الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية لابن قتيبة

الدِّينَوري، ابن قتيبة

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم (مقدمة المؤلف) الحمد لله مرتضي الحمد لنفسه، وجاعله فاتحة وحيه، ومنتهى شكره، وكفاء نعمته، ودعوى أهل جنته عند إفضائهم إلى كرامته، البر بخلقه، العواد على المذنبين بعفوه، الذي لا يخيب راجيه، ولا يرد داعيه، ولا ينسى ذاكريه، ولا يقطع حبل عصمته ممن تمسك بعروته، أحمده بجميع محامده على جميع نعمه، وندعوه أن يشعرنا خشيته، ويشرب قلوبنا مراقبته عند كل لفظ وعقد وكل قبض وبسط، وأن يجعل كلامنا له ودلالتنا عليه وإرشادنا إليه، ويؤم بنا سمت الحق وقصد السبيل، وأن يبلغ نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم منا أفضل صلاة وأنماها وأزكاها وأقضاها لما فرض من حقه وأوجب من ذكره، صلى الله وملائكته المقربون عليه وعلى آله الطيبين وعلى جميع النبيين والمرسلين، ونعوذ بالله من نزغ الشيطان ومصائده ولطيف خدعه ومكائده، فقد صدق على هذه الأمة ظنه، وأجلب عليهم بخيله ورجله، وقعد لهم رصداً بكل مرصد، ونصب لهم شركاً بكل ريع، وطفق لغوايتهم بكل شبهة، فأصبح الناس إلا قليلاً ممن عصم الله مفتونين، وفيما يوبقهم خائفين، وعن سبيل نجاتهم ناكبين، ولما وضعه الله عنهم متكلفين، وعما كلفهم

معرضين، إن دعوا أنفوا، وإن وعظوا هزأوا، وإن سئلوا تعسفوا، وإن سألوا أعنتوا، قد فرقوا الدين وصاروا شيعاً فهم يتنابزون بالألقاب ويتسابون بالكفر ويتعاضدون بالنحل ويتناصرون على الهوى وعاد الإسلام غريباً كما بدأ، فماذا يعجب من سلة السيف وشمول الخوف ونقص الأموال والأنفس وهل يتوقع بعد تزيدنا في الغواية إلا التزيد في البلاء حتى يحكم الله بما شاء بيننا وهو خير الحاكمين. وكان طالب العلم فيما مضى يسمع ليعلم ويعلم ليعمل ويتفقه في دين الله لينتفع وينفع فقد صار طالب العلم الآن يسمع ليجمع ويجمع ليذكر ويحفظ ليغالب ويفخر، وكان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي وفيما لا يقع وفيما قد

انقرض من حكم الكتابة وحكم اللعان ورجم المحصن، وصار الغرض فيه إخراج لطيفه، وغوصاً على غريبه، ورداً على متقدم، فهذا يرد على أبي حنيفة وهذا يرد على مالك، وآخر يرد على الشافعي بزخرف من القول، ولطيف من الحيل، كأنه لا يعلم أنه إذا رد على الأول صواباً عند الله بتمويهه فقد تقلد المآثم عن العاملين به دهر الداهرين. وهذا يطعن بالرأي على ماض من السلف وهو يرى، وبالابتداع في دين الله على آخر وهو يبتدع. وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر فهم دائبون يخبطون في العشوات قد تشعبت بهم الطرق وقادهم الهوى بزمام الردى.

سبب تأليف الرسالة

[سبب تأليف الرسالة] وكان آخر ما وقع من الاختلاف أمراً خص بأصحاب الحديث الذين لم يزالوا بالسنة ظاهرين، وبالاتباع قاهرين يداجون بكل بلد ولا يداجون ويستتر منهم بالنحل ولا يستترون، ويصدعون بحقهم الناس ولا يستغشون، ولا يرتفع بالعلم إلا من رفعوا، ولا يتضع فيه إلا من وضعوا، ولا تسير الركبان إلا بذكر من ذكروا، إلى أن كادهم الشيطان بمسألة لم يجعلها الله تعالى أصلاً في الدين، ولا فرعاً، في جهلها سعة وفي العلم بها فضيلة، فنمى شرها، وعظم شأنها حتى فرقت جماعتهم وشتتت كلمتهم ووهنت أمرهم وأشمتت حاسديهم وكفت عدوهم مؤنتهم بألسنتهم وعلى أيديهم فهو دائب يضحك منهم ويستهزئ بهم حين رأى بعضهم يكفر بعضاً وبعضهم يلعن بعضاً ورآهم مختلفين وهم كالمتفقين ومتباينين وهم كالمجتمعين ورأى نفسه قد صار لهم سلماً بعد أن كان لهم حرباً. ولما رأيت إعراض أهل النظر عن الكلام في هذا الشأن منذ وقع، وتركهم تلقيه بالدواء حين بدا، وبكشف القناع عنه حين نجم، إلى أن استحكم أساسه، وبسق رأسه، وجرى على اعتياد الخطأ فيه الكهل، ونشأ عليه الطفل وعسر على المداوين أن يخرجوا من القلوب ما قد استحكم بالألف ونبت على شراه اللحم، لم أر لنفسي عذراً في ترك ما أوجبه الله علي بما وهب من فضل المعرفة في أمر استفحل بأن قصر مقصر فتكلفت بمبلغ علمي ومقدار طاقتي ما رجوت أن يقضي بعض الحق عني لعل الله ينفع به فإنه بما شاء نفع، وليس على من أراد الله بقوله أن يسأله الناس بل عليه التبصير وعلى الله التيسير. وسيوافق قولي هذا من الناس ثلاثة:

الرد على نفاة القدر

رجلاً منقاداً سمع قوماً يقولون فقال كما قالوا فهو لا يرعوي ولا يرجع لأنه لم يعتقد الأمر بنظر فيرجع عنه بنظر. ورجلاً تطمح به عزة الرياسة وطاعة الإخوان وحب الشهرة فليس يرد عزته ولا يثني عنانه إلا الذي خلقه إن شاء، لأن في رجوعه إقراره بالغلط واعترافه بالجهل وتأبى عليه الأنفة وفي ذلك أيضاً تشتت جمع وانقطاع نظام واختلاف إخوان عقدتهم له النحلة، والنفوس لا تطيب بذلك إلا من عصمه الله ونجاه. ورجلاً مسترشداً يريد الله بعمله لا تأخذه فيه لومة لائم ولا تدخله من مفارق وحشة ولا تلفته عن الحق أنفة فإلى هذا بالقول قصدنا وإياه أردنا. ولم أر صواباً أن يكون الكتاب محرراً بذكر هذا الباب خاصة دون غيره فقدمت القول فيه بذكر بعض ما تأولته الجهمية في الكتاب والحديث وإن قل لنحمد الله تعالى على النعمة ونعلم أن الحق مستغن عن الحيلة، ولم أعد في أكثر الرد عليهم طريق اللغة. (الرد على نفاة القدر) فأما الكلام فليس من شأننا ولا أكثر من هلك إلا به وبحمل الدين

على ما يوجبه القياس. ألا ترى أن أهل القدر حين نظروا في قدر الله الذي هو سره بآرائهم وحملوه على مقاييسهم أرتهم أنفسهم قياساً على ما جعل في تركيب المخلوق من معرفة العدل من الخلق على الخلق أن يجعلوا ذلك حكماً بين الله وبين العبد فقالوا بالتخلية والإهمال وجعلوا العباد فاعلين لما لا يشاء وقادرين على ما لا يريد، كأنهم لم يسمعوا بإجماع الناس على ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقالوا كيف يضل ويعذب ويريد ويكره ويحول ويكلف؟ وهل قصر فاعل هذا عن أفحش الظلم؟ ونسوا ما يلزمهم في اختلاف الحكمين وأن من ملك البعض ليس

كمن ملك الكل، وأن الخلق كله لله يميت ويحيى ويفقر ويغني ويصح ويسقم ويبتدئ بالنعم من يشاء ويصطفي للرسالة من شاء ويؤيده بالتوفيق ويملأ قلبه بالنور ويعصمه من الذنوب ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة وأنه لو لم يرد المعصية لما هيأهم هيئة المعصية ولما ركب فيهم آلة الشهوة كما طبع الملائكة ولا سلط عليهم عدوهم ثم أمرهم بالاحتراس.

وأنى للضعيف الاحتراس ممن حرست منه السموات بالنجوم ومنع من الاستماع بالرجوع وجعل له السبيل إلى القلوب من حيث لا يرى فهو يجري مجرى الدم ويوسوس ويخنس ولا يعصمه الله ولا خلق آدم للأرض وأسكنه الجنة وحرم عليه الشجرة وقد علم أنه سيغر فيغتر ويستزل فيزل حتى يخرجه منها إلى حيث جعل له فيه مستقراً ومتاعاً إلى حين. ولما اطرد لهم القول على ما أصلوا ورأوه حسن الظاهر قريباً من النفوس يروق السامعين ويستميل قلوب الغافلين نظروا في كتاب الله فوجدوه ينقض ما قاسوا ويبطل ما أسسوا فطلبوا له التأويلات المستكرهة والمخارج البعيدة وجعلوه عويصاً وألغازاً وإن كانوا لم يقدروا من تلك الحيل على ما يصح في النظر ولا في اللغة كقولهم في: {يضل من يشاء} ينسبهم إلى الضلال {ويهدي من يشاء} ينسبهم إلى الهداية وما في نسبتهم إلى ذلك؟ حتى يعيد ويبدي، ولو أراد النسبة لقال يضللهم،

كما يقال يخونهم ويفسقهم ويظلمهم أي ينسبهم إلى ذلك. وقالوا في قوله عز وجل: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله} أي ما كان لها أن تؤمن إلا بعلم الله وعلموا ما يلزمهم أن جعلوا الإذن ههنا: المشيئة والإطلاق، وذهبوا إلى قول القائل: (آذنتك بالأمر) أي أعلمتك. وهذا من تأويلهم لا يصح في نظر ولا في لغة: أما النظر: فإنه لم يقل أحد من الناس أن شيئاً يحدث في الأرض لا يعلمه الله فيقول وما كان لنفس أن تؤمن إلا بعلم الله وإنما اختلفوا في الإذن الذي هو المشيئة والإطلاق فقال المثبتون لم يشأ الله أن يؤمن جميع الناس ولو شاء لآمنوا فليس لنفس أن تؤمن حتى يشاء الله ذلك ويطلقه. وقال أهل القدر: قد شاء الله هذا لكل نفس وأطلقه فلها أن تؤمن إن شاءت وفي صدر هذا الكلام دليل على ما قال أهل الإثبات لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب إيمان قريش فأنزل الله عليه: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} ثم قال على إثر ذلك: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله} يريد بمشيئته وإطلاقه. فأول الكلام دليل على آخره والناس مجمعون لا يختلفون على أن القائل إذا قال لو شئت لأتيتك أنه لم يشأ إتيانه ولو شئت لحججت أنه لم يشأ

الحج ولو شئت لتزوجت أنه لم يشأ الزواج فكذلك يلزم في: {لو شاء ربك لأمن من في الأرض} أنه لم يشأ ذلك ومثله: {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} و: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} فإن قال أراد لو شاء لآمنوا إجباراً ولكنه لم يشأ أن يجبرهم على ذلك قيل له لم يشأه على حال فاجعله بأي وجه شئت. وقيل: والله يفعل بعباده ما هو أصلح لهم في كل حال عندهم فأي الأمرين كان أصلح لهم؟ أن يجبرهم على الإيمان فيؤمنوا أو يخليهم وشأنهم فيكفروا؟ فهذا النظر. وأما اللغة: فإنه لا يجوز فيها أن يجعل الأذن العلم لأنه الأذن، ألا ترى أن قائلاً لو قال لك قد آذنتك بخروج الأمير إيذاناً أي أعلمتك خروجه إعلاماً أن جوابك كان يكون له قد آذنت لقولك أذناً: أي سمعته فعلمته، والإيذان المأخوذ من الأذن إنما هو إيقاع الخبر في الأذن. والأذن استماعه وعلمه. قال عدي بن زيد: أيُّها القلب تَعلَّلْ بدَدَنْ ... إنَّ همي في سماع وأذن ومنه أذان الصلاة إنما هو إسماع الناس ذكرها حتى يعلموا وقول الله عز وجل: {وأذان من الله ورسوله} أي إسماع إعلام والأذن في الشيء أن تشاءه وتطلقه تقول: (أذنت له في الخروج إذناً) هذا ما ليس به خفاء على من نظر في اللغة وفهمها. وقالوا في قوله عز وجل: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً}

فجعلوا الإرادة في الهداية والإضلال للعبد لا لله وركبوا في ذلك أفحش غلط وأحول كلام. والإرادة لا تجوز أن تكون للعبد وقد وليها اسم الله وهو مرفوع بإجماع القراء، ولو كان أحد منهم نصب الله لكان أقرب من المعنى الذي أراده وإن كان لا يجوز أيضاً لأنه يضم في الكلام (من) فيكون معناه من يريد من الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ثم يحذف (من) وينصب الله لما نزع حرف الصلة كما يقال (من يسرق القوم مالهم يقطع) أي يسرق من القوم مالهم وهذا ليس يجوز إلا مع حروف معدودة محكية عن العرب، لا نحمل عليها غيرها ونقيسه عليها. وقالوا في قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس} دفعنا وألقينا واحتج من احتج منهم بقول المثقب العبدي حكاية عن ناقته: تقول إذا ذرأت لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني وهذا جهل باللغة وتصحيف وإنما هو (درأت) بالدال غير المعجمة والله يقول: {ولقد ذرأنا} بالذال وأحسبهم سمعوا بقول العرب (أذرته الدابة عن ظهرها) أي ألقته فتوهموا أن ذرأنا من ذلك.

ذرأنا في تقدير فعلنا غير مهموز ولو أريد ذلك المعنى لكان: (ولقد أذرينا لجهنم) وسمعوا بقوله: (ذرته الريح) وبقول الله: {فأصبح هشيماً تذروه الرياح} أي تنسفه وتلقيه فتوهموه منه ولو أريد ذلك لكان: (ولقد ذرونا لجهنم) وليس يجوز أن يكون (ذرأنا) في هذا الموضع إلا خلقنا: {ذرأكم في الأرض} وقال: {يذرؤكم فيه} أي يخلقكم في الرحم ومنه قيل ذرية الرجل لولده وإنما هو خلق الله. وقالوا في قوله: {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء} . أراد إن هو إلا اختيارك تضل به من تشاء يعني الفاسقين وتهدي من تشاء يعني المؤمنين واحتجوا بقوله: {وما يضل به إلا الفاسقين} والفاسقون ههنا الكافرون لأنه قال في صدر الآية: {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً} وكيف يضل الضال ويهدي المهتدي فإن قالوا يريد الكافر ضلالة والمؤمن هداية أكذبهم في هذا الموضوع معنى الآية لأن فتنة القوم بالعجل أنه كان فضة وحلياً فتحول جسداً له خوار فارتدوا عن الإسلام وعبدوه ولم يكن مع موسى بني إسرائيل كافر ولو كانوا كفاراً ما غضب ولا ألقى الألواح، فإنما وقع الضلال ههنا بمسلمين. وأما قوله عز وجل: {وما يضل به إلا الفاسقين} فإنه نزل في قوم من اليهود وسمعوا قوله عز وجل: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت} وقوله: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه} فقالوا ما هذه الأمثال التي لا تليق بالله فأنزل الله عز وجل: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها} من الذباب والعنكبوت فقالوا ما أراد بمثل ينكره فيضل به كثيراً من الناس. فقال الله تعالى: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا

فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين} يعني اليهود لأنهم ضلوا بالمثل وأنكروا ولم ينكره غيرهم. وقد يأتي الحرف وظاهره العموم ومعناه الخصوص كقول موسى عليه السلام: {وأنا أول المؤمنين} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وأنا أول المسلمين} لم يريدا كل المؤمنين وكل المسلمين في جميع الأزمنة بل مؤمني زمن موسى ومسلمي زمن نبينا عليهما السلام وكذلك قوله تعالى في بني إسرائيل: {فضلكم على العالمين} لم يفضلهم على محمد صلى الله عليه وسلم ولا أممهم على أمته وإنما أراد عالمي أزمنتهم وشيء لم نزل نسمعه منهم على قديم الأيام قد ارتضوه لأنفسهم ودونوه في كتبهم وأجمع عليه عالمهم وجاهلهم وكهلهم وحدثهم في تأويل قول الله عز وجل: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} . وقوله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون} وقوله: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} وأشباه هذا أنه حكم عليهم فإذا نحن تدبرنا هذا التأويل وقابلنا به التنزيل لم نجد هذا المتأول حمل كتاب الله على مثل هذه التأويلات إلا لإقامة مذهبه وحاول بعضهم إبدال بعض حروفه بغيرها فقرأ: {عذابي أصيب به من أشاء} بالسين

الرد على أهل الجبر

غير المعجمة والنصب وقرأ جميع ما في القرآن من المخلصين بكسر اللام وإن كان قرأ بذلك بعض القراء يريد أن يجعل الإخلاص لهم ولا يكون لله في ذلك صنع فكيف يصنع بقوله: {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} وقرأ: {ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} بكسر إنما الأولى وفتح الثانية يريد لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً إنما نملي لهم خير لأنفسهم فحرف المعنى عن جهته ونقله عن سننه وجعل الإملاء للكفار من الله إنما هو لخير يريده بهم. وقد حمل بعضهم على أنه قرأ (ليزدادوا إيماناً) وألحقها في بعض المصاحف طمعاً في أن تبقى على الدهر ويجعلها الناس وجهاً وكيف له ما قدر والله يقول إلى جنبها: {ولهم عذاب مهين} . (الرد على أهل الجبر) ولما رأى قوم من أهل الإثبات إفراط هؤلاء في القدر وكثر بينهم التنازع حملهم البغض لهم واللجاج على أن قابلوا غلوهم بغلو وعارضوا إفراطهم بإفراط فقالوا بمذهب جهم في الجبر المحض وجعلوا العبد المأمور المنهي المكلف لا يستطيع من الخير والشر شيئاً على الحقيقة ولا يفعل شيئاً على الصحة وذهبوا إلى أن كل فعل ينسب إليه فإنما ينسب إليه على المجاز كما يقال في الموات: مال الحائط وإنما يراد أميل وذهب البرد وإنما ذهب به وكلا الفريقين غالط وعن سواء الحق حائد.

ولو كان الأمر على ما قالوا لم يكن القدر سراً ولم يكن الناظر إليه كالناظر في شعاع الشمس ففيم اختصمت الملائكة.

وفيم ألح عزير حتى محي من ديوان النبوة.

وفيم احتج آدم وموسى.

وإنما صار سراً لأنك ترى قادراً وهو عاجز، ومؤيداً وهو ممنوع، وترى حازماً محروماً، وعاجزاً مرزوقاً، وشجاعاً مخذولاً، وجباناً منصوراً، وعاقلاً لا يستشار في الأمور ولا يستعمل، وساقطاً متهافتاً لا يعطل، وعالمين متقاربين في العلم والنظر في الدين خصمين وهما مختلفان فهذا يقول بالإهمال المحض وذاك يقول بالإجبار المحض وهذا حروري وذاك

رافضي وترى أعداء الله يدالون أولياءه حتى يقتلوهم كل قتلة ويمزقوهم كل ممزق. وترى الناس أصنافاً في التفضيل فمنهم قوم ابتدأهم الله بالنعم وأسكنهم ريف الأرض وأكرمهم وأخدمهم وحسن وجوههم وبيض ألوانهم وسقاهم العذب النقاح ورزقهم من الطيبات وأطعمهم من كل الثمرات ووفر عليهم العقول والأفهام وفتق ألسنتهم بالحكمة وألبابهم بالعلم وبعث فيهم بالقرب منهم الرسل لأهل هذا الإقليم الذي أسكنناه الله بفضله. ومنهم قوم أنزلهم أطراف الأرض وجدوبة البلاد وأذلهم وأعراهم وشوه خلقهم وسود ألوانهم وسقاهم الملح الأجاج وجعل أقواتهم الحشرات والنبات وسلبهم العقول وباعدهم من مبعث الرسل ومنتهى الدعوة فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً ثم جعلهم لجهنم حصيباً ولسعيرها وقوداً كالزنج وصنوف كثيرة من السودان وأصناف من الأعاجم ويأجوج ومأجوج فهل لهؤلاء أن يحتجوا على الله بما منح غيرهم ومنعهم؟ لا لعمر الله ما لأحد عليه حجة ولا قبله حق ولا فيما خلق شرك بل له الحجة البالغة، وهو الفعال لما يريد. وعدل القول في القدر أن تعلم أن الله عدل لا يجور: كيف خلق، وكيف قدر، وكيف أعطى، وكيف منع، وأنه لا يخرج من قدرته شيء ولا يكون في ملكوته من السموات والأرض إلا ما أراد، وأنه لا دين لأحد عليه ولا حق لأحد قبله، فإن أعطى فبفضل، وإن منع فبعدل، وأن العباد يستطيعون ويعملون ويجزون بما يكسبون، وأن لله لطيفة يبتدئ بها من أراد ويتفضل بها على من أحب، ويوقعها في القلوب فيعود بها إلى طاعته ويمنعها

الرد على نفاة الصفات والقائلين بالمجاز والزاعمين أن صفات الله كلها معنى واحد

من حقت عليه كلمته فهذه جملة ما ينتهي إليه علم ابن آدم من قدر الله عز وجل وما سوى ذلك مخزون عنه. [الرد على نفاة الصفات والقائلين بالمجاز والزاعمين أن صفات الله كلها معنى واحد] وتعمق آخرون في النظر وزعموا أنهم يريدون تصحيح التوحيد بنفي التشبيه عن الخالق فأبطلوا الصفات مثل الحلم والقدرة والجلال والعفو وأشباه ذلك. فقالوا هو الحليم ولا نقول بحلم، وهو القادر ولا نقول بقدرة، وهو العالم ولا نقول بعلم، كأنهم لم يسمعوا إجماع الناس على أن يقولوا (أسألك عفوك) وأن يقولوا (بعفو بحلم ويعاقب بقدرة) والقدير هو ذو القدرة والعافي هو ذو العفو، والجليل هو ذو الجلال والعليم هو ذو العلم فإن زعموا أن هذا

مجاز، قيل لهم ما تقولون في قول القائل: غفر الله لك وعفا عنك وحلم الله عنك أمجاز هو أم حقيقة؟ فإن قالوا مجاز فالله لا يغفر لأحد ولا يعفو عن أحد ولا يحلم عن أحد على الحقيقة. ولن يركبوا هذه. وإن قالوا هو حقيقة فقد وجب في المصدر ما وجب في الصدر لأنا نقول غفر الله مغفرة وعفا عفواً وحلم حلماً فمن المحال أن يكون واحد حقيقة والآخر مجازاً وقال الله: {إن كيدي متين} وأجمع الناس على أن الحول والقوة لله، والحول الحيلة. وقالوا في (سميع بصير) هما سواء ليس في سميع من المعنى إلا ما في بصير ولا فيهما إلا معنى عليم وقد سمع الله قول اليهود: {إن الله فقير ونحن أغنياء} حين قالوه وعلمه قبل أن يقولوه فهل يجوز لأحد أن يقول إن الله سمعه قبل أن يقولوه وكذلك قول المجادلة في زوجها قد سمع الله جدالها وسمع محاورتها للنبي صلى الله عليه وسلم حين جادلته وحاورته وعلمه قبل أن تجادل وتحاور به فهل لأحد أن يقول إن الله قد سمعه قبل أن يكون وإذا لم يجز ذلك فقد علم أن في سميع معنى غير معنى عليم والله يقول: {إنني معكما أسمع وأرى} .

الرد على القائلين بخلق القرآن

[الرد على القائلين بخلق القرآن] وقالوا في كلام الله أنه مخلوق لأن الله تعالى قال: {إنا جعلناه قرآنا عربياً} والجعل بمعنى الخلق ولأنه قال: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} وكل محدث مخلوق وأن معنى: {كلم الله} أوجد كلاماً و: {كلم الله موسى تكليماً} أوجد كلاماً سمعه فخرجوا بهذا التأويل من اللغة والمعقول، لأن معنى تكلم الله أتى بالكلام من عنده، وترحم الله أتى بالرحمة من عنده، كما يقال تخشع فلان أتى بالخشوع من نفسه، وتشجع أتى بالشجاعة من نفسه، وتبتل أتى بالتبتل من نفسه، وتحلم أتى بالتحلم من نفسه، ولو كان المراد أوجد كلاماً لم يجز أن يقال: يتكلم، وكان الواجب أن يقال: أكلم، كما يقال أقبح الرجل أتى بالقباحة وأطاب أتى بالطيب وأخس أتى بالخساسة، وأن يقال أكلم الله موسى إكلاماً، كما يقال أقبر الله الميت: أي جعل له قبراً أو أرعى الله الماشية جعلها ترعى، في أشباهٍ لهذا كثيرة لا تخفى على أهل اللغة. والعرب تسمي الكلام لساناً لأنه على اللسان يكون.

قال الشاعر وهو أمية بن أبي الصلت: واسمع كلام الله كيف شكُوله ... فاعجب ويُلسِنك الذي تستنشد أراد اسمع كلام الله ثم قال: (ويلسنك) أي يكلمك الذي تستنشده أي كأنه يكلمك. وقال الله عز وجل حكاية عن إبراهيم: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} وقال الشاعر: إني أتتني لسان لا أسر بها أي أخبرت. وأما استشهادهم بالجعل على خلق القرآن في قول الله: {إنا جعلناه قرآناً عربياً} فإن الجعل يكون بمعنيين: أحدهما خلق، والآخر غير خلق فأما الموضع الذي يكون فيه خلقاً: فإذا رأيته متعدياً إلى مفعول واحد لا يجاوزه كقول الله: {خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} فهذا بمعنى خلق، وكذلك: {وجعل منها زوجها} أي خلق منها. وأما الموضع الذي يكون فيه غير الخلق فإذا رأيته متعدياً إلى مفعولين كقوله: {وقد جعلتم الله عليكم كفيلا} أي صيرتم. وكقوله: {فحعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها} وكقول القائل (جعل فلانٌ أمر امرأته في يدها) فإن هم وجدوا في القرآن كله جعل متعديه إلا القرآن وحده ليقضوا عليه بالخلق فنحن نتابعهم، وكذلك المحدث ليس هو في موضع بمعنى مخلوق، فإن أنكروا ذلك فليقولوا في قول الله: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} أنه يخلق وكذلك قوله: {لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا} أي يحدث لهم القرآن ذكراً. والمعنى يجدد عندهم ما لم يكن. وكذلك قوله: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} أي ذكر حدث عندهم لم يكن قبل ذلك.

الرد على متأولي الصفات الرد على القائلين أن اليد هي النعمة

[الرد على متأولي الصفات] (الرد على القائلين أن اليد هي النعمة) وفعلوا في كتاب الله أكثر مما فعل الأولون في تحريف التأويل عن جهته فقالوا في قول الله: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} أن اليد ههنا النعمة وما ننكر أن اليد قد تتصرف على ثلاثة وجوه من التأويل: أحدها: النعمة. والآخر: القوة من الله: {أولي الأيد والأبصار} يريد أولي القوة في دين الله والبصائر ومنه يقول الناس (ما لي بهذا الأمر يد) يعنون مالي به من طاقة. الوجه الثالث: اليد بعينها. ولكنه لا يجوز أن يكون أراد في هذا الموضع النعمة لأنه قال: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} والنعم لا تغل وقال: {غلت أيديهم} معارضة بمثل ما قالوا ولا يجوز أن يكون أراد غلت نعمهم ثم قال: {بل يداه مبسوطتان} ولا يجوز أن يريد نعمتاه مبسوطتان. وكان مما احتجوا به للنعمة قوله: {غلت أيديهم} لو أراد اليد بعينها لم يكن في الأرض يهودي غير مغلول اليد، فما أعجب هذا الجهل والتعسف في القول بغير علم. ألم يسمعوا بقول الله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} وبقوله: {قاتلهم الله أنى يؤفكون} وقوله: {لعنوا بما قالوا} واللعن الطرد. فهل قتل الله الناس جميعاً وهل قتل قوماً وطرد آخرين ولم يسمعوا بقول العرب: قاتله الله ما أبطشه، وأخزاه الله ما أشعره، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: ((تربت يداه)) أي افتقر ولم يفتقر.

ولامرأة ((عقرى حلقى)) ولم يعقرها الله ولا أصاب حلقها بوجع. فإن قال لنا: ما اليدان ههنا قلنا هما اليدان اللتان تعرف الناس كذلك قال ابن عباس في هذه الآية: (اليدان اليدان) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلتا يديه يمين)) فهل يجوز لأحد أن يجعل اليدين ههنا نعمة أو نعمتين وقال: {لما خلقت بيدي} فنحن نقول كما قال الله تعالى وكما قال رسوله ولا نتجاهل ولا يحملنا ما نحن فيه من نفي التشبيه على أن ننكر ما وصف به

نفسه، ولكنا لا نقول كيف اليدان وإن سئلنا نقتصر على جملة ما قال ونمسك عما لم يقل. وتأويل الآية: أن اليهود قالت: يد الله مغلولة أي ممسكة عن العطاء فضرب الغل في اليد مثلاً لأنه يقبض اليد عن أن تمتد وتنبسط كما تقبض يد البخيل، فقال الله تعالى: {غلت أيديهم} أي قبضت عن العطاء والإنفاق في الخير والبر {ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان} بالعطاء {ينفق كيف يشاء} ومثله قوله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون} أي قبضنا أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله بموانع الأغلال. وما قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلتا يديه يمين)) فإنه أراد معنى التمام والكمال لأن كل شيء مياسره تنقص عن ميامنه في القوة والبطش والتمام وكانت العرب تحب التيامن وتكره التياسر لما في اليمين من التمام وفي اليسار من النقص ولذلك قيل اليمن والشؤم. فاليمن في اليد اليمنى، والشؤم في اليد الشؤمى وهي اليسار. وقالوا فلان ميمون من اليمين ومشؤوم من الشؤمى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإبل: ((إن أدبرت أدبرت وإن أقبلت أدبرت ولا يأتي نفعها من جانبها الأشأم)) يعني الأيسر. ويمكن أيضاً أن يريد العطاء باليدين جميعاً لأن اليمنى هي المعطية

الرد على متأول الروح

فإذا كانت اليدان يمينين كان العطاء بهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يمين الله سخاء لا يغيضها شيء الليل والنهار)) أي تصب العطاء ولا ينقصها ذلك وإلى هذا المعنى ذهب المرار حيث يقول: وإن على الأوانة من عقيل ... فتى كلتا اليدين له يمين (الرد على متأول الروح) وقالوا في قوله تعالى: {ونفخت فيه من روحي} أن الروح هو الأمر أي أمرت أن يكون. واحتجوا بقول سليمان وأبي الدرداء: إنا نقوم فنكبر بروح الله أي بكلامه. والروح كما ذكروا قد يكون كلام الله في بعض المواضع نحو قوله: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} وكقوله عز وجل: {وكذلك أوحينا [إليك] (¬1) روحاً من أمرنا} . والروح أيضاً: روح الأجسام الذي يقبضه الله عند الممات. والروح أيضاً: ملكٌ عظيم من ملائكة الله قال الله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً} . والروح: الرحمة قال الله تعالى: {وأيدهم بروح منه} ¬

_ (¬1) ليست في المطبوع.

الرد على نفاة النظر لوجه الله يوم القيامة

أي برحمة كذلك قال المفسرون. وقال الله تعالى: {فروح وريحان} فمن قرأ بالضم أراد فرحمة ورزق وقال فبقاء ورزق. والروح: النفخ سمي روحاً لأنه ريح يخرج عن الروح. فأي شيء جعلت الروح من هذه التأويلات؟ فإذا نفخت: لا يحتمل إلا معنى واحداً قال ذو الرمة وذكر ناراً قدمها: وقلت له ارفعها إليت وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتةً قدرا يقول أحيي النار بنفخك. فنحن نؤمن بالنفخ وبالروح ولا نقول كيف. ذلك لأن الواجب علينا أن ننتهي في صفات الله حيث انتهى في صفته أو حيث انتهى رسوله صلى الله عليه وسلم ولا نزيل اللفظ عما تعرفه العرب وتضعه عليه ونمسك عما سوى ذلك. (الرد على نفاة النظر لوجه الله يوم القيامة) وقالوا في قوله: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة} أي منتظرة والعرب تقول نظرتك وانتظرتك بمعنى واحد ومنه قول الله: {انظرونا نقتبس من نوركم} أي انتظرونا. وقال الحطيئة: وقد نظرتكم إيناء صادرة ... للخمس طال بها حوزي وتنساسي أي انتظرتكم. وما ننكر أن نظرت قد يكون بمعنى انتظرت وأن الناظر قد يكون بمعنى

المنتظر. غير أنه يقال أنا لك ناظر أي: أنا لك منتظر. ولا يقال أنا إليك ناظر أي إليك منتظر إلا أن يريد نظر العين. والله يقول: {وجوه يومئذ ناظرة إلى ربها ناظرة} ولم يقل لربها ناظرة فيحتمل ما تأولوا. فأما دفعهم نظر العين بقول الله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} وبقول موسى عليه السلام: {رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} فإنه أراد: {لا تدركه الأبصار} في الدنيا وأراد: {لن تراني} في الدنيا لأنه تعال احتجب عن جميع خلقه في الدنيا وتجلى لهم يوم الحساب والقصاص فيرونه كما يرى القمر في ليلة البدر. لا يختلفون فيه كما لا يختلفون في القمر. والعرب تضرب بالقمر المثل في الشهرة والظهور وقال ذو الرمة: فقد بهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف القمرا ويقولون هذا أبين من الشمس ومن فلق الصبح وأشهر من القمر وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاضٍ على الكتاب ومفسر له. والخبر في الرؤية ليس من الأخبار التي يدفعها إلا جاهل أو معاند ظالم لتتابع الروايات

الرد عل نفاة صفة النفس

به من الجهات الكثيرة عن الثقات. فلما قال الله عز وجل: {لا تدركه الأبصار} وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ترون الله يوم القيامة)) لم يخف على ذي نظر أنه في وقت دون وقت. وفي قول موسى عليه السلام أيضاً: {رب أرني أنظر إليك} أبين الدلالة بأنه يرى في القيامة ولو كان الله لا يرى في حال من الأحوال ولا يجوز عليه النظر لكان موسى قد خفي عليه من صفة الله ما علموه. ومن قال إن الله يدرك بالبصر يوم القيامة فقد حده عندهم ومن كان الله عنده محدوداً فقد شبهه بالمخلوقين، ومن شبهه عندهم بالخلق فقد كفر. فما نقول في موسى فيما بين أن نبأه الله عز وجل وكلمه من الشجرة إلى الوقت الذي قال فيه: {أرني أنظر إليك} أنقضي عليه بأنه كان مشبهاً لله محدداً؟ لا لعمر الله ما يجوز أن يجهل موسى من الله مثل هذا لو كان على تقديرهم، ولكن موسى علم أن الله يرى يوم القيامة فسأل الله أن يجعل له في الدنيا ما أجله لأنبيائه وأوليائه يوم القيامة فقال: {لن تراني} يعني في الدنيا {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} أعلمه أن الجبل لا يقوم لتجليه حتى يصير دكاً وأن الجبال إذا ضعفت عن احتمال ذلك فابن آدم أحرى أن يكون أضعف، إلى أن يعطيه الله يوم القيامة ما يقوى به على النظر، ويكشف عن نظره الغطاء الذي كان في الدنيا فيصير بعد الكلال حديداً، والتجلي هو الظهور ومنه يقال جلوت المرآة والسيف إذا أظهرتهما من الصدأ وجلوت العروس إذا أبرزتها. (الرد عل نفاة صفة النفس) وقالوا في قوله: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك}

الرد على متأولي العرش

أي تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك كما قال: {وعنده مفاتح الغيب} وكما يقول القائل: (عندي علم ذاك) . وهذا كما ذهبوا إليه في احتمال التأويل على بعد والله أعلم بما أراده ولكن (عند) تدل على قرب وهم يزعمون أن الله تعالى لا يكون إلى شيء أقرب منه إلى شيء آخر، وأنه على العرش استوى في الحقيقة مثله في الأرض والعجب لقوم لا يؤمنون إلا بما يصح في المعقول، ثم خرجوا من كل معقول بقولهم: (إن الله في كل مكان بغير مماسة ولا مباينة وبغير موافقة ولا مفارقة) وقد قال أمية يذكر قرب موسى عليه السلام من الله حين كلمه: وهو أقرب الأنام إلى الله ... كقرب المداد للمنوال يقول وهو كقرب مداد الثوب من الخشبة التي ينسج الثوب عليها والله يقول: {وقربناه نجيا} ، النجي في معنى المناجي وهو من كلمك من قرب كما يقال جليس مجالس، وأكيل مؤاكل. وكذلك كليم الله بمعنى مكالم الله، وخليل الله بمعنى مخال الله. قال الله عز وجل: {خلصوا نجيا} وقال أبو زبيد يذكر رجلاً ساور الأسد: وثار عليه إعصار وهيجا ... نجياً ليس بينهما جليس يريد أن كل واحد قرب من الآخر. (الرد على متأولي العرش) وطلبوا للعرش معنى غير السرير، والعلماء باللغة لا يعرفون للعرش معنى إلا السرير وما عرش من السقوف وأشباهها. وقال أمية بن أبي الصلت:

مجدوا الله وهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق الناس ... وسوى فوق السماء سريرا شَرْجَعاً لا يناله بصر العين ... ترى دونه الملائك صورا وطلبوا للكرسي غير ما نعلم وجاؤوا بشطر بيت لا يعرف ما هو ولا يدري من قائله: (ولا يكرسيء علم الله مخلوق) والكرسي غير مهموز بإجماع الناس جميعاً ويكرسيء مهموز. وقالوا في قول الله عز وجل: {خلق الإنسان من عجل}

الرد على نفاة الخلة لله

أي من طين وجاؤوا ببيت لا يعرف ولا يدري من قاله: والحب ينبت بين الماء والعجل لما اشتبه عليهم قوله: {خلق الإنسان من عجل} تمحلوا له هذه الحيلة وهذه من المقدم والمؤخر أراد خلق العجل من الإنسان ومثله كثير. (الرد على نفاة الخلة لله) ونزهوا الله فيما زعموا عن أن يكون خليلاً لمخلوق لأن الخلة الصداقة فقالوا في قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} اتخذه فقيراً إليه وجعلوه من الخلة بنصب الخاء واحتجوا بقول زهير: وإن أتاه خليل يوم مسألةٍ ... يقول لا غائب مالي ولا حرم أي فقير، فقبحاً لهذه العقول وهذا النظر أما سمعوا ويحهم بإجماع

الرد على متأولي الاستواء

الناس جميعاً على أن الخلة بضم الخاء لإبراهيم وعلى أن موسى كليم الله وإبراهيم خليل الله، وعيسى روح الله، فإن كان معنى خليل الله: الفقير إلى الله، فأي فضيلة لإبراهيم في هذا القول إذ كان الناس جميعاً فقراء إلى الله والعجب لهم كيف لم يقولوا في قول الناس موسى كليم الله: أنه جريح الله من الكلم أو من معنى آخر. ما منعهم من ذلك إلا أن الله يقول: {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} فضاق عليهم الاحتيال، وما أشبه هذا بقولهم في: {وعصى آدم ربه فغوى} أي بشم من أكل الشجرة، وذهبوا إلى قول العرب: غوى الفصيل: إذا أتخم وهذا غوى يغوى وذلك غوى يغوي بكسر الواو غياً ولو وجدوا في: {وعصى آدم} مثل هذا التأويل أيضاً لقالوه. (الرد على متأولي الاستواء) وقالوا في قوله: {الرحمن على العرش استوى} أنه استولى وليس يعرف في اللغة استويت على الدار: أي استوليت عليها وإنما استوى في هذا المكان: استقر كما قال الله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} أي استقررت وقد يقول الرجل لصاحبه إذا رآه مستوفزاً (استو) يريد: استقر. وأما قوله: {ثم استوى إلى السماء} فإنه أراد عمد لها وقصد فكل من كان في شيء ثم تركه لفراغ أو غير فراغ وعمد لغيره فقد استوى إليه. فهذا مذهب القوم في تأويل الكتاب بآرائهم وعلى ما أصلوا من قولهم. (الرد على متأولي صفة الأصابع) وأما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اعترضوه بالنظر فيما كان له وجه في

النظر من هذه الجهة صدقوا به، وما لم يكن له مخرج رووه واستشفوه وكذبوا ناقليه ولم يلتفتوا إلى صحيح من الحديث ولا سقيم فآمنوا بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن)) لأنه عندهم يحتمل المخرج في اللغة وقالوا الإصبع: النعمة يذهبون إلى قول الراعي: ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أمحل الناس إصبعا أي ترى له أثراً حسناً وكقول الطفيل يصف فحل إبل: كميت كبكر الناب أحيا بنابه ... مَقالِيتَها واستحملتهن إصبع يقول لما ضرب في الإبل هذا الفحل عاشت أولادها وكانت قبل ذلك مَقاليت لا يعيش لها ولد. وقوله: (واستحملتهن إصبع) أي ظهر عليهن أثر حسن المرعى. والعرب تقول: ما أحسن إصبع فلان على ماله. ومن تدبر هذا التأويل وجده لا يشاكل ما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لأنه قال في دعائه: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) فقالت له إحدى أزواجه: أو تخاف يا رسول الله على نفسك فقال: ((إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله)) . فلو كان قلب المؤمن بين نعمتين من نعم الله لكان القلب محفوظاً بتينك النعمتين فلأي شيء دعا بالتثبيت. ولم

الرد على المشبهة

احتج على المرأة التي قالت له: أتخاف على نفسك، يؤكد قولها وكان ينبغي أن لا يخاف إذ كان القلب محروساً بنعمتين. وأنكروا الحديث الآخر: ((يحمل الأرض على إصبع وكذا على إصبع وكذا على إصبع)) لأن الإصبع ههنا لا يجوز أن تكون النعمة. وقالوا في الضحك هو مثل قول العرب: ضحكت الأرض بالنبات. إذا طلع فيها ضروب الزهر، وضحكت الطلعة: إذا انفتق كافورها عن بياضها، وضحك المزن: إذا لمع فيه البرق. وليس من هذه شيء إلا وللضحك فيه معنى حدث فإن كان الضحك الذي فروا منه فيه تشبيه بالإنسان فإن في هذا تشبيهاً بهذه المعاني. [الرد على المشبهة] ولما رأى قوم من الناس إفراط هؤلاء في النفي عارضوهم بالإفراط في التمثيل فقالوا بالتشبيه المحض، وبالأقطار والحدود، وحملوا الألفاظ الجائية في الحديث على ظاهرها، وقالوا بالكيفية فيها، وحملوا من مستشنع الحديث: عرق

مجمل اعتقاد السلف في الصفات

الخيل وحديث عرفات وأشباه هذا من الموضوع ما رأوا أن الإقرار به من السنة وفي إنكاره الريبة وكلا الفريقين غالط وقد جعل الله التوسط منزلة العدل ونهى عن الغلو فيما دون صفاته من أمر ديننا فضلاً عن صفاته ووضع عنا أن نفكر فيه كيف كان وكيف قدر وكيف خلق ولم يكلفنا ما لم يجعله في تركيبنا ووسعنا. [مجمل اعتقاد السلف في الصفات] وعدل القول في هذه الأخبار أن نؤمن بما صح منها بنقل الثقات لها فنؤمن بالرؤية والتجلي وإنه يعجب وينزل إلى السماء الدنيا وأنه على العرش استوى وبالنفس واليدين من غير أن نقول في ذلك بكيفية أو بحد أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت فنرجو أن نكون في ذلك القول والعقد على سبيل النجاة غداً إن شاء الله تعالى.

الرد على النواصب والروافض

[الرد على النواصب والروافض] وقد رأيت هؤلاء أيضاً حين رأوا غلو الرافضة في حب علي وتقديمه على ما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته عليه وادعاءهم له شركة النبي صلى الله عليه وسلم في نبوته، وعلم الغيب للأئمة من ولده وتلك الأقاويل والأمور السرية التي جمعت إلى الكذب والكفر إفراط الجهل والغباوة، ورأوا شتمهم خيار السلف وبغضهم وتبرأهم منهم، قابلوا ذلك أيضاً بالغلو في تأخير علي كرم الله وجهه وبخسه حقه، ولحنوا في القول وإن لم يعرضوا إلى ظلمه، واعتدوا عليه بسفك الدماء بغير حق ونسبوه إلى الممالأة على قتل عثمان رضي الله عنه، وأخرجوه بجهلهم من أئمة الهدى إلى جملة أئمة الفتن ولم يوجبوا له اسم الخلافة، لاختلاف الناس عليه، وأوجبوها ليزيد بن معاوية لإجماع الناس عليه واتهموا من ذكره بغير خير. وتحامى كثير من المحدثين أن يحدثوا بفضائله كرم الله وجهه أو أن يظهروا ما يجب له، وكل تلك الأحاديث لها مخارج صحاح، وجعلوا ابنه الحسين عليه السلام خارجياً شاقاً لعصا المسلمين حلال الدم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من خرج على أمتي وهم جميع فاقتلوه كائناً من كان)) وسووا بينه في الفضل وبين أهل الشورى لأن عمر لو تبين له فضله لقدمه عليهم ولم يجعل الأمر شورى بينهم وأهملوا من ذكره أو روى حديثاً من فضائله، حتى تحامى كثير من المحدثين أن يتحدثوا بها وعنوا بجمع فضائل عمرو بن العاص ومعاوية كأنهم لا يريدونها بذلك وإنما يريدونه فإن قال قائل: أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم علي وأبو سبطيه الحسن والحسين وأصحاب الكساء علي

وفاطمة والحسن والحسين، تمعرت الوجوه وتنكرت العيون وطَرَّت حسائك الصدور، وإن ذكر ذاكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) . و (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) وأشباه هذا التمسوا لتلك

الأحاديث المخارج لينتقصوه ويبخسوه حقه بغضاً منهم للرافضة وإلزاماً لعلي عليه السلام بسببهم ما لا يلزمه وهذا هو الجهل بعينه. والسلامة لك أن لا تهلك بمحبته ولا تهلك ببغضه، وأن لا تحتمل ضغناً عليه بجناية غيره فإن فعلت فأنت جاهل مفرط في بغضه، وأن تعرف له مكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتربية والأخوة والصهر، والصبر في مجاهدة أعدائه وبذل مهجته في الحروب بين يديه مع مكانه في العلم والدين والبأس والفضل من غير أن تتجاوز به الموضع الذي وصفه به خيار السلف لما تسمعه من كثير من فضائله فهم كانوا أعلم به وبغيره، ولأن ما أجمعوا عليه هو العيان الذي لا يشك فيه. والأحاديث المنقولة قد يدخلها تحريف وشوب ولو كان إكرامك لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي دعاك إلى محبة من نازع علياً وحاربه ولعنه إذ صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخدمه وكنت قد سلكت في ذلك سبيل المستسلم لأنت بذلك في علي عليه السلام أولى لسابقته وفضله وخاصيته وقرابته والدناوة التي جعلها الله بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المباهلة حين قال تعالى: {قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} فدعا حسناً وحسيناً {ونساءنا ونساءكم} فدعا فاطمة عليها السلام {وأنفسنا وأنفسكم} فدعا علياً عليه السلام ومن أراد تبصيره بصره ومن أراد غير ذلك حيره.

ذكر مسألة اللفظ

[ذكر مسألة اللفظ] ثم انتهى بنا القول إلى ذكر غرضنا من هذا الكتاب وغايتنا من اختلاف أهل الحديث في اللفظ بالقرآن وتشانئهم وإكفار بعضهم بعضاً وليس ما اختلفوا فيه مما يقطع الألفة، ولا مما يوجب الوحشة لأنهم مجمعون على أصل واحد وهو (القرآن كلام الله غير مخلوق) في كل موضع، وبكل جهة، وعلى كل حال، وإنما اختلفوا في فرع لم يفهموه لغموضه ولطف معناه، فتعلق كل فريق منهم بشعبة منه، ولم يكن معهم آلة التمييز، ولا فحص النظارين، ولا علم أهل اللغة، فإذا فكر أحدهم في القراءة وجدها قد تكون قرآناً لأن السامع يسمع القراءة، وسامع القراءة سامع القرآن. وقال الله عز وجل: {فاستمعوا له} وقال: {حتى يسمع كلام الله} ووجدوا العرب تسمي القراءة قرآناً. قال الشاعر في عثمان بن عفان رضي الله عنه: ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً أي تسبيحاً وقراءة. وقال أبو عبيد: يقال قرأت قراءة وقرآناً بمعنى واحد، فجعلهما مصدرين لقرأت. وقال الله تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً} أي قراءة الفجر. فيعتقد من هذه الجهات أن القراءة هي القرآن غير مخلوق، ويفكر آخر في القراءة فيجدها عملاً لأن الثواب يقع على عمل لا على أن قرآناً في الأرض. ويجد الناس يقولون قرأت اليوم كذا وكذا سورة، وقرأت في تقدير فعلت كما تقول ضربت، وأكلت، وشربت، وتجدهم يقولون: قراءة فلان أحسن من قراءة فلان. إنما يزيدون أداء فلان للقرآن أحسن من أداء فلان، وقراءة فلان أصوب من قراءة فلان. وإنما يراد في جميع هذا: العمل. لأنه لا يكون قرآن أحسن من قرآن فيعتقد من هذه الجهة أن القراءة عمل وأنها غير

القرآن، وأن من قال (القراءة غير مخلوقة) فقد قال أن أعمال العباد غير مخلوقة. فلما وقعت هذه الحيرة، ونزلت هذه البلية فزع الناس إلى علمائهم، وذوي رأيهم فاختلفوا عليهم. فقال فريق منهم: القراءة فعل محض وهي مخلوقة كسائر أفعال العباد والقرآن غيرها. وشبهوها والقرآن بالضرب والمضروب والأكل والمأكول فاتبعهم في ذلك فريق. وقالت فرقة: هي القرآن بعينه، ومن قال أن القراءة مخلوقة فقد قال بخلق القرآن واتبعهم قوم. وقالت فرقة: هذه بدعة لم يتكلم الناس فيها ولم يتكلفوها ولا تعاطوها. واختلفت عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل الروايات، ورأينا كل فريق

منهم يدعيه ويحكي عنه قولاً، فإذا كثر الاختلاف في شيء ووقع التهاتر في الشهادات به أرجأناه مثل أن ألغيناه. ومن عجيب ما حكي عنه مما لا يشك أنه كذب عليه إذ كان موفقاً بحمد الله رشيداً أنه قال (ومن زعم أن القراءة مخلوقة فهو جهمي، والجهمي كافر، ومن زعم أنها غير مخلوقة فهو مبتدع وكل بدعة ضلالة) فكيف

يتوهم على أبي عبد الله مثل هذا القول، وأنت تعلم أن الحق لا يخلو من أن يكون في أحد الأمرين، وإذ لم يخل من ذلك صار الحق في كفر أو ضلال. ولم أر في هذه الفرق أقل عذراً ممن أمر بالسكوت والتجاهل بعد هذه الفتنة، وإنما يجوز أن يؤمر بهذا قبل تفاقم الأمر ووقوع الشحناء وليس في غرائز الناس احتمال الإمساك عن أمر في الدين قد انتشر هذا الانتشار وظهر هذا الظهور ولو أمسك عقلاؤهم ما أمسك جهلاؤهم، ولو أمسكت الألسنة ما أمسكت القلوب، وقد كان لهؤلاء أسوة فيمن تقدم من العلماء حين تكلم جهم وأبو حنيفة في القرآن ولم يكن دار بين الناس قبل ذلك ولا عرف ولا

كان مما تكلم الناس فيه فلما فزع الناس إلى علمائهم لم يقولوا هذه بدعة لم يتكلم الناس فيها ولم يتكلفوها، ولكنهم أزالوا الشك باليقين وجلوا الحيرة وكشفوا الغمة وأجمع رأيهم على أنه غير مخلوق فأفتوهم بذلك وأدلوا بالحجج والبراهين، وناظروا وقاسوا واستنبطوا الشواهد من كتاب الله عز وجل كقوله: {ألا له الخلق والأمر} وقوله: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} . وأما قولهم: هذه بدعة لم يتكلم الناس فيها فلا تتكلفوها فإنما يفزع الناس إلى العالم في البدعة لا فيما جرت به السنة وتكلم فيه الأوائل ولو كان هذا مما تكلم فيه لاستغني عنهم. الكلام لا يعارض بالسكوت، والشك لا يداوى بالوقوف، والبدعة لا تدفع بالسنة وإنما يقوى الباطل أن تبصره وتمسك عنه. وإن كان الوقوف في اللفظ بالقرآن حتى لا يقال فيه مخلوق أو غير مخلوق هو الصواب فما حجتنا على الواقفة في القرآن ولم جعلناهم شكاكاً وجعلناهم ضلالاً، وأكفرهم بعض أهل السنة، وأكفر من شك في كفرهم، هل الأمر في ذلك وفي هذا إلا واحد. فإن قيل إن الثوري وابن عيينة وابن المبارك وأشباههم لم يقفوا.

قلنا: لكل زمان رجال، فأنت ثوري زماننا وابن عيينتنا فقل كما قالوا ونحن راضون منك أن تقول ومعقول أن نقول لك من أين قلت. وكل من ادعى شيئاً أو انتحل نحلة فهو يزعم أن الحق فيما ادعى وفيما انتحل خلا الواقف الشاك فإنه يقر على نفسه بالخطأ، لأنه يعلم أن الحق في أحد الأمرين اللذين وقف بينهما، وأنه ليس على واحد منهما، وقد بلي بالفريقين المستبصر المسترشد وبإعناتهم ومحنتهم وإغلاظهم لمن خالفهم وإكفاره وإكفار من شك في كفره، فإنه ربما ورد الشيخ المصر فقعد للحديث وهو من الأدب غفل، ومن التمييز ليس له من معاني العلم إلا تقادم سنه، وأنه قد سمع ابن عيينة وأبا معاوية ويزيد بن هارون، وأشباههم فيبدأونه قبل الكتاب بالمحنة، فالويل له إن تلعثم أو تمكث أو سعل أو تنحنح قبل أن يعطيهم ما يريدون فيحمله الخوف في قدحهم فيه، وإسقاطهم له على أن يعطيهم الرضا فيتكلم بغير علم ويقول بغير فهم فيتباعد من الله في المجلس الذي أمل أن يتقرب منه فيه. وإن كان ممن يعقد على مخالفتهم سام نفسه إظهار ما يحبون ليكتبوا عنه. وإن رأوا حدثاً مسترشداً أو كهلاً متعلماً سألوه فإن قال لهم: أنا أطلب حقيقة هذا الأمر، وأسأل عنه ولم يصح لي شيء بعد، وإنما صدقهم عن نفسه، واعتذر بعذره، الله يعلم صدقه، وهم يعلمون أنه لم يكلفه إذا لم يعلم إلا أن يسأل ويبحث ليعلم، كذبوه وآذوه وقالوا: خبيث فاهجروه ولا تقاعدوه. أفترى لو كان ما هم عليه من اعتقادهم هذا الأمر، أصل التوحيد الذي لا يجوز للناس أن يجهلوه وقد سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة كان يجب أن يبلغ فيه هذه الغاية فكيف وهم لو سئلوا من أين قلتم ما رجعوا في ذلك إلى وثيقة من حديث يأثرونه أو قول إمام من العلماء يحسن تقليد مثله أو قياس يطردونه وإنما هو رأي رأوه وقد يخطئ الرأي، وظن ظنوه وأجهل الناس من جعل ظنه لله ديناً.

فصل مسألة اللفظ

[فصل مسألة اللفظ] وعدل القول فيما اختلفوا فيه من القراءة واللفظ بالقرآن: أن القراءة لفظ واحد يشتمل على معنيين: أحدهما: عمل - والآخر: قرآن. إلا أن العمل لا يتميز من القرآن كما يتميز الأكل من المأكول فيكون المأكول الممضوغ والمبلوع، ويكون الأكل المضغ والبلع. والقرآن لا يقوم بنفسه وحده كما يقوم المأكول بنفسه وحده، وإنما يقوم بواحدة من أربع: كتابة أو قراءة أو حفظ أو استماع، فهو بالعمل في الكتابة قائم، والعمل خط وهو مخلوق، والمكتوب قرآن وهو غير مخلوق، وهو بالعمل في القراءة قائم والعمل تحريك اللسان واللهوات بالقرآن وهو مخلوق، والمقروء قرآن وهو غير مخلوق. وهو بالاستماع قائم في السمع، والاستماع عمل وهو مخلوق (¬1) ، والمسموع قرآن غير مخلوق. ومثل هذا وإن كان لا مثل للقرآن إلا أنه تقريب منا لما ذكرناه إلى فهمك مثل لون الإنسان لا يقوم إلا بجسمه ولا نقدر أن نقر اللون في وهمك حتى يكون متميزاً من الجسم، وكذلك القدرة لا نقدر أن نفردها عن الجسم، وكذلك الاستطاعة والحركة كل واحدة منهما لا تفرد، وإنما تقوم بالجسم والجارحة ولا تنفرد عنهما، كذلك القرآن يقوم بتلك الخلال الأربع التي ذكرناها ولا يستطيع أحد أن يتوهمه منفرداً عنها، فإذا قلت قرأت أو تلوت أو ¬

_ (¬1) من طبعة دار الكتب العلمية، وفي المطبوع: غير مخلوق.

لفظت دل قولك على فعل، وقرآن كل واحد منهما قائم بالآخر غير متميز منه لأن الصوت وتحريك اللسان لا يكون قراءة حتى يحمله الصوت واللسان وليس سائر الأفعال والمفعولات هكذا ألا ترى أنك تقول شتمت وسببت وقذفت فيدل قولك على فعل ومشتوم ومسبوب ومقذوف إلا أن كل واحد قائم بنفسه متميز من الآخر فلهذا قلنا: إن القراءة شيئان، وكذلك التلاوة واللفظ وقلنا الشتم شيء واحد. فإن قال فما شبه هذا؟ قلنا رجلان نظرا إلى جمرة حمراء فقال أحدهما: هي جسم وقال الآخر: هي نار. وتجادلا في ذلك وشرق الأمر بينهما حتى حلف كل واحد بالطلاق على ما قال ثم صارا إلى الفقيه. فقالا: إنا اختلفنا في جمرة فقال أحدنا: هي جسم وقال الآخر: هي نار وتمادينا في ذلك حتى حلف كل واحد منا بالطلاق على ما ادعى فقال الفقيه لكل واحد منهما: صدقت. ولكن ذكرت شيئاً ذا معنيين بأحد معنييه. فالجمرة مثل القراءة لأنهما اسم واحد يجمع معنيين: الجسم والنار، كما أن القراءة تجمع معنيين العمل والقرآن ولو كان أحد المختلفين قال: هي جسم ونار قد جمع لها الصنفين كما أن من قال القراءة عمل وقرآن قد جمع لها الصنفين وكذلك لو اختلف اثنان في نجم فقال أحدهما: هو نار وقال الآخر: هو نور كانا جميعاً صادقين، لأن النجم اسم ذو معنيين: نار ونور. وكذلك لو اختلف اثنان في أكل إنسان فقال أحدهما: هو مضغ، وقال الآخر هو بلع كانا جميعاً صادقين. لأن أكل الإنسان اسم ذو معنيين مضغ وبلع وكذلك لو اختلفا في القتل فقال أحدهما: هو جرح. وقال الآخر: هو موت. لأن القتل اسم ذو معنيين عمل وموت. وقد بقيت بعدما بينت لطيفة قد يغلط في مثلها وهي أن السامع إذا

هل الإيمان مخلوق أم لا؟

سمع قائلاً يقول: قراءتي للقرآن ولفظي بالقرآن، قراءة القرآن مفردة عن القرآن واللفظ منفرد عن القرآن، توهم أن كل واحد منهما غير ممازج للقرآن وليس كذلك وإنما قوله للقرآن بالقرآن تمييز للقرآن من غيره لأن القارئ قد يقرأ غير القرآن وهذا من أغمض ما مر وأدقه فتأمله وتدبره حتى تفهمه وسأزيده إيضاحاً: كأن رجلاً يسمى محمداً قرأ فسمعه رجل فقال عبد الله: ماذا قرأ. فيقول زيد: القرآن. وكذلك لو قال: ما أحسن لفظ محمد. فقال عبد الله: وبماذا لفظ؟ فيقول له زيد: بالقرآن. فالقرآن ههنا إنما هو تمييز وتبيين وكل واحد من القرآن واللفظ يجمع معنيين عملاً وقرآناً. [هل الإيمان مخلوق أم لا؟] وذهب قوم من منتحلي السنة: إلى أن الإيمان غير مخلوق خوفاً من أن يلزمهم أن يقولوا {لا إله إلا الله} مخلوق. إذ كانت رأس الإيمان فركبوها شنعاً وجعلوا أفاعيل العباد غير مخلوقة صفات الله عز وجل. فيا سبحان الله ما أعجب هذا وأعجب قائليه ولقد آلف الناس (غير مخلوق) وأنسوا به حتى أنه ليخيل إلي أن رجلاً لو ادعى أن العرش غير مخلوق وأن الكرسي غير مخلوق لوجد على ذلك أشياعاً ينتحلون السنة فماذا جر جهم لا رحمه الله على متبعيه بنحلته وعلى مخالفيه ببغضته. وقد بلغني أن قوماً يذهبون إلى أن روح الإنسان غير مخلوقه، وأنهم يستدلون على ذلك بقول الله في آدم: {ونفخت فيه من روحي}

وهذا هو النصرانية والقول باللاهوت والناسوت قال النابغة الجعدي: من نطفة قدرها مقدرها ... يخلق منها الإنسان والنسما والنسم: الأرواح. وأجمع الناس على أن الله خالق الجن وبارئ النسمة (¬1) : أي خالق الروح. والإيمان مخلوق لأنه لفظ باللسان وعقد بالقلب واستعمال للجوارح وكل هذه أفعال للعباد ثم كل هذه غرائز ركبها الله في العباد وسماها الرسول صلى الله عليه وسلم إيماناً. قال أبو محمد: وقد كان بعض الجهمية سألني مرة عن تكلم الناس في ¬

_ (¬1) من طبعة دار الكتب العلمية، وفي المطبوع: والنسمة.

الحرف والحرفين، ولذلك أصل في الكتاب، أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فقلت: هو غير مخلوق ما لم يقصد به إلى تلاوة القرآن. فقال لي: فإذن القرآن يصير كلاماً بنيتك والكلام يصير قرآناً بنيتك. قلت له: إن القول القليل قد يتغير بالنية والقصد وأنا أقر لك بذلك. ثم قلت له: أما تعلم أن {لا إله إلا الله} رأس الإيمان وكلمة التوحيد. قال: بلى. قلت: فما تقول في ملحد قال: (لا إله) . يريد النفي ماذا تكون كلمته؟ فقال: كفراً. قلت: فإذن شطر كلمة التوحيد قد صار كفراً بالنية. ثم قلت له: ما تقول في مؤمن أراد أن يقول: {لا إله إلا الله} فقال: (لا إله) ثم انقطع نفسه وسها. ما كان قوله؟ قال: إيماناً بحاله. قلت له: فإذن ما كان هناك كفراً بالنية قد صار ههنا إيماناً بالنية. وقلت له: ما تقول أنت في القرآن؟ قال: مخلوق. قلت: وفي أفعال العباد؟ قال: غير مخلوقة. قلت: ما تقول في قول الله: {ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} ما هو؟ قال: آية. قلت: فهي عندك أمخلوقة أم غير مخلوقة؟ قال: مخلوقة. قلت: فإن دعبل بن علي الشاعر جعلها بيتاً في شعر له طويل فقال:

ويخزهم وينصركم عليهم ... ويشف صدور قوم مؤمنينا فما هي في شعر دعبل؟ قال: قول لدعبل. قلت: مخلوق أم غير مخلوق؟ قال: بل غير مخلوق. قلت: فأراه صار فعلاً بالنية وخلقاً بالنية فما الذي أنكرته من قولنا هذا؟ هذا منتهى الاختلاف في اللفظ بالقرآن وهو بلاغ لمن خضع للحق وتلقاه بقلب سليم ومن استكبر وجمحت به الحمية فيستغني الله الحق عنه والله غني حميد.

§1/1