 240، وتحفة المحتاج، 9/ 310، ونهاية المحتاج، 8/ 110، والبيان في مذهب الإمام الشافعي، 12/ 324. (¬3) انظر: بُلغة السالك، 2/ 317، والتاج والإكليل، 4/ 603، ومواهب الجليل، 3/ 387. (¬4) انظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل، عبد الباقي يوسف أحمد الزرقاني، ضبطه وصححه: عبد السلام أمين، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1422 هـ، 3/ 263، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك، أبو بكر بن حسن الكشناوي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1416 هـ، 1/ 333، وشرح مختصر خليل، 3/ 151. وخالف منهم ابن العربي وابن شاس والقرافي، وقالوا: إن فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- في يوم الحديبية خاص به لما علم في ذلك من الحكمة من حسن العاقبة فلا يجوز لأحد من بعده، انظر: مواهب الجليل، 3/ 386، وأَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 4/ 197، والذخيرة، 3/ 277. (¬5) انظر: فتح القدير، 5/ 460، والمحلى، 5/ 362.

الْكَافِرِينَ} (¬1)، وقوله عز وجل: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2)، "فَأَبْطَلَ اللَّه تعالى كُلَّ عَهْدٍ ولم يُقِرَّهُ، ولم يجعل للمشركين إلا القتل، أو الإسلام، ولأهلِ الكتابِ خاصةً إعطاءُ الجزيةِ وهم صاغرون" (¬3). الدليل الثاني: قوله عليه السلام: (أَنَا بَرِيءٌ من كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بين أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ)، قالوا: يا رسول اللَّه لِمَ؟ قال: (لا تَرَاءى نَارَاهُمَا) (¬4). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآيتان [1 - 2]. (¬2) سورة التوبة، الآية [5]. (¬3) المحلى، 5/ 362، وممن استدل بنسخ الحكم بسورة التوبة، قتادة، انظر: الفصول في الأصول، أحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق: عجيل جاسم النشمي، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية: الكويت، ط 1، 1405 هـ، 2/ 325 - 326 (¬4) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود، رقم: 2645، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 135: صحيح دون جملة العقل، والترمذي، كتاب السير، باب كراهية المقام بين أظهر المشركين، رقم: 1604، وصححا إرساله إلى قيس بن أبي حاتم، والنسائي، كتاب القسامة، باب القود بغير حديدة، رقم: 4779. ومما قيل في معنى: "لا تُرَاءَى نَارَاهُمَا" من التَّرَائِي تَفَاعُلٌ من الرُّؤيَةِ، يُقَالُ تَرَاءَى القَومُ إِذَا رَأى بَعضُهُم بَعضًا، وَإِسنَادُ التَّرَائِي إِلى النَّار مَجازٌ مِن قَولِهم دَارِي تَنظُرُ من دَارِ فُلانٍ أَي تَقَابلُهَا. وفي معناه ثلاثة وجوه: الأول: أي لا يستوي حكمهما، والثاني: أن اللَّه فرق بين دار الإسلام والكفر فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا نارا كان منهم بحيث يراها، والثالث: لا يتسم المسلم بسمة المشرك ولا يتشبه به في هديه وشكله. انظر: النهاية في غريب الأثر، 5/ 124، وتحفة الأحوذي، 5/ 124، وفيه: "ورجال إسناده ثقات، وصحح البخاري وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حاتم".

ووجه الدلالة: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن الإقامة عند الكفار، فكيف نرد المسلم إليهم، وفي رده إقامة جبرية له، فكيف ننهاه ثم نرده! فهذا تناقض. الدليل الثالث: أن ما وقع في صلح الحديبية كان وحيًا يدل على هذا قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمر: (إني رسول اللَّه ولست أعصيه)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لما رأى أمر الناقة: (حبسها حابس الفيل) (¬1) (¬2)، بل سماه اللَّه عز وجل فتحًا مبينًا. الدليل الرابع: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (ما بالُ رجالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا ليست في كتاب اللَّه، ما كان من شرطٍ ليس في كتاب اللَّهِ فهو باطلٌ وإِن كان مِائَةَ شرطٍ قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ) (¬3)، "فإن أعطاهم الإمام على هذا عهدا فإنه لا ينبغي له أن يفي بهذا الشرط؛ لأنه مخالف لحكم الشرع" (¬4). الدليل الخامس: من المعقول أن الواجب على الإمام فك الأسير المسلم، فكيف يكون عونًا على أسره (¬5). الدليل السادس: أن الفقهاء المجيزين لرد المسلم جعلوه في أضيق نطاق، وقيدوه بقيود منها: شدة الحاجة، وتعين المصلحة، وضعف المسلمين، ووجود العشيرة التي تحميه، بل رأي الجمهور عدم جواز رد العبد المسلم (¬6)، فعاد قولهم بالمنع وأما في حالة الضرورة والحاجة فلها حكمها الخاص عند الجميع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم: 2581. (¬2) انظر: شرح السير الكبير، 4/ 1595، والمحلى، 5/ 362. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، رقم: 444، ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، رقم: 1504. (¬4) شرح السير الكبير، 4/ 1548. (¬5) انظر: الحاوي الكبير، 14/ 360. (¬6) انظر: حاشيتا قليوبي وعميرة، 4/ 240، والإنصاف، 4/ 214.

المطلب الثالث بيان الفرق بين التسليم والرد

والراجح واللَّه أعلم قول الحنفية لما فيه من مراعاة عموم الأدلة التي أوجبت علو الإسلام وأهله وعزتهم، وأما فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الحديبية فقد اقترنت به أمور إن اقترنت بمثله فيمكننا عندئذ القول: بجواز شرط رد المسلم. * * * المطلب الثالث بيان الفرق بين التسليم والرد تطرق المطلب السابق لأقوال الفقهاء في مسألة الرد، وأما قياس البعض مسألة تسليم المطلوبين بصورتها المعاصرة على تلك المسألة فهو قياس غير صحيح، وذلك للفرق بين الرد والتسليم، ومن ذلك ما يلي: 1 - الفرق بينهما من حيث الدلالة اللغوية، فالرَّدُّ مصدر رددت الشيء، وهو يدل على صرف الشيء ورَجْعُه، رَدَّهُ عن وجهه يَرُدُّه رَدًّا ومَرَدًّا وتَرْدادًا: صرفه، ويدل على عدم قبول الشيء، يقال ردَّ عليه الشيء إِذا لم يقبله، وكذلك إِذا خَطَّأَه. وتقول: رَدَّه إِلى منزله، ورَدَّ إِليه جوابًا أَي: رجع (¬1)، وأما التسليم فهو مصدر سَلَّم، وهو يدل على ترك الشيء ودفعه، والخِذْلانِ فيقال: أَسلَمَ الرجلَ وأَسْلَمَه أَي: خذله، وكذلك قبض الشيء وأخذه (¬2). 2 - الرد صورته التخلية بين الطالب والمطلوب مع التعريض للمطلوب بسبل الخلاص، وأما التسليم فصورته أخذ المطلوب للطالب مقيدًا، وقد عبر الفقهاء عن هذا بقولهم: "ومعنى الرد له التخلية بينه وبينهم كما في رد الوديعة، لا إجباره على الرجوع، إذ لا يجوز إجبار المسلم على الإقامة بدار الحرب، فلو شرط في العقد أن يبعث به الإمام إليهم ¬

_ (¬1) انظر: صحاح اللغة، إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عطار، دار العلم للملايين: بيروت، ط 2، 1979 م، ولسان العرب، وتاج العروس، ومعجم مقاييس اللغة، مادة: (رد). (¬2) انظر: صحاح اللغة، ولسان العرب، والقاموس المحيط، مادة: (سَلَمَ).

لم يصح، إلا أن يراد بالبعث الرد بالمعنى السابق فظاهر أنه يصح" (¬1). قال الماوردي رحمه اللَّه: "فصفة الرد أن يكون إذنًا منه بالعود، وتمكينًا لهم من الرد، ولا يتولاه الإمام جبرًا إن تمانع المردود، وكذلك أذن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي جندل وأبي بصير في العود، فإن أقام المطلوب على تمانعه من العود، قيل للطالب: إنت ممكن من استرجاعه، فإذا قدرت عليه لم تمنع منه، وإن عجزت عنه لم تُعَنْ عليه" (¬2). 3 - في الرد مخارج ليست في التسليم، أشار إليها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله كما في الصحيح: (وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لو كان معه رجال) (¬3)، فلما بلغت هذه الكلمة المسلمين الذين احتبسوا وردوا إلى مكة خرجوا لأبي بصير فاجتمع إليه منهم قرابة السبعين (¬4)، فأين هذا من التسليم الذي لا يكون معه أي سبيل للخلاص فهو كالأسر وزيادة. ومن المخارج أنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لم يُعْطِهِم أَن يَرُدَّ عليهم من خرج منهم مسلمًا إلى غير المدينة في بلاد الإسلام والشرك، وإن كان قادرًا عليه. . . ولم يذكُر أَحد أنه أعطاهم في مسلم غير أهل مكة شيئًا من هذا الشرط" (¬5). ومن المخارج أيضًا: "أن للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب رده -إذا شرط لهم ذلك-؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم ينكر على أبي بصير قتله العامري ولا أمر فيه بقود ولا دية" (¬6). ¬

_ (¬1) أسنى المطالب، 4/ 228. (¬2) الحاوي الكبير، 14/ 365. (¬3) "ويل أمه: كلمة تعجب، يصفه بالإقدام، والمسعر: الموقد، فالمعنى: أنه موقد حرب، يُقال: سعرت النار، وأسعرتها، فهي مسعرة ومسعورة، والمسعر الخشب الذي تسعر به النار، أي: تُوقد"، كشف المشكل، 4/ 62. (¬4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام، 3/ 449، والمغازي للواقدي، ص 627. (¬5) الأم، 4/ 203. (¬6) عمدة القاري، 14/ 19.

4 - الذي يُراعى عند الرد حال المطلوب، وأما الذي يُراعى عند التسليم حالة الطالب، وفي هذا يقول الماوردي رحمه اللَّه: "وروعي حكم الوقت فيما يقتضيه حال المطلوب، فإن ظهرت المصلحة في حثه على العود لتألف قومه أشار به الإمام عليه بعد وعده بنصر اللَّه، وجزيل ثوابه؛ ليزداد ثباتًا على دينه وقوة في استنصاره، وإن ظهرت المصلحة في تثبيطه عن العود، أشار به -أي الإمام- سرًا وأمسك عن خطابه جهرًا، فإن ظهر من الطالب عُنْفٌ بالمطلوب واعده الإمامُ، فإن كان لفرط إشفاقٍ (¬1) تركه، وإن كان لشدة منعه" (¬2). 5 - أن سبب طلب الرد هو الإسلام بخلاف سبب التسليم الذي يكون غالبًا لارتكاب جريمة ما، وقد يقول قائل: هذا دليل على أن التسليم من أجل ارتكاب جريمة أولى، إذ كيف يرد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الرجل لإسلامه ولا نرد الرجل لارتكابه جريمة قد تكون ممنوعة ومحرمة عليه شرعًا؟. ولإيضاح الأمر أقول: إن من كان سبب رده الإسلام يكون له مخارج "فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد كان أذن لهم بالتلفظ بالكفر، وهو الذي كانت الكفار تطلبه فيتلفظون به حتى يأتي اللَّه بالفتح أو أمر من عنده" (¬3)، وهذا من المخارج، قال الشافعي رحمه اللَّه: "فإذا صالح الإمام على مثل ما صالح عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل الحديبية صالح على أن لا يمنع الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ لِلرَّجَالِ من أهل دار الحرب إذا جاء أحد من رجال أهل دار الحرب إلى منزل الإمام نفسه وجاء من يطلبه من أوليائه خلى بينه وبينهم بأن لا يمنعه من الذهاب به، وأشار على من أسلم أن لا يأتي منزله وأن يذهب في الأرض، فإن أرض اللَّه عز وجل واسعة فيها مراغم كثيرة. . . إذا صالح ¬

_ (¬1) في الكتاب: (إسفاقٍ) ولعل الصواب المثبت. (¬2) الحاوي الكبير، 14/ 365. (¬3) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، محمد بن عبد اللَّه ابن العربي، تحقيق: محمد عبد اللَّه ولد كريم، دار الغرب الإسلامي: بيروت، ط 1، 1992 م، 2/ 589.

المطلب الرابع تسليم المطلوبين للدولة الكافرة حال الاستضعاف

الإمام على أن يبعث إليهم بمن كان يقدر على بعثه منهم ممن لم يأته لم يجز الصلح؛ لأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يبعث إليهم منهم بأحد، ولم يأمر أبا بصير، ولا أصحابه بإتيانهم، وهو يقدر على ذلك، وإنما معنى رددناه إليكم لم نمنعه كما نمنع غيره" (¬1). وبعد ذكر هذه الفروق والتي أجدها كافية لبيان الفرق بين الرد والتسليم فقد وجدت للفقهاء نصوصًا صريحة بأن الرد الذي هو التخلية دون التسليم، فقد جاء في حاشيتا قليوبي وعميرة: " (ولو شرطَ) -أي: الإمام- عليهم -أي: على الكفار- في الهدنة (أن يَرُدُّوا مَن جاءَهُم مُرْتَدًّا منَّا لَزِمَهُمْ الوفاءُ) بذلك (فإن أبوا فقد نقضوا) العهدَ (والأظهر جوازُ شرطِ أن لا يَرُدُّوا) المرتدَّ، والثاني: المنعُ بل لا بُدَّ من اسْتِرْدَادِهِ لإِقامةِ حُكمِ المرتدينَ عليهِ فَعَلَيْهِم التَّمْكِينُ منهُ والتَّخْلِيَةُ دُونَ التَّسْلِيمِ" (¬2). وخلاصة هذا المطلب أن الرد الذي وقع عليه صلح الحديبية واختلف الفقهاء فيه، هو ليس التسليم بصورته المعاصرة، ولا سبيل لحمل أقوال الفقهاء في مسألة الرد على مسألة التسليم، للفروق المذكورة بينهما، علاوة على ظهور الفرق بين الرد والتسليم في اللغة. * * * المطلب الرابع تسليم المطلوبين للدولة الكافرة حال الاستضعاف تسليم المطلوبين المسلمين، وكذلك أهل الذمة لدولة محاربة، حكمه أنه محرم، ويدل على هذا أدلة من القرآن الكريم والسنة الشريفة وعمل الصحابة، أوردها في الفروع التالية: ¬

_ (¬1) الأم، 4/ 202. (¬2) 4/ 240، وانظر: نهاية المحتاج، 8/ 111.

الفرع الأول: الأدلة من القرآن الكريم

الفرع الأول: الأدلة من القرآن الكريم: 1 - قوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬1)، "إن اللَّه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا بالشرع، فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة، ويتفرع على ذلك مسائل من أحكام الفقه، منها: أن الكافر لا يرث المسلم، ومنها: أن الكافر إذا استولى على مال المسلم لم يملكه بدليل هذه الآية، ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدًا مسلمًا، ومنها: أن المسلم لا يُقتل بالذمي بدليل هذه الآية" (¬2)، قلت ومنها: عدم جواز تسليم المسلم للكفار أو شرط بقائه لديهم. 2 - قوله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬3)، فالآية تنهى عن التعاون على الإثم والعدوان وعلى أن نتجاوز ما حده اللَّه لنا وفرضه علينا في أنفسنا وفي غيرنا (¬4)، وفي تسليم المطلوب المسلم لدولة محاربة تعاون على الإثم ومشاركة في العدوان والظلم، وأي ظلم أعظم من خذلان المسلم وتسليمه لمن يؤذيه ويعذبه ويفتنه ويحكم عليه بغير حكم اللَّه عز وجل ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. 3 - قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬5)، فالإسلام سبب في العزة والكرامة، ومعاقبة الكافر للمسلم ذُل وهوان علاوة على أنها بغير حكم اللَّه ورسوله (¬6). 4 - قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ¬

_ (¬1) سورة النساء، من الآية [141]. (¬2) لباب التأويل في معاني التنزيل، 2/ 181. (¬3) سورة المائدة، من الآية [2]. (¬4) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 6/ 66. (¬5) سورة المنافقون، من الآية [8]. (¬6) انظر: كشف الأسرار، 4/ 141.

الفرع الثانى: الأدلة من السنة النبوية

الظَّالِمِينَ} (¬1)، وورد في سبب نزولها عن سَعْدِ قال: كُنَّا مع النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سِتَّةَ نَفَرٍ، فقال المُشْرِكُونَ للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قال: وَكُنْتُ أنا وابنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ من هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا، فَوَقَعَ في نَفْسِ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما شاء اللَّه أن يَقَعَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّه عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (¬2)، والطرد أقل ضررًا من التسليم. الفرع الثانى: الأدلة من السنة النبوية: 1 - طلبت قريش من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رد من أسلم فرفض طلبهم، بل وغضب -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنكر على من طلب منه أن يستجيب لطلب المشركين، مما يدل على حرمة رد المسلمين إلى الكفار المحاربين، فعن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- قال: (خرج عَبدَان إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مَوَالِيهُمْ فقالوا: يا محمد واللَّه ما خرجوا إليك رَغْبَةً في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول اللَّه ردهم إليهم، فغضب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال: (ما أراكم تَنْتَهُونَ يا معشر قريش حتى يَبْعَثَ اللَّه عليكم منَ ضْرِبُ رقابكم على هذا وأبى أن يَرُدَّهُمْ وقال هم عُتَقَاءُ اللَّهِ عز وجل) (¬3)، وفي رواية: (لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سُهَيْلُ بن عمرو وأُنَاس من رؤساء المشركين، فقالوا: يا رسول اللَّه خرج إليك ناس من أَبْنَائِنَا وإِخْوَانِنَا وأَرِقَّائِنَا وليس ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية [52]. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه-، رقم: 2413. (¬3) الحديث أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في عبيد المشركين يلحقون بالمسلمين فيسلمون، رقم: 2700، قال الألباني في صحيح سنن أبي دواد، 2/ 155: "صحيح"، والترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، رقم: 3715، وقال: "حديث حسن صحيح غريب".

لهم فِقْهٌ في الدِّينِ وإنما خرجوا فرارًا من أموالنا وضياعنا فَارْدُدْهُمْ إلينا، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: (فإن لم يكن لهم فِقْهٌ في الدِّينِ سَنُفَقِّهُهُمْ. . .) الحديث) (¬1). "وإنما غضب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنهم عارضوا حكم الشرع فيهم بالظن والتَّخْمِين وشهدوا لأوليائهم المشركين بما ادَّعَوْهُ أنهم خرجوا هربا من الرق لا رغبة في الإسلام، وكان حكم الشرع فيهم أنهم صاروا بخروجهم من ديار الحرب مُسْتَعْصِمِينَ بعروة الإسلام أحرارًا، لا يجوز رَدّهمْ إليهم فكان معاونتهم لأوليائهم تعاونا على العدوَان" (¬2)، ودل هذا الحديث أن الشخص بمجرد دخوله في الإسلام ولجوئه للمسلمين ودولتهم يصبح من مواطني الدولة الإسلامية الذين لهم حق الرعاية والحماية، ودلت الرواية الثانية أن حكم عدم الرد لم يقتصر على الرقيق. فإن قيل: هذا الدليل في الرد، وقد مضى التفريق بينه وبين التسليم فكيف تستدل به على منع التسليم؟ ويجاب: بأنه إذا ثبت حرمة الرد ومنعه فمن باب أولى أن يحرم التسليم. 2 - ما رواه عبد اللَّه بن عمر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلِمُهُ ومن كان في حاجة أخيه كان اللَّه في حاجته ومن فَرَّجَ عن مسلم كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّه عنه كُرْبَةً من كُرُبَاتِ يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره اللَّه يوم القيامة) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب علي رضي اللَّه عنه، رقم: 3715، وقال: "حسن صحيح غريب"، وقال الألباني في ضعيف سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف: الرياض، ط 1، 1420 هـ، ص 424: "ضعيف الإسناد، لكن الجملة الأخيرة منه صحيحة متواترة". يعني قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (من كذب علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار). (¬2) عون المعبود، 7/ 263. (¬3) سبق تخريجه، ص 301.

"ولا يُسْلِمُهُ أي: لا يتركه مع من يُؤْذِيه ولا فِيمَا يُؤْذِيه، بل يَنْصُرُهُ وَيَدْفَعُ عنه، وهذا أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجبًا وقد يكون مندوبًا بحسب اختلاف الأحوال" (¬1)، وتسليم المسلم للكفار ظلم وإسلام له. 3 - عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد اللَّه إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يَخْذُلُهُ ولا يحقره التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) (¬2). و"الْخَذْل: ترك الإعانة والنصر، ومعناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي" (¬3)، وأي ظلم وخذلان أعظم من تسليم المسلم للعدو والتخلية بينه وبين طالبيه من الكفار. 4 - قوله عليه الصلاة والسلام: (الإسلام يعلو ولا يعلى) (¬4)، وفي تسليم المسلم إلى الدولة الكافرة إذلال له لا محالة وعلو لأهل الكفر على المسلم. 5 - ومن الأدلة أنه "إذا كان دم الحربي الكافر يَحُرُم بالأمان فما ظنك بالمؤمن الذي يصبح ويمسي في ذمة اللَّه! كيف ترى في الغدر به والقتل؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام: ¬

_ (¬1) فتح الباري، 5/ 97. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله، رقم: 2564. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 16/ 120. (¬4) أخرجه الدارقطني، باب المهر، رقم: 30، ورواه البخاري معلقًا، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام، قال ابن حجر رحمه اللَّه في الفتح: 9/ 421: "سنده صحيح"، وبمثله فى تغليق التعليق، 2/ 490.

الفرع الثالث: الأدلة من عمل الصحابة -رضي الله عنهم-

(الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ) (¬1)، ومعنى الحديث أن الإيمان يمنع من الفتك الذي هو فجأة القتل بعد الأمان غدرًا كما يمنع القيد من التصرف (¬2)، وسبب النهي عن الفتك؛ لأنه متضمن للمكر والخديعة (¬3)، وفي تسليم المسلم للكفار فتك به. الفرع الثالث: الأدلة من عمل الصحابة -رضي اللَّه عنهم-: 1 - عندما فر جماعة من عسكر الفرس والتجؤوا إلى عسكر المسلمين قبيل معركة القادسية، بعث رستم رسولًا إلى سعد بن أبي وقاص يطلب منه أن يرد عليه الذين هربوا، فقال سعد -رضي اللَّه عنه-: (إنا قوم لا نضيع ذمامنا ولا ننقض عهدنا، وقد أتوا إلينا مستسلمين وفي صحبتنا راغبين، فيجب علينا أن نذب عنهم ولا نمكن أحدًا منهم، فعاد الرسول إلى رستم وأعاد عليه الجواب فغضب وأمر الجيوش بالزحف) (¬4)، فالفرس كانوا في حالة حرب مع المسلمين ومع هذا طلبوا من المسلمين أن يسلموهم من أسلم منهم فأبوا وامتنعوا بل وكان الرد صريحًا وواضحًا من قبل المسلمين. ولا يستبعد أن يكون عمر وبقية الصحابة -رضي اللَّه عنهم- قد علموا بهذه القصة فتكون في حكم الإجماع أو اتفاق الأمة. ¬

_ (¬1) الاستذكار، 14/ 84، والحديث أخرجه: الحاكم في المستدرك، كتاب الحدود، رقم: 8037، وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وأبو داود، كتاب الجهاد، باب في العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم، رقم: 2769، قال الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/ 178: صحيح، وأحمد في المسند، 1/ 166. (¬2) انظر: معالم السنن شرح سنن أبي داود، حمد بن محمد الخطابي، المطبعة العلمية: حلب، ط 1، 1351 هـ، 2/ 291، وعون المعبود، 7/ 323. (¬3) انظر: فيض القدير، 3/ 186. (¬4) انظر: فتوح الشام، عبد اللَّه بن محمد الواقدي، دار الجيل: بيروت، ط 1، د. ت، 2/ 188: "سميت القادسية لأنها نزلها قوم من أهل قادس من أرض خراسان"، معجم ما استعجم، عبد اللَّه البكري الأندلسي، تحقيق: مصطفى السقا، دار عالم الكتب: بيروت، ط 3، 1403 هـ، 1/ 270.

الفرع الرابع: الأدلة من المعقول

الفرع الرابع: الأدلة من المعقول: 1 - اتفق العلماء على عدم جواز قضاء القاضي غير المسلم على المسلم (¬1)، ومنعوا اشتراط حكمهم على مسلم (¬2)، وفي تسليم المطلوب المسلم إلى الدولة الكافرة تسليط للقضاة غير المسلمين وتمكين لهم للحكم عليه بغير ما أنزل اللَّه. 2 - منع الفقهاء شرط بقاء الأسير المسلم لدى الكفار أو أن يمكنوا من مسلم كان أسيرًا في أيديهم ثم انفلت منهم، ولا يقضي لهم عليه بشيء (¬3)، والتسليم كالأسر وزيادة، ووجه كون التسليم يزيد على الأسر؛ أن الأسر كان من قِبَلِ الكفار، أما التسليم فهو من قبل المسلمين للكفار. 3 - منع الفقهاء للرد مطلقًا والذين أجازوه اشترطوا في الرد أن يكون للعشيرة وقيدوها إن كانت تمنعه أو للضرورة وفي حال ضعف المسلمين، فمنع التسليم من باب أولى. وبعد عرض هذه الأدلة فالراجح واللَّه أعلم عدم جواز تسليم المسلم للدولة الكافرة حال الاستضعاف، فإن قيل: إن مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد، وقد تتعرض الدولة للأضرار وللحصار وغيره من الأضرار فقد يستغل بعض المجرمين هذا النظام في الدول الإسلامية، وتصبح الدول الإسلامية مقر تجمع للمطلوبين من الجناة وغيرهم. ¬

_ (¬1) انظر: فتح القدير، 7/ 253، ومجمع الأنهر، 2/ 151، وبداية المجتهد، 2/ 344، وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، محمد بن فرحون المالكي، تحقيق: جمال مرعشلي، دار عالم الكتب: الرياض، ط 1، 1423 هـ، 1/ 21، ونهاية المحتاج، 8/ 240، والأحكام السلطانية، ص 84، والمغني، 10/ 92. (¬2) انظر: حاشية الدسوقي، 2/ 206، والمحلى، 8/ 342. (¬3) انظر: الأم، 4/ 203.

فالجواب: بأنه لا ضمان في حال الاستضعاف أن الكفار الذين يطالبون بتسليم المسلم سيكفون عنا بمجرد التسليم، ثم إن المخرج من ذلك يكون من خلال بدائل التسليم لا التسليم، كما أن عدم تسليم المجرم لا يعني عدم المحاسبة والعقاب، ولهذا فإن رأي الجمهور في مسألة نفاذ الأحكام الإسلامية هو تنفيذ الأحكام الإسلامية على المسلمين والذميين على ما يرتكبونه من جرائم أينما وقعت، ومثل هذا القول يقطع دَابرَ المجرمين والمفسدين ويُفوت عليهم فرصة استغلال عدم تسليمهم للدول التي ارتكبوا فيها جرائهم بل قد يكون الحكم الشرعي أشد عليهم من الحكم القانوني مما يترتب عليه أن تكون الدول الإسلامية مكانًا غير آمن للمجرمين وخيارًا ليس مفضلًا للهرب إليها. وأما بدائل التسليم فهي تختلف بحسب الغرض من طلب التسليم، والجهة الطالبة للتسليم، وحالة الدولة الإسلامية، ومنها ما يلي: 1 - إن كان الغرض من طلب التسليم إكمال إجراءات التحقيق، فإنه من الممكن دعوة فريق من المحققين للتحقيق مع المطلوب المسلم أو الذمي داخل الدولة الإسلامية وبحضور محققين منها، إذ "لا يوجد نص قانوني (دولي) يجبر دولة على تسليم رعاياها للتحقيق معهم في دولة أخرى، ولا توجد قاعدة قانونية تنص على ضرورة التحقيق في مكان الحادث" (¬1). ومثل هذا البديل لا يجوز إلا عند الضرورة والحاجة إليه، وفرق بين التحقيق مع المسلم أو الذمي وبين الحكم عليه، فالغرض من التحقيق أنه قد تكون للمطلوب المسلم أو الذمي صلة مع مجرمين غير مسلمين في الدولة الطالبة للتسليم. 2 - ومن البدائل التعويض ولو بدفع مال، وقد سبق بحثه. ¬

_ (¬1) المسؤولية الدولية في عالم متغير، نبيل بشر، د. ن، ط 1، 1415 هـ، ص 34.

3 - ومن البدائل إمكانية إعادة الحقوق، فالدول لا تطلب التسليم عادة بقصد التسليم في حد ذاته، بل بهدف استعادة الحقوق (¬1)، وهذه الحقوق قد تكون مما يمكن استعادته أو التعويض عنه كالأموال والمجوهرات المسروقة والأمور العينية، فإن الدولة الإسلامية إن كان بينها وبين الدولة الطالبة عهد فهي تتكفل بإعادة المسروقات كما تتكفل بمعاقبة هذا السارق؛ لوجود العهد بينها وبين الدولة الإسلامية. وأما الدولة المحاربة ففي حال الضرورة يجوز للدولة الإسلامية أن تعرض عليها هذا العرض مقابل عدم تسليم المطلوب المسلم، والحكم هنا أولى بالجواز من مسألة دفع المال؛ لأن الأمر لا يعدو أن يكون إعادة لأموالهم إن كانت للمسلمين مصلحة في ذلك وحاجة إليه، بخلاف تلك المسألة فهي دفع أموالنا لهم وكلاهما جائز في حال الضرورة والحاجة وتحقق المصلحة. وينبغي أن يترتب على إعادة الأموال إلغاء طلب التسليم وإيقاف الحكم الصادر على المطلوب وإسقاط الدعوى المرفوعة ضده. أما في تعامل الدولة الإسلامية مع دولة إسلامية تحكم مثلها بالأحكام الشرعية، فالأولى التسليم؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى ومحاربة الفساد. 4 - ومن البدائل محاكمة الشخص المطلوب في محاكم الدولة الإسلامية، وهو ما يسمى في القانون بمبدأ إما التسليم أو المحاكمة (¬2). 5 - ومن البدائل أن نأمر المطلوب بالخروج في حالة عدم قدرة الدولة الإسلامية على توفير الملجأ للمطلوب، ومن الممكن مساعدته على هذا، وقد أشار لهذه المسألة السرخسي ¬

_ (¬1) انظر: الأنتربول وملاحقة المجرمين، سراج الدين محمد الروبي، الدار المصرية اللبنانية: القاهرة، ط 1، 1998 م، ص 219. (¬2) انظر: النظرية العامة لتسليم المجرمين، ص 24 - 25.

عند كلامه عن المطلوب المستأمن حيث قال رحمه اللَّه: "وإن قال المشركون للمسلمين ادْفَعُوهُ إلَيْنَا، وإلا قاتَلْنَاكُمْ وليس بالمسلمين عليهم قوة، فليس ينبغي للمسلمين أن يفعلوا ذلك؛ لأنه غدرٌ منا بأمانه وذلك لا رخصة فيه،. . . ولكن أن يقولوا له: اخْرُجْ من بلاد المسلمين فاذهبْ حيثُ شِئت من أرضِ اللَّه تعالى" (¬1). ويمكننا أن نقيس المطلوب المسلم على المطلوب المستأمن عند الحاجة لذلك وعدم قدرة الدولة الإسلامية على حمايته ومنعه، فلو كان مقيمًا في دولة إسلامية ضعيفة أو لها مصالح مهمة مع الدولة الكافرة التي طلبت التسليم، فإنها تعرض عليه الخروج إلى دولة إسلامية قوية أو لا تربطها علاقات ومصالح مهمة مع تلك الدولة الكافرة. * * * ¬

_ (¬1) شرح السير الكبير، 4/ 1613.

المبحث السابع التجنس بجنسية دولة غير إسلامية حال الاستضعاف

المبحث السابع التجنس بجنسية دولة غير إسلامية حال الاستضعاف وفيه خمسة مطالب المطلب الأول تعريف الجنسية عرف الجنس في اللغة بأنه: الضرب من كل شيء، والجمع أجناس، وهو أعم من النوع، فالحيوان جنس، والإنسان نوع، ويقال: هذا يجانس هذا، أي: يُشاكله، ومنه المجانسة والتجنيس (¬1)، كما عرفت الجنسية بأنها: "الصفة التي تلحق بالشخص من جهة انتسابه لشعب أو أمة" (¬2). أما في القانون الوضعي فقد عرفت الجنسية بأنها: "رابطة قانونية وسياسية لها طابع الدوام والاستمرار تربط الفرد بدولة ما، وتعني الخضوع والولاء من جانب الفرد والحماية من جانب الدولة. . . فالجنسية رابطة بين الشخص والدولة تجعله تابعًا لها" (¬3). إن الأصل أن يهاجر المسلم من دار الكفر إلى دار الإسلام، إلا أنه عندما يضطر المستضعف للخروج من بلده لظلم السلطة القائمة وبعدها عن الشريعة الإسلامية، حتى تستوي في أحكامها وأنظمتها مع الدول الكافرة، إلا أنه لا يأمن على نفسه وأهله، فيخاف ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، والمصباح المنير، مادة: جنس. (¬2) المعجم الوسيط، 1/ 140. (¬3) معجم القانون، ص 618 - 721، "ولا تقتصر هذه الرابطة على الأفراد بل تمتد إلى الأشخاص الاعتبارية كالشركات، كما تمتد إلى السفن والطائرات التي تكتسب جنسية دولة ما بناء على معايير محدودة، مثل مكان التأسيس أو التسجيل أو جنسية المالك أو المالكين وتؤدي إلى ترتيب التزامات يحددها القانون".

السجن والعذاب وغيره، فهل يجوز له الخروج والتجنس بجنسية دولة غير إسلامية يأمن فيها على نفسه وأهله. لقد جاء الإسلام ليضع أساسًا جديدًا ومتينًا للعلاقة بين المسلمين يختلف عن الروابط التي كانت قائمة بين العرب في الجاهلية، وهو وحدة العقيدة والدين، فصار المسلمون أمة واحدة، لا فرق بينهم بسبب الجنس أو اللون أو اللغة أو العرف أو أي عامل آخر، فالإسلام دين وجنسية، سما عن جميع الاعتبارات الدنيوية ووحد المسلمين بالعقيدة، فكانت الصلة المتينة بين كل مسلم وأخيه في كل مكان وزمان (¬1)، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬2)، وقال عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (¬3). كما أن فقهاء المسلمين لم يسموا هذه الرابطة باسم الجنسية، وهذا لا يعني عدم وجود آثار ونتائج هذه الرابطة بين المسلم والدولة الإسلامية (¬4)، واكتساب هذه الرابطة يكون بالاشتراك في العقيدة الإسلامية فهي رباط ديني واجتماعي معًا (¬5)، فأساس رابطة الجنسية ¬

_ (¬1) انظر: أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، حامد سلطان، دار النهضة العربية: القاهرة، ط 1، 1970 م، ص 111، وص 155 - 158. (¬2) سورة الحجرات: من الآية [10]. (¬3) سورة الأنبياء، الآية [92]. (¬4) انظر: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة: بيروت، ومكتبة القدس: بغداد، ط 1، 1402 هـ، ص 63. (¬5) انظر: نظرية الدولة في الإسلام، عبد الغني بسيوني عبد اللَّه، الدار الجامعية: بيروت، ط 1، 1986 م , ص 27.

المطلب الثانى الإقامة في دار الكفر

في الدولة الإسلامية هو: الإسلام فكل مسلم يتمتع بجنسية دار الإسلام لتوافر هذه الصفة فيه فالإسلام عقيدة وجنسية (¬1). * * * المطلب الثانى الإقامة في دار الكفر لم يتطرق الفقهاء لمسألة التجنس بجنسية دولة غير إسلامية وفقًا لمفهوم الجنسية المعاصر، إلا أنهم تطرقوا لمسألة إقامة المسلم في دار الكفر، ومسألة الهجرة والتي سبق بيانها، ومن هنا يمكننا بعد استعراض أراء الفقهاء في مسألة الإقامة في دار الحرب بيان حكم التجنس بجنسية دولة غير إسلامية. إن المسلم إذا أراد الإقامة في دار الكفر لا يخلو من الحالات التالية: أولًا: حالة العجز عن إظهار الشعائر والعبادات مع القدرة على الهجرة: وفي هذه الحالة اتفق الفقهاء على وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام إن كان المسلم لا يستطيع أن يُقيم الشعائر أو أن يقوم بالواجبات أو خاف الفتنة في دينه، بل نقل ¬

_ (¬1) ويرى البعض أن الإسلام وحده لا يكفي لمنح الجنسية الإسلامية إذ يجب معه الإقامة في دار الإسلام، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا. .} (الأنفال، من الآية 72)، فالآية تبين أساسين للمواطنة هما: الإيمان، وسكنى دار الإسلام أو الانتقال إليها، أما الذمي فأساس الجنسية بالنسبة له خضوعه لأحكام الإسلام، وقيل: إقامته في دار الإسلام، والراجح هو عقد الذمة؛ لأنه سبب الخضوع والإقامة. انظر: تدوين الدستور الإسلامي، أبو الأعلى المودودي، دار الفكر: دمشق، ط 2، د. ت، ص 18، وأحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، ص 63 - 66.

الونشريسي (¬1) وغيره (¬2) الإجماع على هذا، فقال: "الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة، واجب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الحرب، أن لا يقيم بها حيث تجرى عليه أحكام المشركين، وأن يهجرها ويلحق بدار المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم" (¬3)، وقال في موضع آخر: "الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فريضة إلى يوم القيامة وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل بظلم أو فتنة" (¬4). وقد استدل الفقهاء لعدم جواز الإقامة في دار الحرب بما يلي: 1 - عموم الآيات الواردة في وجوب الهجرة ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (¬5)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬6)، قال ابن كثير رحمه اللَّه: "هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع وبنص هذه الآية" (¬7). ¬

_ (¬1) أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني، أبو العباس، ولد سنة 834 هـ، فقيه مالكي من علماء تلمسان إلا أن حكومتها نقمت عليه فصادرت داره وفر إلى فاس سنة 874 هـ حتى مات بها سنة 914 هـ، ومن أبرز مؤلفاته: إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، والمعيار المعرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس وبلاد المغرب. انظر: الأعلام، 1/ 269، ومعجم المؤلفين، 2/ 205. (¬2) انظر: تفسير القرآن العظيم، 1/ 543. (¬3) أسنى المتاجر، 1/ 30. (¬4) 1/ 25. (¬5) سورة الأنفال، من الآية [72]. (¬6) سورة النساء، الآية [97]. (¬7) تفسير القرآن العظيم، 1/ 543.

2 - عموم الأحاديث الواردة في وجوب الهجرة والتحذير من الإقامة عند الكفار، ومنها قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (أَنَا بَرِيءٌ من كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ)، قَالُوا: يا رسُول اللَّهِ لِمَ؟ قال: (لا تَرَاءَى نَارَاهُمَا) (¬1). 3 - عن جرير -رضي اللَّه عنه- قال: "بَايَعْتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فِرَاقِ المُشْرِكِ) (¬2). 4 - ومن المعقول أن الإقامة تؤدي إلى تخلق الولد بأخلاق الكفار في حال الزواج منهم، وكذلك الفتنة والمخاطرة بالنفس والدين بسبب المخالطة، وتكثير سواد وعدد الكفار، لاسيما إن كانت هذه الإقامة بغرض التجارة وكسب المال (¬3). ثانيًا: حالة العجز عن إظهار الشعائر والعبادات مع عدم القدرة على الهجرة: ويعذر الإنسان في هذه الحالة لعجزة عن الهجرة، لقوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (¬4). ثالثًا: حالة القدرة على إظهار الشعائر والعبادات: وللفقهاء في هذا الحالة رأيان: الرأي الأول: استحباب الهجرة وهو رأي جمهور الفقهاء عدا المالكية، واستدلوا لعدم وجوبها، بكون الآيات الواردة في الهجرة إنما دلت على وجوبها في حق المستضعف العاجز ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص 310. (¬2) أخرجه النسائي، كتاب البيعة، باب البيعة على فراق المشرك، رقم: 4175، وأحمد في المسند، رقم: 19185. (¬3) انظر: المبسوط، 5/ 50، البحر الرائق، 7/ 89، وحاشية ابن عابدين، 7/ 115، والفواكه الدواني، 1/ 397، وشرح منتهى الإرادات، 1/ 620. (¬4) سورة النساء، الآية [98].

عن إظهار دينه، ويفهم من هذا أن غيره لا تجب عليه، وعللوا للاستحباب بما علل به أصحاب القول الأول وهو ألا يكثر سواد الكفار، وخشية الميل لهم أو أن يكيدوا له (¬1)، وأما الأحاديث الواردة في النهي عن المقام بين أظهر المشركين فحملوها على من لم يأمن دينه عندهم (¬2). الرأي الثاني: عدم جواز الإقامة في دار الكفر، وهو رأي المالكية، ونقل عن الإمام مالك أنه كره السفر إلى بلاد الحرب للتجارة كراهية شديدة، وقال: "لا يخرج إلى بلادهم حيث تجري أحكام الشرك عليه" (¬3)، بل ومنع من بيع كل ما هو قوة على أهل الإسلام مما يتقوون به في حروبهم مما يعلم أنه قوة في الحرب، واستثنوا من هذا الدخول إليها لمصلحة المسلمين كمفاداة أسير عندهم، أو من دخلها من دون قصد كمن ضل عن الطريق أو أدخلته الريح غلبة (¬4). قال ابن قدامة رحمه اللَّه: "فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب: أحدها: من تجب عليه، وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه إقامة واجبات دينه، مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة. . .؛ لأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ¬

_ (¬1) انظر: المهذب، 2/ 226، وروضة الطالبين، 10/ 282، ومغني المحتاج، 4/ 239، وكشاف القناع، 3/ 110. (¬2) انظر: فتح الباري، 6/ 39. (¬3) المدونة الكبرى، 10/ 270. (¬4) انظر: شرح مختصر خليل، 7/ 194، ومواهب الجليل، 2/ 518.

الثاني: من لا هجرة عليه، وهو من يعجز عنها إما لمرض، أو إكراه على الإقامة، أو ضعف من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه. والثالث: من تستحب له ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه، وإقامته في دار الكفر، فتستحب له ليتمكن من جهادهم، وتكثير المسلمين ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة" (¬1). وبعد استعراض الحالات الثلاث، فإن الحالة الثالثة هي محل البحث في هذه المسألة، مع التنبيه على أن عموم الأدلة تدل على أن الأصل في إقامة المسلم في دار الكفر هو التحريم، ويستثنى من هذا الحكم الحالات التالية: 1 - من لم يقدر على الهجرة أو لم يجد مأوى له. 2 - من كان قادرًا على الاعتزال. 3 - كل من كان في إقامته مصلحة للمسلمين كالتجار والرسل والسفراء والدعاة والطلاب ونحوهم. ولذا فقد ذهب فقهاء الشافعية إلى أن إقامة المسلم في دار الكفر هي الأفضل إن كان يرجو ظهور الإسلام فيها، أو قدر على الامتناع في دار الكفر والاعتزال؛ لأن موضعه فيها صار دار إسلام، وكذلك إن قدر على دعائهم إلى الإسلام أو قتالهم (¬2)، كما استثنى المالكية من تحريم الإقامة من كان في إقامته مصلحة المسلمين كمفاداة أسير عندهم (¬3). ¬

_ (¬1) المغني، 9/ 236. (¬2) انظر: الحاوى الكبير، 14/ 222، وروضة الطالبين، 10/ 282. (¬3) انظر: شرح مختصر خليل، 7/ 194، ومواهب الجليل، 2/ 518.

المطلب الثالث حصول المستضعف على جنسية الدولة الكافرة

المطلب الثالث حصول المستضعف على جنسية الدولة الكافرة (¬1) إن كان بقاء المسلم في الدولة الكافرة يترتب عليه مصلحة للمسلمين فإن الراجح جواز إقامته في دار الكفر، أما في حال الاستضعاف فإن المسلم المستضعف يكون أشد حاجة للإقامة في دار الكفر، وأما الحصول على الجنسية فإنها تبع لتلك الإقامة، والجنسية ما هي إلا لتنظيم تلك الإقامة في دار الكفر (¬2)، وأما الفصل بين الجنسية والإقامة فلا يترتب عليه إلا أن يكون المستضعف منقوص الحقوق، وربما تم إخراجه من الدولة وإنهاء إقامته فيها؛ لكونه لم يحصل على الجنسية، بينما قد يترتب على حصوله على الجنسية نوع من الحماية والحصانة تمكنه من العودة إلى بلده دون خوف مما كان يتهدده قبل حصوله عليها. وبالنظر في أراء الفقهاء في مسألة إقامة المسلم في دار الكفر مع القدرة على إظهار الإيمان والشعائر يتضح لي رجحان الرأي الأول وهو جواز هجرة وإقامة المستضعف في بلاد الكفار وحصوله على جنسيتها، ويشهد لهذا الرأي هجرة الصحابة -رضي اللَّه عنهم- إلى الحبشة، بل وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم بذلك، كما يشهد له (أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أذن لقوم ¬

_ (¬1) ليس المقصد من هذا المطلب بحث مسألة الحصول على الجنسية من الدولة الكافرة بل المراد المستضعف الذي يجوز له الإقامة والهجرة إلى دار الكفر ما حكم حصوله على جنسية البلد الكافر الذي هاجر إليه، وللمزيد حول أحكام الجنسية، انظر: الجنسية والتجنس وأحكامها في الفقه الإسلامي، د. سميح عواد الحسن، دار النوادر: دمشق - بيروت، ط 1، 1429 هـ. (¬2) انظر: فقه الأقليات المسلمة، ص 608.

بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم، منهم العباس ابن عبد المطلب) (¬1) وغيره، إذا لم يخافوا الفتنة. وكان عليه الصلاة والسلام يأمر جيوشه أن يقولوا لمن أسلم: (إن هاجرتم فلكم ما للمهاجرين وإن أقمتم فأنتم كأعراب، وليس يخيرهم إلا فيما يحل لهم) (¬2). إلا أنه يشترط لهذا الجواز ما يلي: 1 - تحقق الاستضعاف في البلد المسلم الذي سوف يفارقه. 2 - أن يتعذر عليه الهجرة إلى بلد إسلامي، أو أن تكون نتيجة هجرته للبلد الإسلامي مساوية لبقائه في بلده من حيث الاستضعاف الواقع عليه، قال ابن العربي رحمه اللَّه: "فإذا لم يوجد بلد إلا كذلك؟ قلنا: يختار المرء أقلها إثمًا، مثل أن يكون بلد به كفر، فبلد فيه جور ¬

_ (¬1) العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي عم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو الفضل، ولد قبل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بسنتين وضاع وهو صغير فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه ذلك، وكان إليه في الجاهلية السقاية والعمارة، حضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم، وشهد بدرا مع المشركين مكرها وكان يكتم إسلامه، فأسر فافتدى نفسه، وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب، ورجع إلى مكة وصار يكتب إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح، وثبت يوم حنين، كما شهد الطائف وتبوك، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (من آذى العباس لقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه)، أخرجه الترمذي، مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وكان طويلًا جميلًا أبيض، انظر: المستدرك على الصحيحين، 3/ 366، والإصابة في تمييز الصحابة، 3/ 631، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 2/ 812، والطبقات الكبرى، 4/ 15، وشرح مشكل الآثار، 8/ 244، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 10/ 49، وتفسير القرآن العظيم، 2/ 328. (¬2) الأم، 4/ 161.

خير منه، أو بلد فيه عدل وحرام، فبلد فيه جور وحلال خير منه للمقام، أو بلد فيه معاصٍ في حقوق اللَّه فهو أولى من بلد فيه معاصٍ في مظالم العباد" (¬1). 3 - إن أمكن المستضعف الحصول على حق اللجوء فإنه يكتفي به بدلًا من الحصول على الجنسية؛ إلا إن رأى أن المصلحة تقتضي حصوله على الجنسية وأنه سيحصل على المزيد من الحقوق. 4 - أن تكون أنظمة البلاد المراد الهجرة إليها عادلة، تسمح للمسلم بإظهار إسلامه وممارسة عباداته، ويكون فيها آمنًا هو وأهله وأمواله، كما كان حال المسلمين بالحبشة في زمن النجاشي رحمه اللَّه. 5 - أن يأخذ المستضعف بكل الأسباب التي تعينه وأسرته على المحافظة على الدين وإقامة العبادات. 6 - أن يعود المستضعف إلى بلده متى ما زالت الأسباب التي أدت إلى خروجه منه، أو إلى أي بلد مسلم متى ما تيسر ذلك. 7 - ألا يشارك في أي عمل ضد المسلمين. قال ابن حزم رحمه اللَّه: "وأما من فرَّ إلى أرض الحرب لظلم خافه ولم يحارب المسلمين ولا أعانهم عليهم ولم يجد في المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره، وقد ذكرنا أن الزهري محمد بن مسلم بن شهاب كان عازما على أنه إن مات هشام بن عبد الملك لحق بأرض الروم؛ لأن الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه وهو كان الوالي بعد هشام، فمن كان هكذا فهو معذور" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، أبو بكر بن العربي المالكي، دار الكتب العلمية: مصر، ط 1، د. ت، 7/ 88 - 90. (¬2) المحلى، 11/ 200.

المطلب الرابع التجنس الجماعي للمستضعفين

وإن التجنس والإقامة بين أظهر الكفار لا يستلزم الموالاة بالضرورة، فقد يقيم الرجل بين ألد أعدائه، ويتعامل معه وهو يبغضه أشد البغض، وهذا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة -رضي اللَّه عنهم- معه كانوا يقيمون بمكة وفيها المشركون ويتعاملون معهم، وكذلك بالمدينة وفيها ذميون من أهل الكتاب، ولم يستلزم ذلك حبهم ولا موالاتهم (¬1). * * * المطلب الرابع التجنس الجماعي للمستضعفين مضى الحديث عن تجنس الأفراد في حال استضعافهم، أما في حالة استضعاف الجماعة، فهل يجوز التجنس بجنسية دولة كافرة؟ بداية أشير إلى أن هذه الحالة تقع عندما يداهم العدو بلاد المسلمين ويحتلها ولا يبقى أمامهم إلا خيار القتل أو التشريد أو الحصول على جنسية المحتل؛ ليصبحوا من مواطنيه، ويراهن الاحتلال على ذوبانهم وانسلاخهم من هويتهم الإسلامية، وهذا ما جرى لمسلمي الاتحاد السوفيتي السابق، والمسلمين في فلسطين المحتلة سنة 1948 م (¬2)، فالحكم في هذه الحالة أن بقاءهم في بلادهم مع حصولهم على الجنسية هو الأولى، ويشهد لهذا ما يلي: 1 - أن بقاءهم في بلادهم يحفظ بلاد الإسلام من أن تصير دار حرب، فيحرم عليهم الخروج، لاسيما مع قدرتهم على إظهار شعائر الإسلام والعبادات (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الهجرة إلى بلاد غير المسلمين، عماد بن عامر، دار ابن حزم: بيروت، ط 1، 1425 هـ، ص 155. (¬2) انظر: مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، منظمة المؤتمر الإسلامي: جدة، العدد الرابع، ط 1، 1988 م، ص 225. (¬3) انظر: روضة الطالبين، 10/ 282.

2 - أن خروجهم من بلدهم فيه تقوية للأعداء وإضعاف للمسلمين. 3 - أن بلاد الإسلام لا تصير دار كفر بمجرد استيلاء الكفار عليها، طالما بقي المسلمون قادرين على إظهار الإيمان والشعائر وهو قول الجمهور (¬1). 4 - أن خروجهم يؤدي إلى ضعف المقاومة؛ لاعتمادها عليهم في الدعم والمساندة والتأييد والضغط والتأثير على الاحتلال ومعرفة نقاط ضعفه وأسراره. 5 - أن الحصول على الجنسية وإن كان فيه مفسدة، إلا أن عدم الحصول عليها يترتب عليه مفاسد أعظم. ولذا فقد قال العز بن عبد السلام رحمه اللَّه: "ولو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله، جلبًا للمصالح العامة، ودفعًا للمفاسد الشاملة؛ إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عبادة تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد" (¬2). وخلاصة هذا المبحث: جواز التجنس الجماعي للمستضعفين متى ما تحققت الشروط وكانت المصلحة تقتضي ذلك. * * * ¬

_ (¬1) انظر: حاشية الدسوقي، 2/ 188، وبلغة السالك، 2/ 187، وفيه: "لأن بلاد الإسلام لا تصير دار حرب بأخذ الكفار لها بالقهر ما دامت شعائر الإسلام قائمة". (¬2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 73.

المبحث الثامن المشاركة فى الحكم حال الاستضعاف

المبحث الثامن المشاركة فى الحكم حال الاستضعاف إن المسلم في حال الاستضعاف يحتاج إلى ما يبقيه ويقويه، وهو حينئذ قد يتعرض إلى أمور لا يقدر على تجاوزها إلا بشيء من التنازلات، التي لا تؤثر في حقيقة الإيمان، وتسهم في حمايته وحماية ما حققه من انجازات أو مكتسبات، لذا فقد يضطر المستضعف أو المستضعفين بعد تقديرهم للموقف، والموازنة بين المصالح والمفاسد إلى التعامل مع بعض الكفار أو الظلمة، لئلا يقضى على وجودهم، أو تخفيفًا لوطأة الظلم على أفراد الأمة (¬1)، وبعد ظهور الأنظمة الوضعية في العالم الإسلامي برزت مسألة المشاركة في الحكم رغم جوره أو مشاركة الأقلية المسلمة في الحكم ببلاد الكفر، وهذه المسألة إنما يتصور وقوعها في حالة الاستضعاف الجزئي. وللعلماء في هذه المسألة آراء أوردها في الأقوال التالية: القول الأول: منع المشاركة في الحكم مطلقًا. واستدل أصحاب هذا الرأي بما يلي: 1 - عموم الأدلة الواردة بتحريم الحكم بغير ما أنزل اللَّه ووصفت أصحاب هذا الفعل بالكفر والظلم والفسق، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2)، وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬3)، وقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬4)، وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق، 145. (¬2) سورة المائدة، من الآية [44]. (¬3) سورة المائدة، من الآية [45]. (¬4) سورة المائدة، من الآية [47]. (¬5) سورة المائدة، الآية [50].

2 - النهي عن مجالسة الكفار وأصحاب المعاصي المستهزئين بالإسلام وأحكامه، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (¬1)، "نهى اللَّه عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج اللَّه وآي كتابه ويستهزئون بها، حتى يخوضوا في حديث غيره" (¬2)، "أي إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك فقد ساويتموهم فيما هم فيه" (¬3)، وقال القرطبي: "وإنما كانت الرخصة قبل الفتح وكان الوقت وقت تقية" (¬4). ونوقش: بأن المشارك لا يخوض معهم، بل الواقع أنه يمنعهم من الخوض، وسبب الرخصة قبل الفتح كان الضعف، وهو متحقق اليوم في ظل عدم وجود حكم إسلامي. 3 - الأمر باعتزال أمر العامة في زمن الفتنة، فعن عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما- قال: كنا نحن حول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جلوسًا إذ ذكر الفتنة أو ذكرت عنده، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إذا رأيت الناس قد مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، وكانوا هكذا وشبك بين أنامله)، فقمت إليه، فقلت: كيف أفعل يا رسول اللَّه؟ جَعَلَنِي اللَّه فداك، قال: (الْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية [140]. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/ 329. (¬3) تفسير القرآن العظيم، 2/ 145. (¬4) الجامع لأحكام القرآن، 7/ 15. (¬5) أخرجه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، 4/ 124، رقم: 4343، ومسند أحمد بن حنبل، 2/ 212، رقم: 6987، والمستدرك على الصحيحين، 4/ 315، رقم: 7758، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

ونوقش: بأن المراد بأمر العامة، "كافة الناس فليس المراد العوام فقط" (¬1)، "أي: اتركه، فإذا غلب على ظنك أن المنكر لا يزول بإنكارك وخفت محذورًا فأنت في سعة من تركه وأنكر بالقلب" (¬2)، ومن يشارك في الحكم يغلب على ظنه أنه سيزيل النكر ويأمر بالمعروف. 4 - النهي عن إتيان أبواب السلطان، قال عليه الصلاة والسلام: (من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن) (¬3)، وسبب وقوعه في الفتنة؛ "لأنه إن وافقه في مرامه فقد خاطر بدينه، وإن خالفه فقد خاطر بروحه؛ ولأنه يرى سعة الدنيا، فيحتقر نعمة اللَّه عليه، وربما استخدمه، فلا يسلم من الإثم في الدنيا، والعقوبة في العقبى" (¬4). ونوقش: بأن الحديث "محمول على من أتاه لطلب الدنيا، لاسيما إن كان ظالمًا جائرًا، أو على من اعتاد ذلك ولزمه، فإنه يُخاف. عليه الافتتان والعُجب" (¬5)، والمسلم المُشارك في الحكم إنما يأتيه لأجل الآخرة. 5 - أن مشاركة المسلم في مثل هذا النوع من الحكم يمنح الحاكم الكافر أو الظالم القوة ويكسبه الشرعية، ويعينه على التدليس على عوام الناس، كما ستؤدي هذه المشاركة إلى إطالة أمد هذا الحكم الكافر أو الجائر، ولربما مرر من خلالهم بعض القوانين الجائرة. ¬

_ (¬1) فيض القدير، 1/ 353. (¬2) التيسير بشرح الجامع الصغير، 1/ 98. (¬3) أخرجه أبو داود، 3/ 111، رقم: 2859، والنسائي، 7/ 195، رقم: 4309، الترمذي، 4/ 523، رقم: 2256، وقال: "حسن صحيح غريب من حديث بن عباس"، وأحمد بن حنبل، 2/ 371، رقم: 8823، وقال في مجمع الزوائد، 5/ 246 عن رواية أبو هريرة: "رواه أحمد والبزار وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، خلا الحسن بن الحكم النخعي وهو ثقة". (¬4) فيض القدير، 6/ 153. (¬5) الآداب الشرعية، 3/ 458.

6 - أن مشاركة المسلم تتضمن الموافقة المسبقة والمعلنة على الشكل والمضمون للنظام القائم إلى حين تغييره، وكذلك الموافقة على الاحتكام لغير شرع اللَّه إلى حين تحكيمه، بل وطرح الأحكام الشرعية الثابتة والقطعية للتصويت وإبداء الرأي. 7 - أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن حاله في أي مرحلة من مراحله كحال المشارك في الحكم، ففي المرحلة المكية السلطان لقريش ولا مشاركة له عليه الصلاة والسلام في الحكم، وفي المرحلة المدنية السلطان كله له (¬1). القول الثاني: جواز المشاركة في السلطة التنظيمية (التشريعية) دون التنفيذية: منع المشاركة في السلطة التنفيذية وجوازها في السلطة التنظيمية (التشريعية)، واستدل أصحاب هذا الرأي على منع المشاركة في السلطة التنفيذية بأدلة الفريق الأول، وبجواز المشاركة في السلطة التنظيمية بأدلة الفريق الثالث. والفرق عندهم بين السلطتين هو أن السلطة التنفيذية تنفيذ لأوامر ومطالب السلطة الكافرة أو الظالمة فلا مجال للتغيير أو المخالفة، أما السلطة التنظيمية فهي وضع للأنظمة والقوانين دون تنفيذ، كما أن المشاركة في السلطة التنظيمية تتيح الفرصة لاختيار السلطة التنفيذية (¬2). ¬

_ (¬1) وللمزيد انظر: الإسلاميون وسراب الديمقراطية، عبد الغني الرحال، مؤسسة المؤتمن، ط 1، 1413 هـ، ص 79 وما بعدها، ومدارك النظر في السياسة بين التطبيقات الشرعية والانفعالات الحماسية، عبد المالك رمضاني، مكتبة الفرقان: عجمان، ط 4، 1422 هـ، ص 198 وما بعدها، وحكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر الأشقر، دار النفائس: الأردن، ط 1، 1408 هـ، ص 29 وما بعدها. (¬2) إن التشريع لا يكون إلا للَّه عز وجل؛ لذا منع البعض تسمية السلطة بالتشريعية، إلا أن سن الأنظمة والقوانين واستنباطها من الشريعة في حقيقته تطبيق لتلك الشريعة وليس ابتداء للتشريع، انظر: النظام السياسي في الإسلام، مجموعة من المؤلفين، مدار الوطن للنشر: الرياض، ط 2، 1427 هـ, 98 - 99.

ونوقش: بأن المشاركة في السلطة التنظيمية كأقلية لا يؤدي إلى اختيار السلطة التنفيذية، كما لا يؤدي إلى سن القوانين والأنظمة العادلة، فتصبح المشاركة حينئذ كالمشاركة في السلطة التنفيذية، حيث سيتم تمرير القوانين والأنظمة المخالفة للشريعة الإسلامية دون جدوى من رفض الأقلية في السلطة التنظيمية لهذه القوانين والأنظمة. وأجيب: بأن المشاركة في السلطة التنظيمية هو بيان للحق، وإنكار للباطل، وإبراء للذمة، وإقامة للحجة، وإن لم يؤد للتغيير، ويسدل لهذا بما ورد في قصة أصحاب السبت، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (¬1)، أما في حال المشاركة في السلطة التنفيذية فلا يسع المشارك إلا التنفيذ. القول الثالث: جواز المشاركة بشروط: جواز المشاركة في الحكم بشروط (¬2)، واستدل أصحاب هذا الرأي بما يلي: 1 - مشاركة نبي اللَّه يوسف عليه السلام، قال تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (¬3)، و"في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر، بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فصل ما لا يعارض فيه، فيصلح منه ما شاء، وأما إن كان عمله ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية [164]. (¬2) انظر: حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، ص 29 وما بعدها، وتبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين، ص 96 وما بعدها، وفقه الأقليات المسلمة، ص 610 وما بعدها، فقه الموازنات بين النظرية والتطبيق، ناجي إبراهيم السويد، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1423 هـ، ص 34 وما بعدها، والشباب المسلم في مواجهة التحديات، عبد اللَّه ناصح علوان، دار السلام: القاهرة، ط 2، 1427 هـ، ص 242 - 244. (¬3) سورة يوسف، الآية [55].

بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز له ذلك" (¬1)، كما أن فيها "دليل على جواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة، وإن كان من يد الجائر أو الكافر، وعن مجاهد: أنه أسلم الملك على يده" (¬2)، وإنما سأل يوسف عليه السلام الولاية للمصلحة الدينية (¬3)، و"شفقة على خلق اللَّه لا منفعة نفسه" (¬4). ونوقش: بأن فعل يوسف عليه السلام من شرع من قبلنا، وهو ليس بشرع لنا إذا جاء في شرعنا ما ينقضه. وأجيب: بأن الشرائع كلها اتفقت على أن الحاكمية للَّه، وقد قال يوسف عليه السلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬5)، وتسلمه لذلك المنصب لا يُعد مخالفة لهذا الأصل، ومن ادعى أن الجواز خاص بيوسف عليه السلام فعليه أن يأتي بالدليل؛ لأن الأصل في سير الأنبياء أن نقتدي بها، بل أمر اللَّه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بيوسف وإخوانه من الأنبياء فقال -سبحانه- بعد أن ذكر في سورة الأنعام عددًا من الأنبياء عليهم السلام ومن بينهم يوسف عليه السلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ. .} (¬6). ¬

_ (¬1) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 1، 1413 هـ، 3/ 256. (¬2) تفسير أبي السعود، 4/ 286. (¬3) انظر: الفتاوى، 15/ 114. (¬4) مغني المحتاج، 4/ 374. (¬5) سورة يوسف، من الآية [40]. (¬6) سورة الأنعام، من الآية [90].

2 - عموم الأدلة الواردة في الحث على التعاون على البر والتقوى، ومنها قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1)، وفي المشاركة في الحكم تعاون على البر ومنع للإثم، وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2)، وما يستطيعه المستضعف في تلك الحال هو المشاركة ومحاولة تغيير ما يمكن تغيره. 3 - عموم الأدلة الواردة بالحث على نصرة الدين، ومنها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ. .} (¬3)، والمشاركة في الحكم هي النصرة الممكنة للمستضعف. 4 - عموم الأدلة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4)، وقوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬5)، وإن مشاركة المستضعف في الانتخابات والدخول في الحكم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5 - أن مشاركة المستضعف من باب دفع أعلى المفسدتين، فمن المقرر عند أهل العلم أنه إذا تعارض مفسدتان، رُوعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما، ودل على هذا قاعدة: ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية [2]. (¬2) سورة التغابن، من الآية [16]. (¬3) سورة محمد، من الآية [7]. (¬4) سورة آل عمران، الآية [104]. (¬5) سورة آل عمران، الآية [110].

"يُختار أهون الشرين"، وقاعدة: "الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف" (¬1)، ولا شك أن ¬

_ (¬1) انظر: درر الحكام، 1/ 37، وشرح القواعد الفقهية، 1/ 199، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "وهذا ثابت في سائر الأمور فإن الطبيب مثلًا يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض والفساد أداة تزيدهما معًا، فإنه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافًا للمرض، وعند ضعف القوة فعله؛ لأن منفعة إبقاء القوة والمرض أولى من إذهابهما جميعًا، فإن ذهاب القوة مستلزمة للهلاك، ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة، وإن كان يتقوى بما ينبته أقوام على ظلمهم، لكن عدمه أشد ضررًا عليهم، ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان. . . إذا كان المتولي للسلطان العام أو بعض فروعة كالإمارة والولاية والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك ما لا يفعله غيره قصدًا وقدرة جازت له الولاية، وربما وجبت؛ وذلك لأن الولاية إذا كانت من الواجبات التي يجب تحصيل مصالحها من جهاد العدو وقسم الفيء وإقامة الحدود وأمن السبيل كان فعلها واجبا، فإذا كان ذلك مستلزما لتولية بعض من لا يستحق، وأخذ بعض ما لا يحل، وإعطاء بعض من لا ينبغي ولا يمكنه ترك ذلك، صار هذا من باب ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به، فيكون واجبًا أو مستحبًا إذا كانت مفسدته دون مصلحة ذلك الواجب أو المستحب، بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها ودفع أكثره باحتمال أيسره، كان ذلك حسنًا مع هذه النية، وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدًا، وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد. . . ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارًا. . . ومعلوم أنه مع كفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين اللَّه، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. . . فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها كما بينته فيما تقدم العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والإسقاط، مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلًا لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها؛ دفعًا لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبًا إلى ذي سلطان ظالم، فيعتدى عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررًا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركًا =

الأنظمة والقوانين والدساتير التي تضعها الدول الكافرة أو الدول الظالمة قد لا توافق ¬

_ = لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي؛ خوفًا أن يستلزم ترك ما أمر اللَّه به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك النكر، فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح كما تقدم بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر، فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر اللَّه سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول اللَّه تسليما إلى بيانها يبين حقيقة الحال في هذا أن اللَّه يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين، بشرط التمكن من العلم بما أنزل اللَّه، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم، أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين، أو عجز عن جميعه، كالمجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئًا فشيئًا، بمنزلة بيان الرسول لما بُعث به شيئًا فشيئًا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تُطاع فأمر بما يُستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يُلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يُؤمر بجميع الدين، وُيذكر له جميع العلم، فإنه لا يُطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبًا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط فتدبر هذا الأصل فإنه نافع، ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء، وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل؛ لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة اللَّه في الوجوب أو التحريم فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبًا في الأصل واللَّه أعلم"، انظر: الفتاوى، 20/ 55 - 61.

الشريعة الإسلامية في معظمها، بل قد تعارضها أو تحاربها، إلا أن مشاركة المسلم حال الاستضعاف يترتب عليها تخفيف الشر والظلم، وأما ترك المشاركة فينتج عنها المزيد من الظلم والضرر والعديد من المفاسد، وليس من الحكمة ترك الأمر لأهل الباطل، دون أن يجدوا معارضًا، بل لو رشح كافران وكان أحدهما أقرب للمسلمين أو أخف ضررًا، والآخر شديد العداوة لوجب انتخاب الأول لدفع شر الآخر. يتبين من خلال النظر في أقوال كل فريق وأدلته استدلالهم بأدلة عامة، كما أن هذه المسألة لا يمكن الجزم فيها برأي محدد، إذ يتغير الحكم فيها بحسب الزمان والمكان، وتقدير المصالح والمفاسد، إلا أن العلماء القائلين بجواز المشاركة في الحكم وضعوا شروطًا لذلك منها: 1 - ألا يترتب على المشاركة إقرار الكفر، أو المعاونة على الظلم، فينبغي أن يفوض إليه فعل لا يعارضه فيه، فيتمكن من الإصلاح والتغيير، وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك (¬1). 2 - ألا يكون هنالك سبيل للإصلاح وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإزالة الفساد أو تخفيف الظلم ورفعه دون التعرض إلى الأذى والضرر إلا بتلك المشاركة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: الجامع لأحكام القرآن، 9/ 215، وفيه: "للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر والسلطان الكافر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه فيصلح منه ما شاء وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك"، وانظر: آيات للسائلين، د. ناصر العمر، مؤسسة الرسالة: بيروت، ط 1، 1429 هـ، ص 253. (¬2) انظر: تفسير البيضاوي، 3/ 295، والبحر المحيط، 5/ 318، قال الزمخشري رحمه اللَّه: "وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر اللَّه ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به، وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى فكان فى حكم التابع له والمطيع"، الكشاف، 2/ 455.

3 - أن يكون المشارك قادرًا على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة (¬1)، "وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من جهة من ليس بصالح، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا" (¬2). والراجح -واللَّه أعلم- أن المشاركة وإن كان يترتب عليها بعض المفاسد، إلا أن عدم المشاركة كذلك، وتبقى مسألة ترجيح المفاسد والمصالح عائدة للعلماء والمجتهدين مع الاستفادة من رأي المتخصصين في كل زمان ومكان بحسبه، فمن ترجح عنده المشاركة لتحصيل هذه المصالح ينبغي أن يلتزم بالشروط التي وضعها العلماء لجواز تلك المشاركة، ومن ترجح عنده عدم المشاركة لا ينبغي له أن يُعادي من رأى المشاركة، ولربما كان الأصلح للمستضعفين وجود فريق مشارك في الحكم، وفريق آخر غير مشارك، فيحمي الأول الثاني، ويقوم الثاني بما يعجز عنه الأول. وأما التفريق بين المشاركة في السلطة التنفيذية والمشاركة في السلطة التشريعية، ومنع المشاركة في الأولى، وجوازه في الثانية؛ لكون السلطة التنفيذية هي مجرد تنفيذ للأنظمة والقوانين دون أي دور في التنظيم أو التقنين أو تعديلها، بينما المشارك في السلطة التشريعية يتسنى له سن الأنظمة وتعديلها، ولا صلة له في التنفيذ، فالذي يظهر لي أنه لا فرق بينهما من حيث التطبيق العملي، بمعنى أن المشاركة في إحدى السلطتين (التنفيذية أو التشريعية) إن كان يترتب عليها القدرة على التغيير وتحققت المصلحة فتجوز، وإلا فلا يجوز ذلك سواء في التنفيذية أو التنظيمية، بل قد تكون الخطورة والضرر عند عدم القدرة على التغيير في المشاركة بالسلطة التشريعية، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: تفسير أبي السعود، 4/ 286. (¬2) البحر المحيط، 5/ 318.

المبحث التاسع نزع الحجاب حال الاستضعاف

المبحث التاسع نزع الحجاب حال الاستضعاف وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول تعريف الحجاب والنقاب الحجاب لغة: معناه الستر، يقال: حجب الشيء يحجبه حجبًا وحجابًا، وحجبه ستره، وامرأة محجوبة قد سترت بستر (¬1). وأما الحجاب اصطلاحا: فلا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن معناه اللغوي الذي هو الستر والحيلولة (¬2)، ويمكننا القول بأنه: ستر المرأة لبدنها وزينتها، بما يمنع الأجانب عنها من رؤيته. وأما النقاب لغة: فهو القناع على مارن الأنف، والجمع نُقب، يقال: تنقبت المرأة وانتقبت، قال الفراء: إذا أدنت المرأة نقابها إلى عينها فتلك الوصوصة، فإن أنزلته دون ذلك إلى المحجر فهو النقاب، فإن كان على طرف الأنف فهو اللفام واللثام، قال أبو عبيد: النقاب عند العرب هو الذي يبدو منه محجر العين، وكانت تبدو إحدى العينين والأخرى مستورة (¬3)، "والفرق بين الحجاب والنقاب، أن الحجاب ساتر عام، أما النقاب فساتر لوجه المرأة فقط" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، وتهذيب اللغة، والمصباح المنير، مادة: حجب. (¬2) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/ 6. (¬3) انظر: لسان العرب، وتهذيب اللغة، مادة: نقب. (¬4) الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/ 7.

المطلب الثاني الأدلة على وجوب الحجاب

المطلب الثاني الأدلة على وجوب الحجاب يُعد الحجاب من المسائل المجمع عليها، فالآيات والأحاديث النبوية الواردة في الأمر به واضحة وصريحة في دلالتها على وجوبه، ومنها: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1)، عن أم سلمة -رضي اللَّه عنها- قالت: (لما نزلت: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}، خرج نساء الأنصار كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنْ الْأَكْسِيَةِ) (¬2). قال ابن العربي رحمه اللَّه: "اختلف الناس في الجلباب على ألفاظ متقاربة عمادها أنه الثوب الذي يستر به البدن، لكنهم نوعوه هاهنا، فقد قيل: إنه الرداء، وقيل: إنه القناع. . . قيل معناه تغطي به رأسها فوق خمارها، وقيل تغطي به وجهها حتى لا يظهر منها إلا عينها اليسرى" (¬3)، وقال ابن تيمية رحمه اللَّه: "هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يغطى رأسها وسائر بدنها" (¬4). 2 - قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية 59. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}، 4/ 61، رقم: 4101. (¬3) أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 3/ 625. (¬4) الفتاوى، 22/ 110.

لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1)، قال ابن حزم رحمه اللَّه: "فأمرهن اللَّه تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب وهذا نص على ستر العورة والعنق والصدر" (¬2)، وقال الجصاص رحمه اللَّه: " {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وفي ذلك دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة لا يجوز للأجنبي النظر إليهما منها" (¬3)، وقال ابن كثير: "والخمر جمع خمار، وهو ما يُخمر به، أي: يُغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع، قال سعيد بن جبير: ({وَلْيَضْرِبْنَ} وليشددن، {بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شيء) " (¬4). 3 - عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: (يرحم اللَّه نساء المهاجرات الأول لما أنزل اللَّه: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، شققن مروطهن فاختمرن بها)، وكانت تقول -رضي اللَّه عنها-: (لما نزلت هذه الآية: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} , أَخَذْنَ أُزْرَهُنَّ فَشَقَّقْنَهَا من قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية [31]. (¬2) المحلى، 3/ 216. (¬3) أحكام القرآن للجصاص، 5/ 174. (¬4) تفسير القرآن العظيم، 3/ 285. (¬5) أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، رقم: 4480، و 4481

4 - ما روته أم عطية -رضي اللَّه عنها- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما أمر النساء بالخروج لصلاة العيد، فقالت امرأة: يا رسول اللَّه إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ، قال: (لِتلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا) (¬1)، فأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تلبسها صاحبتها من جلبابها دليل على عدم جواز خروج النساء من بيوتهن إلا متحجبات. 5 - ما رواه عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ) (¬2)، وفي رواية: (فتقول ما رآني أحد إلا أعجبته وأقرب ما تكون إلى اللَّه إذا كانت في قعر بيتها) (¬3)، المراد أنها ذات عورة، جعل المرأة نفسها عورة؛ لأنها إذا ظهرت يستحي منها كما يستحي من العورة إذا ظهرت، ويستقبح ظهورها للرجال، والمراد بالعورة هنا كل ما يستحي منه إذا ظهر، واستشراف الشيطان لها بأن يزينها في نظر الرجال، وقيل: أي نظر إليها ليغويها ويُغوي بها، وأصل الاستشراف رفع البصر للنظر إلى الشيء وبسط الكف فوق الحاجب، وقيل بل المراد: شيطان الإنس من أهل الفسق سماه به على التشبيه (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب وجوب الصلاة في الثياب، رقم: 344، ومسلم، 2/ 606، رقم: 890. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب الرضاع، باب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ عَلَى المُغِيبَاتِ، 3/ 476، رقم: 1173، وقال: "حسن غريب"، وصحيح ابن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، تحقيق: د. محمد الأعظمي، المكتب الإسلامي: بيروت، ط 1، 1390 هـ، 3/ 93، رقم: 1685، وزاد: "وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها". (¬3) المعجم الكبير للطبراني، 9/ 295، 9481، قال في مجمع الزوائد، 2/ 35: "ورجاله موثقون". (¬4) انظر: تحفة الأحوذي، 4/ 283، والتيسير بشرح الجامع الصغير، 2/ 455، ومرقاة المفاتيح، 6/ 257.

المطلب الثالث نزع الحجاب حال الاستضعاف

المطلب الثالث نزع الحجاب حال الاستضعاف يُعد الحجاب أبرز شعائر ومظاهر الإسلام، وبقي الاستعمار يُحاربه تحت شعارات مختلفة منها: الحرية، والمساواة، والتخلص من العادات، ويصفه بأنه رمز للانغلاق، ولعبودية المرأة، ولا عجب فإن نزعه طريق لانتشار الرذيلة والفاحشة وضياع الأخلاق والقيم وإضعاف الأمة. والغرب الذي طالما فاخر بديمقراطيته وانفتاحه والحرية التي لديه يضيق ذرعًا اليوم بالحجاب والنقاب، بل ويسن القوانين ويضع الأنظمة لمحاربته، وإن كان هذا الأمر مستغربًا في الغرب فكيف الحال ببعض بلاد المسلمين؟!. إن هذه الأحوال بحاجة للدراسة والتأمل لبيان الحكم الشرعي الذي ينطلق من الأدلة الشرعية، ومقاصد الشريعة الإسلامية، ويراعي أحوال المستضعفين فلا يغفل عن واقعهم، ولا يجنح للتساهل أو للتشدد، وذلك في الفروع التالية: الفرع الأول: شروط نزع الحجاب حال الاستضعاف: إن شأن الحجاب كشأن بقية الفرائض والواجبات فإن كان المستضعف يجوز له أن يخفي إيمانه حال العجز عن الإظهار أو الخوف منه، بل وأن ينطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان حال الإكراه، فما دون ذلك من الفرائض والواجبات يجوز تركه حال الضرورة من باب أولى، فالضرورات تبيح المحظورات، إلا أنه يشترط لجواز ذلك ما يلي: 1 - تحقق الضرورة والحاجة وأن يكون الحجاب مرتبطًا بها، أي سببًا من مسبباتها. 2 - اقتصار جواز نزعه في موضع الضرورة أو الحاجة، فإن كان نزع الحجاب مطلوب في الجامعات مثلًا، فيقتصر نزعه عند الدخول إليها؛ لأن الثابت بالضرورة يتقدر بقدرها، ولا يعدو موضعها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: كشف الأسرار، 4/ 236، وقواعد الفقه، 1/ 74، والمبسوط، 10/ 152.

الفرع الثانى: شروط نزع النقاب حال الاستضعاف

3 - عدم وجود البدائل، كاضطرار المستضعفة الدخول إلى تلك الأماكن التي يحظر فيها لبس الحجاب مع عدم وجود البديل، كأن يشترط نزعه عند نقاط السفر أو المرور بمراكز الجوازات أو في الجامعات مثلًا أو المواصلات العامة، ولا تتمكن من الذهاب لجامعات أخرى أو أن تستعمل مواصلات خاصة ونحوها من البدائل. 4 - السعي الجاد للخروج من هذا الاستثناء، وذلك بالعمل على إصدار أنظمة تسمح بالحجاب، وذلك بالاستفادة من الجمعيات الحقوقية والمهتمة بمثل هذه الأمور والتي تربطها بالحرية الشخصية، وإن لم تكن تلك الجمعيات أو الجهات إسلامية. الفرع الثانى: شروط نزع النقاب حال الاستضعاف: اختلف الفقهاء في مسألة تغطية المرأة لوجهها، بناء على فهمهم للمراد بالزينة الظاهرة في قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬1)، فهي عند الأكثر الوجه والكفين، وهو ما رجحه الطبري وغيره للإجماع على أن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وقياسًا على جواز كشفهما في الحج، وإجازة الفقهاء للنظر لهما عند الحاجة والضرورة (¬2). قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين: فقال ابن مسعود ومن وافقه: هي الثياب، وقال ابن عباس ومن وافقه: هي في الوجه واليدين، مثل: الكحل والخاتم. . فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النور، من الآية [31]. (¬2) انظر: جامع البيان عن تأويل آى القرآن، 18/ 119، وأحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 3/ 381، والهداية شرح البداية، علي بن أبي بكر المرغياني، المكتبة الإسلامية: بيروت، ط 1، د. ت، 4/ 83، وبداية المجتهد، 2/ 3، ومواهب الجليل، 5/ 393. (¬3) الفتاوى، 22/ 109 - 111.

وليس الغرض هنا عرض الأقوال في المسألة أو الترجيح، وإن كان الفقهاء قد اتفقوا على وجوب تغطية المرأة لوجهها إذا خشيت في كشفه الفتنة، وإن لم تخش في كشفه الفتنة فهذا محل الخلاف بينهم، إنما المراد بيان حكم نزع النقاب حال الاستضعاف عند القائلين بوجوب تغطية الوجه، فإن المستضعف إن كان ممن يرى عدم وجوب التغطية فلن يقع في هذا الإشكال فيما يتصل بالنقاب، وإن كان ممن يرى وجوب التغطية فيسعه في حال الضرورة والحاجة الأخذ بالقول المرجوح (¬1)، وهذا الأمر ينبني على قاعدة الاستحسان (¬2). ¬

_ (¬1) قال الشاطبي رحمه اللَّه محذرًا من التساهل في الأخذ بالقول المرجوح بشكل عام: "وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعى فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات، فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض، حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح أو الخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب، فهذا أيضًا من ذلك الطراز المتقدم فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر، ومحال الضرورات معلومة من الشريعة"، الموافقات، 4/ 145. (¬2) عرف الاستحسان عند الحنفية بأنه: "ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس، وقيل الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام"، المبسوط، 10/ 145، كما عرف بأنه: "دليل يقابل القاس الجلي الذي يسبق إليه الإفهام"، البحر الرائق، 1/ 118، وعرفه المالكية: "الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي"، وعرف: "إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته"، الموافقات، 4/ 206 - 208، كما عُرف بأنه: "الالتفات إلى المصلحة والعدل"، بداية المجتهد، 2/ 140، وعرفه الحنابلة بأنه: "العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة"، روضة الناظر، 1/ 167، ورده الشافعية، إن كان بغير قياس ولا دليل، انظر: الأم، 7/ 94، وبالتالي فالخلاف لفظي إذ أن الاستحسان بلا دليل لا يقول به أحد.

فالاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة، إلا أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم دليل على دليل، فهو رجوع إلى ما عُلم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة (¬1)، وليس مجرد الرجوع إلى مجرد التشهي والهوى، وأما الاستحسان المجرد ليس بحجة في الشرع. فإن كان لبس النقاب في حال الاستضعاف سيؤدي إلى فوات مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة فإن تركه جائز، بل قد يجب لحفظ النفس في حال الخوف من الضرر كالقتل أو الضرب، كما يقع في بلاد الغرب أحيانًا من ردة فعل على خلفية بعض الأحداث، قال الشاطبي رحمه اللَّه: "ولو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة، فكان من الواجب رعى ذلك المآل إلى أقصاه، ومثله الاطلاع على العورات في التداوي والقراض والمساقاة وإن كان الدليل العام يقتضي المنع، وأشياء من هذا القبيل كثيرة هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة" (¬2). وينبغي على المسلمين في الدول الإسلامية التصدي لمحاولات نزع الحجاب، ولا شك أن أحوالهم ليس كأحوال المسلمين في الغرب، وأما المسلمون في الغرب فينبغي على الدول الإسلامية أن تساند موقفهم وتطالب بحقوقهم، وإن مجرد التلويح بقطع العلاقات الاقتصادية أو خفضها كفيل لكي يتراجع الغرب عن قراراته الظالمة في حق المسلمات، وإن لم تقم الحكومات بهذا الواجب فإن على الشعوب المسلمة نصرة إخوانها من خلال ¬

_ (¬1) انظر: المغني، 6/ 173، وبداية المجتهد، 2/ 209. (¬2) الموافقات، 4/ 207 - 208.

المقاطعة الاقتصادية، وتفعيل الضغوط الشعبية من خلال وسائل الإعلام وغيرها من الوسائل المتاحة والتي تحقق المصلحة وتدفع المفسدة، وهذا كله لا يعفي الدعاة والمسلمين عمومًا من واجب بيان الحق وشرح تعاليم الإسلام والرد على الشبهات التي تثار حول شرائعه وشعائره. * * *

الفصل الثالث ما يرخص به حال الاستضعاف

الفصل الثالث ما يُرخص به حال الاستضعاف وفيه أربعة مباحث المبحث الأول: كتمان الإسلام وشعائره حال الاستضعاف. المبحث الثاني: استخدام المستضعف للحيلة ونحوها. المبحث الثالث: استخدام المستضعف للتَقِيَّة. المبحث الرابع: استخدام المستضعف للمداراة والمداهنة.

المبحث الأول كتمان الإسلام وشعائره حال الاستضعاف

المبحث الأول كتمان الإسلام وشعائره حال الاستضعاف الأصل في الفرد المسلم هو إظهار دينه وشعائره ومخالفة هديه للكفار، إلا أنه في حال الاستضعاف قد يضطر لإخفاء الإيمان أو بعض شعائره، فما الحكم في مثل هذه الحالة، هذا ما سيعرض له هذا المبحث من خلال المطالب التالية: المطلب الأول تعريف الشعائر ومكانتها وفيه ثلاثة فروع: الفرع الأول: الشعائر لغة: جمع شعيرة، وهي: العلامة، وتشمل جميع متعبدات اللَّه التي أشعرها اللَّه، أي: جعلها أعلامًا، وإنّما قيل شعائر اللَّه لكلِّ عَلَمٍ مما تُعُبِّد به لأنَّ قولهم شَعَرت به علمتُه فلهذا سمِّيت الأعلام التي هي متعبَّداتُ اللَّه شعائر (¬1). الفرع الثانى: الشعائر اصطلاحًا: أما المعنى الاصطلاحي فلا يخرج عن المعنى اللغوي، فشعائر الإسلام: هي معالم الدين والطاعة والقُرب (¬2)، والمراد بإخفائها عدم إظهارها وكتمانها. وقد مثل الفقهاء للشعائر الظاهرة بصلاة الجماعة، والجمعة، والعيد، والآذان، والأضحية، ومناسك الحج، وإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، والجهاد وغيرها من التكاليف (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، مادة: شعر. (¬2) انظر: شرح مختصر خليل، 2/ 333، والمجموع، 8/ 250، قال القرطبي رحمه اللَّه عن شعائر اللَّه: "كل شيء للَّه تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم، ومنه شعار القوم في الحرب أي: علامتهم التي يتعارفون بها، ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة، فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة فشعائر اللَّه أعلام دينه"، الجامع لأحكام القرآن، 12/ 56. (¬3) انظر: المبسوط، 15/ 134، والذخيرة، 4/ 150، والوسيط، 4/ 165، وحاشية ابن عابدين، 2/ 15، والبحر المحيط في أصول الفقه، 1/ 142.

الفرع الثالث: مكانة شعائر الإسلام وأهمية إظهارها

الفرع الثالث: مكانة شعائر الإسلام وأهمية إظهارها: إن شعائر الإسلام هي: مظاهر الدين وعلاماته، ولهذا فقد فسرها البعض بأنها: دين اللَّه (¬1)، وتعظيمها "فعل من أفعال القلب، وهو الأصل لتعظيم الجوارح بالأفعال" (¬2)، فعبادة القلوب هي الأصل (¬3)، "والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح" (¬4)، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬5). وقد اعتبرها البعض من الحاجات الأخروية، "فالضروري الأخروي في الطاعات هو فعل الواجبات وترك المحرمات، والحاجي هو: السنن المؤكدات والشعائر الظاهرات، والتكميلي: ما عدا الشعائر من المندوبات، والضروريات الدنيوية كالمآكل والمشارب والملابس والمناكح، والتكميلي منها كأكل الطيبات وشرب اللذيذات وسكنى المساكن العاليات والغرف الرفيعات والقاعات الواسعات، والحاجي منها ما توسط بين الضرورات والتكميلات" (¬6). وللشعائر أهميتها في التعريف بالدار بأنها دار إسلام (¬7)، ولخطورة شأنها قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "فأما الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فلا أعلم في وجوب قتالهم خلافًا" (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: مفاتيح الغيب، 23/ 29، وتفسير أبي السعود، 3/ 3، والجامع لأحكام القرآن، 6/ 37. (¬2) أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 3/ 288. (¬3) انظر: الفتاوى، 17/ 485. (¬4) الفوائد، محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي ابن القيم الجوزية، دار الكتب العلمية: بيروت، ط 2، 1393 هـ، 1/ 141. (¬5) سورة الحج، الآية [32]. (¬6) الفوائد في اختصار المقاصد، عز الدين ابن عبد السلام، تحقيق: إياد الطباع، دار الفكر المعاصر: بيروت، ط 1، 1996 م، 1/ 38 - 39. (¬7) انظر: الذخيرة، 2/ 58. (¬8) الفتاوى، 28/ 504.

المطلب الثاني كتمان الإسلام وإخفاء شعائره

ولذا فإن الفقهاء قالوا بوجوب إظهار الشعائر والمبادرة بذلك على الفور واعتبره الأصل، فقالوا: "الأصل المبادرة بإظهار الشعائر في البلد بمجرد فتحها، ولا موجب للتأخير بعد زوال المانع" (¬1). ويترتب على كتمان الإيمان وإخفاء شعائره المشابهة في الهدى الظاهر للكفار وهو ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل، كما أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسبًا وتشابهًا يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب الجند مثلًا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، والمخالفة في الهدي الظاهر توجب المفارقة والمخالفة في الباطن (¬2). * * * المطلب الثاني كتمان الإسلام وإخفاء شعائره إن الأصل في الفرد المسلم أن يظهر دينه وشعائره، خاصة إن كان في بلاد الإسلام، أما في حال تحقق الاستضعاف واتصاله بإظهار الشعائر، وعدم القدرة على إظهارها، فإنه يجوز كتمان الإيمان وإخفاء الشعائر، ولهذا فإن الفقهاء قالوا: "إذا أخذ الكفار بلد المسلمين واستولوا عليه وصار تحت حكمهم ولم يمنعوا المسلمين من إقامة الشعائر الإسلامية وجبت عليهم الجمعة" (¬3)، فإن منعوهم من ذلك لم تجب عليهم. وقد دل على جواز كتمان الإيمان وإخفاء شعائره في حال الاستضعاف ما يلي: 1 - عموم الأدلة الواردة في رفع الحرج، ومنها قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬4)، ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي، 1/ 504. (¬2) انظر: اقتضاء الصراط، 1/ 11، وإعلام الموقعين، 3/ 140. (¬3) منح الجليل، 1/ 426. (¬4) سورة المائدة، الآية [6].

وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. .} (¬1)، وقال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2)، وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. .} (¬3)، وقال سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (. . . فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (¬5). 2 - قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (¬6). ووجه الدلالة هو: أن اللَّه عز وجل أذن للمكره بأن ينطق بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان، فترك الشعائر أولى بالجواز في حال الإكراه؛ لأن "جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عته، وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات" (¬7). 3 - أن "من كان بِمَكَّةَ من المُسْتَضْعَفِينَ لم يَكُونُوا يُصَلُّونَ إِلَّا سِرًّا" (¬8)، ولم يكن بإمكانهم إظهار شيء من الشعائر وإلا عرف المشركون حالهم فوقعوا في العذاب أو ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية [286]. (¬2) سورة الحج، الآية [78]. (¬3) سورة البقرة، الآية [185]. (¬4) سورة التغابن، الآية [16]. (¬5) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، رقم: 6858، واللفظ له، ومسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره -صلى اللَّه عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، رقم: 1337. (¬6) سورة النحل، الآية 106. (¬7) الفتاوى، 20/ 85. (¬8) فتح الباري، 2/ 50.

الضرر، بل إن هذا ما كان عليه حال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في أول الأمر، فقد "ذكر بعض أهل العلم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي ابن أبي طالب مستخفيًا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء اللَّه أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: (أي عم هذا دين اللَّه ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم)، أو كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بعثني اللَّه به رسولًا إلى العباد، وأنت أي عم أحق من بَذلتُ له النصيحة ودعونه إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني عليه)، أو كما قال، فقال أَبو طالب: أي ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن واللَّه لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت" (¬1). 4 - أن النجاشي رحمه اللَّه كتم إيانه وأخفاه عن قومه في أول الأمر -كما سبق بيانه- وقَبِل منه الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ذلك الأمر وأخفوه، ولم ينقل أنهم أمروه بإظهار إسلامه أو أن يقيم الشعائر. 5 - مشروعية العمل بالتَّقِيَّةُ، "وقد يجوز إخفاء الإيمان وترك إظهاره تقية بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان" (¬2)، وسيأتي بيان ذلك. 6 - أن كتمان الإيمان وإخفاء شعائره حال الاستضعاف يكون من باب الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها، قال العز بن عبد السلام رحمه اللَّه: "ترك الصلاة، وصوم رمضان، وتأخير الزكاة، وحقوق الناس الواجبات من غير عذر شرعي ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن هشام، 2/ 86. (¬2) أحكام القرآن للجصاص، 4/ 156.

المطلب الثالث المفاضلة بين إظهار الشعائر وإخفائها حال الاستضعاف

مفسدة محرمة، لكنه جائز بالإكراه؛ فإن حفظ النفوس أولى مما يترك بالإكراه، مع أن تداركه ممكن، فيكون جمعًا بين هذه الحقوق وبين حفظ الأرواح" (¬1). * * * المطلب الثالث المفاضلة بين إظهار الشعائر وإخفائها حال الاستضعاف إن كتمان الإيمان وإخفاء شعائره رخصة للمستضعف، ومتى ما أظهر المستضعف الشعائر بنية إعزاز دين اللَّه وإن كان يعلم بأنه سيعود عليه بالضرر أو التلف كان مأجورًا على ذلك ومثابًا عليه، وهو الأولى مع جواز إخفائها في تلك الحال (¬2). يشهد لهذا أن علي -رضي اللَّه عنه- عندما قام يخطب وتحدث عن فضائل الصديق -رضي اللَّه عنه- قال: (أيها الناس أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين، قال: أما أن ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس، قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر -رضي اللَّه عنه-، إنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عريشًا، فقلنا: من يكون مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلًا؛ يهوي إليه أحد من المشركين، فواللَّه ما دنا منه إلا أَبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس، فقال علي: ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 88. (¬2) "ومن أتلف نفسه، لا لإعزاز دين اللَّه كان آثما، وما حرمه النص حالة الاختيار ورخص فيه حالة الاضطرار وهو ليس مما يجوز أن يرد الشرع بإباحته كالكفر باللَّه ومظالم العباد، إذا امتنع فقتل كان مأجورًا؛ لأنه بذل مهجته لإعزاز دين اللَّه، حيث تورع عن ارتكاب المحرم، وكذا ما ثبت حرمته بالنص، ولم يرد نص بإباحته حالة الضرورة، كالإكراه على ترك الصلاة في الوقت، وعلى الفطر في رمضان للمقيم الصحيح، إذا امتنع عن ذلك فقتل كان مأجورًا؛ لأنه بذل مهجته لإعزاز دين اللَّه"، التقرير والتحبير، 2/ 197.

ولقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخذته قريش فهذا يجأ وهذا يتلتله (¬1)، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلاهًا واحدا، قال: فواللَّه ما دنا منه أحد إلا أَبو بكر يضرب هذا ويجاء هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلَا أن يقول ربي اللَّه، ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى أخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم باللَّه أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني، فواللَّه لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل كتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه) (¬2). ¬

_ (¬1) وجأ الوجء اللكز، ووجأه باليد والسكين، وجأ مقصور ضربه ووجأ في عنقه كذلك، انظر: لسان العرب، مادة: وجأ. والتلتلة: الحركة، يقال: فلان يتلتل فلانًا إذا عنف بسوقه، انظر: جمهرة اللغة، محمد بن الحسن بن دريد، تحقيق: رمزي بعلبكي، دار العلم للملايين: بيروت، ط 1، 1987 م، 1/ 179، مادة: تلتل. (¬2) مسند البزار، 3/ 15، وقال: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد"، قال في مجمع الزوائد، 9/ 47: "وفيه من لم أعرفه"، والبداية والنهاية، 3/ 272، وقصة أبي بكر وردت بطولها في تاريخ مدينة دمشق، 30/ 47، والسيرة الحلبية، 1/ 475، وفيها: "أن الصديق -رضي اللَّه عنه- ألح على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالظهور، فقال له: إنا قليل، فلم يزل يلح حتى خرج الرسول والصحابة للمسجد وعددهم تسعة وثلاثون وقام أَبو بكر خطيبًا فكان أول خطيب دعا إلى اللَّه عز وجل وإلى رسوله، وثار المشركون عليه وعلى المسلمين وضرب من عتبة بن ربيعة ضربًا شديدًا حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم فخلصوه وحملوه وهم لا يشكون في موته، ثم رجعوا فدخلوا المسجد وقالوا: واللَّه لئن مات أَبو بكر لنقتلن عتبة، ورجعوا إلى أبي بكر فجعل أَبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجابهم فتكلم آخر النهار، وكانت هذه الحادثة سبب إسلام أمه أم الخير -رضي اللَّه عنها-، وكان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أَبو بكر فدعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام فأصبح عمر، وكانت الدعوة يوم الأربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والمسلمون في بيت الأرقم تكبيرة سمعت بأعلى مكة).

وعلي -رضي اللَّه عنه- يشير إلى قصة مؤمن آل فرعون التى وردت في قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (¬1)، ومؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه، وإنما أمكنه أن يقول هذه الكلمات لفرعون؛ لكونه لم يصرح بأنه على دين موسى عليه السلام، وزعم أن المصلحة تقتضى ترك قتل موسى، أو أنه أظهر إيمانه وواجه فرعون بذلك معتمدًا على قرابته له ولو كان إسرائيليًا لقتله، وهو ما رجحه الطبري (¬2)، ولا شك أن إظهاره لإيمانه كان متأخرًا خلافًا لحال الصديق -رضي اللَّه عنه-. ويشهد لجواز إظهار الإيمان وشعائره حال الاستضعاف قصة إسلام أبي ذر -رضي اللَّه عنه- بعدما دخل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: (اعْرِضْ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ فَعرَضَه، فَأَسْلَمْتُ مَكَانِي، فقال لي: يا أبا ذر، اكْتُمْ هذا الأمر، وَارْجعْ إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأَقْبِل، فقلت: والذي بعثك بالحق لَأَصْرُخَنَّ بها بين أَظْهُرِهِمْ، فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصَّابِىءِ، فقاموا فَضُرِبْتُ لِأَمُوتَ، فَأَدْرَكَنِى العباس فَأَكَبَّ عَلَيَّ، ثم أَقبَلَ عليهم فقال: وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رجلًا من غِفَار! وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَار فَأَقلَعُوا عَنِّي، فلما أن أَصْبَحْتُ الْغَدَ رَجَعْتُ، فقلت: مثل ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصَّابِىءِ، فَصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالْأَمْسِ، وَأَدْرَكَنِى العباس، فَأَكَبَّ عَلَيَّ، وقال مِثلَ مَقَالَتِهِ بِالْأَمْسِ، قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر -رضي اللَّه عنه-) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآية [28]. (¬2) انظر: مفاتيح الغيب، 27/ 53، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن، 24/ 58. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب قصة زمزم، رقم: 3328.

قال ابن حجر رحمه اللَّه معلقًا على هذه القصة: "وكأنه فهم أن أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له بالكتمان ليس على الإيجاب، بل على سبيل الشفقة عليه، فأعلمه أن به قوة على ذلك، ولهذا أقره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على ذلك، ويؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله، وإن كان السكوت جائزًا، والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والمقاصد، وبحسب ذلك يترتب وجود الأجر وعدمه" (¬1). يتبين مما مضى أن إظهار الشعائر حال الاستضعاف يرتبط بأمور منها: 1 - قوة إيمان الشخص وقدرته على الصبر، وتحمل تبعات إظهاره للشعائر. 2 - وجود الأعوان أو الحماية سواءً أكانت من مسلم أو كافر. 3 - أن يكون في الإظهار إعزاز لدين اللَّه. قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "وقد تكون الغربة في بعض شرائعه، وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة، ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير به غريبًا بينهم، لا يعرفه منهم إلا الواحد بعد الواحد، ومع هذا فطوبى لمن تمسك بتلك الشريعة كما أمر اللَّه ورسوله، فإن إظهاره والأمر به والإنكار على من خالفه هو بحسب القوة والأعوان" (¬2)، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) فتح الباري، 7/ 175. (¬2) الفتاوى، 18/ 298. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم: 49.

المطلب الرابع متى يجب كتمان الإسلام وشعائره؟

المطلب الرابع متى يجب كتمان الإسلام وشعائره؟ يمكن القول بوجوب كتمان الإسلام وشعائره فى الحالات التالية: 1 - وقوع الضرر على جماعة من المسلمين بسبب إظهار الفرد للشعائر، فيجب عليه حينئذ إخفاء الشعائر؛ لأن مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد، إلا أن يكون في إظهاره تشجيع لهم وتجرؤ على الحق، وإعزاز لدين اللَّه، وأن يغلب على الظن عدم إلحاق العذاب والقتل والضرر بالمسلمين نتيجة لذلك الإظهار. 2 - تحقق مصلحة للمسلمين، ودل على هذا أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للعباس -رضي اللَّه عنه- بالبقاء بمكة بعد إسلامه لما في ذلك من مصلحة للمسلمين (¬1). كما دل عليه قصة نعيم بن مسعود -رضي اللَّه عنه- (¬2) الذي أسلم في الخندق وخذل الأحزاب عن المسلمين إذ لم يكونوا يعلمون بإسلامه، قال -رضي اللَّه عنه-: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الخندق: (خذل عنا، فإن الحرب خدعة) (¬3). ¬

_ (¬1) قال ابن حجر رحمه اللَّه: "وهو مبنى على أن إسلام العباس كان بعد وقعة بدر، وقد اختلف في ذلك فقيل أسلم قبل الهجرة وأقام بأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له في ذلك لمصلحة المسلمين، روى ذلك ابن سعد من حديث ابن عباس وفي إسناده الْكَلْبِيّ وهو مَتْرُوك، وَيَرُدّهُ أن العباس أُسِرَ ببدر وقد فَدَى نفسه كما سيأتي في المغازي، واضحًا وَيَرُدّهُ أيضًا أن الآية التي في قصة المستضعفين نزلت بعد بدر بلا خلاف، فالمشهور أنه أسلم قبل فتح خيبر، ويدُل عليه حديث أنس في قصة الحَجَّاج بْن عِلَاط كما أخرجه أحمد والنسائى، وروى ابن سعد من حديث ابن عباس أنه هاجر إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخيبر ورده بقصة الحجاج المذكور، والصحيح أنه هاجر عام الفتح في أول السنة وَقَدِمَ مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فشهد الفتح واللَّه أعلم"، فتح الباري، 3/ 220. (¬2) نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي هاجر إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الخندق، وهو الذي خذل المشركين وبني قريظة حتى صرف اللَّه المشركين بعد أن أرسل عليهم ريحًا وجنودًا لم يروها، أرسله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ابن ذي اللحية، سكن المدينة ومات في خلافة عثمان -رضي اللَّه عنه-، وروى عنه ابنه سلمة، انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 4/ 1508 - 1509، وتهذيب الكمال، يوسف بن الزكي المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة: بيروت، ط 1، 1400 هـ، 29/ 491. (¬3) تهذيب الآثار، مسند علي، 3/ 130، والسيرة النبوية لابن هشام، 4/ 188.

المطلب الخامس كتمان الجماعة للإسلام وإخفاء شعائره

قال ابن تيمية رحمه اللَّه في معرض حديثه عن مخالفة الكفار: "المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه، كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شُرع ذلك، ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر؛ لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، فأما في دار الإسلام والهجرة التي أعز اللَّه فيها دينه وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شُرعت المخالفة، وإذا ظهرت الموافقة والمخالفة لهم باختلاف الزمان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا" (¬1)، وقال أيضا: "وبالجملة لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها بل الوجوب بحسب الإمكان، وكذلك ما لم يعلم حكمه" (¬2). * * * المطلب الخامس كتمان الجماعة للإسلام وإخفاء شعائره سبق بيان أهمية إظهار الإسلام وأنه الأصل، وكذلك الشعائر لمكانتها ومنزلتها، وإن كان هذا الأمر في حق الأفراد، فإنه في حق الجماعة أولى، وفي حق الدولة الإسلامية أشد طلبًا، إلا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة -رضي اللَّه عنهم- عندما كانوا بمكة لم يكن بمقدورهم في بداية تلك المرحلة إظهار الإيمان أو الشعائر، وقد وردت أحاديث كثيرة تظهر حال المسلمين في تلك المرحلة وطريقة تعاملهم معها، ومن تلك الأحاديث: ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط، 1/ 176 - 177. (¬2) الفتاوى، 19/ 225.

قول سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصِ -رضي اللَّه عنه-: (ما أَسْلَمَ أَحَدٌ إلا فِي اليوم الذي أَسْلَمْتُ فِيهِ وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامِ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإسلام) (¬1). وعن عمرو بن عبسة السلمي، -رضي اللَّه عنه- (¬2) قال: قلت يا رسول اللَّه: من معك على هذا الأمر؟ قال: (حر، وعبد)، ومعه أَبو بكر، وبلال، ثم قال له: (ارجع إلى قومك حتى يمكن اللَّه عز وجل لرسوله)، قال: وكان عمرو بن عبسة يقول: (لقد رأيتني وأني لربع الإسلام) (¬3). عن عفيّف بن عمرو -رضي اللَّه عنه- (¬4) قال: (كنت امرءًا تاجرًا، وكنت صديقًا للعباس بن عبد المطلب في الجاهلية، فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى، فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي، ثم جاءت امرأة فقامت تصلي، ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي، فقلت للعباس: من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد اللَّه ابن عبد المطلب ابن أخي يزعم أنه نبي، ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة، وهذا الغلام، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه، رقم: 3645. (¬2) عمرو بن عبسة بن خالد بن عامر بن غاضرة بن خفاف بن امرىء القيس، كان قد اعتزل عبادة الأوثان قبل أن يسلم، وسمع عن مبعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من رجل من أهل الكتاب فبقي يتحين ويسأل عن خبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلما خرج جاءه فأسلم ثم أمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يرجع إلى بلاده فأقام بها إلى أن هاجر بعد خيبر وقبل الفتح فشهدها، ثم سكن الشام، ومات بحمص في أواخر خلافة عثمان، انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 658 - 660. (¬3) أخرجه الإمام أحمد، 4/ 114، رقم: 17069. (¬4) صحاب جليل واسمه عُفَيّف بن قيس بن معد يكرب الكندي بن عم الأشعث بن قيس وأخوه لأمه، واسمه شرحبيل وعفيف لقب له، انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 515 - 516، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 3/ 1241 - 1243.

وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته، وهذا الغلام ابن عمه: علي بن أبي طالب، قال عفيف الكندي -وأسلم وحسن إسلامه-: لوددت أني كنت أسلمت يومئذ، فيكون لي ربع الإسلام) (¬1). ومثل هذه الأقوال من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- إنما قالوها بحسب اطلاعهم؛ وذلك أن من كان أسلم في ابتداء الأمر كان يخفي إسلامه (¬2)، ولا شك أن في هذا دلالة واضحة على جواز كتمان الإيمان، وإخفاء الشعائر التي كانت في ذلك الحين كالصلاة مثلًا. كما ورد في قصة موسى عليه السلام مع فرعون أن اللَّه عز وجل أوحى إليه باتخاذ البيوت قبلة وإخفاء الصلاة خوفًا عليهم من بطش فرعون وملئه، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3)، عن مجاهد قال: "كانوا لا يصلون إلا في البِيعَ، فقيل لهم صلوا في بيوتكم من مخافة فرعون" (¬4)، قال ابن كثير رحمه اللَّه: "وكأن هذا واللَّه أعلم لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم أمروا بكثرة الصلاة" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك، 3/ 201، رقم: 4842، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وله شاهد معتبر من أولاد عفيف بن عمرو"، وقال ابن عبد البر كما في الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 516: "هذا حديث حسن جدًا". (¬2) انظر: فتح الباري، 7/ 84. (¬3) سورة يونس، الآية [87]. (¬4) سنن سعيد بن منصور، 5/ 329، رقم: 1072، وهذا القول مروي عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 11/ 153، ومعالم التنزيل، 2/ 365، والجامع لأحكام القرآن، 8/ 371، والدر المنثور، 4/ 383. (¬5) تفسير القرآن العظيم، 2/ 429.

ويحسن التنبيه إلى أن إخفاء الشعائر لا يكون مقتصرًا على دار الحرب بل قد يكون في دار الإسلام إذا انتشرت البدعة وصار لها السلطان، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "ليس مذهب السلف مما يتستر به إلا في بلاد أهل البدع، مثل: بلاد الرافضة والخوارج، فإن المؤمن المستضعف هناك قد يكتم إيمانه، واستنانه كما كتم مؤمن آل فرعون إيمانه، وكما كان كثير من المؤمنين يكتم إيمانه حين كانوا في دار الحرب" (¬1). ونخلص من هذا إلى جواز إخفاء الشعائر للفرد وللجماعة، ويشترط لهذا أمور: 1 - تحقق الاستضعاف. 2 - تعلق الاستضعاف بالشعائر التي تخفى، بمعنى أن تكون تلك الشعائر سببًا في وقوع الاستضعاف حال إظهارها. 3 - الاقتصار على قدر الضرورة والحاجة، بإظهار ما لا يضر إظهاره من الشعائر، فالمقدور لا يسقط بالمعذور. 4 - إقامة الشعائر في السر طالما تعذر إقامتها في العلن ما أمكن ذلك. 5 - إظهار الشعائر فور زوال المانع أو وجود القوة أو الأعوان، ويشهد لهذا عمل الصحابة في المرحلة المكية بعد إسلام عمر، قال عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-: (واللَّه ما استطعنا أن نصلي عند الكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر) (¬2). قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين، بشرط التمكن من العلم بما أنزل اللَّه، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه ¬

_ (¬1) الفتاوى، 4/ 149. (¬2) المستدرك على الصحيحين، باب من مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، رقم: 4487، 3/ 90، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعلق الذهبي في التلخيص: صحيح.

كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلًا، وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئًا فشيئًا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئًا فشيئًا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال إذا أردت أن تُطاع فأمر بما يُستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يُمكن حين دخوله أن يُلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم والمسترشد لا يُمكن في أول الأمر أن يُؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبًا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبًا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط فتدبر هذا الأصل فإنه نافع، ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وان كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة اللَّه في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وأن كان واجبًا في الأصل واللَّه أعلم" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) الفتاوى، 20/ 59 - 62.

المبحث الثانى استخدام المستضعف للحيلة ونحوها

المبحث الثانى استخدام المستضعف للحيلة ونحوها وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول تعريف الحيلة وأنواعها وفيه ثلاثة فروع: الفرع الأول: تعريف الحيلة في اللغة: مشتقة من الْحَوْلِ، وهو التَّحَوُّلُ من حَالٍ إلَى حَالٍ بِنَوْعِ تَدْبِيرٍ وَلُطْفٍ يُحِيلُ به الشيء عن ظاهره، والحيلة والاحتيال والتحيل تعني الحذق، وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف (¬1). الفرع الثانى تعريف الحيلة اصطلاحًا: " الطرق الخفية إلى حصول الغرض، وبحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فإن كان المقصود أمرًا حسنًا كانت حيلة حسنة، وإن كان قبيحًا كانت قبيحة" (¬2). كما عرفت بأنها: "تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع" (¬3). والتعريف الأول أجمع لاشتماله على الحيل المشروعة والحيل المحرمة. الفرع الثالث: أنواع الحيلة: يتضح من تعريف الحيلة أنها تنقسم إلى نوعين: حيلة مشروعة محمودة، وحيلة محرمة مذمومة، وكل نوع يندرج تحته أقسام. ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، مادة: حول، ومختار الصحاح، مادة: حيل. (¬2) الفتاوى الكبرى، 3/ 191. (¬3) الموافقات، 4/ 201.

قال ابن القيم رحمه اللَّه: "فالحيلة والمكر والخديعة تنقسم إلى محمود، ومذموم، فالحيل المحرمة منها ما هو كفر، ومنها ما هو كبيرة، ومنها ما هو صغيرة، وغير المحرمة منها ما هو مكروه، ومنها ما هو جائز، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو واجب" (¬1). قال الشاطبي رحمه اللَّه: "فالحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها، ما هدم أصلًا شرعيًا وناقض مصلحة شرعية، فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلًا شرعيًا ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها، فغير داخلة في النهي ولا هي باطلة" (¬2). قال ابن تيمية رحمه اللَّه عن الحيلة المحرمة: "أن يقصد سقوط الواجب، أو حل الحرام بفعل لم يقصد به ما جعل ذلك الفعل له، أو ما شرع، فهو يريد تغيير الأحكام الشرعية بأسباب لم يقصد بها ما جعلت تلك الأسباب له، وهو يفعل تلك الأسباب؛ لأجل ما هو تابع لها، لا لأجل ما هو المتبوع المقصود بها، بل يفعل السبب لما ينافي قصده من حكم السبب، فيصير بمنزلة من طلب ثمرة الفعل الشرعي ونتيجته، وهو لم يأت بقوامه وحقيقته، فهذا خداع واستهزاء بآيات اللَّه وتلاعب بحدود اللَّه، وقد دل على تحريمه الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح وعامة دعائم الإيمان ومباني الإسلام ودلائل ذلك لا تكاد تنضبط" (¬3). وليس المراد هنا بحث مسألة الحيلة المحرمة والمذمومة والتي تطرق لها الفقهاء في كثير من أبواب الفقهاء، بل المراد هنا بحث الحيلة المشروعة والمحمودة التي يجوز للمستضعف استعمالها. ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، 3/ 242. (¬2) الموافقات، 2/ 387. (¬3) الفتاوى الكبرى، 3/ 109.

المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الحيلة للمستضعف

المطلب الثاني الأدلة على مشروعية الحيلة للمستضعف لقد حث اللَّه عز وجل المستضعفين على الاحتيال للخلاص من الكفار والهجرة إلى المسلمين، وعذر من لم يكن لديه القدرة على ذلك، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (¬1)، والآية نص في جواز الحيلة للمستضعفين. قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "فَلَوْ احْتَالَ الْمُؤْمِنُ المُسْتَضْعَفُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ بَيْنِ الْكُفَّارِ لَكَانَ مَحْمُودًا فِي ذَلِكَ وَلَوْ احْتَالَ مُسْلِمٌ عَلَى هَزِيمَةِ الْكَافِرِ، كَمَا فَعَلَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، أَوْ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ مِنْهُمْ، كَمَا فَعَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ علاطة وَعَلَى قَتْلِ عَدُوٍّ للَّه وَلِرَسُولِهِ كَمَا فَعَلَ النَّفَرُ الَّذِينَ احْتَالُوا عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ الْيَهُودِيِّ وَعَلَى قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَكَانَ مَحْمُودًا" (¬2). * * * المطلب الثالث ما يلحق بالحيلة المشروعة ذكر العلماء أمثلة على الحيل المشروعة وما يلحق بها، ومن ذلك ما يلي: الفرع الأول: المعاريض: وهي في اللغة من التورية بالشيء عن الشيء، وأصله الستر، يقال: عرفته في معراض كلامه، وفي لحن كلامه، وفحوى كلامه، والتعريض خلاف التصريح (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآيتان [97 - 98]. (¬2) الفتاوى الكبرى، 3/ 190، وانظر: إعلام الموقعين، 3/ 240. (¬3) انظر: لسان العرب، والمصباح المنير، مادة: عرض.

والمعنى الاصطلاحي لا يخرج عن المعنى اللغوي، قال ابن القيم رحمه اللَّه: "المعاريض وهي: أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحًا ويوهم غيره أنه يقصد به معنى آخر" (¬1)، وعرفت بأنها: " إضمار أمر وراء ما دل الظاهر عليه إما بزيادة أو نقصان أو تقييد مطلق أو تخصيص عام مع أنه لا ينبه السامع على أنه نوى ذلك لأنه لو نبهه عليه لما حصل المقصود" (¬2). وقد اعتبرها ابن تيمية وابن القيم -رحمهما اللَّه- نوعًا من الحيل في الخطاب (¬3)، وصرح ابن القيم أن معاريض الفعل هى الحيل، وذهب الحافظ ابن حجر إلى أن المعاريض بالفعل أولى بالجواز (¬4). ودليل مشروعيتها ما ورد عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- إنه قال: (ما في المعاريض ما يغني الرجل عن الكذب) (¬5)، وفي رواية: (إن في المعاريض ما يكف، أو يعف الرجل ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين، 3/ 234، وبقية كلامه: "فيكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ مشتركًا بين حقيقتين لغويتين أو عرفيتين أو شرعيتين أو لغوية مع إحداهما أو عرفية مع إحداهما أو شرعية مع أحداهما فيعنى أحد معنييه ويوهم السامع له أنه إنا عنى الآخر، إما لكونه لم يعرف إلا ذلك، وإما لكون دلالة الحال تقتضيه، وإما لقرينة حالية، أو مقالية يضمها إلى اللفظ، أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرًا في معنى، فيعنى به معنى يحتمله باطنًا، بأن ينوى مجاز اللفظ دون حقيقته، أو ينوي بالعام الخاص أو بالمطلق المقيد، أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته لعرف خاص به، أو غفلة منه أو جهل أو غير ذلك من الأسباب، مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته"، وانظر: الفتاوى الكبرى، 3/ 205. (¬2) المحصول، 1/ 179. (¬3) انظر: الفتاوى الكبرى، 3/ 205، وإعلام الموقعين، 3/ 190. (¬4) انظر: فتح الباري، 3/ 470. (¬5) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، باب المعاريض فيها مندوحة عن الكذب، رقم: 20630، 10/ 199.

عن الكذب) (¬1). وقد بوب البخاري "باب المَعارِيضُ مَنْدُوحَةٌ عَنِ الكَذِبِ" (¬2)، أي: سعة وفسحة، من الندح وهو الأرض الواسعة، يقال: ندحت الشيء إذا وسعته، وإنك لفي ندحة ومندوحة من كذا أي سعة، يعني أن في التعريض بالقول من الاتساع ما يغني الرجل عن تعمد الكذب (¬3)، "وفي ذلك طريقان أحدهما أن يتكلم بكلمة ويريد بها غير ما وضعت له الكلمة من حيث الظاهر إلا أن ما أراده يكون من محتملات لفظه الطريق الثاني أن يقيد الكلام بلعل وعسى وذلك بمنزلة الاستثناء يخرج الكلام به من أن يكون عزيمة" (¬4). كما دل على جواز المعاريض، ما رواه أَبو هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لم يَكْذِبْ إبراهيم النَّبِيُّ عليه السلام قَطُّ إلا ثلاث كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ (¬5) قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} (¬6)، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (¬7)، وواحدة في شأن سارة، فإنه قَدِمَ أرض جَبَّارٍ ومعه سارة وكانت أَحْسَنَ الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم إنك امراتي يَغْلِبْنِى عليك، فإن سَألَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبى شيبة في المصنف، 5/ 282، رقم: 26095. (¬2) قال ابن حجر رحمه اللَّه في تغليق التعليق، 5/ 118: "هذا طرف من حديث أسنده المؤلف في الجنائز من حديث ابن عيينة عن إسحاق". (¬3) انظر: النهاية في غريب الأثر، 5/ 34، وفيض القدير، 2/ 472. (¬4) الفتاوى الهندية، لجنة علماء برئاسة نظام الدين البلخي، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1411 هـ، 6/ 436. (¬5) "خصهما بذلك؛ لأن قصة سارة وإن كانت أيضًا في ذات اللَّه، لكن تضمنت حظا لنفسه ونفعا له"، فتح الباري، 6/ 392. (¬6) سورة الصافات، الآية [89]. (¬7) سورة الأنبياء، الآية [63].

مسلما غَيْرِي وَغَيْرَكِ، فلما دخل أرضه رَآهَا بعض أهل الجبار أتاهُ، فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها فأتى بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يَتَمَالَكْ أن بَسَطَ يَدَهُ إليها، فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً، فقال لها: ادْعِي اللَّه أن يُطْلِقَ يَدِي ولا أَضُرُّكِ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنْ الْقَبْضَةِ الْأُولَى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقبضت أشد من الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَبْنِ، فقال: ادْعِي اللَّه أن يطلق يُطْلِقَ فلك اللَّه أن لا أَضُرَّكِ، ففعلت، وأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، ولم تَأْتِني بإنسان، فَأَخْرِجْهَا من أرضي وَأَعْطِهَا هاجر، قال: فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم عليه السلام انْصَرَفَ، فقال لها: مَهْيَمْ، قالت: خَيْرًا كَفَّ اللَّه يَدَ الْفَاجِرِ وَأَخْدَمَ خَادِمًا، قال أَبو هريرة: فتلك أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ) (¬1). ومن فوائد الحديث: "مشروعية أخوة الإسلام، وإباحة المعاريض، والرخصة في الانقياد للظالم والغاصب، وقبول صلة الملك الظالم، وقبول هدية المشرك، وإجابة الدعاء بإخلاص النية، وكفاية الرب لمن أخلص في الدعاء بعمله الصالح" (¬2)، قال النووي رحمه اللَّه: "وهذا كذب جائز بل واجب؛ لكونه في دفع الظالم فنبه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على أن هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم" (¬3). وحكمها للمستضعف أنها جائزة عند الحاجة، أما لغيره فالضابط أن كل ما وجب بيانه حرم التعريض فيه؛ لكونه كتمان للحق وتدليس كالإقرار والشهادة والعقود ووصفها والفتوى والقضاء ونحوه، وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز، بل واجب بالنسبة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [لنساء: 125]، رقم: 3179، ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام، رقم: 2371. (¬2) فتح الباري، 6/ 394. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم، 15/ 124.

للمستضعف حتى وإن كان التعريض في اليمين (¬1)، قال ابن حجر رحمه اللَّه: "ومحل الجواز فيما يخلص من الظلم، أو يحصل الحق، وأما استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحق أو تحصيل الباطل فلا يجوز" (¬2)، وقال أيضًا: "ومشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها، وشرط جوازها أن لا تبطل حقا لمسلم" (¬3). ولذا حذر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من استعمال المعاريض ونحوها من غير حاجة أو ضرورة بل وعدها من الخيانة، فقال عليه الصلاة والسلام: (كَبُرَتْ خِيَانَةً أن تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ) (¬4)؛ وسبب اعتباره خيانة "لأنه ائتمنك فيما تحدثه به، فإذا كذبته فقد خنت أمانته، وخنت أمانة الإيمان، فيما أوجب من نصيحة الإخوان" (¬5). ومتى ما أمكن المستضعف التخلص من الظلم أو العذاب بالمعاريض فهو أولى من الكذب، فإن لم يقدر أو لم يعرف جاز له صريح الكذب (¬6)، قال ابن حجر رحمه اللَّه: "اتفقوا -أي العلماء- على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم واللَّه أعلم" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: الفتاوى الكبرى، 3/ 206. (¬2) فتح الباري، 10/ 595. (¬3) المرجع السابق، 3/ 171، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 14/ 124. (¬4) أخرجه أَبو داود، كتاب الأدب، باب في المعاريض، رقم: 4971، وأحمد في المسند، 4/ 183، رقم: 17672، قال في مجمع الزوائد، 1/ 142: "رواه أحمد عن شيخه عمر بن هرون، وقد وثقه قتيبة وغيره، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات". (¬5) التيسير بشرح الجامع الصغير، 2/ 205. (¬6) انظر: الفروع، 6/ 486. (¬7) فتح الباري، 5/ 300.

الفرع الثانى: الكيد

قال النووي رحمه اللَّه: "ومتى ما أمكن التخلص منهم بالمعاريض أو التورية فهو الأولى وإلا فالكذب جائز، إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب؛ فإنه لا يحل هذا كلامه، والظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب لكن الاقتصار على التعريض أفضل واللَّه أعلم" (¬1). الفرع الثانى: الكيد: وهو في اللغة: معالجة لشيء بشدة، وفسر بالمكر، والكيد الاحتيال والاجتهاد وبه سميت الحرب كيدا، وأما المكر فهو الاحتيال في خفية (¬2). والمعنى الاصطلاحي: لا يخرج عن معناه في اللغة. وحكمه يختلف بحسب المقصود منه، "فيكون من الكيد ما هو مشروع، لكن لا يجوز أن يُراد به الكيد الذي تستحل به المحرمات، أو تسقط به الواجبات" (¬3)، "فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان: قبيح وهو: إيصال ذلك لمن لا يستحقه، وحسن وهو: إيصاله إلى مستحقه عقوبة له، فالأول مذموم والثاني ممدوح" (¬4)، فـ"الكيد الذي شرعه اللَّه للمظلوم أن يكيد به ظالمه ويخدعه به، إما للتوصل إلى أخذ حقه منه، أو عقوبة له، أو لكف شره وعدوانه عنه" (¬5)، وعده ابن القيم من المعاريض الفعلية. ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 12/ 45. (¬2) انظر: لسان العرب، مادة: كيد، ومكر. (¬3) الفتاوى الكبرى، 3/ 217. (¬4) إعلام الموقعين، 3/ 218. (¬5) المرجع السابق، 3/ 239.

الفرع الثالث: التورية

ودليل المشروعية ما رواه أَبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: (أن رجلا أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فشكا إليه جاره، فقال: يا رسول اللَّه إن جاري يؤذيني، فقال: (أخرج متاعك فضعه على الطريق)، فأخرج متاعه فوضعه على الطريق، فجعل كل من مر عليه قال ما شأنك؟ قال: إني شكوت جاري إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأمرني أن أخرج متاعي فأضعه على الطريق، فجعلوا يقولون: اللهم العنه، اللهم اخزه، قال فبلغ ذلك الرجل، فأتاه فقال: ارجع فواللَّه لا أؤذيك أبدا) (¬1). الفرع الثالث: التورية: وهي في اللغة من الستر، أو الشيء الخفي، والمراد أن تطلق لفظا ظاهرا في معنى وتريد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ لكنه خلاف ظاهره (¬2)، ومعناها الاصطلاحي لا يخرج عن المعنى اللغوي (¬3). والفرق بينها وبين التعريض: "أن فائدة التورية تُراد من اللفظ، فهي أخص من التعريض، الذي قد يفهم المراد منه من السياق والقرائن، أو اللفظ، فهو أعم" (¬4). ودليل مشروعية التورية ما روي بأن (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةَ يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا) (¬5). ¬

_ (¬1) الحاكم في المستدرك، 4/ 183، رقم: 7302، وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وله شاهد آخر صحيح على شرط مسلم"، قال مجمع الزوائد، 8/ 170: "وفيه أَبو عمر المنبهي، تفرد عنه شريك، وبقية رجاله ثقات". (¬2) انظر: لسان العرب، والمصباح المنير، مادة: ورى. (¬3) جاء في الثمر الداني شرح رسالة القيرواني، صالح عبد السميع الأزهري، المكتبة الثقافية: بيروت، ط 1، د. ت، 1/ 464: "التورية: لفظ له معنيان قريب وبعيد ويريد البعيد". (¬4) الموسوعة الفقهية الكويتية، 12/ 249. (¬5) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، بَاب من أرَادَ غَزْوَةً فَوَرَّى بِغَيْرِهَا وَمَنْ أَحَبَّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، رقم: 2788، ومسلم، كتاب التوبة، بَاب حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ، رقم: 2769.

الفرع الرابع: النطق بكلمة الكفر

وحكمها الجواز للمستضعف، ولذا نص الفقهاء على أنها لا تجوز إلا لمظلوم (¬1)، وأنها تجب إن كان المسلم يريد أن يخلص نفسه من القتل (¬2)، أو أن يحفظ مالًا أو وديعة عنده، فإن لم يعرف التورية أو لم يتمكن منها حلف باللَّه (¬3)، قال ابن قدامة رحمه اللَّه: "وإذا حلف فتأول في يمينه فله تأويله إذا كان مظلوما، وإن كان ظالما لم ينفعه تأويله" (¬4). الفرع الرابع: النطق بكلمة الكفر: وفيه ست مسائل: المسألة الأولى: شروط النطق بكلمة الكفر: إن النطق بكلمة الكفر نوع من أنواع الحيل التي تجوز للمستضعف وفق شروط محددة، قال الشاطبي رحمه اللَّه: "واعتبر جواز النطق بكلمة الكفر عند الإكراه من الحيل التي لا خلاف في جوازها" (¬5)، وقد ذكرها العز بن عبد السلام رحمه اللَّه من الأمثلة على الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحهما على مفاسدهما؛ وذلك "لأن حفظ المهج والأرواح أكمل مصلحة من مفسدة التلفظ بكلمة لا يعتقدها الجنان" (¬6). وقد أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، فكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، أنه لا يحكم عليه بالكفر (¬7)، ودل على هذا قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ ¬

_ (¬1) انظر: الإنصاف، 11/ 253. (¬2) انظر: المبدع، 10/ 221. (¬3) انظر: إعانة الطالبين، 3/ 245. (¬4) المغني، 9/ 420 - 421، ودل على هذا قوله علبه الصلاة والسلام: (الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَخلِفِ)، أخرجه مسلم، كتاب الأيمان، باب يَمِينِ الْحَالِفِ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَخْلِفِ، رقم: 4374. (¬5) الموافقات، 2/ 387 - 388. (¬6) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 84. (¬7) انظر: فتح الباري، 12/ 314.

غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1)، والآية تضمنت شرط الجواز وهو تحقق الإكراه، واطمئنان القلب بالإيمان. وسبب نزولها أن المشركين أخذوا عمار بن ياس فلم يتركوه حتى سب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما وراءك؟ " قال: شر يا رسول اللَّه، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال: "كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئنا بالإيمان، قال: (إن عادوا فعد) (¬2). وورد أنها نزلت في "ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينة: أن هاجروا، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة، فأدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم وكفروا مكرهين) (¬3). والحكمة في جواز إجراء كلمة الكفر على اللسان للمستضعف والمكره، هو حفظ النفس، ولكون حق اللَّه عز وجل لا يفوت معنى؛ لاطمئنان القلب بالإيمان، والعزيمة أولى لما فيها من رعاية حق اللَّه صورة ومعنى، وإظهار الصلابة في الدين وإعزازه (¬4). إلا أنه يشترط في حال إجراء كلمة الكفر باللسان استعمال المعاريض والتورية باللفظ إلى غير معنى الكفر، وإطمئنان القلب بالإيمان بأن ينوي بقلبه خلاف ما يظهر (¬5)، "قال ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية [106]. (¬2) سنن البيهقي الكبرى، 8/ 208، باب المكره على الردة، رقم: 16673، وانظر: مصنف ابن أبي شيبة، 6/ 386، رقم: 32256، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن، 14/ 181. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 14/ 183. (¬4) انظر: التقرير والتحبير، 2/ 196. (¬5) انظر: المبسوط، 24/ 130، أحكام القرآن للجصاص، 3/ 286، وأحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 3/ 161.

المسألة الثانية: هل الأفضل النطق بكلمة الكفر أم الصبر؟

المحققون من العلماء إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض، فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، ومتى لم يكن كذلك كان كافرًا؛ لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها" (¬1)، وهذا إنما يحمل على من كان لديه المعرفة والقدرة على ذلك، وإمكان التورية فقد يكون الأمر مما لا يحتمل التورية، فإن الواقع تحت الإكراه والتهديد والخوف قد يعجز عن التأمل والتروي ويبحث عن النجاة بأقصر طريق (¬2). المسألة الثانية: هل الأفضل النطق بكلمة الكفر أم الصبر؟ إن النطق بكلمة الكفر رخصة، وإن الامتناع عن ذلك عزيمة، والتمسك بالعزيمة أفضل؛ لما فيه من إعزاز الدين وغيظ المشركين (¬3)، قال القرطبي: "أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر فاختار القتل أنه أعظم أجرا عند اللَّه ممن اختار الرخصة" (¬4). قال الشاطبي رحمه اللَّه: "فالصواب الوقوف مع أصل العزيمة إلا في المشقة المخلة الفادحة، فإن الصبر أولى ما لم يؤد ذلك إلى دخل في عقل الإنسان أو دينه، وحقيقة ذلك أن لا يقدر على الصبر؛ لأنه لا يؤمر بالصبر إلا من يطيقه" (¬5). واستدل الفقهاء على أن الأخذ بالعزيمة أفضل بالآيات والأحاديث الواردة في الحث على الصبر والثناء على الصابرين واقتداء بالسلف، ومن تلك الأدلة: قصة أصحاب الأخدود، وسحرة فرعون، وما رواه خَبَّابٌ بن الأرت -رضي اللَّه عنه- قال: شَكَوْنَا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قلنا له: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا، ألا تَدْعُو اللَّه لنا! قال: ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن، 10/ 187. (¬2) انظر: الإكراه وأثره في التصرفات، 116. (¬3) المبسوط، 24/ 151، والمغني، 9/ 31. (¬4) الجامع لأحكام القرآن، 10/ 188. (¬5) الموافقات، 1/ 336.

المسألة الثالثة: هل الأفضل في كل الأحوال عدم النطق بكلمة الكفر؟

(كان الرجل فِيمَنْ قَبْلكُمْ يُحْفَرُ له في الأرض، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّه لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّه، والذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (¬1). المسألة الثالثة: هل الأفضل في كل الأحوال عدم النطق بكلمة الكفر؟ ذهب بعض فقهاء الشافعية إلى أنه: "إن كان ممن يرجو النكاية في العدو، أو القيام بأحكام الشرع، فالأفضل له أن يدفع القتل عن نفسه، ويتلفظ بكلمة الكفر؛ لما في بقائه من صلاح المسلمين، وإن كان لا يرجو ذلك اختار القتل" (¬2). ويشهد لهذا ما وقع في خلافة الفاروق: (عندما وجه عمر -رضي اللَّه عنه- جيشًا إلى الروم وفيهم عبد اللَّه بن حذافة (¬3) فأسروه، فقال له ملك الروم: تنصر أشركك في ملكي، فأبى، فأمر به فصلب، وأمر برميه بالسهام، فلم يجزع، فأُنزل، وأمر بقدر فصب فيها الماء، وأغلى عليه، وأمر بإلقاء أسير فيها، فإذا عظامه تلوح، فأمر بإلقائه إن لم يتنصر، فلما ذهبوا به بكى، قال: ردوه، فقال: لم بكيت؟! قال: تمنيت أن لي مائة نفس تلقى هكذا في اللَّه، فعجب، فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الاسلام، رقم: 3416، وفي رواية بمسند الإمام أحمد، 6/ 395، رقم: 27260: "من المدينة إلى حضرموت". (¬2) المهذب، 2/ 222، وانظر: روضة الطالبين، 9/ 142، والأشباه والنظائر، 1/ 207. (¬3) الصحابي عبد اللَّه بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد القرشى السهمي أَبو حذافة أو أَبو حذيفة، أسلم قديما وكان من المهاجرين الأولين، هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وكانت فيه دعابة معروفة، وهو رسول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بكتابه أول كسرى، وقع في أسر الروم سنة تسع عشرة، وتوفي بمصر، انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 57، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 3/ 888 - 889، والطبقات الكبرى، 4/ 189.

المسألة الرابعة: النطق بكلمة الكفر لمجرد التهديد أو الخوف على المال

قبل رأسي، وأنا اخلي عنك، فقال: وعن جميع أسارى المسلمين، قال: نعم، فقبل رأسه فخلى بينهم، فقدم بهم على عمر، فقام عمر -رضي اللَّه عنه- فقبل رأسه) (¬1). وإن مثل هذا الموقف الشجاع من عبدالله بن حذافة -رضي اللَّه عنه- وإقرار الفاروق -رضي اللَّه عنه- له، بل وتقبيله لرأسه على حسن صنيعه، دليل على تقديم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، وعلى أن الصبر على العذاب والإقدام على الموت ليس هو المطلوب من المستضعفين في كل الأحوال، بل إن الخلاص والاحتيال قد يكون هو القرار الأشجع والأنفع للمسلمين، ولهذا قال العز بن عبد السلام: "التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةِ فِي الْكُفَّارِ، لِأَنَّ التَّغْرِيرَ بِالنُّفُوسِ إِنَّمَا جَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ إعْزَازِ الدِّينِ بِالنِّكَايَةِ فِي المُشْرِكِينَ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ النِّكَايَةُ وَجَبَ الِانْهِزَامُ لِمَا فِي الثُّبُوتِ مِنْ فَوَاتِ النُّفُوسِ مَعَ شِفَاءِ صُدُورِ الْكُفَّار وَإِرْغَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ صَارَ الثُّبُوتُ هَهُنَا مَفْسَدَةً مَحْضَةً لَيْسَ فِي طَيِّهَا مَصْلَحَةٌ" (¬2). المسألة الرابعة: النطق بكلمة الكفر لمجرد التهديد أو الخوف على المال: هل يباح للمستضعف النطق بكلمة الكفر إن تعلق التهديد بماله، مذهب الجمهور عدم اعتبار حفظ المال إكراهًا مبررًا للوقوع في الكفر (¬3)، واستدلوا لهذا بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ ¬

_ (¬1) الإصابة في تمييز الصحابة، 4/ 58. (¬2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 95، وقد أورد هذا المثال ضمن الأمثلة على "الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد من رجحان مصالحهما على مفاسدهما، وهذه المصالح أقسام أحدها: ما يباح، والثاني: ما يجب لعظم مصلحته، والثالث: ما يستحب لزيادة مصلحته على مصلحة المباح، والرابع: مختلف فيه"، 1/ 84. (¬3) انظر: بداية المبتدي، علي بن أبي بكر الفرغاني المرغيناني، مكتبة محمد علي صبح: القاهرة، ط 1، د. ت، 1/ 200، والتاج والإكليل، 4/ 46.

المسألة الخامسة: هل الرخصة في القول أم القول والفعل؟

تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1)، قال الجصاص رحمه اللَّه: "الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر، وأنه لا يكون بمنزلة الخوف على نفسه؛ لأن اللَّه نهى المؤمنبن عن مثل ما فعل حاطب مع خوفه على أهله وماله. . . ويدل على أن الخوف على المال والأهل لا يبيح التقية، أن اللَّه فرض الهجرة على المؤمنين، ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأهلهم" (¬2). ويحسن الإشارة إلى أن النظر في مثل هذه المسائل يكون لأمرين، الأول: الأمر المطلوب من المستضعف، والثاني نتيجة الرفض أو الإذعان، فكلما كان الأمر المطلوب عظيمًا تشدد في إجازته، وإن كان إذعانه أو رفضه سيؤدي إلى نفس النتيجة فإن رفضه هو الأولى، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بتعذيب من ضرب أو قيد، ولا يكون الكلام إكراها" (¬3). المسألة الخامسة: هل الرخصة في القول أم القول والفعل؟ ذهبت طائفة من العلماء كالحسن البصري والأوزاعي وبعض المالكية إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول وأما في الفعل فلا رخصة فيه، والصحيح أن الرخصة جاءت في القول والفعل إذا اطمئن القلب بالإيمان (¬4). ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية [24]. (¬2) أحكام القران للجصاص، 5/ 326. (¬3) الفتاوى الكبرى، 4/ 568. (¬4) انظر: الجامع لأحكام القرآن، 10/ 182.

المسألة السادسة: هل يقاس على جواز النطق بكلمة الكفر ما دونها من الأفعال؟

وفرق بين الفعل المتعلق بالغير كالقتل أو الزنا، وبين كلمة الكفر أو الفعل كالسجود لغير اللَّه أو حرق المصحف -نسأل اللَّه العافية والسلامة- وذلك لأن التلفظ بالكفر أو فعله لا يوجب وقوع مفسدة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان؛ إذ الكفر الذي يوجب المفسدة إنما هو الكفر بالقلب، بخلاف القتل والزنا فإنه يوجب المفسدة، كما أنه متعلق بحقوق الآدميين وأما الكفر فمتعلق بحق اللَّه عز وجل (¬1). المسألة السادسة: هل يقاس على جواز النطق بكلمة الكفر ما دونها من الأفعال؟ قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬2)، "لمَّا سَمَحَ اللَّه تَعَالَى فِي الْكُفْرِ بِهِ، وَهُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ، عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ بِهِ، حَمَلَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ حُكْمٌ عَلَيْهِ" (¬3). ومتى ما أمكن المستضعف أن يحمي نفسه وأن يحفظ ماله بما دون النطق بكلمة الكفر كان لزامًا عليه أن يفعل ذلك، وألا ينطق بكلمة الكفر، فيشهد لهذا الأمر قصة الْحَجَّاجُ ابْنُ عِلَاطٍ -رضي اللَّه عنه- (¬4)، فعن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: (لما افتتح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خيبر قال ¬

_ (¬1) انظر: أسنى المطالب، 4/ 10، والمنثور، 1/ 189، والذخيرة، 10/ 300. (¬2) سورة النحل، الآية [106]. (¬3) أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 3/ 163، وانظر: التاج والإكليل، 6/ 318. (¬4) الحجاج بن علاط -بكسر المهملة وتخفيف اللام- بن خالد بن ثويرة بالمثلثة مصغرا بن هلال السلمي الفهري، يكنى أبا كلاب، كان سبب إسلامه أنه خرج في ركب من قومه لمكة، فلما جن عليه الليل استوحش، فقام يحرس أصحابه، ويقول: أعيذ نفسي وأعيذ صحبي حتى أعود سالمًا وركبي، فسمع قائلًا يقول: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا. .} [الرحمن: 33]، فلما قدم مكة أخبر بذلك قريشًا، فقالوا له: يا أبا كلاب، إن هذا فيما يزعم محمد أنه أنزل عليه، فقدم على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو بخير فأسلم، ثم سكن المدينة واختط بها دارًا ومسجدًا، ثم نزل حمص ومات في أول خلافة عمر. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، 2/ 33 - 34، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1/ 325 - 326.

الحجاج بن علاط: يا رسول اللَّه إن لي بمكة مالًا، وإن لي بها أهلًا، وإني أريد أن آتيهم، فأنا في حِلٍّ إن أنا نِلْتُ منك أو قُلْتُ شيئًا، فأذن له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يقول ما شاء، قال: فأتى امرأته حين قدم، فقال: اجمعي لي ما كان عِنْدَكِ فإني أريد أن اشْتَرِيَ من غَنَائِمِ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه فإنهم قد اسْتُبِيحُوا وَأُصِيبَتْ أموالهم، قال: فَفَشَا ذلك بمكة، فأوجع المسلمين، وأظهر المشركون فرحًا وسرورًا، وبلغ الخبر العباس بن المطلب فَعَقِرَ في مجلسه وجعل لا يستطيع أن يقوم، وبقية الخبر: فأخذ العباس ابنًا له يقال له قُثَمُ، وكان يشبه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَاسْتَلْقَى فَوَضَعَهُ على صدره وهو يقول: حبي قُثَمْ حبي قُثَمْ شَبِيهَ ذِي الْأَنْفِ الْأَشَمْ ... نبي رب ذِي النَّعَمْ برغم أنف من رغم ثم أرسل غلامًا له إلى الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ، فقال: ويلك ما جئت به وماذا تقول؟ فما وعد اللَّه خيرًا مما جئت به، قال الحجاج لغلامه: أقرء أبا الفضل السلام وقل له: فَلْيَخْلُ لي بعض بيوته لِآتِيَهُ فإن الخبر على ما يَسُرُّهُ، فجاء غلامه فلما بلغ الباب قال: أبشر أبا الفضل، فَوَثَبَ العباس فرحًا حتى قَبَّلَ بين عَيْنَيْهِ، فأخبره ما قال الحجاج فَأَعْتَقَهُ ثم جاء الحجاج فأخبره أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد افتتح خيبر وغنم أموالهم وَجَرَتْ سِهَامُ اللَّه) (¬1)، وقد كان الحجاج -رضي اللَّه عنه- بحاجة لمبرر لإخراج ماله من مكة دون أن يثير الريبة، لا سيما وأن قريشًا ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 3/ 138، رقم: 12432، وابن حبان في صحيحه، 10/ 390 - 391، ذكر ما يستحب للإمام بذل عرضه لرعيته إذا كان في ذلك صلاح أحوالهم في الدين والدنيا، رقم: 4530، وسنن البيهقي الكبرى، 9/ 150، رقم: 18235، ومصنف عبد الرزاق، 5/ 466، رقم: 9771، والمعجم الكبير، 3/ 220، رقم: 3196، ومسند أبي يعلى، أحمد بن علي الموصلي التميمي، تحقيق: حسين أسد، دار المأمون للتراث: دمشق، ط 1، 1404 هـ، 6/ 194، رقم: 3479، قال مجمع الزوائد، 6/ 155، قال: "ورجاله رجال الصحيح"، وقال، 8/ 159: "إسناده جيد".

منعت غيره من الصحابة من أن يخرجوا بأنفسهم، ومن سُمح له بالخروج فإنه يخرج دون ماله، ويتم الاستيلاء على جميع أمواله وأملاكه (¬1)، وقد طلب من العباس أن يكتم الخبر ثلاثة أيام بعد خروجه من مكة؛ لكونه يخشى الطلب، فقبل ذلك العباس حتى إذا كان اليوم الثالث: (لبس العباس حلة له وخرج حتى أتى الكعبة فطاف بها، فقالت قريش: يا أبا الفضل هذا واللَّه التجلد لحر المصيبة، قال: كلا، واللَّه الذي حلفتم به، لقد افتتح محمد خيبر، وترك عروسا على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه، قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟! قال: الذي جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلمًا فأخذ ماله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه، قالوا: يا لعباد اللَّه انفلت عدو اللَّه، أما واللَّه لو علمنا لكان لنا وله شأن، قال: ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك) (¬2). قال ابن القيم رحمه اللَّه معلقًا على هذه القصة: "وفيه دليل على أن الكلام إذا لم يرد به قائله معناه إما لعدم قصده له، أو لعدم علمه به، أو أنه أراد به غير معناه، لم يلزمه ما لم يرده بكلامه، وهذا هو دين اللَّه الذي أرسل به رسوله، ولهذا لم يلزم المكره على التكلم بالكفر الكفر، ولم يلزم زائل العقل بجنون أو نوم أو سكر ما تكلم به، ولم يلزم الحجاج بن علاط حكم ما تكلم به؛ لأنه أراد به غير معناه، ولم يعقد قلبه عليه، وقد قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي ¬

_ (¬1) قال ابن سعد رحمه اللَّه: "وقدم الحجاج بن علاط السلمي على قريش بمكة، فأخبرهم أن محمدا قد أسرته يهود وتفرق أصحابه وقتلوا وهم قادمون بهم عليكم، واقتضى الحجاج دينه وخرج سريعًا، فلقيه العباس بن عبد المطلب فأخبره خبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على حقه، وسأله أن يكتم عليه حتى يخرج، ففعل العباس، فلما خرج الحجاج، أعلن بذلك العباس وأظهر السرور وأعتق غلامًا يقال له أَبو زبيبة"، الطبقات الكبرى، 2/ 108. (¬2) السيرة النبوية لابن هشام، 4/ 318 - 319.

أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (¬1)، وفي الآية الأخرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬2)، فالأحكام في الدنيا والآخرة مرتبة على ما كسبه القلب وعقد عليه وأراده من معنى كلامه" (¬3). وإن كانت قصة النجاشي ونُعيم -رضي اللَّه عنهما- تدلان على جواز كتمان الإيمان وشعائره من أجل مصلحة المسلمين، إلا أن قصة الحجاج بن علاط دلت على جواز كتمان الإيمان بل والنيل من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقول مع اطمئنان القلب بالإيمان، لمصلحة حفظ مال فرد من المسلمين، وقد بوب ابن حبان رحمه اللَّه (¬4) لهذا الخبر بقوله: "ما يستحب للإمام بذل عرضه لرعيته، إذا كان في ذلك صلاح أحوالهم في الدين والدنيا"، وأما الإمام النسائي فقد بوب له بقوله: "الرجل يكون له المال عند المشركين فيقول شيئًا يخرج به ماله"، وقصة الحجاج -رضي اللَّه عنه- دلت على جواز كتمان الإيمان وشعائره سواءً من الحجاج أو من العباس -رضي اللَّه عنهما-، وعلى جواز الحيلة، والمدارة، وجواز دخول دار الحرب لمن كان له مصلحة في ذلك بل والإقامة فيها. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، من الآية [89]. (¬2) سورة البقرة، من الآية [225]. (¬3) إعلام الموقعين، 4/ 322. (¬4) محمد بن حبان بن أحمد بن حبان التميمي، أَبو حاتم البستي الشافعي، ويقال له ابن حبان ولد سنة 270 هـ في بست (من بلاد سجستان)، مؤرخ، علامة، جغرافي، محدث، فقيه، لغوي، طبيب، رحل إلى خراسان والشام ومصر والعراق والجزيرة، وتولى قضاء سمرقند مدة، ثم عاد إلى نيسابور، ومنها إلى بلده، حيث توفي في سنة 965 هـ، من مؤلفاته رحمه اللَّه: المسند الصحيح في الحديث، يقال: إنه أصح من سنن ابن ماجه، كان قد جمع مؤلفاته في دار في بلدته (بست) ووقفها ليطالعها الناس، وقرىء عليه أكثرها، انظر: الأعلام، 6/ 78، ومعجم المؤلفين، 9/ 173.

وخلاصة هذا الفرع جواز النطق بكلمة الكفر للمستضعف وذلك بالشروط التالية: 1 - تحقق الاستضعاف والإكراه. 2 - اطمئنان القلب بالإيمان. 3 - استعمال التورية والتأويل والمعاريض ما أمكنه ذلك. إن الأفضل الامتناع عن كلمة الكفر خاصة إن كان في هذا الامتناع إعزاز لدين اللَّه وإغاظة للكفار، إلا من كان يرجو النكاية في العدو، أو القيام بأحكام الشرع، فالأفضل له أن يدفع القتل عن نفسه، ويتلفظ بكلمة الكفر؛ لما في بقائه من صلاح المسلمين. إن حكم الحيل مرتبط بالوسيلة والمقصود منها، ولهذا فـ"إن تحصيل المقاصد بالطرق المشروعة إليها ليس من جنس الحيل، سواء سمي حيلة أو لم يسم، فليس النزاع في مجرد اللفظ، بل الفرق بينهما ثابت من جهة الوسيلة والمقصود الذين هما المحتال به والمحتال عليه" (¬1)، "وبالجملة يجوز للإنسان أن يظهر قولًا وفعلًا مقصوده به مقصود صالح، وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به، إذا كانت فيه مصلحة دينية، مثل: دفع ظلم عن نفسه، أو عن مسلم، أو دفع الكفار عن المسلمين، أو الاحتيال على إبطال حيلة محرمة، أو نحو ذلك، فهذه حيلة جائزة، وإنما الحرم، مثل: أن يقصد بالعقود الشرعية ونحوها غير ما شرعت العقود له، فيصير مخادعا للَّه، كما أن الأول خادع الناس، ومقصوده حصول الشىء الذي حرمه اللَّه، لولا تلك الحيلة، وسقوط الشيء الذي يوجبه اللَّه تعالى، لولا تلك الحيلة، كما أن الأول مقصوده إظهار دين اللَّه ودفع معصية اللَّه" (¬2). ¬

_ (¬1) الفتاوى الكبرى، 3/ 218. (¬2) المرجع السابق، 3/ 192.

يتضح مما تقدم أن الحيل المشروعة هي: ما يتوصل بها إلى الحلال أو إلى الحقوق أو إلى دفع الباطل، ولا تهدم أصلًا شرعيًا، ولا تناقض مصلحة شرعية، وهي مشروعة للمستضعفين، وقد تجب لدفع القتل أو العذاب الشديد والضرر. كما يحسن التنبيه على أن الآيات والأحاديث الواردة في النهي عن موالاة الكفار مطلقًا أو التشبه بهم لا تتعارض مع هذه الحيل المشروعة، وذلك لأن محل تلك الآيات في حال الاختيار والقدرة، أما عند الخوف فيرخص في موالاتهم العملية والقولية لا القلبية بقدر ما يدفع الشر ويحقق المصلحة، ويشترط في هذا كله سلامة الباطن من تلك الموالاة (¬1)، ودل على هذا قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (¬2)، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "كل ما جاء من التشبه بهم إنما كان في صدر الهجرة، ثم نسخ ذلك؛ لأن اليهود إذ ذاك كانوا لا يميزون عن المسلمين لا في شعور ولا في لباس لا بعلامة ولا غيرها، ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- ما شرعه اللَّه من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدى، وسبب ذلك أن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شُرع ذلك. ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر؛ لما عليه فى ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو ¬

_ (¬1) انظر: أضواء البيان، 1/ 413. (¬2) سورة آل عمران، الآية [28].

يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم؛ لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، فأما في دار الإسلام والهجرة التي أعز اللَّه فيها دينه وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهرت الموافقة والمخالفة لهم باختلاف الزمان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا" (¬1)، وكذلك الآيات الواردة في هذا الأمر. * * * ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط، 1/ 176 - 177.

المبحث الثالث استخدام المستضعف للتقية

المبحث الثالث استخدام المستضعف للتَقِيَّة وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول تعريف التَقِيَّةُ (¬1) وفيه فرعان: الفرع الأول: تعريف التَقِيَّةُ فى اللغة: وقى اتَّقى يَتَّقي: اسم مصدر من الاتِّقَاءِ، والوقاية، والوقاء هو كل ما وقيت به شيئًا، وهي أن يقي نفسه من اللائمة أو من العقوبة بما يظهر وإن كان على خلاف ما يضمر (¬2). ¬

_ (¬1) توسع الشيعة في استخدامها وخرجوا بها من حال الضرورة إلى حال الاختيار، فهي عند أهل السنة استثناء يزول بزوال سببه، وأما عند الشيعة سلوك جماعي دائم، وحالة مستمرة وواجب حتى يخرج القائم وهو محمد بن الحسن العسكري من سرداب سامراء - الذي لن يخرج أبدًا، وهي عندهم تكون مع أهل السنة حتى سموا دار الإسلام بدار التقية، وهي ركن من أركان دينهم كالصلاة أو أعظم، وسبب غلوهم في أمرها أن بيعة الخلفاء أَبو بكر وعمر وعثمان -رضي اللَّه عنهم- عندهم باطلة بل وكفروا من بايعهم، فبرروا مبايعة علي -رضي اللَّه عنه- بالتقية، كما ساهم هذا الاعتقاد بعزلهم عن المسلمين، وهي بهذا صارت كذبًا ونفاقًا، انظر: منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة: ط 1، 1406 هـ، 1/ 27، 6/ 424 - 425، وأصول مذاهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، ناصر بن عبد اللَّه القفاري، د. ن، ط 2، 1415 هـ، 2/ 979 - 983، والعزلة والخلطة - أحكام وأحوال، سلمان بن فهد العودة، دون ناشر، ط 1، 1413 هـ، ص 142 - 147. (¬2) انظر: لسان العرب، والمصباح المنير، مادة: وقى.

الفرع الثانى: تعريف التقية اصطلاحا

الفرع الثانى: تعريف التقية اصطلاحًا: فقد عرفها جمع من علماء المسلمين بتعريفات متقاربة منها: "أن يَقِيَ نفسه من العقوبة بما يُظْهِرُهُ، وإن كان يُضْمِرُ خِلَافَهُ، وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول: إنه من النفاق والصحيح أن ذلك جائز" (¬1). وعرفت بأنها: "الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير" (¬2). كما عرفت بأنها: "محافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم. والثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة" (¬3). * * * المطلب الثانى أدلة مشروعية التقية عد بعض العلماء النطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب من التَقِيَّة، واستدلوا بأدلة تلك المسألة على مشروعية التَّقِيَّةِ، ومن الأدلة الأخرى على مشروعية التَّقِيَّةِ للمستضعف عند الضَرُورَة ما يلي: قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (¬4)، قال الطبري رحمه اللَّه: "لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم ¬

_ (¬1) المبسوط للسرخسي، 24/ 45. (¬2) فتح الباري، 12/ 314. (¬3) روح المعاني، 2/ 479. (¬4) سورة آل عمران، الآية [28].

وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلونهم على عوراتهم؛ فإنه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}، يعني بذلك فقد بريء من اللَّه وبرى اللَّه منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل" (¬1)، وقال ابن كثير رحمه اللَّه: "أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته" (¬2). كما دل على مشروعيتها ما ورد أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول اللَّه، قال: نعم، فقال: أتشهد أن محمدًا رسول اللَّه، قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول اللَّه، قال: فأهوى إلى أذنيه، فقال: إني أصم، قال: ما لك! إذا قلت لك: تشهد أني رسول اللَّه، قلت: إني أصم، فأمر به فقتل، وقال للآخر: أتشهد أن محمدًا رسول اللَّه؟ قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول اللَّه؟ قال: نعم، فأرسله، فأتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه، هلكت، قال: "وما شأنك؟ " فأخبروه بقصته وقصة صاحبه، فقال: (أما صاحبك فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخذت بالرخصة) (¬3). * * * ¬

_ (¬1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 3/ 228. (¬2) تفسير القرآن العظيم، 1/ 358. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، 6/ 473، رقم: 33037، قال الزيلعي 2/ 247: "وهو مرسل، ورواه عبد الرزاق في تفسيره، أخبرنا معمر قال سمعت أن مسيلمة الكذاب أحد رجلين فذكر القصة بنحوه وهذا معضل"، تخريج الأحاديث والآثار، عبد اللَّه بن يوسف الزيلعي، تحقيق: عبد اللَّه السعد، دار ابن خزيمة: الرياض، ط 1، 1414 هـ.

المطلب الثالث متى تكون التقية وشروط جوازها

المطلب الثالث متى تكون التَّقِيَّةِ وشروط جوازها إن الاستضعاف والإكراه يكون سببًا من أسباب حصول التَقِيَّة، وأما الفرق بينها وبين النفاق أن المنافق كافر في قلبه، يظهر بلسانه الإيمان ليأمن على نفسه ويحصل على المزايا، وذلك يكون في حال قوة المسلمين، أما التَّقِيَّة فهي اظهار الكفر أو المعصية، مع اطمئنان القلب بالإيمان، وهي تكون في حال ضعف المسلمين (¬1). إذًا التَقِيَّةُ تكون عند الخوف من الكفار حال غلبتهم وقوتهم، ولا تكون حال قوة المسلمين، وكذلك إذا كانت الحالة بين المسلمين مشابهة للحالة مع الكفار جازت التَقِيَّةُ حماية للنفس أو المال، وتكون بالمداراة والتورية والمعاريض بما يُوهم المحبة والموالاة، بشرط أن يضمر خلافه، كما أنه لو أفصح بالإيمان حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل، وهي إنما تجوز فيما لا يرجع ضرره إلى الغير كالقتل وغصب الأموال وشهادة الزور واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز أبدًا (¬2). ويمكن من خلال ما مضى من كلام أهل العلم استنباط شروط جواز التَقِيَّة، وهي: 1. أن التَقِيَّة تكون بعد العجز عن الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، 13/ 187. (¬2) انظر: مفاتيح الغيب، 8/ 12، والجامع لأحكام القرآن، 4/ 57، ومعالم التنزيل، 1/ 292، جاء في التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع: تونس، ط 1، 1997 م، 3/ 80: "ومثل الحالة التي لقيها مسلمو الأندلس حين أكرههم النصارى على الكفر فتظاهروا به إلى أن تمكّنت طوائف منهم من الفرار، وطوائف من استئذان الكفّار في الهجرة إلى بلاد الإسلام، فأذن لهم العدوّ، وكذلك يجب أن تكون التُّقاة غير دائمة؛ لأنّها إذا طالت دخل الكفر في الذراري". (¬3) انظر: روح المعاني، 2/ 479.

2. التَقِيَّةُ تكون بقدر الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها (¬1)، ويجب على المستضعف أن يتقي الكفار بأدنى ما يمكن مما هو خروج عن حدود الشرع، وهذا لا يتعدى اللسان في كثير من الأحوال، وأن وسعه السكوت فلا حاجة للتقية (¬2). 3. يجب على المستضعف أن يسعى بكل الوسائل والحيل للخروج من المكان الذي يعجز فيه عن إظهار إيمانه والفرار بدينه. 4. أن موافقة الكفار رخصة حال الاضطرار، وإظهار الدين وشعائره عزيمة، فلو تلفت نفسه لذلك كان مأجورًا. 5. التَقِيَّةُ تكون باللسان لا بالعمل (¬3). 6. لا تكون التَقِيَّةُ بمعاونة الكافر بالعمل ضد المسلم، ولا بالقتل (¬4). 7. الأصل في التَقِيَّة أنها تكون مع الكفار، "ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين، إلا أن مذهب الشافعي -رضي اللَّه عنه- أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس" (¬5). ¬

_ (¬1) ففي مصنف ابن أبي شيبة، 6/ 474، رقم: 33041، عن أَبو جعفر قال: "التقية لا تحل إلا كما تحل الميتة للمضطر". (¬2) انظر: منهاج السنة النبوية، 6/ 424. (¬3) ففي مصنف ابن أبي شيبة، 6/ 474، رقم: 33043، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال: (التقية إنما هى باللسان ليست باليد). (¬4) ففي مصنف ابن أبى شيبة، 6/ 474، رقم: 33042، عن الحسن البصري قال: "التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة، الا أنه كان لا يجعل في القتل تقية". (¬5) مفاتيح الغيب، 8/ 12.

ولا يلزم من استضعاف المسلم أن يستعمل التقية في كل شؤونه وأحواله بل قد يعيش مع الكفار دون حاجة إلى ذلك، قال ابن تيمية رحمه اللَّه: "فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه، ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه، مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، إما أن يظهر دينه، وإما أن يكتمه، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله، بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون، وامرأة فرعون، وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم، ولا كان يكذب، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل كان يكتم إيمانه، وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر، فهذا لم يبحه اللَّه إلا لمن أكره بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر، واللَّه تعالى قد فرق بين المنافق والمكره. . . بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا في بلاد الكفر، ولا أحد يكرهه على كلمه الكفر ولا يقولها، ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار؛ ليظنوه منهم، وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل يكتم ما في قلبه، وفرق بين الكذب، وبين الكتمان، فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره اللَّه في الإظهار، كمؤمن آل فرعون، وأما الذي يتكلم با لكفر فلا يعذره، إلا إذا أكره، والمنافق الكذاب لا يعذر بحال، ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب، ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه، وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه؛ لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح وإرادة الخير بهم، وإن لم يكن موافقالهم على دينهم، كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر، وكانوا كفارا، وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، ومع هذا كان يعظم موسى" (¬1). ¬

_ (¬1) منهاج السنة النبوية، 6/ 424 - 425.

أما الفرق بين الحيلة والتقية فيظهر لي من خلال تعريف الحيلة وأنواعها أنها تكون بطرق خفية، أما التقية فالأصل فيها أنها لا تكون بطرق خفية، والحيلة لا يتقنها أي شخص بخلاف التقية، كما أن الحيلة تقع بالقول أو العمل، أما التقية فقد لا تقع بالقول أو بالعمل بل يكفي فيها الإضمار وعدم الإظهار، أما المعاريض والكذب والتورية والكيد فهي من وسائل الحيلة وصورها، واللَّه أعلم. * * *

المبحث الرابع استخدام المستضعف للمدارة والمداهنة

المبحث الرابع استخدام المستضعف للمدارة والمداهنة وفيه مطلبان: المطلب الأول تعريف المداراة وحكمها وفيه فرعان الفرع الأول: تعريف المدارة لغة واصطلاحًا: وهي في اللغة: الملاطفة والملاينة، يقال: داريته مداراة ودارأته مدارأة إذا اتقيته ولاينته (¬1). ومعنى المداراة الاصطلاحي: لا يخرج عن المعنى اللغوي، إلا أنهم خصوها ببذل وترك الأمور الدنيوية، قال ابن حجر رحمه اللَّه: "الفرق بين المدارة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة، وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا" (¬2). الفرع الثانى: حكم المداراة للمستضعف: إن المداراة يجوز للمسلم أن يقوم بها حتى إن يكن في حالة الاستضعاف أو الإكراه، فهي "من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. . . هي: الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولاسيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، مادة: درأ، والمصباح المنير، مادة: دره. (¬2) فتح الباري، 10/ 454. (¬3) فتح الباري، 10/ 528 - 529.

وقد سبق بيان جواز الحيلة للمستضعف، فإن جواز المداراة من باب أولى، بل إن تمكن المستضعف من تخليص نفسه بالمداراة ولم يحتج إلى الحيلة فهو أولى، والأمر هنا متعلق بقدرته على المداراة وتقديره لإمكانية الاكتفاء بها من عدمه، واستعمالها يختلف بحسب الأزمان والأحوال وبحسب المستضعِف؛ لأن المصلحة تتغير و"تختلف المصلحة باختلاف الأزمان، حتى أن مصلحة بعض أهل الأزمان في المداراة والمساهلة، ومصلحة أهل زمان آخر في الشدة والغلظة عليهم، إلى غير ذلك من الأحوال" (¬1). وقد دل على مشروعية المداراة حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- مرفوعًا قالت: استأذن على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل، فقال: (ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة -أو- بِئْسَ أخو الْعَشِيرةِ)، فلما دخل أَلَانَ له الكلام، فقلت له: يا رسول اللَّه، قلت ما قلت، ثم أَلَنْتَ له في القول، فقال: (أي عائشة إن شر الناس منزلة عند اللَّه من ترَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ الناس اتِّقَاءَ فُحْشِهِ) (¬2)، "والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد اللَّه تعالى" (¬3). و"في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة، مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم، ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين اللَّه تعالى" (¬4). ¬

_ (¬1) الإحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، تحقيق: د. سيد الجميلي، دار الكتاب العربي: بيروت، ط 1، 1404 هـ، 3/ 127. (¬2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس، رقم: 5780، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب مداراة من يتقى فحشه، رقم: 2591. (¬3) فتح الباري، 10/ 454. (¬4) عون المعبود، 13/ 103.

المطلب الثانى حكم المداهنة للمستضعف

المطلب الثانى حكم المداهنة للمستضعف ومعنى المداهنة في اللغة المصانعة واللين، وقيل: إظهار خلاف ما يضمر، والإدهان الغش، ودهن الرجل إذا نافق (¬1)، وكما سبق بيانه فإنها اصطلاحًا خصت بالمصانعة بالتنازل عن الأمور الدينية لحفظ الأمور الدنيوية، فهي: "بذل الدين لحفظ الدنيا" (¬2). ودل على حرمة المداهنة، قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (¬3)، وقد رجح ابن جرير أن المراد بالمداهنة: الملاينة في الدين (¬4). وقد ذهب البعض إلى عدم حرمتها مطلقًا، وأنها تجري عليها الأحكام الخمسة، فقد تجب لدفع مفسدة لا تندفع إلا بها، وتندب إذا كان يتوصل بها إلى مندوب، وتكره إن كانت لمجرد الضعف والجبن لا لضرورة تقتضيها، وكل من يشكر ظالمًا على ظلمه أو مبتدعًا على بدعته فهي مداهنة حرام؛ لكونها وسيلة لزيادة الظلم وأهله (¬5)، "فيجوز أن يفعل مع الفاسق من الوداد ظاهرًا ما يعتقد خلافه، وإنما يحرم من المداهنة ما كان على باطل، وأما لأجل التقيه والتودد لدفع الضرر بكلام صدق بأن يشكره بما فيه من خير، فإن ما من أحد وإن كثير فجوره وفحشه إلا وفيه خير" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: لسان العرب، ومقاييس اللغة، ومختار الصحاح، مادة: دهن. (¬2) الفواكه الدواني، 2/ 299. (¬3) سورة القلم، الآيتان [8 - 9]. (¬4) انظر: شرح مشكل الآثار، 8/ 419، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن، 29/ 21 - 22، وقال: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال معنى ذلك ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادتك إلهك". (¬5) الفواكه الدواني، 2/ 295، والفروق، 4/ 399 - 400. (¬6) الذخيرة، 13/ 253.

إلا أن ابن حجر رحمه اللَّه ذهب إلى حرمة المداهنة مطلقًا، فقال: "وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها: معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه" (¬1). ولعل الراجح القول بحرمة المداهنة مطلقًا، لارتباطها بالنية وهي لا سلطة للمستضِعف أو المُكرِه عليها. قال ابن العربي رحمه اللَّه: "وحقيقة الإدهان إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة، فإن كانت المقاربة بالدين فهي مداهنة، وإن كانت مع سلامة الدين فهي: مداراة، أي: مدافعة" (¬2)، ويظهر لي أن صور المداهنة التي قال بعض الفقهاء بجوازها إنما هي من باب المداراة، كما أطلق الكذب على المعاريض بناء على ما يظهر للسامع. * * * ¬

_ (¬1) فتح الباري، 10/ 528 - 529. (¬2) أَحْكَام الْقُرْآن لابن الْعَرَبِيّ، 4/ 305.

الخاتمة

الخاتمة أولًا: النتائج: 1 - الاستضعاف هو الحالة التي يكون فيها الفرد المسلم أو الجماعة المسلمة ضعفاء، بحيث لا يقدرون على إظهار الإسلام وشعائره أو تطبيقها كلها أو بعضها بسبب عدو أو سلطان جائر. 2 - ينقسم الاستضعاف باعتبار درجته إلى استضعاف جزئي، واستضعاف كلي، وينقسم باعتبار من يقع عليه إلى استضعاف الفرد، واستضعاف الجماعة، وباعتبار الاعتذار به إلى استضعاف مقبول، استضعاف غير مقبول. 3 - المرحلة المكية كانت تمثل حالة الاستضعاف الكلي، ولا يلزم حالة وقوع استضعاف كلي في أي زمن من الأزمان في مكان ما تطبيق كل ما كان قائمًا من أحكام في المرحلة المكية، كما أن فقه الاستضعاف لا يعني بأي حال من الأحوال العودة للمرحلة المكية. 4 - من مظاهر الاستضعاف: وقوع القتل والتعذيب والسجن والإبعاد على المستضعفين، وإخفاء الشعائر التي أصلها الإظهار، وعدم القدرة على تطبيق الأحكام الشرعية سواءً كلها أو بعضها، كالحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، وعدم القدرة على الهجرة، وقلة العدد. 5 - لا يقع الاستضعاف الكلي على الأمة في الأرض كلها، إنما في مكان دون آخر. 6 - مما ينبغي مراعاته عند الحكم في مسائل الاستضعاف تفاوت قدرات المستضعفين، والتفريق بين استضعاف العالم واستضعاف غيره، وبين فقه الاستضعاف وفقه التمكين، أن يكون تقدير الضرورة والحاجة بالرجوع إلى أهل العلم، عدم الركون للاستضعاف، وكذلك الأخذ بضوابط العمل بالضرورة والحاجة وشروط الإكراه المعتبر، والعمل بآيات الصبر والصفح والعفو.

7 - يجوز للدولة الإسلامية تعطيل الحدود في حالة الاستضعاف، واتصال الاستضعاف بإقامة الحدود، بمعنى أن تكون إقامة الحدود سببًا من أسباب وقوع الاستضعاف، ومتى ما كانت الفرصة مواتية لإقامة الحد أقيم، وإن أمكن إقامة البعض أقيم، وإن أمكن إقامة الحد بالسر أقيم. 8 - إن النتائج المترتبة على الاعتراف في القانون الدولي وتنزيلها على الواقع في فلسطين وغيرها تظهر أن جملة من الآثار والنتائج المحرمة المترتبة على الاعتراف بالاحتلال منها: إسقاط حق المسلمين في أرضهم ومقدساتهم، الإقرار بشرعية المجازر التي ارتكبها الاحتلال، نفاذ القرارات والأحكام القضائية والقوانين التي ألغت الحقوق وصادرتها ولا يزال يكتوي بها المسلمين. 9 - يجوز للمستضعف المشاركة في الحكم في دولة كافرة أو ظالمة بشرط ألا يترتب على المشاركة إقرار الكفر، أو المعاونة على الظلم، وألا يكون هنالك سبيل للإصلاح وللأمر والنهي دون التعرض إلى الأذى والضرر إلا بتلك المشاركة، وأن يكون المشارك قادرًا على إقامة العدل. 10 - يشترط لجواز نزع الحجاب تحقق الضرورة والحاجة، وأن يكون الحجاب مرتبطًا بها، أي سببًا من مسبباتها، واقتصار جواز نزعه على موضع الضرورة، مع ضرورة السعي الجاد للخروج من هذا الاستثناء، وذلك بالعمل على إصدار أنظمة تسمح بالحجاب، بالاستفادة من الجمعيات الحقوقية والمهتمة بمثل هذه الأمور والتي تربطها بالحرية الشخصية، وإن لم تكن تلك الجمعيات أو الجهات إسلامية. 11 - يجوز إخفاء الشعائر للفرد وللجماعة، ويشترط لذلك تحقق الاستضعاف، تعلق الاستضعاف بالشعائر التي تخفى، والاقتصار على قدر الضرورة والحاجة، بإظهار ما لا يضر إظهاره من الشعائر، وإقامة الشعائر في السر طالما تعذر إقامتها في العلن ما أمكن ذلك، وإظهار الشعائر فور زوال المانع أو وجود القوة أو الأعوان.

ثانيًا: التوصيات والمقترحات: 1 - ينبغي عند النظر في مسائل الاستضعاف عدم التأثر بالظروف التي يمر بها المسلمون، بل يعول على الدليل الشرعي. 2 - ينبغي الحذر من توسيع مفهوم الضرورة أو استعمالها في غير مواضعها، أو التشدد وعدم الأخذ بالرخصة عند تحققها. 3 - على المستضعفين استنفاذ كل الوسائل الممكنة لحمايتهم، وحفظ حقوقهم، والمحافظة على عقيدتهم، وعدم الركون إلى حالة الاستثناء. 4 - هنالك جوانب فكرية وثقافية واجتماعية ونفسية مرتبطة بالاستضعاف وهي بحاجة للمزيد من البحث والتأمل. أسأل اللَّه عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن ينصر المستضعفين في كل مكان، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن. * * *

فهرس المراجع

فهرس المراجع بحسب الأحرف الهجائية: 1 - الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق: سعيد المندوب، لبنان: دار الفكر، ط 1، 1416 هـ. 2 - أثر إقامة الحدود في استقرار المتجمع، د. محمد حسين الذهبي، دمشق: دار الهجرة، ط 2، 1408 هـ. 3 - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، محمد بن أبي بكر بن أيوب الدمشقي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1404 هـ. 4 - أجنحة المكر الثلاثة، عبد الرحمن حبنكة الميداني، دمشق: دار القلم، ط 5، 1407 هـ. 5 - أحكام الأسرى في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، علي أحمد جواد، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1426 هـ. 6 - أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، عبد الكريم زيدان، بيروت: مؤسسة الرسالة، بغداد: مكتبة القدس، ط 1، 1402 هـ. 7 - الأحكام السلطانية، محمد بن علي الماوردي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 8 - أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، حامد سلطان، القاهرة: دار النهضة العربية، ط 1، 1970 م. 9 - أحكام القرآن لابن العربي، محمد بن عبد اللَّه ابن العربي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، لبنان: دار الفكر، ط 1، د. ت. 10 - أحكام القرآن للجصاص، أحمد بن علي الجصاص، تحقيق: محمد قمحاوي، بيروت: دار إحياء التراث العرب، ط 1، 1405 هـ. 11 - أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية، د. محمد طلعت الغنيمي، الإسكندرية: منشأة المعارف، ط 1، د. ت.

12 - أحكام أهل الذمة، محمد بن أبي بكر ابن القيم، تحقيق: يوسف أحمد البكري، شاكر توفيق العاروري، الدمام - بيروت: رمادى للنشر - دار ابن حزم، ط 1، 1418 هـ - 1997 م. 13 - الإحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، تحقيق: د. سيد الجميلي، بيروت: دار الكتاب العربي، ط 1، 1404 هـ. 14 - الآداب الشرعية، عبد اللَّه بن محمد ابن مُفلح المقدسي، تحقيق: شُعيب الأرنؤوط، وعمر القيَّام، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 3، 1419 هـ. 15 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (تفسير أبي السعود)، محمد بن محمد العمادي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت. 16 - إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، تحقيق: محمد البدري، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1412 هـ. 17 - أساس البلاغة، محمود عمر الزمخشري، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1399 هـ. 18 - أسباب الضعف في الأمة الإسلامية، د/ محمد السيد الوكيل، مصر: دار الأرقم، ط 1، 1409 هـ. 19 - الاستذكار، يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر الأندلسي، تخريج: عبد المعطي أمين قلعجي، دمشق - بيروت: دار قتيبة، حلب - القاهرة: دار الوعي، ط 1، 1414 هـ. 20 - الاستعمار أحقاد وأطماع، د. محمد الغزالي، القاهرة: نهضة مصر، ط 2، د. ت. 21 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر، تحقيق: علي البجاوي، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1412 هـ. 22 - الأسس النظرية للاقتصاد الإسلامي، د. خالد المقرن، د. ن، ط 1، 1424 هـ.

23 - الإسلام بين العلماء والحكام، عبد العزيز البدري، المدينة المنورة: المكتبة العلمية، ط 1، د. ت. 24 - إسلام نجاشي الحبشة ودوره في صدر الدعوة الإسلامية، د. سامية منيسى، القاهرة: دار الفكر العربي، ط 1، 1421 هـ. 25 - الإسلام والعروبة مناقشة لآراء التيار الأصولي، مجدي رياض، القاهرة: مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر، ط 1، 1989 م. 26 - الإسلام والعلاقات الدولية في السلم والحرب، خديجة أحمد أَبو أتله، القاهرة: دار المعارف، ط 1، 1983 م. 27 - الإسلاميون وسراب الديمقراطية، عبد الغني الرحال، مؤسسة المؤتمن، ط 1، 1413 هـ. 28 - أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، أحمد بن يحيى التلمساني الونشرسي، تحقيق: د. حسين مؤنس، مصر: مكتبة الثقافة الدينية، ط 1، 1406 هـ. 29 - أسنى المطالب شرح روض الطالب، زكريا بن محمد الأنصاري، بيروت: دار الكتاب الإسلامي، ط 1، د. ت. 30 - أسهل المدارك شرح إرشاد الطالب في فقه إمام الأئمة مالك، أَبو بكر بن حسن الكشناوي، ضبطه وصححه: محمد عبد السلام شاهين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1416 هـ. 31 - الشباب المسلم في مواجهة التحديات، عبد اللَّه ناصح علوان، القاهرة: دار السلام، ط 2، 1427 هـ.

32 - الأشباه والنظائر، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 33 - الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر، اعتنى به: حسان عبد المنان، الأردن: بيت الأفكار الدولية، ط 1، 2002 م. 34 - أصول الاقتصاد الإسلامي، د. رفيق المصري، دمشق: دار القلم، ط 4، 1426 هـ. 35 - أصول الالتزام، د. حسن علي الدنون، بغداد: مطبعة المعارف، ط 1، 1970 م. 36 - أصول السرخسي، محمد بن أحمد السرخسي، بيروت: دار المعرفة، ط 1، د. ت. 37 - أصول مذاهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، ناصر بن عبد اللَّه القفاري، د. ن، ط 2، 1415 هـ. 38 - أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1415 هـ. 39 - إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين، أبي بكر ابن السيد محمد شطا الدمياطي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 40 - الاعتراف بإسرائيل من خلال التسوية، د. محمد المجذوب، بيروت: معهد الإنماء العربي، ط 1، 1978 م 41 - الاعتراف بالدولة الجديدة بين النظرية والممارسة، د. منى محمود مصطفى، القاهرة: دار النهضة العربية، ط 1، 1989 م. 42 - الاعتصام، إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي، مصر: المكتبة التجارية الكبرى، ط 1، د. ت. 43 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1973 م.

44 - الأعلام قاموس تراجم، خير الدين الزِرِكلي، دار العلم للملايين: بيروت، ط 6، 1984 م. 45 - الأعمال السياسية السلمية للنبي صلى اللَّه عليه وسلم والأحكام المستنبطة منها، مصطفى العزاوي، الأردن: دار الدرر، ط 1، 1428 هـ. 46 - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، بيروت: دار المعرفة، ط 2، 1395 هـ. 47 - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة: مطبعة السنة المحمدية، ط 2، 1369 هـ. 48 - الأقليات المسلمة في العالم، مؤتمر الندوة العالمية السادس، المملكة العربية السعودية: دار الندوة العالمية، ط 1، 1420 هـ. 49 - الإقناع، محمد الشربيني الخطيب، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1415 هـ. 50 - الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول اللَّه، سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي، تحقيق: د. محمد كمال الدين، بيروت: دار عالم الكتب، ط 1، 1417 هـ. 51 - الإكراه وأثره في الأحكام الشرعية، عبد الفتاح حسيني الشيخ، ط 1، 1399 هـ. 52 - الإكراه وأثره في التصرفات، د. عيسى زكي شقرة، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1407 هـ. 53 - الأم، محمد بن إدريس الشافعي، بيروت: دار المعرفة، ط 2، 1393 هـ. 54 - الأموال، القاسم بن سلام، تحقيق: محمد عمارة، بيروت: دار الشروق، ط 1، 1409 هـ. 55 - الانتربول وملاحقة المجرمين، سراج الدين محمد الروبي، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، ط 1، 1998 م.

56 - الإنجَاد في أبواب الجهاد، محمد بن عيسى بن أصبغ المعروف بابن المناصِف، تحقيق: قاسم عزيز الوزّاني، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1، 2003 م. 57 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علي بن سليمان بن أحمد المرداوي، بيروت: دار إحياء التراث العريى، ط 1، د. ت. 58 - أنوار البروق في أنواع الفروق، أحمد بن إدريس القرافي، بيروت: دار عالم الكتب، ط 1، د. ت. 59 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاوي)، ناصر الدين أَبو سعيد عبد اللَّه البيضاوي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 60 - أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، د. يوسف القرضاوي، مصر: مكتبة وهبة، ط 1، 1411 هـ. 61 - آيات للسائلين، د. ناصر العمر، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1429 هـ. 62 - الإيمان، محمد بن إسحاق بن منده، تحقيق د. علي الفقيهي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1406 هـ. 63 - الْبَحْر الرَّائِق شَرْح كَنْز الدَّقَائِق، زين الدين ابن نجيم، بيروت: دار المعرفة، ط 2، د. ت. 64 - البحر المحيط في أصول الفقه، محمد بن بهادر الزركشي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421 هـ. 65 - البحر المحيط، محمد بن يوسف أَبو حيان الأندلسي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1422 هـ. 66 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، أَبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت.

67 - بدائع الفوائد، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، تحقيق: هشام عطا، عادل العدوي، أشرف أحمد، مكة المكرمة: مكتبة نزار مصطفى الباز، ط 1، 1416 هـ. 68 - بداية المبتدي، علي بن أبي بكر الفرغاني المرغيناني، القاهرة: مكتبة محمد علي صبح، ط 1، د. ت. 69 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 70 - البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير، بيروت: مكتبة المعارف، ط 1، د. ت. 71 - البرهان في أصول الفقه، عبد الملك بن عبد اللَّه الجويني، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، المنصورة: دار الوفاء، ط 4، 1418 هـ. 72 - البرهان في علوم القرآن، محمد بن بهادر الزركشي، تحقيق: محمد أَبو الفضل، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1391 هـ. 73 - بُلغة السالك لأقرب المسالك (حاشية الصاوي)، أحمد بن محمد الصاوي، بيروت: دار المعارف، ط 1، د. ت. 74 - البيان في مذهب الإمام الشافعي، يحيى سالم العمراني الشافعي، اعتنى به: قاسم محمد النوري، جدة: دار المنهاج، ط 1، د. ت. 75 - تاج العروس، السيد محمد مرتضى الزبيدي، بنغازي: دار ليبيا، ط 1، د. ت. 76 - التَّاج وَالْإِكْلِيل لمُخْتَصَرِ خَلِيل، محمد بن يوسف الحطاب المواق، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 77 - تاريخ الإسلام، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق: د. عمر تدمرى، لبنان: دار الكتاب العربي، ط 1، 1407 هـ.

78 - تاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري أَبو جعفر، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1407 هـ. 79 - تأويل مختلف الحديث، عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، تحقيق: محمد زهري النجار، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1393 هـ. 80 - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، محمد بن فرحون المالكي، تحقيق: جمال مرعشلي، الرياض: دار عالم الكتب، ط 1، 1423 هـ. 81 - تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، د. علي الصلابي، الإسكندرية: دار الإيمان، ط 1، 2002 م. 82 - تبيين الحقائق شَرْح كَنْز الدَّقَائِق، عثمان بن علي الزيلعي، القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، ط 1، د. ت. 83 - التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، تونس: دار سحنون للنشر والتوزيع، ط 1، 1997 م. 84 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 85 - تحفة المحتاج فِي شَرْح الْمِنْهَاج، أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت. 86 - تخريج الأحاديث والآثار، عبد اللَّه بن يوسف الزيلعي، تحقيق: عبد اللَّه السعد، الرياض: دار ابن خزيمة، ط 1، 1414 هـ. 87 - التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية، محمد الشريف، الكويت، ط 1، 1996 م. 88 - تدوين الدستور الإسلامي، أَبو الأعلى المودودي، دمشق: دار الفكر، ط 2، د. ت.

89 - تسليم المطلوبين بين الدول وأحكامه في الفقه الإسلامي، زياد بن عابد المشوخي، الرياض: دار كنوز إشبيليا، ط 1، 2006 م. 90 - التسهيل لعلوم التنزيل، محمد بن أحمد الغرناطي الكلبي، لبنان: دار الكتاب العربي، ط 4، 1403 هـ. 91 - تطبيق الشريعة الإسلامية في دولة الكويت، د. عبد الرزاق الشايجي، الكويت: دار النفائس، ط 1، 1414 هـ. 92 - تطور مفهوم الدولة في المجتمع الإسلامي الأول، د. مخلص طه الصيادي، الشارقة: دار الثقافة والإعلام، ط 1، 2002 م. 93 - التعامل مع غير المسلمين في العهد النبوي، ناصر محمدي جاد، الرياض - القاهرة: دار الميمان للنشر والتوزيع، ط 1، 1430 هـ. 94 - تغليق التعليق، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق سعيد عبد الرحمن القزقي، بيروت - عمان: المكتب الإسلامي - دار عمار: ط 1، 1405 هـ. 95 - تغير الأحكام دراسة تطبيقية لقاعدة (لا يُنكر تغيُّر الأحكام بتغير القرائن والأزمان) في الفقه الإسلامي، د. سها سليم مكداش، بيروت: دار البشائر الإسلامية، ط 1، 1428 هـ. 96 - تفسير الشعراوي، محمد متولى الشعراوى، مصر: دار أخبار اليوم، ط 1، د. ت. 97 - تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، محمد رشيد رضا، بيروت: دار المعرفة، ط 2، د. ت. 98 - تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقيق: سامي ابن محمد سلامة، الرياض: دار طيبة للنشر والتوزيع، ط 2، 1420 هـ - 1999 م.

99 - تفسير غريب ما فى الصحيحين البخارى ومسلم، محمد بن أبي نصر فتوح الأزدي الحميدي، تحقيق: د. زبيدة محمد، القاهرة: مكتبة السنة، ط 1، 1415 هـ. 100 - التقرير والتحبير في شرح التحرير، محمد ابن أمير الحاج، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1417 هـ. 101 - تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، أحمد بن علي بن حجر أَبو الفضل العسقلاني، تحقيق: السيد عبد اللَّه هاشم اليماني المدني، المدينة المنورة، ط 1، 1384 هـ. 102 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، عبدالرحيم الأسنوي، تحقيق: د. محمد هيتو، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1400 هـ. 103 - التمهيد، يوسف بن عبد اللَّه بن عبد البر النمري، تحقيق: مصطفى العلوي، ومحمد البكري، المغرب: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، 1387 هـ. 104 - التنصير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملكين الكاثوليكيين، د. محمد حتامله، عمان: الجامعة الأردنية، ط 1، 1400 هـ. 105 - تهذيب الآثار مسند علي، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمود شاكر، القاهرة: مطبعة المدني، ط 1، د. ت. 106 - تهذيب الأسماء واللغات، محيى الدين بن شرف النووي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1996 م. 107 - تهذيب التهذيب، أحمد بن حجر العسقلاني، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1404 هـ. 108 - تهذيب الكمال، يوسف بن الزكى المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1400 هـ. 109 - تهذيب اللغة، محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق: إبراهيم الأبياري، القاهرة: دار الكتاب العربي، ط 1، 1967 م.

110 - التوقيف على مهمات التعاريف، محمد عبد الرؤوف المناوي، بيروت، دمشق: دار الفكر المعاصر ودار الفكر، ط 1، 1410 هـ. 111 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي، تحقيق: عبد الرحمن اللويحق، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1420 هـ - 2000 م. 112 - التيسير بشرح الجامع الصغير، زين الدين عبد الرؤوف المناوي، الرياض: مكتبة الإمام الشافعي، ط 3، 1408 هـ. 113 - الثمر الداني شرح رسالة القيرواني، صالح عبد السميع الأزهري، بيروت: المكتبة الثقافية، ط 1، د. ت. 114 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1405 هـ. 115 - جامع العلوم والحكم، عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 7، 1417 هـ. 116 - الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، القاهرة: دار الشعب، ط 2، 1372 هـ. 117 - الاجتهاد بين النص والمصلحة والواقع، أحمد الريسوني، دار الفكر: دمشق، ط 1، 2000 م. 118 - جزر الأندلس المنسية (التاريخ الإسلامي لجزر البِليَار)، د. عصام سيسالم، بيروت: دار العلم للملايين، ط 1، 1984 م. 119 - جمهرة اللغة، محمد بن الحسن إبن دريد، تحقيق: رمزي بعلبكي، بيروت: دار العلم للملايين، ط 1، 1987 م.

120 - الجنسية والتجنس وأحكامها في الفقه الإسلامي، د. سميح عواد الحسن، دمشق، بيروت: دار النوادر، ط 1، 1429 هـ. 121 - جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس واسترداده في مطلع العصر الحديث، د. نبيل رضوان، مكة المكرمة: مكتبة الطالب الجامعي، ط 1، 1408 هـ. 122 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: د. علي ناصر، د. عبد العزيز العسكر، د. حمدان محمد، الرياض: دار العاصمة، ط 1، 1414 هـ. 123 - الجواب الكافي، محمد بن أبي بكر الزرعي ابن القيم الجوزية، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 124 - جوامع السيرة، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي الظاهري، تحقيق: إحسان عباس، مصر: دار المعارف، ط 1، 1900 م. 125 - الجواهر الحسان في تفسير القرآن (تفسير الثعالبي)، عبد الرحمن بن محمد الثعالبي، بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 1، د. ت. 126 - الجْوْهَرَة النَّيِّرَة شرح مختصر القدوري، محمد بن علي الحدادي، القاهرة: المطبعة الخيرية، ط 1، 1322 هـ. 127 - الحاجة وأثرها في الأحكام، د. أحمد بن عبد الرحمن الرشيد، الرياض: كنوز إشبيليا، ط 1، 1429 هـ. 128 - حاشية ابن عابدين، (رد المحتار على الدر المختار)، محمد أمين عمر ابن عابدين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 129 - حاشية البجيرمي على المنهج، سليمان بن محمد البجيرمي، القاهرة: دار الفكر العربي، ط 1، د. ت.

130 - حاشية الجمل، سليمان بن منصور العجيلي المصري الجمل، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت. 131 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي، مصر: دار إحياء الكتب العربية، ط 1، د. ت. 132 - حاشية السندي، نور الدين بن عبد الهادي السندي، تحقيق: عبد الفتاح أَبو غدة، حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، ط 2، 1406 هـ. 133 - حاشية الطحاوي على مراقي الفلاح، أحمد بن محمد الطحاوي، مصر: المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، ط 3، 1318 هـ. 134 - حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، علي الصعيدي العدوي، تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1412 هـ. 135 - حاشيتا قليوبي وعميرة، أحمد بن سلامة القليوبي، وأحمد البرلسي عميرة، مصر: دار إحياء الكتب العربية، ط 1، د. ت. 136 - حاضر العالم الإسلامي الواقع والتحديات، د. عفاف سيد صبرة، د. مصطفى محمد الحناوي، الرياض: مكتبة الرشد، ط 1، 1424 هـ. 137 - حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة، د. جميل عبد اللَّه المصري، الرياض: مكتبة العبيكان، ط 10، 1427 هـ. 138 - حاضر العالم الإسلامي، د. علي جريشة، القاهرة: مكتبة وهبة، ط 4، 1991 م. 139 - الحاوي الكبير في فقه الشافعي، علي بن محمد بن حبيب الماوردي، تحقيق: علي محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 140 - حق اللجوء بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي، أ. د. أحمد أَبو الوفا، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ط 1، 2009 م.

141 - حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية، د. عمر الأشقر، الأردن: دار النفائس، ط 1، 1408 هـ. 142 - حواشي الشرواني، عبد الحميد المكي الشرواني، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 143 - الدر المختار شرح تنوير الأبصار وجامع البحار في فروع الفقه الحنفي، محمد بن علي الحنفي الحصكفي، بيروت: دار الفكر، ط 2، 1386 هـ. 144 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1993 م. 145 - درر الحكام في شرح مجلة الأحكام، علي حيدر، بيروت: دار الجيل، ط 1، د. ت. 146 - دلالة القرآن على سماحة الإسلام وشره، د. عبد الرحمن الزنيدي، ضمن بحوث ندوة أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو، السعودية: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ط 2، 1425 هـ. 147 - الدولة الإسلامية المعاصرة الفكرة والتطبيق، جمال الدين محمد محمود، القاهرة، بيروت: دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، ط 1، 1413 هـ. 148 - الدولة الإسلامية بين التراث والمعاصرة، د. توفيق الواعي، بيروت: دار ابن حزم، ط 1، 1416 هـ. 149 - الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: أَبو إسحاق الحويني، الخبر: دار ابن عفان، ط 1، 1416 هـ. 150 - الذخيرة في فروع المالكية، أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق: أحمد عبد الرحمن، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1422 هـ.

151 - رؤية معاصرة لمواقف من السيرة، د. محمد بن عبد اللَّه الشباني، الرياض: دار عالم الكتب، ط 1، 1412 هـ. 152 - ردة ولا أبا بكر لها، لأبي الحسن الندوي، القاهرة: المختار الإسلامي، ط 1، د. ت. 153 - رسائل ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز، بيروت: إحياء التراث الإسلامي، ط 1، د. ت. 154 - رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، يعقوب بن عبد الوهاب الباحسين، الرياض: مكتبة الرشد، ط 1، 1411 هـ. 155 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، محمود الألوسي البغدادي، بيروت: دار إحياء التراث، ط 4، 1405 هـ. 156 - الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام، عبد الرحمن بن عبد اللَّه الخثعمي السهيلي، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1398 هـ. 157 - روضة الطالبين وعمدة المفتين، يحيى بن شرف بن مري النووي، بيروت: المكتب الإسلامي، ط 2، 1405 هـ. 158 - روضة الناظر، عبد اللَّه بن أحمد بن قدامة المقدسي، تحقيق: د. عبد العزيز السعيد، الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود، ط 2، 1399 هـ. 159 - زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن علي الجوزي، بيروت: المكتب الإسلامي، ط 3، 1404 هـ. 160 - زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 3، 1416 هـ. 161 - الزواجر عن اقتراف الكبائر، أحمد بن حجر الهيثمي، المطبعة العصرية: لبنان، ط 2، 1420 هـ.

162 - سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام، محمد بن إسماعيل الصنعاني، تحقيق: محمد عبد العزيز الخولي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 4، 1379 هـ. 163 - سر انحلال الأمة العربية ووهن المسلمين، محمد سعيد العرفي، دمشق: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1966 م. 164 - السلسلة الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض: مكتبة المعارف، ط 1، د. ت. 165 - سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد أَبو عبد اللَّه القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 166 - سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث أَبو داود السجستاني الأزدي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 167 - سنن البيهقي الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكة المكرمة: مكتبة دار الباز، ط 1، 1414 هـ. 168 - سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي السلمي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت. 169 - سنن الدارقطني، علي بن عمر أَبو الحسن الدارقطني البغدادي، تحقيق: السيد عبد اللَّه هاشم يماني المدني، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1966 م. 170 - سنن النسائي، أحمد بن شعيب أَبو عبد الرحمن النسائي، تحقيق: عبد الفتاح أَبو غدة، حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية، ط 2، 1406 هـ. 171 - السنن، سعيد بن منصور الخرساني، الدار السلفية: الهند، 1982 م، ط 1، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي.

172 - السياسة الشرعية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، المملكة العربية السعودية: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ط 1، 1419 هـ. 173 - السياسة القضائية في عهد عمر بن الخطاب وصلتها بواقعنا المعاصر، د. محمد الرضا الأغبش، السعودية: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط 1، 1417 هـ. 174 - سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1405 هـ. 175 - السيرة الحلبية، علي بن برهان الدين الحلبي، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1400 هـ. 176 - السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق اللَّه، الرياض: مركز الملك فيصل:، ط 1، 1412 هـ. 177 - السيرة النبوية لابن كثير، إسماعيل بن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، ط 1، 1396 هـ. 178 - السيرة النبوية لابن هشام، عبد الملك بن هشام الحميري المعافري، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1411 هـ. 179 - سيرة النبي المختار، محمد بن عمر الحضرمي الشافعي، تحقيق: محمد غسان نصوح، بيروت: دار الحاوي، ط 1، 1998 م. 180 - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1405 هـ. 181 - شرح التلويح على التوضيح، عبيد اللَّه بن مسعود التفتازاني، مكتبة صبيح: مصر، ط 1، د. ت. 182 - شرح الزرقاني على مختصر خليل، عبد الباقي يوسف أحمد الزرقاني، ضبطه وصححه: عبد السلام أمين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1422 هـ.

183 - شرح السير الكبير، محمد بن أحمد السرخسي، لبنان: الشركة الشرقية للإعلانات، ط 1، د. ت. 184 - شرح العقيدة الطحاوية، علي بن أبي العز الدمشقي، تحقيق د. عبد اللَّه التركي، وشعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1413 هـ. 185 - شرح القواعد الفقهية، أحمد بن محمد الزرقا، دمشق: دار القلم، ط 2، 1409 هـ. 186 - الشرح الكبير، سيدي أحمد الدردير، تحقيق: محمد عليش، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 187 - شرح النووي على صحيح مسلم، يحيى بن شرف بن مري النووي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 2، 1392 هـ. 188 - شرح سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزوينى، بيروت: دار الجيل، ط 1، د. ت. 189 - شرح صحيح البخاري، علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، ضبط وتعليق: ياسر إبراهيم، الرياض: مكتبة الرشد، ط 1، 1420 هـ. 190 - شرح فتح القدير، محمد بن عبد الواحد السيواسي، بيروت: دار الفكر، ط 2، د. ت 191 - شرح مختصر خليل، محمد بن عبد اللَّه الخرشي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 192 - شرح مشكل الآثار، أحمد بن محمد الطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة: لبنان، ط 1، 1408 هـ. 193 - شرح منتهى الإرادات، منصور بن يونس البهوتي، بيروت: دار عالم الكتب، ط 2، 1996 م. 194 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى، عياض اليحصبي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1409 هـ.

195 - الصارم المسلول على شاتم الرسول، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: محمد عبد اللَّه الحلواني، محمد كبير شودري، بيروت: دار ابن حزم، ط 1، 1417 هـ. 196 - صحاح اللغة، إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، بيروت: دار العلم للملايين، ط 2، 1979 م. 197 - صحيح ابن حبان، محمد بن حبان التميمي البستي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1414 هـ. 198 - صحيح ابن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، تحقيق: د. محمد الأعظمي، بيروت: المكتب الإسلامي، ط 1، 1390 هـ. 199 - صحيح البخاري (الجامع الصحيح)، محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، ط 3، 1407 هـ. 200 - صحيح سنن أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني، بيروت - الرياض: مكتبة المعارف، ط 2، 1421 هـ. 201 - صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض: مكتبة المعارف، ط 1، 1420 هـ. 202 - صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أَبو الحسين القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت. 203 - الضرورة المرحلية في تطبيق القانون الجنائي الإسلامي، فتحي بن الطيب الخماسي، دار قتيبه، ط 1، 2001 م. 204 - الضعف المعنوي وأثره في سقوط الأمم - عصر ملوك الطوائف في الأندلس أنموذجا، د. حمد صالح السحيباني، الرياض: مجلة البيان، ط 1، 1423 هـ.

205 - ضعيف سنن أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض: مكتبة المعارف، ط 2، 1421 هـ. 206 - ضعيف سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، الرياض: مكتبة المعارف، ط 1، 1420 هـ. 207 - طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين بن علي السبكي، تحقيق: د. محمود الطناحي، ود. عبد الفتاح الحلو، القاهرة: دار هجر، ط 2، 1413 هـ. 208 - طبقات الشافعية، أحمد بن محمد بن عمر بن قاضي شهبة، تحقيق: د. الحافظ عبد العليم خان، بيروت: عالم الكتب، ط 1، 1407 هـ. 209 - الطبقات الكبرى، محمد بن سعد البصري، تحقيق: إحسان عباس، بيروت: دار صادر، ط 1، د. ت. 210 - طرح التثريب في شرح التقريب، عبد الرحيم بن الحسيني العراقي، تحقيق: عبد القادر محمد، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 2000 م. 211 - طلبة الطلبة، عمر بن محمد النسفي، تحقيق: خالد العك، عمان: دار النفائس، ط 1، 1416 هـ. 212 - عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، أَبو بكر بن العربي المالكي، مصر: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 213 - عثرات وسقطات في كتاب المنهج الحركي للسيرة النبوية، زهير سالم، الاردن: دار عمار، ط 1، 1408 هـ. 214 - عدم الاعتراف بالأوضاع الإقليمية غير المشروعة، د. محمد السعيد الدقاق، الإسكندرية: دار المطبوعات الجامعية، ط 1، 1984 م.

215 - العزلة والخلطة أحكام وأحوال، سلمان بن فهد العودة، دون ناشر، ط 1، 1413 هـ. 216 - العصبية القبلية من المنظور الإسلامي، د. خالد الجريسي، الرياض: مؤسسة الجريسي، ط 1، 1427 هـ. 217 - العلاقات الدولية في الإسلام، د. محمد أَبو زهرة، القاهرة: دار الفكر العربي، ط 1، د. ت. 218 - العلاقات الدولية في القرآن والسنة، محمد علي الحسن، عمان: مكتبة النهضة الحديثة، ط 2، 1402 هـ. 219 - عمدة القاري، محمود بن أحمد العيني، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت. 220 - عمر بن الخطاب قاضيًا ومجتهدًا، محمد عارف ملهي، ليبيا: مكتبة النور، ط 1، د. ت. 221 - العناية شرح الهداية، محمد بن محمد البابرتي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 222 - عوارض الأهلية عند الأصوليين، د. حسين خلف الجبوري، مكة المكرمة: مركز بحوث الدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى، ط 1، 1408 هـ. 223 - عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1415 هـ. 224 - العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي السامرائي، دار ومكتبة الهلال، ط 1، د. ت. 225 - الغرباء الأولون، سلمان بن فهد العودة، المملكة العربية السعودية: دار ابن الجوزي، ط 1، 1412 هـ.

226 - الغرر البهية في شرح البهجة الوردية، زكريا بن محمد الأنصاري، القاهرة: المطبعة الميمنية، ط 1، د. ت. 227 - غريب الحديث، عبد الرحمن ابن الجوزي، تحقيق: د. عبد المعطي أمين قلعجي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1985 م. 228 - الغزو الثقافي - الأجنبي للأمة العربية ماضيه وحاضره، حسين عبد اللَّه بانبيلة، الرياض: الرئاسة العامة لرعاية الشباب، ط 1، 1409 هـ. 229 - الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، د. محمد الغزالي، دار الشروق: مصر، ط 1، د. ت. 230 - الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام بحوث مؤتمر الفقه الإسلامي، د. علي عبد الحليم محمود، الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط 1، 1401 هـ. 231 - الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، د. عبد الرحمن اللويحق، بيروت مؤسسة الرسالة، ط 3، 1416 هـ. 232 - غمز عيون البصائر، أحمد بن محمد الحموي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 233 - غياث الأمم في التياث الظُّلَم، أَبو المعالي الجويني، بيروت: المكتبة العصرية، ط 1، 2006 م. 234 - الفائق، محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق: علي البجاوي، ومحمد أَبو الفضل، لبنان: دار المعرفة، ط 2، د. ت. 235 - الفتاوى الفقهية الكبرى، أحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 236 - الفتاوى الكبرى، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت.

237 - الفتاوى الهندية، لجنة علماء برئاسة نظام الدين البلخي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1411 هـ. 238 - الفتاوى، شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، المدينة المنورة: مجمع الملك فهد، ط 1، 1416 هـ. 239 - فتح الباري، لابن حجر، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1379 هـ. 240 - فتح القدير، كمال الدين بن عبد الواحد ابن الهمام، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 241 - فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 242 - الفتح المبين في طبقات الأصوليين، عبد اللَّه مصطفى المراغي، مصر: مطبعة عبد الحميد حنفي، ط 1، د. ت. 243 - فتوح الشام، عبد اللَّه بن محمد الواقدي، بيروت: دار الجيل، ط 1، د. ت. 244 - الفروع، محمد بن مفلح المقدسي، ممر: دار عالم الكتب، ط 1، د. ت. 245 - الفروق اللغوية، الحسن بن عبد اللَّه العسكري، بيروت: الدار العربية للكتاب، ط 1، 1983 م. 246 - الفصول في الأصول، أحمد بن علي الرازي الجصاص، تحقيق: عجيل جاسم النشمي، الكويت: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، ط 1، 1405 هـ. 247 - فقه الأقليات المسلمة، خالد عبد القادر، لبنان: دار الإيمان، ط 1، 1419 هـ. 248 - فقه الأولويات - دراسة في الضوابط، محمد الوكيلي، فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 1، 1997 م. 249 - فقه الجهاد، د. يوسف القرضاوي، القاهرة: مكتبة وهبة، ط 1، 2009 م. 250 - الفقه السياسي للوثائق النبوية، خالد سليمان الفهداوي، الأردن: دار عمار، ط 1، 1419 هـ.

251 - الفقه السياسي، د. خالد سليمان الفهداوي، دمشق: دار الأوائل، ط 1، 2005 م. 252 - فقه السيرة النبوية، د. محمد البوطي، دمشق: دار الفكر، ط 7، 1398 هـ. 253 - فقه السيرة، محمد الغزالي، تخريج: محمد ناصر الدين الألباني، دمشق: دار القلم، ط 6، 1416 هـ. 254 - فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة، د. عبد الوهاب أَبو سليمان، جدة: المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، ط 2، 2003 م. 255 - فقه الموازنات بين النظرية والتطبيق، ناجي إبراهيم السويد، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1423 هـ. 256 - فقه الموازنات في الشريعة الإسلامية، د. عبد المجيد محمد السوسوة، دبي: دار القلم، ط 1، 1425 هـ. 257 - فقه الواقع وأثره في الاجتهاد، ماهر حسين حصوة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي: الولايات المتحدة الأمريكية، ط 1، 1430 هـ. 258 - الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار، محمد البهي، القاهرة: مكتبة وهبه، ط 11، 1985 م. 259 - الفوائد البهية في تراجم الحنفية، محمد عبد الحي اللكنوي، مصر، ط 1، 1324 هـ. 260 - الفوائد في اختصار المقاصد، عبد العزيز بن عبد السلام السلمي، تحقيق: إياد الطباع، بيروت: دار الفكر المعاصر: ط 1، 1996 م. 261 - الفوائد، محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي ابن القيم الجوزية، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1393 هـ. 262 - فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، مصر ببولاق: المطبعة الأميرية، ط 1، 1322 هـ. 263 - الفواكه الدواني، أحمد بن غنيم النفراوي، بروت: دار الفكر، ط 1، د. ت.

264 - في ظلال القرآن، سيد قطب، بيروت: دار الشروق، ط 7، 1978 م. 265 - في فقه الأولويات، د. يوسف القرضاوي، مصر: مكتبة وهبة، ط 3، 1419 هـ. 266 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي، القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، ط 1، 1356 هـ. 267 - القاموس السياسي، أحمد عطية اللَّه، القاهرة: دار النهضة العربية، ط 3، 1968 م. 268 - القاموس الفقهي، سعدي أَبو جيب، دمشق: دار الفكر، ط 2، 1408 هـ. 269 - القاموس المحيط، مجد الدين بن محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، بيروت: المؤسسة العربية للطباعة، ط 1، د. ت. 270 - القانون الدولي العام دراسة مقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، عبد الباقي نعمة عبد اللَّه، بيروت: دار الأضواء، ط 1، 1410 هـ. 271 - القانون الدولي العام في وقت السلم، د. حامد سلطان، القاهرة: دار النهضة العربية، ط 1، 1962 م. 272 - القانون الدولي العام، أ. د/ علي صادق أَبو هيف، الإسكندرية: منشأة المعارف، ط 1، 1975 م. 273 - القانون الدولي العام، د. إبراهيم العناني، مصر: دار الفكر العربي، ط 1، 1984 م. 274 - القانون الدولي العام، د. أَبو الخير أحمد عطية عمر، الإمارات: أكاديمية شرطة دبي، ط 1، 1427 هـ. 275 - القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، محمد بن عبد اللَّه ابن العربي، تحقيق: محمد عبد اللَّه ولد كريم، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1992 م. 276 - قراءة لجوانب الحذر والحماية، إبراهيم علي محمد أحمد، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، 1996 م.

277 - قضايا في الاقتصاد والتمويل الإسلامي، د. سامي السويلم، دار كنوز اشبيليا: الرياض، ط 1، 1430 هـ. 278 - قواطع الأدلة في الأصول، منصور بن محمد السمعاني، تحقيق: محمد حسن، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1418 هـ. 279 - قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عز الدين بن عبد العزيز بن عبد السلام، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 280 - قواعد الفقه، محمد عميم الإحسان البركتي، كراتشي: الصدف ببلشرز، ط 1، 1407 هـ. 281 - قواعد في التعامل مع العُلماء، د. عبد الرحمن بن معلا اللويحق، الرياض: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، ط 2، 1427 هـ. 282 - القواعد لابن رجب، عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، مكة المكرمة: مكتبة نزار الباز، ط 2، 1999 م. 283 - الكافي في فقه أهل المدينة، يوسف بن عبد البر القرطبي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1407 هـ. 284 - الكامل في التاريخ، ابن الأثير، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1978 م. 285 - كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، عياض بن موسى اليحصبي السبتي، بيروت: دار الفكر، 1423 هـ / 2002 م. 286 - كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس البهوتي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 287 - كشف الأستار في زوائد البزار، علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1984 م.

288 - كشف الأسرار، عبد العزيز بن أحمد البخاري، القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، ط 1، د. ت. 289 - كشف المشكل، عبد الرحمن ابن الجوزي، تحقيق: د. علي البواب، الرياض: دار الوطن، ط 1، 1418 هـ. 290 - كيفية تنفيذ الشريعة الإسلامية وطريقة تطبيقها، بحوث مؤتمر الفقه لعام 1396 هـ، الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط 1، 1396 هـ. 291 - لباب التأويل في معاني التنزيل (تفسير الخازن)، علي محمد البغدادي المعروف بالخازن، ضبطه: عبد السلام محمد شاهين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1415 هـ. 292 - لسان الحكام، إبراهيم بن أبي اليمن محمد الحنفي، البابي الحلبي: القاهرة، ط 2، 1393 هـ. 293 - لسان العرب، بيروت: أَبو الفضل محمد الإفريقي، ط 1، 1978 م. 294 - لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟، الأمير شكيب أرسلان، القاهرة: دار البشير، ط 1، د. ت. 295 - مبادىء القانون الدولي العام، محمد حافظ غانم، القاهرة: مطبعة النهضة الجديدة، ط 1، 1967 م. 296 - المبتدأ والمبعث والمغازي (سيرة ابن إسحاق)، محمد بن إسحاق بن يسار، تحقيق: محمد حميد اللَّه، ط 1، 1396 هـ. 297 - المبدع، إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي، بيروت: المكتب الإسلامي، ط 1، 1400 هـ. 298 - المبسوط، محمد بن أحمد السرخسي، بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1993 م. 299 - مجتمعنا المعاصر أسباب ضعفه ووسائل علاجه، د. عبد اللَّه المشوخي، الأردن: مكتبة المنار، ط 1، 1407 هـ.

300 - مجلة البحوث الإسلامية، السعودية: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء، د. ت. 301 - مجلة المجمع الفقهي الإسلامي، منظمة المؤتمر الإسلامي: جدة، العدد الرابع، ط 1، 1988 م. 302 - مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، عبد الرحمن بن محمد شيخي زاده، دار إحياء التراث العربي، ط 1، د. ت. 303 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، القاهرة، بيروت: دار الريان للتراث، ودار الكتاب العربي، ط 1، 1407 هـ. 304 - المجموع شرح المهذب للشيرازي، يحصي بن شرف النووي، القاهرة: مطبعة المنيرية، ط 1، د. ت. 305 - المحاورة، مساجلة فكرية حول قضية تطبيق الشريعة، د. صلاح الصاوي، دار الإعلام الدولي، ط 2، 1413 هـ. 306 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1413 هـ. 307 - المحصول، محمد بن عمر الرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود، ط 1، 1400 هـ. 308 - المحلى بالآثار، علي بن أحمد بن حزم، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 309 - مختار الصحاح، محمد الرازي، بيروت: دار القلم، ط 1، 1979 م. 310 - مدارج السالكين، محمد بن أبي بكر الزرعي ابن القيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، بيروت: دار الكتاب العري، ط 2، 1393 هـ. 311 - مدارك النظر في السياسة بين التطبيقات الشرعية والانفعالات الحماسية، عبد المالك رمضاني، عجمان: مكتبة الفرقان، ط 4، 1422 هـ.

312 - مدخل للفكر الاقتصادي في الإسلام، د. سعيد مرطان، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1417 هـ. 313 - المدخل، عبد القادر بن بدران الدمشقي، تحقيق: د. عبد اللَّه التركي، مؤسسة الرسالة: بيروت، ط 2، 1401 هـ. 314 - المدخل، لابن الحاج، محمد بن محمد العبدرى الفاسي المالكي، دار الفكر: بيروت، ط 1، 1401 هـ. 315 - المدرسة النبوية العسكرية، د. محمد أَبو فارس، الأردن: دار الفرقان، ط 1، 1413 هـ. 316 - المدونة الكبرى، مالك بن أنس الأصبحي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 317 - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي سلطان القاري، تحقيق: جمال عيتاني، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 318 - المسئولية الدولية في عالم متغير، نبيل بشر، د. ن، ط 1، 1415 هـ. 319 - المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد اللَّه الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1411 هـ. 320 - المستصفى في علم الأصول، محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: محمد الشافي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1413 هـ. 321 - المسلمون المنسيون في الاتحاد السوفيتي، ألكسندر بينيغس، وثانتال لوميرييه كيلكجاي، ترجمة: عبد القادر ضللي، بيروت: دار الفكر المعاصر، ط 1، 1409 هـ. 322 - المسلمون المنصرون (المورسِكيُّون الأندلسيون)، د. عبد اللَّه جمال الدين، القاهرة: دار الصحوة، ط 1، 1991 م.

323 - المسلمون في الاتحاد السوفيتي عبر التاريخ، محمد علي البار، جدة: دار الشروق، ط 1، 1983 م. 324 - مسند أبي يعلى، أحمد بن علي الموصلي التميمي، تحقيق: حسين أسد، دمشق: دار المأمون للتراث، ط 1، 1404 هـ. 325 - مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، مصر: مؤسسة قرطبة، د. م، د. ت. 326 - مسند البزار، أحمد بن عمرو البزار، تحقيق: محفوظ الرحمن زين اللَّه، بيروت: مؤسسة علوم القرآن، ط 1، 1409 هـ. 327 - مسند الشاميين، سليمان بن أحمد الطبراني، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1405 هـ. 328 - مشارق الأنوار، عياض بن موسى اليحصبي المالكي، تونس، مصر: المكتبة العتيقة ودار التراث، ط 1، د. ت. 329 - المصباح المنير، أحمد محمد الفيومي، بيروت: المكتبة العلمية، ط 1، د. ت. 330 - مصنف عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: المكتب الإسلامي، ط 2، 1403 هـ. 331 - المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق: كمال يوسف الحوت، عبد اللَّه بن محمد بن أبى شيبة، الرياض: مكتبة الرشد، ط 1، 1409 هـ. 332 - مطالب أولى النهى، مصطفى ابن سعد السيوطي الرحيبانى، دمشق: المكتب الإسلامي، ط 1، 1961 م. 333 - مع الهجرة إلى الحبشة، محمود شاكر، بيروت: المكتب الإسلامي، ط 1، 1407 هـ. 334 - معالم التنزيل (تفسير البغوي)، الحسين بن مسعود البغوي، تحقيق: خالد العك، بيروت: دار المعرفة، ط 1، د. ت. 335 - معالم الدولة الإسلامية، محمد سلام مدكور، الكويت: مكتبة الفلاح، ط 1، 1983 م.

336 - معالم السنن شرح سنن أبي داود، حمد بن محمد الخطاب، حلب: المطبعة العلمية، ط 1، 1351 هـ. 337 - معالم في الطريق، سيد قطب، الكويت: الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية، ط 1، 1978 م. 338 - المعاهدات الدولية في الشريعة الإسلامية، إياد هلال، الأردن: دار النهضة الإسلامية، ط 1، 1421 هـ. 339 - المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، محمود إبراهيم الديك، الأردن: دار الفرقان، ط 2، 1418 هـ. 340 - المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: طارق الحسيني، القاهرة: دار الحرمين، ط 1، 1415 هـ. 341 - معجم البلدان، ياقوت بن عبد اللَّه الحموي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 342 - معجم القانون، القاهرة: مجمع اللغة العربية، ط 1، 1420 هـ. 343 - المعجم الكبير، سليمان بن أحمد أَبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد، الموصل: مكتبة العلوم والحكم، ط 2، 1404 هـ. 344 - معجم المؤلفين، عمر رضا كحاله، دمشق: المكتبة العربية، ط 1، 1961 م. 345 - المعجم الوسيط، مصر: مجمع اللغة العربية، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، ط 2، 1970 م. 346 - معجم ما استعجم، عبد اللَّه البكري الأندلسي، تحقيق: مصطفى السقا، بيروت: دار عالم الكتب، ط 3، 1403 هـ. 347 - معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة: اتحاد الكتاب العرب، ط 1، 1423 هـ.

348 - معرفة السنن والآثار، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: سيد كسروي حسن، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 349 - المغازي للواقدي، محمد عمر الواقدي، تحقيق: مارسدن جونس، بيروت: دار عالم الكتب، ط 1، د. ت. 350 - المغرب في ترتيب المعرب، أَبو الفتح ناصر الدين بن المطرز، تحقيق: محمود فاخوري وعبد الحميد مختار، حلب: مكتبة أسامة بن زيد، ط 1، 1979 م. 351 - مغني المحتاج، محمد الخطيب الشربيني، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 352 - المغني، عبد اللَّه بن أحمد بن قدامة المقدسي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1405 هـ. 353 - مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، محمد عمر الرازي الشافعي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421 هـ. 354 - المفهم لما أشكَل من تَلخِيصِ كتاب مُسلم، أحمد بن عمر القرطبي، تحقيق: محيي الدين ديب، ويوسف بديوي، وأحمد السيد، ومحمود بزال، دمشق، بيروت: دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب:، ط 1، 1417 هـ. 355 - مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، تحقيق: محمد الميساوي، الأردن: دار النفائس، ط 1، 1420 هـ. 356 - من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق، عبد اللَّه الزبير عبد الرحمن، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، 1997 م. 357 - من وسائل دفع الغُربة، سلمان بن فهد العودة، المملكة العربية السعودية: دار ابن الجوزي، ط 1، 1412 هـ.

358 - مناهج العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاروق عبد المجيد السامرائي، جدة: مكتبة دار الوفاء، ط 1، د. ت. 359 - مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1416 هـ. 360 - المنتظم، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، بيروت: دار صادر، ط 1، 1358 هـ. 361 - المنتقى شرح الموطأ، سليمان بن خلف الباجي، القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، ط 2، د. ت. 362 - المنتقى لابن الجارود، عبد اللَّه بن علي بن الجارود النيسابوري، تحقيق: عبد اللَّه البارودي، بيروت: مؤسسة الكتاب الثقافية، ط 1، 1408 هـ. 363 - المنثور في القواعد الفقهية، بدر الدين بن محمد بن بهادر الزركشي، الكويت: وزارة الأوقاف الكويتية، ط 2، 1985 م. 364 - منح الجليل شرح مختصر خليل، محمد أمين بن عمر، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 365 - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، مصر: مؤسسة قرطبة: ط 1، 1406 هـ. 366 - المنهج الحركي للسيرة النبوية، منير الغضبان، الأردن: مكتبة المنار، ط 1، د. ت. 367 - منهج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في حماية الدعوة والمحافظة على منجزاتها خلال الفترة المكية، الطيب برغوث، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية، ط 1، 1416 هـ. 368 - المهذب في فقه الإمام الشافعي، إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت.

369 - الموافقات في أصول الفقه، إبراهيم بن موسى الشاطبي، بيروت: دار المعرفة، تحقيق: عبد اللَّه دراز، ط 1، د. ت. 370 - مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، محمد الحطاب، بيروت: دار الفكر، ط 2، 1398 هـ. 371 - موسوعة الأسئلة الفلسطينية، نابلس: مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية، ط 1، 1423 هـ. 372 - موسوعة السياسة، د. عبد الوهاب الكيالي وآخرون، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 1981 م. 373 - الموسوعة الفقهية الكويتية، الكويت: وزارة الأوقاف والشئون الإسلاية، ط 2، 1408 هـ. 374 - موقف الدولة العثمانية تجاه مأساة المسلمين في الأندلس، د. عبد اللطيف محمد الحميد، ط 1، د. ن، 1414 هـ. 375 - نصب الراية لأحاديث الهداية، عبد اللَّه بن يوسف الحنفي الزيلعي، تحقيق: محمد البنوري، مصر: دار الحديث، ط 1، 1357 هـ. 376 - النظام السياسي في الإسلام، مجموعة من المؤلفين، الرياض: مدار الوطن للنشر، ط 2، 1427 هـ. 377 - نظرية الإكراه المدني بين الشريعة والقانون، هائل حزام العامري، القاهرة: المكتب الجامعي الحديث، ط 1، 2005 م. 378 - نظرية الدولة في الاسلام، عبد الغني بسيوني عبد اللَّه، بيروت: الدار الجامعية، ط 1، 1986 م.

379 - نظرية الضرورة حدودها وضوابطها، جميل محمد مبارك، المنصورة: دار الوفاء، ط 1، 1408 هـ. 380 - النظرية العامة لتسليم المجرمين دراسة تحليلية تأصيلية، عبد الفتاح محمد سراج، د. ن، ط 1، د. ت. 381 - نظرية المقاصد عند الشاطبي، أحمد الريسوني، السعودية: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الدار العالمية للكتاب الإسلامى، ط 4، 1416 هـ. 382 - النكت والعيون (تفسير الماوردي)، علي بن محمد بن حبيب الماوردي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، د. ت. 383 - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، محمد بن شهاب الدين الرملي، بيروت: دار الفكر، ط 1، د. ت. 384 - النهاية في غريب الأثر، المبارك بن محمد الجزري، تحقيق: طاهر الزاوي، ومحمود الطناحي، بيروت: المكتبة العلمية، ط 1، 1399 هـ. 385 - نواسخ القرآن، عبد الرحمن بن علي، ابن الجوزي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1405 هـ. 386 - نيل الأوطار، محمد بن علي الشوكاني، مصر: دار الحديث، ط 1، د. ت. 387 - الهجرة إلى الحبشة - دراسة مقارنة للروايات، د. محمد الجميل، الرياض: جامعة الملك سعود، ط 1، 1419 هـ. 388 - الهجرة إلى بلاد غير المسلمين، عماد بن عامر، بيروت: دار ابن حزم، ط 1، 1425 هـ. 389 - الهداية شرح البداية، علي بن أبي بكر المرغياني، بيروت: المكتبة الإسلامية، ط 1، د. ت.

390 - الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل الصفدي، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، بيروت: دار إحياء التراث، ط 1، 1420 هـ. 391 - واقعنا المعاصر، محمد قطب، جدة: مؤسسة المدينة للصحافة، ط 1، 1407 هـ. 392 - الوحدة الإسلامية، د. محمد أَبو زهرة، بيروت: دار الرائد العربي، ط 1، 1978 م. 393 - وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي، د. حسان محمد حسان، مكة المكرمة: مطبوعات رابطة العالم الإسلامي، ط 1، د. ت. 394 - الوسيط في قانون السلام، محمد طلعت الغنيمي، الإسكندرية: منشأة المعارف، ط 1، 1982 م. 395 - الوسيط، محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: أحمد محمود، القاهرة: دار السلام، ط 1، 1417 هـ. 396 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خلّكاَن، تحقيق: يوسف علي طويل، مريم قاسم طويل، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1419 هـ. 397 - وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد، القاهرة: المكتبة التوفيقية، ط 1، 1421 هـ. 398 - الولاء والبراء في الإسلام، محمد سعيد القحطاني، الرياض: دار طيبة، ط 1، 1411 هـ. * * *

§1/1