الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر

التويجري، حمود بن عبد الله

تقريظ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز لكتاب "الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر"

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله؛ نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فقد اطلعت على ما كتبه صاحب الفضيلة العلامة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري، في الرد على الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود، فيما زعمه من عدم صحة أحاديث المهدي المنتظر، وإنها موضوعة بل خرافة لا أصل لها، فألفيته قد أجاد وأفاد، وأوضح أحوال الأحاديث المروية في ذلك عند أهل العلم، وبيَّن صحيحها من حسنها من سقيمها، ونقل من كلام العلماء في ذلك ما يشفي ويكفي، ويدل على بطلان ما زعمه الشيخ عبد الله بن محمود. ولقد تأملت ما ورد في هذا الباب من الأحاديث فاتضح لي صحة كثير منها، كما بيَّن ذلك العلماء الموثوق بعلمهم ودرايتهم؛ كأبي داود، والترمذي، والخطابي، ومحمد بن الحسين الآبري، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، والشوكاني، وغيرهم -رحمهم الله-. وقد نقل الشيخ حمود كلام هؤلاء وغيرهم، مما يدل على ثبوت خروج المهدي المنتظر الهاشمي؛ وهو محمد بن عبد الله الحسني، من ذرية الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وبيَّن أهل العلم بطلان قول من قال أنه المسيح عيسى بن مريم -عليه الصلاة والسلام-، وضعفوا الحديث الوارد في ذلك، وبيَّنوا بطلان قول الشيعة في زعمهم أنه مهديهم. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "المنار المنيف": "أكثر الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على أنه رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من ولد الحسن بن علي، يملأ الأرض قسطًا بعد ما مُلئت جورًا وظلمًا". وقال محمد بن الحسين الآبري الحافظ في كتابه "مناقب الشافعي": "قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلي عيسى خلفه" انتهى. وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في كتابه "النهاية" ما نصه: "فصل في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان، وهو أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وليس هو بالمنتظر الذي تزعمه الرافضة، وترتجي ظهوره من سرداب سامراء،

فإن ذلك ما لا حقيقة له ولا عين ولا أثر، ويزعمون أنه محمد بن الحسن العسكري، وأنه دخل السرداب وعمره خمس سنين. وأما ما سنذكره فقد نطقت به الأحاديث المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه يكون في آخر الدهر، وأظن ظهوره يكون قبل نزول عيسى بن مريم، كما دلت على ذلك الأحاديث، قال: وقد أفردت في المهدي جزءًا على حدة" انتهى. وكل هذه النقول ذكرها الشيخ حمود في رده، وذكر غيرها من كلام أهل العلم المعتبرين في بيان صحة كثير من أحاديث المهدي، وحسن أحاديث أخرى منها وتواترها وقيام الحجة بها، مما لا يدع مجالا لأحد في تضعيفها فضلا عن وصفها بأنها موضوعة. ولا شك أن القول بأنها موضوعة قول باطل وجرءة على القول على الله -سبحانه- وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلا علم، فأسأل الله -عز وجل- أن يعفو عن الشيخ عبد الله وأن يرده إلى الصواب. وقد تضمن الرد المذكور فوائد كثيرة، وتنبيهات سديدة، على أخطاء فظيعة وقعت في كلام الشيخ عبد الله بن محمود - عفى الله عنا وعنه -، ولبيان الحق وتأييد ما كتبه فضيلة الشيخ حمود في هذا الموضوع العظيم، حررت هذه الكلمة مقرظًا بها الرد، ومؤيدًا له وناصحًا بذلك لله ولعباده، ومنبهًا للقراء أن يتثبتوا في أمر أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا يردوها بغير حق، بل الواجب تعظيمها والتمسك بها كما درج على ذلك سلف الأمة وأئمتها، إلا ما قام الدليل على تضعيفه وعدم صحته على منهج أئمة الحديث في هذا السبيل، لا بالرأي المجرد والتقليد الباطل لمن ليس من أهل هذا الشأن. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق المسلمين جميعًا لتعظيم الكتاب والسنة واتباعهما، والوقوف عند حدودهما، وأن يجزي أخانا فضيلة الشيخ حمود التويجري عن جهاده وعمله المشكور ورده على من خالف الحق جزءًا حسنًا، وأن يضاعف مثوبته، وأن يزيدنا وإياه وسائر إخواننا من العلم والهدي، وأن يهدي الشيخ عبد الله بن محمود لرشده، وأن يعيذنا وإياه وسائر المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلي الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين،،، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عبد العزيز بن عبد الله بن باز

تنبيه على إعادة طبع رسالة ابن محمود، وبيان أنه قد غير فيها وقدم وأخر لغرض لا يخفى على طالب العلم

الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر تأليف الفقير إلى الله تعالى/ حمود بن عبد الله بن حمود التويجري "تنبيه" ليعلم طالب العلم أن ابن محمود قد طبع رسالته في إنكار المهدي طبعة ثانية، وغيَّر فيها بعض التغيير، وقدم فيها وأخر، وقد كتبت هذا الرد على الطبعة الأولى التي صدرت في أول سنة 1400 من الهجرة، وقد أشرت إلى أرقام الصفحات منها قبل أن تخرج الطبعة الثانية المطبوعة في مطابع قطر الوطنية، وكان خروجها بعد الأولى بنحو سنة. فمن أحب أن يراجع شيئًا مما نقلته من رسالة ابن محمود فليراجع الطبعة الأولى، المطبوعة في مطابع علي بن علي بالدوحة، وكل من الطبعتين لم يذكر فيها تاريخ الطبع، والمقصود من ذلك ومن التقديم والتأخير في الطبعة الثانية لا يخفى على اللبيب، والله الموفق. المؤلف الطبعة الأولى عام 1403 هـ حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على المعاندين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فقد رأيت رسالة للشيخ عبد الله بن زيد بن محمود رئيس المحاكم القطرية أنكر فيها خروج المهدي في آخر الزمان، وزعم أن القول بخروجه نظرية خرافية (¬1)، وأن الأحاديث الواردة فيه كلها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه (¬2)، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة (¬3)، وأنه لا مهدي بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد سمي رسالته بما نصه "لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر"، وقد جانب في رسالته الصواب، وخالف ما عليه المحققون من أكابر العلماء. كما أنه قد تهجم على المحدثين والفقهاء المتقدمين، ورماهم بالتقليد ونقل الحديث والقول على علاته (¬4)، ورمى الإمام أحمد بقلة الأمانة وعدم الثقة، حيث زعم أنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد وينقل منها، ورمى الشافعي بالقصور والتقليد (¬5)، وزعم أن قول شيخ الإسلام ابن تيمية بصحة خروج المهدي أنه اعتقاد سيء، وزلة عالم وخطأ وتقصير. وزعم أنه قد توسع في العلوم والفنون، ومعرفة أحاديث المهدي وعللها، وتعارضها واختلافها، بما فات على العالم النحرير (¬6) يعني بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، إلى غير ذلك من ¬

_ (¬1) انظر رسالة ابن محمود (16، 24، 27، 38، 58، 62، 85). (¬2) انظر (4، 7، 12، 16، 19، 25، 27، 29، 36، 37، 56، 58) من رسالة ابن محمود. (¬3) انظر (31) من رسالة ابن محمود. (¬4) انظر (8) من رسالة ابن محمود. (¬5) انظر (8) من رسالة ابن محمود. (¬6) انظر (12، 13) من رسالة ابن محمود.

الكلمات النابية التي لم يتثبت فيها، وسأذكرها مجموعة في الخاتمة -إن شاء الله تعالى- فلتراجع هناك. وقد رأيت من الواجب بيان أخطائه لئلا يغتر بها من قلَّ نصيبهم من العلم النافع، والله المسئول أن يريني وإخواني المسلمين الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسًا علينا فنضل، ونسأله -تعالى- أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. * * *

الرد على عنوان رسالة ابن محمود

فصل قال ابن محمود في عنوان رسالته ما نصه: "لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر". والجواب: أن يقال هذا كلام باطل مردود بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقول الله -تعالى- في صفة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وقوله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي}، وقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ}، وقوله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}. وأما السنة ففي عدة أحاديث؛ الأول منها ما رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه من حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم والذهبي. قال ابن الأثير في الكلام على هذا الحديث في "النهاية": "المهدي الذي قد هداه الله إلى الحق، وقد استعمل في الأسماء حتى صار كالأسماء الغالبة، وبه سمي المهدي الذي بشر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يجيء في آخر الزمان، ويريد بالخلفاء المهديين أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا -رضي الله عنهم-، وإن كان عامًا في كل من سار سيرتهم" انتهى. قلت: وفي هذا الحديث الصحيح أبلغ رد على من زعم أنه لا مهدي بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما أدري ماذا يكون موقف ابن محمود من هذا الحديث، إذ لا بد له من أحد أمرين؛ إما أنن يقول أن الخلفاء الأربعة ليسوا بمهديين، وما أعظم ذلك لما يترتب عليه من تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - والرد لقوله الثابت، ولا يظن بابن محمود أن يقول بهذا القول الوخيم ما دام معه بقية من عقل ودين. وإما أن يعترف أن الخلفاء الأربعة أئمة مهديون، وبهذا ينتقض قوله في عنوان رسالته أنه لا مهدي بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الحديث الثاني: قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا عاصم - يعني ابن أبي النجود - عن زر عن عبد الله - يعني ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل

بيتي يواطئ اسمه اسمي»، ورواه أيضًا عن عمر بن عبيد الطنافسي عن عاصم به ولفظه: «لا تنقضي الأيام ولا يذهب الدهر حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي اسمه يواطئ اسمي» ورواه أيضًا عن يحيى بن سعيد عن سفيان – وهو الثوري – حدثني عاصم فذكره بنحوه، وأسانيده كلها صحيحة وإن كان فيها عاصم بن بهدلة – وهو ابن أبي النجود – فقد أخرج له البخاري ومسلم مقرونًا بغيره. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن عاصم بن بهدلة، فقال: "ثقة رجل صالح خيِّر ثقة"، قال: وسألت يحيى بن معين عنه فقال: "ليس به بأس"، قلت قد ذكر ابن الصلاح عن ابن أبي خيثمة قال: قلت ليحيى بن معين: إنك تقول فلان ليس به بأس وفلان ضعيف، قال: "إذا قلت ليس به بأس فهو ثقة، وإذا قلت لك هو ضعيف فليس هو بثقة، لا تكتب حديثه" انتهى، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عاصم بن بهدلة، فقال: "هو صالح"، قال: وسألت أبا زرعة عن عاصم بن بهدلة، فقال: "ثقة"، قال: وذكر أبي عاصم بن أبي النجود، فقال: "محله عندي محل الصدق، صالح الحديث ولم يكن بذاك الحافظ"، وقال الخزرجي في الخلاصة: "وثَّقه أحمد، وأحمد العجلي، ويعقوب بن سفيان، وأبو زرعة"، وقال الحاكم في المستدرك: "هو إمام من أئمة المسلمين، وقد تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه". وبقية رجاله رجال الصحيح، وقد رواه أبو داود في سننه من طرق صحيحة عن عاصم بن بهدلة، ولفظه في إحدى الروايات: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يَبعث فيه رجلا مِنِّي أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما مُلئت ظلمًا وجورًا»، ورواه الترمذي عن عبيد بن أسباط بن محمد القرشي الكوفي قال: حدثني أبي، حدثنا سفيان الثوري عن عاصم، فذكره بنحو رواية عمر بن عبيد، ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، قال وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة، ثم قال الترمذي حدثنا عبد الجبار بن العلاء العطار، حدثنا سفيان بن عيينة عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»، قال عاصم: وأخبرنا أبو صالح عن أبي هريرة قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يلي»، قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وقد ترجم الترمذي لهذين الحديثين بقوله: "باب ما جاء في المهدي". ورواه ابن حبان في صحيحه من طرق عن عاصم، ولفظه في أحدها قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة لملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمي»، وفي لفظ آخر: «لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي فيملؤها قسطًا وعدلا»، وفي لفظ آخر: «يخرج رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وخلقه خلقي فيملؤها قسطًا وعدلا كما ملئت ظلمًا وجورًا»، وقد ترجم الهيثمي في "موارد الظمآن" على هذه الروايات وأحاديث أُخر بقوله "باب ما جاء في المهدي". وقد ذكره الحاكم في المستدرك من حديث سفيان الثوري، وشعبة، وزائدة، وغيرهم من أئمة المسلمين، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي فيملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا»، قال الذهبي في تلخيصه صحيح، وقال الحاكم أيضًا، وطرق حديث عاصم عن زر عن عبد الله كلها صحيحة على ما أصَّلته في هذا الكتاب، بالاحتجاج بأخبار عاصم بن أبي النجود إذ هو إمام من أئمة المسلمين. الحديث الثالث: روى ابن حبان في صحيحه من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي صالح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة لملك فيها رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -»، وقد رواه الترمذي موقوفًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وتقدم ذكره، وعلى تقدير ترجيح وقفه فمثله لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف، وقد قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "المنار المنيف": "حديث ابن مسعود وأبي هريرة صحيحان" انتهى. الحديث الرابع: قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلمًا وعدواناً»، قال: «ثم يخرج رجل من عترتي أو من أهل بيتي يملؤها قسطًا وعدلا كما ملئت ظلمًا وعدواناً» إسناده صحيح على شرط الشيخين. ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال فيه: «ثم يخرج رجل من أهل بيتي» لم يذكر العترة، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في تلخيصه، ورواه الإمام أحمد أيضًا عن أبي النضر، عن أبي معاوية شيبان، عن مطر بن طهمان، عن أبي الصديق الناجي، عن

أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي أَجلَي أقنَى، يملأ الأرض عدلا كما ملئت قبله ظلمًا، يكون سبع سنين» إسناده صحيح على شرط مسلم، ورواه أيضًا عن الحسن بن موسى قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي هارون العبدي ومطر الوراق، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تملأ الأرض جورًا وظلمًا فيخرج رجل من عثرتي يملك سبعًا أو تسعًا، فيملأ الأرض قسطًا وعدلا» إسناده من طريق مطر الوراق صحيح على شرط مسلم، وقد رواه الحاكم من هذا الوجه مختصرًا، وقال صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي في تلخيصه. ورواه الإمام أحمد أيضًا عن ابن نمير: حدثنا موسى يعني الجهني، قال: سمعت زيدًا العمي قال: حدثنا أبو الصديق الناجي، قال: سمعت أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يكون من أمتي المهدي، فإن طال عمره أو قصر عمره عاش سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، يملأ الأرض قسطًا وعدلا، وتخرج الأرض نباتها وتمطر السماء قطرها» زيدٌ العمي قال ابن معين:" صالح"، وقال مرة: "لا شيء"، وقال مرة: "ضعيف يكتب حديثه"، وضعفه ابن المديني، وابن سعد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي، والعجلي، وابن عدي، وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه، ولا يحتج به"، وقال أحمد، وأبو بكر البزار، والدارقطني: "صالح"، وقال الجوزجاني: "متماسك"، وقال الحسن بن سفيان: "ثقة"، وقد حسَّن الترمذي حديثه كما سيأتي، وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه الإمام أحمد أيضًا عن محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت زيدًا أبا الحواري، قال: سمعت أبا الصديق يحدث عن أبي سعيد الخدري -رضي الله- عنه قال: خشينا أن يكون بعد نبينا حدث، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يخرج المهدي في أمتي خمسًا أو سبعًا أو تسعًا – زيدٌ الشاك- قال قلت: أي شيء؟ قال: سنين، ثم قال: يرسل السماء عليهم مدرارًا، ولا تدخر الأرض من نباتها شيئًا، ويكون المال كدوسًا، قال: يجيء الرجل فيقول يا مهدي أعطني أعطني، قال: فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمل» فيه زيد أبو الحواري وهو العمي، وقد تقدم الكلام فيه، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقد رواه الترمذي عن محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، فذكره بنحوه مختصرًا، وقال: هذا حديث حسن، وقد رُوي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي

- صلى الله عليه وسلم -، وأبو الصديق الناجي اسمه بكر بن عمرو، ويقال بكر بن قيس. انتهى كلام الترمذي. ويستفاد من رواية شعبة عن زيد العمي أنه صالح عنده، وفي ذلك تأييد لتحصين الترمذي لحديثه، وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: "كان شعبة أُمَّة وحده في هذا الشأن"؛ يعني في الرجال، وبصره بالحديث، وتثبته وتنقيته للرجال. ذكره الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب"، وذكر أيضًا عن أبي بكر بن منجويه أنه قال في شعبة: "هو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين، وجانب الضعفاء والمتروكين، وصار علمًا يقتدى به، وتبعه عليه بعده أهل العراق"، قال الحافظ ابن حجر: "هذا بعينه كلام ابن حبان في الثقات، نقله ابن منجويه منه، ولم يعزه إليه" انتهى. ورواه ابن ماجة عن نصر بن علي الجهضمي، حدثنا محمد بن مروان العقيلي، حدثنا عمارة بن أبي حفصة عن زيد العمي، فذكره بنحوه وإسناده حسن، محمد بن مروان العقيلي قال ابن معين: "صالح"، وفي رواية عنه قال: "ليس به بأس، قد كتبت عنه أحاديث"، وقال أبو داود: "صدوق"، وقال مرة: "ثقة"، وذكره ابن حبان في الثقات، وزيد العمي حسن الحديث كما تقدم تقريره، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق نصر بن علي فذكره بنحو رواية ابن ماجة ولم يتكلم عليه. ورواه الإمام أحمد عن عبد الرازق، حدثنا جعفر عن المعلي بن زياد، حدثنا العلاء بن بشير، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صحاحًا» فقال له رجل: ما صحاحًا؟ قال: «بالسوية بين الناس، قال ويملأ الله قلوب أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - غنى، ويسعهم عدله حتى يأمر مناديًا فينادي فيقول: من له في مال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل، فيقول: ائت السدان؛ يعني الخازن فقل له: إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالا، فيقول له: احث، حتى إذا جعله في حجره وأبرزه ندم، فيقول: كنت أجشع أمة محمد نفسًا، أو عجز عني ما وسعهم؟! قال: فيرده فلا يُقبل منه، فيقال له: إنَّا لا نأخذ شيئًا أعطيناه، فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين» ورواه أيضًا عن زيد بن الحباب، حدثني حماد بن زيد، حدثنا المعلي بن زياد المعولي فذكره بنحوه، ورواه أيضًا عن زيد بن

الحباب، حدثني جعفر بن سليمان، حدثنا المعلي بن زياد فذكره، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد بأسانيد وأبو يعلي باختصار كثير ورجالهما ثقات. وقد أقرَّه الحافظان زين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني، لكونهما قد حررا مجمع الزوائد معه. قلت: فيه العلاء بن بشير، ذكره البخاري في التاريخ الكبير، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر فيه جرحًا، وذكره ابن حبان في الثقات، وفيه المعلي بن زياد، وثَّقه ابن معين في رواية ذكرها ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، قال الذهبي في الميزان: "هذه الرواية عن يحيى هي المعتبرة"، ووثَّقه أيضًا أبو حاتم، ذكره عنه ابنه عبد الرحمن في الجرح والتعديل، ووثقه أيضًا أبو بكر البزار وابن حبان، وقال ابن عدي: "لا أرى برواياته بأسًا"، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: "صدوق قليل الحديث، زاهد، اختلف قول ابن معين فيه" انتهى. وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه الحاكم في مستدركه من طريق النضر بن شميل، حدثنا سليمان، حدثنا أبو الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحا، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعًا أو ثمانيًا يعني حججا». قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ورواه أبو داود من حديث عمران بن داور القطان، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي مني، أَجلَي الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، يملك سبع سنين». قال ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "المنار المنيف": إسناده جيد. الحديث الخامس: قال الإمام أحمد: حدثا حجاج، وأبو نعيم قالا: حدثا فطر، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل قال حجاج: سمعتُ عليًا -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله -عز وجل- رجلا مِنَّا يملؤها عدلا كما ملئت جورًا» قال أبو نعيم «رجلا منا»، قال: وسمعته مرة يذكره عن حبيب عن أبي الطفيل عن علي -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. إسناداه صحيحان. فطر: هو ابن خليفة روى له البخاري مقرونًا بآخر، ووثقه يحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والعجلي، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن فطر بن خليفة،

فقال "صالح، كان يحيى القطان يرضاه، ويحسن القول فيه، ويحدث عنه"، وذكر الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" عن العجلي أنه قال: "كوفي ثقة، حسن الحديث، وكان فيه تشيع قليل"، وقال النسائي: "لا بأس به"، وقال في موضع آخر: "ثقة حافظ كيِّس"، وقال ابن سعد: "كان ثقة -إن شاء الله تعالى-، ومن الناس من يستضعفه"، وقال أبو زرعة الدمشقي: "سمعت أبا نعيم يرفع من فطر، ويوثقه، ويذكر أنه كان ثبتًا في الحديث"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال النسائي في الكُنى: "حدثنا يعقوب بن سفيان، عن ابن نمير قال: فطر حافظ كيِّس"، وقال ابن عدي: "له أحاديث صالحة عند الكوفيين، وهو متماسك، وأرجو أنه لا بأس به"، وبقية رجال الحديث رجال الصحيح، وقد صحح الشيخ أحمد محمد شاكر إسنادي حديث علي -رضي الله عنه- عند أحمد، ذكر ذلك في تعليقه على مسند الإمام أحمد. وقد رواه أبو داود في سننه عن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا فطر، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن علي -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورًا»، قد تقدم توثيق الأئمة لفطر بن خليفة، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقد قال شمس الحق في عون المعبود: "الحديث سكت عنه المنذري، وسنده حسن قوي، وأما فطر بن خليفة الكوفي، فوثقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن معين، والنسائي، والعجلي، وابن سعد، والساجي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وأخرج له البخاري، ويكفي توثيق هؤلاء الأئمة لعدالته، فلا يلتفت إلى قول ابن يونس، وأبي بكر بن عياش، والجوزجاني في تضعيفه، بل هو قول مردود". انتهى. الحديث السادس: قال الإمام أحمد: حدثنا فضل بن دكين، حدثنا ياسين العجلي، عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية عن أبيه، عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة» إسناده حسن. ياسين العجلي: ذكره البخاري في التاريخ الكبير، وابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، ولم يذكرا فيه جرحا، وذكر ابن أبي حاتم، عن ابن معين وأبي زرعة أنهما قالا: "ليس به بأس"، وعن ابن معين أنه قال: "صالح"، ووثقه العجلي، وابن حبان، وبقية رجاله ثقات، قال يحيى بن يمان: "رأيت سفيان الثوري يسأله ياسين عن هذا الحديث"، قال ابن عدي: "وهو معروف به"، قال الحافظ ابن حجر: "ووقع في سنن

ابن ماجة عن ياسين غير منسوب، فظنه بعض الحفاظ المتأخرين ياسين بن معاذ الزيات، فضعف الحديث به فلم يصنع شيئًا". انتهى. وقد رواه ابن ماجة عن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أبو داود الحفري، حدثنا ياسين، فذكره بمثله وإسناده حسن، أبو داود الحفري: ثقة احتج به مسلم، واسمه عمر بن سعد بن عبيد، وبقية رجاله ثقات، وقد ذكره السيوطي في الجامع الصغير، ورمز له بالحسن، وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد: "إسناده صحيح". الحديث السابع: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون في أمتي المهدي، إن قصر فسبع، وإلا فثمان وإلا فتسع، تنعم أمتي فيها نعمة لم ينعموا مثلها، ترسل السماء عليهم مدرارًا، ولا تدخر الأرض شيئًا من النبات، والمال كدوس، يقوم الرجل يقول: يا مهدي، أعطني، فيقول: خذ» رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: ورجاله ثقات. الحديث الثامن: عن أبي الطفيل، عن محمد بن الحنفية، قال: كنا عند علي -رضي الله عنه- فسأله رجل عن المهدي، فقال علي -رضي الله عنه-: هيهات، ثم عقد بيده سبعًا فقال: «ذاك يخرج في آخر الزمان إذا قال الرجل الله الله قتل، فيجمع الله -تعالى- له قومًا قزع كقزع السحاب، يؤلف الله بين قلوبهم، لا يستوحشون إلى أحد ولا يفرحون بأحد، يدخل فيهم على عدة أصحاب بدر، لم يسبقهم الأولون ولا يدركهم الآخرون، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر» قال أبو الطفيل: قال ابن الحنفية: أتريده؟ قلت: نعم، قال: إنه يخرج من بين هذين الأخشبين، قلت: لا جرم والله لا أريمهما حتى أموت، فمات بها يعني مكة. رواه الحاكم في مستدركه، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وهذا الأثر له حكم الرفع؛ لأنه لا دخل للرأي في مثل هذا، وإنما يقال عن توقيف. الحديث التاسع: روى ابن حبان في صحيحه، من طريق قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن مجاهد، عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكون اختلاف عند موت خليفة، يخرج رجل من قريش من أهل المدينة إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام، فيبعثون إليه جيشًا من أهل الشام، فإذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فإذا بلغ الناس ذلك أتاه أهل

ذكر الإجماع على خلاف عنوان رسالة ابن محمود

الشام وعصائب من أهل العراق فيبايعونه، وينشأ رجل من قريش أخواله من كلب، فيبتعثون إليهم جيشًا فيهزمونهم ويظهرون عليهم، فيقسم بين الناس فيئهم، ويعمل فيهم بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، ويلقى الإسلام بجرانه إلى الأرض، يمكث سبع سنين» ورواه الطبراني في الأوسط بنحوه مختصرًا، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود من حديث صالح أبي الخليل، عن صاحب له، عن أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، ورواه أبو داود أيضًا من وجه آخر، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، ورواه أبو يعلي الموصلي في مسنده، من حديث قتادة عن صالح أبي الخليل، عن صاحب له، وربما قال صالح: عن مجاهد، عن أم سلمة، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "المنار المنيف": "والحديث حسن، ومثله مما يجوز أن يقال فيه صحيح". قال الخطابي في معالم السنن: "الجران مقدم العنق، وأصله في البعير إذا مد عنقه على وجه الأرض، فيقال ألقي البعير جرانه، وإنما يفعل ذلك إذا طال مقامه في مناخه، فضرب الجران مثلا للإسلام إذا استقر قراره فلم يكن فتنة ولا هيج، وجرت أحكامه على العدل والاستقامة". انتهى. الحديث العاشر: قال الحارث بن أبي أسامة في مسنده: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا إبراهيم بن عقيل، عن أبيه، عن وهب بن منبه، عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة» وقد ذكر ابن القيم هذا الحديث في كتابه "المنار المنيف" قال: "وهذا إسناد جيد". وقد جاء في ذكر المهدي أحاديث كثيرة سوى ما ذكرته ههنا، ولكن لا تخلو أسانيدها من مقال، وجاء فيه أيضًا آثار كثيرة عن بعض الصحابة والتابعين وبعضها صحيح، وقد تركت ذكرها إيثارًا للاختصار، وفيما ذكرته من الصحاح والحسان كفاية في إثبات خروج المهدي في آخر الزمان، والرد على من أنكر ذلك، وزعم أنه لا مهدي بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأما الإجماع فهو إجماع أهل السنة والجماعة على تسمية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- بالخلفاء الراشدين المهديين، كما سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في

إجماع العلماء قاطبة على أن عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين المهديين

حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-، وخلافة هؤلاء الأربعة هي خلافة النبوة، أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسَّنه، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه من حديث سعيد بن جهمان، عن سفينة -رضي الله عنه-، وروى يعقوب بن سفيان، عن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ومن الخلفاء الراشدين المهديين أيضًا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- قال ابن كثير في "البداية والنهاية": "أجمع العلماء قاطبة على أنه من أئمة العدل، وأحد الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين". انتهى. وروى أبو نعيم في الحلية من طريق ضمرة، عن رجاء، عن ابن عون، قال: "كان ابن سيرين إذا سئل عن الطلاء، قال: نهى عنه إمام هدى"؛ يعني عمر بن عبد العزيز. وقال الإمام أحمد عن عبد الرازق، عن أبيه، عن وهب بن منبه أنه قال: "إن كان في هذه الأمة مهدي فهو عمر بن عبد العزيز" ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية"، قال: "ونحو هذا قال قتادة وسعيد بن المسيب وغير واحد". وقال طاوس "هو مهدي، وليس به أنه لم يستكمل العدل كله، إذا كان المهدي ثبت على المسيء من إساءته، وزيد المحسن في إحسانه، سَمِح بالمال، شديد على العمال، رحيم بالمساكين". انتهى. وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "المنار المنيف": "وعمر بن عبد العزيز كان مهديًا، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، وقد ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وغيره إلى أن عمر بن عبد العزيز منهم، ولا ريب أنه كان راشدًا مهديًا، ولكن ليس بالمهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فالمهدي في جانب الخير والرشد كالدجال في جانب الشر والضلال، وكما أن بين يدي الدجال الأكبر صاحب الخوارق دجالين كذابين، فكذلك بين يدي المهدي الأكبر مهديون راشدون". انتهى. ولا ندري ماذا يكون موقف ابن محمود من الإجماع على أن عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، ولا يُظَن بابن محمود أنه يخالف الإجماع، وإن كان في موافقته للإجماع مخالفة لعنوان رسالته. وقد وقف ابن محمود من الأحاديث الدالة على خروج المهدي موقفًا سيئًا؛ فزعم في صفحة (4) أنها مختلقة، وزعم في صفحة (12) أنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وزعم في صفحة (16) أنها مكذوبة

على رسول الله، وزعم في صفحة (19) أنها مزورة على الرسول من قبل الزنادقة الكذابين، وزعم في صفحة (25) أنها مصنوعة، وزعم في صفحة (27) أنها موضوعة، وزعم في صفحة (29) أنها مصنوعة ومكذوبة على رسول الله، وزعم في صفحة (36) أنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله، وزعم في صفحة (37) أنها من عقائد الشيعة، وكانوا هم البادئين باختراعها، وأنهم وضعوا الأحاديث في ذلك، وزعم في صفحة (56) أنها موضوعة، وزعم في صفحة (58) أنها مكذوبة، وزعم في صفحة (16، 24، 27، 58، 62) أنها خرافة، وزعم في صفحة (38) أنها نظرية خرافية، وزعم في صفحة (31) أنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، وزعم في صفحة (85) أن التصديق بخروج المهدي من الركون إلى الخيال، والاستسلام للأوهام والخرافات، هكذا قال ابن محمود في أحاديث المهدي، ولم يفرق بين الصحيح والضعيف والموضوع، بل جعل الجميع من باب واحد. والجواب عن هذه الكلمات النابية والمجازفات السيئة أن نقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}، ولا شك أن هذا من أسوأ التكلف والقول بغير علم، وقد قال الله -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}، وقال -تعالى-: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}، أما يخشى ابن محمود أن يحشر في زمرة المكذبين للرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ أما فيه دين يحجزه عن التهاون بالأحاديث الثابتة، ووصفها بالصفات الذميمة، وردها وإطراحها؟! وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "من رد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة". رواه القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة، من رواية الفضل بن زياد القطان عن أحمد، وقال الإمام أحمد أيضًا: "كل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إسناد جيد أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودفعناه ورددناه، رددنا على الله أمره، قال الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} "، وذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- في إعلام الموقعين عن الشافعي أنه قال: "إذا حدَّث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ثابت، ولا يترك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث أبدًا، إلا حديث وجد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر يخالفه"، وذكر القاضي أبو الحسين في ترجمة إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلا أنه قال: "من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة، بلا قطع في سندها، ولا جرح في ناقليها، وتجرأ

التشديد في رد الأحاديث الثابتة

على ردها، فقد تهجم على رد الإسلام، لأن الإسلام وأحكامه منقولة إلينا بمثل ما ذكرت". وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين": "جملة ما عليه أهل الحديث والسنة، الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يردون من ذلك شيئًا". انتهى، وهذا حكاية إجماع من أهل الحديث والسنة على الإقرار بما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم لا يردون من ذلك شيئًا، والعبرة بأهل الحديث والسنة، ولا عبرة بمن خالفهم من أهل الأهواء والبدع والضلالة والجهالة. وقال الموفق أبو محمد المقدسي في كتابه "لمعة الاعتقاد": "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصح به النقل عنه فيما شهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه؛ مثل حديث الإسراء والمعراج، ومن ذلك أشراط الساعة؛ مثل خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليه السلام- فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل". انتهى. وإذا علم هذا فليعلم أيضًا أن تكذيب الأحاديث الصحيحة ليس بالأمر الهين، وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد "باب فيمن كذَّب بما صحَّ من الحديث" ثم ذكر حديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب ثلاثة؛ الله، ورسوله، والذي حدَّث به» رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: وفيه محفوظ بن ميسور، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلا". انتهى، وهذا الحديث وإن لم يبلغ درجة الصحيح فمعناه صحيح، لأن من كذَّب حديثًا فلا شك أنه قد كذَّب الله -تعالى- في قوله مخبرًا عن نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، قد كذب النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث رد ما ثبت عنه برواية أهل الصدق والعدالة، وقد كذب الرواة الذين حفظوا أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلغوها إلى الأمة، ومن كذب أهل الصدق والعدالة فقوله مردود عليه، وهو أولى بما قال. وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ينكرون أشد الإنكار على الذين يتهاونون بالأحاديث الصحيحة، وعلى الذين يعارضونها بالشبه والشكوك والآراء الفاسدة، والآثار عنهم في ذلك كثيرة جدًا، وقد

ذكرتها في الرد على زنديق مصر المدعو بالسيئ صالح أبي بكر، فلتراجع هناك. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بنزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- في آخر الزمان، وأنه يكون حكمًا عدلا وإمامًا مقسطًا، وروي الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إمامًا مهديًا وحكمًا عدلا .... » الحديث، وفيه رد على من زعم أنه لا مهدي بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- أفضل المهديين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو معدود من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو أفضل الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنتم إذا نزل عيسى ابن مريم فيكم وإمامكم منكم»، وفي رواية لمسلم: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمَّكم منكم»، قال الوليد بن مسلم: قلت لابن أبي ذئب إن الأوزاعي حدثا عن الزهري، عن نافع، عن أبي هريرة: «وإمامكم منكم»، قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم، قلت: تخبرني، قال: فأمَّكم بكتاب ربكم -تبارك وتعالى- وسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، وقال أبو ذر الهروي: حدثنا الجوزقي، عن بعض المتقدمين قال: معنى «وإمامكم منكم»؛ يعني أنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل، وقال ابن التين: معنى قوله «وإمامكم منكم»؛ أن الشريعة المحمدية متصلة إلى يوم القيامة، وأن في كل قرن طائفة من أهل العلم. انتهى. ويدل لما قاله ابن أبي ذئب وغيره، ما رواه سمرة بن جندب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الدجال خارج .... » الحديث، وفيه: «ثم يجيء عيسى ابن مريم -عليهما السلام- من قِبل المغرب مصدقًا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى ملته، فيقتل الدجال». الحديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين والطبراني، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، وقوله من قبل المغرب؛ أي مغرب أهل المدينة وهو الشام، وفي حديث عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر فتنة الدجال قال: «ثم ينزل عيسى ابن مريم مصدقًا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على ملته، إمامًا مهديًا، وحكمًا عدلا، فيقتل الدجال» رواه الطبراني في الكبير والأوسط، قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وفي بعضهم ضعف لا يضر. وإذا عُلم هذا، فلا ندري ماذا يكون موقف ابن محمود من الأحاديث الدالة على أن عيسى بن مريم -عليهما الصلاة والسلام- يكون في آخر هذه الأمة إمامًا مهديًا؟!

هل يصدق بذلك أم لا يصدق؟ فإن صدّق ناقض عنوان رسالته، وإن لم يصدق فما أعظم ذلك، وأبشعه وأشنعه. * * *

زعم ابن محمود أن رسالته في إنكار المهدي عقيدة حسنة وحقيقة مسلمة والرد عليه

فصل قال ابن محمود في صفحة (3): "أما بعد، فإن هذه الرسالة المسماة (لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر) اخترت لها هذه التسمية؛ لتكون عقيدة حسنة، تتذلل بها الألسنة من كل مسلم ومسلمة، لاعتقادي أنها حقيقة مسلمة". والجواب: أن يقال إنه لينطبق على ابن محمود قول الشاعر: يقضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن وأبلغ من هذا قول الله -تعالى-: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، وكيف تكون رسالة ابن محمود عقيدة حسنة، وحقيقة مسلمة، وهي مخالفة لما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخلفاء الراشدين المهديين، ومخالفة أيضًا لما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عيسى بن مريم -عليهما الصلاة والسلام-؛ أنه ينزل في آخر الزمان ويكون إمامًا مهديًا وحكمًا عدلا، ومخالفة أيضًا للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، وقد تقدم ذكرها فلتراجع (¬1)، وقد تلقاها أهل العلم بالقبول، ودونوها في كتبهم المعتمدة، ولا ينكرها إلا جاهل أو مكابر مباهت، لا يبالي برد الأحاديث الصحيحة وإطراحها، وبالجملة فلا يغتر برسالة ابن محمود إلا من هو جاهل لا يميز بين العقيدة الحسنة والعقيدة السيئة، ومن له أدنى علم ومعرفة بالحديث لا يشك أنها عقيدة سيئة مبتدعة، ولا شك أن المسلم العارف سيتذلل لسانه بإنكارها والتحذير منها؛ لمخالفتها لما عليه أهل السنة والجماعة. وأما قوله في صفحة (3): "بدأتها بدعوة العلماء والطلاب إلى الاتحاد على حسن الاعتقاد؛ من أنه لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر". فجوابه أن يقال: قد روي الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ¬

_ (¬1) ص9 - 17وص21.

اغترار ابن محمود بتوهماته، والرد عليه

قال النووي: "سواء كان ذلك الهدي والضلالة هو الذي ابتدأه، أم كان مسبوقا إليه". انتهى، وروى الترمذي، وابن ماجة، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «طوبى لعبد جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر». وإذا علم هذا فليعلم أيضًا، أن ما دعا إليه ابن محمود من إنكار خروج المهدي في آخر الزمان، فهو قول سوء وضلالة، وسوء اعتقاد بلا شك، فلا يجوز للمسلم أن يتحد مع ابن محمود على هذا الاعتقاد السيئ، المخالف للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما كان عليه أهل السنة والجماعة من زمن الصحابة إلى زماننا، وما يؤمن ابن محمود أن يكون عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، واغتر برسالته. وأما قوله في صفحة (3): "لأنني وإن كنت أرى في نفسي أنني أصبت في الرسالة مفاصل الأنصاف والعدل، ولم أنزع فيها إلى ما ينفاه الشرع أو يأباه العقل، لكنني فرد من بني الإنسان، الذي هو محل للخطأ والنسيان". فجوابه أن يقال: ما رآه ابن محمود في نفسه من إصابة مفاصل العدل والإنصاف في رسالته، فهو شبيه بما يراه النائم في نومه من أضغاث الأحلام، التي يرى في حال نومه أنها حق، فإذا استيقظ من نومه لم يجد لشيء منها حقيقة، وكذلك ابن محمود، فإنه لو استيقظ من سباته وراجع الحق، لتبين له أن رسالته بعيدة كل البعد عن مفاصل العدل والإنصاف، وأنه قد نزع فيها إلى ما يحرمه الشرع، ويأباه العقل السليم؛ من رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} ". ولا شك أن ابن محمود قد اخطأ خطًا كبيرًا في رده للأحاديث الصحيحة، فيجب عليه أن يراجع الحق ولا يصر على المخالفة، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة

اغتراره برسالته والرد عليه

من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، وروى الإمام أحمد أيضًا، والبخاري في الأدب المفرد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ويل للمُصرِّين؛ الذين يُصرون على ما فعلوا وهم يعلمون». وأما قوله في صفحة (3): "وقدمت في الرسالة عقيدة المسلم مع المهدي". فجوابه أن يقال: ما ذكر ابن محمود في شأن المهدي ليس من عقائد المسلمين، وإنما هو بدعة وضلالة قال بها بعض المستشرقين، وبعض المفتونين بأفكار الغربيين من العصريين، وتلقاها ابن محمود عنهم، وجعل لها ذيولاً وحواشي يرد بها أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويفند بها أقوال أهل العلم في إثبات خروج المهدي في آخر الزمان. وأما قوله في صفحة (3): "ومنها أن جميع الناس من العلماء والعوام في كل زمان ومكان يقاتلون كل من يدعي أنه الإمام المهدي، لاعتقادهم أنه دجال كذاب، يريد أن يفسد الدين، ويفرق جماعة المسلمين، ويملأ ما استولى عليه جورًا وفجورًا، كما جري لكثير من المدعين للمهدية، ولن يزالوا يقاتلون كل من يدعي ذلك حتى تقوم الساعة، فأين المهدي والحالة هذه؟! ". فجوابه أن يقال: ما زعمه من قتال العلماء والعوام لكل من ادعى المهدية في كل زمان ومكان ليس بصحيح، فقد ادَّعاها أناس كثيرون ولم يقاتلهم العلماء والعوام، وقد لقَّب المنصور العباسي ابنه محمدًا بالمهدي رجاء أن يكون الموعود به في الأحاديث، فلم يكن به، ولم يقاتله أحد من العلماء والعوام على تسميه بالمهدي، بل ولم ينكروا تسميته بالمهدي، وإنما قالوا ليس هو المهدي الموعود به في آخر الزمان. وأما قوله: "ولن يزالوا يقاتلون كل من يدعي ذلك حتى تقوم الساعة". فجوابه أن يقال: هذا من الرجم بالغيب، وقد قال الله -تعالى-: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}. وأما قوله: "فأين المهدي والحالة هذه؟! ". فجوابه أن يقال: إن المهدي سيخرج في آخر الزمان كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وأما وقت خروجه على التعيين فلا يعلمه إلا الله، وقد جاء

زعمه تقليدا لأحمد أمين أن فكرة المهدي ليست من عقائد أهل السنة، والرد عليه

في حديث جابر -رضي الله عنه- الذي رواه الحارث بن أبي أسامة بإسناد جيد وتقدم ذكره، أن المهدي هو الأمير الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه والله أعلم. وأما قوله في صفحة (3): "وإن فكرة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء، فلم يقع لها ذكر بين الصحابة في القرن الأول، ولا بين التابعين". فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن خروج المهدي في آخر الزمان من أمور الغيب، التي أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس ذلك مجرد فكرة كما زعم ذلك ابن محمود تقليدًا لأحمد أمين، فإن الأمور الغيبية لا تدرك بالأفكار، وإنما تعلم بخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وإذا علم هذا، فالإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان داخل في ضمن الإيمان بأن محمدًا رسول الله، ومن لم يؤمن بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب، فلا شك أنه لم يحقق الشهادة بالرسالة. الوجه الثاني: أن يقال: إن العقائد الصحيحة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، فكل ما جاء في الكتاب والسنة من أنباء الغيوب الماضية والآتية، فالإيمان به واجب، وهو من عقائد أهل السنة، ومن ذلك الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان، لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروجه، فمن لم يؤمن بخروجه فهو مخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة شاء أم أبى. الوجه الثالث: أن يقال: إن ذكر المهدي كان مشهورًا عند الصحابة ومن بعدهم إلى زماننا، وقد روى الأحاديث في ذلك عدد كثير من الصحابة، وجمٌّ غفير من التابعين فمن بعدهم، وقد تقدم إيراد بعض الأحاديث الواردة في ذلك فلتراجع (¬1)، ففيها أبلغ رد على من زعم أنه لم يقع للمهدي ذِكر بين الصحابة ولا بين التابعين، وهذا الزعم غاية في المكابرة. ومما يدل على أن ذكر المهدي كان مشهورًا عند التابعين ومن بعدهم، ما رواه ابن سعد في الطبقات: أخبرنا الواقدي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: خرج محمد بن عجلان مع محمد بن عبد الله بن حسن حين خرج بالمدينة، فلما قُتل محمد بن عبد الله، وولي جعفر بن سليمان بن علي المدينة، بعث إلى محمد بن ¬

_ (¬1) ص9 - 17.

ذكر المحدثين الذين ترجموا لأحاديث المهدي

عجلان فأتي به، فبكته وكلمة كلامًا شديدًا، وقال: خرجت مع الكذاب، فلم يتكلم محمد بن عجلان بكلمة إلا أنه يحرك شفتيه بشيء لا يدري ما هو، فيظن أنه يدعو، فقام من حضر جعفر بن سليمان من فقهاء أهل المدينة وأشرافهم فقالوا: أصلح الله الأمير محمد بن عجلان فقيه أهل المدينة وعابدها، وإنما شبه عليه وظن أنه المهدي الذي جاءت فيه الرواية، فلم يزالوا يطلبون إليه حتى تركه. الوجه الرابع: أن يقال: إن الأحاديث الواردة في ذكر المهدي مشهورة عند أهل السنة والجماعة، وقد خرجها أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم كما تقدم بيان ذلك قريبًا، وقد ترجم لها كثير من المحدثين؛ قال عبد الرزاق في مصنفه: "باب المهدي" ثم ساق بعض الأحاديث والآثار الواردة في ذلك، وقال أبو داود في سننه "كتاب المهدي" ثم ساق بعض الأحاديث والآثار الواردة في ذلك، وقال الترمذي في جامعه: "باب ما جاء في المهدي" ثم ساق بعض الأحاديث الواردة في ذلك، وقال ابن ماجة في سننه "باب خروج المهدي" ثم ساق بعض الأحاديث الواردة في ذلك، وقال ابن حبان في صحيحه: "ذكر الخبر المصرح بأن القوم الذين يخسف بهم، إنما هم القاصدون إلى المهدي، في زوال الأمر عنه"، وقال أيضًا: "ذكر البيان بأن خروج المهدي إنما يكون بعد ظهور الظلم والجور في الدنيا، وغلبتهما على الحق"، وقال أيضًا: «ذكر الأخبار عن وصف المدة التي يكون المهدي فيها في آخر الزمان»، وقال أيضًا: "ذكر الموضع الذي يبايع فيه المهدي" وقد ساق في كل ترجمة ما يتعلق بها من الأحاديث. وقال أبو السعادات ابن الأثير في "جامع الأصول" في ذكر أشراط الساعة: "الفصل الأول في المسيح والمهدي -عليهما السلام-" ثم ساق بعض الأحاديث الواردة في ذلك، وقال أبو عبد الله القرطبي في التذكرة: "باب في الخليفة الكائن في آخر الزمان المسمى بالمهدي، وعلامة خروجه" ثم أورد بعض ما جاء فيه من الأحاديث. وقال ابن كثير في "النهاية": " «فصل في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان وهو أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين»، وليس هو بالمنتظر الذي تزعمه الرافضة وترتجي ظهوره من سرداب سامراء، فإن ذلك ما لا حقيقة له ولا عين ولا أثر، ويزعمون أنه محمد بن الحسن بن العسكري، وأنه دخل

ما ذكره البربهاري في شرح السنة أن عيسى يصلي خلف المهدي

السرداب وعمره خمس سنين، وأما ما سنذكره فقد نطقت به الأحاديث المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يكون في آخر الدهر، وأظن ظهوره يكون قبل نزول عيسى ابن مريم، كما دلت على ذلك الأحاديث"، ثم ذكر ابن كثير بعض الأحاديث الواردة في ذلك، قال: "وقد أفردت في المهدي جزءًا على حدة ". وقال الهيثمي في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: "باب ما جاء في المهدي" ثم ساق بعض الأحاديث الواردة في ذلك، وقال الحافظ ابن حجر في المطالب العالية: "باب في المهدي وغيره من الخلفاء العادلين" ثم ساق بعض الأحاديث والآثار الواردة في ذلك. وقال الحسن بن علي بن خلف أبو محمد البربهاري، وهو شيخ الحنابلة في وقته، وقد صحب جماعة من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، وتوفي في سنة تسع وعشرين وثلاث مائة، قال في كتاب "شرح السنة": "والإيمان بنزول عيسى ابن مريم -عليه السلام- ينزل فيقتل الدجال، ويتزوج، ويصلي خلف القائم من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ". انتهى، وقد نقله عنه القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة. وقال محمد بن الحسين الآبري الحافظ في كتاب "مناقب الشافعي": "قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وإنه يملأ الأرض عدلا، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلي عيسى خلفه". انتهى، وقد نقله عنه جماعة من أكابر العلماء وأقروه، وسيأتي ذكرهم -إن شاء الله تعالى. ولأبي الحسين ابن المنادي جزء جمعه في المهدي وقال فيه: "يحتمل في معنى حديث «يكون اثنا عشر خليفة» أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان". انتهى، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري، في آخر "باب الاستخلاف" من "كتاب الأحكام" نقلاً عن كشف المشكل لأبي الفرج ابن الجوزي، وأبو الحسين هذا اسمه أحمد بن جعفر، وهو أحد الأعيان الكبار من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد، وله نحو أربعمائة مصنف، وكان مولده في سنة ست وخمسين ومائتين، وقيل في سنة سبع وخمسين ومائتين، وتوفي في سنة ست وثلاثين وثلاث مائة.

ما ذكره ابن القيم من أقوال أهل السنة في المهدي، وبيان الراجح منها

وممن جمع الأحاديث والآثار الواردة في المهدي نعيم بن حماد شيخ البخاري، جمع منها فأكثر في كتاب "الفتن"، وممن جمع أحاديث المهدي أيضًا أبو بكر بن أبي خيثمة؛ ذكر ذلك السهيلي في "الروض الأنف" في ذكر إسلام خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها-، فقد ذكر فيه عدة فضائل لفاطمة -رضي الله عنها-، ثم قال: "ومن سؤددها أيضًا أن المهدي المبشر به في آخر الزمان من ذريتها"، قال: "والأحاديث الواردة في أمر المهدي كثيرة، وقد جمعها أبو بكر ابن أبي خيثمة فأكثر". انتهى. وممن ذكر المهدي جازمًا بخروجه أبو سليمان الخطابي، نقله عند عبد الرحمن المباركفوري في "تحفة الأحوذي" في "باب ما جاء في تقارب الزمن وقصر الأمل"، فقد أورد الترمذي في الباب حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان؛ وتكون السنة كالشهر, والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمة بالنار»، قال المباركفوري في شرح هذا الحديث: "قال الخطابي ويكون ذلك في زمن المهدي أو عيسى -عليهما الصلاة والسلام- أو كليهما، قال القاري: والأخير هو الأظهر، لظهور هذا الأمر في خروج الدجال وهو زمانهما". انتهى. وممن ألف في المهدي أبو نعيم الحافظ، وقد نقل ابن القيم في كتابه "المنار المنيف" عدة أحاديث مما رواه أبو نعيم في "كتاب المهدي"، وممن جمع الأحاديث والآثار الواردة في المهدي جلال الدين السيوطي؛ جمع ذلك في جزء سماه "العرف الوردي في أخبار المهدي"، ولخص فيه الأربعين التي جمعها أبو نعيم في المهدي، وقد جمع أخبار المهدي كثير من المتأخرين فلا أطيل بذكرهم. وفيما ذكرته من التراجم في ذكر المهدي، وما قاله البربهاري والآبري وغيرهما من أكابر العلماء أبلغ رد على مزاعم ابن محمود في إنكاره لخروج المهدي، وقوله إن فكرة المهدي ليست من عقائد أهل السنة القدماء. وقد قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "المنار المنيف": "اختلف الناس في المهدي على أربعة أقوال؛ أحدها أنه المسيح ابن مريم، الثاني إنه المهدي الذي ولي من بني العباس، الثالث أنه رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورًا وظلمًا، فيملؤها قسطًا وعدلا، وأكثر الأحاديث على هذا تدل.

قال وقد روى أبو نعيم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج رجل من أهل بيتي يعمل بسنتي، وينزل الله له البركة من السماء، وتخرج له الأرض بركتها، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلمًا، ويعمل على هذه الأمة سبع سنين، وينزل بيت المقدس». وروى أيضًا من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الدجال، وقال: «فتنفي المدينة الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعي ذلك اليوم يوم الخلاص» فقالت أم شريك: فأين العرب يا رسول الله يومئذ، فقال: «هم يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم المهدي رجل صالح». وروي أيضًا من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن تهلك أمة أنا في أولها، وعيسى ابن مريم في آخرها، والمهدي في وسطها»، وهذه الأحاديث وإن كان في إسنادها بعض الضعف والغرابة، فهي مما يقوي بعضها بعضًا ويشد بعضها ببعض. فهذه أقوال أهل السنة، وأما الرافضة الإمامية فلهم قول رابع، وهو أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر، من ولد الحسين بن علي، لا من ولد الحسن، الحاضر في الأمصار، الغائب عن الأبصار، دخل سرداب سامراء طفلاً صغيرًا من أكثر من خمسمائة سنة فلم تره بعد ذلك عين، ولم يحس فيه بخبر ولا أثر، وهم ينتظرونه كل يوم، يقفون بالخيل على باب السرداب ويصيحون به أن يخرج إليهم، اخرج يا مولانا، اخرج يا مولانا، ثم يرجعون بالخيبة والحرمان. فهذا دأبهم ودأبه، ولقد أحسن من قال: ما آن للسرداب أن يلد الذي ... كلمتموه بجهلكم ما آنا فعلى عقولكم العفاء فإنكم ... ثلثتمُ العنقاء والغيلانا ولقد أصبح هؤلاء عارًا على بني آدم، وضحكة يسخر منهم كل عاقل. أما مهدي المغاربة محمد بن تومرت فإنه رجل كذاب ظالم متغلب بالباطل، ملك بالظلم والتغلب والتحيل؛ فقتل النفوس، وأباح حريم المسلمين، وسبى ذراريهم، وأخذ أموالهم، وكان شرًا على الملة من الحجاج بن يوسف بكثير، وكان يودِع بطن الأرض في القبور جماعة من أصحابه أحياء، يأمرهم أن يقولوا للناس إنه المهدي الذي بشر به

زعم ابن محمود تقليدا لبعض العصريين أن فكرة المهدي من عقائد الشيعة، والرد عليه

النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يردم عليهم ليلا لئلا يُكذبوه بعد ذلك، وسمَّي أصحابه الجهمية الموحدين، واستباح قتل من خالفهم من أهل العلم والإيمان، وتَسمَّى بالمهدي المعصوم. ثم خرج المهدي الملحد عبيد الله بن ميمون القداح، وكان جده يهوديًا من بيت مجوسي، فانتسب بالكذب والزور إلى أهل البيت وادَّعى أنه المهدي الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وملك وتغلب واستفحل أمره، إلى أن استولت ذريته الملاحدة المنافقون الذين كانوا أعظم الناس عداوة لله ولرسوله على بلاد المغرب ومصر والحجاز والشام. واشتدت غربة الإسلام ومحنته ومصيبته بهم، وكانوا يدَّعون الإلهية، ويدعون أن للشريعة باطنًا يخالف ظاهرها، وهم ملوك القرامطة الباطنية أعداء الدين، فتستروا بالرفض والانتساب كذبًا إلى أهل البيت، ودانوا بدين أهل الإلحاد وروجوه، ولم يزل أمرهم ظاهرًا إلى أن أنقذ الله الأمة منهم، ونصر الإسلام بصلاح الدين يوسف بن أيوب، فاستنقذ الملة الإسلامية منهم وأبادهم، وعادت مصر دار إسلام بعد أن كانت دار نفاق وإلحاد في زمنهم. والمقصود أن هؤلاء لهم مهدي، وأتباع ابن تومرت لهم مهدي، والرافضة الإثني عشرية لهم مهدي، فكل هذه الفرق تدَّعي في مهديها الظلوم الغشوم أنه الإمام المعصوم والمهدي المعلوم، الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بخروجه. وهي تنتظره كما تنتظر اليهود القائم الذي يخرج في آخر الزمان، فتعلو به كلمتهم، ويقوم به دينهم، ويُنصرون به على جميع الأمم، والنصارى تنتظر المسيح يأتي قبل يوم القيامة، فيقيم دين النصرانية، ويبطل سائر الأديان. فالملل الثلاث تنتظر إمامًا قائمًا يقوم في آخر الزمان، ومنتظر اليهود الدجال الذي يتبعه من يهود أصبهان سبعون ألفًا، والنصارى تنتظر المسيح عيسى ابن مريم، ولا ريب في نزوله، ولكن إذا نزل كسر الصليب، وقتل الخنزير، وأباد الملل كلها سوى ملة الإسلام، وهذا معنى الحديث «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم» ". انتهى كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى-. والمقصود منه ما ذكره من أقوال أهل السنة في المهدي، وأن أكثر الأحاديث تدل على أنه من بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، من ولد الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وفي هذا رد لقول ابن محمود أن فكرة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء. وقال ابن محمود في صفحة (3) وصفحة (4): "وإن أصل من تبنى هذه الفكرة والعقيدة هم الشيعة، الذين من عقائدهم الإيمان بالإمام الغائب المنتظر، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا، وهو الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، فسرت هذه

الفكرة وهذا الاعتقاد بطريق المجالسة والمؤانسة والاختلاط إلى أهل السنة، فدخلت في معتقدهم وهي ليست من أصل عقيدتهم، ثم انتقلت بصورة عامة إلى المجتمع الإسلامي، حين نادى بها في الناس عبد الله بن سبأ؛ المعروف بصريح الإلحاد والعداء للإسلام والمسلمين، فأخذ هو وشيعته يعملون عملهم في صياغة الأحاديث ووضعها على لسان رسول الله بأسانيد منظمة عن أهل القبور، وأخذوا في نشرها في مجتمع الناس، حتى لا يفقدوا الأمل الذي يرجونه بزعمهم في إرجاع الحكم إلى أهل البيت، ليزيلوا عنهم الظلم والاضطهاد الواقع بهم من قبل خصومهم بني أمية، فهي دعوة سياسية إرهابية، كما أن بني أمية لما سمعوا بهذه الأحاديث الموجهة لهم من العراق والتي ترجف بهم وتهددهم بالإيقاع، لهذا تنبه بنو أمية فأقاموا السفياني مقام المهدي، وعمل أنصارهم عملهم في وضع الحديث عن رسول الله في السفياني؛ من ذلك ما روى الحاكم في صحيحه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج رجل يقال له السفياني من دمشق، وعامة من يتبعه من كلب، فيقتل حتى يبقر بطون النساء ويقتل الصبيان» وذكر بقية الحديث، ثم قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ثم ساق حديثًا ثانيًا في السفياني بلفظ الحديث الأول ومعناه، فتصحيح الحاكم لأحاديث السفياني هي بمثابة تصحيحه وتصحيح الترمذي لأحاديث المهدي على حد سواء، وفي الحقيقة أنها كلها غير صحيحة ولا متواترة". والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال ما قرره ابن محمود من أن أصل من تبني هذه الفكرة والعقيدة هم الشيعة إلى آخر كلامه، فهو مما أخذه من كلام رشيد رضا وأحمد أمين وسعد محمد حسن، فأما رشيد رضا فقد زعم أن الشيعة كانوا يسعون لجعل الخلافة في آل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذرية علي، ويضعون الأحاديث تمهيدًا لذلك. وأما أحمد أمين فقد قال في صفحة 241 من الجزء الثالث من كتابه "ضحى الإسلام": "وفكرة المهدي لها أسباب سياسية واجتماعية ودينية، ففي نظري أنها نبع من الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها، وذلك بعد خروج الخلافة من أيديهم، وانتقالها إلى معاوية وقتل علي وتسليم الحسن الأمر لمعاوية"، إلى أن قال في صفحة 243: "واستغل هؤلاء المهرة أفكار الجمهور الساذجة المتحمسة للدين والدعوة الإسلامية، فأتوهم من هذه الناحية الطيبة الطاهرة، ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله في ذلك،

وأحكموا أسانيدها، وأذاعوها من طرق مختلفة، فصدقها الجمهور الطيب لبساطته، وسكت رجال الشيعة لأنها في مصلحتهم، وسكت الأمويون لأنهم قلدوها في سفيانيهم، وسكت العباسيون لأنهم حولوها إلى منفعتهم، وهكذا كانت مؤامرة شنيعة أفسدوا بها عقول الناس". انتهى. وأما سعد محمد حسن فقد زعم في صفحة 44 من كتابه "المهدي في الإسلام" أن عقيدة المهدي حِيكَت في المجتمع الإسلامي، وأن حَاكَتَهَا هم الشيعة على يد ابن السوداء اليهودي المتمسلم الغالي في تشيعه الموهوم، وزعم أيضًا في صفحة (69) أن الشيعة اختلقت الأحاديث الكثيرة، ووضعتها مؤيدة لوجهة نظرها، ورفعت إلى النبي لتصبغ هذا المعتقد بصبغة إسلامية رسمية؛ من ذلك قولهم: "لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورًا"، وقال أيضًا في صفحة 174: "ونحن لا نشك في أن عقيدة العامة من أهل السنة، بل وكثير من الخاصة إنما هي أثر شيعي تسرب إليهم فعملت فيه العقلية السنية بالصقل والتهذيب". انتهى. وإذا علم هذا فقد قال ابن محمود في صفحة (5) ما نصه: "وأكثر الناس مقلدة يقلد بعضهم بعضًا، وقليل منهم المحققون". انتهى، ولا شك أن قوله هذا يعود عليه كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني: أن يقال: في هذا الكلام من فساد التصور ما لا يخفي على عاقل؛ وذلك أنه ذكر أن أصل من تبنى الفكرة والعقيدة في المهدي هم الشيعة، الذين من عقائدهم الإيمان بالإمام الغائب المنتظر وهو محمد بن الحسن العسكري، وأن هذه الفكرة سرت إلى أهل السنة فدخلت في معتقدهم بطريق المجالسة والاختلاط، ثم انتقلت إلى المجتمع الإسلامي حين نادى بها في الناس عبد الله بن سبأ، إلى آخر كلامه. وهذا كلام غير معقول؛ لأن محمد بن الحسن العسكري الذي زعمت الرافضة الإمامية أنه الإمام المنتظر قد ولد في سنة خمس وخمسين ومائتين، ذكر ذلك ابن خلكان في تاريخه، وهذا على القول بوجوده، والصحيح أنه لا وجود له، وأما عبد الله بن سبأ وهو الذي يقال له ابن السوداء، فإنه كان يهوديًا من أهل صنعاء، وأظهر الإسلام في زمان عثمان -رضي الله عنه-، وهو أول من ابتدع الرفض، وكان منافقًا زنديقًا، أراد إفساد دين الإسلام كما فعل بولص بدين النصرانية، وقد سعى في الفتنة وحصل بسببه تحريش وفتنة قُتل فيها عثمان -رضي الله عنه-.

زعمه أن ابن سبأ وشيعته كانوا يضعون الأحاديث في المهدي، والرد عليه

وإذا علم أن ابن سبأ كان في زمان عثمان -رضي الله عنه-، وأن محمد بن الحسن العسكري كان بعد زمان ابن سبأ بمدة طويلة تزيد على مائتي سنة، فهل يعقل والحالة هذه أن تكون فكرة الشيعة في محمد بن الحسن العسكري سرت بطريق المجالسة والاختلاط إلى أهل السنة، ثم انتقلت إلى المجتمع الإسلامي حين نادى بها عبد الله بن سبأ؟! فكيف تنتقل الفكرة المتأخرة إلى الزمان الذي مضى قبلها بأكثر من مائتي سنة، وكيف ينادي عبد الله بن سبأ بفكرة كان ابتداؤها بعده بأكثر من مائتي سنة، هذا تصور لا يقوله عاقل. وأما قوله: إن ابن سبأ أخذ هو وشيعته يعملون عملهم في صياغة الأحاديث، ووضعها على لسان رسول بأسانيد منظمة عن أهل القبور، وأخذوا في نشرها في مجتمع الناس. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن أقول: إني لم أر أحدًا من المحدثين ولا من أهل التاريخ والسير نقل عن ابن سبأ أنه تكلم في المهدي بشيء، فضلا عن صياغة الأحاديث في ذلك ووضعها على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشرها في مجتمع الناس، ولو وقع شيء من ذلك لنقله أهل العلم بالرجال، وذكروه في كتب الموضوعات، كما فعلوا ذلك في أحاديث الوضاعين؛ فإنهم قد نبهوا عليها وذكروا مع كل حديث موضوع اسم الرجل الذي وضعه، فإن كان ابن محمود قد اطلع على شيء من الأحاديث التي زعم أن ابن سبأ قد وضعها في ذكر المهدي فليفدنا بذلك، وليذكر الكتاب الذي يوجد فيه تلك الأحاديث التي يكون ابن سبأ أحد رجال الأسانيد فيها، فأما التحايل على رد الأحاديث الثابتة وإبطالها بمجرد الدعوى التي لا دليل عليها، ولم تنقل عن أحد من علماء الجرح والتعديل، فلا يليق ذلك بمن له أدنى عقل وعلم ودين. الوجه الثاني: أن يقال: إن الأحاديث الثابتة في خروج المهدي كانت من رواية الثقات عن الثقات، من لدن الصحابة الذين رووها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأئمة المخرجين لها في كتبهم، ولم يكن لعبد الله بن سبأ ولا لأحد من شيعته علاقة بشيء من تلك الأسانيد الثابتة، وليس في رواتها أحد من المغفلين الذين يقبلون التلقين حتى يتهيأ للناقد الطعن فيها، وإذا فما زعمه ابن محمود ههنا فهو تمويه وتلبيس على الأغبياء، ولا أساس له من الصحة.

وقد كان علماء الجرح والتعديل إذا طعنوا في شيء من الأحاديث، وحكموا عليها بالوضع، يذكرون المتهمين بوضعها ممن يكون في أسانيد تلك الأحاديث من الوضاعين والكذابين، فأما الأحاديث التي يكون في أسانيدها بعض الضعفاء فقد كانوا يحكمون عليها بالضعف، ولا يتجاوزون ذلك إلى الحكم بالوضع، لاحتمال أن تكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما الأحاديث التي قد رواها الثقات عن الثقات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كانوا يعظمونها ويعتمدون عليها في أصول الدين وفروعه، وقد تقدم كلام الإمامين الشافعي وأحمد في ذلك، وكذلك كلام ابن شاقلا، وأبي الحسن الأشعري، وأبي محمد المقدسي في ذلك فليراجع (¬1). وقد خلف من بعد العلماء العالمين بالأحاديث خلف من العصريين المفتونين بأفكار الغربيين، فهجموا على الأحاديث الصحيحة، والأحاديث الحسنة، وتجرءوا على الكلام فيها وفي رواتها، ولم يبالوا بردها وإطراحها، ولا سيما إذا خالفت أفكارهم أو أفكار من يعظمونه من الغربيين وتلاميذهم المفتونين بما يسمونه حرية الفكر، وتقديم الأفكار على الأحاديث الصحيحة والأحاديث الحسنة. وقد جعلوا عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- وكعب الأحبار ووهب بن منبه هدفًا لطعنهم في الأحاديث الصحيحة وردها، ولو لم يكونوا من رواة تلك الأحاديث. وقد زعم بعضهم ظلمًا وزورًا أن هؤلاء الثلاثة كانوا يضعون الأحاديث ويدسونها على المسلمين. وأما ابن محمود فقد جعل هدفه عبد الله بن سبأ وشيعته، فزعم أنهم هم الذين صاغوا الأحاديث الواردة في المهدي ووضعوها على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطريقة ابن محمود في رد الأحاديث الثابتة في المهدي، هي نفس الطريقة التي كان يسلكها غيره من العصريين في رد الأحاديث الثابتة إذا كانت مخالفة لأفكارهم أو أفكار من يعظمونه. الوجه الثالث: أن يقال: إن ابن سبأ كان في زمن الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك الزمان لم يكن لتلك الأحاديث أسانيد، وإنما وجدت أسانيدها بعد زمانهم وزمان ابن سبأ، فهل يعقل والحالة هذه أن يكون ابن سبأ هو الذي صاغ أحاديث المهدي ووضعها على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد لم توجد إلا بعد زمانه؟! وهل يظن ابن محمود أن ابن سبأ قد بقي إلى ما بعد المائتين من الهجرة حتى يصوغ أحاديث المهدي بالأسانيد التي عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة، وغيرهم ممن روى أحاديث المهدي؟! وقد قال ¬

_ (¬1) ص 19 - 20.

حديث "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"

الذهبي في "الميزان": "عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة، ضال مضل، أحسب عليًا حرقه بالنار"، وكذا قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" قال: "وله اتباع يقال لهم السبائية، يعتقدون إلاهية علي بن أبي طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته". انتهى. الوجه الرابع: أن يقال: كان ينبغي لابن محمود أن يذكر له مستندًا صحيحا فيما ألصقه بابن سبأ وشيعته، من صياغة الأحاديث في المهدي ووضعها على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد منظمة عن أهل القبور، ونشرها في مجتمع الناس، وحيث لم يذكر له مستندًا من المصادر الموثوق بها، فلا شك أن مستنده الذي اعتمد عليه هو التوهم والتخيل واتباع الظن، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}، وفي الحديث الصحيح: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» [متفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-]. وأما قوله: فهي دعوة سياسية إرهابية. فجوابه: أن يقال: أما الذين ادعوا المهدية كذبًا وزورًا؛ مثل ابن التومرت، ومهدي القرامطة والبابية البهائية والقاديانية، وأمثالهم من الكذابين المتحيلين لتحصل الرئاسة فهؤلاء دعوتهم سياسية إرهابية بلا شك، وكذلك الفئة التي نكثت البيعة وشقت العصا وألحدت في المسجد الحرام في أول سنة 1400 من الهجرة، وأراقت الدماء المحرمة في أشرف البقاع وأعظمها حرمة عند الله -تعالى-، وادعت المهدية فيمن ليس لها بأهل، فهؤلاء دعواهم المهدية مثل دعوى غيرهم ممن ادعى المهدية كذبًا وزورًا، ودعوتهم إلى مبايعة مهديهم المزعوم دعوة جهل وضلال وإرهابية بلا شك. وأما المهدي الذي أخبر الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- بخروجه في آخر الزمان فليس الإيمان بخروجه ورواية الأحاديث الثابتة فيه دعوة سياسية إرهابية كما قد توهم ذلك ابن محمود، وإنما هو من الإيمان والتسليم لما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمر الغيبي الذي سيقع طبق ما أخبر به، ومن لم يؤمن بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمور الغيبية فلا شك أنه لم يحقق الشهادة بالرسالة. والمهدي الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه في آخر الزمان لا تكون دعوته سياسية إرهابية، وإنما تكون دعوة حق وهدى، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا،

تناقض كلام ابن محمود

وتنعم الأمة في زمانه نعمة لم ينعموا مثلها، ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض؛ أي يستقر قراره فلا تكون فتنة ولا هيج، وتجري أحكام الإسلام على العدل والاستقامة، وليس هو الذي يسمى نفسه بالمهدي، وإنما يسميه الناس بذلك إذا رأوا أعماله الصالحة، وعمله بالسنة، ونشره للقسط والعدل، وإزالته للجور والظلم. وأما قوله: كما أن بني أمية لما سمعوا بهذا الأحاديث الموجهة لهم من العراق والتي ترجف بهم وتهددهم بالإيقاع، لهذا تنبه بنو أمية فأقاموا السفياني مقام المهدي وعمل أنصارهم عملهم في وضع الحديث عن رسول الله في السفياني، من ذلك ما روى الحاكم في صحيحه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج رجل يقال له السفياني من دمشق، وعامة من يتبعه من كلب، فيقتل حتى يبقر بطون النساء ويقتل الصبيان» وذكر بقية الحديث، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ثم ساق حديثًا ثانيًا في السفياني بلفظ الحديث الأول ومعناه، فتصحيح الحاكم لأحاديث السفياني هي بمثابة تصحيحه وتصحيح الترمذي لأحاديث المهدي على حد سواء، وفي الحقيقة أنها كلها غير صحيحة ولا متواترة. فجوابه: من وجوه: أحدها: أن يقال: قد تقدم عن ابن محمود أنه قال إن فكرة المهدي لم يقع لها ذكر بين الصحابة في القرن الأول ولا بين التابعين، وأن أصل من تبني هذه الفكرة والعقيدة هم الشيعة، الذين من عقائدهم الإيمان بالإمام الغائب المنتظر وهو الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري. فعلى قول ابن محمود يكون ابتداء الفكرة في المهدي في أواخر القرن الثالث من الهجرة، بعدما ولد محمد بن الحسن العسكري وبعدما دخل السرداب على حد زعم الرافضة فيه. ثم إن ابن محمود أتى بما يناقض ما قرره أولا؛ فزعم أن بني أمية لما سمعوا الأحاديث في المهدي أقاموا السفياني مقام المهدي، وعمل أنصارهم عملهم في وضع الحديث في السفياني، ومن المعلوم أن بني أمية كانوا في أثناء القرن الأول وآخره وأول القرن الثاني، وكان الصحابة كثيرين جدًا في أول زمان بني أمية، وأما التابعون فكانوا متوافرين في زمان بني أمية، فإذا لم يكن للفكرة في المهدي ذكر بين الصحابة ولا بين التابعين، وكان ابتداؤها في أواخر القرن الثالث حين ولد محمد بن الحسن العسكري، فكيف يقال إن بني أمية تنبهوا حين سمعوا الأحاديث في المهدي، وأقاموا السفياني مقام

الحديث الذي في ذكر السفياني والمهدي صحيح

المهدي، وعمل أنصارهم عملهم في وضع الحديث في السفياني؟! هذا تناقض وتخليط صدران عن المجازفة وعدم التثبت في الكلام. الوجه الثاني: أن يقال: إن كلام ابن محمود ينقض بعضه بعضًا؛ لأنه ذكر أولا عن ابن سبأ وشيعته أنهم صاغوا الأحاديث ووضعوها في المهدي، ثم ذكر ثانيًا أن بني أمية سمعوا بتلك الأحاديث موجهة لهم من العراق، فإن كانت أحاديث المهدي موجهة من العراق كما جزم به ابن محمود في هذا الموضع، فليس من وضع ابن سبأ وشيعته؛ لأن ابن سبأ قد نفي إلى مصر، فاستقر فيها وجعل يبث شره في الناس. ذكر ذلك ابن جرير وغيره. وإن كان ابن سبأ هو الذي وضع أحاديث المهدي كما جزم به ابن محمود فيما تقدم من كلامه (¬1)، فإنها تكون موجهة من مصر لا من العراق. وهذا التناقض يدل على بطلان قول ابن محمود في أحاديث المهدي حيث زعم أنها موضوعة. الوجه الثالث: أن يقال: إن الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه في ذكر السفياني والمهدي رواته كلهم ثقات، فإنه رواه عن أبي محمد أحمد بن عبد الله المزني، حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج رجل يقال له السفياني في عمق دمشق، وعامة من يتبعه من كلب، فيقتل حتى يبقر بطون النساء ويقتل الصبيان، فتجمع لهم قيس فيقتلها، حتى لا يمنع ذنب تلعة، ويخرج رجل من أهل بيتي في الحرة، فيبلغ السفياني فيبعث إليه جندًا من جنده فيهزمهم، فيصير إليه السفياني بمن معه، حتى إذا صار ببيداء من الأرض خسف بهم، فلا ينجو منهم إلا المخبر عنهم». قلت: أما محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة ومن فوقه فكلهم من رجال الصحيح، فلا حاجة إلى الكلام فيهم سوى الوليد بن مسلم؛ الإمام الحافظ، فقد قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ": "لا نزاع في حفظه وعلمه، وإنما الرجل مدلس، فلا يحتج به إلا إذا صرح بالسماع". ¬

_ (¬1) انظر ص32.

قلت: وقد صرح أن الأوزاعي حدثه بهذا الحديث، فزال ما يخشى من تدليسه، وأما زكريا بن يحيى الساجي؛ فقال فيه ابن أبي حاتم: "كان ثقة، يعرف الحديث والفقه، وله مؤلفات حسان في الرجال واختلاف العلماء وأحكام القرآن"، وقال الذهبي في "الميزان": "أحد الأثبات، ما علمت فيه جرحًا أصلا"، وقال أبو الحسن القطان: "مختلف فيه في الحديث، وثَّقه قوم، وضعَّفه آخرون". انتهى، قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان": "ولا يغتر أحد بقول ابن القطان، فقد جازف بهذه المقالة، وما ضعَّف زكريا الساجي هذا أحد قط كما أشار إليه، ثم ذكر قول ابن أبي حاتم فيه، قال: وقال مسلمة بن القاسم: بصري ثقة". انتهى. وأما أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني؛ فقد ذكر السبكي في "طبقات الشافعية" عن الحاكم أنه قال: "كان إمام أهل العلم والوجوه وأولياء السلطان بخراسان في عصره بلا مدافعة"، قال: وقال أبو النصر عبد الرحمن بن عبد الجبار النامي في "تاريخ هراة": "كان إمام عصره بلا مدافعة في أنواع العلوم، مع رتبة الوزارة وعلو القدر عند السلطان"، وقال أبو سعد السمعاني: "إنه الذي يقال له الشيخ الجليل ببخاري". انتهى. وإذا علم إن رجال هذا الحديث كلهم ثقات وليس فيهم ضعيف، فضلاً عن الكذابين والوضاعين فليعلم أيضًا أنه ليس فيهم أحد من أنصار بني أمية، أما الوليد بن مسلم ومن كان بعده في الإسناد فكلهم كانوا في زمان بني العباس، فلا يقول عاقل إنهم من أنصار بني أمية وقد كانوا بعد زمانهم، وأما أبو هريرة -رضي الله عنه- وأبو سلمة بن عبد الرحمن فهما مدنيان وليسا من أنصار بني أمية، وأما يحيى بن أبي كثير فهو من أهل اليمامة وليس من أنصار بني أمية، وقد رُوي أنه امتحن وضرب وحلق لكونه انتقص بني أمية. ذكر ذلك الذهبي في "تذكرة الحفاظ"، وأما الأوزاعي فقد كان في آخر زمان بني أمية وأول زمان بني العباس ولم يكن من أنصار بني أمية، وإذا فليبين ابن محمود أنصار بني أمية الذين وضعوا هذا الحديث على حد زعمه، وليذكر الكتاب الذي وجد فيه ذلك. فأما المجازفة بالقول الذي لا صحة له فهذا مما يتنزه عنه كل ذي عقل ودين. وأما قول ابن محمود: إن الحاكم ساق حديثًا ثانيًا في السفياني بلفظ الحديث الأول ومعناه.

طعن ابن محمود في تصحيح الترمذي والحاكم لأحاديث المهدي، والرد عليه

فجوابه: أن يقال: لا صحة لما ذكره ابن محمود ههنا؛ فليس في مستدرك الحاكم حديث آخر في السفياني بلفظ حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ومعناه، وإنما فيه أثر موقوف على علي -رضي الله عنه- ولفظه قال: «يظهر السفياني على الشام، ثم يكون بينهم وقعة بقر قيسيًا، حتى تشبع طير السماء وسباع الأرض من جيفهم، ثم ينفتق عليهم فتق من خلفهم، فتقبل طائفة منهم حتى يدخلوا أرض خراسان، وتقبل خيل السفياني في طلب أهل خراسان، ويقتلون شيعة آهل محمد - صلى الله عليه وسلم - بالكوفة، ثم يخرج أهل خراسان في طلب المهدي» لم يتكلم عليه الحاكم، وقال الذهبي في تلخيصه: "قلت خبر واهٍ". انتهى. وهذا الأثر مع ضعفه الشديد لا يتفق مع حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- لا في اللفظ ولا في المعنى، ثم إن السفياني الذي جاء ذكره في حديث أبي هريرة، وأنه يخرج في آخر الزمان عند خروج المهدي، لا يلزم أن يكون من بني أمية ومن ذرية أبي سفيان؛ لأنه لم يأت في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- تصريح بذلك، بل قد يكون من غيرهم، وتكون نسبته موافقة لنسبتهم، وإذ لم يثبت أن السفياني من بني أمية فمن أكبر الخطأ بهت بني أمية بأنهم أقاموا السفياني مقام المهدي، وبهت أنصارهم بأنهم وضعوا الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفياني، وقد قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}. وأما قوله: فتصحيح الحاكم لأحاديث السفياني هي بمثابة تصحيحه وتصحيح الترمذي لأحاديث المهدي على حد سواء. فجوابه من وجهين: أحدهما: أن يقال: ظاهر كلام ابن محمود يقتضي أن يكون الحاكم قد روي في السفياني عدة أحاديث وصححها، وهذا غلط؛ لأن الحاكم لم يرو في السفياني سوى حديث واحد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وقد تقدم ذكره، وأنه حديث صحيح، وروى أيضًا أثرًا عن علي -رضي الله عنه- ولم يصححه ووهَّاه الذهبي، وقد تقدم ذكره قريبًا. فإن كان ابن محمود قد وقف على عدة أحاديث في السفياني رواها الحاكم في مستدركه وصححها فليفدنا بذلك، وليذكر مواضعها في المستدرك، وإن لم يجد سوى حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- فالأولى له لزوم الورع وترك المجازفة.

زعمه أن أحاديث المهدي غير صحيحة ولا متواترة، والرد عليه

الوجه الثاني: أن يقال: ما صححه الترمذي في جامعه فهو صحيح مقبول عند أهل العلم بالحديث، وسواء في ذلك أحاديث المهدي وغيرها، وكذلك ما حسنه الترمذي من الأحاديث فهو مقبول عند أهل العلم إلا ما ظهرت علته. فأما الحاكم فإنه كان يتساهل في تصحيح بعض الأحاديث، ولكن كان الذهبي يتعقبه في تلخيصه للمستدرك فيضعف ما صححه من الأحاديث الضعيفة، ويوافقه على تصحيح الصحيح منها، وقد وافقه على تصحيح حديثي ابن مسعود وأبي سعيد -رضي الله عنهما- في المهدي. ومحل الذهبي في معرفة صحيح الأحاديث وضعيفها، ونقد الرجال لا يخفى على طالب العلم. وأما قوله: وفي الحقيقة أنها كلها غير صحيحة ولا متواترة. فجوابه: أن يقال: هذا من مجازفات ابن محمود، وما زعمه من الحقيقة فهو خلاف الحقيقة بلا شك؛ لأن أحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، وهذا القول هو الصحيح المطابق للحقيقة، وقد قرر ذلك غير واحد من العلماء كما سأذكره -إن شاء الله تعالى- وصرح بعضهم أنها متواترة، وقد تقدم إيراد تسعة أحاديث من الصحاح والحسان بأسانيدها الثابتة فلتراجع (¬1)،ففيها أبلغ رد على الحقيقة التي زعمها ابن محمود، وقد صحح الترمذي منها حديث ابن مسعود وحديث أبي هريرة، وحسَّن حديث أبي سعيد، وصحح ابن حبان والحاكم وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والذهبي حديث ابن مسعود. وصحح ابن حبان وابن القيم أيضًا حديث أبي هريرة، وصحح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي حديث أبي سعيد، وصححه الحاكم والذهبي أيضًا من وجهين آخرين، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": "رواه أحمد بأسانيد وأبو يعلي ورجالهما ثقات"، وقد أقرَّه الحافظان؛ زين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني؛ لكونهما قد حررا مجمع الزوائد مع الهيثمي، وقال ابن القيم: "رواه أبو داود، وإسناده جيد"، وقال شمس الحق العظيم آبادي في حديث علي -رضي الله عنه- المرفوع: "سنده حسن قوي"، وقال الهيثمي في حديث آخر عن أبي هريرة: "رجاله ثقات"، وأقره على ذلك زين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني، وصحح الحاكم والذهبي حديث علي الموقوف. ¬

_ (¬1) ص (9 - 17).

وصحح ابن حبان حديث أم سلمة، وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"، وأقره الحافظان؛ زين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني، وقال ابن القيم فيه: "إنه حسن، ومثله مما يجوز أن يقال فيه صحيح"، وقال ابن القيم أيضًا في حديث جابر، الذي رواه الحارث ابن أبي أسامة: "إسناده جيد"، وصحح الحاكم والذهبي حديث أبي هريرة في ذكر السفياني والمهدي، وقال أبو جعفر العقيلي: "في المهدي أحاديث جياد" ذكر ذلك في ترجمة علي بن نفيل الحراني، وقال في ترجمة زياد بن بيان الرقي: "وفي المهدي أحاديث صالحة الأسانيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخرج مني رجل - ويقال من أهل بيتي - يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي» ". انتهى، ونقل أبو عبد الله القرطبي في "التذكرة" عن الحاكم أنه قال: "الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التنصيص على خروج المهدي من عترته من ولد فاطمة ثابتة، أصح من هذا الحديث، فالحكم لها دونه". انتهى، قال ذلك في رده لحديث أنس -رضي الله عنه- الذي رواه ابن ماجة من طريق محمد بن خالد الجندي وفيه: "ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم» "، وقد نقل ابن القيم في كتابه "المنار المنيف" عن البيهقي أنه قال: "الأحاديث على خروج المهدي أصح إسنادًا"، ونقله أيضًا الحافظ أبو الحجاج المزي في "تهذيب الكمال"، والحافظ ابن حجر العسقلاني في "تهذيب التهذيب" في ترجمة محمد بن خالد الجندي عن البيهقي أنه قال: "الأحاديث في التنصيص على خروج المهدي أصح إسنادًا"، قال المزي: "وفيها بيان كونه من عترة النبي - صلى الله عليه وسلم - ". انتهى، وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في رده على الرافضي: "الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة"، وقد أورد الذهبي كلام شيخ الإسلام فيما انتقاه من المنهاج وأقره، وقال ابن حجر الهيتمي في "القول المختصر": "الذي يتعين اعتقاده ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من وجود المهدي المنتظر، الذي يخرج الدجال وعيسى في زمانه، ويصلي عيسى خلفه"، وقال الشوكاني: "الأحاديث الواردة في المهدي، التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثًا، فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر". وقال صديق بن حسن في كتابه "الإذاعة": "أحاديث المهدي عند الترمذي وأبي داود وابن ماجة والحاكم والطبراني وأبي يعلي الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة، فتعرض المنكرين لها ليس كما ينبغي، والحديث يشد بعضه بعضًا، ويتقوى أمره بالشواهد والمتابعات، وأحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، وأمره مشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار، وأنه لا بد في آخر

ذكر العلماء الذين أثبتوا تواتر الأحاديث في المهدي

الزمان من ظهور رجل من أهل البيت النبوي، يؤيد الدين ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على إثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله -إلى أن قال: وقد جمع السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير اليماني الأحاديث القاضية بخروج المهدي، وأنه من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه يظهر في آخر الزمان، ثم قال: ولم يأت تعيين زمنه إلا أنه يخرج قبل خروج الدجال". انتهى، فهذا ما وقفت عليه من أقوال العلماء الذين صححوا أحاديث المهدي، وفي أقوالهم أبلغ رد على من جازف وزعم أن أحاديث المهدي غير صحيحة. وأما القول بأنها متواترة فقد صرح به غير واحد من العلماء، وقد تقدم قول أبي الحسين محمد بن الحسين الآبري في كتاب "مناقب الشافعي": "إنها قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلي عيسى خلفه". انتهى. وقد نقله عنه جماعة من أكابر العلماء وأقروه، منهم أبو عبد الله القرطبي في "التذكرة"، وابن القيم في كتابه "المنار المنيف"، والحافظ أبو الحجاج المزي في "تهذيب الكمال" في ترجمة محمد بن خالد الجندي الصنعاني، والحافظ ابن حجر في "باب نزول عيسى ابن مريم -عليهما السلام-" من "فتح الباري"، ونقله أيضًا في "تهذيب التهذيب" في ترجمة محمد بن خالد الجندي، والحافظ السخاوي في "فتح المغيث"، والسيوطي في "أخبار المهدي" وغيرهم. وقال جعفر الحسني الإدريسي الشهير بالكتاني في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر": "وقد نقل غير واحد عن الحافظ السخاوي أنها متواترة"، والسخاوي ذكر ذلك في "فتح المغيث"، ونقله عن أبي الحسين الآبري، وفي تأليف لأبي العلاء إدريس بن محمد بن إدريس الحسيني العراقي في المهدي أن أحاديثه متواترة أو كادت قال: "وجزم بالأول غير واحد من الحفاظ النقاد"، وفي شرح الرسالة للشيخ جسوس ما نصه: "ورد خبر المهدي في أحاديث ذَكَرَ السخاوي أنها وصلت إلى حد التواتر"، وفي "شرح المواهب" نقلا عن أبي الحسين الآبري في "مناقب الشافعي" قال: "تواترت الأخبار أن المهدي من هذه الأمة، وأن عيسى يصلي خلفه"، وفي "مغاني

الوفاء بمعاني الاكتفاء" قال الشيخ أبو الحسين الآبري: "قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بمجيء المهدي، وأنه سيملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا". وتتبع ابن خلدون في مقدمته طرق أحاديث خروجه مستوعبًا لها على حسب وسعه، فلم تسلم له من علة، لكن ردوا عليه بأن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها كثيرة جدًا تبلغ حد التواتر، وللقاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني اليمني رسالة سماها "التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح"، قال فيها: "والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها، منها خمسون حديثًا، فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول، وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة أيضًا لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك". انتهى، وانظره فقد ذكر أحاديثه وتكلم عليها. وفي الصواعق لابن حجر الهيتمي ما نصه: "قال أبو الحسين الآبري: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بخروج المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأنه يخرج مع عيسى -صلى الله على نبينا وعليه-، فيساعده على قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلي عيسى خلفه". انتهى، ومثله له في "القول المختصر في علامات المهدي المنتظر"، إلا أنه عبر عن أبي الحسين المذكور ببعض الأئمة، ونصه: "قال بعض الأئمة: قد تواترت الأخبار ...... " إلى آخر ما مر عنه في الصواعق، وقال قبله بيسير ما نصه: "قال بعض الأئمة الحفاظ: إن كونه؛ أي المهدي من ذريته - صلى الله عليه وسلم - قد تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - "، ثم قال جعفر الحسني الإدريسي: "ولولا مخافة التطويل لأوردت ههنا ما وقفت عليه من أحاديثه؛ لأني رأيت الكثير من الناس في هذا الوقت يتشككون في أمره، ويقولون يا ترى هل أحاديثه قطعية أم لا؟! وكثير منهم يقف مع كلام ابن خلدون ويعتمده، مع أنه ليس من أهل هذا الميدان، والحق الرجوع في كل فن لأربابه". انتهى كلام الإدريسي. وقال السفاريني في كتابه "لوائح الأنوار البهية": "وقد كثرت الروايات بخروجه؛ يعني المهدي، حتى بلغت حد التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السنة، حتى عُدَّ من معتقداتهم .... إلى أن قال: وقد روي عن بعض الصحابة بروايات متعددة،

تهجم ابن محمود على الأحاديث الواردة في المهدي، والرد عليه

وعن التابعين من بعدهم ما يفيد مجموعة العلم القطعي، فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرر عند أهل العلم، ومدون في عقائد أهل السنة والجماعة". انتهى. وقال السفاريني أيضًا: "قال بعض حفاظ الأمة وأعيان الأئمة: إن كون المهدي من ذريته - صلى الله عليه وسلم - مما تواتر عنه ذلك، فلا يسوغ العدول عنه ولا الالتفات إلى غيره". انتهى. وقال محمد البرزنجي في كتابه "الإشاعة": "أحاديث وجود المهدي وخروجه آخر الزمان، وأنه من عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ولد فاطمة -رضي الله عنها- بلغت حد التواتر المعنوي، فلا معنى لإنكارها". انتهى. وقال الشوكاني: "الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة، والأحاديث الواردة في الدجال متواترة، والأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم متواترة". انتهى. وقال صديق بن حسن في كتابه "الإذاعة": "الأحاديث الواردة فيه -أي في المهدي- على اختلاف رواياتها كثيرة جدًا، تبلغ حد التواتر، وهي في السنن وغيرها من دواوين الإسلام، من المعاجم والمسانيد". وقال صديق أيضًا ما ملخصه: "لا شك أن المهدي يخرج في آخر الزمان، لما تواتر من الأخبار في الباب، واتفق عليه جمهور الأمة خلفًا عن سلف، إلا من لا يعتد بخلافه .... إلى أن قال: لا معنى للريب في أمر الفاطمي الموعود المنتظر المدلول عليه بالأدلة، بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة إلى حد التواتر". انتهى، وفيما ذكرته من أقوال أهل العلم أبلغ رد على من زعم أن أحاديث المهدي غير متواترة. وقال ابن محمود في صفحة (4) وصفحة (5): "فإن قيل: كيف عرفتم أن هذه الأحاديث الكثيرة المسندة والمسلسلة عن عدد من الصحابة بأنها مختلقة، وهي في سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجة، ومسند الإمام أحمد، والحاكم وغيرها من الكتب. فالجواب أن هذه الأحاديث الكثيرة التي تبلغ خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة، بعضها يزعمونها صحاحًا وبعضها من الحسان وبعضها من الضعاف، وقد بلغت ألف ومائتي حديث عند الشيعة، والمهدي واحد وليس باثنين، تنازعته أفكار الشيعة وأفكار أهل السنة، فهذه الأحاديث هي التي أخذت بمجامع قلوب الأكثرين من علماء أهل السنة على ما قيل، والقوة للكاثر، على أن الكمية لا تغني

عن الكيفية شيئًا، وأكثر الناس مقلدة يقلد بعضهم بعضًا، وقليل منهم المحققون، فإن المحققين من العلماء المتقدمين والمتأخرين قد أخضعوا هذه الأحاديث للتصحيح والتمحيص والجرح والتعديل، فأدركوا فيها من الملاحظات ما يوجب عليهم ردها وعدم قبولها لأمور؛ منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث بدين كامل وشرع شامل، مبني على جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المضار وتقليلها، ومن المعلوم أن اعتقاد المهدي والقول بصحة خروجه يترتب عليه من المضار والمفاسد الكبار، ومن إثارة الفتن وسفك دماء الأبرياء، ما يشهد بعظمته التاريخ المدروس والواقع المحسوس، من كل ما يبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإتيان به، إذ الدين كامل بدونه". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: من أكبر الخطأ وأعظم الجراءة تَهجُّم ابن محمود على الأحاديث التي وردت في المهدي، ورواها الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم وغيرهم وزعمه أنها مختلقة. والجواب عن هذه الكلمة البشعة أن نقول: "سبحانك هذا بهتان عظيم"، أما يكون عند الرجل ورع يحجزه عن الاستخفاف بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما يخشى أن يحشر في زمرة المكذبين للرسول - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثاني: أن يقال: قد تقدم إيراد الأحاديث الثابتة في المهدي (¬1)، وذكر أسانيدها الجيدة ليكون طالب الحق على بصيرة من ثبوتها، وليعلم كل منصف أنه لا يردها ويتهاون بها إلا من هو جاهل أو مكابر. الوجه الثالث: أن يقال: ليس في أحاديث المهدي شيء مسلسل، ومن زعم أنها مسلسلة فلا شك أنه لا يدري ما المسلسل، وقد قال البيقوني في تعريف المسلسل: مسلسل قل ما على وصف أتى ... مثل أما والله أنبأني الفتى كذاك قد حدثنيه قائمًا ... أو بعد أن حدثني تبسمًا وقال ابن الصلاح في كتابه "معرفة علوم الحديث": "التسلسل من نعوت الأسانيد، وهو عبارة عن تتابع رجال الإسناد وتواردهم فيه واحدًا بعد واحد على صفة أو حالة واحدة". انتهى. والمسلسلات كثيرة ومن أشهرها المسلسل بالأولية؛ وهو أن يقول كل راو حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، ومن المسلسلات أيضًا مسلسل الحنابلة؛ ¬

_ (¬1) ص (9 - 17).

اعتراضه على أهل السنة لقبولهم الأحاديث الثابتة في المهدي والرد عليه

وهو أن يقول كل راو حدثني فلان الحنبلي حتى ينتهي إلى الإمام أحمد، إلى غير ذلك من المسلسلات المعروفة عند المحدثين. وأما قوله: عن أهل السنة أنهم يزعمون أن بعض أحاديث المهدي صحاح، وبعضها من الحسان، وبعضها من الضعاف. فجوابه: أن يقال: إن قول أهل السنة في هذا هو الحق، وما خالفه فهو باطل وضلال. وأما قوله: وقد بلغت ألف ومائتي حديث عند الشيعة. فجوابه: أن يقال: قد لحن ابن محمود في قوله: "بلغت ألف" حيث رفع المفعول به، وصوابه "بلغت ألفا". وأما قوله: والمهدي واحد وليس باثنين. فجوابه: أن يقال: أما صفة المهدية فليست خاصة برجل واحد؛ لأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا -رضي الله عنهم- كانوا أئمة راشدين مهديين بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- كان إمامًا راشدًا مهديًا بإجماع أهل العلم، وكل إمام أظهر القسط والعدل وعمل بالكتاب والسنة فهو من الراشدين المهديين. وأما المهدي الذي جاءت بذكره الأحاديث الكثيرة، وأنه يخرج في آخر الزمان، فهو أحد الخلفاء الراشدين المهديين، وهو من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذرية الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، كما جاء ذلك في بعض الأحاديث، وإنما وصف بالمهدي في بعض الأحاديث لأنه يعمل بالسنة ويملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت قبله جورًا وظلمًا. وأما قوله: تنازعته أفكار الشيعة وأفكار أهل السنة. فجوابه: أن يقال: إن الأمور الغيبية لا دخل للأفكار فيها، قال الله -تعالى-: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}، وإنما تعلم الأمور الغيبية بخبر الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بخروج المهدي في آخر الزمان في عدة أحاديث، بعضها من الصحاح وبعضها من الحسان، فصدقه أهل الإيمان وأبي ذلك أهل الريب والخذلان. وأهل السنة لم يعتمدوا في إثبات خروج المهدي في آخر الزمان على أفكارهم كما زعم ذلك ابن محمود، وإنما اعتمدوا على الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.

وأما الذين ادعوا لأنفسهم المهدية كذبًا وزورًا، مثل ابن التومرت ومهدي القرامطة وأضرابهم من الكذابين، أو ادعاها فيهم غيرهم، مثل دعوى الرافضة في محمد بن الحسن العسكري، ودعوى الفئة الباغية التي ألحدت في المسجد الحرام في أول سنة 1400 من الهجرة أن واحدًا منهم هو المهدي، فكل هؤلاء لم يدعوا المهدية اعتمادًا علي مجرد الأفكار وإنما تعلقوا بالأحاديث التي جاءت في ذكر المهدي، فأخطئوا في تطبيقها على من ليس لها بأهل وضلوا وأضلوا، وتعلق هؤلاء وأضرابهم بالأحاديث الواردة في المهدي لا يؤثر في ثبوت الأحاديث الواردة فيه، ولا يكون طعنًا فيها كما قد يتوهمه بعض الجهال، الذين قل نصيبهم من العلم النافع، وإنما يكون الطعن في الذين يدعون ما ليس لهم بحق، ويتعلقون بالأحاديث التي لم ترد فيهم، أو يدعون ذلك فيمن افتتنوا به، ويتعلقون بالأحاديث التي لم ترد فيه. وأما قوله: فهذه الأحاديث هي التي أخذت بمجامع قلوب الأكثرين من أهل السنة. فجوابه: أن يقال: إن أهل السنة لا يلحقهم لوم إذا آمنوا بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن المهدي المنتظر، واعتقدوا أن ذلك حق وقابلوه بالقبول والتسليم، قال الله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}، وإنما يكون اللوم كل اللوم لمن خالف الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبال بردها وإطراحها، وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في قول الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} "، وقد تقدم قوله: "من رد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة"، وقوله أيضًا: "كل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إسناد جيد أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره، قال الله -تعالى- {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} "، وقد قال الله -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، فدلت الآية الكريمة على أنه لا بد من أحد أمرين لا ثالث لهما؛ إما الاستجابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتصديق أخباره،

قد ورد في المهدي خمسون حديثا وثمانية وعشرون أثرا

وإما اتِّباع الهوى، ومن رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ممن اتبع هواه بغير هدي من الله. وأما قوله: على حد ما قيل والقوة للكاثر. فجوابه: أن يقال: أما أهل السنة فإنهم لم يغتروا بكثرة الأحاديث الواردة في المهدي وإنما اعتمدوا على الصحاح والحسان منها، وما سوى ذلك مما تكلم العلماء في إسناده فإنما يذكرونه للاستشهاد لا للاعتماد، وأما الذين حادوا عن طريق أهل السنة واستحسنوا أفكار الغربيين وأذناب الغربيين ومن يتشبه بهم ويحذو حذوهم من متشدقة العصريين، فهؤلاء هم الذين انجرفوا مع تيار الآراء والأفكار العصرية، واغتروا بالكثرة الكاثرة من أقوال من هبَّ ودبَّ، وبعد فإن القوة لله ولمن كان الله معه، والقوة في الأقوال لكلمة الحق ولو قل ناصروها، قال الله -تعالى-: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}. وأما قوله: على أن الكمية لا تغني عن الكيفية شيئًا. فجوابه: أن يقال قد اجتمع في أحاديث المهدي كثرة الكمية وقوة الكيفية في بعضها، فأما كثرة الكمية فقد ذكر الشوكاني أن الذي أمكن الوقوف عليه منها خمسون حديثًا وثمانية وعشرون أثرًا، قال: "وجميع ما سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى على من له فضل اطلاع". انتهى منقولا من "تحفة الأحوذي"، وذكر غير واحد من العلماء أن أحاديث المهدي متواترة وقد تقدم ذكر ذلك قريبًا (¬1)، وأما قوة الكيفية فقد تقدم في أول هذا الكتاب إيراد روايات كثيرة من الصحاح والحسان التي وردت في المهدي (¬2)، وتقدم قريبا (¬3) ذكر العلماء الذين صححوا كثيرًا من أحاديث المهدي، فليراجع جميع ما تقدم، ففيه أبلغ رد على مزاعم ابن محمود. وأما قوله: وأكثر الناس مقلدة يقلد بعضهم بعضًا، وقليل منهم المحققون. فجوابه: أن يقال: إن قول ابن محمود هذا يعود عليه، فإنه قد قلَّد ابن خلدون في أوهامه التي قالها في أحاديث المهدي، وقلد الذين قلدوا ابن خلدون من المتأخرين؛ مثل رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، والمودودي وغيرهم من العصريين، ¬

_ (¬1) ص (43 - 45). (¬2) ص (9 - 17). (¬3) ص (41 - 43).

تقوله على العلماء المتقدمين وأكثر المتأخرين والرد عليه

الذين تكلموا في أحاديث المهدي بغير علم، وزعموا أنها كلمة ضعيفة، بل إنه قد قلد بعض المستشرقين كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-، وقد زاد عليهم ابن محمود فزعم أنها كلمة مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وأنها أحاديث خرافة ونظرية خرافية، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، هكذا جازف في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}. وأما قوله: فإن المحققين من العلماء المتقدمين والمتأخرين قد أخضعوا هذه الأحاديث للتصحيح والتمحيص والجرح والتعديل، فأدركوا فيها من الملاحظات ما يوجب عليهم ردها وعدم قبولها، لأمور ....... إلى آخر كلامه الذي تقدم ذكره. فجوابه: أن يقال: أما المحدثون الذين هم علماء هذا الشأن والعارفون بصحيح الأخبار وضعيفها وعللها؛ كالإمام أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، فإنهم قد خرَّجوا بعض الأحاديث الواردة في المهدي، وصحح الترمذي وابن حبان والحاكم والذهبي وابن القيم والهيثمي عدة طرق منها، وحسن الترمذي طرقًا أخرى منها، وحكم بصحة بعضها غير واحد من أكابر العلماء المحققين؛ ومنهم العقيلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والذهبي، وكذلك الحافظان؛ زين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني، فإنهما قد حررا "مجمع الزوائد" للهيثمي وأقراه على تصحيح ما صحح من الأحاديث، وتحسين ما حسن منها، ومن المتأخرين ابن حجر الهيتمي، والشوكاني، وصديق بن حسن وغيرهم، ولا أعلم عن أحد من العلماء المتقدمين أنه رد جميع أحاديث المهدي ولم يقبلها، وما نسبه ابن محمود إليهم فهو من مجازفاته وتقوُّله عليهم. وأما الفريق الآخر، وهم الذين تكلموا في أحاديث المهدي وحكموا بضعفها من غير استثناء شيء منها، فغالبهم من العصريين الذين لا يبالون برد الأحاديث الصحيحة، ولا سيما إذا خالفت أفكارهم أو أفكار من يعظمونه من فلاسفة الغربيين وتلاميذهم، فهؤلاء هم الذين تهجموا على أحاديث المهدي وأخضعوها للرد والإطراح، ولم يفرقوا بين الصحيح منها والضعيف، وليسوا أهل تحقيق في الحديث

زعمه أن القول بخروج المهدي يترتب عليه مضار ومفاسد كبار والرد عليه

كما زعم ذلك ابن محمود، بل إنهم بعيدون كل البعد عن التحقيق، وكلهم عالة على ابن خلدون، فإنه أول من تكلم في أحاديث المهدي وتوسع في ذلك، ولم يستثن منها من النقد إلا القليل أو الأقل، وقد رد العلماء على ابن خلدون وخطئوه كما سيأتي بيان ذلك -إن شاء الله تعالى-. وهل يظن ابن محمود أنه ومتبوعيه كابن خلدون ورشيد رضا وأضرابه من العصريين، أعلم من الإمام أحمد بالحديث وعلله، وأعلم من أبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والعقيلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وزين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني، ونور الدين الهيثمي. كلا لا يستوي هؤلاء وأولئك، ولا شك أن البون بين الفريقين أبعد مما بين المشرق والمغرب. وأما قوله: لأمور منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بدين كامل وشرع شامل، مبني على جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المضار وتقليلها، ومن المعلوم أن اعتقاد المهدي والقول بصحة خروجه يترتب عليه من المضار والمفاسد الكبار، ومن إثارة الفتن وسفك دماء الأبرياء ما يشهد بعظمته التاريخ المدروس والواقع المحسوس، من كل ما يبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإتيان به، إذ الدين كامل بدونه. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: يظهر من كلام ابن محمود وملاحظاته التي أدركها في الأحاديث الواردة في خروج المهدي، أنه يرى أنه يترتب على إثباتها القول بنقصان الدين، وأن إكماله يكون على يد المهدي، وهذه الملاحظة لا يقولها من له أدنى عقل وعلم، وليس في أحاديث المهدي ما يشير إلى هذه الملاحظة البتة. الوجه الثاني: أن يقال: الذي يعتقده المسلمون في المهدي أنه يقيم القسط والعدل، ويزيل الجور والظلم، كما ثبت ذلك في عدة روايات، عن ابن مسعود وأبي سعيد وعلي -رضي الله عنهم- وتقدم ذكرها (¬1)، ولا يلزم على هذا الاعتقاد شيء من الملاحظات التي أدركها ابن محمود. الوجه الثالث: أنه لم يؤثر عن أحد من المسلمين أنه قال إن دين الإسلام ناقص وإن المهدي يأتي ليكمله، والذي يعتقده المسلمون أن الله -تعالى- قد أكمل الدين لهذه الأمة كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ¬

_ (¬1) ص (10 - 15).

التشديد في رد الأحاديث الثابتة

وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، ومن زعم أن الدين ناقص وأن المهدي يأتي ليكمله فليس بمسلم. الوجه الرابع: أن يقال: إن اعتقاد خروج المهدي في آخر الزمان، والقول بصحة بعض الأحاديث الواردة فيه، لا يترتب عليه شيء من المضار والمفاسد البتة، وإنما تترتب المضار والمفاسد على إنكار خروجه وتكذيب الأحاديث الثابتة فيه؛ لأن تكذيب الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينافي الإيمان، قال الله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}. وقد تقدم في أول الكتاب قول الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: "إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ثابت، ولا يترك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث أبدًا، إلا حديث وجد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر يخالفه". وتقدم أيضًا قول الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "كل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إسناد جيد أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره، قال الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ". وتقدم أيضًا قوله: "من رد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة"، وتقدم أيضًا قول ابن شاقلا: "من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل، موصولة بلا قطع في سندها ولا جرح في ناقليها، وتجرأ على ردها، فقد تهجم على رد الإسلام، لأن الإسلام وأحكامه منقولة إلينا بمثل ما ذكرت". وذكر القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة" في ترجمة الحسن بن علي بن خلف أبي محمد البربهاري؛ وهو من أعيان العلماء في آخر القرن الثالث وأول القرن الرابع من الهجرة - أنه قال في كتابه "شرح السنة": "إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار ولا يقبلها، أو ينكر شيئًا من أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاتهمه على الإسلام، فإنه رجل رديء المذهب والقول، وإنما يطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه؛ لأنا إنما عرفنا الله وعرفنا رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعرفنا القرآن وعرفنا الخير والشر والدنيا والآخرة بالآثار". وقال أيضًا: "ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله -عز وجل- أو يرد شيئًا من آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله، فقد وجب عليه أن تخرجه من الإسلام".

من أبطل الباطل تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه

وقال أيضا: "من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله، ومن رد حديثًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد رد الأثر كله، وهو كافر بالله العظيم". وقال أيضا: "واعلم أنه ليس بين العبد وبين أن يكون كافرًا، إلا أن يجحد شيئًا مما أنزل الله، أو يزيد في كلام الله أو ينقص، أو ينكر شيئًا مما قال الله -عز وجل-، أو شيئًا مما تكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وقال أيضًا: "وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار، أو يريد غير الآثار، فاتهمه على الإسلام، ولا شك أنه صاحب هوى مبتدع". وقال أيضًا: "ومن جحد أو شك في حرف من القرآن، أو في شيء جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقي الله مكذبًا". انتهى ملخصًا مما ذكره "صاحب طبقات الحنابلة". الوجه الخامس: أن يقال: إن إثارة الفتن وسفك الدماء من بعض الذين ادعوا المهدية كذبًا وزورًا، لا يقدح في صحة الأحاديث الواردة في المهدي ولا يؤثر فيها، ونظير ذلك دعوى النبوة ممن ادعاها كذبًا وزورًا، وقاتل الناس على ذلك وأراق دماء المسلمين؛ مثل مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وسجاح، والمختار بن أبي عبيد، وغيرهم من الكذابين الدجالين، الذين كانت لهم شوكة واتباع، فكما لا يقول مسلم إن دعوى هؤلاء الدجالين للنبوة وما حصل منهم من المضار والمفاسد الكبار وسفك الدماء مما يشهد به التاريخ، لا تقدح في صحة الأدلة على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه خاتم الأنبياء، ولا تؤثر فيها، فكذلك لا يقول عاقل له أدنى علم ومعرفة أن دعوة المدعين للمهدية كذبًا وزورًا، تقدح في صحة الأحاديث الواردة في المهدي وتؤثر فيها. الوجه السادس: أن يقال من أبطل الباطل تبرئة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما ثبت عنه بنقل الثقات، ومن قال بهذا القول الباطل فلا شك أنه لا يدري ما يقول؛ لأن تبرئة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما ثبت عنه بنقل الثقات معناه التهجم على الأحاديث الصحيحة، ومقابلتها بالرد والإطراح. وقال ابن محمود في صفحة (5): ومنها أن المهدي الذي يزعمون صحة خروجه، أن اسمه محمد بن عبد الله، وأن صفته أجلى الجبهة، أقنى الأنف، وهذه التسمية بهذه الصفة توجد بكثرة في الطوائف المنتسبين إلى الحسن والحسين، فلا تعطي يقينًا في التعيين، فمتى أتى من انطبعت فيه هذه الأوصاف وقال أنني أنا المهدي فعند

زعمه أن الإيمان بخروج المهدي يتنافى مع الدين، والرد عليه

ذلك يقع المحذور من إثارة الفتنة، بين مصدق به ومكذب، وبين محب ومحارب، فيكون اعتقاده شقاء على العباد طول حياتهم؛ لوقوع الاشتباه فيه دائمًا، مما يتنافى مع الدين الذي جعله الله رحمة للخلق أجمعين، فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان داخل في ضمن الإيمان بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أشراط الساعة؛ مثل خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، والخسوف الثلاثة، وخروج النار التي تطرد الناس إلى محشرهم، فمن لم يؤمن بهذه الأمور أو بشيء منها فهو ممن يشك في إيمانه بالرسول - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثاني: أن يقال: إن الإيمان بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمور الغيبية لا يكون شقاء أبدًا ولا يتنافى مع الدين، وإنما الشقاء كل الشقاء في تكذيب ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الذي يتنافى مع الدين على الحقيقة. الوجه الثالث: أن يقال: قد جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- الذي تقدم ذكره، أنه يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من قريش من أهل المدينة إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام. فدل هذا على أن المهدي الذي يكون في آخر الزمان لا يتقدم بدعوى أنه المهدي ويطلب من الناس أن يبايعوه على ذلك، وإنما يخرجه الناس وهو كاره فيبايعونه، وقد جاء في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- أن الأرض قبل بيعة المهدي تكون قد امتلأت ظلمًا وعدوانًا، فيملؤها قسطًا وعدلا. وجاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن هذه الأمة تنعم في زمانه نعمة لم ينعموا مثلها؛ ترسل السماء عليهم مدرارًا، ولا تدخر الأرض شيئًا من النبات، والمال كدوس؛ يقوم الرجل يقول يا مهدي أعطني فيقول خذ. ومن كان هذه صفته فهو المهدي على الحقيقة، وبيعته تكون رحمة للناس؛ لأن الله -تعالى- يزيل الاختلاف والزلازل والبلابل والظلم والجور بسببه، ويبدل ذلك بالقسط والعدل والنعمة العظيمة التي ينعم بها المسلمون في زمنه. وهذا بخلاف الذين يدعون لأنفسهم المهدية كذبًا وزورًا، ويقاتلون الناس لطلب الرياسة وتحصيل الأغراض الدنيوية، فهؤلاء هم الذين يثيرون الفتن ويحصل بسببهم الشقاء على العباد.

زعمه أن من المحال وجوب التصديق برجل ليس بملك ولا نبي ولا يأتي بدين جديد والرد عليه

الوجه الرابع: أن يقال: إن المهدي الذي يخرج في آخر الزمان لا يسمى مهديًا من أجل أنه من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن اسمه محمد بن عبد الله، ولا من أجل كونه أجلى أقنى، وإنما يسمى مهديًا من أجل صلاحه وعمله بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومطابقة خلقه لخلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونشره للقسط والعدل، وإزالته للجور والظلم، ومن كانت أعماله بخلاف ما ذكرنا فليس بمهدي، ولو كان من أهل البيت النبوي، وكان اسمه محمد بن عبد الله، وكان أجلى أقنى؛ لأن هذه الأمور لا تفيده شيئًا إذا لم تكن أعماله مطابقة لما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي. وقد كان المهدي العباسي مطابقًا في الاسم واسم الأب لاسم النبي - صلى الله عليه وسلم - واسم أبيه، ومع هذا فلم يكن هو المهدي الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه في آخر الزمان؛ لأن أعماله مختلفة عن أعمال الخلفاء الراشدين المهديين. وقال ابن محمود في صفحة (6): "ومنها أنه من الأمر المحال أن يوجب النبي على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به والعمل بموجبه، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تصديقه والتكذيب به، فإن هذا من الأمر المنافي لسنته وحكمة رسالته". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب مما مضى وما سيأتي فإنه يجب الإيمان به، قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، ومن ذلك ما أخبر به عن الأمور التي تكون بعده إلى قيام الساعة كما جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة، ومن جملة ما أخبر به خروج المهدي في آخر الزمان، فيجب الإيمان بذلك تصديقًا لخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما يجب الإيمان بغير ذلك مما أخبر الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- أنه سيكون بعده، ومن آمن ببعض ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد بعضه، فلا شك أنه فاسد العقيدة، وقد تقدم قول البربهاري أن من أنكر شيئًا من أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه متهم على الإسلام، وإنه صاحب هوى مبتدع. الوجه الثاني: أن يقال: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا

مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله» [رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-]، وهذا الحديث من جوامع الكلم؛ فيدخل فيه جميع ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما نهى عنه، وما أخبر به. فدل على أن من رد شيئا مما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه حلال الدم والمال، ومن لم يؤمن بالأحاديث الثابتة في المهدي فلا شك أنه داخل في عموم هذا الحديث الصحيح، والله أعلم. الوجه الثالث: أن يقال: إن وجوب الإيمان بما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيكون بعده، ليس مقصورًا على ما إذا أخبر عن ملك مقرب أو نبي مرسل، أو من يأتي بدين جديد كما زعم ذلك ابن محمود، بل كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ من أنباء الغيب مما مضى قبله، وما يأتي بعده إلى يوم القيامة، وما يكون بعد ذلك، إلى أن يدخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، فإنه يجب الإيمان به، وذلك من تحقيق الشهادة بالرسالة. الوجه الرابع: أن يقال: إن المحال على الحقيقة أن يخرج مهدي يكون ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلاً، أو يأتي بدين جديد يجب على ابن محمود الإيمان به والعمل بموجبه على حد زعمه، ويستثنى من ذلك عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-، فإنه ينزل في آخر الزمان حكمًا عدلا، فيقتل الدجال ويحكم بالشريعة المحمدية، ولا يأتي بدين جديد، وهو أفضل المهديين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا ندري عن ابن محمود، هل يؤمن بنزول عيسى -عليه الصلاة والسلام-، أم أن نزوله وخروج المهدي عنده على حد سواء؟! وكذلك لا ندري، هل يؤمن بخروج الدجال، وأن عيسى يقتله، أم أنه لا يؤمن بذلك؟ فقد ذكر لنا أنه ينكر خروج الدجال، ونرجو أن لا يكون ذلك صحيحًا. الوجه الخامس: أن يقال: لو ادعى رجل أنه المهدي، وزعم أنه ملك مقرب أو نبي مرسل، لكان الواجب على المسلمين تكذيبه وقتاله؛ لأنه لا يدعي ذلك إلا من هو كذاب دجال، وكذلك لو ادعى رجل أنه المهدي، وزعم أنه أتى بدين جديد، فإنه يجب على المسلمين تكذيبه وقتاله؛ لأنه لا يدعي الإتيان بالدين الجديد إلا من هو كذاب دجال مدع للنبوة، وكذلك من زعم أن دين الإسلام ناقص، وأنه يريد أن يكمله، فلا شك أنه دجال كذاب كافر يجب تكذيبه وقتاله، وأما المهدي الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه في آخر الزمان فطريقته طريقة غيره من أئمة العدل، الذين

ذكر الأحاديث في القحطاني والجهجاه والخليفة الذي يحثي المال حثيا

يعملون بالكتاب والسنة، ويقومون بالقسط والعدل، ويزيلون الجور والظلم، فمن وصفه بصفات الملائكة أو الأنبياء أو غير ذلك من الصفات التي لا تليق به وبأمثاله من أئمة العدل، فقوله باطل مردود. الوجه السادس: أن يقال قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه»، ورواه الإمام أحمد وإسناده إسناد مسلم، وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك رجل يقال له الجهجاه»، ورواه الإمام أحمد والترمذي وإسناد كل منهما إسناد مسلم ولفظهما: «لا يذهب الليل والنهار حتى يملك رجل من الموالي يقال له جهجاه»، وروى الإمام أحمد ومسلم أيضًا، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثيًا لا يعده عدًا»، وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وهؤلاء كلهم رجال من بني آدم، وهم الآن في عالم الغيب، وسيخرجون إلى الوجود في آخر الزمان، وليسوا ملائكة مقربين ولا أنبياء مرسلين، ولا يأتون بدين جديد، فهل يصدق ابن محمود بخروجهم في آخر الزمان، أم أن خروجهم وخروج المهدي عنده على حد سواء؟! فإن حصل منه التصديق بخروجهم انتقض قوله في المهدي، وإن رد الأحاديث الواردة فيهم كما فعل ذلك في أحاديث المهدي، فتلك مكابرة واستهانة بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه السابع: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أمته بالتقاتل على التصديق بالمهدي والتكذيب به، ولم يأذن لهم في ذلك، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن سفك الدماء بغير حق، وشدد في ذلك، فقال في خطبته يوم عرفة: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» [رواه مسلم وغيره] من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم النحر: «ألا أن الله حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت» قالوا: نعم، قال: «اللهم أشهد - ثلاثًا- ويلكم أو يحكم انظروا، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»، وفي صحيح البخاري أيضًا عن

زعمه أنه ليس بأول من كذب بأحاديث المهدي والرد عليه

ابن عباس وأبي بكرة -رضي الله عنهم- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وهذا الزجر الشديد والنهي الأكيد عام لكل من تجرأ على سفك الدماء بغير حق، ومن ذلك القتال لتحصيل الرياسة بدعوى المهدية، كما قد وقع ذلك من أناس كثيرين؛ مثل المهدي العبيدي، وابن التومرت، وأضرابهما ممن جعل دعوى المهدية طريقًا إلى تحصيل الأغراض الدنيوية، فهؤلاء عصاة مرتكبون لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أمته يتقاتلون على حساب التصديق بالمهدي والتكذيب به، فقد تقوَّل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسب إليه ما لم ينقل عنه. وقال ابن محمود في صفحة (6): "ومنها أننا لسنا بأول من كذب بهذه الأحاديث، فقد أنكرها بعض العلماء قبلنا، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "المنهاج" بعد ذكره لأحاديث المهدي: إن هذه الأحاديث في المهدي قد غلط فيها طوائف من العلماء، فطائفة أنكروها. مما يدل على أنها موضع خلاف من قديم بين العلماء، كما هو الواقع من اختلاف العلماء في هذا الزمان". والجواب: أن يقال: وهل يظن ابن محمود أن تقليده للذين غلطوا في إنكار الأحاديث الواردة في المهدي، يكون حجة مقبولة لا يمكن ردها ولا إنكارها، كلا فإن التقليد ليس بحجة، فضلا عن تقليد المخطئين في أخطائهم، فإن هذا مما يتنزه عنه كل عاقل. ويقال أيضًا: إن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كاف في الرد على ابن محمود؛ لأنه قد صرَّح أن الطائفة التي أنكرت أحاديث المهدي قد غلطت في الإنكار، كما صرح في أول كلامه الذي لم ينقله ابن محمود، أن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود، والترمذي، وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره، ثم ذكر عدة أحاديث عن ابن مسعود، وأم سلمة، وأبي سعيد، وعلي -رضي الله عنهم-، ورد على الذين أنكروا هذه الأحاديث محتجين بحديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا مهدي إلا عيسى بن مريم»، قال: "وهذا الحديث ضعيف، وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه". انتهى. وفي متابعة ابن محمود للطائفة التي أنكرت أحاديث المهدي، مع علمه بتغليط الشيخ تقي الدين لمن قال بهذا القول، دليل على سوء اختيار ابن محمود وقلة مبالاته برد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

تقليده لرشيد رضا وأحمد أمين والمستشرق دونلدسن في قولهم إن أحاديث المهدي لم يخرجها البخاري ومسلم والرد عليه

وقال ابن محمود في صفحة (6): "ومنها أن هذه الأحاديث لم يأخذها البخاري ومسلم ولم يدخلاها في كتبهما مع رواجها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم ثباتها عندهما، كما أنه ليس له ذكر في القرآن مما يقلل عدم الاحتفال بها". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن أول هذا الكلام مأخوذ من كلام رشيد رضا وأحمد أمين وآخره مأخوذ من كلام المستشرق دونلدسن، فأما رشيد رضا فقد قال في صفحة (499) من الجزء التاسع من تفسيره المسمى تفسير المنار: "إن الشيخين لم يعتدا في صحيحيهما بشيء من أحاديث المهدي". وأما أحمد أمين فقال في صفحة (237) من الجزء الثالث من كتابه "ضحى الإسلام": "ولم يرو البخاري ومسلم شيئًا من أحاديث المهدي، مما يدل على عدم صحتها عندهما". انتهى. وأما دونلدسن فإنه قد تعرض لذكر المهدي وما جاء في ظهوره في آخر الزمان، ثم قال: "ولما كان القرآن نفسه لم يرد فيه ما يؤيد هذه الفكرة كان من الضروري الالتجاء إلى الحديث لإثباتها، ومع هذا فبالنظر إلى عدم ذكر القرآن شيئًا عن المهدي وأن الأحاديث الواردة بشأنه كلها ضعيفة أو مشكوك فيها، فإن عقيدة المهدي لا تدخل في اعتقادات أهل السنة والجماعة". انتهى. وقد نقله عنه سعد محمد حسن في صفحة (70) من كتابه "المهدية في الإسلام". وإذا علم هذا، فقد تقدم قريبًا (¬1) قول ابن محمود أن أكثر الناس مقلدة يقلد بعضهم بعضا وقليل منهم المحققون، فقد أثبت ههنا على نفسه أنه من المقلدة بل أنه قد قلد أناسًا ليسوا بأهل أن يقلدوا ويؤخذ عنهم. الوجه الثاني: أن يقال: إن الشيخين لم يستوعبا إخراج الأحاديث الصحيحة في صحيحيهما ولا التزما بذلك، وقد قال الحافظ ابن حجر في أول مقدمة فتح الباري: روى الإسماعيلي عنه -أي عن البخاري- أنه قال: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحا، وما تركت من الصحيح أكثر"، وقال أبو أحمد ابن عدي: سمعت الحسن بن الحسين البزار يقول: سمعت إبراهيم بن معقل النسفي يقول: سمعت البخاري يقول: "ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحيح حتى لا يطول"، وقال مسلم في صحيحه في آخر "باب التشهد في الصلاة": "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه"، وقال أبو عمرو ¬

_ (¬1) ص (46).

الصحيحان أصح الكتب بعد القرآن

ابن الصلاح في كتابه "علوم الحديث": "أول من صنف الصحيح البخاري، وتلاه مسلم بن الحجاج وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز، إلى أن قال: أنهما لم يستوعبا الصحيح في صحيحيهما، ولا التزما ذلك؛ فقد روينا عن البخاري أنه قال: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول، وروينا عن مسلم أنه قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه، ثم ذكر ابن الصلاح أن المستدرك على الصحيحين للحاكم يشتمل مما فاتهما -أي الشيخين- على شيء كثير، قال: وإن يكن عليه في بعضه مقال، فإنه يصفو له منه صحيح كثير، قال: وقد قال البخاري: احفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، قال ابن الصلاح: وجملة ما في كتابه الصحيح سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثًا بالأحاديث المكررة، وقد قيل إنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث"، وفي حاشية "علوم الحديث" نقلاً عن ابن الصلاح أنه قال: "وهكذا صحيح مسلم هو نحو أربعة آلاف بإسقاط المكرر، فقد روينا عن أبي قريش الحافظ قال: كنت عند أبي زرعة الرازي، فجاء مسلم ابن الحجاج فسلم عليه، فلما أن قام قلت له: هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح، فقال: ولمن ترك الباقي". قال ابن الصلاح: "ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة المشتهرة لأئمة الحديث؛ كأبي داود السجستاني، وأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الرحمن النسائي، وأبي بكر ابن خزيمة، وأبي الحسن الدارقطني، وغيرهم منصوصًا على صحته فيها، ولا يكفي في ذلك مجرد كونه موجودًا في كتاب أبي داود وكتاب الترمذي وكتاب النسائي، وسائر من جمع في كتابه بين الصحيح وغيره، ويكفي مجرد كونه موجودًا في كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه؛ ككتاب ابن خزيمة، وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة على كتاب البخاري وكتاب مسلم؛ ككتاب أبي عوانة الاسفرائيني، وكتاب أبي بكر الإسماعيلي، وكتاب أبي بكر البرقاني، وغيرها من تتمة لمحذوف أو زيادة شرح في كثير من أحاديث الصحيحين. وكثير من هذا موجود في "الجمع بين الصحيحين" لأبي عبد الله الحميدي. واعتنى الحاكم أبو عبد الله الحافظ بالزيادة في عدد الحديث الصحيح على ما في الصحيحين، وجمع ذلك في كتاب سماه "المستدرك" أودعه ما ليس في واحد من الصحيحين، مما رآه على شرط الشيخين قد أخرجا عن رواته في كتابيهما، أو على شرط البخاري وحده، أو على

شرط مسلم وحده، وما أدى اجتهاده إلى تصحيحه، وإن لم يكن على شرط واحد منهما وهو واسع الخطو في شرط الصحيح متساهل في القضاء به، فالأولى أن نتوسط في أمره فنقول ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة، إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يحتج به ويعمل به، إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه، ويقاربه في حكمه صحيح أبي حاتم ابن حبان البستي -رحمهم الله أجمعين-" انتهى كلام ابن الصلاح. وقال ابن كثير في كتابه "الباعث الحثيث": "ثم إن البخاري ومسلمًا لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث، فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما، كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده بل في السنن وغيرها، قال: وقد خرجت كتب كثيرة على الصحيحين يؤخذ منها زيادات مفيدة وأسانيد جيدة؛ كصحيح أبي عوانة ,وأبي بكر الإسماعيلي، والبرقاني، وأبي نعيم الأصبهاني وغيرهم، وكتب أخر التزم أصحابها صحتها؛ كابن خزيمة، وابن حبان البستي، وكذلك يوجد في مسند الإمام أحمد من الأسانيد والمتون شيء كثير، مما يوازي كثيرًا من أحاديث مسلم بل والبخاري أيضًا وليست عندهما ولا عند أحدهما، بل ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الأربعة؛ وهم أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وكذلك يوجد في معجمي الطبراني الكبير والأوسط، ومسندي أبي يعلي والبزار وغير ذلك من المسانيد والمعاجم والفوائد والأجزاء، ما يتمكن المتبحر في هذا الشأن من الحكم بصحة كثير منه بعد النظر في حال رجاله وسلامته من التعليل المفسد، ويجوز له الإقدام على ذلك، وإن لم ينص على صحته حافظ قبله، موافقة للشيخ أبي زكريا يحيى النواوي، وخلافًا للشيخ أبي عمرو، وقد جمع الشيخ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي في ذلك كتابًا سماه "المختارة" ولم يتم، كان بعض الحفاظ من مشايخنا يرجحه على مستدرك الحاكم" انتهى كلام ابن كثير باختصار. وإذا علم هذا فنقول: إن إعراض البخاري ومسلم عن إخراج أحاديث المهدي في صحيحيهما، لا يدل على عدم ثباتها عندهما كما زعم ذلك ابن محمود، فكم من حديث صحيح عندهما ولم يخرجاه كما صرحا بذلك في الروايات التي تقدم ذكرها، وخصوصًا ما ذكره ابن الصلاح عن البخاري؛ أنه كان يحفظ مائة ألف حديث صحيح.

كثرة الأحاديث الصحيحة في غير الصحيحين

الوجه الثالث: أن يقال: ما صححه بعض أهل العلم بالحديث مما رواه غير الشيخين فهو كثير جدًا، وقد يكون أكثر مما في الصحيحين، وهو متلقى بالقبول عند أهل العلم. ومن أجمع الكتب للأحاديث الصحيحة بعد الصحيحين موطأ الإمام مالك، وفي مسند الإمام أحمد من الأحاديث الصحيحة شيء كثير جدًا، وكذلك في السنن الأربع، وقد ذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ" عن الشافعي أنه قال: "ما في الأرض كتاب في العلم أكثر صوابًا من موطأ مالك"، قال ابن كثير في كتابه "الباعث الحثيث": "قول الإمام الشافعي لا أعلم كتابًا في العلم أكثر صوابًا من كتاب مالك، إنما قاله قبل البخاري ومسلم"، وقال السيوطي في شرح الموطأ: "الصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء"، قال الشيخ أحمد محمد شاكر: "وهذا غير صواب، والحق أن ما في الموطأ من الأحاديث الموصولة المرفوعة إلى رسول الله صحاح كلها، بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين، وأن ما فيه من المراسيل والبلاغات وغيرها يعتبر فيها ما يعتبر في أمثالها، مما تحويه الكتب الأخرى". انتهى. وقال أبو بكر بن داسه: "سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمَّنته هذا الكتاب، وجمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض". انتهى. وذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ" عن أبي علي منصور بن عبد الله الخالدي قال: "قال أبو عيسى -يعني الترمذي-: صنفت هذا الكتاب- يعني الجامع- فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان في بيته هذا الكتاب فكأنما في بيته نبي يتكلم". انتهى. وقد كان الحاكم أبو عبد الله، والخطيب البغدادي يسميان كتاب الترمذي "الجامع الصحيح"، وكان أبو علي ابن السكن والخطيب البغدادي يقولان في سنن النسائي إنه صحيح، وفي هذا القول والذي قبله تساهل؛ لأن جامع الترمذي وسنن النسائي ليس كل أحاديثهما صحيحة، بل فيهما الصحيح والحسن والضعيف والمنكر، ففي إطلاق اسم الصحيح عليهما نظر، وقد يقال إن هذا الإطلاق من باب التغليب؛ لأن أكثر أحاديثهما صحاح وحسان، فيصح إطلاق اسم الصحيح عليهما من هذه الحيثية، والله أعلم.

ثناء أبي زرعة وابن كثير على سنن ابن ماجة

وأما سنن ابن ماجة فقد ذكر الذهبي في "تذكرة الحفاظ" عن ابن ماجة أنه قال: "عرضت هذه السنن على أبي زرعة فنظر فيه، وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها، ثم قال: لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثًا مما في إسناده ضعف". انتهى، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية": "إن كتاب سنن ابن ماجة يشتمل على أربعة آلاف حديث كلها جياد سوى اليسيرة، وقد حكي عن أبي زرعة الرازي أنه انتقد منها بضعة عشر حديثًا، ربما يقال إنها موضوعة أو منكرة جدًا". انتهى. وإذا علم أن الأحاديث الصحيحة في غير الصحيحين كثيرة جدًا، وأن أهل العلم كانوا يتلقونها بالقبول وإن كانت في غير الصحيحين، فهل يقول عاقل له أدنى علم ومعرفة أنه يسوغ ردها أو رد شيء منها وعدم الاحتفال بها- أي عدم المبالاة بها- حيث لم يأخذ بها البخاري ومسلم ولم يدخلاها في صحيحيهما؟ لا أظن أن عاقلا يقول بهذا القول الباطل، وقد قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". الوجه الرابع: أن يقال: إن بعض الأحاديث الواردة في المهدي قد رويت بالأسانيد الثابتة، وقد تقدم في أول الكتاب قول الإمام الشافعي: "إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ثابت، ولا يترك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث أبدًا، إلا حديث وجد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر يخالفه". وتقدم أيضًا قول الإمام أحمد: "كل ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إسناد جيد أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره، قال الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ". وتقدم أيضًا قول ابن شاقلا: "من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل، موصولة بلا قطع في سندها، ولا جرح في ناقليها، وتجرأ على ردها، فقد تهجم على رد الإسلام". وقال أبو محمد ابن حزم في كتاب "الأحكام": إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل معًا". انتهى. وكلام العلماء في الإنكار على الذين يعارضون الأحاديث الصحيحة

الإشارة إلى المهدي في أحاديث رواها مسلم وهي أحاديث جيش الخسف

وتشديدهم في ذلك كثير جدًا، وقد ذكرتُ طرفًا من ذلك في أول الرد على الزنديق المصري المدعو بصالح أبي بكر فليراجع هناك، ففيه أبلغ رد على من تجرأ على رد الأحاديث الثابتة في خروج المهدي، زاعمًا أنها غير ثابتة، وأنه لا يحتفل بها؛ أي لا يبالي بها لكونها ليست في الصحيحين. الوجه الخامس: أن يقال: قد جاءت الإشارة إلى المهدي في عدة أحاديث رواها الإمام أحمد ومسلم وغيرهما، وروى البخاري حديثًا منها، أولها حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: عبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه فقلنا: يا رسول الله صنعت شيئا في منامك لم تكن تفعله، فقال: «العجب إن ناسًا من أمتي يؤمون بالبيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم»، فقلنا: يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس، قال: «نعم فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم» [رواه الإمام أحمد ومسلم] من حديث عبد الله بن الزبير عن عائشة -رضي الله عنها- وهذا لفظ مسلم، ولفظ أحمد قالت: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائم إذ ضحك في منامه ثم استيقظ، فقلت: يا رسول الله، مم ضحكت؟! قال: «إن أناسًا من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش قد استعاذ بالحرم، فلما بلغوا البيداء خسف بهم، مصادرهم شتى، يبعثهم الله على نياتهم»، قلت: وكيف يبعثهم الله على نياتهم ومصادرهم شتى، قال: «جمعهم الطريق منهم المستبصر وابن السبيل والمجبور، يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى»، وقد رواه البخاري في "كتاب البيوع" في "باب ما ذكر في الأسواق" من حديث نافع بن جبير بن مطعم قال: حدثتني عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم»، قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟! قال: «يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم». الحديث الثاني: روى مسلم من طريق جرير وهو ابن عبد الحميد الضبي، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عبيد الله بن القبطية، قال: دخل الحارث بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان وأنا معهما على أم سلمة أم المؤمنين، فسألاها عن الجيش الذي يخسف به، وكان ذلك في أيام ابن الزبير، فقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم»، فقلت:

يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهًا؟! قال: «يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته»، وقال أبو جعفر: هي بيداء المدينة. حدَّثَنَاه أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا عبد العزيز بن رفيع بهذا الإسناد وفي حديثه قال: فلقيت أبا جعفر فقلت: إنها إنما قالت ببيداء من الأرض، فقال أبو جعفر كلا والله إنها لبيداء المدينة، وقد رواه الإمام أحمد عن جرير عن عبد العزيز بن رفيع فذكره بنحوه. ورواه أبو داود في "كتاب المهدي" من سننه فقال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن عبد العزيز بن رفيع، عن عبيد الله بن القبطية، عن أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصة جيش الخسف، قلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهًا؟! قال: «يخسف بهم ولكن يبعث يوم القيامة على نيته» إسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث الحسن -وهو البصري- عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضطجعًا في بيتي إذ احتفز جالسًا وهو يسترجع، فقلت: بأبي أنت وأمي، ما شأنك يا رسول الله تسترجع؟! قال: «جيش من أمتي يجيئون من قبل الشام، يؤمون البيت لرجل يمنعه الله منهم، حتى إذا كانوا بالبيداء من ذي الحليفة خسف بهم ومصادرهم شتى»، فقلت: يا رسول الله، كيف يخسف بهم جميعًا ومصادرهم شتى؟! فقال: «إن منهم من جبر، إن منهم من جبر» ثلاثًا، ورواه أيضًا من حديث الحسن عن أمه - واسمها خيرة مولاه أم سلمة - عن أم سلمة -رضي الله عنها- فذكره بنحوه وإسناده حسن. وروى أيضًا من حديث يوسف بن سعد، عن عائشة -رضي الله عنها- مثله، ومن حديث يوسف بن سعد، عن أبي سلمة، عن عائشة -رضي الله عنها- مثله، ولم يسق لفظه، بل أحال به على حديث أم سلمة -رضي الله عنها-، وقد أورد حديث الحسن عن أم سلمة -رضي الله عنها- في مسند عائشة -رضي الله عنها- من أجل هذه الرواية، وكل من الإسنادين جيد، رجاله كلهم ثقات. وروي أيضًا من حديث المهاجر المكي؛ وهو المهاجر بن القبطية، عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يغزو جيش البيت حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم»، قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت المكره منهم؟! قال: «يبعث على نيته» إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات. ورواه أيضا عن سفيان بن عيينه، عن ابن سوقة، عن نافع بن جبير، عن أم سلمة

-رضي الله عنها- ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجيش الذي يخسف بهم، فقالت أم سلمة -رضي الله عنها-: لعل فيهم المكره! فقال: «إنهم يبعثون على نياتهم» إسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه الترمذي عن نصر بن علي الجهضمي، حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، فذكره بمثله، وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث عن نافع بن جبير، عن عائشة أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: وروايته عن عائشة -رضي الله عنها- قد رواها البخاري في صحيحه وتقدم ذكرها، ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح، ونصر بن علي، وهارون بن عبد الله الحمال، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، فذكره بمثله، وإسناده صحيح، أما عن محمد بن الصباح، ونصر بن علي فهو على شرط الشيخين، وأما عن هارون بن عبد الله فهو على شرط مسلم. الحديث الثالث: روى مسلم من طريق سفيان بن عيينة، عن أمية بن صفوان، سمع جده عبد الله بن صفوان يقول: أخبرتني حفصة أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليؤمن هذا البيت جيش يغزونه، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأوسطهم، وينادي أولهم آخرهم ثم يخسف بهم، فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم»، فقال رجل أشهد عليك أنك لم تكذب على حفصة، وأشهد على حفصة أنها لم تكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينه، فذكره بنحوه، وإسناده إسناد مسلم. ورواه ابن ماجة عن هشام بن عمار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أمية بن صفوان بن عبد الله، فذكره بنحوه، وزاد بعد الحديث المرفوع، فلما جاء جيش الحجاج ظننا أنهم هم، إسناده صحيح على شرط البخاري، وفي رواية لمسلم عن يوسف بن ماهك، أخبرني عبد الله بن صفوان، عن أم المؤمنين، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيعوذ بهذا البيت- يعني الكعبة - قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة، يبعث إليهم جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم»، قال يوسف وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة، فقال عبد الله بن صفوان: أما والله ما هو بهذا الجيش. الحديث الرابع: عن صفية أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينتهي الناس عن غزو هذا البيت حتى يغزوه جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم ولم ينج أوسطهم» قالت: قلت: يا رسول الله،

ذكر الأحاديث الواردة في الخليفة الذي يحثو المال حثوا في آخر الزمان

أرأيت المكره منهم! قال: «يبعثهم الله على ما في أنفسهم» رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. الحديث الخامس: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تنتهي البعوث عن غزو بيت الله تعالى حتى يخسف بجيش منهم» رواه الحاكم في مستدركه، وقال غريب صحيح، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وهذه الأحاديث الخمسة التي روى البخاري حديثًا منها، وروى مسلم ثلاثة منها، تؤيد حديث أم سلمة الذي تقدم ذكره مع أحاديث المهدي في أول الكتاب (¬1)، وهو الحديث التاسع في ذكر مبايعة الرجل القرشي بمكة، وذكر الخسف بالجيش الذي يبعث إليه من الشام، وقد رواه أبو داود في "كتاب المهدي" من سننه، وروى معه عدة أحاديث من الأحاديث الواردة في المهدي، ومنها حديث أم سلمة -رضي الله عنها- في قصة الجيش الذي يخسف به، والخسف المذكور في هذه الأحاديث الخمسة لم يقع إلى الآن، وسيقع في آخر الزمان إذا ظهر المهدي ودنا قيام الساعة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني عن بقيرة امرأة القعقاع بن أبي حدرد -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وهو يقول: «إذا سمعتم بجيش قد خسف به قريبًا فقد أظلت الساعة»، وفي رواية قالت: إني لجالسة في صفة النساء فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب وهو يشير بيده اليسرى، فقال: «يا أيها الناس إذا سمعتم بخسف ههنا قريب فقد أظلت الساعة»، قال الهيثمي: فيه ابن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجال أحد إسنادي أحمد رجال الصحيح. الحديث السادس: عن الجُريري - بضم الجيم واسمه سعيد بن إياس-، عن أبي نضرة -واسمه المنذر بن مالك بن قِطعة بكسر القاف وسكون الطاء المهملة، هكذا ضبطه الخزرجي في "الخلاصة"، وضبطه الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" بضم القاف وفتح الطاء المهملة العبدي- قال: كنا عند جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثوًا لا يعده عدا»، قال الجريري: فقلت لأبي نضرة وأبي العلاء أتريانه عمر بن عبد العزيز؟ فقالا: لا. رواه الإمام أحمد ومسلم، وإسناد أحمد أحد إسنادي مسلم. الحديث السابع: عن أبي نضرة، عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول ¬

_ (¬1) ص: (16، 17).

قول ابن محمود إن المهدي لم يذكر في القرآن، والرد عليه

الله - صلى الله عليه وسلم -: «من خلفائكم خليفة يحثي المال حثيًا لا يعده عدًا» رواه الإمام أحمد ومسلم، وإسناد أحمد أحد إسنادي مسلم، وفي رواية لأحمد: «يكون في آخر الزمان خليفة يعطي المال ولا يعده عدًا» إسناده صحيح على شرط مسلم، وفي رواية له قال: «ليبعثن الله -عز وجل- في هذه الأمة خليفة يحثي المال حثيا ولا يعده عدًا» إسناده حسن. الحديث الثامن: عن أبي نضرة، عن أبي سعيد وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم- قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده» رواه الإمام أحمد ومسلم، وإسناد أحمد إسناد مسلم. وهذه الأحاديث الثلاثة التي رواها مسلم مطابقة لما جاء في بعض الروايات عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في ذكر المهدي، وفيها: «ويكون المال كدوسًا، قال: يجيء الرجل، فيقول: يا مهدي أعطني أعطني، قال: فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمل»، وفي رواية أخرى عن أبي سعيد -رضي الله عنه- في ذكر المهدي: «أنه يقسم المال بالسوية بين الناس، حتى يأمر مناديًا فينادي فيقول: من له في مال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل، فيقول: ائت السدان؛ يعني الخازن، فقل له: إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالا، فيقول له: احث» الحديث، وقد تقدم ذكره (¬1)، وتقدم أيضًا (¬2) حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في ذكر المهدي، وفيه: «والمال كدوس، يقوم الرجل يقول: يا مهدي أعطني، فيقول: خذ»،فهذه الروايات التي جاءت في صفة المهدي مطابقة لصفة الخليفة الذي جاء ذكره في الأحاديث الصحيحة عن أبي سعيد وجابر، وأنه يكون في آخر الزمان، وأنه يحثو المال حثوًا لا يعده عدًا، وهذه الصفة لم توجد في أحد ممن مضي من الخلفاء والملوك والأمراء، وإنما تكون في المهدي الذي يخرج في آخر الزمان. وأما قول ابن محمود: كما أنه ليس له ذكر في القرآن، مما يقلل عدم الاحتفال بها. فجوابه: أن يقال: لو كان عدم ذكر الشيء في القرآن يقلل الاحتفال بالأحاديث الواردة فيه - أي يقلل المبالاة بها- لذهبت السنة أو أكثرها، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقال -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ ¬

_ (¬1) ص 13. (¬2) ص 16.

زعمه تناقض أحاديث المهدي وتعارضها تقليدا لرشيد رضا ومحمد فريد وجدي والرد عليه

هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدارمي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، من حديث المقدام بن معد يكرب الكِندي -رضي الله عنه-، وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وصححه الحاكم، وأقره الذهبي. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض الأنبياء وغيرهم من الماضين بقصص لم تذكر في القرآن، وأخبر أيضًا عما سيكون بعده إلى قيام الساعة، وعما يكون بعد ذلك إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وما يكون بعد ذلك، وكثير مما أخبر به لم يذكر في القرآن، وكذلك الصلاة والزكاة والحج، فإنها لم تذكر في القرآن على وجه التفصيل، وإنما ذكرت فيه على وجه الإجمال، وجاء تفصيل أحكامها في السنة، وكذلك أكثر الأحكام، فإن بعضها لم يذكر في القرآن، وبعضها قد ذكر فيه على وجه الإجمال، وفصلت أحكامه في السنة، وقد تلقى أهل العلم ما ثبت من ذلك بالقبول والتسليم، ولا أعلم أحدًا قبل ابن محمود توقف عن قبول الأحاديث التي رواها الثقات عن الثقات، وقال إنه لا يحتفل بها - أي لا يبالي بها- من أجل أن ذلك لم يذكر في القرآن، فهذا قول باطل أحدثه ابن محمود وهو مردود عليه. وأما قوله: مما يقلل عدم الاحتفال بها. فجوابه: أن يقال: إن كلام ابن محمود ينقض بعضه بعضًا؛ لأنه إذا قلَّ عدم الاحتفال بأحاديث المهدي- أي قلَّ عدم المبالاة بها-، فإنها تصير إذا مما يحتفل به - أي مما يبالي به- والظاهر من كلام ابن محمود أنه أراد أن يقول: مما يقلل الاحتفال بها. فزاد قوله "عدم" فانعكس مراده، وصار كلامه متناقضًا. وقال ابن محمود في صفحة (6) وصفحة (7): "ومنها تناقض هذه الأحاديث وتعارضها في موضوعها، فمهدي اسمه اسم الرسول واسم أبيه اسم أبيه، ومهدي اسمه أبو عبد الله، ومهدي يشبه الرسول في الخُلُق ولا يشبهه في الخَلق، ومهدي يصلحه الله في ليلة، ورجل يخرج هاربًا من المدينة إلى مكة فيبايع له بين الركن والمقام، ورجل اسمه الحارث بن حران يوطِّئ أو يمكن لآل محمد، ورجل يخرج من وراء النهر، ورجل يبايع له بعد وقوع فتنة عند موت خليفة، ورجل أخواله كلب وتأتيه الرايات السود من قبل العراق وأبدال الشام، ومهدي يصلي عيسى ابن مريم

خلفه، ومهدي يقال له بحضرة نبي الله عيسى: صلِّ أيها الأمير، فيقول: كل إنسان أمير نفسه تكرمة الله لهذه الأمة، فهذه وما هو أكثر منها مما جعلت المحققين من العلماء يوقنون بأنها موضوعة على لسان رسول الله، وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته، وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: أما أول هذا الكلام فهو مأخوذ من كلام رشيد رضا في تفسير المنار، وقد نقله ابن محمود بالمعنى، وغير عبارته وأسلوبه بعبارة وأسلوب أبسط منه؛ ليوهم أنه لم يقلد أحدًا في كلامه، وأما آخره فهو مأخوذ من كلام محمد فريد وجدي في دائرة المعارف، وهذا ملخص كلام رشيد رضا، قال في صفحة (499) من الجزء التاسع من تفسير المنار: "وأما التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر، والجمع بين الروايات فيها أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشبهة فيها أظهر، ولذلك لم يعتد الشيخان بشيء من رواياتها في صحيحيهما". إلى أن قال في صفحة (501): "ولأجل ذلك كثر الاختلاف في اسم المهدي، ونسبه، وصفاته، وأعماله". ثم قال في صفحة (503): "فهذا نموذج من تعارض الروايات وتهافتها في المهدي". انتهى. وأما محمد فريد وجدي، فقال في صفحة (481) من الجزء العاشر من دائرة المعارف: "وقد ضعف كثيرون من أئمة المسلمين أحاديث المهدي، واعتبروها مما لا يجوز النظر فيه". انتهى. وأما ما سوى كلام رشيد رضا ومحمد فريد وجدي، فكله من تهويل ابن محمود وتلبيسه على الجهال، وقد جعل اسم المهدي متعددًا على أحد عشر رجلا، وهذه الكثرة التي زعمها ابن محمود ترجع في الحقيقة إلى أربعة، أحدهم المهدي الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه في آخر الزمان، وهو الذي تدور عليه جميع الأحاديث الثابتة في المهدي كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى-. والثاني الحارث الحراث؛ الذي يخرج من وراء النهر يوطِّئ لآل محمد. والثالث الذي أخواله كلب؛ وهو عدم المهدي. والرابع الذي يقال له أبو عبد الله وهذه الكنية ليست للمهدي، وإنما هي من دعاوي الرافضة في مهديهم المزعوم الذي ليس له وجود بالكلية. الوجه الثاني: أن يقال: ليس بين الأحاديث الثابتة في المهدي تناقض ولا تعارض البتة، ومن ادعى التناقض والتعارض بينها فإنه لا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون

جاهلا بالأحاديث الثابتة في المهدي، وإما أن يكون مكابرًا في ردها، وهذا هو الظاهر من حال المردود عليه؛ فإنه قد كابر في ردها، وأورد المكابرة بطريق المغالطة. الوجه الثالث: أن يقال: قد جاء في الحديث الصحيح عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اسم المهدي يواطئ اسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن اسم أبيه يواطئ اسم أبي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجاء في حديث حسن الإسناد عن علي -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة»، وجاء في حديث صحيح عن أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون اختلاف عند موت خليفة، يخرج رجل من قريش من أهل المدينة إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام» الحديث، وفيه: «أنه يأتيه أهل الشام وعصائب من أهل العراق فيبايعونه»، وجاء في حديث جيد الإسناد عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة»، وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يخرج رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، وخلقه خلقي، فيملؤها قسطًا وعدلا كما ملئت ظلمًا وجورًا»، وروى أبو داود في سننه بإسناد فيه ضعف عن علي -رضي الله عنه- أنه نظر إلى ابنه الحسن فقال: «إن ابني هذا سيدكما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق ولا يشبهه في الخلق - ثم ذكر قصة - يملأ الأرض عدلا». قال شمس الحق في "عون المعبود": "على قوله «يشبهه في الخلق» بضم الخاء واللام وتسكن، «ولا يشبهه في الخلق» بفتح الخاء وسكون اللام؛ أي يشبهه في السيرة ولا يشبهه في الصورة". انتهى. ولبعض هذا الحديث شاهد مما تقدم (¬1) من حديث ابن مسعود وأبي سعيد -رضي الله عنهما-، والمذكور في هذه الأحاديث رجل واحد وهو المهدي المبشر به، وليس متعددًا كما زعم ذلك ابن محمود في كلامه الذي هو صريح في المغالطة. وأما الرجل الذي اسمه الحارث، فهو الذي يخرج من وراء النهر كما جاء ذلك في حديث علي -رضي الله عنه- يرفعه: «يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث حراث» الحديث رواه أبو داود بإسناد ضعيف، وقوله حراث بتشديد الراء صفة له أي ¬

_ (¬1) ص (10 - 11).

صلاة عيسى خلف المهدي

زراع، قال شمس الحق في "عون المعبود": "هكذا في أكثر النسخ وهو المعتمد، وفي بعض النسخ الحارث بن حراث". انتهى، وقد صحَّف ابن محمود فقال اسمه الحارث بن حران، بالنون، وصوابه الحارث حراث بالثاء المثلثة، وزعم ابن محمود أن الحارث والذي يخرج من وراء النهر رجلان، وأن كلا منهما يقال فيه أنه المهدي، وهذا من أغلاطه أو من مغالطته؛ لأن الذي جاء في الحديث أن الذي يخرج من وراء النهر هو الحارث، وأنه يوطِّئ أو يمكِّن لآل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فليس هو بالمهدي، وإنما هو من أنصار المهدي، وقد ذكرت أن الحديث ضعيف الإسناد فلا يعتمد عليه. وأما الرجل الذي أخواله من كلب، فلم يقل أحد أنه المهدي كما قد زعم ذلك ابن محمود يريد بذلك المغالطة، وإنما هو رجل من قريش يبعث جيشًا لقتال المهدي فيهزمهم جيش المهدي ويظهر عليهم، وقد تقدم بيان ذلك في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- (¬1). وأما قوله: ومهدي يصلي عيسى ابن مريم خلفه، ومهدي يقال له بحضرة نبي الله عيسى: صلِّّ أيها الأمير، فيقول: كل إنسان أمير نفسه. فجوابه: أن يقال هذا تكرار أُرِيدَ به المغالطة؛ لأن الرجل الذي يصلي عيسى خلفه هو المهدي، وعيسى -عليه الصلاة والسلام- هو الذي يقول للمهدي: تقدم فصلِّ فإنها لك أقيمت، كما جاء ذلك في حديث أبي إمامة الذي رواه ابن ماجة وابن خزيمة والحافظ الضياء في "المختارة"، وهو حديث طويل فيه ذكر خروج الدجال ونزول عيسى -عليه الصلاة والسلام-، وفيه فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟ قال: «هم يومئذ قليل وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليتقدم عيسى يصلي بالناس، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصلِّ، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم» الحديث. وروى الإمام أحمد ومسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا، ¬

_ (¬1) ص 16 - 17.

فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة»، وقد رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث وهب بن منبه، عن جابر -رضي الله عنه- وفيه: «فيقول أميرهم المهدي تعال صل بنا»، وذكر بقية الحديث بنحوه. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "المنار المنيف": "إسناده جيد". ففي هذا الحديث الصحيح أن المهدي هو الذي يقول لعيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-: تعال صل بنا، وأن عيسى يقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء. فأما قول ابن محمود: ومهدي يقال له بحضرة نبي الله عيسى صل أيها الأمير، فيقول كل إنسان أمير نفسه. فجوابه: أن يقال: هذا اللفظ لم يرد في شيء من الأحاديث الواردة في المهدي ونزول عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-، وإنما أتى به ابن محمود من كيسه، وهو من تحريف الكلم عن مواضعه. وأما قوله: فهذه وما هو أكثر منها، مما جعلت المحققين من العلماء يوقنون بأنها موضوعة على لسان رسول الله، وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته، وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها، فضلا عن تصديقها. فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: أما الأئمة المحققون على الحقيقة؛ ومنهم الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والعقيلي، والبيهقي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، والهيثمي، فإنهم قد صححوا بعض الأحاديث الواردة في المهدي، وقد تقدم بيان ذلك في أول الكتاب وفي الفصل الثاني منه (¬1)، وقد نص على صحة بعضها كثير من المتأخرين؛ ومنهم ابن حجر الهيتمي، والشوكاني، وصديق بن حسن وغيرهم، وذكر غير واحد من العلماء أنها متواترة، وقد تقدم بيان ذلك فليراجع (¬2). وأما المتحذلقون من العصريين، وهم الذين تجرءوا على رد الأحاديث الثابتة في المهدي، وزعموا أنها موضوعة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليسوا أهل تحقيق في الحديث، وإنما يخبطون خبط عشواء، فما وافق أفكارهم أو أفكار من يعظمونه من الغربيين وأذناب الغربيين قبلوه ولو كان ضعيفًا أو موضوعا، وما خالف أفكارهم أو ¬

_ (¬1) ص (10 - 17) و 42وص (41 - 43). (¬2) ص (43 - 45).

اعتراض ابن محمود على العلماء الذين قبلوا الثابت من أحاديث المهدي والرد عليه

أفكار من يعظمونه لم يبالوا برده وإطراحه ولو كان صحيحًا أو حسنًا، ومن نظر في كتبهم رأى من ذلك الشيء الكثير، وقد قلدَّهم ابن محمود في رد أحاديث المهدي وإطراحها، وزعم أنها كلها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها، وزعم أيضًا أنها خرافة وأنها نظرية خرافية وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة. هكذا جازف وخرج عن حد المعقول إلى غير المعقول، وقد قال الله -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}، أما يخشى ابن محمود أن يكون داخلا في عموم المشاقين للرسول - صلى الله عليه وسلم - المتبعين غير سبيل المؤمنين؟ أما يخشى أن يحشر في زمرة المكذبين للرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ الوجه الثاني: أن يقال: إن الحكم على بعض الأحاديث بأنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، لا يكتفي فيه بمجرد الدعوى كما فعل ذلك ابن محمود، وكما كان يفعله غيره من العصريين، بل لا بد أن يكون في أسانيدها بعض الوضاعين، ولا بد أن يذكر القادح فيها كلام أئمة الجرح والتعديل في الراوي المتهم بالوضع؛ لتكون الدعوى مقرونة بالبينة، فأما بهت الأبرياء بأنهم وضعوا أحاديث لا علاقة لهم بها وليسوا من رواتها، فهذا لا شك في تحريمه، فإن كان المبهوت مسلمًا غير متهم في دينه؛ مثل عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، فبهته كبيرة من الكبائر؛ لقول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}. وقال ابن محمود في صفحة (7): "فهذه الأحاديث التي رواها أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، هي التي حملت بعض علماء السنة لكثرتها على التصديق بها، فقبلوها قاعدة مسلمة وعقيدة محترمة، سامعين مطيعين لها بدون تفكر ولا تدبر، كالشيخ صديق، والشوكاني، والسفاريني، والشيخ مرعي، والعبادي، وسائر العلماء من المتأخرين، فلو أن هؤلاء حققوا النظر بإمعان وتفكر في أحاديث المهدي التي رواها أبو داود، وابن ماجة، والترمذي، فقابلوا بعضها ببعض لعرفوا من مجموعها حقيقة التعارض والاختلاف، ولظهر لهم منها ما يوجب عليهم الرجوع عن التصديق بها، وكون أكثرها قضايا أحداث وقعت مع أشخاص، ولا ذكر للمهدي فيها".

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن علماء السنة لم يغتروا بكثرة الأحاديث الواردة في المهدي كما قد توهم ذلك ابن محمود، وإنما اعتمدوا على ما ثبت من ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قسم بعض علماء السنة أحاديث المهدي إلى صحيح وحسن وضعيف، وقد تقدم قول الشوكاني وصديق بن حسن في ذلك، وهذا يدل على أنهم لم يغتروا بكثرة الأحاديث الواردة في المهدي، وإنما كانوا يعتمدون على الصحاح والحسان منها، ويذكرون الضعيف المنجبر لاعتضاده بالأحاديث الصحيحة، ولو كان الأمر على ما زعمه ابن محمود من أن كثرة الأحاديث هي التي حملت علماء السنة على التصديق بها، لما قسمها أهل السنة إلى صحيح وحسن وضعيف، ولجعلوها صحاحًا من باب واحد. الوجه الثاني: أن يقال: كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أهل السنة يقبلونه قاعدة مسلمة وعقيدة محترمة، بخلاف أهل الزيغ؛ الذين لا يبالون برد الأحاديث الصحيحة وإطراحها. الوجه الثالث: أن يقال: إن علماء السنة إنما سمعوا وأطاعوا لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ امتثالا لقول الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، ولقوله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وقوله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} "، فكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالواجب على المسلمين قبوله بدون تردد، وذلك من تحقيق الشهادة بالرسالة. الوجه الرابع: أن يقال: قد أنطق الله ابن محمود بما يطابق الواقع من حيث لا يشعر، فإنه قال: "إن بعض علماء السنة وسائر العلماء من المتأخرين صدقوا بالأحاديث التي رواها أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقبلوها قاعدة مسلمة وعقيدة محترمة، سامعين مطيعين لها، بدون تفكر ولا تدبر"، فعلى قوله هذا يكون الذين تفكروا وتدبروا في أحاديث المهدي، وقابلوا بعضها ببعض، وزعموا التعارض بينها والاختلاف، فردوها جملة بدون مبالاة- أنهم ليسوا أهل سنة، وإنما هم أهل بدعة وفتنة، وهؤلاء .............................................................

زعمه أن كل حديث يذكر فيه المهدي فهو ضعيف، والرد عليه

يخشى عليهم أن يكونوا داخلين في عموم قول الله -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. الوجه الخامس: أن يقال: ليس بين الأحاديث الواردة في المهدي تعارض واختلاف البتة، وقد تقدم بيان ذلك قريبًا عند الكلام على قول ابن محمود في صفحة (6)، ومنها تناقض هذه الأحاديث وتعارضها، فليراجع (¬1). الوجه السادس: أن يقال: معاذ الله أن يرجع أهل السنة عن التصديق بما ثبت عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر به، وسواء في ذلك ما أخبر به عن المهدي، وما أخبر به عن غيره؛ مما مضى، وما سيكون في آخر الزمان؛ من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-، وخروج يأجوج ومأجوج، وغير ذلك من الأمور التي ينكرها بعض العصريين. وقال ابن محمود في صفحة (7): "وكل حديث يذكر فيه المهدي فإنه ضعيف، كحديث علي مرفوعًا: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله رجلا منا يملؤها عدلا كما ملئت جورًا»، ومثله عن علي -رضي الله عنه- مرفوعًا: «المهدي منا أهل البيت»، وكذا عن علي -رضي الله عنه- ونظر إلى ابنه الحسن فقال: «إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق»، ومثله حديث أم سلمة مرفوعًا: «المهدي من عترتي ومن ولد فاطمة» رواها كلها أبو داود في سننه وغيره". والجواب: أن يقال: أما قوله وكل حديث يذكر فيه المهدي فإنه ضعيف، فهو مما قلد فيه بعض العصريين، ومنهم رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، وسعد محمد حسن، وغيرهم من ذوي الجراءة على رد الأحاديث الثابتة في المهدي، وقد ذكرت في أول الكتاب تسعة أحاديث من الصحاح والحسان الواردة في المهدي، وذكرت لبعضها عدة طرق من الصحاح والحسان فلتراجع (¬2)، ففيها أبلغ رد على ابن محمود وعلى سلفه، الذين زعموا أن أحاديث المهدي كلها ضعيفة. وأما حديث علي -رضي الله عنه- مرفوعًا: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لبعث الله رجلا منا يملؤها عدلا كما ملئت جورًا» فهو حديث صحيح، وقد تقدم الكلام عليه .. ¬

_ (¬1) ص (70 - 71). (¬2) (9 - 17).

الرد على قوله إن أكثر المحدثين أعرضوا عن أحاديث كثيرة عن أهل البيت

في أول الكتاب فليراجع (¬1). وأما حديث علي -رضي الله عنه- مرفوعًا: «المهدي منا أهل البيت» فهو حديث حسن، رواه الإمام أحمد وابن ماجة، وتقدم ذكره في أول الكتاب (¬2)، وقد وهم ابن محمود فزعم أن أبا داود قد رواه، وهو لم يروه. وأما حديث علي -رضي الله عنه- أنه نظر إلى ابنه الحسن فقال: «إن ابني هذا سيد» الحديث، فهو حديث ضعيف الإسناد وقد تقدم التنبيه عليه قريبًا (¬3)، ولبعضها شاهد من حديث ابن مسعود وأبي سعيد -رضي الله عنهما- وقد تقدم ذكرهما في أول الكتاب (¬4). وأما حديث أم سلمة -رضي الله عنها- فقد تكلم بعضهم في إسناده، وقد سكت عليه أبو داود، وقد قال أبو بكر بن داسه: سمعت أبا داود يقول: فذكر ما قاله في سننه، وفيه أنه قال: "وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض"، وقد أورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة، وقال العزيزي في شرح الجامع الصغير: "إسناده حسن". وقال ابن محمود في صفحة (7) وصفحة (8): "وقد أعرض أكثر العلماء المحدثين عن إثبات أحاديث كثيرة في كتبهم عن أهل البيت؛ لتسلط الغلاة على إدخال الشيء الكثير من الكذب في فضائلهم، كما تحاشى عنها البخاري، ومسلم، والنسائي، والدارقطني، والدارمي، فلم يذكروها في كتبهم المعتمدة، وما ذاك إلا لعلمهم بضعفها، مع العلم أن الدارمي هو شيخ أبي داود والترمذي، وقد نزه مسنده عن أحاديث المهدي فلا ذكر لها فيه". الجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: أما إعراض بعض المحدثين عن إثبات بعض الأحاديث في كتبهم عن أهل البيت فليس فيه دليل على ضعف أحاديث المهدي كلها، وليس فيه حجة لمن تهجم على أحاديث المهدي وقابلها بالرد والإنكار، زاعمًا أنها كلها ضعيفة، وما أكثر الأحاديث التي لم يذكرها البخاري، ومسلم، والنسائي، والدارقطني، والدارمي، وهي مع ذلك صحيحة. وفي موطأ مالك، ومسند أحمد، وسنني أبي داود وابن ماجة، وجامع الترمذي، وصحيح ابن خزيمة، ......................................... ¬

_ (¬1) ص (14 - 15). (¬2) ص (15 - 16). (¬3) ص (71). (¬4) ص (9 - 12).

وابن حبان، ومستدرك الحاكم، وغيرها من المسانيد والمستخرجات والمعاجم شيء كثير من الأحاديث الصحيحة، ولا أظن أن عاقلا يقول: إن ما لم يذكره البخاري، ومسلم، والنسائي، والدارقطني، والدارمي في كتبهم فإنه لا يكون صحيحًا، لِم يترتب على ذلك من أبطال كثير من السنن. الوجه الثاني: أن يقال: قد روي مسلم في صحيحه ثلاثة أحاديث في ذكر الخسف بالجيش الذي يغزو الكعبة، وروى البخاري حديثًا منها، وفيها إشارة إلى المهدي، وقد تقدم بيان ذلك قريبًا (¬1)، وتقدم أيضًا ما رواه مسلم عن جابر وأبي سعيد -رضي الله عنهما- في ذكر الخليفة الذي يكون في آخر الزمان يحثي المال حثيا ولا يعده عدًا، وهي ثلاثة أحاديث، وفيها إشارة إلى المهدي كما تقدم بيانه (¬2). وأما قوله: وما ذاك إلا لعلمهم بضعفها. فجوابه: أن يقال: إثبات علمهم بضعفها يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، وليس مع من ادعى علمهم بضعفها سوى اتباع الظن، وقد قال الله -تعالى-: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». وأما قوله: مع العلم أن الدارمي هو شيخ أبي داود والترمذي، وقد نزَّه مسنده عن أحاديث المهدي فلا ذكر لها فيه. فجوابه: أن يقال: إن شيوخ أبي داود والترمذي كثيرون جدًا، وبعض الشيوخ يروي من الأحاديث ما ليس عند الآخرين، فلا يبعد أن يكون الدارمي لم يرو شيئًا من أحاديث المهدي، وقد يكون روى منها وترك ذكرها عمدًا، كما ترك أحاديث الإيمان، والمناقب، وتفسير القرآن، والفتن والملاحم، وأشراط الساعة، فلم يذكرها في كتابه، ويبعد أن يكون لم يرو في ذلك شيئًا، فهل يقول ابن محمود أن الدارمي قد نزه كتابه عن ذكر الأحاديث في الإيمان، والمناقب، والتفسير، والفتن والملاحم، وأشراط الساعة، كما قد قال ذلك في أحاديث المهدي؟ أم يخص التنزيه بأحاديث المهدي فقط تقليدًا لرشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، وأضرابهم من العصريين، الذين لا يبالون برد الأحاديث الصحيحة إذا خالفت أفكارهم أو أفكار من يعظمونه من الغربيين وأتباع الغربيين؟ والذي لا يشك فيه أن التقليد لمن ذكرنا هو ¬

_ (¬1) ص (64 - 66). (¬2) ص (67 - 68).

رميه المحدثين والفقهاء المتقدمين بالتقليد وتهجمه على الشافعي وأحمد والرد عليه

الذي حمل ابن محمود على رد الأحاديث في المهدي، وتنزيه مسند الدارمي عنها. وقال ابن محمود في صفحة (8): "ثم إن من عادة العلماء المحدثين والفقهاء المتقدمين، أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقه، كما ذكر عن الإمام أحمد؛ أنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه. ذكروا ذلك في ترجمة ابن سعد، وكان الشافعي يقول للإمام أحمد: "إذا ثبت عندك الحديث فارفعه إلي حتى أثبته في كتابي"، وكذلك سائر علماء كل عصر ينقل بعضهم عن بعض، فمتى كان الأمر بهذه الصفة فلا عجب متى رأينا أحاديث المهدي تنتشر في كتب المعاصرين لأبي داود؛ كالترمذي، وابن ماجة؛ لخروج الحديث من كتاب إلى مائة كتاب، وانتقال الخطأ من عالم إلى مائة عالم، لكون الناس مقلدة، وقليل منه المحققون المجتهدون، والمقلد لا يعد من أهل العلم". والجواب: أن يقال: قد جازف ابن محمود في هذه الجملة غاية المجازفة، وتجاوز حد المعقول إلى غير المعقول، وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال: وليس من الإنصاف أن يدفع الفتى ... يد النقص عنه بانتقاص الأفاضل فأما قوله: ثم إن من عادة العلماء المحدثين والفقهاء المتقدمين أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقه. فجوابه: أن يقال: هذه المجازفة بعيدة كل البعد عن الصواب، ولا أعلم أحدًا رمي سائر العلماء من السلف ومن بعدهم في كل عصر بالتقليد سوى ابن محمود، ويالها من زلة ما أبشعها وأشنعها، وإذا كان علماء السلف ومن بعدهم من سائر العلماء في كل عصر مقلدة عند ابن محمود، وهو لا يعد المقلد من أهل العلم، فمن هم العلماء، ومن هم المحققون إذا؟ ولعل ابن محمود كتب هذا الكلام وهو في حالة لا يشعر معها بما كان يكتبه. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» رواه الإمام أحمد، والبخاري ومسلم، من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، وثبت نحوه عن عدد كثير من الصحابة -رضي الله عنهم- رووا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرتُ هذه الأحاديث في كتابي " إتحاف الجماعة، بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة" في "باب ما جاء في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة" فلتراجع هناك.

الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة

وقد ترجم البخاري على حديث معاوية -رضي الله عنه- بقوله: "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» وهم أهل العلم". قوله: وهم أهل العلم، هو من كلام البخاري، وقد نبه الحافظ ابن حجر على هذا وهو ظاهر، وقال البخاري أيضا: "باب قول الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، وما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم الجماعة وهم أهل العلم". وقال الترمذي في جامعه، بعد إيراده حديث ثوبان -رضي الله عنه- الذي رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة، والبرقاني في صحيحه، وصححه الترمذي، وهو بنحو حديث معاوية -رضي الله عنه- قال الترمذي: "سمعت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري- يقول: سمعت علي بن المديني يقول: وذكر هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» فقال عليٌّ: هم أهل الحديث". انتهى، وكذا قال ابن المبارك، وأحمد بن سنان، وابن حبان وغيرهم، وترجم عليه ابن حبان في صحيحه فقال: "ذكر إثبات النصرة لأصحاب الحديث إلى قيام الساعة"، وقال يزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم" رواه الحاكم في علوم الحديث. وفي حديث معاوية -رضي الله عنه-، وما أشرت إليه من الأحاديث، أبلغ رد على مجازفة ابن محمود وتهجمه على علماء الأمة. وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم أيضًا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنتم إذا نزل عيسى ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» قال ابن التين: "معنى قوله: «وإمامكم منكم» أن الشريعة المحمدية متصلة إلى يوم القيامة، وأن في كل قرن طائفة من أهل العلم" نقله عنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". وروى الإمام أحمد ومسلم أيضًا، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة» قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمة، مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة، دلالة للصحيح من الأقوال، أن الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة". انتهى. ذكره في الكلام على قوله في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» وهو في "باب نزول عيسى ابن مريم" من أحاديث الأنبياء.

الرد على تهجم ابن محمود على الشافعي وأحمد

وروي أبو داود والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، وفي هذا الحديث والحديثين قبله أبلغ رد على مجازفة ابن محمود. وأما قوله: كما ذُكر عن الإمام أحمد أنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه، ذكروا ذلك في ترجمة ابن سعد، وكان الشافعي يقول للإمام أحمد: "إذا ثبت عندك الحديث فارفعه إلي حتى أثبته في كتابي". فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: أتدري فيمن تتكلم يا ابن محمود؟ أما لك عقل يحجزك عن التهجم على إمامين عظيمين من أئمة المسلمين، قد رفع الله قدرهما عند المسلمين، وجعل كلا منهما إمامًا يقتدي به؟ وأنت تخالف المسلمين فترميهما بالتقليد، وتزعم أنهما ممن ينقل الحديث والقول على علاته، ومن له أدنى عقل وعلم يعلم براءتهما مما رميتهما به، ثم تزعم أيضًا أن الإمام أحمد كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه، وأن الشافعي كان يقول للإمام أحمد: "إذا ثبت عندك الحديث فارفعه إليَّ حتى أثبته في كتابي"، ألا تتثبت يا ابن محمود فيما تكتبه وما تقوله في أئمة المسلمين؟ أما تخشى أن تكون داخلا في عموم قول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}؟ الوجه الثاني: أن يقال: إن الشافعي وأحمد كانا يذمان التقليد وينهيان عنه، فكيف يظن بهما أنهما كانا ممن ينقل الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقهما؟ وكيف يظن بأحمد أنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه؟ هذا قول ظاهر البطلان. الوجه الثالث: أن يقال: قد روى الخطيب في "تاريخ بغداد"، عن إبراهيم الحربي، قال: "كان أحمد بن حنبل يوجه في كل جمعة بحنبل بن إسحاق إلى ابن سعد؛ يأخذ منه جزئين من حديث الواقدي، فينظر فيهما إلى الجمعة الأخرى، ثم يردهما ويأخذ غيرهما"، وقد ذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ" والمزي في "تهذيب الكمال" وابن حجر في "تهذيب التهذيب" هذا ما ذكروه في ترجمة محمد بن سعد، وذكره الخطيب في ترجمة الواقدي، لا ما قاله ابن محمود من الوهم والغلط، وما آفة الأخبار إلا رواتها. وإنما كان أحمد -رحمه الله تعالى- يأخذ الأجزاء من حديث الواقدي وينظر فيها؛ ....

إجماع العلماء على تعظيم أحمد والثناء عليه

ليطلع على ما فيها من قلب الأحاديث وتركيب الأسانيد، وما كان يتهم به الواقدي من وضع الأحاديث، وغير ذلك من الأمور السيئة التي ينبغي النظر فيها، والتحذير منها ومن أهلها، وقد ذكر الذهبي في "الميزان" عن الإمام أحمد أنه قال في الواقدي: "هو كذاب، يقلب الأحاديث، يلقي حديث ابن أخي الزهري على معمر ونحو ذا"، وذكر أيضًا عن ابن المديني وأبي حاتم والنسائي أنهم قالوا: "الواقدي يضع الحديث". وروى الخطيب في "تاريخ بغداد" عن علي بن المديني قال: "قال لي أحمد بن حنبل: أعطني ما رواه - يعني الواقدي- عن ابن أبي يحيى، قال: قلت: وما تصنع به؟ قال أنظر فيها أعتبرها، قال: ففتحها ثم قال: اقرأها عليَّ، قال: قلت: وما تصنع به؟ قال: انظر فيها، قال: قلت له: أنا أحدث عن ابن أبي يحيى، قال لي: وما عليك، أنا أريد أن أعرفها وأعتبر بها، قال: فقال لي بعد ذلك أحمد: رأيت عند الواقدي أحاديث قد رواها عن قوم من حديث ابن أبي يحيى قلبها عليهم". وروى الخطيب أيضًا عن علي بن المديني قال: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: الواقدي يُركِّب الأسانيد"، وروى أيضًا عن إسحاق الكوسج قال: "قال أحمد بن حنبل: كان الواقدي يقلب الأحاديث، كأنه يجعل ما لمعمر عن ابن أخي الزهري، وما لابن أخي الزهري لمعمر". قلت: ولو قُدِّر أن الإمام أحمد كان ينقل الأجزاء من حديث الواقدي للغرض الذي ذكرنا، لما كان في ذلك بأس، ولكن لم ينقل عنه أنه كان ينقلها، وإنما نقل عنه أنه كان ينظر فيها فقط، ولم يكن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يروي عن الواقدي ولا عن محمد بن سعد كاتب الواقدي، حتى يُظن به أنه كان ينقل الحديث والقول على علاته من كتب الواقدي أو من طبقات ابن سعد. الوجه الرابع: أن يقال: إن العلماء من أهل السنة والجماعة منذ زمان أحمد إلى زماننا قد أجمعوا على تعظيم أحمد والثناء عيه، ولم يُذكر عن أحد من المتقدمين منهم ولا من المتأخرين أنه عاب أحمد بشيء أو طعن فيه أو تنقصه، وإنما كان ينقل ذلك عن أحمد بن أبي دؤاد وأصحابه من الجهمية، وعن الجاحظ وأضرابه من المعتزلة، والعاقل لا يرضى لنفسه أن يكون من أتباع هؤلاء الفسقة. وقد روى الخطيب بإسناده، عن سفيان بن وكيع أنه قال: "أحمد عندنا محنة، من عاب أحمد فهو عندنا فاسق"، وروي أيضًا بإسناده عن أبي جعفر محمد بن بدينا ...............

من أحب أحمد فهو صاحب سنة

الموصلي قال: أنشدني ابن أعين في الإمام أحمد بن حنبل: أضحى ابن حنبل محنة مأمونة ... وبحب أحمد يعرف المتنسك وإذا رأيت لأحمد متنقصًا ... فاعلم بأن ستوره ستهتك وذكر القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة" عن أبي علي الحداد، أنه روى بإسناده عن أحمد بن إبراهيم الدورقي أنه قال: "من سمعتموه يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهموه على الإسلام"، وقد رواه الخطيب البغدادي من طريق أبي يعلي التميمي، وهو أبو يعلي الموصلي- قال: سمعت أحمد بن إبراهيم- يعني الدورقي- يقول ... فذكره بمثله، وقد ذكره المزي في "تهذيب الكمال" عن أبي يعلي الموصلي قال: سمعت أحمد بن إبراهيم الدورقي يقول ... فذكره بمثله، وذكره أيضًا الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" عن أحمد بن إبراهيم الدورقي. وقال ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل": "سمعت أبا جعفر محمد بن هارون المخرمي المعروف بالفلاس يقول: إذا رأيت الرجل يقع في أحمد بن حنبل فاعلم أنه مبتدع ضال"، وروى ابن أبي حاتم أيضًا بإسناده إلى قتيبة بن سعيد أنه قال: "إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة وجماعة"، وروى أيضًا بإسناده إلى قتيبة بن سعيد أنه قال: "إذا رأي الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه على الطريق"، وقال عبد الرحمن أيضًا: "سمعت أبي يقول: إذا رأيتم الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة". ونقل القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة" عن أبي على الحداد أنه روى بإسناده عن محمد بن الحسين الأنماطي، قال: "كنا في مجلس فيه يحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وجماعة من كبار العلماء، فجعلوا يثنون على أحمد بن حنبل ويذكرون فضائله، فقال رجل: لا تكثروا بعض هذا القول، فقال يحيى بن معين: وكثرة الثناء على أحمد بن حنبل تستنكر؟! لو جلسنا مجلسًا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها"، وقد رواه الخطيب البغدادي عن أبي نعيم الحافظ، حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني، أخبرنا محمد بن الحسين الأنماطي ... فذكره بمثله. فهذا قليل من كثير من ثناء أكابر العلماء على الإمام أحمد، وتشديدهم على من يعيبه، ومن أراد الزيادة على ذلك فليرجع إلى الكتب المؤلفة في مناقب أحمد وإلى ترجمته في الكتب التي يذكر فيها تراجم العلماء.

فانظروا أيها المنصفون إلى ما قاله أكابر العلماء في فضل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وكثرة الثناء عليه، ثم انظروا إلى شذوذ ابن محمود ومخالفته لأكابر العلماء، حيث زعم أن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- كان ممن ينقل الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقه، وأنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه، وأنهم ذكروا ذلك في ترجمة ابن سعد. وأقول: لا صحة لشيء مما زعمه ابن محمود، وقد راجعت ترجمة ابن سعد في عدة كتب من كتب التراجم والتواريخ، فما رأيت أحدًا منهم ذكر عن الإمام أحمد أنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه، وإنما ذكروا عنه أنه كان يرسل إلى ابن سعد يستعير منه أجزاء من حديث الواقدي، فينظر فيها ليعرفها ويعتبر بها ثم يردها، وبين استعارة الاجزاء لنقلها وبين استعارتها للنظر فيها ومعرفتها والاعتبار بها فرق شاسع، ولكن ابن محمود حرف الكلام ليتسنى له الطعن في الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، فأين الأمانة في النقل يا ابن محمود؟ وأين التقوى والخوف من الله؟! الوجه الخامس: ما ذكره القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة": "عن الربيع بن سليمان، قال: قال لنا الشافعي -رضي الله عنه-: "أحمد إمام في ثمان خصال؛ إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة"، قال القاضي: وصدق الإمام الشافعي في هذا الحصر". انتهى. ولا أعلم عن أحد من العلماء أنه أنكر شيئا من هذه الخصال التي وصف بها الشافعي أحمد بن حنبل، وإذا كان أحمد إمامًا في الورع، فكيف يظن به أنه كان ممن ينقل الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقه، وأنه كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه؟ هذا قول ظاهر البطلان، وهو من ظن السوء بأحمد، ولا شك أن أحمد منزه عن هذا الظن السيء. الوجه السادس: أن يقال: إن المنصف عندما ينظر في مجازفة ابن محمود التي زعم فيها أن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- كان ممن ينقل الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقه، يجد أن ابن محمود نفسه قد وقع فيما هو أعظم من ذلك؛ حيث أنه كان ينقل الغث والسقيم من أراء العصريين وتخرصاتهم وأقوالهم الباطلة، ويعتمد .................................

قول الشافعي لأحمد إذا صح لكم الحديث فقولوا لي حتى أذهب إليه

عليها في مخالفة الأحاديث الثابتة وإطراحها، ويجد أيضًا أنه يسوق كلام بعض العصريين بالنص أو ببعض التصرف في العبارة، ولا ينسبه إليهم بل يجعله من كلام نفسه، ويجد أيضًا أنه يتقول على بعض العلماء، وينسب إليهم أقوالاً لا توجد في كتبهم، ولم ينقلها العلماء الأمناء عنهم، ولا سيما في الحكم على بعض الأحاديث بالضعف أو الوضع، وقد بينت ذلك في مواضعه من هذا الكتاب، وأشرت إلى مواضع ذلك في رسالة ابن محمود ليراجعه من أراد الوقوف عليه. وأما قوله: وكان الشافعي يقول للإمام أحمد: "إذا ثبت عندك الحديث فارفعه إلي حتى أثبته في كتابي". فجوابه: أن أقول: إني لم أر هذا منقولا عن الشافعي، وإنما المنقول عنه ما ذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين" عن عبد الله بن الإمام أحمد أنه قال: "قال أبي: قال لنا الشافعي: إذا صح لكم الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقولوا لي حتى أذهب إليه"، وقد رواه أبو نعيم في "الحلية"، عن سليمان بن أحمد الطبراني، قال: "سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قال محمد بن إدريس الشافعي: يا أبا عبد الله، إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرونا به حتى نرجع إليه"، وروى أبو نعيم أيضًا عن الطبراني قال: "سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: يا أبا عبد الله، أنت أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيًا كان أو بصريًا أو شاميًا"، ورواه القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة" بإسناده إلى عبد الله بن الإمام أحمد قال: "قال لي أبي: قال لنا الشافعي: أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحًا فأعلموني، إن شاء أن يكون كوفيًا أو بصريًا أو شاميًا، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحًا" قال القاضي أبو الحسين وهذا من دين الشافعي حيث سلَّم هذا العلم لأهله. قلت: وعلى تقدير أن يكون الشافعي قال للإمام أحمد إذا ثبت عندك الحديث فارفعه إلي حتى أثبته في كتابي فهذا ليس من التقليد كما زعم ذلك ابن محمود، وإنما هو من الرواية بالإجازة، وذلك جائز ومعمول به عند المحدثين. وأما قول ابن محمود: وكذلك سائر علماء كل عصر ينقل بعضهم عن بعض ... إلى آخر كلامه.

الثناء على أئمة الجرح والتعديل وعلى أعمالهم الجليلة

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن أقول: إني لا أعلم أحدًا قبل ابن محمود عاب رواية المحدثين بعضهم عن بعض وجعل ذلك من التقليد، وكذلك لا أعلم أحدا قبله عاب نقل بعض العلماء كلام البعض الآخر وجعل ذلك من التقليد، فهذا قول باطل أحدثه ابن محمود وانفرد به، وهو مردود عليه. الوجه الثاني: أن يُقال: إن بعض العلماء إذا نقلوا الحديث أو القول عن البعض الآخر صححوا الصحيح منه وقبلوه، وزيفوا الزائف منه وروده، ومن كان هكذا فهو مجتهد وليس بمقلد، ومن زعم أنه مقلد فهو يعرف الفرق بين الاجتهاد والتقليد، وأما من ينقل الحديث أو القول وهو لا يعرف الفرق بين الصحيح منه وغير الصحيح بل يقبله على ما فيه فهذا هو المقلد، وليس كل المحدثين والفقهاء في كل عصر من المقلدين كما زعمه ابن محمود، بل منهم المجتهدون ومنهم المقلدون. وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأكثر المحدثين في زمانهم وقبله وبعده كلهم من المجتهدين كما لا يخفى على من له علم ومعرفة بهم. الوجه الثالث: أن يقال: إن انتشار أحاديث المهدي في كتب المعاصرين لأبي داود ومن قبلهم ومن بعدهم، مثل انتشار أحاديث الإيمان، والعلم، والأحكام، والفضائل، وتفسير القرآن، والفتن والملاحم، وأشراط الساعة، وما جاء في ذكر القيامة، والجنة والنار، وغير ذلك من الأحاديث المرفوعة والأحاديث الموقوفة التي قد خرجها أهل العلم في كتبهم، وأعني بها كتب المعاصرين لأبي داود ومن قبلهم ومن بعدهم، فكثير من الأحاديث التي أشرنا إليها تُخرَّج بالرواية من كتاب إلى كتب كثيرة، ومن عالم إلى ألوف من العلماء، فإذا كان ابن محمود يرى أن الناس كلهم مقلدة، وأن رواية العلماء بعضهم عن بعضهم من التقليد المذموم، فمعنى هذا إبطال الأحاديث كلها، والقضاء على السنة بالكلية، ولا فرق إذا بين الصحيحين وغيرهما من الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها من كتب الحديث، ولا بين أحاديث المهدي وغيرها من الأحاديث. الوجه الرابع: أن يقال: إن الله -تعالى- قد أقام للسنة المحمدية جهابذة نقادًا، بينوا أحوال الرواة وميزوا الثقات من المجروحين، وبينوا أسماء الوضاعين، وميزوا الأحاديث الصحيحة والحسنة من الأحاديث الضعيفة والمنكرة والواهية والموضوعة، ونبهوا على ما يقع في بعض الأسانيد والمتون من الأخطاء، ولم يتركوا شيئًا مما يتعلق بالأحاديث ............

حكم ابن محمود على نفسه بأنه من المقلدة

والمحدثين إلا وقد نبهوا عليه، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء؛ فلقد تركوا الأمر واضحًا جليًا لمن أراد الله هدايته، ومن أراد الله فتنته وشقاءه فلا حيلة في الأقدار. الوجه الخامس: أن يقال: إن ابن محمود قد وقع فيما هو أسوأ مما عاب به العلماء المحدثين والفقهاء المتقدمين وسائر علماء كل عصر، وذلك لأنه قد نقل في رسالته من كتب العصريين، وأكثر النقل عنهم، واعتمد على أقوالهم الباطلة في رد أحاديث المهدي وتكذيبها, وبعض العصريين يقلد بعضًا في رد أحاديث المهدي، كما لا يخفى على من نظر في كتبهم، وقد نقل ابن محمود أقوالهم على علاتها، فوقع في العيب الذي عاب به المحدثين والفقهاء وسائر العلماء، وحكم على نفسه بأنه من المقلدة وليس من المحققين المجتهدين، وهذا الحكم لازم له من كلامه الذي تقدم ذكره شاء أم أبى، وسأذكر نقوله عن العصريين وأتبعها بالرد -إن شاء الله تعالى-، وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال: يا أيها الرجل المُعلِّم غيره ... هلَّا لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما تقول ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم ثم إنه يظهر من كلام ابن محمود مع نقله عن العصريين واعتماده على أقوالهم، أنه يرى أنهم هم القليل المحققون المجتهدون المعدودون عنده من أهل العلم؛ لكونهم قابلوا أحاديث المهدي بالرد والإطراح، وأما من سواهم من العلماء من المتقدمين والمتأخرين فكلهم عنده من المقلدين؛ لأنهم قابلوا ما صح من أحاديث المهدي بالقبول والتسليم، ولا شك أن هذا من انقلاب الحقائق عند ابن محمود. وقال ابن محمود في صفحة (8): "وقد عقدت في الرسالة فصلا عنوانه "التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر" شرحتُ فيه سائر الأحاديث التي رواها أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والإمام أحمد، والحاكم، بما لا مزيد عليه فليراجع، وبينت في الرسالة أن أحاديث المهدي ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة بالمعنى".

نقله كلاما لابن القيم مع الاختصار المخل ليجعله حجة له وهو حجة عليه

والجواب: عن هذا سيأتي في الكلام على الفصل الذي ذكره -إن شاء الله تعالى- ويظهر من قوله بما لا مزيد عليه أنه معجب بكلامه، الذي زعم أنه تحقيق، وما هو في الحقيقة إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا. وإنه لينطبق عليه قول الشاعر: ودعوة المرء تطفي نور بهجته ... هذا بحق فكيف المدعى زللا وقال ابن محمود في صفحة (8): "وقد أسلفنا كلام الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- فيها، وأن طائفة أنكروها بتاتًا، ومثله العلامة ابن القيم -رحمه الله- فقد قال في كتابه "المنار المنيف في الصحيح والضعيف": "اختلف الناس في المهدي على أربعة أقوال؛ أحدها أنه المسيح ابن مريم وهو المهدي على الحقيقة، الثاني أنه المهدي ابن المنصور الذي ولى من بني العباس وقد انتهى زمانه، الثالث أنه رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان، وأكثر الأحاديث على هذا، الرابع قول الإمامية، وأنه محمد بن الحسن العسكري". فهذه الأقوال على اختلافها تدل على أن القضية هي موضع نزاع وخلاف في قديم الزمان وحديثه، وليست بموضع اتفاق". والجواب: أن يقال: أما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فقد تقدم الجواب عنه (¬1)، وأن فيه ردًا على ابن محمود؛ لأن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- قد صرح أن الطائفة التي أنكرت أحاديث المهدي قد غلطت في الإنكار، وصرح أيضًا أن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة، وقد رد الشيخ على من أنكرها، فليراجع ما تقدم. وأما ابن القيم -رحمه الله تعالى- فقد ذكر ثلاثة أقوال لأهل السنة، وقولا رابعًا للرافضة الإمامية، ورجح القول الثالث من أقوال أهل السنة؛ وهو أن المهدي رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، من ولد الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورًا وظلمًا، فيملؤها قسطًا وعدلا، قال وأكثر الأحاديث على هذا تدل، وقد تقدم كلامه في أول الكتاب فليراجع (¬2)، وتقدم أيضًا عنه أنه صحح حديثي ابن مسعود وأبي هريرة في ذكر المهدي، وقال في رواية أبي داود عن أبي سعيد إسناده جيد، وقال في حديث أم سلمة أنه حسن ومثله مما ................................................................. ¬

_ (¬1) ص (58). (¬2) ص (29 - 31).

معنى الرد إلى الله وإلى الرسول

يجوز أن يقال فيه صحيح، وقال في حديث جابر الذي رواه الحارث بن أبي أسامة إسناده جيد، فكلام ابن القيم فيه أبلغ رد على ابن محمود وليس فيه تأييد لقوله، وقد اختصر ابن محمود كلام ابن القيم اختصارًا يخل به، وحذف منه ما فيه حجة عليه؛ وهو ما صرح به ابن القيم من التصحيح لبعض أحاديث المهدي وتقرير خروجه في آخر الزمان، وما رجحه من أقوال أهل السنة، وذكر أن الأحاديث تدل عليه. ولا يخفى ما في صنيع ابن محمود من التلبيس وعدم الأمانة في النقل، وقد قال عبد الرحمن بن مهدي: "إن أهل السنة ينقلون ما لهم وما عليهم، وإن أهل البدعة ينقلون ما لهم ولا ينقلون ما عليهم"، وما ذكره عن أهل البدعة فهو مطابق لصنيع ابن محمود في هذا الموضع وفي عدة مواضع من رسالته غاية المطابقة. وأما قول ابن محمود: فهذه الأقوال على اختلافها تدل على أن القضية موضع نزاع وخلاف في قديم الزمان وحديثه وليست بموضع اتفاق. فجوابه: أن يقال: قد قال الله -تعالى- في كتابه العزيز: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}؛ والرد إلى الله تعالى هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إليه في حياته، وبعد موته إلى سنته، وقد دلَّت الأحاديث الكثيرة على أن المهدي من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يخرج في آخر الزمان، فيملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، فهذا القول هو المعتمد وما سواه فهو مردود. وقال ابن محمود في صفحة (9): "ومن لوازم قوله أن ما يزعمونه من خروج المهدي المجهول في عالم الغيب أنه لا حقيقة له، لكن المتعصبين لخروجه لما طال عليهم الأمد ومضى من الزمان أربعة عشر قرنًا، وما يشعرني أن يأتي من الزمان أكثر مما مضى بدون أن يروه حتى تقوم الساعة، لهذا أخذوا يمدون في الأجل ليثبتوا بذلك استقامة قولهم عن السقوط، فأخذوا يبثون في الناس بأنه لن يخرج إلا زمن عيسى ابن مريم، مع العلم أن الأحاديث التي بأيديهم والتي يزعمونها صحيحة ومتواترة والتي رواها الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، أنها وردت مطلقة لم تقيد بزمن عيسى، إلا حديث صلاة عيسى خلف المهدي، قال الذهبي وعلي القاري أنه موضوع أي مكذوب فسقط الاحتجاج به". والجواب: أن يقال: أما قول ابن محمود: ومن لوازم قوله أن ما يزعمونه من خروج ..

زعمه أن الإيمان بالمهدي من التعصب والرد عليه

المهدي المجهول في عالم الغيب أنه لا حقيقة له؛ إن أراد أن من لوازم قول ابن القيم إنكار المهدي الذي تزعمه الرافضة وهو محمد بن الحسن العسكري فهذا صحيح بل هو صريح كلام ابن القيم، وإن أراد أن من لوازم إنكار خروج رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر الزمان يسمى المهدي فهذا خطأ، وإلزام لقول ابن القيم بما هو مخالف له، والظاهر من كلام ابن محمود أنه أراد هذا القول الأخير، ولا شك أنه من التقول على ابن القيم؛ لأنه قد تقدم عنه أنه ذكر في المهدي ثلاثة أقوال لأهل السنة؛ ثالثها أنه من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورا وظلمًا فيملؤها قسطًا وعدلا، ثم رجح هذا القول بقوله: وأكثر الأحاديث على هذا تدل. وأما قول ابن محمود في المهدي أنه مجهول في عالم الغيب. فجوابه: أن يقال: إن كان المهدي مجهولا عند ابن محمود وأضرابه من العصريين، فهو معلوم عند علماء أهل السنة والجماعة، وقد تلقوا العلم به عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وأما كون المهدي في عالم الغيب الآن، فسبيله سبيل ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقع في آخر الزمان؛ مثل خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم وقتله الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، ووقوع الخسوف الثلاثة التي يكون أحدها في جزيرة العرب، وخروج النار التي تطرد الناس إلى محشرهم، وكذلك انحسار الفرات عن كنز من ذهب أو جبل من ذهب، وكذلك خروج القحطاني والجهجاه، إلى غير ذلك مما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقع في آخر الزمان. فهل يقول ابن محمود بإنكار هذه الأمور كلها من أجل أنها الآن في عالم الغيب، أم يخص الإنكار بالمهدي؟ فإن خص الإنكار بالمهدي طُولِب بالفرق بينه وبين الأمور العظام التي قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقوعها في آخر الزمان، وإن أنكر الجميع فحكم ذلك لا يخفى على طالب العلم. وأما زعمه أن المهدي لا حقيقة له، فهو من مجازفاته التي قالها من غير تثبت. وأما قوله: لكن المتعصبين لخروجه لما طال عليهم الأمد بدون أن يروه أخذوا يمدون في الأجل .... إلى آخر كلامه. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان .......

ذكر الأحاديث في صلاة عيسى خلف المهدي

سبيله سبيل الإيمان بما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغيوب الماضية قبل زمانه، والغيوب الآتية بعد زمانه إلى قيام الساعة، وما يكون بعد ذلك، إلى أن يدخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، وما يكون بعد ذلك، فمن زعم أن الإيمان بخروج المهدي من التعصب طولب بالفرق بينه وبين غيره من أنباء الغيب، ولن يجد إلى الفرق الصحيح سبيلا البتة، اللهم إلا أن يكون بالمجازفة والمكابرة في رد الأحاديث الثابتة في المهدي فهذا واقع. الوجه الثاني: أن يقال: إن التعصب في الحقيقة هو التعصب لآراء العصريين الذين أنكروا خروج المهدي في آخر الزمان، وأنكروا الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فهذا من أقبح التعصب، وأما الإيمان بما جاء في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس من التعصب، وإنما هو من تحقيق الشهادة بالرسالة. الوجه الثالث: أن يقال: إن المهدي سيخرج في آخر الزمان قطعًا كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في عدة أحاديث صحيحة، وليس أحد من الخلق يعلم شيئًا عن طول الزمان الذي يكون قبل خروج المهدي، قال الله -تعالى-: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}. وأما صلاة عيسى ابن مريم خلف المهدي فقد ثبت ذلك في حديث جابر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة» رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده؛ حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا إبراهيم بن عقيل، عن أبيه، عن وهب بن منبه، عن جابر -رضي الله عنه-، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "المنار المنيف": "وهذا إسناد جيد"، وقد رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -، فيقول أميرهم: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله -عز وجل- هذه الأمة» فهذه الرواية الصحيحة تشهد لرواية الحارث بن أبي أسامة، ويشهد له أيضًا ما رواه ابن ماجة، وابن خزيمة، والحافظ الضياء المقدسي، من حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- وهو حديث طويل فيه ذكر خروج الدجال ونزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- وفيه: فقالت أم شريك بنت أبي العكر:

تقول ابن محمود على الذهبي والقاري والرد عليه

يا رسول الله، فأين العرب يومئذ؟ قال: «هم يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى؛ ليتقدم عيسى يصلي بالناس، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصلِّ فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم» الحديث، وفيه النص على أن إمام المسلمين عند نزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- رجل صالح، والمهدي إنما سمي مهديًا لصلاحه، ولأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت قبله جورًا وظلمًا. وأما قول ابن محمود في حديث صلاة عيسى خلف المهدي: قال الذهبي وعلى القاري أنه موضوع أي مكذوب، فسقط الاحتجاج به. فجوابه: أن أقول: أما الذهبي فما رأيت له كلامًا في حديث صلاة عيسى خلف المهدي، والظاهر أن ابن محمود قد قال عليه ما لم يقل بدليل ما سيأتي فيما نقله عن علي القاري، فإن كان ابن محمود صادقًا فيما نقله عن الذهبي فليذكر الكتاب الذي وجد فيه ذلك، وليذكر موضعه من الكتاب؛ حتى يبرأ من عهدة النقل، وحتى يراجع كلام الذهبي من أراد الاطلاع عليه. وأما علي القاري فقد صرح في كتابه "الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة" بخلاف ما نسبه إليه ابن محمود، وهذا نص كلامه في صفحة (459) من النسخة التي حققها محمد الصباغ، والتي طبعت في بيروت سنة 1391هـ من الهجرة، بعد أن ذكر فضائل بيت المقدس قال: "وكذا ثبت أن المهدي مع المؤمنين، يتحصنون به من الدجال، وأن عيسى -عليه السلام- ينزل من منارة مسجد الشام، فيأتي فيقتل الدجال، ويدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، فيقول المهدي: تقدم يا روح الله، فيقول: إنما هذه الصلاة أقيمت لك، فيتقدم المهدي ويقتدي به عيسى -عليه السلام- إشعارًا بأنه من جملة الأمة، ثم يصلي عيسى -عليه السلام- في سائر الأيام". انتهى كلام القاري. وقد وقع في كلامه تقديم قتل عيسى للدجال على صلاته مع المهدي، وهذا مخالف لما جاء في حديثي جابر وأبي أمامة الباهلي -رضي الله عنهما-؛ أن عيسى يصلي مع المسلمين صلاة الصبح ثم يخرج إلى الدجال فيقتله، وهما حديثان صحيحان، وقد ذكرتهما وذكرت من خرجهما في الجزء الثاني من "إتحاف الجماعة" في "باب ما جاء في فتنة الدجال"، فليراجعهما من أحب الوقوف عليهما.

الرد على ما نقله ابن محمود عن المودودي

وإذا علم هذا، فنقول: لو أن رجلا كان في زمان شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، أو في زمان الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، ومن كان في طبقتهم من أئمة الجرح والتعديل، ثم فعل مثل ما فعل ابن محمود فيما نسبه إلى الذهبي، وفي نقله عن علي القاري خلاف ما قال في حديث صلاة عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام- خلف المهدي لقال فيه أئمة الجرح والتعديل أعظم قول، وربما ألحقوه بوهب بن وهب القاضي، ومحمد بن السائب الكلبي، ومحمد بن سعيد المصلوب، وأمثالهم ممن لا تقبل أحاديثهم ولا يعتد بأقوالهم. وقال ابن محمود في صفحة (9) وصفحة (10): "وكلام العلماء من المتأخرين كثير، وأعدل من رأيته أصاب الهدف في قضية المهدي هو أبو الأعلى المودودي؛ حيث قال في رسالة اسمها "البيانات عن المهدي" أن الأحاديث في هذه المسألة على نوعين؛ أحاديث فيها الصراحة بكلمة المهدي، وأحاديث إنما أخبر فيها بخليفة يولد في آخر الزمان ويعلي كلمة الإسلام، وليس سند أي رواية من هذين النوعين من القوة حيث يثبت أمام مقياس الإمام البخاري لنقد الروايات، فهو لم يذكر منها أي رواية في صحيحه، وكذلك ما ذكر منها الإمام مسلم إلا رواية واحدة في صحيحة، ولكن ما جاءت فيها أيضًا الصراحة بكلمة المهدي، وقال لا يمكن بتأويل مستبعد أن في الإسلام منصبًا دينيا يعرف بالمهدوية يجب على كل مسلم أن يؤمن به، ويترتب على عدم الإيمان به طائفة من النتائج الاعتقادية والاجتماعية في الدنيا والآخرة، وقال مما يناسب ذكره بهذا الصدد أنه ليس من عقائد الإسلام عقيدة عن المهدي، ولم يذكرها كتاب من كتب أهل السنة للعقائد". انتهى. والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن المودودي لم يصب الهدف في قضية المهدي، ولم يقارب الإصابة، بل إنه قد أبعد غاية البعد عن الهدف، وسلك سبيل العصريين الذين تعسفوا في تضعيف أحاديث المهدي، ولم يبالوا بردها. الوجه الثاني: أن يقال: ليس من شرط الحديث الصحيح الذي يجب قبلوه أن يثبت سنده، أما مقياس البخاري، بل كل ما رواه الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ثابت لا يجوز تركه إلا أن يوجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث آخر يخالفه، فحينئذ ينظر فيهما فإن أمكن الجمع وإلا أخذ بأقواهما، ولو تركت الأحاديث الصحيحة التي لا تثبت أسانيدها أمام مقياس البخاري لترك من السنة ................................................

شيء كثير جدًا، وقد روى الإسماعيلي عن البخاري أنه قال: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، وما تركت من الصحيح أكثر"، وروى ابن عدي عن إبراهيم بن معقل النسفي قال: "سمعت البخاري يقول: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحيح حتى لا يطول"، وعلى هذا فإعراض البخاري عن إخراج أحاديث المهدي في صحيحه لا يؤثر في صحتها، لأنه قد صرح أن ما تركه من الصحيح أكثر مما ذكره في صحيحه، وكذلك مسلم فإنه قد قال في صحيحه في آخر "باب التشهد في الصلاة": "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه". ومما ذكره الإسماعيلي والنسفي عن البخاري وما قاله مسلم في صحيحه، يعلم أنه لا يَقدح في أحاديث المهدي ويحتج بأعراض البخاري ومسلم عن إخراجها في صحيحيهما إلا من هو متكلف ومتعسف في رد الأحاديث الثابتة. الوجه الثالث: قد ذكرت في أول الكتاب أحاديث كثيرة في ذكر المهدي، وذكرت من صححها من أكابر العلماء، وفي بعضها التصريح باسم المهدي، وفي بعضها الإخبار عنه بأنه من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي دالة على إثبات خروج المهدي في آخر الزمان، وفيها أبلغ رد على من نفى خروجه ومن زعم أنه ليس في الإسلام منصب ديني يعرف بالمهدوية. الوجه الرابع: أن يقال: كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر به من أنباء الغيب مما مضى وما سيأتي فإنه يجب على كل مسلم الإيمان به، وذلك من تحقيق الشهادة بالرسالة، ويترتب على عدم الإيمان به عدم تحقيق الشهادة بالرسالة، وذلك من أسوأ النتائج الاعتقادية ومما يضر في الدنيا والآخرة، وقد ثبتت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، فوجب على كل مسلم الإيمان بخروجه، كما يجب عليه الإيمان بغير ذلك مما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقع قبل قيام الساعة؛ من خروج الدجال، ونزول عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج، وغير ذلك من أشراط الساعة، وكذلك الإيمان بالنفخ في الصور، وما يكون بعد ذلك في يوم القيامة، حتى يدخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، وما يكون بعد ذلك. فكل ذلك من باب واحد يجب على كل مسلم الإيمان بما جاء منه في القرآن وفي الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن رد شيئًا مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يخشى عليه أن لا يقبل ....................

زعمه أنه لا ينكر على من أنكر المهدي والرد عليه

إيمانه بما آمن به مما سواه. وقد تقدم قول البربهاري في كتابه "شرح السنة": "من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله، ومن رد حديثًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد رد الأثر كله، وهو كافر بالله العظيم". انتهى، وتقدم له في هذا الموضوع كلام أكثر من هذا، فليراجع (¬1). وأما قوله: أنه ليس من عقائد الإسلام عقيدة عن المهدي، ولم يذكرها كتاب من كتب أهل السنة للعقائد. فالجواب: عنه قد تقدم في أول الكتاب عند قول ابن محمود تقليدًا لأحمد أمين "وإن فكرة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء" فليرجع إليه (¬2). وقال ابن محمود في صفحة (10): "والحاصل الذي نعتقده وندين الله به أنه لا مهدي ينتظر بعد الرسول محمد خير البشر، وأنه لا ينكر على من أنكره، إذ إنكاره لا ينقص من الإيمان، وإنما يتوجه الإنكار على من يجادل في وجوده وصحة خروجه". والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وقد قال الله -تعالى-: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}، وقال الله -تعالى-: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا}، وما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب فهو حق وهو من البصائر التي اطلع الله نبيه عليها، قال -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروج المهدي عدة أحاديث، فمن آمن بها فذلك عنوان على تحقيقه لشهادة أن محمدًا رسول الله، ومن ردها فإنما يرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله وخبره، والرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بالأمر الهين وعاقبته وخيمة جدًا، فليحذر العاقل أن يكون مشاقًا لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ومتبعًا غير سبيل المؤمنين وهو يحسب أنه من المهتدين. وقد تقدم قول الإمام أحمد: "كل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إسناد جيد أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره، قال الله -تعالى-: ¬

_ (¬1) ص (52 - 53). (¬2) ص (26 - 31).

{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} "، وتقدم أيضًا قوله في الكلام على قول الله-تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} ". الوجه الثاني: أن يقال: كيف لا ينكر على من استهان بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي وقابلها بالرد والإطراح تقليدًا لبعض العصريين، بل إنه ينبغي التشديد في الإنكار على هذا الضرب من الناس اقتداء بالصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ فإنهم كانوا ينكرون أشد الإنكار على من رد شيئًا من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عارضها برأيه، والآثار عنهم في ذلك كثيرة، وقد ذكرتها في الرد على زنديق مصر المدعو بالسيء صالح أبي بكر، فلتراجع هناك. وأما قوله: وإنما يتوجه الإنكار على من يجادل في وجوده وصحة خروجه. فجوابه: أن يقال: هذا من قلب الحقائق، وفيه تصديق لما جاء في الحديث الذي رواه أبو يعلي والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: «كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا» وهذا الحديث ضعيف، ولكن الواقع من بعض الناس يشهد له ويصدقه. ومن زعم أنه يتوجه الإنكار على من قال بوجود المهدي في آخر الزمان وصحة خروجه، فلازم قوله الإنكار على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه هو الذي أخبر بوجود المهدي في آخر الزمان، ويلزم على قوله أيضا الإنكار على الصحابة الذين رووا الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، وعلى من رواها عنهم من التابعين، ومن رواها بعدهم من أكابر العلماء، ومن خرجها من أكابر المحدثين، وعلى الذين صححوا بعض الأحاديث الواردة في المهدي، وعلى الذين قالوا إنها متواترة، فكل هؤلاء يتوجه الإنكار عليهم عند ابن محمود وعلى حد زعمه، وما أعظم ذلك وأقبحه وأسوأ عاقبته. فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

دعوته العلماء والعقلاء إلى الاتحاد على سوء الاعتقاد والرد عليه

فصل وقال ابن محمود في صفحة (11) وصفحة (12): "دعوة العلماء والعقلاء إلى الاتحاد على حسن الاعتقاد. ثم خطب ودعا إلى الجلوس على بساط البحث والتحقيق عن أحاديث المهدي، وما يقال في صحتها وصلاحيتها وما يجب اعتقاده منها، وأتى فيما بين ذلك بكلام كثير لا طائل تحته، ثم تصدر للحكم في أحاديث المهدي بما أداه إليه رأيه وما أخذه تقليدًا عن بعض العصريين، فقال ما نصه: وأنه بمقتضى التحقيق لها والدرس لرواياتها يتبين بطريق اليقين أن فيها من التعارض والاختلاف وعدم التوافق والائتلاف ووقوع الإشكالات وتعذر الجمع بين الروايات ما يحقق عدم صحتها، ويجعل العلماء المحققين من المتأخرين وبعض المتقدمين يحكمون عليها بأنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وينزهون ساحة رسول الله وسنته عن الإتيان بمثلها، إذ الشبهة فيها يقينية والكذب فيها ظاهر جلي، وحاشا أن يفرض رسول الله على أمته الإيمان برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، لا يعلم زمانه ولا مكانه، وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولن يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تحقيقه والتصديق به، ثم يتقدم أحدهم فيحل نفسه محل هذا المهدي المجهول، ويترتب عليه فتنة في الأرض وفساد كبير، وكل الأحاديث التي يوردونها لتحقيق خروجه متناقضة متعارضة ومختلفة غير مؤتلفة، فما يزعمونه صحيحًا منها فإنه ليس بصريح في الدلالة على ما ذكروا، وما يزعمونه صريحًا وفيه ذكر المهدي فإنه ليس بصحيح، وجماع القول إنها كلها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن ابن محمود لم يدعُ إلى الاتحاد على حسن الاعتقاد في أحاديث المهدي، وإنما دعا إلى سوء الاعتقاد الذي يتضمن تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونبذ الأحاديث الثابتة عنه في المهدي وراء الظهر، فهذه حقيقة دعوة ابن محمود، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. الوجه الثاني: أن يقال: إن ابن محمود لم يدعُ العلماء والعقلاء إلى الجلوس على بساط البحث والتحقيق عن أحاديث المهدي كما زعم، وإنما دعاهم في الحقيقة إلى اتباعه .......

والأخذ برأيه الذي تلقاه تقليدًا عن رشيد رضا وأحمد أمين وغيرهما من العصريين؛ وهو القدح في أحاديث المهدي والحكم عليها بأنها مصنوعة وموضوعة، وهذا ظاهر من كلامه الذي سُقناه. الوجه الثالث: أن يقال: إن كلمة الحق وقول الصدق والاعتصام بحبل الله لا يكون في رد الأحاديث الثابتة ونبذها وراء الظهر، وإنما يكون ذلك في مقابلتها بالقبول والتسليم، قال الله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}. الوجه الرابع: إن كلام ابن محمود الذي سُقته ههنا قد تقدم بعضه فيما نقلته من صفحة (6) وصفحة (7) من كتاب ابن محمود، وقد تقدم الجواب عنه فليرجع إليه (¬1). الوجه الخامس: أن أقول: قد ذكرت في أول الكتاب (¬2) عن عدد كثير من العلماء المتقدمين أنهم صححوا بعض أحاديث المهدي؛ ومنهم الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والعقيلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، والهيثمي. وما علمت عن أحد من العلماء المتقدمين أنه حكم على أحاديث المهدي كلها بالضعف، فضلا عن الحكم عليها بأنها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وأنها أحاديث خرافة، وأنها نظرية خرافية، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، وهذه المبالغة في ذم الأحاديث الثابتة في المهدي لم تذكر عن أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين، وإنما هي من اختراع ابن محمود ومجازفته، وسيقف بين يدي حَكَم عدل لا يظلم مثقال ذرة. فأما المتأخرون من العصريين فلا تستغرب منهم المكابرة في رد الأحاديث الثابتة والحكم عليها بالوضع؛ لأن كثيرًا منهم أهل جراءة على الكلام في الأحاديث والقدح فيها بغير حجة، ولا سيما إذا خالفت أفكارهم أو أفكار من يعظمونه من الغربيين وغير الغربيين، ومن طالع كتبهم وتعاليقهم على الكتب رأى من ذلك الشيء الكثير، ومن زعم أنهم محققون في الحديث فهو لا يعرف التحقيق ولا المحققين. الوجه السادس: أن يقال: إن العلماء الذين صححوا الصحيح من أحاديث المهدي وضعفوا الضعيف منها هم المحققون على الحقيقة، وقد ذكرت كثيرًا منهم .............. ¬

_ (¬1) ص (55 - 58) وص (74 - 76). (¬2) ص (41 - 43).

تنزيهه ساحة الرسول عن الإتيان بمثل أحاديث المهدي والرد عليه

في الكلام على قول ابن محمود في صفحة (4): "وفي الحقيقة أنها كلها غير صحيحة ولا متواترة" فليراجع (¬1). الوجه السابع: أن يقال: إن تنزيه ساحة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته عن الإتيان بمثل أحاديث المهدي لا يقوله عاقل؛ لأن تنزيه ساحة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته إنما يكون عما فيه عيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو ما يقتضي الغض منه أو من سنته، أو التنقص له أو لسنته، أو الاستهزاء به أو بسنته، وليس في أحاديث المهدي شيء من ذلك البتة، وإنما فيها الأخبار عن إمام صالح من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، يخرج في آخر الزمان فيملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت قبله جورا وظلمًا، فهل يقول عاقل إن البشارة بخروج الإمام الذي يكون بهذه الصفة مما تنزه عنه ساحة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته؟! كلا لا يقول ذلك عاقل أبدًا، وإنما يقوله من هو مصاب في دينه وعقله. ومن قال بهذا القول الباطل فلا يبعد منه أن يقول بتنزيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته عن كل ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يكون في آخر الزمان؛ مثل خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، ووقوع الخسوفات الثلاثة في المشرق والمغرب وجزيرة العرب، وخروج النار التي تطرد الناس إلى محشرهم، وكذلك انحسار الفرات عن كنز من ذهب أو جبل من ذهب، وكذلك خروج القحطاني والجهجاه والخليفة الذي يحثو المال حثوًا ولا يعده عدًا. فهذه الأمور لم يقع منها شيء إلى الآن وستقع في آخر الزمان قطعًا لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا علم هذا، فنقول للذي نزه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته عن الإتيان بأحاديث المهدي: هل تقول بتنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته عن جميع الأمور التي تقدم ذكرها، أم تخص التنزيه بأحاديث المهدي؟ فإن قال بالأول فقد شاقق الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتبع غير سبيل المؤمنين شاء أم أبى، ولا يظن بأحد من المسلمين أنه يقول بذلك، وإن خصَّ أحاديث المهدي بالتنزيه طولب بالفرق بينها وبين غيرها من الأمور التي تقدم ذكرها، ولن يجد إلى الفرق الصحيح سبيلا البتة، اللهم إلا أن يكون بالمكابرة والمجازفة فهذا واقع. وأما قول ابن محمود: إذ الشبهة فيها يقينية والكذب فيها ظاهر جلي. ¬

_ (¬1) ص (41 - 43).

قوله إن المهدي لا يعلم زمانه ولا مكانه والرد عليه

فجوابه: أن يقال: هذا من المجازفة، ولا شك أن الأحاديث الثابتة في خروج المهدي خالية من الشبهة ومن الكذب، وقد تقدم إيرادها في أول الكتاب فلتراجع (¬1)، وذكرت أيضًا أقوال المحققين في تصحيحها، وقول عدد منهم أنها متواترة، فليراجع أيضًا (¬2). وأما قوله: وحاشا أن يفرض رسول الله على أمته الإيمان برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، لا يعلم زمانه ولا مكانه، وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولن يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به. فجوابه: أن يقال: قد ذكر ابن محمود أكثر هذا الكلام في صفحة (6)، وتقدم الجواب عنه فليراجع (¬3). وأما قوله: لا يعلم زمانه ولا مكانه. فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: ليس من شرط الإيمان بخروج المهدي أن يعلم المؤمن بزمانه ومكانه، بل يجب الإيمان بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه وإن لم يعلم المؤمن بزمانه ومكانه، وكذلك ما أخبر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن بعض الماضين من الأنبياء وغيرهم، ممن لم يذكر الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - زمانهم ولا مكانهم، فإنه يجب الإيمان بما أخبر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عنهم وإن لم يعلم المؤمن بزمانهم ومكانهم. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروج القحطاني والجهجاه في آخر الزمان، وأخبر أيضًا بالخليفة الذي يكون في آخر الزمان يحثو المال حثوًا ولا يعده عدا، ولم يخبر بزمان هؤلاء ولا مكانهم، فهل يؤمن ابن محمود بخروجهم في آخر الزمان وإن لم يعلم بزمانهم ولا مكانهم، أم يقول إنه لا يجب الإيمان بخروجهم من أجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر بزمانهم ولا مكانهم؟! فإن آمن بخروجهم طولب بالفرق بينهم وبين المهدي، ولن يجد إلى الفرق الصحيح سبيلا، وإن لم يؤمن بخروجهم فما أعظم ذلك وأبشعه؛ لما فيه من رد الأحاديث الثابت بعضها في الصحيحين وبعضها في صحيح مسلم، ولو كان في العلم بزمان المهدي ومكانه فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم أو ................ ¬

_ (¬1) ص (9 - 17). (¬2) ص (41 - 45). (¬3) ص (55 - 57).

الرد على زعمه أن الرسول لو أخبر بالمهدي لترك أمته يتقاتلون على حساب تحقيقه

دنياهم لبيَّن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يهمله؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. الوجه الثاني: أن يقال: قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يعلم به زمان المهدي ومكانه؛ فأما زمانه فقد جاء في حديث جابر -رضي الله عنه- الذي رواه الحارث بن أبي أسامة وتقدم ذكره في أول الكتاب (¬1)؛أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- يصلي خلف المهدي أول ما ينزل، فدل هذا على أن زمان المهدي يكون قبل نزول عيسى وبعد نزوله، ولا يعلم وقت نزول عيسى على التعيين إلا الله -تعالى-، وأما مكانه فقد جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- الذي تقدم ذكره في أول الكتاب (¬2)؛ أنه يبايع له بين الركن والمقام، وجاء في حديث جابر -رضي الله عنه- أن عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام- يصلي خلف المهدي أول ما ينزل، فدل على أنه يكون حينئذ في الشام، والله أعلم. وأما قوله: ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تحقيقه والتصديق به، ثم يتقدم أحدهم فيحل نفسه محل هذا المهدي المجهول، ويترتب عليه فتنة في الأرض وفساد كبير. فجوابه: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، ولم يأمر بالقتال على حساب تحقيقه والتصديق به، ولم يأت عنه أن المهدي يقاتل الناس على التصديق به، بل ظاهر الأحاديث أن ولايته تتم بدون قتال، وجاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن الناس يخرجونه وهو كاره فيبايعونه، ثم بعد ذلك يجيء الجيش الذي يريد قتاله فيخسف بهم بالبيداء، وهذا بخلاف من يزعم لنفسه أنه المهدي ويدعو الناس إلى مبايعته ويقاتل الناس على ذلك، فحال هؤلاء الكذابين وأفعالهم تخالف حال المهدي وأفعاله. وأما قوله: وكل الأحاديث التي يوردونها لتحقيق خروجه متناقضة متعارضة، ومختلفة غير مؤتلفة ...... إلى آخر كلامه الذي تقدم ذكره قريبًا. فجوابه: أن يقال: قد تقدمت هذه الجمل فيما نقلته من صفحة (4) وصفحة (6) وصفحة (7) من كتاب ابن محمود، وتقدم الجواب عنها مفرقًا عند ذكر هذه الجمل، فليراجع ذلك في مواضعه (¬3). ¬

_ (¬1) ص (17). (¬2) ص (16 - 17). (¬3) ص (41 - 45).

تهجمه على شيخ الإسلام ابن تيمية والرد عليه

وقال ابن محمود في صفحة (12) وصفحة (13): "لكن قد يعرض لتحقيق ما قلنا قول بعضهم بأن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال بصحة خروج المهدي، وهو العالم المحقق المشهود له بصحيح الرواية وصريح الدراية، وأقول: نعم، وإنني رأيت لشيخ الإسلام قولا يثبت فيه بأنه ورد في المهدي سبعة أحاديث رواها أبو داود، وكنت في بداية نشأتي أعتقد اعتقاد شيخ الإسلام؛ حيث تأثرت بقوله حتى بلغت سن الأربعين من العمر، وبعد أن توسعت في العلوم والفنون ومعرفة أحاديث المهدي وعللها وتعارضها واختلافها، فبعد ذلك زال عني الاعتقاد السيئ والحمد لله، وعرفت تمام المعرفة بأنه لا مهدي بعد رسول الله وبعد كتاب الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هو حبيبنا وليس بربنا ولا نبينا، وقد قيل كم فات على العالم النحرير ما عسى أن ينسب فيه إلى الخطأ والتقصير، وهو كسائر علماء البشر، فلا يحيط بكل شيء علمًا، فقد يحفظ شيئًا وينسى أشياء، إذ الكمال لله -سبحانه- الذي لا راد لحكمه ولا معقب لكلماته، وقد شبهوا زلة العالم بغرق السفينة، يغرق بغرقها الخلق الكثير، وكم غرق في كلمة شيخ الإسلام هذا كثير من العلماء والعوام حين اعتقدوا صحة خروج المهدي، فكان من لقيته من العلماء والعوام يحتج بكلام شيخ الإسلام -رحمه الله-. ولعل هذا القول خرج منه في بداية عمره قبل توسعه في العلوم والفنون، وهو مجتهد ومأجور على اجتهاده، إذ يقول العالم المحقق قولا ضعيفًا مرجوحًا، فلا يكون المقلد لقوله والمنتصر لرأيه بمثابته في حصول الأجر وحط الوزر، بل فرضه الاجتهاد والنظر، فكم من عالم كان يقول أقوالا في بداية عمره ثم يتبين له ضعفها فيقول بخلافها". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن كلام ابن محمود ظاهر في إعجابه بنفسه، وما أعظم الخطر في ذلك لما رواه الترمذي عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم». قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، قال المنذري: "قوله: "يذهب بنفسه" أي يترفع ويتكبر". وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم تذنبوا لخشي عليكم ما هو أكبر منه، العجب» رواه البزار، قال المنذري والهيثمي: "وإسناده جيد"، وروى البزار أيضًا عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ثلاث منجيات ..............

حديث "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت"

وثلاث مهلكات» فذكر الحديث وفيه: «وأما المهلكات؛ فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه». وقد قال الشاعر، وأحسن فيما قال: ودعوة المرء تطفي نور بهجته ... هذا بحق فكيف المدعي زللا ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه. الوجه الثاني: أن يقال: إن ابن محمود قد أتى في هذه الجملة من كلامه بثالثة الأثافي من التهجم على كبار الأئمة والتعسف في طلب العيوب لهم، فقد سبق له أن تهجم على الشافعي وأحمد في صفحة (8)، وأما في هذا الموضع فقد وجه الطعن إلى شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فزعم أن قوله بصحة خروج المهدي من الاعتقاد السيئ الذي ينسب فيه إلى الخطأ والتقصير، وأن كلمته - أي قوله بصحة خروج المهدي- زلة غرق فيها كثير من العلماء والعوام. هكذا جازف ورمى شيخ الإسلام بما هو بريء منه، وقد روى الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، وابن ماجة، عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت». والمعنى على أحد الأقوال أن من لا يمنعه الحياء يقول ويفعل ما يشاء ولا يبالي، وقد قال الشاعر، وأحسن فيما قال: لا يضر البحر أمسي زاخرًا ... أن رمى فيه غلام بحجر الوجه الثالث: أن يقال: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج المهدي، وروى ذلك عنه عدد كثير من الصحابة؛ منهم علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وجابر، وأم سلمة -رضي الله عنهم- وقد ذكرت أحاديثهم في أول الكتاب (¬1)، ورواها عن الصحابة جمٌّ غفير من التابعين، ورواها عنهم كثير ممن بعدهم، وخرجها أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم من الأئمة، وصححها كثير من كبار العلماء، ونص كثير منهم على أنها متواترة، وقد ذكرت ذلك في الكلام على قول ابن محمود في صفحة (4) أن أحاديث المهدي غير صحيحة ولا متواترة (¬2)، فإذا كان ابن محمود يرى أن القول بخروج المهدي من الاعتقاد السيئ ومن زلات العلماء، وأن من قال ذلك نسب إلى الخطأ والتقصير، قيل له يلزم على قولك أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين رووا عنه أحاديث المهدي ................................................................. ¬

_ (¬1) ص (9 - 17). (¬2) ص (41 - 45).

ذكر الخلل الذي دخل على ابن محمود في علمه وعقيدته بعد توسعه المزعوم في العلوم والفنون. وذكر نماذج من أخطائه وشطحاته

متصفين بما قلته في شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن شيخ الإسلام متبع لهم وليس بمبتدع، وكذلك الذين رووا أحاديث المهدي من التابعين ومن بعدهم، ومن خرجها ومن صححها ومن قال إنها متواترة، فكل هؤلاء يلزم على قول ابن محمود أن يكونوا متصفين بما قاله في شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن شيخ الإسلام لم يأت بأحاديث المهدي من عنده ولم ينفرد بتصحيحها، فما قيل فيه من حسن أو ضده فهو متناول باللزوم لمن قال مثل قوله. الوجه الرابع: أن يقال: إن الاعتقاد السيئ في الحقيقة هو اعتقاد بعض العصريين، الذين ينكرون خروج المهدي في آخر الزمان ولا يبالون برد الأحاديث الثابتة فيه ونبذها وراء الظهر، فهؤلاء هم المخطئون وهم المقصرون في الحقيقة، وهم الذين أضلوا الجهال بزلاتهم وأقوالهم الباطلة، وقد قال الله -تعالى-: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وقد تأثر ابن محمود بهؤلاء العصريين الذين أشرنا إليهم بعد أن زال عنه التأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله من أئمة العلم والهدى، ولا شك أن هذا من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. الوجه الخامس: أن يقال: يفهم من فحوى كلام ابن محمود أنه يرى أنه قد نال بعد توسعه في العلوم والفنون أشياء من العلم فاتت على شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا من الأماني التي يتعلل بها بعض الناس، ولا حقيقة لها في الواقع، وقد قال الشاعر: تلك الأماني يتركن الفتى ملكا ... دون السماء ولم ترفع به رأسا الوجه السادس: أن يقال: ما زعمه ابن محمود من توسعه في العلوم والفنون بعد أن بلغ سن الأربعين من العمر قد كان ضررًا عليه وسببًا في دخول الخلل عليه في علمه وعقيدته، وذلك أنه قبل التوسع المزعوم لم يتعرض للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعارضة، ولم يظهر منه ما يدل على الاستخفاف بها وقلة المبالاة بها، فأما بعد التوسع المزعوم فقد صار ذا جراءة على التعرض لبعض الأحاديث الثابتة ونبذها وإطراحها؛ كما فعل ذلك في أحاديث المهدي، وكما يذكر عنه في أحاديث الدجال .................................................

وغير ذلك من أشراط الساعة، ونرجو أن لا يكون ذلك صحيحًا. ومن أقبح الجراءة وصفه للأحاديث الثابتة في المهدي بأنها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وأنها أحاديث خرافة، وأنها نظرية خرافية، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، ومن ذلك ز عمه في صفحة (85) أن التصديق بخروج المهدي من الركون إلى الخيال والمحالات والاستسلام للأوهام والخرافات، ومن ذلك تحكمه على الله -تعالى- وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث قال في صفحة (36) من رسالته في المهدي أن الله -سبحانه- في كتابه، وعلى لسان نبيه، لا يوجب الإيمان برجل مجهول في عالم الغيب، وهو من بني آدم ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك الناس يتقاتلون على التصديق والتكذيب به، وزعم في صفحة (6) وصفحة (58) أن ذلك من المحال، ومن ذلك سخريته واستهزاؤه بالأحاديث الثابتة في المهدي كما في صفحة (46) من رسالته. وكذلك قد صار ذا جراءة على تغيير بعض الأحكام؛ فمن ذلك إقدامه على الإفتاء بتقديم الرمي في أيام التشريق على الوقت الذي فعله فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال للناس: «خذوا عني مناسككم»، ومن ذلك زيادته على المواقيت التي وقتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للإحرام؛ فقد زاد فيها ميقاتًا لم يشرعه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو التوقيت من جدة لركاب الطائرات، ثم أضاف إلى هذا التشريع المبتدع قولا وخيمًا جدًا، وهو قوله: "ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيًا، ويرى كثرة النازلين من أجواء الماء إلى ساحة جدة يؤمون هذا البيت للحج والعمرة، لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها" هكذا قال هدانا الله وإياه. ولا يخفى ما يلزم على هذا القول الباطل من القول على الله -تعالى- وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم، وما يلزم على ذلك أيضًا من رمي الدين بالنقص، ومخالفة ما أخبر الله به في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}، وقوله -تعالى- إخبارًا عن موسى -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ما يحتاج الناس إليه من أمور الدين، فمن زاد على بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - فلازم قوله أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قصر في البيان لأمته، فالواجب على ابن محمود أن يبادر إلى التوبة النصوح والرجوع عن هذا القول السيئ وعن غيره من مجازفاته وشطحاته، ومن ذلك قوله بسقوط واجبات الحج عمن لا ...........................

يستطيعها بدون استنابة ولا فدية، ومن ذلك تخبيطه في إثبات رؤية الهلال؛ وحثه على تعيين لجنة استهلالية لا يقلون عن عشرين شخصًا، يتفرقون في الجهات، كل فرقة منهم قدر خمسة أشخاص، ويكون مقرهم بمكة، ويكون تنظيم أمرهم عند الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي. وهذا التشريع من ابن محمود، وما تقدم قبله من تشريعه الميقات من جدة لركاب الطائرات ينطبق عليهما قول الله -تعالى-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}، ولا يخفى ما في تشريع ابن محمود في الهلال من مخالفة السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حين قبل شهادة ابن عمر -رضي الله عنهما- على رؤية هلال رمضان، فصامه وأمر الناس بصيامه، وكذلك قد قبل شهادة الأعرابي على هلال رمضان لما أخبره بإسلامه، وأمر بلال أن يؤذن في الناس أن يصوموا، وقبل شهادة أعرابيين على رؤية هلال شوال، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قبول شهادة الرجلين على رؤية هلال شوال، ومن ذلك زعمه أنه لا يضحى عن الأموات، وزعمه أن الصدقة بثمن الأضحية أفضل من الأضحية، ومن ذلك إباحته لذبائح الوثنيين والشيوعيين وغيرهم من أصناف الكفرة الذين لا يذبحون على الوجه الشرعي ولا يذكرون اسم الله على الذبيحة، وقد قال الله -تعالى-: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}، ومن ذلك إباحته للتأمين الذي هو غرر وجهالة وأكل للمال بالباطل. ومن ذلك زعمه أن حجر ثمود ليس حجرًا محجورًا، ومعارضته لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدخول عليهم، وعن الشرب من آبارهم، وعن الوضوء منها، واستعمالها في الطبخ، ومن ذلك زعمه أن كل نبي رسول، وأن كل مسلم مؤمن، وأنه لا فرق بين النبي والرسول، ولا بين الإيمان والإسلام، وأعظم من ذلك إنكاره لكتابة القدر، وزعمه أن الكتابة هي العلم، ومن ذلك رميه المحدِّثين والفقهاء المتقدمين بالتقليد ونقل الحديث والقول على علاته، ومن ذلك تهجمه على الشافعي وأحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية، ومن ذلك تقوُّله على ابن ماجة، والدارقطني، والعقيلي، والمنذري، وابن القيم، والذهبي، والشاطبي، وابن خلدون، والسيوطي، وعلي القاري (¬1)، إلى غير ذلك مما هو موجود في رسائله من غرائب الأخطاء .. ¬

_ (¬1) انظر الصفحات المذكورة من رسالة ابن محمود في إنكار المهدي (8، 9، 12، 13، 19، 20، 34، 35، 44، 45، 48، 51، 55) وقد نبهت على كل منها في هذا الكتاب.

تصرف ابن محمود في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وعدم أمانته في النقل

والشطحات، يعرف ذلك من تتبع رسائله من أهل العلم والفهم، وأما اللحن في بعض الكلمات والتغيير في ألفاظ بعض الأحاديث التي يوردها، وكذلك التغيير فيما ينقله من كلام بعض العلماء، فذلك كثير جدًا. والله المسئول أن يقيض لرسائله من يتتبعها وينبه على ما فيها من الأخطاء والشطحات التي حصلت له بعد توسعه في العلوم والفنون، لئلا يغتر بها ضعفة العقول والأفهام. وأما قوله: إنني رأيت لشيخ الإسلام قولا يثبت فيه بأنه ورد في المهدي سبعة أحاديث رواها أبو داود. فجوابه: أن يقال: إن كلام شيخ الإسلام مذكور في رده على الرافضي، ولم يقل فيه أنه ورد في المهدي سبعة أحاديث رواها أبو داود، وإنما هذا من تصرف ابن محمود في كلام شيخ الإسلام وعدم أمانته في النقل، وهذا نص كلام شيخ الإسلام، قال: الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة، رواها أبو داود، والترمذي، وأحمد، وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره، ثم ذكر أربعة أحاديث عن ابن مسعود، وأم سلمة، وأبي سعيد، وعلي -رضي الله عنهم-، ثم قال: وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف؛ طائفة أنكروها واحتجوا بحديث ابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم» وهذا الحديث ضعيف، وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عيه، ثم ذكر الشيخ قول الطائفة الثانية وهم الرافضة الإثنا عشرية، وقول الطائفة الثالثة وهم الذين ادعوا المهدية لأنفسهم كذبًا وزورًا، أو ادعاها فيهم أصحابهم. والمقصود من ذكر كلام شيخ الإسلام هنا بيان أن ما نقله ابن محمود عنه ليس مطابقًا لكلامه. وأما قوله: وعرفت حق المعرفة أنه لا مهدي بعد رسول الله وبعد كتاب الله. فجوابه: أن يقال: أما قوله إنه لا مهدي بعد رسول الله فقد تقدم الجواب عنه في الكلام على عنوان رسالته (¬1). وأما قوله: وبعد كتاب الله. فجوابه: أن يقال: إن كتاب الله لا يوصف بأنه مهدي؛ لأن ذلك من صفات الخلفاء الراشدين والأئمة الصالحين القائمين في ولايتهم بالقسط والعدل، وكلام الله ............. ¬

_ (¬1) ص (9 - 22).

الرد على جملة من تلبيسه وقلبه للحقيقة

لا يوصف بصفات المخلوقين، وإنما يوصف بأنه هُدى ونور، يهدي به الله من شاء من خلقه. قال الله -تعالى-: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، وقال -تعالى-: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ}، وقال -تعالى-: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}، وقال -تعالى-: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وقال -تعالى-: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}، وقال -تعالى-: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا. وروى الإمام أحمد ومسلم، عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بين مكة والمدينة: «أما بعد، ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين؛ أولهما كتاب الله -عز وجل- فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه» الحديث. وفي رواية لمسلم: «كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلَّ». وإذا كان ابن محمود لا يعرف الفرق بين الهدى والمهدي فتوسعه في العلوم والفنون عناء لا فائدة فيه، وينبغي له ولأمثاله أن يعرفوا قدر أنفسهم، ولا يتطاولوا على شيخ الإسلام، الذي محله بين العلماء مثل القمر بين الكواكب. وأما قوله: وكم غرق في كلمة شيخ الإسلام هذه كثير من العلماء والعوام حين اعتقدوا صحة خروج المهدي. فجوابه: أن يقال: لا يخفى ما في هذا الكلام من قلب الحقيقة؛ لأن الغارق في الحقيقة هو ابن محمود وأمثاله من الذين تأثروا بأقوال رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، وأمثالهم من العصريين الذين طعنوا في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي وقابلوها بالرد والإطراح، وأما الذين تمسكوا بالأحاديث الثابتة في المهدي وقابلوها بالقبول والتسليم، فهؤلاء ناجون من الغرق الذي وقع فيه من ذكرنا من العصريين، ومن قلدهم وسار على نهجهم الباطل في مخالفة الأحاديث الثابتة، وقد شبه بعض العلماء سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. وأما قوله: فكان من لقيته من العلماء والعوام يحتج بكلام شيخ الإسلام -رحمه الله-.

زعمه أن موسى لقي ذا القرنين والرد عليه

فجوابه: أن يقال: إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لم ينفرد بتصحيح بعض الأحاديث الواردة في المهدي، ولم يكن أول من قال بتصحيحها، بل قد سبقه إلى تصحيح بعضها عدد كثير من أكابر العلماء؛ ومنهم الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والعقيلي. وكذلك قد صحح بعضها غير واحد من الحفاظ النقاد الذين كانوا في زمان شيخ الإسلام ابن تيمية؛ كالذهبي، وابن القيم، وكذلك من كان بعدهم من أكابر العلماء ومنهم؛ نور الدين الهيثمي، والحافظان؛ زين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني، وهذان الحافظان قد حررا مجمع الزوائد مع الهيثمي، وأقراه على ما قاله فيه من التصحيح والتحسين، وكذلك غيرهم من المتأخرين؛ كابن حجر الهيتمي، والشوكاني، وصديق بن حسن، وصاحب "عون المعبود"، وصاحب "تحفة الأحوذي"، وأحمد محمد شاكر وغيرهم، وصرَّح غير واحد من الحفاظ النقاد ممن كان زمانهم قبل زمان شيخ الإسلام ابن تيمية وممن كانوا في زمانه وبعد زمانه أن أحاديث المهدي متواترة، وبهذا يعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ليس بدعا في إثبات خروج المهدي ولا في تصحيح بعض الأحاديث الواردة فيه، فمن عابه بذلك ورماه بالخطأ والتقصير من أجل ذلك، وزعم أن ذلك من زلاته ومن الاعتقاد السيئ، فالعائب هو المعيب في الحقيقة، وهو الذي قد أساء الاعتقاد وارتكب الخطأ والتقصير، وزلَّ أقبح زلة، ويلزم على قوله إطلاق ما ذكره من الصفات الذميمة على جميع من ذكرنا من الأئمة الحفاظ النقاد الذين قالوا مثل قول شيخ الإسلام ابن تيمية في إثبات خروج المهدي، وصحة بعض الأحاديث الواردة فيه ممن كانوا قبل الشيخ ومن كانوا بعده، وهذا قول سوء يتنزه عنه كل ذي عقل ودين. وقال ابن محمود في صفحة (13) وصفحة (14): "وفي البخاري: أن موسى لما لقي ذا القرنين في مجمع البحرين، وهاله ما رآه من تصرف ذي القرنين؛ من قتله للغلام، وبنائه للجدار الذي يريد أن ينقض، وخرقه لسفينة المساكين الذين يعملون فيها في التكسب في البحر، فضاق صدر موسى من تصرفه وعيل صبره، فأراد أن يفارقه، فقال له ذو القرنين: يا موسى، أنت على علم من الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم من الله لا تعلمه أنت". والجواب: أن يقال: ما قرره ابن محمود في هذه الجملة؛ من أن الذي لقيه موسى .....

هو ذو القرنين، فهو مما حصل لابن محمود بعد توسعه في العلوم والفنون، وكذلك قوله فيما سبق؛ أنه لا مهدي بعد رسول الله وبعد كتاب الله، فهو مما حصل له بعد توسعه في العلوم والفنون، وهذه الأوهام ينزه عنها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والفهم، وكيف خفي على الذي زعم أنه قد توسع في العلوم والفنون أن الذي لقيه موسى هو الخضر وليس ذا القرنين، مع أن ذلك لا يخفى على صغار طلبة العلم، وقد تقدم الجواب عن قوله؛ أنه لا مهدي بعد رسول الله وبعد كتاب الله. وأما قوله: وفي البخاري؛ أن موسى لما لقي ذا القرنين ..... إلى آخر كلامه الذي كرر فيه اسم ذي القرنين ثلاث مرات. فجوابه: أن يقال: هذا غلط فاحش؛ فإن الذي لقيه موسى -عليه الصلاة والسلام- هو الخضر وليس ذا القرنين، وقد جاء ذلك صريحًا فيما رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- وقد كرر فيه اسم الخضر في بعض الروايات ثمان مرات. وفي رواية لأحمد، والبخاري، ومسلم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل، فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله إلى موسى؛ بلى عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه» الحديث، وقد ترجم البخاري على هذا الحديث بقوله: "باب حديث الخضر مع موسى -عليهما السلام-". وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا». قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وفي رواية لأبي داود قال: «أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الصبيان، فتناول رأسه فقلعه، فقال موسى: أقتلت نفسًا زكية» الآية. فأما ذو القرنين؛ فقد روى الأزرقي في "أخبار مكة" عن عطاء بن السائب: "أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- رأى رجلا يطوف بالبيت فأنكره، فسأله: ممن أنت؟ فقال: من أصحاب ذي القرنين، قال: وأين هو؟ قال: هو ذا بالأبطح، فتلقاه إبراهيم فاعتنقه، فقيل لذي القرنين: لم لا تركب؟ قال: ما كنت لأركب وهذا يمشي. فحج ماشيًا" هذا .........

دعوته العلماء والمتعلمين إلى اعتقاد البدعة والضلالة والرد على قوله إنه لا مهدي بعد رسول الله

ما ذكره الأزرقي، وقد ذكر ابن قتيبة في كتاب "المعارف" أنه كان بين إبراهيم وموسى سبع مائة سنة. وأما قول ابن محمود: فضاق صدر موسى من تصرفه، وعيل صبره، فأراد أن يفارقه، فقال له ذو القرنين: يا موسى، أنت على علم من الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم من الله لا تعلمه أنت. فجوابه: أن يقال: إنما قال الخضر هذا لموسى أول ما اجتمع به، وقبل أن يفعل شيئًا مما أنكره عليه موسى، وقد جاء ذلك في حديث الخضر مع موسى؛ ففيه أن موسى لما سلم على الخضر قال له: أتيتك لتعلمني مما علمت رشدًا، قال: يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. ثم انطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة ... فذكر الحديث، وفيه ما فعله الخضر من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار الذي أزاد أن ينقض، وما أخبر الله به عن الخضر أنه قال لموسى: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}. وقد التبس الأمر على ابن محمود؛ فزعم أن قول الخضر لموسى أول ما اجتمعا إنما كان عند مفارقته له، وهذا الوهم مما حصل لابن محمود بعد توسعه في العلوم والفنون. وقال ابن محمود في صفحة (14): "يا معشر العلماء والمتعلمين والناس أجمعين، إنه يجب علينا بأن يكون تعليمنا واعتقادنا قائمًا على أنه لا مهدي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما لا نبي بعده، كما نعتقد بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخلف وراءه علمًا ولا دينًا يرتجى حصوله ووصوله على يد المهدي من بعده؛ لأن الله -سبحانه- قد أكمل لنا الدين، وأتم به النعمة". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: من زعم أنه يجب على العلماء والمتعلمين والناس أجمعين أن يكون تعليمهم واعتقادهم قائمًا على أنه لا مهدي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أوجب عليهم من التعليم والاعتقاد ما لم يوجبه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ودعاهم إلى تكذيب الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخلفاء الراشدين المهديين، وفي المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، وفي كون عيسى ابن مريم حكمًا عدلا وإمامًا مهديًا في آخر ...........................................................

الزمان، ودعاهم أيضًا إلى مخالفة الإجماع على أن عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين المهديين، ولا شك أن هذا من الدعاء إلى الضلالة، وقد قال الله -تعالى- فيمن دعا إلى الضلالة: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". الوجه الثاني: أن يقال: من قال إنه لا مهدي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلازم قوله نفي المهدية عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- وعن عمر بن عبد العزيز وغيره من أئمة العدل المتمسكين بالكتاب والسنة، وكذلك نفي المهدية عن نبي الله عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام-، ومن قال بهذا القول الباطل واعتقده فقد كابر في رد الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عليكم بسنتي وسنة الخفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم، والذهبي. ويلزم على هذا القول الباطل أيضًا خرق الإجماع على أن عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين المهديين، ويلزم عليه أيضًا رد ما جاء في الحديث الصحيح؛ أن عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام- إذا نزل في آخر الزمان يكون إمامًا مهديًا وحكمًا عدلا، ويلزم عليه أيضًا رد الأحاديث الثابتة في خروج المهدي في آخر الزمان، وما لزم عليه ما ذكرنا من اللوازم السيئة فهو قول سوء، لا يصدر إلا عن اعتقاد فاسد. الوجه الثالث: أن يقال: إذا كان ابن محمود يرى أنه يجب عليه أن يكون تعليمه واعتقاده قائمًا على أنه لا مهدي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما يلزم على هذا القول الباطل من رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومخالفة الإجماع، فإن سائر المتمسكين بالكتاب والسنة يرون أنه يجب عليهم أن يكون تعليمهم واعتقادهم قائمًا على إثبات المهدية للخلفاء الأربعة الراشدين؛ وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي .......................................

ذكر طريقة المهدي

-رضي الله عنهم-، وعلى إثبات المهدية لعمر بن عبد العزيز، وعلى إثبات المهدية لنبي الله عيسى ابن مريم، وهو أفضل المهديين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى إثبات المهدية للرجل الصالح الذي يخرج في آخر الزمان فيملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت قبله جورًا وظلمًا، وهو الذي يسمى بالمهدي، وهو من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -. هذا ما يراه أهل السنة والجماعة ويعتقدونه، ولا عبرة بمن خالفهم من ذوي التكلف والمجازفة. الوجه الرابع: أن يقال: إن ابن محمود نفى وجود المهديين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقاس ذلك على نفي وجود الأنبياء بعده، وهذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع وجود الفارق، فإن الأنبياء قد ختموا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وأما وجود المهديين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين»، ودلت عليه أيضًا الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، ودل عليه أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إمامًا مهديًا وحكمًا عدلا». وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على القياس الفاسد الذي تعلق به ابن محمود. وليعلم أن أفضل المهديين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبي الله عيسى ابن مريم، وأفضل المهديين بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-، فمن نفى صفة المهدية عن نبي الله عيسى وعن الخلفاء الأربعة، وزعم أنه لا مهدي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا شك في فساد عقيدته. الوجه الخامس: أن يقال: إن طريقة المهدي كطريقة غيره من أئمة العدل، الذين يعملون بالكتاب والسنة، ويجددون ما اندرس من الدين، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، والحاكم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، وروى الإمام أحمد، ومسلم، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -، فيقول أميرهم: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله -عز وجل- هذه الأمة»، وفي رواية الحارث بن أبي أسامة عن جابر -رضي الله عنه-: «فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا».

زعمه أن المهدي لم يذكر باسمه في حديث صحيح والرد عليه

وإذا علم هذا، فما علمت أحدًا من المسلمين قال إن المهدي يأتي بدين جديد، ولا قال أحد من المسلمين إن الدين ناقص وإن إكماله يكون على يد المهدي، ولا قال أحد من المسلمين إن المهدي يأتي بعلم جديد غير العلم الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا فما اعتقده ابن محمود ونفى حصوله ووصوله على يد المهدي فكله مبني على التوهم واتباع الظن، وذلك مردود عليه. وقال ابن محمود في صفحة (14) وصفحة (15): "وإننا بكتاب ربنا وسنة نبينا لفي غنى واسع عن دين يأتينا به المهدي المنتظر، إذ المهدي ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، وليس ديننا الذي جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا بناقص حتى يكمله المهدي". والجواب عن هذا قد تقدم في الوجه الخامس قبله، وتقدم أيضًا الجواب عن قوله وليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد، مع الكلام على ما ذكره في صفحة (6) فليراجع هناك (¬1). وقال ابن محمود في صفحة (15): "إن رسول الله قال في مواقف عرفة حين خطبهم تلك الخطبة الطويلة، فقال فيها: لعلكم لا تلقوني بعد عامي هذا، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله، وفي رواية أخرى: وسنتي، ولم يقل: وتركت من بعدي المهدي، إذ إنه لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح صريح أنه ذكر المهدي باسمه". والجواب: أن يقال: من الاعتصام بالكتاب والسنة تصديق ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب مما مضى وما سيأتي، ومن أنباء الغيب التي أخبر بوقوعها في آخر الزمان خروج رجل من أهل بيته يعمل بالسنة، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، ويسمى بالمهدي. فيجب الإيمان بخروجه تصديقًا لخبر الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-. وإذا كان ابن محمود يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حث أمته على الاعتصام بالكتاب والسنة، وأخبرهم أن من اعتصم بهما فلن يضل بعدهما فما له يعرض عن الأحاديث الثابتة في المهدي وينبذها وراء ظهره، ويصفها بالصفات السيئة، فأين اعتصامه بالكتاب والسنة؟ أما يخشى من العقوبة الشديدة على مخالفته لأمر رسول .................................... ¬

_ (¬1) ص (55 - 57).

الله - صلى الله عليه وسلم -، وقلة مبالاته بالأحاديث الثابتة عنه؟! وقد ذكرت في أول الكتاب تسعة أحاديث من الصحاح والحسان الدالة على خروج المهدي في آخر الزمان، فلتراجع (¬1) ففيها أبلغ رد على ابن محمود، حيث أورد الحديث الذي فيه الحث على الاعتصام بالكتاب والسنة ثم خالفه في أحاديث المهدي، فلم يعتصم بالصحيح والحسن منها، بل قابلها بالرد والإطراح. وأما قوله: ولم يقل وتركت من بعدي المهدي. فجوابه: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نوَّه بالمهدي وأخبر عنه في عدة أحاديث، بعضها صحيح وبعضها حسن، وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب (¬2)، وإنما نوه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمهدي لأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسمع والطاعة لولاة الأمور، ونهى عن الخروج عليهم، وذلك من الاعتصام بالكتاب والسنة. وأما قوله: إنه لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح أنه ذكر المهدي باسمه. فجوابه: أن يقال: بلى، وقد قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الكافية الشافية: إن البدار برد شيء لم تحط ... علما به سبب إلى الحرمان وقد جاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي تقدم ذكره في أول الكتاب (¬3) أن اسم المهدي يواطئ اسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن اسم أبيه يواطئ اسم أبي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو حديث صحيح كما تقدم بيان ذلك. وأما لفظة "المهدي" فليست اسمًا، وإنما هي صفة للرجل الذي يلي في آخر الزمان، وهو من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسمه محمد بن عبد الله، وقد جاء ذكره بصفة المهدي في روايتين للإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وقد روى إحداهما الترمذي وقال: "هذا حديث حسن". وجاء ذلك أيضًا في رواية ثالثة عن أبي سعيد -رضي الله عنه- رواها الإمام أحمد، وأبو يعلي، وقال الهيثمي: "رجالهما ثقات". وجاء ذلك أيضًا في رواية رابعة عن أبي سعيد -رضي الله عنه- رواها الحاكم وصححها، ووافقه الذهبي على تصحيحها. وجاء ذلك أيضًا في حديث عن علي -رضي الله ...................................... ¬

_ (¬1) ص (9 - 17). (¬2) ص (9 - 17). (¬3) ص (9 - 10).

تلفيقه في حديث عن معاذ والرد عليه

عنه- رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وإسناد كل منهما حسن. وجاء ذلك أيضًا في حديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- رواه الطبراني في الأوسط، وقال الهيثمي: "رجاله ثقات". وجاء ذلك في حديث عن جابر -رضي الله عنه- رواه الحارث بن أبي أسامة، وقال ابن القيم: "إسناده جيد". وجاء ذلك أيضًا في حديث موقوف عن علي -رضي الله عنه- رواه الحاكم، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا، وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب (¬1)، فلتراجع ففيها أبلغ رد على ابن محمود. وذكر ابن محمود في صفحة (15) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصَّ معاذًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. فقلت: وإن زنا وإن سرق. فقال: وإن زنا وإن سرق. فقلت: أفلا أبشر بها الناس؟ فقال: لا تبشرهم فيتكلوا. متفق عليه. والجواب: أن يقال: قد وهم ابن محمود وغلط، حيث لفَّق هذا الحديث من حديثين، وهذا التلفيق من فوائده التي حصَّلها بعد توسعه في العلوم والفنون. فأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة» فقد رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، عن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أتاني جبريل عليه السلام فبشرني؛ أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق» هذا لفظ مسلم في كتاب الإيمان، ونحوه عند البخاري في عدة مواضع من صحيحه. وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- نحوه، وأما قوله: فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا» فهو طرف من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار يقال له عفير، فقال: «يا معاذ، هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد؛ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله؛ أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا، فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا» هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد، ونحوه في رواية مسلم في كتاب الإيمان، ورواه الإمام أحمد بدون قوله: «فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ ... » إلى آخره، وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ذُكِر لي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ............................................................................ ¬

_ (¬1) ص (12 - 17)

غلطه في عدد المنافقين وفي تسمية حذيفة صاحب السر المكتوم والرد عليه

قال لمعاذ: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة» قال: ألا أبشر الناس؟ قال: «لا إني أخاف أن يتكلوا» هذا لفظ إحدى روايتي البخاري، ونحوه عند أحمد. وقال ابن محمود في صفحة (15): ومثله إخباره حذيفة بأسماء ثلاثين من المنافقين، وأمره بكتمانها، فكان الصحابة لا يصلون إلا على من صلى عليه حذيفة، ويسمونه صاحب السر المكتوم. والجواب: أن يقال: قد روى الإمام أحمد ومسلم من حديث أسود بن عامر، حدثنا شعبة بن الحجاج، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن قيس - وهو ابن عباد- قال: "قلت لعمار: أرأيتكم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر علي، أرأيًا رأيتموه أو شيئًا عهده إليكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " فقال: ما عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لم يعهده إلى الناس كافة، ولكن حذيفة أخبرني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «في أصحابي اثنا عشر منافقًا، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة» وأربعة لم أحفظ ما قاله شعبة فيهم. هذا لفظ مسلم، وزاد في رواية له: «ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة، سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم». وفي المسند وصحيح مسلم أيضًا عن أبي الطفيل قال: "كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس"، فقال: "أنشدك بالله، كم كان أصحاب العقبة؟ " قال: "فقال له القوم: أخبره إذ سألك"، قال: "كنا نخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله إن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا علمنا بما أراد القوم". وروى الطبراني في الكبير، عن صلة بن زفر، قال: "قلنا لحذيفة: كيف عرفت أمر المنافقين ولم يعرفه أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ولا عمر -رضي الله عنهم؟ "، قال: "إني كنت أسير خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنام على راحلته، فسمعت ناسًا منهم يقولون: لو طرحناه عن راحلته فاندقت عنقه فاسترحنا منه، فسرت بينهم وبينه، وجعلت أقرأ وأرفع صوتي، فانتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، فقال: «من هذا؟» فقلت: "حذيفة"، قال: «من هؤلاء؟» قلت: "فلان وفلان حتى عددتهم"، قال: «أو سمعت ما قالوا؟»، قلت: "نعم ولذلك سرت بينك وبينهم"، قال: «فإن هؤلاء فلانا وفلانا- حتى عد أسماءهم- منافقون ............

لا تخبرن أحدًا». ثم قال الطبراني: "تسمية أصحاب العقبة" ثم روى عن علي بن عبد العزيز، حدثنا الزبير بن بكار، قال: "تسمية أصحاب العقبة" ثم سمى منهم ثلاثة عشر رجلا، فمن أراد الوقوف على أسمائهم فليراجع ذلك في مسند حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- في المعجم الكبير للطبراني. وإذا علم ما جاء في الحديث الصحيح عن المنافقين الذين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة -رضي الله عنه- بأسمائهم أنهم كانوا اثني عشر رجلا، فليعلم أيضًا أنه لا أصل لما ذكره ابن محمود من أنهم كانوا ثلاثين، ولا رأيت أحدًا ذكر ذلك قبله. وأما قوله: فكان الصحابة لا يصلون إلا على من صلى عليه حذيفة. فجوابه: أن يقال: إنما ذكر هذا عن عمر -رضي الله عنه- وحده، ولم يذكر عن غيره، قال سعيد عن قتادة، ذُكِر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين، فقال: «ستة منهم تكفيكهم الدبيلة، سراج من نار جهنم يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره، وستة يموتون موتا»، وذُكِر لنا أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا مات رجل يرى أنه منهم نظر إلى حذيفة، فإن صلى عليه صلى عليه وإلا تركه، وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة: "أنشدك الله، أمنهم أنا؟ "، قال: "لا، والله ولا أؤمن منها أحدًا بعدك" رواه ابن جرير. وأما قوله: ويسمونه صاحب السر المكتوم. فجوابه: أن يقال: إنما كان يقال لحذيفة -رضي الله عنه- صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، هكذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والبخاري، عن علقمة- وهو ابن قيس النخعي- أنه جلس إلى أبي الدرداء -رضي الله عنه- فقال أبو الدرداء: "ممن أنت؟ "، قال: "من أهل الكوفة"، قال: "أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ " يعني حذيفة، قال: "قلت: بلى". وفي جامع الترمذي عن خيثمة بن أبي سبرة أنه جلس إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- فقال: "ممن أنت؟ "، قلت: "من أهل الكوفة"، قال: "أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة، وابن مسعود صاحب طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبغلته، وحذيفة صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... " وذكر تمام الحديث، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب". وأما قول ابن محمود صاحب السر المكتوم، فما رأيت أحدًا ذكره بهذا اللفظ.

زعمه أن الإيمان بخروج المهدي لا يزيد في الإيمان، ويوقع في الافتتان والرد عليه

وقال ابن محمود في صفحة (16): "من ذلك تذكير الناس بأن المهدي حق، وأنه سيخرج على الناس لا محالة، وأنه يملأ الأرض عدلا، فإن هذا لا يزيد في الإيمان ولا في صالح الأعمال، ويوقع في الناس الافتتان بين مصدق ومكذب". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: لا شك أن المهدي حق، وأنه يخرج في آخر الزمان قطعًا، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. الوجه الثاني: أن يقال: إن التصديق بما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد في الإيمان وفي صالح الأعمال بلا شك، كما أن التكذيب بما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقص الإيمان، وربما أحبط الأعمال الصالحة كلها، وقد تقدم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» [رواه مسلم]. وخروج المهدي في آخر الزمان من أنباء الغيب التي أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن لم يؤمن بذلك فهو داخل في حكم هذا الحديث الصحيح. وتقدم أيضًا قول الإمام أحمد: "من رد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة"، وتقدم أيضًا قول ابن شاقلا: "من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة، بلا قطع في سندها، ولا جرح في ناقليها، وتجرأ على ردها، فقد تهجم على الإسلام"، وتقدم أيضًا عن أبي محمد البربهاري كلام كثير في التشديد في رد الأحاديث الثابتة والطعن فيها، فليراجع ذلك في الجواب عما ذكره ابن محمود في صفحة (5) (¬1). الوجه الثالث: أن يقال: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المهدي يعمل بالسنة، وأن خلقه يطابق خلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت قبله جورًا وظلمًا، ومن كان بهذه الصفات الحميدة، فالتذكير بخروجه وبأعماله الصالحة يوقع في الفرح والاستبشار بظهور السنة، ونشر القسط والعدل، وإزالة الجور والظلم، ............................ ¬

_ (¬1) ص 52 - 53.

مبالغته في ذم أحاديث المهدي ونسبته ذلك إلى العصريين والرد عليه

خلاف ما زعمه المبتلي بقلب الحقائق. وأما قوله: ويوقع في الناس الافتتان بين مصدق ومكذب. فجوابه: أن يقال: قد قال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ *}، وما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب فهو من الحق الذي أوحاه الله إليه، فمن صدق به فهو مصدق بالحق، ومن كذب به فهو مكذب بالحق، ولا فرق في ذلك بين إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي، وبين إخباره عن غيره من الأمور الماضية والأمور التي ستقع في آخر الزمان، وما يكون بعد قيام الساعة، فكل ذلك من باب واحد، يجب الإيمان به، ولا يجوز رده ولا رد شيء منه. وقال ابن محمود في صفحة (16): "مع العلم أن أحاديث المهدي ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، بل هي كلها مجروحة وضعيفة، والجرح مقدم على التعديل، وقد رجَّح أكثر العلماء المتأخرين من خاصة أهل الأمصار بأنها كلها مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهي حديث خرافة سياسية إرهابية، صيغت وصنعت على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صنعها غلاة الزنادقة لما زال الملك عن أهل البيت، فأخذوا يرهبون بها بني أمية ويوعدونهم بأنه سيخرج المهدي وقد حان خروجه، فينزع الملك من بني أمية، ثم يرده إلى أهل بيت رسول الله، إذ إنهم أحق به وأهله". والجواب: أن يقال: أما قوله: إن أحاديث المهدي ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، بل كلها ضعيفة ومجروحة، فقد تقدم الجواب عنه في الكلام على قول ابن محمود في صفحة (4): وفي الحقيقة إنها كلها غير صحيحة ولا متواترة. فليراجع ما تقدم (¬1). وقد ذكرت فيما تقدم أقوال الأئمة الذين صححوا بعض أحاديث المهدي وحسنوا بعضها؛ ومنهم الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والعقيلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، والهيثمي وقد أقره على تصحيح ما صححه وتحسين ما حسنه الحافظان؛ زين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني؛ لكونهما قد حررا مجمع الزوائد مع الهيثمي. ومن المتأخرين ابن حجر الهيتمي، والشوكاني، وصديق بن .................. ¬

_ (¬1) ص41 - 45.

حسن، وشمس الحق العظيم أبادي، وأحمد محمد شاكر، وغيرهم. وأما تواتر أحاديث المهدي فقد ذكرت فيما تقدم قول الآبري: "إنها قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر المهدي"، وقد نقله عنه جماعة من أكابر العلماء وأقروه، منهم؛ أبو عبد الله القرطبي، وأبو الحجاج المزي، وابن القيم، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والحافظ السخاوي، والسيوطي، وابن حجر الهيتمي، والسفاريني، والبرزنجي، والشوكاني، وصديق بن حسن، وغيرهم ممن تقدم ذكرهم. وإذا تعارض قول ابن محمود في نفي صحة أحاديث المهدي وتواترها وقول من ذكرنا من العلماء، فهل يقبل قول ابن محمود وترد أقوال الحفاظ النقاد؟! كلا، بل الأمر بالعكس؛ فأقوال الحفاظ النقاد هي المقبولة، وقول ابن محمود هو المطرح المردود؛ لأنه مبني على المجازفة والقول بغير علم وأما قوله: والجرح مقدم على التعديل. فجوابه: أن يقال: إنما يكون الجرح مقدمًا على التعديل إذا كان الجرح مفسرًا، وكان ذلك الجرح مما يقدح في الراوي ويؤثر في ثقته، وليس في الأحاديث التي تقدم ذكرها في أول الكتاب شيء من ذلك، وغاية ما يتعلق به المجازفون في رد أحاديث المهدي أن في بعض طرق الأحاديث الصحيحة أو الحسنة من قد تُكُلِم فيه بما لا يقدح في ثقته، وقد تقدم التنبيه على ذلك في أول الكتاب فليراجع (¬1). وأما قوله: وقد رجح أكثر العلماء المتأخرين من خاصة أهل الأمصار بأنها مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهي حديث خرافة سياسية إرهابية. فجوابه: أن يقال: إن العصريين الذين أشار إليهم ابن محمود ليسوا كثيرين، وإنما هم أفراد قليلون وليسوا أهل معرفة وتحقيق في الحديث، وإنما هم أهل مجازفة وتهور في تكذيب الأحاديث الثابتة وقلة المبالاة بردها وإطراحها، ولا سيما إذا خالفت أفكارهم أو أفكار من يعظمونهم من الغربيين وأتباع الغربيين، وقد ذكرت بعض أقوالهم في ذلك في الرد على ما نقلته من صفحة (3) وصفحة (4) من كتاب ابن محمود فليراجع ذلك (¬2)، ومن طالع كتب العصريين وجد فيها الشيء الكثير من التهجم على الأحاديث الصحيحة والتهاون بشأنها، ومن اعتمد على أقوالهم في رد الأحاديث الصحيحة فلا شك أنه فاسد العقيدة، وقد قام بإزاء العصريين كثير ................................................................. ¬

_ (¬1) ص10 - 16. (¬2) ص32 - 33.

زعمه أن أحاديث المهدي صنعها غلاة الزنادقة والرد عليه

من أهل السنة، فردوا أقوالهم الباطلة التي روجوها في إنكار خروج المهدي، وفندوا مزاعمهم التي اعتمدوا عليها في رد الأحاديث الثابتة في خروجه، فجزاهم الله عن دفاعهم عن أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير الجزاء. وأما قوله: صنعها غلاة الزنادقة لما زال الملك عن أهل البيت ... إلى آخر كلامه. فجوابه: أن يقال: إن الإحالة على الزنادقة في رد الأحاديث الثابتة قاعدة ألقاها الشيطان إلى بعض العصريين، وتلقاها بعضهم عن بعض، فكل حديث لا يتفق مع تفكيرهم أو تفكير من يعظمونه فإنهم يحيلونه إلى وضع الزنادقة، ثم لا يبالون برده وإطراحه، ولو كان إسناده ثابتًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن هذا الباب قدحهم في الأحاديث الثابتة في المهدي، وزعمهم أنها من وضع الزنادقة، مع أنه لا علاقة للزنادقة بها، إذ كل رواتها ثقات، من لدن الصحابة إلى الأئمة المخرجين لها في كتبهم المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، فلا طريق للزنادقة إلى شيء من هذه الأحاديث الثابتة البتة، ومن كابر وزعم أنها من وضع الزنادقة طالبناه بإبراز الأسانيد التي يكون فيها بعض الزنادقة، ولن يجد إلى ذلك سبيلا البتة. وقال ابن محمود في صفحة (16) وصفحة (17): "وكان لعبد الله بن سبأ اليد العاملة في صياغة الحديث والتلاعب بعقول الناس، وكان يقول إن المهدي هو محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب، وإنه بعث بعد موته، وسكن بجبل رضوى في الحجاز بين مكة والمدينة، وأن عنده عين عسل وعين ماء، وسيقود الجموع لقتال بني أمية، وسموا بالسبئية، وفيه يقول كُثير عزة وهو سبئي: وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الجيش يقدمه اللواء تغيَّب لا يُرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء والجواب: أن يقال: أما قوله: إن عبد الله بن سبأ كانت له اليد العاملة في صياغة الحديث والتلاعب بعقول الناس. فهو مما قاله بعض العصريين، وأخذه ابن محمود عنهم، مع أنه كان يذم التقليد، ويقول إن المقلد لا يعد من أهل العلم. وقد تقدم الجواب عما ألصقه بابن سبأ من صياغة الحديث، مع الكلام على ما جاء في صفحة (3) وصفحة (4) من كتاب ابن محمود، فليراجع في أول الكتاب (¬1). وأما قوله: إن عبد الله بن سبأ كان يقول إن المهدي هو محمد بن الحنفية .... إلى آخر كلامه. ¬

_ (¬1) ص33 - 36.

فجوابه: أن يقال: هذا من أوهام ابن محمود؛ فإن هذا القول مذكور عن المختار بن أبي عبيد لا عن عبد الله بن سبأ، قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة": "كان أول أمر المختار أن ابن الزبير أرسله إلى الكوفة ليؤكد له أمر بيعته، فأظهر المختار أن ابن الزبير دعا في السر للطلب بدم الحسين، ثم أراد تأكيد أمره فادَّعى أن محمد بن الحنفية هو المهدي الذي سيخرج في آخر الزمان، وأنه أَمَرَه أن يدعو الناس إلى بيعته، وزوَّر على لسانه كتابا، فدخل في طاعته جمع جم، فتقوى بهم وتتبع قتلة الحسين فقتلهم، فقوي أمره بمن يحب أهل البيت". انتهى. وذكر الشهرستاني في "الملل والنحل" أن المختار بن أبي عبيد قال بإمامة محمد بن الحنفية بعد علي، ولما وقف محمد بن الحنفية على ذلك تبرأ منه. وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين": "الفرقة الثانية منهم- أي من الإمامية- وهم الكيسانية، وهم إحدى عشرة فرقة، وإنما سموا كيسانية؛ لأن المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي، ودعا إلى محمد بن الحنفية، كان يقال له كيسان". ثم ذكر الأشعري عن الفرقة الثالثة من الكيسانية وهي الكربية أصحاب أبي كرب الضرير: "أنهم يزعمون أن محمد بن الحنفية حي بجبال رضوى، أسد عن يمينه ونمر عن شماله يحفظانه، يأتيه رزقه غدوة وعشية إلى وقت خروجه، ومن القائلين بهذا كُثير الشاعر، وفي ذلك يقول .... ثم ذكر خمسة أبيات له". ومنها البيتان اللذان ذكرهما ابن محمود. وذكر ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" في ترجمة محمد بن الحنفية أن الفرقة الكيسانية تعتقد إمامته، وأنه مقيم بجبل رضوى، وإلى هذا أشار كُثير عزة بقوله من جملة أبيات، وكان كيساني الاعتقاد: وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء تغيب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء وكان المختار بن أبي عبيد الثقفي يدعو الناس إلى إمامة محمد بن الحنفية، ويزعم أنه المهدي. وقال الجوهري في كتاب "الصحاح": "كيسان لقب المختار المذكور"، وقال غيره: "كيسان مولى -علي رضي الله عنه-، والكيسانية يزعمون أنه مقيم برضوى في شعب منه ولم يمت، دخل إليه ومعه أربعون من أصحابه، ولم يوقف لهم على خبر، وهم أحياء يرزقون، ويقولون إنه مقيم في هذا الجبل بين أسد ونمر، وعنده عينان ...............

تحريق الغالية بالنار

نضاختان تجريان؛ عسلا وماء، وإنه يرجع إلى الدنيا فيملؤها عدلا" انتهى. وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" في ترجمة محمد بن الحنفية: "وقد ذهب طائفة من الرافضة إلى إمامته، وأنه ينتظر خروجه في آخر الزمان، كما ينتظر طائفة أخرى منهم الحسن بن محمد العسكري، الذي يخرج في زعمهم من سرداب سامراء، وهذا من خرافاتهم وهذيانهم وجهلهم وضلالهم وترهاتهم". انتهى. قوله: الحسن بن محمد العسكري، هكذا هو في "البداية والنهاية"، وصوابه محمد بن الحسن العسكري. فأما عبد الله بن سبأ، فقد ذكر الأشعري والشهرستاني وغيرهما مما صنف في المقالات أنه قال لعلي -رضي الله عنه-: "أنت أنت"؛ قال الشهرستاني: "يعني أنت الإله، فنفاه علي إلى المدائن". انتهى. وأصحاب ابن سبأ هم الذين يسمون السبائية، وهم من الغالية الذين حرقهم على -رضي الله عنه- لما ادعوا فيه الألوهية، قال أبو الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين": "الصنف الرابع عشر من أصناف الغالية، وهم السبائية أصحاب عبد الله بن سبأ، يزعمون أن عليًا لم يمت، وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة فيملؤ الأرض عدلا كما ملئت جورًا". وذكر الشهرستاني عن السبائية أنهم "زعموا أن عليًا حي لم يقتل، وهو الذي يجيء في السحاب، والرعد صوته، والبرق سوطه، وأنه سينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤ الأرض عدلا كما ملئت جورًا". وقال الذهبي في "الميزان": "عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة، ضال مضل، أحسب أن عليًا حرقة بالنار". وكذا قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" قال: "وله أتباع يقال لهم السبائية، يعتقدون إلاهية علي بن أبي طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته". انتهى. ويُرجح ما حسبه الذهبي، وأقره ابن حجر؛ أن عليًا -رضي الله عنه- حرق ابن سبأ بالنار أنه لم يكن لابن سبأ ذكر بعد قتل علي -رضي الله عنه-، ولو كان باقيًا بعده لما ترك أعماله الخبيثة، وسعيه في إفساد دين الإسلام، وتضليل المسلمين، والتحريش بينهم، كما فعل ذلك في زمن عثمان -رضي الله عنه-، فأما بقاؤه بعد موت محمد بن الحنفية كما توهم ذلك ابن محمود فبعيد جدًا، والله أعلم. ومما ذكرته من كلام أهل العلم مما ذكروه عن الكيسانية والسبائية، يتضح ما في .......

الرد على بعض تمويهه وتلبيسه في إنكار المهدي

كلام ابن محمود من الخليط الذي حصل له بعد توسعه في العلوم والفنون. وأما قوله: وسيقود الجموع لقتال بني أمية. فجوابه: أن أقول: لم أر هذا مذكورًا عن أحد من العلماء، وإنما ذكروا عن الكيسانية أنهم قالوا عن محمد بن الحنفية إنه يرجع إلى الدنيا فيملؤها عدلا. وأما قوله: وسموا بالسبئية. فجوابه: أن يقال: هذا وهم وغلط، والصواب أنهم كانوا يسمون الكيسانية. وأما قوله: إن كثير عزة سبئي. فجوابه: أن يقال: هذا وهم وغلط، والصواب أنه كان كيسانيًا. وأما قوله: في شعر كُثير: يقود الجيش. فجوابه: أن يقال: صوابه الخيل. وقال ابن محمود في صفحة (17): "ولقد عاش الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون، ثم عاش من بعدهم العلماء والسلف الصالحون ممن كانوا في القرون الثلاثة المفضلة، ثم عاش من بعدهم جميع العلماء والحكام، ومنهم؛ عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، وجميع الناس بعدهم؛ وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، فلم يُنقِص إيمانهم وتقواهم عدم وجود المهدي من بينهم، لعلمهم واعتقادهم أن الدين كامل بدونه، فلا حاجة لهم به، خرج أو لم يخرج". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن أقول: قد ذكرت فيما تقدم أنه لم يؤثر عن أحد من المسلمين أنه قال إن المهدي يأتي بدين جديد، ولا قال أحد إن دين الإسلام ناقص وإن المهدي يأتي ليكمله، ومن زعم أن الدين ناقص وأن المهدي يأتي ليكمله فليس بمسلم (¬1)، وذكرت قريبًا أن طريقة المهدي كطريقة غيره من أئمة العدل الذين يعملون بالكتاب والسنة، وينشرون القسط والعدل، ويزيلون الجور والظلم، فما ردده ابن محمود من التوهمات الخاطئة عن المهدي فكل ذلك باطل مردود. الوجه الثاني: أن يقال: إنما يزيد الإيمان بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن أعظم الطاعات تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما أخبر به من أنباء الغيب مما مضى وقوعه ...................... ¬

_ (¬1) ص 113 - 114.

الرد على استشعاره أن الساعة ستقوم دون أن يخرج المهدي

وما سيقع فيما بعد، ومن أعظم المعاصي تكذيب ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد الأحاديث الثابتة عنه، ومن هذا الباب إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأشراط الساعة؛ ومنها خروج المهدي، والقحطاني، والجهجاه، وحسر الفرات عن كنز من ذهب أو جبل من ذهب، فمن قبل الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وآمن بما جاء فيها ولم يجد في نفسه حرجًا منها فلا شك في زيادة إيمانه، ومن رد الأحاديث الثابتة في ذلك ووجد في نفسه حرجًا منها فلا شك في نقص إيمانه، وقد يذهب إيمانه بالكلية، قال الله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}، وقال -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قال الإمام أحمد: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". الوجه الثالث: أن يقال: إذا خرج المهدي ورأى الناس سيرته مطابقة لما جاء في الأحاديث الصحيحة فلا شك أن ذلك مما يزيد المؤمنين إيمانًا بمعجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما قوله: فلا حاجة لهم به خرج أو لم يخرج. فجوابه: أن يقال: إذا كثر الهرج في آخر الزمان، وانتشرت الفتن والفوضى والجور والظلم، ولم يكن للناس إمام يجمعهم وينصف المظلوم من الظالم، فحينئذ تكون الحاجة ماسة إلى خروج المهدي الذي يقوم بأمر الناس، ويسعى في إخماد الفتن والفوضى، وإزالة الجور والظلم، ونشر القسط والعدل، ومن أنكر الحاجة إلى مثل هذا الإمام العادل فلا يخلو إما أن يكون مكابرًا أو خاليًا من العقل. وقال ابن محمود في صفحة (17): "وإننا الآن في العام المتمم للقرن الرابع عشر من السنين، وما يشعرني أنه سيأتي من الزمان أكثر مما مضى حتى تقوم الساعة دون أن يخرج المهدي". والجواب: أن يقال: هذه الجملة قد ذكرها ابن محمود في صفحة (9) من رسالته وتقدم الجواب عنها (¬1). وأما قوله: من السنين. ¬

_ (¬1) ص90 - 91.

الرد على زعمه أن المهدي مجهول في عالم الغيب وأنه إنما يصدق بخروجه بعض أهل السنة

فجوابه: أن يقال: هذا غلط، والصواب أن تقيد السنين بالهجرة؛ لأن ما مضى من السنين بدون التقييد ألوف كثيرة لا يعلمها إلا الله -تعالى-. وأما قوله: حتى تقوم الساعة دون أن يخرج المهدي. فجوابه: أن يقال: إن الساعة لا تقوم حتى يخرج المهدي، وحتى يقع جميع ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقوعه قبل قيام الساعة، ومن كذَّب بشيء مما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقوعه أو شكَّ فيه، فلا شك أنه لم يحقق الشهادة بالرسالة. فصل وقال ابن محمود في صفحة (18): "إننا عندما نتحدث في كتابنا هذا عن المهدي فإنما نعني به المهدي المجهول في عالم الغيب، والذي يصدق بخروجه بعض أهل السنة". والجواب: أن يقال: قول ابن محمود إن المهدي مجهول في عالم الغيب قد قال مثله في صفحة (6) وصفحة (9) من كتابه وتقدم الجواب عنه فليراجع (¬1). وأما قوله: والذي يصدق بخروجه بعض أهل السنة. فجوابه: أن يقال: كل من تمسك بالكتاب والسنة فإنه يصدق بخروج المهدي؛ لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينكر خروجه إلا جاهل أو مكابر. وقال ابن محمود في صفحة (18): "وأول من قال بالمهدية كيسان مولى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في ابنه محمد بن الحنفية؛ فقد زعم بأنه المهدي، وأنه مقيم بجبل رضوى في الحجاز بين مكة والمدينة، وأن عنده عينا عسل وماء، وهذا هو اعتقاد المختار بن أبي عبيد ومن معه، ثم دخلت فكرة المهدي وخروجه في المجتمع الإسلامي، وكان لعبد الله بن سبأ اليد العابثة في تحقيقه وصناعة الحديث في التصديق به". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ما ذكره ابن محمود في هذا الموضع يناقض ما ذكره في صفحة (16)؛ حيث زعم أن عبد الله بن سبأ كان يقول إن المهدي محمد بن الحنفية، وإنه بعث بعد موته وسكن جبل رضوى، وإن عنده عين عسل وعين ماء، وسيقود الجموع لقتال بني أمية، وقد ذكرت قريبًا ما ................................... ¬

_ (¬1) ص55 - 57 وص 90.

زعمه أن عقيدة المهدي ونشره للعدل في سبع سنين من العقائد الخيالية والرد عليه

ذكره الحافظ ابن حجر في "الإصابة" أن المختار ادَّعى أن محمد بن الحنفية هو المهدي، وأنه أمره أن يدعو الناس إلى بيعته. وكذلك ما ذكره الشهرستاني أن المختار بن أبي عبيد قال بإمامة محمد بن الحنفية بعد علي. وما ذكره الأشعري أن الكيسانية إنما سموا بذلك لأن المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي، ودعا إلى محمد بن الحنفية كان يقال له كيسان، قال: ويقال إنه مولى لعلي بن أبي طالب. فذكر هذا القول بصيغة التمريض، وذكر عن الفرقة الثالثة من الكيسانية وهي الكربية أنهم يزعمون أن محمد بن الحنفية حي بجبال رضوى. وقال الجوهري في الصحاح الكيسانية، وكذا قال ابن منظور في لسان العرب. وقال مرتضى الزبيدي في "تاج العروس": "وكيسان لقب المختار بن أبي عبيد الثقفي المنسوب إليه الكيسانية، الطائفة المشهورة من الرافضة". انتهى، وفيما ذكرته عن هؤلاء العارفين بالمقالات أبلغ رد على توهمات ابن محمود وأقواله المتناقضة. الوجه الثاني: أن يقال: يظهر من كلام ابن محمود أنه يرى أن عبد الله بن سبأ قد بقي إلى زمان المختار بن أبي عبيد وبعد زمانه، ولم أر أحدًا ذكر هذا أو أشار إليه، وإنما هو فيما يظهر من تخيلات ابن محمود وتوهماته، وقد تقدم قريبًا قول الذهبي في "الميزان": "أحسب أن عليًا -رضي الله عنه- حرقه بالنار"، ونقله عنه الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" وأقره. الوجه الثالث: أن أقول: لم أر أحدًا من العلماء ذكر عن ابن سبأ أنه ذكر المهدي أو تكلم فيه بشيء فضلا عن صناعة الحديث فيه للتصديق به، وقد تقدم الجواب عما ألصقه ابن محمود بابن سبأ من صناعة الحديث للتصديق بالمهدي، مع الكلام عما جاء في صفحة (3) وصفحة (4) من كتاب ابن محمود فليراجع ذلك في أول الكتاب (¬1)، وليراجع أيضًا ما تقدم قريبًا من الجواب عما جاء في صفحة (16) وصفحة (17) من كتاب ابن محمود (¬2). وزعم ابن محمود في صفحة (18) أن عقيدة المهدي المنتظر وما يكون من أمره ونشره للعدل في خلال سبع سنين من العقائد الخيالية الدخيلة، وليست من عقائد الإسلام والمسلمين. ¬

_ (¬1) ص 33 - 36. (¬2) ص 122 - 125.

زعمه أن تلاوة أحاديث المهدي من التمويه والكذب والتزوير والرد عليه

والجواب: أن يقال: لقد كابر ابن محمود وبالغ في المكابرة، حيث زعم أن عقيدة المهدي من العقائد الخيالية الدخيلة وليست من عقائد الإسلام والمسلمين، وقد ذكرت عنه في أول الكتاب أنه قال في صفحة (3): إن فكرة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة، وذكرت الجواب عن ذلك في أول الكتاب فليراجع (¬1)، ففيه رد لكلامه هنا وهناك، وقد قال الله -تعالى-: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}، قال ابن كثير على قوله -تعالى- {وَتُعَزِّرُوهُ}: "قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وغير واحد: تعظموه، {وَتُوَقِّرُوهُ} من التوقير؛ وهو الاحترام والإجلال والإعظام". انتهى. ومن رد أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، وزعم أن ما دلت عليه من عقائد أهل السنة أنها عقائد خيالية دخيلة وليست من عقائد الإسلام والمسلمين، فلا شك أنه قد استهان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يعزره ولم يوقره، وحكم من استهان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخفى على طالب العلم. وقال ابن محمود في صفحة (19) وصفحة (20): "لهذا تنبه العلماء من المتقدمين والمتأخرين لرد الأحاديث التي يتلونها ويموهون بها على الناس، فأخضعوها للتصحيح والتمحيص، وبينوا ما فيها من الجرح والتضعيف، وكونها مزورة على الرسول من قبل الزنادقة الكذابين، وممن انتقد هذه الأحاديث وبين معايبها العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "المنار المنيف" في الصحيح والضعيف، ومنهم الشاطبي صاحب "الاعتصام"؛ فقد ألحق المهدية والإمامية بأهل البدع، ويعني بالمهدية الذين يعتقدون صحة خروج المهدي، وكذلك ابن خلدون؛ فقد فحص أحاديث المهدي وبيَّن بطلان ما يزعمونه صحيحًا منها، فسامها كلها بالضعف وعدم الصحة، وإن من رواتها من يتهم بالتشيع، ومنهم الحروري، ومنهم من يعتقد رفع السيف على أهل القبلة، ومنهم من يتهم بالكذب، ومنهم من يتهم بسوء الحفظ، ومنهم من يتهم برفع الحديث إلى رسول الله بدون أن يتكلم به الرسول، مع ما فيها من التعارض والاضطراب والاختلاف". وأقول: أما قوله: لهذا تنبه العلماء من المتقدمين والمتأخرين لرد الأحاديث التي يتلونها ويموهون بها على الناس. فجوابه: أن يقال: إن رواية الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي وتلاوتها ......... ¬

_ (¬1) ص 26 - 31.

والاستدلال بها على خروجه في آخر الزمان. كل ذلك يدل على تعظيم أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتصديق بما أخبر به من أنباء الغيب، وذلك عنوان على تحقيق الشهادة بالرسالة، وليس ذلك من التمويه كما زعم ذلك ابن محمود، وإنما التمويه في الحقيقة؛ قول ابن محمود إنها أحاديث خرافة، وإنها نظرية خرافية، وإنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، وإنها مختلقة، وإنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها. هكذا قال في أحاديث المهدي، وسواء عنده في ذلك ما كان منها صحيحًا أو حسنًا، وما كان ضعيفًا أو منكرًا أو موضوعًا، فالكل عنده على حد سواء، فهذا هو التلبيس والتمويه والرد لأمر الله -تعالى- ولأقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتباع غير سبيل المؤمنين. وأما قوله: فأخضعوها للتصحيح والتمحيص، وبينوا ما فيها من الجرح والتضعيف. فجوابه: أن يقال: لو أن ابن محمود قال: فأخضعوها للرد والإطراح وعدم المبالاة بها لكان أوضح وأليق بكلامه، وأشد مطابقة للواقع منه ومن أئمته من العصريين، الذين قلدهم واقتفى آثارهم في رد الأحاديث الثابتة في المهدي ومحاربتها بكل وسيلة، وقد تقدم نحو هذا الكلام فيما نقلته من صفحة (5) من رسالة ابن محمود، وتقدم الرد عليه فليراجع في أول الكتاب (¬1). وأما قوله: وكونها مزورة على الرسول من قبل الزنادقة الكذابين. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن أقول: لا أعلم عن أحد من العلماء المتقدمين أنه رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، ولا أعلم عن أحد منهم أنه أخضع الأحاديث الثابتة فيه لما زعم ابن محمود أنه تصحيح وتمحيص، ومعناه في الحقيقة الرد والإطراح لها والاستخفاف بشأنها، ولا أعلم عن أحد منهم أنه قال في الأحاديث الثابتة في المهدي إنها مزورة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل الزنادقة الكذابين، فما ألصقه ابن محمود بالعلماء المتقدمين فهو من التقول عليهم ولا صحة له. وإنا نطالب ابن محمود أن يذكر أسماء العلماء المتقدمين الذين زعم أنهم أخضعوا أحاديث المهدي للتصحيح والتمحيص، الذي معناه الرد والإطراح لها، وأنهم حكموا عليها بأنها مزورة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل الزنادقة الكذابين، وأن يذكر الكتب .............. ¬

_ (¬1) ص 50 - 51.

التي ذكروا ذلك فيها، وأن يذكر مواضعها من صفحات الكتب، ولن يجد إلى ذلك سبيلا. وقد ذكرت في أول الكتاب عددًا كثيرًا من الأئمة الذين رووا بعض الأحاديث الواردة في المهدي وخرجوها في كتبهم المعتمدة عند المسلمين، وذكرت أيضًا عددًا كثيرًا من أكابر العلماء الذين صححوا بعض أحاديث المهدي، ومن قال منهم إنها متواترة، فليراجع ذلك في أول الكتاب (¬1)، ففيه أبلغ رد على ما ألصقه ابن محمود بالعلماء المتقدمين، فأما العلماء المتأخرون، فجمهورهم على طريقة العلماء المتقدمين؛ يرون أن بعض الأحاديث الواردة في المهدي ثابتة، ويقابلونها بالقبول والتسليم، وإنما شذ عنهم أفراد قليلون من العصريين، الذين هم سلف ابن محمود في رد الأحاديث الثابتة في المهدي؛ ومنهم رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، ولهم أمثال من العصريين الذين لا يبالون برد الأحاديث الثابتة إذا كانت مخالفة لآرائهم وتفكيرهم الفاسد، وهؤلاء لا يستغرب منهم الاستخفاف بأحاديث المهدي، ولا يستغرب منهم ردها وإطراحها، والقول بأنها مزورة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل الزنادقة الكذابين، فقد رد بعضهم ما هو أعظم منها؛ مما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما من أحاديث الفتن، وأشراط الساعة، وخوارق الأنبياء ومعجزاتهم، ومن طالع كتب العصريين وتعليقاتهم على الكتب رأى في بعضها الشيء الكثير من رد الأحاديث الثابتة وإطراحها. الوجه الثاني: أن يقال: أما الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي فليست مزورة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس للكذابين علاقة بها، وليس في رواتها أحد من المغفلين الذين يقبلون التلقين، ومن زعم أنها مزورة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه فهو صاحب الزور والبهتان العظيم على الحقيقة، وكذلك الأحاديث الضعيفة المنجبرة وهي التي تصلح للاستشهاد بها، فليست مزورة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان في أسانيدها بعض الضعفاء؛ لأنه يحتمل أن تكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن الأحاديث الثابتة تشهد لها أو لبعضها، وما شهدت له الأحاديث الثابتة فليس بمزور، وإنما المزور ما يكون من طريق بعض الوضاعين، وليس في رواة الأحاديث الثابتة في المهدي ولا في رواة الأحاديث الضعيفة المنجبرة أحد من الوضاعين، فالحكم عليها بالوضع والتزوير من أكبر الخطأ وأعظم الزور. ¬

_ (¬1) ص 9 - 17 وص 41 - 45.

الوجه الثالث: أن أقول: سأذكر ههنا نموذجًا من أسانيد الأحاديث الثابتة في المهدي؛ ليعلم المنصفون ما في كلام ابن محمود من الخطأ الكبير، والمجازفة القبيحة. الحديث الأول: قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي». ورواه أيضًا عن عمر بن عبيد الطنافسي عن عاصم، ورواه أيضًا عن يحيى بن سعيد عن سفيان – وهو الثوري–حدثني عاصم فذكره. وهذه أسانيد صحيحة، رجالها كلهم من رجال الصحيحين. أما سفيان بن عيينة؛ فهو أحد أئمة الإسلام، روى له الجماعة كلهم، واتفق الأئمة على توثيقه، والثناء عليه في الفقه والعلم والورع والحفظ. قال اللالكائي: "هو مستغن عن التزكية لتثبته وإتقانه"، وقال الذهبي: "كان إمامًا حجة حافظًا واسع العلم كبير القدر"، وقال الذهبي أيضًا: "اتفقت الأئمة على الاحتجاج بابن عيينة لحفظه وأمانته". وأما عمر بن عبيد الطنافسي؛ فقد روى له الجماعة كلهم، ووثقه أحمد وابن معين في رواية عثمان الدارمي عنه، ووثقه أيضًا ابن سعد والدارقطني وابن حبان. وأما يحيى بن سعيد القطان؛ فهو الإمام الحافظ الحجة، احتج به الأئمة كلهم، وقالوا: من تركه يحيى تركناه، قال الذهبي في "تذكرة الحفاظ": "الإمام العَلَم سيد الحفاظ"، وقال ابن سعد: "كان ثقة حجة رفيعًا مأمونًا"، وقال النسائي: "أمناء الله على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ مالك، وشعبة، ويحيى القطان"، وقال الخليلي: "هو إمام بلا مدافعة، وكلام الأئمة في الثناء عليه كثير جدًا". وأما سفيان الثوري؛ فهو أحد أئمة الإسلام، قال الذهبي: "الإمام شيخ الإسلام سيد الحفاظ"، وقال شعبة وابن عيينة وأبو عاصم وابن معين وغير واحد من العلماء: "سفيان أمير المؤمنين في الحديث"، وقال الخطيب: "كان إمامًا من أئمة المسلمين، وعلمًا من أعلام الدين، مُجمعًا على إمامته بحيث يستغني عن تزكيته، مع الاتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد"، وقال النسائي: "هو أجلُّ من أن يقال فيه ثقة، وهو أحد الأئمة الذين أرجو أن يكون الله ممن جعله للمتقين إماما، وكلام الأئمة في الثناء عليه كثير جدا، وقد روى له الجماعة كلهم".

وأما عاصم فهو ابن أبي النجود؛ وهو ثقة أخرج له البخاري ومسلم مقرونًا بغيره، ولو كان غير موثوق به عندهما لما أخرجا له شيئًا، وروى له بقية الجماعة، وقال أحمد: "ثقة رجل صالح خير ثقة"، وقال ابن معين: "ليس به بأس"، وقد قال ابن معين فيما ذكره ابن الصلاح عن ابن أبي خيثمة: "إذا قلت ليس به بأس فهو ثقة"، ووثقه العجلي ويعقوب بن سفيان وأبو زرعة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحاكم في المستدرك: "هو إمام من أئمة المسلمين". وأما زر فهو ابن حبيش؛ وهو تابعي جليل مخضرم، روى له الجماعة كلهم، واحتج به البخاري ومسلم، وقد وثقه ابن معين وأحمد وابن سعد والعجلي وغيرهم. وأما عبد الله فهو ابن مسعود -رضي الله عنه- وهو حبر الأمة، وأحد السابقين الأولين، قال علقمة: "كان يشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هديه ودله وسمته"، وقد ذكرت في أول الكتاب أن حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- رواه أبو داود، والترمذي، وابن حبان في صحيحه من طرق صحيحة عن عاصم بن أبي النجود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه أيضًا الحاكم والذهبي وابن القيم. وإذا علم أن أسانيد هذا الحديث كلها صحيحة لا مطعن فيها بوجه من الوجوه، فنقول لابن محمود: من هو الزنديق الكذاب المتهم عندك بوضع هذا الحديث وتزويره على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فهل تتهم به ابن مسعود -رضي الله عنه- أو تتهم به زر بن حبيش، أو عاصم بن أبي النجود، أو سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وعمر بن عبيد الطنافسي، ويحيى بن سعيد القطان، أو الإمام أحمد بن حنبل؟ ألا تخاف الله وتتقيه يا ابن محمود؟! ألا تتثبت فيما تقوله في أئمة العلم والهدى، وفيما تحكم به على الأحاديث الصحيحة، ورواتها الثقات الأثبات؟ أما تعلم أنك موقوف بين يدي الله -عز وجل- يوم القيامة، ومسئول عن أقوالك وأعمالك؟ الحديث الثاني: قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلمًا وعدوانا، قال: ثم يخرج رجل من عترتي أو من أهل بيتي يملؤها قسطًا وعدلا كما ملئت ظلمًا وعدوانًا». إسناده صحيح على شرط الشيخين. أما محمد بن جعفر؛ فهو المعروف بغندر، وهو ..............................

ثقة ثبت، روى له الجماعة كلهم، ووثقه ابن معين وابن سعد والعجلي وابن حبان وغيرهم، وقال الذهبي: "أحد الأثبات المتقنة، لا سيما في شعبة". وأما عوف؛ فهو ابن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة ثبت، روى له الجماعة كلهم، ووثقه ابن معين وأحمد والنسائي وابن سعد وابن حبان وغيرهم، وقال النسائي: "ثقة ثبت"، وقال الذهبي: "ثقة مشهور". وأما أبو الصديق الناجي؛ واسمه بكر بن عمرو وقيل بكر بن قيس، فهو ثقة، روى له الجماعة كلهم، ووثقه ابن معين وأبو زرعة والنسائي وابن حبان. وأما أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- فهو صحابي جليل، مكثر في الحديث، واسمه سعد بن مالك بن سنان. وإذا علم أن إسناد هذا الحديث صحيح لا مطعن فيه بوجه من الوجوه، فنقول لابن محمود: من هو الزنديق الكذاب المتهم عندك بوضع هذا الحديث وتزويره على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فهل تتهم به أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- أو تتهم به أبا الصديق الناجي، أو عوف بن أبي جميلة الأعرابي، أو محمد بن جعفر، أو الإمام أحمد بن حنبل؟ فأنت بين أمرين لا ثالث لهما؛ إما أن تبين الزنديق الكذاب المتهم عندك بوضع هذا الحديث من الثقات الذين رووه، وإما أن ترجع عن قولك الباطل، وتعترف بالخطأ، وتتوب إلى الله -تعالى- مما رميت به الأتقياء الأبرياء، الذين هم من أكبر الأعداء للزنادقة الكذابين المزورين على الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكرتُ في أول الكتاب أن حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- رواه الإمام أحمد من عدة طرق بعضها صحيح وبعضها حسن، ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة بأسانيد حسنة، وقال الترمذي: "حديث حسن"، ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه من طرق، قال في أحدها: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقال في آخر: "صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي على ذلك، وقال في آخر: "صحيح"، ووافقه الذهبي على تصحيحه. الحديث الثالث: قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج وأبو نعيم، قالا: حدثنا فطر، عن القاسم بن أبي برة، عن أبي الطفيل قال حجاج: سمعت عليًا -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله -عز وجل- رجلا منا يملؤها .....

عدلا كما ملئت جورًا». قال أبو نعيم «رجلا منا». قال: وسمعته مرة يذكره عن حبيب، عن أبي الطفيل، عن علي -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إسناداه صحيحان. أما حجاج؛ فهو ابن محمد الأعور، ثقة حافظ ثبت، روى له الجماعة كلهم، ووثقه ابن المديني، ومسلم، والنسائي، والعجلي، وابن قانع، ومسلمة بن قاسم، وابن حبان، وقال الذهبي: "أحد الأثبات". وأما أبو نعيم؛ فهو الفضل بن دكين، ثقة حافظ ثبت، روى له الجماعة كلهم، قال أحمد: "ثقة يقظان عارف بالحديث"، وقال يعقوب الفسوي: "أجمع أصحابنا على أن أبا نعيم كان غاية في الإتقان"، وقال أبو حاتم: "أبو نعيم حافظ متقن"، وقال الذهبي: "حافظ ثبت". وأما فطر؛ فهو ابن خليفة، روى له البخاري مقرونًا بآخر، وروى له أهل السنن، ووثقه يحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والعجلي، وحسبك بتوثيق هؤلاء، وقال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن فطر بن خليفة، فقال: صالح، كان يحيى القطان يرضاه، ويحسن القول فيه ويحدث عنه"، وذكر الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" عن العجلي أنه قال: "كوفي ثقة حسن الحديث، وكان فيه تشيع قليل"، وقال النسائي: "لا بأس به"، وقال في موضع آخر: "ثقة حافظ كيِّس"، وقال ابن سعد: "كان ثقة -إن شاء الله تعالى- ومن الناس من يستضعفه"، وقال أبو زرعة الدمشقي: "سمعت أبا نعيم يرفع من فطر ويوثقه، ويذكر أنه كان ثبتًا في الحديث"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال النسائي في الكُنى: حدثنا يعقوب بن سفيان، عن ابن نمير قال: "فطر حافظ كيِّس"، وقال ابن عدي: "له أحاديث صالحة عند الكوفيين، وهو متماسك، وأرجو أن لا بأس به"، وقال شمس الحق في "عون المعبود": "وأما فطر بن خليفة الكوفي فوثَّقه أحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن معين، والنسائي، والعجلي، وابن سعد، والساجي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وأخرج له البخاري، ويكفي توثيق هؤلاء الأئمة لعدالته، فلا يلتفت إلى قول ابن يونس، وأبي بكر بن عياش، والجوزجاني في تضعيفه، بل هو قول مردود". انتهى. وأما القاسم بن أبي بزة؛ فقد روى له الجماعة، ووثَّقه ابن معين والعجلي والنسائي، وقال ابن سعد: "كان ثقة قليل الحديث"، وذكره ابن حبان في الثقات. وأما أبو الطفيل؛ فهو عامر بن واثلة الكناني الليثي من صغار الصحابة، قال الخزرجي في الخلاصة: "ولد عام أحد"، وأثبت مسلم وابن عدي صحبته، وهو آخر من ...............

مات من جميع الصحابة على الإطلاق، وقد روى له الجماعة كلهم. وأما علي -رضي الله عنه- فهو أمير المؤمنين، وأحد الخلفاء الراشدين المهديين، وهو مستغن عن التعريف به، وقد ذكرت في أول الكتاب أن أبا داود روى حديث علي -رضي الله عنه- بإسناد صحيح. وإذا علم هذا، فنقول لابن محمود: من هو الزنديق الكذاب المتهم عندك بوضع هذا الحديث وتزويره على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فهل تتهم به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أو تتهم به أبا الطفيل -رضي الله عنه- أو القاسم بن أبي بزة، أو فطر بن خليفة، أو حجاج بن محمد، وأبا نعيم الفضل بن دكين، أو أحمد بن حنبل؟ ألا تتقي الله يا ابن محمود؟! ألا تصون علمك ومنصبك عما يدنسه ويشينه؟ الحديث الرابع: قال الحارث بن أبي أسامة في مسنده: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا إبراهيم بن عقيل عن أبيه، عن وهب بن منبه، عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة». قال ابن القيم في كتابه "المنار المنيف": "وهذا إسناد جيد". قلت: أما الحرث بن أبي أسامة؛ فهو الإمام الحافظ أبو محمد التميمي البغدادي صاحب المسند، وثَّقه إبراهيم الحزبي، وأبو حاتم بن حبان، وقال الدارقطني: "صدوق". وأما إسماعيل؛ فهو ابن عبد الكريم بن معقل بن منبه الصنعاني، قال ابن معين: "ثقة رجل صدق"، وقال النسائي: "ليس به بأس"، وقال مسلمة بن قاسم: "جائز الحديث"، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب": "صدوق من التاسعة". وأما إبراهيم؛ فهو ابن عقيل بن معقل بن منبه الصنعاني، قال ابن معين: "لم يكن به بأس"، وقد قال ابن معين: "إذا قلت فلان ليس به بأس فهو ثقة"، ووثقه العجلي، وذكر ابن أبي خيثمة عن ابن معين أنه قال: "إبراهيم ثقة، وأبوه ثقة"، وقال الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب": "صدوق من الثامنة"، وقد أخرج له ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وأما عقيل بن معقل بن منبه؛ فهو ابن أخي وهب بن منبه، قال أحمد: "عقيل من ثقاتهم"، ووثقه أيضًا ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ ابن حجر ......

في "تقريب التهذيب": "صدوق من السابعة". وأما وهب بن منبه؛ فهو الأبناوي الصنعاني، اتفق البخاري ومسلم على إخراج حديثه، وأخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ووثقه العجلي وأبو زرعة والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي في "الميزان": "كان ثقة صادقًا"، وقال في "تذكرة الحفاظ": "كان ثقة واسع العلم"، وقال الحافظ بن حجر في "تقريب التهذيب": "ثقة من الثالثة". وأما جابر؛ فهو ابن عبد الله بن حرام الأنصاري، صحابي مشهور. وإذا علم أن رجال هذا الحديث كلهم ثقات، فنقول لابن محمود: من هو الزنديق الكذاب المتهم عندك بوضع هذا الحديث وتزويره على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فهل تتهم به جابر بن عبد الله، أو وهب بن منبه، أو عقيل بن معقل، أو ابنه إبراهيم، أو ابن أخيه إسماعيل، أو الحارث بن أبي أسامة؟ فكل هؤلاء لا سبيل لأحد إلى الطعن فيهم، وكذلك رواة الأحاديث الثلاثة التي تقدم ذكرها لا سبيل لأحد إلى الطعن فيهم. ولولا إيثار الاختصار لذكرت جميع الأحاديث الثابتة في المهدي، وذكرت كلام أهل الجرح والتعديل في توثيق رواتها، وفيما ذكرته من الأحاديث الثابتة أبلغ رد على من زعم أن أحاديث المهدي مزورة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل الزنادقة الكذابين. فإن قال ابن محمود: إن عبد الله بن سبأ وشيعه هم الذين زوروا أحاديث المهدي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قد جزم بذلك في صفحة (4) وصفحة (16) وصفحة (18) من رسالته. فالجواب: أن يقال: إن عبد الله بن سبأ كان في زمان عثمان وعلي -رضي الله عنهما- وقد قال الذهبي في "الميزان": "أحسب أن عليًا حرقه بالنار"، وكذا قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" قال: "وله أتباع يقال لهم السبائية، يعتقدون إلاهية علي بن أبي طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته". انتهى. وحيث أن عبد الله بن سبأ كان معاصرًا للصحابة -رضي الله عنهم- ولم يذكر أحد من المؤرخين أنه كان باقيًا بعد موت علي -رضي الله عنه-، فإن كان هو الذي زوَّر أحاديث المهدي كما قد زعم ذلك ابن محمود، فإنه يلزم على هذا أن يكون ابن سبأ قد أدخل ما زوره من الأحاديث على عليٍّ وابن مسعود وأبي سعيد وأبي هريرة وجابر وأم سلمة -رضي الله عنهم- وغيرهم من الصحابة الذين رويت عنهم الأحاديث في المهدي، وهذا معلوم ..............................................

الرد على زعمه أن ابن القيم قد انتقد أحاديث المهدي كلها

البطلان بالضرورة، ويلزم على هذا القول الباطل رمي الصحابة بالتغفيل وقبول التلقين، وهذا لا يقوله من له أدنى عقل ودين، فهل يقول ابن محمود بهذا القبول الباطل مع ما يلزم عليه من رمي الصحابة -رضي الله عنهم- بالوصف الذميم الذي يجب تنزيههم عنه، أم ماذا يجيب به عن كلماته التي قالها من غير تعقل ولا تثبت؟ وأما قوله: وممن انتقد هذه الأحاديث وبين معايبها العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "المنار المنيف في الصحيح والضعيف". فجوابه: أن يقال: إن ابن القيم -رحمه الله تعالى- لم ينتقد أحاديث المهدي كلها كما توهم ذلك ابن محمود، فضلا عن أن يقول بما جازف به ابن محمود من كونها مزورة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل الزنادقة الكذابين، وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "المنار المنيف" عدة أحاديث في المهدي، وقال بعد إيرادها: "وهذه الأحاديث أربعة أقسام؛ صحاح وحسان وغرائب وموضوعة"، ومن الأحاديث التي أوردها حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي مِنِّي، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، يملك سبع سنين». قال ابن القيم: "رواه أبو داود بإسناد جيد من حديث عمران بن داور القطان، عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد". قال: "وروي أبو داود من حديث صالح بن أبي مريم أبي الخليل الضبعي، عن صاحب له، عن أم سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هاربًا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام» وذكر تمام الحديث، ثم قال: ورواه أبو داود من وجه آخر؛ عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن أم سلمة نحوه". ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، من حديث قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن صاحب له، وربما قال صالح: عن مجاهد، عن أم سلمة. والحديث حسن، ومثله مما يجوز أن يقال فيه صحيح، قال وذكر أبو نعيم في "كتاب المهدي" من حديث حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم يبق من الدنيا غلا يوم واحد لبعث الله فيه رجلا اسمه اسمي وخلقه خلقي يكنى أبا عبد الله» ولكن في إسناده العباس بن بكار لا يحتج بحديثه، وقد تقدم هذا المتن من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وهما صحيحان. وقال الحارث بن أبي أسامة في مسنده: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا إبراهيم بن عقيل عن أبيه، ......................................................................

عن وهب بن منبه، عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة». وهذا إسناد جيد. ثم ذكر ابن القيم أربعة أقوال في المهدي؛ أحدها: أنه المسيح ابن مريم ... الثاني: أنه المهدي الذي ولي من بني العباس ثم ذكر دليل من قال بهذا القول وضعَّفه، وقال: لو صح لم يكن فيه دليل على أن المهدي الذي تولى من بني العباس هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، بل هو مهدي من جملة المهديين، وعمر بن عبد العزيز كان مهديًا، بل هو أولى باسم المهدي منه. قال: وقد ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وغيره إلى أن عمر بن عبد العزيز منهم، ولا ريب أنه كان راشدًا مهديًا، ولكن ليس بالمهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فالمهدي في جانب الخير والرشد كالدجال في جانب الشر والضلال، وكما أن بين يدي الدجال الأكبر صاحب الخوارق دجالين كذابين، فكذلك بين يدي المهدي الأكبر مهديون راشدون. القول الثالث: أنه رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورًا وظلمًا، فيملؤها قسطًا وعدلا، وأكثر الأحاديث على هذا تدل، وفي كونه من ولد الحسن سِرٌّ لطيف؛ وهو أن الحسن -رضي الله عنه- ترك الخلافة لله، فجعل الله من ولده من يقوم بالخلافة الحق المتضمن للعدل الذي يملأ الأرض، وهذه سنة الله في عباده؛ أنه من ترك لأجله شيئًا أعطاه الله أو أعطى ذريته أفضل منه، وهذا بخلاف الحسين -رضي الله عنه- فإنه حرص عليها وقاتل عليها فلم يظفر بها. قال وقد روى أبو نعيم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج رجل من أهل بيتي يعمل بسنتي، وينزل الله له البركة من السماء، وتخرج له الأرض بركتها، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلمًا، ويعمل على هذه الأمة سبع سنين، وينزل بيت المقدس». وروى أيضًا من حديث أبي إمامة قال: "خَطَبَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الدجال وقال: «فتنفي المدينة الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعي ذلك اليوم يوم الخلاص» فقالت أم شريك: فأين العرب يا رسول الله يومئذ؟ فقال: «هم يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم المهدي رجل صالح». وروى أيضًا من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن تهلك أمة أنا في أولها، وعيسى ابن مريم في آخرها، والمهدي في وسطها». وهذه الأحاديث وإن كان في ........

تقول ابن محمود على الشاطبي والرد عليه

إسنادها بعض الضعف والغرابة، فهي مما يقوي بعضها بعضًا ويشد بعضها ببعض. فهذه أقوال أهل السنة، وأما الرافضة الأمامية فلهم قول رابع؛ وهو أن المهدي هو محمد بن الحسن العسكري المنتظر، من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن، ثم ذكر مهدي المغاربة وهو محمد بن تومرت، ومهدي القرامطة الباطنية وهو عبيد الله بن ميمون القداح، ثم قال: والمقصود أن هؤلاء لهم مهدي، وأتباع ابن تومرت لهم مهدي، والرافضة الإثني عشرية لهم مهدي، فكل هذه الفرق تدَّعي في مهديها الظلوم الغشوم والمستحيل المعدوم أنه الإمام المعصوم والمهدي المعلوم الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر بخروجه. انتهى المقصود من كلامه. وقد قرر فيه خروج المهدي في آخر الزمان، وصحح بعض الأحاديث الواردة فيه وحسن بعضها، فليتأمله العلماء المنصفون، وليقابلوا بينه وبين أقوال المجازفين في رد الأحاديث الثابتة في المهدي، القائلين على بعض العلماء ما لم يقولوه. وأما قوله: ومنهم الشاطبي صاحب "الاعتصام" فقد ألحق المهدية والإمامية بأهل البدع، ويعني بالمهدية الذين يعتقدون صحة خروج المهدي. فجوابه: أن يقال: في كلام ابن محمود إيهام وتلبيس، وقد تصفحت كتاب "الاعتصام" للشاطبي، فرأيته ذكر بعض أقوال ابن التومرت المغربي المتسمي بالمهدي في تسعة مواضع وندَّد به، فأما أحاديث المهدي المبشر بخروجه في آخر الزمان فما أورد منها شيئًا، ولكنه أشار إليها في صفحة (253) من الجزء الثاني من النسخة المطبوعة في مطبعة المنار سنة 1331 هـ، ولم يتعرض لها بالإنكار والرد، وهذا نَصُ كلامه قال: "وقد وضع القتل شرعًا معمولا به على غير سنة الله وسنة رسوله، المتسمي بالمهدي المغربي، الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث". انتهى. فقول الشاطبي: المبشر به في الأحاديث، صريح في أنه يرى أن المهدي المبشر به في الأحاديث حق، وأنه غير المغربي الذي زعم أنه المهدي المبشر به. وأما قوله: إن الشاطبي ألحق المهدية والإمامية بأهل البدع. فجوابه: أن يقال: هذا من القول على الشاطبي بما لم يقل، وقد ذكرت عن الشاطبي أنه ذكر المغربي المدعي أنه المهدي - وهو ابن التومرت الكذاب المتبدع، ذكره في تسعة مواضع من كتاب "الاعتصام" وندد به، ولم يلحق المهدية والإمامية بأهل البدع خاصة، ولم يقل إنه لا مهدي ولا إمام من غيرهم.

تقوله على ابن خلدون والرد عليه

وأما قوله: ويعني بالمهدية الذين يعتقدون صحة خروج المهدي. فجوابه: أن يقال: هذا من نمط ما قبله من القول على الشاطبي بما لم يقل، وقد ذكرت عن الشاطبي أنه ندَّد بالمغربي المدعي أنه المهدي، وذكر عنه أنه زعم أنه المبشر به في الأحاديث، فقد ذكر الشاطبي في هذه الجملة المهدي المبشر به في الأحاديث ولم ينكره، وإنما أنكر زعم المغربي أنه هو، وفي هذا رد لما تقوله ابن محمود على الشاطبي، وسيأتي مزيد لهذا عند ذكر ما نقله ابن محمود عن الشاطبي في صفحة (35) متوهمًا أنه يؤيد قوله الباطل، وليس فيه ما يؤيده. وأما قوله: وكذلك ابن خلدون، فقد فحص أحاديث المهدي وبين بطلان ما يزعمونه صحيحًا منها، فسامها كلها بالضعف وعدم الصحة، وإن من رواتها من يتهم بالتشيع، ومنهم الحروري، ومنهم من يعتقد رفع السيف على أهل القبلة، ومنهم من يتهم بالكذب، ومنهم من يتهم بسوء الحفظ، ومنهم من يتهم برفع الحديث إلى رسول الله بدون أن يتكلم به الرسول، مع ما فيها من التعارض والاضطراب والاختلاف، ثم قال: والحق الذي ينبغي أن يتقرر، أن ما تدعيه العامة والأغمار من الدهماء، ممن لا يرجع في رأيه إلى اعتقاد صحيح، ولا إلى علم صريح يفيده، فيجيبون في ذلك على غير نسبة، وفي غير مكان، تقليدًا لما اشتهر من ظهور الفاطمي، ولا يعلمون حقيقة الأمر، وإنما يقولون تقليدًا، فقد ظهرت حركات كثيرة كلها تدعي أنها المهدي، ثم ظهر ناس بهذه الدعوة ينتحلون السنة، وليسوا عليها إلا الأقل". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن ابن محمود لم ينقل كلام ابن خلدون على ما هو عليه في مقدمته، وإنما لخَّص منه قليلا، وغير أسلوبه، وزاد فيما نقله منه ونقص، ومن طالع مقدمة ابن خلدون لم يخف عليه ذلك. الوجه الثاني: أن يقال: إن ابن محمود قد زعم أن ابن خلدون قد سام أحاديث المهدي كلها بالضعف وعدم الصحة، وهذا غير صحيح، والواقع في الحقيقة بخلاف ما زعمه ابن محمود؛ فإن ابن خلدون لمَّا ذكر ما ذكر من أحاديث المهدي قال بعد ذلك ما نصه: "فهذه جملة الأحاديث التي خرَّجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان، وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه". انتهى، فهذا صريح في استثناء القليل أو الأقل من أحاديث المهدي من النقد، وفي هذا أبلغ رد على ما توهمه ابن محمود على ابن خلدون، حيث زعم أنه قد سام أحاديث ....................................

ردود العلماء على ابن خلدون في تضعيفه لبعض الأحاديث الثابتة في المهدي

المهدي كلها بالضعف وعدم الصحة، ولا يخفى ما في كلام ابن محمود من التقوُّل على ابن خلدون. الوجه الثالث: أن يقال: إن ابن خلدون قد توسع في تضعيف أحاديث المهدي، حتى آل به التوسع إلى تضعيف عدة أحاديث من الصحاح والحسان، التي قد حكم بصحتها أو حسنها غير واحد من الأئمة الحفاظ النقاد، الذين لا يدانيهم ابن خلدون في معرفة الأحاديث وعللها، وقد تقدم ذكرهم في أول الكتاب فليراجع (¬1)، والعبرة بأقوالهم في تصحيح بعض الأحاديث الواردة في المهدي وتحسين بعضها، ولا عبرة بأقوال ابن خلدون وأمثاله ممن ليسوا من أهل الجرح والتعديل، وقد ردَّ غير واحد من العلماء على ابن خلدون وخطَّؤوه في رده لبعض الأحاديث الثابتة في المهدي وحكمه بضعفها، وقد تقدم ما نقلته من كلام جعفر الحسني الإدريسي في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" فقد قال فيه: "إن كثيرًا من الناس يقف مع كلام ابن خلدون ويعتمده، مع أنه ليس من أهل هذا الميدان، والحق الرجوع في كل فن لأربابه". انتهى (¬2). وقد رد أحمد بن محمد الغماري على ابن خلدون في كتابه الذي سماه "إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون"، ورد عليه الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد، فقال في الكلام على حديث عاصم بن أبي النجود، عن زر، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي»: إسناده صحيح ... إلى أن قال: "أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم، واقتحم قحمًا لم يكن من رجالها، وغلبه ما شغله من السياسة وأمور الدولة وخدمة من كان يخدم من الملوك والأمراء، فأوهم أن شأن المهدي عقيدة شيعية أو أوهمته نفسه ذلك، فعقد في مقدمته المشهورة فصلا طويلا، جعل عنوانه: "فصل في أمر الفاطمي، وما يذهب إليه الناس في شأنه، وكشف الغطاء عن ذلك". تهافت في هذا الفصل تهافتًا عجيبًا، وغلط فيه أغلاطًا واضحة. فبدأه بأن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار، أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت، يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي. ثم قال: ويحتجون في الباب ........... ¬

_ (¬1) ص 41 - 43. (¬2) ص 44.

بأحاديث خرجها الأئمة، وتكلم فيها المنكرون لذلك، ثم أشار إلى بعض الأحاديث الواردة في المهدي، وقال وربما تعرض لها المنكرون كما نذكره، إلا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل، فإذا وجدنا طعنًا في بعض رجال الأسانيد؛ بغفلة، أو بسوء حفظ، أو ضعف، أو سوء رأي، تطرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها، ولا تقولن مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين؛ فإن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول والعمل بما فيهما، وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفع، وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك، ثم شرع يورد بعض الأحاديث بنصها، ويتكلم في تعليلها، ومنها حديث ابن مسعود هذا، جعل مطعنه فيه على عاصم، بما تكلم فيه بعضهم في حفظه، ثم قال: وإن احتج أحد بأن الشيخين أخرجا له، فنقول: أخرجا له مقرونًا بغيره لا أصلا. قال أحمد محمد شاكر: "وأولا: إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين: "الجرح مقدم على التعديل"، ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئا مما قال، وقد يكون قرأ وعرف، ولكنه أراد تضعيف أحاديث المهدي بما غلب عليه من الرأي السياسي في عصره. وثانيًا: إن عاصم بن أبي النجود من أئمة القراءة المعروفين، ثقة في الحديث، أخطأ في بعض حديثه، ولم يغلب خطؤه على روايته حتى ترد. قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: أخبَرَنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إليَّ قال: سألت أبي عن عاصم بن بهدلة، فقال: "ثقة، رجل صالح، خير ثقة، والأعمش أحفظ منه، وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث"، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عاصم بن بهدلة فقال: "هو صالح، هو أكثر حديثًا من أبي قيس الأودي، وأشهر منه، وأحب إلي من أبي قيس"، وقال سُئل أبي عن عاصم بن أبي النجود، وعبد الملك بن عمير، فقال: "قدِّم عاصمًا على عبد الملك؛ عاصم أقل اختلافًا عندي من عبد الملك"، وقال: سألت أبا زرعة عن عاصم بن بهدلة فقال: "ثقة"، قال: فذكرته لأبي فقال: "ليس محله هذا أن يقال هو ثقة وقد تكلم فيه ابن عليه، فقال: كأن كل من كان اسمه عاصمًا سيء الحفظ"، وهذا أكثر ما قيل فيه من الجرح، أفمثل هذا يطرح حديثه، ويجعل سبيلا لإنكار شيء ثبت بالسنة الصحيحة، من طرق متعددة من حديث كثير من الصحابة، حتى لا يكاد يشك في صحته أحد لما في رواته من عدل ....................................................................

تقليد ابن محمود لمحمد فريد وجدي في رد أحاديث المهدي والرد عليهما

وصدق لهجة، ولارتفاع احتمال الخطأ ممن كان في حفظه شيء بما ثبت عن غيره ممن هو مثله في العدل والصدق وقد يكون أحفظ منه؟ ما هكذا تعلل الأحاديث". انتهى. وقال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي في "عون المعبود": "وخرج أحاديث المهدي جماعة من الأئمة؛ منهم أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبزار، والحاكم، والطبراني، وأبو يعلي الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل؛ عليّ، وابن عباس، وابن عمر، وطلحة، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وأم حبيبة، وأم سلمة، وثوبان، وقرة بن إياس، وعلي الهلالي، وعبد الله بن الحارث بن جزء -رضي الله عنهم-. وإسناد أحاديث هؤلاء بين صحيح وحسن وضعيف، وقد بالغ الإمام المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون المغربي في تاريخه في تضعيف أحاديث المهدي كلها، فلم يصب بل أخطأ". انتهى. وقال صاحب "تحفة الأحوذي" مثل ما قال صاحب "عون المعبود": "قلت: لم يضعف ابن خلدون أحاديث المهدي كلها، بل ضعَّف أكثرها، ثم قال بعد إيرادها ما نصه: فهذه جملة الأحاديث التي خرَّجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان، وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه". انتهى. وقال ابن محمود في صفحة (20): ويقول محمد فريد وجدي في دائرة المعارف الجزء 19 ص (480): "ما ورد في المهدي المنتظر من أحاديث، والناظرون فيها من أولي البصائر لا يجدون في صدورهم حرجًا من تنزيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قولها، فإن فيها من الغلو والخبط في التواريخ، والإغراق في المبالغة، والجهل بأمور الناس، والبعد عن سنن الله المعروفة، ما يشعر المطالع لأول وهلة أنها أحاديث موضوعة، تعمد وضعها من أهل الزيغ والمشايعين لبعض أهل الدعوة من طلبة الخلافة في بلاد العرب أو المغرب، وقد ضعَّف كثير من أئمة المسلمين أحاديث المهدي، واعتبروها مما لا يجوز النظر فيه، منهم الدارقطني، والذهبي، وقد أوردناها مجتمعة لتكون بمرأى من كل باحث في هذا الأمر، حتى لا يجرؤ بعض الغلاة على التضليل بها على الناس". انتهى. والجواب: أن يقال: إن محمد فريد وجدي قد ذكر في "دائرة المعارف" أن الذي نقله من الأحاديث الواردة في المهدي مأخوذ من مختصر الشعراني للتذكرة القرطبية، وغالب ما نقله من الموضوعات، وقد مزج معها قليلا من الأحاديث التي ...........................

رواها أبو داود والترمذي وابن ماجة، ثم قال هذا ما ورد من الأحاديث في المهدي المنتظر، وقد فاته أحاديث كثيرة من الصحاح والحسان فلم يذكرها، وما فاته من الأحاديث الضعيفة التي لا يحكم عليها بالوضع أكثر وأكثر، ومن لم يعرف من الأحاديث الواردة في المهدي إلا ما ذكره الشعراني في مختصر التذكرة فهو مزجى البضاعة، ولا ينبغي أن يلتفت إلى قدحه في أحاديث المهدي على العموم وهو لا يعرف أكثرها؛ لأن قدحه فيها من القول بغير علم. وأيضًا فإن محمد فريد وجدي مؤرخ وثقافي، وليس من علماء الحديث وأهل الجرح والتعديل، فلا يلتفت إلى كلامه فيما ليس من اختصاصه. وأما قوله: والناظرون فيها من أولي البصائر لا يجدون في صدورهم حرجًا من تنزيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قولها. فجوابه: أن يقال: أما الأحاديث الموضوعة في المهدي وغيره فإنه يجب التحذير منها وتنزيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وأما الأحاديث الضعيفة فإنها تذكر للاستشهاد لا للاعتماد، وأما الصحاح والحسان فإنه يجب قبولها والتسليم لمن جاءت عنه، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}، وقد ذكرت في أول الكتاب تسعة أحاديث من الصحاح والحسان الواردة في المهدي، وذكرت لبعضها عدة طرق مما رواه الأئمة بالأسانيد الجيدة فلتراجع (¬1)، ففيها أبلغ رد على من زعم أن أحاديث المهدي كلها ضعيفة أو موضوعة. وأما قوله: وقد ضعَّف كثير من أئمة المسلمين أحاديث المهدي واعتبروها مما لا يجوز النظر فيه. فجوابه: أن يقال: أما الأئمة المحققون الذين يعتد بأقوالهم في التصحيح والتضعيف فقد صححوا بعض الأحاديث الواردة في المهدي وحسنوا بعضها، وذكر غير واحد منهم أن أحاديث المهدي متواترة، وقد ذكرت ذلك في أول الكتاب فليراجع (¬2)، ففيه رد على من ضعف أحاديث المهدي واعتبرها مما لا يجوز النظر فيه. ¬

_ (¬1) ص 9 - 17. (¬2) ص 41 - 45.

تقول ابن محمود على الدارقطني والذهبي وإدخال ذلك في كلام محمد فريد وجدي والرد عليه

وأول من توسع في تضعيف أحاديث المهدي عبد الرحمن بن خلدون، وزاد في التوسع حتى حكم على بعض الصحاح والحسان بالضعف، وتبعه بعض العصريين الذين يُحِّكمون أفكارهم في الأحاديث، فيصححون ما وافق أفكارهم ويضعفون ما خالفها، وإذا كانت الأحاديث التي تخالف أفكارهم ثابتة الأسانيد ولا مطعن فيها جعلوها من وضع الزنادقة أو من دسائس كعب الأحبار ووهب بن منبه أو غيرهما، ولو لم يكن لأحد منهم علاقة بتلك الأحاديث، وهكذا فعلوا في أحاديث المهدي، فزعم ابن محمود تقليدًا لسعد محمد حسن أنها من وضع عبد الله بن سبأ، وزعم غيره أنها من وضع غيره من الزنادقة، وليس مع هؤلاء ما يستندون إليه سوى الدعاوي المجردة عن الدليل. وأما قوله: منهم الدارقطني والذهبي. فجوابه: أن يقال: هذا مما زاده ابن محمود في كلام محمد فريد وجدي، ولم يبين ذلك، بل أوهم أنه من كلام محمد فريد، وهذا عمل غير مُرضٍ؛ لأنه ينافي الأمانة، ولو فعل مثل هذا الفعل أحد في زمان شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، أو في زمان أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، لقالوا فيه أعظم قول، وربما ألحقوه بغياث بن إبراهيم النخعي وأضرابه ممن لا تقبل أحاديثهم ولا يعتد بأقوالهم. فأما الدارقطني، فما رأيت له كلامًا في أحاديث المهدي، ولا رأيت أحدًا من العلماء ذكر ذلك عنه، وإنا نطالب ابن محمود أن يذكر الكتاب الذي وجد فيه كلام الدارقطني إن كان صادقًا، وأن يذكر الصفحة التي ذكر فيها ذلك من الكتاب، حتى يبرأ من عهدة النقل. وأما الذهبي، فكلامه صريح في الرد على ابن محمود، قال في كتابه "المنتقى من منهاج الاعتدال" ما نصه: "الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي صحيحة، رواها أحمد وأبو داود والترمذي، منها حديث ابن مسعود مرفوعًا: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا». وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث أم سلمة، وفيه: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة». ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه: «يملك الأرض سبع سنين». وعن عليٍّ أنه نظر إلى الحسن فقال: "سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في ................................................

الرد على أخطاء محمد فريد وجدي

الخُلُق ولا يشبهه في الخَلق يملأ الأرض قسطًا". فأما حديث: «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم» فضعيف، فلا يعارض هذه الأحاديث" انتهى. وقد صحَّح الذهبي أيضًا في تلخيص المستدرك عدة أحاديث من أحاديث المهدي، وضعَّف أحاديث أخر، ومن الأحاديث التي صححها حديث زر بن حبيش، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال الذهبي فيه: "صحيح"، ومنها حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال فيه الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي على ذلك، ورواه الحاكم أيضا من وجه آخر وصححه، ووافقه الذهبي على ذلك. وقد تقدم إيراد هذه الأحاديث في أول الكتاب فلتراجع (¬1)، ففيها رد على من تقوَّل على الذهبي، وزعم أنه ممن ضعف أحاديث المهدي واعتبرها مما لا يجوز النظر فيه. وأما قول محمد فريد وجدي في أحاديث المهدي: وقد أوردناها مجتمعة لتكون بمرأى من كل باحث في هذا الأمر، حتى لا يجرؤ بعض الغلاة على التضليل بها على الناس. فجوابه: أن يقال: إن الأحاديث الواردة في المهدي كثيرة جدًا، وقد قال الشوكاني فيما نقله عنه صاحب "تحفة الأحوذي": "الذي أمكن الوقوف عليه من الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر خمسون حديثًا، وثمانية وعشرون أثرًا. ثم سردها مع الكلام عليها، ثم قال: وجميع ما سقناه بالغ حد التواتر كما لا يخفى على من له فضل اطلاع". انتهى. وإذا علم هذا، فليعلم أيضًا أن محمد فريد لم يذكر من الأحاديث الواردة في المهدي إلا نزرًا يسيرًا، وأكثر ما ذكر فيه من الموضوعات، وقد ذكرت في أول الرد عليه أنه لم يذكر مما ورد في المهدي من الأحاديث الصحيحة والحسنة شيئًا، وكذلك الأحاديث الضعيفة، فإنه لم يذكر منها إلا حديثين أو ثلاثة، مع أنها كثيرة جدًا، ومع هذا يقول أنه قد أورد أحاديث المهدي مجتمعة، وهذا القول بعيد من الصواب كما لا يخفى على من طالع "دائرة المعارف". ¬

_ (¬1) ص 11و 12و 14و 16، 38.

أخطاء لابن محمود في ذكر حادث الحرم والتنبيه على ذلك

وأما قوله: حتى لا يجرؤ (¬1) بعض الغلاة على التضليل بها على الناس. فجوابه: أن يقال: إن التضليل في الحقيقة ما فعله محمد فريد من إيراد الأحاديث الموضوعة في المهدي والإعراض عن إيراد الأحاديث الصحيحة والحسنة فيه، ومن التضليل أيضًا ما فعله ابن محمود من التهجم على الأحاديث الصحيحة والحسنة ووصفها بالصفات الذميمة؛ كقوله إنها أحاديث خرافة، وإنها نظرية خرافية، وإنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، وإنها مختلقة، وإنها مصنوعة وموضوعة ومزورة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها، فهذا هو التضليل في الحقيقة. فصل وقال ابن محمود في صفحة (20) وصفحة (21) ما ملخصه: حوادث الحرم الشريف من المدعين للمهدي. ثم قال: "إن حادث الحرم الشريف الواقع من المارقين المنافقين في يوم الثلاثاء أول يوم من المحرم عام 1400هـ ليس بأول حادث، فقد مضى للملحدين المهديين أمثالها، وقد أثبت التاريخ كتاريخ ابن مسعود وغيره عدوانًا مماثلا لهذا العدوان على البيت الحرام، وذلك في موسم الحج عام 317 هـ، أن جاء إلى مكة باسم الحج رجل يدعى أبو طاهر الجنابي ومعه تسعمائة رجل من أتباعه، وهو من القرامطة، فدخل هذا وأصحابه مكة في سابع ذي الحجة، وكان أميرها إذ ذاك محمد بن إسماعيل المقرون بابن مخلب، وقام أهل مكة والحجاج بمخادنة أبي طاهر في بادئ الأمر، ولكن القرامطة كانوا يُبيِّتون أمرًا آخر، وهو مهادنة الأمراء والرؤساء والاحتكاك بهم، حتى يتم لهم مقصودهم من المكر والكفر، فاحتكوا برجال الأمن وقتلوا واحدًا منهم، فبدأت الاشتباكات، فقاموا بإثارة فتنة عظيمة قتل فيها على ما يقول المؤرخ المسعودي: نحو ثلاثين ألفا من الحجاج وأهل مكة - إلى أن قال: واعترضت له قبيلة هذيل في المضايق، فأخذت منه بعض ما غنمه، لكنه استطاع أن يهرب بعدما فقد كثيرًا من غنائمه، وأقام كعبة جديدة للقرامطة بالقطيف بمكان يسمى الجعبة، ووضع فيه الحجر الأسود، ثم رد الحجر إلى مكانه من الكعبة بعد موت أبي طاهر. والشاهد من هذا الحديث أن أبا طاهر الذي فعل في الحرم ........................... ¬

_ (¬1) قوله يجرؤ كذا هو في كتاب ابن محمود. وصوابه يجرأ.

الشريف ما فعل كان يدعي بأنه المهدي المنتظر نفس ما ادعى به جهيمان ومن معه". والجواب: أن يقال: إن في كلام ابن محمود عدة أخطاء ينبغي التنبيه عليها، منها قوله: فقد مضى للملحدين المهديين أمثالها. وأقول: إن إطلاق اسم المهديين على الملحدين لا يجوز؛ لأن هذا الاسم من خصائص الخلفاء الراشدين؛ مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، ومن سار على منهاج هؤلاء من أئمة العدل المتمسكين بالكتاب والسنة، ومنهم المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فأما الملحدون فلا يجوز تسميتهم بالمهديين؛ لأن هذا الاسم لا ينطبق عليهم، وإنما ينبغي تسميتهم بالمُدَّعين للمهدية كذبًا وزورًا، ولا يخفى ما في كلام ابن محمود من الجمع بين الضدين، حيث جمع بين صفة المهدية وصفة الإلحاد، وهما ضدان فلا يجتمعان. ومنها قوله: كتاريخ ابن مسعود. وصوابه المسعودي، وقد ذكره على الصواب بعد عدة أسطر. ومنها قوله: إن القرمطي جاء إلى مكة باسم الحج. وأقول: لم أر هذا مذكورًا في كتب العلماء الذين يعتد بنقلهم؛ مثل كتاب "المنتظم" لأبي الفرج ابن الجوزي، و"الكامل" لابن الأثير، و"البداية والنهاية" لابن كثير، و"تاريخ أخبار القرامطة" لثابت بن سنان وابن العديم، و"شذرات الذهب" لعبد الحي بن العماد. وإنما جاء القرمطي قبحه الله لقصد الإفساد في الأرض، والإلحاد في حرم الله، وقتل الحجاج وغيرهم من أهل مكة، ونهب أموالهم. قال ابن كثير في "البداية والنهاية" في حوادث سنة سبع عشرة وثلاثمائة: "فيها خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي، فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافرت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم، واستباح قتالهم". وذكر ابن الجوزي في "المنتظم"، وابن الأثير في "الكامل"، وابن خلدون في تاريخه، وعبد الحي بن العماد في "شذرات الذهب" نحو ذلك. ومنها قوله: ومعه تسعمائة رجل. وأقول: هذا العدد قد ذكره عبد الحي بن العماد في "شذرات الذهب"، وذكر ........

المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف" أن القرمطي دخل مكة في ستمائة فارس وتسع مائة راجل. ومنها قوله: فدخل هذا وأصحابه مكة في سابع ذي الحجة. وأقول: هذا ما ذكره المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف"، وهو مخالف لما ذكره أكابر المؤخرين؛ فقد ذكر ابن الجوزي في "المنتظم"، وابن الأثير في "الكامل"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، وثابت بن سنان وابن العديم في "تاريخ أخبار القرامطة"، وابن خلدون في تاريخه، وعبد الحي بن العماد في "شذرات الذهب" أنهم دخلوا مكة يوم التروية؛ وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، وذكر ذلك أيضا صاحب كتاب "النجوم الزاهرة"، وذكر عريب بن سعد القرطبي في "صلة تاريخ الطبري" أن القرمطي دخل مكة وأوقع بأهلها عند اجتماع الموسم وإهلال الناس بالحج، وهذا موافق لما ذكره ابن الجوزي وغيره ممن ذكرنا، وهو أن دخول القرمطي مكة إنما كان في اليوم الثامن؛ لأنه اليوم الذي يهل فيه الناس بالحج. ومنها قوله: وكان أميرها إذ ذاك محمد بن إسماعيل المقرون بابن مخلب. وأقول: أما قوله: "المقرون" فهو خطأ، وصوابه "المعروف". وقد ذكر ابن الأثير في "الكامل" أن أمير مكة ابن مخلب، وفي "النجوم الزاهرة" و"شذرات الذهب" أن اسم أمير مكة ابن محارب، وفي هامش "الكامل" نقلا عن كتاب "العيون" أن أمير مكة يومئذ محمد بن إسماعيل المعروف بابن مجلب، وفي كتاب "التنبيه والإشراف" للمسعودي أن أمير مكة يومئذ محمد بن إسماعيل المعروف بابن مخلب. ومنها قوله: وقام أهل مكة والحجاج بمخادنة أبي طاهر في بادئ الأمر، ولكن القرامطة كانوا يبيتون أمرًا آخر، وهو مهادنة الأمراء والرؤساء والاحتكاك بهم، حتى يتم لهم مقصودهم من المكر والكفر، فاحتكوا برجال الأمن، وقتلوا واحدًا منهم، فبدأت الاشتباكات. وأقول: كل ما ذكره في هذه الجملة لا صحة له، ولم أر أحدًا من العلماء ذكر من ذلك شيئًا، والظاهر أن ذلك من توهمات ابن محمود وتخيلاته، وقد ذكر المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف": "أن من كان بمكة من الأولياء وغيرهم من عوام الناس من الحجاج وغيرهم صافُّوه- أي تصافوا هم والقرمطي للقتال- ثم انكشفوا من بين يديه عند قتل نطيف غلام ابن حاج، وكان من شِحنة مكة وممن ............................................

يعول عليه، وأخذ الناس السيف وعاذوا بالمسجد والبيت، فاستحر القتل فيهم وعمَّهم". انتهى، ولعل ابن محمود وهم أن قول المسعودي أن من كان بمكة من الأولياء وغيرهم من عوام الناس من الحجاج وغيرهم صافَوه، أن ذلك بتخفيف الفاء وفتحها من المصفاة أي إظهار المودة للقرمطي من باب المخادعة، ولهذا أبدل ابن محمود لفظة "صافوه" بالمخادنة. وإنما معنى قوله "صافُّوه" بتشديد الفاء وضمها من المُصافَّة للقتال وهذا ظاهر من قول المسعودي: ثم انكشفوا من بين يديه، وأخذ الناس السيف ... إلى آخر كلامه. وأما قوله: فاحتكوا برجال الأمن. فجوابه: أن يقال: إن تسمية الذين يضبطون البلاد- كالشرط ونحوهم من أولياء السلطان- برجال الأمن لم يكن معروفًا فيما مضى، وإنما هو مستحدث في القرن الرابع عشر من الهجرة، وكان الناس فيما مضى يسمون الذين يضبطون البلاد شِحنة، قال الأزهري: "شِحنة الكورة؛ من فيهم الكفاية لضبطها من أولياء السلطان"، نقله عنه ابن منظور في لسان العرب. وقال في القاموس: "الشِحنة في البلد؛ من فيه الكفاية لضبطها من جهة السلطان". ومنها قوله: نقلا عن المسعودي: أن القرمطي قتل من الحجاج وأهل مكة نحو ثلاثين ألفًا. وأقول: إن المسعودي لم يجزم بهذا القول، بل ذكره وتعقبه، وهذا نص كلامه في كتابه "التنبيه والإشراف" قال: "وقد تُنُوزع في عدة من قُتل من الناس من أهل البلد وغيرهم من سائر الأمصار فمكثر ومقل، فمنهم من يقول ثلاثين ألفا، ومنهم من يقول دون ذلك وأكثر، وكل ذلك ظن وحسبان، إذ كان لا يضبط". انتهى، وقد ذكر ابن العماد في "شذرات الذهب": "إن القرمطي كان معه تسعمائة نفس، فقتلوا في المسجد ألفًا وسبعمائة نسمة، وقيل إن الذي قتل بفجاج مكة وظاهرها ثلاثين ألفًا، وسبى من النساء والصبيان نحو ذلك، وأقام بمكة ستة أيام ولم يحج أحد". انتهى. ومنها قوله: واعترضت له قبيلة هذيل في المضائق والجبال، فأخذت منه بعض ما غنمه، لكنه استطاع أن يهرب بعدما فقد كثيرًا من غنائمه. وأقول: لم أر أحدًا من العلماء الموثوق بهم في النقل ذكر هذا، وإنما ذكره المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف" وهو محتمل، ولكن ذكر ابن الأثير في ..........................

"الكامل"، وثابت بن سنان وابن العديم في "أخبار القرامطة"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، وابن خلدون في تاريخه ما فيه رد لهذا القول، قال ابن الأثير في حوادث سنة سبع عشرة وثلاثمائة: "حج بالناس في هذه السنة منصور الديلمي، وسار بهم من بغداد إلى مكة، فسلموا في الطريق، فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية، فنهب هو وأصحابه أموال الحجاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه، وقلع الحجر الأسود ونفذه إلى هجر، فخرج إليه ابن محلب أمير مكة في جماعة من الاشراف فسألوه في أموالهم فلم يشفعهم، فقاتلوه فقتلهم أجمعين، وقلع باب البيت، وأصعد رجلا ليقلع الميزاب فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن الباقين في المسجد الحرام حيث قتلوا، بغير كفن ولا غسل ولا صلي على أحد منهم، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه، ونهب دور أهل مكة، فلما بلغ ذلك المهدي أبا محمد عبيد الله العلوي بإفريقية، كتب إليه ينكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه، ويقيم عليه القيامة، ويقول: قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلت، وإن لم ترد على أهل مكة وعلى الحجاج وغيرهم ما أخذت منهم، وترد الحجر إلى مكانه، وترد كسوة الكعبة، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة، فلما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود واستعاد ما أمكنه من الأموال من أهل مكة (¬1) فرده، وقال إن الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأموال الحجاج، ولا أقدر على منعهم" انتهى. وفي تاريخ "أخبار القرامطة" لثابت بن سنان وابن العديم نحو ما ذكره ابن الأثير في الكامل، وفيه: "إن المهدي عبيد الله كتب إلى القرمطي ينكر عليه فعله، وقال له: سجلت علينا في التاريخ نقطة سوداء لا تمحوها الليالي والأيام، ويلومه ويلعنه، ويقول له: قد حققت على دولتنا وشيعتنا ودعاتنا اسم الكفر والزندقة والإلحاد بفعالك الشنيعة هذه، وإن لم ترُدَّ على أهل مكة والحجاج ما نهبته منهم، وترد الحجر إلى موضعه، وترد كسوة الكعبة كما كانت، وإلا أتيت إليك بجنود لا قبل لك بها، وأنا بريء منك كما برئتُ من الشيطان الرجيم في الدنيا والآخرة، وأعوذ بالله من فعالك السوء، وإن لم تفعل ما آمرك به لا يكن بيني وبينك إلا السيف والبراءة منك يا عدو الله والناس أجمعين، فرد الحجر إلى مكانه، واستعاد ما أمكنه من الأموال إلى أهل مكة، وقال يعتذر للإمام العلوي: إن الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأموال الحجاج، ولا أقدر على ردها منهم". انتهى. ¬

_ (¬1) قوله من الأموال من أهل مكة .. كذا هو في "الكامل" ولعله من أموال أهل مكة.

وقد ذكر ابن خلدون في تاريخه قصة القرامطة مختصرة مما ذكره ابن الأثير وثابت بن سنان وابن العديم. وقال ابن كثير في "البداية والنهاية": "ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود، تبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهبًا إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج" انتهى. وفيما ذكره ابن كثير من ذهاب القرمطي إلى بلاده بأموال الحجيج، وما ذكره ابن الأثير وثابت بن سنان وابن العديم أن المهدي عبيد الله كتب إلى القرمطي يأمره برد الأموال على أهل مكة وعلى الحجاج، وأن القرمطي استعاد ما أمكنه من الأموال إلى أهل مكة، واعتذر عن أموال الحجاج بأن الناس اقتسموها، وأنه لا يقدر على ردها منهم، ففي هذا رد على من زعم أن قبيلة هذيل اعترضت القرمطي في المضايق والجبال فأخذت بعض ما غنمه، وأنه استطاع أن يهرب بعد ما فقد كثيرًا من غنائمه، والظاهر أن هذا لم يقع، ولو وقع لذكره العلماء الذين تقدم ذكرهم. ومن تأمل ما ذكره المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف" عن القرامطة، رأى فيه من الخلل ما يدل على قلة الاعتناء بتحرير ما فيه من النقول، فمِن ذلك أنه ذكر أن القرمطي دخل مكة يوم الاثنين لسبع خَلَونَ من ذي الحجة، ثم رحل عنها يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، وكان مقامهم بمكة ثمانية أيام، ولا يخفى ما في هذا الكلام من التخليط، فإنه إذا كان اليوم السابع يوم الاثنين، فإن يوم السبت يكون اليوم الثاني عشر، ويكون مقامهم بمكة ستة أيام. ومن ذلك قوله: وكانت ثقلته على نحو مائة ألف بعير، عليها أصناف المال والأمتعة. ولا يخفى ما في هذا الكلام من المجازفة، وقد ذكر في أول كلامه أن القرمطي دخل مكة في ستمائة فارس وتسعمائة راجل، وذكر ابن العماد في "شذرات الذهب" أنه كان مع القرمطي تسعمائة نفس، وإذا كانوا بهذا العدد القليل فإنه يبعد كل البعد أن يكون ثقلهم على نحو مائة ألف بعير، ولو كان هذا القول صحيحًا لذكره أكابر المؤرخين؛ كابن الجوزي، وابن الأثير، وابن كثير، وغيرهم ممن يعتني بنقل الوقائع، والمقصود هنا التنبيه على أنه ينبغي التأمل والنظر في نقول المسعودي؛ لأن الخلل ظاهر فيها.

تناقض كلام ابن محمود في المقارنة بين العلماء المتقدمين والمتأخرين وتفضيل بعضهم على بعض والرد عليه في ذلك

ومما ينبغي التنبيه عليه أيضًا؛ أن الملقب بالمهدي وهو عبيد الله بن ميمون القداح، ليس هو مهديًا ولا علويا، وإنما كان صباغًا بسلمية، وكان يهوديًا، فادعى الإسلام ثم سافر من سلمية، فدخل بلاد إفريقية فادعى أنه شريف فاطمي، فصدقه كثير من الجهال وصارت له دولة، فملك مدينة سلجماسة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية. هذا ما ذكره العلماء عن مؤسس دولة الفاطميين، الذين انتسبوا إلى أهل البيت، وإلى أنهم من ذرية فاطمة، وذلك كذب وزور. ومن أخطاء ابن محمود قوله: وأقام كعبة جديدة للقرامطة بالقطيف بمكان يسمى الجعبه، ووضع فيها الحجر الأسود. وأقول: قد رأيت المكان الذي أشار إليه ابن محمود، وهو يقع فيما بين مدينة الدمام وقرية سيهات التابعة للقطيف، وهو قريب منها وفيه جبل صغير تسميه الأعراب الكعبة، ولكنهم يبالغون في ترقيق الكاف كما هي عادة الأعراب في النطق بهذا الحرف، فاسم ذلك الجبل الصغير الكعبة بالكاف المرققة لا الجعبة بالجيم. ومنها قوله: والشاهد من هذا الحديث أن أبا طاهر الذي فعل في الحرم الشريف ما فعل كان يدعي بأنه المهدي المنتظر، نفس ما ادعى به جهيمان ومن معه. وأقول: إنني لم أر أحدًا من المؤرخين ذكر عن أبي طاهر القرمطي أنه كان يدعي أنه المهدي المنتظر، وإنما ذكروا عنه أنه كان داعية لعبيد الله بن ميمون القداح الذي كان يلقب بالمهدي. قال ابن كثير في "البداية والنهاية" في ذكر القرامطة: "وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا ببلاد إفريقية من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي؛ وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه، ويدعون إليه، ويترامون عليه، ويقال إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك سياسة، ولا حقيقة له". انتهى، وذكر ابن الجوزي في "المنتظم" أن القرامطة كانوا يمخرقون بالمهدي، ويوهمون أنه صاحب المغرب، وذكر صاحب "النجوم الزاهرة" عن أبي طاهر أنه كان يزعم أنه داعية المهدي عبيد الله، وذكر له شِعرًا قال فيه: أنا الداع للمهدي لا شيء غيره أنا الصارم الضرغام والفارس الذكر وفي صفحة (23) ذكر ابن محمود المقارنة بين أقوال العلماء المتقدمين والمتأخرين، وقال: "إننا متى قابلنا بين العلماء المتقدمين والمتأخرين نجد الفرق واسعًا، فلا مداناة فضلا عن المساواة، إذ العلماء المتقدمون قد جمعوا بين العلم والعمل، فهم .....................

رميه علماء السنة بالتساهل والرد عليه

أحق وأتقى وأقرب للتقوى". ثم نقض ابن محمود كلامه؛ حيث وصف العلماء المتقدمين بالتغفيل، فزعم أنهم يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم، ويستبعدون تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مؤمن بالله، قال: "ولهذا أكثروا من أحاديث المهدي المتنوعة والمتضاربة والمختلفة، حتى بلغت خمسين حديثًا في قول الشوكاني، والسبب أن من عادة علماء السنة المتقدمين عمل التساهل فيما يرد من أحاديث أشراط الساعة؛ كأحاديث المهدي، والدجال، ويأجوج ومأجوج، وما كان من قبيل ذلك فلا يتكلفون في نقدها، ولا إخضاعها للتصحيح ولا التمحيص، لعلمهم أنها أخبار آخرة متأخرة". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن العلماء المتقدمين كما وصفهم ابن محمود في أول كلامه بأنهم قد جمعوا بين العلم والعمل، وأنهم أحق وأتقى وأقرب للتقوى من المتأخرين، وأن الفرق بينهم وبين المتأخرين واسع، فلا مداناة فضلا عن المساواة، ولو أن ابن محمود ثبت على هذا القول لكان على الصواب، ولكنه قد قال فيهم بخلاف ذلك في صفحة (8)؛ حيث زعم أن من عادتهم أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقه، وقال في صفحة (5): وأكثر الناس مقلدة يقلد بعضهم بعضا، وقليل منه المحققون، فإن المحققين من العلماء المتقدمين والمتأخرين قد أخضعوا هذه الأحاديث - يعني أحاديث المهدي- للتصحيح والتمحيص والجرح والتعديل، فأدركوا فيها من الملاحظات ما يوجب عليهم ردها وعدم قبولها، ففي هذا الموضع فضل العصريين على العلماء المتقدمين، وزعم أن العلماء المتقدمين مقلدة، وزعم أن العصريين المتهجمين على أحاديث المهدي هم المحققون؛ لأنهم أخضعوا أحاديث المهدي لتصحيحهم وتمحيصهم، وردوها ولم يقبلوها. فكلام ابن محمود ينقض بعضه بعضًا، فهو كما قال الشاعر: يومًا يمان إذا ما جئت ذا يمن ... وإن أتيت معديًا فعدناني وقد تقدم الجواب عما ذكره في صفحة (5) وصفحة (8) في أول الكتاب وفي أثنائه فليراجع (¬1). وأما قوله في العلماء المتقدمين: إنه يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم، ويستبعدون تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مؤمن بالله، فهذا مردود عليه. وكذلك قوله: إن من عادة علماء السنة المتقدمين عمل التساهل فيما يرد من .................................. ¬

_ (¬1) ص 50 - 51و 79 - 87.

يفهم من كلام ابن محمود أنه يتشكك في أشراط الساعة

أحاديث أشراط الساعة .... إلى آخر كلامه، فهذا كله مردود عليه؛ لأنه يقتضي الطعن في علماء السنة المتقدمين، ورميهم بالتغفيل وقلة العناية والاهتمام بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن علماء السنة المتقدمين كانوا على خلاف ما يظنه ابن محمود فيهم، فقد كانوا على غاية من النباهة والذكاء والفطنة، فلا تخفي عليهم أحاديث الكذابين والوضاعين، ولا تروج عليهم الأحاديث الضعيفة والواهية والمنكرة، وقد أعطاهم الله من الحفظ والإتقان والعناية بالأحاديث، وتمييز الصحيح من الضعيف والواهي والموضوع، وبيان الكذابين والوضاعين والتحذير منهم، ما هو معروف عند أهل العلم والإنصاف. ولو طالع ابن محمود "تذكرة الحفاظ" للذهبي لرأي فيها ما يخالف ظنه في علماء السنة المتقدمين، وكذلك لو طالع "تهذيب الكمال" للمزي، و "تهذيب التهذيب" لابن حجر لرأي فيهما ما يخالف ظنه. الوجه الثاني: أن يقال: إن الأحاديث الثابتة في المهدي ليست متضاربة ولا مختلفة كما زعم ذلك ابن محمود، وإنما التضارب والاختلاف واقع في أوهامه وتخيلاته. الوجه الثالث: أن يقال: يفهم من فحوى كلام ابن محمود أنه يتشكك في أحاديث الدجال، ويأجوج ومأجوج، وما كان من قبيل ذلك من أشراط الساعة؛ مثل نزول عيسى ابن مريم، وخروج الدابة، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، والخسوفات الثلاثة في المشرق والمغرب وجزيرة العرب، وخروج النار التي تطرد الناس إلى محشرهم، وكذلك حسر الفرات عن كنز من ذهب أو جبل من ذهب، ويرى أن علماء السنة المتقدمين قد تساهلوا فيما ورد من هذه الأحاديث، وأنهم لم يتكلفوا في نقدها وإخضاعها للتصحيح والتمحيص، الذي معناه عند ابن محمود ردها وقلة المبالاة بها، كما فعل ذلك بأحاديث المهدي حين أخضعها للتصحيح والتمحيص على حد زعمه، ثم حكم عليها بأنها مختلقة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وأنها أحاديث خرافة، وأنها نظرية خرافية، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، فهذا حاصل تصحيح ابن محمود وتمحيصه لجميع الأحاديث الواردة في المهدي، ولم يفرق بين الصحيح منها والحسن والضعيف المنجبر، وبين المنكر والموضوع، بل جعل الجميع على حد سواء، وحكم على الجميع بالرد والإطراح، مع وصفها كلها بأقبح الصفات، وقد قال الله -تعالى-: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}، وقال -تعالى- في صفة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. فمن كذَّب الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ...........

الرد على زعمه أن المهدي وما يقال فيه وعنه ليس من عقيدة أهل السنة وأنه حديث خرافة

المهدي فلا شك أنه قد كذب بما لم يحط بعلمه ولم يأته تأويله، وتكذيب خبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ليس بالأمر الهين، ومن أنكر خروج المهدي ولم يبال برد الأحاديث الثابتة فيه فغير مستبعد منه أن ينكر بقية الأشراط، ولا يبالي برد ما جاء فيها من الأحاديث الصحيحة، نعوذ بالله من عمى البصيرة ومن الخذلان، وقد روى الترمذي وحسنه، عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ». وأما قوله: لعلمهم أنها أخبار آخرة متأخرة. فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن الأحاديث الواردة في المهدي، والدجال، ويأجوج ومأجوج، وغير ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها، كلها من أخبار الدنيا، وليست من أخبار الآخرة، كما قد توهم ذلك ابن محمود. الوجه الثاني: أن يقال: إن علماء السنة المتقدمين لم يكونوا يتساهلون في نقد الأحاديث الواردة في أشراط الساعة، ولا في نقد الأحاديث الواردة فيما يكون بعد قيام الساعة، بل كانوا ينقدون الكل، كما كانوا ينقدون أحاديث الأحكام والحلال والحرام، فيقبلون من ذلك ما كان صحيحًا أو حسنًا، ويستشهدون بالأحاديث الضعيفة المنجبرة، ويردون ما سوى ذلك من الأحاديث الواهية والمنكرة والموضوعة، ومن كان له أدنى معرفة بالحديث لم يخف عليه ذلك، ومن خفي عليه ذلك فلا يجوز له أن يتكلف ما لا علم له به، ولا أن يقول على علماء السنة المتقدمين بما لم يقولوه، ولا أن يرميهم بما ليس فيهم من التغفيل والتساهل. وقال ابن محمود في صفحة (23) وصفحة (24): "وإنه لولا حادث الحرم الشريف بمكة لما تكلفت تأليف هذه الرسالة، لاعتقادي أن المهدي وما يقال فيه ليس من عقيدة أهل السنة، فلم أعطه حظًا من الاحتفال به، وإنه وما يقال فيه وعنه ما هو إلا حديث خرافة يتلقفها واحد عن آخر، ويزيد كل واحد فيها ما يريد". والجواب: أن يقال: إن تأليف ابن محمود لرسالته في إنكار خروج المهدي من أعظم الضرر عليه؛ لأنه قد حارب الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، ونبذها وراء ظهره، وزعم أنها مختلقة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وأنها أحاديث خرافة، وأنها نظرية خرافية، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، وهذا من أقبح الرد لأقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخباره الثابتة .............................................

زعمه عجز العلماء الذين لم ينكروا خروج المهدي والرد عليه

عنه، وقد قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قال الإمام أحمد: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} "، وقال أحمد أيضًا: "من رد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة"، وقال أيضًا: "كل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إسناد جيد أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره، قال الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ". وقد ذكرتُ أقوال بعض العلماء في التشديد على من يرد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فليراجع ذلك في أول الكتاب (¬1)، ففيه رد على ابن محمود ومن نحا نحوه في رد الأحاديث الثابتة. وأما قوله: لاعتقادي أن المهدي وما يقال فيه ليس من عقيدة أهل السنة .... إلى آخر كلامه. فجوابه: أن يقال: كل ما جاء في الكتاب والسنة من أنباء الغيب فالإيمان به واجب وهو من عقائد أهل السنة؛ ومن ذلك الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان؛ لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة أوجه أنه أخبر بخروجه، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، وقال -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. ومن لم يؤمن بخروج المهدي فلا شك أنه فاسد العقيدة، وأن عقيدته في المهدي مخالفة لعقيدة أهل السنة، وقد قال الله -تعالى-: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}. وقال ابن محمود في صفحة (24): "والذي جعل أمر المهدي يستفحل بين أهل السنة من المسلمين وكان بعيدًا عن عقيدتهم، هو عجز العلماء المتقدمين وكذا العلماء الموجودين على قيد الحياة، فلم نسمع بأحد منهم رفع قلمه، ولا نطق ببنت شفة في التحذير من هذا الاعتقاد السيئ، وكونه لا صحة له، اللهم هل بلغت؟ بل إنهم ينكرون على من يقولون بإنكاره، فيزيدون الحديث علة والطين بلة". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن أقول: قد ذكرت مرارًا أن خروج ......... ¬

_ (¬1) ص 19 - 20وص 52 - 53.

المهدي في آخر الزمان من أنباء الغيب التي أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث، بعضها من الصحاح وبعضها من الحسان، وذكرت مرارًا أن الإيمان بالغيوب الماضية والغيوب الآتية هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وأن من خالف الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبال بردها وإطراحها فهو فاسد العقيدة، وقال البربهاري: إنه متهم على الإسلام، وقال ابن شاقلا: إنه قد تهجم على الإسلام. الوجه الثاني: أن يقال: إن الاعتقاد السيئ في الحقيقة هو اعتقاد ابن محمود ومن كان على شاكلته من العصريين، الذين ينكرون ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خروج المهدي في آخر الزمان، ولا يبالون بردِّ الأحاديث الثابتة فيه، فأقوال هؤلاء في إنكار المهدي هي البعيدة كل البعد عن عقيدة أهل السنة. الوجه الثالث: أن ابن محمود أنكر على العلماء المتقدمين والعلماء الموجودين، ووصفهم بالعجز من أجل سكوتهم عن التحذير من اعتقاد خروج المهدي، وكونه لا صحة له على حد زعمه، وهذا من أغرب الأقوال، وهو من الدعاء إلى الضلالة، وقد أعاذ الله العلماء المتقدمين من هذه الضلالة، ونرجو من الله أن يعيذنا ويعيذ إخواننا المسلمين ممن كان موجودًا على قيد الحياة ومن سيأتي بعد ذلك من قبول هذه الضلالة، كما نرجوه -سبحانه- أن يرد ابن محمود ومن قال بقوله إلى الصواب، وأن يعيذنا وإياهم من خطوات الشيطان ونزغاته. وأما قوله: اللهم هل بلغت؟ فجوابه: أن يقال: نعم إنك قد بلغت الباطل والضلال، حيث زعمت وكررت زعمك أن أحاديث المهدي مختلقة ومصنوعة وموضوعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليست من كلامه، وأنها أحاديث خرافة، وأنها نظرية خرافية، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، وقد بذلت جهدك في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، وخالفت ما عليه أهل السنة قديمًا وحديثًا من قبولها، والتسليم لما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورميت الثقات الأثبات من رواة الأحاديث الثابتة في المهدي بالزندقة والكذب والتزوير على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما هو مذكور في صفحة (19) من رسالتك، التي هي ضرر محض عليك وعلى من اغتر بكلامك، أما تخشى أن تحشر في زمرة المكذبين للرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ أما تخشى أن تكون ممن قال الله فيهم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، وأن يكون عليك من الإثم مثل آثام من تبعك واغتر برسالتك؟ والأولى لك أن ..

زعمه تقليدا لأحمد أمين أن فكرة المهدي مقتبسة من عقائد الشيعة والرد عليه

تراجع الحق ولا تتمادى في الباطل. وأما قوله: بل إنهم ينكرون على من يقول بإنكاره، فيزيدون الحديث عِلة والطين بلة. فجوابه: أن يقال: إن أهل السنة لا يلحقهم لوم إذا فعلوا ما يجب عليهم من إنكار المنكر والرد على أهل الباطل، وإنما اللوم كل اللوم على من يقول بالباطل ويدعو إليه ويزينه للناس، وذلك هو المردود عليه. وقال ابن محمود في صفحة (24) و (25): "إن فكرة المهدي والفتنة به لها أسباب سياسية واجتماعية، وغالبها مقتبس من عقائد الشيعة وأحاديثهم، فسرى اعتقادها إلى أهل السنة بطريق العدوى والتقليد الأعمى، فبعد خروج الخلافة من أهل البيت تصدى أقوام من المتحمسين لهم، فعملوا عملهم في صناعة الأحاديث التي غزوا بها أفكار الجمهور يروونها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحكموا أسانيدها عن أكثر الموتى، وأخرجوها بطرق مختلفة، وأسانيدها مضطربة ومتعارضة، فصدَّق بها بعض علماء الإسلام، وضَعَفَة العلوم والأفهام، وصار لها الأثر السيئ في تضليل عقول الناس وإفساد عقائدهم، وخضوعهم للخرافات والأوهام. والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن خروج المهدي في آخر الزمان ثابت بالسنة، وليس ذلك مجرد فكرة كما قد زعم ذلك ابن محمود في هذا الموضع وفي مواضع أخر من رسالته، وقد تقدم الجواب عن ذلك في أول الكتاب عند قول ابن محمود: إن فكرة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة. فليراجع (¬1). الوجه الثاني: أن يقال: لا صحة لما زعمه ابن محمود من اقتباس فكرة المهدي من عقائد الشيعة وأحاديثهم، وأن اعتقادها سرى إلى أهل السنة بطريق العدوى والتقليد الأعمى، فقد روى الصحابة -رضي الله عنهم- أحاديث المهدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن توجد الشيعة، وروى زر بن حبيش حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- في المهدي قبل خلافة علي -رضي الله عنه- وقبل وجود الشيعة، وجميع الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروج المهدي ليس في شيء من أسانيدها أحد من الشيعة، ولا مَن يُتهم بالتشيع. الوجه الثالث: أن يقال: إن التقليد الأعمى في الحقيقة هو تقليد ابن محمود لأحمد أمين في تخيلاته وما وقع في نظره، فقد زعم أحمد أمين في صفحة (237) من .................. ¬

_ (¬1) ص 26 - 31.

الجزء الثالث من كتابه ضحى الإسلام أن فكرة المهدية مأخوذة من عقائد الشيعة والقائلين برجعة الأئمة، وزعم أيضًا في صفحة (241) من الجزء الثالث أن فكرة المهدي لها أسباب سياسية واجتماعية ودينية، ثم قال: "ففي نظري أنها نبعت من الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها، وذلك بعد خروج الخلافة من أيديهم وانتقالها إلى معاوية، وقتل عليٍّ وتسليم الحسن الأمر لمعاوية ... ،- إلى أن قال في صفحة (243) -: واستغل هؤلاء القادة المهرة أفكار الجمهور الساذجة المتحمسة للدين والدعوة الإسلامية، فأتوهم من هذه الناحية الطيبة الطاهرة، ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وأحكموا أسانيدها وأذاعوها من طرق مختلفة، فصدقها الجمهور الطيب لبساطته، وسكت رجال الشيعة لأنها في مصلحتهم، وسكت الأمويون لأنهم قلدوها في سفيانيهم، وسكت العباسيون لأنهم حولوها إلى منفعتهم، وهكذا كانت مؤامرة شنيعة افسدوا بها عقول الناس". انتهى. وإذا علم أن كلام ابن محمود مأخوذ من كلام أحمد أمين إلا أنه قد غير فيه في بعض الكلمات، وأن أحمد أمين قد قال في المهدي ما قال معتمدًا على ما وقع في نظره، فليعلم أيضًا أن ابن محمود قد ذم التقليد والمقلدين في صفحة (8) من رسالته، وقال إن المقلد لا يعد من أهل العلم، فقد أثبت على نفسه أنه لا يعد من أهل العلم؛ لأنه مقلد لأحمد أمين في نظره المخالف للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك من أقبح التقليد. الوجه الرابع: أن يقال: إن علماء الإسلام لم يأخذوا من أفكار الشيعة في مهديهم المزعوم ولم يقتبسوا من عقائدهم الفاسدة وأحاديثهم المكذوبة، وإنما اعتمدوا على ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأسانيد الصحيحة والحسنة، مما لا يرده إلا جاهل أو مكابر معاند. الوجه الخامس: أن يقال: إن الشيعة هم الذين اقتبسوا اسم المهدي من عقائد أهل السنة وأحاديثهم، ثم ادعوا هذا الاسم في أشخاص لا ينطبق عليهم اسم المهدي ولا سيرته، وكذلك كل من ادعى المهدية كذبًا وزورًا، فإنما اقتبسوا ذلك من الأحاديث الواردة في المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، ولكنهم طبقوها على من لا تنطبق عليه من أهل الجور والظلم والعدوان؛ مثل مهدي القرامطة، وابن التومرت، والباب، والقادياني، وصاحب جهيمان، وأضرابهم من المدعين للمهدية كذبًا وزورًا.

رميه بعض علماء الإسلام بضعف العلوم والأفهام والرد عليه

الوجه السادس: أن أقول: قد ذكرت مرارًا في هذا الكتاب أن الأحاديث الثابتة في المهدي بعضها صحيح وبعضها حسن، وليس في أسانيدها اضطراب ولا تعارض بحمد الله، وإنما الاضطراب والتعارض في عقول الذين شرقوا بها وتهجموا عليها، وزعموا أنها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وأنها أحاديث خرافة، وأنها نظرية خرافية، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، فهؤلاء هم الذين اضطربت عقولهم، وتعارضت أفكارهم، وتناقضت أقوالهم، وانعكست عندهم الحقائق، فصاروا يرون الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق. الوجه السابع: أن يُقال: إن ابن محمود رمى بعض علماء الإسلام بضعف العلوم والأفهام من أجل تصديقهم للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي, وما يدري -هدانا الله وإياه- أن ضعف العلوم والأفهام في الحقيقة إنما هو في الأشخاص الذين اعرضوا عن الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتاضوا عنها بأقوال فلان وعلان من العصريين الذين يعتمدون في رد الأحاديث أو قبولها على مجرد التفكير والنظر، فما وافق تفكيرهم ونظرهم قبلوه وأيدوه ولو كان ضعيفًا أو موضوعًا، وما خالف تفكيرهم ونظرهم ردوه وطعنوا فيه ولو كان من الصحاح أو الحسان، وقد رأيت في كتب بعضهم من هذه التصرفات الخاطئة شيئًا كثيرًا، فهؤلاء هم الذين أضلوا عقول بعض الناس وأفسدوا عقائدهم بما ينشرونه من نظرياتهم الفاسدة وتفكيراتهم الخاطئة، ولا سيما في معارضة المعجزات، وخوارق العادات، وأشراط الساعة، وما جرى هذا المجرى مما لا تحتمله عقولهم وأفكارهم. وأما قوله: وأحكموا أسانيدها عن أكثر الموتى. فجوابه: أن يقال: هذا كلام غير معقول؛ لأن قوله عن أكثر الموتى يشمل أكثر الموتى من أول الدنيا إلى زمان الأئمة المخرجين لأحاديث المهدي، ولا يخفى ما في هذا التعبير من الفساد الذي يتنزه عنه كل عاقل، وقد نقل ابن محمود قوله: وأحكموا أسانيدها ... من كلام أحمد أمين، كما تقدم بيان ذلك في الوجه الثالث، ثم ختم ابن محمود هذه الكلمة الباطلة بقوله عن أكثر الموتى، فزاد الكلمة فسادًا إلى ما فيها من الفساد من قبلُ، وصارت هذه الجملة من قبيل الهذيان، وهذا مما حصل لابن محمود بعد توسعه في العلوم والفنون، والاستخفاف بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، وقلة المبالاة بها.

زعمه أن فكرة المهدي وسيرته لا تتفق مع سيرة الرسول وسنته بحال والرد عليه

وقال ابن محمود في صفحة (25): "ففكرة المهدي وسيرته وصفته لا تتفق مع سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته بحال، فقد أثبتت التآريخ الصحيحة حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بداية مولده إلى حين وفاته كما أثبتها القرآن، وليس فيها شيء من ذكر المهدي، كما لا يوجد في القرآن شيء من ذلك. فكيف يسوغ لمسلم أن يصدق به، والقرائن والشواهد تكذب به؟ وما هذا التهالك في محبته والدعوة إلى الإيمان به، وهو رجل من بني آدم، ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به؟ والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن أقول: قد ذكرت مرارًا أن خروج المهدي في آخر الزمان ثابت بالسنة وليس ذلك مجرد فكرة، وقد تقدم الجواب عن ذلك في عدة مواضع. الوجه الثاني: أن يقال: قد جاء في أحاديث صحيحة عن علي وابن مسعود وأبي سعيد -رضي الله عنهم- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن المهدي أنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا، وهذا يتفق مع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته غاية الاتفاق، وجاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في المهدي: «فيقسم بين الناس فيئهم، ويعمل فيهم بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض». وقد صححه ابن حبان، وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"، وقال ابن القيم في كتابه "المنار المنيف": "والحديث حسن، ومثله مما يجوز أن يقال فيه صحيح". وفي هذا الحديث وما قبله أبلغ رد على قول ابن محمود: إن سيرة المهدي لا تتفق مع سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته بحال. قال الخطابي في "معالم السنن": "الجران مقدم العنق، وأصله في البعير إذا مد عنقه على وجه الأرض، فيقال: ألقي البعير جرانه، وإنما يفعل ذلك إذا طال مقامه في مناخه، فضرب الجران مثلا للإسلام، إذا استقر قراره فلم يكن فتنة ولا هيج، وجرت أحكامه على العدل والاستقامة". انتهى. الوجه الثالث: أن يقال: وكيف يسوغ لمسلم أن ينكر خروج المهدي في آخر الزمان، ويرد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ويكذب بها، ويزعم أنها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وأنها أحاديث خرافة، وأنها نظرية خرافية، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة؟ هذا مما يستغرب وقوعه من المسلم فضلا عمن ينتسب إلى العلم.

كلام حسن لابن القيم في التحذير من رد الحق والتهاون بالأمر

الوجه الرابع: أن يقال: وما هذا التهالك في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، ووصفها بالصفات الذميمة التي لا تليق بها ولا تنطبق على شيء منها؟! أما يخشى من فعل ذلك أن يعاقبه الله بتقليب القلب وزيغه؛ لأن الله -تعالى- يقول: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، ويقول -تعالى-: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}؟!! قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "بدائع الفوائد": "حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء؛ أحدهما رد الحق لمخالفه هواك، فإنك تعاقب بتقليب القلب، ورد ما يَرِد عليك من الحق رأسًا ولا تتقبله إلا إذا برز في قالب هواك، قال -تعالى-: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك. والثاني التهاون بالأمر إذا حضر وقته، فإنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك، قال -تعالى-: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ}. فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فلتهنه السلامة". انتهى. الوجه الخامس: أن يقال: إن النفوس قد جبلت على حب الأئمة المقسطين العادلين ولو كانوا في غير زمانهم، فلا تجد مؤمنًا إلا وهو يحب أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًا، وعمر بن عبد العزيز، ويحب كل من سار على منهاج هؤلاء الخلفاء الراشدين من أئمة المسلمين وملوكهم، وإذا أحب المسلمون المهدي الذي نوَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكره، وأخبر أنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا، وأنه يعمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا لوم عليهم؛ لأن هذا من الحب في الله -تعالى- وليس من الحب للأهواء والأغراض الدنيوية، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله». رواه الإمام أحمد وغيره، من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما-، وروي نحوه عن عشرة من الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد ذكرت أحاديثهم في "تحفة الإخوان بما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران" فلتراجع هناك. الوجه السادس: أن يقال: إن الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان داخل في ضمن الإيمان بأن محمدًا رسول الله، فكل ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقع في آخر الزمان أو بعد قيام الساعة فإنه يجب الإيمان به؛ تصديقًا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وإيمانًا بخبره، قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.

ثناء ابن محمود على علماء الأمصار المتأخرين الذين حاربوا أحاديث المهدي والرد عليه

وأما قوله: وهو رجل من بني آدم، ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جيد من ربه مما يوجب الإيمان به. فجوابه: أن يقال: قد كرر ابن محمود هذا القول المستهجن في سبعة مواضع من رسالته، وقد تقدم الجواب عنه مع الكلام على ما ذكره ابن محمود في صفحة (6)، فليراجع هناك (¬1). فصل وقال ابن محمود في صفحة (26): "محاربة علماء الأمصار لاعتقاد ظهور المهدي، ثم زعم أنهم متى طرقوا بحثًا من البحوث العلمية فإنهم يشبعون البحث تحقيقًا وتدقيقًا وتمحيصًا وتصحيحًا، حتى يجعلوه جليًا للعيان وصحيحًا بالدلائل والبرهان، قال: وقد قرروا قائلين أن أساس دعوى المهدي مبني على أحاديث محقق ضعفها وكونها لا صحة لها، ولم يأت حديث منها في البخاري ومسلم مع رواج فكرتها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم صحة أحاديثه عندهما، مع العلم أنها على فرض صحتها لا تعلق لها بعقيدة الدين، وما هي إلا حكايات عن أحداث تكون في آخر الزمان أو في أوله، يقوم بها فلان أو فلان بدون ذكر المهدي، فليست من العقائد الدينية كما زعم دعاتها والمتعصبون لصحتها، وقد ثبت بطريق الواقع المحسوس أن فكرة المهدي أصبحت فتنة لكل مفتون، تنتقل من جيل إلى جيل ومن زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، وتراق من أجلها الدماء الزكية البريئة في الشهر الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام، والحاصل أنه يجب طرح فكرة المهدي وعدم اعتقاد صحته، وعندنا كتاب الله نستغني به عنه وعن كل بدعة واتباع كل مبتدع مفتون، كما لدينا سنة رسول الله الصحيحة الصريحة، سواء كانت متواترة أو من رواية الآحاد غير المتعارضة ولا المختلفة". والجواب عن عنوان ابن محمود من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: أما علماء الأمصار من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة العلم والهدي من بعدهم فلم يثبت عن أحد منهم أنه أنكر خروج المهدي في آخر الزمان فضلا عن محاربة اعتقاد ظهوره، وهؤلاء هم العلماء على الحقيقة، وأما أهل الشذوذ والمخالفة من العصريين الذين كانوا في أثناء القرن الرابع عشر من الهجرة وفي آخره فقد بذلوا جهدهم في محاربة اعتقاد ظهور المهدي في آخر الزمان وفي معارضة الأحاديث الثابتة فيه، وقد قلدهم ابن محمود وتمسك بأقوالهم الباطلة في إنكار خروج المهدي في آخر الزمان ........................................................ ¬

_ (¬1) ص 55 - 57.

مبالغته في مدح العصريين والرد عليه

ومعارضة الأحاديث الثابتة فيه، مع أنه قد بالغ في ذم التقليد في صفحة (5) وصفحة (8) من رسالته، وقال إن المقلد لا يعد من أهل العلم. وقد ذكرت بعض الذين قلدهم ابن محمود في أول الكتاب (¬1)، وسيأتي ذكر بعضهم قريبًا -إن شاء الله تعالى-. الوجه الثاني: أن يقال: إن ابن محمود قد جازف في قوله: "محاربة علماء الأمصار لاعتقاد ظهور المهدي"؛ حيث أوهم بهذه العبارة أن علماء الأمصار قديمًا وحديثًا قد أجمعوا على محاربة اعتقاد ظهور المهدي. وهذا في الحقيقة بخلاف الواقع، فإن الذين قاموا بمحاربة اعتقاد ظهور المهدي ومعارضة الأحاديث الثابتة فيه لا يعرف منهم إلا أفراد قليلون من العصريين، الذين كانوا في أثناء القرن الرابع عشر من الهجرة وفي آخره، وجمهور العلماء على خلافهم، أما العلماء المتقدمون فكما ذكرت عنهم في الوجه الأول أنه لم يثبت عن أحد منهم أنه أنكر خروج المهدي في آخر الزمان فضلا عن محاربة اعتقاد ظهوره، وأما العلماء المتأخرون فقد رأيت لكثير منهم ردودا على من أنكر خروج المهدي في آخر الزمان، رأيت ذلك في عدة كتب وتعليقات على الكتب، وسمعت ذلك من كثير من العلماء الموجودين على قيد الحياة، وبلغني ذلك عن كثير منهم. وأما قول ابن محمود عن العصريين: إنهم متى طرقوا بحثًا من البحوث العلمية فإنهم يشبعون البحث تحقيقًا وتدقيقًا وتمحيصًا وتصحيحًا، حتى يجعلوه جليًا للعيان وصحيحًا بالدلائل والبرهان. فجوابه: أن يقال: لقد بالغ ابن محمود في مدح العصريين ووصفهم بما لا ينطبق عليهم، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حبك الشيء يعمي ويصم». وقد رأيت لبعضهم بحوثًا كثيرة على خلاف الصواب؛ فتجدهم في التفسير يؤولون آيات الصفات بما يوافق أقوال المعتزلة، وفي الكلام على المعجزات وخوارق العادات إما أن ينكروها أو يؤولوها بما يتفق مع أفكارهم أو أفكار من يعظمونه من الغربيين واتباع الغربيين، وفي الكلام على السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم يتمسكون بما يقوله أهل الهيئة الجديدة من فلاسفة الغربيين، وفي الكلام على أشراط الساعة تجد بعضهم ينكرها وبعضهم يؤولها أو يؤول بعضها علي ما يوافق رأيه وتفكيره، وأما الأحاديث الواردة في ............................................................ ¬

_ (¬1) ص 32 - 33.

استخفاف بعض العصريين بالأحاديث الثابتة في غير الصحيحين وتقليد ابن محمود لهم في ذلك

المهدي فتجد بعضهم ينكرها ويطعن فيها، ولا فرق عندهم بين الصحيح والحسن منها، وبين الضعيف والموضوع، فكلها عندهم على حد سواء، ومنهم من يؤيد عبادة القبور والغلو في الأموات، ولهم في ذلك مصنفات معروفة، ومنهم من ينكر وجود الجن ووجود السحر، ومنهم من يزعم أن قرين ابن آدم من الملائكة وقرينه من الجن عبارة عن نوازع الخير والشر في الإنسان، ومنهم من يزعم أن خروج الدجال عبارة عن انتشار الشر، وأن نزول عيسى ابن مريم عبارة عن انتشار الخير، إلى غير ذلك من توهمات العصريين وتخرصاتهم، التي هي عند ابن محمود من إشباع البحث تحقيقًا وتدقيقًا وتمحيصًا وتصحيحًا، وقد ذكر الشيخ محمد بن يوسف الكافي في صفحة (120) من كتابه "المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية" أن الذين خرجوا على جمال الدين الأفغاني والذين تخرجوا على من تخرج عنه يفسرون القرآن برأيهم، وينكرون بعض ما ثبت في الشرع، ويعتمدون على أقوال الكفار، ويهجرون قول الله وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقول الراسخين في العلم من المسلمين، وعندهم كلام الله -تعالى- ككلام البشر يتصرفون فيه بغير علم، ثم ذكر الكافي عنهم بعض الأقوال المنحرفة ورد عليهم، فمن أحب الوقوف على ذلك فليطالع الكتاب المذكور، وليطالع أيضًا كتابه المسمى "بالأجوبة الكافية عن الأسئلة الشامية" وهو رد على رشيد رضا، وكذلك رد الشيخ عبد الله بن علي بن يابس علي شلتوت وهو المسمى "إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام"، ففي هذه الكتب رد على من زعم أن العصريين يشبعون البحث تحقيقًا وتدقيقًا وتمحيصًا وتصحيحا، ومن كان اعتماده على كتب العصريين وبحوثهم وتحقيقهم وتدقيقهم وتمحيصهم وتصحيحهم فلا شك أنه مزجى البضاعة، ومن أراد العلم النافع فليطالع كتب الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من أكابر العلماء المتقدمين، وكذلك كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب تلاميذه وتلاميذ تلاميذه وأمثالهم من المحققين، ففيها من البحوث النافعة والتحقيق والتدقيق والتمحيص والتصحيح ما لا يوجد في غيرها من الكتب، والله الموفق. وأما قوله: وقد قرروا قائلين إن أساس دعوى المهدي مبني على أحاديث محقق ضعفها وكونها لا صحة لها، ولم يأت حديث منها في البخاري ومسلم مع رواج فكرتها في زمنها، وما ذاك إلا لعدم صحة أحاديثه عندهما. فجوابه: أن يقال: هذا الكلام مأخوذ من كلام رشيد رضا وأحمد أمين؛ فأما ........

رشيد رضا فقال في صفحة (499) من الجزء التاسع من تفسير المنار: "وأما التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر، والجمع بين الروايات فيه أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشبهة فيها أظهر، ولذلك لم يعتد الشيخان بشيء من رواياتها في صحيحيهما"، وأما أحمد أمين فذكر في صفحة (238) من الجزء الثالث من كتابه ضحى الإسلام أن المهدي وُضِعت فيه الأحاديث المختلفة، قال: "ولم يرو البخاري ومسلم شيئًا من أحاديث المهدي، مما يدل على عدم صحتها عندهما". انتهى. فهذا ما قرره رشيد رضا وأحمد أمين في إنكار خروج المهدي، وزعم ابن محمود أنه تحقيق وتدقيق وتمحيص وتصحيح، وهو في الحقيقة من الاستخفاف بالأحاديث الثابتة في غير الصحيحين وقلة المبالاة بها، ولو تركت الأحاديث الثابتة التي لم يخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما لترك من السنة شيء كثير. وقد تقدم الجواب عما زعمه رشيد رضا من التعارض بين الأحاديث الواردة في المهدي، مع الكلام على قول ابن محمود في صفحة (6): ومنها تناقض هذه الأحاديث وتعارضها في موضوعها، فليراجع هناك (¬1). وتقدم أيضًا الجواب عن قول رشيد رضا وأحمد أمين، أن البخاري ومسلمًا لم يرويا شيئًا من أحاديث المهدي، وأن ذلك يدل على عدم صحتها عندهما، فليراجع ذلك مع الكلام على قول ابن محمود في صفحة (6)، ومنها أن هذه الأحاديث لم يأخذها البخاري ومسلم (¬2). وأما قوله: مع العلم أنها على فرض صحتها لا تعلق لها بعقيدة الدين. فجوابه: أن يقال: كل ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد وقع فيما مضى من الزمان، أو أخبر أنه سيقع بعده إلى قيام الساعة، وما سيكون بعد قيامها إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وما يكون بعد ذلك، فالإيمان به واجب، وذلك من تحقيق الشهادة بالرسالة، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مِنِّي دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله». وهذا الحديث من جوامع الكلم، فيدخل فيه الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب؛ ومنها خروج المهدي في آخر الزمان، فمن لم يؤمن ................................................................ ¬

_ (¬1) ص 69 - 71. (¬2) ص 59 - 68.

الرد على زعم ابن محمود أنه يستغني عن المهدي بالكتاب والسنة

بخروجه فلا شك أنه فاسد العقيدة، وأنه ممن تجري عليه أحكام هذا الحديث الصحيح. وأما قوله: وما هي إلا حكايات عن أحداث تكون في آخر الزمان أو في أوله، يقوم بها فلان أو فلان بدون ذكر المهدي، فليست من العقائد الدينية كما زعم دعاتها والمتعصبون لصحتها. فجوابه: أن يقال: ليس الأمر كما زعمه ابن محمود، من أن أحاديث المهدي حكايات عن الأحداث التي قام بها الذين ادعوا المهدية قديمًا وحديثا، وإنما هي إخبار عن إمام عادل يخرج في آخر الزمان، فيملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، فمن آمن بخروجه فإنما يؤمن بإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ومن كذب بخروجه فإنما يكذب بإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ومن قال إن الإيمان بأنباء الغيب ليس من العقائد الدينية فهو إما جاهل أو مكابر. وأما قوله: وقد ثبت بطريق الواقع المحسوس أن فكرة المهدي أصبحت فتنة لكل مفتون .... إلى آخر كلامه. فجوابه: أن يقال: إن افتتان المفتونين بدعوى المهدية كذبًا وزورًا لا يؤثر في صحة الأحاديث الواردة في المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، كما لا تؤثر دعوى من ادعى النبوة من الكذابين في نبوة نبينا وغيره من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، وقد قال الله -تعالى-: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}، وقد فضح الله كل من ادعى النبوة بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك قد فضح الله كل من ادعى المهدية كذبًا وزورًا، وأبطل كيدهم وكفى المسلمين شرهم. وأما قوله: والحاصل أنه يجب طرح فكرة المهدي وعدم اعتقاد صحته. فجوابه: أن أقول: قد ذكرت مرارًا أن خروج المهدي في آخر الزمان ليس مجرد فكرة، وإنما هو ثابت بالأحاديث الصحيحة والحسنة، وما كان كذلك فإنه يجب اعتقاد صحته، ويحرم إطراح ما جاء فيه من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما قوله: وعندنا كتاب الله نستغني به عنه، كما لدينا سنة رسول الله الصحيحة الصريحة. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن المهدي لا يأتي بشرع جديد حتى يقول المجازف: عندنا كتاب الله نستغني به عنه، كما لدينا سنة رسول الله.

حثه العلماء والطلاب على بيان بطلان فكرة المهدي والرد عليه

الوجه الثاني: أن يقال: إن المهدي يعمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم (¬1) فيما رواه علي وابن مسعود وأبو سعيد -رضي الله عنهم- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر عن المهدي أنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وهذا إنما يكون بالعمل بالكتاب والسنة، وتقدم (¬2) أيضًا في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في المهدي: «فيقسم بين الناس فيئهم، ويعمل فيهم بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض». وهذا نص في أن المهدي يعمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن كان هكذا فلا يستغني عنه المسلمون، بل هم محتاجون إليه وإلى أمثاله من أئمة العدل غاية الحاجة. الوجه الثالث: أن يقال: إن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يستغنى بهما عن أئمة العدل الذين يعملون بهما ويحملون الناس على العمل بهما، وهل يقول عاقل: إن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا في غنية بكتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن ولاية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-، وكذلك من كان بعدهم من الخلفاء والملوك؟! لا يقول عاقل إن الناس كانوا في غنية بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن ولايتهم؛ لأن الناس في أمسِّ الحاجة إلى الولاية التي تنفذ أحكام كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتعدل بين الناس، وتنصف المظلوم من الظالم، وتأخذ للضعيف حقه من القوي، وقد قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى- وأحسن فيما قال: إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعروته الوثقى لمن دانا كم يدفع الله بالسلطان معضلة ... في ديننا رحمة منه ودنيانا لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا والمهدي الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يخرج في آخر الزمان طريقته كطريقة الخلفاء الراشدين، الذين يعملون بالكتاب والسنة، ويقومون بالقسط والعدل، وينفون الجور والظلم، ومن كان هكذا فلا يقول عاقل أنه يستغني عنه بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول: إذا شئت أن تحيا عزيزًا مسلّمًا ... فدبِّر وميِّز ما تقول وتفعل وقال ابن محمود في صفحة (27): "ولعل العلماء الكرام والأكابر من الطلاب ........ ¬

_ (¬1) ص 10 - 15. (¬2) ص 17.

الرد على زعمه أن أحاديث المهدي خرافة

يقومون بجد ونشاط إلى بيان إبطال فكرة المهدي، وفساد اعتقاده، وسوء عاقبته عليهم وعلى أولادهم من بعدهم، وعلى أئمة المسلمين وعامتهم، وما هي إلا أحاديث خرافة تلعب بالعقول، وتوقع في الفضول، وهي لا تتفق مع سنة الله في خلقه، ولا مع سنة رسول الله في رسالته، ولا يقبلها العقل السليم". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن من قام بجد ونشاط إلى بيان إبطال القول بخروج المهدي في آخر الزمان وفساد اعتقاد خروجه وسوء عاقبته على الناس، فإنما هو في الحقيقة قائم بجد ونشاط في معارضة أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورد الأحاديث الثابتة عنه في المهدي، ونرجو من الله -تعالى- أن يعيذنا ويعيذ العلماء والطلاب من هذه الأعمال السيئة. الوجه الثاني: أن يقال: إنه ينبغي للعلماء وأكابر الطلاب أن يجاهدوا كل مفتون، قد جعل جده ونشاطه في معارضة أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد الأحاديث الثابتة عنه، ومنهم الذين ينكرون خروج المهدي في آخر الزمان، ولا يبالون برد الأحاديث الثابتة فيه. الوجه الثالث: أن يقال: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر عن المهدي أنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وأنه يعمل في الناس بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. ومن كان بهذه الصفات الحميدة فلا شك في حسن عاقبته على الناس. وأما قوله: وما هي إلا أحاديث خرافة تلعب بالعقول وتوقع في الفضول. فجوابه: أن يقال: من أكبر الخطأ وأعظم الجراءة تهجم ابن محمود على الأحاديث الواردة في المهدي، وزعمه أنها أحاديث خرافة تلعب بالعقول وتوقع في الفضول، هكذا جازف وأساء الأدب في رد الأحاديث الثابت بعضها بالأسانيد الصحيحة وبعضها بالأسانيد الحسنة، ولم يحترم أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فضوله وأقواله السيئة، وقد تقدم الرد على هذه المجازفة السيئة غير مرة. وأما قوله: وهي لا تتفق مع سنة الله في خلقه، ولا مع سنة رسول الله في رسالته، ولا يقبلها العقل السليم. فجوابه: أن يقال: قد جاء في بعض الصحاح من أحاديث المهدي أنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وأنه يعمل في الناس بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وأن الإسلام يلقي بجرانه إلى الأرض، وهذه الصفات موافقة لسنة الله -تعالى- وسنة ..............................

الرد على طعنه في جميع أحاديث المهدي

رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وللعقول السليمة غاية الموافقة، ومن قال بخلاف هذا فلا شك أن عقله غير سليم. وقال ابن محمود في صفحة (27): "وإن الجهل بأحكام الدين وحقائقه وعقائده الصحيحة يدفع صاحبه إلى أي فكرة تنقش له بدون مناظرة عقلية، وبدون رجوع إلى نص صحيح وصريح، وهذا الجهل هو الذي أدَّى بأهله إلى وضع خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة، وإن هذه الأحاديث المختلفة هي التي أفسدت العقول، وجعلتهم يتبعون الملاحدة والمفسدين من دعاة المهدي". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الجهل كل الجهل في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، ووصفها بالصفات الذميمة التي لا تنطبق على شيء منها. الوجه الثاني: أن يقال: إن ابن محمود قد طعن في جميع الأحاديث الواردة في المهدي وزعم أنها موضوعة، وهذا خطأ مخالف للحقيقة كما لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلم الحديث، وقد قسَّم المحققون أحاديث المهدي إلى صحيح وحسن وضعيف منجبر يصلح للاستشهاد به، وقد ذكرتُ في أول الكتاب من قال من أكابر العلماء بتصحيح بعض أحاديث المهدي ومن قال منهم إنها متواترة، فليراجع ذلك (¬1). وقد خالف ابن محمود ما قاله المحققون في أحاديث المهدي، وسلك مسلك العصريين الذين تهجموا على أحاديث المهدي وزعموا أنها موضوعة، وليس معهم دليل على ما زعموه سوى المجازفة والجراءة على رد الأحاديث التي تخالف تفكيرهم الفاسد. الوجه الثالث: أن يقال: ليس في الأحاديث الثابتة في المهدي ما يفسد العقول بوجه من الوجوه، وإنما الذي يفسد العقول ويفسد الدين أيضًا معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبها، والخوض في ردها بمجرد التفكير الذي هو غاية في الجهل، وقد قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قال الإمام أحمد: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك"، وقال أحمد أيضًا: "من رد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة". الوجه الرابع: أن يقال: إن كلام ابن محمود في أول الجملة التي تقدم ذكرها ......... ¬

_ (¬1) ص 41 - 45.

الرد على ثنائه على الذين عارضوا أحاديث المهدي وذمه للذين خالفوهم وفيه الرد على تحقيقه المزعوم

يعود عليه؛ لأنه قد انتقشت له فكرة المنكرين لخروج المهدي من العصريين؛ مثل رشيد رضا، وأحمد أمين، وأمثالهما ممن زعم أن فكرة المهدي نبعت من الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها، وأنهم وضعوا الأحاديث في ذلك يروونها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحكموا أسانيدها، فقابل ابن محمود هذه الفكرة العصرية بالرضى والتسليم، ورد لأجلها الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروج المهدي، ولم يستند في إنكار خروجه إلى نص صحيح، وإنما اعتمد على مجرد الفكرة التي نقشها له من ذكرناهم من العصريين، وقد تقدم بيان ذلك في أول الكتاب مع الكلام على قول ابن محمود في صفحة (3)، وأن أصل من تبني هذه الفكرة والعقيدة هم الشيعة، فليراجع ذلك (¬1). الوجه الخامس: أن يقال: إن المهدي الذي أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج إلى الآن، ولا يعلم وقت خروجه على التعيين إلا الله -تعالى-، وإذا كان المهدي المبشر به لم يخرج إلى الآن، فكيف يقال: إن له دعاة من الملاحدة والمفسدين يتبعهم أهل العقول الفاسدة؟! هذا مما يعلم بطلانه بالضرورة، فأما الذين ادعوا المهدية كذبًا وزورًا في قديم الزمان وحديثه فلا يصح أن يطلق على أحد منهم اسم المهدي، وإنما يقال: المدعي للمهدية، أو المتسمي بالمهدي، وما أشبه ذلك مما ينفي عنه اسم المهدي الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه في آخر الزمان. وقال ابن محمود في صفحة (27): "ولقد قام علماء الأمصار بجد ونشاط إلى تحذير قومهم من اعتقاد المهدي وصحة خروجه، فواصلوا قولهم ونصحهم، بعملهم بكتابة الرسائل في الجرائد والمجلات والنشرات، يبينون لهم فسادها وسوء عواقب اعتقادها، حتى خفَّ أثرها في نفوسهم، وحتى زال اعتقادها عن علمائهم وعامتهم، على نسبة عكسية من فعل علمائنا، فإنهم -رحمهم الله- يسيرون في طريق مخالف، ويصدعون على رؤوس الناس بصحة اعتقادها، وينكرون على من أنكرها، ويحجرون رأي الجمهور على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم، إنهم لو رجعوا إلى التحقيق المعتبر لأحاديث المهدي المنتظر من كتابنا هذا وقابلوا بعضها ببعض، لظهر لهم بطريق اليقين أنها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: لا يخفى ما في كلام ابن محمود ...... ¬

_ (¬1) ص32 - 33.

من التمويه والمجازفة؛ حيث نسب إلى علماء الأمصار على وجه العموم أنهم قاموا بجد ونشاط إلى التحذير من اعتقاد ظهور المهدي وصحة خروجه، مع أن ذلك لا يعرف إلا عن أفراد قليلين من العصريين؛ ومنهم رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين. فهؤلاء الثلاثة هم الذين تولوا كبر الطعن في الأحاديث الثابتة في المهدي، والمعارضة لها بالشُبه والشكوك، وقد قلدهم ابن محمود في ذلك، وتلقي أقوالهم الباطلة بالقبول والتسليم، واعتمد عليها في معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر ذلك في عدة مواضع من رسالته. وهؤلاء الثلاثة من العصريين ليسوا علماء الأمصار، ولا يمثلون علماء الأمصار، وإنما علماء الأمصار على الحقيقة الذين يتمسكون بما جاء عن الله -تعالى- وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتلقون الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقبول والتسليم، ولا يعارضون شيئًا منها بالشُبه والشكوك، كما فعل أولئك الثلاثة الذين ذكرناهم ومن يقلدهم ويتلقى أقوالهم الباطلة بالقبول والتسليم. الوجه الثاني: أن يقال: كل من قام برد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنما هو في الحقيقة يرد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخالف قوله، وهذا من أعظم الغش للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأئمة المسلمين وعامتهم، ومن زعم أن ذلك من النصح فقد قلب الحقيقة وجادل بالباطل، ومن هذا الضرب من قام من أهل الأمصار بإنكار خروج المهدي في آخر الزمان ومعارضة ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، ولا شك أن هؤلاء متعرضون لحمل أوزار الذين يتبعونهم ويأخذون بأقوالهم الباطلة، قال الله -تعالى-: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا». رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وقد قام بإزاء هؤلاء غير واحد من علماء الأمصار، فردوا عليهم وعلى ابن خلدون، حيث توسع في تضعيف أحاديث المهدي، حتى ضعَّف بعض الصحاح والحسان منها، وقد نقلت بعض كلامهم في أول هذا الكتاب وفي أثنائه فليراجع (¬1). الوجه الثالث: أن يقال: إن العلماء الذين صدعوا بصحة اعتقاد خروج ............. ¬

_ (¬1) ص 44وص 142 - 144.

إنكاره على الذين يشمأزون وينفرون من الرسائل التي ينكر أصحبها خروج المهدي والرد عليه

المهدي في آخر الزمان، وأنكروا على من أنكر خروجه، هم المصيبون وهم السائرون على الطريق المستقيم، وهم الناصحون للرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم آمنوا بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأذعنوا لقوله، وسلموا له، ولم يجدوا في أنفسهم حرجًا من قبول أقواله وتصديق أخباره، وهم الناصحون لأئمة المسلمين وعامتهم؛ لأنهم قد دعوهم إلى الإيمان بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والبعد عما يخالف أقواله، وعلى عكسهم الذين أنكروا خروج المهدي، فهم الذين يسيرون في طريق مخالف للسنة وأهل السنة، وأي خلاف أعظم من مخالفة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإطراحها، تقليدًا لآراء بعض الناس. الوجه الرابع: أن يقال: إن العلماء الذين صدعوا بصحة اعتقاد خروج المهدي في آخر الزمان، لم يأخذوا ذلك تقليدًا عن الآباء والمشايخ، كما زعم ذلك ابن محمود في مجازفته التي قالها من غير تثبت ولا تعقل، وإنما أخذوا ذلك من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن لامهم على الأخذ بالأحاديث الثابتة فهو الملوم على الحقيقة. الوجه الخامس: أن يقال: إن الذي حثَّ ابن محمود على الرجوع إليه في كتابه وزعم أنه تحقيق معتبر، هو في الحقيقة خلاف التحقيق، لمعارضته للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما عليه المحققون من العلماء قديمًا وحديثًا، وقد ذكرت الأحاديث الثابتة في خروج المهدي في أول الكتاب، وذكرت أيضًا أقوال المحققين من العلماء في تصحيح بعض الأحاديث الواردة في المهدي، وما صرح به كثير منهم من تواتر الأحاديث الواردة فيه فليراجع ذلك (¬1)،ففيه أبلغ رد على تهافت ابن محمود ومجازفته في رد الأحاديث الثابتة، وزعمه أن معارضتها وإطراحها من التحقيق المعتبر. وفي صفحة (28): ذكر ابن محمود عن بعض العلماء ما حاصله أنهم يشمأزون وينفرون وتشتد كراهيتهم لرسائل العصريين وبحوثهم، التي يعالجون فيها إنكار خروج المهدي في آخر الزمان، ثم زعم أن من واجبهم تلقي هذه العلوم والبحوث بالرحب وسعة الصدر، والتدبر والتفكر في مدلولها، والتزود مما طاب منها؛ ليزدادوا علمًا إلى علمهم. والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الرسائل والبحوث التي يعالج أصحابها إنكار خروج المهدي في آخر الزمان من أعظم الوسائل إلى إفساد العقيدة الصحيحة؛ لما تشتمل عليه رسائلهم وبحوثهم من معارضة أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكذيب أخباره الصادقة عن المهدي، وما كان من الرسائل والبحوث بهذه .............................. ¬

_ (¬1) ص 9 - 17وص 41 - 45.

عقيدة ابن محمود في لمهدي والرد عليه

المثابة فإنه يجب إنكاره والتحذير منه، ولا لوم على الذين يشمأزون من هذه الرسائل والبحوث وينفرون منها وتشتد كراهيتهم لها، وإنما اللوم على من لامهم، وشذَّ عنهم، واتبع هواه بغير هدى من الله. الوجه الثاني: أن يقال: إنه لا يميل إلى الرسائل والبحوث التي تخالف الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتلقاها بالرحب وسعة الصدر إلا من هو فاسد العقيدة، وقد قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. الوجه الثالث: أن يقال: كل رسالة أو بحث يقصد به تكذيب الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروج المهدي، أو غيره من أشراط الساعة، أو غير ذلك مما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فليس فيه خير ولا علم نافع يتزود منه، وإنما هو ضرر محض ومدعاة إلى الاستخفاف بالأحاديث الثابتة والاستهانة بشأنها، كما هو حال كثير من العصريين. فصل وقال ابن محمود في صفحة (29) ما ملخصه "عقيدة المسلم مع المهدي": "لقد عَلِقَ بعقائد العامة وعقولهم وبعض العلماء وجود مهدي في عالم الغيب، لا يعلمون مكانه ولا زمانه، فمنهم من يؤمن به ويصدق بظهوره وينكر على من أنكره، ومنهم من ينكر وجود المهدي بتاتًا، ويطعن في صحة الأحاديث الواردة فيه، ويزعم بأنها مصنوعة ومكذوبة على رسول الله، ولم تزل المناظرة والمجادلة واقعة قائمة بين الفريقين، والحق الذي نعتقده وندعو الناس إلى العلم به والعمل بموجبه هو أنه لا مهدي بعد رسول الله كما أنه لا نبي بعده". والجواب: أن يقال: ما قرره ابن محمود تحت هذا العنوان من إنكار خروج المهدي وإطراح الأحاديث الثابتة فيه لا يطابق عقيدة المسلم مع المهدي؛ لأن المسلم لا يعارض الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يستهين بها، ولا يعتقد ما يخالفها، ولو أن ابن محمود عبَّر في العنوان بقوله: "عقيدة المنكرين للمهدي" لكان ذلك مطابقًا لما قرره في هذا الموضع. ويقال أيضًا: أما عقيدة المسلم في المهدي، فهي الإيمان بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه في عدة أحاديث صحيحة رواها عليٌّ، وابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو سعيد ...............

الخدري، وأم سلمة، وجابر -رضي الله عنهم-، وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع (¬1)، وقد قال الله -تعالى- في صفة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وقال -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، ومن رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وطعن في صحتها فلا شك في فساد عقيدته. وأما قوله: لقد عَلِقَ بعقائد العامة وعقولهم وبعض العلماء وجود مهدي في عالم الغيب، لا يعلمون مكانه ولا زمانه. فجوابه: أن يقال: أما وجود المهدي في آخر الزمان فهو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدد من الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد تقدم ذكر بعضهم قريبًا، وإذا خرج المهدي فإنه يكون في ذلك الزمان في عالم الحس والمشاهدة، ولا يكون في عالم الغيب كما قد توهم ذلك ابن محمود. وأما مكان المهدي، فقد جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- الذي تقدم ذكره في أول الكتاب؛ أنه من أهل المدينة، وأنه يبايع بمكة بين الركن والمقام، وجاء في حديث جابر -رضي الله عنه- الذي رواه الحارث بن أبي أسامة؛ ما يدل على أنه يكون بالشام حين نزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-. وأما زمان المهدي فلا يعلمه على التعيين إلا الله -تعالى-، وفي حديث جابر -رضي الله عنه- ما يدل على أن زمانه يكون قبيل نزول عيسى وبعد نزوله، والله أعلم. وأما علوق خروج المهدي في آخر الزمان بعقائد العامة وعقولهم وبعض العلماء، فذلك دليل على تحقيقهم لشهادة أن محمدًا رسول الله؛ لأن تحقيقها مبني على أربعة أمور؛ أحدها: طاعة أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والثاني: اجتناب نهيه، والثالث: تصديق أخباره، والرابع: أن لا يعبد الله إلا بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن تصديق أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان، لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث صحيحة، تقدم ذكرها في أول الكتاب (¬2). وأما قوله: فمنهم من يؤمن به ويصدق بظهوره وينكر على من أنكره، ومنهم من ينكر وجود المهدي بتاتًا ويطعن في صحة الأحاديث الواردة فيه، ويزعم بأنها مصنوعة ومكذوبة على رسول الله. ¬

_ (¬1) ص 9 - 17. (¬2) ص 9 - 17.

فجوابه: أن يقال: أما الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان والإنكار على من أنكر ذلك فذلك من تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، فوجب تصديق خبره. وأما إنكار وجود المهدي بتاتًا، والطعن في صحة الأحاديث الواردة فيه، والقول بأنها مصنوعة ومكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذلك من المجازفة والقول بغير علم، وقد قال الله -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}، وقال -تعالى-: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}. وأما قوله: ولم تزل المناظرة والمجادلة واقعة قائمة بين الفريقين. فجوابه: أن يقال: إن الأحاديث في خروج المهدي قد رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدد من الصحابة -رضي الله عنهم-، واشتهر ذكره في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكن بين الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم مناظرة ولا مجادلة فيه، وهكذا كان الأمر عند أهل السنة والجماعة، فليس في خروج المهدي في آخر الزمان خلاف عندهم، سوى نفر قليل زعموا أن المهدي عيسى ابن مريم، واعتمدوا على الحديث الذي جاء فيه ذلك، وهو حديث ضعيف جدًا لا يعتمد على مثله، ومنهم من قال إنه المهدي العباسي، وليس على هذا القول دليل صحيح يعتمد عليه. ثم جاء ابن خلدون فتوسع في تضعيف أحاديث المهدي، حتى ضعف بعض الصحاح والحسان منها، وخالف من كان قبله من أكابر الأئمة، الذين صححوا بعضها وحسنوا بعضها. ثم جاء رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، ومن على شاكلتهم من العصريين في القرن الرابع عشر من الهجرة، فطعنوا في أحاديث المهدي، وزادت الجراءة على بعضهم فزعموا أن أحاديث المهدي كلها موضوعة، فأخطئوا فيما زعموا وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه. وقد قلدهم ابن محمود وتلقى أقوالهم الباطلة بالقبول والتسليم، وتوسع في المجازفة حتى خرج عن حد المعقول إلى غير المعقول، فزعم أن الأحاديث الواردة في المهدي كلها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وأنها أحاديث خرافة، وأنها نظرية خرافية، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، وأن انتظار خروج المهدي من الركون إلى الخيال والمحالات، والاستسلام للأوهام والخرافات. وجوابنا عن هذه ..................................

المجازفات أن نقول: "سبحانك هذا بهتان عظيم"، وخلاف العصريين لما كان عليه أهل السنة والجماعة منذ زمن الصحابة -رضي الله عنهم- إلى زماننا لا ينبغي أن يلتفت إليه، ولا أن يعد خلافًا معتبرًا؛ لأنه من المجادلة بالباطل. وأما قوله: والحق الذي نعتقده وندعو الناس إلى العلم به والعمل بموجبه؛ هو أنه لا مهدي بعد رسول الله، كما أنه لا نبي بعده. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ما اعتقده ابن محمود ودعا الناس إلى العلم به والعمل بموجبه فهو خلاف الحق؛ لأنه قد اعتقد خلاف ما جاء في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، ومن اعتقد خلاف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا الناس إلى اعتقاد ذلك فلا شك أنه مصاب في دينه وعقله، وقد روي الترمذي وحسَّنه عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ». وإذا زاغ القلب -والعياذ بالله- انعكست الحقائق عند المرء، فصار يعتقد الباطل ويراه حقًا، وينكر الحق ويراه باطلاً، ويدعو الناس إلى متابعته على الباطل. الوجه الثاني: أن يقال: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وصف الخلفاء الراشدين بأنهم مهديون، وفي هذا أبلغ رد على قول ابن محمود أنه لا مهدي بعد رسول الله، وثبت أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة أوجه أنه أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، وفي ذلك أبلغ رد على ابن محمود، وقد تقدم إيضاح ذلك في أول هذا الكتاب فليراجع (¬1). الوجه الثالث: أن يقال: من اعتقد خلاف الحق ودعا الناس إلى ذلك، فقد جنى على نفسه وجنى على من اتبعه من الناس، قال الله -تعالى-: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا». رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن، وقال الترمذي: "حسن صحيح". الوجه الرابع: أن يقال: إن صفة المهدية أعمّ من صفة النبوة، فكل نبي مهدي، وليس كل مهدي نبيًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على أن الخلفاء الراشدين مهديون، ووصف الرجل الذي يلي في آخر الزمان وهو من أهل بيته بأنه مهدي، فدل هذا .............................. ¬

_ (¬1) ص 9 - 22.

الرد على قوله إن المهدي ليس بملك معصوم ولا نبي مرسل

على أن صفة المهدية أعم من صفة النبوة، وفي هذا رد لما توهمه ابن محمود من أن صفة المهدية من خصائص النبوة، وأنه لا مهدي بعد رسول الله كما أنه لا نبي بعده. وقال ابن محمود في صفحة (29): "والمهدي متى قلنا بتصديق الأحاديث الواردة فيه، ليس بملك معصوم، ولا نبي مرسل، ما هو إلا رجل عادي كأحد أفراد الناس، إلا أنه عادلٌ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا، وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة، ويترجح بأنها موضوعة على لسان رسول الله، ولم يحدث بها". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: قد كرر ابن محمود في عدة مواضع قوله إن المهدي ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، وقال في هذا الموضع ليس بملك معصوم، ولم أر أحدًا سبقه إلى وصف الملائكة بهذه الصفة، وإن كانوا معصومين عن كبائر الذنوب وصغائرها، لقول الله -تعالى-: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وقال -تعالى-: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}، وقال -تعالى-: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}، وقال -تعالى-: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. وإنما تقال هذه الصفة في حق الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- كما هو معروف عند أهل العلم. الوجه الثاني: أن يقال: قول ابن محمود إن المهدي ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل وتكريره ذلك يعتبر كلامًا لاغيًا لا حاصل تحته؛ لأن المهدي الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه لا يدَّعي أنه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يدعي الناس ذلك فيه، وإنما هو إمام من أئمة العدل الذين يعملون بالكتاب والسنة، ويزيلون الجور والظلم، ويبسطون القسط والعدل. الوجه الثالث: أن يقال: لو أن رجلا ادَّعى أنه المهدي وزعم أنه ملك مقرب أو نبي مرسل، لكان الواجب تكذيبه وقتله إلا أن يتوب؛ لأنه لا يدعي ذلك إلا من هو كذَّاب دجال. وأما قوله: ما هو إلا رجل عادي كأحد أفراد الناس، إلا أنه عادلٌ يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا. فجوابه: أن يقال هذا هو الحق لو أن ابن محمود ثبت عليه.

الرد على ما زعم أنه مقام المسلم من المهدي

وأما قوله: وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة، ويترجح بأنها موضوعة على لسان رسول الله، ولم يحدث بها. فجوابه: أن يقال: هذا قول باطل مردود؛ لأن أحاديث المهدي فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وقد قرر ذلك غير واحد من أكابر العلماء، وقد تقدم إيراد ذلك في أول الكتاب فليراجع (¬1)، وقد ذكرت هناك عن عدد كثير من الأئمة أنهم صححوا بعض أحاديث المهدي، وقال غير واحد منهم أنها متواترة، فليراجع ذلك (¬2)، ففيه رد على ابن محمود. وقال ابن محمود في صفحة (29) "مقام المسلم من المهدي": ومقام المسلم منه؛ أولا: أنه لا يجب الإيمان الجازم بخروجه؛ لقوة الخلاف في الأحاديث، فلا ينكر على من أنكره، وإنما يتوجه الإنكار على من قال بصحة خروجه. والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن مقام المسلم من المهدي على خلاف ما زعمه ابن محمود؛ لأن الإيمان بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجب على كل مسلم، وذلك من تحقيق الشهادة بالرسالة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، فوجب على المسلمين الإيمان بخبر الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، وقد ذكرت الأحاديث الثابتة في خروج المهدي في أول هذا الكتاب فلتراجع، ففيها أبلغ رد على ابن محمود. الوجه الثاني: أن يقال: إن الخلاف في أحاديث المهدي لا يعد خلافًا معتبرًا؛ لأنه لم يقل به سوى بعض العصريين المعروفين بالجراءة على رد الأحاديث الثابتة إذا لم تكن موافقة لتفكيراتهم الخاطئة، وأما إمامهم ابن خلدون فقد ضعف أحاديث المهدي إلا القليل منها أو الأقل، وقد رد المحققون على ابن خلدون وخطؤوه في تضعيفه لبعض الصحاح والحسان من أحاديث المهدي، وقد ذكرت كلامهم في الرد عليه في أثناء هذا الكتاب فليراجع (¬3)، وقد خرَّج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وأبو يعلي الموصلي، والطبراني، وابن حبان، والحاكم كثيرًا من أحاديث المهدي، واعتمدوا عليها في إثبات خروجه، وصحح الترمذي وابن حبان والحاكم بعضها، ووافقهم على تصحيحها غير واحد من أكابر العلماء؛ ومنهم العقيلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وابن كثير، والهيثمي، وزين الدين العراقي، ........................ ¬

_ (¬1) ص 42. (¬2) ص 41 - 45. (¬3) ص 142 - 144.

الرد على زعمه أن الإيمان بخروج المهدي ليس من عقيدة الإسلام

وابن حجر العسقلاني (¬1). وهؤلاء من أكابر علماء الحديث ونقاده، فلا يساوي بينهم وبين رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، وأمثالهم من أهل المجازفة والجراءة على رد الأحاديث الثابتة بغير حجة، ولا يعد خلاف هؤلاء لمن ذكرنا من المحدثين وغيرهم من أكابر العلماء خلافًا معتبرًا، وإنما يعد لاغيًا لا فرق بين وجوده وعدمه، ومن قَبِلَ أقوال هؤلاء المجازفين وزعم أنه خلاف قوي معتبر وعارض به الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا شك في سوء اختياره وفساد عقيدته، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}. وهل يستجيز عاقل أن يقدم مجازفة رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، وأمثالهم من العصريين في معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أقوال الأئمة الحفاظ النقاد، الذين خرجوا بعض أحاديث المهدي، والذين صححوا الصحيح منها وردوا الضعيف؟ كلا لا يستجيز ذلك من له أدنى مسكة من عقل. الوجه الثالث: أن يقال: من أنكر شيئًا مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالإنكار عليه واجب على كل مسلم، ومن ذلك إنكار ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، فمن أنكر خروجه فإنه يجب الإنكار عليه؛ لأنه لا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما قول ابن محمود: إنه لا ينكر على من أنكره - يعني المهدي- وإنما يتوجه الإنكار على من قال بخروجه. فجوابه: أن يقال: هذا من قلب الحقيقة وعكس القضية، والحق في هذه القضية بخلاف ما زعمه ابن محمود؛ لأن الإنكار لا يكون على من اعتمد على الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يجب الإنكار على من أنكرها وأطرحها. وقال ابن محمود في صفحة (30):"ثانيًا: ليس من عقيدة الإسلام والمسلمين الإيمان به كالإيمان بوجود الرب، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالبعث بعد الموت، والإيمان بالجنة والنار، إذ هذه من أمور الآخرة التي يجب اعتقادها ووقوعها جلية للعيان في دار الآخرة، وقد أثبتها القران وصحيح السنة، وليس منها الإيمان بالمهدي. والجواب: أن يقال: إن القول في خروج المهدي في آخر الزمان كالقول في غيره من أشراط الساعة؛ مثل خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ............ ¬

_ (¬1) تراجع ص 41 - 43.

تغليطه للسفاريني والرد عليه

ومأجوج، وخروج الدابة من الأرض، وظهور الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، ووقوع الخسوف الثلاثة في المشرق والمغرب وجزيرة العرب، وخروج النار التي تطرد الناس إلى محشرهم، وكذلك انحسار الفرات عن كنز من ذهب أو جبل من ذهب، وكذلك خروج القحطاني والجهجاه، والخليفة الذي يحثوا المال حثوًا ولا يعده عدًا، فكل هذه الأمور يجب الإيمان بها لثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما يجب الإيمان بغيرها من أمور الغيب التي جاء ذكرها في القرآن أو في صحيح السنة، والإيمان ببعضها دون بعض من التفريق المذموم فاعله. وأما قوله: وليس منها الإيمان بالمهدي. فجوابه: أن يقال: قد جاء في المهدي عدة أحاديث صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن لم يؤمن بما جاء فيها فإنما يرد على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يرد على الله أمره في قوله: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، ويرد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - خبره الصادق عن خروج المهدي في آخر الزمان. وقال ابن محمود في صفحة (30) وصفحة (31): "وقد غلط السفاريني حيث أدخل الإيمان به في عقيدته فقال: منها الإمام الخاتم الفصيح ... محمد المهدي والمسيح فقد أخطأ حيث جعل المهدي هو الخاتم، وإن حملناه على جعله خاتم الأئمة الاثنا عشر خليفة الذين يستقيم بهم أمر الدين، فهذا هو نفس عقيدة الشيعة حيث؛ جعلوا الإمام الحادي عشر هو الحسن العسكري، وبعد موته انتقلت الإمامة إلى ابنه محمد بن الحسن العسكري الذي دخل سرداب سامراء، فدعوى المهدي في مبدئها للشيعة، فهم الذين آمنوا بها وصدقوها وأكثروا من ذكر هذا المهدي المنتظر، فاقتبس بعض أهل السنة هذا الاعتقاد، ثم سار في طريقه وتلقينه إلى حالة انتشار هذه الفكرة عند المتأخرين، حتى جعلوها طريقة وعقيدة متى غيرت قيل غيرت السنة، وهكذا حال البدعة، فبسبب مجاورتهم للشيعة واختلاطهم بهم اقتبسوها منهم، وإلا فإنها ليست من عقيدة أهل السنة، ولهذا لم يذكره شيخ الإسلام في عقائده؛ لا في الواسطية، ولا في الأصفهانية، ولا السبعينية، ولا التسعينية، ولا العرشية، كما أنها لم تذكر في عقيدة الطحاوية، ولا في شرحها، ولا في عقيدة ابن قدامة، ولا عقيدة ابن زيدون المالكي. فعدم ذكرهم لها يدل على أنها ليست من عقائد الإسلام

والمسلمين، والمهدي في مبدأ دعوته هو واحد وليس باثنين، فلم يقل أحد إنهما مهديان، وإنما هو مهدي واحد، تنازعته أفكار الشيعة وأفكار بعض أهل السنة، فكل لوم أو ذم ينحي به على الشيعة لإيمانهم بإمامهم محمد بن الحسن الذي هو في سرداب، فإنه ينطبق بطريق التطابق والموافقة على أهل السنة الذين يصدقون بالمهدي المجهول في عالم الغيب، فهما في فساد الاعتقاد به سيان، فبيت الشعر للسفاريني على الحالتين غير صواب ولا صحيح، والسفاريني -رحمه الله- هو أقوى من ثبت دعائم عقيدة المهدي في قلوب المسلمين". والجواب عن أول كلامه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: من زعم أن السفاريني قد غلط حيث أدخل الإيمان بالمهدي في عقيدته فهو الغالط في الحقيقة؛ لأن السفاريني -رحمه الله تعالى- لم يعتمد على أقوال الناس ونظرياتهم وتفكيراتهم كما قد فعل ذلك المنكرون للمهدي، وإنما اعتمد على ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، ومن اعتمد على الأحاديث الصحيحة فالحجة معه. الوجه الثاني: أن يقال: إن أقوال الناس ونظرياتهم وتفكيراتهم ليست ميزانًا للأحاديث كما قد يفعل ذلك بعض الناس، وإنما الميزان العدل كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فبهما توزن أقوال الناس ونظرياتهم وتفكيراتهم، فما وافقهما فهو حق، وما خالفهما فهو باطل مردود على قائله كائنًا من كان. وإذا عرضنا أقوال المنكرين للمهدي على الكتاب والسنة وجدناها مخالفة لقول الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، ومخالفة للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، وما كان كذلك فحقه أن يضرب به عُرض الحائط ولا يلتفت إليه، وإذا عرضنا قول السفاريني في المهدي على السنة وجدناه مطابقًا لها؛ لأنه مأخوذ مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما ثبت بالسنة فهو موافق للقرآن؛ لقول الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، وقوله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}، وقوله -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. وأما قول السفاريني في صفة المهدي إنه الخاتم ففيه نظر، إذ لا دليل يدل على ذلك،

وقد لحن ابن محمود في قوله: وإن حملناه على جعله خاتم الأئمة الاثنا عشر، وصوابه الاثني عشر. وأما قول ابن محمود: هذا هو نفس عقيدة الشيعة. فجوابه: أن يقال: ليس الأمر كذلك، بل هذا من أقوال أهل السنة، ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" في ترتيب إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغيوب المستقبلة بعده، فقد ذكر فيه حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يزال هذا الدين قائمًا ما كان اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»، قال ابن كثير: "من الناس من قال إن الدين لم يزل قائمًا حتى ولي اثنا عشر خليفة، ثم وقع تخبيط بعدهم في زمان بني أمية، وقال آخرون: بل هذا الحديث فيه بشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلا من قريش وإن لم يوجدوا على الولاء، وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة، ثم كان بعد ذلك خلفاء راشدون فيهم عمر بن عبد العزيز، ومنهم من ذكر من هؤلاء المهتدي بأمر الله العباسي، والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان منهم أيضًا، بالنص على كونه من أهل البيت، واسمه محمد بن عبد الله، وليس بالمنتظر في سرداب سامراء، فإن ذلك ليس بموجود بالكلية، وإنما ينتظره الجهلة من الروافض". انتهى، وقد جزم بالقول الأخير في تفسيره لسورة المائدة. وأما قول ابن محمود: فدعوى المهدي في مبدئها للشيعة .... إلى قوله: إنها ليست من عقيدة أهل السنة. فالجواب عنه قد تقدم في أول الكتاب، مع الكلام على قول ابن محمود في صفحة (3) وصفحة (4): إن أصل من تبنى هذه الفكرة والعقيدة هم الشيعة، الذين من عقائدهم الإيمان بالإمام الغائب المنتظر، فليراجع هناك (¬1). وأما قوله: ولهذا لم يذكره شيخ الإسلام في عقائده .... إلى قوله: فعدم ذكرهم لها يدل على أنها ليست من عقائد الإسلام والمسلمين. فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بوقوعه فيما مضى قبله، أو أخبر أنه سيقع فيما بعده، فالإيمان به واجب، وهو من عقائد المسلمين، سواء ذكره العلماء في كتب العقائد أو لم يذكروه، وقد ثبت عن ............................ ¬

_ (¬1) ص 32 - 33.

النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، فوجب الإيمان بخبر الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- وإن لم يُذكر ذلك في كتب العقائد. الوجه الثاني: أن يقال: قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على الرافضي أن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة (¬1)، وذكر الشيخ له في كتابه "المنهاج" يغني عن ذكره في الواسطية والاصفهانية والسبعينية والتسعينية والعرشية، وقد ذكر الذهبي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيما انتقاه من المنهاج وأقره، وقد ذكره من المتقدمين أبو محمد البربهاري في كتابه "شرح السنة" وهو من كتب العقائد، وكان البربهاري في آخر القرن الثالث من الهجرة وأول القرن الرابع، وذكره محمد بن الحسين الآبري في كتابه "مناقب الشافعي"، وقد تقدم كلام البربهاري وكلام الآبري في أول الكتاب فليراجع (¬2)، ففيه مع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي أبلغ رد على ابن محمود. وسأذكر -إن شاء الله تعالى- مزيدًا لهذا البحث مع الجواب على قول ابن محمود في صفحة (56): إن أحاديث المهدي لا تعلق لها بالعقيدة الدينية، ولم يدخلها علماء السنة في عقائدهم. وأذكر أيضًا -إن شاء الله تعالى- كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية، وكلام الطحاوي وشارح العقيدة الطحاوية في وجوب التسليم لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقي أخباره بالقبول والتصديق، وأذكر أيضًا كلام بعض الأئمة فيما يتعلق بهذا البحث، فليراجع ذلك في موضعه. وأما قوله: والمهدي في مبدأ دعوته واحد وليس باثنين، تنازعته أفكار الشيعة وأفكار بعض أهل السنة. فالجواب عنه قد تقدم في أول الكتاب، مع الكلام على قول ابن محمود في صفحة (5): والمهدي واحد وليس باثنين، تنازعته أفكار الشيعة وأفكار أهل السنة، فليراجع هناك (¬3). وأما قوله: فكل لوم أو ذم ينحي به على الشيعة، فإنه ينطبق بطريق التطابق والموافقة على أهل السنة، الذين يصدقون بالمهدي المجهول في عالم الغيب، فهما في فساد الاعتقاد به سيان. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك في صفحة (211) من الجزء الرابع من المنهاج. طبع المطبعة الأميرية سنة 1322 هـ. (¬2) ص 28. (¬3) ص 47 - 48.

الرد على قوله إن المهدي لم يذكر في القرآن ولا في الصحيحين

فجوابه: أن يقال: هذا الكلام من أبطل الباطل؛ لما فيه من الجمع بين إيمان أهل السنة بخروج المهدي المبشر به في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين إيمان الرافضة بالمنتظر الذي يزعمون وجوده في سرداب سامراء، وينتظرون خروجه إليهم كل يوم وليس له وجود بالكلية. فأين الإيمان بهذا المعدوم من الإيمان بالذي بشَّر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونوَّه بذكره؟ وأما قوله: فبيت الشعر للسفاريني على الحالتين غير صواب ولا صحيح. فجوابه: أن يقال: بل هو صواب وصحيح، سوى قوله: "الخاتم"؛ ففيه نظر إذ لا دليل عليه. وأما قوله: والسفاريني هو أقوى من ثبت دعائم عقيدة المهدي في قلوب المسلمين. فجوابه: أن يقال: بل الله هو الذي ثبت الإيمان في قلوب المؤمنين بكل ما أخبر به الصادق المصدوق من أنباء الغيب، ومن ذلك الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان، لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. وقال ابن محمود في صفحة (31): "ثالثًا: إن المهدي لم يذكر في القرآن، ولا في صحيح البخاري ومسلم، فقد نزها كتبهما عن ذكره وعن الحديث عنه مع رواج الخبر عنه في زمانهما، فلا نرى ذلك إلا لضعف أحاديثه عندهما". والجواب: أن يقال: هذا الكلام مأخوذ من كلام رشيد رضا وأحمد أمين والمستشرق دونلدسن، وقد تقدم إيراده والرد عليه مع الكلام على قول ابن محمود في صفحة (6): ومنها أن هذه الأحاديث لم يأخذها البخاري ومسلم، كما أنه ليس له ذكر في القرآن. فليراجع ذلك في أول الكتاب (¬1). وقال ابن محمود في صفحة (31): "وأحاديث المهدي هي بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، قد أحصاها الشوكاني فيما يزيد على خمسين حديثًا، وكلها متخالفة ومضطربة، ينقض بعضها بعضًا، منها ما يشير إلى أن المهدي هو علي بن أبي طالب، ومنها ما يشير إلى أنه الحسن أو بنيه من بعده، ومنها ما يشير إلى أنه محمد بن الحنفية، وأنه حي في جبل رضوى بين مكة والمدينة وعنده عينا عسل وماء، ............................................ ¬

_ (¬1) ص 59 - 69.

ومنها ما يشير إلى أنه رجل اسمه الحارث، ويؤمر بالسعي إليه لبيعته ولو حبوا على الركب أو على الثلج، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يعلم كل عاقل أن رسول الله منزه عنها". والجواب: أن يقال: من أقبح المجازفات وصف أحاديث المهدي التي فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر بأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، أما يخشى ابن محمود أن تصيبه هذه الآية الكريمة {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وكذلك قوله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}؟ أما يخشى أن يحشر في زمرة المكذبين للرسول - صلى الله عليه وسلم - والساخرين من أقواله وأخباره الصادقة؟ وأما قوله: وكلها متخالفة ومضطربة، ينقض بعضها بعضًا. فجوابه: أن يقال: قد تقدم نحو هذا فيما نقلته من صفحة (6) من كتاب ابن محمود، وتقدم الرد عليه في أول الكتاب. فليراجع هناك (¬1). وأما قوله: منها ما يشير إلى أن المهدي هو علي بن أبي طالب، ومنها ما يشير إلى أنه الحسن. فجوابه: أن يقال: ليس في أحاديث المهدي ما يشير إلى ذلك البتة، وإنما هذا من مغالطات ابن محمود وتلبيسه على الجهال. وأما قوله: أو بنيه من بعده. فجوابه: أن يقال: هذا لحن، وصوابه أن يقال: أو بنوه من بعده، أو يقال أو أحد بنيه من بعده، وليس في أحاديث المهدي ما يشير إلى أنه من بني الحسن الأدنين منه، وقد روى أبو داود بإسناد فيه انقطاع عن علي -رضي الله عنه- أن المهدي من ذرية الحسن بن علي -رضي الله عنهما- والله أعلم. وأما قوله: ومنها ما يشير إلى أنه محمد بن الحنفية، وأنه حي في جبل رضوى بين مكة والمدينة، وعنده عينا عسل وماء. فجوابه: أن يقال: ليس في أحاديث المهدي ما يشير إلى ذلك البتة، وإنما هذا من مغالطات ابن محمود وتلبيسه على الجهال، وما زعمه ههنا فهو مذكور عن المختار ........ ¬

_ (¬1) ص 70 - 71.

الرد على زعمه أنه ليس من هدي الرسول ولا من شرعه أن يحيل أمته على التصديق برجل في عالم الغيب

بن أبي عبيد واتباعه من الكيسانية، وقد تقدم بيان ذلك في أثناء الكتاب مع الكلام على قول ابن محمود في صفحة (16):إن عبد الله بن سبأ كان يقول: إن المهدي هو محمد بن الحنفية. فليراجع (¬1). وأما قوله: ومنها ما يشير إلى أنه رجل اسمه الحارث، ويؤمر بالسعي إليه لبيعته ولو حبوًا على الركب أو على الثلج. فجوابه: أن يقال: قد روي أبو داود بإسناد فيه انقطاع عن علي -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث حراث، على مقدمته رجل يقال له منصور، يوطِّئ أو يمكن لآل محمد، كما مكنت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجب على كل مؤمن نصره، أو قال: إجابته». فلو صح هذا الحديث لما كان الأمر فيه على ما زعمه ابن محمود من أنه يشير إلى أن الحارث هو المهدي، وأنه يؤمر بالسعي إليه لبيعته ولو حبوًا على الرُكب أو على الثلج، فهذا من مغالطات ابن محمود وتلبيسه على الجهال، وإنما هو صريح في كون الحارث من أنصار آل محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي أنصار المهدي الذي هو من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يُمكِّن لأهل البيت النبوي كما مكنت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يجب على كل مؤمن نصره. وقال ابن محمود في صفحة (31): "خامسًا: لم يكن من هدي رسول الله ولا من شرعه أن يحيل أمته على التصديق برجل في عالم الغيب، وهو من أهل الدنيا ومن بني آدم، فيخبر عنه أنه يفعل كذا وكذا مما يوجب الاختلاف والاضطراب بين الأمة". والجواب: أن يقال: بل إن من أعظم هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن آكد شرعه الإيمان بما جاء في الكتاب والسنة من أنباء الغيب مما كان قبل زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما سيكون بعده إلى أن تقوم الساعة، وما سيكون بعد قيامها أيضًا. والإيمان بالغيب من أعلى صفات المتقين، قال الله -تعالى-: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. والقرآن والسنة مملوآن من قصص الأنبياء وغير الأنبياء من بني آدم، ممن كانوا ......... ¬

_ (¬1) ص 123 - 125.

من أهل الدنيا ثم انتقلوا إلى عالم الغيب، ولا يزالون فيه إلى يوم البعث والنشور، فمن لم يصدق بما جاء في كتاب الله -تعالى- من أنباء الغيب، وما ثبت من ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مخالف لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه، وليس بمؤمن. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروج المهدي في آخر الزمان، وأخبر أنه من أهل بيته، وأخبر بخروج القحطاني والجهجاه، والخليفة الذي يحثو المال حثوًا ولا يعده عدًا، وأخبر بخروج الدجال، ونزول عيسى -عليه الصلاة والسلام-، وأخبر بالرجل المؤمن الذي يخرج من المدينة يكذب الدجال. وهؤلاء كلهم من بني آدم، وهم الآن في عالم الغيب وسيكونون في آخر الزمان من أهل الدنيا، فمن لم يصدق بهم فهو ممن يُشك في إسلامه، وكذلك قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروج يأجوج ومأجوج في آخر الزمان، وهم من أهل الدنيا ومن بني آدم، ولكن قد حيل بينهم وبين الاختلاط بالناس بالسد الذي بناه ذو القرنين، فلا يعلم الناس عنهم الآن شيئًا، وسيندك السد في آخر الزمان كما أخبر الله بذلك في كتابه، ويخرج يأجوج ومأجوج فيطؤون البلاد، فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، فمن لم يصدق بوجودهم في الدنيا وخروجهم في آخر الزمان فليس بمسلم. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا بقصص لبعض بني آدم تكون في الدار الآخرة، منها قصة الرجل الذي هو آخر أهل النار خروجًا من النار وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وأن الله يقول له: أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يارب، أتستهزئ مِنِّي وأنت رب العالمين؟ فذكر الحديث. وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: «من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين، فيقول: إني لا استهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر». رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يومًا يُحدِّث وعنده رجل من أهل البادية: «أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال: أو لست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب أن أزرع، فأسرع وبذر فتبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال، فيقول الله -تعالى-: دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيء». فقال الأعرابي: يا رسول الله، لا تجد هذا إلا قرشيًا أو أنصاريًا، فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إلى غير ذلك من القصص .........................................................................

الرد على قوله إنه لو خرج المهدي لكان أول من يقاتله

التي ستكون لرجال من أهل الدنيا وهم الآن في عالم الغيب، فمن لم يصدق بما جاء في الكتاب والسنة من أنباء الغيب، مما مضى وما سيكون في الدنيا وفي الدار الآخرة، فهو مخالف لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرعه، وليس بمؤمن. وإذا علم هذا، فليعلم أيضًا أنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر عن المهدي أنه يفعل شيئًا مما يوجب الاختلاف والاضطراب بين الأمة كما زعم ذلك ابن محمود، وإنما أخبر عنه بما يوجب الائتلاف والطمأنينة بين الأمة، فقال في حديث أم سلمة -رضي الله عنها-: «فيقسم بين الناس فيئهم، ويعمل فيهم بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض». وقد تقدم في أول الكتاب (¬1) قول الخطابي: "إنه ضرب الجران مثلا للإسلام إذا استقر قراره، فلم تكن فتنة ولا هيج، وجرت أحكامه على العدل والاستقامة". انتهى. وأخبر - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عليٌّ وابن مسعود وأبو سعيد الخدري -رضي الله عنهم- أن المهدي يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وأخبر عنه في بعض الروايات عن أبي سعيد -رضي الله عنه- أن الله يسقيه الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحًا، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، ففي هذه الأحاديث الصحيحة أبلغ رد على مجازفات ابن محمود. وقال ابن محمود في صفحة (32): "وبما أنني من أحد الأشراف من ذرية الحسن بن علي، فإنه لو خرج رجل من الأشراف اسمه محمد بن عبد الله وهو أجلى الجبهة أقنى الأنف ويدعي أنه المهدي فإنني أول من يقاتله؛ لاعتقادي أنه كذاب يريد أن يفسد الدين ويشق عصا المسلمين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه» ". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن المهدي لا يخرج في حين اجتماع المسلمين على أمام واحد، وإنما يخرج في حين تفرق المسلمين واختلافهم فيجتمع المسلمون عليه، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، فليس ينطبق عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من آتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه». وأيضًا فإن المهدي لا يطلب الأمر لنفسه ابتداء مدعيًا أنه المهدي كما يفعله ........... ¬

_ (¬1) ص 17.

المدعون للمهدية كذبًا وزورًا، وإنما يأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه، ثم يسميه الناس بعد ذلك بالمهدي؛ لما يرون من صلاحه وعمله بالسنة، ونشره للقسط والعدل، وإزالته للجور والظلم، فحال المهدي المُبشَرِ به مخالفة لأحوال المدعين للمهدية كذبًا وزورًا. الوجه الثاني: أن يقال: بئس نية ابن محمود السيئة، وبئس ما اختار لنفسه من أنه لو خرج المهدي الذي يجتمع المسلمون عليه بعد التفرق والاختلاف، والزلازل والقلاقل، والذي أخبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يعمل بالسنة، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، بأنه يكون أول من يقاتله. أو لا يعلم ابن محمود أن الجيش الذي يأتي لقتال المهدي يخسف بهم؟! كما جاء ذلك في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبان في صحيحه، وأبو يعلي الموصلي، والطبراني، وقال الهيثمي في رجال الطبراني إنهم رجال الصحيح، وقال ابن القيم إنه حديث حسن ومثله مما يجوز أن يقال فيه صحيح، وقد روى مسلم في صحيحه عدة أحاديث تشهد له بالصحة، وهي عن عائشة، وأم سلمة، وحفصة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري -رضي الله عنهم-. وقد ذكرتها في أول الكتاب (¬1) فلتراجع هناك. وبعدُ فلو قُدِّر أن أحد أولاد ابن محمود أو أحد أحفاده ادعى أنه المهدي لكونه يزعم أنه من ذرية الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وصار له شوكة وأتباع، فهل يستمر ابن محمود على قوله واعتقاده في المهدي وشجاعته على قتاله، أم أنه يبدو له رأي آخر؟ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. الوجه الثالث: أن يقال: هلا أظهر ابن محمود شجاعته حينما هجم المدعون للمهدية على المسجد الحرام في أول سنة 1400هـ من الهجرة، ومنعوا الناس من الصلاة فيه والطواف بالكعبة نصف شهر! وقد كان يمكنه أن يحضر إلى ساحة القتال في نحو ساعتين ونصف في الطائرة، أو في يوم وليلة في السيارة، فيكون مع الذين يقاتلون الملحدين في حرم الله، ويبرز مع الشجعان الذين ضحوا بأنفسهم من أجل حماية بيت الله وإخراج المعتدين منه، أم أن شجاعته حبر على ورق؟! وإنه لينطبق على وعيد ابن محمود للمهدي بالقتال قول جرير: ¬

_ (¬1) ص 64 - 68.

الرد على سخريته من أحاديث المهدي

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعًا ... أبشر بطول سلامة يا مربع وقال ابن محمود في صفحة (32): "سابعًا: إن من صفة المهدي الذي يدعون خروجه أن مقامه في الدنيا سبع سنين أو تسع سنين في الحديث الآخر، وهل هو يؤيد بالخوارق والمعجزات، أو بالأحلام والمنامات؟ وهل تنزل معه الملائكة، أو الجن تسخر له كما سخرت لداود؟ وهل هو أكرم على الله من محمد رسول الله الذي مكث ثلاثًا وعشرين سنة كلها يجاهد ويجادل ويصبر على اللأواء والشدة، ويتبع السنن الكونية من الطرق الموصلة إلى نجاحه، والقرآن يؤيده والملائكة يمده الله بهم، وقد شج رأسه - صلى الله عليه وسلم -، وكسرت رباعيته، ودلُّوه في حفرة ظنوه ميتًا وذلك في وقعة أحد، ومع هذا كله لم يتمكن من بسط العدل إلا في جزيرة العرب، وهي نقطة صغير بالنسبة إلى سعة الدنيا. أفيكون المهدي المنتظر أعز على الله من محمد رسول الله؟ والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: لقد أكثر ابن محمود من الاستهزاء والسخرية من الأحاديث الواردة في المهدي، أما فيه دين يحجزه عن الاستخفاف بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخباره الصادقة؟! ولقد أحسن الشاعر حيث يقول: يقضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن وقد قال الله -تعالى-: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}. ومن تعزير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره قبول أحاديثه وأخباره عن المغيبات الماضية والآتية، ومقابلتها بالرضى والاحترام، وأن لا يجد المرء في نفسه شكا ولا حرجًا منها، ومن المغيبات التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ستكون في آخر الزمان خروج رجل من أهل بيته يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وقد ثبت ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث من الصحاح والحسان، وجاء في بعضها تسميته بالمهدي، فمن دفع الأحاديث الثابتة فيه ولم يقبلها فإنما يرد على الله -تعالى- وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا كان ابن محمود قد قابل الأحاديث الثابتة في المهدي بالسخرية والاستهزاء - مع أنه لم يأت في شيء من الأحاديث الثابتة في المهدي أنه يؤيد بالمعجزات وخوارق العادات، سوى الخسف بالجيش الذي يبعث إليه من الشام - فماذا يكون موقف ابن محمود من الأحاديث التي جاء فيها خرق العادة للمؤمنين الذين يقاتلون اليهود في آخر الزمان، وكذلك خرق العادة للمؤمنين الذين يغزون القسطنطينية في آخر الزمان؟ فقد جاء في عدة أحاديث صحيحة أن الحجر والشجر يقول: يا مسلم، هذا .......................................

يهودي خلفي فتعال فاقتله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟» قالوا: نعم يا رسول الله، قال: «لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولوا الثانية لا إله إلا الله والله أكبر فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا الثالثة لا إله إلا الله والله أكبر فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا، فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون». قوله من بني إسحاق قال النووي: "قال القاضي: "كذا هو في جميع أصول صحيح مسلم؛ من بني إسحاق"، قال: "قال بعضهم: المعروف المحفوظ من بني إسماعيل، وهو الذي يدل عليه الحديث، وسياقه لأنه إنما أراد العرب، وهذه المدينة هي القسطنطينية". انتهى، وقد ذكرت في كتابي "إتحاف الجماعة" ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد بني إسماعيل ولم يرد بني إسحاق، فليراجع هناك في الجزء الأول "باب ما جاء في الملحمة الكبرى، وفتح القسطنطينية ورومية"، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدجال أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، وأنه يدعو رجلا ممتلئًا شبابًا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل، وفي الصحيحين قصة الرجل المؤمن الذي يخرج من المدينة يكذب الدجال، فيقتله الدجال ثم يحييه، فيكذبه المؤمن أيضًا، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، وفي رواية لمسلم فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاس فلا يستطيع إليه سبيلا، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن نبي الله عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- أنه إذا نزل في آخر الزمان لا يحل لكافر يجد ريح نَفَسِهِ إلا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طرفه. إلى غير ذلك من خوارق العادات التي تكون في آخر الزمان ولا تحتملها عقول بعض الناس، بل إما أن ينكروها بالكلية ويقدحوا في الأحاديث الواردة فيها وإن كانت صحيحة، وإما أن يؤولوها بما يوافق أفكارهم الفاسدة، وقد رأيت ذلك في بعض كتب العصريين وتعاليقهم على بعض الكتب، ولا أدري ماذا يكون موقف ابن محمود من خوارق العادات التي ذكرتها آنفًا، هل يُقِرُّ بها ويُصدِّق بما جاء فيها من الأحاديث الثابتة، أم يسلك فيها مسلكه في أحاديث المهدي، فيقابلها .......................................

بالسخرية والاستهزاء؟ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. وإذا علم ما تقدم، فقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاصر بني قريظة خمسًا وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكمه، وحاصر أهل خيبر في حصونهم حتى أيقنوا بالهلكة فسألوه أن يسيرهم وأن يحقن دماءهم ففعل، وحاصر أهل الطائف قريبًا من شهر ورماهم بالمنجنيق ثم انصرف عنهم ودعا لهم بالهداية. وعلى هذا، فهل يقول مؤمن إن المؤمنين الذين يفتتحون القسطنطينية بالتهليل والتكبير في آخر الزمان يكونون أعز على الله وأكرم عليه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يقول مؤمن إن المؤمنين الذين يناديهم الحجر والشجر في آخر الزمان ويدلهم على اليهود ليقتلوهم يكونون أعز على الله -تعالى- وأكرم عليه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث لم يتيسر له فتح الطائف بعد الحصار الطويل، ولم تتيسر له الغلبة على بني قريظة وأهل خيبر إلا بعد الحصار الطويل؟! كلا لا يقول ذلك مؤمن. وهكذا يقال في تمكين المهدي في الأرض في مدة قصيرة لا تتجاوز تسع سنين، وبسطه للقسط والعدل وإزالته للجور والظلم في هذه المدة القليلة، لا يقول مؤمن إنه بهذا التمكين يكون أعز على الله -تعالى- وأكرم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي لا يشك فيه المؤمن أن تمكين المهدي في الأرض، وما يجريه الله من خوارق العادات للمؤمنين الذين يقاتلون اليهود في آخر الزمان، وللمؤمنين الذين يفتتحون القسطنطينية في آخر الزمان، كله من ثمرة المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصر دينه، وهذا في الحقيقة إكرام النبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثاني: أن يقال: من علم أن الله على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يؤيد من شاء من خلقه بما شاء من أسباب النصر والتمكين، لم يكن عنده شك ولا تردد في التصديق بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي. فأما كثرة الاعتراض على أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخباره الصادقة بحرف "هل" فهذا دليل على كثرة الشك والارتياب عند المعترض، وقد قال الله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. الوجه الثالث: أن يقال: قد أخبر الله عن ذي القرنين أنه مَكَّنَ له في الأرض وآتاه من كل شيء سببًا، وأخبر عنه أنه بلغ المغرب والمشرق، وبني السد دون يأجوج ومأجوج، وهو عبد من عباد الله الصالحين، ومع هذا فقد مكن الله له في الأرض .........................

حتى ملك الدنيا كلها. فهل يقول مؤمن عاقل أنه بهذا التمكين العظيم يكون أعز على الله -تعالى- وأكرم من محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ كلا، لا يقول هذا مؤمن. فنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أشرف بني آدم وأعزهم وأكرمهم على الله -تعالى-، فليس منهم أحد يساويه فضلا عن أن يفوقه. الوجه الرابع: أن يقال: إن الله -تعالى- قال في كتابه العزيز: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وقال -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}. ولا شك أن المهدي من هؤلاء الذين وعدهم الله بالنصر والتمكين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عنه أنه يعمل بالسنة وينشر القسط والعدل ويزيل الجور والظلم، فنصر المهدي وتمكينه نصر للشريعة المحمدية وتمكين لها وإظهار لعزها وشرفها، وهذا في الحقيقة من إظهار العز والشرف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قيَّض الله لدينه من يجدده ويؤيده بعد اندراسه في آخر الزمان، كما قد حصل مثل ذلك في زمن الخلفاء الراشدين، ولا يستنكر هذا إلا من هو جاهل أو مكابر. وقد روى مسلم في صحيحه عن ثوبان -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها». فدل هذا على أن كل فتح ونصر وتمكين حصل للأمة فهو مما أكرم الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأعز به دينه. وأما قول ابن محمود: أو الجن تسخر له كما سخرت لداود. فجوابه: أن يقال: إن الجن لم تسخر لداود، وإنما سخرت لسليمان، قال الله -تعالى-: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ *}، وقال -تعالى-: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا .......................................................

الرد على أشياء من أباطيل ابن محمود وهذيانه

يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}، وقال -تعالى-: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}. وإذا كان ابن محمود يخبط خبط عشواء فيما هو مذكور في كتاب الله-تعالى- فلا يستغرب منه أن يتهجم على أحاديث المهدي ويقابلها بالسخرية والاستهزاء، وهذا التخبيط الشنيع مما حصل لابن محمود بعد توسعه في العلوم والفنون. وأما قوله: وقد شج رأسه - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته، ودلُّوه في حفرة ظنوه ميتًا، وذلك في وقعة أحد. فجوابه: أن أقول: إني لم أر أحدًا ذكر أنهم دلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفرة ظنوه ميتًا، وإنما ذكر ابن هشام وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقع في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر الفاسق ليقع فيها المسلمون، فأخذ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- حتى استوى قائمًا، وروى ابن جرير عن قتادة قال: "أصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وكسرت رباعيته، وفُرِق حاجبه، فوقع وعليه درعان، والدم يسيل، فمر به سالم مولى أبي حذيفة، فأجلسه ومسح عن وجهه فأفاق وهو يقول: «كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله»؟! فأنزل الله -تبارك وتعالى-: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} " فهذا ما ذكره أهل العلم لا ما أتى به ابن محمود من عند نفسه. وقال ابن محمود في صفحة (32) وصفحة (33): "ثامنًا: إن جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها علماؤهم وعامتهم متفقون على قتال من يدعي أنه المهدي، كما مضى منهم ذلك في كل زمان ومكان مع كثرة من يدعي أنه المهدي؛ لاعتقادهم أنها دعوى باطلة لا صحة لها، ولا يزالون يقاتلون من يدَّعي أنه المهدي حتى تقوم الساعة، فأين المهدي والحالة هذه؟ وصار المهدي كالموجود في الأذهان دون الأعيان". والجواب: أن يقال: قد ذكر ابن محمود نحو هذا في صفحة (3) من كتابه، وتقدم الجواب عنه في أول الكتاب فليراجع هناك (¬1). وقال ابن محمود في صفحة (33) وصفحة (34): "عاشرًا: إن الدين كامل بوجود رسول الله ونزول كتاب الله، ولم يخلف رسول الله شيئًا منه لا في السماء ولا ........... ¬

_ (¬1) ص 25.

في الأرض. يقول الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله وسنتي». لهذا صرنا في غنى وسعة عن دين وعدل يأتي به المهدي، فلا مهدي بعد رسول الله كما لا نبي بعده". والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: أما قول ابن محمود: إن الدين كامل بوجود رسول الله. فمفهومه أن الدين قد نقص بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق على كماله، وهذا لا يقوله عاقل. وأما قوله: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخلف شيئًا منه لا في السماء ولا في الأرض. فمعناه أن الدين قد ذهب بالكلية بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث لم يخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شيئًا، وهذا في الحقيقة من الهذيان الذي حصل لا بن محمود بعد توسعه في العلوم والفنون. الوجه الثاني: أن يقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث إلى أهل السماء، فلا يصح أن يقال إنه خلف فيها شيئًا من الدين أو لم يخلف، وأما الأرض فقد خلف فيها الدين كاملا لم ينقص بموته، والدين هو ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب والسنة يقرؤهما المسلمون ويعمل الموفقون منهم بما فيهما، وهذا معلوم بالضرورة. وقد روى الإمام أحمد ومسلم، عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بين مكة والمدينة: «أما بعد، ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين؛ أولهما كتاب الله -عز وجل- فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه» الحديث، وروى مالك في الموطأ بلاغًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما؛ كتاب الله، وسنة رسوله» وقد رواه الحاكم في مستدركه موصلا من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وصححه وأقرَّه الذهبي، وروى الحاكم أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على قول ابن محمود: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخلف شيئًا من الدين في الأرض. ويلزم على قول ابن محمود: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخلف شيئًا من الدين في الأرض أن يكون القرآن قد رفع من الأرض بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن تكون السنة قد ..............

ذهبت بالكلية. وما لزم عليه هذا القول فبطلانه وفساده لا يخفي على عاقل، بل لا يشك عاقل أنه من الهذيان الذي قيل من غير تدبر ولا تعقل، وأما بقية كلام ابن محمود الذي هو غاية في التخليط والتلبيس فقد تقدم الجواب عنه في عدة مواضع، فلتراجع (¬1). وأما قوله: والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أن اعتصمتم به كتاب الله وسنتي». فجوابه: أن يقال: من الاعتصام بكتاب الله -تعالى- وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - تصديق ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب، ومن ذلك إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي، فمن لم يصدق بذلك فاعتصامه بالكتاب والسنة مخدوش ومدخول؛ لأن الله -تعالى- قال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، وقال -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}، وقال -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: «اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق». رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والدارمي، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وروي الطبراني في الأوسط عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب ثلاثة؛ الله، ورسوله، والذي حدث به». وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في أول الكتاب، فليراجع (¬2). ومن لم يُسلِّم لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، وقابل أخباره الصادقة عنه بالرد والإطراح، فهو داخل في حكم حديث جابر -رضي الله عنه-، ويخشى عليه أن يسلب الاعتصام بالكلية، عياذًا بالله من ذلك. وأما قوله: لهذا صرنا في غنى وسعة عن دين وعدل يأتي به المهدي. فجوابه: أن يقال: أما الإتيان بدين جديد - وهو الذي قصده ابن محمود وكرر ....... ¬

_ (¬1) ص 9 - 12و 51 - 52و 95 - 96و 111 - 114و 125 - 127و 169 - 170و 179 - 180. (¬2) ص 20.

الرد على زعمه أن أحاديث الفتن وأشراط الساعة مبنية على التساهل

ذكره في مواضع كثيرة من كتابه - فهو محال؛ لأن الله -تعالى- قد ختم الأنبياء بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأكمل الدين له ولأمته، وأما تجديد الدين بعد اندراسه وبسط العدل وإزالة الجور والظلم فهذا لا غنى للمسلمين عنه، ومن زعم أنه في غنى وسعة عن ذلك فلا شك أنه لا يعقل ما يقول. وقال ابن محمود في صفحة (34): "حادي عشر: إن العلماء؛ كأبي داود في سننه، وابن كثير في نهايته، والسفاريني في لوامع أنواره، وغيرهم قد أدخلوا أحاديث المهدي في جملة أشراط الساعة، مع أحاديث الدجال، والدابة، ويأجوج ومأجوج، وأحاديث الفتن، فكل هذه لا يتعرض لها نقاد الحديث بتصحيح ولا تمحيص؛ لعلمهم أنها أحاديث مبنية على التساهل، ويدخل فيها الكذب والزيادات والمدرجات والتحريفات، وليست بالشيء الواقع في زمانهم، ولا من أحاديث أحكامهم وأمور حلالهم وحرامهم". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: من مجازفات ابن محمود زعمه أن أحاديث الفتن وأشراط الساعة مبنية على التساهل، وهذا مردود بأن في الصحيحين أحاديث كثيرة جدًا من أحاديث الفتن وأشراط الساعة، ومن المعلوم أن البخاري ومسلمًا لم يكونا متساهلين في التصحيح والتمحيص وإدخال الزيادات والمدرجات والتحريفات في كتابيهما، فضلا عن الأحاديث التي يشوبها الكذب. قال النووي في شرح مسلم: "اتفق العلماء -رحمهم الله- على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان؛ البخاري، ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول"، ونقل النووي عن أبي عمرو بن الصلاح أنه قال: "جميع ما حكم مسلم بصحته فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر. وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه؛ وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول، سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع"، ونقل النووي أيضًا عن إمام الحرمين أنه قال: "لو حلف إنسان بطلاق امرأته، أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته، من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما ألزمته الطلاق ولا حنثته؛ لإجماع علماء المسلمين على صحتهما". انتهى. وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" في ترجمة البخاري: "كتابه الصحيح يستسقى بقراءته الغمام، وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الإسلام". انتهى.

وقد صحَّح الترمذي وابن حبان كثيرًا من أحاديث الفتن وأشراط الساعة، وتصحيحهما مقبول عند أهل العلم، وكذلك ما صححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه وهو كثير جدًا، وكذلك نور الدين الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد"؛ فإنه قد صحح الصحيح مما ذكره في كتابه من أحاديث الفتن وأشراط الساعة، وبيَّن أحوال الأسانيد الضعيفة لئلا يُغتر بها، وكلامه في ذلك مقبول عند أهل العلم، وقد حرره معه الحافظان؛ زين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني، وهما من أكبر نقاد الحديث. الوجه الثاني: أن يقال: إن الأئمة المحققين الذين يعتد بأقوالهم في التصحيح والتضعيف قد تكلموا في أحاديث الفتن وأشراط الساعة كما قد تكلموا في أحاديث الأحكام، وميزوا الأحاديث الصحيحة والأحاديث الحسنة من الأحاديث الضعيفة والأحاديث المنكرة والموضوعة، وأفردوا الأحاديث الموضوعة بالمصنفات الكثيرة، فمن زعم أن نقاد الحديث لم يتعرضوا لأحاديث الفتن وأشراط الساعة بالتصحيح والتمحيص فقد قال خلاف الواقع. الوجه الثالث: أن أقول: قد ذكرت في أول الكتاب ما صححه نقاد الحديث من الأحاديث الواردة في المهدي فليراجع، ففيه أبلغ رد على قول ابن محمود إنهم لم يتعرضوا لها بتصحيح ولا تمحيص، وعلى قوله إنها مبنية على التساهل. وأما قوله: وليست بالشيء الواقع في زمانهم. فجوابه: أن يقال: إن الإيمان بأنباء الغيب ليس مقصورًا على الأشياء التي تقع في زمان الإنسان، بل يجب الإيمان بكل ما جاء في الكتاب والسنة من أنباء الغيب، ما كان من ذلك فيما مضى من الزمان وما سيكون من ذلك في المستقبل، ومنه أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة، وما يكون بعد قيام الساعة من الأمور العظام، وما يكون بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ومن آمن بما يقع في زمانه ولم يؤمن بما وقع في الماضي أو بما سيقع في المستقبل فلا شك أنه داخل في عموم قول الله -تعالى-: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} الآية.

من الأوهام الغريبة ما ذكره ابن محمود عن المسعودي أنه ذكر في تاريخه ما كان في القرن التاسع

وأما قوله: ولا من أحاديث أحكامهم وأمور حلالهم وحرامهم. فجوابه: أن يقال: إن الإيمان بأنباء الغيب من عقائد المسلمين، والأحاديث التي تتعلق بالعقائد ويعتمد عليها أهل العلم، ليست مبنية على التساهل وإدخال الزيادات والمدرجات والتحريفات وما يدخله الكذب كما قد توهم ذلك ابن محمود، وإنما هي من جنس أحاديث الأحكام وأمور الحلال والحرام، يتثبت فيها أهل العلم وينقدونها ويعتمدونها على ما كان صحيحًا منها أو حسنًا، ويتركون ما سوى ذلك. وقال ابن محمود في صفحة (34): "وفي القرن التاسع لما كثر المُدَّعون للمهدي، وثارت الفتن بسببه كما ذكرها المسعودي في تاريخه، فعند ذلك اضطر بعض المحققين من العلماء أن ينقدوا أحاديث المهدي؛ ليعرفوا قويها من ضعيفها وصحيحها من سقيمها، فتصدى ابن خلدون في مقدمته لتدقيق التحقيق فيها، فنخلها ثم نثرها حديثًا حديثًا وبين عللها كلها، وأن من رواتها الكذوب ومنهم المتهم بالتشيع والغلو، ومنهم من يرفع الحديث إلى الرسول بدون أن يتكلم به الرسول، ومنهم من لا يحتج به، وخلاصته أنه حكم على أحاديث المهدي بالضعف". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن المسعودي المؤرخ كان في آخر القرن الثالث من الهجرة وأول القرن الرابع، وكانت وفاته في سنة ست وأربعين وثلاث مائة، وعلى هذا فهل يقول عاقل: إن المسعودي قد ذكر في تاريخه ما جرى في القرن التاسع من كثرة المدعين للمهدية، وما ثار بسببهم من الفتن؟ كلا، لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل. وليس المسعودي يعلم الغيب حتى يخبر عما يكون بعده بخمسة قرون، وهذا الوهم من أغرب الأوهام، وهو مما حصل لابن محمود بعد توسعه في العلوم والفنون. الوجه الثاني: أن يقال: إن منخل ابن خلدون الذين نخل به أحاديث المهدي كان واسع الخروق جدًا، ولم يكن مضبوطًا ومحكمًا، فلهذا نخل به كثيرًا من الصحاح والحسان الواردة في المهدي، ولم يستثن منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه، وقد خالف بهذا العمل ما قاله كثير من أكابر أئمة الحديث ونقاده، وقد ذكرت تصحيحهم لبعض أحاديث المهدي وتحسينهم ...........................

لبعضها في أول الكتاب فليراجع (¬1)، وقد ردَّ غير واحد من المتأخرين على ابن خلدون، وخطؤوه فيما ذهب إليه من تضعيف بعض الأحاديث الثابتة في المهدي، وقد ذكرت ردودهم عليه في أثناء الكتاب، فلتراجع في موضعها (¬2). الوجه الثالث: أن يقال: إن ابن خلدون لم يحكم على أحاديث المهدي كلها بالضعف كما زعم ذلك ابن محمود، وإنما حكم على أكثرها كما صرح بذلك في مقدمته حيث قال بعد سياقه لأحاديث المهدي ما نصه: "فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان، وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه". انتهى. الوجه الرابع: أن يقال: ظاهر كلام ابن محمود بل صريحه أن ابن خلدون هو أول من تكلم في نقد أحاديث المهدي، وأن العلماء الذين كانوا قبل زمان ابن خلدون لم يتعرضوا لأحاديث المهدي بالنقد وبيان الصحيح منها من الضعيف، وهذا خلاف الواقع، وقد ذكرت كلام المحققين في تصحيح بعض أحاديث المهدي وتضعيف بعضها في أول الكتاب فليراجع (¬3)، ففيه أبلغ رد على ابن محمود حيث أوهم بكلامه أن ابن خلدون هو أول من توسع في تضعيف أحاديث المهدي، ولم يقتصر على تضعيف الأحاديث الضعيفة، بل تجاوز ذلك إلى تضعيف بعض الصحاح والحسان، ولم يستثن منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه، وبهذا فتح الباب لرشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وغيرهم من العصريين الذين تهجموا على أحاديث المهدي وقابلوها كلها بالرد والإطراح، ولم يفرقوا بين الثابت منها وغير الثابت، وقد قلدهم ابن محمود في هذا العمل السيئ، وزاد عليهم حتى خرج عن حد المعقول إلى غير المعقول، فزعم أن أحاديث المهدي كلها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وأنها أحاديث خرافة، وأنها نظرية خرافية، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، وأن انتظار خروج المهدي من الركون إلى الخيال والمحالات، والاستسلام للأوهام والخرافات، هكذا زعم وجازف واستهان بأقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخباره الصادقة عن ........................................................... ¬

_ (¬1) ص 41 - 43. (¬2) ص 142 - 144. (¬3) ص 41 - 42.

انتصار ابن محمود لابن خلدون والرد عليه

المهدي، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. وقال ابن محمود في صفحة (34) وصفحة (35): "لكن رأينا بعض العلماء في هذا الزمان يعترض على تصحيحات ابن خلدون، قائلا إنه مؤرخ وليس بصاحب حديث، وهذا الاعتراض لا موقع له من الصحة، فإن ابن خلدون عالم جليل، ولا يقول أحد فيه إلا الخير، وكونه مؤرخًا لا يمنع من كونه محققًا لعشرة أحاديث أو أكثر، لكون التحقيق سهل على مثله عند توافر الآلات والكتب المؤلفة عن صفات الرواة، ودراسة الأشخاص وعدالتهم والقدح فيهم من شئون التاريخ، كما أنه من شئون علم الحديث". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: يفهم من ظاهر كلام ابن محمود أن ابن خلدون له تصحيحات لبعض أحاديث المهدي، وهذا مخالف للواقع، فإن ابن خلدون لم يصحح شيئًا من أحاديث المهدي، وإنما نقدها إلا القليل أو الأقل منه كما صرح بذلك في مقدمته، وقد ذكر كلامه في ذلك قريبًا فليراجع (¬1)، وكان ينبغي لابن محمود أن يقول: إن بعض العلماء قد اعترضوا على تضعيف ابن خلدون لأحاديث المهدي، فإن هذا هو المطابق للواقع، فأما قوله: إنهم اعترضوا على تصحيحات ابن خلدون، فهو مما انقلب عليه. الوجه الثاني: أن يقال: إن العلماء الذين اعترضوا على ابن خلدون لم يعترضوا عليه في شيء من التصحيح كما قد توهم ذلك ابن محمود، وإنما اعترضوا عليه في نقده لبعض الأحاديث الثابتة، ولا ينكر موقع ذلك من الصحة إلا جاهل أو مكابر. الوجه الثالث: أن يقال: إن الذين اعترضوا على ابن خلدون في نقده لأحاديث المهدي وحكمه بضعفها سوى القليل أو الأقل منه هم المصيبون؛ لأن ابن خلدون قد ضعف أحاديث صحيحة لا مطعن فيها، وقد صححها كثير من أكابر العلماء ممن لا يدانيهم ابن خلدون في نقد الأحاديث ومعرفة صحيحها من ضعيفها فضلا عن أن يساويهم، وقد ذكرت تصحيحهم لبعض أحاديث المهدي في أول الكتاب، وذكرت أيضًا قول من قال من أكابر .... ¬

_ (¬1) ص 203.

نموذج من تحقيقات ابن محمود

العلماء إن أحاديث المهدي متواترة، فليرجع إلى ما ذكرته (¬1) ففيه أبلغ رد على ابن خلدون ومن نحا نحوه واغتر بقوله. وأما قوله: إن ابن خلدون عالم جليل ولا يقول أحد فيه إلا الخير. فجوابه: أن يقال: أما كونه عالمًا جليلا فذلك لا يمنع من الاعتراض عليه فيما أخطأ فيه وبيان أخطائه لئلا يغتر بها الناس، والذين اعترضوا على ابن خلدون لم يتكلموا في شخصه بما يجرحه ويقدح في عدالته، وإنما اعترضوا على قوله الباطل في رده لبعض الأحاديث الثابتة في المهدي والحكم بضعفها، وذلك لا ينافي قول الخير فيه. وأما قوله: وكونه مؤرخًا لا يمنع من كونه محققًا لعشرة أحاديث أو أكثر؛ لكون التحقيق سهل على مثله عند توفر الآلات والكتب المؤلفة عن صفات الرواة. فجوابه: أن يقال: قد لحن ابن محمود في قوله "سهل"، وصوابه سهلا بالنصب على أنه خبر كون. ويقال أيضًا: إن تحقيق ابن خلدون لبعض أحاديث المهدي من جنس تحقيقات ابن محمود، فقد حقق ابن محمود في عنوان كتابه وفي عدة مواضع منه أنه لا مهدي بعد رسول الله، وحقق في صفحة (12) أنه لا مهدي بعد رسول الله وبعد كتاب الله، فوصف كلام الله بصفة المخلوقين من الخلفاء الراشدين المهديين والأئمة الصالحين، وحقق في صفحة (13) وصفحة (14) أن صاحب موسى الذي سأل السبيل إليه هو ذو القرنين، وحقق في صفحة (14) أن موسى لما أراد أن يفارق ذا القرنين قال له ذو القرنين: يا موسى أنت على علم من الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم من الله لا تعلمه أنت، وحقق في صفحة (14) أنه لا مهدي بعد رسول الله كما لا نبي بعده، فقاس وجود المهديين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجود الأنبياء بعده، ونفى كلا منهما، وهذا من أفسد القياس؛ لأن الأنبياء قد ختموا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فلا نبي بعده، بخلاف المهديين فقد جاء النص على أنه يكون في هذه الأمة خلفاء مهديون، وقد ذكر الحديث الوارد في ذلك في أول الكتاب ............................................ ¬

_ (¬1) ص 41 - 45.

زعمه أن ابن القيم والشاطبي قد أيدا قول ابن خلدون والرد عليه

فليراجع (¬1)، وحقق في صفحة (32) أن الجن سخروا لداود، إلى غير ذلك من تحقيقات ابن محمود التي حصلت له بعد توسعه في العلوم والفنون، وهي تحقيقات تضحك منها الثكلى، ويستحي العاقل من ذكرها لولا أن الضرورة ألجأت إلى ذكرها للتنبيه عليها. وإذا كان ابن محمود قد تخبط في تحقيقه لما هو مذكور في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة، مع توافر المصاحف وكتب الحديث في هذا الزمان، ولم يكن التحقيق مع ذلك سهلا عليه، فلا شك أن كلامه في أحاديث المهدي أبعد عن التحقيق وأقرب إلى التخليط، وسيأتي بيان ذلك مع الكلام على ما زعم أنه تحقيق معتبر لأحاديث المهدي -إن شاء الله تعالى-. وأما ابن خلدون فتحقيقه لأكثر الأحاديث الثابتة في المهدي حاصله الرد والإطراح لها، وهذا ليس بتحقيق، وإنما هو معارضة لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - واستهانة بها. وقال ابن محمود في صفحة (35) وصفحة (36): "وقد رأينا من يؤيد قول ابن خلدون من العلماء المتقدمين، والراقين في العلم والمعرفة والاعتصام بالكتاب والسنة؛ ومنهم العلامة ابن القيم؛ فقد ذكر في كتابه "المنار المنيف" عن أحاديث المهدي وضعفها، ومنهم الإمام الشاطبي في كتابه "الاعتصام"؛ فقد جعل المهديين والإمامية من أهل البدع، ويعني بالمهديين الذين يصدقون بخروج المهدي، ودونك كلامه بلفظه إثباتًا للحجة والعذر، وإزالة للشبهة والعذل، قال بعد كلام له سبق في المتبعين لأهل الأهواء والبدع: "وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب إليه كثير من بدع المغرب، فهو في الإثم والتسمية مع من اتبع، إذا انتصب ناصرًا لها ومحتجًا عليها"، وقال: "ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام، خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل"، وقال: "مذهب الفرقة المهدوية التي جعلت أفعال مهديهم حجة وافقت حكم الشريعة أو خالفت، بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة في عقد إيمانهم، من خالفها كفَّروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي". وبذلك تنقطع حجة من ادعى أنه لم يسبق الإمام ابن خلدون أحد من العلماء في تضعيف أحاديث المهدي". ¬

_ (¬1) ص 9.

ذكر كلام ابن القيم ومخالفته لمزاعم ابن محمود

والجواب: أن يقال: ليس الأمر على ما توهمه ابن محمود على ابن القيم والشاطبي من أنهما قد أيَّدا قول ابن خلدون، بل الأمر في الحقيقة على خلاف ذلك، فأما ابن القيم -رحمه الله تعالى- فقد نقل في كتابه "المنار المنيف" عن أبي الحسين محمد بن الحسين الآبري أنه قال في كتابه "مناقب الشافعي": "قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه". انتهى، وقد أقره ابن القيم -رحمه الله تعالى- على هذا القول ولم يتعقبه بشيء. ولو كان الأمر على ما توهمه ابن محمود لكان ابن القيم ينكر هذا الكلام ولا يقره، ونقل ابن القيم أيضًا عن البيهقي كلامًا له في تضعيف حديث أنس -رضي الله عنه- الذي فيه «ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم» ثم قال: "والأحاديث على خروج المهدي أصح إسنادًا". انتهى. وقد أقره ابن القيم على هذا القول، وذكر ابن القيم أيضًا حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي مِنِّي، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، يملك سبع سنين». ثم قال: "رواه أبو داود بإسناد جيد، من حديث عمران بن داور العمي القطان، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، وروى الترمذي نحوه من وجه آخر، عن أبي الصديق الناجي عنه"، وذكر ابن القيم أيضا حديث أم سلمة -رضي الله عنها- الذي أوله: «يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هاربًا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام» الحديث، قال ابن القيم: "والحديث حسن، ومثله مما يجوز أن يقال فيه صحيح"، وذكر أيضًا ما رواه أبو نعيم في كتاب المهدي من حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لبعث الله فيه رجلا اسمه اسمي وخلقه خلقي يكنى أبا عبد الله». ثم قال: "ولكن في إسناده العباس بن بكار، لا يحتج بحديثه، وقد تقدم هذا المتن من حديث ابن مسعود وأبي هريرة، وهما صحيحان". انتهى، وذكر أيضًا ما رواه أبو نعيم: حدثنا أبو الفرج الأصبهاني، حدثنا أحمد بن الحسين، حدثنا أبو جعفر بن طارق، عن الجيد بن نظيف، عن .......................

أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مِنَّا الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه». قال: "وهذا إسناد لا تقوم به حجة، لكن في صحيح ابن حبان من حديث عطية بن عامر نحوه"، وذكر أيضًا ما رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنا إبراهيم بن عقيل، عن أبيه، عن وهب بن منبه، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة». قال وهذا إسناد جيد. وجملة الأحاديث التي أوردها ابن القيم في ذكر المهدي تسعة عشر حديثًا، ذكر منها أربعة عشر حديثًا متوالية، صحح منها ثلاثة، وقال في اثنين إسنادهما جيد، وسكت عن حديثين، وضعَّف سبعة، وقال بعد إيراده لحديثي ابن مسعود وأبي هريرة -رضي الله عنهما-: "اللذين قال الترمذي في كل منهما أنه حسن صحيح" ووافقه ابن القيم على تصحيحهما، وفي الباب عن حذيفة بن اليمان، وأبي أمامة الباهلي، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثوبان، وأنس بن مالك، وجابر، وابن عباس وغيرهم. ثم قال بعد إيراده للأحاديث الأربعة عشر ما نصه: "وهذه الأحاديث أربعة أقسام؛ صحاح وحسان وغرائب وموضوعة، وقد اختلف الناس في المهدي على أربعة أقوال؛ أحدها: أنه المسيح ابن مريم وهو المهدي على الحقيقة، واحتج أصحاب هذا القول بحديث محمد بن خالد الجندي، وقد بيَّنا حاله، وأنه لا يصح، ولو صح لم يكن فيه حجة؛ لأن عيسى أعظم مهدي بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الساعة، وقد دلت السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على نزوله على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وحكمه بكتاب الله، وقتله اليهود والنصارى، ووضعه الجزية، وإهلاك أهل الملل في زمانه، فيصح أن يقال: لا مهدي في الحقيقة سواه وإن كان غيره مهديًا، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا ما وقى وجه صاحبه، وكما يصح أن يقال: إنما المهدي عيسى ابن مريم؛ يعني المهدي الكامل المعصوم. القول الثاني: أنه المهدي الذي ولي من بني العباس، وقد انتهى زمانه، ثم ذكر حديثين احتج بهما أصحاب هذا القول، وهما عن ثوبان وابن مسعود -رضي الله عنهما-، ثم قال بعد إيراده لحديث ابن مسعود -رضي الله عنه-: وهذا والذي قبله لو صح لم يكن فيه دليل على أن المهدي الذي تولى من بني .................................................

العباس هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، بل هو مهدي من جملة المهديين، وعمر بن عبد العزيز كان مهديًا، بل هو أولى باسم المهدي منه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي». وقد ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وغيره إلى أن عمر بن عبد العزيز منهم، ولا ريب أنه كان راشدًا مهديًا، ولكن ليس بالمهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فالمهدي في جانب الخير والرشد كالدجال في جانب الشر والضلال، وكما أن بين يدي الدجال الأكبر صاحب الخوارق دجالين كذابين، فكذلك بين يدي المهدي الأكبر مهديون راشدون. القول الثالث: أنه رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورًا وظلمًا، فيملؤها قسطًا وعدلا، وأكثر الأحاديث على هذا تدل، وفي كونه من ولد الحسن سر لطيف؛ وهو أن الحسن -رضي الله عنه- ترك الخلافة لله فجعل الله من ولده من يقوم بالخلافة الحق المتضمن للعدل الذي يملأ الأرض، وهذه سنة الله في عباده؛ أن من ترك لأجله شيئا أعطاه الله أو أعطى ذريته أفضل منه، وهذا بخلاف الحسين -رضي الله عنه- فإنه حرص عليها وقاتل عليها فلم يظفر بها. وقد روى أبو نعيم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج رجل من أهل بيتي، يعمل بسنتي، وينزل الله له البركة من السماء، وتخرج له الأرض بركتها، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلمًا، ويعمل على هذه الأمة سبع سنين، وينزل بيت المقدس». وروى أيضًا من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الدجال وقال: «فتنفي المدينة الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعي ذلك اليوم يوم الخلاص»، فقالت أم شريك: فأين العرب يا رسول الله يومئذ؟ فقال: «هم يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم المهدي رجل صالح». وروى أيضًا من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن تهلك أمة أنا في أولها، وعيسى ابن مريم في آخرها، والمهدي في وسطها».

ذكر كلام الشاطبي ومخالفته لمزاعم ابن محمود

وهذه الأحاديث وإن كان في إسنادها بعض الضعف والغرابة فهي مما يقوي بعضها بعضًا ويشد بعضها ببعض، فهذه أقوال أهل السنة". انتهى المقصود من كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى-، وفيه أبلغ رد على ابن محمود حيث تقوَّل على ابن القيم وزعم أنه قد أيد قول ابن خلدون في تضعيف أحاديث المهدي، وقد قرر ابن القيم -رحمه الله تعالى- خروج المهدي في عدة مواضع من كلامه، وأيد ذلك بالأدلة، وذكر أنه أحد أقوال أهل السنة، وأن أكثر الأحاديث تدل عليه، وذكر أيضًا أن أحاديث المهدي أربعة أقسام؛ صحاح وحسان وغرائب وموضوعة، ومع هذا يزعم ابن محمود أن ابن القيم قد أيَّد قول ابن خلدون في تضعيف أحاديث المهدي. أما يستحي ابن محمود من التقول على العلماء؟! أما يخاف من سوء عاقبة ذلك؟! أيظن أن الناس كلهم أغبياء يروح عليهم التوهيم والتلبيس بالأقوال الباطلة، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول: إذا شئت أن تحيا عزيزًا مسلمًا ... فدبر وميز ما تقول وتفعل وأما الشاطبي فإنه لم يذكر في كتابه "الاعتصام" شيئًا من الأحاديث الواردة في المهدي فضلا عن أن يكون مؤيدًا لابن خلدون على تضعيفها، وقد ذكرت في أثناء الكتاب أن الشاطبي أشار إلى أحاديث المهدي في قوله عن المتسمي بالمهدي إنه زعم أنه المبشر به في الأحاديث، وذكرت هناك أن قول الشاطبي صريح في أنه يرى أن المهدي المبشر به في الأحاديث حق، وأنه غير المغربي الذي زعم أنه المهدي المبشر به، فليراجع ما تقدم (¬1). وأما قول ابن محمود: إن الشاطبي جعل المهديين من أهل البدع. فهذا من التقول على الشاطبي، فإنه إنما أراد بكلامه شخصًا واحدًا، وهو محمد بن تومرت المغربي الذي ادعى أنه المهدي المبشر به، ولم يُرِد به عموم المهديين، قال في صفحة (216) من الجزء الأول المطبوع في مطبعة المنار بمصر سنة 1331 هـ من الهجرة ما نصه: "وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب إليه كثير من بدع المغرب، فهو في الإثم والتسمية مع من اتبع، إذا انتصب ناصرًا لها ومحتجًا عليها"، وقال أيضًا في صفحة (343) من الجزء الأول، بعد ما ذكر أشياء من أقوال الباطنية ما نصه: "وتصور المذهب كافٍ في ظهور بطلانه إلا ......................... ¬

_ (¬1) ص 141.

أنه مع ظهور فساده وبعده عن الشرع قد اعتمده طوائف، وبنوا عليه بدعا فاحشة منها مذهب المهدي المغربي، فإنه عدَّ نفسه الإمام المنتظر، وأنه معصوم حتى أن من شك في عصمته أو في أنه المهدي المنتظر فهو كافر"، وذكر نحو ذلك في صفحة (345) عن المهدي المغربي وأصحابه، وقال أيضًا في صفحة (253) من الجزء الثاني ما نصه: "وقد وضع القتل شرعًا معمولا به على غير سنة الله وسنة رسوله المتسمي بالمهدي المغربي، الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث" إلى أن قال في صفحة (254): "وكل من شك في عصمته قتل، أو شك في أنه المهدي المبشر به"، وقال أيضًا في صفحة (262) وصفحة (263) ما نصه: "ومن يدعي لنفسه العصمة فهو شبه من يدعي النبوة، ومن يزعم أنه به قامت السموات والأرض فقد جاوز دعوى النبوة، وهو المغربي المتسمي بالمهدي "، وقال في صفحة (258) من الجزء الثالث ما نصه: "ولقد زلَّ بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام، خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل، ولنذكر لذلك عشرة أمثلة"، ثم ذكر المثال الأول وهم الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}. قال: "والثاني: رأي الإمامية في اتباع الإمام المعصوم في زعمهم، وإن خالف ما جاء به النبي المعصوم حقًا، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فحكَّموا الرجال على الشريعة، ولم يحكموا الشريعة على الرجال، وإنما أنزل الكتاب ليكون حكمًا على الخلق على الإطلاق والعموم. والثالث لا حق بالثاني؛ وهو مذهب الفرقة المهدوية، التي جعلت أفعال مهديهم حجة وافقت الشريعة أو خالفت، بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة في عقد إيمانهم، من خالفها كفَّروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي، وقد تقدم من ذلك أمثلة". انتهى ما ذكره الشاطبي مما يتعلق بالمهدي المغربي الغشوم الظلوم، وهو محمد بن تومرت وأصحابه، الذين سماهم الشاطبي الفرقة المهدية، وذكر أنهم جعلوا أفعال مهديهم ابن تومرت حجة، سواء وافقت حكم الشريعة أو خالفت، فأما جعل المهديين كلهم من أهل البدع كما زعمه ابن محمود فهذا من أكبر الخطأ، لأنه يشمل الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، ويشمل عمر بن عبد العزيز، ويشمل غيرهم من الأئمة المتمسكين بالكتاب والسنة القائمين بالقسط والعدل، وهذا لا يقوله مسلم يعقل ما يقول.

تقول ابن محمود على الشاطبي والرد عليه

وأما قول ابن محمود: ويعني بالمهديين الذين يصدقون بخروج المهدي. فجوابه: أن يقال: هذا من التقوُّل على الشاطبي، وقد ذكرت كلامه بالنص وأنه إنما أراد به محمد بن تومرت المغربي الذي ادعى أنه المهدي المبشر به، ولم يرد غيره. ويقال أيضًا: لا يخفى ما يلزم على هذا القول الباطل من الحكم على كل من صدق بخروج المهدي في آخر الزمان بأنهم من أهل البدع، وهذا يشمل كثيرًا من الصحابة، وهم الذين رووا أحاديث المهدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذين بلغتهم الأحاديث في ذلك وآمنوا بها، ويشمل كل من روى أحاديث المهدي من التابعين ومن بعدهم، ومن خرجها من الأئمة الحفاظ، كما أنه يشمل جمهور أهل السنة قديمًا وحديثًا؛ لأنهم يؤمنون بخروج المهدي في آخر الزمان تصديقًا للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فإن كان ابن محمود يرى أن هؤلاء كلهم من أهل البدع من أجل تصديقهم بخروج المهدي في آخر الزمان فأحسن الله عزاءه في علمه وعقله، وإن نفى البدعة عنهم انتقض قوله في المهديين إنهم الذين يصدقون بخروج المهدي، فليختر ابن محمود ما يناسبه من الأمرين؛ إما نقض قوله الباطل، وإما الحكم بالبدعة على كل من روى أحاديث المهدي، ومن صدق بخروجه من المتقدمين والمتأخرين. وأما قوله: ودونك كلامه إثباتًا للحجة والعذر وإزالة للشبهة والعذل. فجوابه: أن يقال: ليس في كلام الشاطبي ما يتعلق به ابن محمود فضلا عن أن يكون فيه ما ثبت له الحجة والعذر ويزيل عنه الشبهة والعذل، وإنما الأمر في الحقيقة بالعكس، فكلام الشاطبي حجة على ابن محمود كما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة، وقد لحقت الشبهة والعذل بابن محمود، وزال العذر عنه من أجل تقوُّله على الشاطبي، وحمله لكلامه على غير المراد به. وأما قوله: وبذلك تنقطع حجة من ادعى أنه لم يسبق الإمام ابن خلدون أحد من العلماء في تضعيف أحاديث المهدي. فجوابه: أن يقال: إن الحجة المنقطعة في الحقيقة حجة الذي تقوَّل على العلماء، وأعرض عن الأدلة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج المهدي في ............................

ذكر الذين ضعفوا أحاديث المهدي من العصريين

آخر الزمان، وزعم أنها كلها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وأنها أحاديث خرافة، وأنها نظرية خرافية، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، ولم يبال بمعارضة أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاستخفاف بها، ولا بالتقول على العلماء، وأعني بذلك ابن محمود، هدانا الله وإياه، وأعاذنا جميعًا من نزغات الشيطان. وأقول أيضًا: إني لا أعلم عن أحد من العلماء أنه سبق ابن خلدون إلى التوسع في تضعيف أحاديث المهدي بحيث لم يستثن منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه، وكذلك العلماء الذين كانوا بعد ابن خلدون لا أعلم عن أحد منهم أنه توسع في تضعيف أحاديث المهدي كما فعل ذلك ابن خلدون، حتى جاء تلاميذ جمال الدين الأفغاني وبعض تلاميذهم، فتهجموا على بعض الأحاديث الثابتة ولا سيما أحاديث أشراط الساعة، ومنها الأحاديث الدالة على خروج المهدي في آخر الزمان، فإنهم قد قابلوها بالتضعيف والرد والإطراح، وقد سار ابن محمود على طريقتهم السيئة، وبالغ في رد أحاديث المهدي، وجازف في ذمها غاية المجازفة، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}. وقال ابن محمود في صفحة (36): "وقد كاد أن ينعقد الإجماع من العلماء المتأخرين من أهل الأمصار في تضعيف أحاديث المهدي، وكونها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بدليل التعارض والتناقض والمخالفات والإشكالات، مما يجعل الأمر جليًا للعيان ولا يخفى إلا على ضَعَفَة الأفهام". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن الله تعالى قد عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وقد جاء في ذلك عدة أحاديث مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن الضلالة إنكار خروج المهدي في آخر الزمان، ومعارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، والمجازفة في وصفها بالصفات القبيحة، كقول ابن محمود إنها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وإنها أحاديث خرافة، وإنها نظرية خرافية، وإنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة.

الرد على زعمه أن الإيمان بخروج المهدي يترتب عليه فنون من المضار والمفاسد الكبار

الوجه الثاني: أن يقال: ما ادعاه ابن محمود من أنه قد كاد أن ينعقد الإجماع من المتأخرين من أهل الأمصار على تضعيف أحاديث المهدي، فهو مجرد دعوى لا صحة لها؛ لأن القائلين بتضعيف أحاديث المهدي أفراد قليلون من العصريين، وجمهور العلماء على خلافهم، ولو قُدِّر صحة ما ادعاه لكان ذلك مدفوعًا بإجماع العلماء المتقدمين من أهل السنة والجماعة على خروج المهدي في آخر الزمان، سوى من لا يُعتد بهم ممن زعم أن المهدي عيسى ابن مريم، ومن قال إنه المهدي العباسي. الوجه الثالث: أن يقال: ليس بين الأحاديث الثابتة في المهدي تعارض ولا تناقض ولا مخالفة ولا إشكال البتة، وقد تقدم الجواب عن هذا في أول الكتاب مع الكلام على قول ابن محمود في صفحة (6): ومنها تناقض هذه الأحاديث وتعارضها، فليراجع هناك (¬1). الوجه الرابع: أن يقال: إن الذي يجعل الأمر جليا في أمر المهدي ويزيل اللبس والشكوك عنه هو اتباع الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، فأما كلام بعض العصريين في تضعيف أحاديث المهدي ومجازفتهم في ردها وإطراحها فهو الذي يضر ضَعَفَة الأفهام، ويوقعهم في الحيرة والشك، وربما أوقع بعضهم في المكابرة في رد الحق ومعارضته بالشبه والشكوك، كما قد وقع ذلك للمردود عليه، ولغيره من المفتونين بآراء العصريين وتخرصاتهم. وقال ابن محمود في صفحة (36) وصفحة (37): "الحادي عشر: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد والمضار وتقليلها، وإن التصديق بالمهدي والدعوة إلى الإيمان به يترتب عليها فنون من المضار والمفاسد الكبار والفتن المتواصلة، مما ينزه الرسول عن الإتيان بمثلها ... إلى أن قال: فإن الله -سبحانه- في كتابه وعلى لسان نبيه لا يوجب الإيمان برجل مجهول في عالم الغيب، وهو من بني آدم، ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك الناس يتقاتلون على التصديق والتكذيب به، فإن هذا مما ينافي شريعته التي جعلها الله رحمة لعباده، فوجود هذا أضر على الناس من عدمه، مع أنه من المحال بأن يكون على صفة ما ذكروا، أما اعتقاد بطلانه وعدم التصديق به فإنه يعطي القلوب ..................................................................... ¬

_ (¬1) ص 70 - 71.

الرد على زعمه أن الرسول ينزه عن أحاديث المهدي

الراحة والفرح والأمان والاطمئنان والسلامة من الزعازع والافتتان. والجواب عن هذا من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن التصديق بالمهدي الذي يخرج في آخر الزمان كالتصديق بخروج القحطاني والجهجاه، والخليفة الذي يحثو المال حثوًا ولا يعده عدًا، وكالتصديق بخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-، وخروج يأجوج ومأجوج، وغير ذلك من أشراط الساعة التي جاء ذكرها في الأحاديث الصحيحة، فكما أن التصديق بهذه الأمور لا يترتب عليه شيء من المضار والمفاسد والفتن، فكذلك التصديق بخروج المهدي الذي بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه وأخبر أنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وكما أن الإيمان بهذه الأشياء واجب، فكذلك الإيمان بخروج المهدي لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل ما ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب فالإيمان به واجب؛ لأن ذلك من تحقيق الشهادة بأن محمدًا رسول الله. الوجه الثاني: إن ابن محمود زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينزه عن الإتيان بمثل أحاديث المهدي، وهذا من أغرب الأقوال وأشدها نكارة، وكيف ينزه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإخبار ببعض المغيبات التي ستكون في آخر الزمان؟ وكيف ينزه عن الأخبار برجل من أهل بيته يملك في آخر الزمان، ويعمل بالسنة ويملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا؟ فهذا القول الباطل من ابن محمود ينبغي لكل عاقل أن يتنزه عن الإصغاء إليه. وأما قوله: فإن الله في كتابه وعلى لسان نبيه لا يوجب الإيمان برجل مجهول في عالم الغيب، وهو من بني آدم، ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به. فجوابه: أن يقال: هذا من القول على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم، وما أعظم ذلك وأعظم خطره. ويقال أيضًا: قد أخبر الله -تعالى- في كتابه عن عدة رجال من الأمم الماضية، ممن لا يعرفهم الناس بأسمائهم ولا بأعيانهم، وهم من بني آدم، وفي عالم الغيب منذ فارقوا الدنيا إلى يوم البعث والنشور، فقال -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}، ............................................

وقال -تعالى-: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} الآية، وقال -تعالى-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ}، وقال -تعالى-: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ}، وقال -تعالى-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} الآية، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يذكر الله فيها رجالا من بني آدم، لا يعرفهم الناس بأسمائهم ولا بأعيانهم، وهم في عالم الغيب منذ فارقوا الدنيا، وليسوا ملائكة ولا رسلا، ومع هذا فالإيمان بما أخبر الله به عنهم واجب على كل مسلم، ومن لم يؤمن بذلك فليس بمسلم. وكذلك قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجال من الماضين بقصص كثيرة؛ مثل حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار فتوسلوا إلى الله -تعالى- بصالح أعمالهم ففرج عنهم. وهو في الصحيحين، وحديث الأبرص والأقرع والأعمى. وهو في الصحيحين، وحديث الرجل الذي استسلف من رجل ألف دينار. وهو في صحيح البخاري ومسند أحمد، وحديث الرجل الذي اشترى من رجل عقارًا فوجد في العقار جرة فيها ذهب. وهو في الصحيحين، وحديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا ثم سأل هل له من توبة. وهو في الصحيحين، وحديث الرجل الذي ركب البقرة فكلمته البقرة، وفيه خبر الرجل الذي كلمه الذئب. وهو في الصحيحين. إلى غير ذلك مما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعض الماضين، ممن لا يعرفهم الناس بأسمائهم ولا بأعيانهم، وليسوا ملائكة ولا أنبياء، وكذلك قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروج القحطاني والجهجاه في آخر الزمان، وأخبر أيضًا عن الخليفة الذي يكون في آخر الزمان يحثو المال حثوًا ولا يعده عدًا، وأخبر أيضًا بخروج الدجال، وأخبر أيضًا عن المؤمن الذي يقتله الدجال ثم يحييه، وهؤلاء كلهم من بني آدم، وهم الآن مجهولون وفي عالم الغيب، وسيخرجون إلى الوجود في آخر الزمان، وليسوا ملائكة مقربين ولا أنبياء مرسلين، ولا يأتون بدين جديد، ومع هذا فالإيمان بخروجهم في آخر الزمان واجب على كل مسلم، ومن لم يؤمن بخروجهم فهو فاسد العقيدة وإسلامه مشكوك فيه؛ لأنه لم يحقق الشهادة بالرسالة، وقد تقدم الجواب عن هذه الجملة من كلام ابن محمود مبسوطًا مع الكلام على قوله في ...................

الرد على زعمه أن الإيمان بخروج المهدي ينافي الشريعة

صفحة (6): إنه من المحال أن يوجب النبي على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول ... إلى آخره، فليراجع في أول الكتاب (¬1). وأما قوله: إن هذا مما ينافي شريعته. فجوابه: أن يقال: أما الذين ادعوا المهدية كذبًا وزورًا؛ مثل محمد بن التومرت، والمهدي العبيدي، وأمثالهما من الكذابين فلا شك أن دعواهم وأعمالهم تنافي الشريعة، ومن هذا الباب دعوى الكيسانية أن محمد بن الحنفية هو المهدي، ودعوى الرافضة أن محمد بن الحسن العسكري هو المهدي، ودعوى الذين ألحدوا في الحرم في أول سنة 1400هـ أن أحدهم هو المهدي، فكل ذلك كذب وزور ينافي الشريعة، وأما المهدي الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه في آخر الزمان، وأخبر أنه يعمل بالسنة، وأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، فالتصديق به موافق للشريعة غاية الموافقة؛ لقول الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، وقوله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقوله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. وأما قوله: فوجود هذا أضر على الناس من عدمه. فجوابه: أن يقال: بل وجود المهدي المبشر بخروجه في آخر الزمان أنفع للناس من عدمه؛ لأنه يعمل بالسنة، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا، ومن أنكر عموم النفع بمن يكون بهذه الصفة ففي عقله خلل. وأما قوله: مع أنه من المحال بأن يكون على صفة ما ذكروا. فجوابه: أن يقال: في هذا الكلام من الرجم بالغيب، والتألي على الله -تعالى-، والإنكار لعظيم قدرته وعموم مشيئته، والتكذيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة. وأما قوله: أما اعتقاد بطلانه وعدم التصديق به فإنه يعطي القلوب الراحة والفرح والأمان والاطمئنان، والسلامة من الزعازع والافتتان. فجوابه: أن يقال: بل الأمر بالعكس، فإن الذي يعطي القلوب الراحة والفرح والأمان والاطمئنان، والسلامة من الزعازع والافتتان، هو الإيمان بكل ........................... ¬

_ (¬1) ص 55 - 57.

الرد على زعمه تقليدا لأحمد أمين أن فكرة المهدي نبعت من عقائد الشيعة

ما جاء عن الله -تعالى-، وبكل ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والبعد عن الشكوك والأوهام فيما أخبر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب، مما كان وما سيكون. فأما الراحة والفرح والاطمئنان برد الأحاديث الثابتة فهو من جنس فرح أهل البدع ببدعهم واطمئنانهم إليها ووجودهم الراحة في التمسك بها، وهذا من تلاعب الشيطان بهم وتزيينه لهم أعمالهم السيئة، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ}، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}. وقال ابن محمود في صفحة (37) وصفحة (38): "إن فكرة المهدي هذه لها أسباب سياسية واجتماعية ودينية، وكلها نبعت من عقائد الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها، وذلك بعد خروج الخلافة من آل البيت، واستغلت الشيعة أفكار الجمهور الساذجة وتحمسهم للدين والدعوة الإسلامية فأتوهم من هذه الناحية الطيبة الطاهرة، ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وأحكموا أسانيدها وأذاعوها من طرق مختلفة، فصدقها الجمهور الطيب لبساطته، وسكت رجال الشيعة لأنها في مصلحتهم، وكانت بذلك مؤامرة شنيعة أفسدت بها عقول الناس، وامتلأت بأحاديث تروى، وقصص تقص، نسبوا بعضها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضها إلى أئمة أهل البيت، وبعضها إلى كعب الأحبار، وكان لكل ذلك أثر سيئ في تضليل عقول الناس وخضوعهم للأوهام، كما كان من أثر ذلك الثورات والحركات المتتالية في تاريخ المسلمين، ففي كل عصر يخرج داع أو دعاة يزعم أنه المهدي المنتظر، ويلتف حوله طائفة من الناس ويتسببون في إثارة الكثير من الفتن، وهذا كله من جراء نظرية خرافية هي نظرية المهدي، وهي نظرية لا تتفق مع سنة الله في خلقه، ولا تتفق مع العقل الصحيح السليم". والجواب: أن يقال: هذا الكلام ملخص من كلام أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام" ج3 صفحة (241 - 244) ولو أن ابن محمود نسب الكلام إلى قائله لكان أولى له من التدليس وأوفق للأمانة العلمية، وقد ذكرت ...........................................

الرد على رميه الجمهور بالغباوة والتغفيل تقليدا لأحمد أمين

بعض هذا الكلام في أول الكتاب (¬1)، وذكرت قبل ذلك أن خروج المهدي في آخر الزمان من أمور الغيب التي أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس هو مجرد فكرة كما زعم ذلك ابن محمود تقليدًا لأحمد أمين، فليراجع ذلك (¬2). وأما قوله: إنها نبعت من عقائد الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها. فجوابه: أن يقال: هذا خلاف الواقع؛ لأن الإخبار بخروج المهدي ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية عدد كثير من الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في أول الكتاب فلتراجع (¬3)، ففيها أبلغ رد على من زعم أن القول بخروج المهدي كان فكرة، وأنها نبعت من عقائد الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها. وأما قوله: واستغلت الشيعة أفكار الجمهور الساذجة وتحمسهم للدين والدعوة الإسلامية، فأتوهم من هذه الناحية الطيبة الطاهرة، ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وأحكموا أسانيدها، وأذاعوها من طرق مختلفة، فصدَّقها الجمهور الطيب لبساطته. فجوابه: أن يقال: لا يخفى ما في هذا القول السيئ من الطعن فيمن روى أحاديث المهدي ومن صحح بعضها وحسن بعضها، ورميهم بالسذاجة التي معناها الغباوة والتغفيل، وكذلك رميهم بالبساطة ومعناها أيضًا الغباوة والتغفيل، بحيث تروج عليهم أكاذيب الشيعة وما يلفقونه من الأحاديث الموضوعة، وهذا الطعن يتناول من روي أحاديث المهدي من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأئمة العلم والهدى من بعدهم. وإذا علم هذا، فهل يقول عاقل إن عليًا، وابن مسعود، وأبا سعيد، وأبا هريرة، وجابرًا، وأم سلمة -رضي الله عنهم- كانوا أغبياء مغفلين، من أجل روايتهم لأحاديث المهدي؟ أم يقول ذلك فيمن روى ذلك من التابعين وأتباعهم، ومن كان بعدهم من الأئمة الحفاظ؟ أم يقول ذلك في الإمام أحمد، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، والحارث بن أبي أسامة، وأبي يعلى الموصلي، والطبراني، وابن حبان، والحاكم من أجل أنهم خرَّجوا أحاديث المهدي في كتبهم؟ أم يقول ذلك في العقيلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وزين الدين العراقي، ...................................................................... ¬

_ (¬1) ص 32 - 33. (¬2) ص 26. (¬3) ص 9 - 17.

الرد على زعمه تقليدا لأحمد أمين أن أحاديث المهدي أفسدت عقول الناس

وابن حجر العسقلاني، ونور الدين الهيثمي، وغيرهم من العلماء الذين صححوا بعضًا من أحاديث المهدي وحسنوا بعضا؟ فهل يقول ابن محمود إن هؤلاء كلهم من البسطاء السذج؛ لأنهم قبلوا الصحاح والحسان من أحاديث المهدي، وصدقوا بما جاء فيها من خبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى؟ أم ماذا يجيب به عن كلامه السيئ الذي أخذه من كتاب أحمد أمين، ولم يتثبت فيه، ولم يتأمل فيما يترتب عليه من اللوازم السيئة، بل جعله قضية مُسلَّمة كأنما ظفر بنص من كتاب الله -تعالى- أو من سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد تقدم عن ابن محمود (¬1) أنه قال: أكثر الناس مقلدة يقلد بعضهم بعضًا، وقليل منهم المحققون، وقد وقع فيما ذمه من التقليد، بل في أسوأ التقليد؛ لكونه قلَّد أحمد أمين فيما يعود بالطعن في بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الحفاظ والأئمة الذين خرجوا أحاديث المهدي، وفيمن صحح بعضها وحسن بعضها من أكابر الأئمة الذين تقدم ذكرهم، وهذه سوأة لا يسترها ويزيل أثرها إلا التوبة الصادقة، ونشر ما يضادها ويبين فسادها. وأما قوله: وكانت بذلك مؤامرة شنيعة، أفسدت بها عقول الناس، وامتلأت بأحاديث تروي، وقصص تقص، نسبوا بعضها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضها إلى أهل البيت، وبعضها إلى كعب الأحبار .... إلى آخر كلامه. فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: أما الأحاديث الثابتة في المهدي فلم يرو منها عن أهل البيت سوى ثلاثة أحاديث عن علي -رضي الله عنه؛ اثنان مرفوعان، أحدهما صحيح، والآخر حسن، والثالث موقوف صحيح. وقد ذكرتُ هذه الأحاديث الثلاثة في أول الكتاب (¬2)، وأما كعب الأحبار فليس له رواية في الأحاديث الثابتة في المهدي. الوجه الثاني: أن يقال: إن الأحاديث الثابتة في المهدي ليست هي التي أفسدت عقول الناس، وإنما أفسدهم الطمع في الملك وحب الرياسة والجاه، كما فعل الذين ادعوا النبوة؛ مثل الأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، وسجاح، وطليحة الأسدي، والمختار بن أبي عبيد، وغيرهم من الدجالين الذين ادعوا ................................................ ¬

_ (¬1) ص 46. (¬2) ص 14 - 16.

الرد على زعمه تقليدا لأحمد أمين أن القول بخروج المهدي نظرية خرافية

النبوة لتحصيل الأغراض الدنيوية، فكما لا يقول عاقل إن دعوى الدجالين للنبوة تقدح في نبوة الأنبياء وتؤثر فيها، فكذلك لا يقول عاقل إن دعوى المُدَّعين للمهدية كذبًا وزورًا تقدح في الأحاديث الثابتة في المهدي، وتجعلها من قبيل الموضوعات. ومما أوقع البلبلة في عقول بعض العوام تأليف ابن محمود في إنكار المهدي ومجازفته في رد الأحاديث الثابتة فيه، وقد قال الله -تعالى-: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}. وأما قوله: وهذا كله من جرَّاء نظرية خرافية، هي نظرية المهدي، وهي نظرية لا تتفق مع سنة الله في خلقه، ولا تتفق مع العقل الصحيح السليم. فجوابه: أن يقال: إن خروج المهدي في آخر الزمان ثابت بخبر الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. وليس ذلك من قبيل النظريات والأفكار كما زعم ذلك ابن محمود تقليدًا لأحمد أمين، ولا من قبيل الخرافات كما زعم ذلك ابن محمود أيضًا، وقد قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وإذا كان هذا الوعيد الشديد لمن خالف أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكيف بمن جعل الأحاديث الثابتة عنه من قبيل النظريات والخرافات؟ وقد ذكرت أقوال بعض العلماء في التشديد على الذين يردون الأحاديث الثابتة، وأن من فعل ذلك فهو متهم على الإسلام، وقد صرح بعضهم بتكفير من فعل ذلك، فليراجع ذلك في أول الكتاب (¬1). وأما قوله: وهي نظرية لا تتفق مع سنة الله في خلقه ولا تتفق مع العقل الصحيح السليم. فجوابه: أن يقال: قد جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- الذي تقدم ذكره في أول الكتاب (¬2) أن المهدي يقسم بين الناس فيئهم، ويعمل فيهم بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإسلام يلقي بجرانه إلى الأرض. وجاء فيما رواه علي، وابن مسعود، وأبو سعيد -رضي الله عنهم- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المهدي يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا (¬3)، وهذا وما جاء في حديث أم سلمة .............................................................. ¬

_ (¬1) ص 52 - 53. (¬2) ص 16 - 17. (¬3) ص 10 - 15.

الرد على ما زعمه تحقيقا معتبرا عن أحاديث المهدي

-رضي الله عنها- يتفق مع سنة الله في خلقه ومع العقل الصحيح السليم غاية الاتفاق، ومن زعم خلاف هذا فلا شك في فساد تصوره. فصل وقال ابن محمود في صفحة (29): "التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر": "أعلم أن أحاديث المهدي تدور بين ما يزعمونه صحيحًا وليس بصريح وبين ما يزعمونه صريحًا وليس بصحيح، وأننا بمقتضى الاستقراء والتتبع لم نجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا صحيحًا صريحًا يعتمد عليه في تسمية المهدي، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكلم فيه باسمه، وقد نزَّه البخاري ومسلم كتابيهما عن الخوض في أحاديث المهدي، كما أنه ليس له ذكر في القرآن، لهذا لا ننكر على من أنكره، وإنما الإنكار يتوجه على من اعتقد صحة خروجه، وسنتكلم على الأحاديث التي يزعمونها صحيحة والتي رواها أبو داود، والإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وكلها متعارضة ومختلفة، ليست بصحيحة ولا متواترة، لا بمقتضى اللفظ ولا المعنى". والجواب: أن يقال: إن ابن محمود قد أشار إلى تحقيقه هذا في صفحة (8) من رسالته، وزعم أنه قد شرح فيه سائر الأحاديث التي رواها أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والإمام أحمد، والحاكم، بما لا مزيد عليه، ولا يخفى ما في كلامه هذا من الإعجاب بتحقيقه وشرحه الذي هو خال من التحقيق، وحاصله معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي بآرائه ومجازفاته لا غير، وسيأتي بيان ذلك -إن شاء الله تعالى- مع الكلام على كل حديث من الأحاديث التي زعم أنه حققها. وأما قوله: اعلم أن أحاديث المهدي تدور بين ما يزعمونه صحيحًا وليس بصريح وبين ما يزعمونه صريحًا وليس بصحيح، وأننا بمقتضى الاستقراء والتتبع لم نجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا صحيحًا صريحًا يعتمد عليه في تسمية المهدي، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكلم فيه باسمه. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن أحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، وقد صرح بالتصحيح لبعضها والتحسين لبعض آخر كثير من الأئمة الحفاظ النقاد، وتقدم بيان ذلك في أول الكتاب.

وتقدم أيضًا ما نقله غير واحد من أكابر العلماء عن الآبري، أنه قال في أحاديث المهدي إنها متواترة، وقد أقروه على هذا القول، ولم يعارضه أحد منهم ولا من غيرهم من العلماء، فليراجع ما تقدم (¬1)، ففيه أبلغ رد على من نفى الصحة عن جميع أحاديث المهدي، ومن نفى التواتر عنها. الوجه الثاني: أن يقال: قد جاء في المهدي تسعة أحاديث من الصحاح والحسان ذكرتها في أول الكتاب (¬2)، وقد صرح في خمسة منها باسم المهدي، أولها: حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- المرفوع، فقد صرح فيه باسم المهدي في رواية لأحمد والترمذي، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن، قال: وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "، ورواه الإمام أحمد أيضًا من طرق، وفيها التصريح باسم المهدي، قال الهيثمي: "رواه أحمد، وأبو يعلي، ورجالهما ثقات"، وقد أقره الحافظان؛ زين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني على هذا القول؛ لأنهما قد حررا مجمع الزوائد معه، ورواه الحاكم من طريق أخرى، وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه، ورواه أبو داود ولفظه: «المهدي مِنِّي، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، يملك سبع سنين» قال ابن القيم في"المنار المنيف": "إسناده جيد". ثانيها: حديث علي -رضي الله عنه- المرفوع، وفيه: «المهدي مِنَّا أهل البيت» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وإسناد كل منهما حسن. ثالثها: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون في أمتي المهدي» الحديث رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: "ورجاله ثقات"، وقد أقره الحافظان؛ زين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني على هذا القول. رابعها: حديث أبي الطفيل، عن محمد بن الحنفية قال: كنا عند علي -رضي الله عنه- فسأله رجل عن المهدي، فذكر الحديث، وهو موقوف وله حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف، وقد رواه الحاكم، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي على ذلك. خامسها: حديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بِنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير ................. ¬

_ (¬1) ص 41 - 45. (¬2) ص 9 - 17.

الرد على قوله إن البخاري ومسلما قد نزها كتابيهما عن أحاديث المهدي كما أنه ليس له ذكر في القرآن

بعض، تكرمة الله لهذه الأمة» رواه الحارث بن أبي أسامة، قال ابن القيم في "المنار المنيف": "إسناده جيد". وفي هذه الأحاديث الخمسة أبلغ رد على قول ابن محمود إنه ليس في المهدي حديث صحيح صريح في تسمية المهدي، وقد جاء في ذلك أيضًا حديث سادس حسن، وهو ما رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم، عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»، وقد سكت أبو داود على هذا الحديث، وقال في رسالته إلى أهل مكة: "وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض"، وأورده السيوطي في "الجامع الصغير" ورمز له بالصحة، وقال العزيزي في "السراج المنير، شرح الجامع الصغير": "إسناده حسن". وإذا علم هذا، فلا ينبغي لمن له عقل وعلم أن يلتفت إلى تخرصات ابن محمود وتوهماته وجراءته على رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، ومخالفته لأقوال الأئمة الحفاظ النقاد الذين صححوا جملة منها وحسنوا جملة أخرى، فقد قال الله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}. الوجه الثالث: أن يقال: إذا كان ابن محمود لم يجد حديثًا صحيحًا صريحًا يعتمد عليه في تسمية المهدي بعد استقرائه وتتبعه، فينبغي له أن لا يسارع إلى إنكار ما خفي عليه من الأحاديث الثابتة عند الأئمة الحفاظ النقاد، فقد قال الله -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}، وقال -تعالى-: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}. فليحذر ابن محمود أن يكون من أهل هاتين الآيتين وهو لا يشعر. وأما قوله: وقد نزَّه البخاري ومسلم كتابيهما عن الخوض في أحاديث المهدي، كما أنه ليس له ذكر في القرآن. فجوابه: أن يقال: هذا الكلام مأخوذ من كلام رشيد رضا وأحمد أمين والمستشرق دونلدسن، وقد تقدم إيراده والرد عليه في أول الكتاب، مع الكلام على قول ابن محمود في صفحة (6): ومنها أن هذه الأحاديث لم يأخذها البخاري ومسلم كما أنه ليس له ذكر في القرآن، وقد أورده ابن محمود أيضًا في ................................................

الرد على تقوله على هل السنة أنهم صححوا أحاديث ضعيفة

صفحة (31)، وأحلت بالرد عليه على ما تقدم في أول الكتاب، فليراجع (¬1). وأما قوله: لهذا لا ننكر على من أنكره، وإنما الإنكار يتوجه على من اعتقد صحة خروجه. فجوابه: أن يقال: هذا من مصداق ما يروى عن علي -رضي الله عنه- مرفوعًا: «كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا»، قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائن؟ قال: «نعم» رواه رُزَين، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مثله مرفوعًا رواه أبو يعلي والطبراني في الأوسط، وإسناد كل منهما ضعيف، وروى ابن وضَّاح عن ضمام بن إسماعيل المعافري عن غير واحد من أهل العلم نحو ذلك مرفوعًا. وأما قوله: وسنتكلم على الأحاديث التي يزعمونها صحيحة. فجوابه: أن يقال: قد أورد ابن محمود في تحقيقه المزعوم خمسة أحاديث من الأحاديث الضعيفة، وهي الحديث السادس الذي أوله: «يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث حراث»، والحديث الثامن الذي في أوله: أن عليًا -رضي الله عنه- نظر إلى ابنه الحسن فقال: «إن ابني هذا سيد»، والحديث العاشر الذي أوله: «يخرج أناس من المشرق فيواطئون للمهدي يعني سلطانه»، والحديث الذي رواه ابن ماجة عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل فتية من بني هاشم .. الحديث، والحديث الحادي عشر الذي فيه: «ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم». فهذه الأحاديث الخمسة لم يصححها أحد من أهل العلم، ومع هذا يقول ابن محمود عن الذين يعتقدون صحة خروج المهدي إنهم يزعمون أن هذه الأحاديث صحيحة، وهذا من التقول عليهم، وقد تناقض قوله في الحديث الذي فيه «ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم» فجعله في صفحة (39) وصفحة (52) من الأحاديث التي صححها القائلون بصحة خروج المهدي، وقال في أول صفحة (51): إنه ضعيف عندهم لمخالفته لسائر الأحاديث، وفي هذا التناقض دليل على أن ابن محمود كان يكتب ما سنح له كيفما اتفق، من غير تثبت ولا تحرير لما يكتبه. ¬

_ (¬1) ص 59 - 69.

الرد على كلامه في حديث جابر بن سمرة المتفق عليه في ذكر الخلفاء الاثني عشر وشكه في صحته

وأما قوله في أحاديث المهدي التي رواها أبو داود، والإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة: إنها كلها متعارضة ومختلفة، ليست بصحيحة ولا متواترة، لا بمقتضى اللفظ ولا المعنى. فجوابه: أن يقال: قد تقدم الجواب عما زعمه من وقوع التعارض والاختلاف بين أحاديث المهدي، مع الكلام على قوله في صفحة (6): ومنها تناقض هذه الأحاديث وتعارضها. فليراجع (¬1)، وتقدم الجواب عن قوله: إنها ليست بصحيحة ولا متواترة، مع الكلام على قوله في صفحة (4): وفي الحقيقة إنها كلها غير صحيحة ولا متواترة، فليراجع أيضًا (¬2). وقال ابن محمود في صفحة (39) إلى صفحة (42): "الحديث الأول: روى أبو داود في سننه، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يزال هذا الدين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، ثم قال كلمة، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش» ثم أجاب ابن محمود بقوله: إن هذا الحديث يجعلونه رأسًا وأصلا في أحاديث المهدي، بحيث يستقي منه أهل السنة الذين يصدقون بصحة خروج المهدي، كما يستقي منه الشيعة حيث يرون أن إمامهم محمد بن الحسن العسكري هو الثاني عشر، وبمقتضى التأمل لم نجد للمهدي ذكر في هذا الحديث، لا بمقتضى التصريح ولا التلميح، فالاستدلال به على فرض صحته غير موافق ولا مطابق، فإنه لا ذكر للمهدي فيه، ولم يقل في الحديث إن أحدهم المهدي حتى يكون حجة، وقد صار أمر المهدي وخروجه مشترك بين السنة والشيعة وكل منهم يستدل بهذا الحديث، وقد سماه العلامة ابن كثير في نهايته بالخليفة، وجعله بصف الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة»، وقد انتهت بوفاة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ولا أدري من أين وجدوا بأن رسول الله قال في هؤلاء الأئمة أن أحدهم المهدي، أو أنه الإمام أو الخليفة، وما هو إلا محض المبالغة في الغلو في القول بخروجه، حتى أعلقوا هذا الاعتقاد في قلوب بعض العلماء وأكثر العامة، وحتى أدرجوه في عقيدة أهل السنة والجماعة، والحق أن حديث جابر بن سمرة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا ................ ¬

_ (¬1) ص 70 - 71. (¬2) ص 41 - 45.

يزال هذا الدين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة» ينبغي أن يحمل على الواقع الملموس والمشاهد بالأسماع والأبصار، وذلك في حملة على حكام المسلمين الذين كانوا في القرون الثلاثة المفضلة، والذين قام بهم أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين؛ وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية بن أبي سفيان، ثم عبد الملك بن مروان، ثم ابنه الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم يزيد بن الوليد، ومن بعده إلى مروان بن محمد. ثم انتقلت الإمامة إلى بني العباس؛ ومنهم المنصور، ثم ابنه المهدي، ثم هارون الرشيد، إلى من بعدهم ممن استقام بهم أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين. ومن بعد هؤلاء عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي. فلا ينبغي أن نبخس هؤلاء حقهم، أو ننسى محاسنهم، أو نجحد عموم عدلهم، الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها، ثم نحمله على المهدي الذي لا يخرج بزعمهم إلا زمن عيسى ابن مريم، وهو مجهول في عالم الغيب ... إلى أن قال: فمتى قلنا إن الاثني عشر خليفة الذين استقام بهم الدين لن يخرجوا عن هؤلاء الأئمة الذين أعز الله بهم الدين، وجمع بهم شمل المسلمين، لم نكن آثمين، بدلا من أن نحيل إلى تسميته بالمهدي ثم نجعله خيالا غيبيًا يوجد في الأذهان دون الأعيان، إذ هذا من التخرص والظنون والقول على الله وعلى رسوله بغير حق". والجواب: أن يقال: قد ذكر العلماء وجوهًا كثيرة في معنى حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- ومن أحسنها كلام الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية"، وقد ذكر فيه عن بعض الناس أنهم قالوا في حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- إن فيه بشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلا من قريش، وإن لم يوجدوا على الولاء، وإن المهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان منهم، وقد ذكرت كلام ابن كثير مع الجواب عن اعتراض ابن محمود على السفاريني لمِا قال في عقيدته: منها الإمام الخاتم الفصيح ... محمد المهدي والمسيح فليراجع (¬1)، ولعل أبا داود كان يقول بهذا القول الذي ذكره ابن كثير، ولأجل ....... ¬

_ (¬1) ص 185.

ذلك أورد حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- مع أحاديث المهدي، والله أعلم. وأما قوله: إن هذا الحديث يجعلونه رأسًا وأصلا في أحاديث المهدي، بحيث يستقي منه أهل السنة الذين يصدقون بصحة خروج المهدي، كما يستقي منه الشيعة حيث يرون أن إمامهم محمد بن الحسن العسكري هو الثاني عشر. فجوابه: أن يقال: ليس الأمر على ما زعمه ابن محمود، فإن أهل السنة لم يجعلوا حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- رأسًا وأصلا في أحاديث المهدي، ولم أر أحدًا من أهل الكتب الستة ذكره في أحاديث المهدي سوى أبي داود، وأما غيره فذكروه في أبواب الخلافة والإمارة، وذكره فيها أليق به، وإنما يعتمد أهل السنة في المهدي على ما رواه علي، وابن مسعود، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأم سلمة، وجابر -رضي الله عنهم- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرت أحاديثهم في أول الكتاب فلتراجع (¬1). وأما الرافضة فليس لهم ما يتعلقون به في حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: «لا يزال هذا الدين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» وفي بعض الروايات «اثنا عشر أميرًا»، والذين يزعم الرافضة إمامتهم من أهل البيت لم يتول الخلافة منهم سوى علي بن أبي طالب وابنه الحسن -رضي الله عنهما- فأي رأس وأي أصل تستقي منه الرافضة من حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما-. ومن له أدنى علم وفهم لا يخفى عليه أن حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- بعيد كل البعد عن مطابقة ما تزعمه الرافضة في مهديهم المزعوم المعدوم محمد بن الحسن العسكري. وأما قوله: وبمقتضى التأمل لم نجد للمهدي ذكر في هذا الحديث، لا بمقتضى التصريح ولا التلميح، فالاستدلال به على فرض صحته غير موافق ولا مطابق، فإنه لا ذكر للمهدي فيه، ولم يقل في الحديث إن أحدهم المهدي حتى يكون حجة. فجوابه: أن يقال: قد لحن ابن محمود في قوله لم نجد للمهدي ذكر، وصوابه ذكرًا. ¬

_ (¬1) ص 9 - 17.

ويقال أيضًا: قد تقدم (¬1) ما ذكره ابن كثير عن بعض الناس أنهم قالوا في حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- إن فيه بشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلا كلهم من قريش، وإن لم يوجدوا على الولاء، وإن المهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان منهم، وقد جزم بهذا القول في تفسيره لسورة المائدة لما تكلم على هذه الآية {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} الآية، وذكر ما رواه الإمام أحمد عن مسروق قال: "كنا جلوسًا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل» ". في إسناده مجالد بن سعيد، وثقة النسائي في رواية، وضعفه الجمهور، وحسن بعضهم حديثه، وقال ابن كثير بعد إيراده: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، قال: وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة، وذكر الحديث ثم قال: ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحًا، يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وجد منهم أربعة على نسق، وهم الخلفاء الأربعة؛ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي -رضي الله عنهم-، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة، وبعض بني العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولا يتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره، فذكر أنه يواطئ اسمه اسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسم أبيه اسم أبيه، فيملأ الأرض عدلا وقسطًا كما ملئت جورًا وظلمًا، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده، ثم ظهوره من سرداب سامراء، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية، بل هو من هوس العقول السخيفة، وتوهم الخيالات الضعيفة، وليس المراد بهؤلاء الاثني عشر، الأئمة الاثني عشر الذين تعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم، وفي التوراة البشارة بإسماعيل -عليه السلام- وأن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيمًا، وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة". انتهى كلام ابن كثير -رحمه الله تعالى-. ¬

_ (¬1) تراجع 185.

الرد على إنكاره تسمية المهدي خليفة

وأما قوله: على فرض صحته. فجوابه: أن يقال: حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- في ذكر الخلفاء الاثني عشر قد رواه البخاري في "باب الاستخلاف" من كتاب الأحكام من صحيحه، ورواه مسلم في "كتاب الإمارة" من عدة طرق، ورواه الترمذي في "باب ما جاء في الخلفاء" من طريقين؛ قال في الأول منهم: "حسن صحيح"، وقال في الآخر: "حسن صحيح غريب" قال: "وفي الباب عن ابن مسعود وعبد الله بن عمرو"، ورواه الإمام أحمد في مسنده من عدة طرق صحيحة. فإذا كان ابن محمود قد شك في صحة حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- مع اتفاق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحيهما، وزعم أن ذلك من التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي، فأحسن الله عزاءه في علمه وتحقيقه، وهذا التحقيق المتوهم مما حصل لابن محمود بعد توسعه في العلوم والفنون وتطاوله على شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ذكرت كلامه في ذلك والجواب عنه في أثناء الكتاب فليراجع (¬1). وأما قوله: وقد صار أمر المهدي وخروجه مشترك بين السنة والشيعة، وكل منهم يستدل بهذا الحديث. فجوابه: أن يقال: قد لحن ابن محمود في قوله مشترك، وصوابه مشتركًا بالنصب؛ لأنه خبر صار. ويقال أيضًا: إن منتظر الرافضة الذي يتوهمون وجوده في سرداب سامراء ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية، ودعوى الرافضة فيه أنه المهدي من جنس دعوى غيرهم من الدجالين الذين ادعوا المهدية كذبًا وزورًا، وعلى هذا فلا متعلق للروافض في حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- ولا في غيره من الأحاديث الواردة في المهدي. وأما قوله: وقد سماه العلامة ابن كثير في نهايته بالخليفة، وجعله بصف الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة» وقد انتهت بوفاة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. فجوابه: أن يقال: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في المهدي إنه يعمل .......... ¬

_ (¬1) ص 102 - 109.

بالسنة، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، ومن كان بهذه الصفة فلا شك أنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين. وأما قوله: وجعله بصف الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. فجوابه: أن يقال: إن ابن كثير -رحمه الله تعالى- لم يقل في المهدي إنه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتجه الاعتراض عليه بأنه قد جعل المهدي في صف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-، وإنما قال فيه إنه أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وهذا الاعتراض عليه فيه؛ لأن هذه الصفة يجوز إطلاقها على كل إمام عمل بالكتاب والسنة، وبسط القسط والعدل، وأزال الجور والظلم، فكما يقال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- إنهم خلفاء راشدون وأئمة مهديون، فكذلك يقال فيمن سار على منهاجهم من أئمة العدل ولو كان في آخر الزمان، وقد أجمع العلماء على أن عمر بن عبد العزيز من أئمة العدل، وأنه أحد الخلفاء الراشدين المهديين، ولم يعترض أحد من العلماء على هذا الإجماع، ولا قال أحد منهم إن هذا الإجماع يجعل عمر بن عبد العزيز في صف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-؛ وذلك لأن هؤلاء الأربعة قد امتازوا بخصائص لم تكن لمن بعدهم من الخلفاء؛ منها صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والجهاد معه، وشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بالجنة، وكونهم من السابقين الأولين من المهاجرين، وكون خلافتهم خلافة نبوة، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ بسنته وسنتهم والتمسك بها والعض عليها بالنواجذ، وهذه الخصائص هي التي تميزهم عن غيرهم من الخلفاء، وتمنع أن يكون أحد في صفهم، ولهم من الخصائص والفضائل الكثيرة غير ما ذكرنا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدًا أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وروى مسلم أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي هذين الحديثين دليل على علو منزلة الصحابة -رضي الله عنهم- على من بعدهم، فلا يكون أحد من التابعين ولا من بعدهم في صفهم، ولو كان خليفة راشدًا، فضلا عن أن يكون في صف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-.

وأما قوله: وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة» وقد انتهت بوفاة عي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. فجوابه: أن يقال: مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» خلافة النبوة؛ لقوله في حديث سفينة -رضي الله عنه-: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وقد انتهت خلافة النبوة بنزول الحسن بن علي -رضي الله عنهما- عن الخلافة لمعاوية -رضي الله عنه- وذلك بعد قتل -علي رضي الله عنه- بستة أشهر. وقد روى عبد الله بن الإمام أحمد عن أبي ريحانة- واسمه عبد الله بن مطر البصري- عن سفينة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» فقال رجل كان حاضرًا في المجلس: قد دخلت من هذه الثلاثين سنة ستة شهور في خلافة معاوية، فقال: من ههنا أُتيتَ تلك الشهور، كانت البيعة للحسن بن علي بايعه أربعون ألفًا، أو اثنان وأربعون ألفًا. وإذا علم هذا فلا تعارض بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» وبين ما جاء في حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- في ذكر الخلفاء الاثني عشر، ومثله ما تقدم في الأحاديث الثلاثة عن جابر وأبي سعيد -رضي الله عنهما- في ذكر الخليفة الذي يكون في آخر الزمان يحثو المال حثوًا، فإن الخلافة المقدرة بثلاثين سنة هي خلافة النبوة، وهذه الخلافة قد اختص بها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- وأُكمِلت بخلافة الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وأما من كان بعد الثلاثين سنة فخلافتهم خلافة ملك. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "تهذيب السنن": "والدليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أوقع عليهم اسم الخلافة بمعنى الملك في غير خلافة النبوة، قوله في الحديث الصحيح من حديث الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: «سيكون من بعدي خلفاء يعملون بما يعلمون، ويفعلون ما يؤمرون، وسيكون من بعدهم خلفاء يعملون بما لا يعلمون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن أنكر بَرِئ، ومن أمسك سلم، ولكن من رضي وتابع» ". قلت: هذا الحديث رواه ابن حبان في صحيحه، من حديث أبي هريرة ..........

-رضي الله عنه-. وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجة عن أبي هريرة أيضًا -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وإنه سيكون خلفاء فيكثرون» قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» ففي هذا الحديث والحديث قبله إطلاق اسم الخلفاء على الملوك. وقد جاء ما يدل على أنه سيكون بعد الصحابة رضي الله عنهم خلفاء راشدون؛ فروي الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، والبزار، عن حبيب بن سالم قال: "سمعت النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- يقول: كنا قعودًا في المسجد، وكان بشير رجلا يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- فقال: يا بشير بن سعد، أتحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء؟ وكان حذيفة -رضي الله عنه- قاعدًا مع بشير، فقال حذيفة -رضي الله عنه-: أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة -رضي الله عنه- قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت» قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه، فقلت: إني لأرجو أن يكون أمير المؤمنين - يعني عمر- بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسر به وأعجبه"، وقد رواه الطبراني في الأوسط مختصرًا، قال الهيثمي: "ورجاله ثقات". وأما قوله: ولا أدري من أين وجدوا بأن رسول الله قال في هؤلاء الأئمة إن أحدهم المهدي أو أنه الإمام أو الخليفة؟ وما هو إلا محض البالغة في الغلو في القول بخروجه، حتى أعلقوا هذا الاعتقاد في قلوب بعض العلماء وأكثر العام، ة وحتى أدرجوه في عقيدة أهل السنة والجماعة. فجوابه: أن أقول: قد ذكرت قريبًا أن أهل السنة إنما يعتمدون في إثبات خروج المهدي على ما رواه علي، وابن مسعود، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأم سلمة، وجابر -رضي الله عنهم- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- فقد ذكروه في أبواب

الرد على كلام له غير معقول

الخلافة والإمارة وذكرت أيضًا ما ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" وفي التفسير أيضًا أن حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- فيه بشارة بوجود اثني عشرة خليفة صالحًا يقيم الحق، قال: "والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره"، فليراجع كلام ابن كثير ففيه كفاية في الرد على ابن محمود (¬1). وأما قوله: والحق أن حديث جابر بن سمرة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال هذا الدين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة» ينبغي أن يحمل على الواقع الملموس والمشاهد بالأسماع والأبصار، وذلك في حمله على حكام المسلمين .... إلى قوله: وهو مجهول في عالم الغيب. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ما عبَّر به ابن محمود عن الواقع فيما مضى بأنه ملموس ومشاهد بالأسماع والأبصار فهو كلام غير معقول؛ لأن الواقع في الماضي إنما يعبر عنه بالعلم، ولا يعبر عنه باللمس ولا بالمشاهدة؛ لأن اللمس والمسَّ إنما يكون بمباشرة اليد أو غيرها من الأعضاء لجسم آخر من غير حائل، قال الله -تعالى-: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}، وقال -تعالى-: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} الآية، وقال -تعالى-: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لماعز: «لعلك قبَّلت أو لمست»، وقال في حديث آخر: «ومن مس الحصا فقد لغا»، وقال الشاعر: لَمست بكفي كفه أطلب الغنى ولم أدر أن الجود من كفه يعدي وأما المشاهدة بالأبصار فإنما تكون للشيء الحاضر الذي تمكن مشاهدته. وأما المشاهدة بالأسماع فغير معقول ولا يقول ذلك عاقل؛ لأن الآذان إنما جعلت للسمع لا للمشاهدة، قال الله -تعالى-: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}، وقال -تعالى-: ِ {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}. ¬

_ (¬1) ص (185) (229).

فأخبر -تبارك وتعالى- عن كل جارحة من الجوارح الأربع بما هي مخصوصة به عن غيرها من المنافع، وجعل السمع من خصائص الآذان، والبصر من خصائص الأعين، فإن كان ابن محمود يشاهد بأذنيه فذلك من خوارق العادات ومما حصل له بعد توسعه في العلوم والفنون. الوجه الثاني: أن يقال: إن حكام المسلمين في القرون الثلاثة المفضلة كان عددهم خمسة وثلاثين، وكثير منهم لا ينطبق عليهم ما جاء في حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- فقد جاء في بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلهم تجتمع عليه الأمة»، وبهذا يخرج خلفاء بني العباس كلهم؛ لأن الأمة لم تجتمع على أحد منهم، ويكون هشام بن عبد الملك هو آخر الذين اجتمعت عليهم الأمة، وأما عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود الشهيد، وصلاح الدين الأيوبي، فقد كانوا في القرن السادس، وليسوا من قريش، ولم تجتمع الأمة عليهم، بل كان أكثر بلاد المسلمين تحت ولاية غيرهم، فذِكرهم مع الخلفاء لا وجه له. الوجه الثالث: أن يقال: إنما كان يعرف عموم العدل في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-، وكذلك في خلافة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-، فأما غيرهم فقد كانوا يستأثرون بالأموال ويضعونها في غير مواضعها، ومنهم من يصادر أموال الناس ويأخذها لنفسه أو يعطيها لغيره، ولا يعرف عن أحد بعد الخلفاء الأربعة الراشدين أن عدله طبق مشارق الأرض ومغاربها سوى عمر بن عبد العزيز، وأما المهدي الذي يخرج في آخر الزمان فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث صحيحة أنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وأخبر في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أنه يعمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإسلام يلقي بجرانه إلى الأرض، فهذا هو العدل الذي يطبق مشارق الأرض ومغاربها، لا ما زعمه ابن محمود فيمن سماهم من الملوك الماضين. وأما قوله: هو مجهول في عالم الغيب. فجوابه: أن يقال: قد كرر ابن محمود هذه الكلمة في عدة مواضع من رسالته، وقد تقدم الجواب عنها في أول الكتاب وفي أثنائه فليراجع (¬1). ¬

_ (¬1) ص (55 - 75) (90).

وأما قوله: فمتى قلنا إن الاثني عشر خليفة الذين استقام بهم الدين لن يخرجوا عن هؤلاء الأئمة الذين أعز الله بهم الدين وجمع بهم شمل المسلمين لم نكن آثمين، بدلا من أن نحيل إلى تسميته بالمهدي ثم نجعله خيالا غيبيًا يوجد في الأذهان دون الأعيان، إذ هذا من التخرص والقول على الله وعلى رسوله بغير حق. فجوابه من وجهين: أحدهما: أن يقال: إن ابن محمود قد تهجم على الأحاديث الثابتة في المهدي، وقابلها بالرد والإنكار، وزعم أنها خرافة، وأنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، وهذا من أقبح التخرص والقول على الله وعلى رسوله بغير حق، ومن كان هذا فعله فلا شك أنه قد أتى إثمًا عظيمًا، وأنه قد عرَّض نفسه للعقوبة الشديدة، وقد قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} "، وقال الإمام أحمد أيضًا: "من رد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة"، وقد ذكرت ما قاله بعض العلماء من التشديد في رد الأحاديث الثابتة، حتى أن بعضهم أطلق الكفر على من فعل ذلك، فليراجع ذلك في أول الكتاب (¬1). الوجه الثاني: أن يقال: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج القحطاني والجهجاه، والخليفة الذي يحثو المال حثوًا ولا يعده عدًا، وأخبر أيضًا بخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليه السلام-، وأنه يكون حكمًا عدلا وإمامًا مقسطًا، وأخبر أن يأجوج ومأجوج يخرجون على الناس في زمان عيسى ابن مريم، وأنهم يحصرون نبي الله عيسى ومن معه فيدعو عليهم فيهلكهم الله، فهل يصدق ابن محمود بخروج هؤلاء في آخر الزمان، أم يقول إن ذلك كله من الخيال الغيبي الذي يوجد في الأذهان دون الأعيان، وأن القول بخروجهم من التخرص والقول على الله وعلى رسوله بغير حق؟ فإن صدق بخروجهم انتقض قوله في المهدي؛ لأنه لا فرق بين خروجهم في آخر الزمان وبين خروج المهدي فيه، ولأن الأحاديث الدالة على خروج المهدي ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أنها ثابتة في خروج القحطاني ومن ذكر معه، وإن رد الأحاديث الثابتة في خروج القحطاني ومن ذكر معه كما قد رد الأحاديث في خروج المهدي فتلك بلية من شر البلايا ومصيبة عظيمة في دين الرجل. ¬

_ (¬1) ص (52، 53).

الرد على كلامه في حديث علي -رضي الله عنه- في المهدي

وقال ابن محمود في صفحة (42) وصفحة (43): "الحديث الثاني: روى أبو داود في سننه عن طريق أبي نعيم، عن علي -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لبعث الله رجلا مِنَّا يملؤها عدلا كما ملئت جورًا»، ورواه الإمام أحمد عن طريق أبي نعيم، ورواه الترمذي، ثم أجاب ابن محمود بقوله إن هذا الحديث هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة، وهي ليست بصريحة في الدلالة على المعنى الذي ذكروه، إذ ليس فيها ذكر للمهدي، وعلى فرض صحته فإنه لا مانع من جعل الرجل الذي يملأ الأرض عدلا من جملة المسلمين، الذين مضوا وانقضوا واستقام عليها أمر الدنيا والدين وجماعة المسلمين، فقوله مِنَّا يحتمل أن يكون من أهل ديننا وملتنا، على أن وجود رجل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا يحتمل أن يكون من المحال، فقد خلق الله الدنيا وخلق فيها المسلم والكافر والبر والفاجر، كما قال -سبحانه-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لكون الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والمصارعة لا تزال قائمة بين الحق والباطل وبين المسلمين والكفار، وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أنتم في الأمم المكذبة للرسل إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود»، وعلى كل حال فإنه ليس في الحديث التصريح باسم المهدي ولا زمانه ولا مكانه ولا الإيمان به، ولا يمتنع كونه من جملة الخلفاء السابقين الذين استقام بهم الدين وبسطوا العدل في مشارق الأرض ومغاربها بين المسلمين وبين من يعيش معهم من المخالفين لهم في الدين، وهذا الحديث هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة وليست بصريحة". والجواب: أن يقال: إن ابن محمود قد ذكر متن حديث علي -رضي الله عنه- وزعم أن ذلك رواية أبي داود، وكان غاية تحقيقه له أن أبدل رواية أبي داود برواية الإمام أحمد ونسبها لأبي داود وزاد فيها حرفًا من عنده وهو قوله "واحد"، وزعم أن الترمذي رواه وهو لم يروه، وإنما أشار إليه بعد روايته لحديث ابن ....................................

مسعود -رضي الله عنه- حيث قال: "وفي الباب عن علي، وأبي سعيد، وأم سلمة، وأبي هريرة". ثم إن ابن محمود قدح في صحة حديث علي -رضي الله عنه- بدون ذكر علة في إسناده يسوغ بها القدح فيه، وزعم أنه لا مانع من جعل الرجل الذي يملأ الأرض عدلا من جملة المسلمين الذين مضوا وانقضوا، ثم أبدى احتمالا أن قوله "مِنَّا" من أهل ديننا وملتنا، وأبدى احتمالاً آخر أنه من المحال وجود رجل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا. هذا هو التحقيق المعتبر عند ابن محمود لحديث علي -رضي الله عنه- وهو بأضغاث الأحلام أشبه منه بكلام اليقظان، فضلا عن أن يكون من التحقيق المعتبر. والكلام في الرد عليه أن يقال: أما حديث علي -رضي الله عنه- فقد رواه الإمام أحمد عن حجاج وأبي نعيم، قالا: "حدثنا فطر عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، قال حجاج: سمعت عليًا -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله -عز وجل- رجلا منا يملؤها عدلا كما ملئت جورًا»، قال أبو نعيم: «رجلا مِنَّا». قال: وسمعته مرة يذكره عن حبيب، عن أبي الطفيل، عن علي -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". إسناداه صحيحان، وقد رواه أبو داود في سننه، عن عثمان بن أبي شيبة، عن الفضل بن دكين، ولفظه: «لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا». إسناده صحيح، ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه، عن الفضل بن دكين، فذكره بمثله وإسناده صحيح، وقد ذكرت توثيق الأئمة لفطر بن خليفة والرد على من قال بتضعيفه، فليراجع ذلك في أول الكتاب (¬1)، وفي هذه الأسانيد الصحيحة أبلغ رد على ابن محمود؛ حيث توقف في صحة حديث علي -رضي الله عنه- وعلَّق القول به على فرض صحته، وفي المتن الذي رواه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو داود، وما فيه من النص على أن الرجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أبلغ رد على الاحتمال الذي أبداه ابن محمود بأن قوله "مِنَّا" أي من أهل ديننا وملتنا. وقد جاء النص على أن المهدي من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث عن علي، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد -رضي الله عنهم-، وجاء في ..................... ¬

_ (¬1) ص (14، 15).

معنى العترة

روايتين عن أبي سعيد -رضي الله عنه- النص على أن المهدي من عترة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الأحاديث مذكورة في أول الكتاب (¬1)، وكلها ثابتة، وبعضها يفسر بعضا، ففيها أبلغ رد على احتمال ابن محمود. وأما قوله: إن هذا الحديث من الأحاديث التي ليس فيها ذكر للمهدي. فجوابه: أن يقال: قد جاء التصريح بذكر المهدي في عدة روايات عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وفي أربعة أحاديث عن علي، وأبي هريرة، وجابر -رضي الله عنهم-، وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع (¬2). وأما قوله: إنه لا مانع من جعل الرجل الذي يملأ الأرض عدلا من جملة المسلمين الذين مضوا وانقضوا. فجوابه: أن يقال: هذا مردود بالنص على أن الرجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبالنص على أن المهدي يخرج في آخر هذه الأمة، وكل من هذين النصين مانع قوي من القول بما توهمه ابن محمود؛ فأما النص على أنه من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد جاء في عدة أحاديث عن علي، وابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة -رضي الله عنهم-، وفي بعض الروايات عن أبي سعيد -رضي الله عنه- النص على أنه من عترة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث في أول الكتاب فلتراجع (¬3). قال ابن الأثير: "عترة الرجل، أخص أقاربه"، وقال ابن الأعرابي: "العترة، ولد الرجل وذريته، وعقبه من صلبه"، قال فعترة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد فاطمة -رضي الله عنها-. وقد مضى ألف وأربعمائة سنة من الهجرة ولم يملك أحد من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون بالصفة التي جاء ذكرها في الأحاديث الثابتة؛ وهو أنه يعمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويملأ الأرض عدلا وقسطًا كما ملئت جورًا وظلمًا، وأنه يعطي المال حثوًا ولا يعده عدًا، وأنه يقسم المال بالسوية بين الناس، وأن عيسى ابن مريم يصلي خلفه حين ينزل، ولا بد أن يملك هذا الرجل، ولا يعلم بزمان خروجه وملكه إلا الله -تعالى-. وأما النص على أن المهدي يخرج في آخر هذه الأمة فقد رواه الحاكم عن ............. ¬

_ (¬1) ص (9 - 16). (¬2) ص (9 - 16). (¬3) ص (12 - 17).

أبي سعيد -رضي الله عنه-، وجاء في حديث جابر -رضي الله عنه- أن المهدي يقول لعيسى ابن مريم إذا نزل: تعال صل بنا. وقد ذكرت هذا الحديث وحديث أبي سعيد -رضي الله عنه- في أول الكتاب فليرجع إليهما (¬1). ففيهما أبلغ رد على قول ابن محمود: إنه لا مانع من جعل الرجل الذي يملأ الأرض عدلا من جملة المسلمين الذين مضوا وانقضوا. وأما قوله: على أن وجود رجل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا يحتمل أن يكون من المحال. فجوابه: أن يقال: إنما يقول بهذا الاحتمال الباطل من يشك في عموم قدرة الله -تعالى- ونفوذ مشيئته، فأما من علم أن الله على كل شيء قدير، وأنه ما شاء الله كان، لا راد لما أراده، ولا معقب لحكمه، فإنه لا يتوقف في رد هذا الاحتمال الباطل وإنكاره غاية الإنكار، ومن الذي يحول بين الرب -تبارك وتعالى- وبين إخراج رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا. وقد روى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلا»، وفي رواية لأحمد ومسلم: «حكمًا عادلا»، وفي رواية لأحمد: «إمامًا مهديًا وحكمًا عدلا»، وفي رواية له: «إماما عادلا وحكمًا مقسطًا»، وفي رواية له: «ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام». وهذه الروايات عند أحمد أسانيدها صحيحة، فهل يقول ابن محمود إن ما ذكر في هذه الروايات يحتمل أن يكون من المحال، أم يفرق بين ما جاء في عيسى ابن مريم وبين ما جاء في المهدي بفرق صحيح مقبول عند أهل العلم؟ ولن يجد إلى الفرق الصحيح سبيلا. فأما المجازفة والمكابرة والتعسف في رد الأحاديث الثابتة بالاحتمالات الباطلة، فهذا مما يتنزه عنه من له أدنى عقل ودين. ولا يخفى ما في كلام ابن محمود من التناقض؛ حيث زعم أنه لا مانع من جعل الرجل الذي يملأ الأرض عدلا من جملة المسلمين الذين مضوا وانقضوا، ثم نقض ذلك بقوله: على أن وجود رجل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا يحتمل أن يكون من المحال. وهذا التناقض مما حصل لابن محمود بعد توسعه ................................................ ¬

_ (¬1) ص (14 - 17).

ذكر الطائفة المنصورة والذين يكونون في آخر الأمة ولهم مثل أجر أولهم

في العلوم والفنون، وتهجمه على الإمام الشافعي والإمام أحمد، وتطاوله على شيخ الإسلام ابن تيمية. وأما قوله: فقد خلق الله الدنيا وخلق فيها المسلم والكافر والبر والفاجر؛ لكون الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والمصارعة لا تزال قائمة بين الحق والباطل، وبين المسلمين والكفار. فجوابه: أن يقال: لا يلزم من عموم العدل في زمن المهدي أن ينقرض الكفار والفجار من الأرض، ويزول الابتلاء والامتحان، بل يكون عموم العدل مع وجود الكفار والفجار، ومع وجود الابتلاء والامتحان، كما كان ذلك في زمن الخلفاء الراشدين، فإنهم كانوا غاية في العدل مع وجود الكفار والفجار في زمانهم، وكذلك الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فقد طبق العدل في زمانه كثيرا من الأقطار المتباعدة مع كثرة الكفار والفجار في ذلك الزمان، ومع وجود المصارعة بين الحق والباطل وبين المسلمين والكفار، وهكذا يكون الأمر في زمن المهدي، إذ لا بد له من جهاد الكفار والمنافقين، وقمع الفجار والمعاندين، وبذلك يتسنى له بسط القسط والعدل، وإزالة الجور والظلم. وقد روي الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم، عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال» قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الإمام أحمد أيضًا، ومسلم، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة»، وقد رواه الحارث ابن أبي أسامة مختصرًا، ولفظه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضهم أمير بعض، تكرمة الله لهذه الأمة»، وروي البيهقي في دلائل النبوة، عن عبد الرحمن بن العلاء الحضرمي قال: حدثني من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم لهم مثل أجر أولهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقاتلون أهل الفتن» ..........................

زيادة ابن محمود في لفظ حديث صحيح والرد عليه

ورواه أحمد وابن وضاح مختصرًا. وفي هذه الأحاديث دليل على أن المهدي وأصحابه يقاتلون على الحق، وأنهم يكونون ظاهرين على من ناوأهم، وأن عيسى ابن مريم ينزل عليهم وهم يقاتلون الدجال، فيصلي خلف المهدي أول ما ينزل. وقد تقدم في أول الكتاب قول أبي الحسين الآبري: "إنها قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه". انتهى، وقد ذكرت هناك عددًا من أكابر العلماء الذين نقلوا كلام الآبري وأقروه، فليراجع ما تقدم (¬1). والمقصود هنا بيان أن وجود الكفار والفجار في كل زمان، وكون المصارعة لا تزال قائمة بين الحق والباطل وبين المسلمين والكفار، لا يمنع من إزالة الجور والظلم وامتلاء الأرض بالقسط والعدل في زمان المهدي؛ لأن أهل الباطل يكونون حينذاك ذليلين مقموعين مقهورين، وتكون الغلبة والظهور للحق وأهله. وأما قوله: وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أنتم في الأمم المكذبة للرسل إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود». فجوابه: أن يقال: إن ابن محمود قد زاد في الحديث كلمتين من عنده؛ وهما قوله: "المكذبة للرسل"، وقد رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفظه عند مسلم: «ما المسلمون في الكفار إلا كشعرة بيضاء في ثور أسود، أو كشعرة سوداء في ثور أبيض»، وفي رواية للبخاري ومسلم: «وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر»، وفي رواية لمسلم: «ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود»، ورواه البخاري ومسلم أيضًا عن أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرقمة في ذراع الحمار»، وفي رواية لمسلم: «ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض»، ورواه البخاري ولفظه قال: «ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء .......................... ¬

_ (¬1) ص (43، 44).

في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود». هذه ألفاظ الحديثين عند البخاري ومسلم، وهو إخبار عما يكون يوم القيامة، وليس في شيء من ألفاظ الحديثين ما زاده ابن محمود في قوله: "المكذبة للرسل"، وقد ورد الوعيد الشديد لمن قال على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل، وليس هذا موضع ذكر الأحاديث الواردة في ذلك. وأما قوله: وعلى كل حال فإنه ليس في الحديث التصريح باسم المهدي ولا زمانه ولا مكانه ولا الإيمان به، ولا يمتنع كونه من جملة الخلفاء السابقين، الذين استقام بهم الدين، وبسطوا العدل في مشارق الأرض ومغاربها بين المسلمين، وبين من يعيش معهم من المخالفين لهم في الدين. فجوابه: أن يقال: قد جاء في حديث علي -رضي الله عنه- ما يقوم مقام التصريح باسم المهدي، ففيه النص على أنه من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يكون في آخر الزمان، حتى لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعثه الله -عز وجل-، وأنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا، ومن كان بهذه الصفة فهو المهدي المنتظر، سواء وقع التصريح باسمه في هذا الحديث أو لم يقع، وقد جاء التصريح باسمه في عدة أحاديث تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع (¬1). وأما التصريح بزمان المهدي ومكانه فليس ذلك شرطًا في الإيمان بخروجه، وقد ذكرت في أثناء الكتاب قول ابن محمود: وحاشا أن يفرض رسول الله على أمته الإيمان برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، لا يعلم زمانه ولا مكانه. وذكرت الجواب عن قوله: لا يعلم زمانه ولا مكانه، فليراجع ذلك في موضعه (¬2). وأما الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان فذلك من تحقيق الشهادة بالرسالة؛ لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروجه، فوجب الإيمان بذلك تصديقًا لخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما قوله: ولا يمتنع كونه من جملة الخلفاء السابقين. فجوابه: أن يقال: بل ذلك ممتنع، وقد تقدم بيان ذلك قريبًا فليراجع (¬3). وأما قوله: وهذا الحديث هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة وليست بصريحة. ¬

_ (¬1) ص (12 - 17). (¬2) ص (100 - 101). (¬3) ص (239 - 240).

الرد على كلامه في حديث أبي سعيد في المهدي

فجوابه: أن يقال: قد تقدم إيراد حديث علي -رضي الله عنه- بأسانيده الصحيحة قريبًا وفي أول الكتاب فلتراجع (¬1)، ومن شك في صحة حديث علي -رضي الله عنه- فذلك دليل على بعده عن معرفة الحديث، وأنه لا فرق عنده بين الصحيح منه والضعيف، وقد ذكرت قريبًا أن في حديث علي -رضي الله عنه- ما يقوم مقام التصريح باسم المهدي، وأنه قد جاء التصريح باسمه في عدة أحاديث تقدم ذكرها في أول الكتاب. وقال ابن محمود في صفحة (43) وصفحة (44): "الحديث الثالث: روى أبو داود في سننه، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي مِنِّي، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا، يمكث في الأرض سبع سنين». ثم أجاب ابن محمود بقوله: إن هذا بمعنى الحديث الأول، ما عدا الأوصاف من كونه أجلى الجبهة أقنى الأنف، وهذه الأوصاف موجودة في كثير من الناس وخاصة الأشراف، فلا تفيد بالمهدي علمًا ولا يقينًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزه عن أن يحيل أمته على هذه الأوصاف الموجودة في أكثر بني آدم، ولا يأتي من اتصف بها بكتاب من ربه يصدق قوله، ولا بدين جديد يكمل به دين محمد رسول الله، وليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، وقد صارت دعوى المهدي والاتصاف بالأوصاف المذكورة مركبا للكذابين الدجالين، فكل واحد منهم يحاول أن يكون هو، فيقع الناس في مشكلة لم تحل وفتنة لا تنتهي، يتوارثها جيل بعد جيل حتى تقوم الساعة، وحاشا أن يأتي بها رسول الله لأمته". والجواب عما يتعلق بالحديث من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن ابن محمود قد حرَّف في لفظ الحديث؛ فأسقط منه كلمتين، وغير كلمة، وزاد كلمتين من عنده، ولفظه عند أبي داود، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي مني أجلي الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا يملك سبع سنين». الوجه الثاني: أن يقال: قد ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- هذا الحديث في كتابه "المنار المنيف" وقال: "إسناده جيد"، وقد رواه الإمام أحمد بنحو رواية أبي داود وإسناده صحيح على شرط مسلم، ورواه أيضًا بلفظ آخر وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: "صحيح على .......... ¬

_ (¬1) ص (14، 15) (238).

شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في تلخيصه، ورواه الإمام أحمد أيضًا بأسانيد بعضها على شرط مسلم، ورواه الترمذي وحسنه، ورواه الحاكم أيضًا من طريقين، قال في أحدهما: "صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وصحح الآخر، ووافقه الذهبي. وقد تقدم إيراد الروايات عن أبي سعيد -رضي الله عنه- والكلام عليها مبسوطًا في أول الكتاب فليراجع (¬1)، ففيه رد على مجازفات ابن محمود في معارضته لهذا الحديث، وزعمه في أول الفصل أنه من الأحاديث التي ليست بصحيحة. وأما قوله: إن هذا الحديث بمعنى الحديث الأول ما عدا الأوصاف من كونه أجلى الجبهة، أقنى الأنف، وهذه الأوصاف موجودة في كثير من الناس، فلا يفيد بالمهدي علمًا ولا يقينًا. فجوابه: أن يقال: إنما يعرف المهدي ويشتهر بعمله بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبسطه للقسط والعدل، وإزالته للجور والظلم، وهذه الأوصاف نادرة الوجود، ويضاف إلى ذلك كونه من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن اسمه يواطئ اسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسم أبيه يواطئ اسم أبي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخُلُق بضم الخاء، وقد جاء ذلك في حديثين عن علي وابن مسعود -رضي الله عنهما-؛ فأما حديث علي -رضي الله عنه- فرواه أبو داود، عن أبي إسحاق قال: قال علي -رضي الله عنه- ونظر إلى ابنه الحسن فقال: «إن ابني هذا سيد كما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيخرج من صلبه رجل يمسى باسم نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، يشبهه في الخُلُق ولا يشبهه في الخلق، ثم ذكر قصة يملأ الأرض عدلا»، وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- فرواه ابن حبان في صحيحه، ولفظه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وخلقه خلقي، فيملؤها قسطًا وعدلا كما ملئت ظلمًا وجورًا». وهذا الحديث الصحيح يؤيد حديث علي -رضي الله عنه- ويقويه، قال شمس الحق في "عون المعبود" في الكلام على حديث علي -رضي الله عنه-: "يشبهه في الخلق؛ بضم الخاء واللام وتسكن، ولا يشبهه في الخلق؛ بفتح الخاء وسكون اللام؛ أي يشبهه في السيرة، ولا يشبهه في الصورة". انتهى، وهذه الصفة نادرة الوجود. وأما وصفه بأنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف، فذلك زيادة إيضاح في التعريف به. وأما قوله: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزه عن أن يحيل أمته على هذه الأوصاف الموجودة في أكثر بني آدم. ¬

_ (¬1) ص (11 - 14).

الرد على قوله إن المهدي لا يأتي بكتاب ولا بدين جديد يكمل به الدين وليس بملك ولا نبي

فجوابه: أن يقال: إنما ينزه النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يكون فيه عيب له أو لحديثه، وليس في إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي بأنه أجلى الجبهة أقنى الأنف ما يقتضي العيب له - صلى الله عليه وسلم - أو لحديثه، فتنزيهه عن ذلك لغو لا يقوله عاقل، وينبغي تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لغو المعارضين للأحاديث الثابتة عنه. ويقال أيضًا: لو أن ابن محمود قال: إن هذه الأوصاف موجودة في كثير من الناس لكان لقوله وجه يحتمل، فأما قوله إن هذه الأوصاف موجودة في أكثر بني آدم فذلك غير مُسلّم، والقنا في الأنف أقل بكثير من الجلاء في الجبهة كما هو معلوم بالمشاهدة، وأما اجتماع الصفتين فذلك نادر في الرجال. وأما قوله: ولا يأتي من اتصف بها بكتاب من ربه يصدق قوله، ولا بدين جديد يكمل به دين محمد رسول الله، وليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل. فجوابه: أن يقال: لا يخفى ما في كلام ابن محمود من المجازفة التي تدل على فساد التصور، وهل يدور في عقل من له أدنى عقل وعلم أنه من الممكن أن يأتي أحد بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - بكتاب من الله يصدق قوله؟ وهل يدور في عقل من له أدنى عقل وعلم أنه من الممكن أن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ناقص، وأنه من الممكن أن يأتي أحد بدين جديد يكمل به دين محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ وهل يدور في عقل من له أدنى عقل وعلم أن ملكًا مقربًا ينزل من السماء ويقول إنه المهدي؟ وهل يدور في عقل من له أدنى عقل وعلم أن المهدي المبشر به يجترئ على أن يقول إنه ملك مقرب أو نبي مرسل، أو أنه يأتي بدين جديد، أو بكتاب من الله يصدق قوله، أو يقول إن دين الإسلام ناقص، وإن إكماله يكون على يديه؟! فكل هذه الأقوال الوخيمة لا تدور في العقل السليم، وإنما تدور في أفكار الذين في عقولهم خلل شديد. وإذا كان نبي الله عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- الذي هو أحد أولي العزم من الرسل إذا نزل في آخر الزمان إنما يحكم بالكتاب والسنة، ولا يأتي بكتاب جديد ولا بدين جديد يكمل به دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، فغيره من الناس أولى أن لا يأتي بكتاب جديد ولا بدين جديد بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -. وإذا علم هذا، فلو زعم رجل أنه المهدي، وأنه أتى بكتاب من الله، أو قال إن دين الإسلام ناقص وإنه أتى ليكمله، لحكم كل مؤمن له أدنى علم ومعرفة أنه دجال من الدجالين، إن لم يكن مسلوب العقل.

الرد على قوله إن دعوى المهدي صارت مركبا للدجالين

وهذه الشطحات التي زعم قائلها أنها من التحقيق المعتبر لأحاديث المهدي ومن شرح أحاديثه بما لا مزيد عليه، هي مما حصل لابن محمود بعد توسعه في العلوم والفنون. وأما قوله: وقد صارت دعوى المهدي والاتصاف بالأوصاف المذكورة مركبًا للكذابين الدجالين، فكل واحد منهم يحاول أن يكون هو، فيقع الناس في مشكلة لم تحل، وفتنة لا تنتهي، يتوارثها جيل بعد جيل حتى تقوم الساعة. فجوابه: أن يقال: قد ادعى النبوة أناس كثيرون، ولم تكن دعواهم قادحة في نبوة الأنبياء ولا مؤثرة فيها بشيء، فكذلك دعوى المدعين للمهدية كذبًا وزورا، لا تقدح في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، ولا تؤثر فيها بشيء، وكلما ادعى النبوة أو المهدية أحد من الكذابين فضحه الله وأخزاه، وحل مشكلته وأزال فتنته، ولم تدم مشاكل المدعين للنبوة ولا مشاكل المدعين للمهدية وفتنهم، ولا توارثتها الأجيال، وإنما تقع في الحين بعد الأحيان الكثيرة ثم تنقطع، وقد يكون لبعضهم اتباع من الهمج الرعاع؛ كالقاديانية، والبابية، وأشباههم ممن هم أضل سبيلا من الأنعام، وهؤلاء خارجون من الإسلام وإن ادعوا أنهم من أهله. وأما قوله: حتى تقوم الساعة. فجوابه: أن يقال: هذا من الرجم بالغيب، ولا يعلم ماذا يكون في المستقبل إلا الله -تعالى-. وأما قوله: وحاشا أن يأتي بها رسول الله لأمته. فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبلغ عن الله -تعالى- كما قال -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة أنه أخبر أمته بخروج المهدي في آخر الزمان، كما أخبرهم بغير ذلك مما كان فيما مضى وما سيكون في المستقبل من أشراط الساعة وغيرها، وما يكون بعد قيام الساعة، وكل ما ثبت عنه فإنه يجب الإيمان به؛ لقوله في الحديث الصحيح: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. فأما مقابلة أخباره الثابتة عنه ..............................................

الرد على كلامه في حديث أم سلمة في المهدي

بالتلبيس والتشكيك والأساليب المنحرفة، فذلك من أفعال أهل الأهواء والعقائد الفاسدة. الوجه الثاني: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر أمته بما يتحاشى عنه من الأمور التي لا فائدة في ذكرها، وإنما أخبرهم بخروج رجل من أهل بيه يعمل بالسنة، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا، ويزيل الجور والظلم، ويكون خروجه في آخر الزمان نعمة على هذه الأمة، وهذا مما لا يتحاشى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإخبار به؛ لما في ذلك من البشارة للمؤمنين. وقال ابن محمود في صفحة (44): "الحديث الرابع: روى أبو داود في سننه، عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المهدي من عترتي ومن فاطمة». ثم أجاب ابن محمود بقوله: إن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وأم سلمة، وأبا سعيد الخدري، وابن مسعود، وسائر الصحابة كلهم -إن شاء الله- منزهون عن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما حدث وضع هذه الأحاديث وصياغتها من الغلاة الزنادقة، وقد تعقب صاحب تهذيب السنن على حديث أم سلمة هذا وأعله بالبطلان، قال أبو جعفر العقيلي: "إن هذا الحديث يروى عن أبي نفيل العقيلي، وإنه من قول نفيل، ولا يتابع عليه، ولا نعرفه إلا منه"، وذكر البخاري أن في سنده زياد بن بيان وقد وهم في رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الحديث مما قلنا إنه صريح في ذكر المهدي لكنه ليس بصحيح، لا في سنده ولا متنه، ولم يحفظ عن رسول الله اسم العترة، وهم أقارب الشخص، ولا اسم المهدي". والجواب أن يقال: إن ابن محمود قد غير في لفظ الحديث؛ حيث قال: «ومن فاطمة»، وصوابه «من ولد فاطمة». وأما قوله: وإنما حدث وضع هذه الأحاديث وصياغتها من الغلاة الزنادقة. فجوابه: أن يقال: أما الأحاديث الثابتة في المهدي عن علي، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وأم سلمة، وجابر -رضي الله عنهم- فهذه لا سبيل للغلاة الزنادقة إليها؛ لأن رواتها كلهم ثقات من لدن الصحابة -رضي الله عنهم- إلى الأئمة المخرجين لها في كتبهم، وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع (¬1). ففيها أبلغ رد على مزاعم ابن محمود ومجازفاته التي قالها من غير تثبت، وإني أتحدى ابن محمود أن يبرر ........... ¬

_ (¬1) ص9 - 17.

زعمه الذي هو بعيد كل البعد عن الصحة؛ وذلك بأن يخرج لنا من أسانيد هذه الأحاديث الثابتة رجلا من الغلاة الزنادقة، ولن يجد إلى ذلك سبيلا. وأما الأحاديث التي في أسانيدها مقال، فمنها ما تؤيده الأحاديث الصحيحة وتشهد له. وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- جملة منها في كتابه "المنار المنيف"، ومثل هذه الأحاديث يقتصر فيها على القول بأنها ضعيفة، ولا يقال إنها موضوعة، وإنما يقطع بالوضع فيما يكون في إسناده وضَّاع معروف بالوضع. الوجه الثاني: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم». رواه البخاري ومسلم، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وهذا لفظ مسلم، ورواه البيهقي في سننه وزاد: «ولكن البينة على المدعي»، قال النووي: "إسناده حسن أو صحيح". وإني أطالب ابن محمود بإقامة البينة على ما ادَّعاه من وضع الأحاديث الثابتة في المهدي؛ وذلك بأن ينقل نقلاً ثابتًا عن المصنفين في الموضوعات أنهم ذكروا منها أحاديث علي، وابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وأم سلمة، وجابر -رضي الله عنهم- في المهدي، وهي التي تقدم ذكرها في أول الكتاب، وأن يذكر الكتاب الذي ذكر فيه ذلك، والصفحات التي ذكر فيها ذلك، ولن يجد إلى ذلك سبيلا البتة، وكذلك لا يجد سبيلا إلى الحكم بالوضع على كثير من الأحاديث الضعيفة التي رواها أبو داود وابن ماجة وغيرهما في المهدي؛ لأنه ليس في شيء من أسانيدها وضاع ولا كذاب ولا من أجمع العلماء على تركه، وإنما الأمر فيها كما تقدم في الوجه الأول أنه يقتصر على القول بأنها ضعيفة، ولا يتجاوز ذلك إلى الحكم عليها بالوضع. الوجه الثالث: أن يقال: إن ابن محمود قد سلك مسلك بعض الذين لا يبالون برد الأحاديث الثابتة إذا كانت مخالفة لنظرياتهم وأفكارهم الخاطئة، ويتسرعون بالحكم عليها بالوضع بدون مسند صحيح يعتمدون عليه، وإنما يعمدون على المجازفات والتخرصات والتوهمات التي هي من وحي الشيطان وتضليله، وقد قلَّدهم ابن محمود في زعمهم أن جميع الأحاديث الواردة في المهدي من وضع الغلاة الزنادقة وصياغتهم، وقد ذكر عنه في أول الكتاب أنه قال إن فكرة المهدي ليست في أصلها من عقائد أهل السنة القدماء، وإن أصل من تبني هذه الفكرة والعقيدة هم الشيعة، وإن عبد الله بن سبأ أخذ هو وشيعته يعملون عملهم في ......

الرد على تقوله على المنذري وتخليطه فيما نقله عنه

صياغة الأحاديث ووضعها على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكرت أيضًا أنه أخذ هذا التلفيق من كلام رشيد رضا، وأحمد أمين، وسعد محمد حسن، فليراجع ما تقدم، وليراجع الجواب عنه، ففيه كفاية في الرد على ما زعمه ابن محمود ههنا (¬1). وأما قوله: وقد تعقب صاحب "تهذيب السنن" على حديث أم سلمة هذا وأعله بالبطلان، قال أبو جعفر العقيلي: "إن هذا الحديث يُروى عن أبي نفيل العقيلي، وإنه من قول نفيل ولا يتابع عليه ولا نعرفه إلا منه"، وذكر البخاري أن في سنده زياد بن بيان، وقد وهم في رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجوابه: أن يقال: هكذا يكون التحقيق الذي حث ابن محمود على الرجوع إليه، وزعم أنه تحقيق معتبر وأنه لا مزيد عليه. وأقول لا شك أنه لا مزيد عليه في التخليط والتقول على العلماء، ومن طالع "تهذيب السنن" للمنذري لم يخف عليه ذلك. وأنا أذكر كلام المنذري بالنص ثم أبين ما وقع في كلام ابن محمود من التخليط والتقول على المنذري وغيره، قال المنذري في "تهذيب السنن": ((وفي حديث أبي داود قال عبد الله بن جعفر - وهو الرقي-: "وسمعت أبا المليح - يعني الحسن بن عمر الرقي - يثني على علي بن نفيل ويذكر منه صلاحًا"، وقال أبو حاتم الرازي: "علي بن نفيل جد النفيلي لا بأس به"، وقال أبو جعفر العقيلي: "علي بن نفيل، حراني، هو جد النفيلي، عن سعيد بن المسيب في المهدي لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به" وساق هذا الحديث، وقال في المهدي: "أحاديث جياد من غير هذا الوجه بخلاف هذا اللفظ، بلفظ "رجل من أهل بيته" على الجملة مجملا" هذا آخر كلامه، وفي إسناد هذا الحديث أيضًا زياد بن بيان، قال الحافظ أبو أحمد بن عدي: "زياد بن بيان سمع علي بن نفيل جد النفيلي، وفي إسناده نظر، سمعت ابن حماد يذكره عن البخاري" وساق الحديث، وقال: "والبخاري إنما أنكر من حديث زياد بن بيان هذا الحديث وهو معروف به" هذا آخر كلامه، وقال غيره: "وهو كلام معروف من كلام سعيد بن المسيب، والظاهر أن زياد بن بيان وهم في رفعه")) انتهى كلام المنذري. وقد زعم ابن محمود أن صاحب "تهذيب السنن" تعقب على حديث أم سلمة وأعله بالبطلان. وأقول: إن هذا من التقول على المنذري، فإنه لم يقل إن الحديث باطل ولا أشار ...... ¬

_ (¬1) ص (31 - 36).

الرد على تخليطه وتقوله على العقيلي وتوهمه على البخاري

إلى ذلك، ألا يتقي الله ابن محمود فيما ينقل عن العلماء؟! وزعم ابن محمود أيضًا أن أبا جعفر العقيلي قال: إن هذا الحديث يروى عن أبي نفيل العقيلي، وإنه من قول نفيل ولا يتابع عليه ولا نعرفه إلا منه. وأقول: إن هذا من التخليط والتقول على العقيلي، ومن قابل بين كلام العقيلي وبين كلام ابن محمود لم يخف عليه ذلك، ومن تخليطه أيضًا قوله: عن أبي نفيل العقيلي، وصوابه: عن ابن نفيل جد النفيلي. وزعم ابن محمود أيضًا أن البخاري ذكر أن في سنده زياد بن بيان وقد وهم في رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأقول: إن الذي قال إن في إسناد الحديث زياد بن بيان هو المنذري، والذي قال والظاهر أن زياد بن بيان وهم في رفعه هو ابن الجوزي، قال ذلك في "العلل المتناهية"، ونقل المنذري كلامه وأشار إليه بقوله: وقال غيره. ولم يُسمِّه، وأما البخاري فقال في "التاريخ الكبير" في ترجمة زياد بن بيان: "قال عبد الغفار بن داود: حدثنا أبو المليح الرقي، سمع زياد بن بيان- وذكر من فضله-، سمع علي بن نفيل جد النفيلي، سمع سعيد بن المسيب، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي حق، وهو من ولد فاطمة» قال أبو عبد الله - أي البخاري-:في إسناده نظر". هذا كلام البخاري لا ما جاء به ابن محمود من كيسه. وأما قوله: فهذا الحديث مما قلنا إنه صريح في ذكر المهدي، لكنه ليس بصحيح لا في سنده ولا متنه. فجوابه: أن يقال: إن أبا داود قد سكت على هذا الحديث، وقد قال في رسالته إلى أهل مكة: "وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض"، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة، وقال العزيزي في "السراج المنير، شرح الجامع الصغير": "إسناده حسن"، وفي هذا رد لما زعمه ابن محمود من أن الحديث ليس بصحيح في سنده ولا متنه. وأما قوله: ولم يحفظ عن رسول الله اسم العترة؛ وهم أقارب الشخص، ولا اسم المهدي. فجوابه: أن يقال: بل الاسمان محفوظان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فأما اسم العترة فقد جاء التصريح به في روايتين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، روى إحداهما ....................

الرد على كلامه في حديث أم سلمة الذي فيه مبايعة المهدي

الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها: «ثم يخرج رجل من عترتي أو من أهل بيتي»، ورواه ابن حبان في صحيحه بنحوه. وأما الرواية الأخرى فرواها الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها: «فيخرج رجل من عترتي»، ورواه لحاكم في مستدركه وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي. وقد ذكرت هاتين الروايتين في أول الكتاب (¬1). وأما اسم المهدي فقد جاء التصريح به في عدة روايات عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وفي أربعة أحاديث عن علي، وأبي هريرة، وجابر -رضي الله عنهم-، وقد ذكرت هذه الأحاديث في أول الكتاب فلتراجع (¬2)، ففيها أبلغ رد على ابن محمود. وقال ابن محمود في صفحة (45) وصفحة (46) وصفحة (47): "الحديث الخامس: روى أبو داود عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدنية هاربًا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام، ويبعث إليه بعث من الشام فتخسف بهم البيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق فيبايعونه، ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثًا فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب، أو قال: بيعة كلب، فيقسم المال، ويعمل في الناس بسنة نبيه، ويلقي الإسلام بجرانه إلى الأرض، فيلبث سبع سنين، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون». ثم أجاب ابن محمود بقوله: إن هذا الحديث ليس بصحيح ولا بصريح، وليس للمهدي فيه سوى ذكر رجل خرج هاربًا من المدينة إلى مكة، ويبعد كل البعد أن يصدر هذا الخبر عن أم سلمة؛ فإنها ليست معروفة برواية الحديث كهذا، وبطلانه يظهر من دراسته، ولقد صرح السيوطي في كتاب "اللآلئ المصنوعة" بأنه موضوع؛ والموضوع هو المكذوب على الرسول، وكم من خليفة قد مات فوقع من بعده اختلاف، ولما قتل ابن الزبير ألزم الحجاج الناس بأن يبايعوا لعبد الملك بن مروان بين الركن والمقام، أفيقال إنه هو؟ وليس من شأن الرسول ولا من شأن عالم الغيب أن يخبر أمته بكل حادثة تحدث من بعد موته إلى يوم القيامة، وقد رأيت ................................................................... ¬

_ (¬1) ص (11، 12). (¬2) ص (12 - 17).

لشيخ الإسلام ابن تيمية كلامًا ينكر فيه حديث أبدال الشام ورايات العراق، ويقول إنه لا صحة له ... إلى أن قال: فكم من رجل من قريش تولى الحكم على الناس، وألقى الإسلام بجرانه في زمانه، وأجمعت عليهم كلمته، واستفادوا في زمانه بالإيمان والأمان وزيادة الاطمئنان، ثم نشر العدل في جميع الأوطان، ومكث في ولايته سنين طويلة دون أن يسمى المهدي، أما هذا الرجل الذي لا يمكث في ولايته على الناس إلا سبع سنين فإنه فيء زائل، وكيف يملأ الأرض عدلا في سبع سنين وقد ملئت جورًا وكفرًا؟! فهل يغزو الناس بالأحلام في المنامات، أو يغزو الناس بالملائكة أو بالجن؟! وهل هذا الرجل أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي جادل وجاهد وصبر على اللأواء والضنك والشدة، وأوذي في الله وشج رأسه وكسرت رباعيته، ومشي على طريق السنن المعتادة واستقام على ذلك ثلاثًا وعشرين سنة، ولم يتمكن من ملء الأرض عدلا إلا في الجزيرة العربية التي هي بمثابة النقطة بالنسبة إلى سعة الدنيا؟ ومتى صدقنا بهذا الحديث فإننا نكون ممن يفضل هذا الرجل على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، مع العلم أنه لم يذكر اسم المهدي فيه فسقط الاستدلال به؛ إذ الرجل مبهم، وتعيين شخص معين هو حكم بغير علم؛ إذ هذا يعود إلى علم الغيب". والجواب: أن يقال: إن ابن محمود قد غير في الحديث وزاد فيه كلمة من عنده، فأما التغيير ففي قوله: فخسف بهم البيداء، وصوابه «فيخسف بهم بالبيداء»، وأما الكلمة التي زادها فهي قوله: أو قال بيعة كلب، وهذه الكلمة ليست في الحديث، وقال أيضًا: ويعمل في الناس بسنة نبيه، ولفظه عند أحمد وأبي داود وأبي يعلي وابن حبان: «ويعمل في الناس بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -». وأما قوله: إن هذا الحديث ليس بصحيح. فجوابه: أن يقال: هلا ذكر ابن محمود العلة القادحة في سنده، حتى ينظر في كلامه هل هو صحيح أم لا؟! فأما القدح فيه بمجرد الدعوى فذلك مردود عليه. ويقال أيضًا: إن أبا داود قد سكت عليه، وقد قال في رسالة إلى أهل مكة: "وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض"، وسكت عليه المنذري في تهذيبه، ولو كان فيه علة لذكرها، وقد رواه ابن حبان في صحيحه، والطبراني في الأوسط مختصرًا، قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح"، وقد أقره الحافظان؛ زين الدين ......................

العراقي، وابن حجر العسقلاني على هذا القول، وقال ابن القيم في كتابه "المنار المنيف": "الحديث حسن، ومثله مما يجوز أن يقال فيه صحيح"، وفيما ذكرته عن هؤلاء الأئمة أبلغ رد على ابن محمود، وإذا تعارض قول ابن محمود وأقوال الأئمة الذين ذكرنا، فهل يقول عاقل إنه يقبل قول ابن محمود وترد أقوال الأئمة الحفاظ النقاد؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل، بل أقوال الحفاظ النقاد هي المقبولة، وما خالفها من توهمات ابن محمود وتخرصاته فهو مردود عليه. وأما قوله: ويبعد كل البعد أن يصدر هذا الخبر عن أم سلمة. فجوابه: أن يقال: بل البعيد كل البعد إنكار هذا الحديث الثابت واستبعاد صدوره عن أم سلمة -رضي الله عنها-، وقد روى الإمام أحمد ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما- ما يشهد لهذا الحديث، وذلك في قصة الجيش الذي يخسف به بالبيداء، وروى الإمام أحمد أيضًا عن حفصة -رضي الله عنها- نحوه، ورواه مسلم إلا أنه قال: عن أم المؤمنين ولم يقل حفصة، وقد ذكرت هذه الأحاديث وما في معناها في أول الكتاب فلتراجع (¬1). وأما قوله: إنها ليست معروفة برواية الحديث كهذا. فجوابه أن يقال: وهل يظن ابن محمود أن كلامه هذا يحط من شأن هذا الحديث أو يؤثر فيه، وهل يظن أنه قد بلغ في معرفة العلل مبلغ شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وأمثالهم حتى يقبل تعليله لهذا الحديث. ويقال أيضًا: قد روى حديث أم سلمة -رضي الله عنها- جماعة من أهل العلم بالحديث والعلل والرجال؛ منهم الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم، والطبراني، ولم يقدح فيه أحد منهم، ولم ينكر أحد منهم روايته عن أم سلمة -رضي الله عنها-، وقد تلقاه أهل العلم بالقبول، وصرَّح بعضهم بتصحيحه كما تقدم ذكره، وفي هذا أبلغ رد على ابن محمود. وأما قوله: وبطلانه يظهر من دراسته. فجوابه: أن يقال: هذه مجازفة مردودة بتصحيح من صححه من العلماء الذين تقدم ذكرهم، ولو كان الحديث باطلا ما سكت عليه أبو داود والمنذري. ¬

_ (¬1) ص (64 - 66).

الرد على تقوله على السيوطي

وأما قوله: ولقد صرح السيوطي في كتاب "اللآلئ المصنوعة" بأنه موضوع، والموضوع هو المكذوب على الرسول. فجوابه: أن يقال: هذا من التقول على السيوطي، فإنه لم يقل في هذا الحديث إنه موضوع، وإنما ذكره مع الأحاديث الواردة في الأبدال ولم يتكلم فيه بشيء، وذلك أنه أورد الأحاديث التي ذكرها ابن الجوزي وقال: إنها موضوعة، ثم قال بعد إيرادها: "وقد ورد ذكر الأبدال من حديث علي، أخرجه أحمد في مسنده وسنده حسن، ومن حديث عبادة بن الصامت، أخرجه أحمد وسنده حسن، ثم ذكر جملة من الأحاديث الواردة في الأبدال، ولم يتكلم فيها بشيء ... إلى أن قال: ومن حديث أم سلمة، أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو داود في سننه، والحاكم والبيهقي" هذا ما ذكره السيوطي في صفحة (332) من الجزء الثاني من "اللآلئ المصنوعة"، وقد أورده أيضًا في رسالة له في ذكر الأبدال، وهي مذكورة في الجزء الثاني من "الحاوي للفتاوي"، ذكره في صفحة (249) ولم يتعقبه بشيء، وأورده أيضًا في رسالته التي جمعها في أخبار المهدي وسماها "العرف الوردي، في أخبار المهدي" وهي في الجزء الثاني من "الحاوي للفتاوي"، وحديث أم سلمة -رضي الله عنها- مذكور في صفحة (59) منه، ولم يتكلم فيه بشيء. ومما ذكرنا يعلم ما في كلام ابن محمود من التقول على السيوطي، وقد ذكرت فيما تقدم أنه قد نسب إلى عدد كثير من العلماء أقوالا لا تعرف عنهم، وهذا خلاف الأمانة في النقل، فلا يغتر أحد بنقول ابن محمود، فإنها غير مضبوطة، والله يسامحه ويغفر لنا وله. وأما قوله: ولما قتل ابن الزبير ألزم الحجاج الناس بأن يبايعوا لعبد الملك بن مروان بين الركن والمقام، أفيقال إنه هو؟ فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن أقول: إني لم أر أحدًا من المؤرخين الموثوق بهم في النقل ذكر أنه بويع لعبد الملك بن مروان بين الركن والمقام، وإنما روى ابن سعد عن الواقدي قال: "حدثني عبد الجبار بن عمارة، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: دخل الحجاج مكة فبايع من بها من قريش لعبد الملك بن مروان، ورواه ابن جرير في تاريخه من طريق ابن سعد، وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" نحو ذلك.

الرد على قوله إنه ليس من شأن عالم الغيب أن يخبر أمته بكل حادثة

الوجه الثاني: أن يقال: إن الرجل الذي يبايع له بين الركن والمقام لا يأتي من الشام، وإنما يخرج من المدينة هاربًا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام، وليس عبد الملك بن مروان من أهل المدينة، وإنما هو من أهل الشام، فلا ينطبق عليه حديث أم سلمة -رضي الله عنها-. يوضح ذلك الوجه الثالث؛ وهو أن الرجل القرشي الذي جاء ذكره في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- ليس هو من بني أمية، وإنما هو من بني هاشم، وقد جاء ذلك صريحًا في رواية عند الطبراني في الأوسط قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح". الوجه الرابع: أن يقال: إن الرجل الذي جاء ذكره في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- هو الذي يباشر البيعة بنفسه، وأما عبد الملك بن مروان فإنما أخذ البيعة له نائبه الحجاج بن يوسف، وكان عبد الملك يومئذ في الشام. وأما قوله: وليس من شأن الرسول ولا من شأن عالم الغيب أن يخبر أمته بكل حادثة تحدث من بعد موته إلى يوم القيامة. فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: لا يخفى ما في كلام ابن محمود من الخليط، ولا أدري ماذا أراد بقوله: ولا من شأن عالم الغيب ... إلى آخر كلامه، فإن كان أراد به الله -تعالى-، قيل له: إن الله حي لا يموت وليست له أمة، وإنما الأمم للرسل، والله رب الجميع. وإن كان أراد به الرسول - صلى الله عليه وسلم - قيل له: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يوصف بأنه عالم الغيب؛ لأن هذه الصفة من خصائص الرب -تبارك وتعالى- قال الله -تعالى-: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}، وقال -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية، وقال -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا. والحاصل أن كلام ابن محمود باطل على الاحتمالين، وهو من مجازفاته التي قالها ارتجالا من غير تثبت ولا تعقل. الوجه الثاني: أن يقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أمته بما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وبما يكون بعد ذلك، حتى يدخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، وما يكون بعد ذلك أيضًا، وذلك مما أظهره الله عليه من أمور الغيب، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة ذكرتها في أول كتابي "إتحاف الجماعة بما جاء في .......................................

توهمه على شيخ الإسلام ابن تيمية والرد عليه

الفتن والملاحم وأشراط الساعة"، منها حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: "لقد خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما ترك فيها شيئًا إلى قيام الساعة إلا ذكره، عَلِمَه مَن علمه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه" رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود. ومنها ما رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به، ووصله الطبراني وأبو نعيم عن عمر -رضي الله عنه- قال:" قام فينا النبي - صلى الله عليه وسلم - مقامًا، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حَفِظَ ذلك مَن حَفِظَه، ونَسِيَه مَن نَسِيَه". ومن أراد الوقوف على بقية الأحاديث في هذا المعنى فليطالعها في أول "إتحاف الجماعة"، ففيها أبلغ رد على قول ابن محمود إنه ليس من شأن الرسول أن يخبر أمته بكل حادثة تحدث من بعد موته إلى يوم القيامة. وأما قوله: وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية كلامًا ينكر فيه حديث أبدال الشام ورايات العراق، ويقول إنه لا صحة له. فجوابه: أن أقول: إني لم أر لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كلامًا في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- الوارد في المهدي، وإنما رأيت له جوابًا في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى من صفحة (433) إلى صفحة (444)، وقد سئل عن الحديث المروي في الأبدال، هل هو صحيح أم مقطوع ... ؟ إلى آخر السؤال، وفيه السؤال عن قولهم: هذا غوث الأغواث، وهذا قطب الأقطاب، وهذا قطب العالم، وهذا القطب الكبير، وهذا خاتم الأولياء، فأجاب: أما الأسماء الدائرة على ألسِنة كثير من النساك والعامة؛ مثل الغوث الذي بمكة، والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة، فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضًا مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح ولا ضعيف يحمل عليه ألفاظ الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن فيهم- يعني أهل الشام- الأبدال الأربعين رجلا، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا». هذا جواب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عما يتعلق بالأبدال، ولم يتعرض فيه لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- فإن كان ابن محمود قد وجد لشيخ الإسلام ابن تيمية كلامًا في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- فليذكر الكتاب الذي هو فيه، وليذكر الصفحة التي فيها كلامه، حتى يخرج من عهدة النقل، وإن لم .......................

يفعل فلا بُد أن يتصف بالأمر الثاني؛ وهو التقول على شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا هو الأحرى. وقد قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "المنار المنيف": "ومن ذلك أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد، كلها باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، ذكر هذا في صفحة (136) من النسخة التي حققها عبد الفتاح أبو غدة، ثم ذكر حديث أم سلمة -رضي الله عنها- مع الأحاديث الواردة في المهدي، ذكره في صفحة (145) وقال: "والحديث حسن، ومثله مما يجوز أن يقال فيه صحيح"، وقد ذكرت في أول الكتاب (¬1) أنه رواه ابن حبان في صحيحه، والطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح"، وقد أقره الحافظان؛ زين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني على هذا القول. وفي هذا رد على من طعن في الحديث وادعى أنه غير صحيح. وأما قوله: فكم من رجل من قريش تولى الحكم على الناس، وألقى الإسلام بجرانه في زمانه، واجتمعت عليهم كلمته، واستفادوا في زمانه بالإيمان والأمان وزيادة الاطمئنان، ثم نشر العدل في جميع الأوطان ومكث في ولايته سنين طويلة دون أن يسمى المهدي. فجوابه: أن يقال: إن هذه الصفات التي ذكرها ابن محمود لم توجد في أحد بعد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلا في عمر بن عبد العزيز مع قصر مدته في الولاية، وقد أجمع العلماء على أنه أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، ومع هذا فقد رُوي عن طاووس أنه قال: "هو مهدي وليس به - أي ليس بالمهدي المبشر به- إنه لم يستكمل العدل كله" ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية"، وقد رواه ابن أبي شيبة ونعيم بن حماد بإسناد حسن، عن إبراهيم بن ميسرة قال: "قلت لطاووس: عمر بن عبد العزيز المهدي، قال: كان مهديًا، وليس بذاك المهدي". وأما قوله: واجتمعت عليهم كلمته. فجوابه: أن يقال: قد وقع في هذا التعبير انقلاب مع ما فيه من الخطأ الظاهر، فأما الانقلاب ففي قوله: واجتمعت عليهم كلمته، وصوابه أن يقال: واجتمعت عليه كلمتهم، وأما الخطأ الظاهر فلأن الذين اجتمعت عليهم الكلمة منذ زمان يزيد بن معاوية إلى أن اضطرب أمر بني أمية لم يكن فيهم خليفة عادل سوى عمر بن عبد ...................... ¬

_ (¬1) ص (16، 17).

سخريته واستهزاؤه بخبر الرسول عن المهدي والرد عليه

العزيز -رحمه الله تعالى-، وقد تفرقت كلمة المسلمين في آخر زمان بني أمية، وخرج الأندلس عن ولاية بني العباس، ولم تجمع الأمة الإسلامية على إمام واحد منذ قامت الدعوة لبني العباس إلى يومنا هذا، ولا نعلم أحدًا نشر العدل في جميع الأوطان الإسلامية بعد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- سوى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى-، وبالجملة فكلام ابن محمود كله مجازفة ولا حاصل تحته. وأما قوله: أما هذا الرجل الذي لا يمكث في ولايته على الناس إلا سبع سنين فإنه فيء زائل، وكيف يملأ الأرض عدلا في سبع سنين وقد ملئت جورًا وكفرًا؟! فجوابه: أن يقال: إن الله تعالى إذا أراد شيئًا هيأ أسبابه ويسر الوصول إليه، وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد ملأ الأرض قسطًا وعدلا في عشر سنين، وقد كانت قبل ذلك مملوءة ظلمًا وجورًا، وهذا عمر بن عبد العزيز قد ملأ الأرض قسطًا وعدلا في سنتين وخمسة أشهر، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي أنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا في سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، وما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو واقع لا محالة، ولا يستنكر وقوعه إلا من يشك في عموم قدرة الرب -تبارك وتعالى- ونفوذ مشيئته، أو يشك في صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عما كان فيما مضى وما سيكون في المستقبل. وأما قوله: فهل يغزو الناس بالأحلام في المنامات، أو يغزو الناس بالملائكة أو بالجن؟! فجوابه: أن يقال: لا يخفى ما في هذا الكلام الوخيم من السخرية والاستهزاء بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي أنه يملك سبع سنين فيملأ الأرض قسطًا وعدلا، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر به فالواجب تصديقه، وأن لا يجد المسلم في نفسه حرجًا مما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا يعارض أخباره بكيف ولِم وهل، فإن هذا عنوان على فساد العقيدة، وقد تقدم عن ابن محمود أنه قال نحو هذا الكلام السيئ في صفحة (32) من رسالته، وتقدم الجواب عنه بأبسط مما هنا، فليراجع في أثناء الكتاب (¬1). ¬

_ (¬1) ص (193 - 197).

وأما قوله: وهل هذا الرجل أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي جادل وجاهد ... إلى قوله: واستقام على ذلك ثلاثًا وعشرين سنة، ولم يتمكن من ملء الأرض عدلا إلا في الجزيرة العربية، التي هي بمثابة النقطة بالنسبة إلى سعة الدنيا. فجوابه: أن يقال: قد تقدم نحو هذا الكلام في أثناء الكتاب، وتقدم الرد عليه فليراجع (¬1). وأما قوله: ومتى صدقنا بهذا الحديث، فإننا نكون ممن يفضل هذا الرجل على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -. فجوابه: أن يقال: ليس في التصديق بما جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- محذور البتة، ولا يلزم من التصديق به أن يكون المُصَدِّق قد فَضَّل المهدي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هذا من أوهام ابن محمود ومجازفاته التي قالها من غير تثبت ولا تعقل. وأما قوله: مع العلم أنه لم يذكر اسم المهدي فيه فسقط الاستدلال به، إذ الرجل مبهم، وتعيين شخص معين هو تحكم بغير علم، إذ هذا يعود إلى علم الغيب. فجوابه: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصرح باسم الشخص تارة وتارة يذكره بصفاته، وتارة يذكره بأفعاله التي يتميز بها عن غيره، وقد جاءت الأحاديث في المهدي على نحو ما ذكرنا؛ فقد جاء التصريح باسمه في عدة أحاديث تقدم ذكرها في أول الكتاب (¬2)، وجاء في بعضها أنه من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وأنه يعيش سبع سنين وفي بعض الروايات سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، وهذا يوافق ما جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن الرجل من قريش ومن بني هاشم، وأنه يعمل في الناس بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإسلام يلقي بجرانه إلى الأرض، وأنه يعيش سبع سنين، وهذه الصفات والعلامات التي جاءت في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- تقوم مقام التصريح باسم المهدي؛ لأن من عمل في الناس بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وألقى الإسلام بجرانه إلى الأرض في زمان ولايته، فهو مهدي بلا شك، سواء جاء التصريح باسمه في الحديث أو لم يجيء، ولهذا أورده غير واحد من أكابر العلماء مع الأحاديث الدالة على خروج المهدي في آخر الزمان؛ ومنهم عبد الرازق في مصنفه، وأبو داود في سننه، وابن حبان في صحيحه، وابن القيم في كتابه "المنار المنيف"، وابن كثير في كتابه "النهاية"، ........................ ¬

_ (¬1) ص (193 - 197). (¬2) ص (12 - 17).

الرد على كلامه في حديث علي بن أبي طالب في المهدي

وغيرهم. وأما قوله: فسقط الاستدلال به. فجوابه: أن يقال: إن الساقط في الحقيقة قول من رد الحديث الصحيح وأطرحه، وقابل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسخرية والاستهزاء، ولم يبال بما يترتب على ذلك من الحكم الصارم الذي لا يخفى على طلبة العلم. وأما قوله: وتعيين شخص معين هو تحكم بغير علم، إذ هذا يعود إلى علم الغيب. فجوابه: أن يقال: قد جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- من ذكر صفات المهدي وأفعاله ما يقوم مقام التصريح باسمه، ومن كان سالمًا من اتِّباع الهوى والتقليد للعصريين الذين يعتمدون على تفكيراتهم ونظرياتهم لم يخف عليه ذلك. ويقال أيضًا: إن الخليق بوصف التحكم بغير علم والرجم بالغيب من يبالغ في إنكار المهدي، ويقول في صفحة (37): إنه من المحال أن يكون على صفة ما ذكروا، ويقول أيضًا في صفحة (42): على أن وجود رجل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا يحتمل أن يكون من المحال، ويقول أيضًا في صفحة (3): ولن يزالوا يقاتلون كل من يدعي ذلك- أي من يدعي أنه المهدي- حتى تقوم الساعة، ويقول أيضًا في صفحة (44): وقد صارت دعوى المهدي والاتصاف بالأوصاف المذكورة مركبًا للكذابين الدجالين، فكل واحد منهم يحاول أن يكون هو، فيقع الناس في مشكلة لم تحل، وفتنة لا تنتهي، يتوارثها جيل بعد جيل حتى تقوم الساعة. فهذا هو الرجم بالغيب والقول بغير علم، وأما الاستدلال بما جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- من صفات المهدي وأفعاله، ومقارنتها بما جاء عن علي وابن مسعود وأبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهم- فهذا من رد المجمل إلى المفسر، وليس من التحكم بغير علم كما قد توهم ذلك ابن محمود. وقال ابن محمود في صفحة (37): "الحديث السادس: روى أبو داود بسنده إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث بن حران، على مقدمته رجل يقال له منصور، يوطِّئ أو يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجبت على كل مؤمن نصرته، أو قال: ............

الرد على وهمه في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستلقون بعدي أثره"

إجابته». ثم أجاب ابن محمود بقوله: إن هذا الحديث هو من جملة ما أورده أبو داود في سننه، وإنه يبعد كل البعد عن المعنى الذي أرادوا، فليس فيه ذكر للمهدي قطعًا لا باللفظ ولا بالمعنى، فليس هو بصحيح ولا بصريح ولا متواتر، وإن أمارات الكذب تلوح عليه جلية؛ إذ لا يوجب الرسول على أمته البيعة لرجل مجهول اسمه الحارث يخرج من وراء النهر، ويوطئ الملك لآل محمد". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن ابن محمود قد صحَّف في هذا الحديث وغيَّر فيه، فقال: «الحارث بن حران»، وصوابه «الحارث حراث» أي زراع، وقال أيضًا: «وجبت على كل مؤمن نصرته»، وصوابه «وجب على كل مؤمن نصره». الوجه الثاني: أن يقال: هذا الحديث ضعيف الإسناد فلا يعتمد عليه. الوجه الثالث: أن يقال: لو فرضنا أن الحديث صحيح، فليس الحارث هو المهدي الذي يبايع له كما قد توهم ذلك ابن محمود، وإنما هو من أنصار المهدي كما يدل على ذلك قوله في الحديث: «يوطئ أو يمكن لآل محمد». وقال ابن محمود في صفحة (48): "والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل بيته: «إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تروني على الحوض» ". والجواب: أن يقال: هذا من الأوهام التي حصلت لابن محمود بعد توسعه في العلوم والفنون، وهو خلاف الواقع في الحقيقة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل هذه المقالة لأهل بيته، وإنما قالها للأنصار، حين قسم غنائم حنين، فأعطى المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئًا، فوجدوا في أنفسهم إذ لم يصبهم ما أصاب الناس من الغنيمة، فخطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر لهم ما أنعم الله به عليهم من الهداية بسببه والإلفة والغنى، ثم قال في آخر خطبته: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق عن أنس بن مالك وعبد الله بن زيد بن عاصم -رضي الله عنهما-. وفي الصحيحين وغيرهما عن أسيد بن حضير -رضي الله عنه- أن رجلا من الأنصار قال: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملت فلانًا؟ فقال: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض». وفي صحيح البخاري أيضًا عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار ليكتب لهم بالبحرين، فقالوا: لا والله حتى تكتب لإخواننا من قريش .............

الرد على كلامه في حديث آخر عن علي -رضي الله عنه-

بمثلها، فقال ذلك لهم ما شاء الله كل ذلك يقولون له، قال: «فإنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض». وقال ابن محمود في صفحة (48) وصفحة (49): "الحديث السابع: روى الإمام أحمد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا ياسين العجلي، عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية، عن أبيه، عن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة». وقد رأيت من ينتقد هذا الحديث قائلا: والعجيب أن يكون المهدي بعيدًا عن التوفيق والفهم والرشد، ثم يهبط عليه الصلاح في ليلة ليكون في صبيحتها داعية هداية منقذ أمة، ورواه ابن ماجة عن عثمان بن أبي شيبة، وقال: ياسين العجلي ضعيف، فهذا من جملة الأحاديث التي فيها التصريح باسم المهدي لكنها ليست بصحيحة كما أشار ابن ماجة إلى تضعيفه، ومن الأمر العجيب في هذا الحديث كون المهدي بعيدًا عن الهداية والتوفيق والرشد، ثم يهبط عليه الصلاح في ليلة فيكون في صبيحتها هاديًا مهديًا، ومنقذ أمة من جورها وفجورها". والجواب: أن يقال: أما حديث علي -رضي الله عنه- فهو حديث حسن، وقد صحَّحه أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد، وقد ذكرت كلام العلماء في ياسين العجلي في أول الكتاب فليراجع (¬1). وأما قوله: وقد رأيت من ينتقد هذا الحديث ..... إلى آخره. فجوابه: أن يقال: هذا الكلام لأبي عبية في تعليقه على النهاية لابن كثير، وقد ذكرته في صفحة (9) من الجزء الثاني من كتابي "إتحاف الجماعة"، وقلت في الجواب عنه: "من علم أن الله على كل شيء قدير، وأن الخير كله في يديه، وأنه إذا أراد بعبد خيرًا هيَّأه لذلك متى أراد، لم يكن عنده شك ولا ارتياب فيما جاء في هذا الحديث، وأما استبعاد ذلك والتعجب من وقوعه فإنما هو ناشئ عن التردد في كمال قدرة الرب -تبارك وتعالى- ونفوذ مشيئته وإرادته". وقوله: يصلحه الله في ليلة يحتمل معنيين؛ أحدهما: أن يكون المراد بذلك أن الله يصلحه للخلافة أي يهيؤه لها، والثاني: أن يكون متلبسًا ببعض النقائص، فيصلحه الله ويتوب عليه، وهذا المعنى هو الذي قرره ابن كثير في كتابه "النهاية" مع الكلام على حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في ذكر الرايات السود التي تخرج من خراسان لنصرة المهدي وإقامة سلطانه. ¬

_ (¬1) ص (15، 16).

الرد على تقوله على ابن ماجة

وأما قوله: ورواه ابن ماجة عن عثمان بن أبي شيبة، وقال: ياسين العجلي ضعيف. فجوابه: أن يقال: هذا من التقول علي ابن ماجة، فإنه لم يتكلم في هذا الحديث بشيء، فضلا عن تضعيف ياسين العجلي. وأما قوله: فهذا من جملة الأحاديث التي فيها التصريح باسم المهدي، لكنها ليست بصحيحة كما أشار ابن ماجة إلى تضعيفه. فجوابه: أن أقول: قد ذكرت قريبًا أن هذا الحديث حسن، وأن أحمد محمد شاكر قد صحَّحه. وأما قوله: كما أشار ابن ماجة إلى تضعيفه. فجوابه: أن يقال: إن الله -تعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. وإنا نطالب ابن محمود بذكر الصفحة التي أشار ابن ماجة فيها إلى تضعيف حديث علي -رضي الله عنه-، ولن يجد إلى ذلك سبيلا. وأما قوله: ومن الأمر العجيب في هذا الحديث ..... إلى آخر كلامه. فجوابه: أن يقال: هذا مما أخذه ابن محمود من كلام أبي عبية في تعليقه على النهاية لابن كثير، مع أن ابن محمود قد ذم المقلدين في صفحة (5) وصفحة (8) من رسالته، وقال في صفحة (8) ما نصه: "والمقلد لا يعد من أهل العلم" فقد حكم على نفسه بأنه لا يعد من أهل العلم، وكلام أبي عبية صريح في السخرية مما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي، ومع هذا فقد قلده ابن محمود واعتمد على كلامه الباطل في رد الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذا دليل على فساد التصور عند الرجُلين، والحكم فيمن سخر بشيء مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخفى على طالب العلم. وقال ابن محمود في صفحة (49): "الحديث الثامن: روى أبو داود عن هارون بن المغيرة، حدثنا ابن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي إسحاق قال: نظر علي إلي ابنه فقال: «إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق، ثم ذكر قصة يملأ الأرض عدلا» وهذا يعد من كلام علي -رضي الله عنه- وليس بحديث عن رسول الله، فسقط الاحتجاج به، ومن المحتمل أن يكون مكذوبًا على عليٍّ به". والجواب: أن يقال: هذا الحديث ضعيف فلا يعتمد عليه، وقد أسقط ابن ............

الرد على كلامه في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-

محمود منه اسم الحسن، لأنه قد جاء فيه عن أبي إسحاق قال: قال عليٌّ -رضي الله عنه- ونظر إلى ابنه الحسن فقال فذكره، وأسقط ابن محمود أيضًا منه اسم عمرو بن أبي قيس. وأما قوله: وهذا يعد من كلام علي -رضي الله عنه- وليس بحديث عن رسول الله، فسقط الاحتجاج به. فجوابه: أن يقال: لو كان هذا الحديث صحيح الإسناد لما سقط الاحتجاج به من أجل أنه موقوف على عليٍّ -رضي الله عنه-؛ لأن الأخبار عن المغيبات لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف، ولكن السبب في ترك الاحتجاج به كونه ضعيف الإسناد. وأما قوله: ومن المحتمل أن يكون مكذوبًا على عليٍّ به. فجوابه: أن يقال: إن الطعن في الحديث لا يكون بالاحتمال، وإنما يكون ببيان العلة القادحة في الإسناد، وليس في إسناد حديث علي -رضي الله عنه- أحد ممن يتهم بالكذب حتى يتجه ما أبداه ابن محمود من احتمال أنه مكذوب على عليٍّ -رضي الله عنه-، وإنما العلة فيه ما قاله المنذري في "تهذيب السنن" إنه منقطع؛ لأن أبا إسحاق السبيعي رأى عليًا -رضي الله عنه- رؤية، وقال فيه أبو داود: حُدِّثتُ عن هارون بن المغيرة، وهذه العلة تقتضي ضعف الحديث، ولا يتجاوز ذلك إلى القول بأنه مكذوب. وقال ابن محمود في صفحة (49) وصفحة (50): "الحديث التاسع: روى أبو داود في سننه، من حديث سفيان الثوري بسنده، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم، حتى يبعث فيه رجلا مِنِّي أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا» ورواه أحمد والترمذي، وقال: "حسن صحيح". ثم أجاب ابن محمود بقوله: إن علماء الحديث قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت؛ كهذه الأحاديث وأمثالها؛ لكون الغلاة قد أكثروا من الأحاديث المكذوبة عليهم، وفي صحيح البخاري عن أبي جحيفة قلت لعلي -رضي الله عنه-:" هل خصَّكم رسول الله بشيء؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يعطيه الله رجلا، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه ..........

الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر، وفي رواية: والمؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم"، ولم يذكر شيئًا من هذه الأحاديث التي هي من عالم الغيب، ولهذا تحاشى البخاري ومسلم عن إدخال شيء من أحاديث المهدي في صحيحيهما؛ لكون الغالب عليها الضعف والوضع". والجواب: أن يقال: إن أبا داود قد روي هذا الحديث من طريق عمر بن عبيد، وأبي بكر بن عياش، وسفيان الثوري، وزائدة بن قدامة، وفطر بن خليفة، كلهم عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد اقتصر ابن محمود على ذكر سفيان الثوري وأعرض عن ذكر الباقين، وهذا خطأ ظاهر، ثم إنه أورد رواية زائدة، وما زاده فطر في الحديث زعم أنها رواية سفيان، وهذا خطأ آخر، فأما حديث سفيان فلفظه عند أبي داود: «لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي». قال أبو داود: "لفظ عمر وأبي بكر بمعنى سفيان". وقد رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة، وعمر بن عبيد، كلاهما عن عاصم، ورواه أيضًا عن يحيى بن سعيد- وهو القطان- عن سفيان- وهو الثوري- عن عاصم، ورواه الترمذي من طريق الثوري، ومن طريق سفيان بن عيينة، كلاهما عن عاصم، وقال في كل منهما: "حسن صحيح"، قال: "وفي الباب عن علي، وأبي سعيد، وأم سلمة، وأبي هريرة". وأما قوله: إن علماء الحديث قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت؛ كهذه الأحاديث وأمثالها؛ لكون الغلاة قد أكثروا من الأحاديث المكذوبة عليهم. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: هلاَّ ذكر ابن محمود علماء الحديث الذين تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت، حتى ينظر في كلامه هل هو صحيح أم لا؟ فأما التقول على علماء الحديث بمجرد الدعوى فذلك مردود عليه. الوجه الثاني: أن يقال: ليس في رواة هذا الحديث الصحيح أحد من أهل البيت ولا من الغلاة في أهل البيت، ورواته كلهم ثقات، فتعرض ابن محمود له خطأ محض. الوجه الثالث: أن يقال: إن العلماء لم يتحاشوا عن الروايات الصحيحة عن أهل البيت، ففي الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم أحاديث كثيرة جدًا عنهم، كما لا يخفى على من له أدنى إلمام بالحديث.

وأما قوله بعد إيراده لحديث أبي جحيفة -رضي الله عنه- عن علي -رضي الله عنه- في شأن الصحيفة: إنه لم يذكر شيئًا من هذه الأحاديث التي هي من عالم الغيب. فجوابه: أن يقال: إن كان مراد ابن محمود أنه لم يذكر في صحيفة علي -رضي الله عنه- شيء من أخبار المهدي وغيرها مما سيكون في آخر لزمان، قيل له: إن صحيفة علي -رضي الله عنه- ليست كتابًا كبيرًا مشتملاً على ما يعلق بالأصول، حتى يتجه قوله إنه لم يذكر فيه شيء من هذه الأحاديث التي هي من عالم الغيب، وإنما اشتملت الصحيفة على أحكام قليلة من الأحكام الفروعية مما ليس له علاقة بالأمور الغيبية، فما ذكره ابن محمود ههنا ليس لذكره وجه ولا مناسبة يتعلق بها المفتونون بالطعن في أحاديث المهدي. وأما قوله: ولهذا تحاشى البخاري ومسلم عن إدخال شيء من أحاديث المهدي في صحيحيهما؛ لكون الغالب عليها الضعف والوضع. فجوابه: أن يقال: قد ذكر ابن محمود نحو هذا في صفحة (6) من رسالته، وفي صفحة (26) وصفحة (31) وصفحة (39)، وتقدم الجواب عنه مبسوطًا في أول الكتاب فليراجع (¬1). وأما قوله: لكون الغالب عليها الضعف والوضع. فجوابه: أن يقال: قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحاديث الجياد الدالة على خروج المهدي في آخر الزمان تسعة أحاديث، ولبعضها عدة طرق من الصحاح والحسان، وكل واحد من هذه الأحاديث يكفي لإثبات خروج المهدي، فكيف وقد تكاثرت وتعددت طرقها؟! وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع (¬2). وذكر ابن محمود في صفحة (50) وصفحة (51) حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- الذي رواه ابن ماجة، وفيه «ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم»، ثم قال: "إنه ضعيف عندهم لمخالفته لسائر الأحاديث، قال: ولا يَقِلُّ عن ضعف سائر الأحاديث المذكورة في المهدي". والجواب: أن يقال: لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة ما في آخر كلام ابن محمود من المجازفة والتشكيك في الأحاديث الثابتة في المهدي، وذلك في قوله في .................. ¬

_ (¬1) ص (59 - 68). (¬2) ص (9 - 17).

الرد على تقوله على القاري وتغييره في كلامه

حديث أنس -رضي الله عنه- إنه لا يقل عن ضعف سائر الأحاديث لمذكورة في المهدي، فسوَّى بينه وبين الصحاح والحسان من أحاديث المهدي، وجعل حكم الجميع واحدًا وهو الضعف، وهذا خطأ كبير وتسوية بين ما فرق الله بينه، وقد ذكرت في غير موضع أن الأحاديث الواردة في المهدي تنقسم إلى صحيح وحسن وضعيف، وذكرت أيضًا عن ابن القيم أنه قال في أحاديث المهدي: "إنها أربعة أقسام؛ صحاح، وحسان، وغرائب، وموضوعة"، وذكرت أيضًا عن الشوكاني أنه قال: "الأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثًا، فيها الصحيح والحسن والضعيف والمنجبر"، وذكرت عن صديق بن حسن أنه قال: "أحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف"، وذكرت عن عدد كثير من أكابر العلماء أنهم صححوا بعض الأحاديث الواردة في المهدي وحسنوا بعضها، وذكرت جملة من الصحاح والحسان في أول الكتاب، فليراجع جميع ما ذكرته، ففيه أبلغ رد على من توهم أن أحاديث المهدي كلها ضعيفة (¬1). وقال ابن محمود في صفحة (51): "وهنا حديث كثيرًا ما يحتج به المتعصبون للمهدي، وهو أن المهدي مع المؤمنين يتحصنون به من الدجال، وأن عيسى -عليه السلام- ينزل من منارة مسجد الشام، فيأتي فيقتل الدجال ويدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، فيقول المهدي: تقدم يا روح الله، فيقول: إنما هذه الصلاة أقيمت لك، فيتقدم المهدي ويقتدي به عيسى -عليه السلام- إشعارًا بأنه من جملة الأمة، ثم يصلي عيسى -عليه السلام- في سائر الأيام، قال علي بن محمد القاري في كتابه "الموضوعات الكبير" بأنه حديث موضوع". والجواب: أن يقال: إن ابن محمود قد نقل ههنا كلام علي القاري من كتابه المسمى "بالأسرار المرفوعة، في الأخبار الموضوعة"، ولم يذكر أنه كلام القاري، وهذا خلاف الأمانة في النقل، ثم إنه أسقط من أول كلام القاري كلمة تخالف رأيه وتهدم مراده، وهي قول القاري بعد أن ذكر فضائل بيت المقدس: "وكذا ثبت أن المهدي مع المؤمنين، يتحصنون به من الدجال .... " إلى آخر كلامه الذي ساقه ابن محمود ولم ينسبه لقائله، ولما انتهى كلام القاري تقوَّل عليه ابن محمود ونقل عنه خلاف ما في أول كلامه، وقد ذكرت كلام القاري في أثناء الكتاب مع الرد على قول ابن محمود في صفحة (9): إن الذهبي وعلي القاري قالا في حديث صلاة ................................................................ ¬

_ (¬1) تراجع (9 - 17) (41 - 43) (207، 208).

الرد على تلبيسه ومغالطاته في أحاديث المهدي

عيسى خلف المهدي إنه موضوع، وذكرت قبله الأحاديث الواردة في صلاة عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- خلف المهدي، فليراجع ذلك (¬1)؛ ليعلم ما في كلام ابن محمود من التضليل وعدم الأمانة من النقل. وقال ابن محمود في صفحة (51) وصفحة (52): "وإننا متى حاولنا جمع أحاديث المهدي التي يقولون بصحتها وتواترها بالمعنى، وقابلنا بعضها ببعض لِنستخلص منها حديثًا صحيحًا صريحًا في المهدي فإنه يعسر علينا حصوله، وكلها غير صحيحة ولا صريحة ولا متواترة بالمعنى، بل هي متعارضة ومتخالفة، وغالبها حكايات عن أحداث، ومتى حاولت جمعها نتج لك منها عشرون مهديًا، صفة كل واحد غير الآخر، مما يدل بطريق اليقين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم بها؛ منهم مثلا (1) مهدي يخرج من اثني عشر خليفة الذين يستقيم بهم الدين. (2) ومهدي استخرجوه من حديث «لو لم يبق من لدنيا إلا يوم لبعث الله رجلا منا يملؤها عدلا كما ملئت جورًا». (3) ومهدي منا أجلي الجبهة أقنى الأنف. (4) ومهدي يقول فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي من عترتي ومن ولد فاطمة». (5) ومهدي يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة إلى مكة فيبايعونه بين الركن والمقام. (6) ومهدي يخرج من وراء النهر يقال له الحارث بن حران، وعلى مقدمته رجل يقال له منصور، يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (7) ومهدي قال فيه رسول الله: «المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة». (8) ومهدي قال فيه رسول الله: «إنا أهل البيت أختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون ذلا وتشريدًا من بعدي، حتى يأتي قوم من المشرق معهم رايات سود، فيسألون الحق فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، ويعطون ما سألوا، فلا يقبلوها حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قسطًا كما ملئت جورًا». (9) ومهدي أخواله كلب. (10) ومهدي قال فيه رسول الله: «لا مهدي بعدي إلا عيسى ابن مريم». وهذه الأحاديث هي التي يزعم المتعصبون لصحة خروج المهدي بأنها صحيحة ومتواترة بالمعنى، وهي لا صحيحة ولا صريحة ولا متواترة". والجواب: أن يقال: قد اعترف ابن محمود بما يدل على عدم معرفته بأحاديث المهدي، وأنه متى جمعها وقابل بعضها ببعض ليستخلص منها حديثًا صحيحًا صريحًا في المهدي فإنه يعسر عليه حصوله، وأقول: إذا كان الأمر قد بلغ بابن محمود ........................... ¬

_ (¬1) ص (91 - 93).

إلى هذه الحالة التي يرثى لصاحبها، فإنه يحرم عليه أن يتهجم على أحاديث المهدي، ويحكم عليها بالوضع، ويصفها بالصفات الذميمة، فقد قال الله -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}. ومن رزقه الله أدنى علم ومعرفة وكان سالمًا من اتباع الهوى والتقليد للعصريين لم يعسر عليه حصول الأحاديث الصحيحة الصريحة في المهدي {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}. ويقال أيضًا: لا يخفى ما في كلام ابن محمود من التلبيس والمغالطة، وبيان ذلك من وجوه؛ أحدها: إنه حكم على أحاديث المهدي كلها بأنها غير صحيحة ولا صريحة ولا متواترة بالمعنى، وأقول: هذا مردود بما ذكرته في أول الكتاب من الأحاديث التي بعضها من الصحاح وبعضها من الحسان، وقد جاء التصريح باسم المهدي في سبع روايات عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وفي حديثين عن علي -رضي الله عنه-، وفي حديثين عن أبي هريرة وجابر -رضي الله عنهما-، فليراجع ما ذكرته في أول الكتاب (¬1)، ففيه أبلغ رد على قول ابن محمود إن أحاديث المهدي كلها غير صحيحة ولا صريحة، وليراجع أيضا ما ذكرته في أول الكتاب (¬2) عن عدد كثير من أكابر العلماء أنهم صححوا بعض أحاديث المهدي، وما صرح به بعضهم من أنها متواترة، ففي ذلك أبلغ رد على قول ابن محمود إنها غير صحيحة ولا متواترة. الوجه الثاني: إن ابن محمود زعم أن أحاديث المهدي متعارضة ومتخالفة، وأقول: هذا غير صحيح؛ لأنه ليس بين الأحاديث الثابتة في المهدي تعارض ولا تخالف البتة، وإنما التعارض والتخالف في الأفهام القاصرة، وقد تقدم الجواب عن هذا الزعم الباطل مع الكلام على قول ابن محمود في صفحة (6): ومنها تناقض هذه الأحاديث وتعارضها. فليراجع ذلك في أول الكتاب (¬3). الوجه الثالث: إن ابن محمود زعم أن غالب أحاديث المهدي حكايات عن أحداث، وأقول: هذا غير صحيح، فإن الأحاديث الثابتة في المهدي كلها تدل على خروجه في آخر الزمان، وأما الأحداث التي وقعت من الذين ادَّعوا المهدية كذبًا وزورًا فلا علاقة لها بأحاديث المهدي، وليس شيء من أحاديث المهدي ينطبق عليها. ¬

_ (¬1) ص (12 - 17). (¬2) ص (69 - 74). (¬3) ص (41 - 45).

الوجه الرابع: إن ابن محمود زعم أنه متى حاول أحد جمع أحاديث المهدي نتج له منها عشرون مهديًا، صفة كل واحد غير الآخر، وأقول: هذه مغالطة مردودة بالأحاديث الثابتة في المهدي؛ لأنها تدور على شخص واحد يخرج في آخر الزمان، حتى لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لبعثه الله فيه، وهو من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعترته، وهو أجلى وأقنى، وهو الذي يخرج من المدينة هاربًا إلى مكة، فيبايع له بين الركن والمقام، وهو الذي يعمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وهو من الخلفاء الذين يستقيم بهم الدين، وأما الذي جاء فيه أنه يخرج من وراء النهر يقال له الحارث فليس هو المهدي، وإنما هو من أعوان المهدي وأنصاره، وقد سمَّاه ابن محمود الحارث بن حران بالنون وكرر ذلك في ثلاثة مواضع من رسالته، وصوابه "الحارث حراث" بالثاء المثلثة أي زرَّاع، وهذه صفة له وليست اسمًا لأبيه كما توهم ذلك ابن محمود، وقد ذكرت قريبًا أن الحديث الوارد فيه ضعيف الإسناد، وأما الذي أخواله من كلب فليس بمهدي، وإنما هو الذي يبعث الجيش لقتال المهدي فيهزمهم المهدي وأصحابه ويظهرون عليهم، وأما الحديث الذي فيه «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم» فهو ضعيف جدًا، وإنما أورده ابن محمود ههنا للمغالطة، وكذلك إيراده للحارث، والذي أخواله من كلب، فكل ذلك للمغالطة، بل كل ما ذكره من تعدد المهديين فكله تلبيس ومغالطة. الوجه الخامس: أن يقال: إن ابن محمود لم يذكر في أغلوطته واستنتاجه سوى عشرة من الذين زعم أنه يقال إنهم مهديون ولم يستنتج بقية العشرين، ولو وجد إلى ذلك سبيلا لبادر إلى ذكرهم للاستكثار بذلك من المغالطة والتشكيك في أحاديث المهدي، ثم إن العشرة الذين استنتجهم يرجعون في الحقيقة إلى أربعة؛ وهم المهدي الذي تنطبق عليه جميع الأحاديث الثابتة في المهدي، والحارث الذي هو من أعوان المهدي وأنصاره وليس بمهدي، والرجل الذي أخواله من كلب وليس بمهدي، وما جاء في الحديث الضعيف أنه لا مهدي إلا عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-. وبهذا يضمحل ما روَّجه ابن محمود من تعدد المهديين، ويعود الأمر إلى الحقيقة الثابتة عند أهل العلم، وهي أن جميع الصفات والعلامات المذكورة في الأحاديث الثابتة تدور على شخص واحد، يخرج في آخر الزمان ويسمى بالمهدي.

وأما قوله: وهذه الأحاديث هي التي يزعم المتعصبون لصحة خروج المهدي بأنها صحيحة ومتواترة بالمعنى، وهي لا صحيحة ولا صريحة ولا متواترة. فجوابه: أن يقال: إن الأحاديث التي أشار إليها ابن محمود بالأرقام وأنهاها إلى عشرة وهي في الحقيقة تسعة تنقسم إلى صحيح وحسن وضعيف، فأما الصحيح منها فهي ثلاثة أحاديث؛ أولها حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- في ذكر الخلفاء الاثني عشر، وهو في الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ومع هذا فقد زعم ابن محمود أنه من الأحاديث التي ليست بصحيحة، وهذه المكابرة نموذج من تحقيقه الذي زعم أنه تحقيق معتبر وأنه لا مزيد عليه. ثانيها حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي أوله: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم» الحديث، وقد رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان بأسانيد صحيحة، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، ومع هذا فقد زعم ابن محمود أنه ليس بصحيح، وهذا أيضًا من مكابراته. ثالثها حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- الذي أوله: «لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي أجلى أقنى» الحديث، وقد رواه الإمام أحمد بأسانيد صحيحة، بعضها على شرط الشيخين وبعضها على شرط مسلم، ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في تلخيصه، والرواية التي فيها: «أجلى أقنى» من روايات أحمد، وإسنادها صحيح على شرط مسلم، ومع هذا فقد زعم ابن محمود أنه ليس بصحيح وهذا أيضًا من مكابراته. وأما الحسن منها فهي ثلاثة أحاديث؛ أولها حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»، رواه أبو داود، وابن ماجة، والحاكم في مستدركه، وقد أورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة، وقال العزيزي في "السراج المنير، شرح الجامع الصغير": "إسناده حسن". ثانيها حديث أم سلمة -رضي الله عنها- الذي أوله: «يكون اختلاف عند موت خليفة» الحديث، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبان في صحيحه، والطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح"، وقال ابن القيم في "المنار المنيف": "والحديث حسن، ومثله مما يجوز أن يقال فيه صحيح". ثالثها حديث علي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وإسناد كل منهما حسن.

الرد على أنواع من تلبيسه وتمويهه

وأما الضعيف منها فهي ثلاثة أحاديث؛ وهي التي ذكرها ابن محمود في رقم (6) ورقم (8) ورقم (10)، فالأول منها حديث علي -رضي الله عنه- الذي أوله: «يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث حراث» الحديث، رواه أبو داود. والثاني حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل فتية من بني هاشم» الحديث، رواه ابن ماجة. والثالث حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- الذي فيه: «ولا مهدي إلا عيسى بن مريم» رواه ابن ماجة، والحاكم. فهذه الأحاديث الثلاثة لا أعلم أحدًا من العلماء صحَّحها، وكذلك الحديث الذي ذكره ابن محمود في صفحة (50)، وهو ما رواه ابن ماجة والطبراني في الأوسط، عن الحارث بن جزء الزبيدي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج ناس من المشرق فيوطِّئون للمهدي يعني سلطانه» وهذا الحديث لا أعلم أحدًا صححه. وقد زعم ابن محمود في صفحة (51) وفي آخر صفحة (52) أن القائلين بصحة خروج المهدي قد صححوا هذه الأحاديث الضعيفة، وهذا من الخطأ والتقول على علماء السنة؛ فإنهم لم يصححوا شيئًا من الأحاديث الأربعة الضعيفة. ثم إن ابن محمود طعن في الصحاح والحسان من الأحاديث التي ذكرها فيما زعم أنه تحقيق معتبر، وأشار إليها بالأرقام في آخر صفحة (51) وصفحة (52)، وأنهاها إلى عشرة، وجعل الصحاح والحسان والضعاف سواء، وطعن في الجميع، وزعم أنها غير صحيحة ولا صريحة، وأنها متعارضة ومتخالفة، وغالبها حكايات عن أحداث، وهذا من مجازفاته وتلبيسه وتشكيكه في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "مَن رد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو عل شفا هلكة"، وقد ذكرت أقوال العلماء في التشديد على من رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الكتاب، فلتراجع (¬1). وقال ابن محمود في صفحة (43): (فصل من كلام ابن القيم في كتابه "المنار المنيف في الصحيح والضعيف") ثم ذكر أربعة من الأحاديث الضعاف التي ذكرها ابن القيم -رحمه الله تعالى-، وأعرض عن الأحاديث التي صححها في صفحة (143) وصفحة (144) وصفحة (145) وصفحة (147) وصفحة (148)؛ فالأول عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، والثاني عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، والثالث عن أبي ................................ ¬

_ (¬1) ص (19، 20) ص (52، 53).

سعيد الخدري -رضي الله عنه-، والرابع عن أم سلمة -رضي الله عنها-، والخامس عن جابر -رضي الله عنه-، وأعرض أيضًا عن قول ابن القيم في صفحة (148) بعد أن ساق بعض الأحاديث الواردة في المهدي: "وهذه الأحاديث أربعة أقسام صحاح وحسان وغرائب وموضوعة"، وأعرض أيضًا عما نقله في صفحة (142) عن أبي الحسين الآبري أنه قال: "قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي عيسى خلفه". وقد أقر ابن القيم قول الآبري ولم يتعقبه بشيء. وأعرض ابن محمود أيضًا عما ذكره ابن القيم في صفحة (150) وصفحة (151) عن المهدي، وأنه من ذرية الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وأنه يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورًا وظلمًا فيملؤها قسطًا وعدلا، قال: "وأكثر الأحاديث على هذا تدل"، وما ذكره أيضًا من السِّر في كون المهدي من ذرية الحسن -رضي الله عنه-، ثم ما أورده في صفحة (151) وصفحة (152) من حديث أبي سعيد، وأبي أمامة، وابن عباس -رضي الله عنهم- في ذكر المهدي، وقوله بعد إيرادها ما نصه: "وهذه الأحاديث وإن كان في إسنادها بعض الضعف والغرابة فهي مما يقوي بعضها بعضًا ويشد بعضها ببعض، ثم قال: فهذه أقوال أهل السنة"، فكل هذا قد أعرض عنه ابن محمود؛ لكونه يخالف رأيه وما تلقاه عن بعض العصريين من إنكار خروج المهدي وإطراح الأحاديث الثابتة فيه. ثم إن ابن محمود نقل من كلام ابن القيم في مهدي الرافضة الإمامية وهو محمد بن الحسن العسكري، ومهدي المغاربة وهو محمد بن تومرت، ومهدي الملاحدة الباطنية وهو عبيد الله بن ميمون القداح، ثم قال في صفحة (55): "فهذا كلام ابن القيم قد أنحى فيه بالملام وتوجيه المذام على سائر الفرق التي تدعي بالمهدي، ولم يستثن فرقة من فرقة؛ لكونها دعوى باطلة من أصلها، ويشير إلى أن فكرة المهدي المنتظر قد سبق إلى ادعائها كثيرون، وأنهم كلهم لم يعدلوا في الأرض بل ملئوا الدنيا جورًا وظلمًا وعدوانًا، وسفكوا الدماء واستباحوا المحارم خلاف ما يدعون إليه". والجواب: أن يقال: إن ابن القيم -رحمه الله تعالى- إنما أنحى بالملام على الرافضة الإمامية، وعلى محمد بن تومرت، وعلى عبيد الله بن ميمون القداح، فأما أهل السنة .......

فإنه ذكر أقوالهم الثلاثة في المهدي في صفحة (148) وما بعدها إلى أول صفحة (152)، ورجح القول الثالث من أقوالهم في صفحة (151)، وذكر أن أكثر الأحاديث تدل عليه، وهذا نَصُّ كلامه، قال: "القول الثالث: أنه رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورًا وظلمًا فيملؤها قسطًا وعدلا، وأكثر الأحاديث على هذا تدل". انتهى، ثم ذكر السر في كون المهدي من ولد الحسن -رضي الله عنه-، فكلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- صريح في موافقة أهل السنة على القول بخروج المهدي في آخر الزمان، ومن طالع ما ذكره في كتابه "المنار المنيف" من أول صفحة (142) إلى أثناء صفحة (152) من النسخة التي حققها عبد الفتاح أبو غدة، علم يقينًا أن كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- يخالف ما ذهب إليه ابن محمود من إنكار خروج المهدي في آخر الزمان، وعلم يقينًا أن ابن القيم إنما أنحى بالملام وتوجيه المذام على أهل البدع الذين ادعوا المهدية كذبًا وزورًا، وعلم يقينًا ما في كلام ابن محمود من التمويه والتلبيس على ضعفة العقول والأفهام، وقد أمر الله -تعالى- بالتقوى والصدق، ونهى عن لبس الحق بالباطل وعن كتمان الحق، فقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، وقال -تعالى-: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. وزعم ابن محمود في صفحة (56) أن الجهل أدى إلى وضع خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة، وأن مثل هذه الأحاديث هي التي أفسدت العقول، وجعلتهم يتبعون الملاحدة والمفسدين من دعاة المهدية. والجواب: أن يقال: بل الجهل كل الجهل في معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي وإطراحها والاستخفاف بشأنها، كما قد فعل ذلك بعض العصريين ومن قلدهم وسار على نهجهم الباطل، وأما الأحاديث الواردة في المهدي فليست كلها موضوعة كما قد زعم ذلك ابن محمود ومن كان على شاكلته، بل فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وقد ذكرت أقوال العلماء فيها في أول الكتاب، فليراجع ذلك (¬1)، ففيه أبلغ رد على ابن محمود. وأما زعمه أن الأحاديث الواردة في المهدي هي التي أفسدت العقول. فجوابه: أن يقال: بل الذي أفسد العقول عند بعض الناس هو مخالفتهم للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستخفافهم بها، وتمسكهم بأقوال المنحرفين عن ..................... ¬

_ (¬1) ص (41 - 45).

الرد على زعمه أن الإيمان بخروج المهدي ليس من العقائد الدينية وأن علماء السنة لم يدخلوا ذلك في عقائدهم

السُنة من العصريين، وهم الذين يعتمدون على النظريات والأفكار الخاطئة، ولا يبالون برد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كانت مخالفة لنظرياتهم وأفكارهم. وأما قوله: وجعلهم يتبعون الملاحدة والمفسدين من دعاة المهدية. فجوابه: أن يقال: لا عبرة بالجهال الذين يتبعون الملاحدة والمفسدين في الأرض فإنهم اتباع كل ناعق، وقد اتبع فئام من الناس كثيرًا من الدجالين المتنبئين، وكما أن ذلك لا يقدح في نبوة الأنبياء، فكذلك اتِّباع الجهال للملاحدة والمفسدين الذين ادعوا المهدية كذبًا وزورًا، فإنه لا يقدح في الأحاديث الثابتة في المهدي الذي يخرج في آخر الزمان. وقال ابن محمود في صفحة (56) وصفحة (57): "وإنه على فرض صحة هذه الأحاديث أو بعضها أو تواترها بالمعنى حسب ما يدعون، فإنها لا تعلق لها بالعقيدة الدينية، ولم يدخلها علماء السنة في عقائدهم؛ كشيخ الإسلام بن تيمية في رسائله الواسطية، والأصفهانية، والسبعينية، والتسعينية، ولم تُذكر في عقيدة الطحاوية وشرحها، ولا عقيدة ابن قدامة، ولا في الإبانة في أصول الديانة للأشعري، فعدم إدخالها في عقائدهم مما يدل على أنهم لم يعتبروها من عقائد الإسلام والمسلمين، ثم إن غالب الأحاديث التي زعموها صحيحة ومتواترة بالمعنى ما هي إلا حكاية عن أحداث تقع مع أشخاص؛ كرجل هرب من المدينة إلى مكة فيبايع له بين الركن والمقام، ورجل يخرج من وراء النهر فيبايع له، ورجل يخرج بعد موت خليفة، ورجل يخرج اسمه الحارث، ورجل يصلحه الله في ليلة، فهذه كلها ليست من العقائد الدينية كما زعم دعاة المهدي والمتعصبين لصحة خروجه، لهذا يجب طرح فكرة المهدي جانبًا ... إلى أن قال: وأرجو بهذا البيان أن تستريح نفوس الحائرين، ويعرفوا رأي أهل العلم والدين في هذه المشكلة التي تُثَار من آنٍ لآخر". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب مما مضى وما سيأتي، فإنه يجب الإيمان به، وهو مما يتعلق بالعقائد الدينية، سواء ذكره العلماء في عقائدهم أو لم يذكروه، قال الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقال -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. ومن ذلك ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما سيكون بعده إلى قيام الساعة، وما بعد قيامها إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وما يكون بعد ذلك مما ......................

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية

جاءت به الأخبار الثابتة، فكل ذلك حق يجب الإيمان به، سواء ذكر في كتب العقائد أولم يذكر. الوجه الثاني: أن يقال: قد ذكر غير واحد من العلماء في عقائدهم أنه يجب الإيمان بكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يشمل ما ذكروه في عقائدهم وما لم يذكروه، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في "العقيدة الواسطية": "ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتِّباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا" انتهى. وقال شارح العقيدة الطحاوية: "لا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانًا عامًا مجملا"، وقال الطحاوي: "فإنه ما سلم في دينه إلا من سلّم لله -عز وجل- ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وردّ علم ما اشتبه عليه إلى عالِمِه"، قال شارح العقيدة الطحاوية: "أي سلَّم لنصوص الكتاب والسنة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة"، وقال الشارح أيضًا: "الواجب كمال التسليم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن نعارضه بخيال باطل، نسميه معقولا، أو نحمله شبهة أو شكا، أو نقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فنوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما نوحد المُرسِل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما؛ توحيد المُرسِل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يوقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفَّذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره، وإلا حرَّفه عن مواضعه وسمَّى تحريفه تأويلا وحملا، فقال نؤوله ونحمله. فلأن يلقى ربه بكل ذنب ما خلا الإشراك بالله خير له من أن يلقاه بهذه الحال، بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه كأنه سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهل يسوغ أن يؤخر قبوله والعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وكلامه ومذهبه؟ بل كان الفرض المبادرة إلى امتثاله من غير التفات إلى سواه، ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان، بل يستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتتلقى نصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبوله على موافقة فلان دون فلان كائنًا من كان".

أقوال بعض العلماء في قبول الأحاديث الثابتة والتشديد على من خالفها

وقال الطحاوي أيضًا: "ولا تَثبُت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام"، قال الشارح: "أي لا يثبت إسلام من لم يُسلِّم لنصوص الوحيين، ويَنقَد إليها، ولا يعترض عليها، ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه، روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري -رحمه الله- أنه قال: "مِن الله الرسالة، ومِن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"، قال الشارح: "وهذا كلام جامع نافع". انتهى. وقد ذكرت في أول الكتاب قول الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: "إذا حدَّث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ثابت، ولا يترك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث أبدًا، إلا حديث وُجد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر يخالفه". وذكرتُ أيضًا قول الإمام أحمد: "كل ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إسناد جيد أقررنا به، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره، قال الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ". وذكرت أيضًا قول ابن شاقلا: "من خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها ولا جرح في ناقليها، فقد هجم على رد الإسلام؛ لأن الإسلام وأحكامه منقولة إلينا بمثل ما ذكرت". وذكرت أيضا قول أبي الحسن الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين": "جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يردون من ذلك شيئًا". وذكرت أيضًا قول الموفق أبي محمد المقدسي في كتابه "لمعة الاعتقاد": "ويجب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصح به النقل عنه فيما شهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه؛ مثل حديث الإسراء والمعراج، ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليه السلام- فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وأشباه ذلك مما صح به النقل". انتهى. وفيما ذكرته عن هؤلاء الأئمة أبلغ رد على من استهان بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي ولم يبال بردها وإطراحها زاعمًا أنه لا تعلق لها بالعقيدة. وإذا علم هذا فقد صرح الإمام أبو محمد البربهاري في كتابه "شرح السنة" بذكر المهدي فقال: "والإيمان بنزول عيسى ابن مريم، ينزل فيقتل الدجال، ويتزوج، ...................

قول الآبري إن أحاديث المهدي متواترة وإقرار بعض أكابر العلماء له على ذلك

ويصلي خلف القائم من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ". انتهى، وقد نقله عنه القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة، وقد كان البربهاري في آخر القرن الثالث من الهجرة وأول القرن الرابع، وهو من أعيان العلماء، ومن الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد، وهو شيخ الحنابلة في وقته. وقد ذكرتُ في أول الكتاب قول أبي الحسين الآبري في كتابه: "مناقب الشافعي": "قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلي عيسى خلفه". انتهى، وقد نقله عنه جماعة من أكابر العلماء وأقروه، وقد ذكرت أسماءهم في أول الكتاب، فليراجع ما تقدم (¬1). الوجه الثالث: أن يقال: إن العلماء الذين ذكروا بعض أشراط الساعة في كتب العقائد إنما ذكروا منها ما لا نظير له وما ليس بمألوف عند الناس؛ مثل خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم من السماء، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة من الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، فأما ما كان له نظير وكان مألوفًا عند الناس فهذا مما لا تمس الحاجة إلى ذكره في العقائد، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدة أشياء من هذا القبيل تكون في آخر الزمان؛ مثل خروج القحطاني والجهجاه، والخليفة الذي يحثو المال حثوًا ولا يعده عدًا، وأخبر أيضًا بالجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف بهم بالبيداء، وأخبر أيضًا بالرجل المؤمن الذي يخرج من المدينة فيقول للدجال: أشهد أنك الدجال، فيقتله الدجال ثم يحييه، وأخبر أيضًا بالرجل الأسود الأفحج الذي يقلع الكعبة حجرًا حجرًا، وأخبر أيضًا بانحسار الفرات عن كنز من ذهب أو قال عن جبل من ذهب، إلى غير ذلك من الأمور التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ستكون في آخر الزمان، والأحاديث الواردة فيها بعضها في الصحيحين وبعضها في صحيح مسلم، ومع هذا لم تُذكر في كتب العقائد، فهل يقول عاقل إن عدم إدخالها في كتب العقائد يدل على أنها ليست بصحيحة، وأنه لا يجب الإيمان بوقوعها، وأنها لا تعلق لها بالعقيدة الدينية؟ كلا، لا يقول ذلك من له أدنى عقل ودين، والقول في المهدي مثل القول في هذه الأمور التي ذكرنا سواء بسواء. وأما قوله: ثم إن غالب الأحاديث التي زعموها صحيحة ومتواترة بالمعنى، ما هي إلا حكاية عن أحداث تقع مع أشخاص؛ كرجل هرب من المدينة إلى مكة فيبايع ............ ¬

_ (¬1) ص (43 - 44).

له بين الركن والمقام، ورجل يخرج من وراء النهر فيبايع له، ورجل يخرج بعد موت خليفة، ورجل يخرج اسمه الحارث، ورجل يصلحه الله في ليلة. فجوابه: أن يقال: إن الذي ذكره ابن محمود ههنا وزعم أنه مع أشخاص متعددين يدور على رجلين؛ أحدهما المهدي، الذي جاء في الحديث أن الله يصلحه في ليلة، وهو الذي يخرج من المدينة هاربًا إلى مكة فيبايع له بين الركن والمقام، ويكون ذلك بعد موت خليفة، وبعد اختلاف يكون بعد موت ذلك الخليفة. وأما الرجل الذي يخرج من وراء النهر فهو الذي اسمه الحارث، وهو من أعوان المهدي وأنصاره، وليس هو الذي يبايع له كما زعم ذلك ابن محمود، وإنما يبايع للمهدي. والحديث الوارد في الحارث ضعيف، وقد تقدم التنبيه على ذلك قريبًا، ولا يخفى ما في كلام ابن محمود من المغالطة والتلبيس. وقد لحن ابن محمود في قوله: كما زعم دعاة المهدي والمتعصبين لصحة خروجه، وصوابه: والمتعصبون بالرفع؛ لأنه معطوف على فاعل زعم. وأما قوله: لهذا يجب طرح فكرة المهدي جانبًا، فعندنا كتاب الله نستغني به عن كل دعي مفتون، كما أن لدينا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجوابه: أن يقال: إن خروج المهدي في آخر الزمان ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة، وليس ذلك من قبيل الأفكار كما زعم ذلك ابن محمود تقليدًا لأحمد أمين، وقد ذكرت الأحاديث الثابتة في المهدي في أول الكتاب فلتراجع (¬1)، وما كان ثابتًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فطرحه حرام، ومن طرحه متعمدًا فإنه يخشى عليه من الفتنة والعذاب الأليم، قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، وقال -تعالى-: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، وقال -تعالى-: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. وأما قوله: فعندنا كتاب الله نستغني به عن كل دعي مفتون، كما أن لدينا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن المهدي الذي جاءت بذكره الأحاديث ..... ¬

_ (¬1) ص (9 - 17).

الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس من الأدعياء المفتونين، حاشا وكلا، وإنما هو من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، الذين يعملون بالسنة ويملئون الأرض قسطًا وعدلا، ولا يضره إنكاره من أنكره من العصريين، ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من ذوي الجراءة على رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثاني: أن يقال: إن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يستغنى بهما عن أئمة العدل الذين يعملون بهما، ويحملون الناس على العمل بهما، وينصفون المظلوم من الظالم، وقد تقدم الجواب عن هذا الزعم الباطل في أثناء الكتاب بأبسط من هذا فليراجع (¬1). وأما قوله: وأرجو بهذا البيان أن تستريح نفوس الحائرين، ويعرفوا رأي أهل العلم والدين في هذه المشكلة التي تثار من آن لآخر. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ليس في كلام ابن محمود شيء من البيان البتة، وإنما هو تمويه وتلبيس ومغالطة ومجازفة، من أول الرسالة إلى آخر كلامه في يأجوج ومأجوج، وكلامه مما يزيد الحائرين حيرة وضلالا عن الحق الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثاني: أن يقال: إنما تستريح نفوس الحائرين إلى خبر الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- لا إلى زبالة أذهان العصريين وآرائهم الفاسدة المعاكسة لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أراد لنفسه الراحة في شأن المهدي وغيره فليتمسك بما جاء عن الله -تعالى-، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يلتفت إلى ما خالف ذلك من أقوال الناس وتفكيراتهم وآرائهم. الوجه الثالث: أن يقال: من أطرح الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي أو في غيره متعمدا فليس بأهل أن يُعد من أهل العلم والدين، وإنما يوصف بضد ذلك، وليس لهؤلاء حرمة ولا كرامة، قال الله -تعالى-: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}. الوجه الرابع: أن يقال: لا يخفى على من له أدنى علم وفهم ما في كلام ابن محمود من الإعجاب برأيه المخالف للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، .................. ¬

_ (¬1) ص (170).

الرد على زعمه أن دعوى المهدي مبنية على الكذب الصريح والاعتقاد السيئ وأنها خرافة

وكل رأي خالف الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو فاسد ومردود على صاحبه، وكذلك لا يخفى ما في كلامه من دعوى العلم والدين وتزكية النفس بذلك، وقد قال الله -تعالى-: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. وقال ابن محمود في صفحة (58): "ودعوى المهدي في مبدئها ومنتهاها مبنية على الكذب الصريح والاعتقاد السيئ القبيح، وهي في الأصل حديث خرافة يتلقفها واحد عن آخر، وقد صيغت لها الأحاديث المكذوبة سياسة للإرهاب والتخويف، حيث غزا بها قوم على آخرين، وإلا فمن المعلوم قطعًا أن الرسول الكريم لن يفرض على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك أمته يتقاتلون على التصديق والتكذيب به إلى يوم القيامة. إن هذا من المحال أن تأتي الشريعة به؛ إذ هو جرثومة فتنة دائمة ومشكلة لم تحل، والرسول جاء بمحاربة الفتن وقال: «أعوذ بالله من مضلات الفتن»، وقال: «لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»، وقال: «لقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله»، وقال: «إياكم ومحدثات الأمور». والمهدي واعتقاده هو من محدثات الأمور". والجواب: أن يقال: أما قوله: إن دعوى المهدي في مبدئها ومنتهاها مبنية على الكذب الصريح والاعتقاد السيئ القبيح. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: هذه مجازفة قبيحة جدًا وليس الأمر على ما زعمه ابن محمود، بل إن القول بظهور المهدي في آخر الزمان ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - برواية الثقات عن الثقات، ولا يرد الأحاديث الثابتة فيه إلا من هو مكابر لا يبالي بمعارضة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد الأحاديث الثابتة عنه. الوجه الثاني: أن يقال: إن الكذب الصريح والاعتقاد السيئ القبيح في الحقيقة هو قول المكابر: إن دعوى المهدي مبنية على الكذب والاعتقاد السيئ، وإنها في الأصل حديث خرافة، وإنها قد صيغت لها الأحاديث المكذوبة. الوجه الثالث: أن يقال: كيف يستجيز المسلم أن يصف الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها كذب صريح، وأن اعتقاد ما جاء فيها اعتقاد سيئ قبيح، إن هذا القول الباطل المستهجن لإحدى الكبر من مجازفات ابن محمود التي قالها من غير ...................

تثبت ولا تعقل، وقد قال الله -تعالى-: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} ومن تعزيز النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره احترام الأحاديث الثابتة عنه والتسليم والانقياد والإذعان لها على أكمل الوجوه وأحسنها، وأن لا يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، فضلا عن مقابلتها بالتكذيب ووصفها بأنها كذب صريح، وأن اعتقاد ما جاء فيها اعتقاد سيئ قبيح، فهذا مما لا يتوقع صدوره من رجل مسلم. الوجه الرابع: أن يقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، ومن قال في الأحاديث الثابتة في المهدي إنها كذب صريح، وإن اعتقاد ما جاء فيها اعتقاد سيئ قبيح، فهو خليق بأن تطبق عليه أحكام هذا الحديث الصحيح. وأما قوله: إنها في الأصل حديث خرافة يتلقفها واحد عن آخر. فجوابه: أن يقال: بل الخرافة كل الخرافة ما جازف به ابن محمود في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، وما تلقاه عن بعض العصريين من الشبه والشكوك والآراء الفاسدة في معارضتها وإطراحها. وأما قوله: وقد صيغت لها الأحاديث المكذوبة سياسة للإرهاب والتخويف. فجوابه: أن يقال: إن الأحاديث الثابتة في المهدي رواتها كلهم ثقات من لدن الصحابة الذين رووها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأئمة الذين خرجوها في كتبهم المشهورة، وليس في رواتها أحد من المتروكين ولا من الكذابين والوضاعين ولا من المغفلين الذين يقبلون التلقين، وإذا فما زعمه ابن محمود من أن دعوى المهدي قد صيغت لها الأحاديث المكذوبة فهو قول لا أساس له من الصحة، وإنما هو مجازفة وتمويه وتلبيس على ضعفاء العقول والأفهام، وهلا أورد ابن محمود الأحاديث في المهدي بأسانيدها، وذكر أسماء الكذابين من رواتها الذين صاغوها للإرهاب والتخويف على حد زعمه؟ ولن يجد إلى الطعن المؤثر في أسانيد الأحاديث الثابتة في المهدي سبيلا البتة. وقد زعم في صفحة (4) أن عبد الله بن سبأ وشيعته أخذوا يعملون عملهم ..........

الرد على زعمه أنه من المحال أن تأتي الشريعة بالمهدي

في صياغة الأحاديث ووضعها على لسان رسول الله بأسانيد منظمة عن أهل القبور، وأخذوا في نشرها في مجتمع الناس، وهذا الزعم لا أساس له من الصحة، إذ لا علاقة لابن سبأ وشيعته بشيء من الأحاديث الثابتة في المهدي، وليس في رواتها أحد منهم، وقد ذكرت الجواب عما ألصقه ابن محمود بابن سبأ وشيعته في أول الكتاب، فليراجع (¬1). وأما قوله: وإلا فمن المعلوم قطعًا أن الرسول الكريم لن يفرض على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك أمته يتقاتلون على التصديق والتكذيب به إلى يوم القيامة. فجوابه: أن يقال: قد كرر ابن محمود هذا القول المستهجن في ستة مواضع سوى هذا الموضع، وقد تقدم الجواب عنه في أول الكتاب، وفي موضعين في أثنائه فليراجع (¬2). وأما قوله: إن هذا من المحال أن تأتي الشريعة به، إذ هو جرثومة فتنة دائمة ومشكلة لم تحل. فجوابه: أن يقال: إن الله -تعالى- قد فرض الإيمان به وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال -تعالى-: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وقال -تعالى-: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله». ومن الإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأوامر والنواهي والأخبار، قال الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، وقال -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج رجل من أهل بيته في آخر الزمان، يعمل بسنته .......................... ¬

_ (¬1) ص (34 - 36). (¬2) ص (55 - 58) ص (215 - 217) ص (246 - 248).

الرد على زعمه أن المهدي جرثومة فتنة دائمة ومشكلة لم تحل

ويملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وسماه في بعض الأحاديث بالمهدي، فوجب الإيمان بخبره الصادق، ومن لم يؤمن به فلا شك أنه لم يحقق الشهادة بالرسالة. ومن زعم أنه ليس في الشريعة الإيمان بخروج المهدي، وأنه من المحال أن تأتي الشريعة به، فذلك دليل على بعده عن معرفة ما جاءت به الشريعة. وأما قوله: إذ هو جرثومة فتنة دائمة ومشكلة لم تحل. فجوابه: أن يقال: أما المهدي الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه في آخر الزمان فليس خروجه فتنة ولا مشكلة، وإنما هو نعمة عظيمة على المؤمنين؛ لأن الله -تعالى- يزيل الفتن والمشاكل والجور والظلم على يديه، ويبدل ذلك بالقسط والعدل والأمن والطمأنينة والرخاء والنعم الكثيرة، كما قد جاء ذلك في بعض الأحاديث التي تقدم ذكرها في أول الكتاب (¬1)، وأما الذين ادعوا المهدية كذبًا وزورًا وحصل بسببهم فتن ومشاكل فهؤلاء إنما كانوا يسعون لتحصيل الملك والأغراض الدنيوية، وبين صفاتهم وصفات المهدي الذي يخرج في آخر الزمان بَون عظيم وفرق شاسع، ودعاواهم الكاذبة لا تؤثر في الأحاديث الواردة في المهدي، كما أن دعاوى الدجالين المدعين للنبوة لا تؤثر في نبوة الأنبياء، وقد وجد من هؤلاء وهؤلاء عدد كثر، وحصل بسببهم فتن ومشاكل كثيرة، ومن لم يفرق بين المهدي الذي بشر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين الذين ادعوا المهدية كذبًا وزورًا وجعل الجميع من باب واحد، فحري به أن لا يعرف الفرق بين الأنبياء وبين المتنبئين. وأما قوله: والرسول جاء بمحاربة الفتن وقال: «أعوذ بالله من مضلات الفتن». فجوابه: أن يقال: قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي أنه يعمل بسنته، وأن خُلُقه يواطئ خُلُقه، وأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وفي هذا أوضح دليل على أن المهدي يحارب الفتن وأهل الفتن كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحارب الفتن وأهل الفتن، وفيه أيضًا أبلغ رد على من زعم أن المهدي جرثومة فتنة دائمة ومشكلة لم تحل. وأما قوله: وقال: «لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك». ¬

_ (¬1) ص (10 - 16).

إعجابه برسالته المشئومة وزعمه أن المهدي خرافة والرد عليه

فجوابه: أن يقال: إن المحجة البيضاء هي التمسك بالكتاب والسنة، لما رواه مالك في الموطأ بلاغًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما؛ كتاب الله وسنة رسوله» وقد رواه الحاكم في مستدركه موصولا من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، وصححه وأقرَّه الذهبي. وإذا علم هذا فمن المحجة البيضاء ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة أوجه، أنه أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، فمن لم يؤمن بخروجه ففيه من الزيغ عن المحجة البيضاء بقدر ما أعرض عنه من السنة. وأما قوله: وقال: «لقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله». فجوابه: أن يقال: إن الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان من الاعتصام بكتاب الله -تعالى- لأن الله -تعالى- يقول: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وقد أمر الله -تعالى- بالإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في آيات كثيرة، ومن الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بما أخبر به من الغيوب الماضية والآتية، ومن الغيوب الآتية خروج المهدي في آخر الزمان، فمن لم يؤمن بخروجه فلا شك أنه لم يحقق الاعتصام بكتاب الله ولا الإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأما قوله: وقال: «إياكم ومحدثات الأمور» والمهدي واعتقاده هو من محدثات الأمور. فجوابه: أن يقال: بل الذي هو من محدثات الأمور على الحقيقة إنكار خروج المهدي في آخر الزمان ومعارضة الأحاديث الثابتة فيه وردها وإطراحها، فأما إثبات خروجه فهو من لزوم السنة، ومن التسليم لما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن محمود في صفحة (62): "وإني أرجو بعد دراستهم لهذه الرسالة بأن ينتبهوا ويتناصحوا، فيغسلوا قلوبهم عن اعتقاد هذه الخرافة التي ستضرهم وتضر أبناءهم ومجتمعهم من بعدهم". والجواب: أن يقال: إنه ينبغي لأهل العلم أن يحذروا الناس من دراسة رسالة ابن محمود، لما فيها من التهجم على الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، ومعارضتها بالشبه والشكوك والآراء الفاسدة، ووصفها بالصفات الذميمة؛ كقوله إنها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وإنها أحاديث خرافة، وإنها نظرية خرافية، وإنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، ..............................

الرد على ما نقله عن رشيد رضا

وما فيها أيضًا من السخرية والاستهزاء بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي، أنه يملك سبع سنين فيملأ الأرض قسطًا وعدلا، وما فيها أيضًا من التهجم على العلماء عامة، وعلى الشافعي وأحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية خاصة، وزعمه أن الناس مقلدة، وأن المحدثين والفقهاء ينقل بعضهم عن بعض الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقه، وما فيها أيضًا من التقوُّل على ابن ماجة، والدارقطني، والعقيلي، والمنذري، وابن القيم، والذهبي، والشاطبي، وابن خلدون، وعلى القاري، والسيوطي، وقد تقدم ذكر ذلك والتعقب عليه، إلى غير ذلك مما في رسالته من الفضول والكلام المستهجن، الذي هو مضرة عليه في دينه ومضرة على كل من اغتر برسالته. ونقل ابن محمود في صفحة (62) وصفحة (63) عن رشيد رضا أنه قال في تفسيره "المنار" عند تفسير سورة الأعراف: "أما التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر، والجمع بين الروايات أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشبهة فيها أظهر، ولذلك لم يعتد الشيخان- البخاري ومسلم- بشيء من روايتها ... إلى أن قال: وقد جاءهم النذير، وهو ابن خلدون الشهير، وصاح فيهم قائلا: إن لله سننا في الأمم والدول، والعمران مطرد في كل زمان ومكان، كما ثبت في مصحف القرآن وصحف الأكوان، ومن المعلوم وقوع الاختلاف والاضطراب في أحاديث المهدي"، ونقل ابن محمود أيضًا في صفحة (64) وصفحة (65) من جواب لرشيد رضا أنه قال: "وردت أحاديث في المهدي، منها ما حكموا بقوه إسناده، ولكن ابن خلدون عني بإعلالها وتضعيفها كلها، ومن استقصى ما ورد في المهدي المنتظر من الأخبار والآثار وعرف مواردها ومصادرها يرى أنها كلها منقولة عن الشيعة ... إلى أن قال: أما سائر المسلمين فالأمر عندهم أهون، فإن منكر المهدي عندهم لا يعد منكرًا لأصل من الدين ... إلى أن قال: وجملة القول أننا لا نعتقد بهذا المنتظر، ونقول بضرر الاعتقاد به". هذا حاصل كلام رشيد رضا الذي اعتمد عليه ابن محمود في رسالته، وخالف لأجله الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي. والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إنه لا يستكثر من رشيد رضا أن يشن الحملة على أحاديث المهدي، فقد شن الحملة على ما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما من أحاديث الفتن وأشراط الساعة وخوارق الأنبياء ......................................

رد محمد عبد الرزاق حمزة على رشيد رضا

ومعجزاتهم، وقد رد عليه تلميذه محمد عبد الرازق حمزة في ضمن رده على أضاليل أبي رية، فقال في صفحة (236) وصفحة (237) من كتابه المسمى "ظلمات أبي رية" ما نصه: "ونقل أبو رية (ص215) تحت عنوان (كلمة جامعة في أحاديث أشراط الساعة وأمثالها) كلمة في نحو صفحتين عن السيد رشيد رضا من تفسير (504 - 507) ج9، فيما جاء من الأحاديث في أشراط الساعة، وخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم وغيرها، شكك فيها بأن الرواة رووها بالمعنى - يعني ويجوز الخطأ عليهم فيما فهموه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الصحابة كان فيهم منافقون، وفي الرواة وضاعون تظاهروا بالصلاح، فلم يعرف ما وضعوه إلا بعد توبة بعضهم وإقراره بما وضع - إلى آخر ما هو دفع في صدر الأحاديث الصحيحة وعجزها، وإضعاف الثقة بها والاحتجاج بما جاءت به". ونقول كلمة موجزة في سبب هذا التشكيك من السيد رشيد، تخرج على أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده، الذي تمهر في فلسفة القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ورضعا جميعًا لبان فلسفة جوستاف لوبون، وكانت، ونتشه، وسبنسر، وغيرهم من أساطين الفلسفة المادية، التي تقول بجبرية الأسباب والمسببات، وإن العالم يسير بنواميس لا يمكن أن تتخلف أو أن ينفك مسبب عن سببه عقلا، فلم تتسع الفلسفة المادية في تفكيرهما للإيمان بالمعجزات والخوارق؛ من انفلاق البحر لموسى والعصا له، وآيات عيسى ابن مريم، ورفعه للسماء، ونزوله، وخروج الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وانشقاق القمر، وغيرها من الآيات، ولما لم تتسع فلسفتهما- فلسفة القرن الثامن عشر والتاسع عشر- لهذه الخوارق والآيات والمعجزات، أخذا في تأويلها في القرآن والشك في أحاديثها، ولو عاش الإمامان الشيخ محمد عبده، والسيد رشيد رضا إلى منتصف القرن العشرين، وعلما فلسفته التي نفت الجبرية، وأنها ذهبت إلى غير رجعة، وأن العالم مسير بحكمة فاعل مختار، لا بجبرية حتمية، كما أعلن ذلك مشرفة باشا في مقال له "تطور العلم"، والعالم الطبيعي الفلكي الإنكليزي جنز في كتاب "الكون الخفي" أو المستور، ورئيس الأكاديمية الأمريكية في نيويورك صاحب كتاب "الإنسان لا يقوم وحده" الذي يرد على هكسلي خليفة دارون في كتابه "الإنسان يقوم وحده"، وقد عرب كتاب "الإنسان لا يقوم وحده" باسم "العلم يدعو إلى الإيمان".

كلام أحمد محمد شاكر في رشيد رضا

أقول لو عاش الإمامان إلى هذا التجديد في الفلسفة الغربية لكان لهما رأي آخر في آيات الأنبياء وخوارقهم ومعجزاتهم، ولكان لهما إيمان وفرح بأحاديث أشراط الساعة والخوارق، ولاستفادا منها علومًا نفيسة من الوحي الإلهي. ثم قال محمد عبد الرازق حمزة: "أنا تلميذ السيد رشيد رضا، واستفدت منه ما أشكر الله عليه وأشكر أستاذي على ذلك وأترحم عليه لأجله، ولكن ذلك لا يمنعني أن أخالفه إلى ما يظهر لي من الحق، كما قال أحد الحكماء عن شيخه إنه يحبه والحق أحب إليه من شيخه". وقال محمد عبد الرازق حمزة في صفحة (271): "ولقد ذكرنا فيما مضى أن الأستاذ الإمام قد رضع فلسفة القرن التاسع عشر والثامن عشر التي كانت شائعة في أوربا في عصره، وكان أساطينها أمثال كانت، وجوستاف لوبون، وسبنسر، وجوته وغيرهم، فتعارضت عنده مع ما جاء على ألسنة الرسل من ذكر السحر والجن والشياطين وخوارق المعجزات، فأراد أن يجمع بين تلك الفلسفة المادية التي تجعل الكون آلة تسيرها سنن لا تنخرم ولا تتخلف، وبين ما أثبتته الأديان من معجزات الأنبياء والرسل، فذهب يؤولها حتى تنسجم مع ما رضع من فلسفة الماديين". وذكر الشيخ محمد عبد الرازق حمزة أيضًا في صفحة (274): "أن السيد رشيد حاول تأويل بعض الأحاديث، وهي ما كانت تشكل عليه في الجمع بينها وبين تفكيره العصري، الذي أخذه عن شيخه الأستاذ الإمام، عن فلسفة القرن التاسع عشر وما قبله من الفلسفة المادية، التي لا تجتمع مع ما جاءت به الديانات". انتهى. وللشيخ أحمد محمد شاكر في صفحة (124) إلى أثناء صفحة (129) من تعليقه على الجزء الثاني عشر من مسند الإمام أحمد كلام جيد جدًا في الرد على بعض العصريين، الذين لعبوا بحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه» الحديث، قال في أثنائه: "لم نر فيمن تَقدَّمَنا من أهل العلم من اجترأ على ادعاء أن في الصحيحين أحاديث موضوعة، غاية ما تكلم فيه العلماء نقد أحاديث فيهما بأعيانها، لا بادِّعاء وضعها والعياذ بالله، ولا بإدعاء ضعفها، إنما نقدوا عليهما أحاديث ظنوا أنها لا تبلغ في الصحة الذروة العليا التي التزمها كل منهما، وهذا مما أخطأ فيه كثير من الناس، ومنهم أستاذنا السيد رشيد رضا -رحمه الله- على علمه بالسنة وفقهه، ولم يستطع قط أن يقيم حجته على ما يرى ........

كلام الكافي في تلاميذ الأفغاني وتلاميذهم

وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيها، ولكنه كان متأثرًا أشد الأثر بجمال الدين ومحمد عبده، وهما لا يعرفان في الحديث شيئًا، بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما وأعلى قدمًا وأثبت رأيًا لولا الأثر الباقي في دخيلة نفسه، والله يغفر لنا وله". انتهى المقصود من كلامه. وقال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه "المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية" "المسألة التاسعة والثمانون": "تقدم لنا أن الذين تخرجوا على الشيخ جمال الدين الأفغاني والذين تخرجوا عمن تخرج عنه يفسرون القرآن برأيهم، وينكرون بعض ما ثبت في الشرع، ويعتمدون على أقوال الكفار، ويهجرون قول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقول الراسخين في العلم من المسلمين، وعندهم كلام الله -تعالى- ككلام البشر يتصرفون فيه بغير علم، فيحق عليهم الوعيد". انتهى المقصود من كلامه. ومما ذكرته عن هؤلاء العارفين حق المعرفة برشيد رضا يتبين لكل عاقل أنه لا ينبغي الاعتماد على كلامه، ولا الالتفات إلى رأيه وتفكيره إذا كان مخالفًا للأحاديث الثابتة. الوجه الثاني: أن يقال: إن أقوال رشيد رضا ليست ميزانًا توزن به الأحاديث النبوية فيقبل منها ما وافق أقواله ويرد ما خالفها، وإنما الميزان الأسانيد، فما صح منها فهو مقبول، وما لم يصح منها فهو مردود، وقد ذكرت كلام الشافعي وأحمد وغيرهما من أكابر العلماء في ذلك في أول الكتاب فليراجع (¬1)، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في المهدي، وما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالإيمان به واجب، ولا يجوز الالتفات إلى مكابرة بعض العصريين في رد الأحاديث الثابتة التي تخالف تفكيراتهم الخاطئة وثقافتهم الغربية. الوجه الثالث: أن يقال: ما زعمه رشيد رضا من التعارض في أحاديث المهدي، وأن البخاري ومسلمًا لم يعتدا بشيء من رواياتها فقد تقدم الجواب عنه في أول الكتاب فليراجع (¬2). وأما قوله: إن الجمع بين الروايات أعسر. ¬

_ (¬1) ص (19، 20). (¬2) ص (59 - 68).

فجوابه: أن يقال: ليس بين الروايات الثابتة في المهدي تعارض البتة، وإنما التعارض في أفهام المنكرين لها وفي توهماتهم الخاطئة، وإذ لم يكن بين الروايات الثابتة في المهدي تعارض فأي حاجة تدعو إلى الجمع. وأما قوله: والمنكرون لها أكثر. فجوابه: أن يقال: هذا غير صحيح، والواقع يشهد بخلافه، فإن المعروف عن أهل السنة والجماعة منذ زمن الصحابة -رضي الله عنهم- إلى زماننا أنهم يصدقون بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، وإن وجد منهم فرد أو أفراد قليلون يتوقفون في خروج المهدي اعتمادًا على الحديث الضعيف الذي جاء فيه «لا مهدي إلا عيسى بن مريم» فذلك نادر والنادر لا حكم له، وأول من توسع في تضعيف أحاديث المهدي هو ابن خلدون، فقد نقدها إلا القليل أو الأقل منه، ثم جاء رشيد رضا وأحمد أمين وغيرهما من العصريين، الذين لا يبالون برد الأحاديث الثابتة إذا كانت مخالفة لآرائهم وتوهماتهم أو آراء من يعظمونهم من المسلمين وغير المسلمين، فردوا أحاديث المهدي كلها، وزعموا أنها موضوعة. وأما قوله: والشبهة فيها أظهر. فجوابه: أن يقال: ليس في الأحاديث الثابتة في المهدي شبهة البتة، وإنما الشبه والشكوك في أقوال المعارضين للأحاديث الثابتة بمجرد الآراء والتوهمات والتخرصات. وأما قوله: وقد جاءهم النذير وهو ابن خلدون. فجوابه: أن يقال: إن ابن خلدون لم يضعف أحاديث المهدي كلها، كما قد توهم ذلك رشيد رضا ومن قلده واغتر بقوله، وإنما ضعف أكثرها واستثنى من النقد القليل منها أو الأقل منه، وقد صرح بذلك في مقدمته بعد سياقه للأحاديث الواردة في المهدي، فليراجع كلامه، ففيه كفاية في الرد على رشيد رضا وعلي ابن محمود، وقد رد غير واحد من العلماء على ابن خلدون، وخطؤوه في تضعيفه لبعض الأحاديث الثابتة في المهدي، وقد ذكرت ردودهم عليه في أثناء الكتاب فلتراجع (¬1). وأما قوله: ومن المعلوم وقوع الاختلاف والاضطراب في أحاديث المهدي. فجوابه: أن يقال: ليس بين الأحاديث الثابتة في المهدي شيء من الاختلاف .......... ¬

_ (¬1) ص (142 - 144).

والاضطراب البتة، وما زعمه رشيد رضا فهو في الحقيقة مجازفة وليس بمعلوم. وأما قوله: وردت أحاديث في المهدي منها ما حكموا بقوة إسناده ولكن ابن خلدون عني بإعلالها وتضعيفها كلها. فجوابه: أن يقال: إن ابن خلدون لم يضعف أحاديث المهدي كلها كما قد زعم ذلك رشيد رضا، وإنما ضعف غالبها كما قد تقدم التنبيه على ذلك، وعلى تقدير أنه عني بإعلالها وتضعيفها كلها، فهل يظن رشيد رضا ومن قلده واعتمد على قوله الباطل، أن ابن خلدون أعلم برجال الحديث من الأئمة الحفاظ الذين قبلوا الأحاديث الثابتة في المهدي، وحكموا بقوة أسانيدها؟ وهل يظنون أن ابن خلدون أعلم بصحيح الحديث وسقيمه من الترمذي، وابن حبان، والعقيلي، والحاكم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وزين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني، والهيثمي وغيرهم من الحفاظ النقاد؟ كلا، بل الذي لا يُشك فيه أن ابن خلدون لا يداني واحدًا ممن ذكرنا، فضلا عن المساواة، فاعتناؤه بإعلال أحاديث المهدي وتضعيفها مردود بتصحيح هؤلاء لجملة منها، وقد ذكرت ذلك في أول الكتاب فليراجع (¬1). وأما قوله: ومن استقصى ما ورد في المهدي المنتظر من الأخبار والآثار، وعرف مواردها ومصادرها، يرى أنها كلها منقولة عن الشيعة. فجوابه: أن يقال: أما الأحاديث والآثار الثابتة في المهدي فليس للشيعة علاقة بها، وليس في رواتها أحد منهم، وكذلك الأحاديث الضعيفة التي تشهد لها الأحاديث الصحيحة وتؤيدها، فهذه أيضًا ليس في رواتها أحد من الشيعة، وأما الأحاديث المنكرة والأحاديث الموضوعة فوجودها كعدمها، سواء كانت منقولة عن أهل السنة أو عن الشيعة. وأما قوله: أما سائر المسلمين فالأمر عندهم أهون، فإن منكر المهدي عندهم لا يعد منكرًا لأصل من الدين. فجوابه: أن يقال: هذا من التقول على المسلمين، وبيان ذلك من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إن المنكر للمهدي إنما هو منكر لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث علي، وابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وأم سلمة، وجابر -رضي الله عنهم- أنه أخبر بخروج ........... ¬

_ (¬1) ص (41 - 43).

رجل من أهل بيته في آخر الزمان يعمل بسنته، ويطابق خُلقه خُلقه، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وتنعم الأمة في زمانه نعمة لم ينعموا مثلها، وفي بعض الروايات الصحيحة أنه يسمى بالمهدي، فمن رد الأحاديث الثابتة فيه فإنما يرد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أنكرها فإنما ينكر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن استهان بها فإنما هو مستهين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثاني: أن يقال: إن الإيمان بالغيب من أعظم أصول الدين، قال الله -تعالى-: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. ومن الإيمان بالغيب الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مما كان فيما مضى وما سيكون في المستقبل، وقد ذكرت قريبًا قول شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية، ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتِّباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا، وذكرت أيضًا قول شارح العقيدة الطحاوية: "لا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانًا عامًا مجملا"، وذكرت له وللطحاوي كلامًا أكثر من هذا، فليراجع ما تقدم (¬1). وإذا علم هذا فمن الإيمان بالغيب الإيمان بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وفي الآية الكريمة وهذا الحديث الصحيح أبلغ رد على من استهان بالأحاديث الثابتة في المهدي، وزعم أن الأمر فيه عند سائر المسلمين أهون، وأن منكره لا يعد منكرًا لأصل من الدين. وأما قوله: وجملة القول إننا لا نعتقد بهذا المنتظر، ونقول بضرر الاعتقاد به. فجوابه: أن يقال: إذا لم يؤمن رشيد رضا وابن محمود بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي المنتظر، فإنما يعود وبال ذلك عليهما، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ ...... ¬

_ (¬1) ص (277 - 278).

الرد على زعم ابن محمود أن المحققين بينوا بطلان أحاديث المهدي

تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}، وقال -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال -تعالى-: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}. ويقال أيضًا: إن الضرر في الحقيقة في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلة المبالاة بها، فمن رد الأحاديث الثابتة في المهدي واستهان بها فإنما هو في الحقيقة مستهين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وراد لقوله، وقد قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ". فالواجب على المسلم أن يعظم أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويقابلها بالقبول والتسليم، وأن لا يجد في نفسه حرجًا منها، وأن لا يعارضها بالشبه والشكوك والآراء والتخيلات، ومن عارضها بشيء من ذلك أو زعم أن اعتقادها ضرر فعقيدته لا تخلو من الخلل. وقال ابن محمود في صفحة (69) وصفحة (70): "إنه من المعلوم أن الوضاعين الكذابين قد أدخلوا كثيرًا من الأحاديث المكذوبة في عقائد المسلمين وأحكامهم، حتى صار لها الأثر السيئ في العقائد والأعمال، لكن المحققين من علماء المسلمين قد قاموا بتحقيقها، وبينوا بطلانها وأسقطوها عن درجة الاعتبار، وحذروا الأمة منها، من ذلك أحاديث المهدي المنتظر، وأنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا، ونحو ذلك مما يقولون، وصار في كل زمان وفي كل مكان يظهر مخرف ويقول أنا المهدي المنتظر، حتى كأن المهدي جرثومة البدع ومثار الفتن. ولا يزال علماء السنة في كل مكان يحاربون هذه الدعوى، ويحاربون من تسمى بها لاعتباره من الكذابين الدجالين، والحق أن المهدي المنتظر لا صحة له ولا وجود له قطعًا، وفي سنن ابن ماجة: «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم»، وأنه بمقتضى التأمل للأحاديث الواردة في المهدي نجدها من الضعاف التي لا يعتمد عليها، وأكثرها من رواية أبي نعيم في "حلية الأولياء"، وكلها متعارضة ومتخالفة، ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة لا باللفظ ولا بالمعنى".

بيان المراد بالمحققين عند ابن محمود

والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن أقول: إني لم أر لأحد من العلماء المحققين، لا من المتقدمين منهم ولا من المتأخرين أنه طعن في الصحاح والحسان من الأحاديث الواردة في المهدي، فضلا عن القول ببطلانها وإسقاطها عن درجة الاعتبار وتحذير الأمة منها، وإنما المعروف عنهم القول بتصحيح الصحيح منها وتحسين الحسن وتضعيف الضعيف ورد الواهي والمنكر والموضوع، وقد ذكرت في أول الكتاب تسعة أحاديث من الصحاح والحسان، وذكرت لبعضها عدة طرق مما رواه الثقات وصححه بعض الحفاظ فلتراجع (¬1)، ففيها أبلغ رد على ما موَّه به ابن محمود في زعمه أن المحققين من علماء المسلمين قد بينوا بطلانها وأسقطوها عن درجة الاعتبار وحذروا الأمة منها. الوجه الثاني: أن أقول: قد ذكرت في أول الكتاب ما صححه الحفاظ النقاد من الأحاديث الواردة في المهدي، وما صرح به بعضهم من القول بأن أحاديث المهدي متواترة، فليراجع ما تقدم (¬2)، ففيه أبلغ رد على ما نسبه ابن محمود للمحققين من علماء المسلمين. الوجه الثالث: أن يقال: قد يظن بعض الناس أن ابن محمود أراد بالمحققين أئمة الجرح والتعديل الذين يعتمد الناس على أقوالهم في صحة الأسانيد أو ضعفها؛ مثل شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وأبي زرعة، وأبي حاتم الرازي، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، وأمثالهم من الجهابذة النقاد، وكذلك من كان بعدهم من الأئمة الذين صنفوا في الجرح والتعديل، وبينوا أحوال الرواة، وميزوا الأحاديث الصحيحة والأحاديث الحسنة من الأحاديث الضعيفة والأحاديث المنكرة والواهية والموضوعة، وما يدرون أن ابن محمود أراد بالمحققين أفرادًا من العصريين؛ مثل رشيد رضا، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، وأمثالهم من العصريين الذين يخبطون خبط عشواء في الحكم على الأحاديث، فما وافق أفكارهم قبلوه ولو كان ضعيفًا أو موضوعًا، وما خالف أفكارهم لم يبالوا برده وإطراحه ولو كان صحيحًا أو حسنًا، وكل حديث لا يتفق مع ثقافتهم الغربية وتفكيراتهم الخاطئة ......................... ¬

_ (¬1) ص (9 - 17). (¬2) ص (41 - 45).

يجعلونه من وضع الزنادقة، وإن لم يكن للزنادقة به علاقة، وهؤلاء ليسوا أهل تحقيق في الحديث، وإنما هم أهل مجازفة وجراءة على الكلام في الأحاديث والقدح فيها بغير حجة، وقد قلدهم ابن محمود في رد الأحاديث الواردة في المهدي كلها، ولم يفرق بين الثابت منها وغير الثابت، مع أنه كان يذم التقليد، ويقول إن المقلد لا يعد من أهل العلم، فقد حكم على نفسه أنه لا يعد من أهل العلم. وأما قوله: وصار في كل زمان وفي كل مكان يظهر مخرف ويقول أنا المهدي المنتظر. فجوابه: أن يقال: إن ظهور المدعين للمهدية كذبًا وزورًا مثل ظهور الدجالين المدعين للنبوة، فكل هؤلاء أهل كذب وزور ولا يصدقهم إلا الجهلة الأغبياء، وأما المهدي الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل بيته، وأنه يلي في آخر الزمان، فحاله مخالفة لأحوال أهل الكذب والزور، فإنه لا يطلب الأمر لنفسه ابتداء مدعيًا أنه المهدي، وإنما يأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه، ثم يسميه الناس بعد ذلك بالمهدي لما يرونه من أعماله الصالحة، فقد ثبت أنه يعمل بالسنة، وأن خُلُقه يطابق خُلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، وأن الأمة تنعم في زمانه نعمة لم ينعموا مثلها. وأما قوله: ولا يزال علماء السنة في كل مكان يحاربون هذه الدعوى، ويحاربون من تسمى بها؛ لاعتباره من الكذابين الدجالين. فجوابه: أن يقال: إن علماء السنة وإن كانوا يحاربون كل من ادعى المهدية كذبًا وزورًا فهم مع ذلك يقولون بخروج المهدي في آخر الزمان؛ لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق متعددة، تقدم ذكرها في أول الكتاب (¬1). وأما قوله: والحق أن المهدي المنتظر لا صحة له ولا وجود له قطعًا. فجوابه: أن يقال: ما زعم ابن محمود أنه الحق فهو في الحقيقة خلاف الحق الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}، وقال الله -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}، وقد ذكرت الأحاديث الدالة على نقيض قول ابن محمود في أول الكتاب، فلتراجع (¬2). ¬

_ (¬1) ص (9 - 17). (¬2) ص (9 - 17).

الكلام في حديث "لا مهدي إلا عيسى"

وأما قوله: وفي سنن ابن ماجة: «لا مهدي إلا عيسى بن مريم». فجوابه: أن يقال: هذا الحديث ضعيف جدًا، قال البيهقي: "تفرد به محمد بن خالد - يعني الجندي-، وقد قال الحاكم أبو عبد الله: هو مجهول، وقد اختلف عليه في إسناده، فروي عنه عن إبان بن أبي عياش عن الحسن مرسلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فرجع الحديث إلى رواية محمد بن خالد وهو مجهول، عن أبان بن أبي عياش وهو متروك، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو منقطع، والأحاديث على خروج المهدي أصح إسنادًا". انتهى، وقد نقله عنه ابن القيم في كتابه "المنار المنيف" وأقره، وقال الذهبي في الميزان: "محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، روى عنه الشافعي"، قال الأزدي: "منكر الحديث"، وقال أبو عبد الله الحاكم: "مجهول"، قال الذهبي: "حديثه «لا مهدي إلا عيسى بن مريم» هو خبر منكر أخرجه ابن ماجة". وأما قوله: وإنه بمقتضى التأمل للأحاديث الواردة في المهدي نجدها من الضعاف التي لا يعتمد عليها. فجوابه: أن يقال: هذا قول باطل مردود، وقد تقدم التنبيه على ذلك في عدة مواضع من هذا الكتاب. وأما قوله: وأكثرها من رواية أبي نعيم في "حلية الأولياء". فجوابه: أن يقال: أما الأحاديث الثابتة فليست من رواية أبي نعيم في الحلية، وإنما هي من رواية أحمد، وابن أبي شيبة، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وأبي يعلى، والحارث بن أبي أسامة، وابن حبان، والطبراني، والحاكم، فكل واحد من هؤلاء قد روي بعضًا منها وروي غيره البعض الآخر، وأما أبو نعيم فروى في الحلية ثلاثة أحاديث من أحاديث المهدي؛ أحدها حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تذهب الدنيا حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي». الثاني حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لتملأن الأرض ظلمًا وعدوانً، ثم ليخرجن من أهل بيتي أو قال من عترتي من يملؤها قسطًا وعدلا كما ملئت ظلمًا وعدوانًا». الثالث حديث علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة». وقد ذكرت هذه الأحاديث في أول الكتاب من رواية الإمام أحمد وغيره فلتراجع (¬1)، وروي أبو نعيم ...................................................................... ¬

_ (¬1) ص (9 - 15).

تعلقه بكلام رشيد رضا ورسالة لابن مانع قد رجع عنها وانتقاده لقول شيخ الإسلام ابن تيمية

أيضًا في الحلية حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- في ذكر الخلفاء الاثني عشر، وهو حديث متفق على صحته، وقد تقدم ذكره في أول الأحاديث التي زعم ابن محمود أنه قد حققها، وكان نصيب هذا الحديث الصحيح من تحقيق ابن محمود هو القدح في صحته، فليراجع ذلك في الكلام على تحقيق ابن محمود لأحاديث المهدي (¬1)، ولأبي نعيم كتاب في المهدي، جمع فيه أربعين حديثًا، وقد لخصها السيوطي في رسالته التي سماها "العرف الوردي، في أخبار المهدي"، وغالبها من الأحاديث الضعيفة، وليس في "حلية الأولياء" منها سوى الأحاديث الثلاثة التي تقدم ذكرها، وقد نقل ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "المنار المنيف" ثلاثة أحاديث من كتاب أبي نعيم في المهدي، وقال في حديث منها: "ذكرناه للشواهد"، ونقل أيضًا ثلاثة أحاديث عن أبي سعيد الخدري، وأبي أمامة، وابن عباس -رضي الله عنهم- ثم قال: "وهذه الأحاديث وإن كان في إسنادها بعض الضعف والغرابة، فهي مما يقوي بعضها بعضًا، ويشد بعضها ببعض" انتهى. وأما قوله: وكلها متعارضة ومتخالفة، ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى. فجوابه: أن يقال: قد كرر ابن محمود هذه الجملة في تسعة مواضع من رسالته، وقد تقدم الجواب عنها في أول الكتاب، فليراجع (¬2). وقال ابن محمود في صفحة (70) وصفحة (71): "ولست أنا أول من قال ببطلان دعوى المهدي وكونه لا حقيقة لها، فقد سبقني من قال بذلك من العلماء المحققين، فقد رأيت لأستاذنا الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع رسالة حقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأنه لا حقيقة لوجوده، وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة جدًا، ولا ينكر على من أنكره، كما رأيت أيضًا لمنشئ المنار محمد رشيد رضا رسالة ممتعة يحقق فيها بطلان دعوى المهدي، وإن كل الأحاديث الواردة فيه لا صحة لها قطعًا، وأشار إلى بطلان دعواه في تفسير المنار، لكنه يوجد في مقابلة هؤلاء من يقول بخروج المهدي ويقوي الأحاديث الواردة فيه، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقد رأيت له قولا يقول فيه بصحة خروجه وأن فيه سبعة أحاديث، فقول شيخ الإسلام هذا خرج منه بمقتضى اجتهاد منه ويأجره الله عليه، وقد أخذ ¬

_ (¬1) ص (226 - 230). (¬2) ص (41 - 45).

ذكر كلام ابن مانع المخالف لما تعلق به ابن محمود والتنبيه على ما فيه من الخطأ

بقوله بعض العلماء المتأخرين وصاروا يكتبون في مؤلفاتهم بصحة وجوده، مما تأثرت به عقائد العامة وبعض العلماء، والصحيح بمقتضى الدلائل والبراهين هو ما ذكره بعض العلماء من أنه لا حقيقة لصحة أحاديث المهدي، لهذا رأينا كل من انتحل خطة باطلة من الدجالين المنحرفين فإنه يسمي نفسه بالمهدي ويتبعه على دعوته الهمج السذج، والغوغاء الذين هم عون الظالم، ويد الغاشم في كل زمان ومكان". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: في بيان خطأ ابن محمود في التعبير، حيث قال: ولست أنا أول من قال ببطلان دعوى المهدي وكونه لا حقيقة لها، والصواب أن يقال "وكونها" لأن الضمير يعود إلى الدعوى. الوجه الثاني: أن يقال: قد تقدم (¬1) عن ابن محمود أنه ذم التقليد، وقال إن المقلد لا يعد من أهل العلم، ومع هذا فقد وقع فيما ذمه؛ حيث قلد رشيد رضا، وغيره من العصريين الذين عارضوا الأحاديث الثابتة في المهدي وأنكروا خروجه. الوجه الثالث: أن يقال: إذا كان السابق لابن محمود قد قال قولاً باطلا وخالف الحق الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فماذا ينفع ابن محمود سبق من سبقه إلى القول الباطل ومخالفة الحق؟ فهل يرضى لنفسه أن يكون مشابُها للذين قال الله -تعالى- فيهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}؟ الوجه الرابع: أن يقال: قد تقدم الرد على أباطيل رشيد رضا التي قالها في إنكار خروج المهدي، والطعن في الأحاديث الواردة فيه من غير استثناء شيء منها، فليراجع (¬2). وأما الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع فقد رجع إلى الحق والصواب في رسالة له سمَّاها "تحديق النظر، بأخبار الإمام المنتظر"، قال فيها بعد أن ذكر كلام ابن خلدون في تضعيف الأحاديث الواردة في المهدي، وما قاله صاحب "عون المعبود" في الرد عليه: "وأقول: قول العلامة الهندي في هذه الأحاديث أقرب إلى الصواب من قول من جزم بضعفها كلها، فمن صح عنده حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منها أو من غيرها وجب عليه قبوله والاعتقاد بمدلوله، ومن علم بضعف الحديث وتيقنه لم يجب عليه شيء من ذلك، وإذا اعتبرنا هذه الأحاديث الواردة في المهدي ........ ¬

_ (¬1) ص (79). (¬2) ص (287 - 294).

بخصوصها وجدنا التي لم يصرح فيها باسمه أقوى، ورأينا الضعف غالبًا على ما ذكر فيها اسمه، ولهذا قلت في الكواكب لما قال السفاريني: "فكلها صحَّت به الأحبار": أي بأكثرها، فإن الأحاديث التي فيها ذكر المهدي لم تصح عند علماء الحديث، ولم أقل الواردة في شأن المهدي ليشمل التعميم ما لم يذكر فيها، فإن التي لم يذكر فيها اسمه بل ذكر نعته فيها القوي والضعيف، ولهذا نعتقد ونجزم بخروج رجل من أهل البيت آخر الزمان اسمه محمد بن عبد الله، يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت ظلمًا وجورًا، وكذلك قولنا: فلا نعتقد بمجيء المهدي، مرادنا أن هذا اللفظ غير ثابت، فلا يجب أن يسمى محمد بن عبد الله الذي يخرج في آخر الزمان بالمهدي، بل تسميته بذلك جائزة لا واجبة، إذ هذا اللفظ غير ثابت عند علماء الحديث، ولعل أحدًا أن يظن أن المقصود من عبارة الكواكب هو القول بعدم مجيء المهدي مطلقًا كما هو قول بعض الأئمة، وليس كذلك بل المراد ما قدمناه من أن هذا اللفظ غير ثابت، وإنما الثابت أن اسمه مواطئ لاسم النبي واسم أبيه مواطئ لاسم أبيه، فالإيمان بذلك واجب على الإجمال والإطلاق ... إلى أن قال: وقد خرج جماعة من العلماء عن الاعتدال في هذه المسألة، فبالغ طائفة في الإنكار حتى ردوا جملة من الأحاديث الصحيحة، وقابلهم آخرون فبالغوا في الإثبات حتى قبلوا الموضوعات والحكايات المكذوبة". انتهى المقصود من كلامه. ومما ذكرنا يعلم أن ابن محمود قد تعلق بالقول الباطل الذي رجع عنه شيخه ابن مانع، ونرجو أن يفعل ابن محمود كما فعل شيخه، فإن الرجوع إلى الحق نُبل وفضيلة، كما أن التمادي على الباطل نقص ورذيلة. وفي كلام ابن مانع كلمة ينبغي التنبيه عليها، وهي قوله: فإن الأحاديث التي فيها ذكر المهدي لم تصح عند علماء الحديث، وكذلك قوله: إن هذا اللفظ- أي اسم المهدي - غير ثابت عند علماء الحديث. والجواب: أن يقال: بل اسم المهدي ثابت من عدة طرق عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وقد رواه الترمذي وحسنه، قال: "وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". انتهى، وقد رواه الإمام أحمد بأسانيد، وأبو يعلي، قال الهيثمي في "مجمع الوائد": "ورجالهما ثقات"، ورواه الحاكم في مستدركه وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه، ورواه أبو داود، قال ابن القيم في كتابه "المنار المنيف": "إسناده .........................

الرد على انتقاده لقول شيخ الإسلام ابن تيمية

جيد"، وقد ثبت أيضًا من حديث علي -رضي الله عنه- رواه الإمام أحمد وابن ماجة وإسناد كل منهما حسن، وثبت أيضًا من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: "ورجاله ثقات"، وثبت أيضًا من حديث جابر -رضي الله عنه- رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، قال ابن القيم في كتابه "المنار المنيف": "إسناده جيد"، وثبت أيضًا عن علي -رضي الله عنه- موقوفًا عليه رواه الحاكم في مستدركه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقد ذكرت هذه الأحاديث التي فيها ذكر المهدي لم تصح عند علماء الحديث، وعلى قوله أيضًا أن اسم المهدي غير ثابت عند علماء الحديث. ومما يرد به أيضًا على ابن مانع قول أبي الحسين الآبري: "إنها قد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر المهدي وإنه من أهل بيته"، وقد نقل كلامه جماعة من علماء الحديث وأقروه، وقد ذكرت ذلك في أول الكتاب فليراجع (¬1). وأما قول ابن محمود: لكنه يوجد في مقابلة هؤلاء من يقول بخروج المهدي، ويقوي الأحاديث الواردة فيه؛ منهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فقد رأيت له قولا يقول فيه بصحة خروجه وأن فيه سبعة أحاديث. فجوابه: أن يقال: إن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- لم يذكر سوى أربعة أحاديث عن ابن مسعود، وأم سلمة، وأبي سعيد، وعلي -رضي الله عنهم- وذلك في صفحة (211) من الجزء الرابع من كتابه "منهاج السنة النبوية"، وذكر ذلك أيضًا الذهبي في كتابه "المنتقى من منهاج الاعتدال". وأما قوله: فقول شيخ الإسلام هذا خرج بمقتضى اجتهاد منه ويأجره الله عليه. فجوابه: أن يقال: إن الأمور الغيبية لا تعلم بالاجتهاد ولا يسوغ الاجتهاد فيها، وإنما تعلم بخبر الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، ومن هذا الباب خروج المهدي في آخر الزمان، وما سيقع فيه أيضًا من الفتن والملاحم وأشراط الساعة، فكل هذا لا مجال للاجتهاد فيه، وإنما يعتمد فيه على الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل من قال من العلماء بخروج المهدي في آخر الزمان فإنما يعتمدون ....................................... ¬

_ (¬1) ص (12 - 17).

على الأحاديث الثابتة فيه لا على الاجتهاد، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وغيره من أكابر العلماء قديمًا وحديثًا. وأما قوله: وقد أخذ بقوله بعض العلماء المتأخرين، وصاروا يكتبون في مؤلفاتهم بصحة وجوده، مما تأثرت به عقائد العامة وبعض العلماء. فجوابه: أن يقال: إن القول بخروج المهدي في آخر الزمان ليس هو قولا لشيخ الإسلام ابن تيمية وحده، وإنما هو أحد أقوال أهل السنة، ذكر ذلك ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "المنار المنيف"، قال: "وأكثر الأحاديث على هذا تدل". انتهى، وكل من قال بخروج المهدي في آخر الزمان من العلماء المتقدمين والعلماء المتأخرين، فإنما يعتمدون على الأحاديث الواردة فيه، لا على قول شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا على قول غيره من العلماء. وأما قوله: والصحيح بمقتضى الدلائل والبراهين هو ما ذكره بعض العلماء من أنه لا حقيقة لصحة أحاديث المهدي. فجوابه: أن يقال: بل الصحيح ثبوت بعض الأحاديث الواردة في المهدي، وقد ذكرت في أول الكتاب ما صححه العلماء منها وما حسنوه، فليراجع (¬1)، ففيه أبلغ رد على ما موَّه به ابن محمود وزعم أنه الصحيح وهو خلاف الصحيح. وأما قوله: لهذا رأينا كل من انتحل خطة باطلة من الدجالين المنحرفين فإنه يمسي نفسه بالمهدي، ويتبعه على دعوته الهمج السذج، والغوغاء الذين هم عون الظالم، ويد الغاشم في كل زمان ومكان. فجوابه: أن أقول: قد ذكرت مرارًا أن دعوى المدعين للمهدية كذبًا وزورًا لا تقدح في الأحاديث الثابتة في المهدي ولا تؤثر فيها، كما أن دعوى المدعين للنبوة كذبًا وزورًا لا تقدح في دلائل نبوة الأنبياء ولا تؤثر فيها، وذكرت أيضًا في عدة مواضع أن المهدي لا يطلب الأمر لنفسه ابتداء مدعيًا أنه المهدي كما يفعل ذلك المدعون للمهدية كذبًا وزورًا، وإنما يأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه، ثم يسميه الناس بعد ذلك بالمهدي لما يرون من صلاحه وعدله وإزالته للجور والظلم، وقد التبس الأمر في المهدي على ابن محمود، فخلط بين المهدي الذي بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه في آخر الزمان وبين الكذابين الذين ادعوا المهدية .................................................................. ¬

_ (¬1) ص (41 - 43).

الرد على زعمه أنه لا حاجة لانتظار المهدي، وزعمه أن ذلك من الركون إلى الخيال والمحالات، والاستسلام للأوهام والخرافات، وعلى زعمه أن العلماء قد فرضوا على المسلمين التحجر الفكري والجمود الاجتماعي على اعتقاد خروج المهدي

كذبًا وزورًا، وجعل الجميع من باب واحد، وهذا خطأ كبير؛ لما يلزم عليه من تكذيب خبر الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، ومن له أدنى علم ومعرفة لا يخفى عليه الفرق بين المهدي الموصوف بالصلاح والعدل والعمل بالسنة ومطابقة خُلقه لخلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين المدعين للمهدية وزورًا لتحصيل الرياسة والأغراض الدنيوية؛ مثل ابن تومرت، والمهدي العبيدي، وأضرابهما من ذوي الجور والظلم والفساد. ومن أعرض عن الأحاديث الثابتة في المهدي ونبذها وراء ظهره فلا بد أن يقع في اللبس والتخليط، وقد قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "الكافية الشافية": فعليك بالتفصيل والتمييز، فالـ إطلاق والإجمال دون بيان قد أفسدا هذا الوجود وخبَّطا الـ أذهان والآراء كل زمان وقال ابن محمود في صفحة (85): "فلا حاجة للمسلمين في أن يهربوا عن واقعهم، ويتركوا واجبهم، لانتظار مهدي يجدد لهم دينهم ويبسط العدل بينهم، فيركنوا إلى الخيال والمحالات، ويستسلموا للأوهام والخرافات، ثم يفرض عليهم علماؤهم التحجر الفكري والجمود الاجتماعي، على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم، أو على رأي عالم أو فقيه يوجب الوقوف على رأي مذهبه وعدم الخروج عنه، وعلى أثره يوجب عليهم الإيمان بشخص غائب هو من سائر البشر، يأتي في آخر الزمان فينقذ الناس من الظلم والطغيان". والجواب عن هذا من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة ذكرتها في أول الكتاب (¬1)، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن المهدي من أهل بيته، وأنه يعمل بالسنة، وأن خُلقه يطابق خلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن اسمه يطابق اسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسم أبيه يطابق اسم أبي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، فلتراجع الأحاديث المذكورة في أول الكتاب (¬2)، ففيها أبلغ رد على مجازفة ابن محمود في زعمه أن انتظار المهدي الذي بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه في آخر الزمان ركون إلى الخيال والمحالات، واستسلام للأوهام والخرافات، وأن ذلك من التحجر الفكري والجمود الاجتماعي، ......................................................................... ¬

_ (¬1) ص (9 - 17). (¬2) ص (9 - 17).

كذا قال وكذا جازف في إطلاق هذه الكلمات النابية في معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما يخشى من الفتنة أو العذاب الأليم على مخالفته لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - واستخفافه بها، وعدم مبالاته بردها وإطراحها، وزعمه أن ما جاء فيها عن المهدي المنتظر فهو من الخيال والمحالات والأوهام والخرافات؟ أما يخشى ابن محمود أن يسلب الإيمان؟ فقد قال الله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *}، وقال -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أما يخشى أن يعاقب بتقليب القلب وزيغه؟ فقد قال الله -تعالى-: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، وقال -تعالى-: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، أما يخشى أن يكون ممن قال الله فيهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}؟ وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال: يقضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن الوجه الثاني: أن يقال: إذا ترك الناس العمل بالسنة وملئت الأرض ظلمًا وعدوانًا، فإن الحاجة ماسة إلى إماما عادل يعمل بالسنة، ويبسط القسط والعدل، ويزيل الجور والظلم، وهكذا تكون الحاجة إلى خروج المهدي في آخر الزمان، ومن زعم أنه لا حاجة للمسلمين بالإمام العادل الذي يعمل بالسنة، ويبسط القسط والعدل، ويزيل الجور والظلم، فلا شك أنه لا يدري ما يقول. الوجه الثالث: أن يقال: إن الإيمان بخروج المهدي في آخر الزمان لا يستلزم الهروب عن الواقع وترك الواجب كما قد توهم ذلك ابن محمود، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي، وهم مع ذلك لم يهربوا عن واقعهم ولم يتركوا واجبهم، ويؤمنون بجميع أشراط الساعة، وبكل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب، مما مضى وما سيأتي قبل قيام الساعة وبعد قيامها، وهم مع ذلك لم يهربوا عن الواقع ولم يتركوا الواجب، وإنما الذي يهرب عن الواقع ويترك الواجب على الحقيقة هو الذي يرد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصفها بالصفات الذميمة، فيزعم أنها خيال ومحالات وأوهام وخرافات، وأن الإيمان بها من التحجر الفكري والجمود الاجتماعي.

الوجه الرابع: أن يقال: إن علماء المسلمين منزهون عما رماهم به ابن محمود؛ من فرض التحجر الفكري والجمود الاجتماعي على غيرهم من المسلمين، وإلزامهم باعتقاد ما ليس بحق مما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم، أو على رأي بعض العلماء أو بعض الفقهاء، فكل هذا مما ينزه عنه علماء أهل السنة، وأما حث الناس على الإيمان بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب، ومنها خروج المهدي في آخر الزمان، فليس ذلك من فرض التحجر الفكري والجمود الاجتماعي كما زعم ذلك ابن محمود، وإنما هو من النصيحة الواجبة على المسلمين بعضهم لبعض، ومن الدعاء إلى الخير والتعاون على البر والتقوى. الوجه الخامس: أن يقال: إذا كان الإيمان بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي من التحجر الفكري والجمود الاجتماعي عند ابن محمود، ومن الركون إلى الخيال والمحالات، والاستسلام للأوهام والخرافات على حد زعمه، فنِعم التحجر ونِعم الجمود ونِعم الركون ونِعم الاستسلام، الذي يدعو صاحبه إلى الإيمان بأخبار الصادق المصدوق -صلوات وسلامه عليه-. الوجه السادس: أن يقال: إن التحجر الفكري والجمود الذي هو ضرر محض، هو الركون والاستسلام لأوهام أحمد أمين وتخرصاته، وما وقع في نظره من إنكار خروج المهدي، وإنكار ما جاء فيه من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الركون والاستسلام لأوهام غيره من العصريين، الذين لا يبالون برد الأحاديث الثابتة إذا كانت مخالفة لأفكارهم الفاسدة، وقد قلدهم ابن محمود وركن إلى آرائهم وأفكارهم الفاسدة، واستسلم لأوهامهم وتخرصاتهم في إنكار خروج المهدي ومعارضة الأحاديث الثابتة فيه، وقد تقدم بيان ذلك في أول الكتاب وفي أثنائه فليراجع (¬1). الوجه السابع: أن يقال: ما هو المانع من الإيمان بوجود شخص غائب أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه في آخر الزمان، وأخبر أنه يعمل بسنته، وأن خلقه يطابق خلقه، وأنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، ليس هناك مانع من الإيمان بوجود هذا الشخص الفاضل الذي يعز الله به الإسلام والمسلمين، ويجدد به ما اندرس من الدين، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- في آخر الزمان، وأخبر بخروج القحطاني والجهجاه، والخليفة الذي ............................................. ¬

_ (¬1) ص (32 - 33) (160، 161).

ذكر بعض الخوارق التي ستكون قبل قيام الساعة

يحثو المال حثوًا ولا يعده عدًا، وكل هؤلاء أشخاص غائبون وسيخرجون في آخر الزمان كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-، فهل يؤمن ابن محمود بخروج هؤلاء الأشخاص في آخر الزمان، أم يقول فيهم مثل قوله في المهدي؟ فإن آمن بخروجهم في آخر الزمان انتقض قوله في المهدي، وإن لم يؤمن بخروجهم فتلك بلية من أعظم البلايا عليه. وإذا كان موقف ابن محمود من خروج المهدي ما تقدم عنه من المبالغة في إنكاره، والمكابرة في رد الأحاديث الثابتة فيه، ووصفها بالصفات الذميمة، وزعمه أن التصديق بخروج المهدي من الركون إلى الخيال والمحالات، والاستسلام للأوهام والخرافات، فماذا يكون موقفه مما هو أعظم من ذلك من خوارق العادات، التي ستكون في آخر الزمان؟ مثل تكليم الأحجار والأشجار والحوائط والدواب للمسلمين الذين يقاتلون اليهود في آخر الزمان، فقد جاء ذلك في عدة أحاديث بعضها في الصحيحين وبعضها في غيرهما. منها ما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله»، وفي رواية لمسلم: «لتقاتلن اليهود فلتقتلنهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم، هذا يهودي فتعال فاقتله». ومنها ما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر، فيقول الحجر: يا مسلم، هذا يهودي يختبئ ورائي تعال فاقتله»، هذا لفظ أحمد ولفظ البخاري نحوه، ولفظ مسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنها من شجر اليهود» ورواه الإمام أحمد أيضًا بهذا اللفظ. ومنها ما رواه ابن ماجة عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- في حديثه الطويل في ذكر خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وقتله الدجال، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء، لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة، إلا ..................

الغرقدة؛ فإنها من شجرهم لا تنطق، إلا قال: يا عبد الله المسلم، هذا يهودي فتعال اقتله» وهذا حديث صحيح رواه ابن خزيمة في صحيحه، والحافظ الضياء المقدسي في المختارة، ذكر ذلك صاحب كنز العمال، وروى الحاكم طرفًا منه، وقال: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها ما رواه الإمام أحمد وأبو يعلي، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والطبراني والحاكم، عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- في حديثه الطويل الذي ذكر فيه خروج الدجال، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الدجال: «ثم يهلكه الله وجنوده، حتى إن جذم الحائط وأصل الشجرة لينادي: يا مؤمن، أو قال يا مسلم، هذا يهودي، أو قال هذا كافر تعال فاقتله» قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وهذه نصوص لا تحتمل التأويل. ومن خوارق العادات التي ستكون في آخر الزمان أيضًا فتح القسطنطينية بالتهليل والتكبير، وقد رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. ومن ذلك أيضًا ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدجال، أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، وأنه يمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، وأنه يدعو رجلا ممتلئًا شبابًا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل، رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة، من حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه-، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح". ومن ذلك أيضًا ما رواه عبد الرازق في مصنفه، والإمام أحمد والبخاري ومسلم، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا حديثًا طويلا عن الدجال، فكان فيما حدثنا قال: «يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس، فيقول له: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر، فيقولون: لا، قال: فيقتله ثم يحييه، فيقول حين يحييه: والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن، قال: فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه» وفي رواية لمسلم: «قال فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاس، فلا يستطيع إليه سبيلا».

ومن خوارق العادات التي ستكون في آخر الزمان أيضًا تكليم السباع والجمادات للإنس، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده»، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب" قال: "وفي الباب عن أبي هريرة -رضي الله عنه-"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وفي رواية لأحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «آيات تكون قبل الساعة، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يخرج أحدكم من أهله، فيخبره نعله أو سوطه أو عصاه بما أحدث أهله بعده». وروي الإمام أحمد أيضًا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قصة تكليم الذئب لراعي الغنم، وأن الراعي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فصدقه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «إنها أمارة من أمارات بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى تحدثه نعلاه وسوطه ما أحدث أهله بعده»، قال الهيثمي: "رجاله ثقات". ومن خوارق العادات التي ستكون في آخر الزمان أيضًا، أن يأجوج ومأجوج إذا خرجوا على الناس يشرب أوائلهم بحيرة طبرية، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة، من حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح"، وروي الحاكم وابن مندة في كتاب الإيمان، عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وقال الذهبي في إسناد ابن مندة: "إنه إسناد صالح" نقله عنه ابن كثير في "النهاية"، وروي الإمام أحمد وابن ماجة وابن جرير والحاكم، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى -عليهم السلام- فتذاكروا أمر الساعة» الحديث، وفيه أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- قال: «وفيما عهد إلي ربي -عز وجل- أن الدجال خارج ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال: فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم، إن تحتي كافرًا فتعال فاقتله، قال: فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم، فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه» الحديث، قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه ......................................

الذهبي على تصحيحه، وروي الإمام أحمد وابن ماجة وابن حبان والحاكم، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس» فذكر الحديث وفيه: «ويشربون مياه الأرض، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابسًا، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: لقد كان ههنا ماء مرة» قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وروي الإمام أحمد أيضًا والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم» فذكر الحديث في خروجهم على الناس، وفيه: «فينشفون المياه» قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومن خوارق العادات التي ستكون في آخر الزمان أيضًا خروج الدابة من الأرض، تخرج فتكلم الناس كما قال الله -تعالى-: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} الآية، وخروجها مذكور في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وروى الطبراني والحاكم، عن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وصححه الحاكم والذهبي. ومن أعظم خوارق العادات التي ستكون في آخر الزمان أيضًا طلوع الشمس من مغربها، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وليس هذا موضع ذكرها، وقد ذكرت جملة منها في الجزء الثاني من "إتحاف الجماعة"، فلتراجع هناك. ومن خوارق العادات التي ستكون في آخر الزمان أيضًا اجتزاء المؤمنين بالتسبيح والتكبير والتحميد والتهليل عن الطعام إذا عدم الطعام، وذلك في السنوات الشداد التي تكون بين يدي الدجال وفي أيام الدجال أيضًا، وقد جاء في ذلك عدة أحاديث ذكرتها في الجزء الثاني من "إتحاف الجماعة" في "باب ما جاء في حبس المطر والنبات عند خروج الدجال"، وفي الباب الذي بعده فلتراجع هناك. وإذا كان ابن محمود قد ضاق ذرعًا بالأحاديث الثابتة في المهدي، وزعم أن التصديق بخروجه من الركون إلى الخيال والمحالات، والاستسلام للأوهام والخرافات، فماذا يكون موقفه من خوارق العادات التي ستكون في آخر الزمان، والتي هي .......................

تخرصات العصريين في يأجوج ومأجوج وسد ذي القرنين

أعظم من خروج المهدي، فهل يصدق بوقوعها أم يسلك فيها مسلكه في أحاديث المهدي؟ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فمن شاء أقامه ومن شاء أزاغه، والله المسئول أن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. وهذا آخر ما تيسر إيراده فيما يتعلق بالمهدي، وبقي الكلام في يأجوج ومأجوج وسد ذي القرنين، وقبل إيراد كلام ابن محمود في ذلك والرد عليه، أذكر ما وقفت عليه من تخرصات العصريين في يأجوج ومأجوج وسد ذي القرنين. فمنهم من ينكر وجود السد، ومستندهم في ذلك ما يزعمه بعض الناس أن السائحين من دول الكفر قد اكتشفوا الأرض كلها فلم يروا سد ذي القرنين، وهذا في الحقيقة تكذيب بما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن السد، والتكذيب بما أخبر الله به في كتابه كفر وظلم، قال الله -تعالى-: {وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ}، وقال -تعالى-: {وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}، والتكذيب بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر أيضًا؛ لأن تكذيبه ينافي الشهادة بالرسالة، ويلزم عليه تكذيب قول الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» وفي هذا الحديث دليل على وجوب الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب، ما مضى منها وما سيكون قبل قيام الساعة وبعد قيامها، ومن ذلك اندكاك السد في آخر الزمان، وخروج يأجوج ومأجوج على الناس، ومن لم يؤمن بهذا فهو داخل في حكم هذا الحديث الصحيح، والله أعلم. قال القاضي عياض في كتابه "الشفاء": " اعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده، أو حرفًا منه، أو آية، أو كذب به، أو بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه أو نفي ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك، فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال الله -تعالى-: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} " انتهى.

ذكر بعض الأحاديث في خروج يأجوج ومأجوج

وقال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه "المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية" ما نصه: "السد حق ثابت، ولا ينفتح ليأجوج ومأجوج إلا قرب الساعة، فمن قال بعدم وجود سد على وجه الأرض، ومستنده في ذلك قول الكشافين من النصارى، وأنهم لم يعثروا عليه يكفر، وقد وقع للشيخ عبد الرحمن قاضي المرج مع متصرف بني غازي، فإنه قال في جمع عظيم إنه لا سد في الأرض موجود، لأخبار السائحين في الأرض من النصارى، فقام الشيخ عبد الرحمن إليه أمام الحاضرين وقال: كفرت، تصدق الكشافين وتكذيب رب العالمين، ثم تدارك المتصرف نفسه وقال: إنما قلت ذلك على طريق الحكاية عنهم، ولست معتقدًا لذلك، قال الكافي: ولا يكون قول الكشافين شبهة تنفي عنه الكفر؛ لأنه لو كان إيمانه ثابتًا لما ترك قول الله -تعالى- وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - المستحيل عليهما الكذب وتبع قول من لا دين له". انتهى. ومن العصريين من يزعم أن يأجوج ومأجوج هم جميع دول الكفر، وقد صرح الشيخ محمد بن يوسف الكافي بتكفير من قال ذلك كما سيأتي في كلامه قريبًا -إن شاء الله تعالى-، ووجه القول بتكفير من قال به أنه يلزم عليه تكذيب ما أخبر الله به في كتابه عن السد، وأنه قد حال بين يأجوج ومأجوج وبين الخروج على الناس، وأن يأجوج ومأجوج ما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا، وأنه إذا جاء وعد الرب -تبارك وتعالى- أي في آخر الزمان إذا دنا قيام الساعة - جعله دكاء فخرجوا على الناس، وذلك بعد ما ينزل عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- إلى الأرض ويقتل الدجال، وقد جاء ذلك صريحًا في عدة أحاديث صحيحة؛ منها حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وقتله الدجال، قال: «فبينما هو كذلك إذ أوحي الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة» الحديث رواه الإمام أحمد .....

ومسلم والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح". ومنها حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الدجال ونزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- وفيه: «فبينما هم كذلك إذا أخرج الله يأجوج ومأجوج» الحديث رواه الحاكم وابن مندة في كتاب الإيمان، قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وقال ابن كثير في "النهاية": "قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: في إسناد ابن مندة، هذا إسناد صالح". ومنها حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى -عليهم السلام- فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إليَّ ربي - عز وجل- أن الدجال خارج ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال: فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم، إن تحتي كافر فتعال فاقتله، قال: فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، قال: ثم يرجع الناس يشكونهم، فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم، حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ففيما عهد إلي ربي - عز وجل- أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المُتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلا أو نهارًا» رواه الإمام أحمد وابن ماجة وابن جرير والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وزاد ابن ماجة والحاكم فيه قال العوام - وهو ابن حوشب أحد رواته -: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل- ثم قرأ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}. وفي هذه الأحاديث دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-، وذلك عند اقتراب الساعة كما هو منصوص عليه في قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} أي دنا قيام الساعة، وفي هاتين الآيتين مع الأحاديث التي تقدم ذكرها أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج هم دول ................................................

ذكر الآيات العشر التي تكون بين يدي الساعة

الكفر في آسيا وأوربا وأمريكا وغيرها من بلاد المشركين؛ لأن هؤلاء الكفرة لم يزالوا مختلطين بالناس ولم يكن بينهم وبين الناس سد من حديد يحول بينهم وبين الخروج على الناس. ومما يُرد به أيضًا على المتخرصين الزاعمين أن يأجوج ومأجوج هم دول الكفر، ما جاء في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري -رضي الله عنه- قال: اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر فقال: «ما تذاكرون؟» قالوا: نذكر الساعة، قال: «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات؛ فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم -صلى الله عليه وسلم-، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخِر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم واللفظ له، وأهل السنن، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وعن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، رواه الطبراني والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه. وفي هذين الحديثين دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون قبيل قيام الساعة، وأن خروجهم من جملة الآيات الكبار المؤذنة باقترابها. وقد قال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه "المسائل الكافية في بيان وجوب صدق خبر رب البرية" ما نصه "المسألة الثانية والثلاثون": "يأجوج ومأجوج هم أناس بالغون في الكثرة عددًا لا يعلمه إلا الله -تعالى-، ولا يستطيع أحد مقاومتهم عند خروجهم من السد لكثرتهم، وهم مفسدون في الأرض كما أخبر الله -تعالى- عنهم، وهم الآن محازون عن غيرهم بالسد الذي بناه ذو القرنين، وخروجهم علامة على قيام الساعة، فمن قال واعتقد أن يأجوج ومأجوج هم أوربا يكفر لتكذيبه الله -تعالى- في خبره: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}، قال حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}: "فحينئذ يخرجون (وهم) يعني يأجوج ومأجوج، (من كل حدب) من كل أكمة ومكان مرتفع، (ينسلون) يخرجون، (واقترب الوعد الحق) دنا قيام الساعة عند خروجهم من ..................

ذكر حديث فيه تقريب قيام الساعة بعد خروج الدجال

السد"، وأخرج ابن جرير عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: "لو أن رجلا اقتنى فلوًا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة" انتهى. ومن أغرب أقوال العصريين ما زعمه طنطاوي جوهري في تفسيره أن يأجوج ومأجوج هم التتار، الذين خرجوا على المسلمين في أثناء القرن السابع من الهجرة وما بعده، ولو كان الأمر على ما زعمه هذا المتخرص المتأول لكتاب الله -تعالى- على غير تأويله، لكان الدجال قد خرج في أول القرن السابع من الهجرة قبل خروج التتار على المسلمين، ولكان عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- قد نزل من السماء وقتل الدجال قبل خروج التتار، ولكان سد ذي القرنين قد دك في ذلك الزمان، ولكان أوائل التتار قد شربوا بحيرة طبرية وآخرهم لم يجدوا فيها ماء، ولكانوا قد حصروا نبي الله عيسى وأصحابه حتى دعا عليهم فأرسل الله عليهم النغف في رقابهم فأصبحوا فرسى كموت نفس واحدة، ولكانت الساعة قد قامت منذ سبعة قرون؛ لما جاء في حديث الحسن عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ثم يجيء عيسى فيقتل الدجال، ثم إنما هو قيام الساعة» رواه الإمام أحمد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين والطبراني، قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح"، وفي حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- الذي تقدم ذكره قريبًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا أمر الساعة» فذكر الحديث في خروج الدجال وقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، ودعاء عيسى عليهم فيهلكهم الله، ثم ذكر عن عيسى أنه قال: ففيما عهِد إلي رب - عز وجل- أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتم التي لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارًا. وعن سبيع - وهو ابن خالد - عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: " كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وأسأله عن الشر ... فذكر الحديث وفيه: قال «ثم يخرج الدجال» قال: قلت: فبِم يجيء به معه؟ قال: «بنهر، أو قال ماء ونار، فمن دخل نهره حط أجره ووجب وزره، ومن دخل ناره وجب أجره وحط وزره»، قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: «لو أنتجت فرسًا لم تركب فلوها حتى تقوم الساعة» " رواه الإمام أحمد بإسناد جيد، وأبو داود الطيالسي، وأبو داود السجستاني، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وإذا لم يقع شيء من الأمور العظام التي ذكرنا، فمن أبطل الباطل وأقبح الجهل والتخرص واتباع الظن ما جزم به طنطاوي جوهري في قوله إن يأجوج ومأجوج هم التتار الذين خرجوا على المسلمين في أثناء القرن السابع من الهجرة وما بعده، وقد تبعه على باطله وجهله صاحب "دليل المستفيد، على كل مستحدث جديد" فزعم أن التتار هم أوائل يأجوج ومأجوج، وزعم في موضع آخر من كتابه أن يأجوج ومأجوج قد تفرقوا في الأرض وصاروا دولا في آسيا وأوربا وأمريكا، وقد تقدم عن الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي أنه صرَّح بتكفير من قال بهذا القول، ومن المعلوم عند كل عاقل أن دول آسيا وأوربا وأمريكا لم تزل في أماكنها منذ زمان طويل، وأنه ليس بينهم وبين غيرهم سد من حديد يمنعهم من الخروج والاختلاط بغيرهم من الناس. فصفة يأجوج ومأجوج لا تنطبق على الدول المعروفة الآن، وقد تقدم في عدة أحاديث صحيحة أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون بعد نزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- وقتل الدجال، وأنهم لا يمكثون بعد خروجهم على الناس إلا مدة يسيرة، ثم يدعو عليهم نبي الله عيسى فيهلكهم الله جميعًا كموت نفس واحدة، فهم بلا شك أمة عظيمة، قد حيل بينهم وبين الخروج على الناس بالسد الذي بناه ذو القرنين، وهذا السد لا يندك إلا إذا دنا قيام الساعة، كما أخبر الله بذلك في كتابه العزيز. وأما كون السائحين في الأرض لم يروا يأجوج ومأجوج ولا سد ذي القرنين، فلا يلزم منه عدم السد ويأجوج ومأجوج، فقد يصرف الله السائحين عن رؤيتهم ورؤية السد، وقد يجعل الله فوق السد ثلوجًا متراكمة بحيث لا تمكن رؤية السد معها، أو يجعل الله غير ذلك من الموانع التي تمنع من رؤية يأجوج ومأجوج ورؤية السد. والواجب على المسلم الإيمان بما أخبر الله به في كتابه عن السد ويأجوج ومأجوج، وما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، ولا يجوز للمسلم أن يتكلف ما لا علم له به، ولا يقول بشيء من أقوال المتكلفين المتخرصين، بل ينبذها وراء ظهره ولا يعبأ بشيء منها. والمقصود ههنا بيان أن إنكار السد ويأجوج ومأجوج بالكلية كفر بلا شك، لما في ذلك من تكذيب ما أخبر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن السد ويأجوج ومأجوج، وأما الاعتراف بوجود السد في قديم الزمان، والقول بزواله بعد زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، .........................

اعتراض ابن محمود على السفاريني فيما ذكره عن يأجوج ومأجوج

وخروج يأجوج ومأجوج واختلاطهم بالناس، فهذا أخف من القول الأول لما فيه من التأويل، ولا ينبغي أن يطلق الكفر على قائله، ولكن لا يجوز اعتقاده؛ لأنه قول باطل مخالف لما أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن السد، أنه لا يندك إلا إذا دنا قيام الساعة، وأن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى وقتل الدجال. فصل قال ابن محمود في صفحة (74، 75، 76) الحديث عن يأجوج ومأجوج، "لقد أكثر السفاريني في كتابه "لوائح الأنوار" من أحاديث يأجوج ومأجوج على صفة ما عمله في أحاديث المهدي؛ لأنه حاطب ليل يجمع الغث والسمين والصحيح والسقيم، ونحن نسوق لك قليلا من كثير من أحاديثه التي ذكرها منها حديث: «إن منهم من طوله مائة وعشرون ذراعًا، ومنهم من طوله قدر شبر، ومنهم من يفترش شحمة أذنه ويلتحف بالأخرى»، وحديث: «إنه لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من أولاده»، وأحاديث تصفهم بصفة الإرهاب، وأن لهم أنيابًا كالسباع وقرون، ونقل عن كعب الأحبار في صفة بدء خلقهم: وذلك أن آدم احتلم فاختلط ماؤه بالتراب، فخلق منه يأجوج ومأجوج، قال: فهم إخوتنا لأبينا. كل هذه وما هو أكثر منها ذكرها السفاريني، ويأجوج ومأجوج قد أخبر الله عنهم في كتابه مما لا شك فيهم، فقال -سبحانه-: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}، وقال: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ}، فالمسلمون يصدقون في وجودهم بلا شك، ولكنهم يخوضون في أمرهم، وفي مكان وجودهم، وفي صفة خلقهم، مع علمهم أنهم من نسل آدم بل ومن ذرية نوح، وأوصافهم لا تنطبق على أوصاف الملائكة، ولا على أوصاف بني آدم، ولا يدرون كيف يخرجون على الناس، أينزلون عليهم من السماء أم ينبعون من الأرض؟! لعلمهم أن الناس قد اكتشفوا سطح الأرض كلها فلم يروهم ولم يروا سدًا، وتسلط بعض الملاحدة على التكذيب بالقرآن من أجلهم، وقالوا: إن القرآن يذكر أشياء لا وجود لها، فبينما هم كذلك في غمرة من الجهل ساهون إذ طلع عليهم نور هداية ودلالة، يحمله علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي -رحمه الله- ويخبرهم عن حقيقة فتح يأجوج ومأجوج قائلا: لا تبعدوا النظرة ...................................................

الرد على اعتراضه على السفاريني

ولا تسرحوا في الفكرة، فإن يأجوج ومأجوج عن أيمانكم وعن شمائلكم ومن خلفكم، فما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، والتي تداعي عليكم كتداعي الأكلة على قصعتها، وقد أقبلوا عليكم من كل حدب ينسلون، حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، وهذا هو حقيقة الفتح لهم، والذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري ومسلم، عن زينب بنت جحش قالت: خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعًا قد احمرَّ وجهه، وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، فقلنا: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: «نعم، إذا كثر الخبث». وكان ابتداء حركتهم في ظهورهم على المسلمين، من غزوة مؤتة حين غزاهم المسلمون لدعوتهم إلى الإسلام، ثم صار ظهورهم يزداد عامًا بعد عام. وقد روي الإمام أحمد وأبو داود، عن ثوبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعت الأكلة على قصعتها»، قالوا: يا رسول الله، أمِن قلة نحن يومئذ؟! قال: «لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينزع الله مهابة عدوكم منكم، ويسكنكم مهابتهم، ويلقي في قلوبكم الوهن»، قالوا: وما الوهن، يا رسول الله؟ قال: «حب الدنيا، وكراهة الموت». ولما أخرج الشيخ عبد الرحمن بن سعيد -رحمه الله- رسالته في تحقيق أمر يأجوج ومأجوج على صفة ما ذكره في تفسيره واستنباطه، أنكر عليه بعض العلماء ذلك واتهموه بأنه يُكذِّب بالقرآن، واستدعي للمحاكمة زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن -رحمه الله- فبرهن عن حقيقة رسالته، وأنها تصدق القرآن وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم وسوء اعتقادهم، لهذا تبين للعلماء حسن قصده، وزال عن الناس ظلام الأوهام وضلال أهل الزيغ والبهتان، وصار لهذه الرسالة الأثر الكبير في إخماد نار الفتنة بيأجوج ومأجوج، حتى استقر في أذهان العلماء والعوام صحة ما قاله بمقتضى الدليل والبرهان، ونحن نسوق فقرات من رسالته للاتعاظ بها والانتفاع بعلمها". والجواب: أن يقال: أما قول ابن محمود في السفاريني: إنه حاطب ليل يجمع الغث والسمين والصحيح والسقيم، فهو مما ينطبق عليه المثل المشهور وهو قولهم: "يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عينه"، فابن محمود أولى أن يوصف بأنه حاطب ليل ولا سيما في رسالته في المهدي ويأجوج ومأجوج، فقد جمع فيها ................................

من الغث والسقيم ما يتنزه عنه كل من له عقل ودين، وهي مع هذا خالية من السمين والصحيح لأنها كلها أخطاء من أولها إلى آخرها وقد تقدم إيضاح ذلك عند كل فقرة من كلامه. وأما الأحاديث التي ساقها ابن محمود من كتاب السفاريني وأنكر عليه ذكرها في كتابه وقال أنه حاطب ليل. فالجواب: أن يقال: أما الأحاديث المنكرة في صفات يأجوج ومأجوج فقد ذكرها ابن جرير والبغوي والقرطبي في تفاسيرهم، وذكرها القرطبي أيضًا في التذكرة، وذكرها غيرهم من أكابر العلماء، فمن أنكر على السفاريني وزعم أنه حاطب ليل من أجل أنه ذكرها، فلينكر على من ذكرها قبله من أكابر العلماء، وليصفهم بما وصف به السفاريني، ولا يجعل التحامل خاصًا بالسفاريني. وأما الحديث الذي فيه: «إنه لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من أولاده» فقد رواه الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- مرفوعًا، وفيه بعض الصفات المنكرة مما قيل في يأجوج ومأجوج، قال الهيثمي: "فيه يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف"، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "أخرجه ابن عدي وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه، وهو من رواية يحيى بن سعيد العطار عن محمد بن إسحاق عن الأعمش، والعطار ضعيف جدًا، ومحمد بن إسحاق، قال ابن عدي: ليس هو صاحب المغازي، بل هو العكاشي، قال: والحديث موضوع، وقال ابن أبي حاتم: منكر". قال الحافظ ابن حجر: "لكن لبعضه شاهد صحيح أخرجه ابن حبان من حديث ابن مسعود رفعه: «إن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم لصلبه ألفًا من الذرية»، وللنسائي من رواية عمرو بن أوس عن أبيه رفعه: «إن يأجوج ومأجوج يجامعون ما شاءوا، ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا»، وأخرج الحاكم وابن مردويه من طريق عبد الله بن عمرو: «إن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم، ووراءهم ثلاث أمم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا»، وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن عبد الله بن سلام مثله". انتهى المقصود مما ذكره الحافظ ابن حجر، وحديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- الذي ذكره الحافظ ابن حجر قد رواه عبد الرازق في مصنفه، والحاكم في المستدرك من طريقين، قال في كل منهما: "صحيح ..........................

يأجوج ومأجوج من بني آدم وصفة وجوههم وعيونهم وشعورهم

على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وروى أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، وإنهم لو أرسلوا على الناس لأفسدوا عليهم معايشهم، ولن يموت منهم أحد إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا»، ورواه الطبراني في الكبير والأوسط من طريق أبي داود الطيالسي، قال الهيثمي: "ورجاله ثقات". وأما الحديث الذي فيه أن منهم من طوله مائة وعشرون ذراعًا، ومنهم من طوله قدر شبر، ومنهم من يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، أو أن لهم قرونًا وأنيابًا مثل السباع، فكل هذه من الأحاديث الموضوعة، فلا يعول على شيء منها. والصحيح ما قاله ابن كثير -رحمه الله تعالى- إنهم من بني آدم، وإنهم على أشكالهم وصفاتهم، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد والطبراني عن ابن حرملة، عن خالته -رضي الله عنها- قالت خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب، فقال: «إنكم تقولون لا عدو، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا حتى يخرج يأجوج ومأجوج، عراض الوجوه صغار العيون صهب الشعاف، من كل حدب ينسلون، كأن وجوههم المجان المطرقة»، قال الهيثمي: "رجالهما رجال الصحيح". الشعاف: الشعور. وأما ما نقل عن كعب الأحبار في صفة بدء خلقهم، وأن أدم احتلم فاختلط ماؤه بالتراب فخلق منه يأجوج ومأجوج، فهو قول باطل مردود؛ لأن الله -تعالى- قال مخبرًا عن نوح -عليه الصلاة والسلام-: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ}، فدلت هذه الآية الكريمة على أن يأجوج ومأجوج من ذرية نوح -عليه الصلاة والسلام-، وقد روى الحاكم في مستدركه، عن سعيد بن المسيب أنه قال: "ولد نوح -عليه الصلاة والسلام- ثلاثة؛ سام، وحام، ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم وفي كل هؤلاء خير، وولد حام السودان والبربر والقبط، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج"، ورواه البزار في مسنده من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه مرفوعًا: «وُلِدَ لنوح سام وحام ويافث، فوُلِدَ لسام العرب وفارس والروم والخير فيهم، وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم، وولد لحام القبط والبربر والسودان»، في إسناده محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي عن أبيه، وكلاهما ضعيف، قال ابن كثير: "والمحفوظ عن سعيد من قوله، وهكذا روي عن وهب بن منبه مثله". انتهى.

تخليط ابن محمود في أوصاف يأجوج ومأجوج وخروجهم على الناس والرد عليه

وقال ابن كثير أيضًا: "من زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم فاختلطت بالتراب فخلقوا من ذلك، وأنهم ليسوا من حواء، فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النواوي في شرح مسلم وغيره وضعفوه، وهو جدير بذلك إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن، وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدًا، فمنهم من هو كالنخلة السحوق، ومنهم من هو في غاية الصغر، ومنهم من يفترش أذنا من أذنيه ويتغطى بالأخرى، فكل هذه أقوال بلا دليل ورجم بالغيب بغير برهان، والصحيح أنهم من بني آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن»، وهذا فيصل في هذا الباب وغيره". انتهى. وأما قوله: فالمسلمون يصدقون في وجودهم بلا شك، ولكنهم يخوضون في أمرهم، وفي مكان وجودهم، وفي صفة خلقهم، مع علمهم أنهم من نسل آدم، بل ومن ذرية نوح. فجوابه: أن يقال: من آمن بما أخبر الله به في كتابه عن يأجوج ومأجوج لم يشك أنهم من وراء السد الذي بناه ذو القرنين، وقد أخبر الله عنهم أنهم ما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا، وأنه إذا جاء وعد الرب -تبارك وتعالى- جعله دكاء فخرجوا على الناس، وذلك في آخر الزمان بعد نزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وقتله الدجال، كما جاء في حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله -تعالى- يوحي إلى عيسى بإخراج يأجوج ومأجوج، وقد تقدم هذا الحديث قريبًا، وحديث حذيفة وابن مسعود -رضي الله عنهما- بمعناه. وأما قوله: وفي صفة خلقهم. فجوابه: أن يقال: إنما يخوض في صفة خلق يأجوج ومأجوج من لا يعلم أنهم من بني آدم، فأما من علم أنهم من بني آدم فإنه لا يبقى عند شك أنهم على أشكال بني آدم وصفاتهم. وأما قوله: وأوصافهم لا تنطبق على أوصاف الملائكة ولا على أوصاف بني آدم، ولا يدرون كيف يخرجون على الناس، أينزلون عليهم من السماء أم ينبعون من الأرض؟!

فجوابه: أن يقال: لا يخفى ما في هذا الكلام من التخليط الذي يتنزه عنه كل عاقل، فأما أوصاف الملائكة فمن أين لابن محمود العلم بها حتى يقول إن أوصاف يأجوج ومأجوج لا تنطبق عليها، وأما أوصاف بني آدم فقد قال ابن محمود إن يأجوج ومأجوج من نسل آدم ومن ذرية نوح، ولا يخفى على عاقل أن أوصاف بني آدم وأشكالهم متقاربة، وإنما يختلفون في الألسنة والألوان، وحسن الوجوه أو قبحها. وأما قوله: ولا يدرون كيف يخرجون على الناس. فجوابه: أن يقال: إن خروجهم على الناس في آخر الزمان لا يختلف عن خروج غيرهم من بني آدم، وإنما يكون ذلك إذا جعل الله السد دكاء كما قال الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين أنه قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ}، وقد أخبر الله عنهم أنهم من كل حدب ينسلون؛ أي يسرعون. وأما قوله: أينزلون من السماء أم ينبعون من الأرض؟! فجوابه: أن يقال: لا يظن بأحد من المسلمين أنه يقول بهذا القول المستهجن؛ لأن يأجوج ومأجوج ليسوا ملائكة ينزلون من السماء، وليسوا ماء ولا غيره من المعادن السائلة التي تنبع من الأرض. وأما قوله: لعلمهم أن الناس قد اكتشفوا سطح الأرض كلها، فلم يروهم ولم يروا سدًا. فجوابه: أن يقال: الصواب أن يقال: سطح الأرض كله، ويقال أيضًا: إن قدرة بني آدم تعجز عن اكتشاف سطح الأرض كله، ولو قدر أنهم اكتشفوه فقد يصرف الله السائحين عن رؤية يأجوج ومأجوج ورؤية السد، لما له في ذلك من الحكمة. والمقصود هنا بيان أنه يجب الإيمان بما أخبر الله به في كتابه عن السد ويأجوج ومأجوج، وأن يأجوج ومأجوج ما اسطاعوا أن يظهروا السد وما استطاعوا له نقبًا، وأنه إذا جاء وعد الرب -تبارك وتعالى- جعله دكاء، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" في الكلام على قول الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين أنه قال: " {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي}؛ أي الوقت الذي قدر خروجهم على الناس في آخر الزمان، {جَعَلَهُ دَكَّاءَ}؛ أي مساويًا ......................

الرد على كلام له غير معقول قد غلا فيه غاية الغلو

للأرض، ولا بد من كون هذا، ولهذا قال: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، كما قال -تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الآية، ولهذا قال ههنا: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}؛ يعني يوم فتح السد على الصحيح". انتهى. ويجب أيضًا الإيمان بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة، عن النواس بن سمعان وابن مسعود وحذيفة -رضي الله عنهم- أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون على الناس بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل الدجال، وقد قال الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}، فدلت الآيتان على أن فتح يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، وقد جاء في حديث حذيفة بن أسيد، وحديث واثلة بن الأسقع، أن خروج يأجوج ومأجوج من الآيات العشر الدالة على اقتراب الساعة، وقد تقدم إيراد الحديثين قريبًا فليرجع إليهما (¬1). وأما قوله: وتسلط بعض الملاحدة على التكذيب بالقرآن من أجلهم، وقالوا إن القرآن يذكر أشياء لا وجود لها. فجوابه: أن يقال: إن الملاحدة قد تسلطوا على تكذيب القرآن في أشياء كثيرة غير السد ويأجوج ومأجوج، ولا سيما معجزات الأنبياء وما أيدهم الله به من خوارق العادات؛ مثل انشقاق القمر، وفلق البحر لموسى حتى صار كل فرق كالطود العظيم، وجعل العصا حية تسعى، وتفجير العيون من الحجر الصغير الذي يحمل على الدابة، وإهلاك الأحباش بالأحجار التي تحملها الطير في مناقيرها وأرجلها، إلى غير ذلك من المعجزات والخوارق التي لا تحتملها عقول الملاحدة، فلا يستكثر منهم التكذيب بوجود السد ويأجوج ومأجوج. وأما قوله: فبينما هم في غمرة من الجهل ساهون إذ طلع عليهم نور هداية ودلالة، يحمله علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي -رحمه الله- ويخبرهم عن حقيقة فتح يأجوج ومأجوج، قائلا: لا تبعدوا النظرة ولا تسرحوا في الفكرة، فإن يأجوج ومأجوج عن أيمانكم وعن شمائلكم ومن خلفكم، فما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم. ¬

_ (¬1) ص (313، 314).

فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: هذا الكلام بهذا السياق غير موجود في رسالَتَي ابن سعدي اللتين كتبهما في خروج يأجوج ومأجوج، والظاهر أن ابن محمود أخذه من مضمون كلام ابن سعدي ثم نسبه له، ولو أن ابن محمود نسبه إلى نفسه وذكر أنه أخذه من مضمون كلام ابن سعدي لكان أولى وأوفق للأمانة في النقل. الوجه الثاني: أن يقال: ما ذكره ابن محمود في يأجوج ومأجوج أنهم أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، فهو قول مخالف لما أخبر الله به عن ذي القرنين أنه جعل بين الناس وبين يأجوج ومأجوج سدًا من حديد، وأن يأجوج ومأجوج ما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا، وأنه إذا جاء وعد الرب -تبارك وتعالى- جعله دكاء، وحينئذ يخرجون على الناس، وذلك في آخر الزمان عند اقتراب الساعة، كما قال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}، وإذا في قوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي}، وفي قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} لما يستقبل من الزمان، وهذا يدل على أن يأجوج ومأجوج لم يزالوا وراء السد حتى يأتي وقت خروجهم في آخر الزمان، وفي قوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} دليل على أنهم إنما يخرجون إذا دنا قيام الساعة. وقد أوضح ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه النواس بن سمعان -رضي الله عنه- حيث قال بعد ذكر خروج الدجال ونزول عيسى وقتل الدجال: «فبينما هم كذلك إذ أوحي الله إلى عيسى؛ إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج» الحديث، وفي حديث حذيفة وحديث ابن مسعود -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وقد تقدم إيراد هذه الأحاديث قريبًا فلتراجع (¬1). ولا يخفى ما في الكلام الذي نسبه ابن محمود لابن سعدي من المخالفة لما أخبر الله به في كتابه، وما كان كذلك فهو باطل وضلال، ومن زعم أنه نور هداية ودلالة فلا شك أنه لا يعرف الفرق بين نور الهداية والدلالة وبين ظلام الضلال والإضلال. الوجه الثالث: أن يقال: إن أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم قد ...... ¬

_ (¬1) ص 311 - 312.

كانوا موجودين في جميع الجهات شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالا، وعن أيمان المسلمين وعن شمائلهم ومن خلفهم من قبل أن يوجد السد وبعد أن وجد، ولم يزالوا كذلك على ممر الأزمان، ومع هذا فلم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال إنهم هم يأجوج ومأجوج، ولم يؤثر ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم ولا من بعدهم من العلماء، حتى جاء المتكلفون في آخر القرن الرابع عشر من الهجرة فزعموا أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، فهل يقول مسلم عاقل إن المتكلفين أعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - بيأجوج ومأجوج، أو يقول من له أدنى عقل ودين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن بعدهم إلى آخر القرن الرابع عشر من الهجرة كانوا في غمرة من الجهل ساهون، حتى طلع عليهم نور الهداية والدلالة من أحد المتكلفين القائلين في حقيقة يأجوج ومأجوج بغير علم؟ كلا، لا يقول هذا مسلم عاقل. الوجه الرابع: أن يقال: إن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وقتله الدجال، كما جاء ذلك صريحًا في الأحاديث التي تقدم ذكرها قريبًا عن النواس بن سمعان، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم- فلتراجع (¬1)، ففيها أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم. الوجه الخامس: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر في حديث النواس بن سمعان الذي تقدم ذكره قريبًا أن يأجوج ومأجوج إذا بعثوا يمر أولهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، وجاء في حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- نحو ذلك، وجاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن يأجوج ومأجوج إذا خرجوا يطئون البلاد فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمروه على ماء إلا شربوه، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم؛ لأن الذين قد ملئوا الأرض شرقًا وغربًا من أمم الكفار لم يقع منهم شيء مما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يأجوج ومأجوج، فلم يهلكوا ما أتوا عليه، ولم ينقصوا ما عندهم من المياه، فضلا عن أن يشربوا بحيرة طبرية وينشفوها، مع أن بعضهم كانوا مجاورين لها أزمانًا طويلة. ¬

_ (¬1) ص (311، 312).

الوجه السادس: أن يقال: قد أخبر الله -تعالى- أن فتح يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، فقال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}، وفي قوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} أوضح دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، ويدل على ذلك ما أخبر الله به عن ذي القرنين أنه لما أتم بناء السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، قال الله -تعالى-: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا}، قال السدي في قول الله -تعالى-: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: "ذاك حين يخرجون على الناس"، قال ابن كثير: "وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال". انتهى. الوجه السابع: أن يقال: قد جاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن الله -تعالى- عهد إلى عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- أنه بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم فإن الساعة كالحامل المُتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارًا، وهذا يدل على أن خروجهم إنما يكون إذا دنا قيام الساعة، وقد روى ابن جرير عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: «لو أن رجلا افتلى فلوًا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة»، ويشهد له ما رواه ابن أبي شيبة عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، فما بعد الدجال؟ قال: «عيسى ابن مريم»، قلت: فما بعد عيسى ابن مريم؟ قال: «لو أن رجلا أنتج فرسًا لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة»، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج قد خرجوا، وأنهم أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، وأن أول ظهورهم على المسلمين كان في غزوة مؤتة، فكل هذا من التوهمات والتخرصات، وقد ذكرت من الآيات والأحاديث ما فيه كفاية لرد هذا القول الباطل وبيان بطلانه. الوجه الثامن: أن يقال: قد جاء في حديث ابن حرملة عن خالته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن المسلمين لا يزالون يقاتلون عدوًا حتى يخرج يأجوج ومأجوج، وقد تقدم هذا الحديث قريبًا (¬1)، وروى الإمام أحمد وابن سعد، والبخاري في تاريخه، والنسائي والطبراني، عن سلمة بن نفيل الكندي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج»، وفي هذا الحديث وما قبله أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم ................................. ¬

_ (¬1) ص (319).

رجوع ابن سعدي عن قوله في يأجوج ومأجوج ظاهر مما قرره في تفسيره

وأوطانهم؛ لأن القتال بين المسلمين وبين أمم الكفار لم يزل منذ زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يزال كذلك إلى أن ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ويقاتل الناس على الإسلام، ولو كان الأمر على ما توهمه المتكلفون لكانت الحرب قد وضعت أوزارها منذ وجدت أمم الكفار في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا ظاهر البطلان. الوجه التاسع: أن يقال: ما قرره الشيخ ابن سعدي في رسالته من أن يأجوج ومأجوج ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم فهو مخالف لما قرره في تفسيره لسورة الأنبياء، فقد قرر فيها أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون في آخر الزمان، قال في الكلام على قول الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الآية، ما نصه: "هذا تحذير من الله للناس أن يقيموا على الكفر والمعاصي، وأنه قد قرب انفتاح يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان عظيمتان من بني آدم، وقد سد عليهم ذو القرنين لما شكي إليه إفسادهم في الأرض، وفي آخر الزمان ينفتح السد عليهم فيخرجون إلى الناس، وفي هذه الحالة والوصف الذي ذكره الله، من كل مكان مرتفع وهو الحدب ينسلون أي يسرعون، في هذا دلالة على كثرتهم الباهرة وإسراعهم في الأرض، إما بذواتهم وإما بما خلق الله لهم من الأسباب التي تقرب لهم البعيد وتسهل عليهم الصعب، وأنهم يقهرون الناس ويعلون عليهم في الدنيا، وأنه لا يد لأحد بقتالهم". انتهى، وهذا صريح في رجوعه عما كان يقوله في يأجوج ومأجوج إنهم أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، وقال في تفسير سورة الكهف في الكلام على قول الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}: "قال المفسرون ذهب متوجهًا من المشرق قاصدًا للشمال، فوصل إلى ما بين السدين؛ وهما سدان كانا معروفين في ذلك الزمان، سدان من سلاسل الجبال المتصلة يمنة ويسرة حتى تتصل بالبحار، بين يأجوج ومأجوج وبين الناس وجد من دون السدين قومًا لا يكادون يفقهون قولا؛ لعجمة ألسنتهم واستعجام أذهانهم وقلوبهم، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم، وراجعهم وراجعوه، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج وهما أمتان عظيمتان من بني آدم، فقالوا: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك، {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} أي جعلا، {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}، ودل ذلك على عدم اقتدارهم .............

بأنفسهم على بنيان السد ... إلى أن قال على قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}: أي الجبلين الذين بني بينهما السد، {قَالَ انْفُخُوا} النار أي أوقدوها إيقادًا عظيمًا، واستعملوا لها المنافيخ لتشتد فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد {قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} أي نحاسًا مذابًا، فأفرغ عليه القطر فاستحكم السد استحكامًا هائلا، وامتنع به من وراءه من الناس من ضرر يأجوج ومأجوج، {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} أي فمالهم استطاعة ولا قدرة على الصعود عليه لارتفاعه ولا على نقبه لإحكامه وقوته، وقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي لخروج يأجوج ومأجوج، {جَعَلَهُ} أي ذلك السد المحكم المتقن، {دَكَّاءَ} أي دكه فانهدم واستوى هو والأرض، {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} يحتمل أن الضمير يعود إلى يأجوج ومأجوج، وأنهم إذا خرجوا على الناس من كثرتهم واستيعابهم للأرض كلها يموج بعضهم ببعض، كما قال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}، ويحتمل أن الضمير يعود إلى الخلائق يوم القيامة، وأنهم يجتمعون فيه فيكثرون، ويموج بعضهم ببعض من الأهوال والزلازل العظام، بدليل قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} ". قلت والاحتمال الأول أقرب؛ لأن الله -تعالى- عقَّب قوله {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} بقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ}، فدل هذا على أن موج بعضهم في بعض يكون قبل النفخ في الصور، وهذا هو الذي قرره ابن كثير في تفسيره، وذكره عن السدي، والله أعلم. وفيما نقلته من كلام ابن سعدي في تفسيره أبلغ رد على ابن محمود، حيث تعلق بالرسالة التي قد قرر ابن سعدي في الجزء الخامس من تفسيره خلاف ما قرره فيها، وهذا الجزء مطبوع في سنة 1375 من الهجرة في المطبعة السلفية بمصر، وقد أرسل لي المؤلف نسخة منه من حين طبعه وكتب الإهداء إليَّ بخطه، وكان هذا بعد إخراجه للرسالة التي غلط فيها في أمر يأجوج ومأجوج بنحو من سبع عشرة سنة، وقد أنكر كبار العلماء في البلاد النجدية ما قرره في رسالته في أمر يأجوج ومأجوج غاية الإنكار، واستدعاه الملك عبد العزيز إلى الرياض بسببها وتهدده وتوعده، وبعد ذلك لم نسمع عنه أنه تكلم في يأجوج ....

ومأجوج بشيء حتى طبع تفسيره، فإذا كلامه فيه على خلاف ما قرره في رسالته التي أنكرها كبار العلماء، ولم يخرج في تفسير الآيات من سورة الكهف ومن سورة الأنبياء عما ذكره المفسرون في أمر يأجوج ومأجوج، فيحتمل أنه قد رجع عما قرره في رسالته، وإن لم يكن رجع عن ذلك فكلامه في يأجوج ومأجوج متناقض، فيؤخذ بما كان منه موافقًا لأقوال المفسرين من الصحابة والتابعين ويرد ما خالفهم فيه. وأما قوله: والتي تداعى عليكم كتداعي الأكلة على قصعتها. فجوابه: أن يقال: هذه الجملة ليست من كلام ابن سعدي، وإنما هي من كلام ابن محمود. ويقال أيضًا: أما الأمم التي تداعت على المسلمين فهم من أصناف الكفار من غير يأجوج ومأجوج، وقد وقع بعض ذلك حين خرج التتار على المسلمين من المشرق، وتداعت عليهم الأمم الصليبية من المغرب، وأما يأجوج ومأجوج فإنما يخرجون على الناس بعد نزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وبعد قتل الدجال، كما جاء ذلك صريحًا في حديث النواس بن سمعان الذي رواه مسلم وغيره، وجاء في حديث حذيفة بن اليمان وابن مسعود -رضي الله عنهم- نحو ذلك، وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث قريبًا (¬1). وأما قوله: وقد أقبلوا عليكم من كل حدب ينسلون حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، وهذا حقيقة الفتح لهم، والذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري ومسلم، عن زينب بنت جحش قالت: خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعًا قد احمرَّ وجهه وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى، فقلنا: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث». فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: ليس هذا من كلام ابن سعدي، وإنما هو من كلام ابن محمود، ولو أنه بيَّن ذلك لكان خيرًا له، وأوفق للأمانة العلمية. الوجه الثاني: أن يقال: إن ابن محمود قد غيَّر في لفظ الحديث، حيث قال: «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى»، ............. ¬

_ (¬1) ص (311، 312).

وصوابه: «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها». والوجه الثالث: أن يقال: إنه من الصعب أن يعقد الشخص بين السبابة والوسطى، ولعل ابن محمود ذهب وهمه إلى ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما، رواه البخاري وأبو داود والترمذي، من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه-، وروي مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، ورواه البزار وقال فيه: "وضم أصبعيه". والفرق بين التحليق بالابهام والتي تليها وبين القران بين السبابة والوسطى لا يخفى على صغار العامة فضلا عن صغار طلبة العلم، ومع هذا فقد خفي ذلك على رئيس المحاكم والدوائر الشرعية بدولة قطر. الوجه الرابع: أن يقال: لو كان الذين استدعاهم استنشاق رائحة البترول هم يأجوج ومأجوج لكانوا قد أهلكوا كل ما أتوا عليه، وشربوا كل ماء مروا عليه، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- في عدة أحاديث تقدم ذكر بعضها (¬1)، ولكان عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- قد نزل قبل إقبالهم إلى بلاد المسلمين، ولكانوا قد حصروا نبي الله عيسى ومن معه من المؤمنين حتى دعا عليهم فأهلكهم الله كموت نفس واحدة، وحيث أنه لم يقع شيء من هذا فلا شك إنما قاله ابن محمود في إقبال يأجوج ومأجوج على المسلمين وفي حقيقة الفتح لهم، إنما هو محض التخرص والقول بغير علم. الوجه الخامس: أن يقال: إن يأجوج ومأجوج قد حيل بينهم وبين الخروج على الناس بالسد الذي بناه ذو القرنين، ولا ينفتح هذا السد إلا في آخر الزمان بعد نزول عيسى وقتل الدجال، كما جاء ذلك في عدة أحاديث تقدم ذكرها (1)، ويدل على ذلك ما أخبر الله به عن ذي القرنين أنه لما أتم بناء السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، قال الله -تعالى-: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}، قال ابن كثير في "البداية والنهاية": "يعني يوم فتح السد على الصحيح"، وذكر في تفسيره عن السدي أنه قال: "ذاك حين يخرجون على الناس"، قال ابن كثير: "وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال". انتهى، ويدل عليه أيضًا قوله ........................................... ¬

_ (¬1) ص 311 - 312.

تتابع الآيات التي تكون قبيل قيام الساعة

-تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}، ففي هاتين الآيتين دليل على أن فتح يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، وفيهما مع الآيتين من سورة الكهف أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج قد خرجوا، وأقبلوا على المسلمين من كل حدب ينسلون، حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين. الوجه السادس: أن يقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الساعة: «إنها لن تقوم حتى ترو قبلها عشر آيات؛ فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام-، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف؛ خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم واللفظ له، وأهل السنن من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري -رضي الله عنه-، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وروي الطبراني وابن مردويه والحاكم من حديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وصححه الحاكم والذهبي. وإنما كان خروج يأجوج ومأجوج آية من الآيات العشر الدالة على دنو الساعة واقترابها؛ لأن الناس لم يروهم قبل خروجهم، ولما فيهم من الكثرة الهائلة، ولأنهم يطئون البلاد فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، حتى إن أوائلهم يشربون بحيرة طبرية، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، وشربهم لبحيرة طبرية ولغيرها من المياه الغزيرة غير معتاد ولا مألوف عند الناس، فلهذا كان خروجهم من الآيات الدالة على دنو الساعة، ولو كانوا قد خرجوا منذ أزمان طويلة لما كان خروجهم من قبيل الآيات العظام، والله أعلم. وقد جاء أن الآيات العشر إذا ظهر أولها تتابعت في زمن يسير، وقد جاء في ذلك عدة أحاديث، بعضها مرفوع وبعضها موقوف، منها ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خروج الآيات بعضها على اثر بعض، يتتابعن كما يتتابع الخرز في النظام» وقد رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن أحمد بن حنبل وداود الزهراني، وكلاهما ثقة". ومنها ما رواه الحاكم في مستدركه عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .....

قال: «الأمارات خرزات منظومات بسلك، فإذا انقطع السلك تبع بعضها بعضًا» قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الآيات خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضه بعضًا» قال الهيثمي: "فيه علي بن زيد، وهو حسن الحديث"، وقد رواه الحاكم في مستدركه ولم يتكلم عليه، وكذلك الذهبي. ومنها ما رواه ابن عساكر عن حذيفة بن أسيد -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط، إذا سقط منها واحدة توالت؛ خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وفتح يأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها». ومنها ما رواه ابن أبي شيبة عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: «إذا رأيتم أول الآيات تتابعت». ومنها ما رواه ابن أبي شيبة أيضًا عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: «لو أن رجلا ارتبط فرسًا في سبيل الله فأنتجت مهرًا عند أول الآيات، ما ركب المهر حتى يرى آخرها». وهذا الأثر والذي قبله لهما حكم الرفع؛ لأنه لا دخل للرأي في مثل هذا، وإنما يقال عن توقيف. وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من زعم أن يأجوج ومأجوج قد خرجوا على المسلمين حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين. الوجه السابع: أن يقال: ما زعمه ابن محمود من وقوع الفتح ليأجوج ومأجوج، وأن حقيقته هو تداعي أمم الكفار على المسلمين، وإقبالهم عليهم من حدب ينسلون، حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عناه بما روته عنه زينب بنت جحش -رضي الله عنها-، والاستدلال على ذلك بحديث ثوبان -رضي الله عنه-، فهو بلا شك من تأويل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على غير المراد به، وفي الآيات التي ذكرنا من سورة الكهف وسورة الأنبياء مع ما في الأحاديث الصحيحة عن النواس بن سمعان، وحذيفة بن اليمان، وابن مسعود -رضي الله عنهم- أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل ...........................................................

الرد على زعم ابن محمود أن الروم من يأجوج ومأجوج وأن ابتداء ظهورهم من غزوة مؤتة

الدجال أبلغ رد على الحقيقة التي زعمها ابن محمود وليست بحقيقة، وإنما هي تخرص واتِّباع للظن، وقد قال الله -تعالى-: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}. الوجه الثامن: أن يقال: ما زعمه ابن محمود من تداعي أمم الكفار على المسلمين وإقبالهم عليهم من كل حدب ينسلون حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، فهو خلاف الحقيقة؛ لأن الكفار وإن كانوا قد حسدوا المسلمين على البترول لما ظهر عندهم وودوا لو انتزعوه منهم، فهم مع ذلك لم يتداعوا على المسلمين ولم يقبلوا عليهم من كل حدب ينسلون، ولم يكونوا يأخذون من بترول المسلمين شيئًا إلا بالثمن أو في مقابلة أعمالهم في استخراجه من أعماق الأرض وتصفيته، وكثير من أمم الكفار يتظاهرون بالصداقة للمسلمين ليبذلوا لهم شيئًا من البترول بالثمن، أفلا يستحي ابن محمود من نشر مزاعمه التي يشهد الواقع بخلافها؟! وأما قوله: وكان ابتداء حركتهم في ظهورهم على المسلمين من غزوة مؤتة حين غزاهم المسلمون لدعوتهم إلى الإسلام، ثم صار ظهورهم يزداد عامًا بعد عام. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: لا يخفى على من له أدنى علم بالتواريخ والسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث الجيش يوم مؤتة لقتال الروم، وهم الذين كانوا في الشام في زمن الجاهلية وفي زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ثم ظهر عليهم المسلمون في زمان عمر بن لخطاب -رضي الله عنه- وانتزعوا الشام منهم، فأما يأجوج ومأجوج فبلادهم في أقصى المشرق من ناحية الشمال، ذكر ذلك غير واحد من المتكلمين على الأقاليم ومواقع البلدان فيها، وقد روي ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} قال: "الجبلين الردم الذي بين يأجوج ومأجوج، أمتين من وراء ردم ذي القرنين، قال: الجبلان أرمينية وأذربيجان". وروي أيضًا عن الضحاك في قوله: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} يعني الجبلين، وهما من قبل أرمينية وأذربيجان، وقال القرطبي في تفسير قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}: "وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان". انتهى. وهؤلاء لم يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم جيشًا ولا دعاة يدعونهم إلى الإسلام، ولا يمكن الاتصال بهم، حتى يأتي الوقت الذي قدر الله خروجهم فيه، وهو بعد نزول عيسى وقتل الدجال، فحينئذ يخرجون ويطئون البلاد، ويهلكون كل شيء أتوا عليه، حتى يدعو عليهم نبي الله ...

عيسى فيهلكهم الله جميعًا، هذا هو الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. الوجه الثاني: أن يقال: إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فزع واحمر وجهه حين فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل موضع الدرهم، فكيف يظن به أنه بعث جيشًا من أصحابه يوم مؤتة لغزو يأجوج ومأجوج ودعائهم إلى الإسلام، هذا كلام باطل مردود. الوجه الثالث: أن يقال: إنه لم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الروم الذين قاتلهم المسلمون يوم مؤتة أنهم من يأجوج ومأجوج ولا أشار إلى ذلك البتة، وكذلك لم يؤثر عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم من العلماء أنهم قالوا ذلك، ولو كان الروم من يأجوج ومأجوج لبين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكان ذلك مشتهرًا عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين، وحيث أنه لم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الروم إنهم من يأجوج ومأجوج، ولم يؤثر ذلك عن أحد من الصحابة ولا من بعدهم من العلماء، فإنه يلزم على قول ابن محمود أحد أمرين؛ إما أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خفي عليه أن الروم من يأجوج ومأجوج، وخفي ذلك على الصحابة ومن بعدهم من العلماء، أو أنهم قد علموا ذلك وكتموه، وما لزم عليه أحد هذين الأمرين فهو قول سوء، لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل. الوجه الرابع: أن يقال: إن الروم لم يبتدءوا المسلمين بالخروج إليهم، ولم يظهروا على المسلمين لا في غزوة مؤتة ولا فيما بعدها من الغزوات، وإنما كان الابتداء من المسلمين، وكان لهم الظهور على الروم حتى أجلوهم من الشام إلى القسطنطينية، ثم غزوهم بعد ذلك في القسطنطينية عدة مرات؛ أولها في زمان معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- إلى أن أخذوها منهم في زمان محمد الفاتح وأجلوهم إلى أوروبا، ولو كان الأمر على ما توهمه ابن محمود، حيث زعم أن الروم من يأجوج ومأجوج، لكانوا قد أهلكوا المسلمين وغير المسلمين من حين خروجهم، كما هو مقتضى النصوص الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الخامس: أن يقال: إن يأجوج ومأجوج قد حيل بينهم وببين الناس بسد من حديد يمنعهم من الظهور والاختلاط بالناس، ولا يندك هذا السد إلا عند اقتراب الساعة، كما هو منصوص عليه في القرآن، وقد جاء في حديث النواس بن سمعان وغيره من الأحاديث التي تقدم ذكرها أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل الدجال، فمن قال بخلاف هذا فقوله باطل مردود.

الرد على ابن محمود في ذكره لأمور زعم أنها كانت وهي لم تكن

الوجه السادس: أن يقال: إن الروم ليس بينهم وبين المسلمين شيء من السدود البتة، وقد كان العرب يختلطون بهم في الجاهلية والإسلام، ولو كانوا من يأجوج ومأجوج لما قدر أحد على الاختلاط بهم، ولكانوا قد أهلكوا العرب وغير العرب من كل ما أتوا عليه، كما هو منصوص عليه في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي تقدم ذكره. الوجه السابع: أن يقال: من المستحيل أن يغزو المسلمين يأجوج ومأجوج وأن يدعوهم إلى الإسلام؛ لأن الاتصال بهم غير ممكن من أجل السد الحائل بينهم وبين الناس، ومن زعم أن المسلمين قد غزوهم ودعوهم إلى الإسلام فلا شك أنه لا يدري ما يقول. وأما قوله: ولما أخرج الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- رسالته في تحقيق أمر يأجوج ومأجوج على صفة ما ذكره في تفسيره واستنباطه، أنكر عليه بعض العلماء ذلك واتهموه بأنه يكذب القرآن، واستدعي للمحاكمة زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن -رحمه الله- فبرهن عن حقيقة رسالته، وأنها تصدق القرآن، وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم وسوء اعتقادهم، لهذا تبين للعلماء حسن قصده، وزال عن الناس ظلام الأوهام وضلال أهل الزيغ والبهتان، وصار لهذه الرسالة الأثر الكبير في إخماد نار الفتنة بيأجوج ومأجوج، حتى استقر في أذهان العلماء والعوام صحة ما قاله بمقتضى الدليل والبرهان. فجوابه: أن أقول: قد ذكرت قريبًا أن الشيخ ابن سعدي قد قرر في تفسيره في أمر يأجوج ومأجوج خلاف ما قرره في رسالته، وقد كان طبعه للتفسير بعد إخراجه للرسالة بنحو من سبع عشرة سنة، وفي طبعه لتفسيره مع ما فيه من المخالفة لما قرره في رسالته دليل ظاهر على رجوعه عما كان قرره في الرسالة، وفي تمسك ابن محمود بما قرره ابن سعدي في رسالته وإعراضه عما قرره في تفسيره أوضح دليل على سوء اختيار ابن محمود، وميله إلى الأقوال الشاذة والآراء المنحرفة. وأقول أيضًا: إن رسالة ابن سعدي في أمر يأجوج ومأجوج خالية من ...........

التحقيق، وقد رأيت النسخة التي بعث بها أحد المشايخ إلى الملك عبد العزيز، وهي بخط المؤلف، وقرأتها كلها فلم أر فيها شيئًا من التحقيق عن يأجوج ومأجوج، ورأيت أيضًا رسالته المختصرة، وهي التي اعتمد عليها ابن محمود ونقل منها، وحاصل التحقيق الذي زعم ابن محمود أنه فيها هو المخالفة لما أخبر الله به في كتابه عن فتح يأجوج ومأجوج، وأنه يكون عند اقتراب الساعة، والمخالفة أيضًا لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون في آخر الزمان بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل الدجال، وإذا كانت رسالة ابن سعدي مخالفة للقرآن والأحاديث الصحيحة، فأي تحقيق يكون فيها وأي فائدة ترجى من ورائها. وأما قوله: على صفة ما ذكره في تفسيره. فجوابه: أن يقال: لا يخفى ما في كلام ابن محمود من التمويه الذي يشهد الواقع بخلافه، وذلك لأن ابن سعدي قد قرر في تفسيره في أمر يأجوج ومأجوج خلاف ما قرره في رسالته التي تعلق بها ابن محمود، وقد ذكرت قريبًا ما ذكره ابن سعدي في تفسيره فليراجع (¬1)، ففيه أبلغ رد على ابن محمود. وأما إنكار العلماء لرسالة ابن سعدي فهو صحيح، ولا أعلم عن أحد من العلماء النجديين أنه وافق ابن سعدي على رسالته في أمر يأجوج ومأجوج. وأما قول ابن محمود: إن ابن سعدي استدعي للمحاكمة زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن. فجوابه: أن يقال: أما الاستدعاء فهو واقع، وأما المحاكمة فلم تقع، وخلاصة القصة أن الشيخ ابن سعدي لما كتب رسالته في يأجوج ومأجوج أرسلها أحد المشايخ إلى الملك عبد العزيز -رحمه الله-، فعرضها الملك على بعض أكابر العلماء فأنكروها غاية الإنكار، فاستدعاه الملك إلى الرياض، فلما حضر إلى مجلس الملك حضر معه أكابر العلماء بأمر من الملك؛ ليناظروا ابن سعدي إن دعت الحاجة إلى المناظرة، فأخبرني من كان حاضرًا معهم، أنه لما دخل عليهم الملك وهم في مجلسه قاموا جميعًا للسلام عليه ومعهم الشيخ ابن سعدي، وبعد السلام على الملك جلس كل رجل منهم في مجلسه، فأخذ الملك يتهدد ويتوعد كل من خالف الكتاب والسنة بأنه سيفعل به ويفعل، وكلهم يعلمون أنه يريد بالتهديد والوعيد الشيخ ابن سعدي، ......................... ¬

_ (¬1) ص (326، 327).

ولما انتهى الملك من كلامه وسكت، سكت الحاضرون كلهم، فلم ينطق أحد منهم بكلمة، ثم بعد ذلك قاموا جميعًا وتفرقوا، وبعد ذلك لم نسمع عن الشيخ ابن سعدي أنه تكلم في أمر يأجوج ومأجوج بشيء حتى طبع تفسيره بعد سبع عشرة سنة من حين إخراجه للرسالة، فإذا كلامه في التفسير يوافق ما ذكره المفسرون في أمر يأجوج ومأجوج، ويخالف ما جاء في رسالته التي أنكرها العلماء وتهدده الملك وتوعده بسببها. وأما قوله: فبرهن عن حقيقة رسالته، وأنها تصدق القرآن وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم وسوء اعتقادهم. فجوابه: أن يقال: لا صحة لما ذكره ابن محمود ههنا فإنه غير واقع، وإنما أتى به ابن محمود من كيسه، والواقع في الحقيقة أن الشيخ ابن سعدي لما تهدده الملك وتوعده سكت، فلم ينطق بكلمة لا مع الملك ولا مع العلماء، إلا أنه دعا للملك بالحفظ وطول العمر، هذا ما ذكره لي بعض المشايخ الحاضرين مع ابن سعدي في مجلس الملك، فأما البرهنة عن الرسالة فهي من تلفيق ابن محمود. وأما قول ابن محمود: إن رسالة ابن سعدي تصدق القرآن وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم وسوء اعتقادهم. فجوابه: أن يقال: إن الأمر في الحقيقة على خلاف ما زعمه ابن محمود، فكل ما وصف به رسالة ابن سعدي في يأجوج ومأجوج فهي بضده؛ لأنها تخالف ما جاء في القرآن والسنة عن يأجوج ومأجوج، وتوقع الجهال في الحيرة والشك فيما أخبر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، وتفتح للملحدين باب القول في تأويل القرآن بالرأي والتخرص وتحريف الكلم عن مواضعه. ويقال أيضًا: ما ذكره الله -تعالى- في كتابه عن دك السد وفتح يأجوج ومأجوج أنه يكون في آخر الزمان إذا اقترب الوعد الحق، أي إذا دنا قيام الساعة، فهو في غاية الوضوح والبيان، ومن زعم أن ذلك غير واضح وأنه يتطرق إليه اللبس والشك فلا شك أنه جاهل بالقرآن. وأما قوله: لهذا تبين للعلماء حسن قصده. فجوابه: أن يقال: هذا من التقول على العلماء، فإنه لم يبلغني عن أحد منهم أنه وافق ابن سعدي على رسالته، بل كلهم مجمعون على إنكارها والتحذير من الاغترار بها.

وأما قوله: وزال عن الناس ظلام الأوهام وضلال أهل الزيغ والبهتان. فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: قد جاء في إثبات وجود السد ويأجوج ومأجوج آيات من القرآن وأحاديث صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي القرآن النص على أن السد من حديد وقِطر- وهو النحاس- وفيه أيضًا النص على أن يأجوج ومأجوج ما استطاعوا أن يظهروا السد وما استطاعوا له نقبًا، وفيه أيضًا النص على أن اندكاك السد إنما يكون إذا جاء وعد الله -تعالى- أي إذا دنا قيام الساعة، وفي الأحاديث النص على أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون على الناس بعد نزول عيسى ابن مريم وقتله الدجال، وأنه لا يدان لأحد بقتالهم، وأنهم إذا خرجوا لا يأتون على شيءٍ إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، وأن أوائلهم يشربون بحيرة طبرية، وأن آخرهم إذا مروا بها يقولون لقد كان بهذا مرة ماء، وأنهم يحصرون نبي الله عيسى وأصحابه فيدعو عليهم فيهلكهم الله ويميتهم، فهل يقول ابن محمود إن هذا كله من ظلام الأوهام وضلال أهل الزيغ والبهتان، أم ماذا يجيب به عن قوله الذي لم يتثبت فيه، ولم ينظر إلى ما يترتب عليه من تكذيب ما جاء عن الله -تعالى- وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ الوجه الثاني: أن يقال: إنما زال عن الناس ظلام الأوهام والضلال بإنكار رسالة ابن سعدي والتحذير منها، وبيان أنها تخالف ما جاء في القرآن والسنة عن يأجوج ومأجوج، وحتى مؤلفها -رحمه الله- يظهر أنه قد زال عنه ظلام الأوهام والضلال بما قرره في تفسيره الذي كان طبعه له بعد إخراجه للرسالة بنحو من سبع عشرة سنة، وقد ذكرت كلامه في تفسيره قريبًا فليراجع (¬1). وأما قوله: وصار لهذه الرسالة الأثر الكبير في إخماد نار الفتنة بيأجوج ومأجوج. فجوابه من وجهين؛ أحدهما: أن يقال: إنه لم يكن لرسالة ابن سعدي أثر كبير إلا عند ابن محمود، وقد يكون لها أثر كبير عند أمثال ابن محمود من المتكلفين الخائضين فيما لا يعنيهم، فأما أهل العلم فقد أنكروها غاية الإنكار، وقد سمعت ذلك من كثير منهم، وبلغني ذلك عن كثير منهم ممن لم أجتمع بهم. الوجه الثاني: أن يقال: إنها لم تقع بين الناس فتنة بيأجوج ومأجوج، إلا أن تكون من أفراد قليلين من العصريين المتكلفين الخائضين فيما لا يعنيهم من أمر ...................... ¬

_ (¬1) ص (326، 327).

إيراده لجملة من رسالة ابن سعدي في يأجوج ومأجوج

يأجوج ومأجوج، القائلين فيهم بغير علم، فهؤلاء هم الذين افتتنوا بالكلام في يأجوج ومأجوج، ما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، ومنهم من زعم أنهم التتار الذين خرجوا على المسلمين في آخر زمان بني العباس، وهؤلاء الذين ذكرنا أقوالهم في يأجوج ومأجوج ينطبق عليهم قول الله -تعالى-: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، فأما المتمسكون بالكتاب والسنة فإنهم قد سلموا من الفتنة بيأجوج ومأجوج؛ لأنهم يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه عنهم وعن سدِّ ذي القرنين، ويؤمنون بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم وفي خروجهم على الناس، ولا يتكلفون ما ليس لهم به علم. وأما قوله: حتى استقر في أذهان العلماء والعوام صحة ما قاله بمقتضى الدليل والبرهان. فجوابه: أن يقال: هذا من تخرصات ابن محمود وتوهماته التي لا صحة لشيء منها، ولم تقع إلا في ذهن ابن محمود ومن كان على شاكلته. وأما قوله: ونحن نسوق فقرات من رسالته للاتعاظ بها والانتفاع بعلمها. فجوابه: أن يقال: ليس في رسالة ابن سعدي ما يتعظ به، ولا ما ينتفع بعلمه، ولكن الأمر في ابن محمود كما قيل: يقضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وقال ابن محمود في صفحة (77، 78، 79)، فقرات من كلام الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي -رحمه الله-. " اعلم أن من تأمل ما ذكره الله في كتابه عن يأجوج ومأجوج، وما ثبتت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم، وما في ذلك من صفاتهم، وعلم ما ذكره المفسرون والمؤرخون في قصة ذي القرنين، وعرف الواقع والمحسوس وما على وجه الأرض من أصناف بني آدم، فمن عرف ذلك كله تيقن يقينًا لا شك فيه أنهم هم الأمم الموجودون الآن، الذين ظهروا على الناس كالترك، والروس، ودول البلقان، والألمان، وإيطاليا، والفرنسيين، والإنجليز، واليابان، والأمريكان، ومن تبعهم من الأمم، فإنه دل الكتاب والسنة دلالة بينة صريحة أن يأجوج ومأجوج من أولاد آدم، وأنهم ليسوا بعالم آخر غيبي، كالجن ونحوهم ممن حجب الآدميون عن رؤيتهم والاحساس في الدنيا بهم، بيان ذلك في القرآن من قصة ذي القرنين في قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ

دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} إلى آخر الآيات، فمن فهم معنى هذه الآيات وما ذكره أصناف المفسرين فيها، علم قطعا أنهم كما ذكر الله في شكاية هؤلاء القوم الذين كثر إفسادهم لذي القرنين، بالقتل والنهب والتخريب وأنواع الفساد، فطلبوا منه أن يجعل بينهم وبينهم سدًا يمنعهم من الإفساد والنفوذ إليهم، فأجاب ذو القرنين طلبتهم طاعة لله وإحسانًا على هؤلاء المظلومين، فجعل بينهم وبينهم ردمًا، ومعلوم أنهم آدميون محسوسون، قد تناولوهم بأنواع الأذى، فلو كانوا جنسًا آخر كالجن ونحوهم ممن حجبوا عن الأبصار لم يمكنوا من الأذية لبني آدم إلى هذا الحد، ولم يطلب هؤلاء القوم من ذي القرنين ما لا قدرة له عليه، ولم يمنعهم من الأذية سد ولا ردم، وذلك أن هناك جبلان متقابلان متصلان بمشارق الأرض ومغاربها، وليس للناس في تلك الأزمان طريق إلا من تلك الفجوة التي بين السدين، حيث كان مسير الناس في ذلك الوقت على الإبل والبغال والحمير، فبني ذو القرنين سدًا محكمًا بين الجبلين فتم بنيانه للردم بين الناس وبين يأجوج ومأجوج، وبقي ما شاء الله أن يبقى، ثم بعد ذلك ظهروا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار، فتحركوا في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول قتال وقع من المسلمين في وقعة مؤتة، وكان المسلمون أربعة آلاف وجيش النصارى مائة وعشرون ألفًا، فكشف للنبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم يوم قتالهم، فقال وهو يخطب الناس: «أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذها زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله، وهو خالد بن الوليد، ففتح الله عليه» يخبرهم بذلك وهو يبكي، وهذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين والخروج عليهم، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للعرب من شر قد اقترب، قد فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا»، قال ولم يزالوا في ازدياد وظهور على الناس حتى وصل الأمر إلى هذه الحالة المشاهدة، ولا بد أن يقع كل ما أخبر الله به ورسوله، ومنها أن الناس قد شاهدوا السد قد اندك، ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه، فإن السد كما ذكرنا هي الموانع الجبلية والمائية ونحوها، المانعة من وصولهم إلى الناس، فقد شاهدوهم من كل محل ينسلون، فالبحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه، وما اتصل بذلك .....................

الرد على ما نقله من رسالة ابن سعدي

من الموانع كلها قد مضى عليها أزمان متطاولة، وهي سد محكم بينهم وبين الناس لا يجاوزها منهم أحد، بل هم منحازون في أماكنهم، وقد زال ذلك كله وشاهدهم الناس، وقد اختلقوا هذه البحار، ثم توصلوا إلى خرق الجو بالطائرات وبما هو أعظم منها، فلا يمكن لأحد إنكار هذا ولا المكابرة فيه، وهذه الأدلة التي ذكرناها من نص الكتاب والسنة والأدلة العقلية والواقع والمشاهدة كلها أمور يقينية لا شك فيها ولا مناقض لها، والمقصود أن ظهورهم على الوصف الذي شرحناه قد تبين موافقته للكتاب والسنة الصحيحة، والعلم الصحيح العقلي الحسي يعتبر آية وبرهانًا عظيمًا على صدق القرآن وصحة ما جاء سول الله - صلى الله عليه وسلم - من آيات بينات لا تزال تشاهد وتظهر كل وقت، وحين يعتبر بها المعتبرون وينتفع بها المؤمنون ويسترشد بها الغافلون المعرضون وتقوم بها الحجة على المعارضين المعاندين، وأما من اعتمد في قصة يأجوج ومأجوج على قصص إسرائيلية وآثار موضوعة وقصص خرافية وعوائد جرت مخالفة للعلم، فقد حرم الوصول إلى الهداية والاستنارة بنور العقل المؤيد بالشرع". انتهى. والجواب: أن يقال: إن ابن محمود قد غيَّر في بعض كلام ابن سعدي وزاد فيه بعض الشيء من عنده ولم يبين ذلك، وهذا عمل غير مرضي لأنه ينافي الأمانة في النقل، وسأنبه على ذلك -إن شاء الله تعالى-. ويقال أيضًا كل ما نقله ابن محمود ههنا من رسالة ابن سعدي في يأجوج ومأجوج فهو باطل، سوى ما ذكره من الآيات من سورة الكهف، والحديث الذي أوله: «ويل للعرب من شر قد اقترب»، فالآيات والحديث حق، ولكن لا متعلق لابن سعدي في شيء منها، وما سوى الآيات والحديث فكله توهمات وتخرصات لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عقل صحيح ولا واقع ولا مشاهدة، وفي تفسير ابن سعدي لسورة الكهف وسورة الأنبياء كفاية في الرد على ما جاء في رسالته فيما يتعلق بيأجوج ومأجوج، وقد ذكرت قريبًا أنه قد طبع تفسيره بعد إخراجه للرسالة بنحو من سبع عشرة سنة. فأما قوله: اعلم أن من تأمل ما ذكره الله في كتابه عن يأجوج ومأجوج، وما ثبتت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما في ذلك من صفاتهم، وعلم ما ذكره المفسرون والمؤرخون في قصة ذي القرنين، وعرف الواقع والمحسوس وما على وجه الأرض من ..................

أصناف بني آدم، فمن عرف ذلك كله تيقن يقينًا لا شك فيه أنهم هم الأمم لموجودون الآن، الذين ظهروا على الناس كالترك، والروس، ودول البلقان، والألمان، وإيطاليا، والفرنسيين، والإنجليز، واليابان، والأمريكان، ومن تبعهم من الأمم. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: إن القرآن والسنة حجة على ابن سعدي فيما ذهب إليه في شأن يأجوج ومأجوج، وليس فيهما حجة له ولا ما يتعلق به بوجه من الوجوه، ومن تأمل ما ذكره الله في كتابه عن يأجوج ومأجوج، وما ثبتت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، عرف يقينًا لا شك فيه أنه يخالف ما ذهب إليه ابن سعدي في رسالته، وذلك أن الله -تعالى- أخبر عن ذي القرنين أنه جعل بين يأجوج ومأجوج وبين غيرهم من الناس ردمًا، وأخبر -تبارك وتعالى- أن يأجوج ومأجوج ما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا، وأخبر عن ذي القرنين أنه لما أتمَّ بناء السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}؛ أي إذا دنا قيام الساعة، جعل الله السد دكاء فخرج يأجوج ومأجوج على الناس، قال الله -تعالى-: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}، قال ابن كثير في "البداية والنهاية": "يعني يوم فتح السد على الصحيح"، وذكر في تفسيره عن السدي أنه قال: "ذاك حين يخرجون على الناس"، قال ابن كثير: "وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال". انتهى. وقال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}، أوضح دليل على أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، وقد بين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث صحيحة، منها حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر خروج الدجال ونزول عيسى وقتل الدجال، ثم قال: «فبينما هم كذلك إذ أوحي الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتلاهم فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة» الحديث رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: "حديث غريب حسن صحيح".

ومنها حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقيت ليلة أُسري بي إبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام- فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إليَّ ربي - عز وجل- أن الدجال خارج ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال: فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم، إن تحتي كافر فتعال فاقتله، قال: فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، قال: ثم يرجع الناس يشكونهم، فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم، حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ففيما عهد إلى ربي - عز وجل- أن ذلك إذا كان كذلك، فإن الساعة كالحامل المُتم التي لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها، ليلا أو نهارًا» رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وابن جرير، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وزاد ابن ماجة والحاكم فيه قال العوام- وهو ابن حوشب أحد رواته-: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل- ثم قرأ {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}. ومنها حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الدجال ونزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- وفيه: «فبينما هم كذلك إذا أخرج الله يأجوج ومأجوج، فيشرب أولهم البحيرة ويجيء آخرهم وقد انشفوه، فما يدعون فيه قطرة، فيقولون ظهرنا على أعدائنا قد كان ههنا أثر ماء» الحديث، وفيه: «فيدعو الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فيبعث الله عليهم قرحة في حلوقهم، فلا يبقى منهم بشر» وذكر بقية الحديث. رواه الحاكم وابن مندة في كتاب الإيمان، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وقال ابن كثير في "النهاية": "قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: في إسناد ابن مندة، هذا إسناد صالح". ومنها حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس، كما قال الله - عز وجل-: {وَهُمْ مِنْ

كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}، فيعيثون في الأرض، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، ويشربون مياه الأرض، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابسًا، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: لقد كان ههنا ماء مرة» الحديث، رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرنه غدا، فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله - عز وجل- أن يبعثهم إلى الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدًا -إن شاء الله- ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون المياه، ويحصن الناس منهم في حصونهم» الحديث، رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي في تلخيصه. ومنها حديث حذيفة بن أسيد الغفاري -رضي الله عنه- قال: اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر، فقال: «ما تذاكرون؟» قالوا: نذكر الساعة، قال: «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات؛ فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخِر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم» رواه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي، ومسلم واللفظ له، وأهل السنن، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". ومنها حديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو حديث حذيفة بن أسيد -رضي الله عنه- رواه الطبراني، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه. وفي هذه الأحاديث مع ما تقدم من الآيات أبلغ رد على قول ابن سعدي إن يأجوج ومأجوج هم الأمم الموجود الآن؛ كالترك، والروس، وغيرهم من الأمم الذين ذكرهم ابن سعدي في كلامه الذي تقدم ذكره.

الوجه الثاني: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن بعض صفات يأجوج ومأجوج بما يخالف أكثر الأمم الذين ذكرهم ابن سعدي، وذلك فيما رواه الإمام أحمد، والطبراني عن ابن حرملة، عن خالته -رضي الله عنها- قالت: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب، فقال: «إنكم تقولون لا عدو، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا حتى يخرج يأجوج ومأجوج، عراض الوجوه، صغار العيون، صهب الشعاف، من كل حدب ينسلون، كأن وجوههم المجان المطرقة» رواه الإمام أحمد، والطبراني، قال الهيثمي: "ورجالهما رجال الصحيح". الشعاف: الشعور. ولا يخفى أن الألمان والإيطاليين والفرنسيين والإنجليز والأمريكان ليسوا عراض الوجوه صغار العيون، وكذلك أكثر الأمم من غيرهم، فصفات يأجوج ومأجوج لا تنطبق على أكثر الأمم التي ذكرها ابن سعدي. الوجه الثالث: أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر في حديث ابن حرملة عن خالته أن المسلمين لا يزالون يقاتلون عدوًا حتى يخرج يأجوج ومأجوج، وجاء نحو ذلك فيما رواه الإمام أحمد، وابن سعد، والبخاري في تاريخه، والنسائي والطبراني، وابن مردويه، عن سلمة بن نفيل الكندي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج»، ومن المعلوم أن المسلمين قد قاتلوا كثيرًا من أمم الكفار في أول الإسلام وفيما بعد ذلك، واستولوا على كثير من الممالك شرقًا وغربًا وجنوبا وشمالا، ولم يزل القتال بين المسلمين وبين أعدائهم من الكفرة، ولا يزال الجهاد ماضيًا حتى ينزل عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- فيقتل الدجال وجنوده، ويقاتل الناس على الإسلام، فإذا خرج يأجوج ومأجوج وضعت الحرب أوزارها، ولو كان الأمر على ما ذهب إليه ابن سعدي لكانت الحرب قد وضعت أوزارها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكان الدجال قد خرج قبل ذلك، ونزل نبي الله عيسى -عليه الصلاة والسلام- فقتل الدجال وقاتل الناس على الإسلام قبل غزوة مؤتة، وهذا لا يتصوره عاقل فضلا عن أن يتفوه بذلك. الوجه الرابع: أن يقال: ما زعمه ابن سعدي من ظهور الترك والروس ودول البلقان والألمان وإيطاليا والفرنسيين والإنجليز واليابان والأمريكان ومن تبعهم من الأمم، يقتضي أن تكون هذه الدول محازة بسد من حديد قبل ظهورهم على الناس، فلا ................

يتصل بهم الناس ولا يخالطونهم ولا يعرفون عنهم شيئًا، وهذا معلوم البطلان بالضرورة عند كل عاقل. يوضح ذلك الوجه الخامس: وهو أن الأمم الذين ذكرهم ابن سعدي وزعم أنهم هم يأجوج ومأجوج قد كانوا موجودين في جميع الجهات شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالاً منذ أزمان طويلة لا يعلم ابتداءها إلا الله -تعالى-، ولم يحصرهم سد من حديد يمنعهم من الخروج والاختلاط بغيرهم من الأمم، بل كان الناس يذهبون إلى أوطانهم ويخالطونهم في قديم الدهر وحديثه، ولو كان الأمر على ما زعمه ابن سعدي من أنهم هم يأجوج ومأجوج لَما قدر الناس على الذهاب إليهم والاختلاط بهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن يأجوج ومأجوج إذا خرجوا على الناس يطئون البلاد، فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، وأخبر أيضًا أن أوائلهم يمرون على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، وأخبر أيضًا أنه لا يدان لأحد بقتالهم، وأخبر أيضًا أنهم يحصرون نبي الله عيسى وأصحابه فيدعو عليهم عيسى وأصحابه فيهلكهم الله، وأخبر أيضا أنه بعد عيسى ابن مريم لو أن رجلا أنتج فرسًا لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة، وأخبر أيضًا أن الله -تعالى- عهد إلى عيسى أنه بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم فإن الساعة كالحامل المُتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارًا، وأخبر أيضًا أن خروجهم من الآيات العشر التي تكون بين يدي الساعة، وأخبر أيضًا أن خروج هذه الآيات يتتابع كما يتتابع الخرز في النظام، وكل ما ذكر في هذه الأحاديث وفي غيرها من الأحاديث الواردة في يأجوج ومأجوج لا ينطبق على أمم الكفار الموجودين الآن، والذين قد خالطهم الناس وعرفوهم حق المعرفة، وجرت بينهم وبينهم المعاهدات والمعاملات التجارية وعقود الشركات وغيرها من الأعمال الدنيوية، ومن تأمل الأحاديث الواردة في يأجوج ومأجوج رأى فيها أبلغ رد على ابن سعدي، وعلى من قلده وأخذ بقوله. وأما قوله: فإنه دل الكتاب والسنة دلالة بينة صريحة أن يأجوج ومأجوج من أولاد آدم، وأنهم ليسوا بعالم آخر غيبي، كالجن ونحوهم ممن حجب الآدميون عن رؤيتهم والاحساس في الدنيا بهم. فجوابه: أن يقال: لا شك أن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم، وقد ذكرت قريبًا (¬1) ¬

_ (¬1) ص (319).

ما رواه الحاكم عن سعيد بن المسيب أنه قال: "إن يأجوج ومأجوج من ولد يافث بن نوح"، وروي البزار بإسناد ضعيف عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا مثله، ولا يلزم من كونهم من بني آدم أن يكونوا هم الأمم الذين يعرفهم الناس ويخالطونهم، كما قد توهم ذلك ابن سعدي ومن قلده، وإنما هم أناس غيرهم قد حيل بينهم وبين الناس بالسد الذي بناه ذو القرنين، فلا يعرفهم الناس ولا يخالطونهم، ولا يخرجون على الناس إلا في آخر الزمان بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل الدجال، كما ثبتت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكما يدل عليه قوله -تعالى- إخبارًا عن ذي القرنين أنه لما أتم بناء السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، قال الله -تعالى-: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا}، ويدل عليه أيضًا قوله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}. وأما قوله: وذلك أن هناك جبلان متقابلان متصلان بمشارق الأرض ومغاربها، وليس للناس في تلك الأزمان طريق إلا من تلك الفجوة التي بين السدين، حيث كان مسير الناس في ذلك الوقت على الإبل والبغال والحمير، فبني ذو القرنين سدًا محكمًا بين الجبلين، فتم بنيانه للردم بين الناس وبين يأجوج ومأجوج، وبقي ما شاء الله أن يبقى، ثم بعد ذلك ظهروا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: هذه الجملة قد غيرها ابن محمود عما هي عليه في رسالة ابن سعدي وزاد فيها ونقص ثم لم يبين ذلك، وهذا ينافي الأمانة في النقل، وهذا نص كلام ابن سعدي قال: "ومنها أن الحاجز الذي بناه ذو القرنين بينهم وبين الطائفة المجاورة لهم، الذين شكوا إفسادهم جزء يسير جدًا من السد الطبيعي، الذي جعله الله بينهم وبين الناس، فإن نص القرآن صريح على أن ذا القرنين وصل إلى ما بين السدين، وأن السدين موجودان قبل ذي القرنين، وهما الجبال والبحار التي عن يمين تلك الفجوة التي بناها والبحار والجبال التي عن يسارها، فتلك الجبال والبحار الواصلة لمشارق الأرض ومغاربها سدان محكمان بينهم وبين الناس في تلك الأزمان وما بعدها، وليس لهم طريق في ذلك الوقت إلا من تلك الفجوة التي بين السدين، فبناها ذو القرنين، فتم بنيانه الردم بينهم وبين الناس، وبقي ما شاء الله أن يبقى، ثم بعد ذلك ظهروا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار". انتهى.

الوجه الثاني: أن يقال: في أول كلام ابن محمود لحن في قوله: إن هناك جبلان متقابلان متصلان بمشارق الأرض ومغاربها، وصوابه: جبلين متقابلين متصلين. الوجه الثالث: أن يقال: إن في هذا الكلام من التخرص واتباع الظن ما لا يخفى على عاقل، وهل يقول عاقل إن في الأرض جبلين متقابلين متصلين بمشارق الأرض ومغاربها؟ وهل يقول عاقل إن أوربا وأمريكا وآسيا سوى جزيرة العرب قد أحيطت بجبلين متقابلين متصلين بمشارق الأرض ومغاربها؟ كلا، لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل، وأين يكون موضع الفجوة التي جعل ذو القرنين فيها السد المانع للأمريكيين والأوربيين ودول آسيا من الخروج والاتصال بالعرب، وإن تعجب فهذا التوهم والتخرص من أعجب العجب، ومع هذا يزعم ابن محمود أنه نور هداية ودلالة، وهو في الحقيقة ظلمة حالكة وضلال عن الحق، ولو كان يأجوج ومأجوج قد خرجوا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار لكانوا قد وطئوا بلاد العرب وغيرها من البلاد، وأهلكوا كل شيء أتوا عليه، وشربوا كل ماء مروا عليه، ولكان الدجال قد خرج قبل ذلك، ونزل عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- فقتل الدجال ودعا على يأجوج ومأجوج فهلكوا جميعًا، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- في عدة أحاديث تقدم ذكرها قريبًا، وحيث أنه لم يقع شيء من هذه الأمور العظام فلا شك أن السد لا يزال باقيًا على حاله، وأن يأجوج ومأجوج لم يزالوا من وراء السد ولم يخرجوا على الناس، ولا يخرجون حتى ينزل عيسى ابن مريم ويقتل الدجال. الوجه الرابع: أن يقال: إن الجبلين اللذين بنى ذو القرنين الردم بينهما هما في بلاد يأجوج ومأجوج الواقعة في أقصى المشرق من ناحية الشمال، وليسا متصلين بمشارق الأرض ومغاربها كما قد توهم ذلك ابن سعدي وابن محمود، وقد تقدم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "الجبلان؛ أرمينية، وأذربيجان"، وكذا قال القرطبي في تفسيره إن السدين جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان، وقال الضحاك في قوله -تعالى-: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}: "يعني الجبلين، وهما من قبل أرمينية وأذربيجان"، هذا ما قاله هؤلاء الأئمة في السدين؛ أي الجبلين اللذين بنى ذو القرنين الردم بينهما، ولا أعلم عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم من أهل العلم أنهم قالوا في الجبلين الذين بنى ذو القرنين الردم بينهما أنهما واصلان لمشارق الأرض ومغاربها، ...............................................

بل هذا مما يعلم بطلانه بالضرورة عند كل عاقل، إذ ليس في الأرض جبال متصلة من المشرق إلى المغرب، وكذلك لم أر لأحد من أهل العلم أنهم قالوا إن البحار الواصلة لمشارق الأرض ومغاربها إنها سد محكم بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وإنما هذا من التوهمات والتخرصات التي يعلم بطلانها بالضرورة. يوضح ذلك الوجه الخامس: وهو أن يقال: إن البحار لم تكن حاجزًا بين الدول التي ذكرها ابن سعدي وبين غيرهم من الناس لا في قديم الدهر ولا في حديثه، وكذلك الجبال التي في مشارق الأرض ومغاربها لم تكن مانعة من اتصال العرب ولا غيرهم من الناس بتلك الدول لا في قديم الدهر ولا في حديثه، بل كان العرب وغيرهم من الأمم يذهبون إلى أي البلاد شاءوا من بلاد تلك الدول وغيرها من البلاد، وليس هناك حواجز تمنعهم من الذهاب في أنحاء الأرض وأقطارها إلا ما كان من بلاد يأجوج ومأجوج التي لا سبيل إليها إلا من الطريق الذي بناه ذو القرنين، وقد تقدم قول ابن عباس -رضي الله عنهما- والضحاك والقرطبي؛ إنها من قبل أرمينية وأذربيجان. فهذه البلاد لا سبيل إلى دخولها والاتصال بأهلها، ولا سبيل لأهلها إلى الخروج منها إلا في آخر الزمان، عند اقتراب الساعة وبعد نزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وقتله الدجال، فحينئذ يندك السد ويخرج يأجوج ومأجوج من بلادهم، فيطئون البلاد فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، ثم يدعو عليهم نبي الله عيسى -عليه الصلاة والسلام- فيهلكهم الله -تعالى-، وقد تقدم ذلك قريبًا في عدة أحاديث صحيحة فلتراجع (¬1). وأما قوله: حيث كان مسير الناس في ذلك الوقت على الإبل والبغال والحمير. فجوابه: أن يقال: هذه زيادة من ابن محمود وليست في رسالة ابن سعدي، وكان ينبغي لابن محمود أن يبين ذلك. وأما قوله: فتحركوا في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول قتال وقع من المسلمين مع النصارى في وقعة مؤتة، وكان المسلمون أربعة آلاف وجيش النصارى مائة وعشرون ألفًا، فكشف للنبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم يوم قتالهم، فقال وهو يخطب الناس: «أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذها زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله، وهو خالد بن الوليد، ففتح الله عليه» يخبرهم بذلك ................................... ¬

_ (¬1) ص (341 - 343).

وهو يبكي، وهذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين والخروج عليهم، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا». فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: هذا الكلام لابن محمود سوى قوله في أوله: فتحركوا في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذه الجملة هي التي من كلام ابن سعدي فقط، وقد مزج ابن محمود كلامه مع كلام ابن سعدي ولم يبين ذلك، بل أوهم أن الكل من كلام ابن سعدي، وهذا ينافي الأمانة في العلم. الوجه الثاني: أن يقال: إن المسلمين في يوم مؤتة إنما قاتلوا الروم ومن انضم إليهم من نصارى العرب، فأما يأجوج ومأجوج فإنهم لم يروهم فضلا عن أن يقاتلوهم، وقد قال الله -تعالى-: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، وقال -تعالى-: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}، فسماهم في الآية الروم، وسماهم في الآية من سورة براءة أهل الكتاب، لو كانوا من يأجوج ومأجوج لسماهم بذلك كما سماهم به في سورة الكهف وسورة الأنبياء، وفي هذا أبلغ رد على من جعل الروم من يأجوج ومأجوج. الوجه الثالث: أن يقال: إن المسلمين هم الذين تحركوا إلى قتال الروم وساروا إليهم في أوطانهم وبدأوهم بالقتال، فأما يأجوج ومأجوج فلا يقدر أحد على قتالهم كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مخبرًا به عن الله - عز وجل-، وذلك فيما رواه الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة، عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وقتله الدجال، ثم قال: «فينما هو كذلك إذ أوحي الله إلى عيسى؛ إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج» الحديث، وفي حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر عن عيسى -عليه الصلاة والسلام- أن الله - عز وجل- عهد إليه، أن يأجوج ومأجوج إذا خرجوا يطئون البلاد فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، وقد تقدم إيراد هذا الحديث وحديث النواس بن سمعان قريبًا (¬1). ¬

_ (¬1) ص (311 - 312).

الوجه الرابع: أن يقال: إن ابن محمود قد تصرف في سياق الحديث الذي فيه الإخبار عن قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة -رضي الله عنهم- فقدَّم جعفرًا على زيد بن حارثة وزاد في آخر الحديث وغيَّر فيه، وقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه ولفظه في "كتاب الجنائز" في "باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه" عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، وإن عيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتذرفان، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له»، ورواه في "كتاب المغازي" في "باب غزوة مؤتة من أرض الشام" ولفظه عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم»، ورواه في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في "باب مناقب خالد بن الوليد -رضي الله عنه-" بنحوه. وأما قوله: وهذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين والخروج عليهم. فجوابه: أن يقال: ليس الأمر كما زعمه ابن محمود، وإنما هذا مبدأ تحرك المسلمين لقتال الروم والسير إليهم في بلادهم، فأما يأجوج ومأجوج فلا يتصل بهم أحد حتى يدنو قيام الساعة فيجعل الله السد دكاء، وحينئذ يخرجون على الناس ويموج بعضهم في بعض كما قال -تعالى-: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}. وأما قوله: وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا». فجوابه: أن يقال: هذا من التقوُّل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمل كلامه على غير المراد به، وقد جاء في حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنهما- عن زينب بنت جحش -رضي الله عنها- قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فزعًا محمرًا وجهه يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» وحلَّق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، وذكر تمام الحديث رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة، وفي رواية لأحمد قالت: دخل علىَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عاقد بأصبعيه السبابة بالإبهام وهو يقول: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل موضع الدرهم».

وإذا علم أن الذي قد فتح من ردم يأجوج ومأجوج في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل موضع الدرهم، فهل يقول عاقل إن معناه ما كان بين المسلمين وبين الروم من القتال في يوم مؤتة؟ وهل يقول عاقل إنه كان بين المسلمين وبين الروم سد من حديد فتح منه يوم مؤتة مثل موضع الدرهم فخرج منه يأجوج ومأجوج على المسلمين؛ أي من هذا الثقب الضيق الذي هو مثل موضع الدرهم؟ كلا، لا يقول ذلك مؤمن، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله - عز وجل- أنه سيوحي إلى عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- بعد قتل الدجال: «إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم»، فلو كان الذين قاتلهم الصحابة يوم مؤتة من يأجوج ومأجوج لما كان للصحابة -رضي الله عنهم- يدان بقتالهم، ولأهلكوا كل ما أتوا عليه. وأيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فزع واحمر وجهه لما فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل موضع الدرهم وقال: «ويل للعرب من شر قد اقترب»، وأما الروم فإنه لم يذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فزع منهم ولا بالى بهم، وقد أرسل إليهم جيشًا من أصحابه يوم مؤتة فبدأوهم بالقتال، وقد فتح الله عليهم مع قلة عددهم وكثرة الروم، ثم سار - صلى الله عليه وسلم - بنفسه في غزوة تبوك يريد قتالهم ورجع من تبوك إبقاء على أصحابه لما نالهم من الجهد والمشقة، ثم جهَّز جيشًا وأمَّر عليهم أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- وأمره أن يسير إلى الروم، ومات - صلى الله عليه وسلم - وجيش أسامة مخيم حول المدينة فنفذه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فساروا إلى الشام وقتلوا من الروم وغنموا منهم، ثم غزاهم المسلمون في زمن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وأجلوهم من الشام إلى القسطنطينية، وضربوا الجزية على من بقي منهم في الشام، وغزوا كثيرًا من الأمم التي زعم ابن سعدي ومن قلده أنهم من يأجوج ومأجوج، وظهروا عليهم وغنموا أموالهم وسبوا ذراريهم ونساءهم، ولم يبال المسلمون بأحد من تلك الأمم، ولو كانوا من يأجوج ومأجوج لما أطاقوا قتالهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الله -تعالى- يوحي إلى عيسى ابن مريم بعد قتله للدجال: «إني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرِّز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون»، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر أنهم إذا خرجوا لا يأتون على شيء إلا .................................................

أهلكوه، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أنهم قد خرجوا وأن المسلمين قد قاتلوهم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما قوله: ولم يزالوا في ازدياد وظهور على الناس حتى وصل الأمر إلى هذه الحال المشاهدة. فجوابه: أن يقال: قد زاد ابن محمود في كلام ابن سعدي كلمة من عنده وهي قوله: "وظهور على الناس" ولم يبين ذلك، ويقال أيضًا لا صحة لشيء مما ذكر في هذه لجملة، وإنما هو خطأ مبني على التخرص واتباع الظن، وفيما ذكره الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن يأجوج ومأجوج وأن خروجهم إنما يكون عند دنو الساعة أبلغ رد على ما جاء في هذه الجملة. وأما قوله: ولا بد أن يقع كل ما أخبر الله به ورسوله. فجوابه: أن يقال: هذا مما لا يشك فيه مسلم، ولو أن ابن سعدي تمسك في رسالته بما أخبر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن يأجوج ومأجوج لا ستغنى عن التخرص واتباع الظن، ولظهر له أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون في آخر الزمان بعد نزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- وقتل الدجال، ولظهر له أنهم إذا خرجوا فإنهم يطئون البلاد، ولا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولم يكن لأحد طاقة بقتالهم. وأما قوله: ومنها أن الناس قد شاهدوا السد قد اندك ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه. فجوابه: أن يقال: لا صحة لشيء من هذا، وإنما هو من التخرص واتباع الظن، وقد قال الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين أنه لما أتم بناء السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، وقال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}، وفي هذه الآيات دليل على أن اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج إنما يكون عند دنو الساعة، وقد روي ابن جرير عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: «لو أن رجلا افتلى فلوًا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة»، وقد ذكرت هذا الأثر وما يشهد له من الحديث المرفوع قريبًا فليراجع (¬1). ¬

_ (¬1) ص (325).

وأما قوله: فإن السد كما ذكرنا هي الموانع الجبلية والمائية ونحوها المانعة من وصولهم إلى الناس، فقد شاهدوهم من كل محل ينسلون، فالبحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه، وما اتصل بذلك من الموانع كلها قد مضى عليها أزمان متطاولة، وهي سد محكم بينهم وبين الناس لا يجاوزها منهم أحد، بل هم منحازون في أماكنهم وقد زال ذلك كله وشاهدهم الناس وقد اخترقوا هذه البحار، ثم توصلوا إلى خرق الجو بالطائرات وبما هو أعظم منها، فلا يمكن أحدًا إنكار هذا ولا المكابرة فيه. فجوابه من وجوه؛ أحدها: أن يقال: قد قرر ابن سعدي في هذه الجملة أن السد الذي بين الناس وبين يأجوج ومأجوج إنما هو سد طبيعي من الجبال والمياه وليس بصناعي، وهذا خلاف ما أخبر الله به في كتابه عن السد أنه مبني من زبر الحديد ومفرغ عليه القطر وهو النحاس المذاب، قال الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}، ففي هذه الآيات أبلغ رد على من زعم أن البحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل به من الموانع الجبلية والمائية هي السد الذي قد حال بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وهل يقول عاقل إن الموانع الجبلية والمائية والبحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل بذلك من الموانع الجبلية هي السد الذي بناه ذو القرنين، وأن ذلك كله قد أندك وزال وخرج يأجوج ومأجوج على الناس؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل، وهل يقول عاقل إن الجو سد مانع من خروج يأجوج ومأجوج وقد اندك بالطائرات وخرج منه يأجوج ومأجوج على الناس؟ كلا، لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل. الوجه الثاني: أن يقال: إن البحار والموانع الجبلية لم تكن سدًا مانعًا من اتصال الأمم بعضها ببعض لا في قديم الدهر ولا في حديثه، بل كان الناس يجتازون البحار على .......

السفن ويجتازون الموانع الجبلية على الإبل والبغال والحمير، وقد كان العرب في الجاهلية والإسلام يتصلون بمن يليهم من الأمم؛ كالروم والقبط والفرس والحبشة، ولم تكن البحار والموانع الجبلية سدًا مانعًا من اتصالهم بمن يليهم من الأمم، ولو كانت البحار والموانع الجبلية والمائية سدًا مانعًا من الاجتياز لما قدر العرب على الاتصال بالروم وغيرهم من الأمم، ولما قدر المسلمون على غزو الأمم في مشارق الأرض ومغاربها، فكلام ابن سعدي في هذه الجملة كلام غير معقول. الوجه الثالث: أن يقال: لو فرضنا أن البحار والموانع الجبلية كانت سدًا محكمًا كما زعمه ابن سعدي، فهناك فجاج في الجبال وهناك سهول طويلة عريضة ليس فيها سد محكم يمنع أحدًا من الاجتياز من المشرق إلى المغرب وبالعكس، ومن الجنوب إلى الشمال وبالعكس، وهناك سفن في البحار يجتاز فيها المسافرون من المشرق إلى المغرب وبالعكس، ومن الجنوب إلى الشمال وبالعكس، وقد أخبر الله -تعالى- عن ذي القرنين أنه بلغ مغرب الشمس ومطلعها، ثم سار حتى بلغ الموضع الذي فيه يأجوج ومأجوج فجعل بينهم وبين الذين يلونهم سدًا من حديد يمنع يأجوج ومأجوج من الاجتياز والإفساد في الأرض، ولم تكن البحار والموانع الجبلية سدًا مانعًا لذي القرنين من السير في الأرض من المغرب إلى المشرق، ثم إلى موضع يأجوج ومأجوج، وفي هذا أبلغ رد على ما توهمه ابن سعدي -رحمه الله-. الوجه الرابع: أن يقال: إن كلام ابن سعدي ينقض بعضه بعضًا، فقد قرر في أول كلامه الذي لم ينقله ابن محمود أن ذا القرنين بني الردم المانع ليأجوج ومأجوج من الخروج والإفساد في الأرض، قال: وكان ما وراءه وعن يمينه وشماله جبالا شاهقة وبحورًا زاخرة لا يستطيعون عبورها، وليس لهم معبر إلى الناس إلا من تلك الثنية التي سدها ذو القرنين، والمشهور أنها في شمال آسيا، بدليل ما هو معروف عند المؤرخين أن ذا القرنين ترك منهم طائفة خلف السد من جهة الناس فقيل لهم تُرك، قال: والمقصود أن يأجوج ومأجوج في ذلك الوقت لا نفوذ لهم على الناس إلا من تلك الثغرة التي بين جبال شاهقة، فسدَّها ذو القرنين وساوى بين الصدفين فلم يتمكنوا من نقب السد ولا صعوده ولا صعود الجبال التي عن يمينه وعن يساره، ثم نقض ذلك بقوله إن السد هي الموانع الجبلية والمائية ونحوها، وأن البحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل بذلك من الموانع إنها .........

سد محكم بينهم – أي بين يأجوج ومأجوج – وبين الناس، ثم زعم أنه لا يمكن أحدًا إنكار هذا؛ أي ما زعمه في آخر كلامه ولا المكابرة فيه. وأقول: أيظن المتكلف أنه قد أتى بنص من كتاب الله -تعالى- أو من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن إنكاره ولا المكابرة فيه، أو أتى بإجماع لا يمكن إنكاره ولا المكابرة فيه؟! كلا، إنه لم يأت بنص ولا إجماع، وإنما أتى بتوهمات وتخرصات مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما خالف الكتاب والسنة فهو قول باطل يجب إنكاره ولا يجوز إقراره. الوجه الخامس: أن يقال: إن المكابرة على الحقيقة هي في قول المتكلف إن السد هو الموانع الجبلية والمائية، وإن البحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل بذلك من الموانع سد محكم بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وإن الناس قد شاهدوا السد قد اندك ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه، فهذا غاية في المكابرة والمخالفة لما أخبر الله به عن السد، وأنه بين صدفين أي جبلين، وأنه من زبر الحديد والقطر أي النحاس المذاب، وأنه إنما يندك عند اقتراب الساعة، وفيه أيضًا مخالفة لما أخبر الله به عن فتح يأجوج ومأجوج، وأنه يكون إذا اقترب الوعد الحق أي إذا دنا قيام الساعة، وفيه أيضًا مخالفة لما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خروج يأجوج ومأجوج، وأنه إنما يكون بعد نزول عيسى وقتل الدجال، وأن الساعة يومئذ كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارًا، فهذا هو الثابت في الكتاب والسنة وهو الذي لا يمكن إنكاره ولا المكابرة فيه، وما خالفه فهو باطل مردود. وأما قوله: وهذه الأدلة التي ذكرناها من نص الكتاب والسنة الصحيحة والأدلة العقلية والواقع والمشاهدة كلها أمور يقينية لا شك فيها ولا مناقض لها. فجوابه: أن يقال: إن نصوص الكتاب والسنة تدل على خلاف ما قرره ابن سعدي في قوله عن السد إنه هو الموانع الجبلية والمائية، وإن البحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل بذلك من الموانع سد محكم بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وإن الناس قد شاهدوا السد قد اندك ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه، وكذلك الأدلة العقلية والواقع والمشاهدة فكلها على خلاف ما قرره ابن سعدي، وقد تقدم ببيان ذلك بما فيه كفاية -إن شاء الله تعالى-. وأما قوله: والمقصود أن ظهورهم على الوصف الذي شرحناه قد تبيَّن موافقته ........

للكتاب والسنة الصحيحة، والعلم الصحيح العقلي الحسي يعتبر آية وبرهانا عظيمًا على صدق القرآن وصحة ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آيات بينات .... إلى آخر كلامه. فجوابه: أن يقال: ما زعمه ابن سعدي من خروج يأجوج ومأجوج على الوصف الذي شرحه فالأمر فيه بخلاف ما توهمه ابن سعدي، ويدل على بطلان أوهامه وتخرصاته ومخالفتها للكتاب والسنة قول الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين أنه لما أتم بناء السد دون يأجوج ومأجوج {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، قال الله -تعالى-: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا}، وقال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}، فدلت هذه الآيات على اندكاك السد وظهور يأجوج ومأجوج إنما يكون عند اقتراب الساعة، وقد جاءت السنة بإيضاح ذلك وبيانه أتم بيان مما لا يدع لمبطل شبهة، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر حديثًا طويلا في ذكر خروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وقتل الدجال، ثم قال: «فبينما هو كذلك إذا أوحى الله إلي عيسى أني قد خرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرِّز عباد إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرًا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله»، زاد الترمذي في روايته: «ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين»، قال الترمذي: "هذا حديث غريب حسن صحيح"، قلت: "وإسناده أحد أسانيد مسلم"، وقد روي ابن ماجة هذه الزيادة مفردة عن هشام بن عمار، حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنا ابن جابر، عن يحيى بن جابر الطائي، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير .........................................................

عن أبيه، أنه سمع النواس بن سمعان -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين» إسناده صحيح، رجاله كلهم من رجال الصحيح. وروي الحاكم في مستدركه وابن مندة في كتاب الإيمان، عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الدجال ونزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وفيه: «فينما هم كذلك إذ أخرج الله يأجوج ومأجوج، فيشرب أولهم البحيرة ويجيئ آخرهم وقد أنشفوها فما يدعون فيها قطرة، فيقولون: ظهرنا على أعدائنا قد كان ههنا أثر ماء» الحديث، قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، وأقره الذهبي، وقال ابن كثير في "النهاية": "قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: في إسناد ابن مندة، هذا إسناد صالح". وروى الإمام أحمد وابن ماجة وابن جرير والحاكم، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام- فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها، فردوا أمرهم إلى موسى فقال: لا علم لي بهذا، فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله، وفيما عهد إلي ربي - عز وجل- أن الدجال خارج ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، قال: فيهلكه الله إذا رآني، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم، إن تحتي كافرًا فتعال فاقتله، قال: فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيطئون بلادهم فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، قال: ثم يرجع الناس يشكونهم، فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ففيما عهد إلى ربي - عز وجل- أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارا» قال الحاكم: "صحيح"، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وزاد ابن ماجة والحاكم فيه: "قال العوام – وهو ابن حوشب أحد رواته–: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل- ثم قرأ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ". وفي هذه الأحاديث النص على أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد ............

خروج الدجال ونزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- وقتل الدجال، ففيها أبلغ رد على ما توهم ابن سعدي من وقوع اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج منذ أزمان طويلة، وفيها أيضًا أبلغ رد على ما توهمه من موافقة أوهامه وتخرصاته للكتاب والسنة. ومما يرد به عليه أيضًا حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في ذكر فتح يأجوج ومأجوج وخروجهم على الناس، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في حفر يأجوج ومأجوج للسد كل يوم، وحديث حذيفة بن أسيد -رضي الله عنه- أن خروج يأجوج ومأجوج من الآيات العشر التي تكون بين يدي الساعة، وحديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- بمثل حديث حذيفة بن أسيد -رضي الله عنه-، وهذه الأحاديث كلها صحيحة، وقد تقدم إيرادها قريبًا فلتراجع، ففيها أبلغ رد على توهمات ابن سعدي وتخرصاته (¬1). وأما قوله: وأما من اعتمد في قصة يأجوج ومأجوج على قصص إسرائيلية وآثار موضوعة وقصص خرافية وعوائد جرت مخالفة للعلم، فقد حرم الوصول إلى الهداية والاستنارة بنور العقل المؤيد بالشرع. فجوابه: أن يقال: وكذلك من اعتمد على الأوهام والتخرصات في موضع السد واندكاكه، وخروج يأجوج ومأجوج قبل خروج الدجال ونزول عيسى وقتل الدجال، فهو محروم من الوصول إلى الهداية والاستنارة بنور الكتاب والسنة في هذا السبيل. " تنبيه " ليعلم المطَّلع على كتابي هذا أن إنكاري لما توهمه ابن سعدي في أمر السد ويأجوج ومأجوج وما كتبته في التنبيه على أخطائه لا يمنعني من الثناء عليه والدعاء له بالمغفرة والرحمة، فقد خلَّف -رحمه الله تعالى- علمًا كثيرًا في مؤلفاته وعند تلاميذه، فأما ما كتبه في رسالته في السد ويأجوج ومأجوج فهو من الزلات المغمورة في جنب فضائله ومحاسنه، وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلا أن تعد معائبه وقد ذكرت قريبًا أن طبع ابن سعدي لتفسيره بعد إخراجه للرسالة بنحو من سبع ..... ¬

_ (¬1) ص (342 - 343).

المراد من الرد على ابن سعدي إنما هو الرد على ابن محمود

عشرة سنة يدل دلالة ظاهرة على رجوعه عما كان قرره في رسالته فليراجع ذلك (¬1)، والله المسئول أن يتغمدني وإياه وجميع المسلمين برحمته وفضله، وأن يغفر زلاتنا وخطايانا جميعًا، إنه سميع الدعاء قريب مجيب. والمقصود من التنبيه على كلام ابن سعدي إنما هو في الحقيقة الرد على ابن محمود الذي تعلق بالكلام الباطل من كلام ابن سعدي، ونشره بعد اختفائه أكثر من أربعين سنة، وزاد فيه وغير في بعض أسلوبه، ولم يعبأ بما يناقضه من كلام ابن سعدي الذي قرره في تفسيره سورة الكهف وسورة الأنبياء من تفسيره المطبوع بعد إخراج رسالته في يأجوج ومأجوج بسبع عشرة سنة، ولو كان ابن محمود يتحرى الصواب لما عدل عن القول الموافق للكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وهو ما قرره ابن سعدي في تفسيره واعتاض عن ذلك بالباطل المخالف للكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين، وهو ما قرره ابن سعدي في رسالته التي تعلق بها ابن محمود، والله المسئول أن يرد ابن محمود إلى الحق والصواب، وأن يسامحنا وإياه ويغفر زلاتنا وخطايانا جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم. وقال ابن محمود في صفحة (80، 81، 82) سد يأجوج ومأجوج. "قال الشيخ محمد رشيد رضا في فتاواه: سألنا عن سد يأجوج ومأجوج غير واحد من مصر وروسيا وغيرهما من الأقطار، ونقول قبل كل شيء: إن دعوى معرفة جميع بقاع الأرض باطلة، فإن بقعة كل من القطبين لا سيما القطب الجنوبي لا تزال مجهولة، وقد استدل بعض العلماء على أن "السد" بني في جهة أحد القطبين بذكر بلوغ ذي القرنين إلى موضعه بعد بلوغ مغرب الشمس ومطلعها، وليس ذاك "إلا" جهة الشمال أو جهة الجنوب، ولا يعترض على هذا القول بصعوبة الوسائل الموصلة إلى أحد القطبين، فإن حالة مدنية ذلك العصر وحالة الأرض فيها غير معروفة لنا الآن فنبني عليها اعتراضًا كهذا، فما "يدرينا" أن الاستطراق إلى أحد القطبين أو كليهما كان في زمن ذي القرنين سهلا، فكم من أرض يابسة فاضت عليها البحار فغمرتها بطول الزمان، وكم من أرض انحسر عنها الماء فصارت أرضًا عامرة متصلة بغيرها أو منفردة (جزيرة)، وكم من مدينة طمست حتى لا يعلم عنها شيء، ومن المعلوم الآن من شئون المدنيات القديمة بالمشاهدة .......................... ¬

_ (¬1) ص (326، 327).

أو الاستدلال ما يجهل بعض أسبابه، كالأنوار والنقوش "والألوان" وجر الأثقال عند المصريين القدماء، فالقرآن يقول في ذي القرنين: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ} كذا من مطلع الشمس ومغربها وبين السدين، فما هي تلك الأسباب؟ هل هي هوائية، أو كهربائية؟ الله أعلم بذلك. هذا ما يقال بالإيجاز في رد دعوى معرفة جميع أجزاء الأرض التي بني عليها الاعتراض، ثم إن ما بني على هذه الدعوى باطل وإن فرضنا إنها هي مسلمة، وذلك أنه يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السد كان فيهما حدهما الموضوع الذي يسمى الآن (دربند) بروسيا ومعناه السد، وفيه موضع يسمى (دمرقبو) أي باب الحديد، وهو أثر سد قديم بين جبلين يقال أنه من صنع بعض ملوك الفرس، ويحتمل أن يكون موضع السد وقد ذكره ملطبرون في جغرافيته بما يدل على ذلك، وأخبرني مختار باشا الغازي أنه رأى خريطة جغرافية قديمة لتلك الجهات وفيها رسم ذلك المكان وبيان أن وراءه قبلتين اسم إحداهما (آقوق) واسم الثانية (ماقوق) وتعريب هذين اللفظين بيأجوج ومأجوج ظاهر جلي، وأما الموضع الثاني فإننا نترجم ما جاء فيه عن بعض التواريخ الفارسية على غرابته وهو في الشمال الشرقي من مدينة صنعاء التي هي عاصمة اليمن بعشرين مرحلة (مائة وبضعة فراسخ)، مدينة قديمة تسمى الطويلة، وفي شرقي هذه المدينة واد عميق جدًا يحيط به ثلاث جهات جبال شامخة منصبة ليس فيها مسالك معبدة، "فالمتوقل" (¬1) فيها على خطر السقوط والهوي، وفي الجهة الرابعة منه سهوب فيحاء يستطرق منها إلى الوادي ومنه إليها، وفجوة الوادي من هذه الجهة تبلغ خمسة آلاف ذراع فارسي (الذارع الفارسي متر وأربع سنتمات) وفي الفجوة سد صناعي يمتد من أحد طرفي الجبلين إلى الآخر وهو من زبر الحديد المتساوية المقدار، فطول هذا السد خمسة آلاف ذراع، فأما سمكه فخمسة عشر شبرًا، وأما ارتفاعه فيختلف باختلاف انخفاض أساسه وارتفاعه، لأن أرضه غير مستوية، وفي القرن العاشر للهجرة لما فتح سنان باشا القائد العثماني اليمن وصل إلى قلعة تسمى "تسام" واقعة بجوار هذا السد، فأمر بعدِّ زبر الحديد المبني بها السد فقصارى ما تيسر لهم عده منها تسعة آلاف، وفي طرفي هذا السد قلعتان عظيمتان محكمتا البناء قديمتان تسمى إحداهما قلعة العرصة والثانية قلعة الباحثة، فهذا الوصف ........................................... ¬

_ (¬1) التوقل الصعود في الجبال وغيرها.

الرد على ما في كلام رشيد رضا من الأخطاء

ينطبق على ما جاء في القرآن من وصف السد وبلاد اليمن هي فيما يظهر بلاد ذي القرنين؛ لأن هذا اللقب من ألقاب ملوك العرب الحميريين في حضرموت واليمن المعروفين بالأدواء (كذي يزن وذي الكلاع وذي نواس)، ولكن إن صح وجود السد فأين يأجوج ومأجوج منه، وهم التتر كما في تاريخ السوريين قبل الإسلام أو السكيثيين الذين وصفهم النبي حزقيال بما ينطبق على وصفهم في تاريخ اليونان ويعدهم النصارى رمزًا "لأعداء" الكنيسة، ثم إن لم يكن السد المذكور في القرآن هذا ولا ذاك ولم يكن فيما بقي مجهولا من الأرض فلم لا يجوز أن يكون قد اندك وذهب أثره من الوجود. إن قيل يمنع من ذلك أن اندكاكه وخروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة، أجبنا بجوابين؛ أحدهما: أن قرب الساعة يمتد ألوفًا من السنين بدليل أن نبينا نبي الساعة وقرب الساعة "نسبي" أي هو قرب بالنسبة إلى ما مضى من عمر الأرض، وما يدرينا أنه ملايين السنين, وثانيهما: أن هناك ساعة عامة وساعة خاصة، أي ساعة هلاك أمة معينة كما ورد في شرح بعض الأحاديث الواردة في الساعة". انتهى. والجواب: أن أقول: قد وقع في نقل ابن محمود تحريف في ست كلمات وهو تحريف يحيل المعنى، وقد أصلحته على الأصل المنقول منه في فتاوى رشيد رضا، وجعلت كل كلمة بين قوسين صغيرين مزدوجين. وأما قول رشيد رضا: إن دعوى معرفة جميع بقاع الأرض باطلة فهو حق؛ لأنه لا يحيط علمًا بجميع ما على وجه الأرض من البقاع والمخلوقات إلا الله -تعالى-. وأما قوله: إنه يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السد كان فيهما ... إلى آخر كلامه على الموضعين. فجوابه: أن يقال: هذا الاحتمال بعيد من الصواب؛ أما الموضع الذي يسمى (دربند) فقد ذكر أن فيه أثر سد قديم بين جبلين، وأنه يحتمل أن يكون موضع السد، وهذا الاحتمال مردود بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة؛ فأما الدليل من الكتاب فهو قول الله -تعالى- مخبرًا عن ذي القرنين أنه لما بني السد {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" في الكلام على هذه الآية: " {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} أي الوقت الذي قدر خروجهم على الناس في آخر الزمان، {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} أي مساويًا للأرض ولا بد من ......................................................

كون هذا، ولهذا قال: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}، كما قال -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ولهذا قال ههنا: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}، قال ذاك حين يخرجون على الناس، قال ابن كثير: وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال". انتهى. وأما الدليل من السنة ففي سبعة أحاديث عن النواس بن سمعان، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وحذيفة بن أسيد الغفاري، وواثلة بن الأسقع -رضي الله عنهم-، وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث قريبًا فلتراجع (¬1)، ففيها أبلغ رد على من ظن أن السد قد زال، ولو كان السد قد زال لكان يأجوج ومأجوج قد خرجوا على الناس منذ زواله وأهلكوا كل شيء أتوا عليه، وفي الأحاديث التي تقدم ذكرها عن النواس بن سمعان وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان النص على أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون بعد نزول عيسى وقتل الدجال، وفي هذا أوضح دليل على أن السد إنما يندك في ذلك الزمان، فإذا اندك خرجوا على الناس، ويدل على أنهم يخرجون من حين يندك السد ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس» كما قال الله - عز وجل-: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}، فيبعثون في الأرض وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» الحديث، وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم» الحديث، ولو كان السد قد زال وبقي أثره لما كان للحفر الذي يستمر إلى وقت خروجهم معنى، وفي حديث حذيفة بن أسيد الغفاري وحديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنهما- النص على أن خروج يأجوج ومأجوج من الآيات العشر الدالة على اقتراب الساعة، وقد جاء في عدة أحاديث تقدم ذكرها (¬2) أن الآيات إذا خرج أولها تتابعت كالنظام إذا قطع سلكه فتتابع، وقد تقدم ما رواه ابن أبي شيبة عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: «لو أن رجلا ارتبط فرسًا في سبيل الله فأنتجت مهرًا عند أول الآيات، ما ركب المهر حتى يرى آخرها»، وتقدم أيضا ما رواه ابن جرير عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: «لو أن رجلا افتلى فلوًا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة»، وتقدم أيضًا ما رواه ابن أبي شيبة عن حذيفة ........................................... ¬

_ (¬1) ص (341 - 343). (¬2) ص (330، 331).

-رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، فما بعد الدجال؟ قال: «عيسى ابن مريم»، قلت: فما بعد عيسى ابن مريم؟ قال: «لو أن رجلا أنتج فرسًا لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة»، ففي هذا الحديث والأثرين قبله مع ما تقدم من الأحاديث المرفوعة أوضح دليل على أن يأجوج ومأجوج إنما يخرجون عند دنو الساعة، وهذا يدل على أن السد لا يزال باقيًا مانعًا لهم من الخروج، وأنه إنما يندك عند اقتراب الساعة. وأما القبيلتان اللتان اسم إحداهما: (آفوق) واسم الثانية: (ماقوق) فإن كان بينهما وبين الناس سد من حديد فهما يأجوج ومأجوج، وإن لم يكن بينهما وبين الناس سد من حديد فليسا يأجوج ومأجوج. وأما الموضع الثاني: الذي ذكر رشيد رضا أنه في الشمال الشرقي من مدينة صنعاء وفيه سد من حديد فليس هو السد الذي بناه ذو القرنين دون يأجوج ومأجوج قطعًا؛ لأن هذا السد على تقدير وجوده يكون في الجزيرة العربية، ويأجوج ومأجوج ليسوا في البلاد العربية ولا فيما يقرب منها من الأرض، وإنما هم في أقصى بلاد المشرق من ناحية الشمال، كما ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين والمتكلمين على الأقاليم ومواقع البلدان فيها، وقد روي ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- والضحاك أن الصدفين اللذين بني ذو القرنين السد بينهما هما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان، وقاله القرطبي في تفسيره، وأرمينية وأذربيجان في أقصى المشرق من ناحية الشمال. وأما قوله: فهذا الوصف ينطبق على ما جاء في القرآن من وصف السد. فجوابه: أن يقال: هذا السد إن صح ما قيل عنه وأنه من زبر الحديد فليس هو السد المذكور في القرآن قطعًا، وإنما هو من بناية بعض التبابعة أو غيرهم من ملوك اليمن المتقدمين. وأما قوله: وبلاد اليمن هي فيما يظهر بلاد ذي القرنين؛ لأن هذا اللقب من ألقاب ملوك العرب الحميريين المعروفين بالأذواء. فجوابه: أن يقال: على تقدير أن يكون ذو القرنين من أذواء اليمن فلا يلزم من ذلك أن يكون هو الذي بني السد الذي ذكره رشيد رضا إذ لا دليل يدل على ذلك، وعلى تقدير أن يكون هو الذي بناه فليس هو السد المذكور في القرآن؛ لأن ..........................

يأجوج ومأجوج ليسوا في بلاد اليمن، وإنما هم في أقصى بلاد المشرق من ناحية الشمال، وقد أخبر الله -تعالى- أنه مكَّن لذي القرنين وآتاه من كل شيء سببًا، وأخبر أنه بلغ مغرب الشمس ومطلعها ثم أتبع سببًا حتى بلغ بين السدين وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان وهناك جعل الردم دون يأجوج ومأجوج، ففي هذا إيماء إلى أن موضع السد في أقصى المعمورة من ناحية المشرق، وهذه الناحية بعيدة غاية البعد عن بلاد اليمن. وأما قوله: إن يأجوج ومأجوج هم التتر. فجوابه: أن يقال: إن يأجوج ومأجوج غير التتر؛ لأن التتر ليس بينهم وبين غيرهم من الناس سد من حديد يمنعهم من الخروج والإفساد في الأرض، وقد خرج التتر على بلاد المسلمين في أثناء القرن السابع من الهجرة وما بعده فجاسوا خلال الديار وتبَّروا ما علوا تتبيرًا، ولو كان التتر هم يأجوج ومأجوج لكانوا قد شربوا المياه حين خرجوا على المسلمين وشرب أوائلهم بحيرة طبرية، ولكان الدجال قد خرج قبل خروجهم، ونزل عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- فقتل الدجال، ولكانت القيامة قد قامت منذ سبعة قرون أو أكثر؛ لما في حديث حذيفة -رضي الله عنه- أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماذا يكون بعد خروج الدجال؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو أنتجت فرسًا لم تركب فلوها حتى تقوم الساعة» وهو حديث صحيح، وقد تقدم إيراده وإيراد ما في معناه من الأحاديث قريبًا (¬1)، ولا شك في بطلان القول بأن التتر هم يأجوج ومأجوج، ومن قال بهذا القول الباطل فإنما يعتمد على التخرص واتباع الظن، وقد قال الله -تعالى-: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وأما قوله: ثم إن لم يكن السد المذكور في القرآن هذا ولا ذاك ولم يكن فيما بقي مجهولا من الأرض فلم لا يجوز أن يكون قد اندك وذهب أثره من الوجود. فجوابه: أن يقال: إن السد لا يندك إلا إذا دنا قيام الساعة؛ لقول الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ}؛ أي دنا قيام الساعة كما قال -تعالى- إخبارًا عن ذي القرنين، إنه لما أتم بناء السد .............. ¬

_ (¬1) ص (314).

{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ}، وقد أخبر الله عنهم إنهم إذا خرجوا يموج بعضهم في بعض ثم ينفخ في الصور، قال السدي في قوله -تعالى-: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} قال: "ذاك حين يخرجون على الناس"، وقد تقدم إيراد الأحاديث الدالة على أن خروج يأجوج ومأجوج من أمارات الساعة، وأنه يكون بعد نزول عيسى وقتل الدجال، فلتراجع في موضعها (¬1). وأما قوله: إن قيل: يمنع من ذلك أن اندكاكه وخروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة. فجوابه: أن يقال: هذا هو الصحيح، والأدلة من القرآن والسنة تدل عليه، وقد تقدم إيرادها في عدة مواضع. وأما قوله: أجبنا بجوابين؛ أحدهما: أن قرب الساعة يمتد ألوفًا من السنين بدليل أن نبينا نبي الساعة وقرب الساعة نسبي أي هو قرب بالنسبة إلى ما مضى من عمر الأرض، وما يدرينا أنه ملايين من السنين. فجوابه: أن يقال: هذا الجواب باطل مردود لمخالفته للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تقريب خروج يأجوج ومأجوج من قيام الساعة تقريبًا مطلقًا وليس تقريبًا نسبيًا، فمن الأحاديث الدالة على ذلك حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام- فتذاكروا أمر الساعة» الحديث، وفيه ذكر خروج الدجال وأن الله يهلكه إذا رأي عيسى، ثم ذكر خروج يأجوج ومأجوج وأن عيسى - عليه السلام- يدعو عليهم فيهلكهم الله، ثم قال: «ففيما عهد إلى ربي - عز وجل- إن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارًا». رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وابن جرير، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي على تصحيحه، وزاد ابن ماجة والحاكم فيه: "قال العوام- وهو ابن حوشب أحد رواته-: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل- ثم قرأ {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} "، وقد تقدم إيراد هذا الحديث بطولة قريبًا فليراجع (¬2)، ففيه أبلغ رد على قول رشيد رضا أن قرب الساعة يمتد ألوفًا .................................................... ¬

_ (¬1) ص (341 - 343). (¬2) ص (357).

من السنين، وعلى قوله أيضًا إن قرب اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج من قيام الساعة قرب نسبي، فهذا الحديث الصحيح يدل على أنه قرب مطلق لا قرب نسبي، والله أعلم. ومنها ما رواه ابن أبي شيبة عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، فما بعد الدجال؟ «قال عيسى ابن مريم»، قلت: فما بعد عيسى ابن مريم؟ قال: «لو أن رجلا أنتج فرسًا لم يركب مهرها حتى تقوم الساعة». وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن خروج يأجوج ومأجوج يكون بعد نزول عيسى وقتل الدجال، وجاء مثل ذلك في حديثي ابن مسعود وحذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-، وفي هذا أبلغ رد على قول رشيد رضا أن قرب الساعة يمتد ألوفا من السنين وعلى قوله أيضًا أن قرب اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج من قيام الساعة قرب نسبي، والحديث يدل دلالة واضحة على أنه قرب مطلق وليس قربًا نسبيًا، ومنها حديث حذيفة بن أسيد الغفاري وحديث واثلة بن الأسقع -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الآيات التي تكون بين يدي الساعة ومنها خروج يأجوج ومأجوج، وهما حديثان صحيحان، وقرب هذه الآيات العشر من الساعة قرب مطلق وليس قربًا نسبيًا؛ لأن منها طلوع الشمس من مغربها وبطلوعها من مغربها يغلق باب التوبة، وغلق باب التوبة قريب جدًا من قيام الساعة، والله أعلم، وقد روي ابن جرير عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: «لو أن رجلا افتلى فلوًا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة»، وهذا الأثر له حكم الرفع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف. وأما قوله: وثانيهما: أن هناك ساعة عامة وساعة خاصة أي هلاك أمة معينة. فجوابه: أن يقال: ما جاء في الأحاديث التي تقدم ذكرها قريبًا (¬1) عن عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وحذيفة بن أسيد الغفاري وواثلة بن الأسقع -رضي الله عنهم- فالمراد به الساعة العامة وهو قيام الساعة العظيمة، ومن حمل ذلك على الساعة الخاصة التي هي هلاك أمة معينة فقد أبعد النجعة وحمل الأحاديث على غير المراد بها، والله أعلم. ¬

_ (¬1) ص (341 - 343).

خاتمة تحتوي على نماذج من أخطاء ابن محمود في رسالته

" خاتمة ": تحتوي على نماذج من أخطاء ابن محمود ومجازفاته وشطحاته وتهافته في رسالته في إنكار المهدي، وما قاله أيضًا في اندكاك السد وخروج يأجوج ومأجوج، وقد ذكرت ذلك مفرقًا في هذا الكتاب مع التنبيه على كل جملة منه، وإنما ذكره مجموعًا في الخاتمة تسهيلاً على من أحب الاطلاع على أقواله الباطلة والاعتبار بحال قائلها. والله المستعان. فمن ذلك قوله في عنوان رسالته في إنكار المهدي ما نصه: "لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر" وقد ذكرت في أول الكتاب أن هذا العنوان مخالف للكتاب والسنة والإجماع، وذكرت الأدلة على ذلك فليراجع ما تقدم (¬1). ومن ذلك زعمه في صفحة (3) أن رسالته في إنكار المهدي عقيدة حسنة وحقيقة مسلمة، وهذا قول باطل مردود؛ لأن رسالته مخالفة للكتاب والسنة والإجماع، وما كان كذلك فلا يكون عقيدة حسنة ولا حقيقة مسلمة، وإنما هو عقيدة سيئة وبدعة مردودة. ومن ذلك أنه في صفحة (3) دعي العلماء والطلاب إلى الاتحاد معه على إنكار المهدي، ولا شك أن هذا من الدعاء إلى الضلالة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقد زعم ابن محمود أن الاتحاد على إنكار المهدي من حسن الاعتقاد، وهذا من انقلاب الحقيقة عنده ومن رؤية الباطل في صورة الحق، وهل يقول عاقل أن إنكار الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي من حسن الاعتقاد؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل. ومن ذلك قوله في صفحة (3) إنه قد رأى في نفسه أنه قد أصاب في رسالته في إنكار المهدي مفاصل الإنصاف والعدل، ولم ينزع فيها إلى ما ينفاه الشرع أو يأباه العقل، وهذا من انقلاب الحقيقة عند ابن محمود ومن رؤية الباطل في صورة الحق، وكيف يصيب مفاصل الإنصاف والعدل من قد جد واجتهد في معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي ولم يبال بردها وإطراحها، ثم يزعم أنه لم ينزع إلى ما ينفاه الشرع أو يأباه العقل، وهل يقول عاقل إن الشرع يُقِرُّ .......................................................... ¬

_ (¬1) ص (9 - 22).

معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي وقلة المبالاة بها، أو أن العقل السليم يقر ذلك ولا يأباه؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل. ومن ذلك زعمه في صفحة (3) أنه قد قدَّم في رسالته عقيدة المسلم مع المهدي، وهذا قول باطل مردود؛ لأن الذي قدمه ابن محمود في رسالته ليس من عقائد المسلمين، وإنما هو بدعة وضلالة قد بنيت على المخالفة للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي ونبذها وإطراحها. ومن ذلك زعمه في صفحة (3) أن جميع الناس من العلماء والعوام في كل زمان ومكان يقاتلون كل من يدعي أنه المهدي، ولن يزالوا يقاتلون كل من يدعي ذلك حتى تقوم الساعة، وقال نحو ذلك في صفحة (32) وصفحة (33). وأقول: إن هذه المجازفة لا أساس لها من الصحة، والجملة الأخيرة من كلامه مبنية على الرجم بالغيب، وهل يعلم ابن محمود ماذا يكون في المستقبل حتى يخبر عن جميع الناس من العلماء والعوام في كل زمان ومكان أنهم لن يزالوا يقاتلون كل من يدعي أنه المهدي حتى تقوم الساعة {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}. ومن ذلك زعمه في صفحة (3) تقليدًا لأحمد أمين أن القول بخروج المهدي مجرد فكرة ليست من عقائد أهل السنة القدماء، وهذا الزعم مردود بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروج المهدي. ومن ذلك زعمه في صفحة (3) تقليدًا لرشيد رضا وأحمد أمين وسعد محمد حسن أن أصل من تبني الفكرة والعقيدة في المهدي هم الشيعة، وقال نحو ذلك في صفحة (24) وصفحة (27)، وهذا الزعم لا أساس له من الصحة، وهو مردود بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي. ومن ذلك زعمه في صفحة (4) أن عبد الله بن سبأ وشيعته أخذوا في صياغة الأحاديث ووضعها ونشرها في مجتمع الناس، وقال نحو ذلك في صفحة (16)، وهذا الزعم لا أساس له من الصحة. ومن ذلك زعمه في صفحة (4) أن أحاديث المهدي غير صحيحة ولا متواترة، وقال مثل ذلك في صفحة (8) وصفحة (12) وصفحة (16) وصفحة (27) ..................

وصفحة (39) وصفحة (51) وصفحة (52) وصفحة (70)، وهذه المجازفة مردودة بما ذكرته في أول الكتاب من الأحاديث الثابتة في المهدي، ومردودة أيضًا بما قاله غير واحد من أكابر العلماء في أحاديث المهدي إن بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، وكذلك ما صرح به عدد من أكابر العلماء أن أحاديث المهدي متواترة، وقد ذكرت تصحيحهم لبعض أحاديث المهدي وتحسينهم لبعضها وقولهم إنها متواترة في أول الكتاب، فليراجع ذلك في موضعه (¬1). ومن ذلك زعمه في صفحة (4) أن أحاديث المهدي مسلسلة، وهذا الزعم خطأ ظاهر؛ لأنه ليس في أحاديث المهدي شيء مسلسل على ما هو معروف عند المحدثين من صفات الأحاديث المسلسلة. ومن ذلك زعمه في صفحة (4) أن أحاديث المهدي مختلقة، وهذا الزعم لا أساس له من الصحة. ومن ذلك زعمه في صفحة (5) أن المحققين من العلماء المتقدمين والمتأخرين أدركوا في أحاديث المهدي من الملاحظات ما يوجب عليهم ردها وعدم قبولها، وهذا الزعم مردود بتصحيح المحققين من المتقدمين والمتأخرين لبعض أحاديث المهدي وتحسين بعضها، ولا عبرة بمن تكلم فيها من العصريين الذين زعم ابن محمود أنهم أهل تحقيق، وهم بعيدون كل البعد عن التحقيق، وغاية ما عندهم المجازفة في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلة المبالاة بها. ومن ذلك زعمه في صفحة (5) أن القول بصحة خروج المهدي يترتب عليه مضار ومفاسد كبار وفتن، وهذا لا أساس له من الصحة، وقد ذكرت في الجواب عنه أن المضار والمفاسد إنما تترتب على إنكار خروج المهدي في آخر الزمان وتكذيب الأحاديث الثابتة فيه. ومن ذلك زعمه في صفحة (6) أنه من الأمر المحال أن يوجب النبي على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، وهو ليس بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به والعمل بموجبه، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تصديقه والتكذيب به، فإن هذا من الأمر المنافي لسنته وحكمة رسالته، وقال في صفحة (12): "وحاشا أن يفرض رسول الله على أمته ........................................ ¬

_ (¬1) ص (41 - 45).

الإيمان برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، لا يعلم زمانه ولا مكانه، وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولن يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به، ثم يترك أمه يتقاتلون على حساب تحقيقه والتصديق به"، وقال نحو ذلك في صفحة (58)، وقال في آخر كلامه: "ثم يترك أمته يتقاتلون على التصديق والتكذيب به إلى يوم القيامة"، وقال في صفحة (36): "إن الله -سبحانه- في كتابه وعلى لسان نبيه لا يوجب الإيمان برجل مجهول في عالم الغيب"، ثم ساق بقية الكلام الذي ذكره في صفحة (6)، وقال في صفحة (14) وصفحة (15): "وإننا بكتاب ربنا وسنة نبينا لفي غنى واسع عن دين يأتينا به المهدي المنتظر، إذ المهدي ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، وليس ديننا الذي جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا بناقص حتى يكمله المهدي"، وذكر في صفحة (43) حديث أبي سعيد الذي فيه: «المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف»، ثم قال: "ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُنزَّه عن أن يحيل أمته على هذه الأوصاف الموجودة في أكثر بني آدم، ولا يأتي من اتصف بها بكتاب من ربه يصدق قوله، ولا بدين جديد يكمل به دين محمد رسول الله، وليس بملك مقرب ولا نبي مرسل"، وقال في صفحة (25): "وما هذا التهالك في محبته- أي محبة المهدي- والدعوة إلا الإيمان به وهو رجل من بني آدم، ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به". هكذا جازف ابن محمود في إطلاق هذه الكلمات النابية، وكرر ذلك في سبعة مواضع من رسالته، وزادت به المجازفة في بعض هذه المواضع، فتحكم على الله -تعالى- ذلك، وتجرأ على الرجم بالغيب حيث زعم في صفحة (58) أن الرسول لا يترك أمته يتقاتلون على التصديق والتكذيب بالمهدي إلى يوم القيامة، وما يدريه عما يكون في المستقبل، وقد تقدم الجواب عما ذكرته ههنا من مجازفات ابن محمود وتخليطه مفرقًا في هذا الكتاب. ومن ذلك أنه في صفحة (6) نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه قال في المنهاج: "إن الأحاديث في المهدي قد غلط فيها طوائف من العلماء فطائفة أنكروها"، وقد اعتمد ابن محمود على قول الطائفة التي أنكرت أحاديث المهدي مع علمه بتغليط شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- لمن قال بهذا القول، وهذا ................................

من أقبح التقليد، وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في الجملة التي نقل منها ابن محمود ما تقدم ذكره: "إن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة"، وإنما أعرض ابن محمود عن نقل هذه الجملة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنها تهدم أقواله الباطلة في إنكار أحاديث المهدي وقوله إنها موضوعة. ومن ذلك زعمه في صفحة (6) أن مما يقلل الاحتفال بأحاديث المهدي أنه لم يذكر في القرآن ولم يدخل البخاري ومسلم أحاديثه في كتبهما، وهذا زعم باطل مردود، وهو مما قلد فيه رشيد رضا وأحمد أمين والمستشرق دونلدسن، وقد ذكرت كلامهم في ذلك والجواب عنه في أول الكتاب فليراجع (¬1). ومن ذلك زعمه في صفحة (6) أن أحاديث المهدي متناقضة ومتعارضة في موضوعها وهذا زعم باطل، وقد ذكرت في الجواب عنه أنه ليس بين الأحاديث الثابتة في المهدي تناقض ولا تعارض البتة. ومن ذلك زعمه في صفحة (7) أن المحققين من العلماء قد أيقنوا بأن أحاديث المهدي موضوعة على لسان رسول الله، وأنها لم تخرج من مشكاة نبوته، وليست من كلامه، فلا يجوز النظر فيها فضلا عن تصديقها، وهذا من التقوُّل على المحققين من المتقدمين والمتأخرين، وهلا ذكر كلامهم في ذلك إن كان صادقًا فيما يقول، وقد ذكرت تصحيحهم لبعض أحاديث المهدي وتحسينهم لبعضها، وما صرح به بعضهم من كونها متواترة في أول الكتاب فليراجع (¬2)، ففيه أبلغ رد على زعم ابن محمود وتقوله على المحققين من العلماء، فأما رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وأمثالهم من العصريين فليسوا أهل تحقيق في الحديث، وإنما هم أهل جراءة على الكلام في الأحاديث الثابتة إذا كانت مخالفة لأفكارهم أو أفكار من يعظمونه، فلا يلتفت إلى طعنهم في أحاديث المهدي ولا في غير ذلك من الأحاديث الثابتة. ومن ذلك زعمه في صفحة (7) أن كل حديث يذكر فيه المهدي فهو ضعيف، وهذه مجازفة مردودة بالأحاديث الثابتة في المهدي، وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع (¬3). ومن ذلك زعمه في صفحة (8) أن من عادة العلماء المحدثين والفقهاء ................ ¬

_ (¬1) ص (59 - 69). (¬2) ص (41 - 45). (¬3) ص (9 - 17).

المتقدمين أن بعضهم ينقل عن بعض الحديث والقول على علاته تقليدًا لمن سبقه، وهذه مجازفة سيئة جدًا أرسلها قائلها من غير تثبت ولا تعقل. ومن ذلك زعمه في صفحة (8) أن الإمام أحمد كان يستعير الملازم من طبقات ابن سعد فينقلها ثم يردها إليه، وأن الشافعي كان يقول للإمام أحمد: "إذا ثبت عندك الحديث فارفعه إليَّ حتى أثبته في كتابي"، وهذه مجازفة لا يقولها عاقل ولا يغتر بها إلا جاهل بالشافعي وأحمد -رحمة الله عليهما-. ومن ذلك قوله في صفحة (8) إن الناس مقلدة وقليل منهم المحققون المجتهدون، والمقلد لا يعد من أهل العلم. وأقول: قد ذكرت في الجواب عن هذه الجملة أن ابن محمود قد وقع في العيب الذي عاب به المحدثين والفقهاء، وذلك أنه كان ينقل من كلام رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وغيرهم من العصريين، ويقلدهم فيما قالوه في رد الأحاديث الثابتة في المهدي والقدح فيها بغير مستند صحيح يسوغ به القدح، وقد ذكرت أنه بهذا الفعل قد حكم على نفسه بأنه لا يعد من أهل العلم. وأقول أيضًا أن الذين خرجوا الأحاديث الثابتة في المهدي كلهم محققون مجتهدون ومنهم؛ الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والحارث بن أبي أسامة، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم من المحدثين، وكذلك الذين حكموا للصحاح من أحاديث المهدي بالصحة وللحسان منها بالحسن كلهم محققون مجتهدون ومنهم؛ الترمذي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والعقيلي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وزين الدين العراقي، وابن حجر العسقلاني، ونور الدين الهيثمي، وغيرهم من أكابر العلماء، وكذلك الذين قالوا بتواتر أحاديث المهدي كلهم محققون مجتهدون ومنهم؛ أبو الحسين الآبري والذين نقلوا كلامه وأقروه، ومنهم أبو عبد الله القرطبي، وأبو الحجاج المزي، وابن القيم، وابن حجر العسقلاني، والسخاوي، والسيوطي، وغيرهم من المتأخرين، فهل يقول ابن محمود إن هؤلاء الذين ذكرنا أسماءهم كلهم مقلدون، وأن رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وأمثالهم من العصريين الذي أنكروا أحاديث المهدي وحكموا بأنها موضوعة هم المحققون المجتهدون؟ لا يستبعد منه أن يقول بهذا القول الباطل، بل هذا هو الظاهر من كلامه، ويدل على ذلك أربعة أمور؛ أحدها: أنه قد عاب على الشافعي وأحمد وقال فيهما ما قال مما تقدم ذكره، ........

ومن تهجم على الشافعي وأحمد وعابهما فغير مستبعد منه أن يعيب غيرهما من المحققين المجتهدين ويصفهم بالتقليد، الثاني: أنه زعم في صفحة (23) أن العلماء المتقدمين يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم، وأن من عادة علماء السنة المتقدمين عمل التساهل فيما يرد من أحاديث أشراط الساعة؛ كأحاديث المهدي والدجال ويأجوج ومأجوج، الثالث: أنه في صفحة (24) وصف العلماء المتقدمين والموجودين على قيد الحياة بصفة العجز حيث لم ينكروا أحاديث المهدي، الرابع: أنه أثنى على علماء الأمصار في صفحة (26)، ويريد بهم العصريين الذين كان ينقل عنهم ويعتمد على أقوالهم الباطلة في رد الأحاديث الثابتة في المهدي. وقد زعم أنهم يشبعون البحث تحقيقًا وتدقيقًا وتمحيصًا وتصحيحًا، فهذا واضح جلي أنه قد عناهم بوصف التحقيق والاجتهاد، ومن كان اعتماده على آراء العصريين وتخرصاتهم وزبالة أذهانهم وتفكيراتهم الخاطئة فلا شك أنه مزجى البضاعة. ومن ذلك إعجابه بما ظن أنه تحقيق معتبر عن أحاديث المهدي، وهذا التحقيق المزعوم مذكور في صفحة (8)، وهو بأضغاث الأحلام أشبه منه بكلام اليقظان، وحاصله رد الأحاديث الثابتة في المهدي والقول بأنها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة بالمعنى. ومن ذلك أنه في صفحة (8) وصفحة (9) نقل كلامًا لابن القيم من كتابه "المنار المنيف" واختصره اختصارًا يخل به وحذف منه ما فيه حجة عليه، وهذا خلاف الأمانة في النقل. ومن ذلك زعمه في صفحة (9) أن المهدي مجهول في عالم الغيب وأنه لا حقيقة لخروجه، وهذا من مجازفاته ومكابراته في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروج المهدي في آخر الزمان. ومن ذلك زعمه في صفحة (9) أن الإيمان بخروج المهدي من التعصب، وهذا أيضًا من مجازفاته ومكابراته. ومن ذلك أنه في صفحة (9) تقوَّل على الذهبي وعليٍّ القاري، وزعم أنهما قالا في حديث صلاة عيسى خلف المهدي إنه موضوع، وقد ذكرت الجواب عن هذا .........

التقول في أول الكتاب فليراجع (¬1)، وأقول: أين الورع والتقوى؟! وأين الأمانة في النقل؟! أما عند هذا الرجل دين يحجزه عن التقول على علماء المسلمين؟! ومن ذلك زعمه في صفحة (9) أن أعدل من أصاب الهدف في قضية المهدي هو أبو الأعلى المودودي، ثم ذكر كلامه الذي هو بعيد كل البعد عن إصابة الهدف في قضية المهدي. ومن ذلك ما ذكره في صفحة (10) عن اعتقاده الذي يدين الله به، وهو إنكار خروج المهدي والإنكار على من يقول بصحة خروجه، ولا شك أن هذا من الاستهانة بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، ومن اتِّباع غير سبيل المؤمنين الذين يقابلون الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرضى والقبول والتسليم. ومن ذلك زعمه في صفحة (11) وصفحة (12) أنه يدعو العلماء والعقلاء إلى الاتحاد على حسن الاعتقاد في أحاديث المهدي، وإنما هو في الحقيقة يدعوهم إلى الاتحاد على سوء الاعتقاد الذي يتضمن تكذيب الأحاديث الثابتة في المهدي، ويدعو إلى نبذها وإطراحها. ومن ذلك زعمه في صفحة (12) أن العلماء المحققين من المتأخرين وبعض المتقدمين قد حكموا على أحاديث المهدي بأنها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وأنهم ينزهون ساحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته عن الإتيان بمثلها، وهذا من التقوُّل على المحققين من المتقدمين والمتأخرين، وإنما يذكر بعض ذلك عن بعض العصريين الذين ليسوا من أهل التحقيق في الحديث، وإنما هم من أهل المجازفة والقول بغير علم، ومنهم رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين، وهؤلاء وأمثالهم من العصريين هم أئمة ابن محمود الذين ينقل عنهم ويقلدهم ويعتمد على أقوالهم الباطلة في تكذيب أحاديث المهدي، بل إنه قد زاد عليهم في إطلاق الصفات الذميمة على الأحاديث الثابتة في المهدي؛ كقوله: إنها مختلقة ومكذوبة ومصنوعة وموضوعة ومزورة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليست من كلامه، وإنها نظرية خرافية، وإنها أحاديث خرافة، وإنها بمثابة حديث ألف ليلة وليلة. هكذا كانت مقابلته للأحاديث الثابتة في المهدي. ومن ذلك زعمه في صفحة (12) أن الشبهة في أحاديث المهدي يقينية .......... ¬

_ (¬1) ص (92، 93).

والكذب فيها ظاهر جلي، وهذا من مجازفاته ومكابراته. ومن ذلك قوله في صفحة (12): "وحاشا أن يفرض رسول الله على أمته الإيمان برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، لا يعلم زمانه ولا مكانه، وهو ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولن يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به، ثم يترك أمته يتقاتلون على حساب تحقيقه والتصديق به"، وقد ذكرت هذه الكلمات النابية قريبًا وتقدم الجواب عنها في أول الكتاب فليراجع (¬1). ومن ذلك زعمه في صفحة (12) أن كل الأحاديث الدالة على خروج المهدي متناقضة متعارضة ومختلفة غير مؤتلفة، وأنها كلها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، وهذا من مجازفاته ومكابراته. ومن ذلك قوله في صفحة (12) إنه رأى لشيخ الإسلام ابن تيمية قولا يثبت فيه بأنه ورد في المهدي سبعة أحاديث رواها أبو داود، وهذا غير صحيح؛ لأن شيخ الإسلام لم يذكر سوى أربعة أحاديث ذكرها في صفحة (211) من الجزاء الرابع من كتاب "منهاج السنة النبوية"، فإن كان ابن محمود قد وجد لشيخ الإسلام كلامًا غير الذي أشرنا إليه فليذكر الكتاب الذي وجد فيه ذلك وليذكر موضعه من الكتاب، ولا أظنه يجد شيئًا. ومن ذلك زعمه في صفحة (12) وصفحة (13) أنه قد توسع في العلوم والفنون ومعرفة أحاديث المهدي وعللها وتعارضها واختلافها، وإن ذلك مما فات على العالم النحرير- يعني شيخ الإسلام ابن تيمية-، وهذه دعوى لا حاصل تحتها وأمنية يتعلل بها قائلها ولا حقيقة لها، والواقع في الحقيقة أنه قد توسع في المجازفة والمكابرة في رد الأحاديث الثابتة في المهدي وإطراحها ووصفها بالصفات الذميمة. ومن ذلك زعمه في صفحة (12) وصفحة (13) أن القول بخروج المهدي وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية من ورود الأحاديث فيه أن ذلك من الاعتقاد السيئ ومن زلات العلماء، وأن من قال ذلك نسب إلى الخطأ والتقصير، ولا يخفى ما في هذا الكلام السيئ من قلب الحقائق وإظهار الحق في صورة الباطل. ومن ذلك قوله في صفحة (12): "وعرفت تمام المعرفة بأنه لا مهدي بعد رسول الله وبعد كتاب الله"، وهذا قول باطل مردود بالنص على أن الخلفاء الأربعة مهديون، ........ ¬

_ (¬1) ص (55 - 58).

وبالنص على أن عيسى ابن مريم يكون في آخر هذه الأمة إمامًا مهديًا، وبالأحاديث الثابتة في خروج المهدي في آخر الزمان، وفي بعضها النص على تسميته بالمهدي، ويرد هذا القول الباطل أيضًا بالإجماع على أن عمر بن عبد العزيز أحد الأئمة المهديين، وإذا كانت معرفة ابن محمود التي وصفها بالتمام قد بلغت إلى هذا الحد من مخالفة النص والإجماع، فأحسن الله عزاءه في معرفته. ومن ذلك زعمه في صفحة (13) أن كلمة شيخ الإسلام ابن تيمية قد غرق فيها كثير من العلماء والعوام حين اعتقدوا صحة خروج المهدي، ولا يخفى على من له علم ومعرفة ما في كلام ابن محمود من قلب الحقيقة؛ لأن الغارق في الحقيقة من جد واجتهد في معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي ووصفها بالصفات الذميمة، وذلك هو ابن محمود ومن كان على شاكلته. ومن ذلك قوله في صفحة (13): "وفي البخاري أن موسى لما لقي ذا القرنين بمجمع البحرين" وكرر اسم ذي القرنين ثلاث مرات في هذه الصفحة وفي صفحة (14)، وهذا من الأغلاط الفاحشة. ومن ذلك قوله في صفحة (14): "يا معشر العلماء والمتعلمين والناس أجمعين؛ إنه يجب علينا بأن يكون تعليمنا واعتقادنا قائمًا على أنه لا مهدي بعد رسول الله كما لا نبي بعده"، ولا يخفى ما في هذا القول من الدعاء إلى الضلالة ومعارضة النصوص على أن الخلفاء الأربعة مهديون، وأن عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- يكون في آخر هذه الأمة إمامًا مهديًا، وأنها لا تنقضي الدنيا حتى يخرج رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يعمل بالسنة ويكون مهديًا، وفيه أيضًا معارضة للإجماع على أن عمر بن عبد العزيز أحد الأئمة المهديين، وهذا القول الباطل من ابن محمود مبني على قياس فاسد كما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة. ومن ذلك قوله في صفحة (14) وصفحة (15): "وإننا بكتاب ربنا وسنة نبينا لفي غني واسع عن دين يأتينا به المهدي المنتظر، إذ المهدي ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل" ولا يخفى ما في هذا الكلام من التخليط والتلبيس الذي ينكره كل عاقل، وهل يقول عاقل إن المهدي يأتي بدين جديد، أو يقول عاقل إن المهدي ملك مقرب أو نبي مرسل؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل أبدًا ولو على سبيل الفرض والتقدير، وإنما يقول ذلك من في عقله خلل.

ومن ذلك قوله في صفحة (15): "وليس ديننا الذي جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا بناقص حتى يكمله المهدي". وهذا القول من نمط ما قبله، وهل يقول عاقل إن دين الإسلام ناقص وإن إكماله يكون على يد المهدي أو غيره من هذه الأمة؟ كلا، لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل. ومن ذلك قوله في صفحة (15): "إن رسول الله قال في موقف عرفة، قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده كتاب الله، وفي رواية أخرى وسنتي ولم يقل وتركت من بعدي المهدي". وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام من التلبيس الذي قد يغتر به بعض الناس، وهل وجد ابن محمود لأحد من الناس أنه قال إن المهدي يعتصم به كما يعتصم بالكتاب والسنة حتى يقول ما قال؟! ولو أن ابن محمود تأمل الأحاديث الثابتة في المهدي ونبذ تقليده لرشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وأمثالهم من العصريين وراء ظهره لعلم يقينًا أن المهدي إمام من أئمة العدل الذين يعتصمون بالكتاب والسنة، ويحيون ما أماته الناس من السنن، ويزيلون الجور والظلم، ويبسطون القسط والعدل. ومن ذلك زعمه في صفحة (15) أنه لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح صريح أنه ذكر المهدي باسمه، وأقول لو أن ابن محمود اعتني بالبحث عن الأحاديث الثابتة في المهدي كما اعتنى بتقليد رشيد رضا وأحمد أمين وغيرهما من المنكرين لخروج المهدي لما خفي عليه ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التصريح باسم المهدي، فقد جاء ذلك في أربع روايات عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وفي ثلاثة أحاديث عن علي وأبي هريرة وجابر -رضي الله عنهم- وفي حديث موقوف على عليٍّ، وهذه الأحاديث بعضها صحيح وبعضها حسن، وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع (¬1). ومن ذلك أنه في صفحة (15) أورد حديثًا عن معاذ -رضي الله عنه- ولفَّقه من حديثين عن أبي ذر وأبي الدرداء -رضي الله عنهما- ومن حديث عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-. ومن ذلك زعمه في صفحة (15) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر حذيفة بأسماء ثلاثين ............. ¬

_ (¬1) ص (12 - 17).

من المنافقين، وهذا لا أصل له، وإنما الثابت أنهم كانوا اثني عشر رجلا. ومن ذلك زعمه في صفحة (15) أن الصحابة كانوا لا يُصلون إلا على من صلَّى عليه حذيفة، وهذا إنما ذكر عن عمر -رضي الله عنه- ولم يذكر عن غيره. ومن ذلك قوله في صفحة (15) أن الصحابة كانوا يسمون حذيفة صاحب السر المكتوم، وهذه التسمية لم أر أحدًا ذكرها سوى ابن محمود، وقد جاء في صحيح البخاري وغيره أن بعض الصحابة كان يسمى حذيفة صاحب السر الذي لا يعلمه غيره. ومن ذلك زعمه في صفحة (16) أن تذكير الناس بأن المهدي حق وأنه سيخرج على الناس لا محالة وأنه يملأ الأرض عدلا، أن هذا لا يزيد في الإيمان ولا في صالح الأعمال ويوقع في الناس الافتتان بين مصدق ومكذب. وأقول: بل الأمر في الحقيقة بخلاف ما زعمه ابن محمود، وقد تقدم بيان ذلك فليراجع في موضعه (¬1). ومن ذلك زعمه في صفحة (16) أن أحاديث المهدي ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة بل كلها مجروحة وضعيفة، وهذا من مجازفاته ومكابراته. ومن ذلك زعمه في صفحة (16) أن أكثر العلماء المتأخرين من خاصة أهل الأمصار رجَّحوا أن أحاديث المهدي مكذوبة على رسول الله. وأقول: إن هذا الزعم غير صحيح؛ لأن الذين طعنوا في أحاديث المهدي وزعموا أنها غير صحيحة أفراد قليلون من العصريين، وقد ذكرت أناسًا من رؤوسهم في عدة مواضع من هذا الكتاب (¬2). ومن ذلك زعمه في صفحة (16) أن أحاديث المهدي خرافة سياسية إرهابية، صيغت وصنعت على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صنعها غلاة الزنادقة لما زال الملك عن أهل البيت، وزعم في صفحة (24) أن المهدي وما يقال فيه وعنه ما هو إلا حديث خرافة يتلقفها واحد عن آخر ويزيد كلٌ فيها ما يريد، وذكر أن هذا هو اعتقاده، وزعم في صفحة (27) أن فكرة المهدي ما هي إلا أحاديث خرافة تلعب بالعقول وتوقع في الفضول، وزعم في صفحة (38) أن نظرية المهدي نظرية .............................................................. ¬

_ (¬1) ص (119، 120). (¬2) ص (32، 49، 59، 70، 78) وغيرها من المواضع.

خرافية، وزعم في صفحة (58) أن دعوى المهدي هي في الأصل حديث خرافة يتلقفها واحد عن آخر، وزعم في صفحة (62) أن المهدي خرافة، هكذا زعم ابن محمود في هذه المواضع كلها أن المهدي والأحاديث الواردة فيه خرافة، وهكذا جازف وكابر في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي ووصفها بالصفات الذميمة، أما يخاف الله ويتقيه؟! أما يكون عنده شيء من الورع يحجزه عن الاستخفاف بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟! ومن ذلك زعمه في صفحة (16) أن عبد الله بن سبأ كانت له اليد العاملة في صياغة الحديث والتلاعب بعقول الناس، وكان يقول إن المهدي محمد بن الحنفية، وإنه بعث بعد موته وسكن بجبل رضوى، قال: وسموا بالسبئية، وقال إن كثير عزة سبئي. وأقول: هذا الزعم لا أساس له من الصحة، والذين كانوا يقولون بإمامة محمد بن الحنفية هم الكيسانية أصحاب المختار بن أبي عبيد الكذاب، وكان كثير عزة كيسانيًا ولم يكن سبئيا كما قد توهم ذلك ابن محمود. ومن ذلك زعمه في صفحة (18) أن عقيدة المهدي وما يكون من أمره ونشره للعدل في خلال سبع سنين من العقائد الخيالية الدخيلة وليست من عقائد الإسلام والمسلمين. وأقول: لا يخفى ما في هذا الزعم من المكابرة والاستهانة بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، ومن استهان بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد استهان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - شاء أم أبى. ومن ذلك زعمه في صفحة (19) أن العلماء من المتقدمين والمتأخرين تنبهوا لرد الأحاديث التي يتلونها ويموهون بها على الناس، فأخضعوها للتصحيح والتمحيص، وبيَّنوا ما فيها من الجرح والتضعيف، وكونها مزورة على الرسول من قبل الزنادقة الكذابين. وأقول: هذا الزعم غاية في التمويه والتلبيس، ولا أعلم عن أحد من العلماء المتقدمين أنه رد الأحاديث الثابتة في المهدي ولا أخضعها للرد والإطراح الذي يسميه ابن محمود تصحيحًا وتمحيصًا، وإنما فعل ذلك أفراد من العصريين الذين هم سلف ابن محمود وأئمته في معارضة الأحاديث الثابتة في المهدي وإخضاعها ..............................................

للرد والإطراح، ومن أكبر الخطأ وأقبح المجازفة زعم ابن محمود أن الأحاديث الثابتة في المهدي مزورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل الزنادقة الكذابين، وقد ذكرت نموذجًا من الأحاديث الثابتة في المهدي في الرد على هذه الفِرية، فليراجع ذلك في موضعه (¬1). ومن ذلك إيهامه في صفحة (19) أن ابن القيم قد انتقد أحاديث المهدي كلها وبين معائبها في كتابه "المنار المنيف"، وهذا الإيهام يرده كلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "المنار المنيف"، وقد ذكرت بعضه في أثناء الكتاب فلتراجع (¬2). ومن ذلك زعمه في صفحة (19) أن الشاطبي ألحق المهدية بأهل البدع، قال: "ويعني بالمهدية الذين يعتقدون صحة خروج المهدي"، وهذا من التقول على الشاطبي. ومن ذلك زعمه في صفحة (19) وصفحة (20) أن ابن خلدون في مقدمته فحص أحاديث المهدي، وبين بطلان ما يزعمونه صحيحًا منها، فسامها كلها بالضعف وعدم الصحة، وهذا الزعم يرده كلام ابن خلدون في مقدمته، وقد ذكرته في أثناء الكتاب فليراجع (¬3). ومن ذلك ما نقله في صفحة (20) عن محمد فريد وجدي من الطعن في أحاديث المهدي، وقد زعم محمد فريد أن كثيرًا من أئمة المسلمين قد ضعَّفوا أحاديث المهدي واعتبروها مما لا يجوز النظر فيه "منهم الدارقطني والذهبي"، ولم يبين ذلك بل أوهم أن ذلك من كلام محمد فريد، وهذا ينافي الأمانة في النقل مع ما فيه من التقوُّل على الدارقطني والذهبي. ومن ذلك قوله في صفحة (21) فقد مضى للملحدين المهديين أمثالها، فأطلق اسم المهديين على الملحدين المدعين للمهدية كذبًا وزورًا، وهذا الإطلاق لا يجوز لأن اسم المهديين إنما يطلق على الخلفاء الراشدين ولا يطلق على غيرهم. ¬

_ (¬1) ص (132 - 137). (¬2) ص (138 - 140) (207 - 210). (¬3) ص (141).

ومن ذلك زعمه في صفحة (21) أن القرمطي وأصحابه دخلوا مكة في سابع ذي الحجة، والصواب أنهم دخلوها في اليوم الثامن. ومن ذلك زعمه في صفحة (21) أن أهل مكة والحجاج قاموا بمخادنة أبي طاهر في بادئ الأمر، ولكن القرامطة كانوا يبيِّتون أمرًا آخر وهو مهادنة الأمراء والرؤساء والاحتكاك بهم حتى يتم لهم مقصودهم من المكر والكفر، فاحتكوا برجال الأمن وقتلوا واحدًا منهم فبدأت الاشتباكات. وأقول: لا أصل لشيء مما ذكره في هذه الجملة، ولم يذكره أحد من المؤرخين الموثوق بهم في النقل. ومن ذلك أنه في صفحة (23) وصف العلماء المتقدمين بالتغفيل، حيث زعم أنهم يغلب عليهم حسن الظن بمن يحدثهم، وزعم أيضًا أن من عادة علماء السنة المتقدمين عمل التساهل فيما يرد من أحاديث أشراط الساعة؛ كأحاديث المهدي، والدجال، ويأجوج ومأجوج، وزعم أنهم لا يتكلفون في نقدها، وهذه المزاعم مردودة على قائلها وعلماء السنة منزهون عنها. ومن ذلك زعمه في صفحة (23) أن أحاديث المهدي متضاربة ومختلفة، وهذا من مجازفاته وأوهامه. ومن ذلك زعمه في صفحة (24) أن المهدي وما يقال فيه وعنه ما هو إلا حديث خرافة يتلقفها واحد عن آخر ويزيد كل واحد فيها ما يريد، وهذا من مجازفاته ومكابراته. ومن ذلك أنه في صفحة (24) وصف العلماء المتقدمين والعلماء الموجودين بالعجز؛ حيث لم يُحذِّروا من القول بخروج المهدي، وزعم أن القول بخروجه من الاعتقاد السيئ، وهذا من مكابراته وتهجمه على علماء أهل السنة. ومن ذلك زعمه في صفحة (24) أن فكرة المهدي والفتنة به لها أسباب سياسية واجتماعية، وغالبها مقتبس من عقائد الشيعة وأحاديثهم، فسرى اعتقادها إلى أهل السنة بطريق العدوى والتقليد الأعمى، وهذا الزعم الباطل مردود، وهو مما أخذه من كلام أحمد أمين وقد تقدم بيان ذلك في موضعه (¬1). ومن ذلك زعمه في صفحة (25) أن فكرة المهدي وسيرته وصفته لا تتفق مع ........ ¬

_ (¬1) ص (160، 161).

سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته بحال، وهذا الزعم باطل مردود بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سيرة المهدي وصفته، وقد ذكرت الأحاديث في ذلك في أول الكتاب، فلتراجع (¬1). ومن ذلك قوله في صفحة (25): "فكيف يسوغ لمسلم أن يصدق به – أي بالمهدي– والقرائن والشواهد تكذب به". وأقول: لا يخفى ما في هذه الجملة من معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي والاستخفاف بها، وكيف يسوغ لمسلم يؤمن بالله ورسوله أن يعارض الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وينبذها وراء ظهره؟ أما يخشى من فعل هذا أن يصاب بالفتنة أو بالعذاب الأليم؟! ومن ذلك قوله في صفحة (25): "وما هذا التهالك في محبته- أي محبة المهدي- والدعوة إلى الإيمان به؟! وهو رجل من بني آدم ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يوجب الإيمان به"، وهذا كلام باطل مستهجن وقد تقدم الرد عليه في مواضع من هذا الكتاب. ومن ذلك قوله في صفحة (26): "محاربة علماء الأمصار لاعتقاد ظهور المهدي". وأقول: لا يخفى ما في هذه الجملة من الإيهام والمجازفة؛ لأن علماء الأمصار قديمًا وحديثًا كانوا يؤمنون بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المهدي ويقابلون أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقبول والتسليم، وإنما شذ عنهم أفراد قليلون من العصريين المتكلفين الذين هم سلف ابن محمود وقدوته في رد الأحاديث الثابتة في المهدي وقلة المبالاة بها، ولا عبرة بهؤلاء لشذوذهم ومخالفتهم لما عليه أهل السنة والجماعة. ومن ذلك زعمه في صفحة (26) أن علماء الأمصار- يعني العصريين- متى طرقوا بحثًا من البحوث العلمية التي يقع فيها الجدال فإنهم يشبعون البحث تحقيقًا وتدقيقًا وتمحيصا وتصحيحًا حتى يجعلوه جليًا للعيان وصحيحًا بالدلائل والبرهان. وأقول: لا يخفى ما في هذه الجملة من المبالغة في مدح العصريين ووصفهم بما لا ينطبق عليهم. ¬

_ (¬1) ص (10 - 17).

ومن ذلك ما ذكره في صفحة (26) عن العصريين، أنهم قرروا قائلين إن أساس دعوى المهدي مبني على أحاديث محقق ضعفها وكونها لا صحة لها، ولم يأت حديث منها في البخاري ومسلم مع رواج فكرتها في زمنهما، وما ذاك إلا لعدم صحة أحاديثه عندهما. وأقول: هذا هو الذي زعم ابن محمود أنه تحقيق وتدقيق وتمحيص وتصحيح، وهو مأخوذ من كلام رشيد رضا وأحمد أمين، وقد تقدم الجواب عنه في موضعه (¬1). ومن ذلك زعمه في صفحة (26) أن أحاديث المهدي على فرض صحتها لا تعلق لها بعقيدة الدين، وهذا خطأ مردود؛ لأن كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنباء الغيب فالإيمان به واجب، وهو مما يتعلق بعقيدة الدين. ومن ذلك زعمه في صفحة (26) أن أحاديث المهدي ما هي إلا حكايات عن أحداث تكون في آخر الزمان أو في أوله يقوم بها فلان أو فلان بدون ذكر المهدي، فليست من العقائد الدينية كما زعم دعاتها والمتعصبون لصحتها. وأقول: هذا زعم باطل مردود بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، وأخبر أنه من أهل بيته، وأنه يعمل بسنته، ويملأ الأرض قسطًا وعدلا. ومن ذلك زعمه في صفحة (26) أنه يجب طرح فكرة المهدي وعدم اعتقاد صحته. وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، وأنه سيخرج في آخر الزمان، وما عارض الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه قول سوء، يجب طرحه ورده على قائله. ومن ذلك قوله في صفحة (26): "وعندنا كتاب الله نستغني به عنه- أي عن المهدي- كما لدينا سنة رسول الله الصحيحة الصريحة". وأقول: إن فساد هذا القول لا يخفى على الصبيان الأذكياء فضلا عن الرجال العقلاء، وهل يقول عاقل أنه يستغنى بكتاب الله -تعالى- وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن أئمة العدل، الذين يعملون بالكتاب والسنة ويحملون الناس على العمل بهما؟! كلا، لا يقول ذلك عاقل. ومن ذلك قوله في صفحة (27): "ولعل العلماء الكرام والأكابر من الطلاب ........ ¬

_ (¬1) ص (167 - 168).

يقومون بجد ونشاط إلى أبطال فكرة المهدي وفساد اعتقاده وسوء عاقبته عليهم وعلى أولادهم من بعدهم وعلى أئمة المسلمين وعامتهم. وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام من الحث على معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي ونبذها وإطراحها، وقد قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، والله المسئول أن يعيذ المسلمين عامة والعلماء والطلاب خاصة مما دعاهم إليه ابن محمود من معارضة الأحاديث في المهدي. ومن ذلك زعمه في صفحة (27) أن أحاديث المهدي ما هي إلا أحاديث خرافة، تلعب بالعقول وتوقع في الفضول، وهي لا تتفق مع سنة الله في خلقه ولا مع سنة رسول الله في رسالته، ولا يقبلها العقل السليم، وهذا من مجازفاته ومكابراته في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي ووصفها بالصفات الذميمة، أما عند الرجل دين يحجزه عن المجازفات والمكابرات والتهجم على أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلة المبالاة بها؟! ومن ذلك زعمه في صفحة (27) أن الجهل بأحكام الدين وحقائقه وعقائده الصحيحة هو الذي أدى بأهله إلى وضع خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة. وأقول: إن الجهل كل الجهل في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي بدون مستند صحيح، بل مجرد الرأي والتقليد لبعض العصريين الذين يعتمدون على تفكيراتهم الخاطئة في معارضة الأحاديث الثابتة وردّها. ومن ذلك زعمه في صفحة (27) أن الأحاديث الواردة في المهدي هي التي أفسدت العقول، وهذا من مكابراته، ومن زعم أن شيئًا من الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يفسد العقول فلا شك في فساد تصوره ووقوع الخلل في عقيدته. ومن ذلك زعمه في صفحة (27) أن علماء الأمصار قاموا بجد ونشاط إلى تحذير قومهم من اعتقاد المهدي وصحة خروجه، وهذا الزعم مبني على التوهم والتمويه؛ لأن أكثر علماء الأمصار كانوا على خلاف ما نسبه إليهم، ولا يعرف إنكار المهدي إلا عن أفراد قليلين من العصريين، وقد ذكرت أسماءهم عند الجواب على هذه الجملة من كلام ابن محمود، فليراجع ذلك في موضعه (¬1). ¬

_ (¬1) ص (174).

وفي صفحة (27) أنكر ابن محمود على العلماء الذين يصدعون على رؤوس الناس بصحة خروج المهدي، وزعم أنهم يسيرون في طريق مخالف، وأنهم يحجرون رأي الجمهور على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم. وأقول: إن المُنكَر في الحقيقة هو إنكار ابن محمود على العلماء الذين قابلوا الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرضي والتسليم، وصدعوا على رؤوس الناس بصحة ما جاء فيها من خروج المهدي في آخر الزمان، فهؤلاء هم المصيبون بخلاف الذين عارضوا الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصفوها بالصفات الذميمة تقليدًا لبعض العصريين، فهؤلاء هم الذين يسيرون في طريق مخالف لطريق أهل الحق، وهم الذين يحجرون رأي الجمهور على الأقوال الباطلة، ومن المنكر أيضًا رميه العلماء المتمسكين بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي بأنهم يعتقدون ما تربوا عليه في صغرهم، وأنهم يقلدون الآباء والمشايخ، وهذه الصفات لا تنطبق عليهم، وإنما تنطبق على من رماهم بما هم بريئون منه. ومن ذلك قوله في صفحة (27): "إنهم لو رجعوا إلى التحقيق المعتبر لأحاديث المهدي المنتظر من كتابنا هذا، وفكروا في الأحاديث التي يزعمونها صحيحة ومتواترة وقابلوا بعضها ببعض، لظهر لهم بطريق اليقين أنها ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى". وأقول: أما التحقيق الذي أحال عليه وزعم أنه تحقيق معتبر فليس فيه تحقيق البتة، وإنما هو تخليط وتمويه وتلبيس ومجازفة في معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، ولا تروج أوهامه إلا على ضعفاء البصيرة. ومن ذلك ما ذكره في صفحة (28) عن بعض العلماء أنهم يشمأزون وتشتد كراهيتهم لرسائل العصريين وبحوثهم التي يعالجون فيها إنكار خروج المهدي في آخر الزمان، ثم زعم أن من واجبهم تلقِّي هذه العلوم والبحوث بالرحب وسعة الصدر، والتدبر والتفكر في مدلولها، والتزود مما طاب منها، ليزدادوا علمًا إلى علمهم. وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من الحث على معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيب أخباره الصادقة عن المهدي، وما كان معارضًا للأحاديث الثابتة أو داعيًا إلى معارضتها فهو جهل صرف، وليس فيه علم نافع ..............................

يتزود منه، والعلماء الذين يشمأزون وينفرون وتشتد كراهيتهم للرسائل والبحوث التي يعالج أصحابها إنكار خروج المهدي في آخر الزمان هم المصيبون، ومن أنكر ذلك عليهم فقوله هو المنكر في الحقيقة. ومن ذلك أنه في صفحة (29) وضع عنوانًا سماه "عقيدة المسلم مع المهدي" قرر فيه إنكار خروج المهدي، وزعم أن ذلك هو الحق الذي يعتقده ويدعو الناس إلى العلم به والعمل بموجبه، وهذا التقرير لا يطابق العنوان، وإنما المطابق له أن يقول: "عقيدة المنكرين للمهدي". ومن ذلك قوله في صفحة (29): "لقد علق بعقائد العامة وبعض العلماء وجود مهدي في عالم الغيب، لا يعلمون مكانه ولا زمانه، فمنهم من يؤمن به ويصدق بظهوره وينكر على من أنكره، ومنهم من ينكر وجود المهدي بتاتًا، ويطعن في صحة الأحاديث الواردة فيه، ويزعم بأنها مصنوعة ومكذوبة على رسول الله". وأقول: إن علماء أهل السنة وعوامهم قديمًا وحديثًا يؤمنون بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خروج المهدي في آخر الزمان، وفي علوق وجود المهدي بعقائدهم دليل على تحقيقهم للشهادة بالرسالة، وأما كون المهدي في عالم الغيب الآن فذلك لا ينفي خروجه إلى عالم الحس والمشاهدة في آخر الزمان، وليس العلم بمكان المهدي وزمانه شرطًا من شروط الإيمان بخروجه كما قد توهم ذلك ابن محمود، ومن أنكر وجود المهدي بتاتًا، وطعن في صحة الأحاديث الثابتة فيه، وزعم أنها مصنوعة ومكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا شك أنه مكابر ومعرِّض نفسه للفتنة أو العذاب الأليم، لقول الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. ومن ذلك قوله في صفحة (29): "إن الحق الذي يعتقده ويدعو الناس إلى العلم به والعمل بموجبه هو أنه لا مهدي بعد رسول الله كما أنه لا نبي بعده". وأقول: لا شك أنه قد اعتقد الباطل المخالف للكتاب والسنة والإجماع، ودعا الناس إلى اعتقاده، وقد تقدم بيان ذلك في أول الكتاب فليراجع (¬1). ومن ذلك قوله في صفحة (29): "إن المهدي ليس بملك معصوم ولا نبي مرسل". ¬

_ (¬1) ص (9 - 22).

وأقول: قد كرر ابن محمود قوله إن المهدي ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل. وهذا التكرار مستهجن ولا حاصل تحته، وقال في هذا الموضع: إنه ليس بملك معصوم، ولم أر أحدًا سبقه إلى وصف الملائكة بهذه الصفة وإن كانوا معصومين عن الكبائر والصغائر. ومن ذلك زعمه في صفحة (29) أن كل الأحاديث الواردة فيه – أي في المهدي– ضعيفة ويترجح بأنها موضوعة على لسان رسول الله ولم يُحدِّث بها، وهذا من مجازفاته وأخطائه. ومن ذلك أنه في صفحة (29) وضع عنوانًا سماه "مقام المسلم من المهدي" قرر فيه أنه لا يجب الإيمان الجازم بخروجه، وأنه لا ينكر على من أنكره، وإنما يتوجه الإنكار على من قال بصحة خروجه، وهذا التقرير لا يطابق العنوان؛ لأن مقام المسلم من المهدي لا بد أن يكون بالإيمان بخروجه في آخر الزمان، لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث من الصحاح والحسان تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع (¬1)، وبالجملة فمقام المسلم من المهدي على خلاف ما زعمه ابن محمود. ومن ذلك زعمه في صفحة (30) أنه ليس من عقيدة الإسلام والمسلمين الإيمان به – أي بالمهدي–، وهذا قول باطل مردود؛ لأن خروج المهدي ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بوقوعه فالإيمان به من عقائد المسلمين. ومن ذلك تغليطه للسفاريني في صفحة (30) حيث أدخل الإيمان بالمهدي في عقيدته، وابن محمود هو الغالط في الحقيقة، حيث أنكر ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإخبار بخروج المهدي في آخر الزمان. ومن ذلك زعمه في صفحة (30) أن دعوى المهدي في مبدئها للشيعة، وأن بعض أهل السنة اقتبسوا هذا الاعتقاد من الشيعة، وهذا خطأ ظاهر. ومن ذلك زعمه في صفحة (30) أن دعوى المهدي ليست من عقيدة أهل السنة، وهذا خطأ؛ لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بخروج للمهدي في آخر الزمان، وما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو حق يجب الإيمان به، وهو داخل في عقائد أهل السنة، سواء ذكره العلماء في كتب العقائد أو لم يذكروه. ¬

_ (¬1) ص (9 - 17).

وفي صفحة (31) استدل على إنكار خروج المهدي بأنه لم يذكر في القرآن ولا في صحيح البخاري ومسلم، وهذا الاستدلال باطل، وهو مما قلد فيه رشيد رضا وأحمد أمين والمستشرق دونلدسن، وقد تقدم الجواب عنه في أثناء الكتاب فليراجع (¬1). ومن ذلك زعمه في صفحة (31) أن أحاديث المهدي بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، وكلها متخالفة ومضطربة ينقض بعضها بعضًا، وهذا من أقبح المجازفات والمكابرات، وكيف يستجيز المسلم أن يجعل الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثابة حديث ألف ليلة وليلة، التي هي أو غالبها قصص خيالية مكذوبة؟! أما يخشى ابن محمود أن يصاب بالفتنة أو بالعذاب الأليم على استخفافه بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخباره الصادقة؟! ومن ذلك زعمه في صفحة (31) أنه لم يكن من هدي رسول الله ولا من شرعه أن يحيل أمته على التصديق برجل في عالم الغيب، وهو من أهل الدنيا ومن بني آدم، وهذا خطأ مردود بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر عن رجال كثيرون ممن مضى من الأنبياء وغيرهم، وأخبر عن رجال كثيرين يكونون في آخر الزمان؛ ومنهم نبي الله عيسى -عليه الصلاة والسلام- ومنهم المهدي، والقحطاني، والجهجاه، والخليفة الذي يحثو المال حثوًا، والدجال، ويأجوج ومأجوج، والمؤمن الذي يقتله الدجال ثم يحييه، فمن لم يصدق بخروج هؤلاء في آخر الزمان فلا شك أنه فاسد العقيدة. ومن ذلك استهزاؤه وسخريته بالمهدي، حيث قال في صفحة (32): "وهل هو يؤيد بالخوارق والمعجزات، أو بالأحلام والمنامات؟ وهل تنزل معه الملائكة تحارب معه، أو الجن تسخر له كما سخرت لداود؟ " وأقول: إنه لمن المستغرب جدًا مقابلته للأحاديث الواردة في المهدي بالسخرية والاستهزاء، أما فيه دين يحجزه عن الاستخفاف بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟! وأقول أيضًا: إن الجن لم تسخر لداود، وإنما سخرت لسليمان، وإذا كان هذا قد خفي على ابن محمود مع أنه مذكور في القرآن، فمن باب أولى أن تخفى عليه الأحاديث الثابتة في المهدي، وأن يتهجم عليها ويقابلها بالسخرية والاستهزاء. ومن ذلك زعمه في صفحة (32) أنهم يوم أحد دلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفرة ظنوه ميتًا، وهذا غير صحيح. ¬

_ (¬1) ص (59 - 69).

ومن ذلك زعمه في صفحة (32) وصفحة (33) أن جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، علماؤهم وعامتهم، متفقون على قتال من يدعي أنه المهدي؛ لاعتقادهم أنها دعوى باطلة لا صحة لها، ولا يزالون يقاتلون من يدعي أنه المهدي حتى تقوم الساعة. وأقول: هذه مجازفة مردودة، وقد تقدم التنبيه على بطلانها في أول الخاتمة فليراجع (¬1). ومن ذلك قوله في صفحة (33) وصفحة (34): "إن الدين كامل بوجود رسول الله ونزول كتاب الله، ولم يخلف رسول الله شيئًا منه لا في السماء ولا في الأرض، لهذا صرنا في غنى وسعة عن دين يأتي به المهدي، فلا مهدي بعد رسول الله كما لا نبي بعده". وأقول: قد كرر ابن محمود هذا الكلام المستهجن في عدة مواضع، وزاد في هذا الموضع قوله: ولم يخلف رسول الله شيئًا منه – أي من الدين– لا في السماء ولا في الأرض، وقد تقدم الجواب عن هذا في أثناء الكتاب فليراجع (¬2). ومن ذلك زعمه في صفحة (34) أن أحاديث المهدي، مع أحاديث الدجال، والدابة، ويأجوج ومأجوج، وأحاديث الفتن، كل هذه لا يتعرض لها نقاد الحديث بتصحيح ولا تمحيص، وأنها أحاديث مبنية على التساهل، ويدخل فيها الكذب والزيادات والمدرجات والتحريفات. وأقول: هذه مجازفة لا أساس لها من الصحة. ومن ذلك زعمه في صفحة (34) أن ابن خلدون حكم على أحاديث المهدي بالضعف، وهذا مما قلد فيه رشيد رضا، وليس الأمر على ما زعمه رشيد رضا وابن محمود؛ لأن ابن خلدون لما نقد أحاديث المهدي استثنى منها القليل أو الأقل منه فليراجع ذلك في آخر كلامه على أحاديث المهدي في مقدمته. ومن ذلك زعمه في صفحة (35) أن ابن القيم ذكر في كتابه "المنار المنيف" ........... ¬

_ (¬1) ص (368). (¬2) ص (198، 199).

أحاديث المهدي وضعفها، وهذا من التقول على ابن القيم -رحمه الله تعالى-؛ لأنه قد صحح بعض أحاديث المهدي وحسن بعضها وقال بعد إيرادها: "وهذه الأحاديث أربعة أقسام؛ صحاح وحسان وغرائب وموضوعة"، ونقل قول الآبري في تواتر أحاديث المهدي وأقره على ذلك، فليراجع كلامه في "المنار المنيف"، فإنه على خلاف ما موَّه به ابن محمود. ومن ذلك زعمه في صفحة (35) أن الشاطبي في كتابه "الاعتصام" جعل المهديين من أهل البدع، قال: "ويعني بالمهديين الذين يصدقون بخروج المهدي"، وهذا من التقول على الشاطبي، وقد ذكرت كلام الشاطبي في أثناء الكتاب، فليراجع؛ ليعلم ما في كلام ابن محمود من تحريف الكلم عن مواضعه (¬1). ومن ذلك زعمه في صفحة (36) أنه كاد أن ينعقد الإجماع من العلماء المتأخرين من أهل الأمصار في تضعيف أحاديث المهدي، وكونها مصنوعة وموضوعة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بدليل التعارض والتناقض والمخالفات والإشكالات. وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام من المجازفة والبطلان؛ لأن القائلين بتضعيف أحاديث المهدي أفراد قليلون من العصريين، ومنهم رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وأمثالهم من المعارضين للأحاديث الثابتة في المهدي، فهل يقول عاقل أن الإجماع يكاد ينعقد بأقوال هؤلاء الأفراد وأمثالهم، مع كونها أقوالا باطلة مخالفة للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما عليه جمهور العلماء قديمًا وحديثًا؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل. ومن ذلك زعمه في صفحة (36) أن التصديق بالمهدي والدعوة إلى الإيمان به يترتب عليها فنون من المضار، والمفاسد الكبار، والفتن المتواصلة، مما ينزه الرسول عن الإتيان بمثلها. وأقول: لا يخفى بطلان هذا القول على من له علم ومعرفة، وليس يترتب على التصديق بالمهدي شيء من المضار والمفاسد والفتن، وإنما تترتب المضار والمفاسد والفتن على معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيب أخباره الصادقة، وأما تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإخبار بالمهدي أو غيره من الأمور التي ستقع في آخر الزمان فهو من أغرب الأقوال وأشدها نكارة، وهو خلاف ما عليه المسلمون من ................................................ ¬

_ (¬1) ص (210 - 212).

مقابلة الأحاديث الثابتة بالرضى والتسليم. ومن ذلك زعمه في صفحة (36) أن الله في كتابه وعلى لسان نبيه لا يوجب الإيمان برجل مجهول في عالم الغيب، وهو من ببني آدم، ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك الناس يتقاتلون على التصديق والتكذيب به، فإن هذا مما ينافي شريعته. وأقول: لا يخفى ما في هذه المجازفة من القول على الله -تعالى- وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم. ومن ذلك زعمه في صفحة (37) أن وجود المهدي أضر على الناس من عدمه. وأقول: إن هذا من قلب الحقيقة، إذ لا يخفى على عاقل أن وجود الإمام العادل أنفع للناس من عدمه. ومن ذلك زعمه في صفحة (37) أنه من المحال أن يكون المهدي على صفة ما ذكروا، ولا يخفى ما في هذه المجازفة من الرجم بالغيب والتألي على الله. ومن ذلك زعمه في صفحة (37) أن اعتقد بطلانه- أي المهدي- وعدم التصديق به يعطى القلوب الراحة والفرح والأمان والاطمئنان، والسلامة من الزعازع والافتتان. وأقول: بل الأمر بالعكس؛ لأن راحة القلوب والفرح والأمان والاطمئنان والسلامة من الزعازع والافتتان إنما تكون بالرضى والتسليم لما جاء عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن ذلك زعمه في صفحة (37) أن فكرة المهدي نبعت من عقائد الشيعة وكانوا هم البادئين باختراعها، وأنهم وضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وأحكموا أسانيدها فصدقها الجمهور لبساطته، وكان لذلك أثر سيئ في تضليل عقول الناس وخضوعهم للأوهام. وأقول: هذا الكلام الباطل ملخص من كلام أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام"، وهو مردود عليه وعلى من اغتر به ونقله راضيًا به. ومن ذلك زعمه في صفحة (38) أن دعوة المهدي نظرية خرافية لا تتفق مع سنة الله في خلقه، ولا تتفق مع العقل الصحيح السليم.

وأقول: هذه المجازفة ناشئة عن فساد التصور، وهي مردودة بالأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروج المهدي وحسن سيرته. وفي صفحة (39) وضع عنوانًا سماه "التحقيق المعتبر عن أحاديث المهدي المنتظر" وأقول: إن هذا العنوان مبني على المجازفة والإيهام والتوهم؛ لأن كلام ابن محمود في أحاديث المهدي ليس فيه تحقيق البتة فضلا عن أن يكون فيه تحقيق معتبر، وإنه لينطبق عليه قول الشاعر: يقضي على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن وهل يقول عاقل إن معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، ووصفها بالصفات الذميمة يعد من التحقيق المعتبر؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل أبدًا. ومن ذلك قوله في صفحة (39): "اعلم أن أحاديث المهدي تدور بين ما يزعمونه صحيحًا وليس بصريح وبين ما يزعمونه صريحًا وليس بصحيح، وإننا بمقتضى الاستقراء والتتبع لم نجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا صحيحًا صريحًا يعتمد عليه في تسمية المهدي، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكلم فيه باسمه". وأقول: قد ثبت في المهدي أحاديث كثيرة من الصحاح والحسان، ولبعضها عدة طرق مروية بالأسانيد الثابتة، وفي بعضها التصريح باسم المهدي، وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع (¬1) ففيها أبلغ رد على مزاعم ابن محمود، ولو أن ابن محمود سَلِمَ من تقليد رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين وأمثالهم من العصريين المعارضين للأحاديث الثابتة في المهدي، لكان حريًا أن يوفق لوجود الأحاديث الثابتة التي جاء فيها التصريح باسم المهدي، وقد روي الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حبك الشيء يعمي ويصم». ومن ذلك قوله في صفحة (39): "وقد نزَّه البخاري ومسلم كتابيهما عن الخوض في أحاديث المهدي، كما أنه ليس له ذكر في القرآن". وأقول: قد ذكر هذا القول الباطل في صفحة (6) وصفحة (31)، وهو مما قلد فيه رشيد رضا وأحمد أمين والمستشرق دونلدسن، وقد تقدم التنبيه على ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) ص (9 - 17). (¬2) ص (371 - 388).

ومن ذلك قوله في صفحة (39): "لهذا لا ننكر على من أنكره– يعني المهدي–، وإنما الإنكار يتوجه على من اعتقد صحة خروجه". وأقول: لا شك أن هذا من انقلاب الحقيقة عند ابن محمود، ورؤيته الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل الذي ينبغي إنكاره. ومن ذلك زعمه في صفحة (39) أن الأحاديث التي رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة في ذكر المهدي كلها متعارضة ومختلفة، ليست بصحيحة ولا متواترة، لا بمقتضى اللفظ ولا المعنى. وأقول: هذا من مجازفاته التي كررها في عدة مواضع. ومن ذلك أنه في صفحة (39) ذكر حديث جابر بن سمرة -رضي الله عنهما- في ذكر الخلفاء الاثني عشر، وهو حديث صحيح قد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحيهما، ومع هذا فقد شك ابن محمود في صحته، فقال في صفحة (40): "فالاستدلال به على فرض صحته غير موافق ولا مطابق"، هذا حاصل تحقيق ابن محمود الذي زعم أنه تحقيق معتبر. ومن ذلك قوله في صفحة (40): "إن حديث جابر بن سمرة ينبغي أن يحمل على الواقع الملموس والمشاهد بالأسماع والأبصار، وذلك في حملة على حكام المسلمين الذين كانوا في القرون الثلاثة المفضلة". فعبَّر ابن محمود عن الواقع فيما مضى بأنه ملموس ومشاهد بالأسماع والأبصار. وهذا كلام غير معقول؛ لأن الواقع في الماضي إنما يعبر عنه بالعلم ولا يعبر عنه باللمس ولا بالمشاهدة؛ لأن اللمس والمس إنما يكون بمباشرة اليد أو غيرها من الأعضاء لجسم آخر من غير حائل، وأما المشاهدة بالأبصار فإنما تكون للشيء الحاضر الذي تمكن مشاهدته، وأما المشاهدة بالأسماع فغير معقول؛ لأن الآذان إنما جعلت للسمع لا للمشاهدة، وبعد فهكذا يكون التحقيق المعتبر الذي تضحك منه الثكلى. ومن ذلك زعمه في صفحة (41) أن المهدي مجهول في عالم الغيب. وأقول: قد كرر ابن محمود هذه الكلمة في عدة مواضع من رسالته، وإذا كان المهدي مجهولا عند ابن محمود فإنه معلوم عند أهل السنة والجماعة، وأما كونه الآن في عالم الغيب فذلك لا يمنع من الإيمان بخروجه في آخر الزمان، والقول في خروجه كالقول في خروج غيره ممن أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجهم في آخر الزمان؛ ...........................................

كالقحطاني والجهجاه والخليفة الذي يحثو المال حثوًا، وكذلك خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام-، وخروج يأجوج ومأجوج، فكل هؤلاء من باب واحد يجب الإيمان بخروجهم في آخر الزمان وإن كانوا الآن في عالم الغيب، ومن أنكر خروجهم أو خروج أحد منهم ورد الأحاديث الثابتة في ذلك فإنما يرد على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن ذلك زعمه في صفحة (41) وصفحة (42) أن المهدي خيال غيبي يوجد في الأذهان دون الأعيان، وهذا من مجازفاته. ومن ذلك أنه في صفحة (42) قال: "روى أبو داود في سننه عن طريق أبي نعيم عن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لبعث الله رجلا منا يملؤها عدلا كما ملئت جورًا» قال: ورواه الإمام أحمد عن طريق أبي نعيم، ورواه الترمذي أيضًا". وأقول: إن ابن محمود قد أبدل رواية أبي داود برواية الإمام أحمد ونسبها لأبي داود، وهذا خطأ، ثم زعم أن الترمذي رواه وهو لم يروه، وإنما أشار إليه بعد إيراده لحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- حيث قال: "وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة"، وهذا خطأ آخر، ثم قدح في صحة حديث علي -رضي الله عنه- بدون ذكر علة في إسناده يسوغ بها القدح فيه، وهذا خطأ ثالث، ثم زعم أنه على فرض صحته فإنه لا مانع من جعل الرجل الذي يملأ الأرض عدلا من جملة المسلمين الذين مضوا وانقضوا، وهذا خطأ رابع، ثم أبدى احتمالا أن قوله "مِنَّا" من أهل ديننا وملتنا، وهذا خطأ خامس، وأبدى احتمالا آخر أنه من المحال وجود رجل يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا، وهذه خطأ سادس، وبعد فهذا هو التحقيق المعتبر عند ابن محمود، ومن كان هذا تحقيقه للأحاديث فأحسن الله عزاءه فيما أضاع من العلم، وقد تقدم الجواب عن هذه الأضغاث في أثناء الكتاب فليراجع (¬1). ومن ذلك قوله في صفحة (43): "ولا يمتنع كونه – أي المهدي– من جملة الخلفاء السابقين". وأقول: بل ذلك ممتنع بالنص على أن المهدي من أهل بيت النبي، وبالنص على أنه يخرج في آخر الزمان. ¬

_ (¬1) ص (237 - 241).

ومن ذلك قوله في صفحة (43): "وهذا الحديث – يعني حديث علي -رضي الله عنه- هو من جملة الأحاديث التي يزعمونها صحيحة وليست بصريحة". وأقول: قد ذكرت أسانيد حديث علي -رضي الله عنه- في أول الكتاب، وذكرت أنها صحيحة فليراجع ذلك (¬1). ومن ذلك أنه في صفحة (43) ذكر حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورًا، يمكث في الأرض سبع سنين» ثم قال: "ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزه عن أن يحيل أمته على هذه الأوصاف الموجودة في أكثر بني آدم، ولا يأتي من اتصف بها بكتاب من ربه يصدق قوله ولا بدين جديد يكمل به دين محمد رسول الله، وليس بملك مقرب ولا نبي مرسل". وأقول: ليس في ذكر أوصاف المهدي ما ينبغي تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، ولا يخفى ما في كلام ابن محمود من التخليط المستهجن، والتشكيك في صحة الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق متعددة، بعضها على شرط الشيخين، وبعضها على شرط مسلم، وقد تقدم إيرادها في أول الكتاب فلتراجع (¬2)، ففيها أبلغ رد على تخليط ابن محمود وتشكيكه الذي ظن أنه تحقيق معتبر. ومن ذلك زعمه في صفحة (44) أن المشكلة والفتنة بدعوى المهدي يتوارثها جيل بعد جيل حتى تقوم الساعة، وهذا من الرجم بالغيب، ومن أين له العلم بما يكون في المستقبل؟! ومن ذلك زعمه في صفحة (44) أن دعوى المهدي والاتصاف بالأوصاف المذكورة في حديث أبي سعيد صارت مركبًا للكذابين الدجالين، قال: "وحاشا أن يأتي بها رسول الله لأمته". وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من إرادة التلبيس والتشكيك في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- الذي لا مجال للتشكيك في صحته. ومن ذلك أنه في صفحة (44) ذكر ما رواه أبو داود في سننه عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»، .......... ¬

_ (¬1) ص (14، 15). (¬2) ص (11 - 14).

ثم أجاب عنه بجواب لا مزيد عليه في التخليط والتحريف والمجازفة، وقد تقوَّل فيه على البخاري والعقيلي والمنذري وحرَّف كلامهم، وقد ذكرت الرد عليه مستوفى في أثناء الكتاب (¬1)، فليراجعه من أحب الاطلاع على تحقيق ابن محمود الذي زعم أنه تحقيق معتبر؛ ليرى ما فيه من المجازفة والتخليط والتحريف والتقول على العلماء. ومن ذلك أنه في صفحة (45) ذكر ما رواه أبو داود في سننه عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هاربًا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام» الحديث، ثم أجاب عنه بأنه ليس بصحيح ولا بصريح، قال: "ويبعد كل البعد أن يصدر هذا الخبر عن أم سلمة"، ثم زعم أن السيوطي صرح في كتاب "اللآلئ المصنوعة" بأنه موضوع، وأتى فيما بعد ذلك بأنواع من المجازفة والتخليط الذي زعم أنه تحقيق معتبر، والحاصل أن كلام ابن محمود على حديث أم سلمة -رضي الله عنها- مبني على التوهم والمجازفة والتقول على السيوطي، والاستهزاء والسخرية بالمهدي، وبما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه أنه يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورًا وظلمًا، فهذا حاصل تحقيق ابن محمود لحديث أم سلمة -رضي الله عنها-، وقد ذكرت الرد عليه مستوفى في أثناء الكتاب فليراجع (¬2). ومن ذلك زعمه في صفحة (48) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل بيته: «إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض». وأقول: هذا من أوهام ابن محمود التي زعم أنه حقق بها أحاديث المهدي، وقد ذكرت في الجواب عن هذا الوهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل هذه المقالة لأهل بيته، وإنما قالها للأنصار، وذكرت الأحاديث الواردة في ذلك فلتراجع (¬3). ومن ذلك أنه في صفحة (48) ذكر ما رواه الإمام أحمد عن علي -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المهدي مِنَّا أهل البيت يصلحه الله في ليلة». ثم ذكر اعتراض أبي عبية على هذا الحديث وقلده في ذلك، قال: "ورواه ابن ماجة، وقال: ياسين العجلي ضعيف"، وهذا من التقول على ابن ماجة، ثم زعم أيضًا أن ابن ماجة أشار إلى تضعيفه، وهذا أيضًا من التقول على ابن ماجة، فهذا حاصل تحقيق ابن .......................................... ¬

_ (¬1) ص (248 - 252). (¬2) ص (253 - 261). (¬3) ص (262 - 263).

محمود لهذا الحديث الحسن، وقد ذكرت في الرد عليه أن الشيخ أحمد محمد شاكر قد صحح هذا الحديث في تعليقه على المسند. ومن ذلك أنه في صفحة (49) ذكر حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مِنَّي أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلا كما ملئت جورا وظلمًا». قال: ورواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح، ثم أجاب عنه بقوله: "إن علماء الحديث قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت كهذه الأحاديث وأمثالها؛ لكون الغلاة قد أكثروا من الأحاديث المكذوبة عليهم، ولهذا تحاشى البخاري ومسلم عن إدخال شيء من أحاديث المهدي في صحيحيهما؛ لكون الغالب عليها الضعف والوضع. وأقول: هذا حاصل تحقيق ابن محمود لهذا الحديث الصحيح الذي لا مطعن فيه بوجه من الوجوه، ولا يخفى ما في كلامه من التقوُّل على علماء الحديث، حيث زعم أنهم قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت، والواقع في الحقيقة أنهم لم يتحاشوا عن الروايات الصحيحة عنهم، وإنما كانوا يتحاشون عن الروايات الضعيفة عنهم وعن غيرهم، وأيضًا فإن الحديث الذي أورده ههنا ليس من أحاديث أهل البيت، وإنما هو عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وليس في أسانيده إلى ابن مسعود -رضي الله عنه- أحد من أهل البيت، فلا وجه إذا للطعن فيه بأن علماء الحديث قد تحاشوا عن كثير من أحاديث أهل البيت، وليس هذا بتحقيق وإنما هو تخليط وتلفيق. ومن ذلك أنه في صفحة (50) وصفحة (51) ذكر حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- الذي فيه: «ولا مهدي إلا عيسى ابن مريم». ثم قال إنه ضعيف عندهم لمخالفته لسائر الأحاديث، قال: "ولا يَقِل عن ضعف سائر الأحاديث المذكورة في المهدي". وأقول: أما حديث أنس -رضي الله عنه- فهو ضعيف جدًا، وأما سائر أحاديث المهدي ففيها الصحيح والحسن والضعيف، ومن جعل الجميع من باب واحد وحكم عليها كلها بالضعف فقد أخطأ خطأ كبيرًا وقفا ما ليس به علم. ومن ذلك زعمه في صفحة (51) أن علي بن محمد القاري قال في كتابه "الموضوعات الكبير" إن الحديث الذي جاء فيه أن عيسى ابن مريم يصلي خلف المهدي حديث موضوع، وهذا من التقوُّل على القاري.

ومن ذلك قوله في صفحة (51): "وإننا متى حاولنا جمع أحاديث المهدي التي يقولون بصحتها وتواترها بالمعنى، وقابلنا بعضها ببعض لنستخلص منها حديثًا صحيحًا صريحًا في المهدي، فإنه يعسر علينا حصوله، وكلها غير صحيحة ولا صريحة ولا متواترة بالمعنى، بل هي متعارضة ومتخالفة، وغالبها حكايات عن أحداث، ومتى حاولت جمعها نتج لك منها عشرون مهديًا، صفة كل واحد غير الآخر، مما يدل بطريق اليقين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم بها، ثم ذكر عشرة من الذين زعم أنهم مهديون ولم يذكر غيرهم، ولو وجد إلى الزيادة سبيلا لبادر إلى المغالطة والتشكيك بها في الأحاديث الواردة في المهدي، وحاصل العشرة الذين ذكرهم في صفحة (51) وصفحة (52) وزعم أنهم مهديون يرجعون في الحقيقة إلى أربعة، أحدهم: عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وهو أفضل المهديين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحديث الذي جاء فيه ضعيف جدًا فلا يثبت به شيء، والثاني: المهدي الذي يخرج في آخر الزمان وهو الذي جاء ذكره في الأحاديث الكثيرة، والثالث: الحارث الحراث وهو من أعوان المهدي وأنصاره وليس بمهدي، والحديث الذي جاء فيه ضعيف فلا يثبت به شيء، والرابع: الرجل الذي أخواله من كلب وليس بمهدي، وإنما هو عدو المهدي الذي يبعث الجيش لقتاله. وبما ذكرنا يضمحل المهديون الذين زعم ابن محمود أنهم يبلغون إلى عشرين مهديًا، وتعود الحقيقة إلى رجل واحد وهو المهدي الذي جاءت بذكره الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرتها في أول الكتاب، وذكرت ما لبعضها من الطرق الكثيرة الثابتة، فلتراجع (¬1) ففيها أبلغ رد على من زعم تعدد المهدي الذي جاء ذكره في الأحاديث الكثيرة. وأما زعمه في صفحة (51) وصفحة (52) أن أحاديث المهدي كلها غير صحيحة ولا صريحة ولا متواترة بالمعنى بل هي متعارضة ومتخالفة وغالبها حكايات عن أحداث، فقد تقدم الجواب عنه في أثناء الكتاب فليراجع (¬2). ومن ذلك قوله في صفحة (53) فصل من كلام ابن القيم في كتابه "المنار .......... ¬

_ (¬1) ص (9 - 10). (¬2) ص (270 - 273).

المنيف"، ثم ذكر أربعة أحاديث من الضعاف التي ذكرها ابن القيم، وأعرض عن الأحاديث التي صححها وهي خمسة أحاديث، وأعرض أيضًا عن قوله في أحاديث المهدي: إنها أربعة أقسام صحاح وحسان وغرائب وموضوعة، وأعرض أيضًا عما نقله عن الآبري في قوله إن أحاديث المهدي متواترة، وقد أقرَّه ابن القيم على هذا القول، إلى غير ذلك مما أعرض عنه من كلام ابن القيم، مما هو مخالف لرأيه الشاذ في إنكار المهدي وتكذيب الأحاديث الثابتة فيه، وقد قال عبد الرحمن بن مهدي: "إن أهل السنة ينقلون ما لهم وما عليهم، وإن أهل البدعة ينقلون ما لهم ولا ينقلون ما عليهم"، ثم ذكر ابن محمود كلام ابن القيم في مهدي الرافضة ومهدي المغاربة ومهدي الباطنية، ثم قال في صفحة (55): "فهذا كلام ابن القيم قد أنحى فيه بالملام وتوجيه المذام على سائر الفرق التي تدعي بالمهدي، ولم يستثن فرقة من فرقه لكونها دعوى باطلة من أصلها"، وأقول لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من المجازفة والتمويه والتلبيس على ضعفاء البصيرة، وقد ذكرت في الجواب أن ابن القيم إنما أنحى بالملام على الرافضة ومهدي المغاربة ومهدي الباطنية، فأما أهل السنة فكلامه صريح في موافقتهم على القول بخروج المهدي في آخر الزمان، فليراجع ما ذكرته في أثناء الكتاب (¬1) ففيه كشف لتمويه ابن محمود وتلبيسه. ومن ذلك زعمه في صفحة (56) أن الجهل أدى إلى وضع خمسين حديثًا في المهدي عند أهل السنة، وأن مثل هذه الأحاديث هي التي أفسدت العقول وجعلتهم يتبعون الملاحدة والمفسدين من دعاة المهدية. وأقول: هذا من المجازفات التي لا أساس لها من الصحة. ومن ذلك قوله في صفحة (56): "إنه على فرض صحة هذه الأحاديث أو بعضها أو تواترها بالمعنى حسب ما يدعون، فإنها لا تعلق لها بالعقيدة الدينية ولم يدخلها علماء السنة في عقائدهم ... إلى أن قال: فعدم إدخالها في عقائدهم مما يدل على أنهم لم يعتبروها من عقائد الإسلام والمسلمين". وأقول: كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بوقوعه فيما مضى أو فيما سيأتي قبل قيام الساعة أو بعد قيامها فإنه يجب الإيمان به، سواء ذكره العلماء في ...................... ¬

_ (¬1) ص (273 - 275).

عقائدهم أو لم يذكره، ومن ذلك خروج المهدي في آخر الزمان، وقد ذكرت أقوال العلماء فيما يتعلق بهذه الأمور في أثناء الكتاب، فليراجع ما تقدم (¬1)، ففيه أبلغ رد على ما توهمه ابن محمود. ومن ذلك زعمه في صفحة (56) أن غالب الأحاديث التي زعموها صحيحة ومتواترة بالمعنى ما هي إلا حكاية عن أحداث تقع مع أشخاص؛ كرجل هرب من المدينة إلى مكة فيبايع له بين الركن والمقام، ورجل يخرج من رواء النهر فيبايع له، ورجل يخرج بعد موت خليفة، ورجل يخرج اسمه الحارث، ورجل يصلحه الله في ليلة، فهذه كلها ليست من العقائد الدينية كما زعم دعاة المهدي والمتعصبون لصحة خروجه. وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من التلبيس والتشكيك في الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم الجواب عن هذا التشكيك مرارًا، فليراجع ذلك في أثناء الكتاب (¬2). ومن ذلك زعمه في صفحة (57) أنه يجب طرح فكرة المهدي جانبًا، فعندنا كتاب الله -تعالى- نستغني به عن كل دعيٍّ مفتون، كما أن لدينا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "وأرجو بهذا البيان أن تستريح نفوس الحائرين، ويعرفوا رأي أهل العلم والدين في هذه المشكلة، التي تثار من آن لآخر". وأقول: أما زعمه أن القول بخروج المهدي فكرة فذلك مما أخذه تقليدًا عن أحمد أمين، وأما زعمه أنه يجب طرح فطرة المهدي جانبًا فلا يخفى ما فيه من المكابرة والمعارضة لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه في المهدي، وما كان بهذه المثابة فإنه يجب أن يضرب به عرض الحائط، وأن يرد على قائله كائنًا من كان. وأما قوله: فعندنا كتاب الله نستغني به عن كل دعي مفتون، كما أن لدينا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجوابه: أن يقال: ليس المهدي الذي جاءت بذكره الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأدعياء المفتونين، حاشا وكلا، وإنما هو من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين يعملون بالسنة ويملئون الأرض قسطًا وعدلا، ولا يضره إنكار من .............................. ¬

_ (¬1) ص (277 - 279). (¬2) ص (270 - 279).

أنكره من العصريين، ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من ذوي الجراءة على رد الأحاديث الثابتة. وأما زعمه أنه يستغنى بالكتاب والسنة عن المهدي، فهو كلام لا يقوله عاقل، وقد تقدم الرد عليه في أثناء الكتاب فليراجع (¬1). وأما رجاءه أن تستريح ببيانه نفوس الحائرين، ويعرفوا رأي أهل العلم والدين في هذه المشكلة، التي تثار من آن لآخر. فهو مما تضحك منه الثكلى، وقد ذكرت الجواب عنه في أثناء الكتاب فليراجع (¬2). ومن ذلك زعمه في صفحة (58) أن دعوى المهدي في مبدئها ومنتهاها مبنية على الكذب الصريح والاعتقاد السيئ القبيح، وهي في الأصل حديث خرافة يلقفها واحد عن آخر، وقد صيغت لها الأحاديث المكذوبة سياسة للإرهاب والتخويف، حيث غزي بها قوم على آخرين، وإلا فمن المعلوم قطعًا أن الرسول الكريم لن يفرض على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب، ليس بملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا يأتي بدين جديد من ربه مما يجب الإيمان به، ثم يترك أمته يتقاتلون على التصديق والتكذيب به إلى يوم القيامة، إن هذا من المحال أن تأتي الشريعة به إذ هو جرثومة فتنة دائمة ومشكلة لم تحل. وأقول: لا يخفى على من له علم ومعرفة ما في هذا الكلام الباطل من المجازفات والشطحات والاستخفاف بالأحاديث الثابتة في المهدي والطعن فيها بدون مستند يسوغ به القدح وإلصاق الصفات الذميمة بها، وما في ذلك أيضًا من الكلام المستهجن الذي قد ردده في سبعة مواضع من رسالته، وهو زعمه أن الرسول لن يفرض على أمته التصديق برجل من بني آدم مجهول في عالم الغيب ... إلى آخر كلامه الذي لا يشبه كلام العقلاء، وما فيه أيضًا من الرجم بالغيب والتحكم على الشريعة، وقد تقدم الرد عليه في عدة مواضع في أول الكتاب وفي أثنائه فليراجع (¬3). ومن ذلك قوله في صفحة (62): "وإني أرجو بعد دراستهم لهذه الرسالة بأن ....... ¬

_ (¬1) ص (169 - 170). (¬2) ص 281 - 282. (¬3) ص (281 - 282). ص (55 - 58، 215 - 218، 246 - 248، 282 - 286).

ينتبهوا ويتناصحوا، فيغسلوا قلوبهم عن اعتقاد هذه الخرافة، التي ستضرهم وتضر أبناءهم ومجتمعهم من بعدهم. وأقول: إن رسالة ابن محمود في إنكار المهدي هي الضارة في الحقيقة، وهي من المنكرات التي يجب التحذير منها؛ لأن مبناها من أولها إلى آخرها على معارضة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي والاستخفاف بها ووصفها بالصفات الذميمة، وقد تقدم بيان ذلك عند الكلام على هذه الجملة فليراجع (¬1). ومن ذلك أنه في صفحة (62) وثلاث صفحات بعدها نقل كلامًا لرشيد رضا في إنكار خروج المهدي والتشكيك في الأحاديث الواردة فيه، وقد قلده ابن محمود واعتمد على أقواله الباطلة وقد تقدم الجواب عنه في أثناء الكتاب فليراجع (¬2). ومن ذلك زعمه في صفحة (69) أن المحققين من علماء المسلمين قد بينوا بطلان أحاديث المهدي المنتظر وأسقطوها عن درجة الاعتبار وحذروا الأمة منها. وأقول: إنما يعرف هذا عن أفراد قليلين من العصريين، ومنهم رشيد رضا ومحمد فريد وجدي وأحمد أمين، ومن قلدهم وسار على نهجهم الباطل في معارضة الأحاديث الثابتة في لمهدي، وهؤلاء ليسوا أهل تحقيق في الحديث، وإنما هم أهل جراءة على رد الأحاديث الثابتة والقدح فيها بغير حجة، فأما علماء الحديث – وهم المحققون على الحقيقة– فقد أعطوا كل حديث من أحاديث المهدي ما يستحقه من الدرجة، فصححوا بعضا وحسنوا بعضًا وضعفوا بعضًا وقرر بعضهم أنها متواترة، وقد ذكرت أقوالهم في أول الكتاب فلتراجع (¬3)، ففيها أبلغ رد على من تقوَّل على المحققين. ومن ذلك قوله في صفحة (70): "والحق أن المهدي المنتظر لا صحة له ولا وجود له قطعًا". وأقول: ليس هذا بحق، وإنما هو باطل لمعارضته للأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي، وأنه سيخرج في آخر الزمان. ¬

_ (¬1) ص (286 - 287). (¬2) ص (287 - 293). (¬3) ص (10 - 17) (41 - 45).

ومن ذلك قوله في صفحة (70): "وإنه بمقتضى التأمل للأحاديث الواردة في المهدي نجدها من الضعاف التي لا يعتمد عليها، وأكثرها من رواية أبي نعيم في "حلية الأولياء"، وكلها متعارضة ومتخالفة ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى". وأقول: أما زعمه أن الأحاديث الواردة في المهدي من الضعاف التي لا يعمد عليها فهو قول باطل مردود بالأحاديث الثابتة من الصحاح والحسان، وقد ذكرتها في أول الكتاب فلتراجع (¬1). وأما قوله إن أكثرها من رواية أبي نعيم في "حلية الأولياء" فهو من أوهامه؛ لأن أبا نعيم لم يرو منها في "الحلية" سوى ثلاثة أحاديث، عن علي وابن مسعود وأبي سعيد -رضي الله عنهم-، وقد ذكرتها في أول الكتاب من رواية الإمام أحمد وغيره. وأما زعمه أنها كلها متعارضة ومتخالفة، ليست بصحيحة ولا صريحة ولا متواترة، لا باللفظ ولا بالمعنى، فهو من مجازفاته ومكابراته. ومن ذلك قوله في صفحة (70): "ولست أنا أول من قال ببطلان دعوى المهدي وكونها لا حقيقة لها، فقد سبقني من قال بذلك من العلماء المحققين، فقد رأيت لأستاذنا الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع رسالة حقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأنه لا حقيقة لوجوده، وكل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة جدًا، فلا ينكر على من أنكره، كما رأيت لمنشئ المنار محمد رشيد رضا رسالة ممتعة يحقق فيها بطلان دعوى المهدي، وأن كل الأحاديث الواردة فيه لا صحة لها قطعًا، وأشار إلى بطلان دعواه في تفسير المنار". وأقول: أما الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع فقد رجع إلى الحق والصواب في رسالة له سماها "تحديق النظر بأخبار الإمام المنتظر"، وأما رشيد رضا فلا يستكثر منه إنكار أحاديث المهدي، فقد أنكر كثيرًا من أشراط الساعة ومعجزات الأنبياء، وغير ذلك مما هو ثابت في الصحيحين أو في غيرهما من الصحاح والسنن والمسانيد، وقد تقدم الرد على بعض أقواله الباطلة في أثناء الكتاب، فليراجع (¬2). ومن ذلك قوله في صفحة (70) وصفحة (71): "لكنه يوجد في مقابلة هؤلاء ...... ¬

_ (¬1) ص (9 - 17). (¬2) ص (287 - 294).

من يقول بخروج المهدي، ويقوي الأحاديث الواردة فيه، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فقد رأيت له قولا يقول فيه بصحة خروجه، وأن فيه سبعة أحاديث، فقول شيخ الإسلام هذا خرج بمقتضى اجتهاد منه ويأجره الله عليه، وقد أخذ بقوله بعض العلماء المتأخرين، وصاروا يكتبون في مؤلفاتهم بصحة وجوده، مما تأثرت به عقائد العامة وبعض العلماء". وأقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لم يذكر سوى أربعة أحاديث عن علي وابن مسعود وأبي سعيد وأم سلمة -رضي الله عنهم-، ذكر ذلك في صفحة (211) من الجزء الرابع من كتابه "منهاج السنة النبوية"، وذكر ذلك الذهبي في مختصر المنهاج، الذي سماه "المنتقى من منهاج الاعتدال". والقول بخروج المهدي ليس هو من الأقوال الاجتهادية كما زعم ذلك ابن محمود، وليس هو قولا لشيخ الإسلام ابن تيمية وحده كما زعم ذلك أيضًا، وقد زعم أيضًا أن بعض العلماء المتأخرين أخذوا ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا ليس بصحيح، بل الصحيح أن القول بخروج المهدي هو أحد أقوال أهل السنة، ذكر ذلك ابن القيم في كتابه "المنار المنيف"، قال: "وأكثر الأحاديث على هذا تدل". انتهى. وجمهور العلماء قديمًا وحديثًا على القول بخروج المهدي في آخر الزمان، ومستندهم في ذلك ما جاء في أحاديث كثيرة من الصحاح والحسان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك (¬1)، وإنما شذ عنهم أفراد قليلون من العصريين الذين هم أئمة ابن محمود في إنكار خروج المهدي والطعن في الأحاديث الثابتة فيه. ومن ذلك قوله في صفحة (71): "إن الصحيح بمقتضى الدلائل والبراهين هو ما ذكره بعض العلماء من أنه لا حقيقة لصحة أحاديث المهدي". وأقول: ليس هذا القول بصحيح، وإنما هو باطل بمقتضى الدلائل والبراهين، وقد ذكرت في أول الكتاب من الأحاديث الثابتة، ومن أقوال المحققين في تصحيح بعض أحاديث المهدي وتحسين بعضها، والقول بأنها متواترة ما فيه كفاية لرد هذا القول الباطل الذي لا يعرف إلا عن أفراد قليلين من العصريين. ومن ذلك قوله في صفحة (71): "لهذا رأينا كل من انتحل خطة باطلة من ........ ¬

_ (¬1) تراجع الأحاديث الواردة في ذلك في صفحة (9 - 17).

الدجالين المنحرفين فإنه يسمى نفسه بالمهدي، ويتبعه على دعوته الهمج السذج، والغوغاء الذين هم عون الظالم ويد الغاشم في كل زمان ومكان". وأقول: إن دعوى المدعين للمهدية كذبًا وزورًا مثل دعوى الدجالين للنبوة، فكما لا تقدح دعوى الدجالين في دلائل نبوة الأنبياء فكذلك دعوى المدعين للمهدية كذبًا وزورًا لا تقدح في الأحاديث الثابتة في المهدي ولا تؤثر فيها، وإذا فليس لابن محمود متعلق في توهين أحاديث المهدي بدعوى المدعين للمهدية كذبًا وزورًا. ومن ذلك قوله في صفحة (85): "فلا حاجة للمسلمين في أن يهربوا عن واقعهم ويتركوا واجبهم لانتظار مهدي يجدد لهم دينهم ويبسط العدل بينهم، فيركنوا إلى الخيال والمحالات، ويستسلموا للأوهام والخرافات، ثم يفرض عليهم علماؤهم التحرج الفكري والجمود الاجتماعي على اعتقاد ما تربوا عليه في صغرهم، وما تلقوه عن آبائهم ومشايخهم، أو على رأي عالم أو فقيه يوجب الوقوف على رأي مذهبه وعدم الخروج عنه، وعلى أثره يوجب عليهم الإيمان بشخص غائب هو من سائر البشر، يأتي في آخر الزمان فينقذ الناس من الظلم والطغيان". وأقول: لا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من المجازفة في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المهدي والاستخفاف بشأنها، حيث زعم أن التصديق بخروج المهدي في آخر الزمان من الركون إلى الخيال والمحالات، والاستسلام للأوهام والخرافات، كذا قال ابن محمود -هدانا الله وإياه- وكذا قابل الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه المقابلة السيئة، وقد تقدم الرد على كلماته النابية مبسوطًا في آخر الكلام على ما يتعلق بالمهدي فليراجع (¬1). ومن ذلك قوله في الحديث عن يأجوج ومأجوج في صفحة (74) وصفحة (75): "فالمسلمون يصدقون بوجودهم بلا شك، ولكنهم يخوضون في أمرهم وفي مكان وجودهم وفي صفة خلقهم، مع علمهم أنهم من نسل آدم بل ومن ذرية نوح، وأوصافهم لا تنطبق على أوصاف الملائكة ولا على أوصاف بني آدم، ولا يدرون كيف يخرجون على الناس، أينزلون عليهم من السماء، أم ينبعون من الأرض؟! لعلمهم أن الناس قد اكتشفوا سطح الأرض كلها فلم يروهم ولم يروا سدًا، وتسلط بعض الملاحدة على التكذيب بالقرآن من أجلهم، وقالوا إن القرآن يذكر أشياء لا وجود لها". ¬

_ (¬1) ص (303 - 310).

وأقول: لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة ما في هذا الكلام من التخليط الذي يتنزه عنه كل عاقل، ويظهر منه أن قائله إنما أراد به تفنيد ما ذكره علماء المسلمين في كتب التفسير والتاريخ عن يأجوج ومأجوج، وتشويه أقوالهم في ذلك من غير استثناء قول عن قول ومن غير تفريق بين الحق والباطل مما ذكروه، ويدل على هذا قوله في الجملة التي سيأتي ذكرها إن المسلمين كانوا في غمرة من الجهل ساهون حتى طلع عليهم ما زعم أنه نور هداية ودلالة، وفي الكلام الذي ذكرته آنفًا أشياء تشبه الهذيان، منها قوله إن أوصاف يأجوج ومأجوج لا تنطبق على أوصاف الملائكة ولا على أوصاف بني آدم. وأقول: أما أوصاف الملائكة فلا يعلم بها إلا الله -تعالى- أو من أطلعه الله على ذلك من المرسلين، فالخوض في صفاتهم نفيًا أو إثباتًا لا يقوله عاقل؛ لأن ذلك من الرجم بالغيب والقول بغير علم. وأما أوصاف بني آدم فلا يشك عاقل أنهم على صفات بني آدم وأشكالهم؛ لأنهم منهم، ومن توهم فيهم غير ذلك فذلك دليل على كثافة جهله. ومنها قوله: ولا يدرون كيف يخرجون على الناس أينزلون عليهم من السماء أم ينبعون من الأرض؟! وأقول: لا يُظن بأحد من العقلاء أنه يقول بهذا الهذيان، أو يدور ذلك في مخيلته، ولو قُدِّر أن أحدًا من ضعفاء العقول قال ذلك فلا عبرة بأقوال المعتوهين وأشباههم، ولم أر أحدًا ذكر هذا القول المستهجن قبل ابن محمود، وقد تقدم الجواب عن شبهات ابن محمود وتخليطه مفصلا في أول الكلام على ما يتعلق بيأجوج ومأجوج، فليراجع هناك (¬1). ومن ذلك قوله في صفحة (75): "فبينما هم كذلك في غمرة من الجهل ساهون إذ طلع عليهم نور هداية ودلالة، يحمله علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي -رحمه الله- ويخبرهم عن حقيقة فتح يأجوج ومأجوج قائلا: لا تبعدوا النظرة ولا تسرحوا في الفكرة، فإن يأجوج ومأجوج عن أيمانكم وعن شمائلكم ومن خلفكم، فما هم إلا أمم الكفار على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، والتي تداعى ............................ ¬

_ (¬1) ص (317 - 322)

عليكم كتداعي الأكلة على قصعتها، وقد أقبلوا عليكم من كل حدب ينسلون حين استدعاهم استنشاق رائحة البترول في بلدان العرب المسلمين، وهذا هو حقيقة الفتح لهم، والذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى". وأقول: إن هذا الكلام بهذا السياق غير موجود في رسالة ابن سعدي، ولو أن ابن محمود نسبه إلى نفسه وذكر أنه أخذه أو أخذ بعضه من مضمون كلام ابن سعدي لكان أولى له من الإطلاق الموهم أن الكلام لابن سعدي، ولا يخفى ما في هذا الكلام الباطل من المجازفة التي لا يقولها من له أدنى مسكة من عقل، وهل يقول عاقل إن المسلمين منذ زمان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - إلى سنة ألف وثلاثمائة وتسع وخمسين من الهجرة كانوا في غمرة من الجهل ساهون في أمر يأجوج ومأجوج، حتى طلع عليهم ما زعم المتكلف أنه نور هداية ودلالة؟! كلا، لا يقول ذلك عاقل، وقد تقدم الجواب عما في كلامه من الأباطيل مفصلا في أثناء لكلام على ما يتعلق بيأجوج ومأجوج فليراجع هناك (¬1). وفيما ذكره الله -تعالى- في كتابه عن السد ويأجوج ومأجوج، وما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كفاية وغنية عن أقوال الناس وتخرصاتهم وتوهماتهم، فيجب على المسلم أن يتمسك بما جاء في الكتاب والسنة، وينبذ ما خالفهما وراء ظهره. ومن ذلك زعمه في صفحة (75) أن ابتداء حركة يأجوج ومأجوج في ظهورهم على المسلمين من غزوة مؤتة حين غزاهم المسلمون لدعوتهم إلى الإسلام، ثم صار ظهورهم يزداد عامًا بعد عام. وأقول: هذا زعم باطل مردود؛ لأن المسلمين إنما غزوا الروم في يوم مؤتة، فأما يأجوج ومأجوج فمحازون بالسد الذي بناه ذو القرنين، ولا يمكن الاتصال بهم فضلا عن غزوهم ودعوتهم إلى الإسلام، ولا يخرجون من السد إلا عند اقتراب الساعة بعد نزول عيسى وقتل الدجال. ومن ذلك زعمه في صفحة (76) أن رسالة ابن سعدي في يأجوج ومأجوج على صفة ما ذكره في تفسريه، وأقول هذا خلاف الواقع؛ لأن ما قرره ابن سعدي في تفسيره يخالف ما قرره في رسالته، وكان طبعه للتفسير بعد إخراجه للرسالة بسبع .......................... ¬

_ (¬1) ص (323 - 332).

عشرة سنة، وهذا يدل دلالة ظاهرة على أنه قد رجع عما في الرسالة. ومن ذلك زعمه في صفحة (76) أن ابن سعدي برهن عن حقيقة رسالته، وأنها تصدق القرآن وتزيل اللبس والشك عنه، وترد على الملحدين قولهم وسوء اعتقادهم، لهذا تبين للعلماء حسن قصده، وزال عن الناس ظلام الأوهام وضلال أهل الزيغ والبهتان، وصار لهذه الرسالة الأثر الكبير في إخماد نار الفتنة بيأجوج ومأجوج، حتى استقر في أذهان العلماء والعوام صحة ما قاله بمقتضى الدليل والبرهان. وأقول: هذا مما أتى به ابن محمود من كيسه ولا صحة لشيء منه، وقد تقدم الجواب عنه مفصلا فليراجع (¬1). ومن ذلك ما نقله في صفحة (77) من رسالة ابن سعدي أنه قال: "إن يأجوج ومأجوج هم الأمم الموجودون الآن؛ كالترك، والروس، ودول البلقان، والألمان، وإيطاليا، والفرنسيين، والإنجليز، واليابان، والأمريكان، ومن تبعهم من الأمم". وأقول: هذا قول باطل مردود بالأدلة من الكتاب والسنة، وقد تقدم بيان ذلك مع الجواب عن هذه الجملة فليراجع (¬2). ومن ذلك قوله في صفحة (78): "إن هناك جبلين متقابلين متصلين بمشارق الأرض ومغاربها، وليس للناس في تلك الأزمان طريق إلا من تلك الفجوة التي بين السدين، فبني ذو القرنين سدًا محكمًا بين الجبلين، فتم بنيانه للردم بين الناس وبين يأجوج ومأجوج، وبقي ما شاء الله أن يبقى، ثم بعد ذلك ظهروا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار، فتحركوا في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول قتال وقع من المسلمين مع النصارى في وقعة مؤتة، وهذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين والخروج عليهم". وأقول: كل ما ذُكِر ههنا فهو باطل وضلال، وهل يقول عاقل إنه يوجد في الأرض جبلان متقابلان متصلان بمشارق الأرض ومغاربها؟ كلا، لا يقول ذلك من له أدنى مسكة من عقل، وكذلك لا يقول عاقل له علم ومعرفة إن يأجوج ومأجوج ................... ¬

_ (¬1) ص (336 - 338). (¬2) ص (340 - 346).

قد ظهروا على الناس من جميع النواحي والجبال والبحار، وإنهم قد تحركوا في وقعة مؤتة، وإن هذا هو مبدأ تحركهم لقتال المسلمين والخروج عليهم، فكل هذا من التخرص واتباع الظن وليس لذلك حقيقة البتة. ومن ذلك قوله في صفحة (78): "ولم يزالوا في ازدياد وظهور على الناس حتى وصل الأمر إلى هذه الحالة المشاهدة". وأقول: لا صحة لما ذكره ههنا، ولم يخرج يأجوج ومأجوج إلى الآن، ولا يمكن أن يخرجوا إلا بعد نزول عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- وقتل الدجال، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- في أحاديث صحيحة تقدم ذكرها (¬1). وإذا علم أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون في آخر الزمان، فهل يقول عاقل إنهم قد خرجوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنهم لم يزالوا في ازدياد وظهور على الناس، وإن ازديادهم وظهورهم على الناس قد وصل إلى حال مشاهدة للناس؟ كلا، لا يقول ذلك عاقل يؤمن بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن خروج يأجوج ومأجوج. ومن ذلك زعمه في صفحة (78) أن الناس قد شاهدوا السد قد اندك، ورأوا يأجوج ومأجوج قد تجاوزوه، وهذا لا أساس له من الصحة. ومن ذلك زعمه في صفحة (78) وصفحة (79) أن السد هي الموانع الجبلية والمائية ونحوها المانعة من وصولهم إلى الناس، فقد شاهدوهم من كل محل ينسلون، فالبحر الأبيض والأسود والمحيط من جميع جوانبه وما اتصل بذلك من الموانع كلها قد مضي عليها أزمان متطاولة وهي سد محكم بينهم وبين الناس، لا يجاوزها منهم أحد بل هم منحازون في أماكنهم، وقد زال ذلك كله وشاهدهم الناس، وقد اخترقوا هذه البحار ثم توصلوا إلى خرق الجو بالطائرات وبما هو أعظم منها، فلا يمكن لأحد إنكار هذا ولا المكابرة فيه. وأقول: لا صحة لشيء مما ذكره ههنا، وإنما هو التخرص واتباع الظن وإلصاق اسم يأجوج ومأجوج على من ليس منهم، وقد تقدم الجواب عن هذه الجملة مفصلا فليراجع (¬2). ¬

_ (¬1) ص (311، 312). (¬2) ص (353 - 355).

ومن ذلك قوله في صفحة (79): "وهذه الأدلة التي ذكرناه من نص الكتاب والسنة الصحيحة، والأدلة العقلية والواقع والمشاهدة، كلها أمور يقينية لا شك فيها ولا مناقض لها". وأقول: ليس في كلامه عن السد ويأجوج ومأجوج شيء من الأمور اليقينية البتة، وإنما هي أمور وهمية وتخرصات ومزاعم باطلة بلا شك، والنصوص من الكتاب والسنة تناقض ما زعم أنها أمور يقينية، وكذلك الأدلة العقلية والواقع والمشاهدة كلها على خلاف مزاعمه التي تقدم ذكرها، وقد تقدم بيان ذلك بما أغنى عن إعادته (¬1). ومن ذلك زعمه في صفحة (79) أن ظهور يأجوج ومأجوج على الوصف الذي شرحه قد تبين موافقته للكتاب والسنة الصحيحة والعلم الصحيح العقلي الحسي. وأقول بل الأمر في الحقيقة بعكس ما زعمه صاحب هذا القول الباطل، وقد تقدم بيان ذلك فليراجع (¬2). ومن ذلك ما نقله في صفحة (81) وصفحة (82) عن رشيد رضا أنه قال: "يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السد كان فيهما"؛ ثم ذكر موضعًا بروسيا فيه أثر سد قديم بين جبلين، وموضعًا آخر يبعد عن صنعاء اليمن بعشرين مرحلة في الشمال الشرقي. وقد ذكرت في الجواب عنه أن هذا الاحتمال بعيد من الصواب، وذكرت الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة، فليراجع ما تقدم ذكره (¬3). ومن ذلك ما نقله في صفحة (82) عن رشيد رضا أنه زعم أن يأجوج ومأجوج هم التتر، وهذا زعم باطل؛ لأن التتر ليس بينهم وبين الناس سد من حديد يمنعهم من الخروج والإفساد في الأرض. ومن ذلك ما نقله في صفحة (82) رشيد رضا أنه قال: "لم لا يجوز أن يكون السد قد اندك وذهب أثره من الوجود". ¬

_ (¬1) ص (355). (¬2) ص (356 - 358). (¬3) ص (361 - 364).

وأقول: هذا التجويز غير جائز؛ لأن اندكاك السد إنما يكون عند اقتراب الساعة كما أخبر الله بذلك، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن خروج يأجوج ومأجوج من الآيات العشر الدالة على دنو الساعة، وأن خروجهم إنما يكون بعد نزول عيسى ابن مريم وقتل الدجال، وقد تقدم الجواب عما في كلام رشيد رضا من الأخطاء فليراجع (¬1)، وكذلك كل ما ذكرته في الخاتمة من مجازفات ابن محمود وتوهماته في رسالته في إنكار المهدي، فقد تقدم الجواب عنه مفصلا. ولابن محمود أخطاء كثيرة ومجازفات وشطحات وجراءة على تغيير بعض الأحكام الشرعية، وذلك كثير في بعض رسائله سوى ما في رسالته في إنكار المهدي، وقد ذكرت نموذجًا من ذلك في أول الكتاب مع الجواب عن قول ابن محمود في صفحة (16): "إنه قد توسع في العلوم والفنون بعد أن بلغ سن الأربعين من العمر" فليراجع هناك (¬2). وهذا آخر ما تيسر إيراده في الرد على أباطيل ابن محمود، وأرجو من الله -تعالى- أن يرده إلى الحق والصواب، وأن يغفر لنا وله الجميع المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وقد كان الفراغ من تسويد هذا الكتاب في ليلة الاثنين الموافق 15 من شهر صفر سنة 1401 هـ من الهجرة على يد كاتبه الفقير إلى الله -تعالى- حمود بن عبد الله بن حمود التويجري، غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ¬

_ (¬1) ص (361 - 366). (¬2) ص (104 - 107).

§1/1